440
لا تذرني فردا ) يعني وحيدا لا وارث لي " وأنت خير الوارثين " يعني أفضل الوارثين
قال الله عز وجل " فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه " يعني رحم إمرأته وكانت عقيما لم تلد قط سيئة الخلق فأصلحها الله تعالى " إنهم كانوا يسارعون في الخيرات " يعني يبادرون في الطاعات يعني زكريا وامرأته ويحيى عليهما السلام ويقال الأنبياء الذين سبق ذكرهم " ويدعوننا رغبا ورهبا " يعني رغبة فيما عند الله من الثواب وهو الجنة " ورهبا " أي فزعا من عذاب الله تعالى " وكانوا لنا خاشعين " يعني مطيعين ويقال متواضعين
قوله عز وجل " والتي أحصنت فرجها " يعني واذكر مريم التي حفظت نفسها من الفواحش " فنفخنا فيها من روحنا " يعني نفخ جبريل عليه السلام في نفسها بأمرنا " وجعلناها وإبنها " يعني لمريم وعيسى عليهما السلام " آية " يعني عبرة " للعالمين " أي لجميع الخلق ويقال آية ولم يقل آيتين لأن شأنهما واحد الآية فيهما بمعنى واحد بغير أب
سورة الأنبياء 92 - 94
قوله عز وجل " إن هذه أمتكم أمة واحدة " يعني دينكم دين الإسلام دينا واحدا قرأ بعضهم " أمة واحدة " بضم التائين ومعناه إن هذه أمتكم وقد تم الكلام ثم يقول " أمة " يعني هذه أمة واحدة وقرأ العامة بالنصب على معنى التفسير ثم قال " وأنا ربكم فاعبدون " يعني فوحدوني
ثم قال " وتقطعوا أمرهم بينهم " يعني تفرقوا فيما بينهم وهم اليهود والنصارى " كل إلينا راجعون " في الآخرة فهذا تهديد للذين تفرقوا في الدين
ثم بين ثواب الذين ثبتوا على الإسلام فقال عز وجل " فمن يعمل من الصالحات " يعني الطاعات " وهو مؤمن " يعني مصدقا بتوحيد الله عز وجل " فلا كفران لسعيه " يعني لا يجحد ولا ينسى ثواب عمله والكفران مصدر مثل شكران وغفران " وإنا له كاتبون " يعني حافظين مجازين
سورة الأنبياء 95 - 99(2/440)
441
قوله عز وجل " وحرام على قرية " يعني على قرية فيما مضى " أهلكناها " بالعذاب في الدنيا " أنهم لا يرجعون " إلى الدنيا قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " وحرم على قرية " بكسر الحاء وبغير ألف وقرأ الباقون " وحرام " بنصب الحاء والألف وحرم وحرام بمعنى واحد كقوله حل وحلال وروي عن عكرمة عن إبن عباس أنه كان يقرأ " وحرم " وقال واجب عليهم أن لا يرجع منهم راجع ويقال معناه وحرام على أهل قرية أهلكناها أن يتقبل منهم عمل لأنهم " لا يرجعون " أي لا يتوبون ويقال " لا يرجعون " لا زيادة ومعناه حرام عليهم أن يرجعوا
ثم قال عز وجل " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج " قرأ إبن عامر " فتحت " بالتشديد على معنى المبالغة والتكثير وقرأ الباقون بالتخفيف وقرأ عاصم " يأجوج ومأجوج " بالهمز والباقون كلاهما بغير همز " وهم من كل حدب ينسلون " قال مقاتل يعني من كل مكان يخرجون من كل جبل أو أرض أو واد وخروجهم عند قيام الساعة وقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه لا يموت واحد منهم إلا ترك من صلبه ألف ذرية فصاعدا وروى قتادة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أنه قال الإنس عشرة أجزاء منهم يأجوج ومأجوج تسعة أجزاء وجزء واحد سائر الإنس
وروى سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي الزبعري عن عبد الله بن مسعود قال يخرج يأجوج ومأجوج بعد الدجال يموجون في الأرض فيفسدون فيها ثم قرأ " وهم من كل حدب ينسلون " أي يخرجون فيبعث الله تعالى عليهم دابة مثل هذا النغف فتلج في أسماعهم ومناخرهم فيموتون فتنتن الأرض فيرسل الله عز وجل ماء فيطهر الأرض منهم فذلك قوله عز وجل " إذا فتحت يأجوج ومأجوج " يعني أرسلت كقوله " لفتحنا عليهم بركات من السماء " [ الأعراف : 96 ] يعني أرسلنا " وهم من كل حدب " أي من كل أكمة ونشزة من الأرض يخرجون وقال بعضهم يكون خروجهم قبل الدجال والأصح ما روي عن عبد الله بن مسعود
قوله عز وجل " واقترب الوعد الحق " يعني قيام الساعة " فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا " يعني يقولون يا ويلنا " قد كنا في غفلة " يعني في جهل " من هذا " اليوم ثم ذكروا أن المرسلين كانوا أخبروهم فقالوا " بل كنا ظالمين " يعني قد أخبرونا فكذبناهم
قوله عز وجل " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " وروي عن علي بن أبي(2/441)
442
طالب رضي الله عنه أنه كان يقرأ حطب جهنم وروي عن إبن عباس أنه كان يقرأ حضب جهنم بالضاد وقراءة العامة " حصب " بالصاد يعني رميا في جهنم وكل ما يرمى في جهنم فهو حصب ويقال الحصب هو الحطب بلسان الزنجية ومن قرأ حطب أي كل ما يوقد به جهنم ومن قرأ حضب بالضاد معناه ما يهيج به النار " أنتم لها واردون " أي داخلون
وقال إبن عباس في رواية أبي صالح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى قريشا وهم في المسجد مجتمعون وثلاثمائة وستون صنما مصفوفة وصنم كل قوم بحيالهم فقال " إنكم وما تعبدون من دون الله " يعني من هذه الأصنام في النار ثم انصرف عنهم فشق ذلك عليهم مشقة عظيمة شديدة وأتاهم عبد الله بن الزبعري وكان شاعرا فقال ما لي أراكم بحال لم أركم عليها فقالوا إن محمدا يزعم أنا وما نعبد في النار فقال لو كنت ها هنا لخصمته فقالوا هل لك أن نرسل إليه فقال نعم فبعثوا إليه فأتاهم فقال له إبن الزبعري أرأيت ما قلت لقومك آنفا أخاص لهم أم عام فقال بل عام كل من عبد من دون الله فهو وما عبد في النار قال أرأيت عيسى إبن مريم عليه السلام هذه النصارى تعبده فعيسى والنصارى في النار وهذا عزير تعبده اليهود فعزير واليهود في النار وهذا حي يقال لهم بنو مليح يعبدون الملائكة عليهم السلام فالملائكة وهم في النار فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجبهم فضج أصحابه وضحكوا فنزل " ولما ضرب إبن مريم مثلا " ونزل في عيسى وعزير والملائكة " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " [ الأنبياء : 101 ]
ويقال إن هذه القصة لا تصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب وأنطقهم لسانا وأحضرهم جوابا كما وصف نفسه أنا أفصح العرب فلا يجوز أن يسكت على مثل هذا السؤال ولم يكن السؤال لازما ويقال كان سكوته للإستخفاف لأنه سئل سؤالا محالا لأنه قال " إنكم وما تعبدون من دون الله " ولم يقل ومن تعبدون وما لا يقع على النواطق ومن تقع على النواطق ويقال هذا القول يقال لهم يوم القيامة لأنه قال " قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين " يقال لهم عند ذلك " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " فإن قيل ما الحكمة في إدخال الأصنام في النار قيل زيادة عقوبة للكفار لأن الأصنام أحجار فيكون الحر فيها أشد ويقال الفائدة في إدخال المعبود النار زيادة ذل وصغار عليهم حيث رأوا معبودهم في النار معهم من غير أن يكون للأصنام عقوبة لأنه لا يجوز التعذيب بذنب غيرهم(2/442)
443
ثم قال عز وجل " لو كان هؤلاء آلهة " يعني الأصنام " ما وردوها " أي ما دخلوها ومنعوا أنفسهم ومن عبدهم من النار " وكل فيها خالدون " يعني العابد والمعبود
سورة الأنبياء 100 - 103
" لهم فيها زفير " يعني في النار صوتهم مثل نهيق الحمار " وهم فيها لا يسمعون " يعني عيسى وعزيرا عليهما السلام في الجنة لا يسمعون زفيرهم ويقال يعني أن أهل النار لا يسمعون في النار الصوت وذلك حين يقال لهم " إخسئوا فيها ولا تكلمون " فصاروا صما بكما عميا
ثم قال عز وجل " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى " يعني الذين وجبت لهم منا الجنة وهم عيسى وعزيرا " أولئك عنها مبعدون " يعني منجون من النار
قوله " لا يسمعون حسيسها " يعني صوت جهنم " وهم فيما " يعني في الجنة " إشتهت أنفسهم " يعني تمنت أنفسهم في الجنة " خالدون " يعني دائمين " لا يحزنهم الفزع الأكبر " قال إبن عباس رضي الله عنه يعني النفخة الأخيرة ودليله قوله تعالى " ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين " [ النمل : 87 ] وقال الحسن حين يؤمر بالعبد إلى النار وقال مقاتل إذا ذبح الموت بين الجنة والنار فيأمن أهل الجنة من الموت ويفزع أهل النار فيفزعون حين أيسوا من الموت وقال الكلبي وسعيد بن جبير والضحاك إنه حين وضع الطبق على النار بعد ما أخرج منها من أخرج فيفزعون لذلك فزعا لم يفزعوا لشيء قط وذلك الفزع الأكبر وقال مقاتل وإبن شريح حين يذبح الموت على هيئة كبش أملح على الأعراف والفريقان ينظرون فينادى يا أهل الجنة خلود لا موت ويا أهل النار خلود لا موت وقال ذو النون المصري هو القطيعة والفراق ويقال إنه الموت لأن أول هول يراه الإنسان من أمر الآخرة هو الموت ويقال الفزع الأكبر عند قوله " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " [ يس : 59 ] ويقال هذا حين دعوا إلى الحساب ويقال عند الصراط
ثم قال تعالى " وتتلقاهم الملائكة " يعني يوم القيامة لأهل الجنة قال مقاتل يعني الملائكة الذين كتبوا أعمال نبي آدم حين خرجوا من قبورهم فيقولون للمؤمنين " هذا يومكم الذي كنتم توعدون " في الجنة وقال الكلبي تتلقاهم الملائكة عند باب الجنة ويبشرونهم بذلك ويقولون " هذا يومكم الذي كنتم توعدون " في الدنيا(2/443)
444
سورة الأنبياء 104
قوله عز وجل " يوم نطوي السماء " يعني واذكر يوم نطوي السماء " كطي السجل للكتب " قال السدي السجل ملك موكل بالصحف فإذا مات الإنسان رفع كتابه إلى السجل فطواه ويقال السجل الصحيفة ويقال السجل الكاتب
وروى أبو الجوزاء عن إبن عباس قال السجل كان كاتب النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الله عز وجل أنه يطوي السماء يوم القيامة كما يطوي السجل الكتاب قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " للكتب " بلفظ الجماعة وقرأ الباقون " للكتاب " بلفظ الوحدان وقرأ أبو حفص المدني " تطوى السماء " بالتاء والضم على فعل ما لم يسم فاعله وقراءة العامة " نطوي السماء " بالنون والنصب وقرأ بعضهم " السجل " بجزم الجيم والتخفيف وقراءة العامة بكسر الجيم والتشديد
ثم إستأنف الكلام فقال تعالى " كما بدأنا أول خلق نعيده " يعني كما خلقهم في الدنيا يعيدهم في الآخرة ويقال كما بدأناهم شقيا وسعيدا في الدنيا فكذلك يكونون في الآخرة ويقال كما بدأنا أول خلق من نطفة في الدنيا نعيده أي تمطر السماء أربعين يوما كمني الرجل فينبتون فيه " وعدا علينا " يعني وعدنا البعث صدقا وحقا لا خلف فيه كقوله " لا ريب فيها " [ السجدة : 2 ] " وعدا " صار نصبا للمصدر " إنا كنا فاعلين " بهم أي باعثين بعد الموت وروي عن سعيد بن جبير عن إبن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إنكم تحشرون يوم القيامة عراة حفاة عزلا بهما ثم قال " كما بدأنا أول خلق نعيده "
سورة الأنبياء 105 - 112
ثم قال عز وجل " ولقد كتبنا في الزبور " يعني في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وكل كتاب زبور " من بعد الذكر " يعني من بعد اللوح المحفوظ ويقال الذكر التوراة يعني كتبنا في الإنجيل والزبور والفرقان من بعد التوراة أي بينا في هذه الكتب " أن الأرض "(2/444)
445
يعني أرض الجنة " يرثها عبادي الصالحون " يعني ينزلها عبادي المؤمنون وهذا قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير ومقاتل رضي الله عنه ويقال إن " الأرض " يعني الأرض المقدسة " يرثها " أي ينزلها بنو إسرائيل ويقال يعني أرض الشام يرثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويقال جميع الأرض تكون في آخر الزمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم سيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها
قوله عز وجل " إن في هذا " القرآن " لبلاغا " إلى الجنة " لقوم عابدين " أي موحدين ويقال في القرآن لبلاغا بلغهم من الله عز وجل لقوم مطيعين وعن كعب أنه قال إنهم أهل الصلوات الخمس
قوله عز وجل " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " يعني وما بعثناك يا محمد إلا رحمة للعالمين يعني نعمة للجن والإنس ويقال " للعالمين " أي لجميع الخلق لأن الناس كانوا ثلاث أصناف مؤمن وكافر ومنافق وكان رحمة للمؤمنين حيث هداهم طريق الجنة ورحمة للمنافقين حيث أمنوا القتل ورحمة للكافرين بتأخير العذاب وروى سعيد بن جبير عن إبن عباس قال من آمن بالله ورسوله فله الرحمة في الدنيا والآخرة ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي أن يصيبه ما كان يصيب الأمم قبل ذلك فهو رحمة للمؤمنين والكافرين وذكر في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام يقول الله عز وجل " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " فهل أصابك من هذه الرحمة قال نعم أصابني من هذه الرحمة أني كنت أخشى عاقبة الأمر فآمنت بك لثناء أثنى الله تعالى علي بقوله عز وجل " ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين " [ التكوير : 20 ]
قوله عز وجل " قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد " أي ربكم رب واحد " فهل أنتم مسلمون " أي مخلصون بالتوحيد ويقال مخلصون بالعبادة اللفظ لفظ الإستفهام والمراد به الأمر يعني أسلموا
ثم قال " فإن تولوا " يعني فإن أعرضوا عن الإيمان " فقل آذنتكم " يعني أعلمتكم " على سواء " أي على بيان علانية غير سر ويقال أعلمتكم بالوحي الذي يوحى إلي لنستوي في الإيمان به ويقال معناه أعلمتكم فقد صرت أنا وأنتم على سواء وهذا من الإختصار
ثم قال " وإن أدري " يعني وما أدري " أقريب أم بعيد ما توعدون " من نزول العذاب بكم في الدنيا فقل لهم " إنه يعلم الجهر من القول " يعني العلانية من القول " ويعلم ما تكتمون " يعني ما تسرون من التكذيب بالعذاب
ثم قال عز وجل " وإن أدري " يعني وما أدري " لعله فتنة لكم " يعني لعل تأخير العذاب عنكم في الدنيا فتنة لكم لأنهم كانوا يقولون لو كان حقا لنزل بنا العذاب " ومتاع(2/445)
446
إلى حين ) أي بلاغ إلى منتهى آجالكم يعني تعيشون إلى الموت
قوله عز وجل " قال رب أحكم بالحق " يعني إقض بيني وبين أهل مكة بالعدل ويقال بالعذاب " وربنا الرحمن " أي العاطف على خلقه بالرزق " المستعان على ما تصفون " يعني أستعين به على ما تقولون وتكذبون ويقال المطلوب منه العون والنصرة وروي عن الضحاك أنه قرأ " قل رب أحكم بالحق " على معنى الخبر على ميزان أفعل يعني هو أحكم الحاكمين قال لأنه لا يجوز أن يسأل أن يحكم بالحق وهو لا يحكم إلا بالحق وقراءة العامة " قل رب أحكم " على معنى السؤال معناه أحكم بحكمك ثم يخبر عن ذلك الحكم أنه حق قرأ عاصم في رواية حفص " قال رب أحكم " على معنى الحكاية وقرأ الباقون " قل رب أحكم " وقرأ إبن عامر في إحدى الروايتين " على ما يصفون " بالياء بلفظ المغايبة وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ حمزة " الزبور " بضم الزاي وقرأ الباقون " الزبور " بالنصب والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد النبي المختار وعلى آله وصحابته الأطهار(2/446)
447
سورة الحج
مكية وهي سبعون وخمس آيات مكية وثلاث آيات مدنية
سورة الحج 1 - 2
قول الله سبحانه وتعالى " يا أيها الناس إتقوا ربكم " يقول أطيعوا ربكم ويقال إخشوا ربكم " إن زلزلة الساعة " يعني قيام الساعة " شيء عظيم " يقول هولها عظيم والزلزلة والزلزال شدة الحركة على الحال الهائلة من قولهم زلت قدمه إذا زالت عن الجهة سرعة
ثم وصف ذلك اليوم فقال " يوم ترونها تذهل " أي تشتغل " كل مرضعة عما أرضعت " يعني ذات ولد رضيع ويقال تحير كل والدة عن ولدها " وتضع كل ذات حمل حملها " أي تسقط ولدها من هول ذلك اليوم
وروى منصور عن إبراهيم عن علقمة " إن زلزلة الساعة شيء عظيم " قال هذا بين يدي الساعة وقال مقاتل وذلك قبل النفخة الأولى ينادي ملك من السماء يا أيها الناس أتى أمر الله فيسمع الصوت أهل الأرض جميعا فيفزعون فزعا شديدا ويموج بعضهم في بعض فيشيب فيه الصغير ويسكر فيه الكبير وتضع الحوامل ما في بطونها وتزلزلت الأرض وطارت القلوب وعن سعيد بن جبير أنه قال إنما هو عند النفخة الأولى التي هي الفزع الأكبر ويقال هو يوم القيامة
وقال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا أبو جعفر محمد بن إبراهيم قال حدثنا الدبيلي قال حدثنا أبو عبيد الله قال حدثنا سفيان عن علي بن زيد بن جدعان قال سمعت الحسن يقول حدثنا عمران بن الحصين قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فنزلت عليه هذه " يا أيها الناس إتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون أي يوم ذلك قالوا الله ورسوله أعلم قال ذلك يوم يقول الله عز وجل لآدم عليه السلام قم فابعث بعث أهل الجنة قال فيقول آدم وما بعث أهل الجنة يقول من كل ألف تسعمائة وتسع وتسعون في النار وواحد في الجنة قال فأنشأ القوم يبكون فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه لم يكن نبي(2/447)
448
قط إلا كانت قبله جاهلية فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن لم يكن كمل العدد من الجاهلية أخذ من المنافقين وما مثلكم في الأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع وكالشامة في جنب البعير ثم قال عليه الصلاة والسلام إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا ثم قال إن معكم الخليقتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن مات من كفرة الجنة والإنس
وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى لآدم قم فابعث أهل النار فقال يا رب وما بعث أهل النار فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون فعند ذلك يشيب الصغير وتضع الحامل ما في بطنها ويقال هذا على وجه المثل لأن يوم القيامة لا يكون فيه حامل ولا صغير ولكنه بين هول ذلك اليوم أنه لو كان حاملا لوضعت حملها من شدة ذلك اليوم
ثم قال عز وجل " وترى الناس سكارى " من الهول أي كالسكارى " وما هم بسكارى " يعني وما هم بسكارى من الشراب " ولكن عذاب الله شديد " قرأ حمزة والكسائي " وترى الناس سكرى وما هم بسكرى " بغير ألف وقرأ الباقون " سكارى وما هم بسكارى " كلاهما بالألف وروي عن إبن مسعود وحذيفة رضي الله عنهما أنهما قرآ " سكرى " وهو إختيار أبي عبيدة وروي عن أبي زرعة أنه قرأ على الربيع بن خثيم " وترى " بضم التاء وقراءة العامة بالنصب
سورة الحج 3 - 6
قوله عز وجل " ومن الناس من يجادل في الله " يعني يخاصم في الله يعني في(2/448)
449
وحدانيته ويقال في دين الله " بغير علم " يعني بغير حجة ويقال " بغير علم " يعلمه وهو النضر بن الحارث وأصحابه " ويتبع كل شيطان مريد " يعني يطيع ويعمل بأمر كل " شيطان مريد " متمرد في معصية الله عز وجل ويقال معناه ويتبع ما سول له الشيطان والمريد الفاسد يقال مرد الشيء إذا بلغ في الشر غايته ويقال مرد الشيء إذا جاوز حد مثله
ثم قال عز وجل " كتب عليه " أي قضي عليه يعني الشيطان " أنه من تولاه " يعني من تبع الشيطان " فإنه يضله " عن الهدى " ويهديه " أي يدعوه " إلى عذاب السعير " أي إلى عمل عذاب النار
قوله عز وجل " يا أيها الناس " يعني يا كفار مكة " إن كنتم في ريب " يعني في شك " من البعث " بعد الموت فانظروا إلى بدء خلقكم " فإنا خلقناكم من تراب " يعني من آدم عليه السلام وآدم من تراب " ثم من نطفة ثم من علقة " قيل إنما نقلناكم من حال إلى حال من خلقة إلى خلقة " ثم من مضغة " مثل قطعة كبد " مخلقة " أي تامة " وغير مخلقة " يعني غير تامة وهو السقط ويقال مصورة وغير مصورة " لنبين لكم " بدء خلقكم ويقال يخرج السقط من بطن أمه مصورا أو غير مصور " لنبين لكم " بدء خلقكم كيف نخلقكم في بطون أمهاتكم ويقال " لنبين لكم " في القرآن أنكم كنتم كذلك " ونقر في الأرحام ما نشاء " فلا يكون سقطا " إلى أجل مسمى " يعني إلى وقت خروجه من بطن أمه ويقال إلى وقت معلوم لتسعة أشهر " ثم نخرجكم طفلا " من بطون أمهاتكم أطفالا صغارا وقال القتبي لم يقل أطفالا لأنهم لم يخرجوا من أم واحدة ولكنه أخرجهم من أمهات شتى فكأنه قال يخرجكم طفلا طفلا
" ثم لتبلغوا أشدكم " يعني ثمانية عشر سنة إلى ثلاثين سنة ويقال إلى ست وثلاثين سنة والأشد هو الكمال في القوة والخير " ومنكم من يتوفى " يعني من قبل أن يبلغ أشده " ومنكم من يرد إلى أرذل العمر " يعني أضعف العمر وهو الهرم ويقال يعني يرجع إلى أسفل العمر يعني يذهب عقله " لكيلا يعلم من بعد علم شيئا " يعني لكيلا يعقل بعد عقله الأول
ثم دلهم على إحيائه الموتى بإحيائه الأرض فقال تعالى " وترى الأرض هامدة " يعني ميتة يابسة جافة ذات تراب " فإذا أنزلنا عليها الماء " يعني المطر " إهتزت " يعني تحركت بالنبات كقوله عز وجل " فلما رآها تهتز " [ النمل : 10 ] يعني تتحرك ويقال " إهتزت " أي إستبشرت " وربت " يعني إنتفخت بالنبات وأصله من ربا يربو وهو الزيادة " وأنبتت من كل زوج " يعني من كل صنف من ألوان النبات " بهيج " أي حسنا(2/449)
450
يبهج به فدلهم للبعث بإحياء الأرض ليعتبروا ويعلموا بأن الله هو الحق وعبادته هي الحق وغيره من الآلهة باطل " ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير " أي قادر على كل شيء من البعث وغيره
سورة الحج 7 - 10
قوله عز وجل " وأن الساعة آتية " أي تعلموا أن الساعة " آتية " أي كائنة أي جائية " لا ريب فيها " أي لا شك فيها عند المؤمنين وعند كل من له عقل وذهن " وأن الله يبعث من في القبور "
قوله عز وجل " ومن الناس من يجادل في الله " يعني يخاصم في دين الله عز وجل " بغير علم " أي بلا بيان وحجة " ولا هدى " يعني ولا دليل واضح من المعقول " ولا كتاب منير " يعني ولا كتاب منزل مضيء فيه حجة " ثاني عطفه " يعني لاويا عنقه عن الإيمان وهو على وجه الكناية ومعناه يجادل في الله بغير علم متكبرا ويقال " ثاني عطفه " يعني معرضا عن طاعة ربه " ليضل عن سبيل الله " قرأ إبن كثير وأبو عمرو " ليضل " بنصب الياء يعني ليعرض عن دين الله عز وجل وقرأ الباقون بالضم يعني ليصرف الناس عن دين الإسلام
قال الله تعالى " له في الدنيا خزي " يعني النضر بن الحارث قتل يوم بدر صبرا " ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق " يعني عذاب النار فأخبر الله تعالى أن ما أصابه في الدنيا من الخزي لم يكن كفارة لذنوبه
ثم قال عز وجل " ذلك " يعني ذلك العذاب أي يقال له يوم القيامة هذا العذاب " بما قدمت يداك " يعني بما عملت يداك وذكر اليدين كناية يعني ذلك العذاب لكفرك وتكذيبك " وأن الله ليس بظلام للعبيد " يعني لا يعذب أحدا بغير ذنب
سورة الحج 11
قوله عز وجل " ومن الناس من يعبد الله على حرف " أي على شك وعلى وجه الرياء ولا يريد به وجه الله تعالى ويقال على شك والعرب تقول أنت على حرف أي على شك ويقال " على حرف " بلسانه دون قلبه وروي عن الحسن أنه قال " يعبد الله على حرف " أي على إيمان ظاهر وكفر باطن ويقال " على حرف " أي على إنتظار الرزق وهذه(2/450)
451
الآية مدنية نزلت في أناس من بني أسد أصابتهم شدة شديدة فاحتملوا العيال حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلوا الأسعار بالمدينة
" فإن أصابه خير إطمأن به " يعني إن أصابه سعة وغنيمة وخصب إطمأن به وقال نعم الدين دين محمد صلى الله عليه وسلم " وإن أصابته فتنة " أي بلية وضيق في المعيشة " إنقلب على وجهه " أي رجع إلى كفره الأول وقال بئس الدين دين محمد صلى الله عليه وسلم " خسر الدنيا والآخرة " أي غبن الدنيا والآخرة في الدنيا بذهاب ماله وفي الآخرة بذهاب ثوابه ويقال " خسر الدنيا والآخرة " لأنه لم يدرك ما طلب من المال وفي الآخرة بذهاب الجنة وروي عن حميد أنه كان يقرأ " خاسر " بالألف وقراءة العامة " خسر " بغير ألف " ذلك هو الخسران المبين " يعني الظاهر البين
سورة الحج 12 - 15
قوله عز وجل " يدعوا من دون الله " يعني يعبد من دون الله " ما لا يضره " إن لم يعبده يعني الصنم " وما لا ينفعه " إن عبده " ذلك هو الضلال البعيد " يعني الخطأ البين ويقال في خطأ طويل بعيد عن الحق " يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه " يعني لمن إثمه وعقوبته أكثر من ثوابه ومنفعته ويقال ضره في الآخرة أكثر من نفعه في الدنيا فإن قيل لم يكن في عبادته نفع البتة فكيف يقال من نفعه ولا نفع له قيل له إنما قال هذا على عاداتهم وهم يقولون لشيء لا منفعة فيه ضره أكثر من نفعه كما يقولون لشيء لا يكون هذا بعيد كما قالوا " أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد " [ ق : 3 ]
ثم قال تعالى " لبئس المولى " يعني بئس الصاحب " ولبئس العشير " يعني بئس الخليط ويقال معناه من كانت عبادته عقوبة عليه فبئس المعبود هو
ثم ذكر ما أعد الله تعالى لأهل الصلاح والإيمان فقال عز وجل " إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد " يعني يحكم في خلقه ما يشاء من السعادة والشقاوة
قوله تعالى " من كان يظن أن لن ينصره الله " الهاء كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم ويجوز في اللغة الإضمار في الكناية وإن لم تكن مذكورة إذا كان الأمر ظاهرا كقوله تعالى " ما ترك على ظهرها من دابة " [ فاطر : 45 ] يعني على ظهر الأرض وكقوله عز وجل " حتى توارت(2/451)
452
بالحجاب ) [ ص : 32 ] يعني الشمس ومعناه من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالغلبة والحجة " في الدنيا و " الشفاعة في " الآخرة " " فليمدد بسبب إلى السماء " يعني فليربط بحبل من سقف البيت لأن كل ما علاك فهو سماء " ثم ليقطع " يعني ليختنق " فلينظر هل يذهبن كيده " أي إختناقه " ما يغيظ " معناه هل ينفعه ذلك قال إبن عباس نزلت الآية في نفر من أسد وغطفان فقالوا نخاف أن لن ينصر الله محمدا صلى الله عليه وسلم فيقطع ما بيننا وبين حلفائنا من المودة يعني اليهود وقال القتبي كان قوم من المسلمين لشدة غيظهم على المشركين يستبطئون ما وعد لهم من النصرة وآخرون من المشركين يريدون اتباعه ويخشون أن لا يتم لهم أمره فنزل " من كان يظن أن لن ينصره الله " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم بعدما سمعوا منه النصرة والإظهار ولكن كلام العرب على وجه الإختصار يعني إن لم تثق بما أقول لك فاذهب فاختنق أو إجتهد جهدك
قال وفيه وجه آخر وهو أن يكون ها هنا السماء بعينها لا السقف فكأنه قال " فليمدد بسبب إليها " أي بحبل وليرتق فيه ثم ليقطع الحبل حتى يخر فيهلك فلينظر هل ينفعه كقوله عز وجل " وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن إستطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء " [ الأنعام : 35 ] وقال أبو عبيدة " من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة " يعني أن لن يرزقه الله وذهب إلى قول العرب أرض منصورة أي ممطورة فكأنه قال من كان قانطا من رزق الله ورحمته فليفعل ذلك " فلينظر هل يذهبن كيده " أي حيلته ما يغيظ أي غيظه لتأخير الرزق عنه وقال الزجاج " من كان يظن أن لن ينصره الله " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم حتى يظهره الله على الدين كله فليمت غيظا
سورة الحج 16 - 17
ثم قال عز وجل " وكذلك أنزلناه " أي جبريل عليه السلام بالقرآن " آيات بينات " يعني واضحات بالحلال والحرام " وأن الله يهدي من يريد " يعني يرشد إلى دينه من كان أهلا لذلك فيوفقه لذلك وهذا كقوله " والله يدعوا إلى دار السلام " [ يونس : 25 ]
قوله عز وجل " إن الذين آمنوا " يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن كان مثل حالهم " والذين هادوا " يعني مالوا عن الإسلام يعني اليهود " والصابئين " وقد ذكرناه من قبل " والنصارى " وقد ذكرناه من قبل " والمجوس " يعني عبدة النيران " والذين أشركوا " يعني عبدة الأوثان والأديان ستة فواحد لله تعالى والخمسة للشيطان " إن الله يفصل بينهم " يعني يقضي ويحكم بينهم " يوم القيامة " بين هذه الأديان الستة وقال بعضهم إن الفاء(2/452)
453
مضمرة في الكلام ومعناه فإن الله يفصل بينهم على معنى جواب الشرط ويقال جوابه في قوله " فالذين كفروا " ثم قال " إن الله على كل شيء شهيد " من أعمالهم
سورة الحج 18
ثم قال عز وجل " ألم تر " يعني ألم تعلم ويقال ألست تعلم ويقال ألم تخبر في الكتاب " أن الله يسجد له من في السموات " من الملائكة " ومن في الأرض " من الخلق " والشمس والقمر والنجوم والجبال " قال مقاتل سجود هؤلاء حين تغرب الشمس تحت العرش ويقال سجودها دورانها " و " سجود " الشجر والدواب " إذا تحول ظل كل شيء فهو سجوده
" وكثير من الناس " أي المؤمنين " وكثير حق عليه العذاب " أي وجب عليه العذاب بترك سجودهم في الدنيا ويقال " وكثير حق عليه العذاب " سجودهم ظلهم ويقال يسجد أي يخضع وفيه آية الخلق فهو سجودهم " ومن يهن الله فما له من مكرم " يعني من قضى الله عز وجل عليه بالشقاوة فما له من مسعد " إن الله يفعل ما يشاء " يعني يحكم ما يشاء في خلقه من الإهانة والإكرام
سورة الحج 19 - 22
قوله عز وجل " هذان خصمان " يعني أهل دينين " إختصموا في ربهم " يعني إحتجوا في دين ربهم قال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه نزلت هذه الآية في الذين بارزوا يوم بدر يعني حمزة وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث من المؤمنين رضي الله عنهم وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة من المشركين يعني أن المؤمنين يخاصمون الكفار ويجاهدونهم ويقاتلونهم
ثم بين مصير كلا الفريقين بقوله " فالذين كفروا " وقال مجاهد " هذان خصمان " يعني المؤمن والكافر إختصما في البعث فالكافر " قطعت " له " ثياب من نار " والمؤمن يدخله " جنات تجري من تحتها الأنهار " وقال عكرمة " هذان خصمان إختصموا " أي إختصمت الجنة والنار فقالت الجنة خلقت للرحمة وقالت النار خلقت للعذاب
وروي عن إبن عباس أنه قال " هذان خصمان " وذلك أن اليهود قالوا كتابنا أسبق(2/453)
454
ونبينا أفضل وقالت النصارى نبينا كان يحيي الموتى وهو أفضل من نبيكم فنحن أولى بالله وقال المؤمنون نحن آمنا بالله وبجميع الأنبياء عليهم السلام وبجميع الكتب وأنتم كفرتم ببعض الرسل وببعض الكتب فديننا أولى من دينكم فنزل " هذان خصمان " الآية وقال " هذان خصمان إختصموا " ولم يقل إختصما لأن كل واحد من الخصمين جمع قرأ إبن كثير " هذان " بتشديد النون وقرأ الباقون بالتخفيف وفي الآية دليل أن الكفر كله ملة واحدة لأنه ذكر ستة أصناف من الأديان
ثم قال " هذان " ثم بين مصير كلا الفريقين فقال " فالذين كفروا " أي جحدوا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم " قطعت لهم ثياب من نار " يعني هيئت لهم قمص من نار ويقال نحاس " يصب من فوق رؤوسهم الحميم " قال مقاتل يضرب الملك رأسه بالمقمع فيثقب رأسه ثم يصب فيه الحميم الذي قد إنتهى حره " يصهر " به يعني يذاب به " ما في بطونهم والجلود " يعني تنضج الجلود فتسلخ " ولهم مقامع من حديد " يضرب بها هامتهم " كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم " يعني من الغم والشدة التي أدركته ضرب بمقمعة من حديد فيهوي بها كذلك فذلك قوله " أعيدوا فيها " أي ردوا إليها " وذوقوا عذاب الحريق " أي المحرق يعني يقال لهم ذوقوا عذاب النار وهذا الجزاء لأحد الخصمين
سورة الحج 23 - 24
ثم بين جزاء الخصم الآخر فقال عز وجل " إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها " يعني يلبسون في الجنة " من أساور " يعني أقلبة " من ذهب ولؤلؤا " قرأ نافع وعاصم في رواية حفص " ولؤلؤا " بالهمز والنصب وقرأ عاصم في رواية أبي بكر هكذا إلا أنه لم يهمز الواو الأولى وقرأ الباقون بالهمز والكسر فمن قرأ بالكسر فلأجل من ومن قرأ بالنصب فمعناه يحلون لؤلؤا نصب لوقوع الفعل عليه وهو إختيار أبي عبيد
ثم قال " ولباسهم فيها حرير " أي في الجنة
قوله عز وجل " وهدوا إلى الطيب من القول " يعني أرشدوا ويقال دعوا إلى قول التوحيد لا إله إلا الله ويقال إلى القرآن " وهدوا إلى صراط الحميد " يعني المحمود في أفعاله وهو دين الإسلام
سورة الحج 25(2/454)
455
ثم قال عز وجل " إن الذين كفروا " يعني أهل مكة " ويصدون عن سبيل الله " يعني صرفوا الناس عن دين الإسلام " والمسجد الحرام " يعني وعن المسجد الحرام وهذه الآية مدنية وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج مع أصحابه من الحديبية منعهم المشركون عن المسجد الحرام
ثم وصف المسجد الحرام فقال " الذي جعلناه للناس سواء " يعني عاما للمؤمنين جميعا " العاكف فيه والباد " يعني سواء أهلها المقيم في الحرم ومن دخل مكة من غير أهله ومعناه المقيم والغريب فيه سواء ويقال في تعظيمه وحرمته ويقال " المسجد الحرام " أراد به جميع الحرم المقيم وغيره في حق النزول سواء وقال عمر رضي الله عنه يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث يشاء ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله إن بيع دور مكة لا يجوز وفي إحدى الروايتين يجوز وهذا قول أبي يوسف والأول قول محمد رحمه الله قرأ عاصم في رواية حفص " سواء " بالنصب يعني جعلناه سواء وقرأ الباقون " سواء " بالضم على معنى الإبتداء
ثم قال " ومن يرد فيه بإلحاد " وهو الظلم والميل عن الحق ويقال أصله ومن يرد فيه إلحادا فزيد فيه الباء كما قال " تنبت بالدهن " [ المؤمنون : 23 ] ويقال من إشترى الطعام بمكة للإحتكار فقد ألحد ثم قال " بظلم " يعني بشرك أو بقتل " نذقه من عذاب أليم " قال الزجاج الإلحاد في اللغة العدول عن القصد وقال مقاتل نزلت الآية في عبد الله بن أنيس بن خطل القرشي وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلين أحدهما مهاجري والآخر أنصاري فافتخرا في الأنساب فغضب عبد الله بن أنيس فقتل الأنصاري ثم إرتد عن الإسلام وهرب إلى مكة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة بقتله فقتل قرأ أبو عمرو " والبادي " بالياء عند الوصل وكذلك نافع في رواية ورش وقرأ حمزة والكسائي وإبن عامر بغير ياء في الوصل والقطع وقرأ إبن كثير بالياء في الوصل والقطع وهو الأصل في اللغة ومن أسقطه لأن الكسر يدل عليه
سورة الحج 26 - 27(2/455)
456
قوله عز وجل " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت " قال مقاتل يعني دللنا لإبراهيم موضع البيت فبناه مع إسماعيل عليهما السلام ولم يكن له أثر ولا أساس للبيت لأن البيت كان أيام الطوفان مرفوعا قد رفعه الله إلى السماء وهو البيت المعمور وقال الكلبي " وإذ بوأنا لإبراهيم " يعني جعلنا لإبراهيم مكان البيت أي موضع البيت جعله الله منزلا لإبراهيم بعث الله تعالى سحابة على قدر البيت فيها رأس يتكلم فيقول يا إبراهيم إبن على قدري وحيالي فأسس عليها البيت وذهبت السحابة ثم بناه حتى فرغ منه فأوحى الله تعالى إليه " أن لا تشرك بي شيئا " وقال أبو قلابة بناه من خمسة أجبل حراء وثبير وطور سيناء ولبنان وجبل أحد وقال الزجاج " وإذ بوأنا " أي جعلنا مكان البيت مبوأ لإبراهيم والمبوأ المنزل يعني أن الله تعالى علم إبراهيم عليه السلام مكان البيت فبناه على أسه القديم وكان البيت قد رفع إلى السماء قال ويروى أن البيت الأول كان من ياقوتة حمراء
وروي عن إبن عباس أنه قال رفع السماء إلى السادسة يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك وهو بحيال الكعبة
ثم قال " وطهر بيتي " يعني أوحى الله تعالى إلى إبراهيم أن طهر بيتي من النجاسات ومن عبادة الأوثان " للطائفين " يعني لأجل الطائفين بالبيت من غير أهل مكة " والقائمين " يعني المقيمين من أهل مكة " والركع السجود " يعني أهل الصلاة بالآفاق من كل وجه
ثم قال الله عز وجل " وأذن في الناس بالحج " يعني ناد في الناس وذلك أن إبراهيم صلوات الله عليه لما فرغ من بناء الكعبة أمره الله تعالى أن ينادي فصعد إبراهيم على أبي قبيس ونادى يا أيها الناس أجيبوا ربكم إن الله تعالى قد بنى بيتا وأمركم بأن تحجوه فحجوه وقال مجاهد فقام إبراهيم على المقام فنادى بصوت أسمع من بين المشرق والمغرب يا أيها الناس أجيبوا ربكم فأجابوه من أصلاب الرجال لبيك لبيك قال فإنما يحج من أجاب إبراهيم يومئذ ويقال التلبية اليوم جواب الله عز وجل من نداء إبراهيم عن أمر ربه فذلك قوله " يأتوك رجالا " يعني على أرجلهم مشاة " وعلى كل ضامر " يعني على الإبل وغيرها فلا يدخل بعيره ولا غيره الحرم إلا وقد ضمر من طول الطريق
" يأتين من كل فج عميق " من نواحي الأرض " عميق " يعني بعيد وقال مجاهد الفج الطريق والعميق البعيد وقال إن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حجا ماشيين وقال إبن عباس ما آسى على شيء إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيا لأن الله تعالى قال " يأتوك رجالا وعلى كل ضامر "
قال الفقيه أبو الليث هذا إذا كان بيته قريبا من مكة فإذا حج ماشيا فهو أحسن وأما إذا كان بيته بعيدا فالركوب أفضل وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال الراكب أفضل
لأن في المشي يتعب نفسه ويسوء خلقه وإن كان الرجل يأمن على نفسه أن يصبر فالمشي(2/456)
457
أفضل لأنه روي في الخبر أن الملائكة عليهم السلام تتلقى الحاج فيسلمون على أصحاب المحامل ويصافحون أصحاب البعير والبغال والحمير ويعانقون المشاة
سورة الحج 28 - 29
ثم قال عز وجل " ليشهدوا منافع لهم " يعني الأجر في الآخرة في مناسكهم ويقال وليحضروا مناحرهم وقضاء مناسكهم " ويذكروا اسم الله " يعني ولكي يذكروا الله " في أيام معلومات " يعني يوم النحر ويومين بعده وقال مجاهد وقتادة المعلومات أيام العشر والمعدودات أيام التشريق وقال سعيد بن جبير كلاهما أيام التشريق ويقال المعلومات أيام النحر والمعدودات أيام التشريق وهو طريق الفقهاء وأشبه بتأويل الكتاب لأنه ذكر في أيام معلومات الذبح وذكر في أيام معدودات الذكر عند الرمي ورخص بتركه في اليوم الآخر بقوله " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه " [ البقرة : 203 ]
ثم قال " على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " يعني ليذكروا إسم الله عند الذبح والنحر " على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " وهو البقر والإبل والغنم
ثم قال " فكلوا منها " يعني من لحوم الأنعام " وأطعموا البائس الفقير " يعني الضرير والزمن والفقير الذي ليس له شيء وقال الزجاج " البائس " الذي أصابه البؤس وهو الشدة
قوله عز وجل " ثم ليقضوا تفثهم " يعني مناسكهم وقال مجاهد التفث حلق الرأس وتقليم الأظفار وروي عن عطاء عن إبن عباس قال التفث الرمي والحلق والتقصير وحلق العانة ونتف الإبط وقص الأظافير والشارب والذبح وروى نافع عن إبن عمر رضي الله عنه قال التفث ما عليه من المناسك وقال الزجاج التفث لا يعرف أهل اللغة ما هو وإنما عرفوا في التفسير وهو الأخذ من الشارب وتقليم الأظافر والأخذ من الشعر كأنه الخروج من الإحرام إلى الإحلال
ثم قال " وليوفوا نذورهم " يقول من كان عليه نذر في الحج والعمرة مما أوجب على نفسه من هدي أو غيره فإذا نحر يوم النحر فقد أوفى بنذره
ثم قال " وليطوفوا بالبيت العتيق " وهو طواف الزيارة بعدما حلق رأسه أو قصر وقال مقاتل " العتيق " يعني عتق في الجاهلية من القتل والسبي والجراحات وغيرها وقال الحسن " العتيق " يعني القديم كما قال " إن أول بيت " [ آل عمران : 96 ] وقال مجاهد عتيق يعني أعتق من الجبابرة ويقال أعتق من الغرق يوم الطوفان وهذا قول الكلبي وقرأ(2/457)
458
حمزة والكسائي وعاصم " ثم ليقضوا " بجزم اللام وكذلك " وليوفوا " " وليطوفوا " وقرأ أبو عمرو الثلاثة كلها بالكسر بمعنى لام كي وقرأ إبن كثير بكسر اللام الأولى خاصة فمن قرأ بالجزم جعلها أمر الغائب ومن قرأ بالكسر جعله خبرا عطفا على قوله " ليذكروا " وقرأ عاصم في رواية أبي بكر " وليوفوا " بنصب الواو وتشديد الفاء وقرأ الباقون بالتخفيف من أوفى يوفي والأول من وفى يوفي ومعناهما واحد
سورة الحج 30 - 31
ثم قال عز وجل " ذلك " يعني هذا الذي ذكر من أمور المناسك ثم قال " ومن يعظم حرمات الله " يعني أمر المناسك كلها " فهو خير له عند ربه " يعني أعظم لأجره " وأحلت لكم الأنعام " يعني الإبل والبقر والغنم وغيره " إلا ما يتلى عليكم " في التحريم في سورة المائدة " فاجتنبوا الرجس من الأوثان " يعني أتركوا عبادة الأوثان " واجتنبوا " يعني أتركوا " قول الزور " يعني الكذب وهو قولهم هذا حلال وهذا حرام ويقال معناه أتركوا الشرك ويقال أتركوا شهادة الزور
ثم قال عز وجل " حنفاء لله " يعني مخلصين بالتلبية لله تعالى لأن أهل الجاهلية كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ويقال إن هذا القول بالزور الذي أمرهم باجتنابه
ثم قال " غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء " أي وقع من السماء " فتخطفه الطير " يعني تختلسه الطير " أو تهوي به الريح " يعني تذهب به الريح " في مكان سحيق " أي بعيد فكذلك الكافر في البعد من الله عز وجل ويقال معناه " من يشرك بالله " فقد ذهب أصله وقال الزجاج الخطف هو أخذ الشيء بسرعة فهذا مثل ضربه الله عز وجل للكافرين في بعدهم من الحق فأخبر أن بعد من أشرك من الحق كبعد من خر من السماء فذهبت به الطير وهوت به الريح في مكان " سحيق " يعني بعيد قرأ نافع " فتخطفه الطير " بنصب الخاء والتشديد وقرأ الباقون بالجزم والتخفيف من خطف ومن قرأ بالتشديد فلأن أصله فتخطفه فأدغم التاء في الطاء وألقيت حركة التاء على الخاء
سورة الحج 32 - 35(2/458)
459
ثم قال عز وجل " ذلك " يقول هذا الذي أمر من إجتناب الأوثان " ومن يعظم شعائر الله " يعني البدن فيذبح أعظمها وأسمنها وروي عن إبن عباس أنه قال تعظيمها إستعظامها وأيضا إستسمانها وإستحسانها ثم قال " فإنها من تقوى القلوب " يعني من إخلاص القلوب ويقال من صفاء القلوب و " شعائر الله " معالم الله ودينه التي ندب إلى القيام بها وواحدها شعيرة
قوله عز وجل " لكم فيها منافع " يعني في البدن وقال مجاهد يعني في ركوبها وشرب ألبانها وأوبارها " إلى أجل مسمى " يعني إلى أجل مسمى بدنا فمحلها إلى البيت العتيق وروي عن إبن عباس نحو هذا وقد قول بعض الناس إنه يجوز ركوب البدن وقال أهل العراق لا يجوز إلا عند الضرورة ويضمن ما نقصها الركوب وهذا القول أحوط الوجهين " ثم محلها " يعني منحرها " إلى البيت العتيق " يعني في الحرم وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال جميع فجاج مكة منحر
ثم قال عز وجل " ولكل أمة " يعني لكل أهل دين ويقال لكل قوم من المؤمنين فيما خلا " جعلنا منسكا " يعني ذبحا لهراقة دمائهم ويقال مذبحا يذبحون فيه قال الزجاج معناه جعلنا لكل أمة أن تتقرب بأن تذبح الذبائح لله تعالى قرأ حمزة والكسائي " منسكا " بكسر السين وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالكسر يعني مكان النسك ومن قرأ بالنصب فعلى المصدر وقال أبو عبيد قرائتنا هي بالنصب لفخامتها
ثم قال " ليذكروا إسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " يعني يذكرون إسم الله تعالى عند الذبح " فإلهكم إله واحد " أي ربكم رب واحد " فله أسلموا " أي أخلصوا بالتسمية عند الذبيحة وفي التلبية " وبشر المخبتين " أي المخلصين بالجنة ويقال المجتهدين في العبادة والسكون فيها قال قتادة المخبتون المتواضعون وقال الزجاج أصله من الخبت من الأرض وهو المكان المنخفض ويقال المخبت الذي فيه الخصال التي ذكرها الله بعده وهو قوله عز وجل " الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " يعني خافت قلوبهم " والصابرين على ما أصابهم " من أمر الله من المرازي والمصائب " والمقيمي الصلاة " يعني يقيمونها بمواقيتها " ومما رزقناهم ينفقون " يعني يتصدقون وينفقون في الطاعة ثم ذكر البدن يعني ينحرون البدن فهذه الخصال الخمسة صفة المخبتين
سورة الحج 36 - 37(2/459)
460
قوله عز وجل " والبدن جعلناها لكم " قرأ بعضهم " والبدن " بضم الدال وقراءة العامة بسكون الدال والمعنى واحد " من شعائر الله " يعني جعلنا البدن من مناسك الحج " لكم فيها خير " أي في نحرها أجر في الآخرة ومنفعة في الدنيا " فاذكروا إسم الله عليها صواف " يعني قائمة قد صفت قوائمها والآية تدل على أن الإبل تنحر قائمة وروي عن عبد الله بن عمر أنه أمر برجل قد أناخ بعيره لينحره فقال له أنحره قائما فإنه سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم وروي عن إبن مسعود وإبن عباس أنهما كانا يقرآن " فاذكروا إسم الله عليها صوافن " والصوافن التي تقوم على ثلاثة قوائم إذا أرادوا نحره تعقل إحدى يديه فهو الصافن وجماعته صوافن وقال مجاهد من قرأ صوافن قال قائمة معقولة من قرأها صواف قال يصف بين يديها وروي عن زيد بن أسلم أنه قرأ " صوافي " بالياء منتصبة ويقال خالصة من الشرك وروي عن الحسن مثله وقال خالصة لله تعالى وهكذا روى عنهما أبو عبيدة وحكى القتبي عن الحسن أنه كان يقرأ " صواف " مثل قاض وغاز أي خالصة لله تعالى يعني لا يشرك به في حال التسمية على نحرها
ثم قال " فإذا وجبت جنوبها " يعني إذا ضربت بجنبها على الأرض بعد نحرها يقال وجب الحائط إذا سقط ووجب القلب إذا تحرك من الفزع ويقال وجب البيع إذا تم " فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر " " فالقانع " الراضي الذي يقنع بما أعطي وهو السائل " والمعتر " الذي يتعرض للمسألة ولا يتكلم ويقال " القانع " المتعفف الذي لا يسأل ويقنع بما أرسلت إليه " والمعتر " السائل الذي يعتريك للسؤال
وقال الزهري السنة أن يأكل الرجل من لحم أضحيته قبل أن يتصدق وروي عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليأكل أحدكم من لحم أضحيته وروى منصور عن إبراهيم قال كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين بقوله " فكلوا منها " فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله والأفضل أن يتصدق بثلثه على المساكين ويعطي ثلثه للجيران والقرابة أغنياء كانوا أو فقراء ويمسك ثلثه لنفسه وروي عن إبن مسعود نحو هذا وروي عن إبن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن " القانع والمعتر " فقال القانع الذي يقنع بما أعطي والمعتر الذي يعتري بالأبواب وقال أما سمعت قول زهير
( على مكثريهم حق من يعتريهم % وعند المقلين السماحة والبذل )(2/460)
461
وقال مجاهد القانع جارك وإن كان غنيا ثم قال " كذلك سخرناها لكم " أي ذللناها لكم وهي البدن " لعلكم تشكرون " يعني لكي تشكروا ربكم على هذه النعمة
قوله عز وجل " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها " وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن عند زمزم أخذوا دماءها ولطخوا بها حول الكعبة وعلقوا لحومها بالبيت وقالوا اللهم تقبل منا فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك فنزل " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها " يعني لن يصل إلى الله عز وجل لحومها ولا دماؤها " ولكن يناله التقوى منكم " أي يصل إليه التقوى من أعمالكم الزاكية والنية الخالصة قرأ الحضرمي " لن تنال الله " بالتاء لأن لفظ اللحوم مؤنثة ولكن تناله بالتاء لأن لفظ التقوى مؤنث وقراءة العامة بالياء وانصرف إلى المعنى لأن الفعل مقدم
ثم قال " كذلك سخرها لكم " يعني ذللها لكم " لتكبروا الله " يقول لتعظموا الله عز وجل " على ما هداكم " يعني أرشدكم لأمر دينه " وبشر المحسنين " بالجنة فمن فعل ما ذكر في هذه الآيات فهو محسن ويقال المحسن الذي يحسن الذبيحة فيختار بغير عيب
سورة الحج 38 - 41
قوله عز وجل " إن الله يدافع عن الذين آمنوا " يعني يدفع كفار مكة عن الذين آمنوا فلا ينالون منهم شيئا وقال الزجاج إذا فعلتم هذا وخالفتم أهل الجاهلية فيما يفعلونه في نحرهم وإشراكهم فإن الله يدافع عن حزبه ويقال إن أهل مكة آذوا المسلمين قبل الهجرة فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في قتالهم في السر فنهاهم الله عز وجل عند ذلك
ثم قال عز وجل " إن الله يدافع عن الذين آمنوا " يعني يدفع أذاهم عن المسلمين فأمرهم بالصبر قرأ إبن كثير وأبو عمرو " إن الله يدفع " بغير ألف وقرأ الباقون " يدافع " بالألف من دافع يدافع بمعنى دفع ثم قال " إن الله لا يحب كل خوان " للأمانة " كفور " كفور لربه ولنعمه وقال أهل اللغة الخوان الفعال من الخيانة وهو المبالغة في الخيانة فمن ذكر إسما غير إسم الله تعالى وتقرب إلى الأصنام بذبيحته فهو خوان كفور
قوله عز وجل " أذن للذين يقاتلون " يعني أذن للمؤمنين بقتال المشركين " بأنهم(2/461)
462
ظلموا ) يعني أذن لهم بالقتال بسبب أنهم ظلموا قرأ عاصم في رواية حفص " أذن " بضم الألف على معنى أذن الله للذين يقاتلون بنصب التاء وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو " أذن " بالضم " يقاتلون " بكسر التاء وقرأ الباقون بالنصب قرأ حمزة والكسائي وإبن كثير " يقاتلون " بالكسر
ثم قال " وإن الله على نصرهم لقدير " يعني قادر وكان المشركون لا يزالون يؤذونهم باللسان وباليد فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما هاجروا أمروا بالقتال
ثم أخبر عن ظلم كفار مكة فقال عز وجل " الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق " يعني بلا جرم أجرموا " إلا أن يقولوا ربنا الله " يعني لم يخرج كفار مكة المؤمنين بسبب سوى أنهم كانوا يقولون ربنا الله فأخرجوهم بهذا السبب ويقال في الآية تقديم ومعناه " أذن للذين يقاتلون " الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله " وأن الله على نصرهم لقدير "
ثم قال " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض " بالجهاد وإقامة الحدود وكف الظلم يقول لولا أن يدفع المشركين بالمؤمنين لغلب المشركون فقتلوا المؤمنين " لهدمت صوامع وبيع " ويقال لولا دفع الله بالأنبياء عن المؤمنين وبالمؤمنين من غيرهم لهدمت صوامع الرهبان وبيع النصارى " وصلوات " يعني كنائس اليهود " ومساجد " المسلمين " يذكر فيها إسم الله كثيرا " وقال مجاهد " لولا دفع الله تعالى الناس بعضهم ببعض " في الشهادة في الحق لهدمت هذه الصوامع وما ذكر معها وقال الزجاج تأويل هذا ولولا أن دفع الله بعض الناس ببعض لهدمت في شريعة كل نبي المكان الذي يصلي فيه لهدم في زمان موسى عليه السلام الكنائس وفي زمن عيسى عليه السلام البيع وفي زمن محمد صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء المساجد قرأ نافع " ولولا دفاع الله " بالألف وقرأ الباقون بغير ألف وقرأ إبن كثير ونافع " لهدمت " بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد على معنى المبالغة والتكثير
ثم قال " ولينصرن الله من ينصره " يعني لينصرن بالغلبة على عدوه من ينصره بنبيه صلى الله عليه وسلم ويقال " لينصرن الله من ينصره " يعني ينصر الله من ينصر دينه كما قال في آية أخرى " إن تنصروا الله ينصركم " [ محمد : 7 ] ثم قال " إن الله لقوي عزيز " أي منيع قادر على أن ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم بغير عونكم
قوله عز وجل " الذين إن مكناهم في الأرض " يعني إن أنزلناهم بالمدينة وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قوله " أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف " يعني بالتوحيد وإتباع محمد صلى الله عليه وسلم " ونهوا عن المنكر " عن الشرك " ولله عاقبة الأمور " يعني لله ترجع عواقب الأمور يعني عاقبة أمور العباد في
الآخرة(2/462)
463
سورة الحج 42 - 45
قوله عز وجل " وإن يكذبوك " يعني إن يكذبوك يا محمد أهل مكة " فقد كذبت قبلهم " يعني قبل قومك " قوم نوح " كذبوا نوحا " وعاد " كذبت هودا " وثمود " كذبوا صالحا " وقوم إبراهيم " كذبوا إبراهيم " وقوم لوط " كذبوا لوطا " وأصحاب مدين " كذبوا شعيبا " وكذب موسى " يعني كذبه قومه " فأمليت للكافرين " يعني أمهلتهم " ثم أخذتهم " يعني عاقبتهم بعد المهل بالعذاب " فكيف كان نكير " يعني كيف رأيت تغييري عليهم وإنكاري يعني أليس قد وجدوا حقا فكذلك كفار مكة تصيبهم العقوبة كما أصابهم
ثم قال عز وجل " فكأين من قرية " يعني وكم من أهل قرية " أهلكناها " يعني أهلكنا أهلها " وهي ظالمة " أي كافرة " فهي خاوية على عروشها " يعني ساقطه حيطانها على سقوفها " وبئر معطلة " يعني خالية ليس عندها ساكن " وقصر مشيد " يعني طويلا في السماء ويقال معناه كم من بئر معطلة عطلها أربابها وليس عليها أحد يستقي " وقصر مشيد " يعني كم من حصن طويل مشيد ليس فيه ساكن ويقال المشيد هو المبنى بالشد وهو الجص وهو المشيد سواء أي المطول قرأ أبو عمرو " أهلكتها " بالتاء وقرأ الباقون " أهلكناها " بلفظ وهو الجماعة وقرأ نافع في رواية ورش وأبو عمرو في إحدى الروايتين " وبير " بالتخفيف وهي لغة لبعض العرب وقرأ الباقون بالهمز وهي اللغة المعروفة
سورة الحج 46 - 48
ثم قال عز وجل " أفلم يسيروا في الأرض " يعني أو لم يسافروا في الأرض فيعتبروا " فتكون لهم قلوب يعقلون بها " يعني فتصير لهم قلوب بالنظر والعبرة لو كانوا يعقلون بها " أو آذان يسمعون بها " التخويف " فإنها " أي النظرة بغير عبرة ويقال كلمة الشرك " لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " يعني العقول التي في الصدور وذكر وذكر الصدر للتأكيد(2/463)
464
ثم قال عز وجل " ويستعجلونك بالعذاب " هو النضر بن الحارث " ولن يخلف الله وعده " في العذاب " وإن يوما عند ربك " يعني إن يوما من الأيام التي وعد لهم في العذاب " عند ربك " في الآخرة " كألف سنة مما تعدون " في الدنيا
ثم بين لهم العذاب حيث قال " ولن يخلف الله وعده " ووصف طول عذابهم ويقال إنه أراد بذلك قدرته عليهم بحال إستعجالهم أنه يأخذهم متى شاء قرأ إبن كثير وحمزة والكسائي " مما يعدون " بالياء وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة
ثم قال عز وجل " وكأين من قرية أمليت لها " فلم أعجل عليها العقوبة " وهي ظالمة " أي كافرة " ثم أخذتها " بالعذاب ولكن لم يذكر العذاب لأنه سبق ذكره ثم قال " وإلي المصير " يعني المرجع في الآخرة
سورة الحج 49 - 51
قوله عز وجل " يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين " يعني رسول مبين أبلغكم بلغة تعرفونها " فالذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني الطاعات " لهم مغفرة " لذنوبهم " ورزق كريم " حسن في الجنة " والذين سعوا في آياتنا " يعني عملوا في القرآن بالتكذيب " معاجزين " قرأ إبن كثير وأبو عمرو " معجزين " بغير ألف والتشديد في جميع القرآن وقرأ الباقون بالألف والتخفيف فمن قرأ " معجزين " أي يعجزون من إتبع النبي صلى الله عليه وسلم ويثبطونهم ومن قرأ " معاجزين " أي ظانين أنهم يعجزوننا لأنهم يظنون أنهم لا يبعثون وقيل " معاجزين " أي معاندين ومعناه ليسوا بفائتين " أولئك أصحاب الجحيم " يعني النار
سورة الحج 52 - 54
قوله عز وجل " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى " أي حدثت نفسه " ألقى الشيطان في أمنيته " أي في حديثه ويقال تمنى أي قرأ كما قال القائل
( تمنى كتاب الله أول ليله % وآخره لاقى حمام المقادر )(2/464)
465
وقال آخر
( تمنى داود الزبور على الرسل % )
" ألقى الشيطان في أمنيته " أي في تلاوته " فينسخ الله ما يلقي الشيطان " يعني يذهب الله به ويبطله " ثم يحكم الله آياته " يعني بين الله عز وجل الناسخ من المنسوخ قال إبن عباس في رواية أبي صالح أتاه الشيطان في صورة جبريل وهو يقرأ سورة " والنجم إذا هوى " [ النجم : 1 ] عند الكعبة حتى إنتهى إلى قوله " أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى " [ النجم : 19 - 20 ] ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى فلما سمعه المشركون يقرأ ذلك أعجبهم فلما إنتهى إلى آخرها سجد وسجد المسلمون والمشركون معه فلما فأتاه جبريل عليه السلام فقال ما جئتك بهذا فنزل " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " الآية
وروى سعيد بن جبير عن إبن عباس نحو هذا قال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا إبراهيم بن محمد قال حدثنا جعفر بن زيد الطيالسي قال حدثنا إبراهيم بن محمد قال حدثنا أبو عاصم عن عمار بن الأسود عن سعيد بن جبير عن إبن عباس قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومناة الثالثة الأخرى " ثم قال تلك الغرانيق العلى وإن الشفاعة منها ترتجى فقال المشركون قد ذكر آلهتنا في أحسن الذكر فنزلت الآية
وقال مقاتل قرأ النبي صلى الله عليه وسلم والنجم بمكة عند مقام إبراهيم فنعس فقرأ تلك الغرانيق العلى فلما فرغ من السورة سجد وسجد من خلفه فنزل " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " وقال قتادة لما ألقى الشيطان ما ألقى قال المشركون قد ذكر الله آلهتنا بخير ففرحوا بذلك فذلك قوله " ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض "
روى أسباط عن السدي قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقرأ سورة النجم فلما إنتهى إلى قوله " ومناة الثالثة الأخرى " [ النجم : 20 ] فألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى حتى بلغ إلى آخر السورة سجد وسجد أصحابه وسجد المشركون لذكره آلهتهم فلما رفع رأسه حملوه وأسندوا به بين قطري مكة حتى إذا جاءه جبريل عليه السلام عرض عليه فقرأ عليه الحرفين فقال جبريل عليه السلام معاذ الله أن أكون أقرأتك هذا واشتد عليه فأنزل الله تعالى لتطييب نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أن الأنبياء عليهم السلام قبله قد كانوا مثله(2/465)
466
ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وجلس عنده جماعة من المشركين فتمنى في نفسه أن لا يأتيه من الله شيء ينفرون منه فابتلاه الله تعالى بما ألقى الشيطان في أمنيته وقال بعضهم تمنى أي تفكر وحدث بنفسه تلك الغرانيق العلى ولم يتكلم به لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم كان حجة فلا يجوز أن يكون يجري على لسانه كلمة الكفر وقال بعضهم لما رآه الشيطان يقرأ خلط صوته بصوت النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ الشيطان تلك الغرانيق فظن الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن قرأها وقال بعضهم قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه التعيير والزجر يعني أنكم تعبدونها كأنهن الغرانيق العلى كما قال إبراهيم عليه السلام " فعله كبيرهم هذا " [ الأنبياء : 63 ] وقال الزجاج ألقى الشيطان في تلاوته فذلك محنة يمتحن الله تعالى بها من يشاء فجرى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم شيء من صفة الأصنام فافتتن بذلك أهل الشقاوة والنفاق وروي عن سفيان بن عيينة وعن عمرو بن دينار أن إبن عباس كان يقرأ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث والمحدث الذي يرى أمره في منامه من غير أن يأتيه الوحي
ثم قال " والله عليم " بما ألقى الشيطان " حكيم " حكم بالناسخ وبين قوله عز وجل " ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة " يعني بلية " للذين في قلوبهم مرض " أي شك " والقاسية قلوبهم " يعني الذين قست قلوبهم عن ذكر الله وهم المشركون " وإن الظالمين لفي شقاق بعيد " عن الحق يعني المشركين في خلاف طويل عن الحق
ثم ذكر المؤمنين فقال " وليعلم الذين أوتوا العلم " يعني الذين أكرموا بالتوحيد والقرآن ويقال هم مؤمنو أهل الكتاب " أنه الحق من ربك " يعني القرآن " فيؤمنوا به " أي فيصدقوا به ويقال لكي يعلموا أن ما أحكم الله في آياته حق وأن ما ألقى الشيطان باطل ويزداد لهم يقين وبيان فذلك قوله " فيؤمنوا به " أي يثبتوا به على إيمانهم " فتخبت له قلوبهم " يعني فتخلص له قلوبهم " وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم " يعني إن الله عز وجل لحافظ قلوب المؤمنين في هذه المحنة حتى لم ينزع المعرفة من قلوبهم عند إلقاء الشيطان
سورة الحج 55 - 57
ثم قال عز وجل " ولا يزال الذين كفروا في مرية منه " أي في شك منه يعني من القرآن " حتى تأتيهم الساعة بغتة " يعني فجأة " أو يأتيهم عذاب يوم عقيم " لا فرح فيه ولا راحة ولا رحمة ولا رأفة وهو عذاب يوم القيامة وقال السدي وقتادة " يوم عقيم " يوم بدر ويقال إنما سمي " يوم عقيم " لأنه أعقم كثيرا من النساء وقال عمرو بن قيس " يوم(2/466)
467
عقيم ) يوم القيامة يوم ليس له ليلة ولا بعده يوم والعقيم أصله في اللغة المرأة التي لا تلد وكذلك رجل عقيم إذا كان لا يولد له وكذلك كل شيء لا يكون فيه خير يعني لا يكون للكافرين خير في يوم القيامة كما قال الله تعالى " على الكافرين غير يسير " [ المدثر : 10 ]
ثم وصف ذلك اليوم فقال عز وجل " الملك يومئذ لله " لا ينازع فيه أحد " يحكم بينهم " يعني يقضي بين الخلق لا حاكم في ذلك اليوم غيره
ثم قال " فالذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني أن حكمه في يوم القيامة أن المؤمنين " في جنات النعيم "
سورة الحج 58 - 59
قوله عز وجل " الذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين " يعني الشدة ثم قال عز وجل " والذين هاجروا " وذلك أن المسلمين قاتلوا فاستشهدوا فقال الذين لم يستشهدوا وهل لنا أجر فنزل " والذين هاجروا في سبيل الله " يعني في طاعة الله من مكة إلى المدينة " ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا " يعني يرزقهم الغنيمة في الدنيا لمن لم يموتوا ولم يقتلوا " وإن الله لهو خير الرازقين " يعني أفضل الرازقين وأقوى المعطين " ليدخلنهم مدخلا يرضونه " يعني الجنة إذا قتلوا وماتوا " وإن الله لعليم حكيم " حيث لم يعجل بالعقوبة وهذه الآية مدنية
سورة الحج 60 - 62
قوله عز وجل " ذلك ومن عاقب " قال مقاتل وذلك أن مشركي العرب لقوا المسلمين في الشهر الحرام فكره المسلمون القتال فقاتلهم المشركون فبغوا عليهم فنصر الله المسلمين عليهم فوقع في أنفس المؤمنين من القتال في الشهر الحرام فنزل " ذلك ومن عاقب " يقول هذا جزاء من عاقب " بمثل ما عوقب به " وقال بعضهم " ذلك " يعني ما وصفنا من صفة أهل الجنة وأهل النار فهو كذلك فقد تم الكلام " ومن عاقب " إبتداء الكلام " بمثل ما عوقب به " في الدنيا وقال الكلبي الرجل يقتل له الحميم فله أن يقتل به قاتله
" ثم بغي عليه لينصرنه الله " على من بغى عليه ويقال إذا زاد على القتل لينصرنه الله ويقال إن الرجل إذا وجب له القصاص فله أن يقتل أو يأخذ الدية فإن أخذ أكثر من حقه(2/467)
468
بالقتل وأخذ الدية " ثم بغي عليه " أي ظلم عليه يعني غضب عليه أولياء المقتول باستيفاء حقه فجنوا عليه لينصرنه الله أي له أن يطلب بجنايته ويقال له إذا ظلم على ولي المقتول بالإستطالة بالقتل أو بأخذ الدية لينصرنه الله بأخذ حقه " إن الله لعفو غفور " بقتالهم
ثم قال عز وجل " ذلك " يعني ذلك القدرة " بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل " قال مقاتل يعني هذا الذي فعل هو من قدرته
ثم بين قدرته فقال " ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير " ثم قال " ذلك " يعني هذا الذي ذكر من صفته وقدرته " بأن الله " يعني لعلموا أن الله " هو الحق " وأن عبادته الحق " وأن ما يدعون من دونه هو الباطل " ولا يقدرون على شيء " وأن الله هو العلي الكبير " يعني هو أعلى وأكبر من أن يعدل به الباطل قرأ إبن عامر " ثم قتلوا " بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " وأن ما يدعون " بالياء بلفظ المغايبة وقرأ الباقون بالتاء وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر " ليدخلنهم مدخلا " بنصب الميم وقرأ الباقون بالضم
سورة الحج 63 - 66
ثم قال عز وجل " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء " يعني المطر " فتصبح الأرض مخضرة " يعني تصير الأرض مخضرة بالنبات ويقال ذات خضرة " إن الله لطيف " باستخراج النبات " خبير " أي عليم به وبمكانه
ثم قال عز وجل " له ما في السموات وما في الأرض " من الخلق " وإن الله لهو الغني " عن الخلق وعن عبادتهم " الحميد " يعني المحمود في أفعاله
قوله عز وجل " ألم تر أن الله سخر لكم " يعني ذلل لكم " ما في الأرض والفلك تجري " يعني تسير " في البحر بأمره " يعني بإذنه وروي عن عبد الرحمن الأعرج أنه قرأ " الفلك " بضم الكاف على معنى الإبتداء وقراءة العامة بالنصب لوقوع التسخير عليها يعني سخر لكم الفلك ويقال صار نصبا بالنسق على أن معنى أن الفلك تجري
ثم قال " ويمسك السماء أن تقع على الأرض " يعني لئلا تقع على الأرض ويقال كراهة أن تقع على الأرض " إلا بإذنه " يعني بأمره يوم القيامة " إن الله بالناس لرؤوف(2/468)
469
رحيم ) يعني " رحيم " مع شركهم ومعصيتهم حيث يرزقهم في الدنيا ولم يعاقبهم في العاجل
ثم قال عز وجل " وهو الذي أحياكم " يعني خلقكم ولم تكونوا شيئا " ثم يميتكم " في الدنيا " ثم يحييكم " للبعث " إن الإنسان لكفور " أي كفور لنعمه لا يشكره ولا يطيعه
سورة الحج 67 - 71
قوله عز وجل " لكل أمة " يعني لكل قوم " جعلنا منسكا " يعني مذبحا " هم ناسكوه " يعني ذابحوه وفي منسك من الإختلاف ما سبق " فلا ينازعنك في الأمر " لا يخالفنك في أمر الذبيحة نزلت في قوم من خزاعة قالوا ما ذبح الله فهو أحل مما ذبحتم وقال الزجاج المعنى فيه أي فلا يجادلنك ولا تجادلهم والدليل عليه وإن جادلوك ويقال " فلا ينازعنك في الأمر " يعني لا يغلبونك في المنازعة " وادع إلى ربك " يعني أدع الخلق إلى معرفة ربك وإلى توحيد ربك " إنك لعلى هدى مستقيم " على دين مستقيم
قوله عز وجل " وإن جادلوك " يعني إن حاججوك في أمر الذبيحة والتوحيد " فقل الله أعلم بما تعملون " يعني عالما بأعمالكم فيجازيكم وذلك قوله " الله يحكم بينكم " يقضي بينكم " يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون " من الدين والذبيحة
قال عز وجل " ألم تعلم " يا محمد " أن الله يعلم ما في السموات والأرض إن ذلك في كتاب " يعني إن ذلك العلم مكتوب في اللوح المحفوظ " إن ذلك في كتاب " أي إن كتابته " على الله يسير " يعني هين حال حفظه على الله أي كتابته على الله يسير
ثم قال عز وجل " ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا " يعني عذر ولا حجة قرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين " ما لم ينزل " بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد " وما ليس لهم به علم " يعني ليس لهم بذلك حجة من المعقول " وما للظالمين من نصير " يعني مانع يمنعهم من العذاب
سورة الحج 72 - 73(2/469)
470
ثم قال عز وجل " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات " يعني يعرض عليهم القرآن " تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر " يعني الغم والحزن والكراهية " يكادون يسطون " يعني هموا لو قدروا يضربون ويبطشون أشد البطش " بالذين يتلون عليهم آياتنا " يعني يقرؤون عليهم القرآن وقال القتبي " يسطون " يعني يتناولونهم بالمكروه من الضرب والشتم ويقال " يسطون " يعني يفرضون عليهم والسطوة العقوبة
" قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار " يعني بأشد وأسوأ من ضربكم وبطشكم ويقال إنهم كانوا يسخرون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورثاثة حالهم قال الله تعالى قل لهم يا محمد " أفأنبئكم بشر من ذلك " يعني مما قلتم للمؤمنين قالوا ما هي قال النار " وعدها الله الذين كفروا " يعني للكافرين قوله " وبئس المصير " الذي صاروا إليه
قوله عز وجل " يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له " يعني بين ووصف شبه به لآلهتكم أي أجيبوا عنه وقال بعضهم ليس ها هنا مثل وإنما أراد به قطع الشغب لأنهم كانوا يقولون " لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه " [ فصلت : 26 ] فقال " يا أيها الناس ضرب مثل " فاصغوا إليه إستماعا للمثل فأوقع في أسماعهم عيب آلهتهم فقال " إن الذين تدعون من دون الله " ويقال معناه مثلكم مثل من عبد آلهة " لن يخلقوا ذبابا " لن يقدروا على خلق الذباب ويقال المثل في الآية لا غير وهو قوله " إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا " أي لن يقدروا أن يخلقوا ذبابا من الذباب في المثل " ولو إجتمعوا له " يعني على تخليقه
ثم ذكر من أمرها ما هو أضعف من خلق الذباب فقال " وإن يسلبهم الذباب شيئا " وذلك أنهم كانوا يلطخون العسل على فم الأصنام فيجيء الذباب فيسلب منها ما لطخوا عليها " لا يستنقذوه منه " أي لا يقدرون أن يستنقذوا من الذباب ما أخذ منهم " ضعف الطالب والمطلوب " يعني الذباب والصنم ويقال ضعف العابد والمعبود
سورة الحج 74 - 76
قوله عز وجل " ما قدروا الله حق قدره " يعني ما عظموا الله حق عظمته حين أشركوا به غيره ولم يوحدوه ويقال ما وصفوه حق صفته ويقال ما عرفوه حق معرفته كما ينبغي(2/470)
471
وقال إبن عباس نزلت الآية في يهود المدينة حين قالوا خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم إستلقى فاستراح ووضع إحدى رجليه على الأخرى وكذب أعداء الله فنزل " ما قدروا الله حق قدره " " إن الله لقوي " في أمره " عزيز " يعني منيع في ملكه ومعبودهم لا قوة له ولا منفعة ويقال " إن الله لقوي " على عقوبة من جعل له شريكا " عزيز " للإنتقام منهم
قوله عز وجل " الله يصطفى من الملائكة رسلا " قيل جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت والحفظة الذين يكتبون أعمال بني آدم عليهم السلام " ومن الناس " يعني ويختار من الناس رسلا منهم محمد وعيسى ونوح وموسى عليهم السلام فجعلهم أنبياء ورسلا إلى خلقه " إن الله سميع " أي سميع لمقالتهم " بصير " بمن يتخذه رسولا وذلك أن الوليد بن المغيرة قال أأنزل عليه الذكر من بيننا فأخبر الله تعالى أنه " سميع " مقالة من يكفر " بصير " بمن يصلح للرسالة فيختاره ويجعله رسولا
ثم قال عز وجل " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم " يعني من أمر الآخرة وأمر الدنيا " وإلى الله ترجع الأمور " يعني عواقب الأمور في الآخرة ويقال معناه منه بدأ وإليه يرجع
سورة الحج 77 - 78
قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا إركعوا واسجدوا " يعني صلوا لله تعالى وقال بعض الناس يسجد في هذا الموضع يذكر ذلك عن عمر وإبن عمر وروي عن إبن عباس أنه قال السجدة في الحج في الأولى منهما وهذا قول أهل العراق لأن السجدة سجدة الصلاة بدليل أنها مقرونة بالركوع معناه إركعوا واسجدوا في الصلوات المفروضات التطوع وروي عن إبن عباس أنه قال أول ما أسلموا كانوا يسجدون بغير ركوع فأمرهم الله تعالى بأن يركعوا ويسجدوا
ثم قال " واعبدوا ربكم " أي وحدوه وأطيعوه " وافعلوا الخير " أي أكثروا من الطاعات والخيرات ما استطعتم وبادروا إليها ويقال التسبيحات " لعلكم تفلحون " يعني تنجون من عذاب الله تعالى(2/471)
472
قوله عز وجل " وجاهدوا في الله حق جهاده " يعني إعملوا لله عز وجل حق عمله ويقال جاهدوا في طاعة الله عز وجل وطلب مرضاته وقال الحسن " حق جهاده " أن تؤدي جميع ما أمرك الله عز وجل به وتجتنب جميع ما نهاك الله عنه وأن تترك رغبة الدنيا لرهبة الآخرة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا سأله فقال أي الجهاد أفضل فقال كلمة عدل عند السلطان
ثم قال " هو إجتباكم " يعني إختاركم واصطفاكم " وما جعل عليكم في الدين من حرج " يعني في الإسلام من ضيق ولكن جعله واسعا ولم يكلفكم مجهود الطاقة وإنما كلفكم دون ما تطيقون ويقال وضع عنكم إصركم والأغلال التي كانت عليكم ويقال " وما جعل عليكم في الدين من حرج " وهو ما رخص في الإفطار في السفر والصلاة قاعدا عند العلة وقال قتادة أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم يعطها إلا نبي كان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم إذهب فليس عليك من حرج وقال لهذه الأمة " وما جعل عليكم في الدين من حرج " وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم أنت شهيد على قومك وقال لهذه الأمة " وتكونوا شهداء على الناس " وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم سل تعط وقال لهذه الأمة " أدعوني أستجب لكم " [ غافر : 60 ]
ثم قال " ملة أبيكم إبراهيم " قال الزجاج إنما صار منصوبا لأن معناه إتبعوا ملة أبيكم إبراهيم قال وجائز أن يكون وافعلوا الخير فعل أبيكم إبراهيم ويقال معناه " وما جعل عليكم في الدين من حرج " ولكن جعل لكم ملة سمحة سهلة كملة أبيكم إبراهيم " هو سماكم المسلمين من قبل " يعني الله تعالى سماكم المسلمين ويقال إبراهيم سماكم أي من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن والطريق الأول أصح لأنه قال من قبل " وفي هذا " يعني الله سماكم المسلمين في سائر الكتب من قبل هذا القرآن وفي هذا القرآن " ليكون الرسول شهيدا عليكم " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم شهيدا على أمته بأنه بلغهم الرسالة بالتصديق لهم " وتكونوا شهداء على الناس " يعني على سائر الأمم أن الرسل قد بلغتهم وقال مقاتل " وتكونوا شهداء على الناس " يعني للناس يعني للرسل على قومهم كقوله وما ذبح على النصب أي للنصب
ثم قال " فأقيموا الصلاة " يعني أقروا بها وأتموها " وآتوا الزكاة " يعني أقروا بها وأدوها ثم قال " واعتصموا بالله " يعني وثقوا بالله إذا فعلتم ذلك ويقال معناه تمسكوا بتوحيد الله تعالى وهو قول لا إله إلا الله " هو مولاكم " أي وليكم وناصركم وحافظكم " فنعم المولى " يعني نعم الحافظ " ونعم النصير " يعني نعم المانع لكم برحمته والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا(2/472)
473
سورة المؤمنون
كلها مكية وهي مائة وسبع عشرة آية
قال حدثنا الفقيه أبو الليث حدثنا أبو جعفر قال حدثنا أبو بكر بن أبي سعيد قال حدثنا محمد بن علي بن طرخان قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا عبد الرزاق عن يونس بن سليم عن زيد الأيلي عن الزهري عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد القارىء عن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقد أنزلت علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ
سورة المؤمنون 1 - 7
" قد أفلح المؤمنون " إلى عشر آيات وروي عن كعب الأحبار قال إن الله تعالى لما خلق الجنة قال لها تكلمي فقالت " قد أفح المؤمنون " وروى عن غيره أنها قالت أنا حرام على كل بخيل ومرائي وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذا وقوله " قد أفلح المؤمنون " أي سعد وفاز ونجا المصدقون بإيمانهم
ثم نعتهم ووصف أعمالهم فقال " الذين هم في صلاتهم خاشعون " يعني متواضعين وقال الزهري سكون المرء في صلاته لا يلتفت يمينا ولا شمالا وقال الحسن البصري " خاشعون " أي خائفون وروي عنه أنه قال " خاشعون " الذين لا يرفعون أيديهم في الصلاة إلا في التكبيرة الأولى وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال الخشوع في الصلاة أن لا تلتفت في صلاتك يمينا ولا شمالا وذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام في الصلاة رفع بصره إلى السماء فلما نزلت هذه الآية رمى بصره نحو مسجده وروي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال لو خشع قلبه لخشعت جوارحه
ثم قال عز وجل " والذين هم عن اللغو معرضون " يعني الحلف والباطل من الكلام تاركون قال قتادة كل كلام أو عمل لا يحتاج إليه فهو لغو ويقال الذين هم عن الشتم(2/473)
474
والأذى معرضون كقوله عز وجل " وإذا مروا باللغو مروا كراما " [ الفرقان : 72 ]
ثم قال " والذين هم للزكاة فاعلون " يعني مؤدون " والذين هم لفروجهم حافظون " عن الفواحش وعن ما لا يحل لهم
ثم إستثنى فقال " إلا على أزواجهم " يعني على نسائهم الأربع وذكر عن الفراء أنه قال " على " بمعنى من يعني إلا من نسائهم مثنى وثلاث ورباع " أو ما ملكت أيمانهم " يعني الإماء " فإنهم غير ملومين " لا يلامون على الحلال " فمن ابتغى وراء ذلك " يعني طلب بعد ذلك ما سوى نسائه وإمائه " فأولئك هم العادون " يعني المعتدين من الحلال إلى الحرام ويقال وأولئك هم الظالمون الجائرون الذين تعمدوا الظلم
سورة المؤمنون 8 - 11
ثم قال " والذين هم لأماناتهم " يعني ما ائتمنوا عليه من أمر دينهم مما لا يطل ع عليه أحد ومما يأمن الناس بعضهم بعضا " وعهدهم " يعني وفاء بالعهد " راعون " يعني حافظين وأصل الرعي في اللغة القيام على إصلاح ما يتولاه قرأ إبن كثير " والذين هم لأمانتهم " بلفظ الوحدان وقرأ الباقون بلفظ الجمع يعني جميع الأمانات
ثم قال عز وجل " والذين هم على صلاتهم " يعني على المواقيت " يحافظون " لا تشغلهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ويتمونها بركوعها وسجودها قرأ حمزة والكسائي " على صلاتهم " بلفظ الوحدان وقرأ الباقون " صلواتهم " بلفظ الجماعة ومعناهما واحد لأن الصلاة إسم جنس يقع على الواحد وعلى الأكثر فهذه الخصال صفة المؤمنين المخلصين في أعمالهم
ثم بين ثوابهم فقال عز وجل " أولئك هم الوارثون " يعني النازلين ثم بين ما يرثون وأين ينزلون فقال " الذين يرثون الفردوس " وهي البساتين بلغة الروم عليها حيطان ويقال لم يكن أحد من أهل الجنة إلا وله نصيب في الفردوس لأن هناك كلها بساتين وأشجار ويقال " أولئك هم الوارثون " يعني يرثون المنازل التي للكفار في الجنة وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فأما المؤمن فيبني منزله الذي له في الجنة بهدم منزله الذي له في النار وأما الكافر فيهدم منزله الذي له في الجنة ويبني منزله الذي له في النار ويقال الفردوس البستان الحسن " هم فيها(2/474)
475
خالدون ) يعني في الجنة دائمون وقال القتبي حدثني أبو حاتم السجستاني قال كنت عند الأخفش وعنده الثوري فقال يا أبا حاتم ما صنعت بكتاب المذكر والمؤنث قلت قد عملت فيه شيئا فقال ما تقول في الفردوس قلت مذكر قال فإن الله يقول " هم فيها خالدون " قلت أراد الجنة فأنث فقال يا غافل أما تسمع الناس يقولون أسألك الفردوس الأعلى فقلت يا نائم إنما الأعلى ها هنا أفعل وليس بفعلي
سورة المؤمنون 12 - 14
قوله تعالى " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين " يعني آدم عليه السلام قال الكلبي ومقاتل السلالة إذا عصر الطين إنسل الطين والماء بين أصابعه وقال الكلبي " خلقنا الإنسان " يعني إبن آدم من نطفة سلت تلك النطفة من طين والطين آدم عليه السلام والنطفة ما يخرج من صلبه فيقع في رحم المرأة وقال الزجاج " سلالة من طين " أي من آدم والسلالة القليل من أن ينسل وكل مبني على فعالة فهو يراد به القليل مثل النخالة والعلامة والفصالة " ثم جعلناه " يعني ذرية آدم قال القتبي يقال للولد سلالة والنطفة سلالة وإنما سميت النطفة سلالة لأنها تنسل بين الصلب والترائب " ثم جعلناه نطفة " " نطفة في قرار مكين " يعني في مكان حريز حصين " ثم خلقنا النطفة علقة " أي حولنا الماء دما " فخلقنا العلقة مضغة " أي حولنا الدم مضغة " فخلقنا المضغة عظاما " أي خلقنا في المضغة عظاما " فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر " قال عكرمة وأبو العالية والشعبي معناه نفخ فيه الروح
وروى الأخفش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود أنه قال إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله عز وجل ملكا فيأمر بأن يكتب أجله وعمله ورزقه وشقي أو سعيد فهي أربع كلمات ثم ينفخ فيه الروح
وروي عن عطاء عن إبن عباس في قوله " ثم أنشأناه خلقا آخر " قال نفخ فيه الروح وروى إبن نجيح عن مجاهد " ثم أنشأناه خلقا آخر " قال حين إستوى شابا وروى معمر عن قتادة " ثم أنشأناه خلقا آخر " قال هو نبات الشعر والأسنان وقال بعضهم هو نفخ الروح ويقال ذكرا أو أنثى ويقال معناه " ثم أنشأناه خلقا آخر " يعني الجلد وروي عن عطاء عن إبن عباس أنه قال ينفخ فيه الروح وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ ثم أنشأته خلقا آخر(2/475)
476
" فتبارك الله أحسن الخالقين " يعني أحكم المصورين وروى أبو صالح عن عبد الله بن عباس قال كان عبد الله بن سعيد بن أبي سرح يكتب هذه الآيات للنبي صلى الله عليه وسلم فلما انتهى إلى قوله " ثم أنشأناه خلقا آخر " عجب من تفضل الإنسان أي من تفضيل خلق الإنسان فقال " فتبارك الله أحسن الخالقين " فقال النبي صلى الله عليه وسلم أكتب هكذا أنزلت فشك عند ذلك وقال لئن كان محمد صادقا فيما يقول إنه يوحى إليه فقد أوحي إلي كما أوحي إليه ولئن قال من ذات نفسه فلقد قلت مثل ما قال فكفر بالله تعالى
وقال مقاتل والزجاج كان عمر رضي الله عنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أنزلت عليه هذه الآية فقال عمر " فتبارك الله أحسن الخالقين " فقال النبي صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت علي فكأنه أجرى على لسانه هذه الآية قبل قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وقد قيل إن الحكاية الأولى غير صحيحة لأن إرتداد عبد الله بن أبي سرح كان بالمدينة وهذه الآية مكية قرأ إبن عامر وعاصم في رواية أبي بكر " فخلقنا المضغة عظما فكسونا العظم لحما " وقرأ الباقون " عظاما " بالألف ومعناهما واحد لأن الواحد يغني عن الجنس
سورة المؤمنون 15 - 20
قوله تعالى " ثم إنكم بعد ذلك لميتون " يعني تموتون عند إنقضاء آجالكم " ثم إنكم يوم القيامة تبعثون " يعني تحيون بعد الموت فذكر أول الخلق لأنهم كانوا مقرين بذلك ثم أثبت الموت لأنهم كانوا يشاهدونه ثم أثبت البعث الذي كانوا ينكرونه ثم ذكر قدرته فقال عز وجل " ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق " يعني سبع سموات بعضها فوق بعض كالقبة وقال مقاتل والكلبي غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام وبين كل سماءين كذلك وقال أهل اللغة الطرائق واحدها طريقة ويقال طارقت الشيء يعني إذا جعلت بعضه فوق بعض وإنما سمي الطرائق لأن بعضها فوق بعض
ثم قال " وما كنا عن الخلق غافلين " أي عن خلقهن عاجزين تاركين ويقال لكل سماء طريقة لأن على كل سماء ملائكة عبادتهم مخالفة لعبادة ملائكة السماء الأخرى يعني لكل أهل سماء طريقة من العبادة " وما كنا عن الخلق غافلين " أي لم نكن نغفل عن حفظهن كما قال " وجعلنا السماء سقفا محفوظا " [ الأنبياء : 32 ](2/476)
477
قوله عز وجل " وأنزلنا من السماء ماء بقدر " يعني بوزن ويقال " بقدر " ما يكفيهم لمعايشهم ويقال " بقدر " يعني كل سنة تمطر بقدر السنة الأولى كما روي عن إبن مسعود أنه قال ليست سنة بأمطر من سنة ولكن الله عز وجل يصرفه حيث يشاء ويقال " وأنزلنا من السماء ماء " أي أربعة أنهار تخرج من الجنة دجلة والفرات وسيحان وجيحان " فأسكناه في الأرض " يعني فأدخلناه في الأرض ويقال جعلناه ثابتا فيها من الغدران والعيون والركايا " وإنا على ذهاب به لقادرون " يعني يغور في الأرض فلا يقدر عليه كقوله عز وجل " إن أصبح ماؤكم غورا " [ الملك : 30 ] " فأنشأنا لكم به جنات " يعني وأخرجنا بالماء جنات يعني الخضرة ويقال جعلنا لكم بالماء البساتين " من نخيل وأعناب " يعني الكروم " لكم فيها فواكه كثيرة " يعني ألوان الفواكه سوى النخيل والأعناب " ومنها تأكلون "
ثم قال عز وجل " وشجرة " يعني وأنبتنا شجرة ويقال خلقنا شجرة " تخرج من طور سيناء " قال قتادة طور سيناء جبل حسن وقال الكلبي جبل ذو شجرة وقال مجاهد الطور جبل والسيناء حجارة وقال القتبي الطور جبل والسيناء إسم وقال مقاتل خلقنا في الجبل الحسن الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام وقرأ إبن كثير وأبو عمر ونافع " طور سيناء " بكسر السين وقرأ الباقون بالنصب ومعناهما واحد
ثم قال " تنبت بالدهن " يعني تخرج بالدهن قرأ إبن كثير وأبو عمرو " تنبت " بضم التاء وكسر الباء يعني تخرج الدهن وقرأ الباقون " تنبت " بنصب التاء وضم الباء وهو إختيار أبي عبيد أي تنبت معه الدهن كما يقال جاءني فلان بالسيف أي معه السيف " وصبغ للآكلين " يعني الزيت يصطبغ به وجعل الله عز وجل في هذه الشجرة إداما ودهنا وهي صبغ للآكلين
سورة المؤمنون 21 - 22
ثم قال عز وجل " وإن لكم في الأنعام لعبرة " يعني في الإبل والبقر والغنم معتبر لمن يعتبر فيها يقال العبر بأوقار والمعتبر بمثقال " نسقيكم مما في بطونها " يعني من ألبانها وهي تخرج من بين فرث ودم قرأ نافع وإبن عامر وعاصم في رواية أبي بكر " نسقيكم " بنصب النون وقرأ الباقون بالضم وهذا مثل ما في سورة النحل
ثم قال " ولكم فيها منافع كثيرة " يعني في ظهورها وأصوافها وألبانها وأشعارها " ومنها تأكلون " يعني من لبنها ولحومها وأولادها " وعليها وعلى الفلك تحملون " يعني على الأنعام في المفازة وعلى السفينة في البحر تسافرون(2/477)
478
سورة المؤمنون 23 - 25
قوله عز وجل " ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه " يعني أرسلناه إلى قومه كما أرسلناك إلى قومك فإن قيل إيش الحكمة في تكرار القصص قيل له لأن في كل قصة كررها ألفاظا وفوائد ونكتا ما ليس في الأخرى ونظمها سوى نظم الأخرى وقال الحسن للقصة ظهر وبطن فالظهر خبر يخبرهم والبطن عظة تعظهم ويقال إنما كررها تأكيدا للحجة والعظة كما أنه كرر الدلائل ويكفي دليل واحد لمن يستدل به تفضلا من الله تعالى ورحمة منه
فقال تعالى " ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم أعبدوا الله " يعني أطيعوا الله عز وجل ووحدوه " ما لكم من إله غيره " يعني ليس لكم رب سواه " أفلا تتقون " عبادة غير الله تعالى فتوحدونه يعني إتقوه ووحدوه
قوله عز وجل " فقال الملأ الذين كفروا " يعني الأشراف الذين كفروا " من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم " يعني خلقا آدميا مثلكم " يريد أن يتفضل عليكم " بالرسالة ويقال " يريد أن يتفضل عليكم " يعني يريد أن يجعل لنفسه فضلا عليكم بالرسالة " ولو شاء الله لأنزل ملائكة " أي لو شاء أن يرسل إلينا رسولا لأنزل ملائكة " ما سمعنا بهذا " يعني ما يدعونا إليه من التوحيد " في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة " أي الجنون " فتربصوا به حتى حين " يعني إنتظروا به حتى يتبين لكم أمره وصدقه من كذبه ويقال " حتى حين " يعني حتى يموت فتنجوا منه
سورة المؤمنون 26 - 30
فلما أبوا على نوح عليه السلام دعا عليهم " قال رب أنصرني " يعني أعني عليهم بالعذاب " بما كذبون " يعني بتحقيق قولي في العذاب لأنه أنذر قومه بالعذاب فكذبوه
قوله عز وجل " فأوحينا إليه أن إصنع الفلك بأعيننا " يعني إعمل السفينة بأعيننا يعني بمنظر منا وبعلمنا ثم قال " ووحينا " يعني بوحينا إليك وأمرنا " فإذا جاء أمرنا "(2/478)
479
يعني عذابنا " وفار التنور " يعني بنبع الماء من أسفل التنور " فاسلك فيها " يعني فأدخل في السفينة " من كل زوجين إثنين " يعني من كل حيوان صنفين ولونين ذكرا وأنثى " وأهلك " يعني وأدخل فيها أهلك " إلا من سبق عليه القول منهم " يعني إلا من وجب عليه العذاب وهو إبنه كنعان " ولا تخاطبني في الذين ظلموا " يعني ولا تراجعني بالدعاء في الذين كفروا وهو إبنه " إنهم مغرقون " بالطوفان قرأ عاصم في رواية حفص " من كل زوجين " بتنوين اللام وقرأ الباقون بغير تنوين
ثم قال عز وجل " فإذا إستويت أنت " يعني ركبت السفينة " أنت ومن معك على الفلك " يعني في السفينة " فقل الحمد لله " يعني الشكر لله " الذي نجانا من القوم الظالمين " يعني المشركين
قوله عز وجل " وقل رب أنزلني " يعني إذا نزلت من السفينة إلى البر فقل " رب أنزلني منزلا مباركا " قرأ عاصم في رواية أبي بكر " منزلا " بنصب الميم وكسر الزاي يعني موضع النزول وقرأ الباقون " منزلا " بضم الميم ونصب الزاي وهو إختيار أبي عبيد وهو المصدر من أنزل ينزل فصار بمعنى أنزلني إنزالا مباركا " وأنت خير المنزلين " من غيرك وقد قرأ في الشاذ " وأنت خير المنزلين " بنصب الزاي يعني أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام قل هذا القول حتى تكون خير المنزلين
ثم قال عز وجل " إن في ذلك " يعني في إهلاك قوم نوح " لآيات " يعني لعبرا لمن بعدهم " وإن كنا لمبتلين " يعني وقد كنا لمختبرين بالغرق ويقال بالطاعة والمعصية " وإن " بمعنى قد كقوله " وإن كان مكرهم " [ إبراهيم : 46 ] يعني وقد كان مكرهم
سورة المؤمنون 31 - 35
قوله عز وجل " ثم أنشأنا من بعدهم " أي خلقنا من بعدهم " قرنا آخرين " وهم قوم هود " فأرسلنا فيهم رسولا منهم " يعني نبيهم هودا عليه السلام " أن أعبدوا الله " يعني قال لهم هود إحمدوا الله وأطيعوه " ما لكم من إله غيره أفلا تتقون " يعني إتقوه اللفظ لفظ الإستفهام والمراد به الأمر
قوله عز وجل " وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة " يعني بالبعث(2/479)
480
بعد الموت " وأترفناهم " يعني أنعمنا عليهم ويقال وسعنا عليهم حتى أترفوا " في الحياة الدنيا ما هذا " يعني قالوا ما هذا " إلا بشر " يعني آدميا " مثلكم يأكل مما تأكلون منه " يعني كما تأكلون منه " ويشرب مما تشربون " يعني كما تشربون " ولئن أطعتم بشرا " يعني آدميا " مثلكم إنكم إذا لخاسرون " أي لمغبونون " أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا " أي صرتم ترابا " وعظاما أنكم مخرجون " يعني محيون
سورة المؤمنون 36 - 43
قوله عز وجل " هيهات هيهات " قرأ أبو جعفر المدني " هيهات هيهات " كلاهما بكسر التاء قال أبو عبيد قراءتها بالنصب لأنه أظهر اللغتين وأفشاهما وقال بعضهم قد قرئ هذا الحرف بسبع قراءات بالكسر والنصب والرفع والتنوين وغير التنوين والسكون وهذه كلمة يعبر بها عن البعد يعني بعيدا بعيدا ومعناه أنهم قالوا هذا لا يكون أبدا يعني البعث " لما توعدون " يعني بعيدا بعيدا لما توعدون " إن هي " يعني ما هي " إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا " يعني نحيا ونموت على وجه التقديم ويقال معناه يموت الآباء وتعيش الأبناء " وما نحن بمبعوثين " يعني لا نبعث بعد الموت " إن هو " يعني ما هو " إلا رجل إفترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين " يعني بمصدقين فلما كذبوه دعا عليهم " قال رب أنصرني " يعني قال هود أعني عليهم بالعذاب " بما كذبون "
" قال " الله تعالى " عما قليل " يعني عن قريب و " ما " صلة كقوله " فبما رحمة من الله " [ آل عمران : 159 ] " ليصبحن نادمين " يعني ليصيرن نادمين فأخبر الله تعالى عن معاملة الذين كانوا من قبل مع أنبيائهم وسوء جزائهم وأذاهم لأنبيائهم ليصبر النبي صلى الله عليه وسلم على أذى قومه
ثم أخبر عن عاقبة أمرهم فقال تعالى " فأخذتهم الصيحة بالحق " يعني العذاب وهو الريح العقيم ويقال وهي صيحة جبريل عليه السلام " فجعلناهم غثاء " يعني يابسا ويقال هلكى كالغثاء وهو جمع غثاء وهو ما على السيل من الزبد لأنه يذهب ويتفرق وقال الزجاج الغثاء البالي من ورق الشجر أي جعلناه يبسا كيابس الغثاء ويقال الغثاء النبات(2/480)
481
اليابس كقوله " فجعله غثاء أحوى " [ الأعلى : 5 ] ثم قال " فبعدا " يعني سحقا ونكسا " للقوم الظالمين " يعني بعدا من رحمة الله تعالى
قوله عز وجل " ثم أنشأنا " يعني خلقنا " من بعدهم قرونا آخرين ما تسبق من أمة أجلها " وفي الآية مضمر ومعناه فأهلكناهم بالعذاب في الدنيا " ما تسبق من أمة " يعني ما يتقدم ولا تموت قبل أجلها طرفة عين " وما يستأخرون " بعد أجلهم طرفة عين
سورة المؤمنون 44 - 48
قوله عز وجل " ثم أرسلنا رسلنا تترا " يعني بعضها على إثر بعض قرأ إبن كثير وأبو عمرو " تترى " بالتنوين وقرأ حمزة والكسائي بكسر الراء بغير تنوين وقرأ الباقون بنصب الراء وبغير تنوين وهو التواتر قال مقاتل كل ما في القرآن تترى ومدرارا وأبابيل ومردفين يعني بعضها على إثر بعض قال القتبي أصل تترى وترا فقلبت الواو تاء كما قلبوها في التقوى والتخمة وأصلها وترا والتخمة وأصلها أوخمت
ثم قال عز وجل " كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا " بالهلاك الأول فالأول " فجعلناهم أحاديث " أي أخبارا وعبرا لمن بعدهم ويقال " فجعلناهم أحاديث " لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم وقال الكلبي ولو بقي واحد منهم لم يكونوا أحاديث " فبعدا " للهالك ويقال فسحقا " لقوم لا يؤمنون " يعني لا يصدقون
قوله عز وجل " ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا " التسع " وسلطان مبين " يعني بحجة بينة " إلى فرعون وملائه " أي قومه " فاستكبروا " يعني تعظموا عن الإيمان والطاعة " وكانوا قوما عالين " يعني متكبرين " فقالوا أنؤمن " يعني أنصدق " لبشرين مثلنا " يعني خلقين آدميين " وقومهما لنا عابدون " يعني مستهزئين ذليلين " فكذبوهما " يعني موسى وهارون عليهما السلام " فكانوا من المهلكين " يعني صاروا مغرقين في البحر
سورة المؤمنون 49 - 53(2/481)
482
قوله عز وجل " ولقد آتينا موسى الكتاب " يعني التوراة " لعلهم يهتدون " يعني لكي يهتدوا يعني بني إسرائيل
قوله تعالى " وجعلنا إبن مريم وأمه آية " يعني عبرة وعلامة لبني إسرائيل ولم يقل آيتين وقد ذكرناه ثم قال " وآويناهما إلى ربوة " وذلك أنهما لما ولدت عيسى عليه السلام هم قومها إن يرجموها فخرجت من بيت المقدس إلى أرض دمشق والربوة المكان المرتفع " ذات قرار ومعين " يعني أرضا مستوية " ومعين " يعني الماء الجاري الطاهر وهو مفعول من العين وأصله معيون كما يقال ثوب مخيط وقال سعيد بن المسيب الربوة هي دمشق ويقال هي بيت المقدس لأنها أقرب إلى السموات من سائر الأرض ويقال إنها الرملة وفلسطين قرأ إبن عامر وعاصم " ربوة " بنصب الراء وقرأ الباقون بالضم ومعناهما واحد
قوله عز وجل " يا أيها الرسل " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وإنما خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم وأراد به النبي صلى الله عليه وسلم وأمته كما يجيء في مخاطبتهم " كلوا من الطيبات " يعني من الحلالات قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا إبن صاعد قال حدثنا أحمد بن منصور قال حدثنا الفضل بن دكين قال حدثنا الفضل بن مرزوق قال أخبرني عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات " وقال " يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم " [ البقرة : 57 ] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك وقال الزجاج خوطب بهذا النبي صلى الله عليه وسلم فقيل " يا أيها الرسل " وتضمن هذا الخطاب أن الرسل عليهم السلام جميعا كذا أمروا قال ويروى أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه وكان رزق النبي صلى الله عليه وسلم من الغنيمة وأطيب الطيبات الغنائم
ثم قال تعالى " واعملوا صالحا " يعني خالصا " إني بما تعملون عليم " يعني قبل أن تعملوا
قوله عز وجل " وإن هذه أمتكم أمة واحدة " يعني دينكم الذي أنتم عليه يعني ملة الإسلام دين واحد عليه كانت الأنبياء عليهم السلام والمؤمنون " وأنا ربكم فاتقون " يعني أنا شرعته لكم فأطيعون قرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو " أن " بنصب الألف وتشديد النون وقرأ إبن عامر بنصب الألف وسكون النون وقرأ الباقون بكسر الألف والتشديد على معنى الإبتداء(2/482)
483
ثم قال عز وجل " فتقطعوا أمرهم بينهم " يقول فرقوا دينهم وتفرقوا في دينهم ومعناه أن دين الله تعالى واحد فجعلوه أديانا مختلفة زبرا قرأ إبن عامر " زبرا " بنصب الباء أي قطعا وفرقا وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي " زبرا " بضم الباء أي كتبا معناه جعلوا دينهم كتبا مختلفة ويقال فتقطعوا كتاب الله وحرفوه وغيروه " كل حزب بما لديهم فرحون " يعني بما هم عليه من الدين معجبون راضون به
سورة المؤمنون 54 - 61
قوله عز وجل " فذرهم في غمرتهم " يعني أتركهم في جهالتهم " حتى حين " يعني إلى حين يأتيهم ما وعدوا به من العذاب
ثم قال " أيحسبون " يعني أيظنون وهم أهل الفرق " أنما نمدهم به " يعني أن الذي نزيدهم به " من مال وبنين " في الدنيا " نسارع لهم في الخيرات " يعني هو خير لهم في الآخرة قرأ بعضهم " يسارع " بالياء ونصب الراء على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقراءة العامة " نسارع " بالنون وكسر الراء يعني يظنون أنا نسارع لهم في الخيرات بزيادة المال والولد بل هو إستدراج لهم
وروي في الخبر أن الله تعالى أوحى إلى نبي من الأنبياء عليهم السلام أيفرح عبدي أن أبسط له في الدنيا وهو أبعد له مني ويجزع عبدي المؤمن أن أقبض منه الدنيا وهو أقرب له مني ثم قال " أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين " وقد تم الكلام يعني أيظنون أن ذلك خيرا لهم في الدنيا ثم قال " نسارع لهم في الخيرات " " بل لا يشعرون " أن ذلك فتنة لهم ويقال " إنما نمدهم به من مال وبنين " وقد تم الكلام يعني أيظنون أن ذلك خير لهم في الدنيا
ثم قال عز وجل " نسارع لهم في الخيرات " يعني نبادرهم في الطاعات وهو خير لهم أي في الآخرة " بل لا يشعرون " أن ذلك مكر بهم وشر لهم في الآخرة
ثم ذكر المؤمنين فقال عز وجل " إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون " يعني خائفين من عذابه ويقال هذا عطف على قوله " والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون والذين هم من خشية ربهم مشفقون " ثم قال " والذين هم بآيات ربهم يؤمنون " يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن يصدقون(2/483)
484
قوله " والذين هم بربهم لا يشركون " يعني لا يشركون معه غيره ولكنهم يوحدون ربهم ويقال " بربهم لا يشركون " هو أن يقول لولا فلان ما وجدت هذا
ثم قال " والذين يؤتون ما آتوا " يعني يعطون ما أعطوا من الصدقة والخير " وقلوبهم وجلة " يعني خائفة وروى سالم بن مغول عن عبد الرحمن بن سعيد الهمداني أن عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية " والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة " هم الذين يشربون الخمر ويسرقون ويزنون قال لا يا بنت أبي بكر ولكنهم هم الذين يصومون ويتصدقون ويصلون
وروي عن أبي بكر بن خلف أنه قال دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها فقلنا يا أم المؤمنين كيف تقرئين " والذين يؤتون ما آتوا " قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ " والذين يؤتون ما آتوا " فقلت يا نبي الله هو الرجل الذي يسرق ويشرب الخمر قال لا يا بنت أبي بكر هو الرجل الذي يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه وقال الزجاج من قرأ " يؤتون ما آتوا " معناه يعطون ما أعطوا ويخافون أن لا يقبل منهم ومن قرأ " يأتون ما أتوا " أي يعملون من الخيرات ما يعملون ويخافون مع إجتهادهم أنهم مقصرون
ثم قال تعالى " أنهم إلى ربهم راجعون " يعني لأنهم إلى ربهم راجعون ومعناه يعملون ويوقنون أنهم يبعثون بعد الموت
قوله عز وجل " أولئك يسارعون في الخيرات " يعني يبادرون في الطاعات من الأعمال الصالحة " وهم لها سابقون " يعني هم لها عاملون يعني الخيرات وقال الزجاج فيه قولان أحدهما معناه هم إليها سابقون كقوله عز وجل " بأن ربك أوحى لها " [ الزلزلة : 5 ] يعني إليها ويجوز " هم لها سابقون " أي لأجلها أي من أجل إكتسابها كقولك أنا أكرم فلانا لك أي من أجلك
سورة المؤمنون 62 - 67
قوله عز وجل " ولا نكلف نفسا إلا وسعها " يعني بقدر طاقتها " ولدينا كتاب " يعني وعندنا نسخة أعمالهم التي يعملون وهي التي تكتب الحفظة عليهم " ينطق بالحق " يعني يشهد عليهم بالصدق وقال الكلبي " ولا نكلف نفسا إلا وسعها " أي طاقتها فمن(2/484)
485
لم يستطع أن يصلي قائما فليصل قاعدا " وعندنا كتاب ينطق بالحق " وهو الذكر يعني اللوح المحفوظ " وهم لا يظلمون " يعني لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم " بل قلوبهم في غمرة من هذا " يعني في غفلة من الإيمان بهذا القرآن ويقال هم في غفلة من هذا الذي وصفنا من كتابة الأعمال " ولهم أعمال من دون ذلك " قال مقاتل يقول لهم أعمال خبيثة دون الشرك " هم لها عاملون " أي لتلك الأعمال لا محالة التي في اللوح المحفوظ وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال ذكر الله تعالى " الذين هم من خشية ربهم مشفقون " ثم قال للكفار " بل قلوبهم في غمرة من هذا " ثم رجع إلى المؤمنين فقال " ولهم أعمال من دون ذلك " الأعمال التي عددت هم لها عاملون
ثم قال عز وجل " حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب " يعني أغنياءهم وجبابرتهم بالعذاب قال مجاهد يعني بالسيوف يوم بدر وقال الكلبي بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف " إذا هم يجأرون " أي يصيحون ويتضرعون إلى الله تعالى حين نزل بهم العذاب ويقال يدعون ويستغيثون
يقول الله تعالى " لا تجأروا اليوم " يعني لا تضجوا ولا تتضرعوا اليوم " إنكم منا لا تنصرون " يعني من عذابنا لا تمنعون
قوله عز وجل " قد كانت آياتي تتلى عليكم " أي تقرأ وتعرض عليكم " فكنتم على أعقابكم تنكصون " أي ترجعون إلى الشرك وتميلون إليه " مستكبرين به " أي متعظمين ويقال " تنكصون " أي تقيمون عليه " مستكبرين به " يعني بالبيت صار هذا كناية من غير أن يسبق ذكر البيت لأن ذلك البيت كان معروفا عندهم وقال مجاهد " مستكبرين به " أي بمكة بالبلد " سامرا " بالليل لجلسائهم " تهجرون " بالقول الذي في القرآن ويقال " تهجرون " يعني تتكلمون بالفحش وسب النبي صلى الله عليه وسلم وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم زوروها يعني المقابر ولا تقولوا هجرا يعني فحشا وقال القتبي " مستكبرين به " يعني بالبيت العتيق تهجرون به ويقولون نحن أهله سامرا والسمر حديث الليل وقال أهل اللغة السمر في اللغة ظل القمر ولهذا سمي حديث الليل سمرا لأنهم كانوا يجتمعون في ظل القمر ويتحدثون قرأ نافع " سامرا تهجرون " بضم التاء وكسر الجيم وقرأ الباقون بنصب التاء وضم الجيم وقال أبو عبيد هذه القراءة أحب إلينا فيكون من الصدود والهجران كقوله " فكنتم على أعقابكم تنكصون " [ المؤمنون : 66 ] يعني تهجرون القرآن ولا تؤمنون به ومن قرأ " تهجرون " أراد الإفحاش في المنطق وقد فسرها بعضهم على الشرك
سورة المؤمنون 68 - 74(2/485)
486
ثم قال عز وجل " أفلم يدبروا القول " أصله يتدبروا فأدغم التاء في الدال يعني ألم يتفكروا في القرآن " أم جاءهم " من الأمان " ما لم يأت آباءهم الأولين " معناه جاءهم الذي لم يجئ آباءهم الأولين وهذا كقوله " لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم " [ يس : 6 ] وقال الكلبي " أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين " من البراءة من العذاب
ثم قال تعالى " أم لم يعرفوا رسولهم " يعني نسبة رسولهم " فهم له منكرون " يعني جاحدين قال أبو صالح عرفوه ولكن حسدوه
" أم يقولون به جنة " يعني بل يقولون به جنون " بل جاءهم بالحق " يعني الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة والقرآن من عند الله عز وجل أن لا تعبدوا إلا الله " وأكثرهم للحق كارهون " يعني جاحدين مكذبين وهم الكفار
قوله عز وجل " ولو إتبع الحق أهواءهم " والحق هو الله تعالى يعني لو إتبع الله أهواءهم أي مرادهم " لفسدت السموات والأرض ومن فيهن " يعني لهلكت لأن أهواءهم ومرادهم مختلفة ويقال لو كانت الآلهة بأهوائهم كما قالوا لفسدت السموات كقوله " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " [ الأنبياء : 22 ] ثم قال " بل أتيناهم بذكرهم " يعني أنزلنا إليهم جبريل عليه السلام بعزهم وشرفهم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم " فهم عن ذكرهم معرضون " يعني عن القرآن أي تاركوه لا يؤمنون به " أم تسألهم خرجا " قرأ حمزة والكسائي " خراجا " " فخراج ربك خير " يعني فثواب ربك خير ويقال قوت ربك من الحلال خير من جعلهم وثوابهم " وهو خير الرازقين " أي أفضل الرازقين
قوله عز وجل " وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم " يعني دين مستقيم وهو الإسلام لا عوج فيه " وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة " يعني لا يصدقون بالبعث " عن الصراط لناكبون " أي عن الدين لعادلون ومائلون
سورة المؤمنون 75 - 77
قوله " ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر " يعني من الجوع الذي أصابهم " للجوا " أي مضوا وتمادوا " في طغيانهم يعمهون " يعني في ضلالتهم يترددون(2/486)
487
قوله عز وجل " ولقد أخذناهم بالعذاب " يعني بالجوع " فما استكانوا لربهم " يعني ما تضعضعوا وما خضعوا لربهم " وما يتضرعون " يقول ما يرغبون إلى الله في الدعاء وبالطاعة " حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد " يعني نفتح عليهم قال السدي هو فتح مكة " إذا هم فيه مبلسون " قال أبلسوا يومئذ وتغيرت ألوانهم حين ينظرون أصنامهم تكسرت وقال عكرمة " ذا عذاب شديد " يعني فتح مكة ويقال الجوع الشديد " إذا هم فيه مبلسون " أي آيسون من كل خير ورزق
سورة المؤمنون 78 - 87
قوله عز وجل " وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة " فهذه الأشياء من النعم " قليلا ما تشكرون " يعني أنتم لا تشكرون ويقال شكركم فيما صنع إليكم قليل " وهو الذي ذرأكم " يعني خلقكم في الأرض " وإليه تحشرون " في الآخرة " وهو الذي يحيي ويميت " أي يحيي الموتي ويميت الأحياء " وله إختلاف الليل والنهار " أي ذهاب الليل ومجيء النهار " أفلا تعقلون " أمر الله ويقال أفلا تعقلون توحيد ربكم فيما ترون من صنعه فتعتبرون
ثم قال عز وجل " بل قالوا مثل ما قالوا الأولون " يعني كذبوا مثل ما كذب الأولون " قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل " يعني هذا القول " إن هذا " يعني ما هذا " إلا أساطير الأولين " يعني أحاديثهم وكذبهم
قوله عز وجل " قل " لكفار مكة " لمن الأرض ومن فيها " من الخلق " إن كنتم تعلمون " أن أحدا يفعل ذلك غير الله فأجيبوني " سيقولون لله قل أفلا تذكرون " يعني تتعظون فتطيعونه وتوحدونه " قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله " وكلهم قرؤوا الأول بغير ألف وأما الآخر فإن كلهم قرؤوا بغير ألف غير أبي عمرو فإنه قرأ الله والباقون لله قال أبو عبيد وجدت في مصحف الإمام كلها بغير ألف قال وحدثني عاصم الجحدري أن أول من قرأ هاتين الألفين نصر بن عاصم الليثي فأما من قرأ " الله " فهو ظاهر لأنه جواب السائل عما يسأل ومن قرأ " لله " فله مخرج في العربية سهل وهو ما حكى(2/487)
488
الكسائي عن العرب أنه يقال للرجل من رب هذه الدار فيقول لفلان يعني هي لفلان والمعنى في ذلك أنه إذا قيل من صاحب هذه الدار فكأنه يقول لمن هذه الدار وإذا قال المجيب هي لفلان أو قال فلان فهو جائز ولو كان الأول " الله " لكان يجوز في اللغة ولكنه لم يقرأ والإختلاف في الآخرين ثم قال " قل أفلا تتقون " عبادة غير الله تعالى فتوحدوه
سورة المؤمنون 88 - 90
قوله عز وجل " قل من بيده ملكوت كل شيء " يعني خزائن كل شيء " وهو يجير ولا يجار عليه " يعني يقضي ولا يقضى عليه ويقال وهو يؤمن من العذاب ولا يؤمن عليه أي ليس له أحد يؤمن الكفار من عذابه " إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون " يعني من الذين تصرفون عن الإسلام وعن الحق
ثم قال عز وجل " بل أتيناهم بالحق " قال الكلبي يعني القرآن وقال مقاتل يعني جئناهم بالتوحيد " وإنهم لكاذبون " في قولهم إن الملائكة عليهم السلام كذا وكذا
سورة المؤمنون 91 - 95
ثم قال عز وجل " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله " أي من شريك " إذا لذهب " يعني لو كان معه آلهة لذهب " كل إله بما خلق " يعني لاستولى كل إله بما خلق وجمع لنفسه ما خلق " ولعلا بعضهم على بعض " يعني ولغلب بعضهم على بعض كفعل ملوك أهل الدنيا يلتمس بعضهم قهر بعض ويقال إستولى على ما خلق دون صاحبه ولغلب بعضهم على بعض " سبحان الله عما يصفون " من الكذب
قوله عز وجل " عالم الغيب والشهادة " يعني عالم السر والعلانية ويقال عالم بما مضى وما هو كائن " فتعالى الله عما يشركون " يعني هو أجل وأعلى مما يوصف له من الشريك والولد قرأ إبن كثير وأبو عمرو وإبن عامر وعاصم في رواية حفص " عالم الغيب " بكسر الميم على معنى النعت لقوله " سبحان الله " وقرأ الباقون بالضم على معنى الإبتداء(2/488)
489
قوله " قل رب إما تريني ما يوعدون " من العذاب و " ما " صلة ويقال إن أريتني عذابهم " رب فلا تجعلني في القوم الظالمين " يعني أخرجني منهم قبل أن تعذبهم فلا تعذبني معهم بذنوبهم " وإنا على أن نريك ما نعدهم " من العذاب " لقادرون " قال الكلبي هذا أمر قد كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهده أصحابه وقد مضى بعد الفتنة التي وقعت في الصحابة بعد قتل عثمان رضي الله عنه وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير بعد نزول هذه الآية ضاحكا ولا مبتسما وقال مقاتل " وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون " يعني يوم بدر ويقال يوم فتح مكة ويقال قل " رب إما تريني ما يوعدون " يعني الفتنة " رب فلا تجعلني في القوم الظالمين " يعني مع الفئة الباغية وهذا كقوله " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة " [ الأنفال : 25 ] وذكر عن الزبير أنه كان إذا قرأ هذه الآية يقول قد حذرنا الله تعالى فلم نحذر
سورة المؤمنون 96 - 98
ثم قال عز وجل " إدفع بالتي هي أحسن السيئة " يعني إدفع بحلمك جهلهم ويقال بالكلام الحسن الكلام القبيح ويقال إدفع بقول لا إله إلا الله الشرك من أهل مكة ثم قال " نحن أعلم بما يصفون " يعني بما يقولون من الكذب ويقال معناه نحن أعلم بما يقولون فلا تعجل أنت أيضا " وقل أعوذ بك من همزات الشياطين " يعني أعتصم بك من نزغات الشيطان وضرباته ووساوسه ثم قال " وأعوذ بك رب أن يحضرون " يعني قل رب أعوذ بك من قبل أن يحضرني الشياطين عند تلاوة القرآن ويقال " يحضرون " عند الموت ويقال عند الصلاة وأصله أن يحضرونني إلا أنه يكتب " يحضرون " بحذف إحدى النونين للتخفيف
سورة المؤمنون 99 - 105
قوله عز وجل " حتى إذا جاء أحدهم الموت " يعني أمهلهم وأجلهم حتى إذا حضر أحدهم الموت وهم الكفار " قال رب إرجعون " يعني يقول لملك الموت وأعوانه يا سيدي ردني ويقال يدعو الله تعالى ويقول يا رب إرجعون ويقال إنما قال بلفظ(2/489)
490
الجماعة لأن العرب تخاطب جليل الشأن بلفظ الجماعة ويقال معناه يا رب مرهم ليرجعوني إلى الدنيا " لعلي أعمل صالحا " يعني خالصا " فيما تركت " في الدنيا
قال الله تعالى " كلا " وهو رد عليهم يعني أنه لا يرد إلى الدنيا ثم قال " إنها كلمة هو قائلها " يعني يقولها ولا تنفعه
ثم قال " ومن ورائهم برزخ " يعني من بعدهم القبر " إلى يوم يبعثون " والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة ويقال بين كل شيئين حاجز فهو برزخ ويقال هو بين النفختين وقال قتادة البرزخ بقية الدنيا وقال الحسن القبر بين الدنيا والآخرة
قوله عز وجل " فإذا نفخ في الصور " يعني النفخة الأخيرة " فلا أنساب بينهم " يعني لا ينفعهم " يومئذ " النسب " ولا يتساءلون " عن ذلك فهذه حالات لا يتساءلون في موضع ويتساءلون في موضع آخر " فمن ثقلت موازينه " يعني رجحت حسناته على سيئاته " فأولئك هم المفلحون " يعني الناجون في الآخرة " ومن خفت موازينه " يعني رجحت سيئاته على حسناته " فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون "
قوله تعالى " تلفح وجوههم النار " يعني تنفح قال أهل اللغة النفح واللفح بمعنى واحد إلا أن اللفح أشد تأثيرا وهو الدفع يعني تضرب وجوههم النار " وهم فيها " يعني في النار " كالحون " يعني كلحت وعبست وجوههم والكالح الذي قد قلصت شفتاه عن أسنانه ونحو ما ترى من رؤوس الغنم مشوية إذا بدت الأسنان يعني كلحت وجوههم فلم تلتق شفاههم وقال إبن مسعود كالرأس النضيج
ثم قال " ألم تكن آياتي تتلى عليكم " يعني ألم يكن يقرأ عليكم القرآن فيه بيان هذا اليوم وما هو كائن فيه " فكنتم بها تكذبون " يعني بالآيات
سورة المؤمنون 106 - 111
قوله عز وجل " قالوا ربنا " يعني الكفار " غلبت علينا شقوتنا " التي كتبت علينا والتي قدرت علينا في اللوح المحفوظ " وكنا قوما ضالين " عن الهدى قرأ حمزة والكسائي " شقاوتنا " بنصب الشين والألف وقرأ الباقون " شقوتنا " بكسر الشين وسكون القاف بغير ألف وروي عن إبن مسعود " شقاوتنا " و " شقوتنا " ومعناهما قريب " ربنا أخرجنا منها " يعني من النار " فإن عدنا " إلى الكفر والتكذيب " فإنا ظالمون " أي فحينئذ يقول الله(2/490)
491
تعالى " إخسئوا فيها " يعني إصغروا فيها واسكتوا أي كونوا صاغرين " ولا تكلمون " أي ولا تكلموني بعد ذلك
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا أبو حفص عن سعيد عن قتادة عن أبي أيوب الأزدي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال إن أهل النار ليدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ثم يرد عليهم إنكم ماكثون ثم يدعون ربهم ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فلا يجيبهم مقدار ما كانت الدنيا مرتين ثم يجيبهم " إخسئوا فيها ولا تكلمون " فوالله ما نبس القوم بعد هذا بكلمة إلا الزفير والشهيق
وروي عن إبن عباس أنه قال لما قال الله تعالى " إخسئوا فيها ولا تكلمون " فانطبقت أفواههم وانكسرت ألسنتهم فمن الأجواف يعوون كعواء الكلب ويقال " إخسئوا " أي تباعدوا تباعد سخط يقال خسأت الكلب إذا زجرته ليتباعد
ثم بين لهم السبب الذي إستحقوا تلك العقوبة به فقال " إنه كان فريق من عبادي يقولون " وهم المؤمنون " ربنا أمنا " أي صدقنا " فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين "
قوله عز وجل " فاتخذتموهم سخريا " يعني هزوا " حتى أنسوكم ذكري " يعني أنساكم الهزء بهم العمل بطاعتي " وكنتم منهم تضحكون " في الدنيا قرأ عاصم وإبن عامر وإبن كثير وأبو عمرو " سخريا " بكسر السين وكذلك في سورة ص وكانوا يقرؤون في الزخرف بالرفع قالوا لأن في هذين الموضعين من الإستهزاء وهناك في الزخرف من السخرة والعبودية فما كان من الإستهزاء فهو بالكسر وما كان من التسخير فهو بالضم وقرأ حمزة والكسائي ونافع " سخريا " كل ذلك بالضم وقال أبو عبيد هكذا نقرأ لأنهن يرجعن إلى معنى واحد وهما لغتان سخري وسخري وذكر عن الخليل وعن سيبويه أن كلاهما واحد
قوله عز وجل " إني جزيتهم اليوم بما صبروا " يعني جعلت جزاءهم الجنة وهم المؤمنون بما صبروا يعني بصبرهم على الأذى وعلى أمر الله تعالى " أنهم هم الفائزون " يعني الناجين قرأ حمزة والكسائي " إنهم " بكسر الألف على معنى الإبتداء والمعنى إني جزيتهم
ثم أخبر فقال " إنهم هم الفائزون " وقال أبو عبيد وقرأ الباقون " أنهم " بالنصب أني جزيتهم لأنهم هم الفائزون وقال أبو عبيد الكسر أحب إلي على إبتداء المدح من الله تعالى(2/491)
492
سورة المؤمنون 112 - 116
قوله عز وجل " قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين " يعني في القبر ويقال في الدنيا ويروى عن إبن عباس في بعض الروايات أنه قال لا أدري في الأرض أم في القبر وقال مقاتل " كم لبثتم " في القبر عدد سنين " قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين " قال الأعمش يعني الحافظين وقال مقاتل يعني ملك الموت وأعوانه وقال قتادة يعني فاسأل الحساب وقال مجاهد يعني الملائكة عليهم السلام وهكذا قال السدي " قال إن لبثتم " في القبر أو في الدنيا " إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون " يعني لو كنتم تصدقون أنبيائي عليهم السلام في الدنيا لعرفتم أنكم ما مكثتم في القبور إلا قليلا قرأ حمزة والكسائي وإبن كثير " قل كم لبثتم " على معنى الأمر وكذلك قوله " قل إن لبثتم " وقرأ الباقون " قال " بالألف وقرأ حمزة والكسائي " فسل العادين " بغير همز وقرأ الباقون " فاسأل " بالهمزة
قوله تعالى " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا " أي لعبا وباطلا لغير شيء يعني أظننتم أنكم لا تعذبون بما فعلتم " وأنكم إلينا لا ترجعون " بعد الموت قرأ حمزة والكسائي " لا ترجعون " بنصب التاء وكسر الجيم وقرأ الباقون بضم التاء ونصب الجيم " لا ترجعون " وكذلك التي في القصص قالوا لأنها من مرجع الآخرة وما كان من مرجع الدنيا فقد إتفقوا في فتحه مثل قوله " ولا إلى أهلهم يرجعون " [ يس : 50 ] قال أبو عبيد وبالفتح نقرأ لأنهم إتفقوا في قوله تعالى " أنهم لا يرجعون " [ الأنبياء : 95 ] وقال إنهم لا يرجعون وقال " أنهم إلى ربهم راجعون " [ المؤمنون : 60 ] كقوله " إنا لله وإنا إليه راجعون " [ البقرة : 156 ] فأضاف الفعل إليهم
ثم قال عز وجل " فتعالى الله الملك الحق " يقول إرتفع وتعظم من أن يكون خلق شيئا عبثا وإنما خلق لأمر كائن ثم وحد نفسه فقال " لا إله إلا هو رب العرش الكريم " يعني السرير الحسن
سورة المؤمنون 117 - 118
قوله عز وجل " ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به " يقول لا حجة له بالكفر ولا عذر يوم القيامة " فإنما حسابه عند ربه " في الآخرة يعني عذابه " إنه لا يفلح الكافرون "(2/492)
493
يعني لا يأمن الكافرون من عذابه ويقال معناه جزاء كل كافر أنه لا يفلح الكافرون في الآخرة عند ربهم
قوله عز وجل " وقل رب إغفر وارحم " يعني تجاوز عني " وأنت خير الراحمين " يعني من الأبوين وهذا قول الحسن ويقال من غيرك ويقال إنما حسابه عند ربه فيجازيه كما قال " ثم إن علينا حسابهم " [ الغاشية : 26 ] " وقل رب إغفر وارحم " فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يستغفر للمؤمنين ويسأل لهم المغفرة ويقال أمره بأن يستغفر لنفسه ليعلم أنه محتاج إلى الإستغفار كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أني أستغفر الله ربي وأتوب إلى الله في كل يوم سبعين مرة أو قال مائة مرة والله سبحانه وتعالى أعلم(2/493)
494
سورة النور
مدنية وهي ستون وأربع آيات
سورة النور 1 - 2
قوله سبحانه وتعالى " سورة أنزلناها " قرأ بعضهم " سورة " بنصب الهاء وقراءة العامة بالضم فمن قرأ بالضم فمعناه هذه سورة أنزلناها ومن قرأ بالنصب فمعناه أنزلنا سورة ويقال إقرأ سورة وقد قرئت " سورة " بالهمزة وبغير همز فمن قرأ بالهمز جعلها من أسأرت يعني أفضلت كأنها قطعة من القرآن ومن لم يهمز جعلها من سور المدينة سورا أي منزلة بعد منزلة ويقال السورة أصلها الرفعة ولهذا سمي سور المدينة وقال النابغة للنعمان بن المنذر
( ألم تر أن الله أعطاك سورة % ترى كل ملك دونها يتذبذب )
وإنما خص هذه السورة بذكر السورة لما فيها من الأحكام فذلك كله يرجع إلى أمر واحد وهو أمر النساء
ثم قال تعالى " وفرضناها " يعني بينا حلالها وحرامها وقال القتبي أصل الفريضة الوجوب وها هنا يجوز أن يكون بمعنى بيناها وقد يجوز أوجبنا العمل بما فيها وقال بعض أهل اللغة أصل الفرض هو القطع ولهذا سمي ما يقطع من حافة النهر فرضة ويسمى الموضع الذي يقطع من السواك أي ليشد فيه الخيط فرض ولهذا يسمى الميراث فريضة لأن كل واحد قطع له نصيب معلوم قرأ إبن كثير وأبو عمرو " وفرضناها " بتشديد الراء وقرأ الباقون بالتخفيف فمن قرأ بالتخفيف فمعناه ألزمناكم العمل بما فرض فيها ومن قرأ بالتشديد فهو على وجهين أحدهما على معنى التكثير أي إنا فرضنا فيها فروضا ومعنى آخر وبينا وفصلنا فيها من الحلال والحرام
ثم قال " وأنزلنا فيها " يعني في السورة " آيات بينات " يعني الحدود والفرائض والأمر والنهي ويقال الآيات يعني العلامات والعبرات ويقال يعني آيات القرآن " لعلكم تذكرون " يعني تتعظون فلا تعطلون الأحكام والحدود(2/494)
495
قوله عز وجل " الزانية والزاني " وقرأ بعضهم " الزانية " بنصب الهاء على معنى إجلدوا الزانية والزاني وهكذا السارق والسارقة بالنصب على هذا المعنى ويقال في الزنى بدأ بذكر المرأة لأن الزنى في النساء أكثر وفي السرقة بدأ بالرجال لأن السرقة في الرجال أكثر وقراءة العامة بالرفع على معنى الإبتداء وقيل إنما بدأ بالمرأة لأنها أحرص على الزنى من الرجال ويقال لأن الفعل ينتهي إليها ولا يكون إلا برضاها
ثم قال " فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " يعني إذا كانا غير محصنين " ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله " قرأ إبن كثير " رآفة " بالهمزة والمد وقرأ أبو عمرو بالمد بغير همز وقرأ الباقون بالهمز بلا مد ومعنى الكل واحد وهو الرحمة وقال بعضهم الرأفة إسم جنس والرحمة إسم نوع قال بعضهم الرأفة للمذنبين والرحمة للتائبين وهو قول سفيان الثوري وقال بعضهم الرأفة تكون دفع المكروه والرحمة إيصال المحبوب يعني لا تحملنكم الشفقة عليهما على ترك الحد " إن كنتم تؤمنون بالله " يعني في دين الله أي في حكم الله " إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " يعني يوم القيامة وإنما سمي اليوم الآخر لأنه لا يكون بعده ليل فيصير كله بمنزلة يوم واحد وقد قيل إنه تجتمع الأنوار كلها وتصير في الجنة يوما واحدا وجمعت الظلمات كلها في النار وتصير كلها ليلة واحدة
ثم قال " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " يعني ليحضر عند إقامة الحد طائفة من المؤمنين وفي حضور الطائفة ثلاث فوائد أولها أنهم يعتبرون بذلك ويبلغ الشاهد الغائب والثانية أن الإمام إذا إحتاج إلى الإعانة أعانوه والثالثة لكي يستحي المضروب فيكون زجرا له من العود إلى مثل ذلك الفعل وقال الزهري الطائفة ثلاثة فصاعدا وذكر عن أنس بن مالك أنه قال أربعة فصاعدا لأن الشهادة على الزنى لا تكون أقل من أربعة وقال بعضهم إثنان فصاعدا وقال بعضهم الواحد فصاعدا وهو قول أهل العراق وهو إستحباب وليس بواجب وروي عن إبن عباس أنه قال رجلان وعن مجاهد قال واحد فما فوقه طائفة وروي عن إبن عباس مثله
سورة النور 3 - 5
قوله عز وجل " الزاني لا ينكح إلا زانية " روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا يقال له مرثد بن أبي مرثد قال للنبي صلى الله عليه وسلم أأنكح عناقا يعني إمرأة بغية كانت بمكة قال فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية " الزاني لا ينكح إلا زانية "(2/495)
496
" أو مشركة " فقال يا مرثد لا تنكحها وروى سعيد بن جبير عن إبن عباس قال ليس هو على النكاح ولكنه الجماع ويقال إن أصحاب الصفة إستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يتزوجوا الزواني وكانت لهن رايات كعلامة البيطار لتعرف أنها زانية وقالوا لنا في تزويجهن مراد فأذن لنا فإنهن أخصب أهل المدينة وأكثرهم خيرا والمدينة غالية السعر وقد أصابنا الجهد فإذا جاءنا الله تعالى بالخير طلقناهن وتزوجنا المسلمات فنزلت الآية " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة "
وقال سعيد بن جبير والضحاك الزاني لا يزني حين يزني إلا بزانية مثله في الزنى والزانية لا تزني إلا بزان مثلها في الزنى " وحرم ذلك على المؤمنين " يعني الزنى وقال الحسن البصري " الزاني " المجلود بالزنى " لا ينكح إلا زانية " مجلودة مثله في الزنى وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن مجلودا تزوج إمرأة غير مجلودة ففرق بينهما ويقال أراد به النكاح " لا ينكح " يعني لا يتزوج وكان التزويج حراما بهذه الآية ثم نسخ بما روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن إمرأتي لا ترد يد لامس فقال طلقها قال إني أحبها فقال أمسكها وقال سعيد بن المسيب " الزاني لا ينكح إلا زانية " كانوا يرون أن الآية التي بعدها نسختها " وأنكحوا الأيامى منكم " [ النور : 32 ] الآية
ثم قال عز وجل " والذين يرمون المحصنات " يعني يقذفون العفائف من النساء الحرائر المسلمات " ثم لم يأتوا بأربعة شهداء " على صدق مقالتهم " فاجلدوهم " يقول للحكام ويقال هذا الخطاب لجميع المسلمين ثم إن المسلمين فوضوا الأمر إلى الإمام وإلى القاضي ليقيم عليهم الحد " ثمانين جلدة " يعني ثمانين سوطا " ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا " أي لا تقبلوا لهم شهادة بعد إقامة الحد عليهم " وأولئك هم الفاسقون " يعني العاصين
قال عز وجل " إلا الذين تابوا من بعد ذلك " يعني القذف " وأصلحوا " يعني العمل بعد توبتهم " فإن الله غفور " لذنوبهم بعد التوبة " رحيم " بهم بعد التوبة وقال شريح يقبل توبته فيما بينه وبين الله تعالى فأما شهادته فلا تقبل أبدا وقال إبراهيم النخعي رحمه الله(2/496)
497
إذا تاب ذهب عنه الفسق ولا تقبل شهادته أبدا وروي عن إبن عباس أنه قال " إلا الذين تابوا " تاب الله عليهم من الفسق وأما الشهادة فلا تقبل أبدا وهكذا عن سعيد بن جبير ومجاهد وروي عن جماعة من التابعين أن شهادته تقبل إذا تاب مثل عطاء وطاوس وسعيد بن المسيب والشعبي وغيرهم وهو قول أهل المدينة والأول قول أهل العراق وبه نأخذ
سورة النور 6 - 10
ثم قال تعالى " والذين يرمون أزواجهم " يعني يقذفون أزواجهم بالزنى قال الفقيه أبو الليث حدثنا أبو جعفر قال حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا يزيد بن هارون عن عباد بن منصور عن عكرمة عن إبن عباس قال لما نزل " والذين يرمون المحصنات " الآية قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار أهكذا أنزلت يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا معشر الأنصار ألا تسمعون إلى ما يقول سيدكم فقال سعد والله يا رسول الله إني لأعلم أنها حق وأنها من الله تعالى ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أخرجه حتى آتي بأربعة شهداء فوالله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته قال فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينه وسمع بأذنه فلم يهجه حتى أصبح فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندها رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني فكره النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه واجتمعت الأنصار فقالوا قد إبتلينا بما قال سعد بن عبادة الآن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلال بن أمية ويبطل شهادته في المسلمين فقال هلال والله إني لأرجو أن يجعل الله لي مخرجا فوالله إن النبي صلى الله عليه وسلم ليريد أن يأمر بضربي إذ نزل عليه الوحي فعرفوا ذلك في تربد وجهه فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي فنزلت " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم " الآية فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا فقال هلال قد كنت أرجو ذلك من ربي فأرسلوا إليها فجاءت فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا فقال هلال والله يا رسول الله لقد صدقت عليهما فقالت كذب علي فقال النبي صلى الله عليه وسلم لاعنوا بينهما فقيل لهلال إشهد فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فلما كانت الخامسة(2/497)
498
قيل يا هلال إتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب قال والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين
ثم قيل لها إشهدي فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فلما كانت الخامسة قيل لها إتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فمكثت ساعة ثم قالت والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن لا يدعى ولدها لأب وقال إن جاءت به أصيهب أريسج أثيبج خمش الساقين فهو لهلال وإن جاءت به أورق جعدا جماليجا خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو للذي رميت به فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم لولا الأيمان لكان لي ولها شأن قال عكرمة فكان بعد ذلك أميرا على مصر ولا يدعى لأب
وروى إبن شهاب عن سهل بن سعد الساعدي أن عويمرا العجلاني أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت إن وجد الرجل مع إمرأته رجلا إن قتله قتقتلوه أو كيف يفعل قال قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآنا فاذهب فأت بها فتلاعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغا قال كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق ثلاثا فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم قال إبن شهاب تلك سنة المتلاعنين وفي رواية أخرى إنه فرق بينهما وقال الزهري صار ذلك سنة في المتلاعنين فذلك قوله " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم " يعني الزوج خاصة
" فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين " أي يحلف الزوج أربع مرات فيقول في كل مرة أشهد بالله الذي لا إله إلا هو أني صادق فيما رميتها به من الزنى " والخامسة " يعني يقول في المرة الخامسة " أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين " فيما رماها به من الزنى
قوله " ويدرأ عنها العذاب " يعني ويدفع الحاكم الحد عن المرأة " أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين " يعني بعد ما تحلف المرأة أربع مرات فتقول في كل مرة(2/498)
499
أشهد بالله الذي لا إله إلا هو أن الزوج من الكاذبين في قوله " والخامسة " يعني وتقول المرة الخامسة " أن غضب الله عليها إن كان " الزوج " من الصادقين " في مقالته قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " أربع شهادات " بضم العين وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالضم يكون على معنى خبر الإبتداء فشهادة أحدهم التي تدرأ حد القذف أربع شهادات ومن قرأ بالنصب فالمعنى فعليه أن يشهد أحدهم أربع شهادات قال أبو عبيد وبهذا نقرأ ومعناه فشهادة أحدهم أن يشهد أربع شهادات فيكون الجواب في قوله " إنه لمن الصادقين "
وقرأ نافع " أن لعنة الله " بتخفيف أن والجزم وقرأ الباقون بالتشديد وقرأ عاصم في رواية حفص " والخامسة أن غضب الله عليها " بنصب التاء وقرأ الباقون بالرفع فإذا فرغا من اللعان فرق القاضي بينهما وقال بعضهم تقع الفرقة بنفس اللعان وهو قول الشافعي رحمه الله وفي قول علمائنا رحمهم الله لا تقع الفرقة ما لم يفرق بينهما
ثم قال عز وجل " ولولا فضل الله عليكم ورحمته " وجوابه مضمر ومعناه " ولولا فضل الله عليكم ورحمته " لبين الصادق من الكاذب ويقال " ولولا فضل الله عليكم ورحمته " لنال الكاذب منكم بما ذكرناه من عذاب عظيم ثم قال " وإن الله تواب حكيم " يعني " تواب " لمن تاب ورجع " حكيم " حكم بينهما بالملاعنة
سورة النور 11
قوله عز وجل " إن الذين جاءوا بالإفك " يعني قالوا بالكذب وقال الأخفش الإفك أسوأ الكذب وهذه الآية نزلت ببراءة عائشة رضي الله عنها قال الفقيه أبو الليث رحمه الله أخبرني الثقة بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج في سفر أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه قالت قأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعد ما نزلت آية الحجاب وكان ذلك في غزوة بني المصطلق قالت فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه في مسيرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته وقفل ودنونا من المدينة أذن ليلة بالرحيل فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد إنقطع فرجعت فالتمست عقدي فحبسني إبتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني فحملوا هودجي ورحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه قالت وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه(2/499)
500
وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعدما إستمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب قالت فجلست مكاني فظننت أن القوم يستفقدونني فيرجعون إلي فبينما أنا جالسة في منزلي إذ غلبني النوم فنمت وقد كان صفوان بن المعطل السلمي يمكث في المعسكر إذا إرتحل الناس يتبع ما يقع من الناس من أمتعتهم فيحمله إلى المنزل الآخر فيعرفه فتجيء الناس ويأخذون أمتعتهم وكان لا يكاد يذهب من العسكر شيء فأصبح صفوان عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وقد كان يراني قبل أن يضرب علي الحجاب فاسترجع فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي فوالله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير إسترجاعه حتى أناخ راحلته فركبتها فانطق بي يقود بي الراحلة
قالت وكان عبد الله بن أبي إذا نزل في العسكر نزل في أقصى العسكر فيجتمع إليه ناس فيحدثهم ويتحدثون قالت وكان معه في مجلسه يومئذ حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة فافتقد الناس عائشة حين نزلوا صحوة وهاج الناس في ذكرها أن عائشة قد فقدت ودخل علي بن أبي طالب على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر أن عائشة قد فقدت فبينما الناس كذلك إذ دنا صفوان بن المعطل فتكلم عبد الله بن أبي بما تكلم وحسان بن ثابت وسائرهم وأفشوه في العسكر وخاض أهل العسكر فيه فجعل يرويه بعضهم عن بعض ويحدث بعضهم بعضا
قالت وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل ويسلم ثم يقول كيف تيكم فذلك يريبني ولا أشعر بالسر فلما رأيت ذلك قلت يا رسول الله لو أذنت لي فانقلبت إلى أبوي يمرضاني قال لا بأس عليك وإنما قلت ذلك لما رأيت من جفائه قالت فانقلبت إلى أمي ولا علم لي بشيء مما كان حتى قمت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة
قالت وكانوا لا يتخذون الكنف في بيوتهم إنما كانوا يذهبون في فسح المدينة قالت فخرجت في بعض الليل ومعي أم مسطح حتى فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح فقالت تعس مسطح فقلت لها بئس ما قلت تسبين رجلا وقد شهد بدرا فقالت أولم تسمعي ما قال قلت وماذا قال قالت فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا إلى مرضي وأخذتني الحمى مكاني فرجعت أبكي
ثم قلت لأمي يغفر الله لك تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي منه شيئا فقالت هوني عليك فوالله لقل ما كانت إمرأة قط رضية عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها قالت فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب
وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حيث إستلبث(2/500)
501
الوحي يستشيرهما في فراق أهله فأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال لم يضيق الله عليك والنساء كثير فاستبدل وأما أسامة بن زيد رضي الله عنه فأشار عليه بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم في نفسه من الود فقال يا رسول الله ما علمت منها إلا خيرا فلا تعجل وانظر واسأل أهلك قالت فسأل حفصة بنت عمر عنها فقالت يا رسول الله ما رأيت عليها سوءا قط وسأل زينب بنت جحش فقالت مثل ذلك وسأل بريرة هل رأيت من شيء يريبك من أمر عائشة قالت له بريرة والذي بعثك بالحق نبيا ما رأيت عليها أمرا قط أغمضه عليها غير أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله
قالت فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل علي وعندي أبواي فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال يا عائشة لقد بلغك ما يقول الناس فإن كان ما يكون منك زلة مما يكون من الناس فتوبي إلى الله تعالى فإن الله يقبل التوبة عن عباده فإن العبد إذا إعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه فانتظرت أبوي أن يجيبا عني فلم يفعلا فقلت يا أبت أجبه فقال ماذا أقول فقلت يا أماه أجيبيه فقالت ماذا أقول ثم إستعبرت فبكيت فقلت لا والله لا أتوب مما ذكروني به وإني لأعلم أنني لو أقررت بما يقول الناس لقلت وأنا منه بريئة ولا أقول فيما لم يكن حقا ولئن أنكرت فلا تصدقني
قالت ثم أنسيت إسم يعقوب فلم أذكره فقلت ولكني أقول كما قال العبد الصالح أبو يوسف " فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون " [ يوسف : 18 ] قالت فوالله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغشاه من الله ما كان يغشاه قالت أنا والله حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله عز وجل يبرئني ببراءتي ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل الله في شأني وحيا يتلى ولساني كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى في بقرآن يقرأ به في المساجد ولكنني كنت أرجو أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه شيئا ببراءتي فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك كان أول كلمة تكلم بها أن قال يا عائشة أبشري أما والله فقد برأك الله تعالى فقالت لي أمي قومي إليه فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله تعالى هو الذي أنزل براءتي
وفي رواية قالت أحمد الله تعالى وأذمكم قالت فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال يا أيها الناس من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي برجل ما رأيت عليه سوءا قط ولا دخل علي أهلي إلا وأنا معه فقام سعد بن معاذ فقال أخبرنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هو فإن يكن من الأوس نقتله وإن يكن من الخزرج نرى فيه رأيا أمرتنا ففعلنا أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان
رجلا صالحا(2/501)
502
ولكن حملته الحمية فقال كلا ولكنها عداوتك للخزرج قال فاستبا فقام أسيد بن حضير الأوسي وقال يا سعد بن عبادة أتقول هذا كلا والله ولكنك منافق تحب المنافقين فاستب حي هذا وحي هذا فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللغط نزل وتركهم وقد تلا عليهم ما أنزل الله تعالى عليه في أمر عائشة رضي الله عنها " إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم " يعني جماعة منكم وهو ما قال عبد الله بن أبي وأصحابه ما برئت عائشة من صفوان وما برىء عنها صفوان والعصبة عشرة فما فوقها كما قال الكلبي
" لا تحسبوه شرا لكم " يعني عائشة ومن كان ينسبها والنبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر " بل هو خير لكم " لأنه لو لم يكن قولهم لم يظهر فضل عائشة رضي الله عنها وإنما ظهر فضل عائشة بما صبرت على المحنة فنزل بسببها سبع عشرة آية من القرآن من قوله " إن الذين جاءوا بالإفك " إلى قوله " لهم مغفرة ورزق كريم " ووجه آخر " بل هو خير لكم " لأنه يؤخذ من حسناتهم ويوضع في ميزانه يعني عائشة وصفوان وهذا خير له
ثم قال " لكل إمرئ منهم ما اكتسب من الإثم " يعني لكل واحد منهم العقوبة بمقدار ما شرع في ذلك الأمر لأن بعضهم قد تكلم بذلك وبعضهم ضحك وبعضهم سكت فكل واحد منهم ما اكتسب من الإثم بقدر ذلك
" والذي تولى كبره " يعني الذي تكلم بالقذف " منهم له عذاب عظيم " يعني الحد في الدنيا فأقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد وكان حميد يقرأ " والذي تولى كبره " بضم الكاف يعني عظمه قال أبو عبيد والقراءة عندنا بالكسر وإنما الكبر في النسب وفي الولاء
سورة النور 12 - 15
ثم قال عز وجل " لولا إذ سمعتموه " يعني هلا إذ سمعتم قذف عائشة وصفوان " ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا " يعني هلا ظننتم به كظنكم بأنفسكم ويقال ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم كظن المؤمنين والمؤمنات بأمثالهم وبأهل دينهم خيرا ويقال يعني هلا ظننتم كما ظن المؤمنون والمؤمنات " وقالوا هذا إفك مبين " يعني هلا قلتم حين بلغكم هذا الكذب هذا كذب بين وعلمتم أن أمكم لا تفعل ذلك " لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء " يعني هلا جاؤوا بها " فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون " في(2/502)
503
قولهم اللفظ لفظ الماضي والمراد به المستقبل يعني إطلبوا منهم أربعة شهداء فإن لم يأتوا بها فأقم عليهم الحد
ثم قال عز وجل " ولولا فضل الله عليكم ورحمته " يعني منته ونعمته عليكم " في الدنيا والآخرة لمسكم " يعني أصابكم " فيما أفضتم فيه " يعني فيما قلتم من القذف " عذاب عظيم " في الدنيا والآخرة على وجه التقديم
قوله عز وجل " إذ تلقونه بألسنتكم " أي يرويه بعضكم من بعض ويتلقاه بعضكم من بعض وقرىء " إذ تلقونه " بكسر اللام وضم القاف والتخفيف أي تكذبون بألسنتكم ويقال معناه تهرعون إلى الكذب يقال ولق يلق إذا أسرع إلى الكذب وروى إبن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ " إذ تلقونه بألسنتكم " بكسر اللام وقال إبن أبي مليكة هي أعلم لأن الآية نزلت فيها وروي عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ " إذ تتلقونه " وقال أبو عبيد لولا قراءة أبي وكراهة الخلاف على الناس ما كان أحد أولى أن يتبع فيها من عائشة كما إحتج إبن أبي مليكة
ثم قال تعالى " وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم " من الفرية " وتحسبونه هينا " يعني تظنون عقوبته هينة " وهو عند الله عظيم " في الوزر والعقوبة
سورة النور 16 - 20
قوله تعالى " ولولا " يعني فهلا " إذ سمعتموه " أي إذ سمعتم القذف " قلتم ما يكون لنا " يعني لا ينبغي لنا ويجوز لنا " أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم " وفي هذا بيان فضل عائشة رضي الله عنها حيث نزهها باللفظ الذي نزه به نفسه وهو لفظ سبحان الله ويقال سبحان الله أن تكون إمرأة النبي صلى الله عليه وسلم زانية ما كانت إمرأة نبي زانية قط
ثم وعظ الذين يخوضون في أمر عائشة فقال عز وجل " يعظكم الله " يعني ينهاكم الله عز وجل " أن تعودوا لمثله أبدا " يعني القذف " إن كنتم مؤمنين " يعني مصدقين بالله وبرسوله عليه السلام وباليوم الآخر " ويبين الله لكم الآيات " يعني الأمر والنهي " والله عليم حكيم "
ونزل في عبد الله بن أبي وأصحابه " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة " يعني يظهر الزنى ويفشو ويقال يحبون ما شاع لعائشة من الثناء السيء " في الذين آمنوا " يعني عائشة(2/503)
504
وصفوان رضي الله عنهما " لهم عذاب أليم في الدنيا " الحد " والآخرة " النار إن لم يتوبوا " والله يعلم " أنهما لم يزنيا " وأنتم لا تعلمون " ذلك منهما
ثم قال عز وجل " ولولا فضل الله عليكم ورحمته " وجوابه مضمر يعني لولا من الله عليكم ونعمته لعاقبكم فيما قلتم في أمر عائشة وصفوان " وأن الله رؤوف رحيم " حيث لم يعجل بالعقوبة
سورة النور 21 - 22
قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان " يعني لا تتبعوا تزيين الشيطان ووساوسه بقذف المؤمنين والمؤمنات " ومن يتبع خطوات الشيطان " وفي الآية مضمر ومعناه " ومن يتبع خطوات الشيطان " وقع في الفحشاء والمنكر " فإنه " يعني به الشيطان " يأمر بالفحشاء " يعني المعاصي " والمنكر " ما لا يعرف في شريعة ولا سنة وروي عن أبي مجلز قال " خطوات الشيطان " النذور في معصية الله تعالى
ثم قال " ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم " يعني ما ظهر وما صلح منكم " من أحد أبدا " يعني أحدا و " من " صلة " ولكن الله يزكي " يعني يوفق للتوحيد " من يشاء " ويقال ما زكى أي ما وحد " ولكن الله يزكي " أي يطهر " والله سميع " لمقالتهم " عليم " بهم
ثم قال عز وجل " ولا يأتل " يعني لا يحلف وهو يفتعل من الألية وهي اليمين قرأ أبو جعفر المدني وزيد بن أسلم " ولا يتأل " على معنى يتفعل ويقال معناه ولا يدع أن ينفق ويتصدق وهو يتفعل من ألوت أني أصنع كذا ويقال ما ألوت جهدي أي ما تركت طاقتي وذلك أن أبا بكر كان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره فلما تكلم بما تكلم به حلف أبو بكر رضي الله عنه أن لا ينفق عليه فنزلت هذه الآية " أولو الفضل منكم " يعني " أولو الفضل " في دين الله لأنه كان أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم " والسعة " يعني السعة في المال وهذا من مناقب أبي بكر رضي الله عنه حيث سماه الله " أولو الفضل " في الإسلام ويقال " ولا يأتل " يعني ولا يحلف " أولو الفضل منكم " يعني أولو الغنى والسعة في المال والأول أشبه لكي لا يكون حمل الكلام على التكرار " أن يؤتوا أولي القربى " يعني لا يحلف أن لا يعطي ولا ينفق على " أولي القربى " يعني على ذوي القربى وهو مسطح " والمساكين(2/504)
505
والمهاجرين في سبيل الله ) وكان مسطح من فقراء المهاجرين ومن أقرباء أبي بكر
" وليعفوا " يقول ليتركوا " وليصفحوا " يعني وليتجاوزوا " ألا تحبون أن يغفر الله لكم " فقال أبو بكر أنا أحب أن يغفر الله لي فقد تجاوزت عن قرابتي ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر ألا تحب أن يغفر الله لك قال نعم فقرأ عليه السلام هذه الآية وأمره بأن ينفق على مسطح وفي الآية دليل على أن من حلف على أمر فرأى الحنث أفضل منه فله أن يحنث ويكفر عن يمينه ويكون له ثلاثة أجور أحدها ائتماره بأمر الله تعالى والثاني أجر بره وذلك صلته في قرابته والثالث أجر التكفير ثم قال تعالى " والله غفور رحيم " يعني " غفور " لذنوبكم " رحيم " بالمؤمنين
سورة النور 23 - 26
قوله عز وجل " إن الذين يرمون المحصنات " يعني العفائف " الغافلات " يعني عن الزنى والفواحش " المؤمنات " يعني المصدقات بالألسن والقلوب " لعنوا في الدنيا والآخرة " وأصل اللعن هو الطرد والبعد ويقال للشيطان اللعين لبعده عن الرحمة وروي في الخبر أن يوم القيامة تكون هذه الأمة شاهدة على الأمم الأولين إلا الذين تجري على لسانهم اللعنة وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا يلعن بعيره فقال أتلعنها وتركبها فنزل عنها ولم يركبها أحد
قوله تعالى " ولهم عذاب عظيم " يعني شديد يوم القيامة وذكر أن حسان بن ثابت ذهب بصره في آخر عمره فدخل يوما على عائشة رضي الله عنها فجلس عندها ساعة ثم خرج فقيل لها إن الله تعالى قال " لهم عذاب عظيم " في الدنيا والآخرة فقالت عائشة أوليس هذا أعظم يعني ذهاب بصره ويقال " عذاب عظيم " إن لم يتوبوا " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " أي بما تكلموا
ثم قال " يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق " يعني يوفيهم جزاء أعمالهم قرأ حمزة والكسائي " يشهد " بالياء بلفظ المذكر وقرأ الباقون بالتاء بلفظ التأنيث لأن الفعل مقدم فيجوز أن يذكر ويؤنث وقرأ مجاهد " الحق " بضم القاف فيكون الحق نعت الله وتكون قراءة(2/505)
506
أبي بن كعب شاهدة له كأنه يقول يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم وقراءة العامة " الحق " بالنصب وإنما يكون نصبا لنزع الخافض يعني يوفيهم الله ثواب دينهم بالحق أي بالعدل وجه آخر أن يكون الحق نعتا للدين ويكون كقوله " حقا " ثم يدخل عليه الألف واللام
ثم قال " ويعلمون أن الله هو الحق المبين " يعني عبادة الله هي الحق المبين ويقال ويعلمون أن ما قال الله عز وجل هو الحق
ثم قال " الخبيثات للخبيثين " قال الكلبي الخبيثات من الكلام للخبيثين من الرجال يعني عبد الله بن أبي " والخبيثون " من الرجال " للخبيثات " من الكلام على معنى التكرار والتأكيد ويقال " الخبيثات " من النساء " للخبيثين " من الرجال مثل عبد الله بن أبي تكون له زوجة خبيثة زانية وامرأة النبي صلى الله عليه وسلم لا تكون زانية خبيثة ويقال " الخبيثات للخبيثين " يعني لا يتكلم بكلام الخبيث إلا الخبيث ولا يليق إلا بالخبيث ويقال الكلمات الخبيثات إنما تليق بالخبيثين من الرجال
ثم قال " والطيبات للطيبين " يعني " الطيبات " من الكلام " للطيبين " من الرجال ويقال " الطيبات " من النساء " للطيبين " من الرجال " والطيبون للطيبات " على معنى التكرار والتأكيد
ثم قال " أولئك مبرؤون مما يقولون " يعني عائشة وصفوان مما يقولون من الفرية " لهم مغفرة ورزق كريم " يعني رزقا في الجنة كثيرا ويقال " كريم " يعني حسن وذكر إبن عباس أنه دخل على عائشة رضي الله عنها في مرضها الذي ماتت فيه فذكرت ما كان منها من الخروج في يوم الجمل وغيره فقال لها إبن عباس أبشري فإن الله تعالى يقول " لهم مغفرة ورزق كريم " والله تعالى ينجز وعده فسري بذلك عنها
سورة النور 27 - 29
قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم " يعني بيوتا ليست لكم " حتى تستأنسوا " يعني حتى تستأذنوا وروي عن سعيد بن جبير أن عبد الله بن عباس كان يقرأ " حتى تستأذنوا " ويقول تستأذنوا خطأ من الكاتب وروي عن مجاهد عن إبن عباس أنه قال أخطأ الكاتب في قوله " حتى تستأنسوا " وقراءة العامة " حتى تستأنسوا " وقال القتبي الإستئناس أن تعلم من في الدار يقال إستأنست فما رأيت أحدا أي إستعلمت(2/506)
507
وتعرفت ومنه قوله " فإن آنستم منهم رشدا " [ النساء : 6 ] أي علمتم وروي عن عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار قال جاءت إمرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب أن يراني عليها أحد فيأتي الأب فيدخل علي فكيف أصنع قال إرجعي فنزلت هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا " قال مجاهد وهو التنحنح " وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم " يعني التسليم والإستئذان خير لكم من أن تدخلوا بغير إذن وسلام " لعلكم تذكرون " أن التسليم والإستئذان خير لكم
قال عز وجل " فإن لم تجدوا فيها أحدا " يعني إن لم تجدوا في البيوت أحدا يأذن لكم في الدخول " فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم " في الدخول " وإن قيل لكم إرجعوا فارجعوا " ولا تقيموا على أبواب الناس فلعل لهم حوائج " هو أزكى لكم " يعني الرجوع أصلح لكم من القيام والقعود على أبواب الناس " والله بما تعملون عليم " يعني إذا دخلتم بإذن أو بغير إذن ثم رخص لهم في البيوت على طريق الناس مثل الرباطات والخانات وذلك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال يا رسول الله فكيف بالبيوت التي بين الشام ومكة والمدينة التي على ظهر الطريق ليس لها ساكن فنزل قوله عز وجل " ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة " مثل الخانات وبيوت السوق " فيها متاع لكم " يعني منافع لكم ويقال الخربات التي يدخل فيها لقضاء الحوائج فيها منفعة لكم ويقال في الخانات منفعة لكم من الحر والبرد " والله يعلم ما تبدون وما تكتمون " من التسليم والإستئذان
سورة النور 30 - 31(2/507)
508
قوله عز وجل " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " يعني يكفوا أبصارهم و " من " صلة في الكلام " ويحفظوا فروجهم " عما لا يحل لهم وقال أبو العالية الرياحي كلما ذكر حفظ الفرج في القرآن أراد به الحفظ عن الزنى إلا ها هنا فإن المراد به ها هنا الستر عن النظر يعني قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم عن عورات النساء ويحفظوا فروجهم عن أبصار الناس وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك والأخرى عليك وروي عن عيسى إبن مريم أنه قال إياكم والنظرة فإنها تزرع في القلب شهوة فذلك قوله " ذلك أزكى لكم " وأطهر من الريبة يعني غض البصر والحفظ خير لكم من ترك الحفظ والنظر ثم قال " إن الله خبير بما يصنعون " يعني عالم بهم
قوله عز وجل " وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن " يعني يحفظن أبصارهن عن الحرام " ويحفظن فروجهن " عن الفواحش " ولا يبدين زينتهن " يعني لا يظهرن مواضع زينتهن " إلا ما ظهر منها " روى سعيد بن جبير عن إبن عباس أنه قال وجهها وكفيها وهكذا قال إبراهيم النخعي وروي أيضا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت الوجه والكفان وهكذا قال الشعبي وروى نافع عن إبن عمر أنه قال الوجه والكفان وقال مجاهد الكحل والخضاب وروى أبو صالح عن إبن عباس الكحل والخاتم وروي عن إبن عباس في رواية أخرى " إلا ما ظهر منها " يعني فوق الثياب وروى أبو إسحاق عن إبن مسعود أنه قال ثيابها وروي عن إبن مسعود رواية أخرى أنه سئل عن قوله " إلا ما ظهر منها " فتقنع عبد الله بن مسعود وغطى وجهه وأبدى عن إحدى عينيه
قوله تعالى " وليضربن بخمرهن " يعني ليرخين بخمرهن " على جيوبهن " يعني على الصدر والنحر قال إبن عباس وكن النساء قبل هذه الآية يبدين خمرهن من ورائهن كما يصنع النبط فلما نزلت هذه الآية سدلن الخمر على الصدر والنحر
ثم قال " ولا يبدين زينتهن " يعني لا يظهرن مواضع زينتهن وهو الصدر والساق والساعد والرأس لأن الصدر موضع الوشاح والساق موضع الخلخال والساعد موضع السوار والرأس موضع الإكليل فقد ذكر الزينة وأراد بها موضع الزينة " إلا لبعولتهن " يعني لأزواجهن " أو آبائهن " يعني يجوز للآباء النظر إلى مواضع زينتهن " أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن " وقد ذكر في الآية بعض ذوي الرحم المحرم فيكون فيه دليل على ما كان بمعناه لأنه لم يذكر فيها الأعمام والأخوال ولكن الآية إذا نزلت في شيء فقد نزلت فيما هو في معناه والأعمام والأخوال بمعنى الإخوة وبني الإخوة لأنه ذو رحم محرم وقد ذكر الأبناء في آية أخرى وهي قوله " لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن " [
الأحزاب : 55 ]
والنظر إلى النساء على أربع مراتب في وجه يجوز النظر إلى جميع أعضائها وهي(2/508)
509
النظر إلى زوجته وأمته وفي وجه يجوز النظر إلى الوجه والكفين وهو النظر إلى المرأة التي لا يكون محرما لها ويأمن كل واحد منهما على نفسه فلا بأس بالنظر عند الحاجة وفي وجه يجوز النظر إلى الصدر والساق والرأس والساعد وهو النظر إلى إمرأة ذي رحم أو ذات رحم محرم مثل الأخت والأم والعمة والخالة وأولاد الأخ والأخت وإمرأة الأب وإمرأة الإبن وأم المرأة سواء كان من قبل الرضاع أو من قبل النسب وفي وجه لا يجوز النظر إلى شيء وهو أن يخاف أن يقع في الإثم إذا نظر
ثم قال تعالى " أو نسائهن " يعني نساء أهل دينهن ويكره للمرأة أن تظهر مواضع زينتها عند إمرأة كتابية لأنها تصف ذلك عند غيرها ويقال " نسائهن " يعني العفائف ولا ينبغي أن تنظر إليها المرأة الفاجرة لأنها تصف ذلك عند الرجال
ثم قال " أو ما ملكت أيمانهن " يعني الجواري فإنها نزلت في الإماء وقال سعيد بن المسيب لا تغرنكم هذه الآية " أو ما ملكت أيمانهن " يعني الجواري فإنها نزلت في الإماء لا ينبغي للمرأة أن ينظر العبد إلى شعرها ولا إلى شيء من محاسنها وقال مجاهد أكره أن ينظر العبد إلى شعر مولاته وكذلك قال عطاء وطاوس وقال مجاهد في بعض القراءات " أو ما ملكت أيمانهن " الذين لم يبلغوا الحلم وروى سفيان عن ليث قال كان بعضهم يقرأ " أو ما ملكت أيمانهن " من الصغار وقال الشعبي لا ينظر العبد إلى مولاته ولا إلى شعرة منها
ثم قال تعالى " أو التابعين غير أولى الإربة " يعني الخادم أو الأجير للمرأة يعني غير ذوي الحاجة مثل الشيخ الكبير ونحوه وقال مجاهد هو الذي لا إرب له أي لا حاجة له بالنساء مثل فلان وكذا روى الشعبي عن علقمة وقال الحسن والزهري " غير أولي الإربة " هو الأحمق وقال الضحاك هو الأبله ويقال هو الذي طبعه طبع النساء فلا يكون له شهوة الرجال وسئلت عائشة رضي الله عنها هل يرى الخصي حسن المرأة قالت لا ولا كرامة أليس هو رجل قرأ إبن عامر وعاصم في رواية أبي بكر " غير أولي الإربة " بنصب الراء وقرأ الباقون بالكسر فمن قرأ بالكسر يكون على النعت للتابعين فيكون معناها التابعين الذين هذه حالهم ومن نصب أراد به الإستثناء والمعنى إلا أولي الإربة
ثم قال " من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء " يعني لم يطلعوا ولم يشتهوا الجماع
ثم قال " ولا يضربن بأرجلهن " يعني لا يضربن بإحدى أرجلهن على الأخرى ليقرع الخلخال بالخلخال " ليعلم ما يخفين من زينتهن " يعني ما يواري الثياب من زينتهن وروى سفيان عن السدي قال كانت المرأة تمر على المجلس وفي رجلها الخلخال فإذا جازت بالقوم ضربت برجلها ليصوت خلخالها فنزلت " ولا يضربن بأرجلهن " وقال بعض(2/509)
510
المفسرين قد علم الله تعالى أن من النساء من تكون حمقاء فتحرك رجلها ليعلم أن لها خلخالا فنهي النساء أن يفعلن كما تفعل الحمقاء
ثم قال " وتوبوا إلى الله جميعا " يعني من جميع ما وقع التقصير من الأوامر والنواهي التي ذكر من أول السورة إلى ها هنا " أيها المؤمنون " يعني أيها المصدقون بالله ورسوله وفي هذه الآية دليل أن الذنب لا يخرج العبد من الإيمان لأنه أمر بالتوبة والتوبة لا تكون إلا من الذنب ولم يفصل بين الكبائر وغيرها فقال بعدما أمر بالتوبة " أيها المؤمنون " سماهم مؤمنين بعد الذنب ثم قال " لعلكم تفلحون " أي تنجون من العذاب قرأ إبن عامر " أيه " بضم الهاء وكذلك في قوله " يا أيه الساحر " " وأيه الثقلان " وقرأ الباقون بالنصب
سورة النور 32 - 34
قوله عز وجل " وانكحوا الأيامى منكم " والأيامى الرجال والنساء الذين لا أزواج لهم يقال رجل أيم وإمرأة أيم كما يقال رجل بكر وإمرأة بكر ويقال الأيم من النساء خاصة كل إمرأة لا زوج لها فهي أيم فأمر الأولياء بأن يزوجوا النساء وأمر الموالي بأن يزوجوا العبيد والإماء إذا إحتاجوا إلى ذلك فقال للأولياء " وأنكحوا الأيامى منكم " يعني من قومكم ومن عشيرتكم ثم قال للموالي " والصالحين من عبادكم " يعني من عبيدكم زوجوهم إمرأة وهذا أمر إستحباب وليس بحتم " وإمائكم " يعني زوجوا إماءكم لكيلا يقعن في الزنى " إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله " يعني يرزقهم الله من فضله وسعته
وقال بعضهم هذا منصرف إلى الحرائر خاصة دون العبيد والإماء وقال بعضهم إنصرف إلى جميع ما سبق ذكرهم من الأحرار والمماليك " يغنهم الله من فضله " يعني من رزقه والغنى على وجهين غني بالمال وهو أضعف الحالين وغنى بالقناعة وهو أقوى الحالين كما روي في الخبر الغنى غنى النفس وروى هشام بن عروة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أنكحوا النساء فإنهن يأتينكم بالمال وقال عمر رضي الله عنه إبتغوا الغنى في النكاح ثم قرأ " يغنهم الله من فضله " وروي عن جعفر بن محمد أن رجلا شكا إليه الفقر فأمره أن يتزوج فتزوج الرجل ثم جاء فشكا إليه الفقر فأمره بأن يطلقها فسأل عن ذلك فقال قلت لعله من(2/510)
511
أهل هذه الآية " إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله " فلما لم يكن من أهلها قلت لعله من أهل آية أخرى " وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته " [ النساء : 130 ]
ثم قال " والله واسع عليم " أي واسع الفضل ويقال " واسع " أي موسع في الرزق يوسع على من يشاء " عليم " بقدر ما يحتاج إليه كل واحد منهم
ثم أخبر أنه لا رخصة لمن لم يجد النكاح في الزنى وأمر بالتعفف للذي لا إمرأة له فقال عز وجل " وليستعفف الذين " يعني ليحفظ نفسه عن الحرام الذين " لا يجدون نكاحا " يعني سعة بالنكاح المهر والنفقة ويقال يعني إمرأة موافقة " حتى يغنيهم الله من فضله " يعني من رزقه بالنكاح وقد قيل إن الصبر والطلب خير من الغارة والهرب
" والذين يبتغون الكتاب " أي يطلبون الكتابة قال إبن عباس وذلك أن مملوكا لحويطب يقال له صبيح سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه فنزلت الآية " والذين يبتغون الكتاب " يعني يطلبون الكتابة " مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " يعني حرفة قال مجاهد وعطاء يعني مالا وروي عن إبن سيرين عن عبيدة السلماني قال أدبا وصلاحا وقال إبراهيم يعني وفاء وصدقا وروى يحيى بن أبي كثير قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن علمتم فيهم خيرا " أي حرفة ولا ترسلوهم كلا على الناس وقال إبن عباس الخير المال كقوله " إن ترك خيرا " [ البقرة : 180 ] يعني مالا وقيل " خيرا " يعني صلاحا في دينه لكيلا يقع في الفساد بعد العتق وهذا أمر إستحباب لا إيجاب وقال بعضهم هو واجب وروى معمر عن قتادة قال سأل سيرين أبو محمد بن سيرين أنس بن مالك بأن يكاتبه فأبى أنس بن مالك فرفع عليه عمر الدرة وتلا هذه الآية " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا "
ثم قال " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " يعني أعطاكم يعني يحطه من الكتاب شيئا ويقال يعطى من بيت المال حتى يؤدي كتابه وقال عمر وعلي رضي الله عنهما يترك له ربع الكتابة وقال قتادة يترك له العشر وقال إبراهيم حث المولى وغيره بأن يعينوه هذا أمر إستحباب وليس بواجب وقال بعضهم الحط واجب والأول أصح
ثم قال " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء " يعني لا تكرهوا الإماء على الزنى وقال عكرمة كانت جارية لعبد الله بن أبي يقال لها معاذة وكان يكلفها الخراج عن الزنى فنزل " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا " يعني تعففا " لتبتغوا عرض الحياة الدنيا " يعني لتطلبوا بكسبهن وولدهن المال " ومن يكرههن " يعني يجبرهن على(2/511)
512
الزنى " فإن الله من بعد إكراههن " يعني من بعد إجبارهن على الزنى " غفور " لذنوبهن " رحيم " يعني الإماء لأنهن كن مكرهات على فعل الزنى
قوله عز وجل " ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات " يعني واضحات " ومثلا من الذين خلوا من قبلكم " يعني فيه خير من قبلكم من الأمم الماضية " وموعظة للمتقين " لكي يعتبروا بما أصابهم
سورة النور 35
قوله عز وجل " والله نور السموات والأرض " قال إبن عباس رضي الله عنه هادي أهل السموات وأهل الأرض ويقال هادي أهل السموات والأرض من يشاء وبين ذلك في آخر الآية بقول " يهدي لنوره من يشاء " ويقال معناه الله منور السموات والأرض وقال إبن عباس بدليل قوله " مثل نوره " فأضاف النور إليه وبدليل ما قال في سياق الآية " ومن لم يجعل الله له نورا " [ النور : 40 ] وروي عن أبي العالية أنه قال معناه الله منور قلوب أهل السموات وقلوب أهل الأرض بالمعرفة والتوحيد يعني من كان أهلا للإيمان ويقال الله منور السموات والأرض أما السموات فنورها بالشمس والقمر والكواكب وأما الأرض فنورها بالأنبياء والعلماء والعباد عليهم السلام
ثم قال تعالى " مثل نوره " يعني مثل نور المعرفة في قلب المؤمن " كمشكاة فيها مصباح " يعني كمثل كوة فيها سراج ويقال المشكاة الكوة التي ليست بنافذة وهي بلغة الحبشة وروي في قراءة إبن مسعود " مثل نوره " في قلب المؤمن " كمشكاة فيها مصباح " ثم وصف المصباح فقال " المصباح في زجاجة " يعني كمثل سراج في قنديل في كوة فكذلك الإيمان والمعرفة في قلب المؤمن والقلب في الصدر والصدر في الجسد فشبه القلب بالقنديل والماء الذي في القنديل شبه بالعلم والدهن بالرفق وحسن المعاملة وشبه الفتيلة باللسان وشبه النار بالجوف في زجاجة يعني في قلب مضيء ويقال إنما شبه القلب بالزجاجة لأن ما في الزجاجة يرى من خارجها فكذلك ما في القلب يرى من ظاهره ويبين ذلك في أعضائه ويقال لأن الزجاجة تسرع الكسر بأدنى آفة تصيبها فكذلك القلب بأدنى آفة تدخل فيه فإنه يفسد
ثم وصف الزجاجة فقال " كأنها كوكب دري " يعني إستنارة القنديل بصفاء الزجاجة(2/512)
513
" كأنها كوكب دري " قرأ نافع وإبن كثير وعاصم في رواية حفص " كوكب دري " بضم الدال غير مهموز وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال وبهمز الياء وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر بالضم والهمز فمن قرأ بضم الدال فهو منسوب إلى الدر يعني يشبه في ضوئه الدر وممن قرأ بكسر الدال يعني الذي يدرأ عن نفسه يعني لا يكاد يقدر النظر إليه من شدة ضوئه
ثم قال تعالى " يوقد من شجرة مباركة " يعني السراج يوقد بدهن من شجرة مباركة " زيتونة " قرأ أبو عمرو وإبن كثير " توقد " بنصب التاء والواو والقاف بلفظ التأنيث وأصله تتوقد فحذف إحدى التاءين وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي بضم التاء والتخفيف بلفظ التأنيث على فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون " يوقد " بالياء والضم بلفظ التذكير والتفسير على معنى فعل ما لم يسم فاعله فمن قرأ بالتأنيث إنصرف إلى الزجاجة ومن قرأ بالتذكير إنصرف إلى المصباح والسراج
ثم وصف الشجرة المباركة فقال " زيتونة لا شرقية ولا غربية " يعني لم تكن بحال يصيبها الشمس في أول النهار ولا يصيبها في آخر النهار ولكنها في مكان مطمئن تصيبها الشمس في أول النهار وآخره فكذلك هذا المؤمن تكون كلمة الإخلاص في قلبه ثابتة مثل ثبوت الشجرة فلا يكون مشبها ولا معطلا ولا قدريا ولا جبريا ولكنه على الإستقامة ويقال " لا شرقية ولا غربية " يعني تكون في وسط الأشجار حتى لا تحرقها الشمس فكذلك هذا المؤمن بين أصحاب صلحاء يثبتونه على الإستقامة وروي عن الحسن أنه قال ليس هذه من أشجار الدنيا لكن من أشجار الآخرة يعني أن أشجار الدنيا لا تخلو من أن تكون شرقية أو غربية ولكن هذه من أشجار الآخرة فكذلك هذا المؤمن من أصاب المعرفة بتوفيق الله عز وجل
وقال " يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار " يعني أن الزيت في الزجاجة يكاد أن يضيء ولو لم يكن موقدا فكذلك المؤمن يعرف الله تعالى ويخافه ويطيعه وإن لم يكن له أحد يذكره ويأمره وينهاه
ثم قال " نور على نور " يعني الزجاجة نور والسراج نور والزيت نور فكذلك المؤمن إعتقاده نور وقوله نور وفعله نور وقال أبو العالية فهو يتقلب في خمسة من الأنوار فكلامه نور وعمله نور ومخرجه نور ومدخله نور ومصيره إلى النور يوم القيامة
" يهدي الله لنوره من يشاء " يعني يوفق ويعطي من يشاء يعني الهدى وللآية وجه آخر " الله نور السموات والأرض " يعني الله مرسل الرسل إلى أهل السموات وأهل الأرض " مثل نوره " يعني مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم فسماه نورا كقوله " قد جاءكم من الله نور " [ المائدة : 15 ] ثم قال " مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " يعني مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم في صلب(2/513)
514
أبيه كالقنديل يضيء البيت المظلم فكما أن البيت يكون مضيئا بالقنديل فإذا أخذ منه القنديل يبقى البيت مظلما فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم كان كالقنديل في صلب أبيه فلما خرج بقي صلب أبيه مظلما " يوقد من شجرة مباركة " يعني نور محمد صلى الله عليه وسلم من نور إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام " زيتونة لا شرقية ولا غربية " يعني لم يكن إبراهيم عليه السلام يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ويقال " لا شرقية ولا غربية " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم كان من العرب " يكاد زيتها يضيء وإن لم تمسسه نار " يعني يضيء بطاعته وإن لم يكن نبيا " نور على نور " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم كان عمله نورا وقوله نورا " يهدي الله لنوره من يشاء " يعني يعطي النبوة لمن يشاء ولها وجه آخر " الله نور السموات والأرض " يعني منزل القرآن فنور بالقرآن السموات والأرض " مثل نوره " يعني مثل نور القرآن في قلب المؤمن " كمشكاة فيها مصباح " يعني قلب المؤمن بالقرآن " يوقد من شجرة مباركة " يعني ينزل القرآن من رب كريم ذي بركة " لا شرقية ولا غربية " أي ليس القرآن بلغة السريانية ولا بلغة العبرانية ولكنه عربي مبين " يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار " يعني القرآن يضيء وألفاظه مهذبة وإن لم تفهم معانيه " يهدي الله لنوره من يشاء " يعني يوفق ويكرم بفهم القرآن من يشاء " ويضرب الله الأمثال للناس " يعني الله عز وجل يبين الأشباه للناس لكي يفهموا ويقال المثل كالمرآة يظهر عنده الحق " والله بكل شيء عليم " من ضرب الأمثال
سورة النور 36 - 38
ثم قال عز وجل " في بيوت أذن الله أن ترفع " يعني ما ذكر من القنديل المضيء هو في المساجد ثم وصف المساجد ويقال هذا إبتداء القصة وفيه معنى التقديم يعني أذن الله أن ترفع البيوت وهي المساجد " أذن الله أن ترفع " يعني تبنى وتعظم " ويذكر فيها إسمه " يعني توحيده ويقال بالأذان والإقامة " يسبح له " فيها يعني يصلي لله في المساجد " بالغدو والآصال " يعني عند الغداة والعشي قرأ إبن عامر وعاصم في رواية أبي بكر " يسبح " بنصب الباء على معنى فعل ما لم يسم فاعله
ثم قال عز وجل " رجال لا تلهيهم تجارة " يعني هم رجال وقرأ الباقون " يسبح " بكسر الباء ويكون الفعل للرجال يعني يسبح فيها " رجال لا تلهيهم " يعني لا يشغلهم البيع والشراء عن ذكر الله يعني عن طاعة الله وعن مواقيت الصلاة " ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة " يعني عن إتمام الصلاة
قال بعضهم نزلت الآية في أصحاب الصفة وأمثالهم الذين تركوا التجارة ولزموا(2/514)
515
المسجد وقال بعضهم هم الذين يتجرون ولا تشغلهم تجارة عن الصلوات في مواقيتها وهذا أشبه لأنه قال " وإيتاء الزكاة " وأصحاب الصفة وأمثالهم لم يكن عليهم الزكاة وقال الحسن " رجال لا تلهيهم تجارة " أما أنهم كانوا يتجرون ولم تكن تشغلهم تجارة عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وروي عن إبن مسعود أنه رأى قوما من أهل السوق سمعوا الأذان فتركوا بياعاتهم وقاموا إلى الصلاة فقال هؤلاء من الذين " لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله "
ثم قال " يخافون يوما " يعني من اليوم الذي " تتقلب فيه القلوب والأبصار " يعني يتردد فيه القلوب والأبصار في الصدر إن كان كافرا فإنه يبلغ الحناجر من الخوف وإن كان تقيا مؤمنا تقول الملائكة " هذا يومكم الذي كنتم توعدون " [ الأنبياء : 103 ] فيتبين ما في قلبه في البصر وإن كان حزنا فحزن وإن كان سرورا فسرور ويقال " تتقلب " يعني تتحول حالا بعد حال مرة يعرفون ومرة لا يعرفون ويقال " تنقلب " يعني تتحول عما كانت عليه في الدنيا من الشك حين رأى بالمعاينة فيتحول قلبه وبصره من الشك إلى اليقين
ثم قال عز وجل " ليجزيهم الله أحسن ما عملوا " يعني يجزيهم بإحسانهم ويقال يجزيهم أحسن وأفضل من أعمالهم وهو الجنة ويقال ويجزيهم أكثر من أعمالهم بكل حسنة عشرة وأضعافا مضاعفة ويقال يجزيه ويغفر له بأحسن أعماله ويبقى سائر أعماله فضلا
ثم قال " ويزيدهم من فضله " أي يرزقهم من عطائه " والله يرزق من يشاء بغير حساب " أي يرزقه ولا يحاسبه ويقال يرزقه رزقا لا يدرك حسابه ويقال ليس أحد يحاسبه فيما يعطي ويقال " بغير حساب " أي من غير حساب أي من حيث لا يحتسب
سورة النور 39 - 40
ثم ضرب مثلا لعمل الكفار فقال عز وجل " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة " يعني مثل أعمالهم الخبيثة في الآخرة " كسراب بقيعة " يعني كمثل سراب في مفازة ويقال قاع وقيعة وقيعان يعني أرضا مستوية كما يقال صبي وصبية وصبيان " يحسبه الظمآن ماء " يعني العطشان إذا رأى السراب من بعيد يعني يجده ماء " حتى إذا جاءه " يعني فإذا أتاه ليشرب منه " لم يجده شيئا " مما طلبه وأراده فكذلك الكافر يظن أنه يثاب في صدقته وعتقه وسائر أعماله فإذا جاءه يوم القيامة وجده هباء منثورا ولا ثواب له " ووجد الله عنده " أي يوم(2/515)
516
القيامة عند عمله وهذا كما قال " إن ربك لبالمرصاد " [ الفجر : 14 ] يعني مصير الخلائق إليه " فوفاه حسابه " يعني يوفيه ثواب عمله " والله سريع الحساب " فكأنه حاسب ويقال سريع الحفظ ويقال إذا حاسب فحسابه سريع فيحاسبهم جميعا فيظن كل واحد منهم أنه يحاسبه خاصة فلا يشغله حساب أحدهم عن الآخر لأنه لا يحتاج إلى أخذ الحساب ولا يجري فيه الغلط ولا يلتبس عليه ويحفظ على كل صاحب حساب حسابه ليذكره فهذا المثل لأعمال الكفار والتي في ظاهرها طاعة فأخبر أنه لا ثواب لهم بها
ثم ضرب مثلا آخر للكافر فقال عز وجل " أو كظلمات " قال بعضهم الألف زيادة ومعناه وكظلمات يعني ومثلهم أيضا كظلمات ويقال " أو " للتخيير يعني إن شئت فاضرب لهم المثل بالسراب وإن شئت بالظلمات فقال " أو كظلمات " " في بحر لجي " يعني مثل الكفار كمثل من في الظلمات فشبه قلب المؤمن بالقنديل وشبه قلب الكافر بالظلمات يعني كمثل رجل يكون في بحر عميق في ليل كثير الماء " يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات " يعني يكون في ظلمة البحر وظلمة الليل وظلمة السحاب فكذلك الكافر في ظلمة الكفر وظلمة الجهل وظلمة الجور والظلم ويقال " يغشاه موج من فوقه موج " يعني المعاصي ومن فوقه العداوة والحسد والبغضاء و " من فوقه سحاب " يعني الخذلان من الله تعالى
ثم قال " ظلمات بعضها فوق بعض " كما قال للمؤمن " نور على نور " فيكون للكافر ظلمة على ظلمة قوله ظلمة وعمله ظلمة وإعتقاده ظلمة وقال أبو العالية يتقلب في خمس من الظلم كلامه ظلمة وعلمه ظلمة ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ومصيره إلى الظلمة وهو النار ويقال شبه قلب الكافر بالبحر العميق وشبه أعضاءه بالأمواج الثلاث طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم فهذه الظلمات الثلاث تمنعه عن الحق
ثم قال " إذا أخرج يده لم يكد يراها " يعني من شدة الظلمة فإذا أبرز يده لم يكد يراها من شدة الظلمة يعني لم يكن شيء أقرب إليه من نفسه فلم ير نفسه فكذلك الكافر لم ينظر إلى القبر ولم يتفكر في أمر نفسه أيضا كقوله عز وجل " وفي أنفسكم أفلا تبصرون " [ الذاريات : 21 ]
ثم قال " ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور " يعني من لم يكرمه الله بالهدى فما له من مكرم بالمعرفة قرأ إبن كثير " ظلمات " بكسر التاء والتنوين فكأنه يجعله بمنزلة قوله " كظلمات " وقرأ الباقون بالضم على معنى الإبتداء وقرئ في الشاذ سحاب ظلمات على معنى الإضافة
سورة النور 41 - 44(2/516)
517
قوله عز وجل " ألم تر أن الله يسبح له " يعني يصلي له ويذكر له ويقال يخضع له " من في السموات والأرض " أي من في السموات من الملائكة ومن في الأرض من الخلق " والطير صافات " يعني مفتوحة الأجنحة وأصل الصف هو البسط ولهذا يسمى اللحم القديد صفيفا لأنه يبسط " كل قد علم صلاته وتسبيحه " يعني كل واحد من المسبحين يعلم كيف يصلي وكيف يسبح " والله عليم بما يفعلون " يعني والله يعلم عمل كل عامل فيجازيهم بأعمالهم إلا أنه لا يعجل بعقوبة المذنبين والكافرين لأنه قادر عليهم
قوله تعالى " ولله ملك السموات والأرض " وهذا معنى قوله ولله ملك السموات قال مجاهد في قوله " كل قد علم صلاته وتسبيحه " الصلاة للإنسان والتسبيح لما سوى ذلك من خلقه ثم قال " وإلى الله المصير " يعني إليه المرجع في الآخرة
قوله عز وجل " ألم تر أن الله يزجي سحابا " يعني يسوق سحابا " ثم يؤلف بينه " يعني يجمع بينه " ثم يجعله ركاما " يعني قطعا قطعا ويقال يجعل بعضها فوق بعض " فترى الودق " يعني المطر " يخرج من خلاله " يعني من وسط السحاب قرأ إبن عباس يخرج خلاله وقراءة العامة " من خلاله " وهي جمع خلل " وينزل من السماء من جبال فيها من برد " يعني من جبال في السماء قال مقاتل روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال جبال السماء أكثر من جبال الأرض فيها من برد يعني في الجبال من برد ويقال وهو الجبال من البرد أي ينزل من السماء من جبال البرد وروي عن إبن عباس أنه قال البرد هو الثلج وما رأيته ويقال الجبال عبارة عن الكثرة يعني ينزل الثلج مقدار الجبال كما تقول عند فلان جبال من مال أي مقدار جبال من كثرته ويقال البرد هو الذي له صلابة كهيئة الجمد " فيصيب به من يشاء " يعني البرد يصيب الزرع والإنسان إذا كان في مفازة " ويصرفه عمن يشاء " فلا يصيبه ويقال " يصيب به " يعني يعذب به من يشاء " ويصرفه عمن يشاء " فلا يعذبه " يكاد سنا برقه " يعني ضوء برقه " يذهب بالأبصار " يعني من شدة نوره قرأ أبو جعفر المدني " يذهب " بضم الياء وكسر الهاء وقراءة العامة " يذهب " بنصب الياء والهاء
ثم قال " يقلب الله الليل والنهار " يعني يذهب الله بالليل ويجيء بالنهار ويقال ينقص من النهار ويزيد من الليل " إن في ذلك " يعني في تقلبهما وإختلاف ألوانهما " لعبرة "(2/517)
518
يعني لآية " لأولي الأبصار " يعني لذوي العقول والفهم في الدين وسئل سعيد بن المسيب أي العبادة أفضل فقال التفكير في خلقه والتفقه في دينه ويقال العبر بالوقار والمعتبر بمثقال
سورة النور 45 - 46
قوله عز وجل " والله خلق كل دابة من ماء " يعني من ماء الذكر قرأ حمزة والكسائي " خالق كل دابة " على معنى الإضافة وقرأ الباقون " خلق كل دابة " على معنى فعل الماضي ويقال هذا معطوف على ما سبق " يهدي الله لنوره من يشاء " فكأنه يقول يهدي من يشاء ويضل من يشاء كما أنه يخلق ما يشاء من الخلق ألوانا
ثم وصف الخلق فقال تعالى " فمنهم من يمشي على بطنه " مثل الحية ونحو ذلك فإن قيل لا يقال للدواب منهم وأن هذا اللفظ يستعمل للعقلاء قيل له الدابة إسم عام وهو يقع على ذي روح فيقع ذلك على العقلاء وغيرهم فإذا كان هذا اللفظ يقع على العقلاء وغيرهم فذكر بلفظ العقلاء ولو قال فمنه كان جائزا وينصرف إلى قوله " كل " ولكنه لم يقرأ وإنما قال " يمشي " على وجه المجاز وإن كان حقيقته المشي بالرجل لأنه جمعه مع الذي يمشي على وجه التبع
ثم قال " ومنهم من يمشي على رجلين " مثل الإنسان ونحوه " ومنهم من يمشي على أربع " أي على أربع قوائم مثل الدواب وأشباهها فإن قيل إيش الحكمة في خلق كل شيء من الماء قيل له لأن الخلق من الماء أعجب لأنه ليس شيء من الأشياء أشد طوعا من الماء لأن الإنسان لو أراد أن يمسكه بيده أو أراد أن يبني عليه أو يتخذ منه شيئا لا يمكنه والناس يتخذون من سائر الأشياء أنواع الأشياء قيل فالله تعالى أخبر أنه يخلق من الماء ألوانا من الخلق وهو قادر على كل شيء
ثم قال " يخلق الله ما يشاء " يعني كما يشاء وكيف يشاء " إن الله على كل شيء " من الخلق وخلقه " قدير " أي قادر
قوله عز وجل " لقد أنزلنا آيات مبينات " قرأ أبو عمرو وعاصم ونافع وإبن كثير في رواية أبي بكر " مبينات " بنصب الياء في جميع القرآن يعني مفصلات وقرأ حمزة والكسائي وإبن عامر " مبينات " بكسر الياء يعني يبين للناس دينهم " والله يهدي من يشاء " أي يرشد من كان أهلا لذلك " إلى صراط مستقيم " يعني إلى دين مستقيم وهو دين الإسلام(2/518)
519
سورة النور 47 - 51
قوله عز وجل " ويقولون آمنا بالله وبالرسول " قال مقاتل نزلت في شأن بشر المنافق وذلك أن رجلا من اليهود كانت بينه وبين بشر خصومة وأن اليهودي دعا بشرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال بشر نتحاكم إلى كعب بن الأشرف فإن محمدا يحيف علينا فنزل " وإذا دعوا إلى الله ورسوله " وقال في رواية الكلبي إن عثمان بن عفان إشترى من علي رضي الله عنهما أرضا فندمه قومه وقالوا عمدت إلى أرض سبخة لا ينالها الماء فاشتريتها ردها عليه فقال قد إبتعتها منه فقالوا ردها فلم يزالوا به حتى أتاه فقال إقبض مني أرضك فإني قد إشتريتها ولم أرضها لأنه لا ينالها الماء فقال له علي رضي الله عنه بل إشتريتها ورضيتها وقبضتها مني وأنت تعرفها وتعلم ما هي فلا أقبلها منك قال فدعا علي عثمان رضي الله عنهما أن يخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال قوم عثمان لا تخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن خاصمته إليه قضى له عليك وهو إبن عمه وأكرم عليه منك ثم إختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لعلي على عثمان فنزل في قوم عثمان رضي الله عنه " ويقولون آمنا بالله وبالرسول " يعني صدقنا بالله وبالرسول " وأطعنا " " ثم يتولى فريق منهم " أي يعرض عن طاعتهما طائفة منهم " من بعد ذلك " الإقرار " وما أولئك بالمؤمنين " يعني بمصدقين
قال بعضهم هذا التفسير الذي ذكره الكلبي غير صحيح لأن قوم عثمان كانوا مؤمنين من الذين هاجروا معه إلى المدينة وقد ذكر أنهم ليسوا بمؤمنين وقال بعضهم هذا صحيح لأن في قوم عثمان بعضهم منافقين مبغضين لبني هاشم لعداوة كانت بينهم في الجاهلية وكان عثمان يميل إلى قرابته ولا يعرف نفاقهم ويقال " وما أولئك بالمؤمنين " يعني ليس عملهم عمل المؤمنين المخلصين
ثم قال عز وجل " وإذا دعوا إلى الله ورسوله " يعني إلى حكم الله ورسوله ويقال إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم " ليحكم بينهم " يعني ليقضي بينهم بالقرآن " إذا فريق منهم معرضون " يعني طائفة منهم معرضون عن طاعة الله ورسوله
قوله عز وجل " وإن يكن لهم الحق " يعني القضاء " يأتوا إليه مذعنين " يعني خاضعين مسرعين طائعين قال الزجاج الإذعان الإسراع مع الطاعة(2/519)
520
ثم قال " أفي قلوبهم مرض " أي شك ونفاق " أم إرتابوا " يعني شكوا في القرآن " أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله " يعني يجور الله عليهم ورسوله قال بعضهم اللفظ لفظ الإستفهام والمراد به الإفهام فكأن الله تعالى يعلمنا بأن في قلوبهم مرضا وأنهم شكوا ونافقوا ويقال في قلوبهم مرض يعني بل في قلوبهم مرض أم " إرتابوا " بل شكوا ونافقوا
قال الله تعالى " بل أولئك هم الظالمون " يعني هم الظالمون لا النبي صلى الله عليه وسلم
ثم قال عز وجل " إنما كان قول المؤمنين " يعني المصدقين " إذا دعوا إلى الله ورسوله " يعني إلى كتاب الله ورسوله يعني أمر رسوله " ليحكم بينهم " يعني ليقضي بينهم بالقرآن " أن يقولوا سمعنا وأطعنا " يعني سمعنا قول النبي صلى الله عليه وسلم وأطعنا أمره فإن فعلوا ذلك " وأولئك هم المفلحون " يعني الناجين الفائزين
سورة النور 52 - 54
ثم قال عز وجل " ومن يطع الله ورسوله " يعني يطع الله في الفرائض ويطع الرسول في السنن " ويخش الله " فيما مضى " ويتقه " فيما يستقبل " فأولئك هم الفائزون " أي الناجون وروي عن إبن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى " ومن يطع الله ورسوله " فيوحده " ورسوله " فيصدقه بالرسالة يخشى الله فيما مضى من ذنوبه ويتقه فيما بقي من عمره " فأولئك " هم الفائزون يعني الناجين من العذاب آمنين عند سكرات الموت قال فلما نزلت هذه الآية أقبل عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله إن شئت لأخرجن من أرضي ولأدفعنها إليه وحلف على ذلك فمدحه الله تعالى بذلك فقال عز وجل " وأقسموا بالله جهد أيمانهم " يعني حلفوا بالله وإذا حلفوا بالله كان ذلك جهد اليمين " لئن أمرتهم ليخرجن " من الأموال قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم " قل لا تقسموا " يعني لا تحلفوا " طاعة معروفة " يعني هذه منكم طاعة معروفة وقال القتبي ومعناه هذه طاعة معروفة لا طاعة نفاق فكأن فيه مضمرا لأن بعض الناس منافقون فأخبر أن هذه طاعة ليس فيها نفاق ثم قال " إن الله خبير بما تعملون " يعني في السر والعلانية
ثم قال عز وجل " قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " يعني أطيعوا الله في الفرائض وأطيعوا الرسول في السنن " فإن تولوا " يعني أعرضوا عن الطاعة لله والرسول " فإنما عليه ما حمل " يعني ما أمر بتبليغ الرسالة وليس عليه من وزركم شيء " وعليكم ما حملتم " يعني(2/520)
521
ما أمرتم والإثم عليكم إذا تركتم الإجابة " وإن تطيعوه " يعني النبي صلى الله عليه وسلم " تهتدوا " من الضلالة
ثم قال " وما على الرسول إلا البلاغ المبين " وفي الآية مضمر فكأنه يقول وإن تعصوه " وما على الرسول إلا البلاغ المبين " يعني ليس عليه إلا التبليغ
سورة النور 55
قوله عز وجل " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات " وذلك أن كفار مكة لما صدوا المسلمين عن مكة عام الحديبية فقال المسلمون لو فتح الله تعالى مكة ودخلناها آمنين فنزل قوله " ليستخلفنهم في الأرض " يعني لينزلنهم في أرض مكة " كما إستخلف الذين من قبلهم " يعني من قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل وغيرهم " وليمكنن لهم " يعني ليظهرن لهم " دينهم " الإسلام " الذي إرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم " من كفار " أمنا " من الكفار " يعبدونني " يعني لكي يعبدوني " لا يشركون بي شيئا " ويقال معناه يعبدونني لا يشركون بي شيئا أي يظهر عبادة الله تعالى ويبطل الشرك وروى الربيع بن أنس عن أبي العالية قال كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة زمانا نحوا من عشر سنين وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال حتى إذا أمروا بالهجرة إلى المدينة فقدموا المدينة أمرهم الله تعالى بالقتال فكانوا بها خائفين يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح فقال رجل من أصحابه يا رسول الله نحن أبدا خائفون هل يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع فيه السلاح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملإ العظيم محتبيا ليست فيه حديدة ونزلت هذه الآية " وعد الله الذين آمنوا منكم " الآية
ويقال نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم " ليستخلفنهم " يعني يكونوا خلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا بعد واحد
ثم قال " ومن كفر بعد ذلك " يعني بعد الأمن والتمكين " فأولئك هم الفاسقون " يعني العاصين قرأ عاصم في رواية أبي بكر " كما إستخلف " بضم التاء وكسر اللام على فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون بنصب التاء واللام لأنه سبق ذكر الله تعالى وقرأ إبن كثير وعاصم في رواية أبي بكر " وليبدلنهم " بالتخفيف وقرأ الباقون بتشديد الدال من بدل يبدل والأول من أبدل يبدل(2/521)
522
سورة النور 56 - 59
قوله عز وجل " وأقيموا الصلاة " يعني أقروا بها وأتموها " وآتوا الزكاة " يعني أقروا بها وأعطوها " وأطيعوا الرسول " فيما يأمركم به من التوحيد والطاعة " لعلكم ترحمون " فلا تعذبون
قوله عز وجل " لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض " يعني فائتين ويقال سابقين أمر الله تعالى ويقال معناه لا تظن أنهم يهربون منا وأنهم يفوتون من عذابنا " ومأواهم النار وبئس المصير " يعني صاروا إليه وبئس المرجع قرأ حمزة وإبن عامر " لا يحسبن " بالياء ونصب السين وقرأ الباقون بالتاء بلفظ المخاطبة وكسر السين
قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا " قال إبن عباس وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاما من الأنصار يقال له مدلج إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ظهيرة ليدعوه فانطلق الغلام ليدعوه فوجده نائما قد أغلق الباب فأخبر الغلام أنه في هذا البيت فقرع الباب على عمر فلم يستيقظ فدخل فاستيقظ عمر فجلس وانكشف منه شيء فرآه الغلام فعرف عمر أنه قد رآه فقال عمر وددت أن الله تعالى نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا أن يدخلوا علينا هذه الساعة إلا بإذن ثم إنطلق معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " يعني العبيد والإماء والولائد " والذين لم يبلغوا الحلم منكم " يعني وليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم يعني الإحتلام وهم الأحرار من الغلمان " ثلاث مرات " لأنها ساعات غرة وغفلة ثم بين الساعات الثلاث فقال " من قبل صلاة الفجر " لأن ذلك وقت لباس الثياب " وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة " يعني وقت القيلولة " ومن بعد صلاة العشاء " وذلك وقت النوم " ثلاث عورات لكم " يعني ثلاث ساعات وقت غرة وغفلة وهن أوقات التجرد وظهور العورة
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية واحدة " ثلاث عورات " بنصب الثاء وقرأ الباقون بالضم فمن قرأ بالنصب فمعناه ليستأذنكم ثلاث عورات أي ثلاث ساعات ومن قرأ(2/522)
523
بالضم فمعناه هي ثلاث عورات فيكون خبرا عن الأوقات الثلاثة
وروى عكرمة أن رجلين من أهل العراق سألا إبن عباس عن قوله " ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات " فقال إبن عباس إن الله تعالى ستير يحب الستر وكان الناس لم يكن لهم ستور على أبوابهم ولا حجاب في بيوتهم فربما فاجأ الرجل ولده أو خادمه أو يتيم في حجره وهو مع أهله فأمرهم الله تعالى أن يستأذنوا في ثلاث ساعات التي سمى الله تعالى ثم جاء الله باليسر وبسط الرزق عليهم فاتخذوا الستور واتخذوا الحجاب فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الإستذان الذي قد أمروا به وقد قيل إن فيه دليلا أن ذلك الحكم إذا ثبت فإذا زال المعنى زال الحكم وقال مجاهد الإستئذان هو التنحنح
ثم قال " ليس عليكم ولا عليهم " أي ليس عليكم يا معشر المؤمنين ولا عليهم يعني الخدم " جناح بعدهن " يعني ما ثم بعد الساعات الثلاث " طوافون عليكم " يعني يتقلبون فيكم ليلا ونهارا يدخلون عليكم بغير إستئذان في الخدمة " بعضكم على بعض " يعني يدخل بعضكم على بعض بغير إذن " كذلك يبين الله لكم الآيات " يعني أمره ونهيه في الإستئذان " والله عليم " بصلاح الناس " حكيم " حكم بالإستئذان
قوله عز وجل " وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم " يعني الإحتلام " فليستأذنوا كما إستأذن الذين من قبلهم " يعني الكبار من ولد الرجل وأقربائه معناه فليستأذنوا في كل وقت كما إستأذن الذين من قبلكم يعني من الرجال " كذلك يبين الله لكم آياته " أي أمره ونهيه في كل وقت " والله عليم " بصلاحكم " حكيم " حكم بالإستذان
سورة النور 60
قوله " والقواعد من النساء " يعني الآيسات من الحيض والقاعدة المرأة التي قعدت عن الزوج وعن الحيض والولد والجماعة قواعد " اللاتي لا يرجون نكاحا " يعني لا يحتجن إلى الزوج ولا يرغب فيهن " فليس عليهن جناح " أي مأثم " أن يضعن ثيابهن " يعني جلبابهن ويخرجن بغير جلباب " غير متبرجات بزينة " والتبرج إظهار الزينة يعني لا يؤذن بوضع الجلباب أن ترى زينتهن " وأن يستعففن " يعني يتعففن فلا يضعن الجلباب " خير لهن " من الوضع " والله سميع " لمقالتهن يعني العجوز إذا وضعت جلبابها وتبدي زينتها وتقول من يرغب في " عليم " بنيتها وبفعلها ويقال " سميع عليم " بجميع ما سبق في هذه السورة ويقال " سميع عليم " إنصرف إلى ما بعده فيما يتحرجون عن الأكل(2/523)
524
سورة النور 61
قوله عز وجل " ليس على الأعمى حرج " قال في رواية الكلبي كانت الأنصار يتنزهون عن الأكل مع الأعمى والمريض والأعرج وقالوا إن هؤلاء لا يقدرون أن يأكلوا مثل ما نأكل فنزل " ليس على الأعمى حرج " يعني ليس على من أكل مع الأعمى حرج " ولا على " من أكل مع " الأعرج حرج ولا على " من أكل مع " المريض حرج " إذا أنصف في مؤاكلته وقال بعضهم هذا التفسير خطأ وهو غير محتمل في اللغة لأنه أضاف الحرج إلى الأعمى لا إلى من أكل معه وقد قيل إن هذا صحيح لأنه ذكر الأعمى وأراد به الأكل مع الأعمى كقوله " وأشربوا في قلوبهم العجل " [ البقرة : 93 ] أي حب العجل قال وكما قال " واسأل القرية " وللآية وجه آخر وهو أن الأعمى كان يتحرج عن الأكل مع الناس مخافة أن يأكل أكثر منهم وهو لا يشعر والأعرج أيضا يقول إني أحتاج لزمانتي أن يوسع لي في المجلس فيكون عليهم مضرة والمريض يقول الناس يتأذون مني لمرضي ويقذرونني فيفسد عليهم الطعام فنزل " ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج " يعني لا بأس بأن يأكلوا مع الناس ولا مأثم عليهم ولها وجه آخر وهو ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان الناس يخرجون إلى الغزو ويدفعون مفاتيحهم إلى الزمنى والمرضى ويقولون قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في منازلنا وكانوا يتورعون منازلهم حتى نزلت هذه الآية وإلى هذا يذهب الزهري رضي الله عنه
وذكر أيضا أن مالك بن زيد وكان صديقه الحارث بن عمرو خرج غازيا وخلف مالكا في أهله وماله وولده فلما رجع الحارث رأى مالكا متغيرا لونه فقال ما أصابك فقال لم يكن عندي شيء آكله فجهدت من الشدة والجوع ولم يكن يحل لي أن آكل شيئا من مالك فنزلت هذه الآية إلى قوله " أو صديقكم "
ثم قال تعالى " ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم " أي لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم أو من بيوت عيالكم وأزواجكم ويقال " من بيوتكم " يعني من بيوت بعضكم بعضا وذلك أنه لما نزل قوله " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " إمتنع الناس من أن يأكل(2/524)
525
بعضهم من طعام بعض فنزلت في ذلك " ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم " يعني من بيوت بعضكم بعضا " أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم " يعني لا بأس أن يأكل من بيت هؤلاء بغير إذنهم لأنه يجري بينهما من الإنبساط ما يغني عن الإذن
ثم قال " أو ما ملكتم مفاتحه " أي خزائنه يعني عبيدكم وإماءكم إذا كان له عبد مأذون فلا بأس أن يأكل من ماله لأن ذلك من مال مولاه ويقال يعني حافظ البيوت فلا بأس أن يأكل مقدار حاجته
ثم قال " وصديقكم " يعني لا جناح على الصديق أن يأكل من بيت صديقه إذا كان بينهما إنبساط وروي عن قتادة أنه قال لو دخلت على صديق ثم أكلت من طعامه بغير إذنه كان حلالا
ثم قال " ليس عليكم أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا " يعني جماعة أو متفرقين في بيت هؤلاء ويقال إنهم كانوا يمتنعون عن الأكل وحده وذكر في قوله تعالى " إن الإنسان لربه لكنود " [ العاديات : 6 ] يعني الذي يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده فرخص في هذه الآية لأن الإنسان لا يمكنه أن يطلب في كل مرة أحدا يأكل معه وروى معمر عن قتادة قال نزلت الآية في حي من العرب كان الرجل منهم لا يأكل طعامه وحده وكان يحمله بعض يوم حتى يجد من يأكل معه فنزل " ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا "
ثم قال " فإذا دخلتم بيوتا " قال مقاتل يعني دخلتم بيوت المسلمين " فسلموا على أنفسكم " يعني بعضكم على بعض كما قال " ولا تقتلوا أنفسكم " [ النساء : 29 ] يعني بعضكم بعضا وروى عمرو بن دينار عن إبن عباس " فإذا دخلتم بيوتا " قال هو المسجد " فسلموا على أنفسكم " يعني فقولوا السلام علينا من ربنا " تحية من عند الله " يعني السلام " مباركة " بالأجر " طيبة " بالمغفرة وقال إبراهيم النخعي " فسلموا على أنفسكم " إذا كان في البيت إنسان يقول السلام عليكم وإذا لم يكن فيه أحد يقول السلام علينا من ربنا وعلى عباد الله الصالحين وهكذا قال مجاهد وقال الحسن والكلبي " فسلموا على أنفسكم " يعني بعضكم على بعض وروى أبو ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أبخل الناس الذي يبخل بالسلام ويقال إن معنى السلام إذا قال السلام عليكم يعني السلامة لكم مني فكأنه آمنهم من شر نفسه ويقال يعني حفظكم الله من الآفات ويقال السلام هو الله تعالى فكأنه يقول الله حفيظ عليكم ومطلع على ضمائركم فإن كنتم في خير فزيدوا وإن كنتم في شر فانزجروا " تحية من عند الله " وأصل التحية هو البقاء والحياة كقوله حياك الله وإنما صار نصبا على المصدر(2/525)
526
ثم قال " كذلك يبين الله لكم الآيات " يعني أمره ونهيه في أمر الطعام والشراب " لعلكم تعقلون " أي لكي تعقلوا وتفهموا وتعملوا به
سورة النور 62 - 64
قوله عز وجل " إنما المؤمنون " يعني المصدقين " الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع " يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم على أمر جمعهم لتدبير في أمر جهاد أو في أمر من أمور الله تعالى فيه طاعة " لم يذهبوا " يعني لم يفارقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم " حتى يستأذنوه "
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمعهم يوم الجمعة فيستشيرهم في أمر الغزو فكان يثقل على بعضهم المقام فيخرجون بغير إذنه وقال بعضهم نزلت في يوم الخندق وكان بعض الناس يرجعون إلى منازلهم بغير إذن النبي صلى الله عليه وسلم وتركوه وأصحابه فنهاهم الله تعالى عن ذلك وأمرهم بأن لا يرجعوا إلا بإذنه عليه السلام وكذلك إذا خرجوا إلى الغزو لا ينبغي لأحد أن يرجع بغير إذنه
وفي الآية بيان حفظ الأدب بأن الإمام إذا جمع الناس لتدبير أمر من أمور المسلمين ينبغي أن لا يرجعوا إلا بإذنه وكذلك إذا خرجوا إلى الغزو لا ينبغي لأحد أن يرجع إلا بإذنه ولا يخالف أمر السرية وروي عن مكحول أنه سئل عن هذه الآية وعنده عطاء قال هذا في الجمعة وفي الزحف وفي كل أمر جامع
ثم قال تعالى " إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله " وليسوا بمنافقين وكان المؤمنون بعد نزول هذه الآية لم يرجعوا حتى يستأذنوا وأما المنافقون فيرجعون بغير إذنه
ثم قال " فإذا إستأذنوك لبعض شأنهم " يعني لبعض أمورهم وحوائجهم " فأذن لمن شئت منهم " ولا تأذن لمن شئت لأن بعض المنافقين لم يكن لهم في الرجوع حاجة فإن أرادوا أن يرجعوا فلا تأذن لهم وأذن للمؤمنين وقال مقاتل نزلت في شأن عثمان حين إستأذن في غزوة تبوك بالرجوع إلى أهله فأذن له ثم قال " واستغفر لهم الله " أي فيما إستأذنوك من الرجوع بغير حاجة لهم " إن الله غفور " لمن تاب " رحيم " به(2/526)
527
ثم قال عز وجل " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم " يعني لا تدعوا محمدا بإسمه صلى الله عليه وسلم " كدعاء بعضكم بعضا " ولكن وقروه وعظموه وقولوا يا رسول الله ويا نبي الله ويا أبا القاسم وفي الآية بيان توقير معلم الخير لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معلم الخير فأمر الله عز وجل بتوقيره وتعظيمه وفيه معرفة حق الأستاذ وفيه معرفة أهل الفضل
ثم ذكر المنافقين فقال تعالى " قد يعلم الله " يعني يرى الله " الذين يتسللون منكم " يعني يخرجون من المسجد " لواذا " يلوذ بعضهم ببعض وذلك أن المنافقين كان يشق عليهم المقام هناك يوم الجمعة وغيره فيتسللون من بين القوم ويلوذ الرجل بالرجل أو بالسارية لئلا يراه النبي صلى الله عليه وسلم حتى يخرج من المسجد يقال لاذ يلوذ إذا عاذ وامتنع بشيء ويقال معنى لواذا هنا معنى الخلاف يعني يخالفون خلافا فخوفهم الله تعالى عقوبته فقال " فليحذر الذين يخالفون عن أمره " يعني عن أمر الله تعالى ويقال عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال " عن " زيادة في الكلام للصلة ومعناه يخالفون أمره إلى غير ما أمرهم به " أن تصيبهم فتنة " يعني الكفر لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب فمن تركه على وجه الجحود كفر ويقال " فتنة " يعني بلية في الدنيا ويقال فساد في القلب " أو يصيبهم عذاب أليم " يعني يصيبهم عذابا عظيما في الآخرة ويقال القتل بالسيف ويقال يجعل حلاوة الكفر في قلبه وقوله " أو " على معنى الإفهام لا على وجه الشك والتخيير
ثم قال عز وجل " ألا إن لله ما في السموات والأرض " من الخلق عبيده وإماؤه وفي مملكته " قد يعلم ما أنتم عليه " من الإستقامة في الإيمان والنفاق وغير ذلك ويقال " قد يعلم ما أنتم عليه " من خير أو شر فيجازيكم بذلك " ويوم يرجعون إليه " في الآخرة " فينبئهم بما عملوا " من خير أو شر فيجازيهم بذلك " والله بكل شيء عليم " من أعمالهم وأقوالهم وبما في أنفسهم وروي عن الأعمش عن سفيان بن سلمة قال شهدت إبن عباس ولي الموسم وقرأ سورة النور على المنبر وفسرها فلو سمعتها الروم لأسلمت وقال عمر رضي الله تعالى عنه تعلموا سورة براءة وعلموا نساءكم سورة النور والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(2/527)
528
سورة الفرقان
مكية وهي سبعون وسبع آية
سورة الفرقان 1 - 3
قوله الله سبحانه وتعالى " تبارك " قال إبن عباس رضي الله عنه يعني تعالى وتعظم ويقال تفاعل من البركة وهذه لفظة مخصوصة ولا يقال يتبارك كما يقال يتعالى ولا يقال متبارك كما يقال متعال ويقال " تبارك " أي ذو بركة والبركة هي كثرة الخير ويقال أصله من بروك الإبل يقال للواحد بارك وللجماعة برك وكان الإنسان إذا كان له إبل كثيرة وقد بركهن على الباب يقولون فلان ذو بركة ويقولون للذي كان له إبل تحمل إليه الأموال من بلاد أخر فلان ذو بركة فصار ذلك أصلا حتى أنه لو كان له مال سوى الإبل لا يقال فلان ذو بركة قال الله تعالى " تبارك " أي ذو البركة ويقال أصله من الدوام ويقال بارك في موضوع إذا دام فيه ويقال معناه البركة في إسمه وفي الذي ذكر عليه إسمه
ثم قال " الذي نزل الفرقان " يعني أنزل جبريل عليه السلام بالقرآن والفرقان هو المخرج من الشبهات " على عبده " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " ليكون للعالمين نذيرا " يعني ليكون القرآن نذيرا للإنس والجن ويقال يعني النبي صلى الله عليه وسلم ويقال يعني الله تبارك وتعالى " للعالمين " وأراد ها هنا جميع الخلق وقد يذكر العام ويراد به الخاص من الناس كقوله عز وجل " وأني فضلتكم على العالمين " [ البقرة : 47 - 122 ] أي على عالمي زمانهم ويذكر ويراد به جميع الخلائق كقوله " رب العالمين " [ الفاتحة : 2 ]
ثم قال عز وجل " الذي له ملك السموات والأرض " يعني خزائن السموات والأرض ويقال له نفاذ الأمر في السموات والأرض " ولم يتخذ ولدا " ليورثه ملكه " ولم يكن له شريك في الملك " فينازعه في عظمته " وخلق كل شيء " كما ينبغي أن يخلقهم " فقدره تقديرا " يعني بين الصلاح في كل شيء وجعله مقدرا معلوما ويقال كل شيء خلقه من الخلق فقدره تقديرا أي قدر لكل ذكر وأنثى(2/528)
529
قوله عز وجل " واتخذوا من دونه آلهة " يعني تركوا عبادة الله الذي خلق هذه الأشياء وعبدوا غيره " لا يخلقون شيئا " يعني عبدوا شيئا لا يقدر أن يخلق ذبابا ولا غيره " وهم يخلقون " يتخذونها بأيديهم " ولا يملكون لأنفسهم ضرا " أي لا تقدر الآلهة أن تمتنع ممن أراد بها سوءا " ولا نفعا " أي لا تقدر أن تسوق إلى نفسها خيرا ويقال لا يملكون دفع مضرة ولا جر منفعة " ولا يملكون موتا " يعني لا يقدرون أن يميتوا أحدا " ولا حياة " أي ولا يحيون أحدا " ولا نشورا " يعني بعث الأموات ويقال " ولا يملكون موتا " يعني الموت الذي كان قبل أن يخلقوا " ولا حياة " يعني أن يزيدوا في الأجل " ولا نشورا " بعد الموت ويقال " ولا حياة " يعني أن يبقوا أحدا " ولا نشورا " يعني أن يحيوه بعد الموت وإنما ذكر الأصنام بلفظ العقلاء لأن الكفار يجعلونهم بمنزلة العقلاء فخاطبهم بلغتهم
سورة الفرقان 4 - 9
ثم قال عز وجل " وقال الذين كفروا " يعني كفار مكة " إن هذا إلا إفك " يعني ما القرآن إلا كذب " إفتراه " يعني كذبا إختلقه من ذات نفسه " وأعانه عليه آخرون " يعني جبرا ويسارا " فقد جاءوا ظلما وزورا " وقال بعضهم هذا قول الكفار يعني إن الذين أعانوه قد جاءوا ظلما وزورا وقال بعضهم هذا قول الله تعالى ردا على الكفار بقولهم هذا " فقد جاءوا ظلما وزورا " يعني شركا وكذبا " وقالوا أساطير الأولين إكتتبها " يعني أباطيلهم إكتتبها يعني كتبها من جبر ويسار يعني أساطير الأولين " فهي تملى عليه " يعني تقرأ وتملى عليه " بكرة وأصيلا " يعني تقرأ عليه غدوة وعشية
قوله عز وجل " قل " يا محمد " أنزله " يعني القرآن " الذي يعلم السر في السموات والأرض " يعني يعلم السر والعلانية ومعناه لو كان هذا القول من ذات نفسه لعلمه الله تعالى وإذا علمه لعاقبه كما قال تعالى " ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين " [ الحاقة : 44 ] ثم قال " إنه كان غفورا رحيما " فكأنه يقول إرجعوا وتوبوا فإنه كان " غفورا " لمن تاب " رحيما " بالمؤمنين(2/529)
530
قوله عز وجل " وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام " مثل ما نأكل " ويمشي في الأسواق " يعني يتردد في الطريق " لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا " يعني معينا يخبره بما يراد به من الشر " أو يلقى إليه كنز " يعني يعطى له كنز " أو تكون له جنة " يعني بستانا " يأكل منها " وذلك أن كفار قريش إجتمعوا في بيت فبعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم فقال له العاص بن وائل السهمي وقريش معه قد تعلم يا محمد أن لا بلاد أضيق ساحة من بلادنا ولا أقل أنهارا ولا زرعا ولا أشد عيشا فادع ربك أن يسير عنا هذه الجبال حتى تنفسخ لنا بلادنا ثم يفجر لنا فيها أنهارا حتى نعرف فضلك عند ذلك ونراك تمشي في الأسواق معنا تبتغي من يسير العيش فاسأل ربك أن يجعل لك قصورا أو جنانا وليبعث معك ملكا يصدقك فنزل حكاية عن قولهم " أو تكون له جنة يأكل منها " قرأ حمزة والكسائي " نأكل منها " بالنون وقرأ الباقون بالياء
" وقال الظالمون إن تتبعون " يعني ما تطيعون يا أصحاب محمد " إلا رجلا مسحورا " يعني مغلوب العقل ويقال " مسحورا " يعني مخلوقا لأن الذي تكون مخلوقا يكون حياته بالمعالجة بالأكل والشرب فيسمى مسحورا ويقال مسحورا أي سحر به
قوله عز وجل " أنظر كيف ضربوا لك الأمثال " يعني أنظر يا محمد كيف وصفوا لك الأشباه إلى ماذا شبهك قومك بساحر وكاهن وكذاب " فضلوا " عن الهدى ويقال ذهبت حيلتهم وأخطؤوا في المقالة " فلا يستطيعون سبيلا " يعني لا يجدون حيلة ولا حجة على ما قالوا لك ولا مخرجا لتناقض كلامهم حيث قالوا مرة مجنون ومرة ساحر
سورة الفرقان 10 - 14
ثم قال عز وجل " تبارك " وتعالى وقد ذكرناه " الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك " يعني خيرا مما يقول الكفار في الآخرة " جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا " في الجنة ويقال في الدنيا إن شاء أعطاك وروى سفيان عن حبيب بن أبي ثابت قال عن خيثمة قال قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم نعط من قبلك أحدا ولا نعطي من بعدك أحدا ولا ينقص ذلك مما عند الله شيئا وإن شئت جمعناها لك في الآخرة قال صلى الله عليه وسلم بل إجمعها لي في الآخرة فنزل " تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من(2/530)
531
ذلك ) الآية قرأ إبن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر " ويجعل " بضم اللام على معنى خبر الإبتداء وقرأ الباقون بالجزم لأنه جواب الشرط
ثم قال عز وجل " بل كذبوا بالساعة " معناه ولكن كذبوا بالساعة يعني بالقيامة " وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا " يعني هيأنا لمن كذب بالقيامة وقودا وهو نار جهنم " إذا رأتهم " يعني جهنم " من مكان بعيد " يعني من مسيرة خمسمائة سنة ويقال من مسيرة مائة سنة " سمعوا لها " يعني منها " تغيظا " على الكفار " وزفيرا " يعني صوتا كصوت الحمار وقال قوم معناه يسمعون منها تغيظ المعذبين وزفيرهم كما قال " لهم فيها زفير وشهيق " [ هود : 106 ] وقال عامة المفسرين التغيظ والزفير يسمع من النار ألا ترى أنه قال " سمعوا لها " ولم يقل سمعوا منها ولا فيها وقال في آية أخرى " وهي تفور تكاد تميز من الغيظ " [ الملك : 8 ] وروي في الخبر أن جهنم تزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر على وجهه ترعد فرائصهم حتى إن إبراهيم الخليل عليه السلام ليجثو على ركبتيه ويقول يا رب يا رب لا أسألك إلا نفسي
ثم قال عز وجل " وإذا ألقوا منها " يعني فيها " مكانا ضيقا " يعني يضيق عليهم المكان كتضييق الزج من الرمح " مقرنين " يعني مسلسلين في القيود موثقين في الحديد قرنوا مع الشياطين " دعوا هنالك ثبورا " فعند ذلك دعوا بالويل يعني يقولون واهلاكاه فتقول لهم الخزنة " لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا " يعني أدعوا ويلا كثيرا دائما
سورة الفرقان 15 - 16
قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم " قل " يا محمد لكفار مكة " أذلك خير " يعني هذا الذي وصف من العذاب خير " أم جنة الخلد " فإن قيل كيف يقال خير وليس في النار خير قيل له قد يقال على وجه المجاز وإن لم يكن فيه خير والعرب تقول العافية خير من البلاء وإنما خاطبهم بما يتعارفون في كلامهم " التي وعد المتقون " يعني الذين يتقون الشرك والكبائر " كانت لهم جزاء ومصيرا " يعني جزاء بأعمالهم الحسنة ومرجعا إليها
ثم قال عز وجل " لهم فيها ما يشاؤون " يعني يحبون " خالدين " أي دائمين في الجنة " كان على ربك وعدا " منه في الدنيا " مسؤولا " يسأله المتقون ويقال " مسؤولا " يسأل لهم الملائكة عليهم السلام وهو قوله عز وجل " ربنا وأدخلهم جنات عدن " [ غافر : 8 ] ويقال وعدوا على لسان رسلهم وقد سألوا الله عز وجل ذلك وهو قوله " ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك " ويقال وعدا لا خلف فيه لمن سأله(2/531)
532
سورة الفرقان 17 - 19
قوله عز وجل " ويوم نحشرهم " يعني نجمعهم " وما يعبدون " يعني ونحشر ما يعبدون " من دون الله " يعني الأصنام ويقال المسيح وعزير ويقال الملائكة عليهم السلام " فيقول أأنتم أضللتم " يعني أأنتم أمرتم " عبادي هؤلاء " أن يعبدوكم " أم هم ضلوا السبيل " يعني أم هم أخطؤوا الطريق فتبرأت الملائكة والأصنام
قوله تعالى " قالوا سبحانك " أي تنزيها لك " ما كان ينبغي لنا " أي ما يجوز لنا " أن نتخذ من دونك من أولياء " وقرأ الحسن وأبو جعفر المدني أن " نتخذ " بضم النون ونصب الخاء ومعناه ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك إلها فتعبد وقراءة العامة بنصب النون وكسر الخاء يعني ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء فيعبدوننا ويقال معناه ما كان فينا روح نأمرهم بطاعتنا ويقال ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء فنعبدهم فكيف نأمر غيرنا بعبادتنا كقوله تعالى " سبحانك أنت ولينا من دونهم " [ سبأ : 41 ] قرأ إبن كثير وعاصم في رواية حفص " ويوم يحشرهم " بالياء " فيقول " بالياء وقرأ الباقون الأول بالنون والثاني بالياء
ثم قال " ولكن متعتهم وآباءهم " يعني أن هذا كان بكرمك وفضلك لما عصوك لم تمنع عنهم الدنيا حتى إغتروا بذلك وظنوا أنهم على الحق حيث لم يصبهم بلاء ولم تمنع منهم النعمة فذلك قوله " ولكن متعتهم " يعني تركتهم في الدنيا يتمتعون وأجلتهم وآباءهم في المتاع والسعة " حتى نسوا الذكر " يعني تركوا التوحيد والإيمان بالقرآن " وكانوا قوما بورا " أي هلكى فاسدين وأصله الكساد يقال بارت السوق إذا كسدت وقال الكلبي " بورا " يعني هالكين فاسدة قلوبهم غير متقين ولا محسنين
يقول الله تعالى لعبدة الأوثان " فقد كذبوكم بما تقولون " يعني الأصنام ويقال الملائكة " فما يستطيعون صرفا ولا نصرا " يعني لا يستطيع الكفار إنصرافا إلى غير حجتهم التي تكلموا بها ويقال " لا يستطيعون صرفا " أي إنصرافا عن حجتهم " ولا نصرا " يعني لا ينتصرون من آلهتهم حين كذبتهم ويقال لا تقدر الأصنام ولا الملائكة صرف العذاب عنهم " ولا نصرا " يعني لا يمنعونهم منه ويقال الصرف الحيلة ويقال لا يقبل منهم فدية أن يصرفوا عن أنفسهم بالفدية(2/532)
533
قرأ عاصم في رواية حفص " فما تستطيعون " بالتاء على معنى المخاطبة يعني يقال لهم لا تستطيعون صرف ذلك وقرأ الباقون بالياء ومعناه أن الله تعالى يقول للنبي صلى الله عليه وسلم فما يستطيعون صرف ذلك عنهم
ثم قال تعالى " ومن يظلم منكم " يعني يشرك بالله في الدنيا ويقال يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " نذقه عذابا كبيرا " في الآخرة وهو عذاب النار
سورة الفرقان 20
قوله عز وجل " وما أرسلنا قبلك من المرسلين " جوابا لقولهم " ما لهذا الرسول يأكل الطعام " " إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق " يعني كانت الرسل من الآدميين ولم يكونوا من الملائكة عليهم السلام
ثم قال " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون " يقول إبتلينا بعضكم ببعض الفقير بالغني والضعيف بالقوي وذلك أن الشريف إذا رأى الوضيع قد أسلم أنف عن الإسلام وقال أأسلم فأكون مثل هذا فثبت على دينه حمية يقول الله تعالى للشريف " أتصبرون " أن تكونوا شرعا سواء في الدين " وكان ربك بصيرا " يعني عالما بمن يؤمن وبمن لا يؤمن ويقال " جعلنا بعضكم لبعض فتنة " يعني بلية الغني للفقير والقوي للضعيف لأن ضعفاء المسلمين وفقراءهم إذا رأوا الكفار في السعة والغنى يتأذون منهم وكان في ذلك بلية لهم فقال تعالى " أتصبرون " اللفظ لفظ الإستفهام والمراد به الأمر يعني إصبروا كقوله " أفلا يتوبون إلى الله " [ المائدة : 74 ] يعني توبوا إلى الله ويقال أهل النعم بلية لأهل الشدة لأن أهل الشدة إذا رأوا أهل النعمة تنغص عيشهم فأمرهم الله تعالى بالصبر
وذكر عن بعض المتقدمين أنه كان إذا رأى غنيا من الأغنياء يقول نصبر يا رب يريد جوابا لقوله " أتصبرون " ثم قال " وكان ربك بصيرا " يعني عالما بمن يصلح له الغنى والفقر ويقال " وكان ربك بصيرا " يعني عالما بثواب الصابرين
سورة الفرقان 21 - 24
قوله عز وجل " وقال الذين لا يرجون لقاءنا " يعني لا يخافون البعث بعد الموت ويقال لا يرجون الجنة والمغفرة وهم كفار أهل مكة " لولا أنزل علينا الملائكة " يعني هلا(2/533)
534
أنزل علينا الملائكة فيخبروننا بأنك رسول الله إلينا " أو نرى ربنا " فيخبرنا بأنك نبي مرسل قال الله تعالى " لقد إستكبروا في أنفسهم " يعني تعظموا في أنفسهم وأعرضوا عن الإيمان ويقال " لقد إستكبروا في أنفسهم " يعني وضعوا لأنفسهم قدرا ومنزلة حيث أرادوا لأنفسهم الرسل من الملائكة عليهم السلام ورؤية الرب عز وجل " وعتوا عتوا كبيرا " يعني أبو إباء كثيرا ويقال إجترؤوا على الله إجتراء كثيرا وقال أهل اللغة العاتي الذي لا ينفعه الوعظ والنصيحة
ثم أخبر متى يرون الملائكة فقال عز وجل " يوم يرون الملائكة " يعني يوم القيامة " لا بشرى يومئذ للمجرمين " يعني للمشركين وتكون البشارة للمؤمنين
ثم قال " ويقولون حجرا محجورا " يعني تقول لهم الملائكة حراما محرما أن تكون لهم البشرى يومئذ بما يبشر به المتقون وإنما قيل للحرام حجرا لأنه حجر عليه
وقال مجاهد تقول الملائكة حراما محرما أن يدخلوا الجنة وقال الحسن وقتادة هي كلمة كانت العرب تقولها كان الرجل إذا نزلت به الشدة قال حجرا محجورا أي حراما محرما ويقال إن قريشا كانوا إذا إستقبلهم أحد كانوا يقولون له حاجورا حاجورا حتى يعرف أنهم من الحرم فلا يضرونهم وأخبر أنهم كانوا يقولون ذلك ولا ينفعهم
ويقال إن المشركين في الشهر الحرام إذا إستقبلهم أحد يقولون حجرا محجورا ويريدون أن يذكروه أنه في الشهر الحرام وذلك القول لا ينفعهم يوم القيامة وقرأ الحسن " حجرا " بضم الحاء وقراءة العامة بكسر الحاء
ثم قال عز وجل " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل " قال الكلبي يعني عمدنا إلى ما عملوا من عمل لغير الله تعالى ويقال قصدنا إلى ما عملوا من عمل ومعناه نظرنا في أعمالهم ولم نجد فيها خيرا فأبطلناها ولم نجعل لها ثوابا فذلك قوله تعالى " فجعلناه هباء منثورا " قال الضحاك هو الغبار ما لا يستطاع جمعه ولا أخذه بيد وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه الهباء المنثور الذي تراه في شعاع الشمس في الكوة وهذا قول عكرمة والكلبي وقال قتادة هو ما ذرت الريح من حطام الشجر ويقال الغبار الذي يسطع من حوافر الدواب
ثم قال عز وجل " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا " يعني أفضل منزلا " وأحسن مقيلا " قال كانوا يرون أنه يفرغ من حساب الناس إلى مقدار نصف النهار فيقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار
وروي عن إبن مسعود وإبن عباس أنهما قالا لا ينتصف النهار من ذلك اليوم حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار عنيا بذلك يوم القيامة ولأن مقدار ذلك اليوم خمسون ألف سنة وإنما أراد بتلك القيلولة القرار لا النوم لأن لا يكون في الجنة نوم ولا في النار نوم(2/534)
535
سورة الفرقان 25 - 26
قوله عز وجل " ويوم تشقق السماء " قرأ إبن كثير ونافع وإبن عامر " تشقق " بتشديد الشين لأن أصله يتشقق فأدغم إحدى التاءين في الشين وقرأ الباقون بالتخفيف وهذا مثل الإختلاف في قوله " تسألون " فقال " ويوم تشقق السماء بالغمام " يعني عن الغمام والغمام هو شيء مثل السحاب الأبيض فوق سبع سموات كما روي في الخبر أن دعوة المظلوم ترفع فوق الغمام يعني تتشق السماء ويظهر بالغمام " ونزل الملائكة تنزيلا " قرأ إبن كثير " وننزل الملائكة " بنونين ونصب الهاء ومعناه أن الله تعالى يقول " ننزل الملائكة " وقرأ الباقون " ونزل الملائكة " على ما فعل ما لم يسم فاعله معناه أن الله تعالى ينزل ملائكة السموات
وروي في الخبر أنه تشقق سماء الدنيا فينزل ملائكة سماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس ويقول لهم الخلائق أفيكم ربنا يعني هل جاء أمر ربنا بالحساب فيقولون لا وسوف يأتي ثم تنزل ملائكة السماء الثانية بمثلي ما في الأرض من الملائكة والإنس والجن ثم تنزل ملائكة كل سماء على هذا التضعيف حتى تنزل ملائكة سبع سموات عليهم السلام فيظهر الغمام وهو كالسحاب الأبيض فوق سبع سموات ثم ينزل بالأمر بالحساب فذلك قوله " ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا " ويقال الغمام الذي قال في سورة البقرة " في ظلل من الغمام والملائكة "
ثم قال عز وجل " الملك يومئذ الحق للرحمن " وفي الآية تقديم ومعناه الملك يومئذ الحق للرحمن الحق صفة الملك والمعنى الملك الذي هو الملك حقا ملك الرحمن لأنه لا يدعي الملك يومئذ أحد ويقال الحق يومئذ الملك الخالص ويقال يعني الملك الصدق
ثم قال تعالى " وكان يوما على الكافرين عسيرا " يعني شديدا وفي الآية دليل أن ذلك اليوم يكون على المؤمنين يسيرا وهذا كما قال في آية أخرى " على الكافرين غير يسير " [ المدثر : 10 ]
سورة الفرقان 27 - 31
ثم قال تعالى " ويوم يعض الظالم على يديه " يعني عقبة بن أبي معيط وذلك أن عقبة(2/535)
536
كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما وكان يدعو إلى الطعام من أهل مكة من أحب وأراد وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم ويعجبه حديثه فقدم ذات يوم من سفره وصنع طعاما ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعامه فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم الطعام إليه فأبى أن يأكل وقال ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وكان عندهم من العار أن يخرج من عندهم أحدهم قبل أن يأكل شيئا فألح على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل فلم يأكل فشهد بذلك عقبة فأكل النبي صلى الله عليه وسلم من طعامه وكان أبي بن خلف الجمحي غائبا وكان خليله فلما قدم أخبر ذلك فأتاه فقال صبوت يا عقبة فقال لا والله ما صبوت ولكن دخل علي رجل فأبى أن يأكل من طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم فشهدت فطعم فقال له ما أنا بالذي أرضى عنك أبدا حتى تأتيه فتبزق في وجهه وتشتمه وتكذبه ففعل ذلك فنزلت هذه الآية " ويوم يعض الظالم " يعني عقبة " على يديه " يعني على أنامله
وروي عن أنس بن مالك أنه قال يعض عقبة بن أبي معيط على يديه يوم القيامة فيأكل لحم يديه حتى يبلغ العضد من الندامة وهو " يقول يا ليتني إتخذت مع الرسول سبيلا " يعني إتخذت طريق الهدى وكنت معه على الإسلام
قوله عز وجل " يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا " يعني أبي بن خلف ويقال إنما قال " فلانا " ولم يذكر إسمه لحقارته " لقد أضلني عن الذكر " يعني عن الإيمان " بعد إذ جاءني " أي حين جاءني ويقال إنه لم يذكر إسمه لأنه دخل فيه جميع الظالمين لأن من صنع مثل هذا الصنيع يكون هذا جزاؤه وقتل عقبة يوم بدر صبرا وقتل أبي بن خلف يوم أحد ويقال " لم أتخذ فلانا خليلا " يعني الشيطان بدليل قوله عز وجل " وكان الشيطان للإنسان خذولا " يعني يتبرأ منه يوم القيامة ونزل فيه " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو " [ الزخرف : 67 ]
ثم قال عز وجل " وقال الرسول يا رب إن قومي إتخذوا هذا القرآن مهجورا " يعني متروكا لا يؤمنون به ولا يعملون بما فيه وقال القتبي يعني جعلوه كالهذيان ويقال فلان يهجر في منامه أي يهذي وقال مجاهد يهجرون منه بالقول يعني يقولون فيه بالقبيح فبين الشكاية من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرب عز وجل ثم إن الله عز وجل عزاه وأخبره أن الرسل من قبله كانوا يتأذون بقومهم فذلك قوله عز وجل " وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين " يعني من المشركين فيهجرون الكتاب
ثم قال " وكفى بربك هاديا ونصيرا " يعني " هاديا " إلى دينه من كان أهلا لذلك(2/536)
537
ويقال " وكفى بربك " حافظا على الدين " ونصيرا " أي مانعا ويقال " وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا " يعني فرعونا كما جعلنا أبا جهل فرعونك ويقال سلطنا على كل نبي متكبرا ليتكبر عليه ويكذبه ويؤذيه
وروي في الخبر لو أن مؤمنا إرتقى على ذروة جبل لقيض الله تعالى إليه منافقا يؤذيه فيؤجر عليه " وكفى بربك " يعني إكتف بربك واصبر على أذاهم صار " هاديا ونصيرا " نصبا على الحال أي وكفى بربك في حال الهداية والنصرة ويقال الباء زائدة للصلة ومعناه كفى بربك " هاديا " إلى دينه " ونصيرا " أي مانعا
سورة الفرقان 32 - 34
قوله عز وجل " وقال الذين كفروا لولا نزل " يعني هلا " نزل عليه القرآن جملة واحدة " كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى عليهما السلام
يقول الله تعالى " كذلك " يعني هكذا أي أنزلناه متفرقا " لنثبت به فؤادك " يعني لنحفظ ويقوى به قلبك ونفرحك فلما دخل قلبه الغم نزلت عليه آية وآيتان فيفرح بها ويقال " لنثبت به فؤادك " يعني ليكون قبوله على المسلمين أسهل لأنه لو أنزلت الأحكام والشرائع كلها جملة واحدة شق على المسلمين قبولها كما شق على بني إسرائيل ويقال أنزلناه هكذا لنرسخ القرآن في قلبك لكي تحفظ الآية والآيتين ويقال " كذلك " أنزلناه لتحكم عند كل حادثة وعند كل واقعة لتقوي به قلبك في ذلك
ثم قال " ورتلناه ترتيلا " يعني بيناه تبيينا ويقال شيء رتل ورتيل إذا كان مبينا وقال مجاهد " ورتلناه ترتيلا " أي بعضه على أثر بعض
وروى عكرمة عن إبن عباس قال أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ثم أنزل بعد ذلك جبريل عليه السلام به في عشرين سنة وهو قوله تعالى " كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا " " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا " [ الإسراء : 106 ]
ثم قال عز وجل " ولا يأتونك بمثل " يعني لا يخاصمونك بمثل مثل قوله " لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة " [ الفرقان : 32 ] ثم قال " إلا جئناك بالحق " يعني أنزلنا عليك جبريل عليه السلام بالقرآن فتخاصمهم به " وأحسن تفسيرا " يعني وأحسن بيانا لترد به خصومهم ويقال معناه ولا يأتونك بحجة إلا بينا لك في القرآن ما فيه نقض لحجتهم " وأحسن تفسيرا " أي جوابا لهم ويقال ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بما هو أحسن من مثلهم ويقال كل(2/537)
538
نبي إذا قال له قومه قولا كان هو الذي يرد عليهم وأما النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قالوا له شيئا فالله تعالى هو الذي يرد عليهم
ثم أخبرهم بمستقرهم في الآخرة فقال عز وجل " الذين يحشرون على وجوههم " يعني يسحبون على وجوههم " إلى جهنم أولئك شر مكانا " يعني منزلا في النار وضيقا في الدنيا " وأضل سبيلا " يعني أخطأ طريقا وذلك أن كفار مكة قالوا ما كان محمد وأصحابه أولى بهذا الأمر منا والله إنهم لشر خلق الله فأنزل الله عز وجل " الذين يحشرون على وجوههم "
وروي في الخبر أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أصناف فصنف على النجائب وصنف على أرجلهم وصنف على وجوههم فقيل يا رسول الله كيف يحشرون على وجوههم فقال إن الذي أمشاهم على أقدامهم فهو قادر على أن يمشيهم على وجوههم فذلك قوله " أولئك شر مكانا "
سورة الفرقان 35 - 36
قوله عز وجل " ولقد آتينا موسى الكتاب " يعني أعطينا موسى التوراة " وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا " أي معينا " فقلنا إذهبا إلى القوم " يعني به موسى كقوله عز وجل في سورة طه " إذهب أنت وأخوك " [ طه : 42 ] خاطب موسى خاصة إلى القوم يعني فرعون وقومه " الذين كذبوا بآياتنا " أي بتوحيدنا وديننا وقال الكلبي يعني كذبوا بآياتنا التسع وقال بعضهم هذا التفسير خطأ لأن الآيات التسع أعطاها الله تعالى موسى بعد ذهابه إليه وقد قيل معناه إذهبا إلى القوم وهذا الخطاب لموسى عليه السلام ثم قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم " الذين كذبوا بآياتنا " يعني بالرسل وبكتب الأنبياء عليهم السلام الذين قبل موسى ثم قال " فدمرناهم تدميرا " يعني كذبوهما فأهلكناهم إهلاكا ويقال في الآية تقديم قوله تعالى " ولقد آتينا موسى الكتاب " يعني التوراة بعدما هلك فرعون وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا يعني في أول نبوته ويقال " الكتاب " يعني كتابا قبل التوراة
سورة الفرقان 37 - 39
قوله عز وجل " وقوم نوح " يعني واذكر قوم نوح عليه السلام " لما كذبوا الرسل " يعني نوحا وحده كما قال " يا أيها الرسل " [ المؤمنون : 51 ] ولم يكن وقت هذا الخطاب إلا واحد فيجوز أن يذكر الجماعة ويراد به الواحد كما يذكر الواحد ويراد به الجماعة كقوله(2/538)
539
" والعصر إن الإنسان لفي خسر " [ العصر : 1 ] وإنما أراد به الناس ألا ترى أنه إستثنى منه جماعة ويقال إن نوحا كان يدعو قومه إلى الإيمان به وبالأنبياء الذين بعده فلما كذبوه فقد كذبوا جميع الرسل فلهذا قال " لما كذبوا الرسل " " أغرقناهم وجعلناهم للناس آية " يعني عبرة لمن بعدهم " وأعتدنا للظالمين عذابا أليما " أي وجيعا
ثم قال عز وجل " وعادا وثمود وأصحاب الرس " يعني واذكر عادا وثموا وأصحاب الرس وهم قوم قد نزلوا عند بئر كان يسمى الرس فكذبوا رسلهم فأهلكهم الله تعالى ويقال إنما سموا أصحاب الرس لأنهم قتلوا نبيهم ورسولهم في بئر لهم وقال مقاتل يعني البئر التي كان فيها أصحاب ياسين بأنطاكية التي بالشام " وقرونا بين ذلك كثيرا " يعني أهلكنا أمما بين قوم نوح وعاد وبين عاد وثمود إلى أصحاب الرس كثيرا " وكلا ضربنا له الأمثال " يعني بينا لهم العذاب أنه نازل بهم في الدنيا " وكلا تبرنا تتبيرا " أي دمرناهم بالعذاب تدميرا يقال تبره إذا أهلكه
سورة الفرقان 40 - 42
ثم قال عز وجل " ولقد أتوا على القرية " يعني أهل مكة مروا على القرية " التي أمطرت مطر السوء " يعني قريات لوط أمطرنا عليهم الحجارة " أفلم يكونوا يرونها " يعني أفلم يبصروها فيعتبروا بها " بل كانوا لا يرجون نشورا " يعني بل كانوا لا يخافون البعث ويقال لا يرجون ثواب الآخرة وإنما جاز أن يعبر عنهما لأن في الرجاء طرفا من الخوف لأن كل من يرجو شيئا فإنه يخاف وربما يدرك وربما لا يدرك
قوله عز وجل " وإذا رأوك " يعني أهل مكة " إن يتخذونك إلا هزوا " يعني ما يقولون لك إلا سخرية فيما بينهم ويقولون " أهذا الذي بعث الله رسولا " يعني إلينا وهو قول أبي جهل حين قال لأبي سفيان بن حرب أهذا نبي بني عبد مناف " إن كاد ليضلنا " يعني أراد أن يصرفنا " عن آلهتنا " يعني عن عبادة آلهتنا " لولا أن صبرنا عليها " يعني ثبتنا على عبادتها لأدخلنا في دينه حكى قولهم ثم بين مصيرهم فقال " وسوف يعلمون حين يرون العذاب " يعني يوم القيامة " من أضل سبيلا " يعني أخطأ طريقا يعني يبين لهم أن الذي قلت لهم كان حقا
سورة الفرقان 43 - 46(2/539)
540
قوله عز وجل " أرأيت من إتخذ إلهه هواه " يعني إتخذ هوى نفسه إلها يعني يعمل بكل ما يدعوه إليه هواه ويقال إنهم كانوا يعبدون حجرا فإذا رأوا أحسن منه تركوا الأول وعبدوا الثاني " أفأنت تكون عليه وكيلا " يعني أتريد أن تكون بيدك المشيئة في الهدى والضلالة ويقال معناه " أفأنت تكون عليه وكيلا " يعني أتريد أن تكون ربا لهم فتجزيهم بأعمالهم يعني لست كذلك فأنذرهم فإنما أنت منذر
ثم قال عز وجل " أم تحسب أن أكثرهم " يعني أتظن أنهم يريدون الهدى " يسمعون أو يعقلون " الهدى " إن هم " يعني ما هم " إلا كالأنعام " في الأكل والشرب ولا يتفكرون في أمر الآخرة " بل هم أضل سبيلا " يعني أخطأ طريقا من البهائم لأن البهائم ليسوا بمأمورين ولا منهيين
وقال مقاتل البهائم تعرف ربها وتذكره وكفار مكة لا يعرفون ربهم فيوحدونه
قوله عز وجل " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل " قال بعضهم فيه تقديم ومعناه ألم تر إلى الظل كيف مده ربك وقال بعضهم فيه مضمر ومعناه ألم تر إلى صنع ربك كيف مد الظل يعني بسط الظل بعد إنفجار الصبح إلى طلوع الشمس " ولو شاء لجعله ساكنا " يعني دائما كما هو لا شمس معه كما يكون في الجنة ظل ممدود ويقال تلك الساعة تشبه ساعات الجنة إلا أن الجنة أنور " ثم جعلنا الشمس عليه دليلا " حيث ما تكون الشمس يظهر الظل وقال القتبي إنما يكون دليلا لأنه لو لم تكن الشمس لم يعرف الظل لأن الأشياء تعرف بأضدادها " ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا " أي الظل بعد غروب الشمس وذلك أن الشمس إذا غابت عاد الظل وذلك وقت قبضه لأن ظل الشمس بعد غروب الشمس لا يذهب كله جملة وإنما يقبض الله ذلك الظل قبضا خفيا شيئا بعد شيء فدل الله تعالى بهذا الوصف على قدرته ولطفه في معاقبته بين الظل والشمس لمصالح عباده وبلاده ويقال ثم " قبضناه " أي قبضناه سهلا ويقال يسيرا عند طلوع الشمس ويقال " ثم قبضناه يسيرا " يعني هينا سهلا ويقال " يسيرا " يعني خفيا فلا يدري أحد أن يصير وكيف يصير ويقال " ثم قبضناه " يعني رفعناه رفعا خفيفا
ويقال قوله " ثم جعلنا الشمس عليه دليلا " أي على الأوقات في النهار ليعرف زوال الشمس وأوقات الصلاة
سورة الفرقان 47 - 52(2/540)
541
قوله عز وجل " وهو الذي جعل لكم الليل لباسا " يعني سكنا لتسكنوا فيه ويقال " لباسا " يعني سترا يستر جميع الأشياء " والنوم سباتا " يعني راحة للخلق ليستريحوا فيه بالنوم " وجعل النهار نشورا " أي للنشور ينتشرون فيه لإبتغاء الرزق
ثم قال عز وجل " وهو الذي أرسل الرياح بشرا " يعني تنشر السحاب والإختلاف في القراءات كما ذكرنا في سورة الأعراف " بين يدي رحمته " يعني قدام المطر " وأنزلنا من السماء ماء طهورا " يعني مطهرا يطهر به الأشياء ولا يطهر بشيء " لنحيي به بلدة ميتا " يعني أرضا لا نبات فيها فينبت بالمطر " ونسقيه " يعني نسقي بالمطر " مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا " وهو جماعة الإنس يعني نسقي به الناس والدواب لفظ البلدة مؤنث إلا أن معنى البلدة والبلد واحد فانصرف إلى المعنى ولو قال ميتة لجاز إلا أنه لم يقرأ
ثم قال عز وجل " ولقد صرفناه بينهم " يعني قسمناه بين الخلق ويقال نصرفه من بلد إلى بلد مرة بهذا البلد ومرة ببلد آخر كما روي عن إبن مسعود أنه قال ما من عام بأمطر من عام ولكن الله تعالى يصرفه حيث يشاء فذلك قوله " ولقد صرفناه بينهم " وكما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من سنة بأمطر من الأخرى ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار وقال إبن عباس رضي الله عنه ما من عام بأكثر من عام ولكن يصرفه حيث يشاء فذلك قوله " ولكن يصرفه حيث يشاء "
" ليذكروا " يعني ليتعظوا في صنعه فيعتبروا في توحيد الله تعالى فيوحدوه وقرأ حمزة والكسائي " ليذكروا " بالتخفيف وضم الكاف وقرأ الباقون بالتشديد والنصب
ثم قال " فأبى أكثر الناس إلا كفورا " يعني كفرانا في النعمة وهو قولهم مطرنا بنوء كذا ويقال إلا جحودا وثباتا على الكفر
قوله عز وجل " ولو شئنا لبعثنا " قال مقاتل ولو شئنا لبعثنا في زمانك " في كل قرية نذيرا " يعني رسولا ولكن بعثناك إلى القرى كلها رسولا إختصصناك بها " فلا تطع الكافرين " وذلك حين دعوه إلى ملة آبائهم " وجاهدهم به " أي بالقرآن " جهادا كبيرا " يعني شديدا(2/541)
542
سورة الفرقان 53 - 57
قوله عز وجل " وهو الذي مرج البحرين " يعني أرسل ويقال حلى البحرين ويقال فلق البحرين ويقال خلق البحرين العذب والمالح " هذا عذب فرات " يعني حلو " وهذا ملح أجاج " أي مر مالح " وجعل بينهما برزخا " أي حاجزا " وحجرا محجورا " أي حرم على العذب أن يملح وحرم على المالح أن يعذب وحرم على كل واحد منهما أن يختلط بصاحبه وأن يغير كل واحد منهما طعم صاحبه
قوله عز وجل " وهو الذي خلق من الماء بشرا " أي من النطفة إنسانا " فجعله نسبا وصهرا " فالنسب ما لا يحل لك نكاحه من القرابة والصهر ما يحل لك نكاحه من القرابة وغير القرابة وهذا قول الكلبي
وقال الضحاك النسب القرابة والصهر الرضاع ويحرم من الصهر ما يحرم من النسب ويقال النسب الذي يحرم بالقرابة والصهر الذي يحرم بالنسب وهو ما ذكر في قوله تعالى " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت " [ النساء : 23 ] فهذه السبع تحرم بالقرابة والسبع التي تحرم بالنسب فهو ما ذكر بعده وهو قوله تعالى " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم " [ النساء : 23 ] إلى آخر الآية وإمرأة الأب ثم قال تعالى " وكان ربك قديرا " فيما أحل من النكاح وفيما حرم ويقال " قديرا " على ما أراد
قوله عز وجل " ويعبدون من دون الله " يعني الأصنام " ما لا ينفعهم " إن عبدوهم " ولا يضرهم " إن لم يعبدوهم " وكان الكافر على ربه ظهيرا " يعني عونا للشياطين على ربه قال بعضهم نزلت في شأن أبي جهل بن هشام ويقال في شأن جميع الكفار
ثم قال " وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا " يعني ما أرسلناك يا محمد إلا مبشرا بالجنة لمن أطاع الله عز وجل ونذيرا بالنار لمن عصاه " قل ما أسألكم عليه " يعني قل لكفار مكة " ما أسألكم عليه " يعني على القرآن والإيمان " من أجر " يعني من جعل " إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا " يعني إلا من شاء أن يوحد ويتخذ إلى ربه بذلك التوحيد سبيلا يعني مرجعا ويقال يعمل فيتخذ عند ربه مرجعا صالحا فيدخل به الجنة يعني لا أريد الأجر ولكن أريد لكم هذا الذي ذكر وقصدي هذا لا أن آخذ منكم شيئا
سورة الفرقان 58 - 60(2/542)
543
قوله عز وجل " وتوكل على الحي الذي لا يموت " وذلك حين دعي إلى ملة آبائه فأمره الله تعالى بأن يتوكل على ربه الكريم وقال " سبح بحمده " قال مقاتل واذكر بأمره وقال الكلبي صل بأمره " وكفى به بذنوب عباده خبيرا " يعني عالما معناه وكفى بالله عالما بذنوب عباده وبمجازاتهم فلا أحد أعلم بذنوب عباده ومجازاتهم منه
ثم قال عز وجل " الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم إستوى على العرش " وقد ذكرناه وتم الكلام ثم قال " الرحمن " قال الزجاج " الرحمن " رفعه من جهتين أحدهما على البدل مما في قوله " ثم إستوى " فبين بقوله " الرحمن " يعني إستوى الرحمن على العرش قال ويجوز أن يكون على معنى الإبتداء " فاسأل به خبيرا " يعني فاسأل عنه عالما ويقال معناه ما أخبرتك به من شيء فهو كما أخبرتك فاسأل بذلك عالما حتى يبين لك ذلك كقوله " فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك " [ يونس : 94 ] الآية خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم وأراد به أمته
قوله عز وجل " وإذا قيل لهم إسجدوا للرحمن " أي صلوا للرحمن ويقال إخضعوا له ووحدوه " قالوا وما الرحمن " يعني ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة الكذاب قالوا " أنسجد لما تأمرنا " لذلك الكذاب قرأ حمزة والكسائي " يأمرنا " بالياء على معنى المغايبة وقرأ الباقون على المخاطبة " وزادهم نفورا " يعني زادهم ذكر الرحمن تباعدا عن الإيمان فمن قرأ بالياء فمعناه لما يأمرنا الرحمن بالسجود ويقال لما يأمرنا محمد يعني لا نسجد لما يأمرنا كقوله " فانكحوا ما طاب لكم " [ النساء : 3 ] يعني من طاب لكم ومن قرأ بالتاء أراد به النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو عبيد هذا هو الوجه لأن المشركين خاطبوه بذلك وكانوا غير مقرين بالرحمن
سورة الفرقان 61 - 67
قوله عز وجل " تبارك " وقد ذكرناه " الذي جعل في السماء بروجا " يعني خلق في السماء بروجا يعني نجوما وكواكب ويقال قصورا وذكر أنه جعل في القصور حراسا كما قال في موضع آخر " وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا " [ الجن : 8 ] الآية(2/543)
544
ويقال البروج الكواكب العظام وكل ظاهر مرتفع فهو برج وإنما قيل لها بروج لظهورها وإرتفاعها ثم قال تعالى " وجعل فيها " يعني خلق فيها " سراجا " يعني شمسا " وقمرا منيرا " يعني منورا مضيئا قرأ حمزة والكسائي " سرجا " بلفظ الجمع يعني الكواكب وقرأ الباقون " سراجا " وبه قال أبو عبيدة بهذا نقرأ كقوله " وجعل الشمس سراجا " ولأنه قد ذكر الكواكب بقوله " بروجا "
ثم قال عز وجل " وهو الذي جعل الليل والنهار " أي خلق الليل والنهار " خلفة لمن أراد أن يذكر " أي خليفة يخلف كل واحد منهما صاحبه يذهب الليل ويجيء النهار ويذهب النهار ويجيء الليل ويقال " خلفة " يعني مخالفا بعضه لبعض أحدهما أبيض والآخر أسود فهما مختلفان كقوله عز وجل " إن في إختلاف الليل والنهار " الآية
وروي عن الحسن أنه قال النهار خلف من الليل لمن أراد أن يعمل بالليل فيفوته فيقضي فإذا فاته بالنهار يقضي بالليل لمن أراد أن يذكر قرأ حمزة " يذكر " بالتخفيف في الذال وضم الكاف يعني يذكر ما نسي إذا رأى إختلاف الليل والنهار وقرأ الباقون بالتشديد وأصله يتذكر يعني يتعظ في إختلافهما ويستدل بهما " أو أراد شكورا " يعني العمل الصالح ويترك ما هو عليه من المعصية ويقال " أو أراد شكورا " أي توحيدا وإقرارا فيمكنه ذلك
قوله عز وجل " وعباد الرحمن الذين يمشون " يعني وإن من عباد الرحمن عبادا يمشون " على الأرض هونا " يعني يمضون متواضعين وهذا جواب لقولهم " وما الرحمن أنسجد " فقال الرحمن الذي جعل في السماء بروجا وهو الذي له عباد مثل هؤلاء يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان مثل حالهم وهذا كقوله " جنات عدن التي وعد الرحمن عباده " [ مريم : 61 ] وكقوله " فبشر عباد والذين " [ الزمر : 17 ] الآية
وقال مجاهد " يمشون على الأرض هونا " قال في طاعة الله متواضعين ويقال " هونا " أي هينا لا جور منهم على أحد ولا أذى ويقال " هونا " يعني سكينة ووقارا وحلما " وإذا خاطبهم الجاهلون " يعني كملهم الجاهلون بالجهل " قالوا سلاما " يعني سدادا من القول ويقال ردوا إليهم بالجميل وقال الحسن يعني حلما لا يجهلون وإن جهل عليهم حلموا وقال الكلبي نسخت بآية القتال وقال بعضهم هذا خطأ لأن هذا ليس بأمر ولكنه خير من حالهم والنسخ يجري في الأمر والنهي
ثم وصف حال لياليهم فقال عز وجل " والذين يبيتون لربهم سجدا " يعني يقومون بالليل في الصلاة سجدا " وقياما " يعني يكونون في ليلتهم مرة ساجدين ومرة قائمين وروي عن إبن عباس أنه كان يقول من صلى ركعتين أو أربعا بعد العشاء فقد بات لله ساجدا وقائما(2/544)
545
ثم وصف خوفهم فقال إنهم مع جهدهم خائفون من عذاب الله عز وجل ويتعوذون منه فقال عز وجل " والذين يقولون " يعني عباد الرحمن " ربنا إصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما " يعني لازما لا يفارق صاحبه وقال بعض أهل اللغة الغرام في اللغة أشد العذاب وقال محمد بن كعب القرظي " إن عذابها كان غراما " قال سألهم ثمن النعم فلم يأتوا بثمنها فأغرمهم ثمن النعم وأدخلهم النار ثم قال " إنها ساءت مستقرا ومقاما " يعني بئس المستقر وبئس الخلود والمقام الخلود كقوله " دار المقامة " [ فاطر : 35 ] يعني دار الخلود ويقال نصب المستقر للتمييز ومعناه لأنها ساءت في المستقر
ثم قال عز وجل " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا " وقرأ نافع وإبن عامر " يقتروا " بضم الياء وكسر التاء وقرأ إبن كثير وأبو عمرو " لم يقتروا " بنصب الياء وكسر التاء وقرأ أهل الكوفة بنصب الياء وضم التاء ومعنى ذلك كله واحد يعني لم يسرفوا فينفقوا في معصية الله تعالى ولم يقتروا فيمسكوا عن الطاعة " وكان بين ذلك قواما " يعني بين ذلك عدلا ووسطا وقال الحسن ما أنفق الرجل على أهله في غير إسراف ولا فساد ولا إقتار فهو في سبيل الله تعالى وقال مجاهد لو كان لرجل مثل أبي قبيس ذهبا فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفا ولو أنفق درهما في معصية الله تعالى كان مسرفا
سورة الفرقان 68 - 70
ثم قال عز وجل " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر " يعني لا يشركون بالله ويقال الشرك ثلاثة أولها أن يعبد غير الله تعالى والثاني أن يطيع مخلوقا بما يأمره من المعصية والثالث أن يعمل لغير وجه الله تعالى فالأول كفر والآخران معصية
ثم قال " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " أي إلا بإحدى خصال ثلاث وقد ذكرناه " ولا يزنون " يعني لا يستحلون الزنى ولا يقتلون النفس " ومن يفعل ذلك " يعني الشرك والقتل والزنى " يلقى أثاما " قال الكلبي يعني عقابا في النار وذكر عن سيبويه والخليل أنهما قالا معناه جزاء الآثام ويقال الآثام العقوبة وقال الشاعر
( جزى الله إبن عروة حين أمسى % عقوقا فالعقوق له أثام ) أي عقوبة
ثم قال عز وجل " يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا " يعني في العذاب(2/545)
546
صاغرا يهان فيه قرأ عاصم " يضاعف له " بالألف وضم الفاء وقرأ إبن عامر وإبن كثير " يضعف " بغير ألف والتشديد وجزم الفاء وقرأ الباقون بالألف وجزم الفاء وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وإبن عامر " ويخلد " بضم الدال
وروى حفص عن عاصم وإبن كثير " ويخلد " بالإشباع وقرأ الباقون " يخلد " بجزم الدال فمن قرأ " يضاعف " و " يخلد " بالرفع فالوقف هنا على قوله " آثاما " ومن قرأهما بالجزم فلا يقف على " آثاما " لأنهما جوابا الشرط والشرط والجواب هما مجزومان
ثم قال عز وجل " إلا من تاب وآمن " يعني تاب من الشرك والزنى والقتل وصدق بتوحيد الله تعالى " وعمل صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " يعني مكان الشرك الإيمان ومكان القتل الكف ومكان الزنى العفاف ومكان المعصية العصمة والطاعة ويقال إنه يبدل في الآخرة مكان عمل السيئات الحسنات
وروي عن إبن مسعود أنه قال إن يوم القيامة إذا أعطي الإنسان كتابه في الآخرة فيرى في أوله معاصي وفي الآخر الحسنات فلما رجع إلى أول الكتاب رآه كله حسنات
روى أبو ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يعرض عليه صغار ذنوبه وهو مشفق من الكتاب أن تجيء ذنوبه العظام فإذا أريد به خير قيل أعطوه مكان كل سيئة حسنة فيقول يا رب إن لي ذنوبا ما أراها هانا قال ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ثم تلا هذه الآية " فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " وذكر عن أبي هريرة أنه قال خرجت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألتني إمرأة في الطريق فقالت زنيت ثم قتلت الولد فهل لي من توبة فقلت لا توبة لك أبدا ثم قلت أفتيتها ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فرجعت إليه فأخبرته بذلك فقال هلكت وأهلكت فأين أنت من هذه الآية " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر " إلى قوله " فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " فخرجت وقلت من يدلني على إمرأة سألتني مسألة والصبيان يقولون جن أبو هريرة حتى أدركتها وأخبرتها بذلك فسرت وقالت إن لي حديقة جعلتها لله ولرسوله وقال بعضهم هذه الآية مدنية نزلت في شأن وحشي وقال بعضهم الآية قد كانت نزلت بمكة فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى وحشي ثم قال تعالى " وكان الله غفورا رحيما " يعني " غفورا " لما فعلوا قبل التوبة لمن تاب " رحيما " بالمؤمنين بعد التوبة
سورة الفرقان 71 - 77(2/546)
547
ثم قال عز وجل " ومن تاب وعمل صالحا " يعني تاب من الشرك والمعاصي وعمل صالحا بعد التوبة " فإنه يتوب إلى الله متابا " يعني مناصحا لا يرجع ويقال " متابا " له في الجنة ويقال " متابا " يعني توبة يعني يتوب توبة مخلصة
ثم قال " والذين لا يشهدون الزور " يعني لا يحضرون مجالس الكذب والفحش والكفر " وإذا مروا باللغو " يعني مجالس اللهو والباطل " مروا كراما " يعني حلماء معرضين عنها وقال القتبي " مروا كراما " لم يخوضوا فيه وأكرموا أنفسهم
ثم قال عز وجل " والذين إذا ذكروا بآيات ربهم " يعني وعظوا بالقرآن " لم يخروا عليها " يعني لم يقعوا عليها " صما " يعني لا يسمعون " وعميانا " ولا يبصرون ولكنهم سمعوا وانتفعوا به وهذا قول مقاتل وقال القتبي " لم يخروا عليها " أي لم يتغافلوا عنها فكأنهم صم لم يسمعوها عمي لم يروها
ثم قال عز وجل " والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين " يعني إجعل أزواجنا وذريتنا من الصالحين تقر أعيننا بذلك ويقال وفقهم للطاعة واعصمهم من المعصية ليكونوا معنا في الجنة فتقر بهم أعيننا قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر " وذريتنا " بلفظ الوحدان وقرأ الباقون " وذرياتنا " بلفظ الجماعة ثم قال " واجعلنا للمتقين إماما " يعني إجعلنا أئمة في الخير يقتدي بنا المؤمنون كما قال " وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا " [ الأنبياء : 73 ] أي قادة في الخير
وروي عن عروة أنه كان يدعو بأن يجعله الله ممن يحمل عنه العلم فاستجيب دعاؤه وروي عن مجاهد معناه إجعلنا ممن نقتدي بمن قبلنا حتى يقتدي بنا من بعدنا ويقال معناه إجعلنا ممن يقتدي بالمتقين ويقتدي بنا المتقون فهذا كله من خصال عباد الرحمن من قوله " وعباد الرحمن " إلى ها هنا فوصف أعمالهم
ثم بين ثوابهم فقال عز وجل " أولئك يجزون الغرفة " يعني غرف الجنة كقوله " غرف من فوقها غرف مبنية " [ الزمر : 20 ] " بما صبروا " يعني صبروا على أمر الله تعالى في الدنيا وعلى الطاعة " ويلقون فيها " يعني في الجنة " تحية " يعني التسليم " وسلاما " يعني سلام(2/547)
548
الله تعالى لهم قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وإحدى الروايتين عن إبن عباس " ويلقون فيها " بنصب الياء وجزم اللام والتخفيف وقرأ الباقون " ويلقون " بضم الياء ونصب اللام وتشديد القاف فمن قرأ بالتخفيف يعني يلقي بعضهم بعضا بالسلام ومن قرأ بالتشديد يعني يجيء إليهم سلام الله تعالى يعني يلقى إليهم السلام من الله تعالى
ثم قال عز وجل " خالدين فيها " يعني دائمين في الجنة " حسنت مستقرا ومقاما " يعني موضع القرار وموضع الخلود
قوله عز وجل " قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم " يقول ما يفعل بكم ربي " لولا دعاؤكم " يعني لولا عبادتكم ويقال ما يفعل بعذابكم لولا عبادتكم غير الله تعالى ويقال ما ينتظر بهلاككم لولا عبادة من يعبدوني لأنزلت عذابي ويقال " لولا دعاؤكم " يعني يقول لولا إيمانكم
ثم قال عز وجل " فقد كذبتم فسوف يكون لزاما " يعني عذابا يلزمهم فقتلوا ببدر وعجلت أرواحهم إلى النار فتلك عقوبتهم فيها ويقال " لزاما " يعني موتا وقال إبن مسعود رضي الله تعالى عنه خمس قد مضين من ذلك اللزام والروم والقمر والدخان والبطشة ويقال ما يحتاج بعذابكم لولا عبادتكم الأصنام ويقال ما يفعل الله بعذابكم لولا عبادتكم غير الله ويقال ما ينتظر بهلاككم لولا عبادة من يعبدني لأنزلت عذابي إلى غير ذلك والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد(2/548)
549
سورة الشعراء
كلها مكية إلا آيات في آخرها وهي مائتان وسبع وعشرون آية )
سورة الشعراء 1 - 6
قول الله سبحانه وتعالى " طسم " قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر بإمالة الطاء وقرأ أبو عمرو وإبن كثير بالتفخيم وهما لغتان معروفتان عند العرب ويجوز كلاهما وقرأ نافع بين ذلك وقرأ حمزة بإظهار النون والباقون بالإدغام لتقارب مخرجهما ومن لم يدغم أراد التبيين وكلاهما جائز وأما التفسير فروى معمر عن قتادة أنه قال إسم من أسماء القرآن ويقال والطاء طوله والسين سناؤه والميم ملكه ومجده ويقال الطاء شجرة طوبى والسين سدرة المنتهى والميم محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم عجزت العلماء عن تفسيرها ويقال هو قسم أقسم الله تعالى به
" تلك آيات الكتاب " يعني هذه آيات الكتاب ويقال " تلك آيات الكتاب " التي كنت وعدت في التوراة أن أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم " الكتاب المبين " يعني القرآن يبين لكم الحق من الباطل " لعلك باخع نفسك " يعني مهلك نفسك ويقال قاتل نفسك بالحزن " أن لا يكونوا مؤمنين " يعني إذا لم يصدقوا بالقرآن وذلك حين كذبه أهل مكة شق ذلك عليه وحزن بذلك فقال له ليس عليك سوى التبليغ ولا تقتل نفسك إن لم يؤمنوا
ثم قال عز وجل " إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية " يعني علامة " فظلت " يعني فصارت " أعناقهم لها خاضعين " يعني وننزل عليهم آية تضطرهم إلى أن يؤمنوا ولكنه لم يفعل لأنه لو فعل ذلك لذهبت المحنة فلم يستوجبوا الثواب إذا آمنوا بعد معاينة العذاب كمن آمن يوم القيامة لا ينفعه إيمانه لأنه قد ظهر له بالمعاينة ويقال " فظلت أعناقهم " يعني ساداتهم وكبراؤهم للآية " خاضعين " والأعناق الكبراء فإن قيل جمع الأعناق مؤنث(2/549)
550
وقال خاضعين ولم يقل خاضعات قيل له لأن الكلام إنصرف إلى المعنى فكأنه قال هم لها خاضعون
قوله تعالى " وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " وقد ذكرناه " إلا كانوا عنه معرضين " يعني مكذبين معرضين عن الإيمان به " فقد كذبوا " يعني كذبوا بالقرآن كما قال في آية أخرى " فقد كذبوا بالحق " [ الأنعام : 5 ] ثم قال " فسيأتيهم أنباء " يعني أخبار " ما كانوا به يستهزئون " يعني يوم القيامة ويقال قد جاءهم بعض ذلك في الدنيا وهو القتل والقهر والغلبة
سورة الشعراء 7 - 9
قوله عز وجل " أو لم يروا إلى الأرض " يعني أو لم ينظروا في عجائب الأرض ويتفكروا فيها " كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم " يعني من كل نوع من النبات ويقال من كل لون حسن وقال القتبي الكريم يقع على الأنواع والكريم الشريف الفاضل قال الله تعالى " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " [ الحجرات : 13 ] " ولقد كرمنا بني آدم " [ الإسراء : 70 ] " ورب العرش العظيم " [ التوبة : 129 ] " وندخلكم مدخلا كريما " [ النساء : 31 ] " قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلى كتاب كريم " [ النمل : 29 ] أي شريف فاضل والكريم الصفوح وذلك من الشرف كما قال " فإن ربي غني كريم " [ النمل : 40 ] " ما غرك بربك الكريم " [ الإنفطار : 6 ] أي الصفوح والكريم الكثير كما قال " ورزق كريم " [ الأنفال : 4 ] أي كثير والكريم الحسن وذلك من الشرف والفضل كما قال " من كل زوج كريم " [ الشعراء : 7 ] أي حسن " وقل لهما قولا كريما " [ الإسراء : 23 ] أي حسنا وروي عن الشعبي أنه قال " كم أنبتنا فيها " يعني بني آدم فمن دخل الجنة فهو كريم ومن دخل النار فهو لئيم
ثم قال عز وجل " إن في ذلك لآية " يعني في إختلاف النبات وألوانه " لآية " يعني لعبرة لأهل مكة أنه إله واحد
ثم قال " وما كان أكثرهم مؤمنين " يعني مصدقين بالتوحيد ولو كان أكثرهم مؤمنين لم يعذبوا وقال مقاتل " وما كان أكثرهم مؤمنين " يعني وما كانوا مؤمنين بل كلهم كانوا كافرين " وإن ربك لهو العزيز " يعني المنيع بالنقمة لمن لم يجب الرسل " الرحيم " حيث لم يعجل بعقوبتهم ويقال رحيم بالمؤمنين
سورة الشعراء 10 - 15(2/550)
551
قوله عز وجل " وإذ نادى ربك موسى " يعني أتل عليهم إذ نادى ربك موسى كما قال " واتل عليهم نبأ إبراهيم " وقال مقاتل " إذ نادى ربك موسى " يعني أمر ربك يا محمد موسى " أن ائت القوم الظالمين " يعني إذهب إلى القوم المشركين " قوم فرعون ألا يتقون " قال مقاتل يعني قل لهم ألا تتقون عبادة غيره وتوحدونه ويقال " ألا يتقون " يعني ألا يعبدون الله تعالى " قال رب " يعني قال موسى يا رب " إني أخاف أن يكذبون " بما أقول " ويضيق صدري " إذا كذبوني في رسالتك " ولا ينطلق لساني " لمهابته قرأ الحضرمي " ويضيق صدري ولا ينطلق " كلاهما بنصب القاف وجعله نصبا بأن ومعناه أخاف أن يكذبون وأن يضيق صدري وأن لا ينطلق لساني وقراءة العامة بالضم على معنى الإستئناف
ثم قال " فأرسل إلى هارون " يعني أرسله معي لكي يكون عونا لي في أداء الرسالة ثم قال " ولهم علي ذنب " يعني قصاص بقتل القبطي " فأخاف أن يقتلون " وقال القتبي على معنى عندي أي لهم عندي ذنب " قال " الله تعالى " كلا " أي لا تخف وقال الزجاج كلا ردع وتنبيه أي لا يقدرون على ذلك " فاذهبا بآياتنا " خاطب به موسى خاصة بأن يذهب مع أخيه بآياتنا التسع " إنا معكم مستمعون " يعني سامعين وقد بين ذلك في موضع آخر وهو قوله " أسمع وأرى " [ طه : 46 ] والإستماع سبب للسمع فيعبر به عنه
سورة الشعراء 16 - 22
قوله عز وجل " فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين " يعني موسى وحده ويضاف الشيء إلى إثنين والمراد به أحدهما وقال القتبي الرسول يكون بمعنى الجمع كما يكون الضيف بمعنى الجمع " قال إن هؤلاء ضيفي " [ الحجر : 68 ] وقال أبو عبيد رسول بمعنى رسالة ويقال رسول يعني به رسولين كقوله " إنا رسولا ربك " [ طه : 47 ] فقال " إنا رسول رب العالمين " " أن أرسل معنا بني إسرائيل " يعني قل لفرعون ذلك ولم يذكر إتيانه إلى فرعون لأن في الكلام دليلا عليه وقد بين في موضع آخر حيث قال " فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات " [ القصص : 36 ] وقال مقاتل " إنا رسول رب العالمين " وانقطع الكلام ثم إنطلق موسى وكان هارون بمصر فانطلقا إلى فرعون قال مقاتل فلم يأذن لهما سنة ثم أخبر البواب(2/551)
552
فرعون أن ها هنا إنسانا يذكر أنه رسول رب العالمين فقال ائذن له لعلنا نضحك منه وقال السدي لما أتى باب فرعون ضرب موسى عليه السلام عصاه على الباب ففزع من ذلك فرعون فأذن له في الدخول من ساعته فلما دخل عليه عرفه فأدى الرسالة فقال له فرعون " ألم نربك فينا وليدا " قال الفقيه أبو الليث رحمه الله أول ما بدأ فرعون بكلام السفلة ومن على نبي الله صلى الله عليه وسلم أنما أطعمه فقال " ألم نربك فينا وليدا " يعني ألم تكن فينا صغيرا قد ربيناك " ولبثت فينا " يعني مكثت عندنا " من عمرك سنين " يعني ثلاثين سنة " وفعلت فعلتك التي فعلت " يعني قتلت النفس التي قتلتها
وقرأ في الشاذ " ف علتك " بكسر الفاء هي قراءة الشعبي وقراءة العامة بالنصب والنصب يقع على فعل واحد والكسر على المرات يعني قتلت مرة وهممت بالقتل ثانيا ثم قال " وأنت من الكافرين " أي من الكافرين بنعمتي ويقال كفرت بي حيث قتلت النفس ويقال وأنت من الجاحدين للقتل يعني لم تقر بالقتل فأخبره موسى أنه غير جاحد للقتل " قال فعلتها إذا " يعني قتلت النفس " وأنا من الضالين " عن النبوة كقوله " ووجدك ضالا فهدى " [ الضحى : 7 ] ويقال من الجاهلين ولم أتعمد القتل قال القتبي أصل الضلالة العدول عن الحق ثم يكون لمعاني منها النسيان لأن الناس عادل عنه فكما قال ها هنا " فعلتها إذا وأنا من الضالين " أي من الناسين وكما قال " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " [ البقرة : 282 ]
ثم قال عز وجل " ففررت منكم " يعني هربت منكم إلى مدين " لما خفتكم " على نفسي أن تقتلوني " فوهب لي ربي حكما " قال الكلبي يعني النبوة وقال مقاتل يعني العلم والفهم " وجعلني من المرسلين " إليكم
ثم قال عز وجل " وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل " يعني أو كان هذا نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل فكأنه أنكر عليه فقال كيف تكون نعمتك التي تمن علي فإنك قد عبدت بني إسرائيل أي إستعبدتهم ولم تعبدني ويقال معناه " تلك نعمة " إنما صارت نعمة بتعبيدك بني إسرائيل لأنك لو لم تعبدهم لم تجعلني أمي في التابوت حتى صرت في بيتك ولكن إنما صارت نعمة لأجلك حيث عبدت بني إسرائيل وقال مقاتل " وتلك نعمة " تمنها علي يا فرعون بإحسانك إلي خاصة وبترك أبنائك أن عبدت بني إسرائيل وقال الكلبي يقول تستعبد بني إسرائيل وتمن علي بذلك
سورة الشعراء 23 - 33(2/552)
553
" قال فرعون " لموسى " وما رب العالمين " منكرا له وهذا جواب لقوله " إنا رسول رب العالمين " فجاء بجواب قطع حجته " قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين " بتوحيد الله تعالى فعجز فرعون عن الجواب " فقال لمن حوله ألا تستمعون " إلى قول موسى عليه السلام قالوا له فما تقول يا موسى فجاء بحجة أخرى ليؤكد عليهم " قال ربكم " يعني أدعوكم إلى ربكم " ورب آبائكم الأولين " يعني إلى توحيد خالقكم وخالق آبائكم الأولين " قال " فرعون لجلسائه " إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال " موسى عليه السلام ليس بمجنون مثلي أدعوكم إلى " رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون " يعني إن كان لكم ذهن الإنسانية
فلما عجز عن الجواب مال إلى العقوبة كما يفعل السلاطين " فقال لئن إتخذت إلها غيري " يعني لئن عبدت ربا غيري " لأجعلنك من المسجونين " يعني لأحبسنك في السجن قال إبن عباس وكان سجنه أشد من القتل " قال " موسى " أولو جئتك بشيء مبين " يعني ولو جئتك بحجة بينة يستبين لكم أمري " قال " فرعون " فأت به " يعني فأرناه " إن كنت من الصادقين " بأنك رسول " فألقى عصاه " من يده " فإذا هي ثعبان مبين " يعني حية صفراء من أعظم الحيات " ونزع يده " يعني أخرج يده فقال لهم ما هذه فقالوا يدك فأدخلها في جيبه وأخرجها " فإذا هي بيضاء للناظرين " يعني لها شعاع غلب شعاع الشمس وانتشر الضوء حوالي مصر للناظرين لمن نظر إليها من غير برص فعجبوا من ذلك
سورة الشعراء 34 - 51(2/553)
554
قوله عز وجل " قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم " يعني قال فرعون لمن حوله من الرؤساء والأشراف وأصله في اللغة من ملأ قال بعضهم الملأ بما يراد بهم مائتان وخمسون وقال بعضهم ثلاثمائة وخمسون وهم جماعة الملي ويقال يملأ العين هيبة يعني إذا نظر إليها الناظر
ثم قال " يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره " يعني من أرض مصر " فماذا تأمرون " يعني تشيرون " قالوا أرجه وأخاه " يعني إحسبهما وأخرهما ولا تقتلهما ولا تؤمن بهما وأصله من التأخير يعني أخر أمرهما حتى تنظر " وابعث في المدائن حاشرين " يحشرون عليك السحرة " يأتوك بكل سحار عليم " يعني حاذقا " فجمع السحرة لميقات يوم معلوم " وهو يوم عيد لهم وهو يوم الزينة قال مقاتل هم إثنان وسبعون ساحرا ويقال سبعون ألفا وقال الزجاج ذكر أن السحرة كانوا إثني عشر ألفا " وقيل للناس " يعني أهل مصر " هل أنتم مجتمعون " للسحرة للميعاد " لعلنا نتبع السحرة " على أمرهم " إن كانوا هم الغالبين "
قوله عز وجل " فلما جاء السحرة " يعني إلى الميقات " قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا " يعني جعلا " إن كنا نحن الغالبين " يعني أتجازينا إن غلبناه " قال نعم " أجازيكم " وإنكم إذا لمن المقربين " يعني لكم مع الجائزة المنزلة والكرامة عندي " قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون " يعني إطرحوا " فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا إنا لنحن الغالبون " يعني نغلب موسى " فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف " يعني تلتقم وتبتلع " ما يأفكون " يعني ما يطرحون من الحبال والعصي
قوله عز وجل " فألقي السحرة ساجدين " أي خروا سجدا لله تعالى " قالوا آمنا برب العالمين " فقال فرعون إياي تعنون قالوا " رب موسى وهارون " يعني خالق موسى وهارون عليهما السلام " قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون " ماذا أصنع بكم " لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين " على شاطىء نهر مصر " قالوا " يعني السحرة " لا ضير " أي لا يضرنا ما فعلت بنا " إنا إلى ربنا منقلبون " يعني إلى خالقنا راجعون " إنا نطمع " يعني نرجو " أن يغفر لنا خطايانا " يعني شركنا وسحرنا " أن كنا أول المؤمنين " يعني أول المصدقين من قوم فرعون وذكر عن الفراء أنه قال كانوا أول مؤمني أهل دهرهم وقال الزجاج لا أحسبه عرف الرواية لأن الذين كانوا مع موسى روي في التفسير أنهم ستمائة ألف وسبعين ألفا ولكن معناه أول من آمن في هذه الساعة(2/554)
555
سورة الشعراء 52 - 62
قوله عز وجل " وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي " يعني ببني إسرائيل " إنكم متبعون " يعني يتبعكم فرعون وقومه ويقال أسرى يسري إسراء إذا سار ليلا يعني إذهب بهم بالليل " فأرسل فرعون في المدائن حاشرين " يحشرون الناس لقتال موسى عليه السلام ليخرج في طلبه وقال " إن هؤلاء لشرذمة قليلون " يعني طائفة وعصبة وجماعة قليلون وقال الزجاج الشرذمة في كلام العرب القليل ويروى أنهم كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا " وإنهم لنا لغائظون " يعني لمبغضين ويقال " إنا لغائظون " يعني لمبغضين بخلافهم لنا وذهابهم بحلينا
ثم قال عز وجل " وإنا لجميع حاذرون " أي مودون شاكون في السلاح قرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو " حذرون " بغير ألف والباقون بالألف والحاذر المستعد والحذر المستيقظ ويقال الحاذر الذي يحذر في الفور والحذر الذي لا تلقاه إلا حذرا وروي عن إبن مسعود أنه كان يقرأ " حاذرون " بالألف وكان يقول يعني ذا أداة من السلاح ومعناه إنا قد أخذنا حذرنا من عدونا بسلاحنا
قال الله تعالى " فأخرجناهم " يعني فرعون وقومه " من جنات " يعني البساتين " وعيون " يعني الأنهار الجارية " وكنوز " يعني من الأموال الكثيرة " ومقام كريم " يعني المنازل الحسنة ويقال المنابر التي يعظم عليها فرعون قرأ أبو عمرو ونافع وعاصم " وعيون " بضم العين في جميع القرآن وقرأ الباقون بالكسر وهما لغتان وكلاهما جائز وقال بعضهم " فأخرجناهم من جنات وعيون " كلام فرعون إنا أخرجنا بني إسرائيل من أرض مصر والطريق الأول أشبه كما قال في موضع آخر " كم تركوا من جنات وعيون " [ الدخان : 25 ] الآية ثم قال " كذلك " يعني هكذا أفعل بمن عصاني
ثم إستأنف فقال عز وجل " وأورثناها " ويقال كذلك أورثناها يعني هكذا أنزلنا فيها يعني في مساكن فرعون " بني إسرائيل " بعد ما غرق فرعون ثم قال " فأتبعوهم مشرقين " يعني عند طلوع الشمس
قوله عز وجل " فلما تراءى الجمعان " يعني تقاربا ورأى بعضهم بعضا وذلك أن فرعون أرسل في المدائن حاشرين ليحشروا الناس فركب وركب معه ألف ألف ومائتا ألف(2/555)
556
فارس سوى الرجالة أي المشاة فلما دنوا من عسكر موسى " قال أصحاب موسى " لموسى عليه السلام " إنا لمدركون " يعني يدركنا فرعون " قال " موسى " كلا " لا يدرككم " إن معي ربي سيهدين " يعني سينجيني ويهديني إلى طريق النجاة
سورة الشعراء 63 - 68
قوله عز وجل " فأوحينا إلى موسى أن إضرب بعصاك البحر فانفلق " وفي الآية مضمر ومعناه فضربه بالعصا فانفلق البحر " فكان كل فرق كالطود العظيم " يعني كالجبل العظيم " وأزلفنا ثم الآخرين " يعني قربنا قوم فرعون إلى البحر وأدنيناهم إلى الغرق ومنه قوله تعالى " وأزلفت الجنة للمتقين " [ الشعراء : 90 ] أي أدنيت وقربت
وروي عن الحسن قال " وأزلفنا " يعني أهلكنا وقال غيره " وأزلفنا " أي جمعناهم في البحر حتى غرقوا وفيه قيل لجمع المزدلفة " وأنجينا موسى ومن معه أجمعين " يعني من البحر " ثم أغرقنا الآخرين " يعني فرعون وقومه وقد ذكرنا القصة في موضع آخر
ثم قال " إن في ذلك " يعني فيما صنع " لآية " يعني لعبرة لمن بعدهم " وما كان أكثرهم مؤمنين " يعني مصدقين يعني لو كان أكثرهم مؤمنين لم يهلكهم الله تعالى " وإن ربك لهو العزيز " بالنعمة " الرحيم " لمن تاب
سورة الشعراء 69 - 85
قوله عز وجل " واتل عليهم نبأ إبراهيم " يعني أخبر أهل مكة خبر إبراهيم كيف قال لقومه ثم أخبرهم عن ذلك فقال " إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون " وذلك أن إبراهيم عليه السلام لما ولدته أمه في الغار فلما خرج وكبر دخل المصر فأراد أن يعلم على أي مذهب هم وهكذا ينبغي للعاقل إذا دخل بلدة أن يسألهم عن مذهبهم فإن وجدهم على الإستقامة(2/556)
557
دخل معهم وإن وجدهم على غير الإستقامة أنكر عليهم فقال لهم إبراهيم " ما تعبدون " " قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين " أي فنقيم عليها عابدين فأراد أن يبين عيب فعلهم فقال " قال هل يسمعونكم " يعني هل تجيبكم الآلهة سمى الإجابة سمعا لأن السمع سبب الإجابة " إذ تدعون " يعني هل يجيبونكم إذا دعوتموهم " أو ينفعونكم " إذا عبدتموهم " أو يضرون " يعني يضرونكم إن لم تعبدوهم " قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون " يعني وجدنا آباءنا يعبدونهم هكذا فنحن نعبدهم " قال " لهم إبراهيم عليه السلام " أفرأيتم ما كنتم تعبدون " اللفظ لفظ الإستفهام والمراد به الإعلام يعني إعلموا أن الذي كنتم تعبدون " أنتم وآباؤكم " وأجدادكم يعني معبودكم ومعبود آبائكم وأجدادكم " الأقدمون " يعني الماضين " فإنهم عدو لي " يعني هم أعدائي " إلا رب العالمين " يقال معناه إلا من يعبد رب العالمين ويقال كانوا يعبدون مع الله الآلهة فقال لهم جميع ما تعبدون من الآلهة فهو عدو لي إلا رب العالمين فإنه ليس بعدو لي ويقال معناه أتبرأ من أفعالكم وأقوالكم إلا الذي تقولون رب العالمين وهو قوله " ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله " [ الزخرف : 87 ] ويقال " إلا " بمعنى لكن ومعناه فإنهم عدو لي لكن رب العالمين يعني لكن أعبد رب العالمين
ثم وصف لهم رب العالمين فقال " الذي خلقني فهو يهدين " يعني يحفظني ويثبتني على الهدى " والذي هو يطعمني ويسقين " يعني هو الذي يرزقني ويرحمني ثم قال " وإذ مرضت فهو يشفين " فقد أضاف سائر الأشياء إلى الله تعالى وأضاف المرض إلى نفسه لأن المرض بكسب يده كقوله عز وجل " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " [ الشورى : 30 ] وفيه كفارة وإذا كان أصله من كسب نفسه أضافه إلى نفسه
ثم قال " والذي يميتني ثم يحيين " يعني يميتني في الدنيا ويحييني للبعث " والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين " يعني أرجو أن يغفر خطيئتي وهو قوله " إني سقيم " [ الصافات : 89 ] ويقال قوله " هذا ربي " [ الأنعام : 78 ] ويقال ما كان نبي من الأنبياء عليهم السلام إلا وقد هم بزلة
ثم قال " رب هب لي حكما " يعني النبوة " وألحقني بالصالحين " يعني بالمرسلين في الجنة " واجعل لي لسان صدق في الآخرين " يعني الثناء الحسن في الباقين وإنما أراد بالثناء الحسن لكي يقتدوا به فيكون له مثل أجر من إقتدى به " واجعلني من ورثة جنة النعيم " يعني إجعلني ممن ينزل فيها
سورة الشعراء 86 - 89(2/557)
558
ثم قال " واغفر لأبي إنه كان من الضالين " يعني إهده إلى الحق من الضلالة والشرك يعني إنه كان من المشركين في الحال كقوله عز وجل " من كان في المهد صبيا " [ مريم : 29 ] يعني من هو في الحال صبي ويقال إنه كان من الضالين حين فارقته كقوله " وكان وراءهم ملك " [ الكهف : 79 ] وهذا الإستغفار حين كان وعده بالإسلام
وقال مقاتل إن إبراهيم عليه السلام قد كذب ثلاث كذبات وأخطأ ثلاث خطيئات وأبتلي بثلاث بليات وسقط سقطة فأما الكذبات فقوله " إني سقيم " [ الصافات : 89 ] وقوله " بل فعله كبيرهم هذا " [ الأنبياء : 63 ] وقوله لسارة حين قال هي أختي والخطايا قوله للنجم القمر والشمس " هذا ربي " [ الأنعام : 78 ] وأما البليات حين قذف في النار والختان والأمر بذبح الولد وسقط سقطة حين دعا لأبيه وهو مشرك وقال غيره لم يكذب ولم يخطىء ولم يسقط لأنه قال " إني سقيم " يعني سأسقم لأن كل آدمي سيصيبه السقم وقوله " بل فعله كبيرهم هذا " قد قرنه بالشرط وهو قوله " إن كانوا ينطقون " [ الأنبياء : 63 ] وقوله لسارة هي أخته فكانت أخته في الدين وقوله " هذا ربي " كان على وجه الإسترشاد لا للتحقيق ويقال كان ذلك القول على سبيل الإنكار والزجر يعني أمثل هذا ربي وأما دعاؤه لأبيه فلوعدة وعدها إياه وقد بين الله تعالى بقوله " وما كان إستغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه " [ التوبة : 114 ] يعني إن أباه وعده أنه سيؤمن فما دام حيا يرجو أو يدعو وإذا مات ضالا ترك الإستغفار ويقال إن إبراهيم كان وعده أن يستغفر له حيث قال " سأستغفر لك ربي " فاستغفر له ليكون منجز الوعد
ثم قال " ولا تخزني يوم يبعثون " يعني لا تعذبني يوم يبعثون من قبورهم إلى ها هنا كلام إبراهيم وقد إنقطع كلامه
ثم إن الله تبارك وتعالى وصف ذلك اليوم فقال " يوم لا ينفع مال ولا بنون " يعني يوم القيامة لا ينفع الذي خلفوه في الدنيا وأما المال الذي أنفقوا في الخير فإنه ينفعهم " ولا بنون " يعني للكفار لأنهم كانوا يقولون " نحن أكثر أموالا وأولادا " [ سبأ : 35 ] فأخبر الله تعالى أنه لا ينفعهم في ذلك اليوم المال ولا البنون وأما المسلمون فينفعهم المال والبنون لأن المسلم إذا مات إبنه قبله يكون له ذخرا وأجرا في الجنة وإن تخلف بعده فإنه يذكره بصالح دعائه فينفعه ذلك
ثم قال " إلا من أتى الله بقلب سليم " يعني من جاء بقلب سليم يوم القيامة ينفعه المال والبنون ويقال " إلا من أتى الله بقلب سليم " فذلك الذي ينفعه والقلب السليم هو القلب المخلص وقال إبن عباس يعني بقلب خالص من الشرك(2/558)
559
وروى أبو أسامة عن عوف قال قلت لإبن سيرين ما القلب السليم قال أن تعلم أن الله عز وجل حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ويقال سليم من إعتقاد الباطل ويقال سليم من النفاق والهوى والبدعة وسئل أبو القاسم الحكيم عن القلب السليم فقال له ثلاث علامات أولها أن لا يؤذي أحدا والثاني أن لا يتأذى من أحد والثالث إذا إصطنع معروفا إلى أحد لم يتوقع منه المكافأة فإذا هو لم يؤذ أحدا فقد جاء بالورع وإذا لم يتأذ من أحد فقد جاء بالوفاء وإذا لم يتوقع المكافأة بالإصطناع فقد جاء بالإخلاص
سورة الشعراء 90 - 101
ثم قال عز وجل " وأزلفت الجنة للمتقين " يعني قربت الجنة للمتقين الذين يتقون الشرك والفواحش يعني أن المتقين قربوا من الجنة
ثم قال " وبرزت الجحيم " يعني والجحيم أظهرت وكشفت غطاءها " للغاوين " يعني للكافرين ويقال يؤتى بها في سبعين ألف زمام " وقيل لهم " يعني للكفار " أين ما كنتم تعبدون " يعني أين معبودكم الذين كنتم تعبدون من دون الله " هل ينصرونكم " يعني هل يمنعونكم من العذاب " أو ينتصرون " يعني هل يمتنعون من العذاب فاعترفوا أنهم لا ينصرونهم ولا ينتصرون فأمر بهم في النار ويقال " أينما كنتم تعبدون من دون الله " يعني الشياطين لأنهم أطاعوها في المعصية فكأنهم عبدوها
قوله عز وجل " فكبكبوا فيها " يعني جمعوا فيها " هم والغاوون " ويقال " فكبكبوا فيها " فقذفوا من النار " هم والغاوون " يعني الكفار والآلهة والشياطين الذين أغووا بني آدم وهذا قول مقاتل ويقال " فكبكبوا فيها " يعني ألقي بعضهم على بعض وقال القتبي الأصل كببوا أي ألقوا على رؤوسهم فيها فأبدلت مكان إحدى الباءين كاف وقال الزجاج هو تكرير الإنكباب لأنه إذا ألقي ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر فيها ويقال جمعوا فيها ومنه حديث جبريل عليه السلام أنه ينزل في كبكبة من الملائكة يعني جماعة من الملائكة عليهم السلام
ثم قال عز وجل " وجنود إبليس أجمعون " يعني جمعوا فيها جميعا " قالوا وهم فيها يختصمون " يعني الكفار والأصنام ويقال الكفار والشياطين ويقال الرؤساء والأتباع(2/559)
560
ومعناه قالوا وهم يختصمون فيها على معنى التقديم " تالله " يعني والله " إن كنا لفي ضلال مبين " يعني في خطأ بين " إذ نسويكم برب العالمين " يعني نطيعكم كما يطيع المؤمنون أمر الله عز وجل " وما أضلنا إلا المجرمون " يعني ما صرفنا عن الإيمان إلا الشياطين ويقال رؤساؤنا ويقال آباؤنا المشركون " فما لنا من شافعين " يعني حيث يرون الأنبياء عليهم السلام يشفعون للمؤمنين والملائكة عليهم السلام يشفعون ولا يشفع أحد للكفار فيقولون ليس أحد يشفع لنا " ولا صديق حميم " يعني قريب يهمه أمرنا
سورة الشعراء 102 - 110
قوله عز وجل " فلو أن لنا كرة " يعني رجعة إلى الدنيا " فنكون من المؤمنين " يعني من المصدقين على دين الإسلام " إن في ذلك لآية " يعني لعبرة لمن يعبد غير الله تعالى ليعلم أنه يتبرأ منه في الآخرة ولا ينفعه " وما كان أكثرهم مؤمنين " يعني الذين جمعوا في النار لم يكونوا مؤمنين " وإن ربك لهو العزيز " بالنقمة لمن عبد غيره " الرحيم " بالمؤمنين
قوله عز وجل " كذبت قوم نوح المرسلين " يعني نوحا عليه السلام وحده ويقال جميع الأنبياء عليهم السلام لأن نوحا عليه السلام دعاهم إلى الإيمان بجميع الأنبياء والرسل عليهم السلام فلما كذبوه فقد كذبوا جميع الرسل " إذ قال لهم أخوهم نوح " يعني نبيهم سماه أخوهم لأنه كان منهم وإبن أبيهم " ألا تتقون " يعني ألا تخافون الله تعالى فتوحدوه " إني لكم رسول أمين " فيما بينكم وبين ربكم وجعلني الله عز وجل أمينا في أداء الرسالة إليكم ويقال إنه كان أمينا فيهم قبل أن يبعث " فاتقوا الله " أي خافوا الله " وأطيعون " يعني فاتبعوني فيما أمركم به " وما أسألكم عليه من أجر " يعني على الإيمان من أجر يعني أجرا " إن أجري " يعني ما ثوابي " إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون " وقد ذكرناه
سورة الشعراء 111 - 122(2/560)
561
قوله عز وجل " قالوا أنؤمن لك " يعني أنصدقك " واتبعك الأرذلون " يعني سفلتنا ويقال المساكين ويقال الضعفاء قرأ يعقوب الحضرمي " واتباعك الأرذلون " وهو جمع تابع ومعناه وأتباعك الأرذلون وقراءة العامة " واتبعك الأرذلون " بلفظ الماضي اتبعك من تبعك " قال " لهم نوح " وما علمي بما كانوا يعملون " يعني ما كنت أعلم أن الله تعالى يهديهم من بينكم ويدعكم " إن حسابهم إلا على ربي " يعني ما حسابهم إلا على ربي ويقال ما سرائرهم إلا عند ربي " لو تشعرون " أن الله تعالى علام الغيوب
قالوا لنوح أطردهم حتى نؤمن بك قال لهم نوح " وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين " إلا منذر لكم بلغة تعرفونها " قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين " أي من المقتولين ويقال من المرجومين بالحجارة
قوله عز وجل " قال رب إن قومي كذبون " بالعذاب والتوحيد " فافتح بيني وبينهم فتحا " يعني إقض بيني وبينهم قضاء ويقال للقاضي فتاح وهذه لغة أهل اليمن " ونجني ومن معي من المؤمنين " من العذاب ومن أذى الكفار " فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون " يعني السفينة المملوءة الموقرة من الناس والأنعام وغير ذلك " ثم أغرقنا بعد الباقين " يعني من بقي ممن لم يركب السفينة ولفظ البعد والقبل إذا كان بغير إضافة يكون بالرفع مثل قوله " لله الأمر من قبل ومن بعد " [ الروم : 4 ] وكقوله " ثم أغرقنا بعد الباقين " وإذا كانت بالإضافة يكون نصبا في موضع النصب كقوله " وأنشأنا بعدها قوما آخرين " [ الأنبياء : 11 ]
ثم قال عز وجل " إن في ذلك لآية " يعني لعبرة لمن إستخف بفقراء المسلمين واستكبر عن قول الحق " وما كان أكثرهم مؤمنين " فلم يؤمن من قومه إلا ثمانون من الرجال والنساء " وإن ربك لهو العزيز " بالنقمة لمن تعظم عن الإيمان واستخف بضعفاء المسلمين واستهزأ بهم " الرحيم " لمن تاب
سورة الشعراء 123 - 132
وقوله عز وجل " كذبت عاد المرسلين " يعني كذبوا هودا عليه السلام " إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين " وقد ذكرناه " أتبنون بكل ريع " يعني بكل طريق " آية " علامة(2/561)
562
ويقال بكل شرف علما " تعبثون " يعني تلعبون ويقال تضربون فتأخذون المال ممن مر بكم
وروي عن إبن عباس في قوله تعالى " آية تعبثون " يعني تبنون ما لا تسكنون وقال أهل اللغة كل لعب لا لذة فيه فهو عبث واللعب ما كان فيه لذة فهم إذا بنوا بناء ولا منفعة لهم فيه فكأنهم يعبثون
ثم قال عز وجل " وتتخذون مصانع " يعني القصور وقال مجاهد المصانع قصور وحصون وقال القتبي المصانع البناء واحدها مصنعة ويقال الريع الإرتفاع من الأرض ومعناه أنكم تبنون البناء والقصور وتظنون أن ذلك يحصنكم من أقدار الله تعالى ويقال " وتتخذون مصانع " يعني الحياض " لعلكم تخلدون " يعني كأنكم تخلدون في الدنيا
قوله عز وجل " وإذا بطشتم " يعني عاقبتم ويقال يعني ضربتم بالسوط وقتلتم بالسيف " بطشتم جبارين " يعني فعلتم كفعل الجبارين لأن الجبارين يضربون ويقتلون بغير حق وأصل البطش في اللغة هو الأخذ بالقهر والغلبة " فاتقوا الله وأطيعون " فيما آمركم به " واتقوا الذي أمدكم " يعني أعطاكم " بما تعلمون " ما تعلمون من الخير
سورة الشعراء 133 - 140
ثم بين فقال " أمدكم بأنعام وبنين " يعني أعطاكم الأموال والبنين " وجنات وعيون " يعني البساتين والأنهار الجارية فاعرفوا رب هذه النعمة واشكروه ليديم عليكم النعمة فإنكم إن لم تشكروه ف " إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " يعني أعلم أنه يصيبكم العذاب في الدنيا والآخرة
قوله عز وجل " قالوا سواء علينا أوعظت " يعني نهيتنا وخوفتنا من العذاب " أم لم تكن من الواعظين " يعني من الناهين روي عن إبن عباس أنه قال هو الوعظ بعينه " إن هذا إلا خلق الأولين " قرأ أبو عمرو والكسائي وإبن كثير " إن هذا إلا خلق " بنصب الخاء وقرأ الباقون بالضم فمن قرأ بالنصب فمعناه ما هذا العذاب الذي تذكره إلا أحاديث الأولين ويقال الإحياء بعد الموت لا يكون وإنما هذا خلق الأولين أنهم يعيشون ثم يموتون " وما نحن بمعذبين " قال القتبي الخلق الكذب كقوله " إن هذا إلا إختلاق " [ ص : 7 ] وكقوله " إن هذا إلا خلق الأولين " [ الشعراء : 137 ] أي خوضهم للكذب والعرب تقول للخرافات أحاديث الخلق قال وأصل الخلق التقدير وها هنا أراد به إختلافهم وكذبهم وأما من قرأ بضم الخاء فمعناه إن هذا إلا عادة الأولين والعادة أيضا تحتمل المعنيين مثل الأول(2/562)
563
ثم قال عز وجل " فكذبوه فأهلكناهم " يعني كذبوا هودا فأهلكناهم بالريح " إن في ذلك لآية " يعني لعبرة لمن يعمل عمل الجبارين ولا يقبل الموعظة " وما كان أكثرهم مؤمنين " يعني قوم عاد ولو كان أكثرهم لم يهلكهم الله تعالى " وإن ربك لهو العزيز " يعني المنيع بالنقمة لمن يعمل عمل الجبارين ولا يقبل الموعظة وهو تخويف لهذه الأمة لكيلا يسلكوا مسالكهم " الرحيم " لمن تاب ورجع
سورة الشعراء 141 - 153
قوله عز وجل " كذبت ثمود المرسلين " يعني صالحا ومن قبله من المرسلين عليهم السلام " إذ قال لهم أخوهم " يعني نبيهم " صالح ألا تتقون " وقد ذكرناه " إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن إجري إلا على رب العالمين " وقد ذكرناه " أتتركون فيما ها هنا آمنين " يعني في هذا الخير والسعة آمنين من الموت " في جنات وعيون " يعني البساتين والأنهار ويقال العيون ها هنا الآثار لأن قوم صالح لم يكن لهم أنهار جارية ويقال كانت لهم بالشتاء آبار وكانوا يسكنون في الجبال وفي أيام الصيف كانوا يخرجون إلى القصور والكروم والأنهار
ثم قال عز وجل " وزروع ونخل طلعها هضيم " قال مقاتل يعني متراكبا بعضه على بعض وقال القتبي الهضيم الطلع قبل أن تنشق عنه القشر يريد أنه منضم متكثر يقال رجل أهضم الكشحين إذا كان منضما ويقال " هضيم " أي طري لين ويقال " هضيم " متهشهش في الفم " وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين " قرأ أبو عمرو وإبن كثير ونافع " فرهين " بغير ألف وقرأ الباقون " فارهين " بالألف فمن قرأ " فرهين " فهو بمعنى أشرين بطرين وهو الطغيان في النعمة وإنما صار نصبا على الحال ومن قرأ " فارهين " يعني حاذقين " فاتقوا الله وأطيعون " فيما آمركم به
قوله عز وجل " ولا تطيعوا أمر المسرفين " يعني قول المشركين وهم تسعة رهط " الذين " كانوا " يفسدون في الأرض ولا يصلحون " يعني لا يأمرون بالصلاح ولا يطيعونه فأجابه قومه " قالوا إنما أنت من المسحرين " يعني من المخلوقين ويقال ذو سحر(2/563)
564
والسحر هو الدية يعني إنك مثلنا وروي عن إبن عباس أنه قال " من المسحرين " أي من المخلوقين وقال أما سمعت قول لبيد
( فإن تسألينا فيم نحن فإننا % عصافير من هذا الأنام المسحر )
ويقال " إنما أنت من المسحرين " يعني سوقة مثلنا والسوقة إذا كان دون الملوك
سورة الشعراء 154 - 159
ثم قال " ما أنت إلا بشر مثلنا " يعني آدمي مثلنا " فأت بآية إن كنت من الصادقين " أنك رسول الله تعالى " قال هذه ناقة لها شرب " والشرب في اللغة النصيب من الماء والشرب بضم الشين المصدر والشرب بنصب الشين جماعة الشراب فكان للناقة شرب يوم ولهم شرب يوم فذلك قوله " ولكم شرب يوم معلوم ولا تمسوها بسوء " يعني لا تصيبوها بعقر يعني لا تقتلوها فإنكم إن قتلتموها " ولا تمسوها بسوء " " فيأخذكم عذاب يوم عظيم " يعني صيحة جبريل عليه السلام " فعقروها " يعني قتلوا الناقة " فأصبحوا نادمين " يعني فصاروا نادمين على عقرها
قوله عز وجل " فأخذهم العذاب " يعني عاقبهم الله تعالى بالعذاب " إن في ذلك لآية " يعني لعبرة لمن يعظم آيات الله تعالى وكانت الناقة علامة لنبوة صالح عليه السلام فلما أهلكوها ولم يعظموها صاروا نادمين والقرآن علامة لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم فمن رفضه ولم يعمل بما فيه ولم يعظمه يصير نادما غدا ويصيبه العذاب " وما كان أكثرهم مؤمنين " يعني قوم صالح عليهم السلام " وإن ربك لهو العزيز " يعني المنيع بالنقمة لمن لم يعظم آيات الله تعالى " الرحيم " لمن تاب ورجع
سورة الشعراء 160 - 175(2/564)
565
قوله عز وجل " كذبت قوم لوط المرسلين " يعني لوطا وغيره " إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين " وقد ذكرناه
" أتأتون الذكران من العالمين " يعني أتجامعون الرجال من بين العالمين " وتذرون " يعني وتتركون " ما خلق لكم ربكم من أزواجكم " يعني من نسائكم " بل أنتم قوم عادون " يعني معتدين من الحلال إلى الحرام " قالوا لئن لم تنته يا لوط " من مقالتك " لتكونن من المخرجين " من قريتنا " قال " لوط " إني لعملكم من القالين " يعني من المبغضين ويقال قليت الرجل إذا بغضته ومنه قوله " ما ودعك ربك وما قلى " [ الضحى : 3 ]
قوله عز وجل " رب نجني وأهلي مما يعملون " من الفواحش " فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين " يعني الباقين في العذاب يعني وامرأته ويقال إن هذا من أسماء الأضداد يقال غبر الشيء إذا مضى وغبر الشيء إذا بقي وقال بعض أهل اللغة القالي التارك للشيء الكاره له غاية الكراهة " ثم دمرنا الآخرين " يعني أهلكنا الباقين " وأمطرنا عليهم مطرا " يعني الحجارة " فساء مطر المنذرين " يعني بئس مطر من أنذر فلم يؤمن " إن في ذلك لآية " يعني لعبرة لمن عمل الفواحش أي وارتكب الحرام " وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز " بالنعمة لمن إرتكب الفواحش وعمل الحرام " الرحيم " لمن تاب
سورة الشعراء 176 - 180
قوله عز وجل " كذب أصحاب الأيكة " قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي " الأيكة " بكسر الهاء وبالألف وقرأ الباقون " ليكة " بغير ألف ونصب الهاء لأن ليكة إسم بلد ولا تنصرف من قرأ " الأيكة " فلأنها عرفت بالألف واللام فيصير خفضا بالإضافة وقرىء في الشاذ ليكة بكسر الهاء بغير ألف لأن الأصحاب مضاف إلى ليكة فصار إسما واحدا ويقال " الأيكة " هي الشجرة الملتفة يقال أيك وأيكة مثل أجم وأجمة ويقال شجرة الدوم وهو شجر المقل " كذب أصحاب الأيكة المرسلين "
ثم قال عز وجل " إذ قال لهم شعي ب " ولم يقل أخوهم قال بعضهم كان شعيب بعث إلى قومين أحدهما مدين وكان شعيب منهم فسماه أخاهم حيث قال " وإلى مدين أخاهم شعيبا " [ هود : 84 ] والآخر أصحاب الأيكة ولم يكن شعيب عليه السلام منهم فلم يقل(2/565)
566
أخوهم وقال بعضهم كان مدين والأيكة واحدا وهو الغيضة بقرب مدين فذكره في موضع أخوهم ولم يذكره في الآخر ثم قال " ألا تتقون " يعني ألا تخافون الله تعالى فتوحدوه " إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر أن أجري إلا على رب العالمين " وقد ذكرناه
سورة الشعراء 181 - 191
ثم قال عز وجل " أوفوا الكيل " لا تنقصوها " ولا تكونوا من المخسرين " يعني من الناقصين في الكيل والوزن وفي هذا دليل على أنه أراد بهذا أهل مدين لأنه ذكر في تلك الآية " وأوفوا الكيل والميزان " [ الأنعام : 152 ] كما ذكرها هنا
ثم قال " وزنوا بالقسطاس المستقيم " يعني بميزان العدل بلغة الروم ويقال هو القبان " ولا تبخسوا الناس أشياءهم " يعني لا تنقصوا الناس حقوقهم قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " بالقسطاس " بكسر القاف وقرأ الباقون بالضم وهما لغتان
ثم قال " ولا تعثوا في الأرض مفسدين " يعني لا تسعوا فيها بالمعاصي يقال عثا يعثو وعاث يعيث وعثى يعثي إذا ظهر الفساد
ثم قال عز وجل " واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين " يعني الخليقة الأولين " قالوا إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا " وقد ذكرناه " وإن نظنك لمن الكاذبين " يعني ما نظنك إلا من الكاذبين " فأسقط علينا كسفا من السماء " أي جانبا من السماء وقرئ " كسفا " بنصب السين أي قطعا وهو جمع كسفة " إن كنت من الصادقين قال " شعيب عليه السلام " ربي أعلم " من غيره " بما تعملون " من نقصان الكيل " فكذبوه " ثانية " فأخذهم عذاب يوم الظلة " لأنه أصابهم حر شديد فخرجوا إلى الغيضة فاستظلوا بها فأرسل عليهم نارا فأحرقت الغيضة فاحترقوا كلهم " إنه كان عذاب يوم عظيم " صار العذاب نصبا لأنه خبر كان " إن في ذلك لآية " يعني لعبرة لمن نقص في الكيل والوزن " وما كان أكثرهم مؤمنين " يعني قوم شعيب " وإن ربك لهو العزيز " بالنقمة لمن نقص الكيل والوزن " الرحيم " لمن تاب ورجع(2/566)
567
سورة الشعراء 192 - 199
قوله عز وجل " وإنه لتنزيل رب العالمين " يعني القرآن ويقال إنه إشارة إلى ما ذكر في أول السورة " تلك آيات الكتاب المبين " وأنه يعني الكتاب لتنزيل رب العالمين " نزل به الروح الأمين " قرأ حمزة والكسائي وإبن عامر وعاصم في رواية أبي بكر " نزل " بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف فمن قرأ بالتشديد فمعناه نزل الله تعالى بالقرآن الروح الأمين يعني جبريل عليه السلام نصب الروح لوقوع الفعل عليه يعني أنزل الله تعالى جبريل بالقرآن ومن قرأ بالتخفيف فمعناه نزل جبريل عليه السلام بالقرآن فجعل الروح رفعا لأنه فاعل ثم قال " على قلبك " أي نزله عليك ليثبت به قلبك ويقال أي لكي يحفظ به قلبك ويقال " على قلبك " أي نزل على قدر فهمك وحفظك ويقال أي نزله عليك فوعاه قلبك وثبت فيه فلا تنساه أبدا كما قال " سنقرئك فلا تنسى " [ الأعلى : 6 ] ويقال " على قلبك " يعني على موافقة قلبك ومرادك " لتكون من المنذرين " يعني من المخوفين بالقرآن للكفار من النار
ثم قال عز وجل " بلسان عربي مبين " يعين يبين لهم بلغتهم ويقال بلغة قريش وهوازن وكان لسانهما أفصح قال مقاتل وذلك أنهم كانوا يقولون إنه يعلمه أبو فكيهة وكان أعجميا روميا فأخبر أن القرآن بلغة قريش " وإنه لفي زبر الأولين " يعني أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته في كتب الأولين كما قال " يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل " [ الأعراف : 157 ] والزبر الكتب واحدها زبور مثل رسل ورسول ويقال إنه يعني القرآن " لفي زبر الأولين " يعني بعضه كان في كتب الأولين ويقال نعت القرآن وخبره كان في كتب الأولين
ثم قال عز وجل " أو لم يكن لهم آية " قرأ إبن عامر وحده " تكن " و " آية " بالضم وقرأ الباقون بالياء بلفظ التذكير " آية " بالنصب فمن قرأ بلفظ التذكير والنصب جعل " أن يعلمه " إسم كان وجعل " آية " خبر كان والمعنى أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل على جهة المعنى ومن قرأ بلفظ التأنيث والضم جعل " آية " هي الإسم " وأن يعلمه " خبر تكن ومعنى القراءتين واحد وذلك أن كفار مكة بعثوا رسولا إلى يهود المدينة وسألوهم عن بعثته فقالوا هذا زمان خروجه ونعته كذا فنزل " أو لم يكن لهم آية " يعني لكفار مكة " آية " يعني علامة " أن يعلمه علماء بني إسرائيل " يعني إن هذا علامة لهم ليؤمنوا به
ثم قال " ولو نزلناه على بعض الأعجمين " يعني القرآن لو نزلناه بالعبرانية على رجل ليس بعربي اللسان من العبرانيين " فقرأه عليهم " يعني على كفار مكة " ما كانوا به مؤمنين "(2/567)
568
يعني بالقرآن فهذا منة من الله تعالى حيث خاطبهم بلغتهم ليفهموه وقال القتبي في قوله " على بعض الأعجمين " يقال رجل أعجمي إذا كان في لسانه عجمة وإن كان من العرب ورجل عجمي بغير ألف إذا كان من العجم وإن كان فصيح اللسان
سورة الشعراء 200 - 207
ثم قال عز وجل " كذلك سلكناه " يعني جعلنا التكذيب بالقرآن " في قلوب المجرمين " يعني المشركين مجازاة لهم أي طبع على قلوبهم وسلك فيها التكذيب ويقال جعل حلاوة الكفر في قلوبهم " لا يؤمنون " يعني بالقرآن ويقال بمحمد صلى الله عليه وسلم " حتى يروا العذاب الأليم " في الدنيا والآخرة " فيأتيهم بغتة " يعني يأتيهم العذاب فجأة " وهم لا يشعرون " به فيتمنون الرجعة والنظرة " فيقولوا هل نحن منظرون " فلما وعدهم العذاب قالوا فأين العذاب تكذيبا به يقول الله تعالى " أفبعذابنا يستعجلون " يعني أبمثل عذابنا يستهزئون ثم قال " أفرأيت إن متعناهم سنين " يعني سنين الدنيا كلها ويقال سنين كثيرة " ثم جاءهم ما كانوا يوعدون " من العذاب
قال عز وجل " ما أغنى عنهم " يعني ما ينفعهم " ما كانوا يمتعون " في الدنيا
سورة الشعراء 208 - 213
ثم خوفهم فقال " وما أهلكنا من قرية " يعني من أهل قرية فيما خلا " إلا لها منذرون " يعني رسلا ينذرونهم " ذكرى " يعني العذاب تذكرة وتفكرا قال بعضهم إن " ذكرى " في موضع النصب وقال بعضهم في موضع رفع أما من قال في موضع النصب فيقول لها منذرون يذكرونهم ذكرى يعني يعظونهم عظة ومن قال إنه في موضع رفع فيقول لها منذرون هم ذكرى " وما كنا ظالمين " يعني بإهلاكنا إياهم
ثم قال عز وجل " وما تنزلت به الشياطين " روي عن الحسن أنه قرأ " وما تنزلت به الشياطنون " شبهه بقوله كافرون ومسلمون قال أبو عبيدة وهذا وهم لأن واحدها شيطان والنون فيه أصليه أما مسلمون وكافرون فالنون فيهما زائدة في الجمع لأن واحدهما مسلم وكافر وقال بعضهم هذا غلط على الحسن لأنه كان فصيحا لا يخفى عليه وإنما الغلط من الراوي ومعنى الآية أن المشركين كانوا يقولون إن الشيطان هو الذي يقرأ عليه قال الله(2/568)
569
تعالى ردا لقولهم " وما تنزلت به الشياطين " " وما ينبغي لهم " يعني وما جاز لهم " وما يستطيعون " ذلك وقد حيل بينهم وبين السمع
وقد روي عن إبن عباس أنه قال لا يستطيعون أن يحملوا القرآن ولو فعلوا ذلك لاحترقوا
ثم قال عز وجل " إنهم عن السمع لمعزولون " يعني إنهم عن الإستماع لمحجوبون وممنوعون
ثم قال " فلا تدع مع الله إلها آخر " وذلك حين دعي إلى دين آبائه فأخبره الله تعالى أنه لو إتخذ إلها آخر عذبه الله تعالى وإن كان كريما عليه كقوله " لئن أشركت ليحبطن عملك " [ الزمر : 65 ] فكيف بغيره
وروي في الخبر أن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له أرميا بأن يخبر قومه بأن يرجعوا عن المعصية فإنهم إن لم يرجعوا أهلكتهم فقال أرميا يا رب إنهم أولاد أنبيائك أولاد إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام أفتهلكهم بذنوبهم قال الله تعالى وإنما أكرمت أنبيائي لأنهم أطاعوني ولو أنهم عصوني لعذبتهم وإن كان إبراهيم خليلي ويقال " فلا تدع مع الله إلها آخر " الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم المراد به غيره لأنه علم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتخذ إلها آخر ثم قال " فتكون من المعذبين " إن عبدت غيري فتكون من الهالكين
سورة الشعراء 214 - 220
قوله عز وجل " وأنذر عشيرتك الأقربين " يعني خوف أقرباءك بالنار لكي يؤمنوا ويثبتوا على الإيمان من كان منهم مؤمنا وروى هشام عن الحسن قال لما نزلت هذه الآية " وأنذر عشيرتك الأقربين " جمع النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته فقال لهم يا بني هاشم يا بني عبد المطلب تعلمون أني رسول الله إليكم وأني لا أملك لكم من الله شيئا لي عملي ولكم عملكم وإنما أوليائي منكم المتقون فلا أعرفن ما جاء الناس يوم القيامة بالآخرة وجئتم بالدنيا تحملونها على رقابكم وذكر السدي هكذا ثم قال ألا فاتقوا النار ولو بشق تمرة
وروي عن سعيد بن جبير عن إبن عباس أنه قال لما نزل " وأنذر عشيرتك الأقربين " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى بأعلى صوته يا صباحاه فاجتمع الناس فقال صلى الله عليه وسلم(2/569)
570
يا بني عبد المطلب يا بني هاشم أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أصدقتموني قالوا نعم قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب تبا لك سائر اليوم وما دعوتنا إلا لهذا فنزل " تبت يدا أبي لهب وتب " [ المسد : 1 ]
ثم قال عز وجل " واخفض جناحك " يعني لين جانبك " لمن إتبعك من المؤمنين " يعني من المصدقين بك " فإن عصوك " قال مقاتل فيها تقديم يعني الأقربين فإن خالفوك " فقل إني بريء مما تعملون " من الشرك
ثم قال " وتوكل على العزيز الرحيم " قرأ نافع وإبن عامر " فتوكل " بالفاء لأنه متصل بالكلام الأول ودخلت الفاء للجزاء وقرأ الباقون " وتوكل " بالواو على وجه العطف " وتوكل على العزيز الرحيم " يعني ثق بالله وفوض جميع أمورك إلى العزيز الرحيم " الذي يراك حين تقوم " في الصلاة وحدك " وتقلبك في الساجدين " يعني وحين تصلي في الجماعة وقال عكرمة " وتقلبك في الساجدين " قال في حال القيام والركوع والسجود يعني يرى قيامك وركوعك وسجودك ويراك مع المصلين ويقال الذي يراك حين تقوم من منامك للصلاة بالليل ويقال حين تقوم وتدعو الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله ويقال " وتقلبك في الساجدين " يعني تقلبك في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات من آدم إلى نوح وإلى إبراهيم وإلى من بعده صلوات الله عليهم قوله عز وجل " إنه هو السميع العليم " يعني بآبائهم وبأعمالهم
سورة الشعراء 221 - 227
قوله عز وجل " هل أنبئكم " يعني هل أخبركم " على من تنزل الشياطين " هذا موصول بقوله " وما تنزلت به الشياطين " " تنزل على كل أفاك أثيم " يعني كذاب صاحب الإثم فاجر القلب الأفاك الكذاب والأثيم الفاجر يعني به كهنة الكفار " يلقون السمع " يعني يلقون بآذانهم إلى السمع من السماء لكلام الملائكة عليهم السلام " وأكثرهم كاذبون " يعني حين يخبرون الكهنة وروى معمر عن الزهري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت الشياطين تسترق السمع فتجيء بكلمة حق فتقذفها في أذن وليها فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة وهذا كان قبل أن يحجبوا من السماء(2/570)
571
ثم قال عز وجل " والشعراء يتبعهم الغاوون " قال قتادة ومجاهد يتبعهم الشياطين وقال في رواية الكلبي الغاوون هم الرواة الذين كانوا يروون هجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويقال " الغاوون " هم الضالون ويقال شعراء الكفار كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتبعهم الكفار
ثم قال عز وجل " ألم تر أنهم في كل واد يهيمون " يعني في كل وجه وفن يذهبون ويخوضون يأخذون مرة يذمون ومرة يمدحون وذكر عن القتبي أنه قال " في كل واد يهيمون " من القول وفي كل مذهب يذهبون كما تذهب البهائم على وجهها وقال غيره هام الرجل والبعير إذا مضى على وجهه لا يدري أن يذهب فكذلك الشاعر يأخذ كلامه لا يدري أين ينتهي قرأ نافع وحده " يتبعهم " بجزم التاء والتخفيف وقرأ الباقون " يتبعهم " بنصب التاء والتشديد وهما بمعنى واحد يتبعهم ويتبعهم
ثم قال " وأنهم يقولون ما لا يفعلون " يعني أن الشعراء يقولون قد فعلنا كذا وكذا وقلنا كذا فيمدحون بذلك أنفسهم وهم كذبة ثم إستثنى شعراء المسلمين حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك رضي الله عنهم فقال عز وجل " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا " يعني ذكروا الله في أشعارهم ويقال وذكروا الله عز وجل في الأحوال كلها " وانتصروا من بعد ما ظلموا " يعني إنتصر شعراء المسلمين من شعراء الكافرين فكافؤوهم والبادئ أظلم ويقال إنتصروا من أهل مكة من بعدما أخرجوا لأن الحرب تكون بالسيف وباللسان فأذن القتال بالشعر كما أذن بالسيف إذ فيه قهرهم
ثم أوعد شعراء الكافرين فقال تعالى " وسيعلم الذين ظلموا " يعني الذين هجوا المسلمين " أي منقلب ينقلبون " يعني أي مرجع يرجعون إليه في الآخرة يعني إلى الخسران والنار ويقال هاتان الآيتان مدنيتان وذكر أنه لما نزل " والشعراء يتبعهم الغاوون " جاء عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وهما يبكيان فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " والشعراء " إلى قوله " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " فقال صلى الله عليه وسلم هذا أنتم " وانتصروا من بعد ما ظلموا " أنتم وروي عن عكرمة قال عن إبن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن من الشعر لحكمة وإن من الشعراء لحكماء وفي رواية أخرى إن من الشعر لحكما وإن من البيان لسحرا والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم(2/571)
572
سورة النمل
كلها مكية وهي تسعون وأربع آيات مكية
سورة النمل 1 - 6
قول الله سبحانه وتعالى " طس تلك آيات القرآن " يعني هذه الأحكام ويقال تلك الآيات التي وعدتم بها وذلك أنهم وعدوا بالقرآن في كتبهم ويقال " آيات " يعني العلامات ويقال جميع أحرف القرآن " وكتاب مبين " كلاهما واحد وإنما كرر اللفظ للتأكيد " مبين " يعني بين ما فيه من أمره ونهيه ويقال مبين لأحكام الحلال والحرام
ثم قال " هدى " يعني القرآن هدى وبيانا من الضلالة لمن عمل به ويقال " هدى " يعني هاديا " وبشرى للمؤمنين " يعني ما فيه من الثواب للمؤمنين قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو " وبشرى " بإمالة الراء وقرأ الباقون بالتفخيم وكلاهما جائز والإمالة أكثر في كلام العرب والتفخيم أفصح وهي لغة أهل الحجاز " للمؤمنين " يعني للمصدقين بالقرآن أنه من الله تعالى
ثم نعتهم فقال " الذين يقيمون الصلاة " يعني يقرون بها ويتمونها " ويؤتون الزكاة " يعني يقرون بها ويعطونها " وهم بالآخرة هم يوقنون " يعني يصدقون بأنها كائنة
ثم قال " إن الذين لا يؤمنون بالآخرة " أي لا يصدقون بالبعث بعد الموت " زينا لهم أعمالهم " يعني ضلالتهم عقوبة لهم ولما عملوا ومجازاة لكفرهم زينا لهم سوء أعمالهم " فهم يعمهون " يعني يترددون فيها ويتحيرون في ضلالتهم
قوله عز وجل " أولئك " يعني أهل هذه الصفة " الذين لهم سوء العذاب " يعني شدة العذاب " وهم في الآخرة هم الأخسرون " يعني الخاسرون بحرمان النجاة والمنع من الحسنات ويقال هم أخسر من غيرهم وقال أهل اللغة متى ذكر الأخسر مع الألف واللام فيجوز أن يراد به الأخسر من غيرهم وإن لم يذكر غيرهم وإن ذكر بغير ألف ولام فلا يجوز أن يراد به أنه أخسر إلا أن يقال هو أخسر من فلان أو من غيره(2/572)
573
قوله عز وجل " وإنك لتلقى القرآن " يعني لتؤتى بالقرآن يعني كقوله " وما يلقاها " [ فصلت : 35 ] يعني وما يؤتى بها ويقال " وإنك لتلقى بالقرآن " يعني لتلقن القرآن وقال أهل اللغة تلقى وتلقن بمعنى واحد إذا أخذ وقبل من غيره ويقال " وإنك لتلقى القرآن " أي يلقى إليك القرآن وحيا من الله عز وجل ثم قال " من لدن حكيم عليم " يعني نزل عليك جبريل من عند " حكيم " عليم في أمره " عليم " بأعمال الخلق
سورة النمل 7
قوله عز وجل " إذ قال موسى لأهله " قال بعضهم معناه إنه عليم بما ينزل عليك كعلمه بقول موسى عليه السلام ويقال حكمت لك بالنبوة كما حكمت لموسى إذ قال لأهله " إني آنست نارا " يعني رأيت نارا وأبصرتها من بعيد " سأتيكم منها بخبر " يعني خبر الطريق " أو آتيكم بشهاب قبس " يعني بنار أصيبها ويقال كل أبيض ذي نور فهو شهاب والقبس كل ما يقتبس من النار والقبس يعني المقبوس كما يقال ضرب فلان يعني مضروبه
قرأ عاصم وحمزة والكسائي " شهاب قبس " بالتنوين وقرأ الباقون بغير تنوين فمن قرأ منونا جعل القبس نعتا لشهاب ومن قرأ " بشهاب " غير منون أضاف الشهاب إلى القبس ثم قال " لعلكم تصطلون " يعني تستدفئون من البرد
سورة النمل 8 - 12
قوله عز وجل " فلما جاءها " يعني النار ويقال يعني الشجرة " نودي أن بورك من في النار " يعني بورك من عند النار وهو موسى عليه السلام " ومن حولها " يعني الملائكة عليهم السلام وهو على وجه التقديم " فلما جاءها " ومن حولها من الملائكة " نودي أن بورك من في النار " أي عند النار ويقال من في طلب النار وقصدها والمعنى بورك فيك يا موسى وقال أهل اللغة بارك فلان وبارك فيه وبارك عليه واحد وهذا تحية من الله تعالى لموسى عليه السلام ثم قال " وسبحان الله " يعني قيل له قل سبحان الله تنزيها لله تعالى من السوء ويقال إنه أي الله في النداء قال " فسبحان الله رب العالمين " وقال بعض المفسرين كان ذلك نور رب العزة وإنما أراد به تعظيم ذلك النور كما يقال للمساجد بيوت الله تعظيما لها(2/573)
574
ثم قال عز وجل " يا موسى إنه أنا الله " وذكر عن الفراء أنه قال هذه الهاء عماد وإنما يراد به وصل الكلام كما يقال إنما وما يكون للوصل كذلك ها هنا فكأنه قال يا موسى إني أنا الله " العزيز الحكيم " ويقال معناه إن الذي تسمع نداءه هو الله العزيز الحكيم
قوله عز وجل " وألق عصاك " يعني من يدك فألقاها فصارت حية وقد يجوز أن يضمر الكلام إذا كان في ظاهره دليل " فلما رآها تهتز " يعني تتحرك " كأنها جان " يعني حية والجان هي الحية الخفيفة الأهلية فإن قيل إنه قال في موضع آخر " فإذا هي ثعبان مبين " [ الأعراف : 107 ] والثعبان الحية الكبيرة فأجاب بعض أصحاب المعاني أنه كان في كبر الثعبان وفي خفة الجان قال الفقيه أبو الليث رحمه الله والجواب الصحيح أن الثعبان كان عند فرعون والجان عند الطور
ثم قال " ولى مدبرا " يعني أدبر هاربا من الخوف " ولم يعقب " يعني لم يرجع ويقال لم يلتفت
يقول الله تعالى لموسى " يا موسى لا تخف " من الحية " إني لا يخاف لدي المرسلون " يعني إلا من ظلم ثم إستثنى فقال " إلا من ظلم " قال مقاتل إلا من ظلم نفسه من المرسلين مثل آدم وسليمان وإخوة يوسف وداود وموسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ويقال " إلا من ظلم " يعني لكن من ظلم " ثم بدل حسنا " أي فعل إحسانا " بعد سوء " أي بعد إساءته " فإني غفور رحيم " قال الكلبي " إلا من ظلم " يعني أشرك فهذا الذي يخاف " ثم بدل حسنا " يعني توحيدا بعد سوء يعني بعد شرك " فإني غفور رحيم "
قال أبو الليث رحمه الله وتكون إلا على هذا التفسير بمعنى لكن لا على وجه الإستثناء وذكر عن الفراء أنه قال الإستثناء وقع في معنى مضمر من الكلام كأنه قال لا يخاف لدي المرسلون بل غيرهم يخاف " إلا من ظلم نفسه ثم تاب " فإنه لا يخاف
وقال القتبي هذا لا يصح لأن الإضمار يصح إذا كان في ظاهره دليل ولكن معناه أن الله تعالى لما قال " إني لا يخاف لدي المرسلون " علم أن موسى كان مستشعرا خيفة من قبل القبطي فقال " إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء " فإنه يخاف ولكني أغفر له " فإني غفور رحيم "
ثم قال عز وجل " وأدخل يدك في جيبك " يعني جيب المدرعة ثم أخرجها " تخرج بيضاء من غير سوء " يعني من غير برص " في تسع آيات " يعني هذه الآية من تسع آيات كما تقول أعطيت لفلان عشرة أبعرة فيها فحلان أي منها وقد بين في موضع آخر حيث قال " ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات " [ الإسراء : 101 ] وقد ذكرناها " إلى فرعون " يعني إذهب إلى فرعون " وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين " يعني إنهم كانوا قوما عاصين(2/574)
575
سورة النمل 13 - 14
قوله " فلما جاءتهم آياتنا " يعني جاءهم موسى بآياتنا التسع " مبصرة " يعني معاينة ويقال مبينة يعني علامة لنبوته ويقال " مبصرة " يعني مضيئة واضحة " قالوا هذا سحر مبين " أي بين " وجحدوا بها " يعني بالآيات بعد المعرفة " واستيقنتها أنفسهم " أنها من الله تعالى وإنما إستيقنتها قلوبهم لأن كل آية رأوها إستغاثوا بموسى وسألوا بأن يكشف عنهم فكشفنا عنهم فظهر لهم بذلك أنه من الله تعالى وفي الآية تقديم ومعناه وجحدوا بها " ظلما " يعني شركا " وعلوا " يعني تكبرا وترفعا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى " وإستيقنتها " أنفسهم يعني وهم يعلمون أنها من الله تعالى
ثم قال " فانظر كيف كان عاقبة المفسدين " يعني الذين يفسدون في الأرض بالمعاصي فكانت عاقبتهم الغرق
سورة النمل 15 - 19
قوله عز وجل " ولقد آتينا داود وسليمان علما " يعني علم القضاء والعلم بكلام الطير والدواب " وقالا " يعني داود وسليمان " الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين " بالكتاب والنبوة وكلام الطير والبهائم والملك ويقال فضلنا على كثير من الأنبياء حيث لم يعط أحدا من الأنبياء عليهم السلام ما أعطانا وقال مقاتل كان سليمان أعظم ملكا وأقضى من داود وكان داود أشد تعبدا من سليمان عليهما السلام
ثم قال عز وجل " وورث سليمان داود " يعني ورث ملكه وقال الحسن ورث المال والملك لا النبوة والعلم لأن النبوة والعلم فضل الله تعالى ولا يكون بالميراث ويقال ورث العلم والحكم لأن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون دراهم ولا دنانير
" وقال " سليمان لبني إسرائيل " يا أيها الناس علمنا منطق الطير " يعني أفهمنا وألهمنا منطق الطير وذلك أن سليمان كان جالسا في أصحابه إذ مر بهم طير يصوت فقال لجلسائه(2/575)
576
أتدرون ماذا يقول قالوا لا قال إنه يقول ليت الخلق لم يخلقوا فإذا خلقوا علموا لماذا خلقوا قال وصاح عنده ديك فقال هل تدرون ماذا يقول قالوا لا قال إنه يقول أذكروا الله يا غافلون
ثم قال " وأوتينا من كل شيء " يعني أعطينا علم كل شيء ويقال النبوة والملك وتسخير الجن والشياطين والرياح " إن هذا " الذي أعطينا " لهو الفضل المبين " يعني البين ويقال المبين يبين للناس فضلهم
ثم قال عز وجل " وحشر لسليمان جنوده " يعني جموعه والحشر هو أن يجمع ليساق ثم قال " من الجن والإنس والطير فهم يوزعون " يعني يساقون ويقال " يوزعون " يعني يكفون ويحبس أولهم على آخرهم وأصل الوزع الكف يقال وزعت الرجل إذا كففته وعن الحسن أنه قال لا بد للناس من وزعة أي من سلطان يكفهم وقال مقاتل إنه إستعمل جنيا عليهم يرد أولهم على آخرهم ويقال هكذا عادة القوافل والعساكر ويقال " وحشر " أي جمع لسليمان جنودة في مسيرة له من الجن والإنس والطير " فهم يوزعون " يجلس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا
قوله عز وجل " حتى إذا أتوا على واد النمل " وذلك أن سليمان كان له بساط فرسخ في فرسخ ويقال أربع فراسخ في أربع فراسخ وكان يضع عليه كرسيه وجميع عساكره عليه ثم يأمر الريح فترفعه وتذهب به مسيرة شهر في ساعة واحدة فركب ذات يوم في جموعه فمر بواد النمل في أرض الشام " قالت نملة يا أيها النمل أدخلوا مساكنكم " يعني في بيوتكم ويقال حجركم " لا يحطمنكم " أي لا يهلكنكم ويقال لا يكسرنكم " سليمان وجنوده " بأن يظلموكم وإنما خاطبهم بقوله " أدخلوا " بخطاب العقلاء لأنه حكى عنهم ما يحكى عن العقلاء ثم قال " وهم لا يشعرون " يعني قوم سليمان لا يشعرون بكم ولو كانوا يشعرون بكم لا يحطمونكم لأنهم علموا أن سليمان ملك عادل لا بغي فيه ولا جور فيه ولئن علم بها لم توطأ ويقال " وهم لا يشعرون " يعني جنوده خاصة لأنه علم أن سليمان يعلم بمكانه ويتعاهده ويقال " وهم لا يشعرون " يعني النمل لا يشعرون بجنود سليمان حتى أخبرتهم النملة المنذرة فرفع الريح صوتها إلى سليمان " فتبسم ضاحكا من قولها " كما يكون ضحك الأنبياء عليهم السلام وإنما ضحك من ثنائها على سليمان بعدله في ملكه يعني أنه لو شعر بكم لم يحطمنكم ويقال " فتبسم ضاحكا " أي متعجبا ويقال فرحا بما أنعم الله تعالى عليه " ضاحكا " صار نصبا على الحال و " وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي " يعني ألهمني ويقال أوزعني من الكف أيضا كأنه قال إحفظ جوارحي لكيلا تشتغل(2/576)
577
بشيء سوى شكرك الذي أنعمت علي " وعلى والدي " يعني النبوة والملك " وأن أعمل صالحا ترضاه " يعني تقبله مني وذكر أنه مر بزارع فقال الزارع إنه ما أعطي مثل هذا الملك لأحد فقال له سليمان ألا أنبئك بما هو أفضل من هذا القصد في الغنى والفقر وتقوى الله تعالى في السر والعلانية والقضاء بالعدل في الرضا والغضب
ثم قال تعالى " وأدخلني برحمتك " يعني في جنتك " في عبادك الصالحين " يعني مع عبادك الصالحين يعني المرسلين فوقف سليمان عليه السلام بموضعه ليدخل النمل مساكنهم ثم مضى
قرأ يعقوب الحضرمي وأبو عمرو في إحدى الروايتين " لا يحطمنكم " بسكون النون وقراءة العامة بنصب النون والتشديد وهذه النون تدخل للتأكيد فيجوز التخفيف والتثقيل ولفظه لفظ النهي ومعناه جواب الأمر يعني إن لم تدخلوا مساكنكم حطمكم
سورة النمل 20 - 21
ثم قال عز وجل " وتفقد الطير " يعني طلب الطير وذلك أنه أراد أن ينزل منزلا فطلب الهدهد " فقال ما لي لا أرى الهدهد " وكا رئيس الهداهد وكان سليمان قد جعل على كل صنف منهم رئيسا ثم جعل الكركي رئيسا على جميع الطيور قرأ نافع وأبو عمرو وإبن عامر وحمزة " ما لي " بسكون الياء وقرأ الباقون بنصب الياء وهما لغتان يجوز كلاهما
ثم قال " أم كان من الغائبين " يعني أم كان غائبا لم يحضر بعد ويقال الميم للصلة ومعناه " أكان من الغائبين " يعني أصار من الغائبين وذكر أن الهدهد كان مهتديا يعرف المسافة التي بينهم وبين الماء ويقال كان يعرف الماء من تحت الأرض ويراه كما يرى من القارورة
وروى عكرمة أنه قال قلت لإبن عباس كيف يرى الماء من تحت الأرض وأن صبياننا يأخذونه بالفخ فلا يرى الخيط والشبكة فقال إبن عباس ما ألقى هذه الكلمة على لسانك إلا الشيطان أما علمت أنه إذا نزل القضاء ذهب البصر فدعا سليمان أمير الطير فسأله عن الهدهد فقال أصلح الله الملك ما أدري أين هو وما أرسلته مكانا فغضب سليمان عند ذلك وقال " لأعذبنه عذابا شديدا " يعني لأنتفن ريشه فلا يطير مع الطيور حولا ولأشمسنه في الحر حتى يأكله الذر " أو لأذبحنه " يعني لأقتلنه حتى لا يكون له نسل " أو ليأتيني بسلطان مبين " يعني بحجة بينة واضحة أعذره بها فإن قيل كيف يجوز أن يعاقب من لا يجري عليه القلم قيل له تجوز العقوبة على وجه التأديب إذا كان منه ذنب كما يجوز للأب أن يؤدب ولده الصغير وأما الذبح فيجوز وإن لم يكن منه الذنب
قرأ إبن كثير " ليأتينني " بنونين وقرأ الباقون بنون واحدة فمن قرأ بنونين فهو للتأكيد(2/577)
578
لأن النون الأولى مشددة وتسمى تلك نون القسم وهي في الحقيقة نونين والنون الثانية للإضافة ومن قرأ بنون واحدة فقد إستقل الجمع بين النونات واقتصر على نونين فأدغم إحداهما في الأخرى
سورة النمل 22 - 26
قوله عز وجل " فمكث غير بعيد " قرأ عاصم بنصب الكاف وقرأ الباقون بالضم وهما لغتان ومعناهما واحد يعني لم يلبث إلا قليلا ويقال لم يطل الوقت حتى جاء الهدهد " فقال " فقال له سليمان أين كنت فخر له ساجدا وقال " أحطت " وفي الآية مضمر معناه فمكث غير بعيد أن جاءه الهدهد فقال له سليمان أين كنت فخر له ساجدا فقال " أحطت بما لم تحط به " يعني علمت ما لم تعلم به وجئتك بخبر لم تكن تعلمه ولم يخبرك عنه أحد ثم أخبره فقال " وجئتك من سبأ بنبأ يقين " فإن قيل كيف يجوز أن يقال إن سليمان لم يعلم به وكانت أرض سبأ قريبة منه وهناك ملك لم يعلم به سليمان قيل له علم سليمان ذلك ولكنه لم يعلم أنهم يسجدون للشمس ويقال إنه علم بها ولكنه لم يعلم أن ملكها قد بلغ هذا المبلغ وعلم أنهم أهل الضلالة والإحاطة هي العلم بالأشياء بما فيها وجهاتها كما قال " وجئتك من سبأ " يعني من أرض سبأ وهي مدينة باليمن " بنبإ يقين " يعني بخبر صدق لا شك فيه ويقال بخبر عجيب
قرأ إبن كثير وأبو عمرو " سبأ " بالنصب بغير تنوين وقرأ الباقون بالكسر والتنوين فمن قرأ بالنصب جعله إسم مدينة وهي مؤنث لا ينصرف ومن قرأ بالكسر والتنوين جعله إسم الرجل ويقال جعله إسم مكان فقال له سليمان وما ذلك الخبر فقال " إني وجدت إمرأة تملكهم " يعني تملك أرض سبأ " وأوتيت من كل شيء " يعني أعطيت علم ما في بلادها ويقال من كل صنف من الأموال والجنود وأنواع الخير مما يعطى الملوك " ولها عرش عظيم " يعني سريرا كبيرا أعظم من سريرك ويقال كان طول سريرها ثمانون ذراعا في ثمانين مرصعا بالذهب والدر والياقوت وقوائمه من اللؤلؤ والياقوت واسمها بلقيس قال مقاتل كانت أمها من الجن ويقال " ولها عرش عظيم " أي شديد
قوله عز وجل " وجدتها " يعني رأيتها " وقومها يسجدون للشمس " يعني يعبدون(2/578)
579
الشمس " من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم " الخبيثة " فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون " يعني طريق الهدى ومعناه صدهم الشيطان عن الإسلام فهم لا يهتدون يعني لا يعرفون الدين
قوله عز وجل " ألا يسجدوا لله " قرأ الكسائي " ألا يسجدوا " بالتخفيف وقرأ الباقون بتشديد " إلا " فمن قرأ بالتخفيف فمعناه أن الهدهد قال عند ذلك أن لا تسجدوا لله وقال مقاتل هذا قول سليمان قال لقومه " ألا يسجدوا " ويقال هذا كلام الله " ألا يسجدوا لله " وهذا من الإختصار فكأنه قال ألا يا هؤلاء إسجدوا لله ومن قرأ بالتشديد فمعناه فصدهم عن السبيل أن لا يسجدوا لله يعني لأن لا يسجدوا ويقال معناه " وزين لهم الشيطان أعمالهم " لئلا يسجدوا لله وقال بعضهم وإذا قرئ بالتخفيف فهو موضع السجدة وإذا قرئ بالتشديد فليس بموضع سجدة في الوجهين جميعا وهذا القول أحوط " الذي يخرج الخبء " يعني المخبئات " في السموات والأرض " مثل المطر والثلج ويعني في الأرض مثل النبات والأشجار والكنوز والموتى ويقال الذي يظهر سر أهل السموات والأرض ويعلنها فذلك قوله تعالى " ويعلم ما تخفون وما تعلنون "
ثم قال عز وجل " الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم " أي الذي يعلم ذلك قرأ الكسائي وعاصم في رواية حفص " ما تخفون وما تعلنون " بالتاء على معنى المخاطبة لهم وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر لهم
سورة النمل 27 - 33
ثم " قال " سليمان " سننظر أصدقت " في قولك " أم كنت من الكاذبين " يعني أم أنت فيه من الكاذبين فكتب كتابا وقال له " إذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم " يعني إنصرف وقال بعضهم " إذهب بكتابي هذا فألقه إليهم " " فانظر ماذا يرجعون " يعني على ماذا يتفقون " ثم تول عنهم " يعني إرجع عنهم ويقال ليس فيها تقديم ومعناه " إذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم " يعني إستأخر في ناحية غير بعيد " فانظر ماذا يرجعون " أي ماذا يريدون من الجواب أو " ماذا يرجعون " أي ماذا يرجع رأيهم ويتفق عليه من الجواب قرأ الكسائي إبن عامر وإبن كثير " فألقهي إليهم " بالياء بعد الهاء وقرأ أبو عمرو في(2/579)
580
إحدى الروايتين وقرأ حمزة وعاصم " فألقه " بالجزم وقرأ نافع " فألقه إليهم " بكسر الهاء ولا يبلغ الياء وكل ذلك جائز في اللغة والقراءة بالياء أشبع اللغتين وأكثر إستعمالا قال مقاتل فجعل الهدهد الكتاب في منقاره ثم طار حتى وقف على رأس المرأة فرفرف ساعة والناس ينظرون إليه فرفعت المرأة رأسها فألقى الهدهد الكتاب في حجرها
وروي في بعض الروايات أنها كانت نائمة في البيت وقد أغلقت بابها فدخل من الكوة ووضع الكتاب على صدرها ويقال عند رأسها وأكثر الروايات أنه ألقاه في حجرها فقرأت الكتاب فرأت فيه الخاتم فرعدت وخضعت وخضع من معها من الجنود لأن ملك سليمان كان في خاتمه فقرأت الكتاب وأخبرتهم بما فيه قال مقاتل ولم يكن في الكتاب إلا قوله " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين " لأن كلام الأنبياء عليهم السلام على الإجمال ولا يكون على التطويل وقال في رواية الكلبي كتب في الكتاب إن كنتم من الإنس فعليكم بالطاعة وإن كنتم من الجن فقد عبدتم إلى قوله عز وجل " قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم " يعني حسن ويقال كتاب مختوم
وروي عن إبن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كرامة الكتاب ختمه ويقال كل كتاب لا يكون مختوما فهو مغلوب ويقال كان سليمان عليه السلام إذا كتب إلى الشياطين ختمه بالحديد وإذا كتب إلى الجن ختمه بالصفر وإذا كتب إلى الإنس ختمه بالطين وإذا كتب إلى الملوك ختمه بالفضة فجعل ختم كتابها من ذهب ويقال إن المرأة إنما قالت " كتاب كريم " لأنها ظنت أنه نزل من السماء فلما نظرت إليه قرأت عنوانه " إنه من سليمان وإنه " يعني في داخله وأول سطره " بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي " يعني لا تتعظموا علي ولا تتطاولوا علي ويقال لا تترفعوا علي وإن كنتم ملوكا " وأتوني مسلمين " يعني مستسلمين خاضعين ويقال " مسلمين " يعني مستسلمين مخلصين ويقال منقادين طائعين قال محمد بن موسى إنما بدأ سليمان بنفسه لعلمه بأن ذكره على سائر الملوك أعظم من ذكر معبوده فهول عليها بذكر نفسه ثم ذكر معبوده فذهبت بنفسها وانقادت في مملكتها وإنما خافت من هول سليمان حين آمنت بالله فقالت عند ذلك رب إني ظلمت نفسي بعبادة الشمس وما خفت منك فالآن عرفتك وتبت إليك وأنت رب العالمين " قالت " المرأة
" يا أيها الملأ " يعني قالت المرأة يا أيها الأشراف والقادة " أفتوني في أمري " وكان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر قائدا تحت يد كل قائد ألف رجل وقد قيل أكثر من هذا " أفتوني في أمري " يعني أجيبوني في أمري ويقال بينوا لي أمري ما أعمل ويقال أخبروني ويقال أشيروا علي " ما كنت قاطعة أمرا " أي قاضية أمرا
ويقال فاصلة أمرا " حتى تشهدون "(2/580)
581
يعني تحضرون أي لا أقطع أمرا دونكم " قالوا " مجيبين لها " نحن أولو قوة " يعني عدة وكثرة وسلاحا " وأولو بأس شديد " يعني وقتال شديد " والأمر إليك " يعني أخبرناك بما عندنا أيتها الملكة ومع ذلك لا نجاوز ما تقولين يعني إن أمرتينا بقتال قاتلنا وإن أمرتنا بغير ذلك أطعناك " فانظري ماذا تأمرين " يعني ماذا تشيرين إلينا
سورة النمل 34 - 38
قوله عز وجل " قالت " يعني المرأة " إن الملوك إذا دخلوا قرية " على وجه العنوة والغلبة " أفسدوها " يعني أهلكوها وخربوها وقتلوا أهلها " وجعلوا أعزة أهلها أذلة " يعني أهانوا أشرافها وكبراءها ليستقيم لهم الأمر " وكذلك يفعلون " قال إبن عباس هذا قول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم قال " وكذلك يفعلون " تصديقا لقول المرأة وقال الحسن هذا قول بلقيس إن سليمان وجنوده كذلك يفعلون وأكثر المفسرين على خلاف ذلك
ثم قالت المرأة " وإني مرسلة إليهم بهدية " يعني أصانعهم بالمال فإن كان من أهل الدنيا فإنه يقبل ويرضى بذلك ويقال أختبره أملك هو أم نبي فإن كان ملكا قبلها وإن كان نبيا لم يقبلها " فناظرة بم يرجع المرسلون " يعني أنظر بماذا يرجع المرسلون من الجواب من عنده وذكر في الخبر أنها بعثت إليه لبنتين من ذهب والمسك والعنبر وبعثت بعشرة غلمان وعشرة جواري وكان في الغلمان بعض اللين وكان في الجواري بعض الغلظة وأمرت بأن تخضب أيديهم جميعا وجعلتهم على هيئة الجواري وبعثت إليه جوهرة في ثقبها إعوجاج وطلبت أن يدخل الخيط فيها فأمر سليمان الشياطين بأن يلقوا في طريق الرسل لبنا كثيرا من ذهب فلما جاءت رسل بلقيس إستحضروا هديتهم فلما قدموا على سليمان أمر بماء فوضع وأمر الغلمان والجواري بأن يتوضأوا منه فجعل الغلام يحدر الماء على يده حدرا وأما الجواري فكن يصببن صبا وفي رواية أخرى كانت الجارية تأخذ الماء بكفها وتدلك ذراعيها وأما الجوهرة فأخذ دودة حمراء عقد فيها خيطا ثم أدخلها في الحجر حتى خرجت من الجانب الآخر فرد الهدية وقال للوفد " أتمدونني بمال " يعني أتغرونني بالمال
قوله عز وجل " فلما جاء سليمان " قال بعضهم يعني جاء الرسول وقال بعضهم يعني جاء بريدها والأول أشبه لأنه خاطب الرسول " قال أتمدوني بمال " قرأ حمزة " أتمدونني بمال " بنون واحدة والتشديد وقرأ الباقون بنونين وأصله نونان إلا أن حمزة أدغم(2/581)
582
إحداهما في الأخرى وشددها وقرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو " أتمدونني " بالياء في الوصل لأنه في الأصل الياء وهو ياء الإضافة وقرأ الباقون بغير ياء لأن الكسر يدل عليه
ثم قال " فلما آتاني الله " يعني ما أعطاني الله عز وجل من النبوة والحكمة والدين والإسلام والملك " خير مما آتاكم " يعني خير مما أعطاكم من الدنيا والمال " بل أنتم بهديتكم تفرحون " يعني إذا أهدى بعضكم إلى بعض ويقال معناه بل أنتم تفرحون بهديتكم إذا ردت إليكم لأنكم قليلو المال ويقال لأنكم مكاثرة بالدنيا
قوله عز وجل " إرجع إليهم " يعني قال سليمان لأمير الوفد إرجع إليهم بالهدية فإن لم يحضروني " فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها " يعني لا طاقة لهم بها قال بعض المتقدمين ومتى يكون لهم طاقة بجنود سليمان وكان جنود سليمان من الجن والإنس والشياطين " ولنخرجنهم منها " يعني من أرض سبأ " أذلة " يعني مغلولة أيديهم إلى أعناقهم " وهم صاغرون " أي ذليلون فلما بلغ الخبر إلى المرأة ورسالة سليمان لم تجد بدا من الخروج إليه فخرجت نحوه فلما علم سليمان بمسيرها إليه " قال " لجلسائه " يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها " يعني بسرير بلقيس " قبل أن يأتوني مسلمين " أي موحدين لأنه قد كان أوحي إلى سليمان بأنها تسلم وقال بعضهم إنما أراد سليمان بإحضار سريرها قبل أن تسلم ليكون السرير له لأنها لو أسلمت حرم عليه مالها وكان سريرها من ذهب وقوائمه من اللؤلؤ والجواهر مستور بالحرير والديباج وعليه الحجلة وقال بعضهم إنما أراد أن يبين دلالة نبوته عندها فتعلم المرأة أنه نبي فتسلم
سورة النمل 39 - 41
قوله عز وجل " قال عفريت من الجن " يعني ماردا من الجن والعفريت هو الشديد القوي ويقال العفريت من كل شيء المبالغ والحاذق في أمره " أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك " يعني في مجلس الحكم وكان قضاؤه إلى إنتصاف النهار ويقال إلى وقت الضحى " وإني عليه " يعني على إتيان السرير " لقوي " على حمله " أمين " على ما فيه من الجواهر واللؤلؤ وغير ذلك فقال سليمان أنا أريد أسرع من هذا " قال الذي عنده علم من الكتاب " يعني آصف بن برخيا وكان وزيره ومؤدبه في حال صغره ويقرأ كتاب الله ويعلم(2/582)
583
الإسم الأعظم يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ويقال هو قوله يا حي يا قيوم ويقال ذا الجلال والإكرام ويقال إن " الذي عنده علم من الكتاب " هو جبريل عليه السلام وأكثر المفسرين على أنه آصف بن برخيا رضي الله عنه
قال " أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك " يعني قبل أن ينتهي إليك الذي وقع عليه منتهى بصرك وهو جاء إليك ويقال قبل أن تطرف قال له سليمان لقد أسرعت إن فعلت ذلك فدعا بالإسم الأعظم فإذا بالسرير قد ظهر بين يدي سليمان " فلما رآه " رأى سليمان السرير " مستقرا عنده " أي موجودا عنده " قال هذا من فضل ربي ليبلوني " يعني ليختبرني " أأشكر " هذه النعمة " أم أكفر " نعم الله تعالى إذا رأيت من دوني هو أعلم مني قال مقاتل فلما رفع رأسه قال الحمد لله أحمد الله الذي جعل في أهلي من يدعوه فيستجيب له " ومن شكر فإنما يشكر لنفسه " يعني يفعل لنفسه لأنه يعود إليه حيث يستوجب المزيد من الله تعالى " ومن كفر " النعم يعني ترك الشكر " فإن ربي غني " عن شكر العباد " كريم " في الإفضال على من شكره بالنعمة ويقال " كريم " لمن شكر من عباده ويقال لما رأى آصف السرير مستقرا عنده خرج من فضل نفسه ورجع إلى فضل ربه ورأى الحول والقوة لله تعالى فقال " هذا من فضل ربي " لا من فضل نفسي ولو لم يقل من فضل ربي لسقط عن المنزلة أسرع من إتيان السرير حيث قال " إنا آتيك به " حيث شهر نفسه بالفضيلة ويقال " أنا آتيك به " يعني بالله آتيك لا بالمدة والحيلة فأسقط الحول والقوة عن نفسه وسلم الأمر إلى الله فقال " هذا من فضل ربي " فلما رأى سليمان السرير عنده علم أن هذا ليس من قوة جلسائه وإنما هو من صنع ربه
قوله عز وجل " قال نكروا لها عرشها " يعني قال سليمان عليه السلام غيروا سريرها عن صورته والتنكير هو التغيير يقال نكرته فتنكر أي غيرته فتغير
وروى الضحاك عن إبن عباس قال التنكير أن يزاد فيه أو ينقص عنه يعني زيدوا في سريرها وانقصوا منه حتى نرى أنها تعرف سريرها أم لا وذلك قوله " ننظر أتهتدي " يعني أتعلم أنه عرشها " أم تكون من الذين لا يهتدون " يعني لا يعلمون يقال إنه جعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه ويقال إنه أمر بذلك لأن الجن قالوا لسليمان عليه السلام في عقلها شيء من النقصان فأراد سليمان أن يمتحن عقلها فأمر بأن يغير السرير ويسألها عن ذلك
سورة النمل 42 - 44(2/583)
584
قوله " فلما جاءت " يعني بلقيس وجلست على السرير " قيل " لها " أهكذا عرشك " يعني أهكذا سريرك " قالت " بلقيس " كأنه هو " شبهته به قال مقاتل شبهوا عليها فشبهت عليهم ولو قيل لها أهذا عرشك لقالت نعم ويقال إنها شكت في ذلك لأنها تركت سريرها في سبعة أبيات مقفلة أبوابها ومفاتيح الأقفال بيدها فقال سليمان " وأوتينا العلم من قبلها " يعني حمد الله على ما أعطاه من إتيان السرير وحضورها وعلى ما أعطاه قبل إتيانها من النبوة والإسلام فقال " وأوتينا العلم من قبلها " يعني أعطينا العلم من قبل مجيئها ويقال أعطينا علم ملكها وعرشها من قبل مجيئها " وكنا مسلمين " يعني مخلصين لله تعالى ويقال " مسلمين " منقادين له
قوله عز وجل " وصدها ما كانت تعبد من دون الله " يعني عبادتها التي كانت تعبد الشمس منعها عن الإسلام ويقال معناه صدها إبليس عن الإيمان فتكون " ما " ها هنا بمعنى الفاعل ويقال " ما " هنا بمعنى المفعول فكأنه يقول صدها سليمان عما كانت تعبد من دون الله عز وجل كرجل يقول منعت فلانا الماء يعني عن الماء ويقال معناه أن الله تعالى صدها عما كانت تعبد من دون الله فوفقها للإسلام ويقال صدها عن الإسلام العادة التي كانت عليها لأنها نشأت على ذلك وربيت ولم تعرف إلا قوما يعبدون الشمس ثم قال " إنها كانت من قوم كافرين " أي من قوم جاحدين لله تعالى
قوله عز وجل " قيل لها أدخلي الصرح " يعني القصر وذلك لأنها لما أقبلت قالت الجن لقد لقينا من سليمان ما لقينا من التعب فلو إجتمع سليمان وهذه وما عندها من العلم لهلكنا وخشوا أن يتزوجها ويكون بينهما ولد فيرث الملك فيبقون في ذلك العناء إلى الأبد فأرادوا إن يبغضوها إلى سليمان فقالوا إن رجليها شعراوان وقال مقاتل بل كانت أمها جنية وروى إبن أبي نجيح عن مجاهد قال كانت أمها جنية وكانت شعراء وقال بعضهم هذا لا يصح لأن الجن ليس من جنس الآدمي فلا يكون بينهما شهوة ونسل وقال الله تعالى " إنا خلقناكم من ذكر وأنثى " [ الحجرات : 13 ] يعني آدم وحواء عليهما السلام فلا يجوز أن يكون النسل من غيرهما ويقال إنهم قالوا لسليمان إن رجلها تشبه حافر الدواب فأراد سليمان أن ينظر إلى رجليها فأمر بأن يوضع سريرها في الصرح المبني من القوارير يعني من الزجاج وجعل تحت الصرح الماء فيه السمك فجلس سليمان على سريره في الصرح في مقدمه ثم أمرت بلقيس بأن تدخل الصرح " فلما رأته " يعني فلما جاءت إلى الصرح رأت ما فيه من السمك " حسبته لجة " يعني ظنت أنه ماء كثير بين يدي سرير سليمان فأرادت أن تخوض في(2/584)
585
الماء فشمرت ثيابها " وكشفت عن ساقيها " فنظر سليمان إلى ساقيها وكانت شعراء فاستشار سليمان الإنس في ذلك فأشاروا عليه بالموسى فقال سليمان الموسى تخدش ساقيها فاستشار الجن فأشاروا عليه بالنورة فأصل النورة من ذلك الوقت
وروي أن سليمان ما نظر إلى ساق أحسن الساقين ولا خلاف بين الروايتين لأنه يكون أحسن الساقين شعراوين وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أنا أحسن ساقين أم بلقيس فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم كانت هي أحسن ساقين منك في الدنيا وأنت أحسن ساقين منها في الآخرة فلما كشفت عن ساقيها قال لها سليمان لا تكشفي عن ساقيك " قال إنه صرح ممرد من قوارير " يقول قصر مملس ولهذا سمي أمرد الذي لم ينبت له الشعر ويقال ممرد يعني قوي شديد كما يقال شيطان مريد " من قوارير " يعني من الزجاج فلما رأت السرير والصرح علمت أن ملكها ليس بشيء عند ملك سليمان وأن ملكه من الله تعالى وأنه نبي حقا ثم إن سليمان دعاها إلى الإسلام فأجابت فذلك قوله تعالى " قالت رب إني ظلمت نفسي " بعبادتي للشمس " وأسلمت مع سليمان لله " وأخلصت ديني لله تعالى مع سليمان بالتوحيد ويقال " مع سليمان " يعني أسلمت على يدي سليمان لله " رب العالمين " وتابت إلى الله تعالى من شركها قال مقاتل فاتخذها سليمان لنفسه فولدت له داود بن سليمان قال النبي صلى الله عليه وسلم هي أحسن ساقين من نساء العالمين وهي من أزواج سليمان في الجنة
سورة النمل 45 - 49
قوله عز وجل " ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن أعبدوا الله " يعني أمرهم بأن يعبدوا الله ويطيعوه ويوحدوه " فإذا هم فريقان يختصمون " مؤمنون وكافرون فإذا قوم صالح مؤمن وكافر يختصمون يقول كل فريق الحق معي وقد ذكرنا خصومتهم في سورة الأعراف وهي قوله " قال الملأ الذين إستكبروا من قومه للذين إستضعفوا " [ الأعراف : 75 ] الآية وطلبت الفرقة الكافرة على تصديق صالح العذاب " قال " لهم صالح عليه السلام " يا قوم لم تستعجلون بالسيئة " يعني بالعذاب " قبل الحسنة " يعني العافية ويقال التوبة وهو قولهم يا صالح إن كان ما أتيت به حقا فأتنا بما تعدنا من العذاب(2/585)
586
ثم قال " لولا تستغفرون الله " يعني هلا تسألون الله المغفرة ويقال هلا تؤمنون وتوحدون الله تعالى وترجعون من الشرك لعلكم ترحمون يعني لكي ترحموا فلا تعذبوا
قوله عز وجل " قالوا إطيرنا بك " وأصله تطيرنا بك يعني تشاءمنا بك " وبمن معك " وذلك أنه قد أصابهم القحط بتكذيبهم إياه فقالوا هذا الذي أصابنا بشؤمك وشؤم أصحابك " قال " لهم صالح " طائركم عند الله " يعني ما أصابكم فمن الله ويقال هذا الذي يصيبكم هو مكتوب عند الله ويقال خيركم وشركم ورخاؤكم وشدتكم من عند الله عليكم بفعلكم ويقال عقوبتكم عند الله " بل أنتم قوم تفتنون " أي تبتلون بذنوبكم ويقال تختبرون بالخير والشر وأصل الفتنة هي الإختبار ويقال فتنت الذهاب بالنار لتنظر إلى جودته
قوله عز وجل " وكان في المدينة " يعني في قرية صالح عليه السلام وهي الحجر " تسعة رهط " كانوا أغنياء قوم صالح " يفسدون في الأرض ولا يصلحون " يعني يعملون بالمعاصي في أرض قريتهم " ولا يصلحون " أي لا يطيعون الله تعالى فيها ولا يتوبون من المعصية ولا يأمرون بها فسأل قوم صالح منه ناقة فصارت الناقة بلية لهم فكانت تأتي مراعيهم فتأكل جميع ما فيها فتنفر منها دوابهم وتشرب ماء بئرهم العذب الذي يشربون منه فجعلوا نيابة للشرب فتشرب ذلك اليوم الماء كله وتسقيهم اللبن حتى يرووا فجاء هؤلاء التسعة وفيهم قذار بن سالف عاقر الناقة وكان إبن زانية أحمر أزرق ومصدع بن دهر وكانا قد قعدا لها فلما مرت بهما رماها مصدع بسهم ثم قال يا قذار إضرب فضرب عرقوبها فعقروها ثم سلخوها واقتسموا لحمها فأوعدهم الله الهلاك وبين لهم العلامة بتغيير ألوانهم فاجتمع التسعة و " قالوا تقاسموا بالله " يعني تحالفوا بالله " لنبيتنه " قرأ حمزة والكسائي بالتاءين وضم التاء الثاني " وأهله ثم لنقولن " بالتاء وقرأ الباقون بالنون ونصب التاء " ثم لنقولن " بالنون ونصب اللام فمن قرأ بالنون جعل " تقاسموا " خبرا فكأنهم قالوا متقاسمين فيما بينهم " لنبيتنه وأهله " أي لنقتلنه وعياله ويقال " وأهله " يعني ومن آمن معه ومن قرأ بالتاء فمعناه جعل " تقاسموا " أمرا فكان أمر بعضهم بعضا وقال بعضهم لبعض تحالفوا " لنبيتنه وأهله ثم لنقولن " " لوليه " يعني لولي صالح إن سألونا فنقول " ما شهدنا مهلك أهله " يعني لهلاك أهله وقومه ويقال ما حضرنا عند هلاك أهله " وإنا لصادقون " يعني إنا لصادقون بما نقول لكم ويقال معناه " إنا لصادقون " عندهم فيصدقوننا إذا خرجنا من بيوتنا ويقال " إنا لصادقون " في قولنا
سورة النمل 50 - 53(2/586)
4
587
قال الله تعالى " ومكروا مكرا " يعني أرادوا قتل صالح عليه السلام " ومكرنا مكرا " يعني جثم عليهم الجبل فماتوا كلهم ويقال رجمتهم الملائكة عليهم السلام بالحجارة فماتوا فذلك قوله تعالى " ومكروا مكرا " أي أرادوا قتل صالح " ومكرنا مكرا " يعني أراد الله عز وجل قتلهم جزاء لأعمالهم " وهم لا يشعرون " بأن الملائكة يحرسون صالحا في داره قرأ عاصم في رواية أبي بكر ما شهدنا " مهلك " أهله بنصب الميم واللام وفي رواية حفص بنصب الميم وكسر اللام وقرأ الباقون بضم الميم ونصب اللام
ثم قال " فانظر كيف كان عاقبة مكرهم " يعني جزاء مكرهم " أنا دمرناهم " قرأ عاصم وحمزة والكسائي " أنا " بالنصب وقرأ الباقون بكسر الألف فمن قرأ بالنصب فمعناه فانطر كيف كان عاقبة مكرهم لأنا دمرناهم ويجوز أن يكون خبر كان ومن قرأ بالكسر لأنه لما قال " فانظر كيف كان عاقبة مكرهم " يعني إيش كان عاقبة مكرهم
ثم فسر فقال " إنا دمرناهم " على وجه الإستئناف " وقومهم أجمعين " يعني أهلكناهم بصيحة جبريل عليه السلام ويقال خرجت النار من تحت أرجلهم فأحرقتهم ويقال إنهم خرجوا ليلا لإهلاك صالح فدمغتهم الملائكة بأحجار من حيث لا يرونهم فقتلوهم وقومهم أجمعين
قوله عز وجل " فتلك بيوتهم خاوية " يعني خالية من الناس ويقال " بيوتهم خاوية " يعني مساكنهم خربة ساقطة " بما ظلموا " أي أشركوا ويقال بكفرهم بالله تعالى صارت خاوية نصبا على الحال يعني فانظر إلى بيوتهم خاوية وقرئ في الشاذ " خاوية " بالضم على معنى النعت للبيوت
ثم قال " إن في ذلك " يعني في هلاكهم وفيما صنع بهم " لآية " يعني لعبرة لمن بعدهم " لقوم يعلمون " يعني يعقلون ويصدقون " وأنجينا الذين آمنوا " يعني أقروا بالتوحيد وصدقوا صالحا برسالته " وكانوا يتقون " الشرك والفواحش
سورة النمل 54 - 59
قوله عز وجل " ولوطا " يعني وأرسلنا لوطا عطفا على قوله " ولقد أرسلنا إلى(2/587)
588
ثمود ) ويقال معناه واذكر لوطا " إذ قال لقومه " يعني حين قال لقومه " أتأتون الفاحشة " يعني أتعملون المعصية وهي اللواطة " وأنتم تبصرون " يعني تعلمون أنها فاحشة ومعصية هو وأعظم لذنوبكم
قوله عز وجل " أئنكم لتأتون الرجال شهوة " يعني تجامعون الرجال شهوة منكم " من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون " أي جاهلون " فما كان جواب قومه " وإنما نصب الجواب لأنه خبر كان وإسمه " إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون " يعني يتنزهون ويقذروننا بهذا الفعل وإنا لا نحب أن يكون بين أظهرنا من ينهانا عن أعمالنا
قال الله تعالى " فأنجيناه وأهله " يعني إبنتيه ريثا وزعورا " إلا إمرأته " لم ننجها من العذاب " قدرناها من الغابرين " أي تركناها من الباقين في العذاب ويقال قضينا عليها أنها من الباقين في العذاب " وأمطرنا عليهم مطرا " يعني على شذاذهم أي الخارجين المنفردين منهم ومن كان منهم في الأسفار " مطرا " يعني الحجارة " فساء مطر المنذرين " يعني بئس مطر من أنذرتهم الرسل فلم يؤمنوا
ثم قال عز وجل " قل الحمد لله " قال بعضهم معناه قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم " قل الحمد لله " وقال بعضهم معناه الحمد لله على هلاك كفار الأمم الماضية يعني ما ذكر في هذه السورة من هلاك فرعون وقومه وثمود وقوم لوط ويقال قال الحمد لله الذي علمك وبين لك هذا الأمر ويقال إن هذا كان للوط حين أنجاه أمره بأن يحمد الله تعالى
ثم قال " وسلام على عباده " يعني المرسلين " الذين إصطفى " يعني إختارهم الله تعالى للرسالة والنبوة وروي عن مجاهد أنه قال هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك قال مقاتل وقال سفيان الثوري هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال " آلله خير أما يشركون " يعني الله تعالى أفضل أم الآلهة التي تعبدونها اللفظ لفظ الإستفهام والمراد به التقرير يعني الله تعالى خير لهم مما يشركون فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية قال بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم ويقال معناه أعبادة الله خير أم عبادة ما يشركون به من الأوثان وقال القتبي " الله خيرا أما يشركون " يعني أم من تشركون فتكون " ما " مكان من كما قال " والسماء وما بناها " [ الشمس : 5 ] يعني ومن بناها " وما خلق الذكر والأنثى " [ الليل : 3 ] يعني ومن خلق
سورة النمل 60 - 64(2/588)
589
ثم قال عز وجل " أمن خلق السموات والأرض " يعني الله الذي خلق السموات والأرض " وأنزل لكم من السماء ماء " يعني المطر " فأنبتنا به " يعني بالمطر " حدائق ذات بهجة " يعني البساتين واحدها حديقة وإنما سميت حديقة لأنها محاطة بالحيطان وقال بعضهم إذا كانت ذا شجر يقال لها حديقة سواء كان لها حائط أو لا " ذات بهجة " يعني ذات حسن " ما كان لكم أن تنبتوا شجرها " يعني ما كان لمعبودكم قوة ويقال ما كان ينبغي لكم أن تنبتوا شجرها ويقال ما قدرتم عليه وقرأ أبو عمرو وإبن عامر " أما يشركون " بالياء على معنى الخبر وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ عاصم في رواية أبي بكر " إلا إمرأته قدرناها " بتخفيف الدال وقرأ الباقون بالتشديد ثم قال " أإله مع الله " يعينه على صنعه اللفظ لفظ الإستفهام والمراد به الإنكار والزجر " بل هم قوم يعدلون " يعني يشركون الأصنام
ثم قال عز وجل " أمن جعل الأرض قرارا " يعني مستقرا لا تميد بأهلها ويقال " قرارا " أي لا تتحرك " وجعل خلالها أنهارا " و " جعل " يعني خلقا لها يعني فجر بنواحي الأرض أنهارا ويقال شق بينهما أنهارا " وجعل لها " أي خلق للأرض " رواسي " أي الجبال الثوابت " وجعل بين البحرين حاجزا " يعني العذب والمالح حاجزا يعني سترا مانعا من قدرته لا يختلطان بعضهما في بعض " أإله مع الله " يعينه على صنعه " بل أكثرهم لا يعلمون " توحيد الله عز وجل
ثم قال " أمن يجيب المضطر " يعني أمن يستجيب في البلاء للمضطر " إذا دعاه " " ويكشف السوء " يعني ومن يكشف الضر " ويجعلكم خلفاء الأرض " يعني سكان الأرض بعد هلاك أهلها " أإله مع الله قليلا ما تذكرون " قرأ أبو عمرو وإبن عامر في إحدى الروايتين " يذكرون " بالياء على معنى الخبر عنهم وقرأ الباقون " تذكرون " بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ حمزة والكسائي بتخفيف الذال وقرأ الباقون بالتشديد وقرأ أبو عمرو ونافع في رواية قالون " أإله مع الله " بالهمز والمد وقرأ الباقون بغير مد بهمزتين
ثم قال عز وجل " أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر " يعني من يرشدكم في أهوال البر والبحر " ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته " يعني قدام المطر " أإله مع الله تعالى(2/589)
590
الله ) أي تعظم الله " عما يشركون " " أمن يبدأ الخلق ثم يعيده " يعني خلقهم ولم يكونوا شيئا ثم يعيدهم في الآخرة " ومن يرزقكم من السماء " يعني المطر " والأرض " يعني النبات " أإله مع الله قل هاتوا برهانكم " يعني حجتكم وعذركم بأنه صنع شيئا من هذا غير الله " إن كنتم صادقين " بأن مع الله آلهة أخرى
سورة النمل 65 - 68
" قل " يا محمد لكفار مكة " لا يعلم من في السموات والأرض " من الملائكة والناس " الغيب إلا الله " يعني متى تقوم الساعة إلا الله رفع على معنى البدل فكأنه يقول لا يعلم أحد الغيب إلا الله أي لا يعلم ذلك إلا الله ثم قال " وما يشعرون أيان يبعثون " يعني متى يبعثون يعني أوان يبعثون
قوله عز وجل " بل إدارك علمهم في الآخرة " قرأ إبن كثير وأبو عمرو " بل أدرك " قرأ الباقون " إدراك " بالألف فمن قرأ " أدرك " فمعناه أدرك علمهم علم الآخرة
وروي عن السدي قال إجتمع علمهم يوم القيامة فلم يشكوا ولم يختلفوا ويقال معناه علموا في الآخرة أن الذين كانوا يوعدون حق ولا ينفعهم ذلك ومن قرأ " إدراك علمهم " فأصله تدارك فأدغم التاء في الدال وشددت وأدخلت ألف الوصل ليسلم السكون للدال ومعناه تتابع علمهم أي حكمهم على الآخرة وإستعمالهم الظنون في علم الآخرة فهم يقولون تارة إنها تكون وتارة لا تكون الساعة ويقال معناه تدارك أي تكامل علمهم يوم القيامة لأنهم يبعثون ويشاهدون ما وعدوا " بل هم في شك منها " أي من قيام الساعة في الدنيا " بل هم منها عمون " يعني يتعامون عن قيامها ويقال " بل هم منها عمون " أي من علمها جاهلون
وروي عن إبن عباس أنه كان يقرأ " بل إدراك علمهم " وهذه القراءة أشد إيضاحا للمعنى الذي ذكرناه
ثم حكى قول الكفار فقال عز وجل " وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون " يعني أحياء من القبور " لقد وعدنا هذا " يعني هذا الذي يقول محمد صلى الله عليه وسلم " نحن وآباؤنا من قبل إن هذا " الذي يقول " إلا أساطير الأولين " يعني أحاديث الأولين وكذبهم مثل حديث رستم وإسفنديار ويقال إن هذا إلا مثل رسل الأولين فيما كذبوا(2/590)
591
سورة النمل 69 - 79
قوله عز وجل " قل سيروا في الأرض فانظروا " يعني فاعتبروا " كيف كان عاقبة المجرمين " يعني آخر أمر المشركين " ولا تحزن عليهم " إن لم يؤمنوا بك ويقال " ولا تحزن عليهم " أي على تكذيبهم وإعراضهم عنك " ولا تكن في ضيق " يعني لا يضيق صدرك " مما يمكرون " يعني بما يقولون من التكذيب ويقال ولا يضيق قلبك بمكرهم " ويقولون متى هذا الوعد " يعني البعث بعد الموت " إن كنتم صادقين " أن العذاب نازل بالمكذب ويقال " ولا تكن في ضيق مما يمكرون " بقولهم فهذا دأبنا ودأبك أيام الموسم وهم الخراصون فكانوا يأمرون أهل الموسم بأن لا يسمعوا كلامه
ثم قال عز وجل " قل عسى أن يكون ردف لكم " يعني قرب وحضر لكم قال القتبي أي تبعكم واللام زائدة فكأنه قال ردفكم قال وقيل في التفسير دنا منكم " بعض الذي تستعجلون " من العذاب وهو عذاب القبر ويقال القحط ويقال يوم بدر " وإن ربك لذو فضل على الناس " حين لم يأخذهم بالعذاب عند معصيتهم " ولكن أكثرهم لا يشكرون " بتأخير العذاب عنهم حتى يتوبوا " وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم " يعني ما تسر قلوبهم من عداوة النبي صلى الله عليه وسلم " وما يعلنون " بألسنتهم من الكفر والشرك
قوله عز وجل " وما من غائبة " يعني من أمر العذاب ويقال ما من شيء غائب عن العباد " في السموات والأرض إلا في كتاب مبين " يعني مكتوب في اللوح المحفوظ ويقال أي جملة غائبة عن الخلق إلا في كتاب مبين " إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل " قال مقاتل يعني أن هذا القرآن يبين للناس أهل الكتاب " أكثر الذي هم فيه يختلفون " يعني إختلافهم وقال إبن عباس إن أهل الكتاب إختلفوا فيما بينهم فصاروا أهواء وأحزابا يطعن بعضهم في بعض ويبرأ بعضهم من بعض فنزل القرآن بتبيان ما إختلفوا فيه
ثم قال عز وجل " وإنه " يعني القرآن " لهدى " يعني لبيانا من الضلالة " ورحمة " من العذاب " للمؤمنين إن ربك يقضي بينهم " يعني بين المختلفين في الدين " بحكمه " يعني(2/591)
592
بقضائه يوم القيامة " وهو العزيز " يعني المنيع بالنقمة " العليم " بأحوال خلقه ويقال " العزيز " يعني القوي فلا يرد له أمر " العليم " بأحوالهم " فتوكل على الله " يعني ثق بالله ويقال فوض أمرك إلى الله " إنك على الحق المبين " يعني الدين المبين وهو الإسلام
سورة النمل 80 - 81
ثم قال عز وجل " إنك لا تسمع الموتى " فهذا مثل ضربه للكفار فكما أنك لا تسمع الموتى فكذلك لا تفقه كفار مكة " ولا تسمع الصم الدعاء " قرأ إبن كثير " ولا يسمع " بالياء والنصب وضم العين و " الصم " بضم الميم وقرأ الباقون بالتاء وضم التاء وكسر الميم " والصم " بالنصب فمن قرأ بالياء فلا يسمع فالفعل للصم ومن قرأ بالتاء فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم " إنك لا تسمع الصم الدعاء " " إذا ولوا مدبرين " يعني أعرضوا عن الحق مكذبين
قوله عز وجل " وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم " قرأ حمزة " تهدي العمي " بغير ألف وقرأ الباقون بالألف فمن قرأ تهدي العمي فمعناه ما أنت يا محمد بالذي تهدي الذين عميت بصائرهم عن آياتنا ولكن عليك الدعاء ويهدي الله من يشاء ومن قرأ " بهادي " فإن الباء دخلت لتأكيد النفي كقولك ما أنت بعالم فالباء لتأكيد النفي وخفض العمي للإضافة
ثم قال " إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا " يعني لا تسمع الهدى إلا من صدق بالقرآن أنه من الله تعالى ويقال " بآياتنا " يعني أدلتنا " فهم مسلمون " يعني مخلصين مقرين بها ويقال مسلمون في علم الله تعالى
سورة النمل 82
قوله عز وجل " وإذا وقع القول عليهم " يعني إذا وجب عليهم العذاب والسخط وذلك حين لا يقبل الله من كافر إيمانه ولم يبق إلا من يموت كافرا في علم الله تعالى " أخرجنا لهم دابة من الأرض " وخروجها من أول أشراط الساعة " تكلمهم " أي تحدثهم يعني الدابة التي تكلم الناس بما يسوؤهم " أن الناس " قرأ عاصم وحمزة والكسائي " أن " بالنصب وقرأ الباقون بالكسر فمن قرأ بالنصب يكون حكاية قول الدابة ومعناه تكلمهم بأن الناس " كانوا بآياتنا لا يوقنون " أي لا يؤمنون بآيات ربهم وهي خروج الدابة ومن قرأ بالكسر يكون بمعنى الإبتداء ويتم الكلام عند قوله " تكلمهم " ثم يقول الله تعالى " إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون " يعني لا يؤمنون قال أبو عبيد حدثنا هشام عن المغيرة أن أبا زرعة بن عمر وإبن(2/592)
593
عباس قرآها " تكلمهم " بنصب التاء وكسر اللام وبسكون الكاف والتخفيف يعني تسمهم فيتبين الكافر من المسلم
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثني الثقة عن أبي بكر الواسطي عن إبراهيم بن يوسف عن محمد بن الفضل الضبي عن أبيه عن سعيد بن مسروق عن إبن عمر رضي الله عنهم قال ألا أريكم المكان الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم تخرج الدابة منه فضرب بعصاه قبل الشق الذي في الصفا وقال إنها ذات زغب وريش وإنها لتخرج ثلثها أول ما تخرج كحضر الفرس الجواد ثلاثة أيام ولياليهن وإنها لتدخل عليهم وإنهم ليفرون منها إلى المساجد فتقول أترون أن المساجد تنجيكم مني
وروى مقاتل قال تخرج الدابة من الصفا ولا يخرج إلا رأسها وعنقها فتبلغ رأسها السحاب فيراه أهل المشرق والمغرب ثم تعود إلى مكانها ثم تزلزل الأرض في ذلك اليوم في ست ساعات فيمسون خائفين فإذا أصبحوا جاءهم الصريخ بأن الدجال قد خرج
وروي عن أبي هريرة أنه قال تخرج الدابة ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام فتجلو وجه المؤمن بعصا موسى وتختم وجه الكافر بخاتم سليمان عليهما السلام ثم تقول لهم يا فلان أنت من أهل الجنة ويا فلان أنت من أهل النار فترى أهل البيت مجتمعين على خوانهم يقول لهذا يا كافر ولهذا يا مؤمن
وروى إبن جريج عن أبي الزبير قال رأسها رأس ثور وعيناها عينا خنزير وأذناها أذنا فيل وقرناها قرنا أيل وعنقها عنق نعامة وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هرة وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين منها إثني عشر ذراعا بذراع آدم عليه السلام تخرج ومعها عصا موسى وخاتم سليمان فتنكت على وجه المؤمن حتى يبيض وتختم الكافر بخاتم سليمان حتى يسود فيعرف المؤمن من الكافر
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال تنكت في وجه الكافر نكتة سوداء فتفشو في وجهه حتى يسود وجهه وتنكت في وجه المؤمن نكتة بيضاء فتغشو في وجهه حتى يبيض ويتبايعون في الأسواق فيعرفون المؤمن من الكافر
سورة النمل 83 - 86
قوله عز وجل " ويوم نحشر " يعني نوجب عليهم العذاب في يوم نحشر " من كل أمة(2/593)
594
فوجا ) يعني من كل أهل دين جماعة ويقال " يوم نحشر " يعني نجمع من كل أمة فوجا يعني جماعة " ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون " يعني يحبس أولهم لآخرهم ليجتمعوا " حتى إذا جاؤوا " يعني إجتمعوا للحشر " قال أكذبتم بآياتي " يعني قال الله تعالى لهم أكذبتم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآ ن اللفظ لفظ الإستفهام والمراد به التقرير يعني قد كذبتم بآياتنا " ولم تحيطوا بها علما " اللفظ لفظ النفي والمراد به المناقشة في الحساب يعني كذبتم كأنكم لم تعلموا ويقال لم تعرفوها حق معرفتها
ثم قال " أماذا كنتم تعملون " اللفظ لفظ السؤال والمراد به التوبيخ ومعناه ماذا كنتم تعملون إن تؤمنوا بالكتاب والرسل يعني أي عمل منعكم من ذلك
ثم قال عز وجل " ووقع القول عليهم " يعني نزل عليهم العذاب ووجب عليهم " بما ظلموا " يعني بما أشركوا " فهم لا ينطقون " يعني لا يمكنهم أن يتكلموا من الهيبة لما ظهر لهم من المعاينة ولما تحيروا في ذلك
ثم وعظ كفار مكة فقال " ألم يروا " يعني ألم يعتبروا " أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا " يعني مضيئا وأضاف الفعل إلى النهار لأن الكلام يخرج مخرج الفاعل إذا كان هو سببا للفعل كما قال " بل مكر الليل والنهار " [ سبأ : 33 ] " إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون " يعني فيما ذكر من الليل والنهار لعبرات لقوم يصدقون بتوحيد الله تعالى
سورة النمل 87 - 93
وقال عز وجل " ويوم ينفخ في الصور " أي واذكر يوم ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصور " ففزع من في السموات ومن في الأرض " أي من شدة الصوت والفزع ويقال ماتوا وقال بعضهم النفخ ثلاثة أحدها الفزع وهو قوله " ففزع من في السموات " ونفخة أخرى للموت وهو قوله " فصعق من في السموات " [ الزمر : 68 ] ونفخة للبعث وهي قوله " ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون " [ الزمر : 68 ] وقال بعضهم إنما هما نفختان فالفزع والصعق كناية عن الهلاك ثم نفخة للبعث ثم قال " إلا من شاء الله " قال بعضهم يعني أرواح الشهداء وهي(2/594)
595
أحياء عند ربهم وقال بعضهم يعني من في الجنة ومن في النار من الخدم والخزنة وقال بعضهم " إلا من شاء الله " يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ثم يموتون بعد ذلك " وكل أتوه داخرين "
روى سفيان بإسناده عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ " وكل أتوه " بغير مد ونصب التاء وهي قراء حمزة وعاصم في رواية حفص وقرأ الباقون بالمد والضم ومن قرأ بالمد والضم فمعناه كل حاضروه " داخرين " أي صاغرين ويقال متواضعين ومن قرأ بغير مد يعني يأتون الله عز وجل
" وترى الجبال تحسبها جامدة " يعني تحسبها واقفة مكانها ويقال مستقرة " وهي تمر مر السحاب " حتى تقع على الأرض فتستوي يعني في أعين الناظرين كأنها واقفة قال القتبي وكذلك كل عسكر غض به الفضاء أو شيء عظيم فينظر الناظر فيرى أنها واقفة وهي تسير
ثم قال عز وجل " صنع الله الذي أتقن كل شيء " يعني أحكم خلق كل شيء ويقال الشيء المتقن أن يكون وثيقا ثابتا فما كان من صنع غيره يكون واهيا ولا يكون متقنا ثم قال " إنه خبير بما تفعلون " أي عليم بما فعلتم
قوله عز وجل " من جاء بالحسنة " يعني بالإيمان والتوحيد وهو كلمة الإخلاص وشهادة أن لا إله إلا الله " فله خير منها " على وجه التقديم وله منها خير أي حين ينال بها الثواب والجنة ويقال " فله خير منها " أي خير من الحسنة يعني أكثر منها للواحد عشرة ويقال " فله خير منها " من الحسنة وهي الجنة لأن الجنة هي عطاؤه وفضله والعمل هو إكتساب العبد فما كان من فضله وعطائه فهو أفضل وهذا تفسير المعتزلة والأول قول المفسرين
ثم قال " وهم من فزع يومئذ آمنون " يعني من فزع يوم القيامة " آمنون " قرأ إبن كثير وأبو عمرو وإبن عامر " من فزع " بغير تنوين " ويومئذ " بكسر الميم وقرأ نافع في رواية ورش " من فزع يومئذ " بغير تنوين ونصب الميم وقرأ الباقون بالتنوين ونصب الميم قال أبو عبيد وبالإضافة نقرأ لأنه أعم التأويلين أن يكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم وإذا قال " فزع " بالتنوين صار كأنه قال فزع دون فزع وقال غيره إنما أراد به الفزع الأكبر لأن بعض الأفزاع تصيب الجميع وقرأ إبن كثير وأبو عمرو وإبن عامر في إحدى الروايتين " إنه خبير بما يفعلون " بالياء على معنى الإخبار عنهم وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة
ثم قال عز وجل " ومن جاء بالسيئة " يعني بالشرك " فكبت وجوههم في النار " يعني قلبت وجوههم في النار ويقال يكبون على وجوههم ويجرون إلى النار وتقول لهم خزنة النار " هل تجزون إلا ما كنتم تعملون " من الشرك ويقال " فكبت " أي ألقيت وطرحت(2/595)
596
قال عز وجل " إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة " أي قل يا محمد لأهل مكة أمرني الله تعالى أن أستقيم على عبادة رب هذه البلدة يعني مكة الذي حرمها بدعاء إبراهيم عليه السلام وحرم فيها القتل والصيد قال بعضهم كان حراما أبدا قال بعضهم وهو أصح أن إبراهيم لما دعا فجعلها الله حراما بدعوته وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن إبراهيم حرم مكة وأنا حرمت المدينة ما بين لابتيها ثم روي أنه قد رخص في المدينة
ثم قال تعالى " وله كل شيء " يعني له ملك كل شيء وخلق كل شيء " وأمرت أن أكون من المسلمين " أي من المخلصين " وأن أتلو القرآن " يعني أمرت أن أقرأ القرآن عليكم يا أهل مكة " فمن إهتدى " يعني آمن بالقرآن " فإنما يهتدي لنفسه " يعني يؤمن لنفسه ويثاب عليها الجنة " ومن ضل " يعني ولم يوحد ولم يؤمن بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم " فقل إنما أنا من المنذرين " أي من المخوفين ومن المرسلين فليس علي إلا تبليغ الرسالة " وقل الحمد لله " يعني الشكر لله على ما هداني " سيريكم " أيها المشركون آياته يعني العذاب في الدنيا " فتعرفونها " أنها حق وذلك أنه أخبرهم بالعذاب فكذبوه فأخبرهم أنهم يعرفونها أنها حق وذلك إذا نزل بهم وهو القحط والقتل ويقال هو فتح مكة " وما ربك بغافل عما تعملون " فهذا وعيد للظالم وتعزية للمظلوم وقال الزجاج في قوله " سيريكم آياته " يعني سيريكم الله آياته في جميع ما خلق وفي أنفسكم قرأ نافع وعاصم في رواية حفص وإبن عامر في إحدى الروايتين " عما تعملون " بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر عنهم والله أعلم بالصواب وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم(2/596)
597
سورة القصص
كلها مكية إلا قوله " إن الذي فرض عليك القرآن " نزلت بين مكة والمدينة وهي ثمانون وثمان آيات
سورة القصص 1 - 4
قوله تعالى " طسم تلك آيات الكتاب المبين " أي القرآن وهو مبين للأحكام وقد ذكرناه قال أبو سعيد الفاريابي في قوله تعالى طا قال هو طاهر كما يحلوه والسين سامع لما وصفوه والميم ماجد حين سألوه والما جد كثير العطاء يقال أمجدني فلان إذا كثر إعطاؤه ويقال طا أقسم الله بطالوت وسين أقسم الله بسليمان وميم أقسم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم " نتلوا عليك " يعني ننزل عليك جبريل عليه السلام يقرأ عليك " من نبإ موسى " يعني من خبر موسى عليه السلام " وفرعون بالحق " يعني بالصدق " لقوم يؤمنون " يعني يصدقون محمدا صلى الله عليه وسلم بهذه الآية وإنما نزل القرآن لجميع الناس ولكن المؤمنين به يصدقون فكأنه لهم وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المشركون يؤذونهم فيشكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه السورة في شأنهم لكي يعرفوا ما نزل في بني إسرائيل من فرعون وقومه ليصبروا كصبرهم وينجيهم ربهم كما أنجى بني إسرائيل من فرعون وقومه وهذا كقوله " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم "
ثم أخبر عن فرعون فقال " إن فرعون علا في الأرض " يعني إستكبر وتعظم عن الإيمان وخالف أمر موسى في أرض مصر " وجعل أهلها شيعا " يعني أهل مصر فرقا " يستضعف " يعني يستقهر " طائفة منهم " يعني من أهل مصر وهم بنو إسرائيل فجعل بعضهم ينقل الحجارة من الجبل وبعضهم يعملون له عمل النجارة وبعضهم أعمال الطين ومن كان لا يصلح لشيء من أعماله يأخذ منه كل يوم ضريبة درهما فإذا غربت الشمس ولم(2/597)
598
يأت بالضريبة غلت عليه يده اليمنى إلى عنقه ويأمره بأن يعمل بشماله هكذا شهرا
ثم قال " يذبح أبناءهم " أي يعني أبناء بني إسرائيل صغارا " ويستحيي نساءهم " يعني يستخدم نساءهم وأصله من الإستحياء يعني يتركهن أحياء
وروى أسباط عن السدي قال بلغنا أن فرعون رأى فيما يرى النائم كأن نارا أقبلت من أرض الشام فاشتملت على بيوت مصر وكانت الشام أرض بني إسرائيل أول ما كانوا فأحرقتها كلها إلا بيوت بني إسرائيل فسأل الكهنة عن ذلك فقالوا يولد في بني إسرائيل مولود يكون على يديه هلاك أهل مصر فأمر فرعون بأن لا يولد في بني إسرائيل ذكر إلا ذبح وعمد إلى ما كان من بني إسرائيل خارج المصر فأدخله المدينة واستعبدهم ورفع العمل عن رقاب أهل مصر ووضعه على بني إسرائيل ثم قال " إنه كان من المفسدين " يعني فرعون كان يعمل بالمعاصي
سورة القصص 5 - 6
قوله عز وجل " ونريد أن نمن على الذين إستضعفوا في الأرض " يعني أردنا أن نمن بالنجاة " على الذين إستضعفوا في الأرض " وهم بنو إسرائيل " نمن " يعني ننعم عليهم " ونجعلهم أئمة " يعني قادة في الخير " ونجعلهم الوارثين " يعني أرض مصر وملك فرعون وقومه بعد هلاك فرعون " ونمكن لهم " يعني نملكهم ويقال ننزلهم في الأرض " في الأرض " يعني في أرض مصر " ونري فرعون وهامان " قرأ حمزة والكسائي " ويرى " بالياء والنصب و " فرعون وهامان " " وجنودهما " بالضم كل ذلك وقرأ والباقون " ونري " بالنون والضم و " فرعون وهامان وجنودهما " كلها بالنصب ونصب " نري " لأنه معطوف على قوله " أن نمن " فكأنه قال أن نمن وأن نري ونصب فرعون لوقوع الفعل عليه ومن قرأ بالياء رفعه لأن الفعل منه ثم قال " وهامان وجنودها منهم ما كانوا يحذرون " يعني يرون ما كانوا يخافون من ذهاب الملك
سورة القصص 7 - 8
وقوله عز وجل " وأوحينا إلى موسى " يعني ألهمنا أم موسى " أن أرضعيه " وذلك أن أم موسى حبلت فلم يظهر بها أثر الحبل حتى ولدت موسى وأرضعته ثلاثة أشهر أو أكثر فألهمها الله تعالى بقوله " فإذا خفت عليه " يعني صياحه " فألقيه في اليم " يعني في البحر(2/598)
599
قال مقاتل وهو النيل فعلمها جبريل عليه السلام ويقال رأت في المنام بأنها تؤمر أن تلقيه في البحر ويقال كان هذا إلهاما ويقال كانت دلالة لها حيث علمت بالرؤيا أو بشيء خيل لها أن تفعل ما فعلت كما أن إبراهيم عليه السلام رأى في المنام ذبح إسحاق أو إسماعيل عليهما السلام وذكر أنها كانت تخبز يوما وكان موسى عليه السلام على رأس التنور فدخل قوم فرعون يطلبون الولد فوضعته في التنور فدخلوا فلم يجدوا موسى عليه السلام فجاءت إلى التنور فوجدته يلعب بأصابعه في الأرض فاستيقنت أن الله تعالى يحفظه فجعلته في التابوت وألقته في النيل
ثم قال " ولا تخافي " الغرق " ولا تحزني " أن لا يرد إليك " إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " يعني رسولا إلى فرعون وقومه فلما ألقته في النيل جاء به الماء وكان يمر النيل في دار فرعون فوجدته جواري فرعون بين الماء والشجر فمن ثم سمي موسى بلفظ القبط موشى فالمو الماء وشا الشجر فذلك قوله تعالى " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا " يعني إن أخذهم إياه كان سببا لحزنهم فكأنهم أخذوه لذلك وإن كان أخذهم لم يكن لذلك قرأ حمزة والكسائي " وحزنا " بضم الحاء وسكون الزاي وقرأ الباقون بنصب الحاء والزاي وهما لغتان ومعناهما واحد ثم قال " إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين " يعني مشركين ويقال عاصين آثمين
سورة القصص 9 - 11
قوله عز وجل " وقالت إمرأة فرعون " وإسمها آسية لفرعون هذا الغلام " قرة عين لي ولك لا تقتلوه " فإنه آتانا به الماء من مصر آخر ومن أرض أخرى وليس من بني إسرائيل ويقال إنها قالت إن هذا كبير ومولود قبل هذه المدة التي أخبر لك " عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا " فإنه لم يكن له ولد ذكر قال فرعون فهو قرة عين لك فأما أنا فلا
وروي عن إبن عباس أنه قال لو قال فرعون أيضا هو قرة عين لي لنفعه الله تعالى به ولكنه أبى ويقال " قرة عين لي " وقد تم الكلام ثم قالت " ولك لا تقتلوه "
قال وروى عكرمة عن إبن عباس أنه كان يقف على " قرة عين لي ولك " ثم قال " لا تقتلوه " أي " لا تقتلوه " فلا الثاني إضمار في الكلام والتفسير الأول أصح ثم قال " وهم لا يشعرون " يعني لا يشعر فرعون وقومه أن هلاكهم على يديه
ثم قال عز وجل " وأصبح فؤاد أم موسى فارغا " يعني خاليا من كل ذكر وشغل إلا ذكر موسى عليه السلام وهمه ويقال صار قلبها فارغا حين بعثت أخته لتنظر فأخبرتها بأنه قد أخذ(2/599)
600
في دار فرعون فسكنت حيث لم يغرق ويقال صار قلبها فارغا لأنها علمت أنه لا يقتل
وروي عن فضالة بن عبيد أنه قرأ " وأصبح فؤاد أم موسى فزعا " يعني خائفا وقراءة العامة " فارغا " وتفسيره ما ذكرناه وقد قيل أيضا فارغا من شغل نفقته
ثم قال " إن كادت لتبدي به " يعني قد كادت لتظهر به قال مقاتل وذلك أنها لما ألقت التابوت في النيل فرأت التابوت يرفعه الموج مرة ويضعه أخرى فخشيت عليه الغرق فعند ذلك فزعت عليه وكادت أن تصيح ويقال إنه لما كبر كان الناس يقولون هو إبن فرعون فشق ذلك عليها وكادت أن تظهر أن هذا ولدي وليس بولد فرعون ويقال إنها لما دخل الليل دخل الغم في قلبها حيث لم تدر أين صار ولدها فأرادت أن تظهر ذلك " لولا أن ربطنا على قلبها " أي ثبتنا قلبها ويقال قوينا قلبها وألهمناها الصبر " لتكون من المؤمنين " يعني من المصدقين بوعد الله تعالى حيث وعد لها بإنا رادوه إليك فلم تجزع ولم تظهر
قوله عز وجل " وقالت لأخته قصيه " يعني قالت أم موسى لأخت موسى وكان إسم أخته مريم " قصيه " يعني إتبعي أثره ويقال يعني إمشي بجنبه في الحد وهو في الماء حتى تعرف من يأخذه " فبصرت به عن جنب " يعني أبصرته عن بعد كما قال " والجار الجنب " [ النساء : 36 ] يعني البعيد منهم من قوم آخرين ويقال " عن جنب " يعني في جانب " وهم لا يشعرون " أنها أخت موسى ويقال " وهم لا يشعرون " يعني وهم لا يعرفون أنها ترقبه
سورة القصص 12 - 14
قوله عز وجل " وحرمنا عليه المراضع من قبل " يعني من قبل مجيء أمه ويقال في رواية سعيد بن جبير عن إبن عباس أن أم موسى عليهما السلام قالت لأخته " قصيه " أي أطلبي أثره بعد ما أخذه آل فرعون ولم يقبل رضاع أحد " وحرمنا عليه المراضع " من قبل مجيء أخته ويقال " حرمنا عليه المراضع " يعني منعنا موسى أن يقبل ثدي مرضع من قبل أن نرده على أمه " فقالت " أخته حين تعذر عليهم إرضاعه " هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم " يعني يضمنون لكم رضاعه ويقال يضمنونه " وهم له ناصحون " يعني مشفقون للولد ويقال مخلصون شفقته فقال هامان خذوها حتى تخبرنا بقصة هذا الغلام فأخذت فألهمها الله تعالى عند ذلك حتى قالت إنما ذكرت النصيحة لفرعون أعني " وهم له(2/600)
601
ناصحون ) لفرعون لا لغيره فقال هامان دعوها فقد صدقت فأرسل إليها فلما جاءت أمه وضعت الثدي في فمه فأخذ ثديها وسكن فذلك قوله تعالى " فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق " يعني كائن صدق وهو قوله " إنا رادوه إليك " ثم قال " ولكن أكثرهم لا يعلمون " بأن وعد الله حق يعني أهل مصر
قوله عز وجل " ولما بلغ أشده " قال مجاهد يعني بلغ ثلاثا وثلاثين سنة " واستوى " يعني بلغ أربعين سنة قال وفي رواية الكلبي الأشد ما بين ثمانية عشر سنة إلى ثلاثين سنة ويقال " ولما بلغ أشده " يعني منتهى قوته وهو ما فوق الثلاثين " واستوى " يعني بلغ أربعين سنة " آتيناه حكما وعلما " يعني علما وعقلا ويقال النبوة وعلم التوراة وروى مجاهد عن إبن عباس قال الأشد ثلاثا وثلاثون سنة وأما الإستواء فأربعون سنة والعمر الذي أعذر الله تعالى إبن آدم فيه إلى ستين سنة يعني قوله " أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر " [ فاطر : 37 ] ثم قال " وكذلك نجزي المحسنين " يعني المؤمنين
سورة القصص 15 - 16
قوله عز وجل " ودخل المدينة " قال مقاتل يعني قرية على رأس فرسخين وقال غيره يعني المصر " على حين غفلة من أهلها " يعني نصف النهار وقت القيلولة ويقال ما بين المغرب والعشاء " فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته " يعني من بني إسرائيل " وهذا من عدوه " يعني من القبط
وقال القتبي " هذا من شيعته " أي من أصحابه " وهذا من عدوه " أي من أعدائه والعدو يدل على الواحد والجمع وذكر أن خباز فرعون أخذ رجلا من بني إسرائيل سخرة فأمره بأن يحمل الحطب إلى دار فرعون " فاستغاثه الذي من شيعته " يعني هذا الذي من شيعة موسى إستغاث بموسى " على الذي من عدوه فوكزه موسى " يعني ضربه بكفه ضربة في صدره وقال القتبي " فوكزه " يعني لكزه ويقال لكزته ووكزته إذا دفعته " فقضى عليه " يعني مات الخباز بضربته وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه فمعنى قوله " فقضى عليه " أي قتله ولم يتعمد قتله وكان موسى شديد البطش ثم ندم على قتله فقال إني لم أؤمر بالقتل وإن كان كافرا " قال هذا من عمل الشيطان " يعني هو الذي حملني على هذا الفعل " إنه عدو مضل مبين " يعني يضل الخلق " مبين " يعني ظاهر العداوة(2/601)
602
ثم إستغفر إلى الله تعالى فقال عز وجل " فقال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له " يعني غفر الله عز وجل ذنبه " إنه هو الغفور " للذنوب لمن تاب " الرحيم " بخلقه
سورة القصص 17 - 22
ثم قال " قال " موسى " رب بما أنعمت علي " يعني بالمغفرة كقوله " فبما أغويتني " [ الحجر : 39 ] يعني أما إذا أغويتني ثم قال " فلن أكون ظهيرا للمجرمين " يعني أعوذ بالله أن أكون معينا للكافرين لأن الإسرائيلي كان كافرا ولم يستثن على كلامه فابتلاه الله عز وجل في اليوم الثاني بمثل ذلك وكانوا لا يعرفون من قتل خباز الملك وكانوا يطلبون قاتله " فأصبح " موسى " في المدينة خائفا " أن يؤخذ فيقتل " يترقب " يعني ينتظر الطلب ويقال ينتظر الأخبار " فإذا الذي إستنصره بالأمس يستصرخه " يعني رأى الإسرائيلي كان يقاتل مع رجل آخر من القبط يستصرخه يعني يستغيثه كقوله " ما أنا بمصرخكم " [ إبراهيم : 22 ] يعني بمغيثكم " قال له موسى " يعني للإسرائيلي " إنك لغوي مبين " يعني ضال بين ويقال جاهل بين ويقال ظاهر الغواية وقد قتلت لك الأمس رجلا وتدعوني إلى لآخر ثم أقبل إليه فظن الذي من شيعته أنه يريده فذلك قوله تعالى " فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما " يعني يريد أن يضرب القبطي فظن الإسرائيلي أنه يريده بعدها عاينه قرأ أبو جعفر المدني " يبطش " بضم الطاء وقراءة العامة بالكسر ومعناهما واحد فظن الإسرائيلي أن موسى يريد ضربه ف " قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس " وقال بعضهم كان ذلك إبليس تشبه بالرجل الإسرائيلي ليظهر أمر موسى وقال بعضهم كان ذلك الرجل بعينه فقال ذلك الرجل من الخوف " إن تريد " يعني ما تريد " إلا أن تكون جبارا في الأرض " يعني قتالا تقتل ظلما
قال الكلبي من قتل رجلين فهو جبار ويقال إن من سيرة الجبابرة القتل بغير حق " وما تريد أن تكون من المصلحين " يعني المطيعين لله تعالى فلما قال الإسرائيلي هذا علم القبطي أن موسى هو قاتل القبطي فرجع القبطي فأخبرهم أن موسى هو القاتل فائتمروا بينهم بقتل موسى قال فأذن فرعون بقتله فجاءه خزبيل وهو مؤمن من آل فرعون وأخبر موسى بذلك(2/602)
603
وهو قوله " وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى " يعني من وسط المدينة يمشي على رجليه ويقال يسرع ويشتد في مشيته ف " قال يا موسى إن الملأ " يعني الأشراف من أهل مصر " يأتمرون بك ليقتلوك " قال أبو عبيد يعني يتشاورون في أمرك وقال القتبي يعني يهمون بك ليقتلوك " فأخرج " من هذه المدينة " إني لك من الناصحين "
قوله عز وجل " فخرج منها " يعني من مصر " خائفا يترقب " يعني ينتظر الطلب " قال رب نجني من القوم الظالمين " يعني المشركين
قوله تعالى " ولما توجه تلقاء مدين " يعني قصد بوجهه نحو مدين وذلك أن موسى عليه السلام حين خرج وتوجه نحو مدين وكان بينه وبين مدين ثمانية أيام كما بين الكوفة والبصرة ويقال " تلقاء مدين " يعني سلك الطريق الذي تلقاء مدين ويقال لما قال " رب نجني من القوم الظالمين " إستجاب الله تعالى دعاءه فجاءه جبريل عليه السلام وأمره بأن يسير تلقاء مدين فسار إلى مدين في عشرة أيام وهو قوله " قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل " يعني يرشدني قصد الطريق إلى مدين
سورة القصص 23 - 25
قوله عز وجل " ولما ورد ماء مدين " وكان مدين بن إبراهيم عليهما السلام وكانت البير تنسب إليه وكان ينسب الماء إليه وصار مدين إسم قبيلة " وجد عليه أمة من الناس يسقون " يعني وجد على الماء جماعة من الناس يسقون أنعامهم وأغنامهم ويقال هم أربعون رجلا ويقال عشرة رجال " ووجد من دونهم " يعني من دون الناس " إمرأتين تذودان " أي تطردان قال سعيد بن جبير يعني حابستان ويقال تحبسان غنمهما وقال القتبي " تذودان " أي تكفان غنمهما وحذف الغنم إختصارا ويقال كانتا تحبسان الغنم لكيلا تختلط بغيرها ويقال تحبسان الغنم لتصدر مواشي الناس وتسقيان بفضل الماء ومما فضل من أغنام الناس وهما إبنتا شعيب عليه السلام " قال ما خطبكما " يعني قال لهما موسى ما شأنكما ترعيان الغنم مع الرجال وما بالكما لا تسقيان مع الناس " قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء " قرأ أبو عمرو وإبن عامر " يصدر " بنصب الياء وضم الدال وقرأ الباقون " يصدر " بضم الياء وكسر الدال فمن قرأ بالنصب فهو من صدر يصدر إذا رجع من الماء ومعناه لا نسقي حتى يرجع(2/603)
604
الرعاء عن الماء ونسقي بفضلهم لأنا لا نقدر أن نستقي وأن نزاحم الرجال وإذا صدروا سقينا من فضل مواشيهم ومن قرأ " يصدر " بالضم فهو من أصدر يصدر والمعنى حتى يصدر الرعاة أغنامهم " وأبونا شيخ كبير " لم يقدر على الخروج وليس له عون يعينه غيرنا فرجع الرعاة ووضعوا صخرة على البئر فانتهى موسى إلى البئر وقد أطبقت عليها الصخرة فاقتلعها ثم سقى لهما حتى أروتا أغنامهما
وقال في رواية الكلبي كان للبئر دلو يجتمع عليه أربعون رجلا حتى يخرجوه من البئر فأتى موسى أهل الماشية فسألهم أن يهيئوا له دلوا من الماء فقالوا إن شئت أعطيناك الدلو على أن تسقي أنت فقال نعم فأخذ موسى عليه السلام الدلو فسقى بها وحده فصب في الحوض ثم قربتا غنمهما فشربت فذلك قوله عز وجل " فسقى لهما " يعني أغنامهما " ثم تولى إلى الظل " يعني تحول إلى ظل الشجرة " فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير " أي لما أنزلت إلي من الطعام فأنا محتاج إلى ذلك وهو أنه كان جائعا فسأل ربه عز وجل ولم يسأل الناس ففطنت الجاريتان فلما رجعتا إلى أبيهما أخبرتاه بالقصة فقال أبوهما هذا رجل جائع وقال لإحداهما إذهبي فادعيه فلما أتته عظمته وغطت وجهها وقالت إن أبي يدعوك فذلك قوله عز وجل " فجاءته إحداهما تمشي على إستحياء " يعني على حياء لأنها كانت مقنعة ولم تك متبرجة ويقال " على إستحياء " يعني على حياء واضعة يدها على وجهها ويقال " على إستحياء " يعني مستترة بكم درعها قال فالوقف على " تمشي " إذا كان قولها على الحياء فأما إذا كان مشيها على الحياء فالوقف على " إستحياء " والقول بالحياء أشبه من المشي بالحياء فكيف ما يقف يجوز بالمعنى فقالت " إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا " وكان بين موسى وبين أبيها ثلاثة أميال ويقال أقل من ذلك فتبعها فلم يجد بدا من أن يتبعها لأنه كان بين الجبال خائفا مستوحشا فلما تبعها هبت الريح فجعلت تصفق ثيابها وتظهر عجيزتها وجعل موسى عليه السلام يعرض مرة ويغض مرة فلما عيل صبره ناداها يا أمة الله كوني خلفي وأريني السمت بقولك يعني دليني الطريق فلما دخل على شعيب عليه السلام إذا هو بالعشاء مهيأ فقال له شعيب إجلس يا شاب فتعش فقال له موسى أعوذ بالله فقال له شعيب لم لا تأكل أما أنت جائع فقال بلى ولكن أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئا من ديننا بملء الأرض ذهبا فقال لا يا شاب ولكنها عادتي وعادة آبائي أنا نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى فأكل وأخبره بقصة القتل والهرب فذلك قوله عز وجل " فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين " يعني خرجت من ولاية فرعون(2/604)
605
ولا سلطان له في أرضنا وقال في رواية الكلبي كان هذا الرجل إسمه نيرون إبن أخي شعيب وشعيب كان توفي قبل ذلك وقال عامة المفسرين إن هذا كان شعيبا
سورة القصص 26 - 29
قوله عز وجل " قالت إحداهما يا أبت " يعني قالت إحدى الإبنتين التي جاءت به وقال في رواية مقاتل هي الكبرى وقال في رواية الكلبي هي الصغرى " يا أبت إستأجره " يعني إستأجر موسى ليرعى لك الغنم " إن خير من إستأجرت القوي الأمين " يعني خير الأجراء من يكون قويا في العمل أمينا على المال والعورة
ثم قال إيش تعلمين أنه قوي أمين فأخبرته بالقصة قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا أبو معاوية عن الحجاج عن الحكم قال كان شريح لا يفسر شيئا من القرآن إلا ثلاث آيات قوله " الذي بيده عقدة النكاح " [ البقرة : 237 ] قال أي الزوج وقوله " وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب " [ ص : 20 ] قال " الحكمة " الفقه والعلم " وفصل الخطاب " البينة والإيمان وقوله " إن خير من إستأجرت القوي الأمين " قال كانت قوته أن يحمل صخرة لا يقوى عليها إلا عشرة رجال وكانت أمانته أن إبنة شعيب كانت أمامه فوصفتها له الريح فقال لها تأخري وصفي لي الطريق
" قال " شعيب لموسى عليهما السلام " إني أريد أن أنكحك إحدى إبنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج " يعني أزوجك إحدى إبنتي على أن ترعى غنمي ثمان سنين وهذا الحكم في هذه الأمة جائز أيضا لو تزوج الرجل المرأة على أن يرعى غنمها كذا وكذا سنة أو يرعى غنم أبيها يجوز النكاح ويكون ذلك مهرا لها " فإن أتممت عشرا " يعني عشر سنين " فمن عندك " يعني فإن أتممت عشر سنين فبفضلك وليس بواجب " وما أريد أن أشق عليك " في السنتين يعني أنت بالخيار في ذلك ويقال بأن أشرط عليك العشر " ستجدني إن شاء الله من الصالحين " أي من الوافين بالعهد وقال مقاتل يعني من الوافين بك كقوله " أخلفني في قومي وأصلح " [ الأعراف : 142 ] يعني إرفق بهم " قال " موسى " ذلك بيني وبينك(2/605)
606
أيما الأجلين قضيت ) يعني أتممت لك إما الثماني وإما العشر " فلا عدوان علي " أي لا سبيل لك علي ويقال لا ظلم علي بأن أطالب بأكثر منه فإن قيل كيف تجوز الإجازة بهذا الشرط على أحد الأجلين بغير وقت معلوم قيل له العقد قد وقع على الثماني وهو قوله " أن تأجرني ثماني حجج " وإنما خيره في الزيادة والإجارة بهذا الشرط في الشريعة جائزة أيضا ثم قال " والله على ما نقول وكيل " يعني شهيد فيما بيننا ويقال شاهد على ما نقول وعلى عقدنا
وذكر مقاتل أن رجلا من الأزد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما الأجلين قضى موسى قال الله أعلم حتى أسأل جبريل عليه السلام فأتاه جبريل فسأله فقال الله أعلم سأسأل إسرافيل عليه السلام فسأله فقال حتى أسأل رب العزة فأوحى الله تعالى إلى إسرافيل عليه السلام أن قد قضى موسى أبرهما وأوفاهما
وروي عن إبن عباس أنه قال قضى موسى أتم الأجلين وقد كان شرطه له أن ما ولدت في ذلك العام ولدا أبلق فهو له فولدت في ذلك العام كلها بلقا فأخذ الغنم البلق وقيل مثل هذا الشرط في شريعتنا غير واجب إلا أن الوعد من الأنبياء عليهم السلام واجب فوفاه بوعده فلما أراد أن يخرج قال لشعيب عليه السلام يا شيخ أعطني عصا أسوق بها غنمي فقال لإبنته إلتمسي له عصا فجاءت بعصا شعيب عليه السلام فقال شعيب عليه السلام ردي هذه وكانت تلك العصا أودعها إياه ملك في صورة إنسان وكانت من عود آس الجنة فردتها والتمست غيرها فلم يقع في يدها غيرها فأعطته فخرج مع أهله فضل الطريق وكانت ليلة باردة مظلمة فذلك قوله تعالى " فلما قضى الأجل وسار بأهله " يعني بإمرأته " آنس " يعني أبصر " من جانب الطور نارا قال لأهله إمكثوا " يعني قفوا مكانكم " إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر " أي خبر الطريق " أو جذوة من النار " قرأ عاصم " جذوة " بنصب الجيم وقرأ حمزة " جذوة " بضم الجيم وقرأ الباقون " جذوة " بالكسر فهذه لغات معناها واحد يعني قطعة من النار ويقال شعلة وهو عود قد إحترق بعضه " لعلكم تصطلون " أي لكي تصطلوا من البرد فترك إمرأته في البرية وذهب
سورة القصص 30 - 32(2/606)
607
" فلما أتاها " يعني النار " نودي من شاطىء الواد الأيمن " يعني من جانب الوادي الأيمن عن يمين موسى عليه السلام " في البقعة المباركة " يعني من الموضع المبارك الذي كلم الله تعالى فيه موسى عليه السلام " من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين " يعني الذي يناديك رب العالمين
قوله عز وجل " وأن ألق عصاك " يعني ونودي بأن ألق عصاك " فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب " وقد ذكرناه قال الله عز وجل " يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين " يعني من الحية يعني قد آمنت أن ينالك منها مكروه " أسلك يدك " أي أدخل يدك " في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب " يعني يدك
قال بعضهم هذا ينصرف إلى قوله " ولم يعقب " من الرهب يعني لم يلتفت من الخوف ويقال كان خائفا فأمره بأن يضم يده إلى صدره ففعل حتى سكن عن قلبه الرعب
قرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو " من الرهب " بنصب الراء والهاء وقرأ عاصم في رواية حفص بنصب الراء وجزم الهاء والباقون بضم الراء وجزم الهاء ومعنى ذلك كله واحد وهو الخوف وقال بعضهم هو الكدر
ثم قال " فذانك برهانان من ربك " يعني اليد والعصا آيتان وعلامتان من ربك وحجتان لنبوتك قرأ إبن كثير وأبو عمرو " فذانك " بتشديد النون وقرأ الباقون بالتخفيف وهم لغتان وهو الإشارة إلى شيئين يقال للواحد ذلك وذاك وللإثنين ذانك وذايك " إلى فرعون وملئه " ومعناه أرسلناك إلى فرعون بهاتين الآيتين " إنهم كانوا قوما فاسقين " يعني عاصين
سورة القصص 33 - 35
" قال " موسى " رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون " به " وأخي هارون هو أفصح مني لسانا " يعني أبين مني لسانا وكانت في لسان موسى عقدة من النار التي أدخلها فاه " فأرسله معي ردءا " أي عونا " يصدقني " يعني لكي يصدقني ويعبر عن كلامي قرأ نافع " ردا " بغير همز وقرأ الباقون بالهمز فمن قرأ بالهمز فهو الأصل ومن قرأ بغير همز فإنما ألقى فتحة الهمزة على الدال ولين الهمزة وقرأ عاصم وحمزة " يصدقني " بضم القاف وقرأ(2/607)
608
الباقون بالجزم فمن قرأ بالجزم جعله جواب الأمر ومن قرأ بالضم جعله صفة ردءا أي ردءا مصدقا
ثم قال " إني أخاف أن يكذبون " أي فرعون وآله " قال " الله تعالى " سنشد عضدك بأخيك " أي نقويك بأخيك " ونجعل لكما سلطانا " يعني حجة ثانية وهي اليد والعصا " فلا يصلون " بسوء إليكما " أنتما ومن إتبعكما " يعني من آمن بكما " الغالبون " في الحجة
سورة القصص 36 - 38
قوله عز وجل " فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات " يعني جاء إلى فرعون وقومه بعلاماتنا وذكر في رواية مقاتل أن فرعون لم يأذن لهما إلى سنة أن يدخلا عليه وقال في رواية السدي وغيره أنه لما جاء إلى الباب لم يأذن له البواب فضرب عصاه على باب فرعون ضربة ففزع من ذلك فرعون وجلساؤه فدعا البواب وسأله فأخبره أن بالباب رجلا يقول أنا رسول رب العالمين فأذن له فدخل فأدى الرسالة وأراهم العلامة فقالوا هذا سحر فذلك قوله عز وجل " قالوا ما هذا إلا سحر مفترى " يعني ما هذا إلا كذب مختلق يعني الذي جئت به ما هو إلا سحر قد إختلقته من ذات نفسك " وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين "
قوله عز وجل " وقال موسى " قرأ إبن كثير " قال موسى " بغير واو وقرأ الباقون بالواو فمن قرأ بالواو فهو عطف جملة على جملة ومن قرأ بغير واو فهو إستئناف " قال موسى " " ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده " يعني أنا جئت بالهدى من عند الله " ومن تكون له عاقبة الدار " يعني هو أعلم بمن تكون له عاقبة الجنة أو النار ويقال بمن يكون له عاقبة الأمر والدولة وقرأ حمزة والكسائي " ومن يكون " بلفظ التذكير وقرأ الباقون " تكون " بلفظ التأنيث
ثم قال " إنه لا يفلح الظالمون " يعني لا يأمن الكافرون من عذابه " وقال فرعون " لأهل مصر " يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري " فلا تطيعوا موسى وهذه إحدى كلمتيه التي أخذه الله بهما والأخرى " فقال أنا ربكم الأعلى " [ النازعات : 24 ]
ثم قال " فأوقد لي يا هامان على الطين " يعني أوقد النار على اللبن حتى يصير آجرا قال مقاتل وكان فرعون أول من طبخ الآجر وبنى به " فاجعل لي صرحا " أي قصرا طويلا(2/608)
609
مشرفا وهو المنارة " لعلي أطلع إلى إله موسى " يعني أنظر إليه وأقف عليه فبنى الصرح وكان بلاطه خبث القوارير وكان الرجل لا يستطيع القيام عليه من طوله مخافة أن تنسفه الرياح وكان طوله في السماء خمسة آلاف ذراع وعرضه ثلاثة آلاف ذراع فلما فرغ من بنائه جاء جبريل عليه السلام فضرب جناحه على الصرح فهدمه وقال " وإني لأظنه " يعني أحسب موسى " من الكاذبين " بما يقول أن في السماء إلها
سورة القصص 39 - 42
قوله عز وجل " واستكبر هو وجنوده في الأرض " يعني إستكبر فرعون عن الإيمان هو وقومه " بغير الحق " يعني بغير حجة " وظنوا أنهم " يعني وحسبوا أنهم " إلينا لا يرجعون " بعد الموت قرأ نافع وحمزة والكسائي " لا يرجعون " بنصب الياء وكسر الجيم على فعل لازم وقرأ الباقون بضم الياء نصب الجيم يعني لا يردون بمعنى التعدي
يقول الله تعالى " فأخذناه وجنوده " يعني عاقبناه وجنوده " فنبذناهم في اليم " يعني أغرقناهم في البحر وقال مقاتل في النيل " فانظر كيف كان عاقبة الظالمين " يعني المشركين
قوله عز وجل " وجعلناهم أئمة " يعني خذلناهم حتى صاروا قادة ورؤساء للضلال والجهال " يدعون إلى النار " يعني إلى عمل أهل النار ويقال إلى الضلالة التي عاقبتها النار " ويوم القيامة لا ينصرون " يعني لا يمنعون من عذابي " وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة " عقوبة عقوبة وهي الغرق " ويوم القيامة هم من المقبوحين " أي من المهلكين والعرب تقول قبحه الله أي أهلكه الله ويقال " وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة " وذلك أنهم لما أهلكوا لعنوا فهم يعرضون على النار غدوة وعشية إلى يوم القيامة ويوم القيامة " هم من المقبوحين " يعني من الممقوتين المهلكين ويقال " من المقبوحين " يعني من المعذبين ويقال إنه يقبح صورتهم ويقال " من المقبوحين " يعني من المشوهين
سورة القصص 43 - 45(2/609)
610
قوله عز وجل " ولقد آتينا موسى الكتاب " يعني أعطيناه التوراة " من بعد ما أهلكنا القرون الأولى " بالعذاب يعني من بعد قوم نوح وعاد وثمود " بصائر للناس " يعني هلاكهم بصيرة للناس وعبرة ويقال " بصائر " يعني الكتاب بيانا لبني إسرائيل ومعناه " ولقد آتينا موسى الكتاب بصائر " أي مبينا للناس " وهدى " من الضلالة لمن عمل به " ورحمة " لمن آمن به من العذاب " لعلهم يتذكرون " أي لكي يتعظوا فيؤمنوا بتوحيد الله تعالى
قوله عز وجل " وما كنت بجانب الغربي " يعني ما كنت يا محمد بناحية الجبل من قبل المغرب " إذ قضينا إلى موسى الأمر " يعني إذ عهدنا إليه بالرسالة ويقال أحكمنا معه وعهدنا إليه بأمرنا ونهينا " وما كنت من الشاهدين " يعني الحاضرين لذلك الأمر " ولكنا أنشأنا قرونا " يعني أحدثنا وخلقنا أمما " فتطاول عليهم العمر " يعني الأجل فنسوا عهد الله عز وجل وتركوا أمره
وقال " وما كنت ثاويا " يعني مقيما " في أهل مدين " " تتلو عليهم آياتنا " يعني تتلو على أهل مكة القرآن يعني أن الله تعالى أعلمك أخبار الأمم الماضية من حديث موسى وشعيب عليهما السلام ليكون علامة لنبوتك حيث تخبرهم بخبر موسى ولم تكن حاضرا هناك ولم تكن تقرأ القرآن " ولكنا كنا مرسلين " إليك لتخبرهم بخبر أهل مدين وبخبر موسى عليه السلام ويقال " ولكنا كنا مرسلين " يعني أرسلناك رسولا وأنزلنا عليك هذه الأخبار لتخبرهم ولولا ذلك لما علمتها
سورة القصص 46 - 47
قوله عز وجل " وما كنت بجانب الطور " يعني بناحية الجبل الذي كلم الله تعالى به موسى يعني عن يمين موسى ولولا ذلك " إذ نادينا " يعني كلمنا موسى ويقال " إذ نادينا " يعني أمتك وذلك أن الله تعالى لما وصف لموسى نعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم فأحب موسى أن يراهم قال الله تعالى لموسى إنك لن تراهم وإن شئت أسمعتك كلامهم فأسمعه الله تعالى كلامهم وقال أبو هريرة رضي الله عنه معنى قوله " إذ نادينا " يعني نودوا يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني واستجبت لكم قبل أن تدعوني
وروى الأعمش عن إبن مدرك عن أبي زرعة قال رفع الحديث في قوله " وما كنت بجانب الطور إذ نادينا " قال نودي يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتم قبل أن تسألوني وعن عمرو بن شعيب قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله " وما كنت بجانب الطور إذ نادينا " ما كان النداء وما كانت الرحمة قال كتاب كتبه الله تعالى قبل أن يخلق خلقه بألفي(2/610)
611
عام وستمائة عام على ورقة آس ثم وضعه على عرشه ثم نادى يا أمة محمد سبقت رحمتي غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أدخلته الجنة
ثم قال " ولكن رحمة من ربك " يعني القرآن نعمة من ربك حيث إختصصت به نصب " رحمة " لأن معناه فعلنا ذلك للرحمة كقوله فعلت ذلك إبتغاء الخير يعني لإبتغاء الخير ثم قال " لتنذر قوما ما أتاهم " يعني لم يأتهم " من نذير من قبلك " يعني لم يأتهم رسول من قبلك وهم أهل مكة " لعلهم يتذكرون " يعني لكي يتعظوا
قوله عز وجل " ولولا أن تصيبهم مصيبة " يعني عقوبة ونقمة وفي الآية تقديم ومعناها لولا أن يقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين لعذبوا في الدنيا ولأصابتهم مصيبة " بما قدمت أيديهم " وهذا هو قول مقاتل ويقال معناه لولا أن يصيبهم عذاب " فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين " لعذبوا في الدنيا فيكون جوابه مضمرا ويقال معناه لو أني أهلكتهم قبل إرسالي إليك لقالوا يوم القيامة " ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك " يقول لولا ذلك لم نحتج إلى إرسال الرسل فأرسلناك لكي لا يكون لهم حجة علي
سورة القصص 48 - 50
ثم قال عز وجل " فلما جاءهم الحق من عندنا " يعني الكتاب أو الرسل " قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى " من قبل يعني هلا أعطي محمد صلى الله عليه وسلم القرآن جملة واحدة كما أعطي موسى التوراة جملة
يقول الله تعالى " أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل " يعني بالتوراة فقد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمد صلى الله عليه وسلم " قالوا سحران تظاهرا " يعني تعاونا وذلك أن أهل مكة سألوا اليهود عنه فأخبروهم أنهم يجدون في كتبهم نعته وصفته فأمروهم بأن يسألوه عن أشياء فلما أجابهم قالوا " ساحران تظاهرا " " وقالوا إنا بكل كافرون " يعني جاحدين قرأ حمزة والكسائي وعاصم " سحران " بغير ألف عنوا محمدا وموسى عليهما السلام ويقال التوراة والفرقان ويقال التوراة والإنجيل وقرأ الباقون بالألف " ساحران " عنوا محمدا(2/611)
612
وموسى عليهما السلام وقال سعيد بن جبير يعني موسى وهارون عليهما السلام ويقال موسى وعيسى عليهما السلام وأحتج من يقرأ بغير ألف بما في سياق الآية " قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه " وأحتج من قرأ بالألف بقوله تعالى " تظاهرا " تعاونا والتظاهر يكون بالناس يقول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم قل لهم فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه يعني من التوراة والقرآن أتبعة أي أعمل به " إن كنتم صادقين " بأنهما كانا ساحرين " فإن لم يستجيبوا لك " يعني إن لم يجيبوك إلى الإتيان بالكتاب " فاعلم أنما يتبعون أهواءهم " بعبادة الأوثان ويقال يؤثرون أهواءهم على الدين " ومن أضل " يعني ومن أضر بنفسه " ممن إتبع هواه بغير هدى من الله " يعني بغير بيان من الله " إن الله لا يهدي القوم الظالمين " يريد كفار مكة يعني لا يرشدهم إلى دينه
سورة القصص 51 - 55
قوله " ولقد وصلنا لهم القول " يعني بينا لكفار مكة لهم في القرآن من خبر الأمم الماضية كيف عذبوا " لعلهم يتذكرون " لكي يخافوا فيؤمنوا بما في القرآن ويقال " ولقد وصلنا لهم القول " يعني أرسلنا لهم الكتب بعضها ببعض يعني بعثنا بعضها على إثر بعض ويقال " ولقد وصلنا " أي أوصلنا لهم القول يعني أنزلنا لهم القرآن آية بعد آية هداية " لعلهم يتذكرون " يعني لكي يتعظوا
ثم وصف مؤمني أهل الكتاب فقال " الذين آتيناهم الكتاب من قبله " يعني من قبل القرآن " هم به مؤمنون " يعني مؤمني أهل الكتاب وهم أربعون رجلا من أهل الإنجيل كانوا مسلمين قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم إثنان وثلاثون من أهل أرض الحبشة قدموا مع جعفر الطيار وثمانية من أهل الشام ويقال إنهم ثمانية عشر رجلا " وإذا يتلى عليهم " يعني القرآن " قالوا آمنا به " أي صدقنا " إنه الحق من ربنا " يعني القرآن وذلك أنهم عرفوا بما ذكر في كتبهم من نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته وكتابه فقالوا " إنا كنا من قبله مسلمين " يعني من قبل هذا القرآن ومن قبل محمد صلى الله عليه وسلم كنا مخلصين
قوله عز وجل " أولئك يؤتون أجرهم مرتين " يعني يعطون ثوابهم ضعفين مرة إيمانهم بكتابهم ومرة بإيمانهم بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم " بما صبروا " يعني بصبرهم على ما أوذوا ويقال بصبرهم على دينهم الأول وبصبرهم على أذى المشركين فصدقوا وثبتوا على(2/612)
613
إيمانهم حيث قال لهم أبو جهل وأصحابه ما رأينا أحدا أجهل منكم تركتم دينكم وأخذتم دينه فقالوا ما لنا لا نؤمن بالله فذلك قوله عز وجل " ويدرؤون بالحسنة السيئة " يعني يدفعون قول المشركين بالمعروف ويقال يدفعون الشرك بالإيمان ويقال يدفعون بالكلام الحسن الكلام القبيح ويقال يدفعون ما تقدم لهم من السيئات بما يعملون من الحسنات " ومما رزقناهم ينفقون " يعني يتصدقون
قوله عز وجل " وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه " يعني إذا سمعوا الشتم والأذى والقبيح لم يردوا عليهم ولم يكافئوهم به ولم يلتفتوا إليه يعني إذا شتمهم الكفار لم يشتغلوا بمعارضتهم بالشتم " وقالوا لنا أعمالنا " يعني ديننا " ولكم أعمالكم " يعني دينكم " سلام عليكم " يعني ردوا معروفا عليهم ليس هذا تسليم التحية وإنما هو تسليم المتاركة والمسالمة أي بيننا وبينكم المتاركة والمسالمة وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال ويقال " السلام عليكم " يعني أكرمكم الله تعالى بالإسلام " لا نبتغي الجاهلين " أي لا نطلب دين الخاسرين ولا نصحبهم ويقال هذه الآية مدنية نزلت في شأن عبد الله بن سلام
وروى أسباط عن السدي قال لما أسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه فقال يا رسول الله إبعث إلى قومي فاسألهم عني فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ستر بينهم وبينه سترا وقال أخبروني عن عبد الله بن سلام كيف هو فيكم قالوا ذاك سيدنا وأعلمنا قال أرأيتم إن آمن بي وصدقني أتؤمنون بي وتصدقوني قالوا هو أفقه من أن يدع دينه ويتبعك قال أرأيتم إن فعل قالوا لا يفعل قال أرأيتم إن فعل قالوا إنه لا يفعل ولو فعل إذا نفعل فقال عليه السلام أخرج يا عبد الله فخرج فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فوقعوا فيه وشتموه وقالوا ما فينا أحد أقل علما ولا أجهل منك قال ألم تثنوا عليه آنفا قالوا إنا إستحينا أن نقول إغتبتم صاحبكم فجعلوا يشتمونه وهو يقول " سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين " فقال إبن يامين وكان من رؤساء بني إسرائيل أشهد أن عبد الله بن سلام صادق فابسط يدك يا محمد فبسط يده فبايع إبن يامين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل " الذين آتيناهم الكتاب من قبله " إلى قوله " ومما رزقناهم ينفقون " وإلى قوله " لا نبتغي الجاهلين "
سورة القصص 56 - 57(2/613)
614
قوله عز وجل " إنك لا تهدي من أحببت " يعني لا ترشد من أحببته إلى الهدى ويقال من أحببت هدايته إلى دينك وذلك أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أمية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عماه قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله تعالى فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزالا به يكلمانه ويكلمه النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات على الكفر فنزل " إنك لا تهدي من أحببت " بهدايته " ولكن الله يهدي من يشاء " يعني يرشد من يشاء إلى دينه " وهو أعلم بالمهتدين " يعني بمن قدر له الهدى
قوله عز وجل " وقالوا " يعني مشركي مكة " إن نتبع الهدى معك " يعني الإيمان بك " نتخطف من أرضنا " يعني نسبى ونخرج من مكة لإجماع العرب على خلافنا وهذا قول الحارث بن عامر النوفلي حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما كذبت كذبة قط فنتهمك اليوم ولكن متى ما نؤمن بك تختلسنا العرب من أرضنا يقول الله تعالى " أولم نمكن لهم حرما آمنا " يعني أولم ننزلهم مكة حرما آمنا يعني كان الحرم أمنا لهم في الجاهلية من الغارة والسبي وهم يعبدون غيري فكيف يخافون إن أسلموا أن لا يكون الحرم أمنا لهم فذلك قوله " أولم نمكن لهم " يعني أولم ننزلهم مكة حرما آمنا من الغارة والسبي " يجبى إليه " بالتاء يعني يحمل إليه " ثمرات كل شيء " أي من ألوان الثمرات مؤنثة قرأ نافع " تجبى " بالتاء لأن الثمرات مؤنثة وقرأ الباقون بالياء لتقديم الفعل ثم قال " رزقا من لدنا " يعني من عندنا " ولكن أكثرهم لا يعلمون " يأكلون رزقي ويعبدون غيري وهم آمنون في الحرم ويقال لا يعلمون أن ذلك من فضل الله عليهم
سورة القصص 58 - 60
ثم خوفهم فقال " وكم أهلكنا من قرية " فيما مضى " بطرت معيشتها " يعني كفرت برزق ربها ذكر القرية وأراد به أهل القرية يعني أنهم كانوا يتقلبون في رزق الله تعالى فلم يشكروه في نعمته ويقال " بطرت معيشتها " يعني طغوا في نعمة الله فأهلكهم الله تعالى بالعذاب في الدنيا ويقال عاشوا في البطر وكفران النعم " فتلك مساكنهم " يعني أنظروا واعتبروا في بيوتهم وديارهم بقيت خالية " لم تسكن من بعدهم إلا قليلا " وهم المسافرون ينزلون بها يوما أو ساعة " وكنا نحن الوارثين " يعني نرث الأرض ومن عليها(2/614)
615
قوله عز وجل " وما كان ربك مهلك القرى " يعني لم يعذب أهل القرى " حتى يبعث في أمها رسولا " يعني في معظمها ويقال في أكبر قراها ويقال أم القرى مكة قرأ حمزة والكسائي " في إمها " بكسر الألف وقرأ الباقون " أمها " بالضم ومعناهما واحد يبعث في أمها رسولا " يتلو عليهم آياتنا " يعني القرآن " وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون " يعني لم نهلكها إلا بظلم أهلها
ثم قال عز وجل " وما أوتيتم من شيء " يعني ما أعطيتم من مال ويقال ما أعطيتم من الدنيا فهو " فمتاع الحياة الدنيا " يعني فهو متاع الحياة الدنيا يعني ينتفعون بها أيام حياتهم " وزينتها " يعني وزهراتها ولا تبقى دائما " وما عند الله " من الثواب والجنة " خير وأبقى " يعني أفضل وأدوم لأهله مما أعطيتم في الدنيا " أفلا تعقلون " أن الباقي خير من الفاني قرأ عمرو " يعقلون " بالياء على معنى الخبر عنهم وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة
سورة القصص 61 - 66
قوله عز وجل " أفمن وعدناه وعدا حسنا " يعني الجنة " فهو لاقيه " يعني مدركه ومصيبه " كمن متعناه متاع الحياة الدنيا " بالمال " ثم هو يوم القيامة من المحضرين " في النار هل يستوي حالهما قال في رواية الكلبي نزل في عمار بن ياسر وأبي جهل بن هشام وقال غيره هذا في جميع المؤمنين وجميع الكافرين ويقال نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل يعني من كان له في هذه الدنيا شدة مع دين الله خير ممن كان له سعة وفرج مع الشرك " ثم هو يوم القيامة من المحضرين " يعني من المعذبين في النار
وقال عز وجل " ويوم يناديهم " يعني واذكر يوم يدعوهم يعني المشركين " فيقول أين شركائي الذين " يعني المشركين " كنتم تزعمون " في الدنيا أنهم شركائي " قال الذين حق عليهم القول " وجبت عليهم الحجة فوجب عليهم العذاب ويقال وجب عليهم القول وهو قوله " لأملأن جهنم " [ الأعراف : 18 ] " ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم " يعني القادة يقولون ربنا هؤلاء الذين أضللنا يعني السفلة أغويناهم " كما غوينا " أي أضللناهم كما كنا ضالين ويقال يقول الكافرون " ربنا هؤلاء الذين أغوينا " يعني الشياطين فقالت الشياطين أغويناهم يعني أضللناهم كما غوينا أي أضللنا " تبرأنا إليك " من عبادتهم " ما كانوا إيانا(2/615)
616
يعبدون ) يعني ما كانوا يأمرونا بعبادة الآلهة " وقيل " للكفار " أدعوا شركائكم " يعني آلهتكم التي تعبدون من دون الله " فدعوهم فلم يستجيبوا لهم "
يقول الله عز وجل " ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون " يعني يودون لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا ويقال يودون أن لم يكونوا إتبعوهم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم أي لم يجيبوهم بحجة تنفعهم فيودون أنهم لم يعبدوهم لما رأوا العذاب
ثم قال عز وجل " ويوم يناديهم " يعني يسألهم يوم القيامة " فيقول ماذا أجبتم المرسلين " في التوحيد " فعميت عليهم الأنباء " يعني ألبست عليهم الحجج " يومئذ " من الهول " فهم لا يتساءلون " يعني لا يسأل بعضهم بعضا عما يحتجون به رجاء أن يكون عنده من الحجة ما لم يكن عند غيره لأن الله تعالى أدحض حجتهم وفي الدنيا إذا إشتبهت عليه الحجة ربما يسأل عن غيره فيلقنه الحجة وفي الآخرة آيس من ذلك
سورة القصص 67 - 75
ثم قال عز وجل " فأما من تاب وآمن " يعني من الشرك " وعمل صالحا " فيما بينه وبين الله تعالى " فعسى أن يكون من المفلحين " أي من الناجين الفائزين بالخير
قوله عز وجل " وربك يخلق ما يشاء ويختار " وذلك أن الوليد بن المغيرة كان يقول " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " [ الزخرف : 31 ] يعني به نفسه وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف فقال تعالى " وربك يخلق ما يشاء ويختار " للرسالة من يشاء " ما كان لهم الخيرة " يعني ليس الخيار إليهم ويقال هو ربك يخلق ما يشاء ويختار لهم ما يشاء " ما كان لهم الخيرة " أي ما كان لهم طلب الخيار والأفضل ويقال ما كان لبعضهم على بعض فضل والله تعالى هو الذي يختار وقال الزجاج الوقف على قوله " ويختار " والمعنى(2/616)
617
وربك يخلق ما يشاء ويختار ثم قال " ما كان لهم الخيرة " أي لم يكن لهم أبدا أن يختاروا على الله ويكون ما للنفي قال ووجه آخر أن تكون بمعنى الذي يعني وربك يخلق ما يشاء ويختار الذي لهم الخيرة أن يدعوهم إليه من عبادته ما لهم فيه الخيرة ويقال ما كان لهم الخيرة يعني ليس لهم أن يختاروا على الله عز وجل وليس إليهم الإختيار والمعنى لا نرسل الرسل إليهم على إختيارهم
ثم قال " سبحان الله " أي تنزيها لله " وتعالى عما يشركون " يعني ما تضمر وتسر قلوبهم " وما يعلنون " من القول " وهو الله لا إله إلا هو " يعني لا خالق ولا رازق غيره " له الحمد في الأولى والآخرة " أي في الدنيا والآخرة وقال مقاتل يعني يحمده أولياؤه في الدنيا ويحمدونه في الجنة ويقال له الألوهية في الدنيا والآخرة وله الحكم يعني نفاذ الحكم والقضاء يحكم في الدنيا والآخرة بما يشاء " وإليه ترجعون " في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم
قوله عز وجل " قل أرأيتم إن جعل الله " يعني ألا تنظرون إلى نعمة الله تعالى في خلق الليل والنهار لمصلحة الخلق فلو جعل " عليكم الليل سرمدا " أي دائما " إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون " المواعظ وتعتبرون بها
قوله عز وجل " قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة " يعني دائما " من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه " يعني تقرون وتستريحون فيه " أفلا تبصرون " من يفعل ذلك بكم لأن العيش لا يصلح إلا بالليل والنهار فأخبر عن صنعه لمصلحة الخلق ليشكروه ويوحدوه ويعبدوه فقال " ومن رحمته " أي ومن نعمته وفضله " جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه " يعني في الليل وجعل لكم النهار " ولتبتغوا من فضله " يعني لتطلبوا من رزقه في النهار " ولعلكم تشكرون " أي تشكرون رب هذه النعمة
ثم قال عز وجل " ويوم يناديهم " يعني أنذرهم بذلك اليوم ويقال معناه أذكر ذلك اليوم الذي يناديهم يعني يدعوهم " فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون " أنها لي شريك " ونزعنا من كل أمة شهيدا " يعني أخرجنا من كل أمة نبيها ورسولها " شهيدا " بالرسالة والبلاغ " فقلنا " للمشركين " هاتوا برهانكم " يعني حجتكم بأن معي شريكا فلم يكن لهم حجة " فعلموا أن الحق لله " يعني أن عبادة الله هي الحق ويقال علموا أن التوحيد لله ويقال إن الحق ما دعا إليه الله وأتاهم به الرسول " وضل عنهم ما كانوا يفترون " يعني إشتغل عنهم بأنفسهم " ما كانوا يفتدون " يعني يكذبون في الدنيا يعني الأصنام ويقال الشياطين ويقال " وضل عنهم ما كانوا يفترون " يعني لم ينتفعوا بما عبدوه من دون الله
سورة القصص 76 - 78(2/617)
618
قوله عز وجل " إن قارون كان من قوم موسى " يعني من بني إسرائيل ويقال كان إبن عم موسى " فبغى عليهم " يعني تطاول وتكبر على بني إسرائيل وكان فرعون قد ملكه على بني إسرائيل حين كانوا بمصر فلما قطع موسى البحر ببني إسرائيل ومعه قارون وأغرق الله تعالى فرعون وجنوده ورجع موسى عليه السلام ببني إسرائيل إلى أرض مصر وسكنوا ديارهم كما قال في رواية أخرى " وأورثناها بني إسرائيل " [ الشعراء : 59 ] وجعلت الحبورة لهارون وهو الرأس الذي يقرب القربان فقال قارون لموسى لك النبوة ولهارون الحبورة والمذبح وأنا لست في ذلك من شيء فقال له موسى أنا لم أفعل ذلك ولكن الله تعالى فعل ذلك فقال له قارون لا أصدقك على هذا واعتزل قارون ومن تبعه من بني إسرائيل وكان كثير المال والتبع
وروي عن الحسن أنه قال إن أول من شرف الشرف قارون لما بنى داره وفرغ منها وشرفها وصنع للناس طعاما سبعة أيام يجمعهم كل يوم ويطعمهم
وروي عن إبن عباس أنه قال لما أمر الله تعالى موسى بالزكاة قال لقارون إن الله تعالى أمرني أن آخذ من مالك الزكاة فأعط من كل مائتي درهم خمسة دراهم فلم يرض بذلك ثم قال له أعط من كل مائتي درهم درهما فلم يرض بذلك فقال له أعط من كل ألف درهم درهما فلم يرض بذلك وقال لبني إسرائيل إن موسى لم يرض حتى تناول أموالكم فما ترون قالوا رأينا لرأيك تبع قال فإني أرى أن ترموه فتهلكوه فبعثوا إلى إمرأة زانية فأعطوه حكما على أن ترميه بنفسها ثم أتوه في جماعة من بني إسرائيل فقالوا يا موسى ما على من يسرق من الحرز قال تقطع يده قالوا وإن كنت أنت قال وإن كنت أنا قالوا وما على الزاني إذا زنى قال يرجم قالوا وإن كنت أنت قال وأنت كنت أنا قالوا فأنت قد زنيت قال أنا وجزع من ذلك فأرسلوا إلى المرأة فلما جاءت وعظها وعظم عليها موسى الحلف بالله وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى إلا صدقت قالت أما إذا حلفتني فإني أشهد أنك بريء وإنك رسول الله وقالت أرسلوا إلي فأعطوني حكمي على أن أرميك بنفسي قال فخر موسى عليه السلام لله ساجدا يبكي فأوحى الله تعالى(2/618)
619
إليه ما يبكيك قد أمرت الأرض أن تطيعك فأمرها بما شئت فقال موسى خذيهم فأخذتهم
وفي رواية الحسن خرج موسى عليه السلام مغضبا فدعا الله عز وجل وقال عبدك قارون الذي عبد غيرك وجحدك فأوحى الله تعالى إلى موسى إني قد أمرت الأرض بأن تطيعك فجاء موسى حتى دخل إلى قارون حين إجتمع الناس في داره فقال يا عدو الله كذبتني في كلام له غيظ حتى غضب قارون وأقبل عليه بكلام شديد وهم به فلما رأى موسى ذلك قال يا أرض خذيهم قال وكان قارون على فرش على سرير مرتفع في السماء فأخذت الأرض أقدامهم وغاب سريره ومجلسه وقد دخل من الدار في الأرض مثل ما أخذت منهم على قدرها فأقبل موسى يوبخهم ويغلظ لهم المقالة فلما رأى القوم ما نزل بهم عرفوا أن هذا الأمر ليس لهم به قوة فنادوا يا موسى إرحمنا وكف عنا وجعلوا يتضرعون إليه ويطلبون رضاه وهو لا يزداد إلا غضبا وتوبيخا لهم ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم فجعلوا يتضرعون إليه ويسألونه وهو يوبخهم ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى أوساطهم وكانت الأرض تأخذ من الدار كل مرة مثل ما تأخذ منهم وهم يتضرعون في ذلك إلى موسى ويسألونه ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى آباطهم فمدوا أيديهم إلى وجه الأرض رجاء أن يمتنعوا بها ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم فلم يبق على وجه الأرض منهم شيء إلا رؤوسهم ولم يبق من الدار إلا شرفها وقال قارون يا موسى أنشدك بالله وبالرحم فقال يا أرض خذيهم فاستوت الأرض عليهم وعلى الدار فانطلق موسى وهو فرح بذلك فأوحى الله تعالى إليه يا موسى يتضرع إليك عبادي ودعوك وسألوك فلم ترحمهم أما وعزتي وجلالي لو أنهم دعوني واستغاثوا بي لرحمتهم ولكن تركوا أن يجعلوا رغبتهم ورجاءهم إلي وجعلوها إليك فتركتهم فذلك قوله تعالى " أن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم " يعني تطاول على بني إسرائيل وعلى موسى " وآتيناه من الكنوز " يعني من المال " ما إن مفاتحه " يعني خزائنه " لتنوء بالعصبة " قال مقاتل العصبة من العشرة إلى الأربعين فإذا كانوا أربعين فهم أولو قوة يقول لتعجز العصبة أولو القوة عن حمل مفاتيح الخزائن
وقال أهل اللغة ناء به الحمل إذا أثقله وقال القتبي تنوء بالعصبة أي تميل بها العصبة إذا حملتها من ثقلها وقال إبن عباس في رواية أبي صالح العصبة في هذا الموضع أربعون رجلا وخزائنه كانت أربعمائة ألف يحمل كل رجل عشرة آلاف ويقال " مفاتحه " يعني مفاتيح خزائنه يحملها أربعون رجلا ويقال أربعون بغلا
وروى وكيع عن الأعمش عن خيثمة قال كان مفاتيح كنوز قارون من جلد كل مفتاح مثل الإصبع كل مفتاح على خزانة على حدة فإذا ركب حمل المفاتيح على ستين بغلا كل(2/619)
620
بغل أغر محجل " إذ قال له قومه " يعني بني إسرائيل " لا تفرح " يعني لا تفخر بما أوتيت من الأموال ويقال لا تفرح بكثرة المال " إن الله لا يحب الفرحين " يعني المرحين المفاخرين ويقال البطرين ويقال " لا تفرح " أي لا تأشر والأشر أشد الفرح الذي يخالطه حرص شديد حتى يبطر يعني يطغى وقالوا له " وابتغ فيما آتاك الله " يعني أطلب مما أعطاك الله تعالى من الأموال والخير " الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا " يعني لا تترك حظك من الدنيا أن تعمل لآخرتك " وأحسن " العطية من الصدقة والخير " كما أحسن الله إليك " يعني أعط الناس كما أعطاك الله ويقال أحسن إلى الناس كما أحسن الله إليك " ولا تبغ الفساد في الأرض " يعني أنفقه في طاعة الله تعالى ولا تنفقه في معصية الله تعالى " إن الله لا يحب المفسدين " المنفقين في المعصية وقوله " وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا " أي لا تضيع عمرك فإنه نصيبك من الدنيا " قال " قارون " إنما أوتيته على علم عندي " قال مقاتل يعني على خير علمه الله عندي وقال في رواية الكلبي يعني علم التوراة وكان قارون أقرأ رجل في بني إسرائيل بالتوراة فأعطيت ذلك لفضل علمي وكنت بذلك العلم مستحقا لفضل المال ويقال " على علم عندي " يعني علم الكيميا وكان يعمل كيميا الذهب وقال الزجاج الطريق الأول أشبه لأن الكيميا لا حقيقة لها
يقول الله تعالى " أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا " من الأموال منهم نمرود وغيره " ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون " يعني لا يسأل الكافرون عن ذنوبهم لأن كل كافر يعرف بسيماه وهذا قول الكلبي وقال مقاتل لا يسأل مجرمو هذه الأمة عن ذنوب الأمم الخالية وقيل لا يسأل الكافرون يوم القيامة عن ذنوبهم سؤال النجاة بل يسألون سؤال العذاب والمناقشة
سورة القصص 79 - 82
قوله عز وجل " فخرج على قومه " يعني خرج قارون على بني إسرائيل " في زينته "(2/620)
621
قال مقاتل وهو على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب عليه أرجوان ومعه أربعة آلاف فارس وعليهم وعلى دوابهم الأرجوان ومعه ثلاثمائة جارية بيض عليهن من الحلل والثياب الحمر على البغال الشهب وقال قتادة خرج معه أربعة آلاف دابة عليها ثياب حمر منها ألف بغلة بيضاء عليها قطائف أرجوان وقال في رواية الكلبي خرج على ثلاثمائة دابة بيضاء عليها أنواع من الكساء وعليها ثلثمائة قطيفة حمراء عليها جواري وغلمان " قال الذين يريدون الحياة الدنيا " وكانوا من أهل التوحيد " يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون " يعني مثل ما أعطي من الأموال قارون " إنه لذو حظ عظيم " يقول ذو نصيب وافر في الدنيا
قوله عز وجل " وقال الذين أوتوا العلم " يعني أكرموا بالعلم بما وعد الله تعالى في الآخرة للذين تمنوا ذلك " ويلكم ثواب الله " يعني ويحكم ثواب الآخرة " خير " يعني أفضل " لمن آمن " يعني صدق بتوحيد الله تعالى " وعمل صالحا " فيما بينه وبين الله تعالى مما أعطي قارون في الدنيا " ولا يلقاها " يعني ولا يوفق ولا يرزق في الجنة " إلا الصابرون " في الدنيا على أمر الله تعالى ويقال " ولا يلقاها " يعني لا يعطى الأعمال الصالحة إلا الصابرون على الطاعات وعن زينة الدنيا ويقال " ولا يلقاها " يعني ولا يلقن ولا يوفق لهذه الكلمة إلا الصابرون عن زينة الدنيا
يقول الله تعالى " فخسفنا به " يعني قارون " وبداره الأرض " يعني بقارون وبداره وأمواله فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل إلى يوم القيامة " فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله " يعني لم يكن له جند وأعوان يمنعونه من عذاب الله عز وجل " وما كان من المنتصرين " يعني وما كان قارون من الممتنعين مما نزل به من عذاب الله
قوله عز وجل " وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس " حين رأوه في زينته وقالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون " يقولون ويكأن الله " قال القتبي قد أختلف في هذه اللفظة فقال الكسائي معناها ألم تر " أن الله يبسط " " ويكأنه " يعني ألم تر أنه لا يفلح الكافرون
روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أنه قال " ويكأن الله " يعني أو لا يعلم أن الله " يبسط " وهذا شاهد لقول الكسائي وذكر الخليل بن أحمد أنها مفصولة وي ثم يبتدئ فيقول كأن الله وقال إبن عباس في رواية أبي صالح كان الله يبسط " الرزق لمن يشاء " كأنه لا يفلح الكافرون وقال وي صلة في الكلام وهذا شاهد لقول الخليل وقال الزجاج الذي قاله الخليل أجود وهو أن قوله وي مفصولة من كان لأن من ندم على شيء يقول وي كما تعاتب الرجل على ما سلف تقول وي كأنك قصدت مكروهي وقال مقاتل معناه ولكن " الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده " يعني يوسعه على من يشاء من
عباده " ويقدر " يعني يقتر ويقال ويضيق على من يشاء " لولا أن الله من علينا " يعني لولا أن من الله علينا لكنا مثل قارون في العذاب " الخسف بنا " معهم ويقال " لولا أن من الله علينا " يعني عصمنا مثل ما(2/621)
622
كان عليه من البطر والبغي " لخسف بنا " كما خسف به قال قرأ عاصم في رواية حفص بنصب الخاء وكسر السين يعني " لخسف الله بنا " وقرأ الباقون بضم الخاء وكسر السين على فعل ما لم يسم فاعله " ويكأنه " يعني ولكنه " لا يفلح الكافرون " الجاحدون للنعم
سورة القصص 83 - 85
قوله عز وجل " تلك الدار الآخرة " يعني الجنة " نجعلها للذين " يعني نعطيها للذين " لا يريدون علوا في الأرض " يعني تعظيما وتكبرا وتجبرا فيها عن الإيمان " ولا فسادا " في الأرض يعني لا يريدون المعاصي في الدنيا
وروى وكيع عن سفيان عن مسلم البطين " لا يريدون علوا في الأرض " يعني التكبر بغير حق " ولا فسادا " قال أخذ المال بغير حق ويقال العلو الخطرات في القلب والفساد فعل الأعضاء " والعاقبة للمتقين " يعني الجنة للذين يتقون الشرك والمعاصي ويقال عاقبة الأمر وما يستقر عليه للمتقين الموحدين ويقال والعاقبة المحمودة للمتقين
قوله عز وجل " من جاء بالحسنة " يعني بكلمة الإخلاص وهي قول لا إله إلا الله " فله خير منها " وقد ذكرناه " ومن جاء بالسيئة فلا يجزى " يعني لا يثاب " الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون " يعني يصيبهم بأعمالهم
قوله عز وجل " إن الذي فرض عليك القرآن " يعني أنزل عليك القرآن ويقال أمرك بالعمل بما في القرآن " لرادك إلى معاد " وروى سعيد بن جبير عن إبن عباس قال الموت وقال السدي " إلى معاد " يعني الجنة وهكذا روي عن مجاهد
وروي عن عكرمة عن إبن عباس قال يعني إلى مكة وقال القتبي معاد الرجل بلده لأنه يتصرف في البلاد وينصرف في الأرض ثم يعود إلى بلده والعرب تقول رد فلان إلى معاده يعني إلى بلده وكان النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة إلى المدينة أغتم لمفارقته مكة لأنها مولده وموطنه ومنشأه وبها عشيرته واستوحش فأخبر الله تعالى في طريقه أنه سيرده إلى مكة وبشره بالظهور والغلبة
ثم قال تعالى " قل ربي أعلم من جاء بالهدى " يعني بالرسالة والقرآن وذلك حين قالوا له إنك في ضلال مبين فنزل " قل ربي أعلم من جاء بالهدى " يعني فأنا الذي جئت بالهدى وهو أعلم بمن هو في ضلال مبين نحن أو أنتم(2/622)
623
سورة القصص 86 - 88
ثم قال عز وجل " وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب " يعني أن ينزل عليك القرآن " إلا رحمة من ربك " يعني إلا كان الكتاب رحمة من ربك ويقال في الآية تقديم ومعناه أن الذي فرض عليك القرآن يعني جعلك نبيا ينزل عليك القرآن وما كنت ترجو قبل ذلك أن تكون نبيا بوحي إليك لرادك إلى معاد إلى مكة ظاهرا قاهرا ويقال " إلا رحمة من ربك " يعني لكن دين ربك رحمة واختارك لنبوته وأنزل عليك الوحي
ثم قال " فلا تكونن ظهيرا للكافرين " يعني عونا للكافرين حين دعوه إلى دين آبائه
ثم قال عز وجل " ولا يصدنك عن آيات الله " يعني لا يصرفنك عن القرآن والتوحيد " بعد إذ أنزلت إليك " يعني بعد ما أنزل إليك جبريل عليه السلام بالقرآن " وادع إلى ربك " يعني أدع الخلق إلى توحيد ربك " ولا تكونن من المشركين " يعني لا تكونن مع المشركين على دينهم قوله عز وجل " ولا تدع مع الله إلها آخر " أي لا تعبد غير الله
ثم وحد الرب نفسه فقال " لا إله إلا هو " يعني لا خالق ولا رازق غيره " كل شيء هالك إلا وجهه " يعني كل عمل هالك لا ثواب له إلا ما يراد به وجه الله عز وجل ويقال كل شيء متغير إلا ملكه فإن ملكه لا يتغير ولا يزول إلى غيره أبدا " له الحكم " يعني له القضاء وله نفاذ الحكم يحكم ما يريد " وإليه ترجعون " يعني إليه المرجع في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من قرأ سورة القصص كان له من الأجر بعدد من صدق موسى وكذبه ولم يبق ملك في السموات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنه كان صادقا في قوله " كل شيء هالك إلا وجهه " " له الحكم وإليه ترجعون " صدق الله جل ربنا وهو أصدق الصادقين وصدق رسله قوله صدق ووعده حق والحمد لله وحده وصلى الله على من لا نبي بعده وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله(2/623)
624
سورة العنكبوت
مكية وهي ستون وتسع آيات مكية
سورة العنكبوت 1 - 3
قوله سبحانه وتعالى " آلم أحسب الناس " يعني أظن الناس " أن يتركوا " يعني أن يمهلوا " أن يقولوا آمنا " أي صدقنا " وهم لا يفتنون " يعني لا يبتلون قال في رواية الكلبي لما نزلت هذه الآية " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من " [ الأنعام : 65 ] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا جبريل ما بقاء أمتي على هذا فقال له جبريل عليه السلام فادع الله لأمتك فقام فتوضأ ثم صلى ركعتين ثم سأل ربه عز وجل أن لا يبعث عليهم العذاب قال فنزل جبريل عليه السلام فقال يا محمد إن الله عز وجل قد أجار أمتك من خصلتين وألزمهم خصلتين فعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثم صلى فأحسن الصلاة ثم سأل ربه عز وجل لأمته أن لا يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض فنزل جبريل عليه السلام فقال يا محمد قد سمع الله عز وجل مقالتك فإنه يقول ولقد أرسلنا رسلا من قبلك فصدقهم مصدقون وكذبهم مكذبون ثم لم يمنعنا أن نبتليهم بعد قبض أنبيائهم ببلاء يعرف فيه الصادق من الكاذب ثم نزل قوله عز وجل " آلم أحسب الناس أن يتركوا " أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون " الآية
قال مقاتل نزلت في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول قتيل قتل من المسلمين يوم بدر وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة فجزع أبواه وإمرأته وقد كان الله بين للمسلمين أنه لا بد لهم من البلاء والمشقة في ذات الله عز وجل فنزل " آلم أحسب الناس أن يتركوا "
وقال بعضهم لما أصيب المسلمون يوم أحد وكانت الكرة عليهم فعيرهم اليهود والنصارى والمشركون فشق ذلك على المسلمين فنزلت هذه الآية ويقال نزلت في عياش بن أبي ربيعة وفي نفر معه أخذهم المشركون وعذبوهم على الإسلام فنزلت هذه الآية ويقال نزلت في جميع المسلمين ومعناه " أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا " ثم لا يفرض عليهم الفرائض وقال الزجاج هذا اللفظ لفظ الإستخبار والمعنى به تقرير وتوبيخ(2/624)
625
يعني أحسب الناس أن يقنع منهم بأن يقولوا آمنا فقط ولا يختبروا ويقال أن لا يعذبوا في الدنيا
ثم قال عز وجل " ولقد فتنا الذين من قبلهم " يعني إختبرنا الذين كانوا من قبل هذه الأمة وابتليناهم ببلايا " فليعلمن الله الذين صدقوا " يعني إنما يبتليهم ليبين الذين صدقوا من المؤمنين في إيمانهم " وليعلمن الكاذبين " منهم فشكوا عند البلاء ويقال معناه ليبين صدق الصادق وكذب الكاذب بوقوع صدقه ووقوع كذبه وقال القتبي يعني ليميزن الله الذين صدقوا ويميز الكاذبين
سورة العنكبوت 4 - 8
ثم قال " أم حسب الذين يعملون السيئات " يعني الشرك والمعاصي " أن يسبقونا " يعني أن يفوتونا ويقال يعجزونا ويقال يهربوا منا فلا نجازيهم " ساء ما يحكمون " يعني بئس ما يقضون لأنفسهم قال الكلبي نزلت في عتبة وشيبة والوليد بن عتبة بارزوا يوم بدر فبارزهم من المسلمين علي وحمزة وعبيدة بن الحارث فنزل في شأن مبارزي المسلمين " من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت " يعني الآخرة لكائن " وهو السميع العليم " " السميع " لمقالتهم " العليم " بهم وبأعمالهم
وقوله عز وجل " ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه " يعني علي بن أبي طالب وصاحبيه رضي الله عنهم " إن الله لغني عن العالمين " يعني عن نصرة العالمين يوم بدر ويقال نزلت في جميع المسلمين " من كان يرجو لقاء الله " أي يخاف الآخرة ويقال يخاف الموت فيستعد للآخرة والموت بالعمل الصالح " فإن أجل الله لآت " يعني كائن " وهو السميع " لدعائهم " العليم " بأمر الخلق
" ومن جاهد " يعني عمل الخيرات فإنما يجاهد لنفسه يعني ثوابه لنفسه " إن الله لغني عن العالمين " يعني عن أعمالهم فإنما ثوابهم لأنفسهم
ثم قال عز وجل " والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم " أي لنمحون عنهم " سيئاتهم " يعني ذنوبهم " ولنجزينهم " يعني لنثيبنهم أحسن الذي كانوا يعملون يعني أفضل من أعمالهم ويقال " لنجزينهم " بأحسن أعمالهم الذي كانوا يعملون في الدنيا(2/625)
626
قوله عز وجل " ووصينا الإنسان بوالديه حسنا " يعني ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن يعني برا بهما
وقال الكلبي نزلت الآية في سعد بن أبي وقاص لما أسلم قالت له أمه يا سعد بلغني أنك صبوت إلى دين محمد فوالله لا يظلني سقف بيت وأن الطعام والشراب علي حرام حتى تكفر بمحمد وترجع إلى دينك الذي كنت عليه فأبى عليها ذلك فثبتت على حالها لا تطعم ولا تشرب ولا تسكن بيتا فلما خلص إليها الجوع لم تجد بدا من أن تأكل وتشرب فحث عز وجل الله سعدا بالبر إلى أمه ونهاه أن يطيعها على الشرك فقال " وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم " أي ما ليس لك به حجة يعني الشرك " فلا تطعهما " في الشرك ثم حذره ليثبت على الإسلام فقال " إلي مرجعكم " يعني مصيركم في الآخرة " فأنبئكم بما كنتم تعملون " يعني أخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير أو شر وأثيبكم على ذلك
سورة العنكبوت 9 - 11
ثم قال عز وجل " والذين آمنوا " يعني أقروا وصدقوا بوحدانية الله تعالى وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم " وعملوا الصالحات " وعملوا الطاعات فيما بينهم وبين ربهم " لندخلنهم في الصالحين " أي مع الأنبياء والرسل عليهم السلام في الجنة ويقال " لندخلنهم " في جملة الصالحين ونحشرهم مع الصالحين
قوله عز وجل " ومن الناس من يقول آمنا بالله " نزلت في عياش بن أبي ربيعة هاجر إلى المدينة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليها فجزعت أمه جزعا شديدا فقالت لأخويه أبي جهل بن هشام والحارث بن هشام وهما أخواه لأمه وأبناء عمه فخرجوا في طلبه فظفروا به وقالوا له إن بر الوالدة واجب عليك فعليك أن ترجع فتبرها فإنها حلفت أن لا تأكل ولا تشرب وأنت أحب الأولاد إليها فلم يزالوا به حتى تابعهم فجاؤوا به إلى أمه فعمدت أمه فقيدته وقالت والله لا أحلك من وثاقك حتى تكفر بمحمد وضربوه حتى رجع إلى دينهم فنزل " ومن الناس من يقول آمنا بالله " " فإذا أوذي في الله " يعني عذب في دين الله عز وجل " جعل فتنة الناس " يعني عذاب إخوته في الدنيا " كعذاب الله " في الآخرة ويقال نزلت في قوم من المسلمين أخذوهم إلى مكة وعذبوهم حتى إرتدوا فنزل " من الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله " يعني جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله فينبغي(2/626)
627
للمسلم أن يصبر على أذاه في الله وصارت الآية تنبيها لجميع المسلمين ليصبروا على ما أصابهم في الله عز وجل
ثم قال " ولئن جاء نصر من ربك " يعني لو يجيء نصر من الله عز وجل بظهور الإسلام والغلبة على العدو بمكة وغيرها " ليقولن إنا كنا معكم " أي على دينكم " أوليس الله بأعلم " يعني أوليس الله عليم " بما في صدور العالمين " من التصديق والتكذيب " أعلم " بمعنى عليم يعني هو عليم بما في قلوب الخلق ويقال معناه هو أعلم بما في صدورهم منهم أي بما في صدور أنفسهم
قوله عز وجل " وليعلمن الله الذين آمنوا " يعني ليميزن الله الذين ثبتوا على الإسلام " وليعلمن المنافقين " يعني ليميزن المنافقين الذين لم يكن إيمانهم حقيقة
سورة العنكبوت 12 - 15
قوله عز وجل " وقال الذين كفروا " أي جحدوا وأنكروا " للذين آمنوا " وذلك أن أبا سفيان بن حرب وأمية بن خلف وعتبة بن شيبة قالوا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وخباب بن الأرت وأناس آخرين من المسلمين " إتبعوا سبيلنا " يعني ديننا الذي نحن عليه وأكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ودينه " ولنحمل خطاياكم " يعني نحن الكفلاء لكم بكل تبعة من الله عز وجل تصيبكم وأهل مكة شهداء علينا يقول الله عز وجل " وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء " يعني لا يقدرون أن يحملوا خطاياهم يعني وبال خطاياهم عنهم ولا يدفعون عنهم لأنهم لو إستطاعوا أن يدفعوا لدفعوا عن أنفسهم " وإنهم لكاذبون " في مقالتهم
ثم قال عز وجل " وليحملن أثقالهم " يعني أوزار أنفسهم يكون في عنقهم " وأثقالا مع أثقالهم " يعني يحملون أوزار الذين يضلونهم من غير أن ينقص من أوزار العاملين من شيء وهذا كقوله عز وجل " ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم " [ النحل : 25 ] وهذا كما روي في الخبر من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ثم قال " وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون " يعني عما يقولون من الكذب
قوله " ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما " يدعوهم إلى الإسلام ويحذرهم وينذرهم فأبوا أن يجيبوه فكذبوه " فأخذهم الطوفان " يعني الغرق " وهم(2/627)
628
ظالمون ) وقال القتبي الطوفان المطر الشديد وكذلك الموت إذا كثر وقال مقاتل الطوفان يعني ما طغى فوق كل شيء وقال بعض أهل اللغة هذا الإشتقاق غير صحيح لأنه لو كان هذا لقال طغوان لأنه يقال طغى يطغو وقال بعضهم هذا على وجه القلب كما يقال جذب وجبذ ويقال أصله من الطوف يعني سال وطاف في الأرض وقال الزجاج الطوفان من كل شيء ما كان كثيرا كالقتل الذريع الكثير يسمى طوفانا
ثم قال عز وجل " فأنجيناه " يعني نوحا عليه السلام " وأصحاب السفينة " من الغرق " وجعلناها آية للعالمين " يعني جعلنا السفينة عبرة لمن بعدهم وقد بقيت السفينة على الجودي إلى وقت قريب من وقت خروج النبي صلى الله عليه وسلم فكان ذلك علامة وعبرة لمن رآها ولمن لم يرها لأن الخبر قد بلغه ويقال رسم السفينة التي بقيت بين الخلق وقت نوح وتجري في البحر علامة للعالمين
سورة العنكبوت 16 - 18
قوله عز وجل " وإبراهيم " يعني وأرسلنا إبراهيم عطفا على قوله " ولقد أرسلنا نوحا " ويقال معناه واذكر إبراهيم " إذ قال لقومه أعبدوا الله واتقوه " يعني وحدوا الله عز وجل " واتقوه " يعني إخشوه ولا تعصوه " ذلكم خير لكم " يعني التوحيد وعبادة الله عز وجل خير من عبادة الأوثان " إن كنتم تعلمون "
قوله عز وجل " إنما تعبدون من دون الله أوثانا " يعني أصناما " وتخلقون إفكا " يعني تعملونها بأيديكم ثم تقولون إنها آلهة ويقال تتخذونها آلهة كذبا ثم قال " إن الذين تعبدون من دون الله " وهي الأصنام " لا يملكون لكم رزقا " يعني لا يقدرون أن يعطوكم مالا ولا يقدرون أن يرزقوكم
ثم قال " فابتغوا عند الله الرزق " يعني الله عز وجل هو الذي يملك رزقكم فاطلبوا الرزق من الله عز وجل " واعبدوه واشكروا له " أي وحدوه واشكروا له في النعم فإن مصيركم إليه و " إليه ترجعون " بعد الممات
قال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم قل لأهل مكة " وإن تكذبوا " بما أخبرتكم من قصة نوح وإبراهيم عليهما السلام " فقد كذب أمم من قبلكم " يعني كذبوا رسلهم " وما على الرسول إلا البلاغ المبين " يعني إلا أن يبلغ الرسالة ويبين أمر العذاب ويقال إلا أن يبلغ الرسالة ويبين مراد الرسالة(2/628)
629
سورة العنكبوت 19 - 22
ثم قال الله عز وجل " أو لم يروا " قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " أو لم تروا " بالتاء على معنى المخاطبة يعني قل لهم يا محمد " أو لم تروا " وقرأ الباقون بالياء ومعناه يا محمد أو لم يروا هؤلاء الكفار " كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده " يعني يخلقهم في الإبتداء ولم يكونوا شيئا ثم يعيدهم كما خلقهم " إن ذلك على الله يسير " يعني إن الذي بدأ الخلق يقدر أن يعيده وهو عليه هين
قوله عز وجل " قل سيروا في الأرض " يعني سافروا في الأرض يعني لتعتبروا في أمر البعث ويقال " سيروا في الأرض " يعني إقرؤوا القرآن " فانظروا " يعني فاعتبروا " كيف بدأ الخلق " يعني كيف خلق الخلق " ثم الله ينشئ النشأة الآخرة " يعني يحييهم بعد الموت للبعث " إن الله على كل شيء قدير " من أمر البعث وغيره
ثم قال عز وجل " يعذب من يشاء " يعني يخذل من يشاء ولا يهدي من لم يكن أهلا لذلك " ويرحم من يشاء " فيهديه إن كان أهلا كذلك " وإليه تقلبون " يعني ترجعون إليه في الآخرة
قوله عز وجل " وما أنتم بمعجزين في الأرض " يعني لا تهربون منه ولا تفوتونه " ولا في السماء " يعني إن كنتم في الأرض ولا في السماء لا يقدرون أن يهربوا منه " وما لكم من دون الله " يعني من عذاب الله " من ولي " يعني من قريب ينفعكم " ولا نصير " يعني ولا مانع يمنعكم من عذاب الله عز وجل
سورة العنكبوت 23 - 25
ثم قال عز وجل " والذين كفروا بآيات الله " يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " ولقائه " يعني كفروا بالبعث بعد الموت " أولئك يئسوا من رحمتي " يعني من جنتي " وأولئك لهم عذاب أليم " في الآخرة(2/629)
630
ثم رجع إلى قصة إبراهيم حيث قال لقومه " أعبدوا الله واتقوه " " فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار " وفي الآية مضمر ومعناه فقذفوه في النار فأنجاه الله من النار فلم تحرقه وجعلها بردا وسلاما " إن في ذلك " أي فيما أنجاه الله من النار بعدما قذفوه فيها " لآيات " يعني لعبرات " لقوم يؤمنون " يعني يصدقون بتوحيد الله تعالى
فقال لهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام " وقال إنما إتخذتم من دون الله " يعني إنما عبدتم من دون الله " أوثانا " يعني أصناما " مودة بينكم " على عبادة أصنامكم قرأ نافع وإبن كثير وعاصم في رواية أبي بكر " مودة " بنصب الهاء مع التنوين " بينكم " بنصب النون يعني إتخذتم أوثانا آلهة مودة بينكم على عبادتها صار نصبا لوقوع الفعل عليها وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص " مودة بينكم " بنصب الهاء بغير تنوين " بينكم " بكسر النون على معنى الإضافة وقرأ الباقون " مودة " بالضم " بينكم " بالكسر
وروي عن الفراء أنه قال إنما صار المودة رفعا بالصفة بقوله عز وجل " في الحياة الدنيا " وينقطع الكلام عند قوله " إنما إتخذتم من دون الله أوثانا "
ثم بين ضرر مودتهم في الحياة الدنيا فقال تعالى " ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض " يعني ليس مودتكم تلك الأصنام بشيء لأن المودة بينكم في الحياة الدنيا تنقطع " ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض " يعني الأصنام من العابد والشياطين ممن عبدها ويقال يعني الأتباع والقادة تتبرأ القادة من الأتباع " ويلعن بعضكم بعضا " يعني الأتباع يلعن القادة والعابد يلعن المعبود " ومأواكم النار " يعني مصيركم إلى النار " وما لكم من ناصرين " يعني مانعين من عذاب الله عز وجل
سورة العنكبوت 26 - 30
قوله عز وجل " فآمن له لوط " يعني صدق لوطا إبراهيم عليهما السلام على الهجرة ويقال صدقه بالنبوة حين لم تحرقه النار " وقال " إبراهيم " إني مهاجر إلى ربي " يعني إلى رضاء ربي وطاعة ربي ويقال إلى أرض من أرض ربي فهجر قومه الكافرين وخرج إلى الأرض المقدسة ومعه سارة ثم قال " إنه هو العزيز " في ملكه " الحكيم " في أمره ويقال(2/630)
631
حكيم حكم أن من لم يقدر في بلدة على طاعة الله عز وجل فليخرج إلى بلدة أخرى
قوله عز وجل " ووهبنا له إسحاق ويعقوب " يعني لما هاجر إلى طاعة الله عز وجل أكرمه الله في الدنيا وأعطاه ذرية طيبة وهو ولده إسحاق وولد ولده يعقوب عليهم السلام ووهب له أربعة أولاد إسحاق من سارة وإسماعيل من هاجر ومدين ومداين من غيرهما " وجعلنا في ذريته " يعني من ذرية إبراهيم " النبوة والكتاب " يعني أكرم الله عز وجل ذريته بالنبوة وأعطاهم الصحف ويقال أخرج من ذريته ألف نبي عليهم السلام " والكتاب " يعني الزبور والتوراة والإنجيل والفرقان " وآتيناه أجره في الدنيا " يعني أعطيناه في الدنيا الثناء الحسن " وإنه في الآخرة لمن الصالحين " يعني مع النبيين في الجنة
قوله عز وجل " ولوطا " يعني وأرسلنا لوطا " إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة " قرأ إبن كثير ونافع وإبن عامر وعاصم في رواية حفص " إنكم " على معنى الخبر وقرأ أبو عمرو " آئنكم " بالمد على معنى الإستفهام " لتأتون الفاحشة " يعني المعصية " ما سبقكم بها من أحد من العالمين "
ثم قال " أئنكم لتأتون الرجال " واتفقوا في هذا الحرف على لفظ الإستفهام واختلفوا في الأول فقرأ الذين سميناهم على وجه الإخبار عنهم إنكم تفعلون وتكون على وجه التعيير وقرأ الباقون الأول على وجه الإستفهام فيكون اللفظ لفظ الإستفهام والمعنى فيه التوبيخ والتقريع
ثم قال " وتقطعون السبيل " يعني تعترضون الطريق لمن مر بكم بعملكم الخبيث ويقال " وتقطعون السبيل " يعني تأخذون أموالهم كانوا يفعلون ذلك لكيلا يدخلوا في بلدهم ويتناولوا من ثمارهم ويقال " تقطعون السبيل " يعني النسل " وتأتون في ناديكم المنكر " يعني تعملون في مجالسكم المنكر وقال بعضهم يعني به اللواطة كانوا يفعلون ذلك في المجالس بالعلانية ويقال أراد به المعاصي وهي الرمي بالبندق والصفير والحذف ومضغ العلك وحل إزار القباء واللعب بالحمام وشرب الخمر وضرب العود والمزامير وغير ذلك من المعاصي وروت أم هانىء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " وتأتون في ناديكم المنكر " قال كانوا يحذفون أهل الطريق ويسخرون منهم " فما كان جواب قومه إلا أن قالوا إئتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين " بالعذاب وإن العذاب نازل بنا " قال رب إنصرني " يعني أعني " على القوم المفسدين " يعني المشركين
سورة العنكبوت 31 - 35(2/631)
632
قوله عز وجل " ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى " يعني بالبشارة بالولد " قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية " يعني قريات لوط " إن أهلها كانوا ظالمين " يعني كافرين " قال " إبراهيم " إن فيها لوطا " يعني أتهلكهم وفيهم لوط " قالوا " يعني قال جبريل عليه السلام " نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا إمرأته كانت من الغابرين " يعني من الباقين في الهلاك " ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم " يعني ساء مجيئهم " وضاق بهم ذرعا " يعني أغتم بقدومهم فلا يدري أيأمرهم بالخروج أم بالنزول ويقال ضاق بهم القلب " وقالوا لا تخف " علينا " ولا تحزن " من العذاب " إنا منجوك وأهلك " قرأ حمزة والكسائي " لننجينه " و " إنا منجوك " كلاهما بالتخفيف وقرأ أبو عمرو ونافع وإبن عامر وحفص عن عاصم كلاهما بالتشديد وقرأ إبن كثير وأبو بكر عن عاصم الأول بالتشديد والثاني بالتخفيف ومعناهما واحد ويقال أنجيته ونجيته بمعنى واحد " إلا إمرأتك كانت من الغابرين "
ثم قال عز وجل " إما منزلون على أهل هذه القرية " قرأ إبن عامر وعاصم في إحدى الروايتين " منزلون " بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف ومعناهما واحد يعني أنزلنا ونزلنا " رجزا من السماء " هي الحجارة " بما كانوا يفسقون " يعني يعصون الله عز وجل
قوله عز وجل " ولقد تركنا منها " يعني من قريات لوط " آية بينة " يعني علامة ظاهرة واضحة يعني هلاكهم علامة ظاهرة ويقال قرياتهم علامة ظاهرة " لقوم يعقلون " يعني لمن كان له ذهن الإنسانية " ولقد تركن منها آية " يعني الحجارة التي أنزلها الله تعالى من السماء على كل واحد منها إسم صاحبها
سورة العنكبوت 36 - 37
قوله تعالى " وإلى مدين " يعني وأرسلنا إلى مدين " أخاهم شعيبا " يعني نبيهم شعيبا " فقال يا قوم أعبدوا الله " يعني وحدوا الله وأطيعوه " وارجوا اليوم الآخر " يعني خافوا يوم(2/632)
633
القيامة لأنه آخر الأيام ويقال يوم الموت وهو آخر أعمارهم " ولا تعثوا في الأرض مفسدين " يعني لا تعملوا في الأرض بالمعاصي في نقصان الكيل والوزن " فكذبوه " يعني أوعدهم بالعذاب على نقصان الكيل والوزن فكذبوه " فأخذتهم الرجفة " يعني العذاب ويقال الزلزلة وأصله الحركة " فأصبحوا في دارهم " يعني صاروا في دارهم يعني في محلتهم " جاثمين " يعني ميتين ويقال خامدين فصاروا كالرماد ويقال جثم بعضهم على بعض بالموت وقال مقاتل شبه أرواحهم في أجسادهم وهم أحياء بالنار إذا إتقدت ثم طفئت فبينما هم أحياء إذ صاح بهم جبريل عليه السلام فصعقوا أمواتا أجمعين
سورة العنكبوت 38 - 40
ثم قال عز وجل " وعادا وثمود " وقال بعضهم إنصرف إلى قوله " ولقد فتنا الذين من قبلهم " [ العنكبوت : 3 ] وفتنا عادا وثمودا وقال بعضهم إنصرف إلى قوله " فأخذتهم الرجفة " [ الأعراف : 78 ] يعني أخذهم العذاب وأخذ عادا وثمودا ويقال معناه أذكر عادا وثمودا أو يقال صار نصبا لنزع الخافض ومعناه وأرسلنا الرسل إلى عاد وثمود " وقد تبين لكم من مساكنهم " يعني ظهر لكم يا أهل مكة من منازلهم آية في إهلاكهم " وزين لهم الشيطان أعمالهم " يعني ضلالتهم " فصدهم عن السبيل " يعني صرفهم عن الدين ويقال منعهم عن التوحيد ويقال صد يصد صدا إذا منعه وصد يصد صدودا إذا إمتنع بنفسه وأعرض " وكانوا مستبصرين " في دينهم وهم يرون أنهم على الحق وهم على الباطل ويقال " كانوا مستبصرين " أي ذوي بصيرة ومع ذلك جحدوا
ثم قال عز وجل " وقارون وفرعون وهامان " يعني أهلكنا قارون وفرعون وهامان " ولقد جاءهم موسى بالبينات " يعني بالعلامات والآيات " فاستكبروا في الأرض " يعني طغوا فيها وتعظموا عن الإيمان " وما كانوا سابقين " يعني بفائتين من عذابنا
قوله عز وجل " فكلا أخذنا بذنبه " يعني كلهم أهلكناهم بذنوبهم ويقال معناه أهلكنا كل واحد منهم بذنبه لا بذنب غيره " فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا " يعني الحجارة وهم قوم لوط " ومنهم من أخذته الصيحة " وهم قوم صالح " ومنهم من خسفنا به الأرض " يعني قارون " ومنهم من أغرقنا " وهم فرعون وقومه وقال القتبي الأخذ أصله باليد ثم يستعار في(2/633)
634
مواضع فيكون بمعنى القبول كقوله عز وجل " وأخذتهم على ذلكم إصرى " [ آل عمران : 81 ] أي قبلتم عهدي والأخذ التعذيب كقوله " وكذلك أخذ ربك " وكقوله " فكلا أخذنا بذنبه " يعني عذبنا وكقوله " وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه " [ غافر : 5 ] يعني ليعذبوه
ثم قال " وما كان الله ليظلمهم " يعني لم يعذبهم بغير جرم منهم " ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " بجرمهم إستوجبوا العقوبة
سورة العنكبوت 41 - 44
قوله عز وجل " مثل الذين إتخذوا من دون الله أولياء " يعني مثل عبادتهم الأصنام في الضعف وقلة نفعهم إياهم " كمثل العنكبوت إتخذت بيتا وإن أوهن البيوت " يعني أضعف البيوت " لبيت العنكبوت " لأنه لا يغني من حر ولا من برد ولا من مطر وكذلك آلهتهم لا يدفعون عنهم ضرا ولا يقدرون لهم نفعا
ثم قال " لو كانوا يعلمون " يعني لو كانوا يعلمون أن إتخاذهم الأصنام كذلك لأنهم قد علموا أن بيت العنكبوت أوهن البيوت ولكن قوله " لو كانوا يعلمون " إنصرف إلى قوله " إتخذوا " يعني لا يعلمون أن هذا مثله
ثم قال عز وجل " إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء " وهذه كلمة تهديد يعني يعلم بعقوبتهم ويقال إن الله يعلم أن الآلهة لا شفاعة لهم ولا قدرة " وهو العزيز " بالنقمة لمن عصاه " الحكيم " حكم بالعقوبة على من عبد غيره ويقال حكم أن لا يعبد غيره
ثم قال " وتلك الأمثال نضربها للناس " يعني أمثال آلهتهم نبينها للناس " وما يعقلها إلا العالمون " يعني لا يفهمها ولا يعلمها إلا " العالمون " يعني الموحدون ويقال يعني العاقلين
قرأ أبو عمرو وعاصم " إن الله يعلم ما يدعون " بالياء على لفظ المغايبة وقرأ الباقون بالتاء على لفظ المخاطبة يعني قل لهم يا محمد إن الله يعلم ما تدعون من دونه
ثم قال عز وجل " خلق الله السموات والأرض بالحق " يعني بالعدل ويقال لبيان الحق ولم يخلقها باطلا " إن في ذلك " يعني في خلق السموات والأرض " لآية " يعني لعبرات " للمؤمنين " يعني المصدقين وإنما أضاف إلى المؤمنين لأنهم هم الذين ينتفعون بها(2/634)
635
سورة العنكبوت 45 - 46
قوله عز وجل " أتل ما أوحي إليك " يعني إقرأ عليهم ما أنزل إليك " من الكتاب " يعني من القرآن ويقال هو أمره بتلاوة القرآن يعني إقرؤوا القرآن واعملوا بما فيه " وأقم الصلاة " يعني وأتم الصلاة " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " يعني ما دام العبد يصلي لله عز وجل إنتهى عن الفحشاء والمعاصي ويقال " وأقم الصلاة " يعني وأد الصلاة الفريضة في مواقيتها بركوعها وسجودها والتضرع بعدها " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء " يعني إذا صلى العبد لله صلاة خاشع يمنعه من المعاصي لأنه يرق قلبه فلا يميل إلى المعاصي
وروى أبو أمامة الباهلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده صلاته عند الله إلا مقتا وروي عن الحسن البصري رحمه الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من لم تنهه صلاته عن فحشاء ولا منكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا وقال الحسن إذا لم تنته بصلاتك عن الفحشاء فلست بمصل
ثم قال " ولذكر الله أكبر " يعني أفضل من سائر العبادات وروي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال قراءة القرآن في غير الصلاة أفضل من صلاة لا يكون فيها كثير القراءة ثم قرأ هذه الآية " وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر " قال مقاتل ولذكر الله إياك أفضل من ذكرك إياه بالصلاة وقال الكلبي يقول ذكره إياكم بالخير أكبر من ذكركم إياه والله يذكر من ذكره بالخير
قال أبو الليث رحمه الله حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الماسرخسي قال حدثنا إسحاق قال حدثنا جرير عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن ربيعة قال سألني إبن عباس عن قوله " ولذكر الله أكبر " فقلت هو التسبيح والتهليل والتقديس فقال لقد قلت شيئا عجيبا وإنما هو ذكر الله العباد أكثر من ذكر العباد إياه وقال قتادة " ولذكر الله أكبر " أي ليس شيء أفضل من ذكر الله وسئل سلمان الفارسي أي العمل أفضل قال ذكر الله ويقال ذكر الله أفضل من الإشتغال بغيره ويقال ذكر الله حين كتبكم في اللوح المحفوظ من المسلمين أفضل ويقال ذكر الله عز وجل بالمغفرة أفضل من ذكرك إياه وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من ذكر الله في نفسه ذكره الله في نفسه ومن ذكره في ملإ ذكره الله عز وجل(2/635)
636
في ملإ أكبر من الملإ الذي ذكره فيهم وأطيب ومن تقرب من الله شبرا تقرب الله منه ذراعا يعني بإجابته وتوفيقه ورحمته ومن تقرب إلى الله تعالى ذراعا تقرب الله منه باعا ومن أتى الله ماشيا الله أتاه هرولة يعني بإجابته وتوفيقه ورحمته
ثم قال تعالى " والله يعلم ما تصنعون " من الخير والشر فيجازيكم به
قوله عز وجل " ولا تجادلوا أهل الكتاب " قال مقاتل " ولا تجادلوا أهل الكتاب " يعني مؤمنيهم ثم إستثنى كفارهم فقال " إلا الذين ظلموا منهم " يعني " إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا " فيها تقديم ثم نسخته آية قتال أهل الكتاب وقال الكلبي " ولا تجادلوا أهل الكتاب " إن الله عز وجل أمر المسلمين إذ كانوا بمكة قبل أن يأمرهم بالقتال فقال " ولا تجادلوا " من أتاكم من أهل الكتاب " إلا بالتي هي أحسن " بالقرآن تعظونهم به وتدعونهم إلى الإسلام وهي التي أحسن " إلا الذين ظلموا منهم " في الملاعنة وهم أهل نجران ويقال " لا تجادلوا أهل الكتاب " يعني لا تخاصموهم " إلا بالتي هي أحسن " يعني إلا بالكلمة التي هي أحسن يعني كلمة التوحيد " إلا الذين ظلموا منهم " يعني ولا الذين ظلموا منهم ويقال " إلا الذين ظلموا منهم " فلا بأس بأن تجادلوهم بما هو أشد
ثم بين الكلمة التي هي أحسن فقال " وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم " يعني القرآن والتوراة " وإلهنا وإلهكم واحد " يعني ربنا وربكم واحد " ونحن له مسلمون " يعني مخلصين بالتوحيد
سورة العنكبوت 47 - 50
ثم قال عز وجل " وكذلك أنزلنا إليك الكتاب " يعني القرآن كما أنزلنا إلى موسى وعيسى عليهما السلام " فالذين آتيناهم الكتاب " وهم مؤمنو أهل الكتاب " يؤمنون به " يعني يصدقون بالقرآن " ومن هؤلاء من يؤمن به " يعني قريشا " وما يجحد بآياتنا " يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن " إلا الكافرون " من اليهود ومشركي العرب
ثم قال عز وجل " وما كنت تتلو من قبله من كتاب " يعني قبل القرآن " ولا تخطه(2/636)
637
بيمينك ) يعني لم تكن تكتب شيئا بيدك " إذا لارتاب المبطلون " يعني فلو كنت قرأت الكتب أو كنت تكتب بيدك لشك أهل مكة في أمرك ويقولون إنه قرأ الكتب وأخذ منها ويقال معناه " لارتاب المبطلون " يعني لشك أهل الكتاب في أمرك لأنهم وجدوا في كتبهم نعته وصفته أنه أمي لا يقرأ الكتب كيلا يشكوا في صفته " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم " يعني بل هو يقين أنه نبي عند أهل العلم ويقال يعني القرآن " آيات بينات " يعني واضحات ويقال بل إنه لا يقرأ ولا يكتب آيات بينات لأنه أخبر عن أقاصيص الأولين في صدور الذين أوتوا العلم يعني مؤمني أهل الكتاب " وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون " يعني الكافرين
قوله عز وجل " وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه " يعني علامة من ربه " قل إنما الآيات " يعني العلامات " عند الله " يعني من عند الله عز وجل وليس بيدي شيء " وإنما أنا نذير مبين " يعني مخوفا مفقها لكم أنبئكم بلغة تعرفونها قرأ نافع وأبو عمرو وإبن عامر وعاصم في رواية حفص " آيات " بلفظ الجماعة يعني آيات القرآن وقرأ الباقون " آية " يعني آية واحدة يعني أنه كان لا يكتب وكان له في ذلك آية بينة لنبوته ويجوز أن يكون معناه الآيات للجنس
سورة العنكبوت 51 - 52
ثم قال عز وجل " أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب " يعني القرآن فيه خبر ما مضى وخبر ما يكون " أو لم يكفهم " هذا علامة ويقال " أو لم يكفهم " أنهم فصحاء فجاءهم بالقرآن الذي أعجزهم عن ذلك وقال الزجاج كان قوم من المسلمين كتبوا شيئا عن اليهود فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم كفى بهذا حماقة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما أتاهم به نبيهم إلى ما أتى به غير نبيهم قال الله عز وجل " أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب " " يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة " يعني في هذا القرآن لنعمة لمن آمن به " وذكرى " أي موعظة ويقال تفكر " لقوم يؤمنون " يعني يصدقون بالقرآن فقال له كعب بن الأشرف وقد كان قدم مكة من يشهد لك أنك رسول الله إن لم نشهد لك فنزل " قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا " بأني رسول الله " يعلم ما في السموات والأرض والذين آمنوا بالباطل " يعني(2/637)
638
بالصنم ويقال بالشيطان ويقال بالطاغوت وهو كعب بن الأشرف " وكفروا بالله " يعني جحدوا وحدانية الله عز وجل " أولئك هم الخاسرون " يعني المغبونين في العقوبة ويقال خسروا حيث إستوجبوا لأنفسهم العقوبة
سورة العنكبوت 53 - 56
ثم قال عز وجل " ويستعجلونك بالعذاب " وذلك أنهم قالوا إئتنا بعذاب الله يقول الله عز وجل " ولولا أجل مسمى " يقول لولا الوقت الذي وقت لهم " لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة " يعني فجأة " وهم لا يشعرون " بنزول العذاب " يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " يعني جعلت لهم النار تحيط بهم
قوله عز وجل " يوم يغشاهم العذاب " يعني يعلوهم العذاب " من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون " قرأ إبن كثير وإبن عامر وأبو عمرو " ونقول ذوقوا " بالنون يعني نقول لهم نحن ذوقوا وهي حكاية عن الله سبحانه وتعالى بلفظ الجماعة وهو لفظ الملوك وقرأ الباقون بالياء يعني يقول الله عز وجل ويقال وتقول لهم الخزنة " ذوقوا ما كنتم تعملون " يعني جربوا عقوبة ما كنتم تعملون في الدنيا
ثم قال عز وجل " يا عبادي الذين آمنوا " قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو بسكون الياء وقرأ الباقون بنصب الياء " يا عبادي " وقرأ إبن عامر وحده " إن أرضي واسعة " بنصب الياء وقرأ الباقون بسكونها في مثل هذه المواضع لغتان يجوز كلاهما ومعناه إن أرضي واسعة إذا أمرتم بالمعصية والبدعة فاهربوا ولا تطيعوا في المعصية نزلت في ضعفاء المسلمين " إن كنتم " يعني إذا كنتم في ضيق من إظهار الإسلام بمكة " فإن أرضي واسعة " يعني المدينة واسعة بإظهار الإسلام وروي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض إستوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما السلام وإنما خص إبراهيم لأنه قال " إني مهاجر إلى ربي " [ العنكبوت : 26 ] ففر بدينه إلى الأرض المقدسة وإنما خص محمدا صلى الله عليه وسلم لأنه هاجر من مكة إلى المدينة ويقال إن القوم كانوا في ضيق من العيش فقال إن كنتم تخافون شدة العيش فإن أرضي واسعة " فإياي فاعبدون " يعني فوحدون بالمدينة علانية
سورة العنكبوت 57 - 59(2/638)
639
ثم خوفهم بالموت ليهاجروا فقال عز وجل " كل نفس ذائقة الموت " لأنهم كانوا يخافون على أنفسهم بالخروج فقال لهم لا تخافوا فإن " كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون " في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم قرأ عاصم في رواية أبي بكر " يرجعون " بالياء بلفظ المغايبة على معنى الخبر عنهم وقرأ الباقون بالتاء على معنى الخطاب لهم
ثم قال عز وجل " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني صدقوا بالله ورسوله " وعملوا الصالحات " يعني الطاعات وهاجروا فسمى الهجرة من الأعمال الصالحة لأنها كانت فريضة في تلك الأوقات " لنبوئنهم " يعني لننزلنهم ولنسكننهم " من الجنة غرفا " يعني غرفا من الجنة قرأ حمزة والكسائي " لنثوينهم " بالثاء وقرأ الباقون " لنبوئنهم " بالياء فمن قرأ بالثاء فهو من ثويت بالمكان يعني أقمت به كقوله " وما كنت ثاويا في أهل مدين " [ القصص : 45 ] ومن قرأ بالباء يعني لننزلنهم وذكر عن الفراء أنه قال كلاهما واحد بوأته منزلا أي أنزلته وأثويته منزلا يعني أنزلته سواء كقوله " وما كنت ثاويا "
ثم قال " تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين " يعني ثوابهم ثواب الموحدين
قوله عز وجل " الذين صبروا " على الهجرة ويقال صبروا على أمر الله تعالى " وعلى ربهم يتوكلون " يعني يثقون به ولا يهتمون للرزق لأنهم كانوا يقولون كيف نهاجر وليس لنا مال ولا معيشة فوعظهم الله ليعتبروا
سورة العنكبوت 60 - 63
قال تعالى " وكأين من دابة " يعني وكم من دابة في الأرض أو من طائر في السماء " لا تحمل رزقها " معها ولا يجمع الغذاء إلا النملة والفأرة ويقال لا تخبئ رزقها ثم قال " الله يرزقها وإياكم " يعني يرزق الدواب حيث ما توجهت وإياكم إذا هاجرتم إلى المدينة " وهو السميع " لمقالتكم " العليم " بكم
ثم قال عز وجل " ولئن سألتهم " يعني كفار مكة " من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون " يعني من أين يكذبون بتوحيد الله عز وجل(2/639)
640
ثم رجع إلى أهل الهجرة ورغبهم فيها فقال " الله يبسط الرزق لمن يشاء " يعني يوسع على من يشاء " من عباده ويقدر له " يعني ويقتر لمن يشاء " إن الله بكل شيء عليم " من البسط والتقتير
قوله عز وجل " ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها " يعني من بعد يبسها وقحطها " ليقولن الله قل الحمد لله " على إقرارهم بذلك " بل أكثرهم لا يعقلون " توحيد ربهم وهم مقرون بالله عز وجل خالق هذه الأشياء
سورة العنكبوت 64 - 69
قوله عز وجل " وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو " يعني باطل " ولعب " كلعب الصبيان ولهو كلهو الشبان ويقال فرح لا يبقى للخلق ولا يبقى فيها إلا العمل الصالح روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاها أو عالما أو متعلما وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بسخلة ميتة فقال والذي نفسي بيده للدنيا على الله أهون من هذه السخلة على أهلها " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان " يعني هي دار الحياة لا موت فيها " لو كانوا يعلمون " يعني لو كانوا يصدقون بثواب الله عز وجل
ثم قال " فإذا ركبوا في الفلك " يعني في السفن " دعوا الله مخلصين له الدين " يعني موحدين وتركوا دعاء أصنامهم ويعلمون أنه لا يجيبهم أحد إلا الله تعالى " فلما نجاهم إلى البر " يعني إلى القرار " إذا هم يشركون " به
قوله عز وجل " ليكفروا بما آتيناهم " يعني ما أعطيناهم من النعم " وليتمتعوا " قرأ عاصم وأبو عمرو وإبن عامر ونافع في رواية ورش " وليتمتعوا " بكسر اللام وقرأ الباقون بالجزم فمن قرأ بالكسر فمعناه لكي يتمتعوا لأن الكلام عطف على ما قبله يعني يشركون لكي يكفروا ولكي يتمتعوا في الدنيا ومن قرأ بالجزم فهو على معنى التهديد والتوبيخ بلفظ الأمر وتشهد له قراءة أبي كان يقرأ " تمتعوا فسوف تعلمون " ومعناه وليتمتعوا يعني وليعيشوا فسوف يعلمون إذا نزل بهم العذاب
ثم قال عز وجل " أولم يروا " يعني أولم يعلموا ليعتبروا " أنا جعلنا حرما آمنا(2/640)
641
ويتخطف الناس من حولهم ) يعني يختلس الناس فيقتلون ويسبون وهم آمنون يأكلون رزقي ويعبدون غيري فكيف أسلط عليهم إذا أسلموا " أفبالباطل يؤمنون " يعني أفبالشيطان يصدقون أن لي شريكا ويقال أفبالأصنام يؤمنون " وبنعمة الله يكفرون " يعني وبخالق هذه النعمة ورسوله يجحدون
ثم قال عز وجل " ومن أظلم ممن إفترى على الله كذبا " بأن معه شريكا " أو كذب بالحق " يعني بالقرآن " لما جاءه " أي حين جاءه " أليس في جهنم مثوى للكافرين " أي مقاما للكافرين كما قال " فريق في الجنة وفريق في السعير " [ الشورى : 7 ]
ثم قال عز وجل " والذين جاهدوا فينا " يعني رغبوا في طاعتنا " لنهدينهم سبلنا " يعني لنعرفنهم طريقنا ويقال معناه لنرشدنهم طريق الجنة " وإن الله لمع المحسنين " يعني في العون لهم ويقال والذين عملوا بما علموا لنوفقنهم لما لم يعلموا والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(2/641)
الجزء الثالث من تفسير بحر العلوم للسمرقندى(3/2)
تفسير السمرقندي المسمى بحر العلوم 3
3
سورة الروم
وهي ستون آية مكية
سورة الروم 1 - 6
قول الله سبحانه وتعالى " الم أي غلبت الروم " يعني قهرت الروم " في أدنى الأرض " مما يلي فارس يعني أرض الأردن وفلسطين " وهم " يعني أهل الروم " من بعد غلبهم سيغلبون " أهل فارس
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر ملك الروم ، يدعوه إلى الإسلام فقرأ كتابه وقبله ووضعه على عينيه وختمه بخاتمه ، ثم أوثقه على صدره ثم كتب جواب كتابه إنا نشهد أنك نبي ولكنا لا نستطيع أن نترك الدين القديم الذي اصطفى الله عز وجل لعيسى فعجب النبي صلى الله عليه وسلم وقال ( قد ثبت الله ملكهم إلى يوم القيامة إلى أدنى الأرض منها فيفتح الله عز وجل على المسلمين )
وكتب إلى كسرى ملك فارس فمزق كتابه ورجع الرسول بعدما أراد قتله فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال صلى الله عليه وسلم ( قد مزق الله ملكهم فلا ملك لهم أبدا
إذا مات كسرى فلا كسرى بعده ) فلما ظهرت فارس على الروم اغتم المسلمون لذلك " وهم من بعد غلبهم سيغلبون "
قال في رواية الكلبي إن مشركي قريش شمتوا حين غلب المشركون أهل الكتاب فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه لم تشمتون فوالله ليظهرن الروم عليهم
فقال أبي بن خلف والله لا يكون ذلك أبدا فتبايع أبو بكر وأبي بن خلف لتظهرن الروم على فارس إلى ثلاث سنين على تسع ذود
فرجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالأمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( انطلق فزده في الخطر ومده في الأجل ) فرجع أبو بكر إلى أبي بن خلف فقال أنا أبايعك إلى سبع سنين على عشرة(3/3)
4
ذود فبايعه فلما خشي أبي بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة إلى المدينة مهاجرا أتاه فلزمه فكفل له عبد الرحمن بن أبي بكر
فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد أتاه محمد بن أبي بكر فلزمه فأعطاه كفيلا ثم خرج إلى أحد فظهرت الروم على فارس عام الحديبية وذلك عند رأس سبع سنين فذلك قوله " ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله "
وروى أسباط عن السدي عن أصحابه قال اقتتلت فارس والروم فغلبتهم فارس ففخر أبو سفيان بن حرب على المسلمين وقال الذين ليس لهم كتاب غلبوا على الذين لهم كتاب فشق ذلك على المسلمين فلقي أبو بكر رضي الله عنه أبا سفيان فقامره على أن الروم ستغلب فارس إلى ثلاث سنين فقامره على ثلاثة أبكار ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له ( انطلق فزد في الجعل وزد في السنين )
فزايده إلى سبع سنين على سبعة أبكار
فالتقى الروم وفارس فغلبتهم الروم وظهر عليهم هرقل ، فجاءه جبريل عليه السلام بهزيمة فارس وظهور الروم عليهم ووافق ذلك يوم بدر وظهور النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين ففرح المؤمنون بظهورهم على المشركين وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك
ويقال عن أهل الروم كانوا أهل كتاب وكان المسلمون يرجون إسلامهم وأهل فارس كانوا مجوسا فكان المسلمون لا يرجون إسلامهم وكانوا يحزنون لغلبة فارس عليهم فنزل " الم غلبت الروم في أدنى الأرض " يعني أقرب الأرض إلى أرض فارس " وهم من بعد غلبهم سيغلبون " روي عن الفراء أنه قال يعني من بعد غلبتهم ولكن عند الإضافة سقطت الهاء كما قال " وإقام الصلوة " الأنبياء73 ولم يقل وإقامة الصلاة
وقال الزجاج هذا غلط وإنا يجوز ذلك في المعتل خاصة والغلب والغلبة كلاهما مصدر
و " سيغلبون في بضع سنين " يعني إلى خمس سنين ويقال إلى سبع سنين
روي عن أبي عبيدة أنه قال البضع من واحد إلى أربعة
وقال القتبي البضع ما فوق الثلاثة إلى دون العشرة
وقال مجاهد البضع ما بين الثلاث إلى التسع ويقال " من بعد غلبهم " وهذا اللفظ يكون للغالبين وللمغلوبين كقولهم من بعد قتلهم ثم قال عز وجل " لله الأمر من قبل ومن بعد " يعني لله الأمر حين غلبت الروم فارس " ومن بعد " يعني حين غلبت الروم فارس
ولفظ القبل والبعد إذا كان في آخر الكلام يكون رفعا على معنى الإضافة للغاية ولو كان إضافة إلى شيء يكون خفضا كقولك من بعدهم ومن قبلهم(3/4)
5
ثم قال " ويومئذ يفرح المؤمنون " لما يرجون من إسلامهم ويقال يفرح أبو بكر رضي الله عنه خاصة ويقال يفرح المؤمنون بتصديق وعد الله تعالى
وروي عن الشعبي أنه قال كان ذلك عام الحديبية فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فبايعوه مبايعة الرضوان ووعد لهم غنائم خيبر وظهرت الروم على فارس وكان تصديقا لهذه الآية " ويومئذ يفرح المؤمنون " وإنما جازت مخاطرة أبي بكر رضي الله عنه لأن المخاطرة كانت مباحة في ذلك الوقت ثم حرمت بقوله " إنما الخمر والميسر " [ المائدة 90 ] الآية
ثم قال " بنصر الله " يعني بفتح الله " ينصر من يشاء " يعني نصر الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه " وهو العزيز الرحيم " بالمؤمنين حين نصرهم
قوله عز وجل " وعد الله " نصب الوعد لأنه مصدر ومعناه " وعد الله " وعدا يعني انتظروا وعد الله
ثم قال " لا يخلف الله وعده " حيث وعد لهم غلبة الروم " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " يعني الكفار لا يعلمون أن الله عز وجل لا يخلف وعده ويقال لا يعلمون أمر الآخرة
سورة الروم 7 - 11
قوله عز وجل " يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا " يعني يعلمون حرفتهم وأمر معايشهم ومتى يدرك زرعهم
ويقال في أمر التجارة كانوا أكيس الناس
وقال الحسن كان الرجل منهم يأخذ درهما ويقول وزنه كذا ولا يخطئ
" وهم عن الآخرة هم غافلون " لا يؤمنون بها
ويقال عن أمر الآخرة وما وعدوا فيها من الهول والعذاب هم غافلون
ثم وعظهم فقال عز وجل " أو لم يتفكروا في أنفسهم " فيعتبروا في خلق السموات والأرض
وروي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال تفكر ساعة خير من قيام ليلة
ثم قال " ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق " يعني للحق " وأجل مسمى " يعني السموات والأرض لهن أجل ينتهي إليه ووقت معلوم " وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون " يعني جاحدين للبعث(3/5)
6
ثم خوفهم فقال عز وجل " أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم " يعني الأمم الخالية كانت عاقبتهم الهلاك
ثم أخبر عنهم فقال " كانوا أشد منهم قوة " يعني من أهل مكة " وأثاروا الأرض " قال مقاتل يعني ملكوا الأرض
وقال الكلبي يعني حرثوها
ويقال " وأثاروا الأرض " إذا قلبوها للزراعة
" وعمروها " يعني عمروا الأرض " أكثر مما عمروها " يعني أهل مكة
ويقال عاشوا فيها أكثر مما عاش أهل مكة " وجاءتهم رسلهم بالبينات " يعني بالحجج الواضحات فكذبوهم فأهلكهم الله عز وجل " فما كان الله ليظلمهم " فيعذبهم بغير ذنب " ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " بالمعاصي
قوله عز وجل " ثم كان عاقبة الذين أساءوا " يعني آخر أمر الذين أشركوا " السوأى " يعني العذاب فيجوز أن تكون " ثم " على معنى التأخير ويجوز أن يكون معناه ثم هذا كان عاقبة الذين
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو " عاقبة " بالضم وقرأ الباقون بالنصب
فمن قرأ بالضم جعله اسم كان وجعل " السوء " خبر كان
ومن قرأ بالنصب جعل العاقبة خبر كان والسوء اسم كان ومعنى القراءتين يرجع إلى شيء واحد يعني ثم كان عاقبة الكافرين النار لتكذيبهم بآيات الله عز وجل
والسوء ههنا جهنم كما أن الحسنى الجنة
ثم قال " أن كذبوا بآيات الله " يعني عاقبتهم جهنم لأنهم كذبوا بآيات الله بما جاءت بها الرسل " وكانوا بها يستهزئون " يعني بآيات الله
ثم قال عز وجل " الله يبدأ الخلق ثم يعيده " يعني يحييهم بعد الموت " ثم إليه ترجعون " في الآخرة
قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر " يرجعون " بالياء على معنى الإخبار عنهم وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة
سورة الروم 12 - 16
ثم قال عز وجل " ويوم تقوم الساعة " يعني واذكر يوم تقوم الساعة " يبلس المجرمون " يعني ييأس المشركون من كل خير
ويقال أيسوا من إقامة الحجة
ويقال " يبلس المجرمون " يعني يندمون
قال الزجاج المبلس الساكت المنقطع في حجته الآيس من أن يهتدي " ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء " يعني من الملائكة ومن الأصنام " وكانوا بشركائهم كافرين " يعني تبرأت الملائكة عليهم السلام منهم وتبرأت الأصنام عنهم(3/6)
7
ثم قال عز وجل " ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون " يعني بعد الحساب يتفرقون فريق في الجنة وفريق في النار
ثم أخبر عن مرجع كل فريق فقال " فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني الذين صدقوا بالله ورسوله وأدوا الفرائض والسنن " فهم في روضة يحبرون " قال مقاتل يعني في بستان يكرمون وينعمون
وقال السدي " يحبرون " أي يفرحون ويكرمون
وقال مجاهد " يحبرون " يعني ينعمون
وقال القتبي " يحبرون " يعني يسرون والحبرة السرور
ومنه يقال مع كل حبرة عبرة
وقال الزجاج " يحبرون " يعني يحسنون إليهم يقال للعالم حبر وللمداد حبر لأنه يحسن به الكتابة ويقال ( يحبرون ) أي يسمعون أصوات المغنيات .
قوله عز وجل " وأما الذين كفروا بآياتنا " يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " ولقاء الآخرة " يعني البعث بعد الموت " فأولئك في العذاب محضرون " يعني مقرنين
ويقال يجتمعون هم وآلهتهم
سورة الروم 17 - 19
قوله عز وجل " فسبحان الله " يعني صلوا لله " حين تمسون " يعني صلاة الغرب والعشاء " وحين تصبحون " يعني صلاة الفجر " وعشيا " يعني صلاة العصر " وحين تظهرون " على معنى التقديم والتأخير أي صلاة الظهر " وله الحمد في السموات والأرض " يعني يحمده أهل السموات وأهل الأرض
ويقال له الألوهية في السموات والأرض كقوله عز وجل " وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله " [ الزخرف84 ] يقال " وله الحمد " يعني الحمد على أهل السموات وأهل الأرض لأنهم في نعمته فالحمد واجب علينا
ثم قال عز وجل " يخرج الحي من الميت " يعني الدجاجة من البيضة والإنسان من النطفة والمؤمن من الكافر
" ويخرج الميت من الحي " يعني البيضة من الدجاجة والكافر من المؤمن
" ويحيي الأرض بعد موتها " يعني ينبت النبات من الأرض بعد يبسها وقحطها بالمطر
" وكذلك تخرجون " يعني يحييكم بالمطر الذي يمطر من البحر المسجور كالمني فتحيون به
وقال مقاتل يرسل الله عز وجل يوم القيامة ماء الحيوان من السماء السابعة من البحر المسجور على الأرض بين النفختين فينتشر عظام الموتى فذلك قوله " وكذلك تخرجون "(3/7)
8
قرأ حمزة والكسائي " تخرجون " بفتح التاء والباقون برفع التاء
يعني تخرجون من قبوركم يوم القيامة
سورة الروم 20 - 23
قوله عز وجل " ومن آياته " قال مقاتل يعني ومن علامات الرب أنه واحد وإن لم يروه وعرفوا توحيده بصنعه " أن خلقكم من تراب " يعني خلق آدم من تراب وأنتم ولده " ثم إذا أنتم " ذريته من بعده " بشر تنتشرون " يعني تنبسطون
كقوله " وينشر رحمته " [ الشورى 28 ] يعني ويبسط
ويقال " ومن آياته " يعني من العلامات التي تدل على أن الله عز وجل واحد لا مثل له ظهور القدرة التي يعجز عنها المخلوقون " أن خلقكم من تراب " يعني آدم عليه السلام " ثم إذا أنتم بشر " منتشرون على وجه الأرض
ثم قال عز وجل " ومن آياته " يعني من علامات وحدانيته " أن خلق لكم من أنفسكم " يعني من جنسكم " أزواجا " لأنه لو كان من غير جنسه لكان لا يستأنس بها
ويقال " من أنفسكم " يعني خلقها من آدم ويقال من بعضكم بعضا " لتسكنوا إليها " يعني لتستقر قلوبكم عندها
لأن الرجل إذا طاف البلدان لا يستقر قلبه فإذا رجع إلى أهله اطمأن واستقر
ويقال " لتسكنوا إليها " يعني لتوافقوها " وجعل بينكم مودة ورحمة " يعني الحب بين الزوج والمرأة ولم يكن بينهما قرابة ويحب كل واحد منهما صاحبه ويقال " وجعل منكم مودة " للصغير على الكبير ورحمة للكبير على الصغير
ويقال " وجعل بينكم مودة ورحمة " يعني الولدان " إن في ذلك لآيات " يعني فيما ذكر لعلامات لوحدانيته " لقوم يتفكرون " أني خالقهم
قوله عز وجل " ومن آياته خلق السموات والأرض " وأنتم تعلمون ذلك لأنهم مقرون أن الله عز وجل هو خالق الأشياء " واختلاف ألسنتكم " عربي وعجمي ونبطي " وألوانكم " يعني واختلاف أحمر وأبيض وأسود وأسمر
" إن في ذلك " يعني في خلق السموات والأرض واختلاف الألسن والألوان " لآيات " لعلامات
" للعالمين " فيعتبرون
قرأ عاصم في روية حفص " للعالمين " بكسر اللام
يعني جميع العلماء يعني في ذلك علامة للعقلاء
وقرأ الباقون بنصب اللام يعني علامة لجميع الخلق الإنس والجان(3/8)
9
قوله عز وجل " ومن آياته منامكم بالليل والنهار " " منامكم " نومكم هو مصدر
يقال نام ينام نوما ومناما بالليل والنهار على معنى التقديم يعني منامكم بالليل " وابتغاؤكم من فضله " بالنهار يعني طلبكم الرزق بالنهار والمعيشة " إن في ذلك لآيات " يعني لعلامات على وحدانيتي " لقوم يسمعون " المواعظ ويعتبرون
سورة الروم 24 - 26
قوله عز وجل " ومن آياته يريكم البرق خوفا " من الصواعق إذا كنتم بأرض قفر " وطمعا " للمطر
" خوفا وطمعا " منصوبان على المفعول له المعنى يريكم للخوف والطمع " خوفا " للمسافر " وطمعا " للمقيم
" وينزل من السماء ماء " يعني المطر " فيحيي به الأرض " بالنبات " بعد موتها إن في ذلك لآيات " أي لعلامات " يقوم يعقلون " عن الله عز وجل فيوحدونه
قوله عز وجل " ومن آياته أن تقوم الساعة بأمره " يعني تقوم السماء فوق رؤوسكم بغير عمد لا يناله شيء وتقوم الأرض على الماء تحت أقدامكم " بأمره " أي بقدرته " ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض " يعني إسرافيل عليه السلام يدعوكم على صخرة بيت المقدس في الصور دعوة من الأرض " إذا أنتم تخرجون " وقال بعضهم في الآية تقديم ومعناه ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض يعني من قبوركم فإذا أنتم تخرجون قرأ حمزة والكسائي " تخرجون " بنصب التاء وضم الراء وقرأ الباقون بضم التاء ونصب الراء
ثم قال عز وجل " وله من في السموات والأرض " من الخلق " كل له قانتون " يعني مقرين بالعبودية
يعلمون أن الله عز وجل ربهم
ويقال " قانتون " أي خاضعين له لا يقدرون أن يغيروا أنفسهم عما خلقهم
ويقال معناه في كل شيء دليل ربوبيته
وهذا أيضا من آياته ولكنه لم يذكر لأنه قد سبق ذكره مرات فكأنه يقول ومن آياته أن له من في السموات والأرض كل له قانتون
سورة الروم 27 - 29(3/9)
10
ثم قال عز وجل " وهو الذي يبدأ الخلق " يعني خلق آدم فبدأ خلقهم ولم يكونوا شيئا " ثم يعيده " يعني يبعثهم في الآخرة أحياء " وهو أهون عليه " يعني في المثل عندكم لأن ابتداء الشيء أشد من إعادته
ويقال إن ابتداءه كان نطفة ثم جعله علقة ثم جعله مضغة ثم لحما ثم عظاما
وفي الآخرة حال واحد وذلك هو أهون عليه من هذا
وقال القتبي عن أبي عبيدة " وهو أهون عليه " يعني هين عليه كما يقال الله أكبر أي الكبير
ويقال الإعادة أهون عليه من البداية والبداية عليه هين
ثم قال " وله المثل الأعلى في السموات والأرض " يعني الصفات العلى بأنه واحد لا شريك له " وهو العزيز " في ملكه " الحكيم " في أمره
ثم قال عز وجل " ضرب لكم مثلا " نزلت في كفار قريش كانوا يعبدون الآلهة ويقولون في إحرامهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك
قال الله تعالى " ضرب لكم مثلا " يعني وصف لكم شبها " من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم " يعني من العبيد " من شركاء فيما رزقناكم " من الأموال " فأنتم " وعبيدكم " فيه سواء " في الرزق فيما أعطيناكم من الأموال والملك
ثم قال " تخافونهم كخيفتكم أنفسكم " قال مقاتل يعني أتخافون عبيدكم أن يرثوكم بعد الموت كما تخافون أن يرثكم الأحرار فقالوا لا
فقال أترضون لله الشركة في ملكه وتكرهون لأنفسكم
قال الكلبي " هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم " من أموالكم من عبيدكم وإمائكم " فأنتم " وهم " فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم " يقول كما يخاف الرجل ابنه وعمه وأقاربه
قالوا لا
قال فأنتم لا ترضون هذا لأنفسكم أن يكونوا فيما تملكون يشاركونكم في أموالكم
فكيف ترضون لله ما لا ترضون به لأنفسكم
وقال السدي " ضرب لكم مثلا " هذا مثل ضربه الله عز وجل في الميراث للآلهة
يقول هل لكم مماليك شركاء في الميراث الذي ترثونه من آبائكم وأنتم تخافون أن يدخل معكم مملوككم في ذلك الميراث كما تدخلون أنتم فيه
فكما لا يكون للملوك أن يدخل في مواريثكم فكذلك لا يكون لهذا الوثن الذي تعبدونه من دون الله عز وجل أن يدخل في ملكي
وإنما خلقي وعبيدي
قال أبو الليث رحمه الله وفي الآية دليل أن العبد لا ملك له لأنه أخبر أن لا مشاركة للعبيد فيما رزقنا الله عز وجل من الأموال
ثم قال عز وجل " كذلك نفصل الآيات " يعني نبين العلامات " لقوم يعقلون " الأمثال فيوحدونه
ثم قال عز وجل " بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم " يعني اتبع الذين كفروا أهواءهم بعبادة الأوثان " بغير علم " يعني بغير حجة " فمن يهدي من أضل الله " يعني فمن يهدي إلى(3/10)
11
توحيد الله من أضله الله وخذله وطرده
ويقال فمن يرشد إلى الحق من خذله الله عز وجل " وما لهم من ناصرين " يعني مانعين من عذاب الله
سورة الروم 30 - 32
قوله عز وجل " فأقم وجهك " يعني أخلص دينك الإسلام " للدين حنيفا " يعني للتوحيد مخلصا
ويقال يذكر الوجه ويراد به هو فكأنه يقول فأقم الدين مخلصا
ويقال معناه فأقبل بوجهك إلى الدين وأقم عليه " حنيفا " أي مخلصا مائلا إليه
ويقال أخلص دينك وعملك لله تعالى وكن مخلصا
ثم قال " فطرة الله " يعني اتبع دين الله
ويقال اتبع ملة الله
ويقال الفطرة الخلقة يعني خلقة الله " التي فطر الناس عليها " يعني خلق البشر عليها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة هل تحسون فيها من جدعاء )
وروي عن أبي هريرة أنه قال اقرؤوا إن شئتم " فطرة الله الذي فطر الناس عليها " يعني خلق الناس عليها
وفي الخبر أنه قال ( كل مولود يولد على الفطرة ) لأنه شهد يوم الميثاق
ثم قال " لا تبديل لخلق الله " يعني لا تغيير لدين الله
ويقال " لا تبديل لخلق الله " عندما خلق الله الخلق لم يكن لأحد أن يغير خلقته
ثم قال " ذلك الدين القيم " يعني التوحيد هو الدين المستقيم " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " يعني كفار مكة لا يعلمون بتوحيد الله
قوله عز وجل " منيبين إليه " انصرف إلى قوله " فأقم وجهك " يعني فأقبل بوجهك منيبا إليه
ويجوز أن يخاطب الرئيس بلفظ الجماعة لأن له أتباعا
وإنما يراد به هو وأتباعه كما قال " يأيها النبي إذا طلقتم النساء " [ الطلاق 10 ] " منيبين إليه " يعني راجعين إليه من الكفر إلى التوحيد
" واتقوه وأقيموا الصلاة " يعني وأتموا الصلوات الخمس " ولا تكونوا من المشركين " على دينهم " من الذين فرقوا دينهم " يعني تركوا دين الإسلام الذي أمروا به(3/11)
12
" وكانوا شيعا " فجعلوه أديانا يعني تركوا دينهم وصاروا فرقا اليهود والنصارى والمجوس
قرأ حمزة والكسائي " فارقوا " بالألف
وقرأ الباقون " فرقوا " بغير ألف
فمن قرأ " فارقوا " يعني تركوا دينهم
ومن قرأ " فرقوا " دينهم يعني افترقت اليهود إحدى وسبعين فرقة والنصارى اثنتين وسبعين فرقة والمسلمون ثلاثة وسبعين فرقة " كل حزب بما لديهم فرحون " يعني كل أهل دين بما عندهم من الدين راضون
سورة الروم 33 - 35
قوله عز وجل " وإذا مس الناس ضر " يعني إذا أصاب الكفار شدة " دعوا ربهم منيبين إليه " يعني منقلبين إليه بالدعاء عند الشدة والقحط " ثم إذا أذاقهم منه رحمة " يعني إذا أصابهم من الله نعمة وهي السعة في الرزق والخصب " إذا فريق منهم بربهم يشركون " يعني تركوا توحيد ربهم في الرخاء وقد وحدوه في الضراء
قوله عز وجل " ليكفروا بما آتيناهم " قال مقاتل تقول أذاقهم رحمة لئلا يكفروا بالذي أعطاهم من الخير
ويقال كانت النعمة سبيلا لكفرهم فكأنه أعطاهم لذلك كما قال " فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا " [ القصص 8 ] وقرئ في الشاذ " يشركون ليكفروا " بجزم اللام فيكون أمرا على وجه الوعيد والتهديد
ثم قال " فتمتعوا فسوف تعلمون " يعني فتمتعوا قليلا إلى آجالكم فسوف تعلمون ما يفعل بكم يوم القيامة
ثم قال عز وجل " أم أنزلنا عليهم سلطانا " يعني كتابا من السماء " فهو يتكلم " يعني ينطق " بما كانوا به يشركون " يعني ينطق بما كانوا يقولون من الشرك
اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به النفي يعني لم ينزل عليهم حجة بذلك
وقال القتبي فهو يتكلم فهو من المجاز ومعناه أنزلنا عليهم برهانا يستدلون به فهو يدلهم على الشرك
ويقال أم أنزلنا عليهم عذرا بذلك
سورة الروم 36 - 40(3/12)
13
ثم قال عز وجل " وإذا أذقنا الناس رحمة " يعني الكفار " فرحوا بها " يعني المطر والسعة " وإن تصبهم سيئة " يعني الجوع والشدة " بما قدمت أيديهم " يعني جزاء لذنوبهم " إذا هم يقنطون " يعني آيسين من الرزق
قرأ أبو عمرو الكسائي " يقنطون " بكسر النون وقرأ الباقون بالنصب وهما لغتان ومعناهما واحد
ثم وعظهم ليعتبروا ويطمئنوا بالرزق فقال عز وجل " أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء " يعني يوسع وكان يرى صلاح العبد في ذلك
" ويقدر " يعني يقتر ويضيق العيش ويكون صلاحه في ذلك من البسط والتقتير " إن في ذلك " يعني في البسط والتقتير " لآيات لعلامات " " لقوم يؤمنون " يعني يصدقون
قوله عز وجل " فآت ذا القربى حقه " يعني فأعط ذا القربى حقه وحق القرابة هو صلة الرحم " والمسكين " يعني أعطي السائل حقه وحقه أن يتصدق عليه بشيء " وابن السبيل " يعني الضيف النازل وحقه أن تحسن إليه " ذلك خير " يعني الذي وصف من صلة القرابة والمسكين وابن السبيل ذلك خير " للذين يريدون وجه الله " يعني خير من الإمساك عندهم
ويريدون بذلك رضا الله تعالى " وأولئك هم المفلحون " يعني الناجون
ويقال الباقون في النعمة
ويسمى السحور فلاحا لأنه يبقي للصائم قوة
قوله عز وجل " وما آتيتم من ربا " يعني ما أعطيتم من عطية " ليربو في أموال الناس " يعني ليزدادوا في أموال الناس
ومعناه ما أعطيتم من عطية لتلتمسوا بها الزيادة " فلا يربو عند الله " أي فلا تضاعف تلك العطية عند الله عز وجل ولا يأثم فيه
وروى معمر عن قتادة عن ابن عباس قال هي هبة يريد أن يثاب أفضل منها
فذلك الذي لا يربو عند الله ولا يؤجر فيه صاحبه ولا إثم عليه
" وما أتيتم من زكاة " قال هي الصدقة " تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون " وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله
وقال عكرمة الربا ربوان ربا حلال وربا حرام
فأما الحلال فهو هبة الرجل يريد أن يثاب ما هو أفضل منها
وأما الحرام فزيادة خالية عن العوض في عقد المعاوضة
وهو نوعان ربا الفضل وربا النساء عرف ذلك في كتب الفقه
قرأ ابن كثير " وما أتيتم " بغير مد يعني ما جئتم
وقرأ الباقون بالمد يعني ما أعطيتم
واتفقوا في الثاني أنه بالمد
وقرأ نافع " لتربوا " بالتاء والضم والباقون بالياء والنصب فمن قرأ بالنصب
فمعناه لتستزيدوا أنتم زيادة في المال
يعني لتكثروا أموالكم بما أعطيتم
ومن قرأ " ليربو " بالياء معناه ليربو المعطي فيكثر حتى يرد ما هو أكثر منه
ثم بين ما يربو فيه فقال " وما أتيتم من زكاة " يعني ما أعطيتم من صدقة تريدون وجه الله يعني رضا الله ففيه الإضعاف " فأولئك هم المضعفون " للواحد عشرة
فصاعدا
ويقال(3/13)
14
" المضعفون " أي الواجدين من الضعف
كما يقال أكذبته إذا وجدته كاذبا
ثم أخبر عن صنعه ليعرف توحيده فقال عز وجل " الله الذي خلقكم " ولم تكونوا شيئا " ثم رزقكم " يعني أطعمكم ما عشتم في الدنيا " ثم يميتكم " عند انقضاء آجالكم " ثم يحييكم " للبعث بعد الموت لينبئكم بما عملتم في الدنيا ويجازيكم " هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء " يعني يفعل كفعله
ثم نزه نفسه فقال " سبحانه وتعالى عما يشركون " وقد ذكرناه ويقال الله الذي خلقكم وطلب منكم العبادة ثم رزقكم وطلب منكم الطمأنينة ثم يميتكم وطلب منكم الاستعداد للموت ثم " يحييم " وطلب منكم الحجة والبرهان
سورة الروم 41 - 42
قوله عز وجل " ظهر الفساد في البر والبحر " يعني قحط المطر ونقص الثمار للناس والنبات للدواب
يعني نقص النبات في البر للدواب والوحوش وفي " البحر " يعني القرى والأرضين ينقصان الثمار والزرع
سمى القرى والمدائن بحرا لما يجري فيها من الأنهار ويقال البحر نفسه لأنه إذا لم يكن مطر فإنه لا يخرج منه اللؤلؤ " بما كسبت أيدي الناس " يعني بما عملوا من المعاصي
ويقال من أذنب ذنبا فجميع الخلق من الإنس والجن والدواب والوحوش والطير والذر خصماؤه يوم القيامة لأنه يمنع المطر بالمعصية فيضر بأهل البر والبحر
وذكر عن شفيق الزاهد أنه قال من أكل الحرام فقد خان جميع الناس حيث لا يستجاب دعاؤه
ويقال " ظهر الفساد في البر والبحر " يعني ظهرت المعاصي في البر والبحر " بما كسبت أيدي الناس " يعني بكسب الناس
فأول فساد البر كان من قابيل حيث قتل أخاه هابيل وأول فساد البحر كان من جلندا حيث كان يأخذ كل سفينة غصبا
وقال عطية العوفي ظهور الفساد قحوط المطر
قيل له هذا فساد البر فما فساد البحر قال إذا قل المطر قل الغوص
وقال قتادة " ظهر الفساد في البر والبحر " يعني امتلأت الضلالة والظلم في الأرض
وروي عن أبي العالية أنه قال البر الأعضاء والبحر القلوب يعني ظهر الفساد في الناس في الأعضاء وفي القلوب
ثم قال " ليذيقهم بعض الذي عملوا " يعني يعذبهم ببعض ذنوبهم في الدنيا ويدخر البعض في الآخرة
والذوق إنما هو كناية عن التعذيب
فكأنه يقول يعذبهم بالجوع والقحط(3/14)
15
في الدنيا " لعلهم يرجعون " أي لكي يرجعوا عن الكفر
قرأ ابن كثير " لنذيقهم " بالنون يعني لنذيقهم نحن وقرأ الباقون بالياء يعني ليذيقهم الله عز وجل
ثم خوفهم فقال عز وجل " قل سيروا في الأرض " أي سافروا فيها " فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل " يعني كيف كان آخر أمر من كان قبلهم " كان أكثرهم مشركين " فيعتبرون بذلك
والنظر على وجهين يقال نظر إليه إذا نظر بعينه ونظر فيه إذا تفكر بقلبه
وههنا قال " فانظروا " ولم يقل فيه ولا إليه
فهو على الأمرين جميعا
سورة الروم 43 - 45
ثم قال عز وجل " فأقم وجهك للدين " يعني أخلص دينك الإسلام " القيم " يعني المستقيم
ويقال أقبل بوجهك إليه
ويقال أثبت عليه
" من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله " يعني يوم القيامة لا يقدر أحد أن يرد ذلك اليوم من الله
ويقال يعني ذلك اليوم من الله ويقال لا خلف لذلك الوعد من الله " يومئذ يصدعون " يعني يتصدعون فأدغم التاء في الصاد وشدد
يعني يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير
ثم قال عز وجل " من كفر فعليه كفره " يعني جزاء كفره وعقوبته " ومن عمل صالحا " يعني وحده وعمل بالطاعة بعد التوحيد " فلأنفسهم يمهدون " قال مقاتل يقدمون
وقال مجاهد
يعني لأنفسهم يفرشون في القبر
ويقال في الجنة
ويقال فلأنفسهم يعملون ويستعدون
قوله عز وجل " ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات " ينصرف إلى قوله " يصدعون " يعني يتفرقون لكي يجزي الذين آمنوا " وعملوا الصالحات من فضله " يعني من رزقه
ويقال من ثوابه ويقال بفضله " إنه لا يحب الكافرين " بتوحيد الله عز وجل
ويقال لا يرضى دين الكافرين
سورة الروم 46 - 49(3/15)
16
سورة الروم 50 - 51
ثم قال عز وجل " ومن آياته " يعني ومن علامات وحدانيته أن يعرفوا توحيده بصنعه " أن يرسل الرياح مبشرات " يعني بشارات بالمطر
يعني يستبشر بها الناس فإذا كان الاستبشار به نسب الفعل إليه ثم قال " وليذيقكم من رحمته " يعني ليصيبكم من نعمته وهو المطر " ولتجري الفلك بأمره " يعني السفن تجري في البحر بالرياح بأمره " ولتبتغوا من فضله " يعني لتطلبوا في البحر من رزقه كل هذا بالرياح بأمره " ولعلكم تشكرون " رب هذه النعمة فتوحدوه
قوله عز وجل " ولقد أرسلنا من قبلك " يا محمد " رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات " بالأمر والنهي فكذبوهم كما كذبك قومك " فانتقمنا " بالعذاب " من الذين أجرموا " يعني كفروا " وكان حقا علينا " يعني واجبا علينا " نصر المؤمنين " بالنجاة مع رسولهم
وإنما هو وجوب الكرم لا وجوب اللزوم
ثم أخبر عن صنعة ليعتبروا فقال الله عز وجل " الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا " يعني تدفعه وتهيجه يقال ثار الغبار إذا ارتفع " فيبسطه في السماء كيف يشاء " يعني كيف يشاء الله عز وجل إن شاء بسطه مسيرة يوم أو أكثر " ويجعله كسفا " يعني قطعا " فترى الودق " يعني المطر " يخرج من خلاله " من وسط السحاب " فإذا أصاب به " يعني بالمطر " من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون " يعني يفرحون بنزول المطر عليهم
قرأ ابن عامر " كسفا " بالجزم
وقرأ الباقون " كسفا " بالنصب
ثم قال عز وجل " وإن كانوا من قبل أن بنزل عليهم من قبله " أي من قبل نزول المطر عليهم
" لمبلسين " يعني آيسين من المطر
وقال الأخفش تكرير قبل للتأكيد
وقال قطرب الأول للتنزيل والثاني للمطر
ثم قال " فانظر إلى آثار رحمة الله " يعني النبات من أثر المطر ألوان النبات منه الأخضر والأحمر والأصفر قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص وابن عامر " إلى آثار رحمة الله " بلفظ الجماعة
قرأ الباقون بلفظ الوحدان " إلى أثر " لأن الوحدان ينبئ عن الجمع
ثم قال " كيف يحيي الأرض بعد موتها " حين لم يكن فيها نبات " إن ذلك " يعني هذا الذي فعل " لمحيي الموتى " في الآخرة " وهو على كل شيء قدير "
ثم قال عز وجل " ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا " يعني الزرع متغيرا بعد خضرته " لظلوا من بعده يكفرون " يعني لصاروا وأصله العمل بالنهار
ويستعمل في موضع صار كقوله أصبح وأمسى يوضع موضع صار " من بعده يكفرون " يعني من بعد اصفراره يكفرون النعم
يقول لو فعلت ذلك لفعلوا هكذا
ويقال قوله " فرأوه " إشارة إلى النبات لأن الريح(3/16)
17
مؤنثة
وإنما أراد ما ينبت بالمطر
ويقال معناه أنهم يستبشرون إذا رأوا الغيث ويكفرون إذا انقطع عنهم النبات
سورة الروم 52 - 54
ثم ضرب لهم مثلا آخر فقال عز وجل " فإنك لا تسمع الموتى " فشبه الكفار بالموتى
فكما لا يسمع الموتى النداء فكذلك لا يسمع الكفار الدعاء إذا دعوا إلى الإيمان " ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين " يعني أن الأصم إذا كان مقبلا لا يسمع فكيف يسمع إذا ولى مدبرا فكذلك الكافر لا يسمع إذا كان يتصامم عند القراءة والقراءة ذكرناها في سورة النمل
ثم قال عز وجل " وما أنت بهادي العمي " إلى الإيمان " عن ضلالتهم " يعني لا تقدر أن توفقه وهو لا يرغب عن طاعتي في طلب الحق " إن تسمع " يعني ما تسمع " إلا من يؤمن بآياتنا " يعني بالقرآن " فهم مسلمون " يعني مخلصين
ثم أخبرهم عن خلق أنفسهم ليعتبروا ويتفكروا فيه فقال عز وجل " الله الذي خلقكم من ضعف " يعني من نطفة
ويقال صغيرا لا يعقل " ثم جعل من بعد ضعف قوة " يعني شدة بتمام خلقه " ثم جعل من بعد قوة ضعفا " يعني بعد الشباب الهرم " وشيبة " يعني شمطا
قرأ عاصم في رواية حفص وحمزة " من ضعف " بنصب الضاد وقرأ الباقون " من ضعف " بالضم وهما لغتان ومعناهما واحد
" يخلق ما يشاء " أي يحول الخلق كيف يشاء من الصورة " وهو العليم " بتحويل الخلق " القدير " يعني القادر على ذلك
سورة الروم 55 - 60
قوله عز وجل " ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون " يعني يحلف المشركون " ما لبثوا " يعني في القبور " غير ساعة " في الدنيا
يقول الله عز وجل كذلك كانوا يكذبون بالبعث كما أنهم كذبوا حيث قالوا " ما لبثوا "(3/17)
18
يعني في القبور غير ساعة ويقال " كذلك كانوا يؤفكون " لأنهم يقولون مرة " إن لبثم إلا عشرا " [ طه 103 ] ومرة يقولون " لبثنا يوما أو بعض يوم " [ الكهف 119 ] ومرة يقولون ما لبثنا غير ساعة فيقول هكذا كانوا في الدنيا
ثم قال عز وجل " وقال الذين أوتوا العلم والإيمان " يعني أكرموا بالعلم والإيمان " لقد لبثتم في كتاب الله " أي في علم الله
ويقال فيما كتب الله عز وجل
وقال مقاتل في الآية تقديم يعني " وقال الذين أوتوا العلم " في كتاب الله " والإيمان " وهو ملك الموت " لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث "
ويقال الذين أوتوا العلم بالكتاب وأوتوا " الإيمان " وهم العلماء
ثم قال " فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون " يعني لا تصدقون بهذا اليوم في الدنيا
ثم قال عز وجل " فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا " يعني أشركوا " معذرتهم " قرأ ابن كثير وأبو عمرو " ولا تنفع " بالتاء بلفظ التأنيث لأن لفظ المعذرة مؤنثة
وقرأ الباقون بالياء فينصرف إلى المعنى يعني عذرهم " ولا هم يستعتبون " يقال عتب يعتب إذا غضب عليه وأعتب يعتب إذا رجع عن ذنبه واستعتب إذا طلب منه الرجوع
يعني أنه لا يطلب منهم الرجوع في ذلك اليوم ليرجعوا
ثم قال عز وجل " ولقد ضربنا للناس " يعني وصفنا وبينا للناس " في هذا القرآن من كل مثل " أي شبه " ولئن جئتهم بآية " كما سألوا " ليقولن الذين كفروا " يعني أهل مكة " إن أنتم إلا مبطلون " يعني يقولون ما أنت إلا كاذب وليس هذا من الله عز وجل كما كذبوا بانشقاق القمر
يقال أبطل الرجل إذا جاء بالباطل
وأكذب إذا جاء بالكذب
فقال " إن أنتم إلا مبطلون " يعني كاذبين
" كذلك يطبع الله " يعني يختم الله عز وجل " على قلوب الذين لا يعلمون " يعني لا يصدقون بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم
قوله عز وجل " فاصبر " يا محمد " إن وعد الله حق " فيما وعد لكم من النصر على عدوكم وإظهار دين الإسلام حق
ويقال " فاصبر إن وعد الله حق " يعني صدق في العذاب " ولا يستخفنك " يعني يستنزلك عن البعث " الذين لا يوقنون " أي لا يصدقون
ويقال " لا يستخفنك " يعني لا يحملنك تكذيبهم على الخفة
يعني كن حليما صبورا وقورا
ويقال " لا يستخفنك " فتدعو عليهم بتعجيل العذاب فيهلك الذين لا يوقنون بالعذاب والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم(3/18)
19
سورة لقمان
مكية وهي ثلاثون وأربع آيات
سورة لقمان 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى " الم تلك آيات الكتاب " يعني هذه آيات الكتاب يعني القرآن " الحكيم " يعني المحكم من الباطل
ويقال أحكم حلاله وحرامه
ويقال محكم لا يرد عليه التناقض " هدى " يعني بيانا من الضلالة
ويقال هاديا " ورحمة " من العذاب " للمحسنين " الذين يحسنون العمل وهم المؤمنون لأن كل مؤمن محسن
قرأ حمزة " هدى ورحمة " بضم الهاء وقرأ الباقون بالنصب
فمن قرأ بالضم فعلى الإضمار
ومعناه هو هدى ورحمة على معنى تلك هدى ورحمة
ومن نصب فهو على الحال يعني تلك آيات الكتاب في حال الهداية والرحمة
ثم نعت المحسنين فقال عز وجل " الذين يقيمون الصلاة " يعني يقرون بها ويتمونها
" ويؤتون الزكاة " يعني يقرون بها ويؤدونها " وهم بالآخرة " يعني بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال " هم يوقنون " بأنها كائنة " أولئك " يعني أهل هذه الصفة " على هدى من ربهم " يعني بيان من ربهم بين لهم طريقهم ووفقهم لذلك " وأولئك هم المفلحون " يعني الفائزين بالخير
سورة لقمان 6 - 9
قوله عز وجل " ومن الناس من يشتري لهو الحديث " يعني من الناس ناس يشترون أباطيل الحديث وهو النضر بن الحارث كان يخرج إلى أرض فارس تاجرا ويشتري هنالك من أحاديثهم ويحمل إلى مكة ويقول لهم إن محمدا يحدثكم بالأحاديث طرفا منها وأنا أحدثكم بالحديث تاما " ليضل عن سبيل الله " يعني يصرف الناس عن دين عز وجل
ويقال يشتري جواري مغنيات(3/19)
20
قال أبو الليث رحمه الله حدثني الثقة بإسناده عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ولا التجارة فيهن وأكل أثمانهن حرام )
وفيه أنزل الله عز وجل هذه الآية " ومن الناس من يشتري لهو الحديث "
وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله " ومن الناس من يشتري لهو الحديث " قال شراء المغنية
ويقال " لهو الحديث " ههنا الشرك
يعني يختار الشرك على الإيمان ليضل عن سبيل الله عز وجل
يعني ليصرف الناس بذلك عن سبيل الله " بغير علم " يعني بغير حجة " ويتخذها هزوا " يعني سبيل الله عز وجل لأن السبيل مؤنث كقوله تعالى " قل هذه سبيلي " [ يوسف 108 ] ويقال " ويتخذها هزوا " يعني آيات القرآن التي ذكر في أول السورة استهزاء بها حيث جعلها بمنزلة حديث رستم واسفنديار
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " ليضل " بنصب الياء وقرأ الباقون بالضم
فمن قرأ بالنصب فمعناه ليضل بذلك عن سبيل الله يعني بترك دين الإسلام
ومن قرأ بالضم يعني يصرف الناس عن دين الإسلام ويصرف نفسه أيضا
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " ويتخذها " بنصب الذال وقرأ الباقون بالضم
فمن نصبها ردها على قوله " ليضل " يعني لكي يضل ولكي " يتخذها هزوا " ومن قرأ بالضم ردها على قوله " ومن الناس من يشتري لهو الحديث " " ويتخذها " وقال " أولئك لهم عذاب مهين " يهانون به
قوله عز وجل " وإذا تتلى عليه آياتنا " يعني إذا قرئ عليه القرآن " ولى مستكبرا " يعني أعرض مستكبرا عن الإيمان والقرآن " كأن لم يسمعها " يعني كأن لم يسمع ما في القرآن من الدلائل والعجائب " كأن في أذنيه وقرا " أي ثقلا فلا يسمع القرآن يعني يتصامم " فبشره بعذاب أليم "
فلما ذكر عقوبة الكافر ذكر على أثر ذلك ثواب المؤمنين فقال " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات " الطاعات فيما بينهم وبين ربهم " لهم جنات النعيم " في الآخرة " خالدين " يعني دائمين " فيها وعد الله حقا " أوجبه الله عز وجل لأهل هذه الصفة " وهو العزيز " في ملكه " الحكيم " حكم بالعذاب للكافرين والنعيم للمؤمنين(3/20)
21
سورة لقمان 10 - 11
ثم بين علامة وحدانيته فقال عز وجل " خلق السموات بغير عمد ترونها " أي خلقها بغير عمد ترونها بأعينكم
ويقال معناه " بغير عمد ترونها " أنتم يعني لها عمد ولكن لا ترونها
والعمد جماعة العماد
ثم قال " وألقى في الأرض رواسي " يعني الجبال الثوابت " أن تميد بكم " يعني لكيلا تزول بكم الأرض
ثم قال " وبث فيها " يعني وخلق فيها في الأرض ويقال وبسط فيها " من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم " وقد ذكرناه
قوله عز وجل " هذا خلق الله " يقول هذا الذي خلقت أنا " فأروني ماذا خلق الذين من دونه " يعني الذين تدعونه إلها من دون الله يعني الأصنام
ويقال " هذا خلق الله " يعني مخلوق الله ويقال هذا صنع الله
ثم قال " بل الظالمون " يعني الكافرون " في ضلال مبين " يعني في خطأ بين لا يعتبرون ولا يتفكرون فيما خلق الله عز وجل فيعبدونه ويقال " في ضلال مبين " يعني في خسران بين
سورة لقمان 12 - 14
قوله عز وجل " ولقد آتينا لقمان الحكمة " وقال مجاهد يعني أعطينا لقمان العقل والفقه والإصابة في غير نبوة
ويقال أيضا الحكمة والعقل والإصابة في القول
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ما زهد عبد في الدنيا إلا أثبت الله تعالى الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه وبصره عيوب الدنيا وعيوب نفسه
وإذا رأيتم أخاكم قد زهد في الدنيا فاقتربوا إليه فاستمعوا منه فإنه يلقى الحكمة )
وقال السدي " ولقد آتينا لقمان الحكمة " النبوة
وعن عكرمة قال كان لقمان نبيا
وعن وهب بن مبنه قال كان لقمان رجلا حكيما ولم يكن نبيا
وروي عن ابن عباس قال كان لقمان عبدا حبشيا ويقال إن أول ما ظهرت حكمته أن مولاه قال له يوما اذبح لنا هذه الشاة فذبحها
ثم قال أخرج منها أطيب مضغتين فيها(3/21)
22
فأخرج اللسان والقلب
ثم مكث ما شاء الله ثم قال له اذبح لنا هذه الشاة فذبحها فقال أخرج لنا أخبث مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب
فسأله عن ذلك فقال لقمان إنه ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا
وذكر عن وهب بن منبه أن لقمان خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة
فقال فبينما كان يعظ الناس يوما وهم مجتمعون عليه إذ مر به عظيم من عظماء بني إسرائيل
فقال ما هذه الجماعة فقيل له جماعة اجتمعت على لقمان الحكيم فأقبل إليه فقال له ألست عبد بني فلان فقال نعم
فقال فما الذي بلغ بك ما أرى فقال صدق الحديث وأداء الأمانة وتركي ما لا يعنيني
فانصرف عنه متعجبا وتركه
ثم قال " أن اشكر لله " يعني جعلتك حكيما من حكماء الله " أن أشكر لله " تعالى ويقال معناه " ولقد آتينا لقمان الحكمة " وقلنا له اشكر لله بما أعطاك من الحكمة " ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه " يعني ثواب الشكر لنفسه " ومن كفر " جحد فلا يوحد ربه " فإن الله غني " عن خلقه وعن شكرهم " حميد " في فعاله
قوله عز وجل " وإذ قال لقمان لابنه " قال مقاتل كان اسم ابنه أنعم " وهو يعظه " ويقال معناه قال لابنه واعظا " يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " يعني ذنب عظيم لا يغفر أبدا
وكان ابنه وامرأته كافرين فما زال بهما حتى أسلما
وقال مقاتل زعموا أنه كان ابن خالة أيوب
وذكر القاسم بن عباد بإسناده عن عبد الله بن دينار أن لقمان قدم من سفر فلقيه غلامه قال ما فعل أبي قال قد مات
فقال ملكت أمري
قال وما فعلت أمي قال قد ماتت
قال ذهب همي
قال فما فعلت أختي قال قد ماتت قال سترت عورتي
قال فما فعلت امرأتي قال قد ماتت فقال جدد فراشي
قال فما فعل أخي قال مات قال انقطع ظهري
وفي رواية أخرى قال ما فعل أخي قال مات فقال انكسر جناحي
ثم قال فما فعل ابني قال مات فقال انصدع قلبي
وقال وهب بن منبه كان لقمان عبدا حبشيا لرجل من بني إسرائيل في زمن داود عليه السلام فأعتقه وكان حبشيا أسود غليظ الشفتين والمنخرين غليظ العضدين والساقين وكان رجلا صالحا أبيض القلب وليس يصطفي الله عز وجل عباده على الحسن والجمال وإنما يصطفيهم على ما يعلم من غائب أمرهم
قرأ عامر في رواية حفص وابن كثير في إحدى الروايتين " يا بني " بالنصب وقرأ الباقون بالكسر وقد ذكرناه
قوله عز وجل " ووصينا الإنسان " فكأنه يقول آمركم بما أمر به لقمان لابنه بأن لا تشركوا بالله شيئا وآمركم بأن تحسنوا إلى الوالدين فذلك قوله عز وجل " ووصينا الإنسان " يعني أمرناه بالإحسان " بوالديه " بعني أن يبر والديه(3/22)
23
ثم ذكر حق الأم وما لقيت من أمر الولد من الشدة فقال " حملته أمه وهنا على وهن " يعني ضعفا على ضعف لأن الحمل في الابتداء أيسر عليها
فكلما ازداد الحمل يزيدها ضعفا على ضعف " وفصاله في عامين " يعني فطامه بعد سنتين من وقت الولادة " أن اشكر لي ولوالديك " يعني وصيناه وأمرناه بأن اشكر لي بما هديتك للإسلام واشكر لوالديك بما فعلا إليك ثم قال " إلي المصير " فأجازيك بعملك
سورة لقمان 15 - 19
ثم قال عز وجل " وإن جاهداك " يعني وإن قاتلاك يعني أن حرمة الوالدين وإن كانت عظيمة فلا يجوز للولد أن يطيعهما في المعصية
فقال " وإن جاهداك " يعني وإن قاتلاك
ويقال وإن أراداك " على أن تشرك بي ما ليس لك به علم " يعني ما ليس لك به حجة بأن معي شريكا " فلا تطعمها " في الشرك " وصاحبهما في الدنيا معروفا " يعني عاشرهما في الدنيا معروفا بالإحسان وإنما سمي الإحسان معروفا لأنه يعرفه كل واحد
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( حسن المصاحبة أن يطعمهما إذا جاعا وأن يكسوهما إذا عريا )
ثم قال " واتبع سبيل من أناب إلي " يعني اتبع دين من أقبل إلي بالطاعة
" ثم إلي مرجعكم " في الآخرة
وقال بعضهم إنما يتم الكلام عند قوله " واتبع سبيل من أناب إلي " يعني دين من أقبل علي الطاعة
ثم استأنف الكلام فقال " ثم إلي مرجعكم " تكرارا على وجه التأكيد " فأنبئكم بما كنتم تعلمون " يعني فأجازيكم بها
ثم رجع إلى حديث لقمان فقال " يا بني إنها إن تك " قال مقاتل وذلك أن ابن لقمان قال لأبيه يا أبتاه إن عملت بالخطيئة حيث لا يراني أحد فكيف يعلمها الله سبحانه وتعالى فرد عليه لقمان وقال " يا بني إنها إن تك " يعني الخطيئة " إن تك " " مثقال حبة من خردل " يعني وزن خردلة " فتكن في صخرة " أي الصخرة التي هي أسفل الأرضين
وقال بعضهم أراد بها كل صخرة لأنه قال بلفظ النكرة
يعني ما في جوف الصخرة الصماء
وقال مقاتل هي الصخرة التي في أسفل الأرض وهي خضراء مجوفة
ثم قال " أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله " يعني يجازي بها
ويقال " يأت بها الله " عند الميزان فيجازيه بها
ويقال هذا مثل لأعمال العباد " يأت بها الله " يعني يعطيه(3/23)
24
ثوابها عز وجل كقوله عز وجل " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره " [ الزلزلة7 ] يعني يرى ثوابه
قرأ نافع " مثقال " بضم اللام
وقرأ الباقون بالنصب
فمن قرأه بالضم جعله اسم يكن
ومن قرأ بالنصب جعله خبرا والاسم فيه مضمر ومعناه إن تكن صغيرة قدر مثقال حبة
وإنما قال " إن تك " بلفظ التأنيث لأن المثقال أضيف إلى الحبة فكان المعنى للحبة
وقيل أراد به الخطيئة
ومن قرأ بالضم جعله اسم تكن
ثم قال " إن الله لطيف خبير " يعني " لطيف " باستخراج تلك الحبة " خبير " بمكانها
وقال أهل اللغة اللطيف في اللغة يعبر به عن أشياء
يقال للشيء الرقيق وللشيء الحسن لطيف
وللشيء الصغير لطيف
ويقال للمشفق لطيف
ثم قال عز وجل " يا بني أقم الصلاة " يعني أتم الصلاة " وأمر بالمعروف " يعني التوحيد
ويقال أظهر العدل " وانه عن المنكر " وهو كل ما لا يعرف في شريعة ولا سنة ولا معروف في العقل
ثم قال " واصبر على ما أصابك " يعني إذا أمرت بالمعروف أو نهيت عن المنكر فأصابك من ذلك ذل أو هوان أو شدة فاصبر على ذلك ف " إن ذلك من عزم الأمور " يعني من حق الأمور
ويقال من واجب الأمور
وصارت هذه الآية بيانا لهذه الأمة وإذنا لهم أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ينبغي أن يصبر على ما يصيبه في ذلك إذا كان أمره ونهيه لوجه الله عز وجل لأنه قد أصابه ذلك في ذات الله عز وجل
ثم قال تعالى " ولا تصعر خدك للناس " قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم " ولا تصعر " بالتشديد بغير ألف وقرأ الباقون " ولا تصاعر " بالألف والتخفيف وهما لغتان ومعناهما واحد
يقال صعر خده وصاعره ومعناهما الإعراض على جهة الكبر
يعني لا تعرض بوجهك عن الناس متكبرا
وقال مقاتل لا تعرض وجهك عن فقراء المسلمين وهكذا قال الكلبي
وقال العتبي أصله الميل ويقال رجل أصعر إذا كان به داء فيميل رأسه وعنقه من ذلك إلى أحد الجانبين
ويقال معناه لا تكلم أحدا وأنت معرض عنه فإن ذلك من الجفاء والإذاء
ثم قال " ولا تمش في الأرض مرحا " يعني لا تمشي بالخيلاء والمرح والبطر والأشر كله واحد وهو أن يعظم نفسه في النعم " إن الله لا يحب كل مختال فخور " يعني مختالا في مشيته فخورا في نعم الله عز وجل
ثم قال عز وجل " واقصد في مشيك " يعني تواضع لله تعالى في المشي ولا تختل في مشيتك
ويقال أسرع في مشيك لأن الإبطاء في المشي يكون من الخيلاء
" واغضض من صوتك " يعني اخفض كلامك
و " من " صلة في الكلام اخفض كلامك ولا تكن سفيها
ثم ضرب للصوت الرفيع مثلا فقال " إن أنكر الأصوات " يعني أقبح الأصوات " لصوت الحمير " لشدة أصواتها
وإنما ذكر صوت الحمير لأن صوت الحمار كان هو(3/24)
25
المعروف عند العرب وسائر الناس بالقبح وإن كان قد يكون ما سواه أقبح منه في بعض الحيوان وإنما ضرب الله المثل بما هو المعروف عند الناس
سورة لقمان 20
قوله عز وجل " ألم تروا أن الله سخر لكم " يعني قل يا محمد لأهل مكة " ألم تروا أن الله " ذلل لكم " ما في السموات وما في الأرض " كل ذلك من الله تعالى
يعني ومن قدرة الله ورحمته وحده لا شريك له " وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة " فالظاهرة التي يراها الناس والباطنة ما غاب عن الناس
ويقال النعم الظاهرة شهادة أن لا إله إلا الله وأما الباطنة فالمعروفة بالقلب
وقال مقاتل " ظاهرة " تسوية الخلق والرزق و " باطنة " تستر عن العيون وعن ابن عباس قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله " وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة " فقال ( الظاهرة الإسلام والباطنة ما ستر سوأتك )
قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص " نعمه " بنصب العين والميم وضم الهاء
وقرأ الباقون " نعمه " بجزم العين ونصب الهاء والميم
فمن قرأ " نعمه " بالجزم فهي نعمة واحدة وهي ما أعطاه الله من توحيده
ومن قرأ " نعمه " فهو على معنى جميع ما أنعم الله عز وجل عليهم
ثم قال " ومن الناس من يجادل في الله " يعني يخاصم في دين الله عز وجل " بغير علم " يعني بغير حجة وهو النضر بن الحارث " ولا هدى " بغير بيان من الله عز وجل " ولا كتاب منير " يعني مضيئا فيه حجة
سورة لقمان 21 - 25
قوله عز وجل " وإذا قيل لهم " يعني لكفار مكة " اتبعوا ما أنزل الله " على نبيه من القرآن فآمنوا به وأحلو حلاله وحرموا حرامه " قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا " يقول الله عز وجل " أو لو كان الشيطان " يعني أو ليس الشيطان " يدعوهم إلى عذاب السعير " يعني يدعوهم إلى تقليد آبائهم بغير حجة فيصيروا إلى عذاب السعير(3/25)
26
قوله عز وجل " ومن يسلم وجهه إلى الله " أي يخلص دينه
ويقال يخلص عمله لله " وهو محسن " يعني موحد
ويقال ذكر الوجه وأراد به هو يعني ومن أخلص نفسه لله عز وجل بالتوحيد وبأعمال نفسه وهو محسن في عمله
قرأ عبد الرحمن السلمي " ومن يسلم " بنصب السين وتشديد اللام من سلم يسلم
وقراءة العامة " ومن يسلم " بجزم السين وتخفيف اللام من سلم يسلم " فقد استمسك بالعروة الوثقى " يعني قد أخذ بالثقة " وإلى الله عاقبة الأمور " يعني إليه مرجع وعواقب الأمور
ويقال مصير العباد إليه فيجازيهم بأعمالهم .
قوله عز وجل " ومن كفر فلا يحزنك كفره " وذلك أنهم لما كذبوا بالقرآن وقالوا إنه يقول من تلقاء نفسه شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فنزل " ومن كفر " بالقرآن " فلا يحزنك كفره " " إلينا مرجعهم " يعني إلينا مصيرهم " فننبئهم بما عملوا " يعني يجازيهم بجحودهم " إن الله عليم بذات الصدور " بما في قلبك من الحزن مما قالوا
وقال الكلبي " إن الله عليم بذات الصدور " من خير أو شر
ثم قال عز وجل " نمتعهم قليلا " يعني يسيرا في الدنيا فكل ما هو فان فهو قليل " ثم نضطرهم " يعني نلجئهم " إلى عذاب غليظ " يعني شديد لا يفتر عنهم
قوله عز وجل " ولئن سألتهم " يعني الكفار " من خلق السموات والأرض ليقولون الله قل الحمد لله " على إقراركم " بل أكثرهم " يعني الكفار " لا يعلمون " يعني لا يصدقون
سورة لقمان 26 - 28
ثم قال عز وجل " لله ما في السموات والأرض " من الخلق " إن الله هو الغني " عن عبادة خلقه " الحميد " في فعاله
ويقال حميد أي محمود يعني يحمد ويشكر
قوله عز وجل " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام " الآية
قال قتادة ذلك أن المشركين قالوا هذا كلام يوشك أن ينفد وينقطع
فنزل قوله تعالى " ولو أن ما في الأرض " الآية
قال ابن عباس في رواية أبي صالح إن اليهود أعداء الله
سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح فنزل " قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلى قليلا " [ الإسراء 85 ] قالوا كيف تقول هذا وأنت تزعم أن من أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
فكيف يجتمع علم قليل وخير كثير فنزل " ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام " يقول لو أن تبرى الشجر وتجعل أقلاما " والبحر يمده من بعده سبعة أبحر " تكون كلها مدادا يكتب بها علم الله عز وجل لانكسرت الأقلام ولنفد المداد ولم ينفد علم الله تعالى فما أعطاكم الله من العلم قليل فيما عنده من العلم
قرأ أبو عمرو " والبحر يمده " بنصب الراء وقرأ الباقون بالضم
فمن قرأ بالنصب نصبه لأن معناه ولو أن ما في الأرض ولو أن البحر يمده
ومن قرأ بالضم فهو على
الاستئناف " والبحر(3/26)
27
يمده ) يعني أمد إلى كل بحر مثله ما نفدت " ما نفدت كلمات الله " يعني علمه وعجائبه
ويقال معاني كلمات الله
لأن لكل آية ولكل كلمة من المعاني ما لا يدرك ولا يحصى
ويقال " ما نفدت كلمات الله " لأن كلمات الله لا تدرك ما تكلم به في الأزل
ثم قال " إن الله عزيز " بالنقمة على الكافر " حكيم " حكم أنه ليس لعلمه غاية وأن العلم للخلق غاية
ثم قال عز وجل " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة " قال مقاتل نزلت في أبي بن خلف وابني أسد منبه ونبيه كلاهما ابني أسد قالوا إن الله عز وجل خلقنا أطوارا نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم يقول إنه نبعث في ساعة واحدة فقال الله عز وجل " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة " أيها الناس جميعا
يقال ههنا مضمر
فكأنه يقول إلا كخلق نفس واحدة وكبعث نفس واحدة
ويقال معناه قدرته على بعث الخلق أجمعين وعلى خلق الخلق أجمعين كقدرته على خلق نفس واحدة
ويقال " إلا كنفس واحدة " أي إلا كخلق آدم عليه السلام
ثم قال " إن الله سميع " لمقالتهم " بصير " بهم
سورة لقمان 29 - 32
قوله عز وجل " ألم تر أن الله يولج الليل في النهار " يعني انتقاص كل واحد منها بصاحبه
ويقال يدخل الليل في النهار والنهار في الليل " وسخر الشمس والقمر " يعني وذللهما لبني آدم " كل يجري لأجل مسمى " يعني يجريان في السماء إلى يوم القيامة وهو الأجل المسمى
ويقال يجري كل واحد منهما إلى أجله في الغروب حتى ينتهى إلى وقت نهايته " وأن الله بما تعملون خبير "
روي عن أبي عمرو في إحدى الروايتين أنه قرأ " يعملون " بالياء بلفظ المغايبة وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة
ثم قال عز وجل " ذلك " يعني هذا الذي ذكر من صنع الله عز وجل في النهار والليل والشمس والقمر " بأن الله هو الحق " يعني ليعلموا أن الله هو الحق وأن عبادته هي الحق " وأن ما يدعون من دونه الباطل " يعني أن ما تدعون من دون الله عز وجل من الآلهة لا يقدرون على شيء من ذلك يعني لا تنفعك عبادتها
قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم في رواية(3/27)
28
حفص " وأن ما يدعون " بالياء على معنى الخبر وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة لهم
ثم عظم نفسه فقال تعالى " وأن الله هو العلي الكبير " يعني ليعلموا أن الله هو الرفيع الكبير
يعني العظيم وهو الذي يعظم ويحمد
ثم بين قدرته فقال عز وجل " ألم تر أن الفلك " يعني السفن " تجري في البحر بنعمة الله " أي برحمة الله لمنفعة الخلق " ليريكم من آياته " يعني من علامات وحدانيته
ويقال من عجائبه
" إن في ذلك " يعني إن الذي ترون في البحر " لآيات " يعني لعبرات " لكل صبار " على أمر الله عز وجل عند البلاء
ويقال الذي يصبر في الأحوال كلها " شكورا " لله عز وجل في نعمه
ويقال " لكل صبار شكور " يعني لكل مؤمن موحد
وإنما وصفه بأفضل خصلتين في المؤمن لأن أفضل خصال المؤمن الصبر والشكر
والصبار هو للمبالغة في الصبر
والشكور على ميزان فعول هو للمبالغة في الشكر
وروي عن قتادة أنه قال إن أحب العباد إلى الله عز وجل من إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر
فأعلم الله عز وجل أن المتفكر المعتبر في خلق السموات والأرض هو الصبار والشكور
قوله عز وجل " وإذا غشيهم موج كالظلل " يعني أتاهم موج كما يقال من غشي سدد السلطان يجلس ويقم
ويقال علاهم
ويقال غطاهم موج كالظلل يعني كالسحاب
ويقال كالجبال وهو جمع ظلة
يعني يأتيهم الموج بعضه فوق بعض وله سواد لكثرته
" دعوا الله مخلصين له الدين " يعني أخلصوا له بالدعوة " فلما نجاهم إلى البر " يعني إلى القرار " فمنهم مقتصد " يعني فمنهم من يؤمن ومنهم من يكفر ولا يؤمن .
ثم ذكر المشرك الذي ينقض العهد فقال " وما يجحد بآياتنا " يعني لا يترك العهد " إلا كل ختار كفور " يعني غدار بالعهد
" كفور " لله عز وجل في نعمه
وقال القتبي الختر أقبح الغدر
" كفور " على ميزان فعول
وإنما يذكر هذا اللفظ إذا صار عادة له كما يقال ظلوم
وقد ذكر الكافر بأقبح خصلتين فيه كما ذكر المؤمن بأحسن خصلتين فيه وهو قوله " صبار شكور "
سورة لقمان 33 - 34
قوله عز وجل " يا أيها الناس اتقوا ربكم " يعني وحدوه وأطيعوه " واخشوا " يعني واخشوا عذاب يوم " يوما لا يجزي والد عن ولده " يعني ولا ينفع والد عن ولده
ويقال لا(3/28)
29
يقضي والد عن ولده ما عليه " ولا مولود " يعني ولا الولد " هو جاز عن والده شيئا " يعني لا يقدر الولد أن ينفع والده شيئا وهذا في الكفار خاصة
وأما المؤمن فإنه ينفع كما قال في آية أخرى " ألحقنا بهم ذريتهم " [ الطور21 ]
ثم قال " إن وعد الله حق " يعني البعث بعد الموت كائن لا خلف فيه " فلا تغرنكم الحياة الدنيا " يعني لا يغرنكم ما في الدنيا من زينتها وزهرتها فتركنوا إليها وتطمئنوا بها وتتركوا الآخرة والعمل لها " ولا يغرنكم بالله الغرور " يعني لا يغرنكم الشيطان عن طاعة الله عز وجل
ويقال كل مضل هو الشيطان
وقال أهل اللغة " الغرور " بنصب الغين هو الشيطان
وبالضم أباطيل الدنيا
قوله عز وجل " إن الله عنده علم الساعة " قال مقاتل نزلت في رجل يقال له الوليد بن عمرو من أهل البادية أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أرضنا أجدبت فمتى ينزل الغيث وتركت امرأتي حبلى فماذا تلد وقد علمت أين ولدت فبأي أرض أموت وقد علمت ما عملت اليوم فماذا أنا عامل غدا ومتى الساعة فنزل " إن الله عنده علم الساعة " يعني علم القيامة لا يعلمه غيره " وينزل الغيث " يعني وهو الذي ينزل الغيث متى شاء " ويعلم ما في الأرحام " من ذكر وأنثى " وما تدري نفس ماذا تكسب غدا " أي ماذا تعمل غدا " وما تدري نفس بأي أرض تموت " في سهل أو جبل
وروي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله فقرأ " إن الله عنده علم الساعة " ) الآية
وقال ابن عباس كل شيء أوتي نبيكم إلا مفاتيح الغيب الخمس " إن الله عنده علم الساعة " إلى آخر السورة
وقالت عائشة رضي الله عنها ( من حدثكم بأنه يعلم ما في غد فقد كذب )
ثم قرأت " وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت " يعني بأي مكان تموت وبأي قدم تؤخذ وبأي نفس ينقضي أجله
وروى شهر بن حوشب قال دخل ملك الموت على سليمان بن داود عليهما السلام فقال رجل من جلسائه لسليمان من هذا فقال هو ملك الموت
فقال لقد رأيته ينظر إلي كأنه يريدني فأريد أن تحملني على الريح حتى تلقيني بالهند ففعل
ثم أتى ملك الموت إلى سليمان فسأله عن نظره ذلك فقال إني كنت أعجب أني كنت أمرت أن أقبض روحه في آخر النهار بالهند وهو عندك
ثم قال تعالى " إن الله عليم خبير " يعني بهذه الأشياء التي ذكرها(3/29)
30
سورة السجدة
مكية وهي ثلاثون وتسع آيات
سورة السجدة 1 - 5
قوله تبارك وتعالى " آلم تنزيل الكتاب " يعني المنزل من الله عز وجل القرآن على معنى التقديم
يعني أن هذا الكتاب تنزيل من الله عز وجل و " الكتاب " هو التنزيل
ويقال معناه نزل به جبريل عليه السلام بهذا التنزيل " الكتاب " يعني القرآن " لا ريب فيه " يعني لا شك فيه أنه " من رب العالمين "
فلما نزله جبريل عليه السلام جحده قريش وقالوا إنما يقوله من تلقاء نفسه
فنزل " أم يقولون افتراه " يعني أيقولون اختلقه من ذات نفسه
وقال أهل اللغة فرى يفري إذا قطعه للإصلاح وأفرى يفري إذا قطعه للاستهلاك
فأكذبهم الله عز وجل فقال " بل هو الحق من ربك " يعني القرآن
ولو لم يكن من الله عز وجل لم يكن حقا وكان باطلا ويقال " بل هو الحق من ربك " يعني نزل من عند ربك " لتنذر قوما " يعني كفار قريش " ما أتاهم من نذير من قبلك " يعني لم يأتهم في عصرك ولكن أتاهم من قبل لأن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام كانوا إلى جميع الناس
ويقال معناه لم يشاهدوا نذيرا قبلك وإنما الإنذار قد كان سبق لأنه قال " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " [ الإسراء 15 ] وقد سبق الرسل
ويقال " ما آتاهم من نذير من قبلك " يعني من قومهم من قريش
ثم قال " لعلهم يهتدون " يعني يهتدون من الضلالة وأصل الإنذار هو الإعلام يقال أنذر العدو إذا أعلمه
ثم دل على نفسه بصنعه فقال عز وجل " الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما " من السحاب والرياح وغيره " في ستة أيام " ولو شاء خلقها في ساعة واحدة لفعل ولكنه خلقها في ستة أيام ليدل على التأني
ويقال خلقها في ستة أيام لتكون الأيام أصلا عند الناس " ثم استوى على العرش " فيها تقديم يعني خلق العرش قبل السموات
ويقال علا فوق العرش(3/30)
31
من غير أن يوصف بالاستقرار على العرش ويقال استوى أمره على بريته فوق عرشه كما استوى أمره وسلطانه وعظمته دون عرشه وسمائه
( ما لكم من دونه من ولي ) يعني من قريب ينفعكم في الآخرة " ولا شفيع " من الملائكة " أفلا تتذكرون " يعني أفلا تتعظون فيما ذكره من صفته فتوحدونه
ثم قال عز وجل " يدبر الأمر " يقول يقضي القضاء " من السماء إلى الأرض " يعني يبعث الملائكة من السماء بالقضاء إلى الأرض " ثم يعرج إليه " يعني يصعد إليه
قال أبو الليث رحمه الله حدثنا عمرو بن محمد بإسناده عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن سابط
قال يدبر أمر الدنيا أربعة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل
أما جبرائيل فموكل بالرياح والجنود وأما ميكائيل فموكل بالنبات والقطر وأما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمور عليهم فذلك قوله عز وجل " يدبر الأمر من السماء إلى الأرض "
ثم قال " ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره " يعني في يوم واحد من أيام الدنيا كان مقدار ذلك اليوم " ألف سنة مما تعدون " أنتم
وقال القتبي معناه يقضي في السماء وينزله مع الملائكة إلى الأرض فتوقعه الملائكة عليهم السلام في الأرض
" ثم يعرج إلى السماء " فيكون نزولها ورجوعها في يوم واحد مقدار المسير على قدر سيرنا " ألف سنة " لأن بعد ما بين السماء والأرض خمسمائة عام فيكون نزوله وصعوده ألف سنة في يوم واحد
وروى جويبر عن الضحاك " في يوم كان مقداره ألف سنة " قال يصعد الملك إلى السماء مسيرة خمسمائة عام ويهبط مسيرة خمسمائة عام في كل يوم من أيامكم وهو مسيرة ألف سنة
سورة السجدة 6 - 9
ثم قال عز وجل " ذلك عالم الغيب " يعني ذلك الذي يفعل هذا هو " عالم الغيب والشهادة " يعني ما غاب من العباد وما شاهدوه
ويقال عالم بما كان وبما يكون
ويقال عالم السر والعلانية
ويقال عالم بأمر الآخرة وأمر الدنيا " العزيز " في ملكه " الرحيم " بخلقه
قوله عز وجل " الذي أحسن كل شيء خلقه " قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر " خلقه " بجزم اللام وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالجزم فمعناه الذي أحسن كل شيء(3/31)
32
وروي عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال الإنسان في خلقه حسن والخنزير في خلقه حسن وكل شيء في خلقه حسن
ومن قرأ بالنصب فعلى فعل الماضي يعني خلق كل شيء على إرادته وخلق الإنسان في أحسن تقويم
ويقال الذي علم خلق كل شيء خلقه
يعني علم كيف خلق
ويقال هل تحسن شيئا
يعني تعلم
ومعناه الذي علم خلق كل شيء خلقه
ويقال الحسن عبارة عن الزينة
يعني الذي زين كل شيء خلقه وأتقنه كما قال " صنع الله الذي أتقن كل شيء " [ النمل 88 ]
ثم قال " وبدأ خلق الإنسان من طين " يعني خلق آدم عليه السلام من طين من أديم الأرض " ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين " يعني خلق ذريته من سلالة من النطفة التي تنسل من الإنسان وقال أهل اللغة كل شيء على ميزان فعالة فهو ما فضل من شيء
يقال نشارة ونخالة
ثم رجع إلى آدم عليه السلام فقال عز وجل " ثم سواه " يعني سوى خلقه " ونفخ فيه من روحه "
ثم رجع إلى ذريته فقال " وجعل لكم السمع والأبصار " ويقال هذا كله في صفة الذرية يعني ثم " جعل نسله من سلالة من ماء مهين " يعني من نطفة ضعيفة " ثم سواه " يعني جمع خلقه في رحم أمه " ونفخ فيه من روحه " يعني جعل فيه الروح بأمره " وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة "
ثم قال " قليلا ما تشكرون " يعني لا تشكرون رب هذه النعم على حسن خلقكم فتوحدوه
فلا تستعملوا سمعكم وأفئدتكم إلا في طاعتي
ويقال " ما " ههنا صلة فكأنه يقول تشكرونه قليلا
ويقال " ما " بمعنى الذي فكأنه قال فقليل الذي تشكرون وقد يكون الكلام بعضه بلفظ المغايبة وبعضه بلفظ المخاطبة كما قال ها هنا " ثم جعل نسله " " ثم سواه ونفخ فيه من روحه " بلفظ المغايبة
ثم قال " وجعل لكم " بلفظ المخاطبة
سورة السجدة 10 - 12
ثم قال عز وجل " وقالوا أئذا ضللنا في الأرض " يعني هلكنا وصرنا ترابا " أئنا لفي خلق جديد " يعني أنبعث بعد الموت
وأصله ضل الماء في اللبن إذا غاب وهلك
وروي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قرأ " أئذا صللنا " بالصاد وتفسيره النتن
يقال صل اللحم إذا أنتن
وقراءة العامة بالضاد المعجمة أي هلكنا
وقرأ ابن عامر " وقالوا إذا ضللنا " بغير استفهام " أئنا لفي خلق جديد " على وجه الاستفهام
قال لأنهم كانوا يقرون بالموت(3/32)
33
ويشاهدونه
وإنما أنكروا البعث
ويكون الاستفهام في البعث دون الموت
ثم قال عز وجل " بل هم بلقاء ربهم كافرون " يعني بالبعث جاحدون فلا يؤمنون به
قوله عز وجل " قل يتوفاكم " يعني يقبض أرواحكم " ملك الموت " واسمه عزرائيل وروي في الخبر أن له وجوها أربعة فوجه من نار يقبض به أرواح الكفار ووجه من ظلمة يقبض به أرواح المنافقين ووجه من لحم يقبض به أرواح المؤمنين ووجه من نور يقبض به أرواح الأنبياء والصديقين عليهم السلام والدنيا بين يديه كالكف وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب
فإذا قبض روح المؤمن دفعها إلى ملائكة الرحمة وإذا قبض روح الكافر دفعها إلى ملائكة العذاب
وروى جابر بن زيد أن ملك الموت كان يقبض الأرواح بغير وجه فأقبل الناس يسبونه ويلعنونه
فشكى إلى ربه عز وجل فوضع الله عز وجل الأمراض والأوجاع
فقالوا مات فلان بكذا وكذا " الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون " بعد الموت أحياء فيجازيكم بأعمالكم
ثم قال عز وجل " ولو ترى إذ المجرمون " يعني المشركين " ناكسو رؤوسهم عند ربهم " استحياء من ربهم بأعمالهم يقولون " ربنا أبصرنا " الهدى " وسمعنا " الإيمان
ويقال " أبصرنا " يوم القيامة بالمعاينة " وسمعنا " يعني أيقنوا حين لم ينفعهم يقينهم " فارجعنا " إلى الدنيا " نعمل صالحا إنا موقنون " يعني أيقنا بالقيامة
ويقال " إنا موقنون " يعني قد آمنا ولكن لا ينفعهم
وقد حذف الجواب لأن في الكلام دليلا ومعناه ولو ترى يا محمد ذلك لرأيت ما تعتبر به غاية الاعتبار
سورة السجدة 13 - 14
يقول الله تعالى " ولو شئنا لأتينا " يعني لأعطينا " كل نفس هداها ولكن حق القول مني " يعني وجب العذاب مني
ويقال ولكن سبق القول بالعذاب وهو قوله " لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " من كفار الإنس ومن كفار الجن أجمعين
فتقول لهم الخزنة " فذوقوا بما نسيتم " يعني ذوقوا العذاب بما تركتم " لقاء يومكم هذا " يعني تركتم العمل بحضور يومكم هذا
قال القتبي النسيان ضد الحفظ والنسيان الترك
فقوله " فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا " أي تركتم الإيمان بلقاء هذا اليوم " إنا نسيناكم " يعني تركناكم في العذاب
ويقال نجازيكم بنسيانكم كما قال الله عز وجل " نسوا الله فنسيهم " [ التوبة67 ] " وذوقوا عذاب الخلد " الذي لا ينقطع أبدا " بما كنتم تعملون " من الكفر(3/33)
34
سورة السجدة 15 - 20
ثم قال عز وجل " إنما يؤمن بآياتنا " يعني يصدق بآياتنا
يعني بالعذاب " الذين إذا ذكروا بها " يعني وعظوا بها
يعني بآيات الله عز وجل " خروا سجدا " على وجوههم " وسبحوا بحمد ربهم " يقول وذكروا الله عز وجل بأمره " وهم لا يستكبرون " عن السجود كفعل الكفار
ويقال " الذين إذا ذكروا " يعني دعوا إلى الصلوات الخمس أتوها فصلوها ولا يستكبرون عنها
قوله عز وجل " تتجافى جنوبهم " قال مقاتل نزلت في الأنصار كانت منازلهم بعيدة من المسجد فإذا صلوا المغرب كرهوا أن ينصرفوا
مخافة أن تفوتهم صلاة العشاء في الجماعة فكانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء
ويقال الذي يصلي العشاء والفجر بجماعة
وقال أنس بن مالك الذي يصلي ما بين المغرب والعشاء وهو صلاة الليل كما جاء في الخبر
قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ركعة في الليل خير من ألف ركعة في النهار )
قال أبو الليث رحمه الله حدثنا الخليل بن أحمد
قال حدثنا السراج
قال حدثنا إبراهيم بن إسحق عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد العبسية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( يحشر الناس يوم القيامة في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينقدهم البصر ثم ينادي مناد سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم فأين الذين يحمدون الله عز وجل على كل حال فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب
ثم ينادي مناد أين الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب
ثم ينادي مناد أين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب
ثم يؤمر بسائر الناس فيحاسبون )
فذلك قوله عز وجل " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " يعني يصلون(3/34)
35
بالليل ويقومون عن فرشهم " يدعون ربهم خوفا وطعما " " خوفا " من عذابه " وطمعا " في رحمته " ومما رزقناهم ينفقون " يعني يتصدقون من أموالهم
يعني صدقة التطوع لأنه قرية كصلاة التطوع
ويقال يعني الزكاة المفروضة
والأول أراد به العشاء والفجر
ثم بين ثوابهم فقال عز وجل " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم " يعني ما أعد لهم " من قرة أعين " يعني من الثواب في الجنة
ويقال من طيبة النفس
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( يقول الله عز وجل أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )
قال أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين "
قال مقاتل قيل لابن عباس ما الذي أخفي لهم قال في جنة عدن ما لم يكن في جناتهم
قرأ حمزة " ما أخفي " بسكون الياء
وقرأ الباقون بنصبها
فمن قرأ بالسكون فهو على معنى الخبر عن نفسه فكأنه قال " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم " يعني الجزاء الذي أخفي لهم ويشهد قراءة عبد الله بن مسعود " ما يخفى لهم " ومن قرأ بالنصب فهو على فعل ما لم يسم فاعله على معنى أفعل
وقرئ في الشاذ " وما أخفي " يعني وما أخفى الله عز وجل لهم
ثم قال " جزاء بما كانوا يعملون " يعني جزاء لأعمالهم
قوله عز وجل " أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون " يعني لا يستوون عند الله عز وجل في الفضل
نزلت الآية في علي بن أبي طالب رضي الله عنه والوليد بن عقبة بن أبي معيط وذلك انه جرى بينهما كلام فقال الوليد لعلي بأي شيء تفاخرني أنا والله أحد منك سنانا وأبسط منك لسانا وأملأ منك في الكتيبة عينا
يعني أكون أملأ مكانا في العسكر
فقال له علي رضي الله عنه اسكت فإنك فاسق فنزل " أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون "
وقال الزجاج نزلت في عقبة بن أبي معيط
قال ويجوز في اللغة لا يستويان ولم يقرأ والقراءة " لا يستوون " ومعناهما لا يستوي المؤمنون والكافرون
ثم بين مصير كلا الفريقين فقال تعالى " أما الذين آمنوا " أي أقروا بالله ورسوله والقرآن " وعملوا الصالحات " يعني الطاعات " فلهم جنات المأوى نزلا " يعني يأوي إليها المؤمنون
ويقال يأوي إليها أرواح الشهداء وهو أصح في اللغة
ثم قال " نزلا " يعني رزقا
والنزل في اللغة هو الرزق
ويقال " نزلا " يعني منزلا " بما كانوا يعملون " يعني بأعمالهم
ثم بين مصير الفاسقين فقال " وأما الذين فسقوا " يعني عصوا ولم يتوبوا " فمأواهم النار " ويقال " فسقوا " يعني نافقوا وهو الوليد بن عتبة ومن كان مثل حاله " فمأواهم النار " يعني مصيرهم إلى النار ومرجعهم إليها " كلما أرادوا أن يخرجوا منها " يعني من
النار(3/35)
36
" أعيدوا فيها " ويقال إن جهنم إذا جاشت ألقتهم في أعلى الباب فطمعوا في الخروج منها فتلقاهم الخزنة بمقامع فتضربهم فتهوي بهم إلى قعرها وتقول لهم " وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون " وقال في آية أخرى " ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون " [ سبأ42 ] بلفظ التأنيث لأنه أراد به النار وهي مؤنثة
وههنا قال " الذي كنتم به تكذبون " بلفظ التذكير لأنه أراد به العذاب وهو مذكر
سورة السجدة 21 - 22
ثم قال عز وجل وجن " ولنذيقنهم من العذاب الأدنى " وهو المصيبات والقتل والجوع " دون العذاب الأكبر " وهو عذاب النار
يعني إن لم يتوبوا
ويقال " العذاب الأدنى " هو السجن في الدنيا للفاسقين والعذاب الأكبر النار إن لم يتوبوا
ويقال " العذاب الأدنى " عذاب القبر
وقال إبراهيم يعني سنين جدب أصابتهم
وقال أبو العالية مصيبات في الدنيا " لعلهم يرجعون " يعني يتوبون
قوله عز وجل " ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه " يعني وعظ بآيات ربه بالقرآن " ثم أعرض عنها " يعني عن الإيمان بها ولم يؤمن بها " إنا من المجرمين منتقمون " بالعذاب يعني منتصرون
سورة السجدة 23 - 24
ثم قال عز وجل " ولقد آتينا موسى الكتاب " يعني أعطينا موسى التوراة " فلا تكن في مرية من لقائه " قال مقاتل يعني فلا تكن في شك من لقاء موسى التوراة
فإن الله عز وجل ألقى عليه الكتاب
وقال في رواية الكلبي " فلا تكن في مرية " من لقاء موسى عليه السلام فلقيه ليلة أسري به في بيت المقدس يعني النبي صلى الله عليه وسلم لقي موسى عليه السلام هناك
ويقال لقيه في السماء
وذكر الخبر المعروف أنه فرض على النبي صلى الله عليه وسلم خمسون صلاة
فقال له موسى عليه السلام ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك
فلم يزل يرجع حتى حط الله عز وجل إلى الخمس ويقال " فلا تكن في مرية من لقائه " يعني من لقاء الله عز وجل وهو البعث بعد الموت
ويقال " فلا تكن في مرية من لقائه " يعني لا تشكن أنك تلقى موسى يوم القيامة
ثم قال عز وجل " وجعلناه هدى لبني إسرائيل " يعني جعلنا التوراة بيانا لهم وهدى من الضلالة
ويقال " وجعلناه هدى " يعني جعلنا موسى هاديا لنبي إسرائيل يدعوهم " وجعلنا منهم أئمة " يعني وجعلنا من بني إسرائيل قادة في الخير " يهدون بأمرنا " يعني(3/36)
37
يدعون الناس إلى أمر الله عز وجل " لما صبروا " قرأ حمزة والكسائي " لما صبروا " بكسر اللام والتخفف وقرأ الباقون بالنصب والتشديد
فمن قرأ بالتشديد " لما صبروا " أي حين صبروا ويقال هو حكاية المجازاة يعني لما صبروا جعلناهم أئمة
ومن قرأ بالتخفيف " لما صبروا " أي بما صبروا
وتشهد لها قراءة ابن مسعود كان يقرأ " بما صبروا "
ويقال معناه كما صبروا عن الدنيا وصبروا على دينهم فلم يرجعوا عنه
ويقال معناه وجعلناهم أئمة بصبرهم " وكانوا بآياتنا يوقنون " يعني يصدقون بالعلامات التي أعطي موسى
سورة السجدة 25 - 27
ثم قال عز وجل " إن ربك هو يفصل بينهم " يعني يقضي بينهم " يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " من الدين
ثم خوف كفار مكة فقال عز وجل " أو لم يهد لهم " يعني أو لم يبين لهم الله تعالى
وقرئ في الشاذ " أو لم نهد لهم " بالنون
وقرأ العامة بالياء
" كم أهلكنا " يعني أو لم نبين لهم الهلاك " من قبلهم من القرون " يعني قوم لوط وصالح وهود " يمشون في مساكنهم " يعني يمرون في منازلهم " إن في ذلك لآيات " يعني في إهلاكهم " لآيات " لعبرات " أفلا يسمعون " أي أفلا يسمعون المواعظ فيعتبرون بها
ثم قال عز وجل " أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز " يعني اليابسة الملساء التي ليس فيها نبات
يقال أرض جرز أي أرض جدب للتي لا نبات فيها
يقال جرزت الجراد إذا أكلت وتركت الأرض جرزا " فنخرج به زرعا " يعني نخرج بالماء النبات " تأكل منه أنعامهم " أي من الكلأ والعشب والتبن " وأنفسهم " من الحبوب والثمار " أفلا يبصرون " هذه العجائب فيوحدوا ربهم
سورة السجدة 28 - 30
قوله عز وجل " ويقولون متى هذا الفتح " قال مقاتل أي متى هذا القضاء وهو البعث وقال قتادة " الفتح " القضاء
وقال مجاهد " الفتح " يوم القيامة " إن كنتم صادقين " تكذيبا منهم يعنون به النبي صلى الله عليه وسلم
ثم قال عز وجل " قل " يا محمد " يوم الفتح " يعني يوم القيامة " لا ينفع الذين كفروا(3/37)
38
إيمانهم ) قال في رواية الكلبي إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتذاكرون فيما بينهم وهم بمكة قبل فتح مكة لهم
وكان ناس من بني خزيمة كانوا إذا سمعوا ذلك منهم يستهزئون بهم ويقولون لهم متى فتحكم هذا الذين كنتم تزعمون ويقولون فنزل
" متى هذا الفتح " يا أصحاب محمد إن كنتم صادقين
" قل " يا محمد " يوم الفتح " يعني فتح مكة " لا ينفع الذين كفروا إيمانهم " من القتل " ولا هم ينظرون " حتى يقتلوا
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة بعث خالد بن الوليد إلى بني خزيمة وقد كانت بينه وبينهم إحنة في الجاهلية
يعني الحقد
فقالوا قد أسلمنا
فقال لهم انزلوا فنزلوا فوضع فيهم السلاح فقتل منهم وأسر
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال ( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد فبعث إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالدية من غنائم خيبر فذلك قوله تعالى " قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم " من القتل " ولاهم ينظرون " يعني يؤجلون
ثم قال عز وجل " فأعرض عنهم " يا محمد " وانتظر " لهم فتح مكة ويقال العذاب
" إنهم منتظرون " بهلاكك
وروى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ آلم تنزيل وتبارك الذي بيده الملك
وروى أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من قرأ آلم السجدة وتبارك الذي بيده الملك فكأنما أحيى ليلة القدر ) والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم(3/38)
39
سورة الأحزاب
مكية وهي سبعون وثلاث آيات
سورة الأحزاب 1 - 3
قول الله سبحانه وتعالى " يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين " قال مقاتل وذلك أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا المدينة بعد أحد وبعد الهزيمة فمروا على عبد الله بن أبي المنافق
فقام معهم عبد الله بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق
فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا له اترك ذكر آلهتنا وقل إن لها شفاعة في الآخرة ومنفعة لمن عبدها وندعك وربك
فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه إئذن لي في قتلهم ) فقال ( قد أعطيتهم الأمان ) فلم يأذن له بالقتل وأمره بأن يخرجهم من المدينة
فقال لهم عمر اخرجوا في لعنة الله وغضبه
فنزل " يا أيها النبي اتق الله " وقال مقاتل في رواية الكلبي قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فنزلوا على عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير وجد بن قيس فتكلموا فيما بينهم
فلما اجتمعوا في أمر فيما بينهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونه إلى أمرهم وعرضوا عليه أشياء فكرهها منهم
فهم بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون أن يقتلوهم فنزل " يا أيها النبي اتق الله " ولا تنقض العهد الذي بينك وبينهم إلى المدة
( ولا تطع الكافرين ) من أهل مكة " والمنافقين " من أهل المدينة فيما دعوك إليه
ويقال إن المسلمين أرادوا أن ينقضوا العهد فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم
فنزل " يا أيها النبي اتق الله " في نقض العهد
وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وأراد هو وأصحابه
ألا ترى أنه قال في سياق الآية " إن الله كان بما تعملون خبيرا " ثم قال " إن الله كان عليما " بما اجتمعوا عليه " حكيما " حيث نهاك عن نقض العهد وحكم بالوفاء
قوله عز وجل " واتبع ما يوحى إليك من ربك " يعني بما في القرآن " إن الله كان بما تعملون خبيرا " من وفاء العهد ونقضه " وتوكل على الله " يعني ثق بالله وفوض أمرك إلى الله تعالى " وكفى بالله وكيلا " يعني حافظا وناصرا
قرأ أبو عمرو " بما يعملون " بالياء على معنى الخبر عنهم
وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه(3/39)
40
سورة الأحزاب 4 - 5
قوله عز وجل " ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه " قال مقاتل نزلت في جميل بن معمر ويكنى أبا معمر وكان حافظا بما يسمع وأهدى الناس للطريق يعني طريق البلدان وكان مبغضا للنبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول إن لي قلبين أحدهما أعقل من قلب محمد فنزل " ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه " وكان الناس يظنون أنه صادق في ذلك حتى كان يوم بدر فانهزم وهو آخذ بإحدى نعليه والأخرى في رجله حتى أدركه أبو سفيان بن حرب وكان لا يعلم بذلك حتى أخبر أن إحدى نعليه في أصبعه والأخرى في رجله فعرفوا أنه ليس له قلبان
ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهى في صلاته فقال المنافقون لو أن له قلبين أحدهما في صلاته والآخر مع أصحابه فنزل " ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه " .
وروى معمر عن قتادة قال كان رجل لا يسمع شيئا إلا وعاه فقال الناس ما يعي هذا إلا أن له قلبين وكان يسمى ذا القلبين فنزلت هذه الآية
وروى معمر عن الزهري قال بلغنا أن ذلك في شأن زيد بن حارثة ضرب الله له مثلا يقول ليس ابن رجل آخر ابنك كما لا يكون لرجل آخر قلبان
وذكر عن الشافعي رحمه الله أنه احتج على محمد بن الحسن قال " ما جعل الله لرجل من قلبين " يعني ما جعل الله لرجل من أبوين في الإسلام يعني لا يجوز أن يثبت نسب صبي واحد من اثنين ولكن هذا التفسير لم يذعن به أحد من المتقدمين فلو أراد به على وجه القياس لا يصح
لأنه ليس بينهما جامع يجمع بينهما
وذكر عن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما أن جارية كانت بين رجلين جاءت بولد فادعياه فقالا إنه ابنهما يرثهما ويرثانه
ثم قال عز وجل " وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم " قرأ عاصم " تظاهرون " بضم التاء وكسر الهاء والألف
وقرأ ابن عامر " تظاهرون " بنصب التاء والهاء وتشديد الظاء مع الألف
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " تظهرون " بنصب التاء والهاء بغير ألف والتشديد
وقرأ حمزة والكسائي " تظاهرون " بنصب التاء والتخفيف مع الألف وهذه كلها لغات
يقال ظاهر من امرأته وتظاهر وتظهر بمعنى واحد وهو أن يقول لها أنت علي كظهر أمي
فمن قرأ " تظهرون " بالتشديد فالأصل تتظهرون فأدغمت إحدى التاءين في الظاء وشددت
من قرأ " تظاهرون " فالأصل تتظاهرون فأدغمت إحدى التاءين
ومن قرأ بالتخفيف(3/40)
41
حذف إحدى التاءين ولم يشدد للتخفيف كقوله " تسألون " والأصل تتساءلون والآية نزلت في شأن أوس بن الصامت حين ظاهر من امرأته وذكر حكم الظهار في سورة المجادلة
ثم قال تعالى " وما جعل أدعياءكم أبناءكم " نزلت في شأن زيد بن حارثة حين تبناه النبي صلى الله عليه وسلم قال فكما لا يجوز أن يكون لرجل واحد قلبان فكذلك لا يجوز أن تكون امرأته أمه ولا ابن غيره يكون ابنه
ثم قال " ذلكم قولكم بأفواهكم " يعني قولكم الذي قلتم زيد بن محمد صلى الله عليه وسلم أنتم قلتموه بألسنتكم " والله يقول الحق " يعني يبين الحق ويأمركم به كي لا تنسوا إليه غير النسبة " وهو يهدي السبيل " يعني يدل على طريق الحق
ويقال يدل على الصواب بأن تدعوهم إلى آبائهم
وروى أبو بكر بن عياش عن الكلبي قال كان زيد بن حارثة مملوكا لخديجة بنت خويلد رضي الله عنها فوهبته خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه فكانوا يقولون زيد بن محمد فنزل قوله " ادعوهم لآبائهم " يعني انسبوهم لآبائهم
فقالوا زيد بن حارثة " هو أقسط عند الله " يعني أعدل عند الله عز وجل " فإن لم تعلموا آباءهم " يعني إن لم تعلموا لهم آباء تنسبونهم إليهم " فإخوانكم في الدين " أي قولوا ابن عبد الله وابن عبد الرحمن " ومواليكم " يعني قولوا مولى فلان وفلان
وكان أبو حذيفة أعتق عبدا يقال له سالم وتبناه فكانوا يسمونه سالم بن أبي حذيفة فلما نزلت هذه الآية سموه سالما مولى أبي حذيفة
ثم قال " وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به " يعني أن تنسبوهم إلى غير آبائهم قبل النهي
ويقال ما جرى على لسانهم بعد النهي لأن ألسنتهم قد تعودت بذلك " ولكن ما تعمدت قلوبكم " يعني ولكن الجناح فيما قصدت قلوبكم بعد النهي
وروي عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمير عن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )
وروي عن سعد بن أبي وقاص أنه حلف باللات والعزى ناسيا فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ( فأمره أن ينفث عن يساره ثلاثا وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم
ثم قال " وكان الله غفورا رحيما " يعني " غفورا " لمن أخطأ ثم رجع " رحيما " بهم(3/41)
42
سورة الأحزاب 6 - 8
قوله عز وجل " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " يعني ما يرى لهم رأيا فذلك أولى وأحسن لهم من رأيهم
ويقال معناه النبي أرحم بالمؤمنين من أنفسهم " وأزواجه أمهاتهم " يعني كأمهاتهم في الحرمة
وذكر عن أبي أنه كان يقرأ " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " وهو أب لهم " وأزواجه أمهاتهم "
ثم قال " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " قال في رواية الكلبي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين الناس فكان يواخي بين الرجلين فإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته وأهله فمكثوا في ذلك ما شاء الله حتى نزلت هذه الآية " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " " في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين " الذين آخى بينهم فصارت المواريث بالقرابات روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أنا ولي كل مسلم فمن ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا فإلى الله وإلى رسوله )
فأمر بصرف الميراث إلى العصبة
ثم قال " إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا " يعني إلا أن يوصي له بثلث ماله
وقال مقاتل كان المهاجرون والأنصار يرثون بعضهم من بعض بالقرابة ولا يرث من لم يهاجر إلى أن يوصي للذي لم يهاجر ثم نسخ بما في آخر سورة الأنفال
ثم قال " كان ذلك في الكتاب مسطورا " يعني هكذا كان مكتوبا في التوراة ويقال في اللوح المحفوظ ويقال في القرآن
قوله عز وجل " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم " وهو الوحي الذي أوحى إليهم أن يدعوا الخلق إلى عبادة الله عز وجل وأن يصدق بعضهم بعضا
ويقال الميثاق الذي أخذ عليهم من ظهورهم ويقال كل نبي أمر بأن يأمر من بعده بأن يخبروا ببعث محمد صلى الله عليه وسلم حتى ينتهي إليه
ثم قال " ومنك ومن نوح " في هذا تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه قد ذكر جملة الأنبياء عليهم السلام ثم خصه بالذكر قبلهم وكان آخرهم خروجا
ثم ذكر نوحا لأنه كان أولهم ثم ذكر " إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم " صلوات الله عليهم لأن كل واحد منهم كان على أثر بعض " وأخذنا منهم ميثاقا غليظا " يعني عقدا وثيقا أن يعبدوا الله ويدعوا الخلق إلى عبادة الله عز وجل وأن يبشر كل واحد منهم بمن بعده(3/42)
43
ثم قال عز وجل " ليسأل الصادقين عن صدقهم " يعني أخذ عليهم الميثاق لكي يسأل الصادقين عن صدقهم
يعني يسأل المرسلين عن تبليغ الرسالة ويسأل الوافين عن وفائهم
وروي في الخبر أنه يسأل القلم يوم القيامة فيقول له ما فعلت بأمانتي فيقول يا رب سلمتها إلى اللوح ثم جعل يرتعد القلم مخافة أن لا يصدقه اللوح فيسأل اللوح بأن القلم قد أدى الأمانة وأنه قد سلم إلى إسرافيل
فيقول لإسرافيل ما فعلت بأمانتي التي سلمها إليك اللوح فيقول سلمتها إلى جبريل
فيقول لجبريل عليه السلام ما فعلت بأمانتي فيقول سلمتها إلى أنبيائك فيسأل الأنبياء عليهم السلام فيقولون قد سلمناها إلى خلقك فذلك قوله تعالى " ليسأل الصادقين عن صدقهم " " وأعد للكافرين عذابا أليما " يعني الذين كذبوا الرسل
سورة الأحزاب 9
قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم " يعني احفظوا منة الله عليكم بالنصرة
" إذا جاءتكم جنود " يعني الأحزاب
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صالح بني قريظة وبني النضير على أن لا يكون عليه ولا معه
فنقضت بنو النضير عهودهم وأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم منها وذكر قصتهم في سورة الحشر
ثم إن بني قريظة جددوا العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم
ثم إن حيي بن أخطب ركب وخرج إلى مكة فقال لأبي سفيان بن حرب إن قومي مع بني قريظة وهم سبعمائة وخمسون مقاتلا فحثه على الخروج إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم خرج من مكة إلى غطفان وحثهم على ذلك ثم خرج إلى كنانة وحثهم على ذلك
فخرج أبو سفيان مع جماعة من أهل مكة وخرج غطفان وبنو كنانة حتى نزلوا قريبا من المدينة مع مقدار خمسة عشر ألف رجل
ويقال ثمانية عشر ألف رجل
ثم جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة فجاء إلى باب كعب بن الأشرف وهو رئيس بني قريظة فاستأذن عليه فقال لجاريته انظري من هذا فعرفته الجارية فقالت هذا حيي بن أخطب
فقال لا تأذني له علي فإنه مشؤوم إنه قد شام قومه يريد أن يشأمنا زيادة
فقالت له الجارية ليس هاهنا فقال حيي بن أخطب بلى هو ثم ولكن عنده قدر جشيش لا يحب أن يشركه فيها أحد
فقال كعب أحفظني أخزاه الله يعني أغضبني إئذني له في الدخول
فدخل عليه فقال له يحييك مليكك قد جئتك بعارض برد جئتك بقريش بأجمعها وكنانة بأجمعها وغطفان بأجمعها لا يذهب هذا الفوز حتى تقتل محمدا
فانقض الحلف بينك وبين محمد
فقال له كعب بن الأشرف إن العارض ليصيب بنفحاته شيئا ثم يرجع وأنا في بحر لجي لا أقدر على أن أريم داري ومالي والله ما رأينا جارا قط خيرا من محمد ما أخفر لنا بذمة ولا هتك لنا سترا ولا(3/43)
44
آذانا وإنما أخشى أن لا يقتل محمد وترجع أنت وأقتل أنا
قال لكم ما في التوراة إن لم يقتل محمدا في هذا الغور لأدخلن معكم حصنكم فيصيبني ما أصابكم
فنقض الحلف وشق الصحيفة فقدم نعيم بن مسعود المدينة وكان تاجرا يقدم من مكة فقال يا محمد شعرت أن بني قريظة نقضوا الحلف الذي كان بينك وبينهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لعلنا نحن أمرناهم بذلك )
فقال عمر إن كنت أمرتهم بذلك وإن كنت تأمرهم بذلك فقتالهم علينا هين
فقال ما أنا بكذاب ولكن الحرب خدعة
ونعيم لم يسلم ذلك اليوم
فبعث النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة إلى كعب بن الأشرف يناشدوه الله الحلف الذي كان بينهم وأن يرجعوا إلى ما كانوا عليه من قبل
فأبى كعب بن الأشرف وجرى بينهم كلام
وسب سعد بن معاذ فقال أسيد بن حضير أتسب سيدك معاذا يا عدو الله ما هو لك بكفؤ
فقال سعد اللهم لا تميتني حتى أشفي نفسي منهم فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثوه الحديث
فانطلق نعيم بن مسعود إلى أبي سفيان فقال يا أبا سفيان والله ما كذب محمد قط كذبة أخبرني أنه أمر بنقض الحلف بينه وبين بني قريظة
فقال سلمان الفارسي يا رسول الله إنا كنا بأرض فارس إذا تخوفنا الجنود خندقنا على أنفسنا فهل لك أن تخندق خندقا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل المدينة وخندق وأخذ المعول بيده فضرب لكي يقتدي الناس به فضرب ضربة فأبرق برقة حتى ظهر ضوء بضربته
ثم ضرب ضربة أخرى فأبرق برقة ثم ضرب الثالثة فقال سلمان لقد رأيت أمرا عجيبا
لقد رأيت ذلك قال نعم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لقد رأيت بالأولى قصور الشام وبالثانية قصور كسرى وبالثالثة قصور اليمن
فهذه فتوح يفتح الله عليكم )
فقال ناس من المنافقين يعدنا أن تفتح الشام وأرض فارس واليمن
وما يستطيع أحد منا أن يذهب إلى الخلاء ما يعدنا إلا غرورا
فمكث الجنود حول المدينة بضعة عشرة ليلة فأرسل عيينة بن حصن الفزاري والحرث بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك إن أعطيتنا تمر المدينة هذه السنة نرجع عنك بغطفان وكنانة ونخلي بينك وبين قومك فتقاتلهم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا )
فقال فنصف ذلك التمر
قال ( نعم )
وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وهو سيد الأوس وسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصين والحارث بن عوف لرسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب لنا كتابا
فدعى بصحيفة ليكتب بينهم
فقال سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يا رسول الله أوحي إليك في هذا الشيء فقال ( لا ولكنني رأيت العرب رمتكم من قوس واحدة
فقلت أرد(3/44)
45
هؤلاء وأقاتل هؤلاء ) فقالا ما رجوا هذا منا في الجاهلية قط أن يأخذوا منا تمرة واحدة إلا شراء أو قرى
فحين زادنا الله بك وأمدنا بك وأكرمنا بك نعطيهم الدنية لا نعطيهم شيئا إلا بالسيف
فشق النبي صلى الله عليه وسلم الصحيفة وقال ( اذهبوا فلا نعطيكم شيئا إلا بالسيف )
فلما كان يوم الجمعة أرسل أبو سفيان إلى حيي بن أخطب أن استعد غدا إلى القتال فقد طال المقام هاهنا وقل لقومك يغدوا
فلما جاء بني قريظة الرسول فقالوا غدا يوم السبت لا نقاتل فيه
فقال أبو سفيان ما اشأن السبت قال قوم من الأمم يعظمون القتال فيه
قال أبو سفيان نحن نؤخر القتال إلى يوم الأحد هاتوا لنا رهونا أبناءكم نثلج إليهم يعني نطمئن بذلك
فجاء رسول أبي سفيان إلى بني قريظة وقد أمسوا فقالوا هذه الليلة لا يدخل علينا أحد ولا يخرج من عندنا أحد
فوقع في نفس أبي سفيان من قول نعيم بن مسعود أنه حق وأن نقض العهد كان مكرا منهم
فلما كانت الليلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عند الخندق فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث الليل ثم قال ( من رجل ينظر ما يفعل القوم أدخله الله الجنة )
فما تحرك منهم إنسان
ثم صلى الثلث الثاني فقال ( من رجل ينظر ما يفعل القوم ) فما تحرك منهم إنسان ثم صلى ساعة ثم هتف مرة أخرى فما تحرك منهم إنسان
فقال ( يا حذيفة ) فجاء حذيفة
فقال ( أما سمعت كلامي منذ هذه الليلة )
قال بلى
ولكن بي من الجوع والقر يعني البرد لم أقدر على أن أجيبك
قال ( اذهب فانظر ما فعل القوم ولا ترمي بسهم ولا بحجر ولا تطعن برمح ولا تضرب بسيف )
فقال يا رسول الله إني لا أخشى أن يقتلوني إني لميت
ولكن أخشى أن يمثلوا بي
فقال ( ليس عليك بأس )
فلما قال هذا قال حذيفة آمنت وعرفت أنه لا بأس علي
فلما ولى حذيفة قال النبي صلى الله عليه وسلم ( اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته )
فدخل حذيفة رضي الله عنه في عسكر قريش فإذا هم يصطلون يعني يجتمعون على نار لهم فجلس حذيفة في حلقة منهم فقال أتدرون ما يريد الناس غدا قالوا ماذا يريدون قال يقولون يعني أهل العساكر أين قريش أين سادات الناس وقادتهم فتجيبون فيطرحونكم في نحور العدو فتقتلوا أو تفروا فما زال ذلك الحديث يفشو في العسكر
ثم دخل عسكر بني كنانة
فقال أتدرون ماذا يريد الناس غدا قالوا ماذا يريدون قالوا يقولون أين بنو كنانة أين ذروة العرب أين رماة الحدق فتجيبون فيطرحونكم في نحور العدو فتقتلوا ويفروا
ثم دخل عسكر غطفان فقال أتدرون ماذا يريد الناس غدا قولوا ماذا يريدون قال يقولون أين غطفان أين بنو فزارة أين أحلاس الخيول
فتجيبوا فيطرحونكم في نحور العدو فتقتلوا أو تفروا(3/45)
46
قال فبعث الله تعالى عليهم ريحا شديدة فلم تترك لهم خباء إلا قلعته ولا إناء إلا أكفأته
وقلعت أوتاد خيولهم وجالت الخيول بعضها في بعض فقالوا فيما بينهم لقد بدا محمد بالسر فالنجاة النجاة
فركب أبو سفيان جمله معقولا فما حل عقاله إلا بعد أن انبعث
قال حذيفة ولو شئت أن أضربه بسيفي أو أطعنه برمحي لفعلت ولكن نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فترحلوا كلهم وذهبوا
فرجع حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه عن العساكر وما فعل الله عز وجل بها
فنزل " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم " في الدفع عنكم " إذ جاءتكم جنود " من المشركين " فأرسلنا عليهم ريحا " شديدة " وجنودا لم تروها " من الملائكة
وذلك أن الملائكة عليهم السلام كبرت حوالي العسكر حتى انهزموا حين هبت بهم الريح وهي ريح الصبا
وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ) ثم قال تعالى " وكان الله بما تعملون بصيرا " في أمر الخندق
سورة الأحزاب 10 - 14
قوله عز وجل " إذ جاؤوكم من فوقكم " يعني أتاكم المشركون من فوق الوادي يعني طلحة بن خويلد الأسدي " ومن أسفل منكم " من قبل المغرب وهو أبو الأعور السلمي
ويقال " من فوقكم " أي من قبل المشرق مالك بن عوف وعيينة بن حصن الفزاري ويهود بني قريظة
" ومن أسفل منكم " أبو سفيان
فلما رأوا ذلك " وإذ زاغت الأبصار " يعني شخصت الأبصار فرقا يعني أبصار المنافقين لأنهم أشد خوفا كأنهم خشب مسندة " وبلغت القلوب الحناجر " خوفا هذا على وجه المثل
ويقال اضطراب القلب يبلغ الحناجر ويقال إذا خاف الإنسان تنتفخ الرئة وإذا انتفخت الرئة يبلغ القلب الحنجرة
ويقال للجبان منتفخ الرئة
" وتظنون بالله الظنونا " يعني الإياس من النصرة
يعني ظننتم أن لن ينصر الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم
قرأ ابن كثير والكسائي وعاصم في رواية حفص الظنون بالألف عند الوقف ويطرحونها عند الوصل
وكذلك في قوله " وأطعنا الرسولا " [ الأحزاب 66 ] " فأضلونا(3/46)
47
السبيلا ) [ الأحزاب 67 ] وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر بالألف في حال الوصل والوقف
وقرأ أبو عمرو وحمزة بغير ألف في الحالين جميعا
فمن قرأ بالألف في الحالين فلاتباع الخط لأن في مصحف الإمام وفي سائر المصاحف بالألف
ومن قرأ بغير ألف فلأن الألف غير أصلية وإنما يستعمل هذه الألف الشعراء في القوافي
وقال أبو عبيدة أحب إلي في هذه الحروف أن يتعمد الوقف عليها بالألف ليكون متبعا للمصحف واللغة
قوله عز وجل " هنالك ابتلي المؤمنون " يعني عند ذلك اختبر المؤمنون يعني أمروا بالقتال والحضور وكان في ذلك اختبارا لهم " وزلزلوا زلزالا شديدا " أي حركوا تحريكا شديدا واجتهدوا اجتهادا شديدا
" وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا " وهم لم يقولوا رسول الله وإنما قالوا باسمه ولكن الله عز وجل ذكره بهذا اللفظ
قوله عز وجل " وإذ قالت طائفة منهم " يعني جماعة من المنافقين " يا أهل يثرب " يعني يا أهل المدينة وكان اسم المدينة يثرب فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة " لا مقام لكم " قرأ عاصم بضم الميم وقرأ الباقون بالنصب
فمن يقرأ بالضم فمعناه لا إقامة لكم
ومن قرأ بالنصب فهو بالمكان أي لا مكان لكم تقومون فيه والجمع المقامات
وكان أبو عبيدة يقرأ بالنصب لأنه يحتمل المقام والمكان جميعا يعني أن المنافقين قالوا خوفا ورعبا منهم لا مقام لكم عند القتال
" فارجعوا " يعني فانصرفوا إلى المدينة " ويستأذن فريق منهم النبي " وهم بنو حارثة وبنو سلمة وذلك أن بيوتهم كانت من ناحية المدينة " يقولون إن بيوتنا عورة " يعني ضائعة نخشى عليها السراق
ويقال معناه أن بيوتنا مما يلي العدو وإنا لا نأمن على أهالينا
وقال القتبي أصل العورة ما ذهب عنه الستر والحفظ وكان الرجال سترا وحفظا للبيوت
فقالوا " إن بيوتنا عورة " يعني خالية والعرب تقول أعور منزلك إذا سقط جداره
يقول الله تعالى " وما هي بعورة " لأن الله عز وجل يحفظها يعني وما هي بخالية " إن يريدون إلا فرارا " أي ما يريدون إلا فرارا من القتال
ثم قال " ولو دخلت عليهم من أقطارها " يعني لو دخل العسكر من نواحي المدينة " ثم سئلوا الفتنة " يعني دعوهم إلى الشرك " لأتوها " قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر " لأتوها " بالهمزة بغير مد وقرأ الباقون بالهمز والمد
فمن قرأ بالمد " لآتوها " يعني لأعطوها
ومن قرأ بغير مد معناه صاروا إليها وجاؤوها وكلاهما يرجع إلى معنى واحد يعني لو دعوا إلى الشرك لأجابوا سريعا
" وما تلبثوا بها إلا يسيرا " أي وما تحسبوا بالشرك إلا قليلا
يعني يجيبوا سريعا
ويقال لو فعلوا ذلك لم
يلبثوا بالمدينة إلا قليلا(3/47)
48
سورة الأحزاب 15 - 17
ثم قال عز وجل " ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل " يعني من قبل قتال الخندق حين كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة خرج سبعون رجلا من المدينة إلى مكة
فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة إلى السبعين فبايعهم وبايعوه
فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اشترط لربك ولنفسك ما شئت
فقال ( أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما منعتم به أنفسكم وأولادكم )
فقالوا فإذا فعلنا ذلك
فما لنا قال صلى الله عليه وسلم ( لكم النصرة في الدنيا والجنة في الآخرة )
قالوا قد فعلنا ذلك فذلك قوله " ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل " " لا يولون الأدبار " منهزمين " وكان عهد الله مسؤولا " يعني يسأل في الآخرة من ينقض العهد
قوله عز وجل " قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا " أي لا تؤجلون إلا يسيرا لأن الدنيا كلها قليلة
ثم قال عز وجل " قل من ذا الذي يعصمكم من الله " يعني يمنعكم من الله يعني من قضاء الله وعذابه " إن أراد بكم سوءا " يعني القتل " أو أراد بكم رحمة " أي عافية
ويقال " سوءا " يعني الهزيمة " أو أراد بكم رحمة " يعني خيرا
وهو النصر
يعني من يقدر على دفع السوء عنكم وجر الخير إليكم " ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا " يعني قريبا ومانعا
سورة الأحزاب 18 - 20
قوله عز وجل " قد يعلم الله المعوقين منكم " يعني يرى المثبطين منكم المانعين من القتال منكم وهم المنافقون " والقائلين لإخوانهم " يعني لأوليائهم وأصدقائهم " هلم إلينا " يعني ارجعوا إلينا إلى المدينة ويقال هذا بلغة أهل المدينة يقولون للواحد وللأثنين وللجماعة هلم وسائر العرب تقول للجماعة هلموا
ثم قال " ولا يأتون البأس إلا قليلا " وذلك أن المنافقين كانوا يقولون إن لنا شغلا(3/48)
49
فيرجعون إلى المدينة فإذا لقيهم أحد بالمدينة من المؤمنين يقولون دخلنا لشغل ونريد أن نرجع
وإذا لقوا أحدا من المنافقين يقولون إيش تصنعون هناك ارجعوا إلينا " ولا يأتون البأس " يعني ولا يحضرون القتال إلا قليلا رياء وسمعة
ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرا وهذا كقوله " ولا يذكرون الله إلا قليلا "
ثم قال عز وجل " أشحة عليكم " يعني أشفقة عليكم حتى يعوقكم يا معشر المسلمين
ويقال يعني بخلاء في النفقة عليكم ويقال فيه تقديم
فكأنه يقول ولا يأتون البأس شفقة عليكم أي لم يحضروا شفقة عليكم " إلا قليلا " يعني لا قليلا ولا كثيرا
" فإذا جاء الخوف " يعني خوف القتال " رأيتهم ينظرون إليك " من الخوف " تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت " يعني تدور أعينهم كدوران الذي هو في غشيان الموت ونزعاته جبنا وخوفا " فإذا ذهب الخوف " وجاءت قسمة الغنيمة " سلقوكم " يعني رموكم
ويقال طعنوا فيكم " بألسنة حداد " يعني سلاط باسطة بالشر " أشحة على الخير " يعني حرصا على الغنيمة
ويقال بخلا على الغنيمة
" أولئك لم يؤمنوا " يعني لم يصدقوا حق التصديق " فأحبط الله أعمالهم " يعني أبطل الله ثواب أعمالهم
" وكان ذلك على الله يسيرا " يعني إبطال أعمالهم
ويقال عذابهم في الآخرة على الله " يسيرا " يعني على الله هين
ثم قال عز وجل " يحسبون الأحزاب لم يذهبوا " يعني يظنون أن الجنود لم يذهبوا من الخوف والرعب " وإن يأت الأحزاب " مرة أخرى
ويقال حكاية عن الماضي " يودوا لو أنهم بادون في الأعراب " يعني تمنوا أنهم خارجون في البادية مع الأعراب " يسألون عن أبنائكم " يعني عن أخباركم وأحاديثكم " ولو كانوا فيكم " يعني معكم في القتال " ما قاتلوا إلا قليلا " رياء وسمعة من غير حسبة
وقرئ في الشاذ " يسألون " بتشديد السين وأصله يتساءلون أي يسأل بعضهم بعضا
وقراءة العامة " يسألون " لأنهم يسألون القادمين ولا يسأل بعضهم بعضا
سورة الأحزاب 21 - 22
قوله عز وجل " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " قرأ عاصم " أسوة " بضم الألف وقرأ الباقون بالكسر
وهما لغتان ومعناهما واحد
يعني لقد كان لكم اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة وسنة صالحة لأنه كان أسبقهم في الحرب وكسرت رباعيته يوم أحد وواساكم بنفسه في مواطن الحرب
" لمن كان يرجو الله " يعني يخاف الله عز وجل " واليوم الآخر وذكر الله كثيرا " باللسان " ولما رأى المؤمنون الأحزاب " يعني الجنود يوم الخندق والقتال " قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله " في سورة البقرة وهو قوله عز وجل " أم(3/49)
50
حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ) [ البقرة 214 ] الآية
ويقال إنه قد أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه نازل ذلك الأمر
فلما رأوه " قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله " " وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما " يعني لم يزدهم الجهد والبلاء إلا تصديقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم وجرأة " وتسليما " يعني تواضعا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم
سورة الأحزاب 23 - 27
ثم نعت المؤمنين فقال عز وجل " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه " يعني وفوا بالعهد الذي عاهدوا ليلة العقبة " فمنهم من قضى نحبه " يعني أجله فمات أو قتل على الوفاء يعني وفي بعهده
وقال القتبي النحب في اللغة النذر وذلك أنهم نذروا إذا لقوا العدو أن يقاتلوا فقتل في القتال فسمي قتله قضاء نحبه واستعير النحب مكان الموت
وقال مجاهد النحب العهد
وروى عيسى بن طلحة قال جاء أعرابي فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذين قضوا نحبهم فأعرض عنه
وطلع طلحة بن عبيد الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( هذا ممن قضى نحبه )
ثم قال عز وجل " ومنهم من ينتظر " يعني ينتظر أجله " وما بدلوا تبديلا " يعني ما غيروا بالعهد الذي عهدوا تغييرا
ثم قال عز وجل " ليجزي الله الصادقين بصدقهم " يعني الوافين بوفائهم " ويعذب المنافقين " يعني إذا ماتوا على النفاق " إن شاء أو يتوب عليهم " يعني يقبل توبتهم إن تابوا " إن الله كان غفورا رحيما " لمن تاب منهم رحيما بهم
قوله عز وجل " ورد الله الذين كفروا " يعني صدهم وهم الكفار الذين جاؤوا يوم الخندق " بغيظهم " يعني صرفهم عن المدينة مع غيظ منهم " لم ينالوا خيرا " يعني لم يصيبوا(3/50)
51
ما أرادوا من الظفر والغنيمة " وكفى الله المؤمنين القتال " يعني دفع الله عنهم مؤنة القتال حيث بعث عليهم ريحا وجنودا
" وكان الله قويا عزيزا " فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق دخل المدينة ودخل على فاطمة رضي الله عنها وأراد أن يغسل رأسه
فجاءه جبريل عليه السلام وقال لا تغسل رأسك ولكن اذهب إلى بني قريظة
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال إن جبريل عليه السلام قال له حين وضع سلاحه وضعت سلاحك قال نعم قال ما وضعت الملائكة عليهم السلام سلاحها بعد وقد أمرك الله عز وجل أن تنهض نحو بني قريظة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فقال ( عزمت عليكم أن لا تصلوا العصر إلا ببني قريظة )
فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحه وخرج المسلمون معه واللواء في يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه
فمر على بني عدي وبني النجار وقد أخذوا السلاح
فقال ( من أمركم أن تلبسوا السلاح )
فقالوا دحية الكلبي
وكان جبريل عليه السلام يتمثل في صورته
فلما جاء بني قريظة وجد بعض الصحابة قد صلوا العصر قبل أن يأتوا بني قريظة مخافة أن تفوتهم عن وقتها وأبى بعضهم فقالوا نهانا رسول الله أن نصلي حتى نأتي بني قريظة
فلم ينتهوا إلى بني قريظة حتى غابت الشمس ولم يصلوا العصر
قال فلم يؤنب أحدا من الفريقين أي رضي بما فعل الفريقان جميعا وفيه دليل لقول بعض الناس إن كل مجتهد نصيب
فجاء علي رضي الله عنه باللواء حتى غرزه عند الحصن فسبت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه ورجع إليه علي رضي الله عنه فقال تأخر يا رسول الله ونحن نكفيك
قال ( سبوني ولو كانوا دوني لم يسبوني )
فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " يا أخوة القردة والخنازير أنزلوا على حكم الله وحكم رسوله "
فقالوا يا أبا القاسم ما كنت فحاشا
ورجع حيي بن أخطب من الروحاء ذكر يمينه التي حلف بها لكعب بن الأشرف ودخل معهم في حصنهم ونزل بنو شعبة أسد وأسيد وثعلبة فأسلموا وأبى من بقي
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة بن عبد المنذر ( اذهب فقل لحلفائك ومواليك ينزلوا على حكم الله تعالى ورسوله ) عليه السلام
فجاءهم أبو لبابة
فقال انزلوا على حكم الله ورسوله
فقالوا يا أبا لبابة نصرناك يوم بغاث ويوم الحدائق والمواطن كلها التي كانت بين الأوس والخزرج ونحن مواليك وحلفاؤك فانصح لنا ماذا ترى فأشار إليهم ووضع يده على حلقه يعني الذبح
فقالوا لا تفعل يعني لا ننزل
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ( خنت الله ورسوله ) فقال نعم
فانطلق فربط نفسه بخشبة من خشب المسجد حتى تاب الله عليه والتمسه رسول الله صلى
الله عليه وسلم فلم يجده
فقالوا إنه قد ربط نفسه بخشبة من خشب المسجد
فقال صلى الله عليه وسلم ( لو جاءني لاستغفرت له فأما إذ ربط نفسه فدعوه حتى يتوب الله(3/51)
52
عليه )
ثم أتاه النبي صلى الله عليه وسلم فحله فقال كعب بن أسد لأصحابه من بني قريظة أما تعلمون أنه قد جاءنا ابن فلان اليهودي من الشام فقال لنا جئتكم لنبي ينتهي إلى هذه الأرض من قريش وأنه يبعث بالذبح والقتل والسبي فلا يهولنكم ذلك وكونوا أولياءه وأنصاره
فقالوا لا نكون تبعا لغيرنا نحن أهل الكتاب والنبوة لا نتبع قوما أميين ما درسوا كتابا قط فلا نفعل
فقال كعب بن أسد أطيعوني في إحدى ثلاث قالوا وما هي فقال إنكم لتعرفون أنه رسول الله فاتبعوه وانصروه فتكونوا أنصاره وأولياءه
فقالوا لا نكون تبعا لغيرنا
فقال أما إذا أبيتم فإن هذه ليلة السبت هم يأمنونكم انزلوا إليهم فبيتوهم حتى تقتلوهم
فقالوا لا نكسر سبتنا
فقد كسر قوم من بني إسرائيل سبتهم فمسخهم الله تعالى قردة وخنازير
قال فإن أبيتم هذا فإذا كان يوم الأحد فاقتلوا أبناءكم ونساءكم ثم أنزلوا إليهم بأسيافكم فقاتلوهم حتى تموتوا كراما
فقالوا لا نفعل
فلبثوا خمسة عشر ليلة محاصرين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( على حكم من تنزلون ) قالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه
فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ وكان جريحا قد رمته بني قريظة فأصاب أكحله فدعا الله تعالى أن لا يميته حتى يشفي صدره من بني قريظة
فأتي به على حمار فتبعه قوم كان ميلهم إلى بني قريظة وكانوا يقولون له يا أبا عمرو أحسن في حلفائك ومواليك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب البقية وقد نصروك يوم بغاث ويوم الحدائق فلم يكلمهم حتى نظر إلى بيوت بني قريظة
فقال سعد قد آن لي أن لا أخاف في الله لومة لائم فعرفوا أنه سوف يقتلهم فرجعوا عنه
فلما دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن حوله ( قوموا إلى سيدكم فأنزلوه )
فقام إليه الأنصار فأنزلوه
فقال احكم فيهم يا أبا عمرو
فقال سعد لليهود أترضون بحكمي قالوا نعم
فقال عليكم بذلك عهد الله وميثاقه قالوا نعم
فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهاب أن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال وعلي من هاهنا مثل ذلك وإنه ليغض بصره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( نعم نعم وعلينا )
فقال لبني قريظة انزلوا فلما نزلوا
قال احكم فيهم يا رسول الله أن تقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريهم وتقسم أموالهم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لقد حكمت بحكم من فوق سبعة أرقعة )
فأتى حيي بن أخطب مأسورا في حلة فجاءه رجل من الأنصار فنزع رداءه فبقي في إزاره فجعل يمزق إزاره لكي لا يلبسه أحد وهو يقول لا بأس بأمر الله
فلما جاء بين يدي
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( ألم يمكني الله منك يا عدو(3/52)
53
الله فقال بلى وما ألوم نفسي فيك قد التمست العز في مظانه وقلقلت في كل مقلقل فأبى الله إلا أن يمكنك مني
فأمر بضرب عنقه
ثم جاؤوا بعزاز بن سموأل فقال ( ألم يمكني الله منك ) فقال بلى يا أبا القاسم فضرب عنقه
ثم قال لسعد ( عليك بمن بقي )
وقال ( لا تجمعوا عليهم حرين حر الهاجرة وحر السيف )
فحبسهم في دار الحارث وفي بعض الروايات ببيت خراب
ثم أخرجهم رسلا فقتلهم على الولاء والترتيب
فقال بعضهم لبعض في الحبس ما تراهم يصنعون بنا فقال واحد ألا تعقلون أنهم يقتلون ألا ترون أن الداعي لا يسكت ومن ذهب لا يرجع فقتلوا كلهم ولم يسلم أحد منهم
كان فيهم رجل يقال له زبير بن باطا فكلم ثابت بن قيس بن شماس رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره فقال إن الزبير بن باطا له عندي يد وقد أعانني يوم بغاث فهبه لي يا رسول الله حتى أعتقه
فقال عليه السلام ( هو لك )
فجاء إليه فقال يا أبا عبد الرحمن أتعرفني قال نعم
وهل ينكر الرجل أخاه أنت ثابت بن قيس
قال أتذكر يدا لك عندي يوم بغاث
قال نعم إن الكريم يجزي باليد فاجز بها
فقال قد وهبك النبي صلى الله عليه وسلم لي وقد أعتقتك
قال شيخ كبير لا أهل له كيف يعيش فجاء ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه في أهله فقال ( لك أهله )
فجاء إليه
فقال قد وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلك فهي لك
فقال شيخ كبير أعمى وامرأة ضعيفة وأطفال صغار لا مال لهم كيف يعيشون فقام ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله ماله
فقال ( لك ماله )
فجاء إليه
فقال قد وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك لي فهو لك
فقال ما فعل كعب بن أسد الذي وجهه كأنه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي قال قتل
قال فما فعل بعزاز بن سموأل مقدم اليهود إذا حملوا وحاميهم إذا انصرفوا قال قتل قال فما فعل بسيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب يحملهم في الحرب ويطعمهم في المحل قال قتل
قال فما فعل بفلان وفلان قال قتل
قال فقال يا ابن الأخ لا خير في الحياة بعد أولئك ألا اصبر فيه قدر فراغ دلو ماء حتى ألقى الأحبة
قال أبو بكر ويلك يا ابن باطا والله ما هو إفراغ دلو ماء ولكنه عذاب الله أبدا
يا ابن الأخ قدمني إلى مصارع قومي فاضرب ضربة أجهز بها وأرفع يدك عن العظام وألصق بالرأس فإن أحسن الجسد أن يكون فيه شيء من العنق
فقال ثابت ما كنت لأقتلك
قال ما أبالي من قتلني فتقدم رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب عنقه
وغنم الله عز وجل رسوله أموال بني قريظة وذراريها فقسمها بين المسلمين
فنزل قوله تعالى " وأنزل الذين ظاهروهم " يعني عاونوهم " من أهل الكتاب "
وهم بنو قريظة
( من صياصيهم ) يعني من قصورهم وحصونهم وأصل الصياصي في اللغة قرون الثور لأنه يتحصن بها
فقيل للحصون صياصي لأنها تمنع(3/53)
54
ثم قال " وقذف في قلوبهم الرعب " حين انهزم الأحزاب " فريقا تقتلون " يعني رجالهم " وتأسرون فريقا " تسبون طائفة وهم النساء والصبيان
قال مقاتل قتل أربعمائة وخمسون رجلا وسبي من النساء والصبيان ستمائة وخمسون
وقال في رواية الكلبي كانوا سبعمائة فقسمها بين المهاجرين
ثم قال عز وجل " وأورثكم أرضهم " يعني مزارعهم " وديارهم " يعني منازلهم " وأموالهم " يعني العروض والحيوان " وأرضا لم تطؤوها " يعني لم تملكوها ولم تقدروا عليها
يعني ورثكم تلك الأرض أيضا وهي أرض خيبر
وروي عن الحسن وغيره في قوله " أرضنا لم تطؤوها " قال كل ما فتح على المسلمين إلى يوم القيامة " وكان الله على كل شيء قديرا " يعني على فتح مكة وغيرها من القرى
سورة الأحزاب 28 - 29
قوله عز وجل " يا أيها النبي قل لأزواجك " وذلك أنه رأى منهن الميل إلى الدنيا وطلبن منه فضل النفقة " إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها " يعني وزهرتها " فتعالين أمتعكن " متعة الطلاق " وأسرحكن سراحا جميلا " يعني أطلقكن طلاق السنة من غير إضرار
قوله عز وجل " وإن كنتن تردن الله ورسوله " يعني تطلبن رضاء الله ورضاء رسوله " والدار الآخرة " يعني الجنة " فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما " يعني ثوابا جزيلا في الجنة
فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا
فلما نزلت هذه الآية جمع نساءه
فبدأ بعائشة فقال ( يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك )
قالت وما هو يا رسول الله فتلا عليها الآية
فقالت أفيك يا رسول الله أستشير أبوي بل اختار الله ورسوله والدار الآخرة ثم خير نساءه فاخترنه سائر النساء
سورة الأحزاب 30 - 31
ثم قال عز وجل " يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة " يعني الزنى " يضاعف " لها(3/54)
55
العذاب ضعفين ) يعني تعاقب مثلي ما يعاقب غيرها
ويقال الجلد والرجم وهذا قول الكلبي ويقال " من يأت منكن بفاحشة مبينة " يعني بمعصية " يضاعف لها العذاب ضعفين " لأن كرامتهن كانت أكثر فجعل العقوبة عليهن أشد وهذا كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال يغفر للجاهل سبعون ما لا يغفر للعالم واحد
ثم قال " وكان ذلك على الله يسيرا " يعني هينا
قرأ ابن كثير وعاصم في إحدى الروايتين " مبينة " بنصب الياء وقرأ الباقون بالكسر
وقرأ ابن كثير وابن عامر " نضعف " بالنون وتشديد العين " لها العذاب " بنصب الباء ومعناه لها العذاب
وقرأ أبو عمرو " يضعف " بالياء والتشديد وضم الباء في " العذاب " على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون " يضاعف " وهما لغتان
والعرب تقول ضعفت الشيء وضاعفته
قوله عز وجل " ومن يقنت منكن لله ورسوله " يعني ومن تطع منكن الله ورسوله " وتعمل صالحا " يعني تعمل بالطاعات فيما بينها وبين ربها " نؤتها أجرها مرتين " يعني ثوابها ضعفين " وأعتدنا لها رزقا كريما " يعني وثوابا حسنا في الجنة
قرأ حمزة والكسائي " ويعمل صالحا " بالياء وقرأ الباقون بالتاء
فمن قرأ بالياء فللفظ " من " لأن لفظها لفظ واحد مذكر كما اتفقوا في قوله " ومن يقنت "
ومن قرأ بالياء ذهب إلى المعنى وصار " منكن " فاصلا بين الفعلين
وقرأ حمزة والكسائي " يؤتها " بالياء يعني يؤتها الله وقرأ الباقون بالنون على معنى الإضافة إلى نفسه
سورة الأحزاب 32 - 33
ثم قال عز وجل " يا نساء النبي لستن كأحد من النساء " يعني لستن كسائر النساء
فقال لستن كأحد
ولم يقل كواحد
لأن لفظ الأحد يصلح للواحد والجماعة وأما لفظ الواحد فلا يصلح إلا للواحد
ثم قال عز وجل " إن اتقيتن " يعني إن اتقيتن المعصية وأطعتن الله ورسوله " فلا تخضعن بالقول " يعني لا تلن بالقول
ويقال " لستن كأحد من النساء إن اتقيتن " فأنتن أحق الناس بالتقوى وتم الكلام
ثم قال " فلا تخضعن بالقول " يعني لا ترفقن بالقول وهو اللين من الكلام
ومعلوم أن الرجل إذا أتى باب إنسان والرجل غائب فلا يجوز للمرأة أن تلين بالقول معه(3/55)
56
ثم قال " فيطمع الذي في قلبه مرض " يعني فجورا
وقال عكرمة هو شهوة الزنى
ويقال الميل إلى المعصية " وقلن قولا معروفا " يعني صحيحا جميلا
ويقال قولا حسنا يعني لينا
ويقال لا يقلن باللين فتفتن ولا بالخشن فتؤذين " وقلن قولا معروفا " بين ذلك
ثم قال عز وجل " وقرن في بيوتكن " من الوقار وهو من وقر يقر
ويقال هو من التقرير
ويقال قر يقر وأصله أقررن
ولكن المضاعف يراد به التخفيف فحذف إحدى الراءين للتخفيف فلما طرحوا إحدى الراءين استثقلوا الألف ولم تكن أصلية وإنما دخلت للوصل
فحذفت الألف
ومن قرأ " وقرن " بنصب القاف لا يكون إلا للتقرير
ثم قال
" ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى " يعني لا تتزين كتزين الجاهلية الأولى
والتبرج إظهار الزينة
ويقال التبرج الخروج من المنزل و " الجاهلية الأولى " قال الكلبي يعني الأزمنة التي ولد فيها إبراهيم عليه السلام
فكانت المرأة من أهل ذلك الزمان تتخذ الدروع من اللؤلؤ ثم تمشي وسط الطريق وكان ذلك في زمن نمرود الجبار
وروي عن الحكم بن عيينة قال " الجاهلية الأولى " كانت بين نوح وآدم عليهما السلام وكانت نساؤهم أقبح ما يكون من النساء ورجالهم حسان وكانت المرأة تريد الرجل على نفسها
وروى عكرمة عن ابن عباس أن " الجاهلية الأولى " كانت بين نوح وإدريس عليهما السلام وكانت ألف سنة
وقال مقاتل " الجاهلية الأولى " كانت قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم
وإنما سمى جاهلية الأولى لأنه كان قبله
ثم قال " وأقمن الصلاة " يعني أتممن الصلوات الخمس " وآتين الزكاة " يعني إن كان لكن مال " وأطعن الله ورسوله " فيما ينهاكن وفيما يأمركن " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس " يعني الإثم
وأصله في اللغة كل خبيث من المأكول وغيره
" أهل البيت " يعني يا أهل البيت وإنما كان نصبا للنداء ويقال إنما صار نصبا للمدح ويقال صار نصبا على جهة التفسير فكأنه يقول أعني أهل البيت
وقال " عنكم " بلفظ التذكير ولم يقل عنكن لأن لفظ أهل البيت يصلح أن يذكر ويؤنث
" ويطهركم تطهيرا " يعني من الإثم والذنوب
سورة الأحزاب 34
قوله عز وجل " واذكرن ما يتلى في بيوتكن " يعني احفظن ما يقرأ عليكن " من آيات الله " يعني القرآن " والحكمة " يعني أمره ونهيه في القرآن
فوعظهن ليتفكرون ثم قال " إن الله كان لطيفا " لطيف علمه فيعلم حالهن إن خضعن بالقول
ويقال " لطيفا " أمر نبيه بأن يلطف بهن " خبيرا " يعني عالما بأعمالهن(3/56)
57
سورة الأحزاب 35
قوله عز وجل " إن المسلمين والمسلمات " وذلك أن أم سلمة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه فأخشى أن لا يكون فيهن خير ولا لله عز وجل فيهن حاجة فنزل " إن المسلمين والمسلمات " ويقال إن النس اء اجتمعن وبعثن أنيسة رسولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقالت أنيسة إن الله تبارك وتعالى خالق الرجال والنساء وقد أرسلك إلى الرجال والنساء فما بال النساء ليس لهن ذكر في الكتاب فنزلت هذه الآية
وقال قتادة لما ذكر الله عز وجل أزواج النبي دخل نساء مسلمات عليهن فقلن ذكرتن ولم نذكر
ولو كان فينا خيرا ذكرنا
فنزلت هذه الآية " إن المسلمين والمسلمات " يعني المسلمين من الرجال والمسلمات من النساء
" والمؤمنين " يعني المصدقين الموحدين من الرجال " والمؤمنات " يعني المصدقات الموحدات من النساء " والقانتين " يعني المطيعين وأصل القنوت القيام
ثم يكون للمعاني ويكون للطاعة
كقوله " والقانتين " ويكون للإقرار بالعبودية كقوله " كل له قانتون " [ البقرة 116 والروم 26 ] " والقانتات " أي المطيعات من النساء " والصادقين " يعني الصادقين في إيمانهم من الرجال " والصادقات " من النساء " والصابرين والصابرات " على أمر الله تعالى من الرجال والنساء " والخاشعين والخاشعات " يعني المتواضعين من الرجال والنساء " والمتصدقين والمتصدقات " يعني المنفقين أموالهم في طاعة الله من الرجال والنساء " والصائمين والصائمات " قال مقاتل من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر فهو من الصائمين والصائمات
ثم قال " والحافظين فروجهم والحافظات " يعني من الفواحش من الرجال والنساء " والذاكرين الله كثيرا والذاكرات " يعني باللسان من الرجال والنساء
فذكر أعمالهم
ثم ذكر ثوابهم فقال " أعد الله لهم مغفرة " في الدنيا لذنوبهم " وأجرا عظيما " في الآخرة وهو الجنة
سورة الأحزاب 36
قوله عز وجل " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة " الآية
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لزينب بنت جحش الأسدية وهي بنت عمة النبي صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب ( إني أريد أن أزوجك من زيد بن حارثة )
فقالت يا رسول الله لا أرضاه لنفسي وأنا أرفع قريش لأنني من قريش(3/57)
58
وابنة عمتك
فنزل " وما كان لمؤمن " يعني ما جاز لمؤمن يعني زيد بن حارثة " ولا مؤمنة " يعني زينب بنت جحش " إذا قضى الله ورسوله أمرا " يعني حكم حكما في تزويجهما " أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " يعني اختيارا من أمرهم بخلاف ما أمر الله ورسوله
قرأ حمزة والكسائي وعاصم " أن يكون " بالياء بالتذكير
وقرأ الباقون بالتاء بلفظ التأنيث
فمن قرأ بالتاء فلأن لفظ الخيرة مؤنث ومن قرأ بالياء فإنه ينصرف إلى المعنى ومعناهما الاختيار ولتقدم الفعل
ثم قال " ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا " يعني بينا فلما سمعت زينب بنت جحش نزول هذه الآية قالت قد أطعتك يا رسول الله
سورة الأحزاب 37 - 39
ثم قال عز وجل " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه " يعني زيد بن حارثة قد أنعم الله عز وجل عليه بالإسلام " وأنعمت عليه " بالعتق " أمسك عليك زوجك " قال قتادة جاء زيد بن حارثة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن زينب اشتد علي لسانها وإني أريد أن أطلقها
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( اتق الله " وأمسك عليك زوجك " )
وكان يحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها وخشي مقالة الناس أن أمره بطلاقها فنزلت هذه الآية
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إلى زيد بن حارثة يطلبه في حاجة له فإذا زينب بنت جحش قائمة في درع وخمار فلما رآها أعجبته ووقعت في نفسه فقال ( سبحان الله يا مقلب القلوب ثبت قلبي )
فلما سمعت زينت جلست فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلما جاء زيد ذكرت ذلك له فعرف زيد أنها وقعت في نفسه وأعجب بها النبي صلى الله عليه وسلم
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله إن زينب امرأة فيها كبر تعصي أمري ولا تبر قسمي فلا حاجة لي فيها
فقال له ( اتق الله يا زيد في أهلك وأمسك عليه زوجك )(3/58)
59
فطلقها زيد ونزلت هذه الآية " وتخفي في نفسك " يعني تسر في نفسك ليت أنه طلقها " ما الله مبديه " يعني مظهره عليك حتى ينزل به قرآنا " وتخشى الناس " يعني تستحي من الناس
ويقال " وتخشى " مقالة الناس " والله أحق أن تخشاه " في أمرها
قال الحسن ما أنزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم آية أشد منها ولو كان كاتما شيئا من الوحي لكتمها
ثم قال " فلما قضى زيد منها وطرا " يعني حاجة " زوجناكها " فلما انقضت عدتها تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم
قال الحسن فكانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول أما أنتن فزوجكن آباؤكن وأما أنا فزوجني رب العرش تعني قوله " زوجناكها " ثم قال " لكيلا يكون على المؤمنين حرج " يعني لكيلا يكون على الرجل حرج بأن يتزوج امرأة ابنه الذي تبناه " في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا " يعني حاجة " وكان أمر الله مفعولا " يعني تزوج النبي صلى الله عليه وسلم إياها كائن لا بد واللام للزيادة وكي مثله فلو كان أحدهما لكان يكفي ولكن يجوز أن يجمع بين حرفين زائدين إذا كانا جنسين وإنما لا يجوز إذا كانا من جنس واحد كما قال " ليس كمثله شيء " [ الشورى11 ] ولا يصلح أن يقال مثل مثل أو كي كي فإذا كانا جنسين جاز
فقالت اليهود والمنافقون يا محمد تنهى عن تزوج امرأة الابن ثم تتزوجها فنزل قوله عز وجل " ما كان على النبي من حرج " يقول ليس على النبي إثم " فيما فرض الله له " يعني في الذي رخص الله عز وجل من تزوج زينب " سنة الله في الذين خلوا من قبل " يعني هكذا سنة الله في الذين مضوا يعني في كثرة تزوج النساء كما فعل الأنبياء عليهم السلام " وكان أمر الله قدرا مقدورا " يعني قضاء كائنا
قوله عز وجل " الذين يبلغون رسالات الله " قال مقاتل يعني النبي صلى الله عليه وسلم وحده
ويقال ينصرف إلى قوله " سنة الله في الذين خلوا من قبل " " الذين يبلغون رسالات الله "
" ويخشونه " في كتمان ما أظهر الله عليهم " ولا يخشون أحدا " في البلاغ " إلا الله وكفى بالله حسيبا " يعني شهيدا بأن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة عن الله عز وجل ويقال شهيدا يعني حفيظا
سورة الأحزاب 40
قوله عز وجل " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم " يعني بالتبني
وليس بأب لزيد بن حارثة " ولكن رسول الله " يعني ولكنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال لم يكن أب الرجال لأن(3/59)
60
بنيه ماتوا صغارا ولو كان الرجال بنيه لكانوا أنبياء ولا نبي بعده فذلك قوله " وخاتم النبيين " قرأ بعضهم " ولكن رسول الله " بضم اللام ومعناه ولكن هو رسول الله ومن قرأ بالنصب معناه ولكن كان رسول الله وكان " خاتم النبيين " وقرأ عاصم في إحدى الروايتين " وخاتم النبيين " بنصب التاء وقرأ الباقون بالكسر
فمن قرأ بالكسر يعني آخر النبيين
ومن قرأ بالنصب فهو على معنى إضافة الفعل إليه يعني أنه ختمهم وهو خاتم
قال أبو عبيد وبالكسر نقرأ لأنه رويت الآثار عنه أنه قال ( أنا خاتم النبيين ) فلم يسمع أحد من فقهائنا يروون إلا بكسر التاء
" وكان الله بكل شيء عليما " بمن يصلح للنبوة وبمن لا يصلح
فإن قيل كيف يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يظهر من نفسه خلاف ما في قلبه قيل له يجوز مثل هذا لأن في قوله " أمسك عليك زوجك واتق الله " أمر بالمعروف وفيه رد النفس عما تهوى وهذا عمل الأنبياء والصالحين عليهم السلام
وقال بعضهم للآية وجه آخر وهو أن الله تعالى قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تكون زوجته فلما زوجها من زيد بن حارثة لم يكن بينهما ألفة وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهاه عن الطلاق ويخفي في نفسه ما أخبره الله تعالى وقال بأنها تكون زوجته
فلما طلقها زيد بن حارثة كان يمتنع من تزوجها خشية مقالة الناس يتزوج امرأة ابنه المتبنى به
فأمره الله عز وجل بأن يتزوجها ليكون ذلك سبب الإباحة لنكاح امرأة الابن المتبنى لأمته فنزل " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه " [ الأحزاب 37 ] الآية
سورة الأحزاب 41 - 44
قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا " يعني اذكروا الله باللسان
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن هذه القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد )
قيل يا رسول الله فما جلاؤها قال ( تلاوة كتاب الله عز وجل وكثرة ذكره )
وذكر أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن شرائع الإسلام قد كثرت فأنبئني منها بأمر أتشبث به
فقال ( لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل )
ويقال ليس شيء من العبادات أفضل من ذكر الله تعالى لأنه قدر لكل عبادة مقدارا ولم يقدر للذكر وأمر بالكثرة فقال " اذكروا الله ذكرا كثيرا " يعني اذكروه في الأحوال كلها لأن الإنسان لا يخلو من أربعة(3/60)
61
أحوال إما أن يكون في الطاعة أو في المعصية أو في النعمة أو في الشدة
فإذا كان في الطاعة ينبغي أن يذكر الله عز وجل بالإخلاص ويسأله القبول والتوفيق
وإذا كان في المعصية ينبغي أن يذكر الله عز وجل بالامتناع عنها ويسأل منه التوبة منها والمغفرة
وإذا كان في النعمة يذكره بالشكر وإذا كان في الشدة يذكره بالصبر
ثم قال " وسبحوه بكرة وأصيلا " يعني غدوا وعشيا
يعني صلوا لله بالغداة والعشي
يعني الفجر والعصر
ويقال بالغداة
يعني صلوا أول النهار وهي صلاة الفجر " وأصيلا " يعني صلوا آخر النهار وأول النهار وهي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء
ثم قال عز وجل " هو الذي يصلي عليكم " يقول هو الذي يرحمكم ويغفر لكم " وملائكته " أي يأمر الملائكة عليهم السلام بالاستغفار لكم " ليخرجكم من الظلمات إلى النور " يعني أخرجكم من ظلمة الكفر إلى الإيمان ووفقكم لذلك
اللفظ لفظ المستأنف والمراد به الماضي يعني أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ونور قلوبكم بالمعرفة
ويقال معناه ليثبتكم على الإيمان ويمنعكم عن الكفر
ويقال " ليخرجكم من الظلمات " يعني من المعاصي إلى نور التوبة والطهارة من الذنوب
ويقال من ظلمات القبر إلى نور المحشر
ويقال من ظلمات الصراط إلى نور الجنة
ويقال من ظلمات الشبهات إلى نور البرهان والحجة
ثم قال " وكان بالمؤمنين رحيما " يعني بالمصدقين الموحدين " رحيما " يرحم عليهم
ثم قال عز وجل " تحيتهم يوم يلقونه سلام " قال مقاتل يعني يلقون الرب في الآخرة بسلام
وقال الكلبي تجيبهم الملائكة عليهم السلام على أبواب الجنة بالسلام فإذا دخلوها حيا بعضهم بالسلام
وتحية الرب إياهم حين يرسل إليهم بالسلام
ويقال يعني يسلم بعضهم على بعض ويقال يسلمون على الله تعالى " وأعد لهم أجرا كريما " يعني جزاء حسنا في الجنة
ويقال مساكن في الجنة حسنة
سورة الأحزاب 45 - 48
قوله عز وجل " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا " يعني شهيدا على أمتك بالبلاغ " ومبشرا " بالجنة لمن أطاع الله في الآخرة وفي الدنيا بالنصرة " ونذيرا " من النار يعني مخوفا لمن عصى الله عز وجل " وداعيا إلى الله " يعني أرسلناك داعيا إلى توحيد الله ومعرفته " بإذنه " يعني بأمره " وسراجا منيرا " يعني أرسلناك سراجا منيرا لأنه يضيء الطريق فهذه كلها صارت نصبا لنزع الخافض(3/61)
62
ثم قال عز وجل " وبشر المؤمنين " يعني بشر يا محمد المصدقين بالتوحيد " بأن لهم من الله فضلا كبيرا " في الجنة
وذلك أنه لما نزل قوله عز وجل " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " [ الفتح 20 ] فقال المؤمنون هذا لك
فما لنا فنزل قوله تعالى " وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا " في الجنة فلما سمع المنافقون ذلك قالوا فما لنا فنزل و " وبشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما " [ النساء 138 ]
ثم رجع إلى ما ذكر في أول السورة فقال تعالى " ولا تطع الكافرين " من أهل مكة " والمنافقين " من أهل المدينة " ودع أذاهم " أي تجاوز عن المنافقين ولا تقتلهم
ويقال " ودع أذاهم " يعني اصبر على أذاهم
وإن خوفك شيء منهم " فتوكل على الله " يعني فوض أمرك إلى الله
وروى الأعمش عن سفيان بن سلمة عن ابن مسعود قال قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة فقال رجل من الأنصار إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله فأخبر بذلك فاحمر وجهه فقال ( رحم الله أخي موسى عليه السلام لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر )
ثم قال " وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا " يعني حافظا نصيرا
سورة الأحزاب 49
قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن " قرأ حمزة والكسائي " تماسوهن " وقرأ الباقون " تمسوهن " مثل الاختلاف الذي ذكرنا في سورة البقرة " فما لكم عليهن من عدة " يعني ليس للأزواج عليهن عدة " تعتدونها " وإنما خص المؤمنات لأن نكاح المؤمنات كان مباحا في ذلك الوقت فلما أحل الله تعالى نكاح الكتابيات صار حكم الكتابية وحكم المؤمنة في هذا سواء إذا طلقها قبل أن يخلو بها لا عدة عليها بالإجماع وإن طلقها بعد ما خلا بها ولم يدخل بها فقد روي عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا لا عدة عليها
وقال عمر وعلي ومعاذ وزيد بن ثابت وجماعة منهم رضي الله عنهم أن عليها العدة وهو أحوط الوجهين أنه إذا خلا بها ولم تكن المرأة حائضا ولم يكن أحدهما مريضا ولا محرما ولا صائما صوم فرض يجب على الزوج المهر كاملا وعليها العدة احتياطا
وأما إذا كانت المرأة حائضا أو مريضة أو محرمة أو صائمة عن فرض أو الرجل مريض أو صائم عن فرض أو محرم فطلقها بعد الخلوة قبل الدخول فعليه نصف المهر وعليها العدة احتياطا
ثم قال " فمتعوهن " يعني متعة الطلاق ثلاثة أبواب وهي مستحبة غير واجبة " وسرحوهن سراحا جميلا " يعني خلو سبيلهن تخلية حسنة وهو أن يعطيها حقها(3/62)
63
سورة الأحزاب 50
قوله عز وجل " يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك " يعني نساءك " اللاتي آتيت أجورهن " يعني أعطيت مهورهن لأن غيره كان له أكثر من أربع نسوة أمره أن يترك ما زاد على الأربع وقد أحل للنبي صلى الله عليه وسلم إمساك التسع ولم يأمره بالفرقة
" وما ملكت يمينك " يعني أحللنا لك من الإماء مثل مارية القبطية " مما أفاء الله عليك " من الغنيمة يعني أعطاك الله كقوله تعالى " وما أفاء الله على رسوله " [ الحشر 7 ]
ثم قال " وبنات عمك " يعني أحللنا لك نكاح بنات عمك " وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك " يعني هاجرن معه من مكة إلى المدينة أو قبله أو بعده
ثم قال " وامرأة مؤمنة " يعني أحللنا لك امرأة مؤمنة " إن وهبت نفسها للنبي " صلى الله عليه وسلم وقرأ الحسن " أن وهبت " بنصب الألف ومعناه إذا وهبت ويكون ذلك الفعل خاصة لامرأة واحدة
وقراءة العامة " إن " بالكسر فيكون معناه لكل امرأة إن فعلت ذلك في المستقبل
قال مقاتل وذلك أن أم شريك وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم بغير مهر كذا قال الكلبي
وروى معمر عن الزهري في قوله " إن وهبت نفسها للنبي " قال بلغنا أن ميمونة وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ووهبت سودة يومها لعائشة رضي الله عنهن
وروى وكيع عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي وعمرو بن الحكم وعبد الله بن عبيدة قال تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشر امرأة ستة من قريش خديجة بنت خويلد وعائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية
وثلاثا من بني عامر وامرأتين من بني هلال ميمونة بنت الحارث وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وزينب أم المساكين وامرأة من بني بكر وهي التي اختارت الدنيا وامرأة من بني الحزن من كندة وهي التي استعاذت منه
وقال يحيى بن أبي كثير تزوج أربعة عشر خديجة وسودة وعائشة تزوج هؤلاء الثلاث بمكة وتزوج بالمدينة زينب بنت خزيمة وأم سلمة وجويريه من بني المصطلق(3/63)
64
وميمونة بنت الحارث وصفية بنت حيي بن أخطب وزينب بنت جحش وكانت امرأة زيد بن حارثة وعالية بنت ظبيان وحفصة وأم حبيبة والكندية وامرأة من كلب
وروى الزهري عن عروة قال لما دخلت الكندية على النبي صلى الله عليه وسلم قالت أعوذ بالله منك فقال ( لقد عذت بعظيم الحقي بأهلك )
ثم قال " إن أراد النبي أن يستنكحها " يعني أن يتزوجها بغير صداق " خالصة لك من دون المؤمنين " يعني خالصا للنبي صلى الله عليه وسلم بغير مهر ولا يحل لغيره
وقال الزهري الهبة كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ولا تحل لأحد أن تهب له امرأة نفسها بغير صداق
وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال لم تحل الموهوبة لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم
واختلف الناس في جواز النكاح قال أهل المدينة باطل وقال أهل العراق النكاح جائز ولها مهر مثلها
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أجاز ذلك
وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن خولة بنت حكيم وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وكانت من المهاجرات الأول
وقال القتبي العرب تخبر عن الغائب ثم ترجع إلى الشاهد فتخاطبه كما قال هاهنا " إن وهبت نفسها للنبي " بلفظ الغائب ثم قال " خالصة لك من دون المؤمنين "
ثم قال " قد علمنا ما فرضنا عليهم " يعني ما أوجبنا عليهم " في أزواجهم " يعني في أن لا يتزوجوا إلا بالمهر
ويقال إلا أربعا " وما ملكت أيمانهم " ويقال يعني إلا ما لا وقت فيهن " لكيلا يكون عليك حرج " في الهبة بغير مهر
وفي الآية ومعناه أنا أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم لكي لا يكون عليك حرج
ثم قال " وكان الله غفورا " يعني غفورا فيما تزوج قبل النهي " رحيما " في تحليل ذلك
سورة الأحزاب 51 - 52(3/64)
65
قوله عز وجل " ترجي من تشاء منهن " قرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم " ترجىء " بالهمزة وقرأ الباقون بغير الهمز كلاهما في اللغة واحد وأصله من التأخير
يقول تؤخر من تشاء منهن ولا تتزوجها " وتؤوي إليك من تشاء " يعني تضم فتتزوجها فخيره في تزويج القرابة
ويقال تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء
وقال قتادة جعله في حل أن يدع من يشاء منهن ويضم إليه من يشاء يعني إن شاء جعل لهن قسما وإن شاء لم يجعل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم
وقال الحسن كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة فليس لأحد أن يخطبها حتى يتزوجها أو يدعها وفي ذلك نزل " ترجي من تشاء منهن "
ثم قال " ومن ابتغيت " يعني آثرت " ممن عزلت " يعني تركت " فلا جناح عليك " يعني لا إثم عليك " ذلك أدنى " يعني أحرى وأجدر إذا علمن أنك تفعل بأمر الله " أن تقر أعينهن " يعني تطمئن قلوبهن " ولا يحزن " مخافة الطلاق " ويرضين بما آتيتهن " يعني أعطيتهن " كلهن " من النفقة إذا علمن أنه من الله عز وجل
وقرئ في الشاذ " كلهن " بالنصب صار نصبا لوقوع الفعل عليه وهو الإعطاء وقراءة العامة " أتيتهن كلهن " بالضم ومعناه يرضين كلهن بما أعطيتهن
ثم قال " والله يعلم ما في قلوبكم " من الحب والبغض " وكان الله عليما " بما في قلوبكم " حليما " بالتجاوز
قوله عز وجل " لا يحل لك النساء من بعد " قال مجاهد أي لا تحل لك اليهوديات ولا النصرانيات " من بعد " يعني من بعد المسلمات " ولا أن تبدل بهن من أزواج "
يقول لا تبديل اليهوديات ولا النصرانيات على المؤمنات
يقول لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية إلا ما ملكت يمينك من اليهوديات والنصرانيات يتسراهن
قال الحسن وابن سيرين خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه بين الدنيا والآخرة فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة فشكر الله لهن على ذلك فحبسه عليهن
فقال " لا يحل لك النساء من بعد " " ولا أن تبدل بهن من أزواج " يعني لا يحل لك أن تطلق واحدة منهن وتتزوج غيرهن
قرأ أبو عمرو " لا تحل " بالتاء بلفظ التأنيث وقرأ الباقون بالياء يعني لا يحل لك من النساء شيء
ويقال معناه لا تحل لك جميع النساء
فمن قرأ بالتاء بالتأنيث يعني جماعة النساء
ثم قال " ولو أعجبك حسنهن " يعني أسماء بنت عميس أراد أن يتزوجها فنهاه الله تعالى عز وجل عن ذلك فتركها وتزوجها أبو بكر رضي الله عنه بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إلا ما ملكت يمينك " من السريات " وكان الله على كل شيء رقيبا " من أمر التزويج " رقيبا " يعني(3/65)
66
حفيظا
وروى عمرو بن دينار عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها قالت ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حل له النساء بعد قوله " لا يحل لك النساء "
سورة الأحزاب 53 - 55
قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي " وذلك أن أناسا من المسلمين كانوا يتحينون غذاء النبي صلى الله عليه وسلم ويدخلون عليه بغير إذن ويجلسون وينتظرون الغداء وإذا أكلوا جلسوا طويلا ويتحدثون طويلا فأمرهم الله عز وجل بحفظ الأدب فقال " لا تدخلوا بيوت النبي " " إلا أن يؤذن لكم إلى طعام " يعني إلا أن يدعوكم ويأذن لكم في الدخول " غير ناظرين إناه " يعني من غير أن تنتظروا وقته
ويقال أصله إدراك الطعام يعني غير ناظرين إدراكه
ويقال " إناه " يعني نضج الطعام
ثم قال " ولكن إذا دعيتم فادخلوا " يعني إذا دعاكم إلى الطعام فادخلوا بيته " فإذا طعمتم " الطعام " فانتشروا " يعني تفرقوا " ولا مستأنسين لحديث " أي لا تدخلوا مستأنسين للحديث " إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم " أن يقول لكم تفرقوا " والله لا يستحي من الحق " يعني من بيان الحق أن يأمركم بالخروج بعد الطعام
قال الفقيه أبو الليث في الآية حفظ الأدب والتعليم أن الرجل إذا كان ضيفا لا ينبغي أن يجعل نفسه ثقيلا ولكنه إذا أكل ينبغي أن يخرج
ثم قال " وإذا سألتموهن متاعا " يعني إذا سألتم من نسائه متاعا فلا تدخلوا عليهن " فاسألوهن من وراء حجاب " يعني من خلف الستر
ويقال خارج الباب " ذلكم أطهر " من الريبة " لقلوبكم وقلوبهن "
ثم قال " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله " قال وذلك أن طلحة بن عبيد الله قال لئن مات محمد لأتزوجن بعائشة فنزل " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله " " ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا " يعني ولا أن تتزوجوا أزواجه من بعد وفاته أبدا " إن ذلك كان عند الله عظيما " في العقوبة
ويقال إنما نهى عن ذلك لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة
وروي عن حذيفة أنه قال لامرأته إن أردت أن تكوني زوجتي في الجنة فلا تتزوجي بعدي فإن المرأة لآخر أزواجها ولذلك حرم الله تعالى على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجن بعده
وروي أن أم الدرداء قالت لأبي الدرداء عند موته إنك خطبتني إلى أبوي في الدنيا فأنكحاك وإني أخطبك إلى نفسك في الآخرة فقال لها فلا تنكحي بعدي فخطبها معاوية بن أبي سفيان فأخبرته بالذي كان وأبت أن تتزوجه
وروي في خبر آخر بخلاف هذا أن أم حبيبة قالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المرأة منا كان لها زوجان لأيهما تكون في الآخرة فقال ( إنها تخير فتختار أحسنهما خلقا معها )
ثم قال ( يا أم حبيبة إن حسن الخلق ذهب بالدنيا والآخرة(3/66)
)
ثم قال عز وجل " إن تبدوا شيئا أو تخفوه " يعني إن تظهروا شيئا من أمر التزويج أو تسروه وتضمروه " فإن الله كان بكل شيء عليما " من السر والعلانية يعلم ما أعلنتم وما أخفيتم يجازيكم به
ثم خص الدخول على نساء ذوات محرم بغير حجاب فرخص في ذلك وهو قوله عز وجل " لا جناح عليهن في آبائهن " يعني في الدخول عليهن " ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن " يعني نساء أهل دينهن " ولا ما ملكت أيمانهن " من الخدم " واتقين الله " يعني اخشين الله وأطعن الله فلا يراهن غير هؤلاء " إن الله كان على كل شيء شهيدا " يعني عالما بأعمالهم
سورة الأحزاب 56 - 58
قوله عز وجل " إن الله وملائكته يصلون على النبي " فالصلاة من الله الرحمة والمغفرة ومن الملائكة عليهم السلام الاستغفار يعني أن الله عز وجل يغفر للنبي ويأمر ملائكته بالاستغفار والصلاة عليه(3/67)
67
سورة سبأ 34 - 35
قوله عز وجل " وما أرسلنا في قرية من نذير " يعني من رسول " إلا قال مترفوها " يعني جبابرتها ورؤساؤها للرسل " إنا بما أرسلتم به كافرون " يعني جاحدون بالتوحيد والمترف المتنعم وإنما أراد به المتكبرين " وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا " في الدنيا " وما نحن بمعذبين " في الآخرة
ومعناه أن الكفار المتقدمين استخفوا بالفقراء وآذوا الرسل كما يفعل بك قومك وافتخروا بما أعطاهم الله عز وجل من الأموال كما افتخر قومك
وأمره بأن يأمرهم بأن لا يفتخروا بالمال فإن الله تعالى يعطي المال لمن يشاء
سورة سبأ 36 - 39
قوله عز وجل " قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء " أي يوسع المال لمن يشاء وهو مكر منه واستدراج " ويقدر " يعني يقتر على من يشاء وهو نظر له لكي يعطى في الآخرة من الجنة بما قتر عليه في الدنيا " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " أن التقتير والبسط من الله عز وجل
ويقال لا يصدقون أن الذين اختاروا الآخرة خير من الذين اختاروا الدنيا فأخبرهم الله تعالى أن أموالهم لا تنفعهم يوم القيامة فقال عز وجل " وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى " يعني قربة ومعناه وما أموالكم بالتي تقربكم ولا أولادكم ولو كان على سبيل الجمع لقال بالذين يقربونكم لأن الحكم للآدميين إذا اجتمع معهم غيرهم
ثم قال " إلا من آمن " يعني إلا من صدق بالله ورسوله " وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف " يعني أجرة مثل ما يكون لغيره
ويقال الذي يقربكم إلى الله " فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا " يعني للواحد عشرة إلى سبعمائة وإلى ما لا يحصى
وقال القتبي أراد بالضعف التضعيف أي لهم جزاء وزيادة
قال ويحتمل " جزاء الضعف " أي جزاء الأضعاف كقوله " عذابا ضعفا من النار " [ الأعراف 38 ] أي مضافا
وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال إن الغني إذا كان تقيا يضاعف الله له الأجر مرتين ثم قرأ هذه الآية
" وما أموالكم ولا أولادكم " إلى قوله " فأولئك لهم جزاء الضعف " يعني أجره مثلي ما يكون لغيره
ويقال هذا لجميع من عمل صالحا(3/68)
68
ثم أمر المسلمين بالصلاة عليه فقال " يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه " روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أنه قال قلنا يا رسول الله كيف نصلي عليك فقال ( قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ) إلى آخره
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( صلوا علي فإن الصلاة علي زكاة لكم واسألوا الله لي الوسيلة )
قالوا وما الوسيلة يا رسول الله قال ( أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو )
وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه عشر خطيئات )
ويقال ليس شيء من العبادات أفضل من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأن سائر العبادات أمر الله تعالى بها عباده
وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقد صلى عليه أولا هو بنفسه وأمر الملائكة بذلك ثم أمر العباد بذلك
ثم قال " وسلموا تسليما " يعني اخضعوا له خضوعا
ويقال ائتمروا بما يأمركم الله تعالى
ويقال لما نزلت هذه الآية قال المسلمون هذا لك فما لنا فنزل " هو الذي يصلى عليكم وملائكته " [ الأحزاب 43 ]
ثم قال عز وجل " إن الذين يؤذون الله ورسوله " يعني اليهود والنصارى حيث قالوا " يد الله مغلولة غلت أيديهم " [ المائدة 64 ] ونحو ذلك من الكلمات ويقال أذاهم الله وهو قولهم لله ولد ونحو ذلك وإيذاءهم رسوله أنهم زعموا أنه ساحر ومجنون " لعنهم الله في الدنيا " يعني عذبهم الله في الدنيا بالقتل والسبي " والآخرة " بالنار
ويقال هم الذين يجعلون التصاوير ويقولون تخلق كما يخلق الله تعالى " وأعد لهم عذابا مهينا " يهانون فيه
ثم قال عز وجل " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا " يعني بغير جرم " فقد احتملوا بهتانا " يعني قالوا كذبا " وإثما مبينا " يعني ذنبا بينا
قال مقاتل قال السدي نزلت هذه الآية في أمر عائشة وصفوان ويقال في جميع من يؤذي مسلما بغير حق
وقال عثمان لأبي بن كعب إني قرأت هذه الآية " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات " فوقعت مني كل موقع والله إني لأضربهم وأعاقبهم
فقال له أبي إنك لست منهم إنك مؤدب معلم
سورة الأحزاب 59(3/69)
69
قوله عز وجل " يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك " وذلك أن المهاجرين نزلوا في ديار الأنصار فضاقت الدور عليهم وكن النساء يخرجن بالليل إلى التخلي يقضين حوائجهن وكان الزناة يرصدون في الطريق المؤمنات وكانوا يطلبون الولائد ولم يعرفوا المرأة الحرة من الأمة بالليل
فأمر الحرائر بأخذ الجلباب
وقال الحسن كن النساء والإماء بالمدينة يقال لهن كذا وكذا يخرجن فيتعرض لهن السفهاء فيؤذونهن فكانت الحرة تخرج فيحسبون أنها أمة ويؤذونها فأمر الله تعالى المؤمنات " أن يدنين عليهم من جلابيبهن "
وقال القتبي يلبسن الأردية
ويقال يعني يرخين الجلابيب على وجههن
وقال مجاهد " يدنين عليهن من جلابيبهن " يعني متجلببين ليعلم أنهن حرائر فلا يتعرض لهن فاسق بأذى من قول ولا ريبة
" ذلك أدنى " يعني أحرى أن يعرفن الحرائر " فلا يؤذين " " وكان الله غفورا رحيما " إذا تابوا ورجعوا
سورة الأحزاب 60 - 62
ثم أوعد المنافقين وخوفهم لينزجروا عن الحرائر والإماء فقال عز وجل " لئن لم ينته المنافقون " عن نفاقهم " والذين في قلوبهم مرض " يعني الميل إلى الزنى إن لم يتوبوا عن ذلك " والمرجفون في المدينة " يعني الذي يخبرون بالأراجيف
وكانوا يخبرون المؤمنين بما يكرهون من أمر عدوهم
والأراجيف هي أول الأخبار وأصل الرجف هو الحركة فإذا وقع خبر الكذب فإنه يقع الحركة بالناس فسمي إرجافا
ويقال الأراجيف تلقح الفتنة يعني إن لم ينتهوا عن النفاق وعن والفجور وعن القول بالأراجيف
" لنغرينك بهم " يعني لنسلطنك عليهم ويقال لنحملنك على قتلهم
وروى سفيان عن منصور عن أبي رزين قال " لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة " فإن هذا كله شيء واحد
يعني أنه نعتهم بأعمالهم الخبيثة
" ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا " يعني لا يساكنونك في المدينة إلا قليلا حتى أهلكهم
ويقال إلا جوارا قليلا ويقال إلا قليلا منهم
وقال قتادة إن أناسا من المنافقين أرادوا أن يظهروا نفاقهم فنزلت هذه الآية
ثم قال عز وجل " ملعونين أينما ثقفوا " يعني يجعلهم ملعونين أينما وجدوا فأوجب الله تعالى لهم اللعنة على كل حال أينما وجدوا وأدركوا " أخذوا وقتلوا تقتيلا " فلما سمعوا بالقتل انتهوا عن ذلك
قوله عز وجل " سنة الله في الذين خلو من قبل " يعني سنة الله في الزناة القتل(3/70)
70
ويقال هكذا سنة الله في الذين مضوا
يعني الذين أضمروا النفاق بأن يسلط الله عليهم الأنبياء بالقتل ويقال " سنة الله " " ولن تجد لسنة الله تبديلا " يعني مبدلا ومغيرا
سورة الأحزاب 63 - 68
قوله عز وجل " يسألك الناس عن الساعة " يعني عن قيام الساعة وذلك أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله متى الساعة فقال صلى الله عليه وسلم ( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل )
فنزل " قل إنما علمها عند الله " يعني علم قيام الساعة عند الله " وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا " يعني سريعا
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال من أشراط الساعة أن يفتح القول ويحزن الفعل وأن ترفع الأشرار وتوضع الأخيار
ومعنى يفتح الأقوال أن تقول أفعل غدا
فإذا جاء غدا خالف قوله وقت الفعل
وأصل الفتح الابتداء وأن يعد لأخيه عدة حسنة ثم يخالفه وقال عطاء بن أبي رباح من اقتراب الساعة مطر ولا نبات وعلو أصوات الفساق في المساجد وظهور أولاد الزنا وموت الفجأة وانبعاث الدويبضة يعني السفلة من الناس
وقوله " لعل الساعة تكون قريبا " ولم يقل قريبة لأنها جعلت ظرفا وبدلا ولم تجعل نعتا وصفة
ثم قال عز وجل " إن الله لعن الكافرين " يعني خذلهم وطردهم من رحمته " وأعد لهم سعيرا " يعني جهنم
ويقال لعن الكافرين في الدنيا بالقتل وفي الآخرة أعد لهم سعيرا " خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا " يعني قريبا ينفعهم " ولا نصيرا " أي مانعا يمنعهم من العذاب والسعير في اللغة هو النار الموقدة
ثم قال عز وجل " يوم تقلب وجوههم في النار " يعني هذا العذاب في " يوم تقلب وجوههم في النار " يعني تحول عن الحسن إلى القبح من حال البياض إلى حال السواد وزرقة الأعين
ويقال " تقلب " يعني تجدد كقوله " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها " [ النساء 56 ] فيندمون على فعلهم ويوبخون أنفسهم و " يقولون يا ليتنا أطعنا الله " فيما أمرنا ونهانا " وأطعنا الرسولا " فيما دعانا إلى الحق " وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا " يعني قادتنا وأشرافنا وعظماءنا " فأضلونا السبيلا " يعني صرفونا عن طريق الإسلام
ويقال أضللت(3/71)
71
الطريق وأضللته عن الطريق بمعنى واحد
قرأ ابن عامر " ساداتنا "
وقرأ الباقون " سادتنا " جمع سيد وساداتنا جمع الجمع
ثم قال عز وجل " ربنا آتهم ضعفين من العذاب " يعني زدهم واحمل عليهم
يعني عذبهم بذنوبهم وارفع عنا بعض العذاب واحمل عليهم فإنهم هم الذين أضلونا " والعنهم لعنا كبيرا " قرأ عاصم وابن عامر في إحدى الروايتين " كبيرا " بالباء من الكبر والعظم يعني عذبهم عذابا عظيما
وقرأ الباقون " كثيرا " من الكثرة يعني عذبهم عذابا كثيرا دائما
سورة الأحزاب 69 - 71
قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى " يعني لا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما آذى بنو إسرائيل موسى عليه السلام
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله أخبرني الثقة بإسناده عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده
فقال بعضهم والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا به أدرة فذهب موسى عليه السلام مرة يغتسل
فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه فخرج موسى بأثره يقول حجر ثوبي حجر ثوبي حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى
فقالوا والله ما بموسى من بأس
فقام الحجر وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا )
فقال أبو هريرة ستة أو سبعا
والله إن بالحجر لندبا سبعة بضرب موسى وذلك قوله " فبرأه الله مما قالوا " ويقال إن موسى وهارون خرجا فتوفي هارون في تلك الخرجة فلما رجع موسى إلى قومه قالت السفهاء من بني إسرائيل لموسى أنت قتلت هارون
فخرج موسى مع جماعة من بني إسرائيل فأحيا الله تعالى هارون عليه السلام فأخبر أنه لم يقتله أحد وأنه مات بأجله فذلك قوله تعالى " فبرأه الله مما قالوا " " وكان عند الله وجيها " يعني مكينا وكان له جاه عنده منزلة وكرامة
ثم قال عز وجل " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله " يعني أطيعوا الله واخشوا الله " وقولوا قولا سديدا " يعني عدلا صوابا وهو قولهم ابن فلان فأمرهم أن ينسبوهم إلى آبائهم
ويقال " قولوا قولا سديدا " يعني لا إله إلا الله
ويقال قولا مخلصا " يصلح لكم أعمالكم " يعني يقبل أعمالكم " ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله " في السر والعلانية " فقد فاز فوزا عظيما " يعني نجا بالخير وأصاب نصيبا وافرا(3/72)
72
سورة الأحزاب 72 - 73
قوله عز وجل " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال " قال مجاهد لما خلق الله عز وجل الأمانة عرضها على السموات والأرض والجبال " فأبين أن يحملنها " فلما خلق آدم عليه السلام عرض عليه الأمانة فحملها فما كان بين أن حملها وبين أن أخرج من الجنة إلا كما بين الظهر والعصر
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال " إنا عرضنا الأمانة يعني الفرائض على السموات والأرض والجبال
فقال لهن أتأخذن بما فيها فقلن وما فيها يا رب قال إن أحسنتن جزيتن وإن أسأتن عوقبتن
فقلن يا رب إن تعرضها علينا فلا نريد وإن أمرتنا بها فنحن نجتهد
وعرضت على الإنسان يعني آدم عليه السلام فقبلها وحملها
وقال بعضهم هذا على وجه المثل إن لم تظهر الخيانة في الأمانة إلا من الإنسان فلم تظهر من السموات والأرض والجبال كما قال " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل " [ الحشر 21 ] فكأنه يقول لو عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال لأبين عن حملها " وأشفقن منها وحملها الإنسان " يعني آدم وذريته " إنه كان ظلوما جهولا " بالقبول
وروي عن الحسن أنه قال عرض على السموات عرض التخيير لا عرض الإيجاب فلذلك لم تعص بترك قبولها ويقال " عرضنا الأمانة على السموات " يعني على ملائكة السموات والأرض والجبال كما قال " وسئل القرية " [ يوسف 82 ] يعني أهل القرية
وقال السدي لما آدم أراد أن يحج عرض الأمانة يعني أمر ولده شيث وهابيل وقابيل فعرض على قابيل أخذ خزائنه والائتمار والقيام في شغل الدنيا والعيش حتى يرجع هو من الحج إلى وطنه فقبله فقبله ثم خانه فقتل أخاه
وإنما كان عرض آدم عليه السلام بأمر الله عز وجل فلذلك قال " عرضنا "
وقال بعضهم إن الله عز وجل لما استخلف آدم على ذريته وسلطه على جميع ما في الأرض من الأنعام والوحوش والطير عهد إليه عهدا أمره فيه ونهاه فقبله ولم يزل عاملا به إلى أن حضرته الوفاة فسأل ربه أن يعلمه من يستخلف بعده ويقلده الأمانة فأمره أن يعرض على السموات والأرض بالشرط الذي أخذ عليه من الثواب إن أطاع ومن العقاب إن عصى " فأبين " أن يقبلنها شفقا من عذاب الله عز وجل فأمره أن يعرض على الأرض والجبال وكلها(3/73)
73
أبت ثم أمره أن يعرض على ولده فعرض عليه فقبله بالشرط " إنه كان ظلوما جهولا " لعاقبة ما تقلده يعني المتقبل الذي تقبله
وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم قال " الأمانة " ثلاث في الصلاة والصيام والجنابة
ثم قال عز وجل " ليعذب الله المنافقين والمنافقات " يعني عرضنا الأمانة على الإنسان لكي يعذب الله المنافقين والمنافقات " والمشركين والمشركات " بما خانوا الأمانة " ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات " بما أوفوا الأمانة " وكان الله غفورا رحيما " " وكان " صلة في الكلام يعني والله غفور لذنوب المؤمنين رحيم بهم
وروى سفيان عن عاصم عن زر بن حبيش قال قال أبي بن كعب كانت سورة الأحزاب لتقارب سورة البقرة أو أطول منها وكان فيها آية الرجم قلت يا أبا المنذر وما آية الرجم فقال إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله العزيز الحكيم والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وسلم
74
سورة سبأ
مكية وهي خمسون وأربع آيات
سورة سبأ 1 - 2
قول الله تعالى " الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض " من الخلق " وله الحمد في الآخرة " يعني يحمده أهل الجنة
ويقال يحمدونه في ستة مواضع أحدهما حين نودي " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " [ يس 59 ] فإذا تميز المؤمنون من الكافرين يقولون " الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين " [ المؤمنون 28 ] كما قال نوح عليه السلام حين أنجاه الله عز وجل من قومه
والثاني حين جازوا الصراط قالوا " الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن " [ فاطر 34 ]
والثالث لما دنوا إلى باب الجنة واغتسلوا بماء الحيوان ونظروا إلى الجنة وقالوا " الحمد لله الذي هدانا لهذا " [ الأعراف 43 ]
والرابع لما دخلوا الجنة استقبلتهم الملائكة عليهم السلام بالتحية فقالوا " الحمد لله الذي صدقنا وعده " [ الزمر 74 ] الآية
والخامس حين استقروا في منازلهم وقالوا " الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة من فضله " [ فاطر 34 ، 35 ]
والسادس كلما فرغوا من الطعام قالوا " والحمد لله رب العالمين " [ الفاتحة 1 ] وقال بعضهم أنا الذي أتوجب الحمد في الآخرة كما استوجب الحمد في الدنيا ثم قال " وهو الحكيم الخبير " يعني حكم بالبعث " الخبير " يعني العليم
ثم قال عز وجل " يعلم ما يلج في الأرض " يعني ما يدخل في الأرض من المطر والأموات والطيور والكنوز " وما يخرج منها " من النبات والكنوز والميت " وما ينزل من السماء " من مطر أو وحي أو رزق أو مصيبة " وما يعرج فيها " يعني يصعد إلى السماء من الملائكة وأعمال بني آدم " وهو الرحيم " بخلقه " الغفور " بتأخير العذاب عنهم
سورة سبأ 3(3/74)
75
سورة سبأ 4 - 5
قوله عز وجل " وقال الذين كفورا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي " قسم أقسم به يعني بلى والله
( لتأتينكم عالم الغيب ) قرأ ابن عامر ونافع " عالم " بالضم جعله رفعا بالابتداء وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم " عالم الغيب " بكسر الميم وهو صفة لله تعالى وهو قوله " الحمد لله " ويقال رده إلى حرف القسم وهو قوله " قل بلى وربي عالم الغيب "
وقرأ حمزة والكسائي " علام الغيب " وهو على المبالغة في وصف الله عز وجل بالعلم
ويقال من قرأ " عالم الغيب " بضم الميم فهو على المدح ومعناه هو " عالم الغيب "
ويقال هو على الابتداء وخبره " لا يعزب عنه "
قرأ الكسائي " لا يعزب " بكسر الزاي وقرأ الباقون بالضم ومعناهما واحد أي لا يغيب عنه " مثقال ذرة " يعني وزن ذرة صغيرة
والذرة النملة الصغيرة الحمراء ويقال التي ترى في شعاع الشمس " في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين " يعني قد بين الله عز وجل في اللوح المحفوظ
قوله عز وجل " ليجزي " يعني لكي يثيب " الذين آمنوا " بأعمالهم في الدنيا " وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة " لذنوبهم " وزرق كريم " أي ثواب حسن في الجنة
قوله عز وجل " والذين سعوا في آياتنا " يعني عملوا في القرآن " معاجزين " يعني متسابقين ليسبق كل واحد منهم بالتكذيب قرأ أبو عمرو وابن كثير " معجزين " أي مثبطين يثبطون الناس عن الإيمان بالقرآن " أولئك لهم عذاب من رجز أليم " قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص " أليم " بضم الميم وكذلك في الجاثية جعلاه من نعت العذاب يعني عذاب أليم من رجز على معنى التقديم عذاب شديد
وقرأ الباقون بالكسر فيكون صفة للرجز يعني عذاب من العذاب الأليم
سورة سبأ 6 - 9
ثم قال عز وجل " ويرى الذين أوتوا العلم " يعني ويعلم الذين أتوا العلم
وهكذا في قراءة ابن مسعود يعني به مؤمني أهل الكتاب يعني إنهم يعلمون أن " الذي أنزل إليك من ربك " يعني القرآن " هو الحق ويهدي " يعني يدعو ويدل " إلى صراط العزيز الحميد "(3/75)
76
يعني إلى طريق الرب العزيز بالنقمة لمن لم يجب الرسل " الحميد " في فعاله
قوله عز وجل " وقال الذين كفروا " يعني كفار أهل مكة " هل ندلكم على رجل " يعني قال بعضهم لبعض هل ندلكم على رجل " ينبئكم " يعني يخبركم " إذا مزقتم كل ممزق " يعني يخبركم أنكم إذا متم وتفرقتم في الأرض وأكلتكم الأرض كل ممزق وكنتم ترابا " إنكم لفي خلق جديد " يعني بعد هذا كله صرتم خلقا جديدا
قوله عز وجل " افترى على الله كذبا " يعني قالوا إن الذي يقول إنكم لفي خلق جديد اختلق على الله كذبا " أم به جنة " يعني به جنون
يقول الله " بل الذين لا يؤمنون بالآخرة " هم أكذب حين كذبوا بالبعث " في العذاب والضلال البعيد " يعني هم في العذاب في الآخرة والخطأ الطويل في الدنيا عن الحق
ثم خوفهم ليعتبروا فقال عز وجل " أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض " لأن الإنسان حيثما نظر رأى السماء والأرض
قال قتادة إن نظرت عن يمينك أو عن شمالك أو بين يديك أو من خلفك رأيت السماء والأرض " إن يشأ يخسف بهم الأرض " يعني تغور بهم وتبتلعهم الأرض " أو نسقط عليهم كسفا من السماء " يعني جانبا من السماء
قرأ حمزة والكسائي " إن يشأ يخسف " " أو يسقط " الثلاثة كلها بالياء
وقرأ الباقون كلها بالنون
فمن قرأ بالياء فمعناه إن يشأ الله ومن قرأ بالنون فهو على معنى الإضافة إلى نفسه
ثم قال عز وجل " إن في ذلك لآية " يعني لعبرة " لكل عبد منيب " يعني مقبل إلى طاعة الله عز وجل ويقال مخلص القلب بالتوحيد ويقال " أفلم يروا إلى ما بين أيديهم " يعني أفلم يعلموا أن الله خالقهم وخالق السموات والأرض وهو قادر على أن يخسف بهم إن لم يوحدوا " إن في ذلك لآية " أي لعلامة لوحدانيتي
سورة سبأ 10 - 11
قوله عز وجل " ولقد آتينا داود منا فضلا " يعني أعطيناه النبوة والملك حتى قلنا " يا جبال أوبي معه " يعني سبحي مع داود
وأصله في اللغة من الرجوع وإنما سمي التسبيح إيابا لأن المسبح يسبح مرة بعد مرة
وقال القتبي أصله التأويب من السير وهو أن يسير النهار كله كأنه أراد أوبي النهار كله بالتسبيح إلى الليل
ثم قال " والطير " وقرئ في الشاذ " والطير " بالضم وقراءة العامة بالنصب
فمن قرأ بالضم فهو على وجهين
أحدهما أن يكون نسقا على ما في " أوبي " والمعنى يا جبال ارجعي بالتسبيح معه أنت والطير
ويجوز أن يكون مرفوعا على النداء والمعنى أيها الجبال وأيها الطير
ومن قرأ بالنصب فلثلاث معان أحدها لنزع الخافض ومعناه أوبي معه ومع(3/76)
77
الطير
والثاني أنه عطف على قوله " ولقد آتينا داود منا فضلا " وآتيناه الطير يعني وسخرنا له الطير
والثالث أن النداء إذا كان على أثره اسم فكان الأول بغير الألف واللام والثاني بالألف واللام فإنه في الثاني بالخيار إن شاء نصبه وإن شاء رفعه والنصب أكثر كما قال الشاعر
( ألا يا زيد والضحاك سيرا % فقد جاوزتما خمر الطريق )
ورفع زيدا لأنه نداء مفرد ونصب الضحاك بإدخال الألف واللام
ثم قال عز وجل " وألنا له الحديد " يعني جعلنا له الحديد مثل العجين " أن اعمل سابغات " يعني قلنا له اعمل الدروع الواسعة وكان قبل ذلك صفائح الحديد مضروبة
ثم قال " وقدر في السرد " قال السدي " السرد " المسامير التي في حلق الدروع
وقال مجاهد " وقدر في السرد " أي لا تدق المسامير فتقلقل في الحلقة ولا تغلظها فتقصمها واجعله قدرا بين ذلك
وقال في رواية الكلبي هكذا وقال بعضهم هذا لا يصح لأن الدروع التي عملها داود عليه السلام بغير مسامير لأنها كانت معجزة له ولو كان محتاجا إلى المسمار لما كان بينه وبين غيره فرق
وقد يوجد من بقايا تلك الدروع بغير مسامير ولكن معنى قوله " وقدر في السرد " أي قدر في نسجها وطولها وعرضها وضيقها وسعتها
ويقال " قدر " في تأليفه
والسرد في اللغة تقدمة الشيء إلى الشيء يأتي متسقا بعضه في أثر بعض متتابعا
ويقال سرد في الكلام إذا ذكره بالتأليف ومنه قيل لصانع الدروع سردا وزراد يبدل من السين الزاي
ثم قال " واعملوا صالحا " يعني أدوا فرائضي وقد خاطبه بلفظ الجماعة كما قال " يا أيها الرسل كلوا من الطيبيات " [ المؤمنون 51 ] وأراد به النبي صلى الله عليه وسلم خاصة
ويقال إنه أراد به داود وقومه " إني بما تعملون بصير " يعني عالم
سورة سبأ 12 - 14
قوله عز وجل " ولسليمان الريح " قرأ عاصم في رواية أبي بكر " الريح " بالضم وقرأ الباقون بالنصب
فمن قرأ بالنصب فمعناه " وسخرنا لسليمان الريح " كما اتفقوا في سورة الأنبياء ومن قرأ بالضم فمعناه " ولسليمان الريح " مسخرة يكون رفعا على معنى الخبر(3/77)
78
ثم قال " غدوها شهر ورواحها شهر " تسير به الريح عند الغداة مسيرة شهر فتحمله مع جنوده من بيت المقدس إلى اصطخر
" ورواحها شهر " يعني تسير به عند آخر النهار مسيرة شهر من اصطخر إلى بيت المقدس واصطخر عند بلاد فارس " وأسلنا له عين القطر " يعني أجرينا له عين الصفر المذاب
يقال تسيل له في كل شهر ثلاثة أيام يعمل بها ما أحب
وروى سفيان عن الأعمش قال سيلت له كما سيل الماء ويقال جرى له عين النحاس في اليمن
وقال شهر بن حوشب جرى له عين النحاس من صنعاء " ومن الجن من يعمل بين يديه " يعني وسخرنا لسليمان " من الجن من يعمل بين يديه " " بإذن ربه " أي بأمر ربه " ومن يزغ منهم عن أمرنا " يعني من يعص سليمان فيما أمره " نذقه من عذاب السعير " قال بعضهم كان معه ملك ومعه سوط من عذاب السعير فإذا خالف سليمان أحد الشياطين ضربه بذلك السوط
وقال مقاتل يعني به عذاب الوقود في الآخرة
قوله عز وجل " يعملون له ما يشاء من محاريب " يعني المساجد
ويقال الغرف
" وتماثيل " يعني على صور الرجال من الصفر والنحاس لأجل الهيبة في الحرب وغيره
ويقال ويجعلون صورا للأنبياء ليستزيد الناس رغبة في الإسلام
ثم قال " وجفان كالجواب " يعين قصاعا كالحياض الكبيرة ويجلس على قصعة واحدة ألف رجل أو أقل أو أكثر
الجابية في اللغة الحوض الكبير وجماعته جوابي
قرأ ابن كثير " كالجوابي " بالياء في الوقف والوصل جميعا وقرأ أبو عمرو وبالياء في الوصل والباقون بغير ياء
فمن قرأ بالياء فلأنه الأصل ومن حذف فلاكتفائه بكسر الياء
" وقدور راسيات " يعني ثابتات في الأرض وكان سليمان يتخذ القدور من الجبال
قال مقاتل كان ملكه ما بين مصر وبابل وقال بعضهم جميع الأرض
ثم قال " اعملوا آل داود " يعني يا آل داود " شكرا " لما أعطيتكم من الفضل
ويقال معناه اعملوا عملا تؤدوا بذلك شكر نعمتي " وقليل من عبادي الشكور " و " الشكور " هو المبالغة في الشكر وهو من كان عادته الشكر في الأحوال كلها وقيل مثل هذا في الناس قليل وهذا معنى قوله " وقليل من عبادي الشكور " وروي عن أبي العالية أنه قال هو شكر الشكر يعني إذا شكر النعمة يعلم أن ذلك الشكر بتوفيق الله عز وجل ويشكر لذلك الشكر وهذا في الناس قليل
ثم قال عز وجل " فلما قضينا عليه الموت " يعني على سليمان عليه الصلاة والسلام فكان سليمان يبني في بيت المقدس فرأى أن ذلك لا يتم إلا بالجن فأمرهم بالعمل وقال لأهله لا تخبروهم بموتى
فكان قائما في الصلاة متكئا على عصاه وكان سليمان عليه السلام يطول الصلاة وكان الجن إذا حضروا رأوه قائما فرجعوا ويقولون إنه قائم يصلي فيقبلون على أعمالهم(3/78)
79
وروى إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة قال كان سليمان عليه السلام إذا مر بشجرة يعني بشيء من نبات الأرض قال لها ما شأنك فتخبره الشجرة أنها كذا وكذا ولمنفعة كذا وكذا فيدفعها إلى الناس حتى ينتفعوا بها
فمر بشجرة فقال لها ما اسمك يا شجرة فقالت أنا خرنوبة
فقال ما شأنك قالت أنا لخراب المسجد
فتعصى سليمان منها عصا فكانت الجن يقولون للإنس إنا نعلم الغيب وإن سليمان سأل الله عز وجل أن يخفي موته
فلما قضى الله عز وجل على سليمان الموت لم تدر الجن ولا الإنس ولا أحد كيف مات ولم يطلع أحد على موته
والجن تعمل أشد ما كانوا عليه حتى خر سليمان عليه السلام فنظروا كيف مات فلم يدروا فنظروا إلى العصا فرأوا العصا قد أكلت يعني قد أكل منها وفي العصا أرضة
فنظروا إلى أين أكلت الأرضة من العصا فجعلوا لها علما ثم ردوا الأرضة فيها فأكلت شهرا ثم نظروا كم أكلت في هذا الشهر ثم قاسوها بما أكلت من قبل فكان لموته اثنا عشر شهرا فتبين للجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين
فقالت الجن إن لها علينا حقا يعني للأرضة فم يبلغونها الماء فلا يزل لها طينة رطبة فذلك قوله " فلما قضينا عليه الموت " " ما دلهم على موته " يعني ما دل الجن على موت سليمان " إلا دابة الأرض " يعني الأرضة " تأكل منسأته " يعني عصاه
قرأ نافع وأبو عمرو " منساته " بلا همز وقرأ الباقون بالهمز
فمن قرأ بالهمز فهو من نسأ ينسأ إذا زجر الدابة ثم تمسى عصاه منسأة لأنه يزجر بها الدابة
ومن قرأ بغير همز فقد حذف الهمزة للتخفيف وكلاهما جائز
" فلما خر " يعني سقط سليمان عليه السلام " تبينت الجن " عند ذلك للأنس أن الجن لا يعلمون الغيب
ويقال " تبينت الجن " يعني ظهر لهم أنهم لو علموا الغيب " ما لبثوا في العذاب المهين " فتفرقوا عند ذلك
قرأ حمزة " من عبادي الشكور " بسكون الياء وقرأ الباقون بالنصب وهما لغتان وكلاهما جائز
سورة سبأ 15 - 17
قوله عز وجل " لقد كان لسبإ " قرئ بالنصب والكسر وقد ذكرناه من قبل
فمن قرأ بالكسر والتنوين جعله اسم أب القبيلة ومن قرأ بالنصب جعله أرضا والأول أشبه
لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن سبأ
فقال ( هو اسم رجل )
ويقال هو سبأ بن يشخب بن يعرب بن قحطان
وروي عن ابن بعاس أنه قال ( هي قرى اليمن بعث عز وجل ثلاثة عشر نبيا(3/79)
80
عليهم السلام إلى ثلاث عشرة قرية باليمن اتبع بعضهم بعضا حتى اجتمعت الرسل في آل سبأ
وقرية أخرى فأتوهم فذكروهم نعم الله عز وجل وخوفوهم عقابه )
وروى أسباط عن السدي قال كانت أرضهم أرضا خصيبة وكانت المرأة تخرج على رأسها مكتلا فلا ترجع حتى تملأ مكتلها من أنواع الفاكهة من غير أن تمد يدها وكان الماء يأتيهم من مسيرة عشرة أيام حتى يحبس بين جبلين وكانوا قد ردموا ردما بين جبلين فحبسوا الماء وكان يأتيهم من السيول فيسقون بساتينهم وأشجارهم
ويقال كان لهم وادي وكان للوادي ثلاث درقات فإذا كثر الماء فتحوا الدرقة العليا وإذا انتقص فتحوا الدرقة الوسطى وإذا قل الماء فتحوا السفلى فأخصبوا وكثرت أموالهم واتخذوا من الجنان ما شاؤوا
فلما أحبوا ذلك وكذبوا رسلهم بعث الله عز وجل عليهم جرذا فنقب ذلك الردم بجنب بستان رجل منهم يقال له عمران بن عامر وهو أبو الأنصار والأزد وغسان وخزاعة وكانوا يسمون المنسأة العرم فدخل البستان فإذا هو ينقب العرم وقد سال فأمر به فسد ثم نظر إلى الجرذة تنقل أولادها من أصل الجبل إلى أعلاه
وكان كاهنا فقال ما تنقل هذه أولادها من أصل الجبل إلى أعلاه إلا وقد حضر هلاك هذه البلدة
فدعا ابن أخ له فقال إذا رأيتني جلست في جماعة قومي فائتني فقل أي عم أعطني ميراثي من أبي فإني سأقول وهل ترك أبوك شيئا فأردد علي وكذبني فإذا كذبتني فإني سألطمك فالطمني
فقال أي عم ما كنت لأفعل هذا بك قال بلى
فلما رأى لعمه في ذلك هوى منه فعل ما مره ففعل
فقال ابن عامر لله علي كذا وكذا أن أسكن هذه البلاد من يشتري ما لي
فلما عرفوا منه الجد قال هذا أعطيك كذا
وقال هذا أعطيك كذا فنظر إلى أجودهم صفقة فقال عجل إلى مالي فقد حلفت أن لا أبيت بها فعجلوا إليه ماله وارتحل من يومه حتى شخص عنهم فاتسع ذلك الخرق حتى انهدم وغرق بلادهم وتفرقوا في البلدان
فذلك قوله " لقد كان لسبأ " " في مسكنهم " قرأ الكسائي " في مسكنهم " بكسر الكاف والنون وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص " مسكنهم " بنصب الكاف وكسر النون وقرأ الباقون " مساكنهم " بالألف المسكن والمسكن بنصف الكاف وكسره واحد وهما لغتان مثل مطلع ومطلع والمساكن جمع مسكن
وقد قيل المسكن جمع المساكن يعني لقد كان في منازلهم وقرياتهم " آية " أي علامة لوحدانيتي " جنتان عن يمين وشمال " يعني بستانان عن يمين الوادي وعن شماله
وإنما أراد بالبستان البساتين
ويقال بساتين عن يمين الطريق وبساتين عن شماله فأرسل الله تعالى إليهم الرسل فذكروهم النعم فقيل لهم " كلوا من رزق ربكم " يعني من فضل ربكم عليكم " واشكروا له " فيما رزقكم " بلدة طيبة " يعني هذه بلدة طيبة لينة بلا
سبخة " ورب غفور " لمن تاب من الشرك
" فأعرضوا " عن الإيمان
وقالوا من الذي يأخذ منا هذه النعم " فأرسلنا عليهم سيل العرم " والعرم هو اسم لذلك الوادي ويقال اسم للمنسأة
ويقال هو اسم للفأرة التي(3/80)
81
قرضت النهر حتى سال علهم الماء وجرى في بساتينهم وفي بيوتهم فخربها وندت أنعامهم وأخذ كل واحد منهم بيد ولده وامرأته فصعدوا بهم الجبل فذلك قوله تعالى " وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط " يعني أبدلهم الله تعالى مكان الفاكهة ذواتي أكل خمط أي الأراك " وأثل " يعني الطرفاء " وشيء من سدر قليل " والسدر كانوا يستظلون في ظله ويأكلون من ثمره
قرأ أبو عمرو " أكل خمط " بكسر اللام بغير تنوين وقرأ الباقون بالتنوين فمن قرأ بالتنوين أراد " ذواتي " ثمر يؤكل ثم قال " خمط " جعله بدلا من أكل
والمعنى ذواتي خمط وأكله ثمرة
ومن قرأ بغير تنوين أضاف الأكل إلى الخمط والخمط هو الأراك في اللغة المعروفة
وقال بعضهم كل نبت أخذ طعما من مرارة حتى لا مكن أكله فهو خمط
ثم قال " ذلك جزيناهم " يعني ذلك الذي أصابهم عقوبة لهم عاقبناهم " بما كفروا " أي بكفرهم " وهل نجازي إلا الكفور " يعني وهل يعاقب بمثل هذه العقوبة إلا الكفور بنعمة الله تعالى ويقال " الكفور " الكافر
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " وهل نجازي " بالنون وكسر الزاي " إلا الكفور " بالنصب
وقرأ الباقون " يجازي " بالياء وفتح الزاي " إلا الكفور " بالضم
فمن قرأ بالنون فهو على معنى الإضافة إلى نفسه والكفور نصب لوقوع الفعل عليه
ومن قرأ " يجازى " بالياء فهو على فعل ما لم يسم فاعله يعني هل يعاقب بمثل هذه العقوبة إلى الكفور بنعمة الله تعالى ويقال هل يجازي الله ومعنى الآية أن المؤمن يكفر عنه السيئات بالحسنات وأما الكافر فإنه يحبط عمله كله فيجازى بكل سوء يعمله كما قال " أضل أعمالهم " [ محمد 1 ] أي أبطل أعمالهم وأحبطها فلم ينفعهم منها شيء وهذا معنى قوله " وهل يجازي إلا الكفور "
سورة سبأ 18 - 21
ثم قال عز وجل " وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها " قال في رواية الكلبي إنهم قالوا للرسل إنا قد عرفنا نعمة الله علنيا فوالله لئن رد الله فيئتنا وجماعتنا والذي كنا عليه لنعبدنه عبادة لم يعبدها إياه قوم قط
ودعت لهم الرسل ربهم فرد الله لهم ما كانوا عليه وأتاهم نعمه وجعل لهم من أرضهم إلى أرض الشام قرى متصلة بعضها إلى بعض فذلك(3/81)
82
قوله " وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها " " قرى ظاهرة " ثم عادوا إلى الكفر فأتاهم الرسل فذكروهم نعمة الله فكذبوهم فمزقهم الله كل ممزق
وقال غيره " وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها " هذا حكاية عما كانوا فيه من قبل أن يرسل عليهم سيل العرم " قرى ظاهرة " يعني متصلة على الظهور من حيث يرى بعضها من بعض " وقدرنا فيها السير " للمبيت والمقيل من قرية إلى قرية " سيروا فيها " يعني ليسيروا فيها
اللفظ لفظ الأمر والمراد به الشرط والجزاء
فلم يشكروا ربهم فسألوا ربهم أن تكون القرى والمنازل بعضها أبعد من بعض
" فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا " وقد كانوا في قراهم منعمين آمنين فذلك قوله " ليالي وأياما آمنين " يعني أنهم كانوا يسيرون من قرية إلى قرية بالليل والنهار آمنين من الجوع والعطش واللصوص والسباع
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " بعد " بغير ألف وتشديد العين وقرأ الباقون " باعد " بالألف وهما لغتان بعد باعد
وقرأ يعقوب الحضرمي وكان من أهل البصرة " ربنا " بضم الباء " باعد " بنصب العين وهو على معنى الخبر
وروى الكلبي عن أبي صالح أنه قرأ هكذا معناه وقالوا " ربنا باعد بين أسفارنا " فلذلك لا ينصب
ثم قال " وظلموا أنفسهم " بالشرك وتكذيب الأنبياء " فجعلناهم أحاديث " يعني أهلكهم الله تعالى فصاروا أحاديث للناس يتحدثون في أمرهم وشأنهم لم يبق أحد منهم في تلك القرى " ومزقناهم كل ممزق " أي فرقناهم في كل وجه فألقى الله الأزد بعمان والأوس والخزرج بالمدينة وهما أخوان وأهل المدينة كانوا من أولادهما إحدى القبيلتين الخزرج والأخرى ألاوس فسموا باسم أبيهم
وخزاعة بمكة كانوا بنو خزاعة منهم لخم وجذام بالشام ويقال كلب وغسان " إن في ذلك " يعني في هلاكهم وتفريقهم " لآيات " أي لعبرات " لكل صبار شكور " يعني للمؤمنين الذين صبورا على طاعة الله تعالى وشكروا نعمته
قوله عز وجل " ولقد صدق عليهم إبليس ظنه " يعني على أهل سبأ ويقال هذا ابتداء يعني جميع الكفار
وذلك أن إبليس قد قال " قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين " [ ص 82 - 83 ] فكان ذلك ظنا منه فصدق ظنه " فاتبعوه إلا فريقا " يعني طائفة " من المؤمنين " وهم الذين قال الله تعالى " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " [ الحجر 42 ] وقال سعيد بن جبير كان ظنه أنه قال أنا ناري وآدم طيني والنار تأكل الطين
وكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنه
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر " ولقد صدق " بالتخفيف يعني صدق في ظنه وقرأ الباقون " صدق " بالتشديد يعني صار ظنه صدقا
قوله عز وجل " وما كان له عليهم من سلطان " يعني لم يكن له عليهم ملك
يقهرهم
وقال الحسن البصري رحمه الله والله ما ضربهم بعصا ولا أكرههم على شيء وما كان إلا(3/82)
83
غرورا وأماني دعاهم إليها فأجابوه
وقال قتادة والله ما كان ظنه إلا ظنا فنزل الناس عند ظنه
وقال معمر قال لي مقاتل إن إبليس لما أنزل آدم عليه السلام ظن أن في ذريته من سيكون أضعف منه فصدق عليهم ظنه
فإن قيل في آية أخرى " إنما سلطنه على الذين يتولونه " [ النحل 100 ] وهاهنا يقول " وما كان له عليهم من سلطان " قيل له أراد بالسلطان هناك الحجة يعني إنما حجته على الذين يتولونه وهاهنا أراد به الملك والقهر يعني لم يكن له عليهم ملك يقهرهم به
ويقال معنى الآيتين واحد لأن هناك قال إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا
وهاهنا قال " وما كان له عليهم من سلطان " يعني حجة وعلى فريق من المؤمنين إلا بالتزيين والوسوسة منه
" إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة " يعني يميز من يصدق بالبعث " ممن هو في شك " يعني من قيام الساعة
وقال القتبي علم الله نوعان أحدهما علم ما يكون من إيمان المؤمنين وكفر الكافرين من قبل أن يكون وهذا علم لا يجب به حجة ولا عقوبة
والآخر علم الأمور الظاهرة فيحق به القول ويقع بوقوعها الجزاء
يعني ما سلطانه عليهم إلا لنعلم إيمان المؤمنين ظاهرا موجودا وكفر الكافرين ظاهرا موجودا
وكذلك قوله " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم " [ آل عمران 142 ] الآية
ثم قال عز وجل " وربك على كل شيء حفيظ " يعني عالما باليقين والشك ويقال عالم بما يكون منهم قبل كونه ويقال " حفيظ " يحفظ أعمالهم ليجازيهم
سورة سبأ 22 - 23
ثم قال عز وجل " قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله " يعني قل لكفار مكة " ادعو الذين زعمتم من دون الله " أنهم آلهة فيكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم من الجوع يعني الأصنام
ويقال الملائكة عليهم السلام " لا يملكون مثقال ذرة " يعني نملة صغيرة " في السموات ولا في الأرض " يعني إذا كان حالهم هذا فمن أين جعلوا لهم الشركة في العبادة
ثم قال " وما لهم فيهما من شرك " يعني في خلق السموات والأرض من عون ويقال ما لهم فيها من نصيب " وما له منهم من ظهير " يعني معين من الملائكة الذين يعبدونهم
ثم ذكر أن الملائكة لا يملكون شيئا من الشفاعة فقال عز وجل " ولا تنفع الشفاعة عنده " يعني لا تنفع الشفاعة لأحد لا نبيا ولا ملكا " إلا لمن أذن له " أن يشفع لأحد من أهل التوحيد
قرأ نافع وابن كثير وعاصم في إحدى الروايتين " إلا لمن أذن له " بالنصب يعني حتى يأذن الله عز وجل له
قرأ الباقون بالضم على فعل ما لم يسم فاعله ومعناه مثل الأول(3/83)
84
ثم أخبر عن خوف الملائكة أنهم إذا سمعوا الوحي خروا سجدا من مخافة الله عز وجل وكيف يعبد من هذه حاله فذلك قوله " حتى إذا فزع عن قلوبهم " وذلك أن أهل السموات لم يكونوا سمعوا صوت الوحي بين عيسى ومحمد عليهما السلام فسمعوا صوتا كوقع الحديد على الصفا وذلك صوت الوحي ويقال صوت نزول جبريل عليه السلام فخروا سجدا مخافة القيامة فهبط جبريل عليه السلام على أهل كل سماء فأخبرهم أنه الوحي فذلك قوله " حتى إذا فزع عن قلوبهم " وذكر عن بعض أهل اللغة أنه قال إذا كانت " حتى " موصولة بإذا تكون بمعنى لما ويقع موقع الابتداء كقوله عز وجل " حتى إذا فتحنا عليهم بابا " [ المؤمنون 77 ] كقوله " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج " [ الأنبياء 96 ] وكقوله " حتى إذا فزع عن قلوبهم " [ سبأ 23 ] يعني لما فزع عن قلوبهم ومعناه انجلاء الفزع عن قلوبهم فقاموا عن السجود وسأل بعضهم بعضا " قالوا ماذا قال ربكم " يعني ماذا قال جبريل عليه السلام عن ربكم " قالوا الحق " يعني الوحي
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثنا الخليل بن أحمد
قال حدثنا الدبيلي
قال حدثنا أبو عبد الله
قال حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خفقانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان " فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم " قالوا الذي قال " الحق " الذي قال والشياطين بعضهم فوق بعض فإذا سمع الأعلى منهم الكلمة رمى بها إلى الذي تحته وربما أدركه الشهاب قبل أن ينبذها وربما نبذها قبل أن يدركه الشهاب فينبذها بعضهم إلى بعض حتى تنتهي إلى الأرض فتلقى على لسان الكاهن والساحر فيكذب معها مائة كذبة فيصدق فيقول أليس قد أخبر بكذا وكذا وكان حقا وهي الكلمة التي سمع من السماء )
قرأ ابن عامر " حتى إذا فزع " بنصب الفاء والزاي يعني كشف الله الفزع وقرأ الباقون بضم الفاء وكسر الزاي على معنى فعل ما لم يسم فاعله
وقرأ الحسن " حتى إذا فرغ " بالراء والغين يعني فرغ الفزع عن قلوبهم وقراءة العامة بالزاي أي خفف عنها الفزع
وقال مجاهد معناه حتى إذا كشف عنها الغطاء يوم القيامة ثم قال " وهو العلي الكبير " يعني هو أعلى وأعظم وأجل من أن يوصف له شريك
سورة سبأ24 - 25(3/84)
85
سورة سبأ 26 - 30
قوله عز وجل " قل من يرزقكم من السموات والأرض " يعني المطر والنبات فإن أجابوك وإلا ف " قل الله " يعني الله يرزقكم من السموات والأرض ثم قال " وإنا أو إياكم " يعني قل لهم أحدنا " لعلى هدى " والأخرى على الضلالة
يعني إنا على الهدى وأنتم على الضلالة وهذا كرجل يقول لآخر أحدنا كاذب وهو يعلم أنه أراد به صاحبه
ويقال في الآية تقديم يعني وإنا على الهدى وإياكم لفي " ضلال مبين "
ثم قال عز وجل " قل لا تسألون عما أجرمنا " يعني لا تسألون عن جرم أعمالنا " ولا نسأل عما تعملون " يعني لا نسأل عن جرم أعمالكم
ويقال لا تأخذون بجرمنا ولا نؤخذ بجرمكم
قوله عز وجل " قل يجمع بيننا ربنا " يعني يوم القيامة نحن وأنتم " ثم يفتح بيننا " يعني يقضي بيننا بالحق يعني بالعدل " وهو الفتاح " يعني القاضي " العليم " بما يقضي " قل أروني الذين ألحقتم به شركاء " يعني أروني آلهتكم الذين تعبدون من دون الله وتزعمون أنها له شركاء
أي ماذا خلقوا في السموات والأرض من الخلق " كلا " يعني ما خلقوا شيئا " بل هو الله " خالق كل شيء " العزيز " في ملكه " الحكيم " في أمره
قوله عز وجل " وما أرسلناك إلا كافة للناس " أي عامة للناس " بشيرا "
وروى خالد الحذاء عن قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي بعثت إلى كل أحمر وأسود فليس أحد من أحمر وأسود يدخل في أمتي إلا كان منهم ونصرت بالرعب أمامي مسيرة شهر وجعلت فاتحا وخاتما وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتنا الصلاة صلينا وإن لم نجد ماء تيممنا وأطعمنا غنائمنا ولم يطعمها أحد كان قبلنا كانت قربانهم تأكله النار )
ثم قال " بشيرا ونذيرا " يعني " بشيرا " بالجنة لمن أطاعه " ونذيرا " بالنار لمن عصاه " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " يعني لا يصدقون بالجنة ولا بالنار " ويقولون متى هذا الوعد " يعني البعث " إن كنتم صادقين " يعني إن كنت صادقا بالعبث
ويقال إن كنت رسول الله(3/85)
86
قوله عز وجل " قل لكم ميعاد يوم " يعني ميقاتا في العذاب
ويقال ميعادا في البعث والعذاب " لا تستأخرون عنه " يعني عن الميعاد والعذاب " ساعة " يعني قدر ساعة " ولا تستقدمون " قبل الأجل
ويقال معناه أنا قادر اليوم على عذابهم ولكن أؤخرهم في الوعد الذي كتب لهم في اللوح المحفوظ
سورة سبأ 31 - 33
قوله عز وجل " وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه " من التوراة والإنجيل
يعني لا نصدق بذلك كله فحكى قولهم ثم ذكر عقوبتهم في الآخرة فقال " ولو ترى إذ الظالمون " يعني لو رأيت يا محمد الظالمين يوم القيامة " موقوفون عند ربهم " يعني محبوسين في الآخرة " يرجع بعضهم إلى بعض القول " يعني يرد بعضهم بعضا الجواب
ثم أخبر عن قولهم فقال " يقول الذين استضعفوا " وهم السفلة والأتباع " للذين استكبروا " يعني القادة والرؤساء " لولا أنتم لكنا مؤمنين " يعني لولا دعوتكم وتعريفكم إيانا لكنا مصدقين
قوله عز وجل " قال الذين استكبروا للذين استضعفوا " وهم الأتباع " أنحن صددناكم عن الهدى " يعني أنحن منعناكم عن الإيمان " بعد إذ جاءكم " به الرسول " بل كنتم مجرمين " يعني مشركين
قوله عز وجل " وقال الذين استضعفوا " يعني ردت الضعفاء عليهم الجواب ويقولون " للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار " يعني قولكم لنا بالليل والنهار واحتيالكم بالدعوة إلى الشرك
" إذ تأمروننا أن نكفر بالله " يعني نجحد بوحدانية الله تعالى " ونجعل له أندادا " يعني نقول له شركاء " وأسروا الندامة " يعني أخفوا الحسرة
ويقال أظهروا الندامة والحسرة " لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال " يعني نجعل الأغلال يوم القيامة " في أعناق الذين كفروا " من الرؤساء والسفلة " هل يجزون " يعني هل يثابون في الآخرة " إلا ما كانوا يعملون " في الدنيا(3/86)
صفحة فارغة(3/87)
88
ثم قال " وهم في الغرفات آمنون " قرأ حمزة " وهم في الغرفة "
وقرأ الباقون " وهم في الغرفات " والغرفة في اللغة كل بناء يكون علوا فوق سفل وجمعه غرف وغرفات
ومعناه وهم في الجنة آمنون من الموت والهرم والأمراض والعدو وغير ذلك من الآفات
ثم قال عز وجل " والذين يسعون في آياتنا معجزين " والقراءة قد ذكرناها " أولئك في العذاب محضرون " يعني في النار معذبون " قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له " وقد ذكرناه " وما أنفقتم من شيء " يعني ما تصدقتم من صدقة " فهو يخلفه " يعني فإن الله يعطي خلفه في الدنيا وثوابه في الآخرة " وهو خير الرازقين " يعني أقوى المعطين
وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ما طلعت الشمس ولا غربت الشمس إلا بعث بجنبيها ملكان يناديان اللهم عجل لمنفق ماله خلفا وعجل لممسك ماله تلفا )
سورة سبأ 40 - 42
ثم قال عز وجل " ويوم يحشرهم جميعا " يعني الملائكة عليهم السلام ومن عبدهم
قرأ بعضهم من أهل البصرة " يحشرهم " بالياء يعني يحشرهم الله عز وجل وقراءة العامة بالنون على معنى الحكاية عن نفسه " ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون " يعني أنتم أمرتم عبادي أن يعبدوكم وهذا سؤال توبيخ كقوله لعيسى عليه السلام " ءأنت قلت للناس اتخذوني " [ المائدة 116 ] الآية " قالوا سبحانك " فنزهت الملائكة ربها عن الشرك وقالوا " سبحانك " يعني تنزيها لك " أنت ولينا من دونهم " ونحن براء منهم من أن نأمرهم أن يعبدونا " بل كانوا يعبدون الجن " يعني أطاعوا الشياطين في عبادتهم إيانا " أكثرهم بهم مؤمنون " يعني مصدقين الشياطين مطيعين لها
يقول الله تعالى " فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا " يعني شفاعة " ولا ضرا " يعني ولا دفع الضر عنهم " ونقول للذين ظلموا " يعني كفروا في الدنيا
يعني يقال لهم في الآخرة " ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون " إنها غير كائنة
سورة سبأ 43(3/88)
89
سورة سبأ 44 - 45
ثم أخبر عن أفعالهم في الدنيا فقال عز وجل " وإذا تتلى " يعني تقرأ وتعرض " عليهم آياتنا بينات " بالأمر والنهي والحلال والحرام " قالوا " ما نعرف هذا " ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم " يعني يصرفكم " عما كان يعبد آباؤكم " من عبادة الأصنام " وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى " يعني كذبا مختلقا " وقال الذين كفروا للحق " يعني القرآن " لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين " يعني كذب بين
ثم قال عز وجل " وما آتيناهم " يعني وما أعطيناهم " من كتب يدرسونها " يعني يقرؤونها وفيها حجة لهم بأن مع الله شريكا " وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير " يعني من رسول في زمانهم " وكذب الذين من قبلهم " يعني من قبل قومك رسلهم كما كذبك قومك " وما بلغوا " يعني ما بلغ قومك " معشار ما آتيناهم " يعني ما بلغ أهل مكة عشر الذي أعطينا الأمم الخالية من الأموال والقوة فأهلكتهم بالعذاب حين " فكذبوا رسلي فكيف كان نكير " يعني كيف كان إنكاري وتغييري عليهم وإيش خطر هؤلاء بجنب أولئك فاحذروا مثل عذابهم
سورة سبأ 46 - 49
ثم قال عز وجل " قل إنما أعظكم بواحدة " يعني بكلمة واحدة ويقال بخصلة واحدة " أن تقوموا لله " بالحق " مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة " يعني آمركم بالإنصاف أن تتأملوا حق التأمل وتتفكروا في أنفسكم هل لهذا الرجل الذي يدعوكم إلى خالقكم وخالق السموات والأرض هل رأيتم به جنونا
ثم قال " ما بصاحبكم من جنة " يعني من جنون
وقال القتبي تأويله أن المشركين لما قالوا إنه ساحر ومجنون وكذاب فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم اعتبروا أمري بواحدة أن تنصحوا لأنفسكم ولا يميل بكم هوى فتقوموا لله في دار يخلو فيها الرجل منكم بصاحبه فيقول لهم هلم فلنتصادق هل رأينا بهذا الرجل جنة أم جربنا عليه كذبا ثم ينفرد كل واحد منهما عن صاحبه فيتفكروا وينظروا فإن ذلك يدل على أنه نذير
قال وكل من تحير في أمر قد اشتبه عليه واستبهم أخرجه من الحيرة أن يسأل ويناظر فيه ثم يتفكر ويعتبر(3/89)
90
ثم قال " إن هو إلا نذير لكم " أي ما هو إلا مخوف لكم " بين يدي عذاب شديد " أي بين يدي القيامة
ثم قال عز وجل " قل ما سألتكم من أجر فهو لكم " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كفار مكة أن لا يؤذوا قراباته فكفوا عن ذلك ونزل " قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " [ الشورى 23 ] فكفوا عن ذلك
ثم سمعوا بذكر آلهتهم فقالوا لا تنظرون إليه ينهانا عن إيذاء قرابته وسألناه أن لا يؤذينا في آلهتنا فلا يمتنع فنزل " قل ما سألتكم من أجر فهو لكم " إن شئتم آذوهم وإن شئتم امتنعتم
" إن أجري إلا على الله " فهو الحافظ والناصر " وهو على كل شيء شهيد " بأني نذير وما بي جنون
ثم قال عز وجل " قل إن ربي يقذف بالحق " يعني يبين الحق من الباطل ويقال يأمر بالحق ويقال يتكلم بالحق يعني بالوحي " علام الغيوب " يعني هو عالم كل غيب
قوله عز وجل " قل جاء الحق " يعني ظهر الإسلام " وما يبدئ الباطل " يعني لا يقدر الشيطان أن يخلق أحدا " وما يعيد " يعني لا يقدر أن يحييه بعد الموت والله تعالى يفعل ذلك
ويقال " الباطل " أيضا الصنم
وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده ويقول " جاء الحق وزهق الباطل " " قل جاء الحق " " وما يبدي الباطل وما يعيد "
سورة سبأ 50 - 54
قوله عز وجل " قل " يا محمد " إن ضللت فإنما أضل على نفسي " يعني وزر الضلال على نفسي " وإن اهتديت " إلى الحق والهدى " فبما يوحي إلي ربي " يعني اهتديت بما يوحي إلي من القرآن " إنه سميع " للدعاء " قريب " بالإجابة ممن دعاه
وقيل للنابغة حين أسلم أصبوت يعني آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم قال بلى هو غلبني بثلاث آيات من كتاب الله عز وجل فأردت أن أقول ثلاثة أبيات من الشعر على قافيتها فلما سمعت هذه الآيات فعييت فيها ولم أطق فعلمت أنه ليس من كلام البشر وهي هذه " قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب " " قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد " " قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فيما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب "
قوله عز وجل " ولو ترى إذ فزعوا " يعني خافوا من العذاب " فلا فوت " يعني فلا(3/90)
91
نجاة لهم منها " وأخذوا من مكان قريب "
روي عن الكلبي أنه قال نزلت الآية في قوم يقال لهم السفيانية يخرجون في آخر الزمان عددهم ثلاثون ألف رجل إلى أن يبلغوا أرض الحجاز فافترقوا فرقتين فتقدمت فرقة إلى موضع يقال له بيداء صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة فخسف بهم الأرض كلهم إلا واحدا منها ينجو فيحول وجهه إلى خلفه فيرجع إلى الفرقة الأخرى فيخبرهم بما أصابهم يعني ولو ترى يا محمد فزعهم حين صاح بهم جبريل عليه السلام " فلا فوت " أي لا يفوت منهم فائت " وأخذوا من مكان قريب " يعني خسف بهم بالبيداء بقرب مكة
ويقال يعني يوم القيامة
" ولو ترى " يا محمد " إذ فزعوا " حين نزل بهم العذاب يوم القيامة " فلا فوت وأخذوا من مكان قريب " كما قال " وبرزت الجحيم " [ النازعات 36 ]
وقال الحسن " ولو ترى إذ فزعوا " من قبورهم يوم القيامة وقال الضحاك يعني يوم بدر
ثم قال عز وجل " وقالوا آمنا به " يعني بالعذاب حين رأوه يقول الله تعالى " وأنى لهم التناوش " يعني من أين لهم التوبة ويقال من أين لهم الرجفة
قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في إحدى الروايتين " التناؤش " بالهمز وقرأ الباقون بغير همز
فمن قرأ بالهمز فهو من التناوش وهو الحركة في إبطاء والمعنى من أين لهم أن يتحركوا فيما لا حيلة لهم
ومن قرأ بغير همز فهو من التناول ويقال تناول إذا مد يده إلى شيء ليصل إليه وتناوش يده إذا مد يده إلى شي لا يصل إليه
ثم قال " من مكان بعيد " يعني من الآخرة إلى الدنيا
وروي عن ابن عباس أنه قال " من مكان بعيد " قال سألوا الرد حين لا رد
ثم قال عز وجل " وقد كفروا به من قبل " يعني كفروا بالله من قبل الموت ويقال " به " يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقال بالقرآن " ويقذفون بالغيب " يعني يتكلمون بالظن في الدنيا " من مكان بعيد " أنه لا جنة ولا نار ولا بعث
ثم قال " وحيل بينهم وبين ما يشتهون " يعني من الرجعة إلى الدنيا ويقال من التوبة
كيف ينالون التوبة في هذا الوقت وقد كفروا به من قبل
ثم قال " كما فعل بأشياعهم من قبل " يعني بأهل دينهم الأقدمون الأولون من قبل والأشياع جمع الجمع
يقال شيعة وشيع وأشياع
ثم قال " إنهم كانوا في شك مريب " يعني هم في شك مما نزل بهم " مريب " يعني إنهم لا يعرفون شكهم
وقال القتبي في قوله " فلا فوت " يعني لا مهرب ولا ملجأ وهذا مثل قوله " فنادوا ولات حين مناص " [ ص 3 أي نادوا حين لا مهرب والله أعلم(3/91)
92
سورة فاطر
مكية وهي أربعون وخمس آيات
سورة فاطر 1 - 2
قوله الله سبحانه وتعالى " الحمد لله فاطر السموات والأرض " يعني خالق السموات والأرض
يقال فطر الشيء إذا بدأه قال ابن عباس رضي الله عنه ما كنت أعرف فاطر حتى اختصما لي أعرابيان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها يعني بدأتها
" جاعل الملائكة رسلا " يعني مرسل الملائكة بالرسالة جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت والكرام الكاتبين عليهم السلام " أولي أجنحة " يعني ذوي أجنحة ولفظ " أولي " يستعمل في الجماعة ولا يستعمل في الواحد وواحدها ذو
ثم قال " مثنى وثلاث ورباع " يعني من الملائكة من له جناحان ومنهم من له ثلاثة أجنحة ومنهم من له أربعة أجنحة
ويقال " ثلاث " معدول من ثلاثة ثلاثة يعني ثلاثة ثلاثة
" ورباع " معدول من أربعة أربعة يعني أربعة أربعة
ثم قال " يزيد في الخلق ما يشاء " يعني يزيد في خلق الأجنحة ما يشاء
وروي عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عليه السلام أن يتراءى له في صورته فقال له جبريل إنك لا تطيق ذلك فقال ( إني أحب أن تفعل )
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى في ليلة مقمرة فأتاه جبريل في صورته فغشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه ثم أفاق وجبريل عليه السلام يسنده واضع إحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سبحان الله ما كنت أرى شيئا من الخلق هكذا ) فقال جبريل فكيف لو رأيت إسرافيل إن له اثني عشر جناحا منها جناح بالمشرق وجناح بالمغرب وأن العرش لعلى كاهله وإنه لينضال بالأحايين لعظمة الله فيعود مثل الوضع يعني عصفورا حتى لا يحمل عرشه إلا عظمته(3/92)
93
فذلك قوله تعالى " يزيد في الخلق ما يشاء " يعني في خلق الملائكة
ويقال " يزيد في الخلق ما يشاء " يعني الشعر الحسن والصوت الحسن
ويقال " يزيد في الخلق ما يشاء " يعني في الجمال والكمال والدماثة
ثم قال " إن الله على كل شيء قدير " من الزيادة والنقصان وغيره
ثم قال عز وجل " ما يفتح الله للناس من رحمة " يعني ما يرسل الله للناس من رزق كقوله " ابتغاء رحمة من ربك " [ الإسراء 28 ] ويقال الغيث
ويقال " من رحمة " يعني من كل خير " فلا ممسك لها " يعني لا يقدر أحد على حبسها " وما يمسك " يعني ما يحبس من رزق " فلا مرسل له من بعده " يعني فلا معطي أحد بعد الله عز وجل
قال في أول الكلام " فلا ممسك لها " بلفظ التأنيث لأنه انصرف إلى اللفظ وهو الرحمة
ثم قال " فلا مرسل له " بلفظ التذكير لأنه ينصرف إلى المعنى وهو المطر والرزق ولو كان كلاهما بلفظ التذكير أو كلاهما بلفظ التأنيث لجاز في اللغة
فذكر الأول بلفظ التأنيث لأن الرحمة كانت أقرب إليه وفي الثاني كان أبعد وقد ذكر بلفظ التذكير لجاز حذف ما
ثم قال " وهو العزيز " فيما أمسك " الحكيم " فيما أرسل
سورة فاطر 3 - 4
قوله عز وجل " يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم " يعني احفظوا نعمة الله عليكم ثم ذكر النعمة فقال " هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض " يعني النبات والمطر
قرأ حمزة والكسائي " غير الله " بكسر الراء وقرأ الباقون بالضم مثل ما في سورة الأعراف
والاستثناء إذا كان بحرف إلا فإن الإعراب يكون على ما بعده
وإذا كان الاستثناء بحرف غير فإن الإعراب يقع على نفس الغير
فمن قرأ بالكسر صار كسرا على البدل
ومن قرأ بالرفع فمعناه هل خالق غير الله لأن " من " موكدة ولفظ الآية لفظ الاستفهام والمراد به النفي يعني أنتم تعلمون أنه لا يخلق أحد سواه ولا يرزقكم أحد سواه
ثم وحد نفسه فقال " لا إله إلا هو " يفعل بكم ذلك " فأنى تؤفكون " يعني من أين تكذبون وأنتم تعلمون أنه لا يخلق أحد سواه
ثم قال عز وجل " وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك " كما كذبك قومك وهذا تعزية يعزي بها نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذاهم " وإلى الله ترجع الأمور " يعني إليه ترجع عواقب الأمور بالبعث
سورة فاطر 5(3/93)
94
سورة فاطر 6 - 8
ثم قال عز وجل " يا أيها الناس " يعني يا أهل مكة " إن وعد الله حق " يعني البعث بعد الموت حق كائن " فلا تغرنكم الحياة الدنيا " يعني حياتكم في الدنيا والدنيا في الأصل هي القربى سميت بهذا لأن حياتهم صارت هذه أقرب إليهم
ويقال هي فعلى من الأدون يعني حياة الأدون " ولا يغرنكم بالله الغرور " يعني الباطل وهو الشيطان
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثني أبي قال حدثنا أبو الحسن الفراء الفقيه السمرقندي قال حدثنا أبو بكر الجرجاني الإمام بسمرقند ذكر بإسناده عن العلاء بن زياد
قال رأيت الدنيا في النوم امرأة قبيحة عمشاء عليها من كل زينة فقلت من أنت أعوذ بالله منك فقالت أنا الدنيا فإن سرك أن يعيذك الله مني فأبغض الدراهم يعني لا تمسكها عن النفقة في موضع الحق
ثم قال عز وجل " إن الشيطان لكم عدو " يعني حين يأمركم بالكفر ومن عداوته مع أبيكم ترك طاعة الله " فاتخذوه عدوا " يعني فعادوه بطاعة الله
ومعناه أطيعوا الله عز وجل لأنك إذا أطعت الله فقد اتخذت الشيطان عدوا " إنما يدعو حزبه " يعني شيعته إلى الكفر " ليكونوا من أصحاب السعير " يعني من أهل النار
ثم بين مصير من أطاع الشيطان ومصير من عصاه فقال " الذين كفروا " يعني جحدوا بوحدانية الله عز وجل " لهم عذاب شديد " في الآخرة " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني صدقوا بوحدانية الله وعملوا الطاعات واتخذوا الشيطان عدوا " لهم مغفرة " في الدنيا لذنوبهم " وأجر كبير " يعني ثوابا حسنا في الجنة
قوله عز وجل " أفمن زين له سوء عمله " يعني قبيح عمله " فرآه حسنا " يعني يظنه حقا
والجواب فيه مضمرا يعني أفمن زين له سوء عمله كمن لم يزين له ذلك وقال الزجاج " أقمن زين له سوء عمله " يعني أبا جهل وأصحابه كمن لم يزين له ذلك وهداه الله تعالى
ثم قال " فإن الله يضل من يشاء " عن دينه " ويهدي من يشاء " لدينه " فلا تذهب نفسك عليهم حسرات " قال القتبي هذا من الإضمار
يعني ذهبت نفسك حسرة عليهم فلا تذهب نفسك عليهم حسرات بتركهم الإيمان
وقرئ في الشاذ " فلا تذهب " بضم التاء وكسر الهاء(3/94)
95
" نفسك " بنصب السين
من أذهب يذهب يعني لا تقتل نفسك وقراءة العامة " فلا تذهب نفسك " بنصب التاء والهاء وضم السين " إن الله عليم بما يصنعون " من الخير والشر
سورة فاطر 9 - 11
ثم قال عز وجل " والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا " أي ترفعه وتهيجه " فسقناه " يعني نسوقه " إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها " يعني بعد يبسها " كذلك النشور " يعني هكذا تحيون بعد الموت يوم القيامة وروي عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن ابن الزبعرى عن عبد الله بن مسعود أنه قال تقوم الساعة على شرار الناس ثم يقوم ملك بالصور فينفخ فيه فلا يبقى خلق في السموات والأرض إلا مات إلا ما شاء الله ثم يكون بين النفختين ما شاء الله فيرسل الله الماء من السماء من تحت العرش كمني الرجال فتنبت لحومهم من ذلك الماء كما تنبت الأرض من الندى
ثم قرأ " فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور " ثم ينفخ في الصور
قوله عز وجل " من كان يريد العزة فلله العزة جميعا " يعني من طلب العزة بعبادة الأوثان فليتعزز بطاعة الله عز وجل فإن العزة لله جميعا
يقول من يتعزز بإذن الله ويقال معناه من كان يريد أن يعلم لمن تكون العزة فليعلم بأن العزة لله جميعا
ويقال من كان يطلب لنفسه العزة فإن العزة لله جميعا
ثم قال " إليه يصعد الكلم الطيب " قال مقاتل يصعد إلى السماء كلمة التوحيد " والعمل الصالح يرفعه " يقول التوحيد يرفع العمل الصالح إلى الله تعالى في السماء فيها تقديم
وقال الحسن البصري العمل الصالح يرفع الكلام الطيب إلى الله عز وجل فإذا كان الكلام الطيب عملا غير صالح يرد القول إلى العمل لأنه أحق من القول
وقال قتادة " والعمل الصالح يرفعه " قال الله يرفعه
ويقال العمل الصالح يرفعه لصاحبه
ويقال " يرفعه " يعني يعظمه
ويقال " العمل الصالح يرفعه " أي يقبل الأعمال بالإخلاص
معناه العمل الخالص الذي يقبله
ثم قال " والذين يمكرون السيئات " أي يعملون بالشرك ويقال يعملون بالرياء لا يقبل منهم " لهم عذاب شديد " في الآخرة " ومكر أولئك هو يبور " يعني شرك أولئك وفسقهم(3/95)
96
وصنيعهم يهلك صاحبه في الآخرة
يقال بارت السلعة إذا كسدت لأنها إذا كسدت فقد تعرضت للهلاك
ثم قال عز وجل " والله خلقكم من تراب " يعني آدم عليه السلام وهو أصل الخلق " ثم من نطفة " يعني خلقكم من نطفة " ثم جعلهم أزواجا " يعني أصنافا ذكرا وأنثى
ويقال أصنافا أحمر وأبيض أسود
يعني فاذكروني ووحدوني " وما تحمل من أنثى " و " من " صلة في الكلام " ولا تضع إلا بعلمه " يعني بمشيئته " وما يعمر من معمر " فيطول عمره " ولا ينقص من عمره إلا في كتاب " يعني إلا وكل ذلك في كتاب الله قد بين في اللوح المحفوظ
وروي عن ابن عمر أنه قرأ " من عمره " بجزم الميم وهما لغتان مثل نكر ونكر " إن ذلك على الله يسير " يعني حفظه على الله هين بغير كتابة
سورة فاطر 12 - 14
ثم قال عز وجل " وما يستوي البحران " العذب والمالح " هذا عذب فرات " يعني طيب هين شربه ويقال سلس في حلقه حلو في شرابه " سائغ " يعني شهيا شرابه
ويقال يسوغه الشراب " وهذا ملح أجاج " يعني الشديد الذي يضرب إلى المرارة " ومن كل تأكلون لحما طريا " يعني السمك " وتستخرجون " يعني من المالح " حلية " وهي اللؤلؤ " تلبسونها " يعني تستعملونها وتلبسون نساءكم
وهذا المثل لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار يعني وما يستوي الذين صدقوا والذين كذبوا ومن كل يظهر شيء من الصلاح يعني يلد الكافر المسلم مثل ما ولد للوليد بن المغيرة خالد بن الوليد وأبو جهل عكرمة بن أبي جهل
قوله " وترى الفلك " يعني السفن " مواخر " يعني تذهب وتجيء " فيه " يعني في البحر " لتبتغوا من فضله " يعني من رزقه " ولعلكم تشكرون " يعني لكي تشكروا رب هذه النعمة
يقال في اللغة مخر يمخر إذا شق الماء
يعني أن السفينة تشق الماء في حال جريها يقال مخرت السفينة إذا جرت وشقت الماء في جريها
ثم قال عز وجل " يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل " وقد ذكرناه " وسخر الشمس والقمر " يعني ذلل الشمس والقمر لبني آدم
" كل يجري لأجل مسمى " يعني إلى(3/96)
97
أقصى منازلها في الغروب لأنها تغرب كل ليلة في موضع وهو قوله عز وجل " فلا أقسم برب المشارق والمغارب " [ المعارج 30 ] ويقال " إلى أجل مسمى " يعني يجريان دائما إلى يوم القيامة " ذلكم الله ربكم " يعني هذا الذي فعل الفعل هو ربكم وخالقكم " له الملك " فاعرفوا توحيده وادعوه ولا تدعوا غيره " والذين تدعون من دونه " يعني الأوثان وما تعبدونهم من دون الله " ما يملكون من قطمير " يعني لا يقدرون أن يعطوكم ولا ينفعوكم بمقدار القطمير
والقطمير قشر النواة الأبيض الذي يكون بين النوى والتمر
وقال مجاهد القطمير لفاف النوى
ثم قال " إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم " يعني ولو كانوا بحال يسمعون أيضا فلا يجيبونكم ولا يكشفون عنكم شيئا " ويوم القيامة يكفرون بشرككم " يعني يتبرؤون من عبادتكم
ويقولون ما كنتم إيانا تعبدون
يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم " ولا ينبئك مثل خبير " يعني لا يخبركم من عمل الآخرة مثل الرب تبارك وتعالى
ويقال لا يخبرك أحد مثل الرب بأن هذا الذي ذكر عن الأصنام أنهم يتبرؤون عن عبادتهم
سورة فاطر 15 - 18
ثم قال عز وجل " يا أيها الناس أنتم الفقراء " يعني أنتم محتاجون إلى ما عنده
ويقال " أنتم الفقراء إلى الله " في رزقه ومغفرته " والله هو الغني الحميد " عن عبادتكم " الحميد " في سلطانه
وهذا كما قال في آية أخرى " والله الغني وأنتم الفقراء " [ محمد 38 ] لأن كل واحد يحتاج إليه ولأن أحدا لا يقدر أن يصلح أمره إلا بالأعوان والأمير ما لم يكن له خدم وأعوان لا يقدر على الإمارة
وكذلك التاجر يحتاج إلى المكارين والله عز وجل غني عن الأعوان وغيره
ثم قال عز وجل " إن يشأ يذهبكم " يعني يهلككم ويميتكم " ويأت بخلق جديد " أفضل منكم وأطوع لله تعالى " وما ذلك على الله بعزيز " يعني شديد
ثم قال عز وجل " ولا تزر وازرة وزر أخرى " يعني لا تحمل نفس خطيئة نفس أخرى
ويقال لا تحمل بالطوع ولكن يحمل عليها إذا كان له خصما
ثم قال " وإن تدع مثقلة إلى حملها " يعني الذي أثقلته الذنوب والأوزار أن لو دعا(3/97)
98
أحدا ليحمل عنه بعض أوزاره لا يحمل من وزره شيئا " ولو كان ذا قربى " أي وإن كان ذا قرابة لا يحمل من وزره
وروى إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة قال إن الوالد يتعلق بولده يوم القيامة فيقول يا بني إني كنت لك والدا فيثني عليه خيرا فيقول يا بني قد احتجت إلى مثقال ذرة
وفي رواية أخرى إلى مثقال حبة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى فيقول له ولده ما أيسر ما طلبت ولكن لا أطيق إني أخاف مثل الذي تخوفت
ثم يتعلق بزوجته فيقول لها إني كنت لك زوجا في الدنيا فيثني عليها خيرا ويقول إني أطلب إليك حسنة واحدة لعلي أنجو بها مما ترين فتقول ما أيسر ما طلبت ولكن لا أطيق إني أتخوف مثل الذي تخوفت فذلك قوله " وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى "
ثم قال " إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب " يعني إنما تخوف بالقرآن الذين يخافون ربهم بالغيب
يعني آمنوا بالله وهم يعلمونه وهم في غيب منه " وأقاموا الصلاة " يعني يقيمون الصلاة
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينذر المؤمنين والكافرين ولكن الذين يخشون ربهم هم الذين يقبلون الإنذار فكأنه أنذرهم خاصة
ثم قال " ومن تزكى " يعني توحد
ويقال يطهر نفسه من الشرك
ويقال من صلح فإنما صلاحه لنفسه يثاب عليه في الآخرة
وقال من يعطي الزكاة فإنما ثوابه لنفسه
" فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير " فيجازيهم بعملهم
سورة فاطر 19 - 26
قوله عز وجل " وما يستوي الأعمى " يعني الكافر الأعمى عن الهدى " والبصير " يعني المؤمن " ولا الظلمات ولا النور " يعني الكفر والإيمان " ولا الظل ولا الحرور " يعني الجنة والنار " ولا الحرور " هو استقرار الحر " وما يستوي الأحياء ولا الأموات " قال القتبي مثل الأعمى والبصير كالكافر والمسلم والظلمات والنور مثل الكفر والإيمان والظل والحرور مثل الجنة والنار " وما يستوي الأحياء ولا الأموات " مثل العقلاء والجهال
ثم قال " إن الله يسمع من يشاء " يعني يفقه من يشاء " وما أنت بمسمع من في القبور " يعني لا تقدر أن تفقه الأموات وهم الكفار(3/98)
99
ثم قال " إن أنت إلا نذير " يعني ما أنت إلا رسول " إنا أرسلناك بالحق " يعني بالقرآن ويقال لبيان الحق " بشيرا ونذيرا " وقد ذكرناه " وإن من أمة إلا خلا فيها نذير " يعني وما من أمة فيما مضى إلا فيهم نذير
يعني إلا جاءهم رسول
ثم قال " وإن يكذبوك " يا محمد " فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات " يعني بالأمر والنهي " وبالزبر " يعني بالكتب وبأخبار من كان قبلهم " وبالكتاب المنير " يعني المضيء الكتاب هو نعت لما سبق ذكره من البينات والزبر " ثم أخذت الذين كفروا " يعني الذين كذبوهم فعاقبتهم " فكيف كان نكير " يعني كيف كان إنكاري وتغييري عليهم
سورة فاطر 27 - 28
ثم ذكر خلقه ليعتبروا به ويوحدوه فقال عز وجل " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء " يعني المطر " فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها " من الثمار الأحمر والأصفر والحلو والحامض " ومن الجبال جدد بيض " يعني خلق من الجبال جددا يعني جماعة الجدة والجدة هي الطريق التي في الجبل والجدد هي الطرائق فترى الطريق من البعد منها بيض وبعضها حمر
وقال القتبي الجدد الخطوط والطرق تكون في الجبال فبعضها بيض وبعضها حمر وبعضها " غرابيب سود " وهو جمع غربيب وهو الشديد السواد ويقال أسود غربيب
ثم قال عز وجل " ومن الناس والدواب " يعني خلق من الناس والدواب " والأنعام مختلف ألوانه كذلك " قال بعضهم إنما يتم الكلام عند قوله " كذلك " يعني من الناس والدواب والأنعام " مختلفا ألوانه " كذلك كاختلاف الثمرات
ثم استأنف فقال " إنما يخشى الله من عباده العلماء " قال بعضهم تم الكلام عند قوله " مختلف ألوانه " ثم استأنف فقال " كذلك إنما يخشى الله " يعني هكذا يخشى الله من عباده العلماء
يعني لأن العلماء يعلمون خلق الله تعالى ويتفكرون في خلقه ويعملون ثوابه وعقابه فيخشونه ويعلمون بالطاعة طمعا لثوابه ويمتنعون عن المعاصي خشية عقابه
وقال مقاتل أشد الناس خشية أعلمهم بالله تعالى فيها تقديم
وروى سفيان عن بعض المشيخة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل يا رسول الله أينا أعلم فقال ( أخشاكم لله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء ) قالوا يا رسول الله فأي الأصحاب أفضل قال ( الذي إذا ذكرت أعانك وإذا نسيت ذكرك ) قالوا فأي الأصحاب شر قال ( الذي إذا ذكرت لم يعنك وإذا نسيت لم يذكرك ) قالوا فأي الناس شر قال ( اللهم اغفر للعلماء
والعالم إذا فسد فسد الناس )
ثم قال " إن الله عزيز " في ملكه " غفور " لمن تاب(3/99)
100
سورة فاطر 29 - 30
قوله عز وجل " إن الذين يتلون كتاب الله " يعني يقرؤون القرآن ويقال معناه يتبعون كتاب الله تعالى
يقال تلا يتلو إذا تبعه كقوله تعالى " والقمر إذا تلاها " [ الشمس 2 ] " وأقاموا الصلاة " يعني أتموا الصلوات في مواقيتها " وأنفقوا مما رزقناهم " يعني تصدقوا مما أعطيناهم من الأموال " سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور " يعني لن تهلك ولن تخسر ومعناه " يرجون تجارة " رابحة وهي الجنة مكان الحياة الدنيا
ثم قال عز وجل " ليوفيهم أجورهم " يعني يوفر ثواب أعمالهم " ويزيدهم من فضله " يعني من رزقه من الجزاء والثواب في الجنة
ويقال " من فضله " يعني من تفضله " إنه غفور " لذنوبهم " شكور " لأعمالهم اليسيرة
والشكر على ثلاثة أوجه الشكر ممن يكون دونه الطاعة لأمره وترك مخالفته والشكر ممن هو شكله يكون الجزاء والمكافأة والشكر ممن فوقه يكون رضي منه باليسير
سورة فاطر 31 - 32
قوله عز وجل " والذي أوحينا إليك من الكتاب " يعني أرسلنا إليك جبريل عليه السلام بالقرآن " هو الحق " لا شك فيه " مصدقا لما بين يديه " يعني موافقا لما قبله من الكتب " إن الله بعباده لخبير بصير " يعني عالم بهم وبأعمالهم
قوله عز وجل " ثم أورثنا الكتاب " " ثم " بمعنى العطف يعني وأورثنا الكتاب ويقال " ثم " بمعنى التأخير يعني بعد كتب الأولين
" ثم أورثنا الكتاب " ويقال أعطينا القرآن " الذين اصطفينا من عبادنا " يعني اخترنا من عبادنا من هذه الأمة
" فمنهم ظالم لنفسه " يعني من الناس ظالم لنفسه " ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات "
روي عن ابن عباس في إحدى الروايتين أنه قال الظالم الكافر والمقتصد المنافق والسابق المؤمن
وروي عنه رواية أخرى أنه قال هؤلاء كلهم من المؤمنين فالسابق الذي أسلم قبل الهجرة والمقتصد الذي أسلم بعد الهجرة قبل فتح مكة والظالم الذي أسلم بعد فتح مكة
وطريق ثالث ما روى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( السابق الذي يدخل الجنة(3/100)
101
بغير حساب والمقتصد الذي يحاسب حسابا يسيرا والظالم الذي يحاسب في طول المحشر )
وطريق رابع ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال سابقنا سابق ومقتصدنا ناجي وظالمنا مغفور له
وطريق خامس ما روى أسد بن رفاعة عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال سابقنا أهل الجهاد ومقتصدنا أهل حضرنا يعني أهل الأمصار وهم أهل الجماعات والجمعات وظالمنا أهل بدونا
وطريق سادس ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن هذه الآية فقالت السابق النبي صلى الله عليه وسلم ومن مضى معه والمقتصد مثل أبي بكر ومن مضى معه والظالم فمثلي ومثلكم
وطريق سابع ما روي عن مجاهد قال الظالم هم أصحاب المشأمة والمقتصد أصحاب الميمنة والسابق هم السابقون بالخيرات فكأنه استخرجه من قوله " فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة " [ الواقعة 8 ] إلى قوله " والسابقون السابقون " [ الواقعة 10 ]
وطريق ثامن ما روي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال الظالم هم المنافقون والمقتصد هم التابعون بإحسان والسابق هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
وطريق تاسع ما روي عن الحسن أيضا أنه قال السابق الذي ترك الدنيا والمقتصد الذي أخذ من الحلال والظالم الذي لا يبالي من أين أخذ
وقيل طريق عاشر السابق الذي رجحت حسناته على سيئاته والمقتصد الذي استوت حسناته مع سيئاته والظالم الذي رجحت سيئاته على حسناته
وقيل طريق حادي عشر السابق الذي سره خير من علانيته والمقتصد الذي سره وعلانيته سواء والظالم الذي علانيته خير من سره
وقيل طريق ثاني عشر السابق الذي تهيأ للصلاة قبل دخول وقتها والمقتصد الذي تهيأ للصلاة بعد دخول وقتها والظالم الذي ينتظر الإقامة
وقيل وطريق ثالث عشر السابق الذي يتوكل على الله ويجعل جميع جهده في طاعة(3/101)
102
الله عز وجل والمقتصد الذي يطلب قوته ولا يطلب الزيادة والظالم الذي يطلب فوق القوت والكفاف
طريق رابع عشر السابق الذي شغله معاده عن معاشه والمقتصد الذي يشتغل بهما جميعا والظالم الذي شغله معاشه عن معاده
وقيل طريق خامس عشر السابق الذي ينجو بنفسه وينجو غيره بشفاعته والمقتصد الذي يدخل الجنة برحمة الله وفضله والظالم الذي يدخل الجنة بشفاعة الشافعين
وطريق سادس عشر السابق الذي يعطى كتابه بيمينه والمقتصد الذي يعطى كتابه بشماله والظالم الذي يعطى كتابه وراء ظهره
وطريق سابع عشر قيل السابق الذي ركن إلى المولى والمقتصد الذي ركن إلى العقبى والظالم الذي ركن إلى الدنيا
وطريق ثامن عشر ما روي عن يحيى بن معاذ الرازي قال الظالم الذي يضيع العمر في الشهوة والمعصية والمقتصد الذي يحارب فيهما والسابق الذي يجتهد في الزلات ثم قال لأن محاربة الصديقين في الزلات ومحاربة الزاهدين في الشهوات ومحاربة التائبين في الموبقات
وطريق تاسع عشر قال الظالم يطلب الدنيا تمتعا والمقتصد الذي يطلب الدنيا تلذذا والسابق الذي ترك الدنيا تزهدا
وطريق العشرين قال الظالم الذي يطلب ما لم يؤمر بطلبه وهو الرزق والمقتصد الذي يطلب ما أمر به وما لم يؤمر بطلبه
والسابق الذي طلبه مرضاة الله ومحبته
وطريق حادي وعشرين قيل الظالم أصحاب الكبائر والمقتصد أصحاب الصغائر والسابق المجتنب عن الصغائر والكبائر
وطريق ثاني وعشرين قيل السابق الخارج إلى الغزو والرباطات قبل الناس والمقتصد الخارج إليها مع الناس والظالم المتخلف عن الجمعة والجماعة
وطريق ثالث وعشرون قيل السابق الذي يعلم ويعلم الناس ويعمل به والمقتصد الذي يعلم ويعلم ولا يعمل به والظالم الذي لا يعلم ولا يرغب إلى التعلم
وطريق رابع وعشرون السابق الذي هو مشغول في عيب نفسه ولا يطلب عيب غيره
والمقتصد الذي يطلب عيب نفسه ويطمع في عيب غيره
والظالم الذي هو مشغول في عيب غيره ولا يصلح عيب نفسه
وطريق خامس وعشرون ما روي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفينا " إلى قوله " الفضل الكبير " قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( هؤلاء كلهم في الجنة
أما السابق بالخيرات فإنه يدخل الجنة بدون حساب وأما المقتصد فإنه يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة وأما الظالم لنفسه فإنه يحاسب حسابا شديدا أو يحبس حبسا طويلا ثم(3/102)
103
يدخل الجنة فإذا دخلوا الجنة قالوا " الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور "
وقد قيل غير هذا إلا أنه يطول وفيما ذكرنا كفاية لمن عمل به
وأكثر الروايات أن الأصناف الثلاثة كلهم مؤمنون وأول الآية وآخرها دليل على ذلك
فأما أول الآية فقوله عز وجل " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا " يعني أعطينا الكتاب فأخبر أنه أعطى الكتاب لهؤلاء الثلاثة
وقال في آخر الآية " جنات عدن يدخلونها " [ النحل 31 ] فأشار إلى الأصناف الثلاثة
وقال بعضهم تأول قول ابن عباس الذي قاله في رواية أبي صالح إن الظالم كافر يعني كفر النعمة ومعناه فمنهم من كفر بهذه النعمة ولم يشكر الله عز وجل عليها ومنهم مقتصد يعني يشكر ويكفر ومنهم سابق يعني يشكر ولا يكفر
وروي عن كعب الأحبار أنه قيل له ما منعك أن تسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال كان أبي مكنني من جميع التوراة إلا ورقات منعني أن أنظر فيها فخرج أبي يوما لحاجة فنظرت فيها فوجدت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته وأنه يجعلهم يوم القيامة ثلاثة أثلاث ثلث يدخلون الجنة وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ويدخلون الجنة وثلث تشفع لهم الملائكة والنبيون عليهم السلام فأسلمت وقلت لعلي أكون من الصنف الأول وإن لم أكن من الصنف الأول لعلي أن أكون من الصنف الثاني أو من الصنف الثالث
فلما قرأت القرآن وجدتها في القرآن وهو قوله عز وجل " ثم أورثنا الكتاب الذين " إلى قوله " جنات عدن يدخلونها " الآية
فإن قيل إيش الحكمة في ذكره الظالم ابتداء وتأخيره ذكر السابق قيل له الحكمة فيه والله أعلم لكيلا يعجب السابق بنفسه ولا ييأس الظالم من رحمة الله عز وجل
ثم قال " ذلك هو الفضل الكبير " من الله تعالى يعني الذي أورثهم الكتاب واختارهم هو الفضل الكبير من الله تعالى
سورة فاطر 33 - 35
ثم قال عز وجل " جنات عدن " يعني لهم جنات عدن أي دار الإقامة
يقال عدن يعدن إذا قام
قرأ أبو عمرو وابن كثير في إحدى الروايتين " يدخلونها " بضم الياء وفتح الخاء على معنى فعل ما لم يسم فاعله
وقرأ الباقون " يدخلونها " على معنى أن الفعل لهم " يحلون فيها من أساور " يعني يلبسون الحلي من أساور " من ذهب ولؤلؤا " قرأ نافع وعاصم(3/103)
104
" ولؤلؤا " بالنصب ومعناه يحلون أساور ولؤلؤا
وقرأ الباقون بالكسر يعني من ذهب ومن لؤلؤ
ثم قال " ولباسهم فيها حرير " يعني لباسهم في الجنة من حرير الجنة لا كحرير الدنيا
قوله عز وجل " وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن " يعني حزن الموت وحزن خوف الخاتمة
ويقال هم العيش ويقال هم المرور على الصراط " إن ربنا لغفور " يغفر الذنوب " شكور " يقبل اليسير من العمل ويعطي الجزيل عز وجل " الذي أحلنا دار المقامة من فضله " يعني الحمد لله الذي أنزلنا دار الخلود والمقامة
والمقام بمعنى واحد يعني الإقامة والدوام من فضله يعني بفضله وكرمه " لا يمسنا فيها نصب " يعني لا يصيبنا في الجنة تعب " ولا يمسنا فيها لغوب " يعني لا يصيبنا فيها من أعباء كما يصيبنا في الدنيا
سورة فاطر 36 - 37
ثم بين حال المشركين في النار فقال عز وجل " والذين كفروا " يعني جحدوا بوحدانية الله عز وجل " لهم نار جهنم لا يقضى عليهم " الموت
ويقال لا يرسل عليهم ولا ينزل الموت " فيموتوا " حتى يستريحوا " ولا يخفف عنهم من عذابها " يعني من عذاب جهنم " كذلك نجزي كل كفور " يعني هكذا نعاقب كل كافر بالله تعالى
قرأ أبو عمرو " يجزي " بالياء وضم الياء ونصب الزاي " كل كفور " بضم اللام على معنى فعل ما لم يسم فاعله
وقرأ الباقون " نجزي " بالنون والنصب " كل كفور " بنصب اللام ومعنى القراءتين يرجع إلى شيء واحد يعني كذلك يجزي الله تعالى
ثم أخبر عن حالهم فيها فقال عز وجل " وهم يصطرخون فيها " يستغيثون صرخ يصرخ إذا أغاث واستغاث وهو من الأضداد ويستعمل للإغاثة والاستغاثة لأن كل واحد منهما يصلح وهو افتعال من الصراخ
يعني يدعون في النار ويقولون " ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل " يعني نعمل غير الشرك وغير المعصية
يقول الله تعالى " أولم نعمركم " يعني أو لم نعطكم من العمر والمهلة في الدنيا " ما يتذكر فيه من تذكر " يعني يتعظ فيه من أراد أن يتعظ
وروى مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى " أو لم نعمركم " يعني أو لم نعطكم من(3/104)
105
العمر والمهلة في الدنيا ما نتذكر فيه لمن تذكر يعني يتعظ فيه من أراد أن يتعظ
وروى مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى " أو لم نعمركم " قال العمر ستون سنة " وجاءكم النذير " يعني الشيب والهرم
وروي أن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام أول من رأى الشيب فقال ما هذا يا رب فقال هذا وقار في الدنيا ونور في الآخرة
فقال رب زدني وقارا
ويقال " أو لم نعمركم " يعني نطول أعماركم و " ما يتذكر فيه من تذكر " أي مقدار ما يتعظ فيه من يتعظ
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين سنة ) " وجاءكم النذير " يعني الرسول " فذوقوا " العذاب في النار " فما للظالمين من نصير " يعني ما للمشركين من مانع من عذاب الله عز وجل
سورة فاطر 38 - 40
ثم قال عز وجل " إن الله عالم غيب السموات والأرض " يعني غيب ما يكون في السموات والأرض
يعني يعلم أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " إنه عليم بذات الصدور " يعني عليم بما في قلوبهم ويقال عالم بما في قلوب العباد من الخير والشر
ثم قال عز وجل " هو الذي جعلكم خلائف في الأرض " يعني قل لهم يا محمد للكفار الله تعالى جعلكم سكان الأرض من بعد الأمم الخالية " فمن كفر " بتوحيد الله عز وجل " فعليه كفره " يعني عاقبة كفره وعقوبة كفره " ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا " وهو الغضب الشديد الذي يستوجب العقوبة
يعني لا يزدادون في طول أعمارهم إلا غضب الله تعالى عليهم
وقال الزجاج المقت أشد الغضب " ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا " يعني غبنا في الآخرة وخسرانا
ثم قال عز وجل " قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله " يعني تعبدون من دون الله " أروني ماذا خلقوا من الأرض " يعني أخبروني أي شيء خلقوا مما في السموات أو مما في الأرض من الخلق
وقال القتبي " من " بمعنى في يعني أروني ماذا خلقوا في الأرض يعني أي شيء خلقوا في الأرض كما خلق الله عز وجل " أم لهم شرك في السموات "(3/105)
106
يعني عون على خلق السموات والأرض ويقال نصيب في السموات اللفظ لفظ الاستفهام والشك والمراد به النفي يعني ليس لهم شرك في السموات
ثم قال " أم آتيناهم كتابا " يعني أعطيناهم كتابا اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به النفي يعني ليس لهم كتاب فيه حجة على كفرهم " فهم على بينة منه " يعني ليسوا على بيان مما يقولون
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم في رواية حفص " على بينة " بغير ألف وقرأ الباقون " بينات " بلفظ الجماعة ومعناهما واحد لأن الواحد ينبىء عن الجماعة
ثم قال " بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا " يعني ما يعد الظالمون بعضهم بعضا
يعني الشياطين للكافرين من الشفاعة لمعبودهم " إلا غرورا " يعني باطلا
سورة فاطر 41 - 43
قوله عز وجل " إن الله يمسك السموات والأرض " يعني يحفظ السموات والأرض " أن تزولا " يعني لئلا تزولا عن مكانهما " ولئن زالتا " يعني يوم القيامة " إن أمسكهما من أحد من بعده " يعني لا يقدر أحد أن يمسكهما
ويقال " ولئن زالتا " يعني إن زالتا في الحال وهما لا يزولان " إنه كان حليما " عن قول الكفار حيث قالوا لله ولد فكادت السموات والأرض أن تزولا فأمسكهما بحلمه فلم يزولا " غفورا " يعني متجاوزا عنهم إن تابوا
ويقال " غفورا " حيث لم يعجل عليهم بالعقوبة وأمسك السموات والأرض أن تزولا
وقوله عز وجل " وأقسموا بالله جهد أيمانهم " يعني كفار مكة كانوا يعيرون اليهود والنصارى بتكذيبهم أنبياءهم وقالوا لو أرسل الله عز وجل إلينا رسولا لكنا أهدى من إحدى الأمم وكانوا يحلفون على ذلك فذلك قوله " وأقسموا بالله جهد أيمانهم " فكل من حلف بالله فهو جهد اليمين " لئن جاءهم نذير " يعني رسول " ليكونن أهدى من إحدى الأمم " يعني أصوب دينا من اليهود والنصارى " فلما جاءهم نذير " وهو محمد صلى الله عليه وسلم " ما زادهم إلا نفورا " يعني ما زادهم الرسول إلا تباعدا عن الهدى
قوله عز وجل " استكبارا في الأرض " يعني تكبرا في الأرض " استكبارا " مفعول المعنى زادهم الرسول تكبرا وهذا كقوله " ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " [ الإسراء 82 ] وكان القرآن سببا لخسرانهم فأضاف إليه(3/106)
107
ثم قال " ومكر السيئ " يقول قول الشرك واجتماعهم على قتل النبي صلى الله عليه وسلم
قرأ حمزة " ومكر السيئ " بجزم الياء وقرأ الباقون بالكسر لتبين الحروف وجزم حمزة لكثرة الحركات
ثم قال " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " يعني عقوبة المكر إلا بأهله يعني لا يدور وينزل المكر السيئ إلا بأهله
يعني عقوبة المكر ترجع إليهم
ثم قال " فهل ينظرون " يعني ما ينتظرون " إلا سنة الأولين " يعني عقوبة الأمم الخالية أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأولين " فلن تجد لسنة الله تبديلا " يعني لصنعة الله تعالى ويقال لملة الله ويقال لسنة الله في العذاب " تبديلا " يعني لا يقدر أحد أن يبدله " ولن تجد لسنة الله تحويلا " يعني تغييرا يعني لا يقدر أحد أن يغير فعل الله تعالى
سورة فاطر 44 - 45
ثم وعظهم ليعتبروا فقال عز وجل " أو لم يسيروا في الأرض " يعني أو لم يسافروا " فينظروا " فيعتبروا " كيف كان عاقبة " يعني آخر أمر " الذين " كفروا " من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة " يعني منعة " وما كان الله ليعجزه من شيء " يعني يفوته من شيء ويقال لا يقدر أحد أن يهرب من عذابه " في السموات ولا في الأرض إنه كان عليما " بخلقه بأنه لا يفوت منه أحد " قديرا " يعني قادرا عليهم بالعقوبة
قوله عز وجل " ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا " يعني لو عاقبهم بذنوبهم " ما ترك على ظهرها " يعني على ظهر الأرض " من دابة " يعني لهلكت الدواب من قحط المطر
قال قتادة " ما ترك على ظهرها " من دابة إلا أهلكهم كما أهلك من كان في زمان نوح عليه السلام ويقال " من دابة " يعني من الجن والإنس فيعاقبهم بذنوبهم فيهلكهم
وقال مجاهد " ما ترك على ظهرها من دابة " يعني من هوام الأرض من العقارب ومن الخنافس
وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال كاد الجعل أن يعذب في حجره بذنب ابن آدم
ثم قرأ " ولو يؤاخذ الله الناس " الآية
والعرب تكني عن الشيء إذا كان مفهوما كما كنى ها هنا عن الأرض كقوله " ما ترك على ظهرها " وإن لم يسبق ذكر الأرض
ثم قال " ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى " يعني إلى الميعاد الذي وعدهم الله تعالى(3/107)
108
ويقال إلى الوقت الذي وقت لهم في اللوح المحفوظ " فإذا جاء أجلهم " يعني إلى انقضاء حياتهم
ويقال هو البعث
ثم قال " فإن الله كان بعباده بصيرا " يعني عالما بهم وبأعمالهم
روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال لما طعن عمر رضي الله عنه قال كعب لو دعا الله عمر لآخر في أجله
فقال الناس سبحان الله أليس قد قال الله تعالى " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " [ الأعراف 34 ] فقال كعب وقد قال " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير " [ فاطر 11 ] قال الزهري فيرون أن ذلك ما لم يحضر الأجل فإذا حضر لم يؤخر وليس أحد إلا وعمره مكتوب في اللوح المحفوظ والله سبحانه وتعالى أعلم صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم(3/108)
109
سورة يس
كلها مكية وهي ثمانون وثلاث آيات
سورة يس 1 - 4
قول الله سبحانه وتعالى " يس " قرأ حمزة بين الكسر والفتح وقرأ الكسائي بالإمالة وقرأ الباقون بالفتح وقرأ ابن عامر والكسائي " يس والقرآن " مدغم النون وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وحمزة بإظهار النون وكل ذلك جائز في اللغة
وقرئ في الشاذ " ياسين " بنصب النون ومعناه اتل ياسين لأن يس اسم السورة وقراءة العامة بالتسكين لأنها حروف هجاء ولا تحتمل الإعراب مثل قوله تعالى " الم "
وروي عن ابن عباس في تفسير قوله " يس " يعني يا إنسان بلغة طيئ وهكذا قال مقاتل عن قتادة والضحاك
وروي عن محمد ابن الحنفية أنه قال " يس " يعني يا محمد
وروى معمر عن قتادة قال " يس " اسم من أسماء القرآن ويقال افتتاح السورة
وقال مجاهد هذه فواتح السور يفتتح بها كلام رب العاليمن
وقال شهر بن حوشب قال كعب " يس " قسم أقسم الله تعالى به قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام يا محمد " إنك لمن المرسلين " وقال ابن عباس في قوله " والقرآن الحكيم " أي أحكم حلاله وحرامه وأمره ونهيه
ويقال حكيم يعني محكم من التناقض والعيب
ويقال " الحكيم " أي الحاكم كالعليم يعني العالم يعني القرآن حاكم على جميع الكتب التي أنزلها الله تعالى من قبل " إنك لمن المرسلين " فهذا جواب القسم ومعناه يا إنسان " والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين " يعني رسولا كسائر المرسلين جوابا لقولهم لست مرسلا " على صراط مستقيم " يعني أي على طريق الإسلام
سورة يس 5 - 10(3/109)
110
ثم قال عز وجل " تنزيل العزيز الرحيم " قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في إحدى الروايتين " تنزيل " بضم اللام ومعناه هذا القرآن تنزيل أو هو تنزيل العزيز الرحيم وقرأ الباقون " تنزيل " بالنصب ومعناه نزله تنزيلا فصار نصبا بالمصدر
" لتنذر " يعني لتخوف بالقرآن " قوما ما أنذر آباؤهم " يعني لم ينذر آباؤهم ولم يرسل إليهم رسولا منهم " فهم غافلون " عن ذلك ويقال " لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم " يعني كما أنذر آباؤهم الأولون " فهم غافلون " عن ذلك يعني عما أنذر آباؤهم
ثم قال عز وجل " لقد حق القول " أي وجب القول بالعذاب " على أكثرهم " أي على الكفار
ويقال " لقد حق القول " وهو قوله " لأملأن جهنم " [ الأعراف 18 ] ويقال " القول " كناية عن العذاب أي وجب عليهم العذاب " فهم لا يؤمنون " يعني لا يصدقون بالقرآن
" إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا " قال مقاتل وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليدمغنه بحجر فأتاه وهو يصلي فرفع الحجر ليدمغه فيبست يده إلى عنقه والتزق الحجر بيده ورجع إلى أصحابه فخلصوا الحجر من يده
ورجل آخر من بني المغيرة أتاه ليقتله فطمس الله على بصره فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم وسمع قوله فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فذلك قوله " إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا " " وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا " وذكر في رواية الكلبي نحو هذا
وقال بعضهم " إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا " أي جعلنا أيديهم ممسكة عن الخيرات مجازاة لكفرهم
" وجعلنا من بين أيديهم سدا " أي حائلا لا يهتدون إلى الإسلام ولا يبصرون الهدى وقال بعضهم " إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا " يعني أيديهم
ولم يذكر في الآية اليد وفيها دليل لأن الغل لا يكون إلا باليد إلى العنق فلما ذكر العنق فكأنما ذكر اليد
وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنهما قرآ " إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا "
وقرأ بعضهم " في أيديهم "
وكل ذلك يرجع إلى معنى واحد لأنه لا يجوز أن يكون الغل بأحدهما دون الآخر كقوله " سرابيل تقيكم الحر " [ النحل 81 ] ولم يذكر البرد لأن في الكلام دليلا عليه
ثم قال " فهي إلى الأذقان " أي تلك الأغلال إلى الأذقان " فهم مقمحون " أي الحنك الأيسر " مقمحون " أي رافع الرأس إلى السماء غاض الطرف لا يبصر موضع قدميه وقال قتادة أي مغلولين من كل خير
ثم قال عز وجل " وجعلنا من بين أيديهم سدا " أي ظلمة " ومن خلفهم سدا " أي ظلمة " فأغشيناهم " بالظلمة " فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم "
يعني خوفتهم اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التوبيخ " أم لم تنذرهم لا يؤمنون " يعني سواء خوفتهم أم لم تخوفهم " فهم لا
يؤمنون " يعني لا يصدقون
وإنما نزلت الآية في شأن الذين ماتوا على(3/110)
111
كفرهم أو قتلوا على كفرهم
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " سدا " بنصب السين في كلاهما وقرأ الباقون بالضم
وقال أبو عبيدة قراءتنا بالضم لأنهما من فعل الله تعالى وليس من فعل بني آدم
وقال القتبي المقمح الذي يرفع رأسه ويغض بصره يقال بعير قامح إذا روي من الماء فقمحت عيناه وقال والسد الجبل " فأغشيناهم " قال أعمينا أبصارهم عن الهدى
سورة يس 11 - 12
ثم قال عز وجل " إنما تنذر من اتبع الذكر " يعني تخوف بالقرآن من اتبع الذكر يعني من قبل الموعظة وسمع القرآن " وخشي الرحمن بالغيب " يعني أطاعه في الغيب " فبشره بمغفرة " في الدنيا " وأجر كريم " في الآخرة
ثم قال عز وجل " إنا نحن نحيي الموتى " يعني نبعثهم في الآخرة " ونكتب ما قدموا " يعني نحفظ ما اعملوا وما أسلفوا من أعمالهم
ويقال " ونكتب ما قدموا " يعني تكتب أعمالهم الكرام الكاتبون ما عملوا من خير أو شر " وآثارهم " يعني ما استنوا من سنة خيرا أو شرا عملوه واقتدى بهم من بعدهم فلهم مثل أجورهم أو عليهم مثل أوزارهم من غير أن ينقص منه شيئا وهذا كقوله عز وجل " ينبؤا الإنسان يومئذ بما قدم وأخر " [ القيامة 14 ] وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من سن سنة حسنة ) إلى آخره وقال مجاهد " وآثارهم " يعني خطاهم
وروى مسروق أنه قال ما خطا عبد خطوة إلا كتبت له بها حسنة أو سيئة
وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال إن بني سلمة ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم بعد منازلهم من المسجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( يا بني سلمة دياركم فإنما تكتب آثاركم )
ثم قال " وكل شيء أحصيناه " أي حفظناه وبيناه " في إمام مبين " يعني في اللوح المحفوظ
سورة يس 13 - 14
قوله عز وجل " واضرب لهم مثلا " أي وصف لهم شبها " أصحاب القرية " أهل القرية(3/111)
112
وهي أنطاكية " إذ جاءها المرسلون " يعني رسل عيسى عليهم السلام " إذ أرسلنا إليهم اثنين " قال مقاتل هما تومان وطالوس " فكذبوهما فعززنا بثالث " يعني قويناهما بثالث وهو شمعون رضي الله عنه وقرأ عاصم في رواية أبي بكر " فعززنا " بالتخفيف ومعناهما غلبنا
نقول عزه يعزه إذا غلبه ومنه قوله تعالى " وعزني في الخطاب " [ ص 23 ] يعني غلبني في القول وقرأ الباقون " فعززنا " بالتشديد ومعناه قوينا وشددنا الرسالة برسول ثالث
وذلك أن عيسى ابن مريم عليهما السلام بعث رسولين إلى أنطاكية وإنما كان إرساله بإذن الله عز وجل فأضاف إليه حيث قال " إذ أرسلنا إليهم اثنين " ثم بعث بعد ذلك شمعون
وروي في بعض الروايات أن عيسى عليه السلام أوصى إلى الحواريين أن يتفرقوا في البلدان ثم رفع عيسى إلى السماء وكان مجيء الرسل بعدما رفع عيسى
وفي بعض الروايات أنه أرسل الرسل ثم رفع
وكان للرسل من المعجزة ما للأنبياء عليهم السلام بدعاء عيسى عليه السلام فلما جاء الرسولان الأولان ودخلا أنطاكية وجعلا يناديان فيها بالإيمان بالرحمن يدعوان إلى الإيمان بالله عز وجل ويزجران أهلها عن عبادة الأصنام والشيطان فأخذوهما شرط الملك وأتوا بهما إلى الملك
فلما دخلا على الملك قالا إن الأوثان التي تعبدون ليست بشيء وإن إلهكم الله الذي في السماء وأن من مات منكم صار إلى النار
فغضب الملك وجلدهما وسجنهما ثم حضر شمعون ودخل أنطاكية وجاء إلى السجن فقال للسجان ائذن لي حتى أدخل السجن فإني أريد أن أدفع إلى كل واحد فهما كسرة خبز
فأذن له فدخل وجعل يعطي لكل واحد كسرة خبز حتى انتهى إلى صاحبيه فقال لهما إني أريد أن آتي الملك وأطلب فكاكما حتى أخلصكما فإنكما لم تأتيا الأمر من قبل وجهه ألم تعلما أنكما لا تطاعان إلا بالرفق واللطف وأن مثلكما مثل امرأة لم تلد زمانا من دهرها ثم ولدت غلاما فأسرعت لشبابه فأطعمته الخبز قبل أوانه فغض بلقمة فمات فكذلك دعوتكما هذا الملك قبل أوان الدعاء فأصابكما البلاء
ثم انطلق شمعون وتركهما فقعد حتى إذا دخلوا بيت الأصنام دخل في صلاتهم فقام بين يدي تلك الأصنام يصلي ويتضرع ويسجد لله تعالى ولا يشكون أنه على ملتهم وأنه إنما يدعو آلهتهم
ففعل ذلك أياما فذكروا ذلك للملك فدعاه وكلمه وقال له من أين أنت فقال أنا رجل من بني إسرائيل وقد انقرضوا وكنت بقيتهم وجئت إلى أصحابك آنس بكم وأسكن إليكم
فسأله الملك عن أشياء فوجده حسن الرأي فلبث فيهم ما شاء الله
فلما رأى أمره قد استقام قال يا أيها الملك قد بلغني أنك سجنت رجلين منذ زمان يدعوانك إلى غير إلهك فهل لك أن تدعوهما فأسمع كلاهما وأخاصمهما عنك فقال الملك نعم
فدعاهما
وأقيما بين يديه فقال لهما شمعون أخبراني عن إلهكما فقالا إنه يبرئ الأكمه والأبرص فدعي برجل ولد أعمى فدعوا الله تعالى فأبصر الأعمى
قال شمعون فأنا أفعل مثل ذلك فأتي بآخر فدعا شمعون رضي الله عنه فبرئ فقال لهما شمعون لا فضل لكما علي بهذا(3/112)
113
ثم أتي برجل أبرص فدعا شمعون فبرئ وفعل شمعون بآخر مثل ذلك
فقال لهما شمعون فهل عندكما شيء غير هذا فقالا نعم إن ربنا يحيي الميت
فقال شمعون أنا لا أقدر على ذلك ثم قال للملك هل لك أن تأتي بالصنم فلعله يحيي الميت فيكون لك الفضل عليهما ولإلاهك فقال الملك إنك تعلم أنه لا يسمع ولا يبصر فكيف يحيي الموتى ثم قال له شمعون سلهما هل يستطيعان أن يفعلا مثل ما قالا فقال الملك عندما ميت قد مات منذ سبعة أيام وكان لأبيه ضيعة قد خرج إليها وأهله ينتظرون قدومه واستأذنوا في دفنه فأمرهم أن يؤخروه حتى يحضر أبوه فأمرهم بإحضار ذلك الميت
فلم يزالا يدعوان الله تعالى وشمعون يعينهما بالدعاء في نفسه حتى أحياه الله تعالى
فقال شمعون أنا أشهد أنهما صادقان وأن إلههما حق
فاجتمع أهل المصر وقالوا إن كلمتهم كانت واحدة فرجموهم بالحجارة وجاء أب الغلام فأسلم وقتل أب الغلام أيضا وهو حبيب النجار
ثم إن الله عز وجل بعث جبريل عليه السلام فصاح صيحة فماتوا كلهم فذلك قوله تعالى " إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذوبهما فعززنا بثالث فقالوا " يعني هؤلاء الثلاثة " إنا إليكم مرسلون " وأروهم العلامات
سورة يس 15 - 19
قوله عز وجل " قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا " يعني آدميا مثلنا " وما أنزل الرحمن من شيء " يعني لم يرسل الرسل من الآدميين " إن أنتم إلا تكذبون " بأنكم رسل الله تعالى
يعني أرسلكم عيسى بأمر الله تعالى فأنكروا ذلك " قالوا ربنا يعلم " يعني الرسل قالوا " ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون " يعني أرسلنا عيسى عليه السلام بأمر الله تعالى " وما علينا إلا البلاغ المبين "
قوله عز وجل " قالوا إنا تطيرنا بكم " يعني قال أهل أنطاكية إنا تشاءمنا بكم وهذا الذي يصيبنا من شؤمكم وهو قحط المطر " لئن لم تنتهوا لنرجمنكم " يعني لنقتلنكم " وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم " يعني شؤمكم معكم وبأعمالكم الخبيثة
ويقال إن الذي يصيبكم كان مكتوبا في أعناقكم " أئن ذكرتم " يعني إن وعظتم بالله
قرأ نافع وأبو عمرو " آين ذكرتم " بهمزة واحدة ممدودة وقرأ الباقون بهمزتين
وقرأ زر بن حبيش " أن ذكرتم " بهمزة واحدة مع الفتح يعني لأنكم وعظتم فلم تتعظوا
ومن قرأ بالاستفهام فمعناه إن وعظتم تطيرتم هذا جوابا لقولهم " إنا تطيرنا بكم " ويقال معناه " أئن ذكرتم "
يعني حين وعظتم بالله تعالى تشاءمتم بنا(3/113)
114
ثم قال " بل أنتم قوم مسرفون " يعني مشركون
سورة يس 20 - 27
قوله عز وجل " وجاء من أقصى المدينة " يعني من وسط المدينة وهو حبيب النجار " رجل يسعى " يعني يسعى في مشيه
وقال بعضهم هو الذي عاش ابنه بعد الموت بدعاء الرسل فجاء وأسلم
وقال بعضهم كان ابنه مريضا فبرئ بدعوة الرسل فصدق بهم
فلما بلغه أن القوم أرادوا قتل الرسل جاء إليهم ليمنع الناس عن قتلهم
وقال قتادة كان في غار يدعو ربه فلما بلغه مجيء الرسل أتاهم " قال يا قوم اتبعوا المرسلين " يعني دين المرسلين ثم قال للرسل هل تسألون على هذا أجرا فقالوا لا
فقال القوم " اتبعوا من لا يسألكم أجرا " يعني على الإيمان " وهم مهتدون " يدعوكم إلى التوحيد
فقال له قومه تبرأت عن ديننا واتبعت دين غيرنا
قوله عز وجل " وما لي لا أعبد الذي فطرني " يعني خلقني
قرأ حمزة وابن عامر في إحدى الروايتين " وما لي " بسكون الياء وقرأ الباقون بالفتح " ومالي " وهما لغتان وكلاهما جائز
ثم قال " وإليه ترجعون " يعني تصيرون إليه بعد الموت وهذا كقوله " ولله ميراث السموات والأرض " [ آل عمران 180 ] فقالوا له ارجع إلى ديننا
فقال حبيب " أأتخذ من دونه آلهة " يعني أعبد من دونه أصناما " إن يردن الرحمن بضر " يعني ببلاء وشدة يعني إذا فعلت ذلك " لا تغن عني شفاعتهم شيئا " يعني لا تقدر الآلهة أن يشفعوا لي " ولا ينقذون " يعني لا يدفعون عني الضرر " إني " " لفي ضلال مبين " يعني إذا فعلت ذلك لفي خسران بين " إني آمنت بربكم فاسمعون " يعني فاشهدوني وأعينوني بقول لا إله إلا الله
وقال ابن عباس ألقي في البئر وهو الرس كما قال " وأصحاب الرس " [ ق 12 ] وقال قتادة قتلوه بالحجارة وهو يقول رب اهد قومي فإنهم لا يعلمون
وقال مقاتل أخذوه ووطوؤه تحت أقدامهم حتى خرجت أمعاؤه ثم ألقي في البئر وقتلوا الرسل الثلاثة
فلما ذهب بروح حبيب النجار إلى الجنة " قيل " له " أدخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون " وذلك حين دخلها وعاين ما فيها من النعيم تمنى أن يسلم قومه فقال " يا ليت(3/114)
115
قومي يعلمون بما غفر لي ربي ) بالذي غفر لي ربي
ويقال بمغفرتي
ويقال بماذا غفر لي ربي فلو علموا لآمنوا بالرسل
وقال " وجعلني من المكرمين " أي الموحدين في الجنة
فنصح لهم في حياته وبعد وفاته
سورة يس 28 - 32
يقول الله تعالى " وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء " يعني من بعد حبيب النجار " من جند " من السماء يعني الملائكة " وما كنا منزلين " يعني لم نبعث إليهم أحدا " إن كانت إلا صيحة واحدة " يعني ما كانت إلا صيحة جبريل عليه السلام " فإذا هم خامدون " يعني ميتين لا يتحركون
قوله عز وجل " يا حسرة على العباد " يعني يا ندامة على العباد في الآخرة يعني يقولون يا حسرتنا على ما فعلنا بالأنبياء عليهم السلام " ما يأتيهم من رسول " في الدنيا " إلا كانوا به يستهزئون "
ثم خوف المشركين بمثل عذاب الأمم الخالية ليعتبروا فقال " ألم يروا كم أهلكنا " يعني ألم يعلموا ويقال ألم يخبروا كم أهلكنا " قبلهم من القرون " يعني كم عاقبنا من القرون الماضية " أنهم إليهم لا يرجعون " إلى الدنيا
قوله عز وجل " وإن كل لما جميع لدينا محضرون " قرأ عاصم وحمزة وابن عامر بتشديد الميم وقرأ الباقون بالتخفيف
فمن قرأ بالتشديد فمعناه وما كل إلا جميع ومن قرأ بالتخفيف فما زائدة مؤكدة والمعنى " وإن كل لجميع لدينا محضرون "
يعني يوم القيامة محضرون عندنا
سورة يس 33 - 35
ثم وعظهم كي يعتبروا من صنعه فيعرفوا توحيده فقال تعالى " وآية لهم " يعني علامة وحدانيته " الأرض الميتة أحييناها " يعني الأرض اليابسة أحييناها بالمطر لتنبت " وأخرجنا منها حبا " يعني الحبوب كلها " فمنه يأكلون وجعلنا فيها " يعني وخلقنا في(3/115)
116
الأرض " جنات " يعني البساتين " من نخيل وأعناب " وهي والكروم " وفجرنا فيها من العيون " يعني أجرينا في الأرض الأنهار تخرج من العيون " ليأكلوا من ثمره " يعني من الثمرات " وما عملته أيديهم " يعني لم تعمل أيديهم
ويقال والذي عملت أيديهم مما يزرعون " أفلا يشكرون " رب هذه النعم فيوحدوه
وقرأ حمزة والكسائي " ثمره " بالضم وقرأ الباقون بالنصب والثمر بالنصب جماعة الثمرة والثمرات جمع الجمع وهو الثمر مثل كتاب وكتب
والثمر بالضم جمع الثمرات
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " وما عملت " بغير هاء وقرأ الباقون بالهاء ومعناهما واحد
ثم قال " أفلا يشكرون " اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الأمر يعني اشكروا رب هذه النعم ووحدوه
سورة يس 36 - 40
ثم قال عز وجل " سبحان الذي خلق الأزواج كلها " يعني تنزيها لله عز وجل الذي خلق الأصناف كلها " مما تنبت الأرض " يعني ألوانا من النبات والثمار ففي كل شيء خلق الله تعالى دليل على وحدانيته تعالى وربوبيته
ثم قال " ومن أنفسهم " يعني خلق من جنسهم أصنافا فالذكر والأنثى وألوانا مختلفة " ومما لا يعلمون " يعني وخلق من الخلق ما لا يعلمون وهذا كقوله " ويخلق ما لا تعلمون " [ النحل 8 ]
ثم ذكر لهم دلالة أخرى ليعتبروا بها فقال عز وجل " وآية لهم الليل " يعني علامة وحدانيته الليل " نسلخ منه النهار " يعني نخرج ونميز منه النهار " فإذا هم مظلمون " يعني داخلون في الظلمة ويقال يبقون في الظلمة ويقال إن الذي خلق الدنيا مظلمة هو الله تعالى
ثم قال " والشمس " سراجا فإذا طلعت الشمس صارت الدنيا مضيئة وإذا غربت الشمس بقيت الظلمة كما كانت وهو قوله تعالى " نسلخ منه النهار " يعني ننزع الضوء منه " فإذا هم مظلمون " يعني يبقون في الظلمة
ويقال " نسلخ الليل "
يعني نخرج منه النهار إخراجا لا يبقى منه شيء يعني من ضوء النهار كما نسلخ النهار من الليل فكذلك نسلخ الليل من النهار
فكأنه يقول الليل نسلخ منه النهار والنهار نسلخ منه الليل فاكتفى بذكر(3/116)
117
أحدهما لأن في الكلام دليلا وقد ذكر في آية أخرى قال " يكور اليل على النهار ويكور النهار على اليل " [ الزمر 5 ]
ثم قال عز وجل " والشمس تجري لمستقر لها " قال مقاتل يعني لوقت لها
وقال الكلبي تسير في منازلها
وقال القتبي " والشمس تجري لمستقر لها " ومستقرها أقصى منازلها في الغروب وذلك لأنها لا تزال تتقدم في كل ليلة حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ثم ترجع فذلك مستقرها لأنها لا تجاوزها
وطريق آخر ما روي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم عند غروب الشمس فقال ( يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس ) قلت الله ورسوله أعلم
قال ( فإنها تغرب وتذهب حتى تسجد تحت العرش وتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تستأذن فلا يؤذن لها حتى تستشفع وتطلب فإذا طال عليها قيل لها اطلعي مكانك فذلك قوله " والشمس تجري لمستقر لها " قال مستقرها تحت العرش )
ثم قال " ذلك تقدير العزيز العليم " " العزيز " بالنقمة " العليم " بما قدره من أمرها وخلقها
وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه كان يقرأ " والشمس تجري لا مستقر لها " يعني لا تقف ولا تستقر ولكنها جارية أبدا
ثم قال عز وجل " والقمر قدرناه منازل " قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " والقمر " بالضم وقرأ الباقون بنصب الراء
فمن قرأ بالضم فله وجهان
أحدهما أن يكون على الابتداء والثاني معناه " وآية لهم " القمر عطف على قوله " وآية لهم الليل "
ومن قرأ بالنصب فمعناه وقدرنا القمر
وقال مقاتل في قوله " والقمر قدرناه منازل " يعني قدرنا منازل في السماء يبدو رقيقا ثم يستوي ثم ينقص في آخر الشهر
وقال الكلبي " قدرناه منازل " أي قدرناه منازل بالليل ينزل كل ليلة في منزل ويصعد في منزل حتى ينتهي إلى مستقره الذي لا يجاوزه ثم يعود إلى أدنى منازله
ويقال إن القمر يدور في منازله في شهر واحد مثل ما تدور الشمس في منازلها في سنة واحدة
قال مقاتل وذلك أن القمر عرضه ثمانون فرسخا مستديرة والشمس هكذا وكان ضوؤهما واحدا فأخذ تسعة وتسعون جزءا من القمر فألحقت بالشمس
وروي عن ابن عباس أنه قال القمر أربعون فرسخا في أربعين فرسخا والشمس ستون فرسخا في ستين فرسخا
وقال بعضهم القمر والشمس عرض كل واحد منهما مثل الدنيا كلها
ثم قال تعالى " حتى عاد كالعرجون القديم " يعني صار كالعذق اليابس المتقوس(3/117)
118
الذي حال عليه الحول ويقال للقمر ثمانية وعشرون منزلا فإذا صار في آخر منازله دق حتى يعود كالعذق اليابس
والعرجون إذا يبس دق واستقوس فشبه القمر به
يعني صار في عين الناظر كالعرجون وإن كان هو في الحقيقة عظيم بنفسه إلا أنه في عين الناظر يراه دقيقا
ثم قال عز وجل " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر " يعني أن تطلع في سلطان القمر
وقال عكرمة كل واحد منهما سلطان للشمس سلطان بالنهار وللقمر سلطان بالليل فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل " ولا الليل سابق النهار " يعني لا يدرك سواد الليل ضوء النهار فيغلبه على ضوئه " وكل في فلك يسبحون " يعني في دوران يجرون ويدورون ويقال " يسبحون " يعني يسيرون فيه بالانبساط وكل من انبسط في شيء فقد سبح فيه
وقال بعضهم السماء كالموج المكفوف والشمس والقمر والكواكب الدوارة يسبحون فيها وقال بعضهم الأفلاك كثيرة مختلفة في السير يقطع القمر في ثمانية وعشرين يوما والشمس تقطع في سنة
وقال بعضهم الفلك واحد وجريهن مختلف والفلك في اللغة كل ما يدور
سورة يس 41 - 44
ثم قال عز وجل " وآية لهم " يعني علامة لكفار مكة على معرفة وحدانية الله تعالى " أنا حملنا ذريتهم " آباءهم واسم الذرية يقع على الآباء والنسوة والصبيان وأصله الخلق كقوله عز وجل " ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا " [ الأعراف 179 ] يعني خلقنا
" ذريتهم " خاصة
ثم قال عز وجل " في الفلك المشحون " يعني في سفينة نوح عليه السلام الموقرة المملوءة
يعني حملنا ذريتهم في أصلاب آبائهم
قرأ نافع وابن عامر " ذرياتهم " بلفظ الجماعة وقرأ الباقون " ذريتهم " وأراد به الجنس
ثم قال عز وجل " وخلقنا لهم من مثله ما يركبون " يعني من مثل سفينة نوح عليه السلام ما يركبون في البحر
وقال قتادة يعني الإبل يركب عليها في البر كما تركب السفن في البحر
وقال السدي " وخلقنا لهم من مثله ما يركبون "
فقال هذه السفن الصغار يعني الزوارق وقال عبد الله بن سلام هي الإبل
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله أخبرني الثقة بإسناده عن أبي صالح قال قال لي ابن عباس ما تقول في قوله " وخلقنا لهم من مثله ما يركبون " قلت هي السفن قال خذ مني إنما هي الإبل
فلقيني بعد ذلك فقال إني ما رأيتك إلا وقد غلبتني فيها هي كما قلت ألا ترى أنه يقول " وإن نشأ نغرقهم " يعني إن نشأ نغرقهم في الماء " فلا صريخ لهم " يعني لا مغيث لهم " ولا هم ينقذون " يعني لا يمنعون فلا ينجون من الغرق(3/118)
119
قوله عز وجل " إلا رحمة منا " يعني إلا نعمة منا حين لم نغرقهم
ويقال معناه لكن رحمة منا بحيث لم نغرقهم " ومتاعا إلى حين " يعني بلاغا إلى آجالهم
سورة يس 45 - 47
ثم قال عز وجل " وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم " يعني " ما بين أيديكم " من أمر الآخرة فاعملوا لها " وما خلفكم " من أمر الدنيا فلا تغتروا بها
وقال مقاتل " اتقوا ما بين أيديكم " لكيلا يصيبكم مثل عذاب الأمم الخالية " وما خلفكم " يعني واتقوا ما بعدكم أي من عذاب الآخرة والأول قول الكلبي
ثم قال " لعلكم ترحمون " يعني لكي ترحموا فلا تعذبوا
قوله عز وجل " وما تأتيهم من آية من آيات ربهم " مثل انشقاق القمر " إلا كانوا عنها معرضين " يعني مكذبين وهذا جواب لقوله عز وجل " وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم " الآية
ثم أخبر عن حال زنادقة الكفار فقال عز وجل " وإذا قيل لهم انفقوا مما رزقكم الله " يعني تصدقوا من المال الذي أعطاكم الله عز وجل " قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه " على وجه الاستهزاء منهم " إن أنتم إلا في ضلال مبين " يعني في خطأ بين
قال بعضهم هذا قول الكفار الذين أمرهم بالنفقة
وقال بعضهم هذا قول الله تعالى يعني قل لهم يا محمد " إن أنتم إلا في ضلال مبين " وروي عن ابن عباس مثل هذا
سورة يس 48 - 52
ثم قال عز وجل " ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين " يعني متى هذا الوعد الذي تعدنا به يوم القيامة " إن كنتم صادقين " بأنا نبعث بعد الموت فيقول الله تعالى " ما ينظرون " بالعذاب " إلا صيحة واحدة " يعني لا خطر لإهلاكهم فليس إلا صيحة واحدة " تأخذهم وهم يخصمون " قرأ عاصم في رواية أبي بكر " يخصمون " بكسر الياء والخاء وقرأ نافع " يخصمون " بنصب الياء وسكون الخاء
وقرأ الكسائي وعاصم في رواية حفص(3/119)
120
بنصب الياء وكسر الخاء
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بنصب الياء والخاء وقراءة حمزة " يخصمون " بنصب الياء وجزم الخاء بغير تشديد ومعناه تأخذهم وبعضهم يخصم بعضا
ومن قرأ بالتشديد فالأصل فيه يختصمون فأدغمت التاء في الصاد وشددت ومن قرأ بنصب الخاء طرح فتحة التاء على الخاء ومن قرأ بكسر الخاء فلسكونها وسكون الصاد
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال لينفخن في الصور والناس في طرقهم وأسواقهم حتى أن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومان فما يرسله واحد منهما حتى ينفخ في الصور فيصعق بها فيضعونه وهي التي قال الله تعالى " ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون "
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله وأخبرني الثقة بإسناده عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( تقوم الساعة والرجلان يتبايعان الثوب فلا يطويانه ولا يتبايعانه
وتقوم الساعة والرجل يحلب الناقة فلا يصل الإناء على فيه
وتقوم الساعة وهو يلوط الحوض فلا يسقى فيه )
ثم قال تعالى " فلا يستطيعون توصية " يعني يموتون من ساعتهم بغير وصية فلا يستطيعون أن يوصوا إلى أهلهم بشيء " ولا إلى أهلهم يرجعون " يعني ولا إلى منازلهم يرجعون من الأسواق
فأخبر الله تعالى بما يلقون في النفخة الأولى
ثم أخبر بما يلقون في النفخة الثانية يعني إذا بعثوا من قبورهم بعد الموت فذلك قوله " ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث " من القبور " إلى ربهم ينسلون " يعني يخرجون من قبورهم أحياء
وكان بين النفختين أربعين عاما في رواية ابن عباس وقيل أكثر من ذلك
ورفع العذاب عن الكفار بين النفختين فكأنهم رقدوا فلما بعثوا " قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا " يعني من أيقظنا من منامنا قال لهم الحفظة من الملائكة " هذا ما وعد الرحمن " على ألسنة الرسل " وصدق المرسلون " بأن البعث حق
ويقال إن المؤمنين هم الذين يقولون " هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون " بأن البعث كائن
سورة يس 53 - 58
ثم قال عز وجل " إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون " قال الكلبي يعني في الآخرة
وقال مقاتل في بيت المقدس يجاء بهم(3/120)
121
ثم قال " فاليوم لا تظلم نفس شيئا " يعني يوم القيامة لا تنقص نفس مؤمنة ولا كافرة من أعمالهم شيئا " ولا تجزون " يعني ولا تثابون " إلا ما كنتم تعملون " من خير أو شر
ثم قال " إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون " يعني في شغل مما هم فيه أي عن الذي هم فيه " فاكهون " يعني ناعمين
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " في شغل " بجزم الغين وقرأ الباقون بالضم وهما لغتان
يقال شغل وشغل مثل عذر وعذر وعمر وعمر
قرأ أبو جعفر المدني " فكهون " بغير ألف وقراءة العامة ( فاكهون ) بالألف
فمن قرأ بغير ألف يعني يتفكهون قال أبو عبيد يقال للرجل إذا كان يتفكه بالطعام أو بالفاكهة أو بأعراض الناس إن فلانا يتفكه ومنه يقال للمزاحة فكاهة
ومن قرأ بالألف يعني ذوي فاكهة وفكهة
وقال الفراء فاكهة وفكهة لغتان كما يقال حذر وحاذر
وروي في التفسير " فاكهون " ناعمون وفكهون معجبون
وقال الكلبي ومقاتل في قوله " إن أصحاب الجنة " يعني شغلوا بالنعم في افتضاض العذارى الأبكار عن أهل النار فلا يذكرونهم يعني معجبين بما هم فيه من النعم والكرامة
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثنا محمد بن الفضل بإسناده عن عكرمة " في شغل فاكهون " قال افتضاض الأبكار
وروى زيد بن أرقم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إن الرجل ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع ) فقال رجل من أهل الكتاب إن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة فقال صلى الله عليه وسلم ( يفيض من جسد أحدهم عرق مثل المسك أذفر فيضمر بذلك بطنه )
ثم قال تعالى " هم وأزواجهم في ظلال " قرأ حمزة والكسائي " في ظلل " وقرأ الباقون " في ظلال " فمن قرأ " في ظلل " فهو جمع الظلة يقال ظلة وظلل مثل حلة وحلل
ومن قرأ بكسر الظاء فهو جمع الظل يعني هم في ظلال العرش والشجر
ويقال معنى القراءتين يرجع إلى شيء واحد يعني إن أهل الجنة " هم وأزواجهم " الحور العين في القصور " على الأرائك متكئون " يعني على السرر عليها الحجال
وروى مجاهد عن ابن عباس قال الأرائك سرر في الحجال
وقال الكلبي لا تكون أريكة إلا إذا اجتمعتا فإذا تفرقا فليست بأريكة " متكئون " يعني ناعمون
وإنما سمي هذا لأن الناعم يكون متكئا
ثم قال " لهم فيها فاكهة " يعني لهم في الجنة من أنواع الفاكهة " ولهم ما يدعون " يعني ما يتمنون مما شاءوا من الخير " سلام قولا من رب رحيم " يعني يرسل إليهم ربهم بالتحية والسلام والعرب تقول ادعي ما شئت " يدعون " يتمنون
فقوله عز وجل " سلام قولا " يعني يقال لهم سلام كأنهم يتلقونه بالسلام " من رب رحيم " ويقال " ولهم ما يدعون سلام " يعني لهم ما يشاؤون خالصا
ثم قال " قولا من
رب رحيم "(3/121)
122
سورة يس 59 - 66
يقول الله تعالى " وامتازوا اليوم " وذلك أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " يعني اعتزلوا أيها الكفار من المؤمنين فإنهم قد تأذوا منكم في الدنيا فاعتزلوهم حتى ينجوا منكم
ويقال إن المنادي ينادي " أيها المجرمون " امتازوا فإن المؤمنين قد فازوا
وأيها المنافقون امتازوا فإن المخلصين قد فازوا
ويا أيها الفاسقون امتازوا فإن الصالحين قد فازوا ويا أيها العاصون امتازوا فإن المطيعين قد فازوا
ثم يقول للكفار والمنافقين بعدما امتازوا " ألم أعهد إليكم " يعني ألم أتقدم إليكم
ويقال ألم أبين لكم في القرآن ويقال ألم أوضح لكم " يا بني آدم " بالكتاب والرسل
وقال القتبي العهد يكون لمعان يكون للأمانة كقوله " فأتموا إليهم عهدهم " [ التوبة 4 ] ويكون لليمين ويكون للوثاق للميثاق ويكون للزمان كما يقال كان ذلك في عهد فلان أي في زمانه
ويكون العهد للوصية " ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان " يعني أن لا تطيعوا الشيطان
قال ابن عباس من أطاع شيئا فقد عبده " إنه لكم عدو مبين " يعني بين العداوة " وأن اعبدوني " يعني أطيعوني ووحدوني " هذا صراط مستقيم "
يعني هذا التوحيد طريق مستقيم ويقال دين الإسلام هو طريق مستقيم لا عوج فيه وهو طريق الجنة
قوله عز وجل " ولقد أضل منكم جبلا كثيرا " يعني خلقا كثيرا
وقرأ نافع وعاصم " جبلا " بكسر الجيم والباء والتشديد وقرأ أبو عمرو وابن عامر " جبلا " بضم الجيم وجزم الباء
والباقون بضم الجيم والباء ومعنى ذلك كله واحد
وقال أهل اللغة الجبل والجبلة واحد يعني الناس الكثير " أفلم تكونوا تعقلون " ما فعل من كان قبلكم فتعتبروا فلم تطيعوه فلما دنوا من الباب قال لهم الخزنة " هذه جهنم التي كنتم توعدون " في الدنيا فلم تصدقوا بها " اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون " في الدنيا يعني عقوبة لكم بما كفرتم
قوله عز وجل " اليوم نختم على أفواههم " وذلك حين قالوا " والله ربنا ما كنا مشركين " " وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " يعني تعملون من الشرك والمعاصي(3/122)
123
ثم قال " ولو نشاء لطمسنا على أعينهم " قال مقاتل يعني لو نشاء لحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى " فاستبقوا الصراط " أي لجازوا " الصراط " الطريق " فأنى يبصرون " يعني فمن أين يبصرون الهدى بعدما جعلت قلوبهم قاسية وجعلت أعمالهم غطاء وأكنة على قلوبهم
قال الكلبي " ولو نشاء " لفقأنا أعين الضلالة فأبصروا الطريق و " استبقوا " يعني الطريق " فأنى يبصرون " الطريق وقفأنا أعينهم
وقال بعضهم ولو نشاء لأعمينا أبصارهم في أسواقهم ومجالسهم كما فعلنا بقوم لوط عليه السلام حين كذبوه وراودوه عن ضيفه " فاستبقوا الصراط " يعني فابتدروا الطريق هربا إلى منازلهم لو فعلنا ذلك بهم
سورة يس 67 - 70
ثم قال عز وجل " ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم " يعني إن شئت لمسختهم حجارة في ضلالتهم أي منازلهم ليس فيها أرواح " فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون " ولا يتقدمون ولا يتأخرون
وهذا قول مقاتل
وقال الكلبي لو نشاء لجعلناهم قردة وخنازير " فما استطاعوا مضيا " يعني فما قدروا ذهابا " ولا يرجعون "
قوله عز وجل " ومن نعمره " يعني من أطلنا عمره في الدنيا " ننكسه في الخلق " يعني نرده إلى أرذل العمر فلا يعقل فيه كعقله الأول
قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر " ننكسه " بضم النون الأولى ونصب الثانية وكسر الكاف مع التشديد
وقرأ الباقون ( ننكسه ) بنصب النون الأولى وجزم الثانية وضم الكاف والتخفيف ومعناهما واحد
يقال نكسه ونكسه وأنكسه بمعنى واحد
ومعناه من أطلنا عمره نكسنا خلقه فصار بدل القوة ضعفا وبدل الشباب هرما
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر " مكاناتهم " وقرأ الباقون " مكانتهم " والمكانة والمكان واحد مثل المنزل والمنزلة والمكانات جمع المكانة
ثم قال " أفلا يعقلون " يعني أفلا تفهمون أن الله هو الذي يفعل ذلك فتوحدوه وليس لمعبودهم قدرة ذلك
قرأ نافع وأبو عمرو " أفلا تعقلون " بالتاء على معنى المخاطبة
وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر
وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة " وأن اعبدوني " بالياء وقرأ الباقون بغير ياء لأن الكسر يدل عليه
ثم قال عز وجل " وما علمناه الشعر " جوابا لقولهم إنه شاعر يعني أرسلنا إليه القرآن ولم نرسل إليه الشعر " وما ينبغي له " يعني لم يكن أهلا لذلك
وقال ما يسهل له وما يحضره الشعر " إن هو إلا ذكر " يعني القرآن عظة لكم " وقرآن مبين " يعني يبين الحق من الضلالة
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أنه قال سألت عائشة رضي الله عنها هل(3/123)
124
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر قالت كان أبغض الحديث إليه الشعر ولم يتمثل بشيء من الشعر إلا ببيت أخي بني قيس بن طرفة
( ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا % ويأتيك بالأخبار من لم تزود )
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( ويأتيك بالأخبار من لم تزود بالأخبار )
فقال أبو بكر رضي الله عنه ليس هكذا يا رسول الله
فقال ( لست بشاعر ولا ينبغي لي أن أتكلم بالشعر )
فإن قيل روي عنه أنه كان يتكلم بالشعر لأنه ذكر أنه قال
( أنا النبي لا كذب % أنا ابن عبد المطلب )
وذكر أنه عثر يوما فدميت أصبعه فقال
( هل أنت إلا إصبع دميت % وفي كتاب الله ما لقيت )
وذكر أنه قال يوم الخندق
( بسم الإله وبه هدينا % ولو عبدنا غيره شقينا )
قيل له هذه كلمات تكلم بها فصارت موافقة للشعر وليست بشعر
ثم قال عز وجل " لينذر من كان حيا " يعني من كان مؤمنا لأن المؤمن هو الذي يقبل الإنذار
ويقال " من كان حيا " يعني عاقلا راغبا في الطاعة
قرأ نافع وابن عامر " لتنذر " بالتاء على معنى المخاطبة يقول لتنذر يا محمد
وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر عنه يعني لينذر محمد صلى الله عليه وسلم
ويقال يعني لتنذر بالقرآن من كان مهتديا في علم الله تعالى " ويحق القول " يعني وجب العذاب " على الكافرين " يعني قوله " لأملأن جهنم " [ الأعراف 18 ] ثم وعظهم ليعتبروا
سورة يس 71 - 76
ثم وعظهم ليعتبروا فقال " أو لم يروا أنا خلقنا لهم " يعني أو لم ينظروا فيعتبروا فيما أنعم الله عز وجل عليهم
" إنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا " يعني أنا خلقنا بقوتنا وبقدرتنا وبأمرنا " أنعاما " يعني الإبل والبقر والغنم " فهم لها مالكون " يعني الأنعام
وقال قتادة يعني ما في بطونها " وذللناها لهم " يعني سخرناها لهم فيحملون عليها ويسوقونها حيث شاؤوا فلا تمتنع منهم " فمنها ركوبهم " في انتفاعهم وحوائجهم " ومنها يأكلون " من(3/124)
125
الإبل والبقر والغنم " ولهم فيها " يعني في الأنعام " منافع " في الركوب والحمل والصوف والوبر " ومشارب " يعني ألبانها " أفلا يشكرون " رب هذه النعمة فيوحدونه
يعني اشكروا ووحدوا
قوله عز وجل " واتخذوا من دون الله آلهة " يعني تركوا عبادة رب هذه النعم وعبدوا الآلهة " لعلهم ينصرون " يعني لعل هذه الآلهة تمنعهم من العذاب في ظنهم
يقول الله عز وجل " لا يستطيعون نصرهم " يعني منعهم من العذاب " وهم لهم جند محضرون " يعني الكفار للأصنام جند يغضبون لها ويحضرونها للآلهة
كالعبيد والخدم ويحضرونها في الدنيا ويقال " وهم لهم جند محضرون " في النار
ثم قال عز وجل " فلا يحزنك قولهم " يعني لا يحزنك يا محمد تكذيبهم إياك " إنا نعلم ما يسرون " من التكذيب " وما يعلنون " يعني ما يظهرون لك من العداوة
سورة يس 77 - 83
قوله عز وجل " أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة " روي سفيان عن الكلبي عن مجاهد قال أتى أبي بن خلف الجمحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم بالي قد أتى عليه حين ففته بيده ثم قال يا محمد أتعدنا أنا إذا متنا وكنا مثل هذا بعثنا فأنزل الله تعالى " أو لم ير الإنسان " الآية
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم القرون الماضية أنهم يبعثون بعد الموت وأنكم يا أهل مكة معهم فأخذ أبي بن خلف الجمحي عظما باليا فجعل يفته بيده ويذروه في الرياح ويقول عجبا يا أهل مكة إن محمدا يزعم أنا إذا متنا وكنا عظاما بالية مثل هذا العظم وكنا ترابا أنا نعاد خلقا جديدا وفينا الروح وذلك ما لا يكون أبدا فنزل " أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة " يعني أو لم يعلم هذا الكافر أنا خلقناه(3/125)
126
أول مرة من نطفة " فإذا هو خصيم مبين " يجادل بالباطل
ويقال " خصيم " بين الخصومة فيما يخاصم " مبين " أي بين
ثم قال عز وجل " وضرب لنا مثلا " يعني وصف لنا شبها في أمر العظام
ويقال وصف لنا بالعجز " ونسي خلقه " يعني وترك ابتداءه حين خلقه من نطفة
ويقال ترك النظر في خلق نفسه فلم يعتبر و " قال من يحيي العظام وهي رميم " يعني بالية والرميم العظم البالي يقال رم العظم إذا بلي
قال الله تعالى لنبيه " قل يحييها الذي أنشأها أول مرة " يعني قل يا محمد العظام يحييها الذي " أنشأها " يعني خلقها أول مرة يعني في أول مرة ولم تكن شيئا
ثم قال عز وجل " وهو بكل خلق عليم " يعني عليما ببعثهم وبخلقهم في الدنيا
ثم أخبر عن صنعه ليعتبروا في البعث فقال " الذي جعل لكم " يعني قل يا محمد العظام يحييها " الذي جعل لكم " " من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون " قال الكلبي كل شجرة يقدح منها النار إلا شجرة العناب فمن ذلك القصارون يدقون عليه " فإذا أنتم منه توقدون " يعني تقدحون يعني فهو الذي يقدر على أن يبعثكم
ثم قال عز وجل " أو ليس الذي خلق السموات والأرض " وهي أعظم خلقا " بقادر على أن يخلق مثلهم " في الآخرة
والكلام يخرج على لفظ الاستفهام ويراد به التقرير
ثم قال " بلى " هو قادر على ذلك " وهو الخلاق العليم " يعني الباعث " العليم " ببعثهم
قوله عز وجل " إنما أمره إذا أراد شيئا " من أمر البعث وغيره " إن يقول له كن فيكون " خلقا
قرأ ابن عامر والكسائي " فيكون " بالنصب
وقد ذكرناه في سورة البقرة
ثم قال عز وجل " فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء " يعني خلق كل شيء من البعث وغيره ويقال خزائن كل شيء ويقال له القدرة على كل شيء " وإليه ترجعون " بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثنا أبو الحسن أحمد بن حمدان بإسناده عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس فمن قرأ يس يريد بها وجه الله تعالى غفر له وأعطي من الأجر كمن قرأ القرآن اثنتي عشرة مرة وإيما مسلم قرئت عنده سورة يس حين ينزل به ملك الموت ينزل إليه بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفا يصلون عليه ويستغفرون له ويشهدون قبضه ويشهدون غسله ويشيعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه
وأيما مسلم مريض قرئ عنده سورة يس وهو في سكرات الموت لا يقبض ملك الموت روحه حتى يجيء رضوان خازن الجنة بشربة من(3/126)
127
شراب الجنة فيشربها وهو على فراشه فيقبض ملك الموت روحه وهو ريان ويدخل قبره وهو ريان ويمكث في قبره وهو ريان ويخرج من القبر وهو ريان ويحاسب وهو ريان ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء عليهم السلام حتى يدخل الجنة وهو ريان ) والله تعالى أعلم بالصواب و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد النبي الأداب وعلى آله وسلم(3/127)
128
سورة الصافات
كلها مكية وهي مائة واثنتان وثمانون آية )
سورة الصافات 1 - 5
قول الله سبحانه وتعالى " والصافات صفا " قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى " والصافات صفا " أقسم الله تعالى بصفوف الملائكة الذين في السموات كصفوف المؤمنين في الصلاة
ويقال يعني صفوف الغزاة في الحرب كقوله عز وجل " صفا كأنهم بنيان مرصوص " [ الصف 4 ] ويقال صفوف الأمم يوم القيامة كقوله عز وجل " وعرضوا على ربك صفا " [ الكهف 48 ] ويقال الطيور بين السماء والأرض صافات بأجنحتها كقوله " والطير صافات " [ النور 41 ] ويقال صفوف الجماعات في المساجد وفي الآية بيان فضل الصفوف حيث أقسم الله بهن
ثم قال عز وجل " فالزجرات زجرا " يعني الملائكة الذين يزجرون السحاب ويؤلفونه ويسوقونه إلى البلد الذي لا مطر بها
ويقال " فالزاجرات " يعني فالدافعات وهم الملائكة الذين يدفعون الشر عن بني آدم موكلون بذلك
ويقال " الزاجرات " يعني ما زجر الله تعالى في القرآن كقوله تعالى " لا تأكلوا الربوا " [ آل عمران 130 ] " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " [ النساء 2 ] ويقال هي التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وما كان من عند الله من كتب
ويقال " فالزاجرات زجرا " يعني هم الأنبياء والرسل والعلماء يزجرون الناس عن المعاصي والمناهي والمناكر
" فالتاليات ذكرا " يعني الملائكة وهو جبريل يتلو القرآن على الأنبياء ويقال هم المؤمنون الذين يقرؤون القرآن
ويقال " فالتاليات ذكرا " قال هم الصبيان يتلون في الكتاب من الغدو العشي وأن الله تعالى يحول العذاب عن الخلق ما دامت تصعد هذه الأربعة إلى السماء أولها أذان المؤذنين والثاني تكبير المجاهدين والثالث تلبية الملبين والرابع صوت الصبيان في الكتاب
وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال " والصافات صفا " قال الملائكة " فالزاجرات زجرا " قال الملائكة " فالتاليات ذكرا " قال الملائكة وهكذا قال مجاهد قد أقسم الله بهذه الأشياء " إن إلهكم لواحد " ويقال(3/128)
129
أقسم بنفسه فكأنه يقول وخالق هذه الأشياء " إن إلهكم لواحد " يعني ربكم وخالقكم ورازقكم لواحد لا شريك له
" رب السموات " يعني الذي خلق السموات " والأرض وما بينهما " من خلق " ورب المشارق " يعني مشرق كل يوم وقال في آية أخرى " ورب المشرق والمغرب " أي ناحية المشرق وناحية المغرب
وقال في آية أخرى " رب المشرقين ورب المغربين " أي مشرق الشتاء ومشرق الصيف
وقال في هذه السورة " رب المشارق " أي مشرق كل يوم
سورة الصافات 6 - 11
ثم قال " إنا زينا السماء الدنيا " يعني الأدنى
وإنما سميت سماء الدنيا لأنها أقرب إلى الأرض " بزينة الكواكب " بضوء الكواكب
قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص " بزينة " بالتنوين " الكواكب " بكسر الباء
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر " بزينة " بالتنوين " الكواكب " بالنصب جعل الكواكب بدلا من الزينة والمعنى إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب
ومن قرأ بالنصب أقام الزينة مقام التزيين فكأنه قال إنا زينا السماء الدنيا بتزيننا الكواكب فيكون الكواكب على معنى التفسير
ومن قرأ بغير تنوين فهو على إضافة الزينة إلى الكواكب
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال الكواكب معلقة بالسماء كالقناديل
ويقال إنها مركبة عليها كما تكون في الصناديق والأبواب
ثم قال " وحفظا من كل شيطان مارد " يعني حفظ الله تعالى السماء بالكواكب من كل شيطان متمرد
يعني شديدا يقال مرد يمرد إذا اشتد
ثم قال " لا يسمعون " قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " لا يسمعون " بنصب السين والتشديد والباقون " يسمعون " بنصب الياء وجزم السين مع التخفيف
قمن قرأ بجزم السين فهو بمعنى يسمعون ومن قرأ بالتشديد فأصله يتسمعون فأدغمت التاء في السين وشددت
يعني لكيلا يستمعون " إلى الملأ الأعلى " يعني إلى الكتبة " ويقذفون " يعني ويرمون " من كل جانب دحورا " يعني طردا من كل ناحية من السماء وكانوا من قبل يستمعون إلى كلام الملائكة عليهم السلام
قال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم
قال حدثنا عبد الرزاق
قال أخبرنا معمر عن الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس
قال بينما(3/129)
130
رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم فاستنار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية ) قالوا يموت عظيم أو يولد عظيم فقال صلى الله عليه وسلم ( إنه لا يرمى لموت أحد ولا لحياته ولكن الله عز وجل إذا قضى أمرا يسبحه حملة العرش وأهل السماء السابعة
يقول ماذا قال ربكم فيخبرونهم فيستخبر أهل كل سماء أهل السماء الأخرى حتى ينتهي الخبر إلى السماء الدنيا فتخطف الجن ويرمون فيما جاؤوا به على وجهه فهو حق
ولكنهم يزيدون فيه ويكذبون ) قال معمر قلت للزهري أو كان يرمى به في الجاهلية
قال نعم
قال قالت الجن لرسول الله صلى الله عليه وسلم " وأنا كنا نقعد منها مقعد للسمع " [ الجن 9 ] فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا قال غلظ وشدد أمرها حيث بعث النبي صلى الله عليه وسلم وقوله " دحورا " يعني طردا بالشهب فيعيدونهم " ولهم عذاب واصب " يعني دائم
يعني الشيطان لمن استمع ولمن لم يستمع في الآخرة
وقال مقاتل في الآية تقديم " إلا من خطف الخطفة " من الشياطين
ويختطف يعني يستمع إلى الملأ الأعلى من كلام الملائكة عليهم السلام " فأتبعه شهاب ثاقب " والشهاب في اللغة كل أبيض ذي نور والثاقب المضيء
قوله عز وجل " فاستفتهم " يعني سل أهل مكة
وهذا سؤال تقدير لا سؤال استفهام
وقال تعالى " أهم أشد خلقا " بالبعث يعني بعثهم أشد " أم من خلقنا " يعني أم خلقهم في الابتداء
فقال " إنا خلقناهم من طين لازب " يعني خلقنا آدم وهم من نسله من طين حمئة
ويقال " لازب " أي لاصق
ويقال " لازب " يعني لازم إلا أن الباء تبدل من الميم لقرب مخرجيهما كما يقال سمد رأسه وسبد إذا استأصله واللازب واللاصق واحد
سورة الصافات 12 - 18
ثم قال " بل عجبت ويسخرون " قرأ حمزة والكسائي " عجبت " بضم التاء وقرأ الباقون " عجبت " بالنصب
فمن قرأ بالنصب فالمعنى بل عجبت يا محمد من نزول الوحي عليك والكافرون يسخرون مكذبين لك
ومن قرأ " بل عجبت " بالضم فهو إخبار عن الله تعالى
وقد أنكر قوم هذه القراءة وقالوا إن الله تعالى لا يعجب من شيء لأنه علم الأشياء قبل كونها وإنما يتعجب من سمع أو رأى شيئا لم يسمعه ولم يره
ولكن الجواب أن يقال العجب من الله عز وجل بخلاف العجب من الآدميين ولا يكون على وجه التعجب ويكون(3/130)
131
على وجه الإنكار والاستعظام لذلك القول
كما قال في آية أخرى " وإن تعجب فعجب قولهم " [ الرعد 5 ] وروى الأعمش عن سفيان بن سلمة فذكر ذلك لإبراهيم النخعي فقال إبراهيم أن شريحا كان يقرأ " بل عجبت " بالنصب ويقول إنما يعجب من لا يعلم وقال الأعمش فقلت ذلك لإبراهيم النخعي فقال إبراهيم إن شريحا كان معجبا برأيه وعبد الله بن مسعود كان أعلم منه وهو كان يقرؤها " بل عجبت " بالضم
وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ هكذا بالضم وهو اختيار أبي عبيدة
ثم قال " ويسخرون " يعني يسخرون حين سمعوا " وإذا ذكروا لا يذكرون " يعني إذا وعظوا بالقرآن لا يتعظون " وإذا رأوا آية " يعني علامة مثل انشقاق القمر " يستسخرون " يعني يستهزئون ويسخرون وقال أهل اللغة سخر واستسخر بمعنى واحد مثل قر واستقر " وقالوا إن هذا إلا سحر مبين " يعني بين
قوله عز وجل " أئذا متنا " يعني يقولون إذا متنا " وكنا ترابا وعظاما إئنا لمبعوثون " يعني لمحيون بعد الموت " أو آباؤنا الأولون قل " يا محمد " نعم وأنتم داخرون " يعني صاغرون
سورة الصافات 19 - 25
ثم قال عز وجل " فإنما هي زجرة واحدة " يعني صيحة ونفخة واحدة ولا يحتاج إلى الأخرى " فإذا هم " يعني الخلائق " ينظرون " يعني يخرجون من قبورهم وينظرون إلى السماء كيف غيرت والأرض كيف بدلت فلما عاينوا البعث ذكروا قول الرسل إن البعث حق
( وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين ) يعني يوم الحساب
ويقال يوم الجزاء
فردت عليهم الحفظة ويقولون " هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون " أنه لا يكون
ثم ينادي المنادي " احشروا الذين ظلموا " يعني سوقوا الذين كفروا " وأزواجهم " يعني وأشباههم ويقال وقرناءهم وضرباءهم
ويقال وأشياعهم وأعوانهم
ويقال وأمثالهم " وما كانوا يعبدون من دون الله " يعني من الشياطين الذين أضلوهم
ويقال كل معبود وكل من يطاع في المعصية " فاهدوهم " يعني ادعوهم جميعا
ويقال اذهبوا بهم وسوقوهم جميعا " إلى صراط الجحيم " يعني إلى طريق الجحيم والجحيم ما عظم من النار
ويقال إلى وسط الجحيم
فلما انطلق بهم إلى جهنم أرسل الله عز وجل ملكا يقول " وقفوهم " أي احبسوهم(3/131)
132
" إنهم مسؤولون " عن ترك قول لا إله إلا الله
ويقال في الآية تقديم يعني يقال لهم قفوا قبل ذلك فحبسوا وسئلوا
ثم يساق بهم إلى الجحيم فيقال لهم " ما لكم لا تناصرون " يعني لم ينصر بعضكم بعضا ولا يدفع بعضكم عن بعض كما كنتم تفعلون في الدنيا
سورة الصافات 26 - 31
قوله عز وجل " بل هم اليوم مستسلمون " أي خاضعون ذليلون " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " يعني يسأل ويخاصم بعضهم بعضا القادة والسفلة والعابد والمعبود ومتابعي الشيطان للشيطان
ويقال " يتساءلون " يعني يتلاومون " قالوا " يعني السفلة للرؤساء " إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين " يعني من قبل الحق يعني الدين فزينتم لنا ضلالتنا
وروي عن الفراء أنه قال " اليمين " في اللغة القوة والقدرة ومعناه " إنكم كنتم تأتوننا " بأقوى الحيل وتزينون علينا أعمالنا
وقال الضحاك تقول السفلة للقادة إنكم قادرون وظاهرون علينا ونحن ضعفاء أذلاء في أيديكم
روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال " تأتوننا عن اليمين " عن الحق يعني الكفار يقولون ذلك للشيطان
وقال القتبي إنما يقول هذا المشركون لقرنائهم من الشياطين " إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين " يعني عن أيماننا لأن إبليس قال " لأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم " [ الأعراف 17 ] وقال المفسرون من أتاه الشيطان من قبل اليمين أتاه من قبل الدين ولبس عليه الحق
ومن أتاه من قبل الشمال أتاه من قبل الشهوات
ومن أتاه من بين يديه أتاه من قبل التكذيب بالقيامة
ومن أتاه من خلفه خوفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده فلم يصل رحما ولم يؤد زكاة
وقال المشركون لقرنائهم " إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين " في الدنيا من جهة الدين يعني أضللتمونا " قالوا " قرناؤهم " بل لم تكونوا مؤمنين " أي لم تكونوا على حق فنشهد عليكم ونزيلكم عنه إلى الباطل " وما كان لنا عليكم من سلطان " يعني من قدرة فنقهركم ويقال من ملك فنجبركم عليه " بل كنتم قوما طاغين " يعني كافرين عاصين " فحق علينا " يعني وجب علينا جميعا " قول ربنا " وهو السخط
ويقال " قول ربنا " يوم قال لإبليس " لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " [ ص 85 ] " إنا لذائقون " يعني العذاب جميعا في النار
سورة الصافات 32 - 35(3/132)
133
سورة الصافات 36 - 40
قوله عز وجل " فأغويناكم " يعني أضللناكم عن الهدى " إنا كنا غاوين " يعني ضالين
يقول الله تعالى " فإنهم " يعني الكفار والشياطين " يومئذ " يعني يوم القيامة " في العذاب مشتركون " يعني شركاء في النار وفي العذاب " إنا كذلك نفعل بالمجرمين " يعني هكذا نفعل بمن أشرك فنجمع بينهم وبين الذين أضلوهم في النار
ثم أخبر عنهم فقال " إنهم كانوا " يعني في الدنيا " إذا قيل لهم لا إله إلا الله " يعني قولوا لا إله إلا الله " يستكبرون " عنها فلا يقولونها " ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا " يعني أنترك عبادة آلهتنا " لشاعر " يعني لقول شاعر " مجنون " أي مغلوب على عقله
يقول الله تعالى " بل جاء بالحق " يعني بالقرآن ويقال بأمر التوحيد ويقال جاء ببيان الحق " وصدق المرسلين " الذين قبله
قال مقاتل يعني صدق محمد صلى الله عليه وسلم بالمرسلين الذين قبله
وقال الكلبي وبتصديق المرسلين الذين قبله ومعناهما واحد
ويقال معناه جاء محمد صلى الله عليه وسلم بموافقة المرسلين عليهم السلام
ثم قال " إنكم " يعني العابد والمعبود " لذائقوا العذاب الأليم " يعني لتصيبوا العذاب الوجيع الدائم " وما تجزون " في الآخرة " إلا ما كنتم تعملون " يعني إلا بما كنتم تعملون في الدنيا من المعاصي والشرك
ثم استثنى المؤمنين فقال عز وجل " إلا عباد الله المخلصين " يعني الموحدين ويقال " إلا " بمعنى لكن يعني لكن " عباد الله المخلصين "
سورة الصافات 41 - 50
ثم قال " أولئك لهم رزق معلوم " يعني طعاما معلوما معروفا حين يشتهونه على قدر غدوة وعشية
ثم بين الرزق فقال " فواكه " يعني ألوان الفاكهة " وهم مكرمون " بالثواب ويقال منعمون " في جنات النعيم على سرر متقابلين " في الزيارة " يطاف عليهم " يعني يطوف خدمهم عليهم " بكأس من معين " خمرا جاريا من معين يعني الطاهر الجاري " بيضاء "
يعني بخمرة توجب اللذة " بيضاء لذة " يعني شهوة " للشاربين لا فيها غول " يعني ليس(3/133)
134
فيها أثم ويقال لا غائلة لها ولا يوجع منها الرأس
وروى شريك عن سالم قال " لا فيها غول " أي لا مكروه فيها ولا أذى
وقال القتبي " لا فيها غول " أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها
يقال الخمر غول للحلم والحرب غول للنفوس والغول البعد " ولاهم عنها ينزفون " قرأ حمزة والكسائي " ينزفون " بكسر الزاي وقرأ الباقون بالنصب
فمن قرأ بالنصب فمعناه لا يذهب عقولهم شربها
ويقال للسكران نزيف ومنزوف إذا زال عقله
ومن قرأ بالكسر فله معنيان أحدهما لا ينفد شرابهم أبدا والثاني أنهم لا يسكرون
ثم قال عز وجل " وعندهم قاصرات الطرف عين " يعني غاضات الأعين عن غير أزواجهن
يعني قصرن طرفهن على أزواجهن وقنعن بهم ولا يبغين بهم بدلا
ثم قال " عين " أي حسان الأعين شدة البياض في شدة السواد
ويقال لواحدة العين عيناء يعني كبيرة العين
ويقال الحسن العيناء التي سواد عينها أكثر من بياضها
ثم قال " كأنهن بيض مكنون " يعني إنهن أحسن بياضا من بيض النعام والعرب تشبه النساء ببيض النعام يقال لا يكون لون البياض في شيء أحسن من بيض النعام
وقال قتادة البيض التي لم تلوثه الأيدي ويقال البيض أراد به القشر الداخل من البيض المكنون قد خبئ وكنن من القر والحر " فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " يعني يسأل بعضهم بعضا عن حاله في الدنيا
سورة الصافات 51 - 56
قوله عز وجل " قال قائل منهم " يعني من أهل الجنة " إني كان لي قرين " وهو الذي بين الله تعالى أمرهما في سورة الكهف " جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب " [ الكهف 32 ] فكانا أخوين أو شريكين وأنفق أحدهما ماله في أمر الآخرة واتخذ الآخر لنفسه ضياعا وخدما واحتاج المؤمن إلى شيء فجاء إلى أخيه الكافر يسأله فقال له الكافر ما صنعت بمالك فأخبره أنه قدمه إلى الآخرة فقال له الكافر " أئنك لمن المصدقين " يعني إنك ممن يصدق بالبعث وطلب منه أن يدخل في دينه ولم يقض حاجته فذلك قوله " إئنك لمن المصدقين " يعني بالبعث بعد الموت
قوله عز وجل " أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون " يعني لمحاسبون
فيقول المؤمن لأصحابه في الجنة " قال هل أنتم مطلعون " حتى ننظر إلى حاله وإلى منزله فيقول أصحابه اطلع أنت فإنك أعرف به منا " فاطلع " يعني فنظر في النار " فرآه في سواء الجحيم " يعني رأى أخاه في وسط الجحيم أسود الوجه مزرق العين فيقول المؤمن عند(3/134)
135
ذلك " قال تالله إن كدت لتردين " يعني والله لقد هممت لتغويني ولتضلني
ويقال " لتردين " أي لتهلكني يقال أرديت فلانا أي أهلكته
والردى الموت والهلاك
وقال القتبي في قوله " إنا لمدينون " أي مجازون بأعمالنا يقال دنته بما صنع أي جازيته
سورة الصافات 57 - 65
ثم قال عز وجل " ولولا نعمة ربي " يعني لولا ما أنعم الله علي بالإسلام " لكنت من المحضرين " معك في النار
ثم أقبل المؤمن على أصحابه في الجنة فقال يا أهل الجنة " أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى " اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به النفي
يعني لا نموت أبدا سوى موتتنا الأولى
وذلك حين يذبح الموت فيأمنوا من الموت " وما نحن بمعذبين " يعني لم نكن من المعذبين مثل أهل النار
قال الله عز وجل " إن هذا لهو الفوز العظيم " يعني النجاة الوافرة فازوا بالجنة ونجوا من النار " لمثل هذا " يعني لمثل هذا الثواب والنعم والخلود " فليعمل العاملون " يعني فليبادر المبادرون
ويقال فليجتهد المجتهدون
ويقال فليحتمل المحتملون الأذى لأنه فد حفت الجنة بالمكاره
ثم قال " أذلك خير نزلا " يعني الذي وصفت في الجنة خير ثوابا
ويقال رزقا
ويقال منزلا " أم شجرة الزقوم " للكافرين " إنا جعلناها فتنة للظالمين " يعني بلاء للمشركين
قال قتادة زادتهم تكذيبا فقالوا يخبركم محمد أن في النار شجرة والنار تحرق الشجرة وقال مجاهد " إنا جعلناها فتنة " قول أبي جهل إنما الزقوم التمر والزبد فقال لجاريته زقمينا فزقمته
فأخبر الله تعالى عن الزقوم أنه لا يشبه النخل ولا طلعها كطلع النخل فقال " أذلك خير نزلا " يعني نعيم الجنة وما فيها من اللذات " خير نزلا " أي طعاما " أم شجرة الزقوم " لأهل النار قوله عز وجل " إنا جعلناها فتنة للظالمين "
ثم وصف الشجرة فقال " إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم " يعني في وسط الجحيم " طلعها " يعني ثمرتها " كأنه رؤوس الشياطين " يعني رؤوس الحيات قبيح في النظر
ويقال هو نبت لا يكون شيء من النبات أقبح منه وهو يشبه الحسك فيبقى في الجلود
ويقال هي رؤوس الشياطين بعينها وذلك أن العرب إذا وصفت الشيء بالقبح تقول كأنه شيطان(3/135)
136
سورة الصافات 66 - 70
ثم وصف أكلهم فقال " فإنهم لآكلون منها " يعني من ثمرها " فمالئون منها البطون " وهو جماعة المالئ
يعني يملؤون منها البطون
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا محمد بن عقيل قال حدثنا عباس الدوري قال حدثنا وهب بن جرير عن شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أيها الناس اتقوا الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون
فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأرض لأمرت على أهل الدنيا معيشتهم فكيف بمن هو طعامه وشرابه منه وليس له طعام غيره
قوله عز وجل " ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم " يعني خلطا من حميم من ماء حار في جهنم " ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم " يعني مصيرهم إلى النار
ثم بين المعنى الذي به يستوجبون العقوبة فقال " إنهم ألفوا " يعني وجدوا " آباءهم ضالين " عن الهدى " فهم على آثارهم يهرعون " يعني يسعون في مثل أعمال آبائهم والإهراع في اللغة المشي بين مشيتين وقال مجاهد كهيئة الهرولة
سورة الصافات 71 - 74
ثم قال عز وجل " ولقد ضل قبلهم " يعني أضل إبليس قبلهم " أكثر الأولين " يعني من الأمم الخالية
ولم يذكر إبليس لأن في الكلام دليلا عليه فاكتفى بالإشارة ومثل هذا كثير في القرآن
ثم قال عز وجل " ولقد أرسلنا فيهم منذرين " يعني رسلا ينذرونهم كما أرسلناك إلى قومك فكذبوهم بالعذاب كما كذبك قومك فعذبهم الله تعالى في الدنيا " فانظر كيف كان عاقبة المنذرين " يعني آخر أمر من أنذر فلم يؤمن " إلا عباد الله المخلصين " يعني الموحدين المطيعين فإنهم لم يعذبوا
سورة الصافات 75 - 82(3/136)
137
قوله عز وجل " ولقد نادانا نوح " يعني دعا نوح ربه على قومه وهو قوله " إني مغلوب فانتصر " [ القمر 10 ] " فلنعم المجيبون " يعني نعم المجيب أنا " ونجيناه وأهله من الكرب العظيم " يعني من الهول الشديد وهو الغرق
قوله " وجعلنا ذريته هم الباقين " لأن الذي حمل معه من الناس ثمانون رجلا وامرأة غرقوا كلهم ولم يبق إلا ولده سام وحام ويافث
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثنا أبو جعفر
قال حدثنا أبو القاسم الصفار ذكر بإسناده عن سمرة بن جندب
إن النبي صلى الله عليه وسلم ( قال سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم )
ثم قال تعالى " وتركنا عليه في الآخرين " يعني أبقينا عليه ذكرا حسنا في الباقين من الأمم وهذا قول القتبي
وقال مقاتل يعني أثنينا على نوح بعد موته ثناء حسنا
ثم قال عز وجل " سلام على نوح في العالمين " يعني السعادة والبركة على نوح من بين العالمين " إنا كذلك نجزي المحسنين " يعني هكذا نجزي كل محسن " إنه من عبادنا المؤمنين " يعني المصدقين بالتوحيد " ثم أغرقنا الآخرين " يعني قومه الكافرين
سورة الصافات 83 - 98
قوله عز وجل " وإن من شيعته لإبراهيم " قال مقاتل يعني إبراهيم من شيعة نوح عليه السلام وعلى ملته
وقال الكلبي يعني من شيعة محمد صلى الله عليه وسلم لأن إبراهيم على دينه ومنهاجه
وذكر عن الفراء أنه قال هذا جائز وإن كان إبراهيم قبله كما قال " حملنا ذريتهم " [ يس 41 ] يعني آباءهم ذريته الذين هو منهم
قوله عز وجل " إذ جاء ربه بقلب سليم " يعني إبراهيم دعا ربه " بقلب سليم " أي خالص
ويقال " إذ جاء ربه " يعني أقبل على طاعة الله تعالى " بقلب سليم " يعني بقلب(3/137)
138
خالص ويقال " إذ جاء ربه بقلب سليم " أي مخلص ويقال " سليم " من الشرك " إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون " يعني إيش الذي تعبدون
ويقال معناه لماذا تعبدون هذه الأوثان
قوله عز وجل " أئفكا آلهة " يعني أكذبا آلهة " دون الله تريدون " عبادتها " فما ظنكم برب العالمين " إذا عبدتم غيره فما ظنكم به إذ لقيتموه
" فنظر نظرة في النجوم " قال مقاتل يعني في الكواكب ويقال " فنظر نظرة في النجوم " أي في أمر النجوم
وذلك أنه رأى كوكبا قد طلع " فقال إني سقيم " أي سأسقم يقال فكر فكرة في النجوم " فقال إني سقيم " يعني مطعونا
وهو قول سعيد بن جبير والضحاك
وقال القتبي نظر في الحساب لأنه لو نظر إلى الكواكب لقال نظر نظرة إلى النجوم
وإنما يقال نظر فيه إذا نظر في الحساب " فقال إني سقيم " أي سأمرض غدا وكانوا يتطيرون من المريض فلما سمعوا ذلك منه هربوا فذلك قوله " فتولوا عنه مدبرين "
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا خزيمة قال حدثنا عيسى بن إبراهيم قال حدثنا ابن وهب عن جرير بن حازم عن أيوب السجستاني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله " إني سقيم " وقوله " بل فعله كبيرهم هذا " [ الأنبياء 63 ] وواحدة في شأن سارة ذلك أنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن النساء فقال لها إن هذا الجبار إن علم أنك إمرأتي يغلبني عليك
فإن سألك فأخبريه أنك أختي في الإسلام فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك فلما دخل الأرض رآها بعض أهل الجبار فأتاه فقال له لقد دخل اليوم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلا لك
فأرسل إليها فأتي بها فقام إبراهيم إلى الصلاة فلما أدخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة
فقال لها ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت
فعاد فقبضت يده أشد من القبضة الأولى فقال لها مثل ذلك ففعلت
فعاد فقبضت أشد من القبضتين الأوليين فقال لها ادعي الله أن يطلق يدي ولك علي ألا أضرك ففعلت فأطلقت يده
فدعا الذي جاء بها فقال له إنك أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان فأخرجها من أرضي وأعطاها هاجر فأقبلت تمشي حتى جاءت إلى إبراهيم فلما رآها إبراهيم انصرف من الصلاة فقال لها مهيم يعني ما الخبر فقالت خيرا كفيت الفاجر وأخدمني خادما )
فقال أبو هريرة فتلك أمكم يا بني ماء السماء
يعني نسل العرب منها
لأنه روي في الخبر أنها وهبت هاجر من إبراهيم فولد منها إسماعيل ويقال " فتولوا عنه مدبرين " يعني أعرضوا عنه ذاهبين إلى عيدهم(3/138)
139
قوله عز وجل " فراغ إلى آلهتهم " يعني مال إلى أصنامهم
ويقال دخل بيوت الأصنام فرأى بين أيديهم طعاما " فقال ألا تأكلون " فلم يجيبوه فقال " ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين " يعني أقبل يضربهم بيمينه
ويقال يضربهم باليمين التي حلف وهو قوله " وتالله لأكيدن أصنامكم " [ الأنبياء 57 ] ويقال ضربهم " باليمين "
يعني يضربهم بالقوة واليمين كناية عنها لأن القوة في اليمين " فأقبلوا إليه يزفون " يعني يسرعون " قال " إبراهيم عليه السلام " أتعبدون ما تنحتون " بأيديكم من الأصنام
قرأ حمزة " يزفون " بضم الياء وقرأ الباقون بالنصب
فمن قرأ بالنصب فأصله من زفيف النعام وهو ابتداء عدوه
ومن قرأ بضم يصيروا إلى الزفيف ويدخلون في الزفيف وكلا القراءتين يرجع إلى معنى واحد وهو الإسراع في المشي
ثم قال عز وجل " والله خلقكم وما تعملون " يعني وما تنحتون به بأيديكم من الأصنام
ومعناه تتركون عبادة من خلقكم وخلق ما تعملون وتعبدون غيره " قالوا ابنوا له بنيانا " يعني أتونا " فألقوه في الجحيم " يعني في النار العظيمة " فأرادوا به كيدا " يعني أرادوا حرقه وقتله " فجعلناهم الأسفلين " يعني الآخرين ويقال الأذلين
وعلاهم إبراهيم فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى أهلكهم الله عز وجل
سورة الصافات 99 - 102
ثم قال " وقال إني ذاهب إلى ربي " يعني إني مهاجر إلى طاعة ربي
وقال مقاتل يعني من بابل إلى بيت المقدس
ويقال من أرض حران إلى بيت المقدس
" سيهدين " يعني يحفظني ويقال إني مهاجر إلى ربي يعني مقبل إلى طاعة ربي " سيهدين " أي سيرشدني ربي
ويقال سيعينني
قوله عز وجل " رب هب لي من الصالحين " يعني يا رب أعطني ولدا صالحا من المسلمين " فبشرناه بغلام حليم " يعني حليم في صغره عليم في كبره
قوله عز وجل " فلما بلغ معه السعي " أي الحج ويقال إلى الجبل " قال " إبراهيم عليه السلام لابنه " يا بني إني أرى في المنام " قال مقاتل هو إسحاق
وقال الكلبي هو إسماعيل
وروى معمر عن الزهري أنه قال في قوله " فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي " قال ابن عباس هو إسماعيل وكان ذلك بمنى
وقال كعب هو إسحاق وكان ذلك ببيت المقدس
وقال مجاهد وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي هو إسماعيل
وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال هو إسحاق وهكذا روي عن ابن عباس وعكرمة(3/139)
140
وقتادة وأبو هريرة وعبد الله بن سلام رضي الله عنهم وهكذا قال أهل الكتابين كلهم
والذي قال هو إسماعيل احتج بالكتاب والخبر
أما الكتاب فهو أنه لما ذكر قصة الذبح قال على أثر ذلك " وبشرناه بإسحاق نبيا "
وأما الخبر فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أنا ابن الذبيحين ) يعني أباه عبد الله بن عبد المطلب وإسماعيل بن إبراهيم
وأما الذي يقول هو إسحاق فيحتج بما روي في الخبر أنه ذكر نسبة يوسف فقال كان يوسف أشرف نسبا
يوسف صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله قد اختلفوا فيه هذا الاختلاف والله أعلم بالصواب
والظاهر عند العامة هو إسحاق
فذلك قوله " يابني إني أرى في المنام أني أذبحك " فظاهر اللفظ أنه رأى في المنام أنه يذبحه ولكن معناه " إني أرى في المنام " أني قد أمرت بذبحك بدليل ما قال في سياق الآية " يا أبت أفعل ما تؤمر "
وروي في الخبر أنه رأى في المنام أنه قيل له إن الله يأمرك أن تذبح ولدك فاستيقظ خائفا وقال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
ثم رأى في المنام في الليلة الثانية والثالثة مثل ذلك فاستيقظ وضم ابنه إلى نفسه وجعل يبكي حتى أصبح فانقاد لأمر الله تعالى وقال لامرأته سارة إني أريد أن أخرج إلى طاعة ربي فابعثي ابني معي فجهزته وبعثته معه قال كعب الأحبار فقال الشيطان إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبدا
فلما خرج إبراهيم بابنه ليذبحه فذهب الشيطان ودخل على سارة فقال أين ذهب إبراهيم بابنك فقالت غدا به لبعض حاجته
قال إنه لم يغد به لحاجته ولكنه إنما ذهب به ليذبحه فقالت ولم يذبحه قال يزعم أن ربه أمره بذلك
فقالت قد أحسن أن يطيع ربه
فخرج في أثرهما فقال للغلام أين يذهب بك أبوك قال لبعض حاجته
قال فإنه لا يذهب بك لحاجته ولكنه إنما يذهب بك ليذبحك
فقال ولم يذبحني قال يزعم أن ربه أمره بذلك
قال فوالله لئن كان الله أمره بذلك ليفعلن
فتركه ولحق بإبراهيم فقال أين غدوت بابنك قال لحاجة
قال فإنك لم تغد به لحاجة وإنما غدوت به لتذبحه
قال ولم أذبحه قال تزعم أن الله تعالى أمرك بذلك
قال فوالله لئن كان الله أمرني بذلك لأفعلن
فتركه وأيس من أن يطاع
قوله عز وجل " فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم " فأوحى الله تعالى إلى إسحاق أن ادع فإن لك دعوة مستجابة
فقال إسحاق اللهم إني أعوذ أن تستجيب لي في أيما عبد من الأولين والآخرين لقيك لا يشرك بك شيئا أن تدخله الجنة
وقال مجاهد إن إبراهيم عليه السلام لما أراد أن يذبح ابنه
بالسكين قال ابنه يا أبت خذ بناصيتي واجلس بين كتفي حتى لا أوذيك إذا أصابني حد السكين ولا تذبحني وأنت تنظر في وجهي عسى أن ترحمني واجعل(3/140)
141
وجهي إلى الأرض ففعل إبراهيم
فلما أمر السكينة على حلقه انقلبت فقال يا أبت ما لك قال قد انقلبت السكين
قال فاطعن بها طعنا
قال فطعن فانثنت
قال فعرف الله عز وجل الصدق منه ففداه بذبح عظيم وقال هو إسحاق
وروى أسباط عن السدي قال كان من شأن إسحاق حين أراد أبوه أن يذبحه أنه ركب مع أبيه في حاجة فأعجبه شبابه وحسن هيئته وكان إبراهيم حين بشر بإسحاق قبل أن يولد له قال هو إذا لله ذبيح
فقيل لإبراهيم في منامه قد نذرت لله نذرا ف بنذرك فلما أصبح قال " يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك " يقول قد أمرت بذبحك " قال يا أبت أفعل ما تؤمر " قال فانطلق معي وأخبر أمك أنك تنطلق إلى أخوالك وأخذ إبراهيم معه حبلا ومدية يعني السكين
فقال له يا أبتاه حدها فإنه أهون للموت
فانطلق به حتى أتى به جبلا من جبال الشام فأضجعه وربط يديه ورجليه فقال له إسحاق يا أبتاه شد رباطي لكي لا أضطرب فيصيب الدم ثيابك فتراه سارة فتحزن
فبكى إبراهيم بكاء شديدا وأخذ الشفرة فوضعها على حلقه وضرب الله تعالى على حلقه صفيحة نحاس فجعل يحز فلا تصنع شيئا
فلما رأى إبراهيم ذلك قلبه على وجهه فضرب الله تعالى على قفاه صفيحة نحاس وبكيا حتى ابتلت الأرض من دموعهما
فجعل يحز فلا تقطع شيئا فنودي " أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا " ودونك هذا الكبش فهو فداه
فالتفت إبراهيم فإذا هو بكبش أبيض أملح ينحط من الجبل وقد كان رعي في الجنة أربعين خريفا فخلى عن ابنه وأخذ الكبش فذبحه
وقال وهب بن منبه قال إبراهيم لإسحاق " يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر " ثم قال يا أبت إني أوصيك بثلاثة أشياء
قال وكان إسحاق في ذلك اليوم ابن سبع سنين
أحدهما أن تربط يدي لكيلا أضرب فأؤذيك والثاني أن تجعل وجهي إلى الأرض لكيلا تنظر إلى وجهي وترحمني والثالث أن تذهب بقميصي إلى أمي ليكون القميص عندها تذكرة مني فذلك قوله " فلما بلع معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى " قرأ حمزة والكسائي " ماذا ترى " بضم التاء يعني ماذا ترى من صبرك
ويقال معناه ماذا تشير
وقرأ الباقون بالنصب وهو من الرأي يعني ماذا ترى من صبرك
ويقال معناه ماذا تشير فيما أمر الله به
ويقال هو من المشورة والرأي قال أبو عبيد بالنصب تقرأ لأن هذا في موضع المشورة والرأي والآخر يستعمل في رؤية العين " قال يا أبت أفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين " على الذبح
سورة الصافات 103 - 111(3/141)
142
سورة الصافات 112 - 113
قوله عز وجل " فلما أسلما " يعني اتفقا على أمر الله تعالى قال قتادة أسلم هذا نفسه لله تعالى وأسلم هذا ابنه لله تعالى
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ " فلما سلما " يعني رضيا " وتله للجبين " يعني صرعه على جبينه
أي على وجهه
وقال القتبي " وتله للجبين " يعني جعل إحدى جبينيه على الأرض وهما جبينان والجبهة بينهما " وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا " وقال القتبي الواو زيادة ومعناه فلما أسلما وتله للجبين ناديناه وهذا كما قال امرئ القيس
( فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى % بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل )
يعني انتحى والواو زيادة
وقال بعضهم في الآية مضمر ومعناه " فلما أسلما " وسلما " وتله للجبين " وذكر عن الخليل بن أحمد أنه سئل عن هذه الآية فقال ليس لنا في كتاب الله عز وجل تكلم
فقيل له فما مثله في العربية فقال قول امرئ القيس فلما أجزنا ساحة الحي أجزنا وانتحى بنا
كذلك قوله " أسلما " سلما " وتله للجبين " " وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا " يعني أوفيت الوعد وائتمرت ما أمرت
يقول الله تعالى " إنا كذلك نجزي المحسنين " كما فعلت يا إبراهيم
وقد " فديناه بذبح عظيم "
قوله عز وجل " إن هذا لهو البلاء المبين " يعني الاختبار البين
ثم قال " وفديناه بذبح عظيم " يعني بكبش عظيم والذبح بكسر الذال اسم لما يذبح وبالنصب مصدر
وروي عن ابن عباس أنه قال حدثني من رأى قرني الكبش معلقين في الكعبة وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيم عن إسماعيل عليهما السلام
ثم قال عز وجل " وتركنا عليه في الآخرين " قال الثناء الحسن " سلام على إبراهيم " يعني سلام الله على إبراهيم
ويقال هذا موصول بالأول يعني " وتركنا عليه في الأخرين " " سلام على إبراهيم " يعني أثنينا ثناء عليه السلام في الآخرين
ثم قال " كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين " يعني المصدقين المخلصين
ثم قال عز وجل " وبشرناه بإسحاق " قال ابن عباس بشرنا بإسحاق بعدما أمر بذبح إسماعيل وكان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة
ويقال " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين " يعني بشرناه بنبوة إسحاق بعدما أمر بذبح إسحاق عليه السلام(3/142)
143
ثم قال عز وجل " وباركنا عليه وعلى إسحاق " يعني على إبراهيم وعلى إسحاق " وباركنا " أي النماء والزيادة في الأموال والأولاد فكان من صلبه ذرية لا تحصى " ومن ذريتهما محسن " مثل موسى وهارون وداود وسليمان وعيسى عليهم السلام ومؤمنو أهل الكتاب " وظالم لنفسه مبين " يعني الذين كفروا بآيات الله عز وجل
وروي عن ابن عباس أنه قال قد رعى الكبش في الجنة أربعين خريفا
وقال بعضهم هي الشاة التي تقرب بها هابيل ابن آدم عليهما السلام فتقبل منه قربانه ورفع إلى السماء حيا ثم جعل بدلا عن ذبح إسماعيل أو إسحاق عليهما السلام
ويقال هي الشاة التي خلقها الله تعالى لأجله
وقال بعضهم إنها وعلة من البر يعني بقرة وحش من البر جبلية
سورة الصافات 114 - 122
قوله عز وجل " ولقد مننا على موسى وهارون " يعني أنعمنا عليهما بالنبوة " ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم " يعني من الغرق " ونصرناهم " يعني موسى وقومه " فكانوا هم الغالبين " بالحجة على فرعون " وآتيناهما " يعني موسى وهارون " الكتاب المستبين " يعني المبين قد بين فيه الحلال والحرام " وهديناهما الصراط المستقيم " يعني ثبتناهما على دين الإسلام " وتركنا عليهما في الآخرين " يعني الثناء الحسن في الباقين " سلام على موسى وهارون " يعني السلام منا والمغفرة عليهما " إنا كذلك نجزي المحسنين " أي نكافئ المحسنين " إنهما من عبادنا المؤمنين " يعني من المرسلين
سورة الصافات 123 - 132
قوله عز وجل " وإن إلياس لمن المرسلين " يعني نبي من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام وقال بعضهم إنه إدريس عليه السلام
وروي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ " وإن إدريس لمن المرسلين سلام على إدريس "
وقال بعضهم إلياس هو الخضر عليه السلام
وقال بعضهم إلياس غير الخضر وإلياس صاحب البراري والخضر صاحب الجزائر ويجتمعان(3/143)
144
في كل يوم عرفة بعرفات
ويقال هو من سبط يوشع بن نون بعثه الله تعالى إلى أهل بعلبك فكذبوه فأهلكهم الله تعالى بالقحط
وقال الله عز وجل لإلياس سلني أعطك
قال ترفعني إليك فرفعه الله تعالى إليه وجعله أرضيا سماويا إنسيا ملكيا يطير مع الملائكة فذلك قوله تعالى " إذ قال لقومه ألا تتقون " اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الأمر يعني اتقوا الله تعالى " أتدعون بعلا وتذرون " ربا
روى عكرمة عن ابن عباس قال البعل الصنم
وقال مجاهد " أتعدون بعلا " قال ربا
وروى جويبر عن الضحاك قال مر رجل وهو يقول من يعرف بعل البقرة
فقال رجل أنا بعلها فقال له ابن عباس إنك زوج البقرة فقال الرجل يا ابن عباس أما سمعت قول الله تعالى يقول " أتدعون بعلا " يعني ربا وأنا ربها ويقال البعل كان اسم ذلك الصنم خاصة الذي كان لهم ويقال كان صنما من ذهب فقال لهم " أتدعون بعلا " أي الصنم " وتذرون أحسن الخالقين " الذي خلقكم يعني تتركون عبادة الله " الله ربكم " قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " الله ربكم " " ورب آبائكم " كلها بالنصب وقرأ الباقون كلها بالضم " الله ربكم ورب آبائكم "
فمن قرأ بالنصب يرده إلى قوله " وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب " على صفة أحسن
ومن قرأ بالضم فهو على معنى الاستئناف فكأنه قال هو الله ربكم ورب آبائكم الأولين
ثم قال عز وجل " فكذبوه " يعني إلياس " فإنهم لمحضرون " النار " إلا عباد الله المخلصين " فإنهم لا يحضرون النار " وتركنا عليه في الآخرين " يعني الثناء الحسن " سلام على إل ياسين " قرأ نافع وابن عامر " سلام على آل ياسين " وقرأ الباقين " إلياسين "
ومن قرأ " آل ياسين " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ويقال آل محمد فياسين اسم والال مضاف إليه وآل الرجل أتباعه وقيل أهله
ومن قرأ " إلياسين " فله طريقان أحدهما أنه جمع الياس ومعناه الياس وأمته من المؤمنين
كما يقال رأيت المهالبة يعني بني المهلب
والثاني أن يكون لغتان إلياس وإلياسين مثل ميكال وميكائيل
ثم قال " إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين " وقد ذكرناه
سورة الصافات 133 - 138
قوله عز وجل " وإن لوطا لمن المرسلين "
وقوله " إذ نجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ثم دمرنا الآخرين " وقد ذكرناه
ثم قال عز وجل " وإنكم لتمرون عليهم مصبحين " يعني يا أهل مكة لتمرون على قرياتهم إذا سافرتم بالليل والنهار وذلك قوله " وبالليل أفلا تعقلون " يعني أليس لكم ذهن الإنسانية فتعتبروا(3/144)
145
سورة الصافات 139 - 148
قوله عز وجل " وإن يونس لمن المرسلين " يعني من جملة المرسلين " إذ أبق " يعني إذ فزع ويقال إذ هرب
ويقال خرج " إلى الفلك المشحون " يعني الموقد من الناس والدواب
ويقال المجهز الذي قد فرغ من جهازه " فساهم " يعني اقترعوا وقد ذكرت قصته في سورة الأنبياء عليهم السلام " فكان من المدحضين " يعني من المقروعين والمدحض في اللغة هو المغلوب في الحجة وأصله من دحض الرجل إذ زل من مكانه
" فالتقمه الحوت " يعني ابتلعه الحوت " وهو مليم " يعني يلوم نفسه قال أهل اللغة المليم الذي استوجب اللوم سواء لأمره أو لا
والملوم الذي يلام سواء استوجب اللوم أم لا
ثم قال عز وجل " فلولا أنه كان من المسبحين " قال مقاتل والكلبي لولا أنه كان من المصلين قبل ذلك ويقال " لولا أنه كان من المسبحين " في بطن الحوت " للبث " أي لمكث " في بطنه " ولكان بطنه قبره " إلى يوم يبعثون " يعني إلى يوم القيامة
قوله عز وجل " فنبذناه بالعراء " يعني نبذه الحوت على ساحل البحر
ويقال بالفضاء على ظاهر الأرض
وقال أهل اللغة العراء هو المكان الخالي من البناء والشجر والنبات
فكأنه من عرى الشيء " وهو سقيم " يعني مريض
وذكر في الخبر أنه لم يبق له لحم ولا ظفر ولا شعر فألقاه على الأرض كهيئة الطفل لا قوة له وقد كان مكث في بطن الحوت أربعين يوما
" وأنبتنا عليه شجرة من يقطين " قال مقاتل يعني من قرع وهكذا قال قتادة ومجاهد
وقال أهل اللغة كل شيء ينبت بسطا فهو يقطين وهكذا قال الكلبي
وذكر في الخبر أن وعلة كانت تختلف إليه ويشرب من لبنها فكان تحت ظل اليقطين ويشرب من لبن الوعلة حتى تقوى ثم يبست تلك الشجرة فاغتم لذلك وحزن حزنا شديدا وبكى فأوحى الله تعالى إليه إنك قد اغتممت بسبب هذه الشجرة فكيف لم تغتم بهلاك مائة ألف أو يزيدون
قال " وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون " يعني كما أرسلناه قبل ذلك إلى قومه وهم مائة ألف يعني أهل نينوى " أو يزيدون "
يعني بل يزيدون ويقال يعني ويزيدون وكانوا مائة وعشرين ألفا " فآمنوا " لما جاءهم العذاب أقروا وصدقوا فصرف الله عنهم العذاب فذلك قوله " فمتعناهم إلى حين " يعني أبقيناهم إلى منتهى آجالهم
فخرج يونس عليه السلام فمر بجانب مدينة نينوى فرأى هناك غلاما يرعى فقال ممن أنت يا غلام فقال من(3/145)
146
قوم يونس
فقال فإذا رجعت إليهم فأخبرهم بأنك قد رأيت يونس
فقال الغلام إنه من يحدث ولم تكن له بينة قتلوه فقال له يونس عليه السلام تشهد لك هذه البقعة وهذه الشجرة
فدخل وقال للملك إني رأيت يونس عليه السلام يقرئك السلام فلم يصدقوه حتى خرجوا وشهدت الشجرة والبقعة
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فأخذ الملك بيدي الغلام وقال أنت أحق بالملك مني فأقام الغلام أميرهم أربعين سنة
سورة الصافات 149 - 157
قوله عز وجل " فاستفتهم " يعني سل أهل مكة " ألربك البنات " قال مقاتل وذلك أن جنسا من الملائكة يقال لهم الجن منهم إبليس قال بعض الكفار إن الله عز وجل اتخذهم بناتا لنفسه فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه فمن أمهم فقالوا سروات الجن فذلك قوله " ألربك البنات ولهم البنون " يعني يختارون له البنات ولأنفسهم البنين
ثم قال " أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون " يعني كانوا شاهدين حاضرين حين خلقهم بناتا " ألا إنهم من إفكهم " يعني من كذبهم " ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون " في قلوبهم
ثم قال عز وجل " أصطفى البنات على البنين " وذكر عن نافع أنه قرأ بإسقاط الألف في الوصل وهو قوله " لكاذبون اصطفى " وبكسرها في الابتداء وجعلها ألف الوصل ولم يجعلها ألف القطع ولا ألف الاستفهام ومعناها أن الله عز وجل حكى عن الكفار أنهم يزعمون أن الملائكة بنات الله وأنهم من إفكهم ليقولون اصطفى البنات على البنين
وقرأ الباقون " لكاذبون اصطفى " بإثبات الألف على معنى الاستفهام فلفظه لفظ الاستفهام والمراد به الزجر
ثم قال عز وجل " ما لكم كيف تحكمون " يعني كيف تقضون بالحق " أفلا تذكرون " أنه لا يختار البنات على البنين " أم لكم سلطان مبين " يعني ألكم حجة بينة
ويقال ألكم عذر بين في كتاب الله أنزل الله إليكم بأن الملائكة بناته " فأتوا بكتابكم " يعني أي بعذركم وحجتكم " إن كنتم صادقين " في مقالتكم
سورة الصافات 158 - 162(3/146)
147
سورة الصافات 163 - 170
ثم قال عز وجل " وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا " يعني وصفوا بين الرب وبين الملائكة نسبا حين زعموا أنهم بناته
ويقال جعلوا بينه وبين إبليس قرابة
وروى جويبر عن الضحاك قال قالت قريش إن إبليس أخو الرحمن وقال عكرمة " وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا " قالوا الملائكة بنات الله وجعلوهم من الجن
وهكذا قال القتبي
ثم قال " ولقد علمت الجنة " قال مقاتل والكلبي يعني علمت الملائكة الذين قالوا إنهم البنات " إنهم لمحضرون " أن من قال إنهم بناته لمحضرون في النار
ويقال لو علمت الملائكة أنهم لو قالوا بذلك أدخلوا النار
ثم قال الله عز وجل " سبحان الله عما يصفون " يعني تنزيها لله عما يصف الكفار
ثم استثنى على معنى التقديم والتأخير يعني فقال " إنهم لمحضرون " " إلا عباد الله المخلصين " يعني الموحدين فإنهم لا يحضرون النار
ويقال بغير تقديم وتأخير ومعناه " سبحانه عما يصنعون إلا عباد الله المخلصين " يعني الموحدين فإنهم لا يقولون ذلك
ثم قال عز وجل " فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين " يعني ما أنتم عليه بمضلين أحدا بآلهتكم " إلا من هو صال الجحيم " يعني إلا من قدر الله له أن يصلى الجحيم
ويقال إلا من كان في علم الله تعالى أنه يصلى الجحيم ويقال إلا من قدر عليه الضلالة وعلم ذلك منه وأنتم لا تقدرون على الضلالة وعلى الهدى
قوله عز وجل " وما منا إلا له مقام معلوم " يعني قل يا جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم
" وما منا " معشر الملائكة " إلا له مقام معلوم " يعني مصلى معروفا في السماء يصلي فيه ويعبد الله تعالى فيه " وإنا لنحن الصافون " يعني صفوف الملائكة في السموات
وروي مسروق عن ابن مسعود قال إن في السموات لسماء ما فيها موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك ساجد أو قدماه ثم قرأ " وإنا لنحن الصافون "
وروي عن مجاهد عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه جبهة ملك ساجد )
ويقال إن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له " إنك تقوم أدنى من ثلثي اليل ونصفه وثلثه "(3/147)
148
[ المزمل 20 ] " وما منا إلا له مقام معلوم " في السموات يعبد الله عز وجل فيه " وإنا لنحن المسبحون " يعني المصلين " وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا " يعني إن أهل مكة كانوا يقولون لو أتانا بكتاب مثل اليهود والنصارى لكنا نؤمن فذلك قوله عز وجل " لو أن عندنا ذكرا من الأولين " يعني لو جاءنا رسول " لكنا عباد الله المخلصين " يعني الموحدين
فلما جاءهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا به
يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقال يعني بالقرآن " فكفروا به فسوف يعلمون " يعني يعرفون في الآخرة ويقال هذا وعيد لهم
ويقال في الدنيا
سورة الصافات 171 - 182
قوله عز وجل " ولقد سبقت كلمتنا " يعني قد مضت كلمتنا بالنصرة " لعبادنا " " المرسلين " يعني الأنبياء عليهم السلام وهو قوله عز وجل " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي " [ المجادلة 21 ] " إنهم لهم المنصورون " في الدنيا على أعدائهم " وإن جندنا لهم الغالبون " يعني المؤمنين أهل ديننا
ويقال رسلنا لهم الغالبون في الدنيا بالغلبة والحجة في الآخرة " فتول عنهم " يعني فأعرض عنهم إلى نزول العذاب وكان ذلك قبل أن يؤمر بالقتال " حتى حين " قال الكلبي إلى فتح مكة
ويقال إلى أن تؤمر بالقتال " وأبصرهم " يعني أعلمهم ذلك " فسوف يبصرون " يعني يرون ماذا يفعل بهم إذا نزل بهم العذاب " أفبعذابنا يستعجلون " يعني أفبعذاب مثلي " يستعجلون " " فإذا نزل بساحتهم " يعني بقربهم وحضرتهم " فساء صباح المنذرين " يعني بئس الصباح صباح من أنذر بالعقاب
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما نزل بقرب خيبر قال ( هلكت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ) يعني من أنذرتهم فلم يؤمنوا
قوله عز وجل " وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون " وقد تكرر الكلام للتأكيد والمبالغة في الحجة
ثم نزه نفسه عما قالت الكفار فقال عز وجل " سبحان ربك " يا محمد " رب العزة "(3/148)
149
والقدرة " عما يصفون " يعني عما يقولون وقرئ في الشاذ " رب العزة " ويكون نصبا على المدح وفي الشاذ قرئ " رب العزة " بالرفع على معنى هو رب العزة
وقراءة العامة بالكسر على معنى النعت
ثم قال عز وجل " وسلام على المرسلين " بتبليغ الرسالة
ففي الآية دليل وتنبيه للمؤمنين بالتسليم على جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام
ثم قال " والحمد لله رب العالمين " على هلاك الكافرين الذين لم يوحدوا ربهم ويقال حمد الرب نفسه ليكون دليلا لعباده ليحمدوه سبحانه وتعالى والحمد لله رب العالمين(3/149)
150
سورة ص
مكية وهي ثمانون وثمان آيات
سورة ص 1 - 3
قوله الله سبحانه تعالى " ص والقرآن " قرأ الحسن صاد بالكسر وجعلها من المصاداة يقول عارض القرآن أي عارض عملك بالقرآن
ويقال بقلبك
وروى معمر عن قتادة في قوله " ص والقرآن " قال هو كما تقول تلق كذا أي هيء نفسك بقدوم فلان يعني طهر نفسك بآداب القرآن كما قال صلى الله عليه وسلم ( القرآن مأدبة الله فتطعموا من مأدبته ) وكان عيسى بن عمر يقرأ صاد بالنصب وكذلك يقرأ قاف ونون بالنصب ومعناه اقرأ صاد
وقراءة العامة بسكون الدال لأنها حروف هجاء فلا يدخلها الإعراب وتقديرها الوقف عليها
وقيل في التفسير قول الله تعالى " ص " يعني الصادق وهو الله
ويقال هو قسم
" والقرآن " عطف عليه فقسم بعد قسم ومعناه أقسمت ب ( ص ) وبالقرآن وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه الصاد اسم بحر في السماء
وقال ابن مسعود في قوله " ص والقرآن " يعني صادقوا القرآن حتى تعرفوا الحق من الباطل
وقال الضحاك معناه صدق الله
ثم قال " والقرآن ذي الذكر " يعني والقرآن ذي الشرف
ويقال فيه ذكر من كان قبله وجواب القسم عند قوله " إن ذلك لحق تخاصم أهل النار " [ ص 64 ] والجواب قد يكون مؤخرا عن الكلام كما قال " والفجر وليال عشر " [ الفجر 1 ، 2 ] وجوابه قوله " إن ربك لبالمرصاد " [ الفجر 14 ] وقوله " والسماء ذات البروج " [ البروج 1 ] وجوابه قوله " إن بطش ربك لشديد " [ البروج 12 ] وقال بعضهم جواب القسم ههنا " كم أهلكنا " ومعناه لكم أهلكنا فلما طال الكلام حذف اللام
ثم قال " بل الذين كفروا في عزة " أي في حمية
كقوله " أخذته العزة " [ البقرة 206 ] يعني الحمية
ويقال " في عزة " يعني في تكبر " وشقاق " يعني في خلاف من الدين ويقال في عداوة ومباعدة وتكذيب
وقال القتبي " بل " في اللغة على وجهين أحدهما(3/150)
151
لتدارك كلام غلط فيه
تقول رأيت زيدا بل عمروا
والثاني أن يكون لترك شيء وأخذ غيره من الكلام كقوله " بل الذين كفروا في عزة وشقاق "
ثم خوفهم فقال عز وجل " كم أهلكنا من قبلهم من قرن " يعني من أمة " فنادوا " يعني فنادوا في الدنيا واستغاثوا " ولات حين مناص " يعني وليس تحين فرار
قال الكلبي وكانوا إذا قاتلوا قال بعضهم لبعض " ولات حين مناص " يقول احمل حملة واحدة فينجو من نجا ويهلك من هلك
فلما أتاهم العذاب قالوا " مناص " مثل ما كانوا يقولون
فقال الله تعالى لهم ليس بحين فرار وهي لغة اليمن
وقال القتبي النوص التأخر والبوص التقدم في كلام العرب
وروى معمر عن قتادة في قوله " فنادوا ولات حين مناص " قال نادوا على غير حين النداء
وقال عكرمة نادوا وليس تحين انفلات
وقال أبو عبيدة اختلفوا في الوقف فقال بعضهم يوقف عند قوله " ولات " يم يبتدئ " تحين مناص " على خط الكتاب
والذي عندنا أن الوقف عند قوله ولا ثم يبتدأ حين مناص
لأنا لا نجد في اليوم شيء من كلام العرب ولات أما المعروف لا ولأن تفسير ابن عباس يشهد لها وذلك أنه قال ليس تحين فرار وليس هي أخت لا ولا بمعناها
قال أبو عبيدة ومع هذا تعمدت النظر في الذي يقال له مصحف الإمام وهو مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه فوجدت التاء متصلة مع حين
سورة ص 4 - 7
ثم قال عز وجل " وعجبوا أن جاءهم منذر منهم " يعني مخوف منهم ورسول منهم يعني من العرب وهو محمد صلى الله عليه وسلم " وقال الكافرون هذا ساحر كذاب " يكذب على الله تعالى أنه رسوله " أجعل الآلهة إلها واحدا " يعني كيف يتسع لحاجتنا إله واحد " إن هذا لشيء عجاب " يعني لأمر عجيب والعرب تحول فعيلا إلى فعال وههنا أصله شيء عجيب كما قال في سورة ق " عجيب " [ هود 72 ، ق 2 ] " وانطلق الملأ منهم " قال الفقيه أبو الليث رحمه الله أخبرنا الثقة بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما مرض أبو طالب دخل عليه نفر من قريش فقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويقول ويقول ويفعل ويفعل فأرسل إليه فانهه عن ذلك فلما فأرسل إليه أبو طالب قام النبي صلى الله عليه وسلم وجاء إلى عمه أبي طالب وكان إلى جنب أبي طالب موضع رجل فخشي أبو جهل إن جاء النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إلى جنب عمه أن يكون أرق له عليه فوثب أبو جهل فجلس في ذلك المجلس فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد مجلسا إلا عند الباب
فلما دخل قال له أبو طالب يا ابن أخي إن قومك(3/151)
152
يشكونك ويزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول وتفعل وتفعل
فقال ( يا عم إني إنما أريد منهم كلمة واحدة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها والعجم الجزية )
فقالوا وما هي فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا إله إلا الله ) فقاموا فزعين ينقضون ثيابهم ويقولون " أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب "
قوله عز وجل " وانطلق الملأ منهم " يعني الأشراف من قريش " إن امشوا " يعني امكثوا " واصبروا " يعني اثبتوا " على آلهتكم " يعني على عبادة آلهتكم " إن هذا لشيء يراد " يعني لأمر يراد كونه بأهل الأرض
ويقال إن هذا لشيء يراد يعني لا يكون ولا يتم له " ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة " يعني في اليهود والنصارى " إن هذا إلا اختلاق " يعني يختلقه من قبل نفسه
ويقال في قوله " إن هذا لشيء يراد " يعني أراد أن يكون
سورة ص 8 - 10
ثم قال عز وجل " أأنزل عليه الذكر من بيننا " يعني أخص بالنبوة من بيننا يقول الله عز وجل " بل هم في شك من ذكري " يعني في ريب من القرآن والتوحيد " بل لما يذوقوا عذاب " أي لم يذوقوا عذابي كقوله " ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " [ الحجرات 14 ] أي لم يدخل فهذا تهديد لهم أي سيذوقون عذابي
ثم قال " أم عندهم خزائن رحمة ربك " يعني مفاتيح رحمة ربك
يعني مفاتيح النبوة بأيديهم يعني ليس ذلك بأيديهم وإنما ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " العزيز الوهاب " يعني بيد الله " العزيز " في ملكه " الوهاب " لمن يشاء
قوله عز وجل " أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما " يعني ألهم ملكنا فيختاروا النبوة من يشاء بل الله يختار من يشاء يوحي إليه بالرسالة أي يوحي الله عز وجل بالرسالة لمن يشاء " فليرتقوا في الأسباب " يعني إن لم يرضوا بما فعل الله تعالى فليتكلفوا الصعود إلى السماء
وقال القتبي أسباب السماء أي أبواب السماء كما قال القائل أسباب السماء بسلم
قال ويكون أيضا " فليرتقوا في الأسباب " يعني في الجبال إلى السماء كما سألوك أن ترقى في السماء فتأتيهم بكتابة وهذا كله توبيخ وتهديد بالعجز(3/152)
153
سورة ص 11 - 16
ثم قال عز وجل " جند ما هنالك " يعني جند عند ذلك و " ما " زائدة يعني حين أرادوا قتل النبي " مهزوم " يعني مغلوب " من الأحزاب " يعني من الكفار
وقال مقاتل فأخبر الله تعالى بهزيمتهم ببدر
وقال الكلبي يعني عند ذلك إن أرادوه " مهزوم " مغلوب
ثم قال عز وجل " كذبت قبلهم " يعني من قبل أهل مكة " قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد " يعني ذو ملك ثابت شديد دائم ويقال ذو بناء محكم ويقال يعني في عز ثابت
والعرب تقول فلان في عز ثابت الأوتاد يريدون دائما شديدا وأصل هذا أن بيوت العرب تثبت بأوتاد ويقال هي أوتاد كانت لفرعون يعذب بها وكان إذا غضب على أحد شده بأربعة أوتاد
ثم قال " وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة " يعني الغيضة وهم قوم شعيب عليه السلام " أولئك الأحزاب " يعني الكفار سموا أحزابا لأنهم تحزبوا على أنبيائهم
أي تجمعوا
وأخبر في الابتداء أن مشركي قريش حزب من هؤلاء الأحزاب " إن كل " يعني ما كل " إلا كذب الرسل فحق عقاب " يعني وجب عذابي عليهم
قوله عز وجل " وما ينظر هؤلاء " يعني قومك " إلا صيحة واحدة " يعني النفخة الأولى " ما لها من فواق " يعني من نظرة ومن رجعة
قرأ حمزة والكسائي " فواق " بضم الفاء وقرأ الباقون بالنصب
ويقال ومعناهما واحد يسمى ما بين حلبتي الناقة " فواق " لأن اللبن يعود إلى الضرع وكذلك إفاقة المريض يعني يرجع إلى الصحة
فقال " ما لها من فواق " يعني من رجوع
وقال أبو عبيدة من فتحها أراد ما لها من راحة ولا إفاقة يذهب بها إلى إفاقة المريض ومن ضمها جعلها من فواق الناقة وهو ما بين الحلبتين يعني ما لها من انتظار
وقال القتبي الفواق والفواق واحد وهو ما بين الحلبتين
ثم قال تعالى " وقالوا ربنا عجل لنا قطنا " قال ابن عباس وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش ( من لم يؤمن بالله أعطي كتابه بشماله )
فقالوا " ربنا عجل لنا قطنا " يعني صحيفتنا وكتابنا في الدنيا " قبل يوم الحساب " والقط في اللغة الصحيفة المكتوبة ويقال(3/153)
154
لما نزل قوله " فأما من أوتي كتابه بيمينه " [ الحاقة 19 ] فقالوا " ربنا عجل لنا " هذا الكتاب " قبل يوم الحساب " استهزاء
سورة ص 17 - 20
ثم عزى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل " اصبر على ما يقولون " من التكذيب " واذكر عبدنا داود ذا الأيد " يعني ذا القوة على العبادة " إنه أواب " يعني مقبل على طاعة الله عز وجل
وقال مقاتل " أواب " يعني مطيع
قوله عز وجل " إنا سخرنا الجبال معه " يعني ذللنا الجبال " يسبحن " مع داود عليه السلام " بالعشي والإشراق " يعني في آخر النهار وأوله
وروى طاوس أن ابن عباس قال لأصحابه هل تجدون صلاة الضحى في القرآن قالوا لا
قال بلى قوله " يسبحن بالعشي والإشراق " كانت صلاة الضحى يصليها داود عليه السلام
ثم قال عز وجل " والطير محشورة " يعني مجموعة " كل له أواب " يعني مطيع
وقال عمرو بن شرحبيل الأواب بلغة الحبشة المسيح وقال الكلبي المقبل على طاعة الله تعالى
قوله عز وجل " وشددنا ملكه " يعني قوينا حراسه
قال مقاتل والكلبي كان يحرسه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل ويقال قوينا ملكه وأثبتناه وحفظناه عليه
وروي في الخبر أن غلاما استعدى على رجل وادعى عليه بقرا فأنكر المدعى عليه وقد كان لطمه لطمة حين ادعى عليه فسأل داود من الغلام البينة فلم يقمها فرأى داود في منامه أن الله عز وجل يأمره أن يقتل المدعى عليه ويسلم البقر إلى الغلام
فقال داود هو منام ثم أتاه الوحي بذلك فأخبر بذلك بنو إسرائيل فجزعت بنو إسرائيل وقالوا رجل لطم غلاما لطمة فتقتله بذلك فقال داود عليه السلام هذا أمر الله تعالى به فسكتوا
ثم أحضر الرجل فأخبره أن الله تعالى أمره بقتله فقال الرجل صدقت يا نبي الله إني قتلت أباه غيلة وأخذت البقر فقتله داود فعظمت هيبته وشدد ملكه وقالوا إنه يقضي بوحي الله تعالى
ثم إن الله تعالى أرخى سلسلة من السماء وأمره بأن يقضي بها بين الناس فمن كان على الحق يأخذ السلسلة ومن كان ظالما لا يقدر على أخذ السلسلة
وقد كان غصب رجل من رجل لؤلؤا فجعل اللؤلؤ في جوف عصا له ثم خاصمه المدعي إلى داود عليه السلام فقال المدعي إن هذا أخذ مني لؤلؤا وإني لصادق في مقالتي
فجاء وأخذ السلسلة ثم قال المدعى عليه خذ مني العصا فأخذ عصاه وقال إني قد دفعت إليه اللؤلؤ وإني لصادق في مقالتي فجاء وأخذ السلسلة
فتحير(3/154)
155
داود عليه السلام في ذلك فرفعت السلسلة وأمره بأن يقضي بالبينات والأيمان فذلك قوله عز وجل " وآتيناه الحكمة " يعني الفهم والعلم
ويقال يعني النبوة " وفصل الخطاب " يعني القضاء بالبينات والأيمان
وقال قتادة والحسن " وفصل الخطاب " يعني البينة على الطالب واليمين على المطلوب
سورة ص 21 - 26
ثم قال عز وجل " وهل أتاك نبأ الخصم " يعني خبر الخصم
ويقال خبر الخصوم " إذ تسوروا المحراب " والتسور أن يصعد في مكان مرتفع وإنما سمي المحراب سورا لارتفاعه من الأرض
ويقال " تسوروا " يعني دخلوا عليه من فوق الجدار
وقال الحسن البصري جزأ داود عليه السلام الدهر أربعة أيام فيوما لنسائه ويوما لقضائه ويوما يخلو فيه لعبادة ربه ويوما لبني إسرائيل ليسألونه
فقال يوما لبني إسرائيل أيكم يستطيع أن يتفرغ لعبادة ربه يوما لا يصيب الشيطان منه شيئا فقالوا يا نبي الله لا يستطيع ذلك أحد
فحدث نفسه أنه يستطيع ذلك فدخل محرابه وأغلق أبوابه فقام يصلي في المحراب فجاء طائر في أحسن صورة مزين كأحسن ما يكون فوقع قريبا منه فنظر إليه فأعجبه فوقع في نفسه منه شيء فدنا منه ليأخذه فوقع قريبا منه وأطمعه وأراد أن يأخذه ففعل ذلك ثلاث مرات حتى إذا كان في الرابعة ضرب يده عليه فأخطأه ووقع على سور المحراب
قال وخلف المحراب حوض تغتسل فيه النساء فضرب يده عليه وهو على سور المحراب فأخطأه وهرب الطائر فأشرف داود فإذا بامرأة تغتسل فلما رأته نقضت شعرها فغطت جسدها فوقع في نفسه منها ما يشغله عن صلاته فنزل من محرابه ولبست المرأة ثيابها وخرجت إلى بيتها فخرج حتى عرف بيتها وسألها من أنت فأخبرته فقال هل لك زوج قالت نعم
قال أين هو فقالت في بعث كذا وكذا وجند كذا وكذا
فرجع وكتب إلى عامله إذا جاءك كتابي هذا فاجعل فلانا في أول الخيل
فقدم في فوارس فقاتل فقتل
ثم انتظر حتى انقضت عدتها فخطبها وتزوجها
فبينما هو في المحراب إذا تسور عليه ملكان وكان الباب مغلقا ففزع منهما فقالا لا تخف(3/155)
156
" خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق " يعني اقض بيننا بالعدل
ثم خاصم أحدهما الآخر فقال " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة " إلى آخره
فعلم داود عليه السلام أنه مراد بذلك فخر راكعا وأناب
قال الحسن سجد أربعين ليلة لا يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة قال ولم يذق طعاما ولا شرابا حتى أوحى الله عز وجل إليه أن ارفع رأسك فإني قد غفرت لك وهكذا ذكر في رواية الكلبي عن ابن عباس أنه سجد أربعين يوما حتى سقط جلد وجهه ونبت العشب من دموعه قال يا رب كيف ترحمني وأنا أعلم أنك منتقم مني بخطيئتي وذكر أن جبريل عليه السلام قال له اذهب إلى أوريا فاستحل منه فإنك تسمع صوته في يوم كذا
فأتاه ذات ليلة فناداه فأجابه فاستحل منه فقال أنت في حل
فلما رجع قال له جبريل هل أخبرته بجرمك
قال لا
قال فإنك لم تفعل شيئا
قال فارجع فأخبره بالذي صنعت
فرجع داود فأخبره بذلك فقال أنا خصمك يوم القيامة
فرجع مغتما وبكى أربعين يوما فأتاه جبريل عليه السلام فقال إن الله تعالى يقول إني أستوهبك من عبدي فيهبك لي وأجزيه على ذلك أفضل الجزاء فسري عنه ذلك وكان محزونا في عمره باكيا على خطيئته
وروي في خبر آخر أن داود سمع بني إسرائيل كانوا يقولون في دعائهم يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود فيستجاب لهم
فقال لهم داود عليه السلام اذكروني فيهم فقولوا يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود فقالوا الله أمرك بهذا قال لا
فقالوا لا نزيد فيهم مالم يأمرك الله تعالى بذلك
فسأل داود ربه أن يجعله فيهم فأوحى الله تعالى إليه وذكر له ما لقي إبراهيم من الشدائد وما لقي إسحاق ويعقوب عليهم السلام
فسأل داود ربه أن يبتليه ببلية لكي يبلغ منزلتهم فابتلي بذلك حتى بلغ مبلغهم
وقال بعضهم هذه القصة لا تصح لأنه لا يظن بالنبي أنه يفعل مثل ذلك ولكن كانت خطيئته أنه لما اختصما إليه فقال للمدعي لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه فنسبه إلى الظلم بقول المدعي وكان ذلك منه زلة فاستغفر ربه عن زلته فذلك قوله " إذ دخلوا على داود " وقال بعضهم كانوا اثنين فذكر بلفظ الجماعة فقال " إذ دخلوا على داود " وقال بعضهم كانوا جماعة ولكنهم كانوا فريقين فقال " إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض " يعني استطال وظلم بعضنا بعضا " فاحكم بيننا بالحق " يعني اقض بيننا بالعدل " ولا تشطط " أي ولا تجر في الحكم والقضاء
ويقال أشططت إذا جرت " واهدنا إلى سواء الصراط " يعني أرشدنا إلى أعدل الطريق
قوله عز وجل " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها " يعني أعطني هذه النعجة وهذا قول الكلبي ومقاتل
وقال القتبي "
أكفلنيها " يعني ضمها إلي واجعلن كافلها " وعزني في الخطاب " يعني غلبني في الكلام " قال " داود " لقد ظلمك(3/156)
157
بسؤال نعجتك إلى نعاجه ) أي مع نعاجه " وإن كثيرا من الخلطاء " يعني من الإخوان والشركاء " ليبغي بعضهم على بعض " يعني ليظلم بعضهم بعضا " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " فإنهم لا يظلمون " وقليل ما هم " يعني قليل منهم الذين لا يظلمون
فلما قضى بينهما داود عليه السلام أحب أن يعرفهما فصعدا إلى السماء حيال وجهه " وظن داود " يعني علم داود
ويقال ظن بمعنى أيقن إلا أنه ليس بيقين عيان لأن العيان لا يقال فيه إلا العلم
" أنما فتناه " يعني ابتليناه واختبرناه
ويقال إنهما ضحكا وذهبا فعلم داود أن الله عز وجل ابتلاه بذلك
وروي عن أبي عمرو في بعض الروايات أنه قرأ " أنما فتناه " بالتخفيف ومعناه ظن أن الملكين اختبراه وامتحناه في الحكم وقراءة العامة " فتناه " بالتشديد يعني أن الله عز وجل قد اختبره وامتحنه بالملكين
" فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب " يعني أقبل إلى طاعة الله بالتوبة
وروى عطاء بن السائب عن أبي عبد الله الجبلي قال إن داود عليه السلام لم يرفع رأسه إلى السماء مذ أصاب الخطيئة حتى مات
وذكر في الخبر أن داود عليه السلام كان له تسع وتسعون امرأة فتزوج امرأة أوريا على شرط أن يكون ولدها خليفة بعده فولد له منها سليمان عليه السلام وكان خليفته بعده
يقول الله عز وجل " فغفرنا له ذلك " يعني ذنبه " وإن له عندنا لزلفى " لقربة " وحسن مآب " أي المرجع في الآخرة وروي أن كاتبا كان يكتب قوله تعالى " وخر راكعا وأناب " وكان تحت شجرة فقرأها وكتبها فخرت الشجرة ساجدة لله تعالى وهي تقول اللهم اغفر بها ذنبا وخرت الدواة ساجدة كذلك وهي تقول اللهم أحطط عني بها وزرا وكذلك الصحيفة التي في يده وهي تقول اللهم أحدث مني بها شكرا
وعن ابن عباس قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها وهي تقول اللهم اكتب لي بها عندك أجرا وضع عني بها وزرا واجعلها لي عندك ذخرا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود
قال ابن عباس فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم آية سجدة ثم سجد فسمعته وهو يقول مثلما أخبره الرجل عن قول الشجرة
وأيضا سئل ابن عباس عن سجدة " ص " من أين سجدت قال أما تقرأ هذه الآية " ومن ذريته داود وسليمان " ثم قال " فبهداهم اقتده " فكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدى به فسجدها داود فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتداء به(3/157)
158
قوله عز وجل " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض " يعني أكرمناك بالنبوة وجعلناك خليفة والخليفة الذي يقوم مقام الذي قبله فقام مقام الخلفاء الذين قبله وكان قبله النبوة في سبط والملك في سبط آخر فأعطاهما الله تعالى لداود
" فاحكم بين الناس بالحق " يعني بالعدل " ولا تتبع الهوى " أي لا تمل إلى هوى نفسك فتقضي بغير عدل
ويقال لا تعمل بالجور في القضاء " ولا تتبع الهوى " كما اتبعت في بتشايع وهي امرأة أوريا " فيضلك عن سبيل الله " يعني عن طاعة الله تعالى
ويقال يعني الهوى يستزلك عن دين الله " إن الذين يضلون عن سبيل الله " يعني عن دين الله الإسلام " لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " يعني بما تركوا من العمل ليوم القيامة فلم يخافوه
ويقال بما تركوا الإيمان بيوم القيامة
سورة ص 27 - 29
قوله عز وجل " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما " من الخلق " باطلا " يعني عبثا لغير شيء بل خلقناهما لأمر هو كائن " ذلك ظن الذين كفروا " يعني يظنون أنهما خلقتا لغير شيء وأنكروا البعث " فويل للذين كفروا من النار " يعني جحدوا من النار يعني من عذاب النار
ثم قال " أم نجعل الذي آمنوا وعملوا الصالحات " وذلك أن كفار مكة قالوا إنا نعطى في الآخرة من الخير أكثر مما تعطون فنزل " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات " في الثواب " كالمفسدين في الأرض " يعني كالمشركين
وقال في رواية الكلبي نزلت في مبارزي يوم بدر " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات " عليا وحمزة وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم " كالمفسدين في الأرض " يعني عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد
ويقال نزلت في جميع المسلمين وجميع الكافرين يعني لا نجعل جزاء المؤمنين كجزاء الكافرين في الدنيا والآخرة كما قال في آية أخرى " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ءامنوا وعملوا الصالحات سواء " [ الجاثية 21 ]
ثم قال عز وجل " أم نجعل المتقين كالفجار " يعني كالكفار في الثواب اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الوعيد
ثم قال عز وجل " كتاب أنزلناه إليك مبارك " يعني أنزلنا جبريل عليه السلام به إليك " مبارك " يعني كتاب مبارك فيه مغفرة للذنوب لمن آمن به وصدقه وعمل بما فيه " ليدبروا آياته " لكي يتفكروا آياته
قرأ عاصم في إحدى الروايتين " لتدبروا " بالتاء مع النصب وتخفيف الدال وهو بمعنى لتتدبروا
فحذفت إحدى التاءين وتركت الأخرى خفيفة وقراءة(3/158)
159
العامة " ليدبروا " بالياء وتشديد الدال
وهو بمعنى ليتدبروا فأدغمت التاء في الدال وشددت
ثم قال عز وجل " وليتذكر " يعني وليتعظ بالقرآن " أولو الألباب " يعني ذوي العقول من الناس
سورة ص 30 - 34
قوله عز وجل " ووهبنا لداود سليمان " يعني أعطينا لداود سليمان
وروي عن ابن عباس أنه قال أولادنا من مواهب الله عز وجل لنا
ثم قرأ و " يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور " [ الشورى 49 ] فوهب الله تعالى لداود سليمان " نعم العبد إنه أواب " يعني مقبلا إلى طاعة الله تعالى
قوله عز وجل " إذ عرض عليه بالعشي " يعني في آخر النهار " الصافنات الجياد " يعني الخيل
قال الكلبي ومقاتل صفن الفرس إذا رفع إحدى رجليه فيقوم على طرف حافره
وقال أهل اللغة الصافن الواقف من الخيل
وفي الخبر ( من أحب أن يقوم له الرجال صفوفا فليتبوأ مقعده من النار ) يعني يديمون له القيام والجياد الحسان
ويقال الإسراع في المشي
وقال ابن عباس في رواية الكلبي إن أهل دمشق من العرب وأهل نصيبين جمعوا جموعا وأقبلوا ليقاتلوا سليمان فقهرهم سليمان وأصاب منهم ألف فرس عراب فعرضت على سليمان الخيل فجعل ينظر إليها ويتعجب من حسنها حتى شغلته عن صلاة العصر وغربت الشمس ثم ذكرها بعد ذلك فغضب وقال " ردوها علي " فضرب سوقها وأعناقها بالسيف حتى عقر منها تسعمائة فرس وهي التي كانت عرضت عليه وبقيت مائة فرس لم تعرض عليه فما كان في أيدي الناس فهو منها من نسل المائة الباقية
" فقال إني أحببت حب الخير " يعني آثرت حب المال " عن ذكر ربي " يعني عن الصلاة وهي صلاة العصر " حتى توارت بالحجاب " يعني حتى غابت الشمس وهذا إضمار لما لم يسبق ذكرها يعني ذكر الشمس لأن في الكلام دليلا فاكتفى بالإشارة عن العبارة
قوله عز وجل " ردوها علي " يعني قال سليمان ردوا الخيل علي فردت عليه " فطفق مسحا بالسوق " يعني يضرب السوق وهو جماعة الساق " والأعناق " جمع العنق
وروي عن إبراهيم النخعي قال كانت عشرين ألف فرس
وقال السدي كانت خيل لها أجنحة
وقال أبو الليث يجوز أن يكون مراده في سرعة السير كأن لها أجنحة
وقال بعضهم كانت الشياطين والجن أخرجتها من البحر
وقال عامة المفسرين في قوله " فطفق مسحا بالسوق والأعناق "(3/159)
160
يعني يضرب سوقها وأعناقها
وقال بعضهم لم يعقر ولكن جعل على سوقهن وعلى أعناقهن سمة وجعلها في سبيل الله
قال لأن التوبة لا تكون بأمر منكر
ولكن الجواب عنه أن يقال له يجوز أن يكون ذلك مباحا في ذلك الوقت وإنما أراد بذلك الاستهانة بمال الدنيا لمكان فريضة الله تعالى
قوله عز وجل " ولقد فتنا سليمان " ابتليناه " وألقينا على كرسيه جسدا " يعني شيطانا
قال ابن عباس في رواية أبي صالح إن سليمان أمر بأن لا يتزوج إلا من بني إسرائيل فتزوج امرأة من غير بني إسرائيل فعاقبه الله تعالى فأخذ شيطان يقال له صخر خاتمه وجلس على كرسيه أربعين يوما وقد ذكرنا قصته في سورة البقرة " ثم أناب " يعني رجع إلى ملكه وأقبل على طاعة الله تعالى
وقال الحسن في قوله تعالى " وألقينا على كرسيه جسدا " قال شيطانا
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال سألت كعبا عن قوله " وألقينا على كرسيه جسدا " قال شيطانا
يعني أخذ خاتم سليمان الذي فيه ملكه فقذفه في البحر فوقع في بطن سمكة وانطلق سليمان يطوف فتصدق عليه بسمكة فشواها ليأكل فإذا فيها خاتمه
قوله " ثم أناب " يعني رجع إلى ملكه
وقال وهب بن منبه إن سليمان تزوج امرأة من أهل الكتاب وكان لها عبد فطلبت منه أن يجزرها لعبدها
يعني ينحر الجزور فأجزرها فكره ذلك منه ثم ابتلي بالجسد الذي ألقي على كرسيه
وروى معمر عن قتادة في قوله " وألقينا على كرسيه جسدا " قال كان الشيطان جلس على كرسيه أربعين ليلة حتى رد الله تعالى إليه ملكه
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله " وألقينا على كرسيه جسدا " قال شيطان يقال له صخر
قال له سليمان يوما كيف تفتنون الناس فقال له أرني خاتمك أخبرك
فلما أعطاه إياه نبذه في البحر فذهب ملكه وقعد صخر على كرسيه ومنعه الله تعالى نساء سليمان فلم يقربهن
فأنكرته أم سليمان أهو سليمان أم آصف فكان يقول أنا سليمان
فيكذبونه حتى أعطته امرأة يوما حوتا فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه ودخل صخر البحر فارا
وذكر شهر بن حوشب نحو هذا وقال لما جلس سليمان على سريره بعث في طلب صخر فأتي به فأمر به فقورت له صخرة وأدخله فيها ثم أطبق عليها وألقاه في البحر وقال هذا سجنك إلى يوم القيامة
وقال بعضهم هذا التفسير الذي قاله هؤلاء الذين ذكروا أنه شيطان لا يصح لأنه لا يجوز من الحكيم أن يسلط شيطانا من الشياطين على أحكام المسلمين ويجلسه على كرسي نبي من الأنبياء عليهم السلام ولكن تأويل الآية والله أعلم أن سليمان كان له ابن فجاء ملك الموت يوما زائرا لسليمان فرآه ابنه فخافه وتغير لونه ومرض من هيبته فأمر سليمان عليه السلام الريح بأن تحمل ابنه فوق السحاب ليزول ذلك
عنه فلما رفعته الريح فوق السحاب ودنا أجله فقبض ابنه وألقي على كرسيه فذلك قوله " وألقينا على كرسيه(3/160)
161
جسدا ) يعني ابنه الميت
قال والدليل على ذلك أن الجسد في اللغة هو الميت الذي لا يأكل الطعام والشراب كالميت ونحوه
وذكر أن سليمان جزع على ابنه إذ لم يكن له ابن إلا إياه فدخل عليه ملكان فقال أحدهما إن هذا مشى في زرعي فأفسده فقال له سليمان لم مشيت في زرعه فقال لأن هذا الرجل زرع في طريق الناس ولم أجد مسلكا غير ذلك
فقال سليمان للآخر لم زرعت في طريق الناس أما علمت أن الناس لا بد لهم من طريق يمشون فيه فقال لسليمان صدقت
لم ولدت على طريق الموت أما علمت أن ممر الخلق على الموت ثم غابا عنه
فاستغفر سليمان فذلك قوله " ثم أناب " يعني تاب ورجع إلى طاعة الله عز وجل
سورة ص 35 - 40
قوله عز وجل " قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي " قال سعيد بن جبير أعطني ملكا لا تسلبه كما سلبت المرة الأولى
ويقال إنما تمنى ملكا لا يكون لأحد من بعده حتى يكون ذلك معجزة له وعلامة لنبوته
" إنك أنت الوهاب " يعني المعطي الملك
قوله عز وجل " فسخرنا له الريح تجري بأمره " وكان من قبل ذلك لم تسخر له الريح والشياطين فلما دعا بذلك سخرت له الريح والشياطين
فقال " فسخرنا له الريح تجري بأمره " يعني بأمر سليمان
ويقال بأمر الله تعالى " رخاء " يعني لينة مطيعة " حيث أصاب " يعني حيث أراد من الأرض والنواحي " أصاب " يعني أراد
وقال الأصمعي العرب تقول أصاب الصواب فأخطأ الجواب يعني أراد الصواب وأخطأ الجواب
" والشياطين " يعني سخرنا له كل شيء وسخرنا له الشياطين أيضا " كل بناء وغواص " يعني يغوصون في البحر ويستخرجون اللؤلؤ وقال مقاتل وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر " وآخرين مقرنين " يعني مردة الشياطين موثقين " في الأصفاد " يعني في الحديد ويقال " الأصفاد " الأغلال
ثم قال عز وجل " هذا عطاؤنا " يعني هذا عطاؤنا لك وكرامتنا عليك " فامنن " يعني اعتق من شئت منهم فخل سبيله من الشياطين " أو أمسك " يعني احبس في العمل والوثاق والسلاسل من شئت منهم " بغير حساب " أي فلا تبعة عليك في الآخرة فيمن أرسلته وفيمن حبسته
ويقال ليس عليك بذلك إثم " وإن له عندنا لزلفى " يعني لقربى " وحسن مآب " يعني حسن المرجع
سورة ص 41(3/161)
162
سورة ص 42 - 44
قوله عز وجل " واذكر عبدنا أيوب " يعني واذكر صبر عبدنا أيوب " إذ نادى ربه " يعني دعا ربه " أني مسني الشيطان " يعني أصابني الشيطان " بنصب وعذاب " وهو المشقة والعناء والأمراض وعذاب في ماله
يعني هلاك أهله وماله وقد ذكرناه في سورة الأنبياء
قوله عز وجل " اركض برجلك هذا " يعني قال له جبريل عليه السلام اضرب الأرض برجلك فضرب فنبعت عين من تحت قدميه فاغتسل منها فخرج منها صحيحا ثم ضرب برجله الأخرى فنبعت عين أخرى ماء عذب بارد فشرب منها فذلك قوله " هذا مغتسل " يعني الذي اغتسل منها
ثم قال " بارد وشراب " يعني الذي شرب منها
قوله عز وجل " ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب وخذ بيدك ضغثا " يعني قبضة من سنبل فيها مائة سنبلة
وقال الكلبي " ضغثا " أي مجتمعا
وقال مقاتل الضغث القبضة الواحدة فأخذ عيدانا رطبة وهي الآس فيه مائة عود
وقال القتبي الضغث الحزمة من الكلأ أو العيدان " فاضرب به " يعني اضرب به امرأتك " ولا تحنث " في يمينك
وقال الزجاج قالت امرأته لو ذبحت عناقا باسم الشيطان فقال لا ولا كفا من تراب وحلف أنه يضربها مائة سوط وأمر بأن يبر في يمينه " إنا وجدناه صابرا " على البلاء الذي ابتليناه " نعم العبد إنه أواب " يعني مقبلا على طاعة ربه
وقال وهب بن منبه أصاب أيوب البلاء سبع سنين ومكث يوسف في السجن سبع سنين ويقال لأنه أواب لما هلك ماله قال كان ذلك من عطاء الله
ولما هلك أولاده قال إن لله وإن إليه راجعون
ولما ابتلي بالنفس قال أنى له ويقال واذكر أنت يا محمد صبر عبدنا أيوب إذ ضاق صدرك من أذى الكفار وأمر أمتك ليذكروا صبره ويعتبروا ويصبروا
سورة ص 45 - 54
ثم قال عز وجل " واذكر عبادنا إبراهيم " قرأ ابن كثير " واذكر عبدنا " بغير ألف وقرأ(3/162)
163
الباقون " عبادنا " بالألف
فمن قرأ عبدنا فمعناه " واذكر عبدنا إبراهيم " فجعل العبد نعتا لإبراهيم خاصة فكأنه قال " واذكر عبدنا إبراهيم " " و " اذكر " إسحاق ويعقوب "
ومن قرأ " عبادنا " يعني ما بعده مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب " أولي الأيدي والأبصار " يعني أولي القوة في العبادة والأبصار يعني ذوي البصر في أمر الله تعالى
قوله عز وجل " إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار " يعني اختصصناهم بذكر الله تعالى وبذكر الجنة وليس لهم هم إلا هم الآخرة
ويقال معناه واذكر صبر إبراهيم وصبر إسحاق وصبر يعقوب ولم يذكر صبر إسماعيل لأنه لم يبتل بشيء
قرأ نافع " بخالصة " بغير تنوين على معنى الإضافة
وقرأ الباقون بالتنوين
وروى مالك بن دينار قال نزع الله ما في قلوبهم من حب الدنيا وذكرها وقد أخلصهم بحب الآخرة وذكرها
ومن قرأ " بخالصة " بالتنوين جعل قوله " ذكرى الدار " بدلا من خالصة والمعنى " إنا أخلصناهم " بذكر الدار والدار هاهنا دار الآخرة يعني جعلناهم لنا خالصين بأن جعلناهم يكثرون ذكر الدار الآخرة والرجوع إلى الله تعالى
ثم قال عز وجل " وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار " يعني المختارين بالرسالة الأخيار في الجنة
ثم قال " واذكر إسماعيل " قال مقاتل واذكر صبر إسماعيل وهو أشمويل بن هلقانا
وقال غيره هو إسماعيل بن إبراهيم يعني اذكر لقومك إسماعيل وصدق وعده " واليسع وذا الكفل " " واليسع " كان خليفة إلياس " وذا الكفل " كفل مائة نبي أطعمهم وكساهم " وكل من الأخيار هذا ذكر " يعني هذا الذي ذكرنا من الأنبياء عليهم السلام في هذه السورة " ذكر " يعني بيان لعظمته " وإن للمتقين " من هذه الأمة " لحسن مآب " يعني حسن المرجع
ثم وصف الجنة فقال عز وجل " جنات عدن مفتحة لهم الأبواب " يعني تفتح لهم الأبواب فيدخلونها
يعني الجنة كما قال تعالى في آية أخرى " حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها " [ الزمر 73 ] فإذا دخلوها وجلسوا على السرر وكانوا " متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب " يعني ألوان الفاكهة والشراب " وعندهم قاصرات الطرف " يعني غاضات أعينهن عن غير أزواجهن " أتراب " يعني ذات أقران يعني مستويات على سن واحد " هذا ما توعدون ليوم الحساب " يقول إن هذا الثواب الذي توعدون بأنه يكون لكم في يوم الحساب
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على معنى الإخبار وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة
يقول الله تعالى " إن هذا لرزقنا " يعني هذا الذي ذكرنا لعطاؤنا للمتقين " ما له من نفاد " يعني لا يكون له فناء ولا انقطاع عنهم وهذا كما قال تعالى في آية أخرى " لا مقطوعة ولا ممنوعة " [ الواقعة 33 ] ثم قال " هذا " يعني
هذا الرزق للمتقين فيتم الكلام عند قوله " هذا "(3/163)
164
سورة ص 55 - 60
ثم ذكر ما أوعد الكفار فقال عز وجل " وإن للطاغين لشر مآب " يعني للكافرين لبئس المرجع في الآخرة
ثم بين مرجعهم فقال عز وجل " جهنم يصلونها " يعني يدخلونها " فبئس المهاد " يعني فبئس موضع القرار " هذا " يعني العذاب " فليذوقوه حميم وغساق " وهو ماء حار قد انتهى حره
قرأ حمزة والكسائي وحفص " غساق " بتشديد السين وقرأ الباقون بالتخفيف وعن عاصم روايتان
فمن قرا بالتشديد فهو بمعنى سيال وهو ما يسيل من جلود أهل النار
ومن قرأ بالتخفيف جعله مصدر غسق يغسق غساقا أي سال
وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنهما قرآ " غساق " بالتشديد وفسراه بالزمهرير
وقال مقاتل " الغساق " البارد الذي انتهى برده
وقال الكلبي الحميم هو ماء حار قد انتهى حره وأما غساق فهو الزمهرير يعني برد يحرق كما تحرق النار
وقال بعضهم الغساق المنتن بلفظ التخاوية
ثم قال عز وجل " وأخر من شكله أزواج " يعني وعذاب آخر من نحوه يعني من نحو الحميم والزمهرير
قرأ أبو عمر وابن كثير في إحدى الروايتين " وأخر من شكله " بضم الألف وقرأ الباقون " وآخر " بالنصب فمن قرأ بالضم فهو لفظ الجماعة ومعناه وأنواع أخر ومن قرأ " وأخر " بنصب الألف بلفظ الواحد يعني وعذاب آخر من شكله أي مثل عذابه الأول " أزواج " يعني ألوان " هذا فوج مقتحم معكم " يعني جماعة داخلة معكم النار
يقال اقتحم إذا دخل في المهالك وأصله الدخول
فتقول الخزنة للقادة وهذه جماعة داخلة معكم النار وهم الأتباع " لا مرحبا بهم " يعني لا وسع الله لهم " إنهم صالوا النار " يعني داخل النار معكم فردت الأتباع على القادة " قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم " يعني لا وسع الله عليكم " أنتم قدمتموه لنا " يعني أسلفتموه لنا وبدأتم بالكفر قبلنا فاتبعناكم " فبئس القرار " يعني بئس موضع القرار في النار
سورة ص 61 - 64
قوله عز وجل " قالوا ربنا من قدم لنا هذا " يعني هذا الأمر الذي كنا فيه " فزده عذابا ضعفا في النار وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار " يعني فقراء المسلمين
قوله عز وجل " أتخذناهم سخريا " قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو " سخريا(3/164)
165
اتخذناهم ) بالوصل وقرأ الباقون " اتخذناهم " بالقطع
فمن قرأ بالقطع فهو على معنى الاستفهام بدليل قوله " أم زاغت عنهم الأبصار " لأن " أم " تدل على الاستفهام
ومن قرأ بالوصل فمعناه أنا " اتخذناهم سخريا " وجعل " أم " بمعنى بل
وقرأ حمزة والكسائي ونافع " سخريا " بضم السين وقرأ الباقون بالكسر
قال القتبي فمن قرأ بالضم جعله من السخرة يعني تستذلهم
ومن قرأ بالكسر فمعناه إنا كنا نسخر منهم
ثم قال " أم زاغت عنهم الأبصار " يعني مالت وحادت أبصارنا عنهم فلا نراهم
قال الله سبحانه وتعالى " إن ذلك لحق تخاصم أهل النار " يعني يتكلم به أهل النار ويتخاصمون فيما بينهم
سورة ص 65 - 70
" قل " يا محمد " إنما أنا منذر " يعني رسول أخوفكم عذاب الله تعالى وأبين لكم أن الله تعالى واحد " وما من إله إلا الله الواحد القهار " يعني قاهر لخلقه " رب السموات والأرض وما بينهما العزيز " بالنقمة " الغفار " للمؤمنين
قوله عز وجل " قل هو نبأ عظيم " يقول القرآن حديث عظيم لأنه كلام رب العالمين " أنتم عنه معرضون " يعني تاركون فلا تؤمنون به وقال الزجاج " قل هو نبأ عظيم " يعني قل إن النبأ الذي أنبأتكم عن الله عز وجل " نبأ عظيم " فيه دليل نبوتي مما ذكر فيه من قصة آدم عليه السلام فإن ذلك لا يعرف إلا بوحي أو بقراءة كتب ولم يكن قرأ الكتب
ثم قال " ما كان لي من علم بالملأ الأعلى " يعني الملائكة عليهم السلام " إذ يختصمون " يعني يتكلمون حين قالوا " أتجعل فيها من يفسد فيها " [ البقرة 30 ] وإنما عرفت ذلك بالوحي
" إن يوحى إلي " يعني مايوحي إلي " إلا أنما أنا نذير مبين " إلا أنا رسول بين
سورة ص 71 - 76
ثم قال عز وجل " إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين " يعني آدم " فإذا(3/165)
166
سويته ) يعني جمعت خلقه " ونفخت فيه من روحي " يعني وجعلت الروح فيه " فقعوا له ساجدين " يعني اسجدوا له " نسجد الملائكة كلهم أجمعون " سجدوا كلهم دفعة واحدة " إلا إبليس " أبى عن السجود " استكبر وكان من الكافرين " يعني صار من الكافرين " قال يا إبليس ما منعك " يعني يا خبيث " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " يعني الذي خلقته بيدي
قال بعضهم نؤمن بهذه الآية ونقرؤها هنا ولا نعرف تفسيرها
يعني قوله " بيدي "
وقال بعضهم تفسيرها كما قال الله تعالى " خلقته بيدي "
ولا نفسر اليد ونقول يد لا كالأيدي
وهذا قول أهل السنة والجماعة
وقال بعضهم نفسرها بما يليق من صفات الله تعالى يعني خلقه بقدرته وقوته وإرادته
فإن قيل قد خلق الله عز وجل سائر الأشياء بقوته وقدرته وإرادته فما الفائدة في التخصيص هاهنا قيل له قد قدذكر اليد في خلق سائر الأشياء أيضا وهو قوله " أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما " [ يس 71 ] ويقال " لما خلقت بيدي " أي بقوتي قوة العلم وقوة القدرة
ويقال " خلقت بيدي " أي بماء السماء وتراب الأرض كما قال عليه السلام خلق الله الخلق من ماء وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل حرف منها ظهر وبطن
وكذلك الأخبار قد جاء فيها أيضا ما له ظهر وبطن وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا تقولوا فلان قبيح فإن الله عز وجل خلق آدم على صورته )
ومن قال إن الله صورة كصورة آدم فهو كافر ولكن المعنى في الخبر ما روي عن بعض المتقدمين أنه قال إن الله تبارك وتعالى اختار من الصور صورة وخلق آدم عليه السلام بتلك الصورة فمن ذلك قال ( إن الله تعالى خلق آدم على صورته ) أي على تلك الصورة التي اختارها الله
روى شبل عن ابن كثير أنه قرأ " بيدي استكبرت " موصولة الألف وقراءة العامة بقطع الألف على الاستفهام بدليل قوله عز وجل " أم كنت من العالين " ومن قرأ موصولة فهو على معنى الوجوب وتكون " أم " بمعنى بل " استكبرت " يعني تعظمت عن السجود " أم كنت من العالين " بل كنت من العالين يعني من المخالفين لأمري
" قال " إبليس " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين "
سورة ص 77 - 84(3/166)
167
سورة ص 85 - 88
قوله عز وجل " قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم " وقد ذكرناه من قبل
" قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال " الله تعالى " فالحق والحق أقول " يقال معناه قولي الحق
وأقول الحق والحق قولي قرأ حمزة وعاصم " فالحق " بالضم القاف وقرأ الباقون بالنصب واتفقوا في الثاني أنه بالنصب
فمن قرأ بالضم فمعناه أنا الحق والحق أقول
ويقال فمعناه فالحق مني والحق أقول
ويقال معناه فقولنا الحق وأقول الحق " لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " يعني من ذريتك ومن تبعك في دينك
ومن قرأ بالنصب فهو على معنى الإغراء
يعني الزموا الحق واتبعوا الحق
ثم قال " والحق أقول " يعني وأقول الحق كقوله عز وجل " ومن أصدق من الله قيلا " [ النساء 122 ] ثم قال عز وجل " لأملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " يعني من ذريتك ومن تبعك في دينك
ثم قال عز وجل " قل " يا محمد " ما أسألكم عليه " يعني على الذي أتيتكم به من القرآن " من أجر " ولكن أعلمكم بغير أجر " وما أنا من المتكلفين " يعني ما أتيتكم به من قبل نفسي وما تكلفته من تلقاء نفسي " إن هو " يعني ما هذا القرآن " إلا ذكر للعالمين " يعني إلا عظة للجن والإنس " ولتعلمن نبأه بعد حين " يعني خبر هذا القرآن أنه حق بعد حين يعني بعد الموت
ويقال بعد الإسلام ويقال بعد ظهور الإسلام والله أعلم بالصواب(3/167)
168
سورة الزمر
مكية وهي سبعون وخمس آيات
سورة الزمر 1 - 3
قول الله تعالى " تنزل الكتاب من الله " يعني القرآن صار رفعا بالابتداء وخبره " من الله " تعالى " العزيز "
أي نزل الكتاب من عند " الله العزيز " يعني المنيع بالنقمة " الحكيم " في أمره
ومعناه نزل جبريل بهذا القرآن من عند الله " العزيز الحكيم " وقال بعضهم صار رفعا لمضمر فيه ومعناه هذا الكتاب تنزيل
قوله تعالى " إنا أنزلنا إليك الكتاب " يعني أنزلنا إليك جبريل بالكتاب " بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين " يعني استقم على التوحيد وعلى عبادة الله تعالى مخلصا وإنما خاطبه والمراد به قومه
يعني وحدوا الله تعالى ولا تقولوا مع الله شريكا
ثم قال " ألا لله الدين الخالص " يعني له الولاية والوحدانية
ويقال له " الدين الخالص " والخالص هو دين الإسلام فلا يقبل غيره من الأديان لأن غيره من الأديان ليس هو بخالص سوى دين الإسلام
قوله عز وجل " والذين اتخذوا من دونه أولياء " يعني عبدوا من دونه أربابا وأوثانا " ما نعبدهم " يعني يقولون ما نعبدهم
وروي عن عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب أنهما كانا يقرآن " والذين اتخذوا من دونه ما نعبدهم " على وجه الإضمار لان في الكلام دليلا عليه " إلا ليقربونا إلى الله زلفى " يعني ليشفعوا لنا ويقربونا عند الله
ويقال " ليقربونا إلى الله زلفى " يعني منزلة
يقول الله تعالى " إن الله يحكم بينهم " يعني يقضي بينهم يوم القيامة " فيما هم فيه يختلفون " من الدين
ثم قال عز وجل " إن الله لا يهدي من هو كاذب " يعني لا يرشد إلى دينه " من هو كاذب " يعني في قوله الملائكة بنات الله وعيسى ابن الله " كفار " يعني كفروا بالله بعبادتهم(3/168)
169
إياهم
ويقال معناه لا يوفق لتوحيده من هو كاذب على الله حتى يترك كذبه ويرغب في دين الله
سورة الزمر 4 - 5
قوله عز وجل " لو أراد الله أن يتخذ ولدا " كما قلتم " لاصطفى " يعني لاختار من الولد " مما يخلق ما يشاء " من خلقه إن فعل ذلك
ثم قال " سبحانه " نزه نفسه عن الولد وعن الشريك " هو الله الواحد القهار " يعني الذي لا شريك له " القهار " يعني القاهر لخلقه
ثم بين ما يدل على توحيده ويعجز عنه المخلوقون قوله عز وجل " خلق السموات والأرض بالحق " يعني للحق ولم يخلقهما باطلا لغير شيء " يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل " قال مجاهد يعني يدور الليل على النهار " ويكور النهار على الليل " يعني يدور النهار على الليل
وقال مقاتل " يكور " يعني يسلط عليه وهو انتقاص كل واحد منهما من صاحبه
وقال الكلبي " يكور " يعني يزيد من النهار إلى الليل فيكون الليل أطول من النهار ويزيد من الليل في النهار فيكون النهار أطول من الليل
هذا يأخذ من هذا وهذا يأخذ من هذا
وقال القتبي " يكور " يعني يدخل هذا على هذا وأصل التكوير اللف والجمع ومنه كور العمامة ومنه قوله " إذ الشمس كورت " [ التكوير 1 ] وقال " وسخر الشمس والقمر " يعني ذلك ضوء الشمس والقمر للخلق " كل يجري لأجل مسمى " يعني إلى أقصى منازله
ويقال إلى يوم القيامة
" ألا هو العزيز الغفار " يعني " العزيز " بالنقمة لمن لم يتب " الغفار " لمن تاب
ويقال " العزيز " في ملكه " الغفار " لخلقه بتأخير العذاب
سورة الزمر 6 - 7
قوله عز وجل " خلقكم من نفس واحدة " يعني من نفس آدم عليه السلام " ثم جعل منها زوجها " حواء " وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج " يعني ثمانية أصناف وقد فسرناه في
سورة الجاثية 32 - 37
وقال تعالى " وإذا قيل إن وعد الله حق " يعني إذا قال لكم الرسل في الدنيا إن البعث بعد الموت حق " والساعة لا ريب فيها " يعني لا شك فيها
قرأ حمزة " والساعة " بالنصب عطف على قوله " إن وعد الله حق وإن الساعة " وقرأ الباقون بالضم ومعناه وإذا قيل " إن وعد الله حق " وقيل " والساعة لا ريب فيها " أي لا شك فيها " قلتم ما ندري ما الساعة " يعني ما القيامة وما البعث " إن نظن إلا ظنا " يعني قلتم ما نظن إلا ظنا غير اليقين " وما نحن بمستيقنين " أنها كائنة
قوله عز وجل " وبدا لهم " يعني ظهر لهم " سيئات ما عملوا " يعني عقوبات ما عملوا في الدنيا
ويقال تشهد عليهم جوارحهم " وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون " يعني نزل بهم العذاب ووجب عليهم العذاب باستهزائهم أنه غير نازل بهم " وقيل " يعني قالت لهم الخزنة " اليوم ننساكم " يعني نترككم في النار
" كما نسيتم لقاء يومكم هذا " يعني كما تركتم الإيمان والعمل لحضور يومكم هذا
" ومأواكم النار " يعني مثواكم ومستقركم النار " وما لكم من ناصرين " يعني ليس لكم مانع يمنعكم مما نزل بكم من العذاب يعني هذا العذاب " ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا " فلم تؤمنوا بها " وغرتكم الحياة الدنيا " يعني ما في الدنيا من زينتها وزهرتها " فاليوم لا يخرجون منها " قرأ حمزة والكسائي بنصب الياء فيجعلان الفعل لهم
والباقون بالضم على فعل ما لم يسم فاعله
" ولا هم يستعتبون " يعني لا يرجعون إلى الدنيا
وقال الكلبي لا يعاتبون بعد هذا القول ويتركون في النار
ويقال لا يراجعون الكلام بعد دخولهم النار " فلله الحمد " يعني عند ذلك يحمد المؤمنون الله في الجنة
كقوله " الحمد لله الذي صدقنا وعده " [ الزمر 74 ] ويقال " فلله الحمد " يعني له آثار الحمد فعلى جميع الخلق أن يحمدوه
ويقال " فلله الحمد " يعني الألوهية والربوبية " رب السموات " يعني لرب السماوات " ورب الأرض " يعني لرب الأرض " رب العالمين " يعني لرب جميع الخلق الحمد والثناء " وله الكبرياء " يعني العظمة والقدرة والسلطان والعزة " في السموات والأرض وهو العزيز " في ملكه " الحكيم " في أمره وقضائه سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم(3/169)
170
سورة الأنعام " يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق " يعني خلقكم خلقا من خلق يعني نطفة ثم علقة ثم مضغة حالا بعد حال " في ظلمات ثلاث " يعني ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة وهو الذي يكون فيه الولد في الرحم فتخرج بعد ما يخرج الولد " ذلكم الله ربكم " يعني الذي خلق هذه الأشياء هو ربكم " له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون " يعني من أين تكذبون على الله ومن أين تعدلون عنه إلى غيره بعدما علموا أنه خالق هذه الأشياء
ثم قال " إن تكفروا " يعني أن تجحدوا وحدانيته " فإن الله غني عنكم " يعني عن إقراركم وعبادتكم " ولا يرضى لعباده الكفر " قال الكلبي يعني ليس يرضى من دينه الكفر
ويقال " لا يرضى لعباده الكفر " وهو ما قاله لإبليس " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " [ الحجر 42 ]
ويقال " لا يرضى لعباده الكفر " يعني بشيء من عبادة الكفر " وإن تشكروا يرضه لكم " يعني إن تؤمنوا بالله وتوحدوه " يرضه لكم " يعني يقبله منكم لأنه دينه " ولا تزر وازرة وزر أخرى " يعني لا يؤاخذ أحد بذنب غيره " ثم إلى ربكم مرجعكم " يعني مصيركم في الآخرة " فينبئكم " يعني فيخبركم " بما كنتم تعملون " من خير أو شر فيجازيكم " إنه عليم بذات الصدور " يعني عالما بما في ضمائر قلوبهم
سورة الزمر 8 - 9
قوله عز وجل " وإذا مس الإنسان ضر " يعني أصاب الكافر شدة في جسده " دعا ربه منيبا إليه " يعني مقبلا إليه بدعائه " ثم إذا خوله نعمة منه " قال مقاتل يعني أعطاه وقال الكلبي يعني بدله العافية مكان البلاء " نسي " ترك الدعاء الذي " ما كان يدعو إليه من قبل " ويتضرع به " وجعل لله أندادا " يعني يصف لله شريكا " ليضل عن سبيله "
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " ليضل " بنصب الياء وهو من ضل يضل يعني ترك الهدى
وقرأ الباقون " ليظل " بالضم يعني ليضل الناس
ويقال ليضل نفسه بعبادة غير الله ويصرفهم عن سبيل الله يعني عن دين الله " قل تمتع بكفرك قليلا " يعني عش في الدنيا مع كفرك قليلا " إنك من أصحاب النار " يعني من أهل النار
قوله عز وجل " أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما " وأصل القنوت هو القيام ثم سمي المصلي فانتا لأنه بالقيام يكون ومعناه أمن هو مصل كمن لا يكون مصليا على وجه(3/170)
171
الإضمار
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت القائم ) يعني المصلي القائم
قرأ ابن كثير ونافع وحمزة " أمن " بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد
فمن قرأ بالتخفيف فقد روي عن الفراء أنه قال معناه يا من هو قانت كما تقول في الكلام فلان لا يصوم ولا يصلي فيا من يصلي ويصوم أبشر
فكأنه قال يا من هو قانت أبشر
ومن قرأ بالتشديد فإنه يريد به معنى الذي ومعناه الذي هو من أصحاب النار فهذا أفضل أم الذي هو قانت آناء الليل يعني ساعات الليل في الصلاة ساجدا وقائما يعني في الصلاة " يحذر الآخرة " يعني يخاف عذاب الآخرة " ويرجو رحمة ربه " يعني مغفرة الله تعالى
" قل هل يستوي الذين يعلمون " وهم المؤمنون " والذين لا يعلمون " وهم الكفار في الثواب والطاعة ويقال " قل هل يستوي الذين يعلمون " يعني يصدقون بما وعد الله في الآخرة من الثواب " والذين لا يعلمون " يعني لا يصدقون
ويقال معناه قل هل يستوي العالم والجاهل فكما لا يستوي العالم والجاهل كذلك لا يستوي المطيع والعاصي
" إنما يتذكر أولو الألباب " يعني يعتبر في صنعي وقدرتي من له عقل وذهن
سورة الزمر 10
قوله عز وجل " قل يا عباد الذين آمنوا " يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " اتقوا ربكم " يعني اخشوا ربكم في صغير الأمور وكبيرها واثبتوا على التوحيد
ثم قال " للذين أحسنوا في هذه الدنيا " يعني من عمل بالطاعة في الدنيا " حسنة " له الجنة في الآخرة
ويقال " للذين أحسنوا " يعني شهدوا أن لا إله إلا الله في الدنيا " حسنة " يعني لهم الجنة في الآخرة
ويقال " للذين أحسنوا " أي ثبتوا على إيمانهم فلهم الجنة
قوله " وأرض الله واسعة " قال مقاتل يعني الجنة واسعة وقال الكلبي " وأرض الله واسعة " يعني المدينة فتهاجروا فيها يعني انتقلوا إليها واعملوا لآخرتكم " إنما يوفى الصابرون أجرهم " يعني الذين يصبرون على طاعة الله في الدنيا جزاؤهم وثوابهم " بغير حساب " يعني بلا عدد ولا انقطاع
وروى سفيان عن عبد الملك بن عمير عن جندب بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( أنا فرطكم على الحوض )
قال سفيان لما نزل " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " [ الأنعام 160 ] قال النبي صلى الله عليه وسلم ( رب زد أمتي )
فنزل " مثل الذين(3/171)
172
ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل ) [ البقرة 261 ] قال ( رب زد أمتي ) فنزل " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " [ البقرة 245 ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( رب زد أمتي ) فنزل " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
سورة الزمر 11 - 16
قوله عز وجل " قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين " وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألا تنظر إلى ملة أبيك عبد الله وملة جدك عبد المطلب وسادات قومك يعبدون الأصنام فنزل " قل " يا نبي الله صلى الله عليه وسلم " إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين " يعني التوحيد " وأمرت لأن أكون أول المسلمين " من أهل بلدي
قوله عز وجل " قل إني أخاف إن عصيت ربي " وعبدت غيره ينزل علي " عذاب يوم عظيم " يعني في يوم القيامة " قل الله أعبد " يعني أعبد الله " مخلصا له ديني " يعني توحيدي
" فاعبدوا ما شئتم من دونه " من الآلهة
وهذا كقوله " لكم دينكم ولي دين " [ الكافرون 6 ] ويقال " فاعبدوا ما شئتم من دونه " لفظه لفظ التخيير والأمر والمراد به التهديد والتخويف كقوله " اعملوا ما شئتم من دونه " وكقوله " قل تمتع بكفرك قليلا " ويقال قد بين الله ثواب المؤمنين وعقوبة الكافرين
ثم قال " فاعبدوا ما شئتم من دونه " وذلك قبل أن يؤمر بالقتال فلما أيسوا منه أن يرجع إلى دينهم قالوا خسرت إن خالفت دين آبائك فقال الله تعالى " قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة " يعني إن الخاسرون أنتم لا أنا
ويقال " الذين خسروا أنفسهم " بفوات الدرجات ولزوم الدركات " ألا ذلك هو الخسران المبين " يعني الظاهر حيث خسروا وأهلهم وأزواجهم يعني في الجنة
قوله عز وجل " لهم من فوقهم ظلل من النار " يعني أطباقا من نار " ومن تحتهم ظلل " يعني مهادا من نار أو معناه أن فوقهم نار وتحتهم نار " ذلك يخوف الله به عباده " أي ذلك الذي ذكر يخوف الله به عباده في القرآن لكي يؤمنوا
" يا عباد فاتقون " أي فوحدوني وأطيعوني
سورة الزمر 17 - 18(3/172)
173
سورة الزمر 19 - 20
قوله عز وجل " والذين اجتنبوا الطاغوت " قال مقاتل يعني اجتنبوا عبادة الأوثان
وقال الكلبي " الطاغوت " يعني الكهنة " أن يعبدوها " يعني أن يطيعوها ورجعوا إلى عبادة ربهم " وأنابوا إلى الله " يعني أقبلوا إلى طاعة الله
ويقال رجعوا من عبادة الأوثان إلى عبادة الله " لهم البشرى " يعني الجنة
ويقال الملائكة يبشرونهم في الآخرة " فبشر عباد الذين يستمعون القول " يعني القرآن " فيتبعون أحسنه " يعني يعملون بحلاله وينتهون عن حرامه
وقال الكلبي يعني يجلس الرجل مع القوم فيستمع الأحاديث في محاسن ومساوئ فيتبع أحسنه فيأخذ المحاسن فيحدث بها ويدع مساوئه
ويقال يستمعون القرآن ويتبعون أحسن ما فيه وهو القصاص والعفو يأخذ العفو لقوله " ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " [ النحل 126 ] وقال بعضهم يسمع النداء فيجيب ويسرع إلى الجماعة
وقال بعضهم يسمع الناسخ والمنسوخ والمحكم من القرآن فيعمل بالمحكم ويؤمن بالناسخ والمنسوخ
ثم قال " أولئك الذين هداهم الله " أي وفقهم الله لمحاسن الأمور
ويقال " هداهم الله " أي أكرمهم الله تعالى بدين التوحيد " وأولئك هم أولو الألباب " يعني ذوي العقول
قوله عز وجل " أفمن حق عليه كلمة العذاب " يعني وجب له العذاب ويقال أفمن سبق في علم الله تعالى أنه في النار كمن لا يجب عليه الوعيد
" أفأنت تنقذ من في النار " يعني تستنقذ من هو في علم الله تعالى أنه يكون في النار بعمله الخبيث
ويقال من وجب له النار وقدرت عليه النار
ثم ذكر حال المتقين فقال عز من قائل " لكن الذين اتقوا ربهم " يعني وحدوا ربهم وأطاعوه " لهم غرف من فوقها غرف مبنية " في الجنة وهي العلالي
غرف مبنية مرتفعة بعضها فوق بعض " تجري من تحتها الأنهار وعد الله " في القرآن " لا يخلف الله الميعاد "
سورة الزمر 21
قوله عز وجل " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه " أي فأدخله في الأرض يعني جاريا في الأرض فجعله " ينابيع " يعني عيونا في الأرض تنبع
ويقال " فسلكه ينابيع في الأرض " يعني جاريا في الأرض وهي تجري فيها
ويقال جعل فيها أنهارا وعيونا " ثم(3/173)
174
يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ) أحمر وأصفر وأخضر " ثم يهيج فتراه مصفرا " يعني يتغير فتراه " مصفرا " يعني يابسا بعد الخضرة
ويقال " ثم يهيج " يعني ييبس
ويقال " يهيج " أي يتم ويشتد من هاج يهيج
أي تم يتم " فتراه مصفرا " متغيرا عن حاله " ثم يجعله حطاما " قال القتبي " حطاما " مثل الرفات والفتات
وقال الزجاج الحطام ما تفتت وتكسر من النبت
وقال مقاتل " حطاما " يعني هالكا " إن في ذلك لذكرى " أي فيما ذكر لعظة " لأولي الألباب " يعني لذوي العقول من الناس
سورة الزمر 22 - 23
قوله عز وجل " أفمن شرح الله صدره للإسلام " يعني وسع الله قلبه للإسلام
ويقال لين الله قلبه لقبول التوحيد " فهو على نور من ربه " يعني على هدى من الله تعالى
وجوابه مضمر يعني أفمن شرح الله صدره للإسلام فاهتدى كمن طبع على قلبه وختم على قلبه فلم يهتد
ويقال " فهو على نور من ربه " يعني القرآن لأن فيه بيان الحلال والحرام فهو على نور من ربه لمن تمسك به
ويقال " على نور " يعني التوحيد والمعرفة
وروي في الخبر أنه لما نزلت هذه الآية " أفمن شرح الله صدره للإسلام " قالوا فكيف ذلك يا رسول الله قال ( إذا دخل النور في القلب انفسح وانشرح )
قالوا فهل لذلك علامة قال ( نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله )
ثم قال " فويل " يعني الشدة من العذاب " للقاسية قلوبهم " يعني لمن قست ويبست قلوبهم " من ذكر الله " تعالى
ويقال القاسية الخالية من الخير " أولئك " يعني أهل هذه الصفة " في ضلال مبين " أي في خطأ " مبين " أي بين
قوله عز وجل " الله نزل أحسن الحديث " يعني أحكم الحديث وهو القرآن وذلك أن المسلمين قالوا لبعض مؤمني أهل الكتاب نحو عبد الله بن سلام أخبرنا عن التوراة فإن فيها علم الأولين والآخرين فأنزل الله تعالى " الله نزل أحسن الحديث " يعني أنزل عليكم أحسن الحديث وهو القرآن
ويقال " أحسن الحديث " يعني أحسن من سائر الكتب لأن سائر الكتب صارت منسوخة بالقرآن " كتابا متشابها " يعني يشبه بعضه بعضا ولا يختلف
ويقال " متشابها " يعني موافقا لسائر الكتب في التوحيد وفي بعض الشرائع
وروي عن(3/174)
175
الحسن البصري أنه قال " متشابها " يعني خيارا لا رذالة فيه
ويقال " متشابها " اشتبه على الناس تأويله
ثم قال " مثاني " يعني أن الأنباء والقصص تثنى فيه
ويقال سمي " مثاني " لأن فيه سورة المثاني يعني سورة الفاتحة " الحمد لله رب العالمين "
ثم قال " تقشعر منه " يعني ترتعد مما فيه من الوعيد " جلود الذين يخشون ربهم "
ويقال " تقشعر منه " يعني تتحرك مما في القرآن من الوعيد
ويقال ترتعد منه الفرائص
" ثم تلين جلودهم وقلوبهم " يعني بعد الاقشعرار " إلى ذكر الله " من آية الرحمة والمغفرة
يعني إذا قرأت آيات الرجاء والرحمة تطمئن قلوبهم وتسكن
" ذلك " يعني القرآن " هدى الله يهدي به " يعني بالقرآن " من يشاء " الله أن يهديه إلى دينه " ومن يضلل الله " عن دينه " فما له من هاد " يعني لا يقدر أحد أن يهديه بعد خذلان الله تعالى
سورة الزمر 24 - 26
قوله عز وجل " أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب " يعني أفمن يدفع بوجهه شدة العذاب وجوابه مضمر
يعني هل يكون حاله كحال من هو في الجنة يعني ليس الضال الذي تصل النار إلى وجهه كالمهتدي الذي لا تصل النار إلى وجهه ليسا سواء
وقال أهل اللغة أصل الاتقاء في اللغة الإوتقاء وهو التستر
يعني وجهه إلى النار كالذي لا يفعل ذلك به
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال " أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب " يعني يجر على وجهه في النار قال وهذا كقوله " أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي ءامنا يوم القيامة " [ فصلت 40 ] ويقال " أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب " معناه أنه يلقى في النار مغلولا لا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه " يوم القيامة وقيل للظالمين " يعني للكافرين " ذوقوا ما كنتم تكسبون " من التكذيب
قوله عز وجل " كذب الذين من قبلهم " يعني من قبل قومك رسلهم " فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون " يعني لا يعلمون ولا يحتسبون وهم غافلون
" فأذاقهم الله الخزي " يعني العذاب " في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر " يعني أعظم مما عذبوا به في الدنيا " لو كانوا يعلمون " ولكنهم لا يعلمون
سورة الزمر 27(3/175)
176
سورة الزمر 28 - 29
قوله عز وجل " ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل " يعني بينا في هذا القرآن من كل شيء
وقد بين بعضه مفسرا وبعضه مبهما مجملا " لعلهم يتذكرون " لكي يتعظوا " قرآنا عربيا " يعني أنزلناه قرآنا أي عربيا بلغة العرب " غير ذي عوج " يعني ليس بمختلف ولكنه مستقيم
ويقال غير ذي نقض
ويقال غير ذي عيب
ويقال " غير ذي عوج " أي غير مخلوق
قال أبو الليث رحمه الله حدثنا محمد بن داود
قال حدثنا محمد بن أحمد باستراباذ
قال حدثنا أبو حاتم الداري عن سليمان بن داود العتكي عن يعقوب بن محمد بن عبد الله الأشعري عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
قال في قوله تعالى " قرآنا عربيا غير ذي عوج " قال غير مخلوق " لعلهم يتقون " أي لكي يتقوا الشرك
قوله عز وجل " ضرب الله مثلا " أي بين شبها " رجلا فيه شركاء متشاكسون " أي عبدا بين موالي مختلفين يأمره هذا بأمر وينهاه هذا عنه
ويقال " متشاكسون " أي مختلفين يتنازعون " ورجلا سلما لرجل " أي خالصا لرجل لا شركة فيه لأحد
قرأ ابن كثير وأبو عمر " سالما " بالألف وكسر اللام وقرأ الباقون " سلما " بغير ألف ونصب السين
فمن قرأ " سالما " فهو اسم الفاعل على معنى سلم فهو سالم ومعناه الخالص
ومن قرأ " سلما " فهو مصدر
فكأنه أراد به رجلا ذا سلم لرجل ومعنى الآية هل يستوي من عبد آلهة مختلفة كمن عبد ربا واحدا
وقال قتادة الرجل الكافر والشركاء الشياطين والآلهة ورجلا سلما المؤمن يعمل لله تعالى وحده
وقال بعضهم هذه المثل للراغب والزاهد
فالراغب شغلته أمور مختلفة فلا يتفرغ لعبادة ربه
فإذا كان في العبادة فقلبه مشغول بها والزاهد قد يتفرغ عن جميع أشغال الدنيا فهو يعبد ربه خوفا وطمعا " هل يستويان مثلا " يعني عنده في المنزلة يوم القيامة
" الحمد لله " قال مقاتل " الحمد لله " حين خصهم
يقال " الحمد لله " على تفضيل من اختاره على من اشتغل بما دونه
ويقال يعني قولوا الحمد لله " بل أكثرهم لا يعلمون " أن عبادة رب واحد خير من عبادة أرباب شتى
ويقال " لا يعلمون " أنهما لا يستويان
ويقال " لا يعلمون " توحيد ربهم
سورة الزمر 30 - 31(3/176)
177
قوله تعالى " إنك ميت وإنهم ميتون " ذلك أن كفار قريش قالوا " نتربص به ريب المنون " [ الطور 30 ] يعني ننتظر موت محمد عليه السلام فنزل " إنك ميت وإنهم ميتون " يعني أنت ستموت وهم سيموتون
ويقال " إنك ميت وإنهم ميتون " يعني إنك لميت لا محالة وإنهم لميتون لا محالة والشيء إذا قرب من الشيء سمي باسمه
فالخلق كلهم إذا كانوا بقرب من الموت فكل واحد منهم يموت لا محالة فسماهم ميتين
" ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " أي تتكلمون بحججكم
الكافر مع المؤمن والظالم مع المظلوم
فإن قيل قد قال في آية أخرى " لا تختصموا لدي " [ ق 28 ] قيل له إن في يوم القيامة ساعات كثيرة وأحوالها مختلفة مرة يختصمون ومرة لا يختصمون
كما أنه قال فهم لا يتساءلون وقال في آية أخرى " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " [ الصافات 27 ] يعني في حال يتساءلون وفي حال لا يتساءلون وهذا كما قال في موضع آخر " فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان " [ الرحمن 39 ] وقال في آية أخرى " فوربك لنسئلنهم أجمعين " [ الحجر 92 ] وكما قال في آية أخرى لا يتكلمون وفي آية أخرى أنهم يتكلمون ونحو هذا كثير في القرآن
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى تتخاصم الروح والجسد فيقول الجسد إنما كنت بمنزلة جزع ملقى لا أستطيع شيئا
وتقول الروح إنما كنت ريحا لا أستطيع أن أعمل شيئا
فضرب لهما مثل الأعمى والمقعد فحمل الأعمى المقعد فيدله المقعد ببصره ويحمله الأعمى برجليه )
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أنس قال سألت أبا العالية عن قوله " لا تختصموا لدي " ثم قال " ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " فكيف هذا قال أما قوله " لا تختصمون لدي " فهو لأهل الشرك وأما قوله " ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " فهو لأهل القبلة يختصمون في مظالم ما بينهم
سورة الزمر 32 - 35
قوله تعالى " فمن أظلم " يعني فلا أحد أظلم " ممن كذب على الله " بأن معه شريكا " وكذب بالصدق إذ جاءه " يعني بالقرآن والتوحيد
ويقال " وكذب بالصدق " يعني بالصادق وهو النبي صلى الله عليه وسلم " أليس في جهنم مثوى للكافرين " يعني مأوى للذين يكفرون بالقرآن(3/177)
178
فاللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التحقيق كقوله " أليس الله بأحكم الحاكمين " [ التين 8 ]
قوله تعالى " والذي جاء بالصدق " أي بالقرآن " وصدق به " أي أصحابه
ويقال " وصدق به " المؤمنون
وقال القتبي " والذي جاء بالصدق وصدق به " هو في موضع جماعة
ومعناه والذين جاؤوا بالصدق وصدقوا به وهذا موافق لخبر ابن مسعود
وقال قتادة والشعبي ومقاتل والكلبي " والذي جاء بالصدق " يعني النبي صلى الله عليه وسلم " وصدق به " يعني المؤمنون
وذكر عن علي رضي الله عنه أنه قال " والذي جاء بالصدق " يعني النبي صلى الله عليه وسلم " وصدق به " يعني أبو بكر " أولئك هم المتقون " الذين اتقوا الشرك والفواحش
وقرأ بعضهم " وصدق " بالتخفيف يعني النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الناس كما أنزل عليه ولم يزد في الوحي شيئا ولم ينقص من الوحي شيئا
ثم قال " لهم ما يشاؤون عند ربهم " يعني لهم ما يريدون ويحبون في الجنة " ذلك جزاء المحسنين " أي ثواب الموحدين المطيعين المخلصين
قوله تعالى " ليكفر الله عنهم " يعني ليمحو عنهم ويغفر لهم " أسوأ الذي عملوا " يعني أقبح ما عملوا مخالفا للتوحيد " ويجزيهم أجرهم " يعني ثوابهم " بأحسن الذي كانوا يعملون " يعني يجزيهم بالمحاسن ولا يجزيهم بالمساوئ لأنه ليس لهم ذنب ولا خطايا فلا يجزيهم بمساوئهم
سورة الزمر 36 - 37
قوله عز وجل " أليس الله بكاف عبده " قرأ حمزة والكسائي " عباده " بالألف بلفظ الجماعة يعني الذين صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم وبالقرآن والباقون " عبده " بغير ألف يعني النبي صلى الله عليه وسلم
" ويخوفونك بالذين من دونه " يعني بالذين يعبدون من دونه وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لا تزال تقع في آلهتنا فاتق كيلا يصيبك منها معرة أو سوء
فنزل " أليس الله بكاف عبده " الآية
وروى معمر عن قتادة قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزى ليكسرها فمشى إليها بالفأس
فقال له قيمها يا خالد احذر فإن لها شدة لا يقوم لها أحد فمشى إليها خالد فهشم أنفها بالفأس ويقال " أليس الله بكاف عبده " يعني الأنبياء عليهم السلام
ثم قال " ومن يضلل الله فما له من هاد " يعني من يخذله الله عن الهدى فما له من مرشد ولا ناصر " ومن يهد الله فما له من مضل " يعني ليس له أحد يخذله " أليس الله بعزيز ذي انتقام " يعني عزيزا في ملكه " ذي انتقام " من عدوه(3/178)
179
سورة الزمر 38 - 40
قوله عز وجل " ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله " فعل ذلك " قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله " يعني ما تعبدون من دون الله من الآلهة " إن أرادني الله بضر " يعني إن أصابني الله ببلاء ومرض في جسدي وضيق في معيشتي أو عذاب في الآخرة " هل هن كاشفات ضره " يعني هل تقدر الأصنام على دفع ذلك عني " أو أرادني برحمة " أي بنعمة وعافية وخير " هل هن ممسكات رحمته " يعني هل تقدر الأصنام منع الرحمة عني
قرأ أبو عمر " كاشفات " بالتنوين " ضره " بالنصب " ممسكات " بالتنوين " رحمته " بالنصب وقرأ الباقون بغير تنوين وكسر ما بعده على وجه الإضافة
فمن قرأ بالتنوين نصب " ضره " " ورحمته " لأنه مفعول به
قوله تعالى " قل حسبي الله " يعني يكفيني الله من شر آلهتكم
ويقال " حسبي الله " يعني أثق به " عليه توكلت " أي فوضت أمري إلى الله " عليه يتوكل المتوكلون " أي يثق به الواثقون
فأنا متوكل وعليه توكلت
قوله عز وجل " قل يا قوم اعملوا على مكانتكم " يعني في منازلكم
ويقال " على مكانتكم " أي على قدر طاقتكم وجهدكم " إني عامل " في إهلاككم
لأنهم قالوا له إن لم تسكت عن آلهتنا نعمل في إهلاكك
فنزل " قل يا قوم اعملوا على مكانتكم " إهلاكي في مكانتكم " إني عامل " " فسوف تعلمون " من نجا ومن هلك
قرأ عاصم في رواية أبي بكر " مكاناتكم " بلفظ الجماعة
والباقون " مكانتكم " والمكانة والمكان واحد
قوله عز وجل " من يأتيه عذاب يخزيه " أي من يأتيه عذاب الله يهلكه " ويحل عليه عذاب مقيم " يعني دائم لا ينقطع أبدا
سورة الزمر 41 - 44(3/179)
180
سورة الزمر 45
قوله عز وجل " إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق " يعني أنزلنا عليك جبريل بالقرآن " للناس بالحق " يعني لتدعو الناس إلى الحق وهو التوحيد " فمن اهتدى " أي وحد وصدق بالقرآن وعمل بما فيه فإنما يهتدي لنفسه أي ثواب الهدى لنفسه " ومن ضل فإنما يضل عليها " يعني أعرض ولم يؤمن بالقرآن فقد أوجب العقوبة على نفسه
" وما أنت عليهم بوكيل " يعني ما أنت يا محمد عليهم بحفيظ
ويقال بمسلط
وهذا قبل أن يؤمر بالقتال
قوله عز وجل " الله يتوفى الأنفس حين موتها " قال الكلبي الله تعالى يقبض الأنفس عند موتها " والتي لم تمت في منامها " فيقبض نفسها إذا نامت أيضا " فيمسك التي قضى عليها الموت " فلا يردها " ويرسل الأخرى " التي لم تبلغ أجلها " إلى أجل مسمى " يردها إلى أجلها
وقال مقاتل " الله يتوفى الأنفس " عند أجلها والتي قضى عليها الموت فيمسكها عن الجسد
على وجه التقديم " والتي لم تمت في منامها " فتلك الأخرى التي أرسلها لتعود إلى الجسد إلى أجل مسمى
وقال سعيد بن جبير الله يقبض أنفس الأحياء والأموات فيمسك أنفس الأموات ويرسل أنفس الأحياء إلى أجل مسمى
ثم قال " إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " أي يعتبرون قرأ حمزة والكسائي " قضي عليها " بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء وبضم التاء في الموت على فعل ما لم يسم فاعله
والباقون " قضى عليها " بالنصب
يعني قضى الله عليها الموت ونصب الموت لأنه مفعول به
وقال عز وجل " أم اتخذوا من دون الله " الميم صلة ومعناه اتخذوا
فاللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التوبيخ والزجر
فقال " أم اتخذوا من دون الله " " شفعاء " يعني يعبدون الأصنام لكي تشفع لهم
" قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون " يعني يعبدونهم وإن كانوا لا يعقلون شيئا
ثم قال " قل لله الشفاعة جميعا " قل يا محمد لله الأمر والإذن في الشفاعة وهذا كقوله " من ذا الذي يشفع عنده " [ البقرة 255 ] وكما قال " يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له " [ طه 100 ]
ثم قال " له ملك السموات والأرض " يعني خزائن السموات والأرض
ويقال نفاذ الأمر في السموات والأرض وله نفاذ الأمر في السموات والأرض
" ثم إليه ترجعون " في الآخرة
وقال " وإذا ذكر الله وحده اشمأزت " إذا قيل لهم قولوا لا إله إلا الله " اشمأزت "
قال مقاتل يعني انقبضت عن التوحيد
وقال الكلبي أعرضت ونفرت
وقال القتبي العرب(3/180)
181
تقول اشمأز قلبي من فلان
أي نفر منه
" قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة " يعني لا يصدقون بيوم القيامة
" وإذا ذكر الذين من دونه " يعني الآلهة " إذا هم يستبشرون " بذكرها
وذلك أنه حين قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم وذكر آلهتهم استبشروا
سورة الزمر 46 - 48
قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم " قل اللهم فاطر السموات والأرض " صار نصبا بالنداء يعني يا خالق السموات والأرض " عالم الغيب والشهادة " يعني عالما بما غاب عن العباد وما لم يغب عنهم
ويقال عالما بما مضى وما لم يمض وما هو كائن
ويقال عالم السر والعلانية
" أنت تحكم بين عبادك " يعني أنت تقضي في الآخرة بين عبادك " فيما كانوا فيه يختلفون " من أمر الدين
قوله عز وجل " ولو أن للذين ظلموا " أي كفروا " ما في الأرض جميعا ومثله معه " أي مثل ما في الأرض " لافتدوا به " يعني لفادوا به أنفسهم " من سوء العذاب " يعني من شدة العذاب " يوم القيامة "
وفي الآية مضمر
أي لا يقبل منهم ذلك
" وبدا لهم من الله " أي ظهر لهم حين بعثوا من قبورهم " ما لم يكونوا يحتسبون " في الدنيا أنه نازل بهم يعني يعملون أعمالا يظنون أن لهم فيها ثوابا فلم تنفعهم مع شركهم فظهرت لهم العقوبة مكان الثواب
قوله عز وجل " وبدا لهم سيئات ما كسبوا " يعني عقوبات ما عملوا " وحاق بهم " يعني نزل بهم عقوبة " ما كانوا به يستهزئون " يعني باستهزائهم بالمسلمين
ويقال باستهزائهم بالرسول والكتاب والعذاب
سورة الزمر 49 - 51
قوله عز وجل " فإذا مس الإنسان ضر دعانا " يعني أصاب الكافر شدة وبلاء وهو أبو جهل
ويقال جميع الكفار " دعانا " يعني أخلص في الدعاء " ثم إذا خولناه " يعني بدلناه(3/181)
182
نعمة وأعطيناه مكانها عافية " نعمة منا قال إنما أوتيته على علم " يعني على علم عندي
" بل هي فتنة " يعني بلية وعطية يبتلى بها العبد ليشكر أو ليكفر " ولكن أكثرهم لا يعلمون " أن إعطائي ذلك بلية وفتنة ذلك لأنه علم أني أهل لذلك ويقال معناه على علم عندي بالدواء " بل هي فتنة " أي بلية
قوله عز وجل " قد قالها الذين من قبلهم " يعني قال تلك الكلمة الذين من قبل كفار مكة مثل قارون وأشباهه
" فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون " يعني لم ينفعهم ما كانوا يجمعون من الأموال " فأصابهم سيئات ما كسبوا " أي عقوبات ما عملوا
" والذين ظلموا من هؤلاء " يعني من أهل مكة " سيصيبهم سيئات ما كسبوا " يعني عقوبات ما عملوا مثل ما أصاب الذين من قبلهم " وما هم بمعجزين " أي غير فائتين من عذاب الله
سورة الزمر 52 - 53
ثم قال " أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء " أي يوسع الزرق لمن يشاء " ويقدر " أي يقتر على من يشاء " إن في ذلك " يعني في القبض والبسط " لآيات " لعلامات لوحدانيتي " لقوم يؤمنون " أي يصدقون بتوحيد الله تعالى
قوله عز وجل " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " يعني أسرفوا بالذنوب على أنفسهم قرأ نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر " قل يا عبادي " بفتح الياء والباقون بالإرسال وهما لغتان ومعناهما واحد " لا تقنطوا من رحمة الله " يعني لا تيأسوا من رحمة الله " إن الله يغفر الذنوب جميعا " الكبائر وغير الكبائر إذا تبتم " إنه هو الغفور " لمن تاب " الرحيم " بعد التوبة لهم
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة
قال أصاب قوم في الشرك ذنوبا عظاما وكانوا يخافون أن لا يغفر الله لهم فدعاهم الله تعالى بهذه الآية " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله "
وقال مجاهد " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " بقتل الأنفس في الجاهلية
وقال في رواية الكلبي نزلت الآية في شأن وحشي يعني أسرفوا على أنفسهم بالقتل والشرك والزنى
لا تيأسوا " من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا " لمن تاب
وقال ابن مسعود أرجى آية في كتاب الله عز وجل هذه الآية
وهكذا قال عبد الله بن عمرو بن العاص وروي عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال فيها عظة(3/182)
183
سورة الزمر 54 - 58
قوله تعالى " وأنيبوا إلى ربكم " يعني أقبلوا وارجعوا إلى ربكم بالطاعة " وأسلموا له " يعني أقروا وأخلصوا له بالتوحيد " من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون " أي لا تمنعون مما نزل بكم
قوله تعالى " واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم " قال الكلبي هذا القرآن أحسن ما أنزل إليهم يعني اتبعوا ما أمرتم به
ويقال أحلوا حلاله وحرموا حرامه " من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة " أي فجأة " وأنتم لا تشعرون " بنزوله
قوله تعالى " أن تقول نفس " يعني لكي لا تقول نفس
ويقال معناه اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم خوفا قبل أن تصيروا إلى حال الندامة
وتقول نفس " يا حسرتي " يعني يا ندامتا " على ما فرطت في جنب الله " يعني تركت وضيعت من طاعة الله
وقال مقاتل يعني ما ضيعت من ذكر الله
ويقال يا ندامتاه على ما فرطت في أمر الله
" وإن كنت لمن الساخرين " يعني كنت من المستهزئين بالقرآن في الدنيا
ويقال قد كنت من اللاهين
يعني المستهزئين بالقرآن في الدنيا
وقال أبو عبيدة في جنب الله وذات الله واحد
ثم قال عز وجل " أو تقول " يعني قبل أن تقول " لو أن الله هداني " بالمعرفة " لكنت من المتقين " أي من الموحدين
يعني لو بين لي الحق من الباطل لكنت من المؤمنين " أو تقول حين ترى العذاب " يعني من قبل أن تقول " لو أن لي كرة " أي رجعة إلى الدنيا " فأكون من المحسنين " يعني من الموحدين
سورة الزمر 59 - 61
يقول الله تعالى " بلى قد جاءتك آياتي " يعني القرآن " فكذبت بها واستكبرت " أي تكبرت وتجبرت عن الإيمان بها " وكنت من الكافرين "
قرأ عاصم الجحدري " بلى قد جاءتك آياتي " يعني القرآن
" فكذبت بها واستكبرت " " وكنت " كلها بالكسر
وهو(3/183)
184
اختيار ابن مسعود وصالح وتابعه من قراء سمرقند
وإنما قرأ بالكسر لأنه سبق ذكر النفس والنفس مؤنث
وقراءة العامة كلها بالنصب لأنه انصرف إلى المعنى يعني يقال للكافر
قوله تعالى " ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله " يعني قالوا بأن لله شريكا " وجوههم مسودة " صار " وجوههم " رفعا بالابتداء ويقال معناه مسودة وجوههم " أليس في جهنم مثوى للمتكبرين " يعني مأوى للذين تكبروا عن الإيمان " وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم " يعني ينجي الله الذين اتقوا الشرك من جهنم
قال الكلبي ومقاتل يعني بأعمالهم الحسنة لا يصيبهم العذاب
وقال القتبي يعني بمنجاتهم
قرأ حمزة والكسائي " بمفازاتهم " بالألف وكذلك عاصم في رواية أبي بكر
والباقون " بمفازتهم " بغير ألف والمفازة الفوز والسعادة والفلاح والمفازات جمع
" لا يمسهم السوء " أي لا يصيبهم العذاب " ولا هم يحزنون " في الآخرة
سورة الزمر 62 - 66
يقول الله تعالى " الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل " يعني حفيظ
ويقال كفيل بأرزاقهم
قوله تعالى " له مقاليد السموات والأرض " يعني مفاتيح السموات والأرض
ويعني خزائن السموات والأرض وهو المطر والنبات
وقال القتبي المقاليد المفاتيح
يعني مفاتيحها وخزائنها وواحدها إقليد
وقال ويقال إنها فارسية معربة إكليد
" والذين كفروا بآيات الله " يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن " أولئك هم الخاسرون " يعني اختاروا العقوبة على الثواب
قوله عز وجل " قل أفغير الله تأمروني " قرأ ابن عامر " تأمرونني " بنونين وقرأ نافع " تأمروني " بنون واحد والتخفيف
والباقون بنون واحدة والتشديد وأصله تأمرونني كما روي عن ابن عامر إلا أنه أدغم إحداهما في الأخرى وشدد وتركها نافع على التخفيف
" أعبد أيها الجاهلون " يعني أيها المشركون تأمروني أن أعبد غير الله
قوله " ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك " يعني الأنبياء بالتوحيد " لئن أشركت ليحبطن عملك " يعني ثوابك وإن كنت كريما علي
فلو أشركت بالله " ليحبطن عملك " " ولتكونن من الخاسرين " في الآخرة فكيف لو أشرك غيرك فالله تعالى علم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشرك بالله ولكنه أراد تنبيها لأمته أن من أشرك بالله حبط عمله وإن كان كريما على الله(3/184)
185
قوله عز وجل " بل الله فاعبد " يعني استقم على عبادة الله وتوحيده
وقال مقاتل " بل الله فاعبد " أي فوحد الله تعالى
وقال الكلبي يعني أطع الله تعالى " وكن من الشاكرين " على ما أنعم الله عليك من النبوة والرسالة
ويقال هذا الخطاب لجميع المؤمنين أمرهم بأن يشكروا الله تعالى على ما أنعم عليهم وأكرمهم بمعرفته ووفقهم لدينه
سورة الزمر 67 - 70
" وما قدروا الله حق قدره " أي ما عظموا الله حق عظمته ولا وصفوه حق صفته ولا عرفوا الله حق معرفته
وذلك أن اليهود والمشركين وصفوا الله تعالى بما لا يليق بصفاته فنزل " وما قدروا الله حق قدره " وفيه تنبيه للمؤمنين لكيلا يقولوا مثل مقالتهم ويعظموا الله حق عظمته ويصفوه حق صفته " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " [ الشورى 11 ]
ثم قال " والأرض جميعا قبضته يوم القيامة " أي في قدرته وملكه وسلطانه لا سلطان لأحد عليها وهذا كقوله " مالك يوم الدين " [ الفاتحة 4 ]
وقال القتبي " في قبضته " أي في ملكه نحو قولك للرجل هذا في يدك وقبضتك
يعني في ملكك
" والسموات مطويات بيمينه " أي بقدرته
ويقال في الآية تقديم معناه " والسموات مطويات بيمينه " يوم القيامة أي في يوم القيامة
ويقال " بيمينه " يعني عن يمين العرش وقال القتبي " بيمينه " أي بقدرته نحو قوله " أو ما ملكت أيمانهم " [ الأحزاب 50 ] يعني ما كانت لهم عليه قدرة وليس الملك لليمين دون الشمال
ويقال اليمين هاهنا الحلف لأنه حلف بعزته وجلاله ليطوين السموات والأرض
ثم نزه نفسه سبحانه وتعالى فقال " سبحانه وتعالى عما يشركون " يعني عما يصفون له من الشريك " ونفح في الصور " روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الصور فقال ( هو القرن وإن عظم دائرته مثل ما بين السماء والأرض فينفخ نفخة فيفزع الخلق ثم ينفخ نفخة أخرى فيموت أهل السموات والأرض فإذا كان وقت النفخة الثالثة تجمعت الأرواح كلها في الصور ثم ينفخ النفخة الثالثة فتخرج الأرواح كلها كالنحل وكالزنابير وتأتي كل روح إلى جسدها ) فذلك قوله تعالى " فصعق من في السموات ومن في الأرض " يعني يموت من(3/185)
186
في السموات ومن في الأرض " إلا من شاء الله " يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت
ويقال أرواح الشهداء
وروي عن سعيد بن جبير أنه قال استثنى الله تعالى الشهداء حول العرش متقلدين سيوفهم
وقال بعضهم النفخة نفختان
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ينفخ في الصور ثلاث نفخات الأولى نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة القيام لرب العالمين ) وهو قوله " ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون " أي ينظرون ماذا يأمرهم
ويقال ينظرون إلى السماء كيف غيرت وينظرون إلى الأرض كيف بدلت وينظرون إلى الداعي كيف يدعوهم إلى الحساب وينظرون فيما عملوا في الدنيا وينظرون إلى الآباء والأمهات كيف ذهبت شفقتهم عنهم واشتغلوا بأنفسهم وينظرون إلى خصمائهم ماذا يفعلون بهم
قوله تعالى " وأشرقت الأرض " يعني أضاءت " بنور ربها " أي بعدل ربها ويقال " وأشرقت " وجوه من على الأرض بمعرفة ربها وأظلم وجوه من على الأرض بنكرة ربها
وقال بعضهم هذا من المكتوم الذي لا يفسر
" ووضع الكتاب " يعني ووضع الحساب
ويقال ووضع الكتاب في أيدي الخلق في أيمانهم وشمائلهم " وجيء بالنبيين والشهداء وقضى بينهم بالحق " أي بين الخلق بالعدل بين الظالم والمظلوم وبين الرسل وقومهم " وهم لا يظلمون " أي لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئا
ثم قال " ووفيت " أي وفرت " كل نفس ما عملت " أي جزاء ما عملت من خير أو شر " وهو أعلم بما يفعلون " لأنه قد سبق ذكر قوله " وجيء بالنبين والشهداء " ثم أخبر أنه لم يدع الشهداء ليشهدوا بما يعلموا بل هو أعلم بما يفعلون وإنما يدعو الشهداء لتأكيد الحجة عليهم
سورة الزمر 71 - 72(3/186)
187
قوله عز وجل " وسيق الذين كفروا " أي يساق الذين كفروا " إلى جهنم زمرا " يعني أمة أمة فوجا فوجا وواحدتها زمرة " حتى إذا جاؤوها " يعني جهنم " فتحت أبوابها " وقال أصحاب اللغة جهنم في أصل اللغة جهنام وهي بئر لا قعر لها
فحذفت الألف وشددت النون فسميت جهنم
قرأ حمزة والكسائي وعاصم " فتحت " بتخفيف التاء وقرأ الباقون بالتشديد
فمن قرأ بالتشديد فلتكثير الفعل
ومن قرأ بالتخفيف فعلى الفعل الواحد وكذلك الاختلاف في الثني الذي بعده
" وقال لهم خزنتها " يعني خزنة جهنم وواحدها خازن
وقال القتبي الواو قد تزاد في الكلام والمراد به حذفه كقوله " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق " [ الأنبياء 96 ] يعني اقترب وكقوله " وقال لهم خزنتها " [ الزمر 71 ] يعني قال لهم
وهذا في كلام العرب ظاهر كما قال امرؤ القيس
( فلم أجزنا ساحة الحي وانتحى % )
يعني انتحى بغير واو
ثم قال " ألم يأتكم رسل منكم " يعني آدميا مثلكم تفهمون كلامه " يتلون عليكم آيات ربكم " يعني يقرؤون عليكم ما أوحي إليهم " وينذرونكم لقاء يومكم هذا " يعني أنهم يخوفونكم بهذا اليوم فكأنه يقول لهم يا أشقياء ألم يأتكم رسل منكم فأجابوه " قالوا بلى " فيقرون بذلك في وقت لا ينفعهم الإقرار ولو كان قولهم بلى في الدنيا لكان ينفعهم
ولكنهم قالوا بلى في وقت لا ينفعهم
" ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين " أي وجبت كلمة العذاب في علم الله السابق أنهم من أهل النار
ويقال وجبت كلمة العذاب وهي قوله الله تعالى " لأملأن جهنم " [ الأعراف 18 وغيرها ] " قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها " يعني دائمين فيها " فبئس مثوى المتكبرين " يعني بئس موضع القرار لمن تكبر عن الإيمان
سورة الزمر 73 - 75
ثم بين حال المؤمنين المطيعين فقال عز وجل " وسبق الذين اتقوا ربهم " يعني اتقوا الشرك والفواحش " إلى الجنة زمرا " يعني فوجا فوجا بعضهم قبل الحساب اليسير وبعضهم بعد الحساب الشديد على قدر مراتبهم " حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها " يعني وقد فتحت(3/187)
188
أبوابها " وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين " أي فزتم ونجوتم
ويقال طابت لكم الجنة
وقال بعض أهل العربية في الآية دليل على أن أبواب الجنة ثمانية لأنه قد ذكر بالواو
وإنما يذكر بالواو إذا بلغ الحساب ثمانية كما قال في آية أخرى " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم " [ الكهف 22 ] فذكر الواو عند الثمانية وكما قال " التائبون العابدون " [ التوبة 112 ] فذكرها كلها بغير واو فلما انتهى إلى الثمانية قال " والناهون عن المنكر " [ التوبة 112 ] وقال في آية أخرى " مسلمات مؤمنات " [ التحريم 5 ] ثم قال عند الثمانية " وأبكارا " [ التحريم 5 ] وعرف أن أبوب جهنم سبعة بالآية
وهي قوله " لها سبعة أبواب " [ الحجر 44 ]
وقال أكثر أهل اللغة ليس في الآية دليل لأن الواو قد تكون عند الثمانية وقد تكون عند غيرها ولكن عرف أن أبوابها ثمانية بالأخبار
ثم لما دخلوا الجنة حمدوا الله تعالى " وقالوا الحمد لله " يعني الشكر لله " الذي صدقنا وعده " يعني أنجز لنا وعده على لسان رسله " وأورثنا الأرض " يعني أنزلنا أرض الجنة " نتبوأ من الجنة حيث نشاء " أي ننزل في الجنة ونستقر فيها حيث نشاء ونشتهي " فنعم أجر العاملين " أي ثواب الموحدين المطيعين
قوله عز وجل " وترى الملائكة حافين " يعني ترى يا محمد الملائكة يوم القيامة محدقين " من حول العرش يسبحون بحمد ربهم " أي يسبحونه ويحمدونه
" وقضي بينهم بالحق " أي بين الخلق
وهو تأكيد لما سبق من قوله " وجائ بالنبين والشهداء وقضى بينهم بالحق " [ الزمر 69 ] " وقيل الحمد لله رب العالمين " يعني لما قضي بينهم بالحق وميزوا من الكفار حمدوا لله تعالى وقالوا الحمد لله رب العالمين الذي قضى بيننا بالحق ونجانا من القوم الظالمين
وقال مقاتل ابتدأ الدنيا بالحمد لله رب العالمين وهو قوله " الحمد لله الذي خلق السموات والأرض " وختمها بقوله " الحمد لله رب العالمين "(3/188)
189
سورة غافر
مكية وهي ثمانون وخمس آيات
سورة غافر 1 - 3
قوله تبارك وتعالى " حم " روي عن ابن عباس قال الحواميم كلها مكية وهكذا روي عن محمد بن الحنفية
وقال ابن مسعود إن " حم " ديباج القرآن وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من أراد أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم )
وقال قتادة " حم " اسم من أسماء القرآن
ويقال اسم من أسماء الله
ويقال قسم أقسم الله بحم
ويقال معناه قضى بما هو كائن
ويقال " حم " الأمر قدر قدر وقضى وتم
وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم " حم " بفتح الحاء وقرأ أبو عمرو ونافع بين الفتح والكسر والباقون بالكسر
وكل ذلك جائز في اللغة
ثم قال " تنزيل الكتاب من الله " يعني هذا القرآن الذي يقرأه عليكم محمد صلى الله عليه وسلم هو من عند الله " العزيز " في سلطانه وملكه " العليم " بخلقه وبأعمالهم " غافر الذنب " لمن يقول لا إله إلا الله مخلصا يستر عليه ذنوبه " وقابل التوب " لمن رجع وتاب " شديد العقاب " لمن مات على الشرك ولم يقل لا إله إلا الله " ذي الطول " يعني ذي الفضل على عباده والطول في اللغة التفضل
يقال طل علي برحمتك أي تفضل
وقال مقاتل " ذي الطول " يعني ذي الغنى عمن لم يوحده
ثم وحد نفسه فقال " لا إله إلا هو إليه المصير " يعني إليه مصير العباد ومرجعهم في الآخرة فيجازيهم بأعمالهم
سورة غافر 4 - 6(3/189)
190
قوله عز وجل " ما يجادل في آيات الله " يعني ما يخاصم في آيات الله بالتكذيب " إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد " يعني ذهابهم ومجيئهم في أسفارهم وتجاراتهم فإنهم ليسوا على شيء من الدين
وقال مقاتل " تقلبهم " يعني ما هم فيه من السعة في الرزق
ثم خوفهم ليحذروا فقال عز وجل " كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم " يعني الأمم من بعد قوم نوح " وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه " يعني أرادوا أن يقتلوه " وجادلوا بالباطل " يعني بالشرك " ليدحضوا به الحق " يعني ليبطلوا به دين الحق وهو دين الإسلام والذي جاء به الرسل
" فأخذتهم " أي عاقبتهم " فكيف كان عقاب " يعني كيف رأيت عذابي لهم أليس قد وجدوه حقا
قوله تعالى " وكذلك حقت كلمت ربك " يعني سبقت ووجبت كلمة ربك " على الذين كفروا " بالعذاب " أنهم أصحاب النار " يعني يصيرون إليها
قرأ نافع وابن عامر " كلمات ربك " بلفظ الجماعة والباقون " كلمة ربك " بلفظ الواحد وهي عبارة عن الجنس والجنس يقع على الواحد وعلى الجماعة
وقرئ في الشاذ " إنهم " بالكسر على معنى الابتداء وقراءة العامة بالنصب على معنى البناء
سورة غافر 7 - 9
قوله عز وجل " الذين يحملون العرش " وهم الملائكة " ومن حوله " من المقربين " يسبحون بحمد ربهم " يعني يسبحون الله تعالى ويحمدونه " ويؤمنون به " أي يصدقون بالله " ويستغفرون للذين آمنوا " يعني المؤمنين
وفي الآية دليل فضل المؤمنين وبيانه أن الملائكة مشتغلون بالدعاء لهم
ثم وصف دعاءهم للمؤمنين وهو قولهم " ربنا " يقولون يا ربنا " وسعت كل شيء رحمة وعلما " يعني يا ربنا رحمتك واسعة وعلمك محيط بكل شيء
ويقال معناه ملأت كل شيء نعمة وعلما على ما فيها من الخلق
روى قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة
ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله(3/190)
191
الشياطين
وروى الأعمش عن إبراهيم قال كان أصحاب عبد الله بن مسعود يقولون الملائكة خير للمسلمين من ابن الكواء فالملائكة يستغفرون لمن في الأرض وابن الكواء يشهد عليهم بالكفر وكان ابن الكواء رجلا خارجيا
قوله تعالى " فاغفر للذين تابوا " يعني تجاوز عنهم يعني الذين رجعوا عن الشرك " واتبعوا سبيلك " يعني دينك الإسلام " وقهم عذاب الجحيم " يعني ادفع عنهم في الآخرة عذاب النار
ثم قال " ربنا " يعني ويقولون ربنا " وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم " على لسان رسلك " ومن صلح " أي من وحد الله تعالى " من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم " وأدخلهم معهم الجنة أيضا " إنك أنت العزيز " في ملكك " الحكيم " في أمرك " وقهم السيئات " أي ادفع عنهم العذاب في الآخرة
" ومن تق السيئات يومئذ " يعني من دفعت العذاب عنه فقد رحمته
قال مقاتل " السيئات " يعني الشرك في الدنيا " فقد رحمته " في الآخرة " وذلك هو الفوز العظيم " يعني النجاة الوافرة
سورة غافر 10 - 12
قوله تعالى " إن الذين كفروا ينادون " قال مقاتل والكلبي لما عاين الكفار النار ودخلوها مقتوا أنفسهم أي لاموا أنفسهم وغضبوا عليها
فتقول لهم خزنة جهنم " لمقت الله أكبر من مقتكم " يعني غضب الله عليكم وسخطه عليكم أكبر من مقتكم " أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون " أي تجحدون وتثبتون على الكفر
قوله تعالى " قالوا ربنا أمتنا اثنتين " يعني كنا أمواتا نطفا فأحييتنا ثم أمتنا عند آجالنا ثم أحييتنا اليوم
وذكر عن القتبي نحو هذا
وقال بعضهم إحدى الإماتتين يوم الميثاق حين صيروا إلى صلب آدم والأخرى في الدنيا عند انقضاء الأجل وإحدى الإحيائين في بطن الأمهات والأخرى في القبر
" فاعترفنا بذنوبنا " يعني أقررنا بشركنا وظهر لنا أن البعث حق " فهل إلى خروج من سبيل " يعني فهل سبيل إلى الخروج من النار
ويقال فهل من حيلة إلى الرجوع(3/191)
192
ثم قال " ذلكم " يعني يقال لهم ذلك الخلود " بأنه إذا دعي الله وحده " يعني إذا قيل لكم لا إله إلا الله " كفرتم " يعني جحدتم وأقمتم على الكفر " وإن يشرك به تؤمنوا " يعني إذا دعيتم إلى الشرك وعبادة الأوثان تصدقوا " فالحكم لله العلي الكبير " يعني القضاء فيكم " لله العلي الكبير " يعني الرفيع فوق خلقه القاهر لخلقه " الكبير " بالقدرة والمنزلة
سورة غافر 13 - 16
ثم قال عز وجل " هو الذي يريكم آياته " يعني عجائبه ودلائله من خلق السموات والأرض والشمس والقمر والليل والنهار وذلك أنه لما ذكر ما يصيبهم يوم القيامة عظم نفسه تعالى
ثم ذكر لأهل مكة من الدلائل ليؤمنوا به فقال " هو الذي يريكم آياته " " وينزل لكم من السماء رزقا " يعني المطر
ويقال الملائكة لتدبير الرزق
" وما يتذكر إلا من ينيب " يعني ما يتعظ بالقرآن إلا من يقبل إليه بالطاعة
ويقال " وما يتذكر " فيوحد الرب إلا من يرجع إليه " فادعوا الله مخلصين له الدين " يعني اعبدوه بالإخلاص " ولو كره الكافرون " يعني وإن شق ذلك على المشركين الكافرين
قوله عز وجل " رفيع الدرجات " يعني رافع وخالق السموات مطبقا بعضها فوق بعض
ويقال هو رافع الدرجات في الدنيا بالمنازل وفي الآخرة الجنة ذو الدرجات " ذو العرش " يعني رافع العرش
ويقال خالق العرش هو رب العرش " يلقي الروح من أمره " يعني ينزل جبريل بالوحي " على من يشاء من عباده " وهو النبي صلى الله عليه وسلم " لينذر يوم التلاق " يعني ليخوف بالقرآن
وقرأ الحسن " لتنذر " بالتاء على معنى المخاطبة
يعني لتنذر يا محمد صلى الله عليه وسلم
وقراءة العامة بالياء لينذر الله تعالى
ويقال " لينذر " من أنزل عليه الوحي " يوم التلاق " قرأ ابن كثير " يوم التلاقي " بالياء
وهي إحدى الروايتين عن نافع والباقون بغير ياء
فمن قرأ بالياء فهو الأصل ومن قرأ بغير ياء فلأن الكسر يدل عليه
وقال في رواية الكلبي " يوم التلاق " يوم يلتقي أهل السموات وأهل الأرض
ويقال يوم يلتقي الخصم والمخصوم " يوم هم بارزون " يعني ظاهرين خارجين من قبورهم " لا يخفى على الله منهم شيء " يعني من أعمال أهل السموات وأهل الأرض
" لمن الملك اليوم " قال بعضهم هذا بين النفختين يقول الرب تبارك وتعالى " لمن الملك اليوم " فلا يجيبه أحد فيقول لنفسه(3/192)
193
" لله الواحد القهار "
قال بعضهم إن ذلك لأهل الجمع يوم القيامة
يقول " لمن الملك اليوم " فأقر الخلائق كلهم وقالوا " لله الواحد القهار "
سورة غافر 17 - 19
يقول الله تعالى " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت " يعني ما عملت في الدنيا من خير أو شر " لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب " وقد ذكرناه
قوله عز وجل " وأنذرهم يوم الأزفة " يعني خوفهم بيوم القيامة فسمي الأزفة لقربه
ويقال أزف شخوص فلان يعني قرب كما قال " أزفت الآزفة "
ثم قال " إذ القلوب لدى الحناجر " من الخوف لا تخرج ولا تعود إلى مكانها " كاظمين " يعني مغمومين يتردد خوفهم في أجوافهم " ما للظالمين " يعني المشركين " من حميم " يعني من قريب " ولا شفيع يطاع " أي له الشفاعة فيهم
" يعلم خائنة الأعين " هذا موصول بقوله " لا يخفى على الله منهم شيء " وهو " يعلم خائنة الأعين "
وقال أهل اللغة الخائنة والخيانة واحدة كقوله " ولا تزال تطلع على خائنة " [ المائدة 13 ]
وقال مجاهد " خائنة الأعين " يعني نظر العين إلى ما نهى الله عنه وقال مقاتل الغمزة فيما لا يحل له والنظرة إلى المعصية
ويقال النظرة بعد النظرة
وقال قتادة " يعلم خائنة الأعين " يعني يعلم غمزه بعينه وإغماضه فيما لا يحب الله تعالى " وما تخفي الصدور "
سورة غافر 20
ثم قال تعالى " والله يقضي بالحق " يحكم بالحق ويقال يأمر بما يجب الثواب به وينهى عما يجب به العقاب
" والذين يدعون من دونه " يعني يعبدون من الآلهة
قرأ نافع وابن عامر " تدعون " بالتاء على معنى المخاطبة والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم
" لا يقضون بشيء " يعني ليس لهم قدرة ولا يحكمون بشيء " إن الله هو السميع البصير " يعني " السميع " لمقالة الكفار " البصير " بأعمالهم
سورة غافر 21 - 22
قوله تعالى " أو لم يسيروا في الأرض فينظروا " يعني فيعتبروا " كيف كان عاقبة "(3/193)
194
يعني آخر أمر " الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة " يعني منعة
قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام
" أشد منكم " بالكاف على معنى المخاطبة والباقون " أشد منهم " بالهاء على معنى الخبر عنهم
" وآثارا في الأرض " يعني أكثر أعمالا ويقال أشد لها طلبا وأبعد لها ذهابا
" فأخذهم الله بذنوبهم " يعني عاقبهم الله " وما كان لهم من الله من واق " يعني من مانع يمنعهم من عذاب الله
" ذلك " أي ذلك العذاب " بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات " يعني بالأمر والنهي
ويقال بالدلائل الواضحات " فكفروا " بهم وبدلائلهم " فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب " أي عاقبهم الله بذنوبهم " شديد العقاب " لمن عاقب
سورة غافر 23 - 27
قوله عز وجل " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا " التسع " وسلطان مبين " أي حجة بينة " إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب " يعني لم يصدقوا موسى
قوله عز وجل " فلما جاءهم بالحق من عندنا " يعني بالرسالة " قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه " يعني أعيدوا القتل عليهم " واستحيوا نساءهم " فلا تقتلوهن " وما كيد الكافرين إلا في ضلال " أي في خطأ بين
قوله تعالى " وقال فرعون " لقومه " ذروني أقتل موسى " يعني خلوا عني حتى أقتل موسى
" وليدع ربه " يعني ليدعوا ربه موسى لكي يمنعه عني
وذلك أن قومه كانوا يقولون أرجئه وأخاه ولا تقتله حتى لا يفسدوا عليك الملك
فقال لهم فرعون " ذروني أقتل موسى " فإني أعلم أن صلاح ملكي في قتله
" إني أخاف أن يبدل دينكم " يعني عبادتكم إياي " أو أن يظهر في الأرض الفساد " يعني الدعاء إلى غير عبادتي
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو " وأن يظهر " على معنى العطف
والباقون " أو أن يظهر " على معنى الشك وكلاهما جائز
و " أو " لأحد الشيئين إما لشك المتكلم أو أحدهما
والواو للجمع وتقع على الأمرين جميعا
وقرأ أبو عمرو ونافع وعاصم " يظهر " بضم الياء وكسر الهاء " الفساد " بالنصب
والباقون " يظهر " بنصب الياء والهاء " الفساد " بالضم
فمن قرأ يظهر بالضم فالفعل لموسى والفساد نصب لوقوع الفعل عليه
ومن قرأ " يظهر " فالفعل للفساد فيصير الفساد رفعا لأنه فاعل
فلما سمع موسى ذلك(3/194)
195
التهديد استعاذ بالله من شره فذلك قوله " وقال موسى إني عذت بربي وربكم " يعني استعيذ بربي وربكم " من كل متكبر " عن الإيمان يعني " لا يؤمن " أي لا يصدق " بيوم الحساب "
سورة غافر 28 - 29
ثم قال " وقال رجل مؤمن من آل فرعون " وهو حزبيل بن ميخائيل هو ابن عم قارون وكان أبوه من آل فرعون وأمه من بني إسرائيل
ويقال كان ابن عم فرعون " يكتم إيمانه " وكان قد أسلم سرا من فرعون
" أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " يعني اليد والعصا
وروى الأوزاعي عن يحيى بن كثير عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن عروة بن الزبير قال قلت لعبد الله بن عمرو حدثني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أقبل عقبة بن أبي معيط ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة فلوى ثوبه على عنقه وخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبيه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال أبو بكر يا قوم " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " " وإن يك كاذبا فعليه كذبه " يعني فعليه وبال كذبه فلا ينبغي أن تقتلوه بغير حجة ولا برهان
" وإن يك صادقا " في قوله وكذبتموه " يصبكم بعض الذي يعدكم " من العذاب يعني بعض ذلك العذاب يصبكم في الدنيا
ويقال " بعض الذي يعدكم فيه " أي جميع الذي يعدكم كقوله " ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه " [ الزخرف 63 ] أي جميع الذي تختلفون فيه " إن الله لا يهدي " يعني لا يرشد ولا يوفق إلى دينه " من هو مسرف " في قوله " كذاب " يعني الذي عادته الكذب
قوله عز وجل " يا قوم لكم الملك اليوم " يعني ملك مصر " ظاهرين في الأرض " يعني غالبين على أرض مصر " فمن ينصرنا من بأس الله " يعني من يعصمنا من عذاب الله " إن جاءنا " يعني أرأيتم إن قتلتم موسى فمن يمنعنا من عذاب الله
فلما سمع فرعون قول(3/195)
196
المؤمن " قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى " يعني ما أريكم من الهدى إلا ما أرى لنفسي
ويقال ما آمركم إلا ما رأيت لنفسي أنه حق وصواب " وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " يعني ما أدعوكم إلا إلى طريق الهدى
وقرئ في الشاذ " الرشاد " بتشديد الشين يعني سبيل الرشاد الذي يرشد الناس ويقال رشاد اسم من أسماء أصنامه
سورة غافر 30 - 33
قوله تعالى " وقال الذي آمن " وهو حزبيل " يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب " يعني أخاف عليكم من تكذيبكم مثل عذاب الأمم الخالية " مثل دأب قوم نوح " أي مثل عذاب قوم نوح " وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد " يعني لا يعذبهم بغير ذنب " ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد " وهو من تنادى يتنادى تناديا
وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قرأ " يوم التناد " بتشديد الدال وقال تندون كما تند الإبل وهذا موافق لما بعده " يوم تولون مدبرين " وكقوله " يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه " [ عبس 34 ، 35 ]
وقرأ الحسن يوم التنادي بالياء وهو من النداء يوم ينادى كل قوم بأعمالهم
وينادي المنادي من مكان بعيد
وينادي أهل النار أهل الجنة
وينادي أهل الجنة أهل النار " قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا " [ الأعراف 44 ] وقراءة العامة " التناد " بالتخفيف بغير ياء وأصله الياء فحذف الياء لأن الكسرة تدل عليه
ثم قال عز وجل " يوم تولون مدبرين " يعني هاربين
قال الكلبي انطلقوا بهم إلى النار فعاينوها هربوا فيقال لهم " ما لكم من الله من عاصم " يعني ليس لكم من عذاب الله من مانع
وقال مقاتل " يوم تولون مدبرين " يعني ذاهبين بعد الحساب إلى النار كقوله " فتولوا عنه مدبرين " أي ذاهبين " ما لكم من الله من عاصم " يعني من مانع من عذاب الله أي مانع يمنع عنكم عذاب الله
" ومن يضلل الله " عن الهدى " فما له من هاد " يعني من مرشد وموفق
سورة غافر 34 - 35(3/196)
197
قوله عز وجل " ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات " هذا قول حزبيل أيضا لقوم فرعون قال " ولقد جاءكم يوسف " ويقال يعني به أهل مصر وهم الذين كانوا قبل فرعون لأن القرون الذين كانوا في زمان فرعون لم يروا يوسف وهذا كما قال تعالى " فلم تقتلون أنبياء الله من قبل " [ البقرة 91 ] وإنما أراد به آباءهم " بالبينات " أي بتعبير الرؤيا
وروي عن وهب بن منبه قال فرعون موسى هو الذي كان في زمن يوسف فعاش إلى زمان موسى وهذا خلاف قول جميع المفسرين " فما زلتم في شك مما جاءكم به " من تصديق الرؤيا وبما أخبركم " حتى إذا هلك " يعني مات " قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا "
يقول الله تعالى " كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب " يعني من هو مشرك شاك في توحيد الله
ثم وصفهم فقال " الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان " يعني بغير حجة " أتاهم كبر مقتا عند الله " يعني عظم بغضا لهم من الله " وعند الذين آمنوا " يعني عند المؤمنين ثم قال " كذلك يطبع الله " يعني يختم الله بالكفر " على كل قلب متكبر جبار " يعني متكبر عن عبادة الله تعالى
قرأ أبو عمرو " قلب متكبر " بالتنوين
جعل قوله " متكبر " نعتا للقلب
ومعناه أن صاحبه متكبر والباقون " قلب متكبر " بغير تنوين على معنى الإضافة لأن المتكبر هو الرجل فأضاف القلب إليه
سورة غافر 36 - 41
قوله تعالى " وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا " أي قصرا مشيدا " لعلي أبلغ الأسباب " يعني أصعد طرق السموات " فاطلع " يعني انظر " إلى إله موسى " الذي يزعم أنه أرسله
وقال مقاتل والقتبي " أسباب السموات " أبوابها
قرأ عاصم في رواية حفص " فأطلع " بنصب العين والباقون بالضم
فمن قرأ بالنصب جعله جوابا للفعل
ومن قرأ بالضم رده إلى قوله " أبلغ الأسباب " فأطلع
ثم قال " وإني لأظنه كاذبا " يعني لأحسب موسى كاذبا في قوله(3/197)
198
قال الله تعالى " وكذلك زين لفرعون سوء عمله " أي قبح عمله " وصد عن السبيل " يعني عن الدين والتوحيد
قرأ حمزة والكسائي وعاصم " وصد " بضم الصاد والباقون بالنصب
فمن قرأ بالضم فمعناه إن فرعون صرف عن طريق الهدى يعني أن الشيطان زين له سوء عمله وصرفه عن طريق الهدى
ومن قرأ بالنصب فمعناه صرف فرعون الناس عن الدين
" وما كيد فرعون إلا في تباب " أي ما صنيع فرعون إلا في خسارة يوم القيامة كقوله " تبت يدا أبي لهب " [ المسد 1 ] يعني إن فرعون اختار متاعا قليلا وترك الجنة الباقية فكان عمله في الخسارة
قوله تعالى " وقال الذي آمن " وهو حزبيل " يا قوم " " اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد " يعني أطيعوني حتى أرشدكم وأبين لكم دين الصواب
قوله تعالى " يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع " يعني قليل " وإن الآخرة هي دار القرار " لا زوال لها
قوله تعالى " من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها " يعني من عمل الشرك فلا يجزى إلا النار في الآخرة
" ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن " يعني من رجل أو امرأة " فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب " يعني بغير مقدار
وقال بعض الحكماء إن الله تعالى قال " من عمل سيئة " ولم يفل من ذكر أو أنثى وقال " ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى " لأن العمل الصالح يحسن من الرجل والمرأة
والسيئة من المرأة أقبح من الرجل فلم يذكر من ذكر أو أنثى
قوله " يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة " يعني أن حزبيل قال لقومه مالي أدعوكم إلى التوحيد والطاعة وذلك سبب النجاة والمغفرة فلم تطيعوني " وتدعونني إلى النار " يعني إلى عمل أهل النار
سورة غافر 42 - 46
ثم بين عمل أهل النار فقال " تدعونني لأكفر بالله " يعني لأجحد بوحدانية الله " وأشرك به " يعني أشرك بالله " ما ليس لي به علم " يعني ما ليس لي به حجة بأن مع الله(3/198)
199
شريكا " وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار " يعني إلى دين العزيز الغفار " العزيز " في ملكه " الغفار " لمن تاب
قوله " لا جرم " يعني حقا
" أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا " يعني ليس له قدرة
ويقال ليس له استجابة دعوة تنفع في الدنيا
" ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله " يعني مصيرنا ومرجعنا إلى الله يوم القيامة " وأن المسرفين " يعني المشركين " هم أصحاب النار " يعني هم في النار أبدا
قوله " فستذكرون ما أقول لكم " يعني ستعرفون إذا نزل بكم العذاب وتعلمون أن ما أقول لكم من النصيحة أنه حق
" وأفوض أمري إلى الله " يعني أمر نفسي إلى الله وأدع تدبيري إليه " إن الله بصير بالعباد " يعني عالم بأعمالهم وبثوابهم
فأرادوا قتله فهرب منهم فبعث فرعون في طلبه فلم يقدروا عليه فذلك قوله " فوقاه الله سيئات ما مكروا " يعني دفع الله عنه شر ما أرادوا " وحاق بآل فرعون " يعني نزل بهم " سوء العذاب " يعني شدة العذاب وهو الغرق
قوله عز وجل " النار يعرضون عليها " قال ابن عباس يعني تعرض أرواحهم على النار " غدوا وعشيا " هكذا قال قتادة ومجاهد
وقال مقاتل تعرض روح كل كافر على منازلهم من النار كل يوم مرتين
وقال ابن مسعود أرواحهم في جوف طير سود يرون منازلهم غدوة وعشية
وقال هذيل بن شرحبيل أرواح الشهداء في جوف طير خضر تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش
وإن أرواح آل فرعون في جوف طير سود تغدو وتروح على النار فذلك عرضها
وفي الآية دليل على إثبات عذاب القبر لأنه ذكر دخولهم النار يوم القيامة وذكر أنه تعرض عليهم النار قبل ذلك غدوا وعشيا
ثم قال " ويوم تقوم الساعة " يعني يقال لهم يوم القيامة " أدخلوا آل فرعون "
قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو " أدخلوا " بضم الألف والخاء
وهكذا قرأ عاصم في رواية أبي بكر والباقون بنصب الألف وكسر الخاء
فمن قرأ " أدخلوا " بالضم
فمعناه " ادخلوا آل فرعون " يعني يا قوم فرعون " أشد العذاب " فصار الآل نصبا بالنداء
ومن قرأ " أدخلوا " بالنصب
معناه يقال للخزنة أدخلوا آل فرعون
يعني قوم فرعون " أشد العذاب " يعني أسفل العذاب
فصار الآل نصبا لوقوع الفعل عليه(3/199)
200
سورة غافر 47 - 50
قوله تعالى " وإذ يتحاجون في النار " يعني يتخاصمون في النار الضعفاء والرؤساء " فيقول الضعفاء للذين استكبروا " يعني لرؤسائهم " إنا كنا لكم تبعا " يعني لدينكم ( فهل أنتم مغنون عنا ) يعني حاملين عنا " نصيبا من النار " يعني بعض الذي علينا من العذاب باتباعنا إياكم كما كنا ندفع عنكم المؤونة في دار الدنيا
" قال الذين استكبروا " يعني الرؤساء يقولون للضعفاء " إنا كل فيها " يعني نعذب نحن وأنتم على قدر حصصكم في الذنوب فلا يغني واحد واحدا " إن الله قد حكم بين العباد " يعني قضى بين العباد بين التابع والمتبوع
ويقال " حكم بين العباد " يعني أنزلنا منازلنا وأنزلكم منازلكم
قوله تعالى " وقال الذين في النار لخزنة جهنم " إذا اشتد عليهم العذاب " ادعوا ربكم " يعني سلوا ربكم
" يخفف عنا يوما من العذاب " يعني يوما من أيام الدنيا حتى نستريح فترد الخزنة عليهم فتقول " قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات " يعني ألم تخبركم الرسل أن عذاب جهنم إلى الأبد ويقال " أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات " يعني ألم تخبركم الرسل بالدلائل والحجج والبراهين فكذبتموهم
" قالوا بلى قالوا فادعوا " يعني تقول لهم الخزنة فادعوا ما شئتم فإنه لا يستجاب لكم
" وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " يعني في خطأ بين
سورة غافر 51 - 52
قوله عز وجل " إنا لننصر رسلنا " بالغلبة والحجة " والذين آمنوا " يعني الذين صدقوهم " في الحياة الدنيا " أي بالحجة والغلبة على جميع أهل الأديان " ويوم يقوم الأشهاد " قال مقاتل يعني الحفظة من الملائكة يشهدون عند رب العالمين للرسل بالبلاغ وعلى الكافرين بتكذيبهم قال الكلبي يعني يوم القيامة يقوم الرسل عند رب العالمين " يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم " يعني لا ينفع الكافرين اعتذارهم
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " يوم لا ينفع الظالمين " بالتاء بلفظ التأنيث لأن المعذرة مؤنثة والباقون بالياء وانصرف إلى المعنى يعني لا ينفع لهم اعتذارهم " ولهم اللعنة ولهم سوء الدار " يعني السخطة وعذاب جهنم(3/200)
201
سورة غافر 53 - 57
قوله عز وجل " ولقد آتينا موسى الهدى " يعني التوراة فيها هدى ونور من الضلالة " وأورثنا بني إسرائيل الكتاب " يعني أعطيناهم الكتاب على لسان الرسل التوراة والإنجيل والزبور " هدى " يعني بيانا من الضلالة
ويقال فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم " وذكرى لأولي الألباب " يعني عظة لذوي العقول
قوله تعالى " فاصبر إن وعد الله حق " يعني اصبر يا محمد على أذى المشركين فإن وعد الله حق وهو ظهور الإسلام على الأديان كلها وفتح مكة
" واستغفر لذنبك "
وهذا قبل نزول قوله " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " [ الفتح 2 ]
ويقال " استغفر لذنبك " يعني لذنب أمتك " وسبح بحمد ربك " أي صل بأمر ربك " بالعشي " يعني صلاة العصر " والإبكار " يعني صلاة الغداة
ويقال سبح الله تعالى واحمده بلسانك في أول النهار وآخره
قوله عز وجل " إن الذين يجادلون في آيات الله " قال الكلبي ومقاتل يعني اليهود والنصارى يجادلون في الدجال
وذلك أنهم يقولون إن صاحبنا يبعث في آخر الزمان وله سلطان فيخوض البحر وتجري معه الأنهار ويرد علينا الملك
فنزل " إن الذين يجادلون في آيات الله " يعني في الدجال لأن الدجال آية من آيات الله " بغير سلطان " يعني بغير حجة " أتاهم " من الله
" إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه " أي ما في قلوبهم إلا عظمة " ما هم ببالغيه " يعني ما هم ببالغي ذلك الكبر الذي في قلوبهم بأن الدجال منهم
وقال القتبي إن في صدورهم إلا تكبرا على محمد صلى الله عليه وسلم وطمعا أن يغلبوه وما هم ببالغي ذلك
وقال الزجاج معناه وما هم ببالغي إرادتهم وإرادتهم دفع آيات الله تعالى
وروى أبو جعفر الرازي عن أبي الربيع عن أبي العالية قال إن اليهود ذكروا الدجال وعظموا أمره فنزل " إن الذين يجادلون في آيات الله " يعني أن الدجال من آيات الله " فاستعذ بالله " من فتنة الدجال فإنه ليس ثم فتنة أعظم من فتنة الدجال
" إنه هو السميع " لقول اليهود " البصير " يعني العليم بأمر الدجال
ويقال " السميع " لدعائك " البصير " برد فتنة الدجال عنك
ثم قال عز وجل " لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس " قال الكلبي ومقاتل " لخلق السموات والأرض " أعظم من خلق الدجال
ويقال " لخلق السموات والأرض " أعظم من خلق الناس بعد موتهم
يعني أنهم يبعثون يوم القيامة " ولكن أكثر الناس لا(3/201)
202
يعلمون ) أن الدجال خلق من خلق الله تعالى
ويقال لا يعلمون أن الله يبعثهم ولا يصدقون
سورة غافر 58 - 60
ثم قال تعالى " وما يستوي الأعمى والبصير " يعني الكافر والمؤمن بالثواب " والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء " يعني لا يستوي الصالح مع الطالح " قليلا ما تذكرون " أي تتعظون وتعتبرون
قرأ عاصم وحمزة والكسائي " تتذكرون " بالتاء على وجه المخاطبة والباقون بالياء " يتذكرون " على معنى الخبر عنهم وفي كلا القراءتين " ما " للصلة والزينة
وقال الله تعالى " إن الساعة لآتية لا ريب فيها " يعني قيام الساعة كائنة لا شك فيها عند المؤمنين " ولكن أكثر الناس لا يؤمنون " يعني لا يصدقون الله تعالى
وقال عز وجل " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم " قال الكلبي وحدوني أغفر لكم
وقال مقاتل معناه " وقال ربكم " لأهل الإيمان " ادعوني أستجب لكم " " إن الذين يستكبرون عن عبادتي " يعني عن توحيدي فلا يؤمنون بي ولا يطيعونني
" سيدخلون جهنم داخرين " أي صاغرين
ويقال " وقال ربكم ادعوني " بلا غفلة " أستجب لكم " يعني أستجب لكم بلا مهلة
وقيل أيضا " ادعوني " بلا جفاء " أستجب لكم " بالوفاء
وقيل أيضا " ادعوني " بلا خطأ " أستجب لكم " مع العطاء
وروى النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " ) قرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر وإحدى الروايتين عن أبي عمرو " سيدخلون جهنم " بضم الياء ونصب الخاء على معنى فعل ما لم يسم فاعله وتكون " جهنم " مفعولا ثانيا
والباقون " يدخلون " بنصب الياء وضم الخاء على الإخبار عنهم بالفعل المستقبل على معنى سوف يدخلون
سورة غافر 61 - 65(3/202)
203
قول الله عز وجل " الله الذي جعل لكم الليل " يعني خلق لكم الليل " لتسكنوا فيه " يعني لتستقروا فيه وتستريحوا فيه " والنهار مبصرا " يعني مضيئا لابتغاء الرزق والمعيشة
ويقال " مبصرا فيه " لتبصروا فيه " إن الله لذو فضل على الناس " يعني على أهل مكة بتأخير العذاب عنهم
وقيل على جميع الناس بخلق الليل والنهار " ولكن أكثر الناس لا يشكرون " لربهم في النعمة فيوحدونه ويطيعونه
قوله تعالى " ذلكم الله ربكم " يعني الذي خلق هذا هو ربكم " خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون " أي تصرفون وتحولون
ويقال " فأنى تؤفكون " أي من أين تكذبون " كذلك يؤفك " يعني هكذا يكذب
ويقال هكذا يحول " الذين كانوا بآيات الله يجحدون " ويقال هكذا يؤفك الذين كانوا من قبلهم
قوله تعالى " الله الذي جعل لكم الأرض قرارا " أي بسط لكم الأرض وجعلها موضع قراركم " والسماء بناء " يعني خلق السماء فوقكم مرتفعا " وصوركم " يعني خلقكم " فأحسن صوركم " ولم يخلقكم على صورة الدواب " فأحسن صوركم " يعني أحكم خلقكم " ورزقكم من الطيبات " يعني الحلالات
يقال اللذيذات " ذلكم الله ربكم " يعني الذي خلق هذه الأشياء هو ربكم " فتبارك الله رب العالمين " يقال هو من البركة يعني البركة منه
قوله تعالى " هو الحي " يعني هو الحي الذي لا يموت ويميت الخلائق " لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين " يعني بالتوحيد " الحمد لله رب العالمين " يعني قولوا الحمد لله رب العالمين الذي صنع لنا هذا
سورة غافر 66 - 68
قوله تعالى " قل إني نهيت " يعني قل يا محمد لأهل مكة " إني نهيت " " أن أعبد الذين تدعون من دون الله " يعني نهاني ربي أن أعبد الذين تعبدون من دون الله من الأصنام " لما جاءني البينات من ربي " الواضحات وهو القرآن " وأمرت أن أسلم لرب العالمين " يعني أستقيم على التوحيد
قوله عز وجل " هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم " وقد ذكرناه من قبل
" ثم لتكونوا شيوخا " يعني يعيش الإنسان إلى أن يصير شيخا(3/203)
204
" ومنكم من يتوفى من قبل " " ولتبلغوا أجلا مسمى " يعني الشباب والشيخ يبلغ " أجلا مسمى " وقتا معلوما
ويقال في الآية تقديم ومعناه " ثم لتكونوا شيوخا " أي ثم لتبلغوا " أجلا مسمى " يعني وقت انقضاء أجله " ومنكم من يتوفى من قبل " أي من قبل أن يبلغ أشده
ويقال من قبل أن يصير شيخا
ثم قال " ولعلكم تعقلون " أي لكي تعقلوا أمر ربكم ولتستدلوا به وتتفكروا في خلقه
ثم قال عز وجل " هو الذي يحيي ويميت " أي يحيي للبعث ويميت في الدنيا على معنى التقديم ويقال معناه هو الذي يحيي في الأرحام ويميت عند انقضاء الآجال " فإذا قضى أمرا " يعني أراد أن يخلق شيئا " فإنما يقول له كن فيكون "
سورة غافر 69 - 76
قوله عز وجل " ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله " أي يجادلون في القرآن أنه ليس منه " أنى يصرفون " يعني من أين يصرفون عن على القرآن والإيمان ويقال من أين تعدلون عنه إلى غيره ويقال عن الحق والتوحيد
ثم وصفهم فقال " الذي كذبوا بالكتاب " يعني بالقرآن " وبما أرسلنا به رسلنا " يعني بالتوحيد
ويقال بالأمر والنهي " فسوف يعلمون " ماذا ينزل بهم في الآخرة
ثم وصف ما ينزل بهم فقال عز وجل " إذ الأغلال في أعناقهم " يعني ترد أيمانهم إلى أعناقهم " والسلاسل يسحبون " يعني تجعل السلاسل في أعناقهم ويجرون " في الحميم " يعني في ماء حار قد انتهى حره
قال مقاتل " يسحبون في الحميم " يعني في حر النار
وقال الكلبي يعني في الماء الحار
" ثم في النار يسجرون " أي يوقدون فصاروا وقودا
وروي عن ابن عباس أنه قرأ " والسلاسل " بنصب اللام " يسحبون " بنصب الياء يعني أنهم يسحبون السلاسل
وقال هو أشد عليهم
وقراءة العامة " والسلاسل " بضم اللام " يسحبون " بالضم على معنى فعل ما لم يسم فاعله
والمعنى أن الملائكة يسحبونهم في السلاسل
" ثم قيل لهم " أي تقول لهم الخزنة " أين ما كنتم تشركون " يعني تعبدون " من دون الله " من الأوثان " قالوا ضلوا عنا " يعني اشتغلوا بأنفسهم عنا(3/204)
205
قال " بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا " وذلك أنهم يندمون على إقرارهم وينكرون ويقولون " بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا " في الدنيا
ويقال معناه بل لم نكن ندعو شيئا ينفعنا
يقول الله تعالى " كذلك يضل الله الكافرين " عن الحجة " ذلكم " أي ذلك العذاب " بما كنتم تفرحون في الأرض " يعني تبطرون وتتكبرون في الأرض " بغير الحق وبما كنتم تمرحون " يعني تعصون وتستهزئون بالمسلمين
وقال تعالى " ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين " يعني فبئس مقام المتكبرين عن الإيمان
سورة غافر 77 - 78
ثم قال " فاصبر إن وعد الله حق " يعني اصبر يا محمد صلى الله عليه وسلم على أذى الكفار " إن وعد الله حق " يعني كائن " فإما نرينك بعض الذي نعدهم " يعني نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب في الدنيا وهو القتل والهزيمة
" أو نتوفينك " من قبل أن نرينك عذابهم في الدنيا " فإلينا يرجعون " يعني يرجعون إلينا في الآخرة فنجزيهم بأعمالهم
وقال عز وجل " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك " يعني إلى قومهم " منهم من قصصنا عليك " يعني سميناهم لك فأنت تعرفهم " ومنهم من لم نقصص عليك " يعني لم نسمهم لك ولم نخبرك بهم يعني أنهم صبروا على أذاهم فاصبر أنت يا محمد على أذى قومك كما صبروا
ثم قال " وما كان لرسول أن يأتي بآية " أي ما كان لرسول من القدرة " أن يأتي بآية " أي بدلائل وبراهين " إلا بإذن الله " يعني بأمره
" فإذا جاء أمر الله " يعني العذاب " قضي بالحق " يعني عذبوا ولم يظلموا حين عذبوا " وخسر هنالك المبطلون "
أي خسر عند ذلك المبطلون
يعني المشركين ويقال يعني الظالمين
ويقال الخاسرين
سورة غافر 79 - 84(3/205)
206
سورة غافر 85
ثم ذكر صنعه ليعتبروا فقال " الله الذي جعل لكم الأنعام " يعني خلق لكم البقر والغنم والإبل " لتركبوا منها " يعني بعضها يعني الإبل " ومنها تأكلون " من لحومها وألبانها " ولكم فيها منافع " يعني في الأنعام " منافع " في ظهورها وشعورها وشرب ألبانها " ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم " يعني ما في قلوبكم من بلد إلى بلد " وعليها وعلى الفلك تحملون " يعني على الأنعام وعلى السفن
قوله عز وجل " ويريكم آياته " يعني دلائله وعجائبه " فأي آيات الله تنكرون " بأنها ليست من الله تعالى
ثم قال " أفلم يسيروا في الأرض " يعني يسافروا في الأرض " فينظروا " يعني فيعتبروا " كيف كان عاقبة الذين من قبلهم " يعني آخر أمر من كان قبلهم كيف فعلنا بهم حين كذبوا رسلهم " كانوا أكثر منهم " يعني أكثر من قومك في العدد " وأشد قوة " من قومك " وآثارا في الأرض " يعني مصانعهم أعظم آثارا في الأرض وأطول أعمارا وأكثر ملكا في الأرض " فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون " يعني لم ينفعهم ما عملوا في الدنيا حين نزل بهم العذاب
قوله عز وجل " فلما جاءتهم رسلهم بالبينات " بالأمر والنهي وبخبر العذاب " فرحوا بما عندهم من العلم " يعني من قلة علمهم رضوا بما عندهم من العلم ولم ينظروا إلى دلائل الرسل
ويقال رضوا بما عندهم فقالوا لن نعذب ولن نبعث
ويقال " فرحوا بما عندهم من العلم " أي علم التجارة كقوله " يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا " [ الروم 7 ]
" وحاق بهم " يعني نزل بهم " ما كانوا يستهزئون " يعني يسخرون به ويقولون إنه غير نازل بهم
قوله عز وجل " فلما رأوا بأسنا " يعني عذابنا في الدنيا " قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا " يعني تبرأنا " بما كنا به مشركين " يعني بما كنا به مشركين من الأوثان
يقول الله تعالى " فلم يك ينفعهم إيمانهم " يعني تصديقهم " لما رأوا بأسنا " يعني حين رأوا عذابنا
قال القتبي البأس الشدة والبأس العذاب كقوله " فلما رأوا بأسنا " وكقوله " فلما أحسوا " بأسنا " سنت الله التي قد خلت في عباده " قال مقاتل يعني كذلك كانت سنة الله " في عباده "
يعني العذاب في الأمم الخالية إذا عاينوا العذاب لم ينفعهم الإيمان
وقال القتبي هكذا سنة الله أنه من كفر عذبه " وخسر هنالك الكافرون " أي خسر عند ذلك الكافرون بتوحيد الله عز وجل و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم(3/206)
207
سورة فصلت
مكية خمسون وأربع آيات
سورة فصلت 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى " حم " يعني قضى ما هو كائن ويقال هو قسم أقسم الله تعالى به
" تنزيل " يعني نزل بهذا القرآن جبريل " من الرحمن الرحيم " " تنزيل " صار رفعا بالابتداء وخبره " كتاب فصلت آياته " ويقال صار رفعا بإضمار فيه
ومعناه هذا تنزيل من الرحمن الرحيم " كتاب " يعني القرآن " فصلت آياته " يعني بينت وفسرت دلائله وحججه
ويقال بين حلاله وحرامه " قرآنا عربيا " صار نصبا على الحال أي بينت آياته في حال جمعه " لقوم يعلمون " يعني يصدقون ويقرون بالرسل ويقال يعلمون ما فيه ويفهمونه
" قرآنا عربيا " أخذ من الجمع ولو كان غير عربي لم يعلمون
قوله تعالى " بشيرا ونذيرا " يعني " بشيرا " للمؤمنين بالجنة " ونذيرا " للكافرين بالنار
" فأعرض أكثرهم " يعني أعرض أكثر أهل مكة " فهم لا يسمعون " يعني لا يسمعون سمعا ينفعهم لأنهم لا يجيبون ولا يطيعون
وقال " وقالوا قلوبنا في أكنة " يعني في غطاء لا نفقه ما تقول " مما تدعونا إليه " من التوحيد لا يصل إلى قلوبنا " وفي آذاننا وقر " يعني ثقلا فلا نسمع قولك
يعني نحن في استماع قولك كالصم لا نسمع ما تقول " ومن بيننا وبينك حجاب " أي ستر وغطاء " فاعمل إننا عاملون " يعني اعمل على أمرك نعمل على أمرنا
ويقال اعمل لإلهك الذي أرسلك إننا عاملون لآلهتنا وهذا قول مقاتل والأول قول الكلبي
ويقال اعمل في هلاكنا إننا عاملون في هلاكك
روى محمد بن كعب القرظي عمن حدثه أن عتبة بن ربيعة قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش ألا أقوم إلى هذا الرجل وأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل منا بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا وذلك حين رأوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون
فقالوا بلى يا أبا الوليد
فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من المكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت(3/207)
208
جماعتهم وعبت آلهتهم ودينهم وكفرت من مضى من آبائهم فإن كنت إنما تريد بما جئت به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثر مالا منا وإن كنت تريد شرفا شرفناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رؤيا تراه أي خيالا لا تستطيع أن ترده عنك نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا لك فيه أموالنا حتى نبريك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه
فلما فرغ منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته " حتى انتهى إلى قوله " فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " [ فصلت 13 ] " فقام عتبة وجاء إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض تالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك قال سمعت قولا ما سمعت بمثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة
يا معشر قريش أطيعوني وخلوا بين ما هو فيه
فقالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه فقال هذا الرأي لكم فاصنعوا ما بدا لكم
سورة فصلت 6 - 9
يقول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي " يعني آدميا مثلكم " يوحى إلي " ما أبلغكم من الرسالة " أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه " يعني أقروا له بالتوحيد " واستغفروه " من الشرك " وويل للمشركين " يعني الشدة من العذاب للمشركين " الذين لا يؤتون الزكاة " يعني لا يعطون الزكاة ولا يقرون بها " وهم بالآخرة هم كافرون " يعني بالبعث بعد الموت
ثم وصف المؤمنين فقال " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني صدقوا بالله وأدوا الفرائض " لهم أجر غير ممنون " يعني غير منقوص
ويقال غير مقطوع عنهم في حال ضعفهم ومرضهم
فقال عز وجل " قل أئنكم لتكفرون " اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الزجر يعني أئنكم لتكذبون بالخالق الذي " خلق الأرض في يومين " يعني في يوم الأحد ويوم الاثنين
فبدا خلقها في يوم الأحد وبسطها في يوم الاثنين " وتجعلون له أندادا " يعني تصفون له شركاء من الآلهة " ذلك رب العالمين " يعني الذي خلق الأرض فهو رب جميع الخلق ولو أراد(3/208)
209
الله أن يخلقها في لحظة واحدة لفعل وكان قادرا ولكنه أحب أن يبصر الخلق وجوه الأناة والقدرة على خلق السموات والأرض في أيام كثيرة وفي لحظة واحدة سواء لأن الخلق عاجزون عن مثقال ذرة منها وكان ابتداء خلق الأرض في يوم الأحد وإتمام خلقها وبسطها في يوم الاثنين
سورة فصلت 10 - 12
قوله تعالى " وجعل فيها رواسي من فوقها " يعني وخلق في الأرض رواسي يعني الجبال الثوابت من فوقها " وبارك فيها " بالماء والشجر " وقدر فيها أقواتها " يعني قسم فيها الأرزاق
وقال عكرمة " قدر فيها أقواتها " يعني قدر في كل قرية عملا لا يصلح في الأخرى مثل النيسابوري لا يكون إلا بنيسابور والهروي لا يكون إلا بهراة
وقال قتادة " وقدر فيها أقواتها " قال جبالها ودوابها وأنهارها وثمارها
وقال الحسن " وقدر فيها أقواتها " قال أرزاقها
وقال مقاتل يعني أرزاقها ومعايشها
وروى الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهم قال أول ما خلق الله من شيء خلق القلم فقال له اكتب
فقال يا رب وما أكتب فقال اكتب القدر فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى يوم القيامة ثم خلق النون ثم رفع بخار الماء ففتق منه السموات ثم بسط الأرض على ظهر النون فاضطرب النون فتمادت الأرض فأوتدت بالجبال
ثم قال " في أربعة أيام " يعني من أيام الآخرة ويقال من أيام الدنيا " سواء للسائلين " يعني لمن سأل الرزق ومن لم يسأل
وقال مقاتل " سواء للسائلين " يعني عدلا لمن سأل الرزق كقوله " واهدنا إلى سواء الصراط " [ ص22 ] يعني عدلا
وقال ابن عباس سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال ( خلق الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة ) وهكذا خلق الأرزاق قبل الأرواح بأربع آلاف سنة
" وفي أربعة أيام سواء "
قرأ الحسن " سواء " بكسر الألف وقرأ أبو جعفر المدني " سواء " بالضم وقراءة العامة بالنصب
فمن قرأ بالكسر جعل " سواء " صفة للأيام والمعنى في أربعة أيام مستويات تامات " للسائلين "
ومن قرأ بالضم فمعناه في أربعة أيام وقد تم الكلام ثم استأنف فقال " سواء للسائلين " ومن قرأ بالنصب يعني قدرها سواء صار نصبا على المصدر ومعناه استوت استواء
" ثم استوى إلى السماء " أي صعد أمره إلى السماء وهو قوله " كن " ويقال عمد(3/209)
210
إلى خلق السماء " وهي دخان " يعني السماء بخار الماء كهيئة الدخان وذلك أنه لما خلق العرش لم يكن تحت العرش شيء سوى الماء كما قال
" وكان عرشه على الماء " ثم ألقى الحرارة على الماء حتى ظهر منه البخار فارتفع بخاره كهيئة الدخان فارتفع البخار وألقى الريح الزبد على الماء فخلق الأرض من الزبد وخلق السماء من الدخان وهو البخار
ثم قال " لها وللأرض " يعني للسماء والأرض " ائتيا طوعا أو كرها " يعني أعطيا الطاعة كرها أو طوعا
يعني ائتيا بالمعرفة لربكما والذكر له طوعا أو كرها " قالتا أتينا طائعين " فأعطيا الطاعة بالطوع
ويقال كانت السماء رتقا عن المطر والأرض عن النبات فقال لهما " ائتيا " يعني أطيعا وأخرجا ما فيكما من المطر والنبات منفعة للخلق إن شئتما طائعين وإن شئتما كارهين
" قالتا أتينا طائعين " يعني أخرجنا ما فينا طائعين غير كارهين
وروي عن مجاهد أنه قال معناه يا سماء أبرزي شمسك وقمرك ونجومك ويا أرض أخرجي نباتك طوعا أو كرها
ويقال هذا على وجه المثل يعني أمرهما بإخراج ما فيهما فأخرجتا طائعتين
قوله عز وجل " فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها " يعني أمر أهل كل سماء بأمرها
قال السدي خلق في كل سماء خلقا من الملائكة " وزينا السماء الدنيا بمصابيح " يعني بالنجوم " وحفظا " يعني من الشيطان الرجيم أن يسترق السمع " ذلك " يعني الذي ذكر من صنعه " تقدير العزيز " في ملكه " العليم " بخلقه
سورة فصلت 13 - 14
قوله تعالى " فإن أعرضوا " يعني عن الأمر " فقل أنذرتكم " يعني خوفتكم " صاعقة " يعني عذابا " مثل صاعقة " يعني مثل عذاب " عاد وثمود "
وقال مقاتل كان عاد وثمود ابني عم وموسى وقارون ابني عم وإلياس واليسع ابني عم وعيسى ويحيى ابني خالة
ومعنى الآية إن لم يعتبروا فيما وصفت لهم من قدرتي وعظمتي في خلق السموات والأرض وأعرضوا عن الإيمان فقل أنذرتكم عذابا مثل عذاب عاد وثمود أنه يصيبكم مثل ما أصابهم
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله أخبرني الخليل بن أحمد
قال حدثنا علي بن المنذر
قال حدثنا أبو فضيل عن الأجلح عن ابن حرملة عن جابر بن عبد الله أن أبا جهل والملأ من قريش بعثوا عتبة بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فقال له أنت يا محمد خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب فلم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك لواء وكنت رأسا ما بقيت
وإن كنت تريد الباءة زوجناك عشرة نسوة تختارهن من(3/210)
211
أي بنات قريش شئت
وإن كنت تريد المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك
فلما فرغ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته " " إلى قوله " فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " "
فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم أن يكف
ثم رجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم فقال أبو جهل والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا وقد صبأ فأتوه فقال أبو جهل والله يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبوت إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم وأعجبك أمره
فغضب عتبة وأقسم ألا يكلم محمدا أبدا وقال إني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني والله بقول ليس فيه سحر ولا شعر ولا كهانة فأمسكت على فيه وناشدته بالرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا صلى الله عليه وسلم إذا قال قولا لم يكذب فخفت أن ينزل عليكم العذاب
ثم قال تعالى " إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم " يعني من قبل عاد وثمود " ومن خلفهم " يعني من بعد عاد وثمود " ألا تعبدوا إلا الله " يعني ألا تطيعوا في التوحيد غير الله وهذا قول الرسل لقومهم
فأجابهم قومهم " قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة " ولم يرسل إلينا آدميا " فإنا بما أرسلتم به كافرون " أي جاحدون
وقد قيل في قوله " من بين أيديهم ومن خلفهم " يعني خوفوهم " من بين أيديهم " من أمر الآخرة وحذروهم النار ورغبوهم في الجنة
" ومن خلفهم " يعني زهدوهم في الدنيا فلم يقبلوا
وقد قيل " من بين أيديهم " يعني ما خلق قبلهم كيف أهلكهم الله ومما خلفهم من أمر الآخرة
سورة فصلت 15 - 18
قوله تعالى " فأما عاد فاستكبروا في الأرض " يعني تعظموا عن الإيمان أي عن قول لا إله إلا الله " بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة "
يقول الله تعالى " أو لم يروا أن الله الذي خلقهم " وقواهم " هو أشد منهم قوة " يعني(3/211)
212
بطشا ولم يعتبروا بذلك
" وكانوا بآياتنا يجحدون " يعني جاحدين بما آتاهم هود عليه السلام أنه لا ينزل بهم
قوله عز وجل " فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا " يعني ريحا باردة تحرق كما تحرق النار
ويقال " ريحا صرصرا " يعني شديدة الصوت " في أيام نحسات "
قال مقاتل يعني شدائد
وقال الكلبي يعني أيام مشؤومات
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " في أيام نحسات " بجزم الحاء والباقون بكسر الحاء ومعناهما واحد
ويقال يوم نحس ويوم نحس وأيام نحسه ونحسه والنحسات جمع الجمع
" لنذيقهم عذاب الخزي " يعني عذابا شديدا في الدنيا قبل عذاب الآخرة
وهذا كقوله " ليذيقهم بعض الذي عملوا " [ الروم 41 ] يعني ليصيبهم بعض العقوبة في الدنيا
كقوله تعالى " ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون " يعني يتوبون
ثم قال عز وجل " ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون " يعني أشد مما كان في الدنيا
" وهم لا ينصرون " يعني لا يمنعهم أحد من عذاب الله
ثم قال " وأما ثمود " قرأ الأعمش " ثمود " بالتنوين وقراءة العامة بغير تنوين
" فهديناهم " يعني بينا لهم الحق من الباطل والكفر من الإيمان
وقال مجاهد " فهديناهم " أي دعوناهم
وقال قتادة ومقاتل بينا لهم
وقال القتبي دعوناهم ودللناهم " فاستحبوا العمى على الهدى " يعني اختاروا الكفر على الإيمان
ويقال اختاروا طريق الضلالة على طريق الهدى " فأخذتهم صاعقة العذاب الهون " والصاعقة هي العذاب الهون يعني يهانون فيه
ويقال الهون الشديد
" بما كانوا يكسبون " يعني يعملون من الشرك والمعاصي
قوله عز وجل " ونجينا الذين آمنوا " بصالح " وكانوا يتقون " عقر الناقة ويتقون الشرك والفواحش
سورة فصلت 19 - 23
ثم قال عز وجل " ويوم يحشر أعداء الله " يعني يساق أعداء الله وهم الكفار والمنافقون " إلى النار "
قرأ نافع " ويوم نحشر " بالنون " أعداء الله " بالنصب على معنى الإضافة إلى نفسه وقرأ الباقون بالياء والضم
" شر أعداء الله " على معنى فعل ما لم يسم فاعله " ويوم "(3/212)
213
صار نصبا لإضمار فيه يعني واذكر يوم يحشر أعداء الله إلى النار " فهم يوزعون " يعني يحبس أولهم ليلحق بهم آخرهم وأصله من وزعته أي كففته
" حتى إذا ما جاؤوها " يعني إذا جاؤوها " ما " صلة في الكلام
يعني جاؤوا النار وعاينوها
قيل لهم " أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون " [ الأنعام 22 ] فقالوا عند ذلك والله ربنا ما كنا مشركين فيختم على أفواههم وتستنطق جوارحهم فتنطق بما كتمت الألسن فذلك قوله " شهد عليهم سمعهم " يعني آذانهم بما سمعت " وأبصارهم " يعني أعينهم بما نظرت ورأت " وجلودهم " يعني فروجهم " بما كانوا يعملون " يعني بجميع أعمالهم
قوله تعالى " وقالوا لجلودهم " يعني لجوارحهم
وقال القتبي الجلود كناية عن الفروج " لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء " يعني أنطق الدواب وغيرهم " وهم خلقكم أول مرة " يعني أنطقكم في الدنيا " وإليه ترجعون " في الآخرة
يقول الله تعالى " وما كنتم تستترون " يعني ما كنتم تمتنعون ويقال ما كنتم تحسبون وتستيقنون إلا " أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون " من الخير والشر " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم " يعني ذلك الظن الذي أهلككم ويقال " أرداكم " يعني أغواكم
ويقال أهلككم سوء الظن وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى ( أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني ) وقال الحسن إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل
وإن المنافق أساء الظن بربه فأساء العمل
" فأصبحتم من الخاسرين " يعني صرتم من المغبونين
" فإن يصبروا " يعني على النار " فالنار مثوى لهم " أي مأوى لهم ويقال هذا جواب لقولهم " اصبروا على آلهتكم "
سورة فصلت 24 - 25
يقول الله تعالى " فإن يصبروا " يعني على النار " النار مثوى لهم " " وإن يستعتبوا " يعني يسترجعوا من الآخرة إلى الدنيا " فما هم من المعتبين " أي من المرجوعين إلى الدنيا
ويقال " وإن يستعتبوا " يعني وإن يطلبوا العذر " فما هم من المعتبين " يعني لا يسمع ولا يقبل منهم عذرهم
قوله عز وجل " وقيضنا لهم قرناء " من الشياطين
وقال أهل اللغة قيض يعني سلط ويقال قيض بمعنى قدر
" فزينوا لهم " يعني زينوا لهم التكذيب بالحساب وقال الحسن(3/213)
214
" وقضينا لهم قرناء " أي خلينا بينهم وبين الشياطين بما استحقوا من الخذلان فزينوا لهم " ما بين أيديهم وما خلفهم " قال الضحاك
يعني شككوهم في أمر الآخرة " وما خلفهم " يعني رغبوهم في الدنيا
ويقال زينوا لهم ما بين أيديهم يعني ما كان عليه آباؤهم من أمر الجاهلية " وما خلفهم " يعني تكذيبهم بالعبث " وحق عليهم القول " يعني وجب عليهم العذاب " في أمم قد خلت من قبلهم " يعني أمم قد مضت " من قبلهم " يعني من قبل أهل مكة " من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين " بالعقوبة
ويقال إنهم كانوا خاسرين قبلهم
سورة فصلت 26 - 29
قوله تعالى " وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن " نزلت الآية في أبي جهل وأصحابه فإنه قال إذ تلى محمد القرآن فارفعوا أصواتكم بالأشعار والكلام في وجوههم حتى تلبسوا عليهم فذلك قوله " والغوا فيه " يعني الغطوا فيه واللغط هو الشغب والجلبة " لعلكم تغلبون " يعني تغلبوهم ويسكتون
قال الزجاج " والغوا فيه " يعني عارضوا بكلام لا يفهم يكون ذلك الكلام لغوا
يقول الله تعالى " فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا " في الدنيا بالقتل " ولنجزينهم " يعني في الآخرة " أسوأ الذي كانوا يعملون " يعني أقبح ما كانوا يعملون ويقال هذا كله من عذاب الآخرة يعني " فلنذيقن الذين كفروا " في الآخرة " عذابا شديدا " " ولنجزينهم " من العذاب أسوأ ما كانوا يعملون
يعني بأسوأ أعمالهم وهو الشرك
" ذلك جزاء أعداء الله النار " يعني ذلك العذاب الشديد هو جزاء أعداء الله النار يعني ذلك العذاب هو النار ويقال صار رفعا بالبدل عن الجزاء
ثم قال " لهم فيها دار الخلد " يعني من النار موضع المقام أبدا " جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون " يعني بالكتاب والرسل
قوله تعالى " وقال الذي كفروا ربنا أرنا اللذين " يعني الصنفين اللذين " أضلانا " يعني سببا ضلالتنا " من الجن والإنس " ويقال جهلانا حتى نسينا الآخرة
ثم قال " نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين " في النار
ويقال من الجن ويقال يعني إبليس هو الذي أضلنا ومن الإنس يعني ابن آدم الذي قتل أخاه
ويقال رؤساؤهم في الضلالة
كقوله " ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا " [ الأحزاب 67 ] الآية
قرأ ابن كثير(3/214)
215
وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر " أرنا " بجزم الراء والباقون بالكسر ومعناهما واحد
سورة فصلت 30 - 32
قوله تعالى " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " يعني " قالوا ربنا الله " فعرفوه و " استقاموا " على المعرفة
وقال القتبي يعني آمنوا ثم استقاموا على طاعة الله
وقال ابن عباس في رواية الكلبي " ثم استقاموا " على ما افترض الله عليهم
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية ثم قال أتدرون ما استقاموا عليه فقالوا ما هو يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يعني استقاموا ولم يشركوا
وقال عمر رضي الله عنه " ثم استقاموا " ولم يروغوا روغان الثعلب على طاعة الله
وعن أبي العالية " ثم استقاموا " قال أخلصوا له الدين والعمل
ويقال وحدوا الله تعالى واستقاموا على طاعته ولزموا سنة نبيه
وقال بعض المتأخرين معناه " ثم استقاموا " فعلا كما استقاموا قولا
وقد قيل أيضا " إن الذين قالوا ربنا الله " يعني يقولون الله مانعنا ومعطينا وضارنا ونافعنا " ثم استقاموا " على ذلك القول ولا يرون النفع ولا يرجون من أحد دون الله تعالى ولا يخافون أحدا دون الله فذكر أعمالهم ثم ذكر ثوابهم فقال " تتنزل عليهم الملائكة " قال الكلبي يعني تتنزل عليهم الملائكة عند قبض أرواحهم ويبشرونهم ويقولون " ألا تخافوا ولا تحزنوا " يعني لا تخافوا أمامكم من العذاب ولا تحزنوا على ما خلفكم من الدنيا
وقال مقاتل " تتنزل عليهم الملائكة " يعني تتنزل عليهم الحفظة من السماء فتقول له أتعرفني فيقول لا
فيقول أنا الذي كنت أكتب عملك وبشره بالجنة فذلك قوله " وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون " في الدنيا
وقال زيد بن أسلم البشرى في ثلاث مواطن عند الموت وفي القبر وفي البعث
وقال بعض المتأخرين هذه البشرى للخائف الحزين لا للآمن المستبشر يعني الذي كان خائفا في الدنيا
ثم قال عز وجل " ونحن أولياؤكم في الحياة الدنيا " يعني تقول لهم الحفظة نحن كنا أولياؤكم في الحياة الدنيا ونحن أولياؤكم " وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم " يعني لكم في الجنة ما تحب وتتمنى قلوبكم " ولكم فيها ما تدعون " يعني تسألون(3/215)
216
ثم قال " نزلا من غفور " للذنوب العظام " رحيم " بالمؤمنين
حكى الزجاج عن الأخفش " نزلا " منصوبا من وجهين أحدهما على المصدر فمعناه أنزلناه نزلا
ويجوز أن يكون على الحال
سورة فصلت 33 - 36
قوله تعالى " وما أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا " قال بعضهم الآية نزلت في شأن المؤذنين يعني يدعون الناس إلى الصلاة
" وعمل صالحا " يعني يصلي بين الأذان والإقامة ويقال الأنبياء يدعون الخلق إلى توحيد الله تعالى " عمل صالحا " يعني الطاعات
ويقال العلماء يعلمون الناس أمور دينهم ويدعونهم إلى طريق الآخرة " وعمل صالحا " يعني عملوا بالعلم ويقال نزلت الآية في الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يعني يأمرون بالمعروف ويعملون به ويصبرون على ما أصابهم
" وقال إنني من المسلمين " يعني أكون على دين الإسلام لأنه لا تقبل طاعة بغير دين الإسلام
فقال عز وجل " ولا تستوي الحسنة ولا السيئة " قال الزجاج " لا " زائدة مؤكدة والمعنى لا تستوي الحسنة والسيئة لا تستوي الطاعة والمعصية ولا يستوي الكفر والإيمان ويقال لا يستوي البصير والأعمى
ويقال لا يستوي الصبر والجزع واحتمال الأذى والإساءة
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذيه أبو جهل لعنه الله وكان صلى الله عليه وسلم يكره رؤيته بغضا له فأمره الله تعالى بالعفو والصفح فقال " ادفع بالتي هي أحسن " يعني ادفع بالكلمة الحسنة الكلمة القبيحة " فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " يعني إذا فعلت ذلك يصير الذي بينك وبينه عداوة بمنزلة القرابة في النسب
قوله تعالى " وما يلقاها إلا الذين صبروا " على طاعة الله تعالى وأداء الفرائض " وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " يعني ذو نصيب وافر في الآخرة
ويقال " ادفع بالتي هي أحسن " يعني بقول لا إله إلا الله السيئة يعني الشرك
" وما يلقاها إلا الذين صبروا " على كظم الغيظ
ثم قال " وإما ينزغنك " يعني يصيبنك " من الشيطان نزغ " يعني فتنة
وقيل وسوسة على الاحتمال وقال الكلبي الذنب عند دفع السيئة
ويقال " ينزغنك " يعني يغوينك " فاستعذ بالله " يعني تعوذ بالله " إنه هو السميع " للاستعاذة " العليم " بقول الكفار(3/216)
217
وعقوبتهم
سورة فصلت 37 - 39
قوله تعالى " ومن آياته " يعني من علامات وحدانيته أن عرفوا توحيده بصنعه " الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر " يعني خلق الشمس والقمر والليل والنهار دلالة لوحدانيته لتعرفوا وحدانيته فتعبدوه ولا تعبدوا هذه الأشياء " واسجدوا لله الذي خلقهن " يعني اعبدوا خالق هذه الأشياء واسجدوا له وأطيعوه " إن كنتم إياه تعبدون " يعني إن أردتم بعبادة الشمس والقمر رضا الله تعالى فإن رضاه أن تعبدوه ولا تعبدوا غيره
ويقال " إن كنتم إياه تعبدون " يعني إن أردتم بعبادتهما عبادة الله تعالى فاعبدوه وأطيعوه ولا تسجدوا لغيره
قوله " فإن استكبروا " يعني تكبروا عن السجود لله تعالى وعن توحيده
" فالذين عند ربك " يعني الملائكة " يسبحون له " يعني يصلون لله تعالى " بالليل والنهار " يقال هو التسبيح بعينه يعني يسبحونه ويذكرونه " وهم لا يسأمون " يعني لا يملون من الذكر والعبادة والتسبيح
قوله عز وجل " ومن آياته " يعني من علامات وحدانيته " أنك ترى الأرض خاشعة " يعني غبراء يابسة لا نبت فيها " فإذا أنزلنا عليها الماء " يعني المطر " اهتزت " يعني تحركت بالنبات " وربت " يعني علت يعني انتفخت الأرض إذا أرادت أن تنبت " إن الذي أحياها " بعد موتها " لمحيي الموتى " للبعث في الآخرة " إنه على كل شيء قدير " أي من البعث وغيره
سورة فصلت 40 - 42
قوله تعالى " إن الذين يلحدون في آياتنا " قال مقاتل يعني يميلون عن الإيمان بالقرآن
وقال الكلبي يعني يميلون في آياتنا بالتكذيب وقال قتادة الإلحاد التكذيب وقال الزجاج أي يجعلون الكلام إلى غير وجهته ومن هذا سمي اللحد لحدا لأنه من جانب(3/217)
218
القبر
قرأ حمزة " يلحدون " بنصب الياء والحاء
والباقون بضم الياء وكسر الحاء ومعناهما واحد لحد وألحد بمعنى واحد
" لا يخفون علينا " يعني لا يقدرون أن يهربوا من عذابنا ولا يستترون منا " أفمن يلقى في النار " يعني أبا جهل وأصحابه " خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة " يعني النبي صلى الله عليه وسلم
ويقال نزلت في شأن جميع الكفار وجميع المؤمنين
يعني من كان مرجعه إلى النار حاله يكون خيرا أم حال من يدخل الجنة
ثم قال لكفار مكة " اعملوا ما شئتم " فلفظه لفظ التخيير والإباحة والمراد به التوبيخ والتهديد لأنه بين مصير كل عامل
ثم قال تعالى " إنه بما تعملون بصير " من الخير والشر و " بصير " يعني عالم
قوله تعالى " إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم " يعني جحدوا بالقرآن لما جاءهم " وإنه " يعني القرآن " لكتاب عزيز " يعني كريم عند المؤمنين ويقال كريم على الله أنزله آخر الكتب
وقال مقاتل " كتاب عزيز " يعني منيعا عن الباطل
ويقال " عزيز " لا يوجد مثله في النظم وكثرة فوائده
" لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " قال الكلبي ومقاتل " لا يأتيه الباطل " أي لا يأتيه التكذيب من الكتاب الذي قبله كل يصدق هذا ولا يجيء من بعده كتاب يكذبه
وقال قتادة " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " يعني لا يستطيع الشيطان أن يبطل منه حقا ولا يؤيد فيه باطلا
قال أبو الليث رحمه الله حدثنا الخليل أبو أحمد
قال حدثنا الباغندي
قال حدثنا محمد بن سلمة عن أبي بشار عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب قال قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إن أمتك ستفترق من بعدك
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بلى )
فقالوا ما المخرج منها قال ( كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) " تنزيل " من حكيم حميد
من ابتغى العلم في غيره أضله الله ومن حكم بغيره قصمه الله وهو الذكر الحكيم والنور المبين والصراط المستقيم فيه خبر من كان قبلكم وبيان من بعدكم والحكم فيما بينكم هو الفصل المبين وهو الفضل وليس بالهزل وهو الذي سمعته الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا لا يخلق على طول الدهر ولا تنقضي عبره ولا تفنى عجائبه ) ثم قال للحارث ( خذها إليك يا أعور )
ثم قال " تنزيل من حكيم حميد " يعني القرآن تنزيل من الله تعالى الحكيم في أمره المحمود في فعاله
وقال بعضهم قوله " إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم " لم يذكر جوابه وجوابه مضمر
وقال بعضهم جوابه في قوله " وذو عقاب أليم " ويقال جوابه في قوله " أولئك ينادون من مكان بعيد " [ فصلت 44 ](3/218)
219
وسورة فصلت 43 - 44
قوله تعالى " ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك " يعني اصبر على مقالة الكفار فإنهم لا يقولون من التكذيب لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك من التكذيب
ويقال معناه " ما يقال لك " يعني لا يؤمر لك يعني في الرسالة إلا ما قد قيل للرسل من قبلك بأن يعبدوا الله
فيقال لك أن تعبد الله تعالى أيضا
ويقال " ما يقال لك " إلا بأن تبلغ الرسالة " إلا ما قد قيل للرسل من قبلك " بأن يبلغوا الرسالة " إن ربك لذو مغفرة " قال مقاتل أي ذو تجاوز في تأخير العذاب عنهم إلى أجلهم
وقال الكلبي " إن ربك لذو مغفرة " لمن تاب من الشرك " وذو عقاب أليم " لمن لم يتب ومات على الشرك
قوله عز وجل " ولو جعلناه قرآنا أعجميا " يعني لو أنزلناه بلسان العبرانية " لقالوا لولا فصلت آياته " يعني هلا بين بالعربية
" أأعجمي وعربي " ويقولون القرآن أعجمي والرسول عربي فكان ذلك أشد لتكذيبهم
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر بهمزتين بغير مد والباقون بهمزة واحدة مع المد ومعناهما واحد ويكون على معنى الاستفهام
وقرأ الحسن " أعجمي " بهمزة واحدة بغير مد ويكون على غير وجه الاستفهام
وقرأ بعضهم " أعجمي " بنصب العين والجيم يقال رجل عجمي إذا كان من العجم وإن كان فصيحا
ورجل أعجمي إذا كان لا يفصح وإن كان من العرب
ثم قال تعالى " قل هو للذين آمنوا هدى " يعني القرآن هدى للمؤمنين من الضلالة " وشفاء " يعني وشفاء لما في الصدور من العمى " والذين لا يؤمنون " بالآخرة " في آذانهم وقر " يعني ثقلا وصما " وهو عليهم عمى " يعني القرآن عليهم حجة وهذا قول الكلبي
وقال مقاتل يعني عموا عنه فلا ينظرونه ولا يفهمونه
وروي عن ابن عباس أنه قرأ " وهو عليهم عم " بالكسر على معنى النعت وقراءة العامة بالنصب على معنى المصدر
كما أنه قال " هدى وشفاء " على معنى المصدر
ثم قال " أولئك ينادون من مكان بعيد " وهذا على سبيل المثل يقال للرجل إذا قل فهمه إنك تنادي من مكان بعيد يعني إنك لا تفهم شيئا
ويقال ينادون من مكان بعيد
يعني من السماء
وقال مجاهد يعني بعيدا من قلوبهم
وقال الضحاك ينادون يوم القيامة من مكان بعيد فينادى الرجل بأشنع أسمائه
يعني يقال له يا فاسق يا منافق يا كذا يا كذا(3/219)
220
سورة فصلت 45 - 46
قوله تعالى " ولقد آتينا موسى الكتاب " يعني أعطينا موسى التوراة ويقال الألواح
" فاختلف فيه " يعني صدق بعضهم وكذب بعضهم " ولولا كلمة سبقت من ربك " يعني وجبت بتأخير العذاب " لقضي بينهم " يعني لفرغ من أمرهم ولهلك المكذب
" وإنهم لفي شك منه مريب " يعني من العذاب بعد البعث " مريب " لا يعرفون شكهم
ويقال " مريب " أي ظاهر الشك
ويقال " ولولا كلمة سبقت من ربك " بتأخير العذاب عن هذه الأمة إلى يوم القيامة لأتاهم العذاب إذ كذبوه كما فعل بغيرهم
قوله تعالى " من عمل صالحا فلنفسه " يعني ثوابه لنفسه " ومن أساء فعليها " يعني العذاب على نفسه " وما ربك بظلام للعبيد " يعني لا يعذب أحدا بغير ذنب
سورة فصلت 47 - 48
قوله تعالى " إليه يرد علم الساعة " يعني لا يعلم قيام الساعة أحد إلا الله يعني يرد الخلق كلهم علم قيام الساعة إلى ربهم
" وما تخرج من ثمرات من أكمامها " يعني حين تطلع وغلاف كل شيء كمه أي تخرج من موضعها الذي كانت فيه
قرأ نافع وابن عامر وعاصم في إحدى رواية حفص " من ثمرات " بلفظ الجمع والباقون " من ثمرة " بلفظ الواحد
ثم قال " وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه " يعني إلا وهو يعلمه ولا يعلم أحد قبل الولادة كيف صفته ولا يعلم أحد بعد وضعه كم أجله
" ويوم يناديهم " يعني يدعوهم " أين شركائي " يعني الذين كنتم تدعون من دون الله " قالوا آذناك ما منا من شهيد " يعني أعلمناك وقلنا لك " ما منا من شهيد " يعني يشهد بأن لك شريكا أي يتبرأون من أن يكون مع الله شريك
ويقال ما منا من أحد يشهد لك أنه عبد أحد دونك
وقال القتبي هذا قول الآلهة التي كانوا يعبدون في الدنيا " ما منا من شهيد " لهم كما قالوا
وادعوه في الدنيا فينا
" وضل عنهم " يعني بطل عنهم " ما كانوا يدعون من قبل " في الدنيا " وظنوا ما لهم من محيص " يعني علموا واستيقنوا ما لهم من ملجأ ولا مفر من النار(3/220)
221
سورة فصلت 49 - 50
قوله تعالى " ولا يسأم الإنسان " يعني لا يمل الكافر
قال الضحاك نزلت في شأن النضر بن الحارث
" من دعاء الخير " يعني من سؤال الخير يعني العافية في الجسد والنعمة والسعة في الرزق
وقال " وإن مسه الشر " يعني أصابته الشدة والبلاء والفقر " فيؤوس قنوط " يعني آيسا من الخير قانطا من رحمة الله تعالى
ويقال لا يمل من دعاء الخير وإذا نزلت به شدة
يقول اللهم عافني وإذا مسه الشر " فيؤوس قنوط " يعني آيسا من معبوده
" ولئن أذقناه رحمة منا " يعني أصبناه عافية منا وغنى " من بعد ضراء مسته " يعني من بعد شدة أصابته " ليقولون هذا لي " يعني أنا أهل لهذا ومستحق له
ويقال أنا أحق بهذا ويقال هذا بعملي وأنا محقوق به
" وما أظن الساعة قائمة " يعني ما أحسب القيامة كائنة " ولئن رجعت إلى ربي " يعني يوم القيامة " إن لي عنده للحسنى " يعني الجنة ولئن كان يوم القيامة كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فلي الجنة
يقول الله تعالى " فلننبئن الذين كفروا " يعني لنخبرنهم " بما عملوا " من أعمالهم الخبيثة " ولنذيقنهم " يعني لنجزينهم " من عذاب غليظ " يعني عذاب شديد لا يفتر عنهم
سورة فصلت 51 - 54
قوله تعالى " وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه " يعني أعرض الكافر وقال مقاتل أعرض الكافر فلا يدعو ربه
وقال الكلبي أعرض عن الإيمان
" ونأى بجانبه " يعني تباعد بجانبه عن الدعاء وعن الإيمان
" وإذا مسه الشر " يعني أصابته الشدة " فذو دعاء عريض " قال مقاتل والكلبي يعني كثير
ويقال طويل
فإن قيل قد قال في موضع
" وإذا مسه الشر فيؤوس قنوط " وقال في موضع آخر " فذو دعاء عريض " مرة ذكر أنه يؤوس ومرة أخرى ذكر أنه يدعو فكيف هذا قيل له هذا في شأن رجل والآخر في شأن رجل ويجوز أن يكون في شأن إنسان واحد
" وإذا مسه الشر فيؤوس قنوط " عن كل معبود دون الله فيدعو(3/221)
222
الله دائما
ثم قال عز وجل " قل أرأيتم إن كان من عند الله " يعني إن كان هذا الكتاب من عند الله " ثم كفرتم به " يعني جحدتم أنه ليس من عند الله ماذا تقولون وماذا تجيبون وماذا تحتالون إذا نزل بكم العذاب يوم القيامة " من أضل ممن هو في شقاق بعيد " أي في خلاف طويل بعيد عن الحق
قوله تعالى " سنريهم آياتنا في الآفاق " يعني عذابنا في البلاد مثل هلاك عاد وثمود وقوم لوط وهم يرون إذا سافروا آثارهم وديارهم
" وفي أنفسهم " يبتلون بأنفسهم من البلايا
ويقال من قتل أصحابهم الكفار في الحرب " حتى يتبين لهم أنه الحق " يعني الذي قلت هو الحق فيصدقونك
وقال مجاهد " سنريهم آياتنا في الآفاق " يعني ما يفتح الله عليهم من القرى " وفي أنفسهم " قال فتح مكة
وقال الضحاك معناه أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم ائتنا بعلامة فانشق القمر نصفين
فقال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم إن كان القمر قد انشق فهي آية
ثم قال يا معشر قريش إن محمدا صلى الله عليه وسلم قد سحر القمر فوجهوا رسلكم إلى الآفاق هل عاينوا القمر كذلك إن عاينوا القمر فهي آية وإلا فذلك سحر
فوجهوا فإذا أهل الآفاق يتحدثون بانشقاقه
فقال أبو جهل هذا سحر مستمر
يعني ذاهبا في الدنيا
فنزل " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " وقال بعض المتأخرين " سنريهم آياتنا في الآفاق " ما وضع في العالم من الدلائل وفي أنفسهم ما وضع فيها من الدلائل التي تدل على وحدانية الله تعالى وأن محمدا صلى الله عليه وسلم صادق ينطق بالوحي فيما يقول
وهذا كما قال " وفي الأرض آيات للمؤمنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون "
قوله تعالى " أو لم يكف بربك " يعني شاهدا أن القرآن من الله تعالى " أنه على كل شيء شهيد " عالم بأعمالهم بالبعث وغيره
وقال الكلبي " أو لم يكف بربك " يعني قد أخبرهم بذلك وإن لم يسافروا
ويقال " أو لم يكف بربك " ومعنى الكفاية ههنا أنه قد بين لهم ما فيه كفاية بالدلالة على توحيده وتثبيت رسله
ثم قال " ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم " ألا كلمة التنبيه يعني اعلم أنهم في شك من البعث " ألا إنه بكل شيء محيط " يعني ألا إن الله تعالى عالم بأعمالهم وعقوبتهم والإحاطة إدراك الشيء بكماله يعني أحاط علمه سبحانه وتعالى بكل شيء من البعث وغيره والحمد لله وحده صلى الله عليه وسلم على من لا نبي بعده وآله وسلم(3/222)
223
سورة الشورى
مكية وهي خمسون وثلاث آيات
سورة الشورى 1 - 4
قوله تبارك وتعالى " حم عسق " روي عن ابن عباس أنه قال الحاء حكم الله والميم ملك الله والعين علو الله والسين سناء الله والقاف قدرة الله
فكأنه يقول فبحكمي وملكي وعلوي وسنائي وقدرتي لا أعذب عبدا قال لا إله إلا الله مخلصا فلقيني بها
ومعنى قول ابن عباس لا يعذب عبدا يعني لا يعذبه عذابا دائما خالدا
وروى المسيب عن رجل عن أبي عبيدة قال العين عذاب الله والسين سنون والقاف فيها القحط العجب
وقال وروي النبي صلى الله عليه وسلم قال ( افتحوا صبيانكم قول لا إله إلا الله ولقنوا موتاكم لا إله إلا الله )
والحكمة في ذلك لأن حال الصبيان حال حسن لا غل ولا غش في قلوبهم وحال الموتى حال الاضطرار فإذا قلتم ذلك في أول ما يجري عليكم القلم وآخر ما يجف القلم فعسى الله أن يتجاوز ما بين ذلك وقال المسيب وحدثنا محدث قال قاف قدف
وقال الضحاك في قوله " حم عسق " قال عذاب سيكون واقعا وأرجو أن يكون قد مضى يوم بدر والسنون
وقال شهر بن حوشب " حم عسق " حرب يذل فيه العزيز ويعز فيه الذليل من قريش ثم يفضي إلى العرب ثم إلى العجم ثم هي متصلة إلى خروج الدجال
وقال عطاء الحاء حرب وهو موت ذريع في الناس وفي الحيوان حتى يبيدهم ويفنيهم
والميم تحويل ملك من قوم إلى قوم والعين عدو لقريش يركبهم ثم ترجع الدولة إليهم لحرمة البيت والسين هو استئصال بالسنين كسني يوسف والقاف قدر من الله نافذ في ملكوت الأرض لا يخرجون من قدره وهو نافذ فيهم
وقال السدي الحاء حلمه والميم ملكه والعين عظمته والسين سناؤه والقاف قدرته
وقال قتادة هو اسم من أسماء الله تعالى ويقال اسم من أسماء القرآن(3/223)
224
ثم قال تعالى " كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك " يعني أوحى الله إليك ب " حم عسق " كما أوحى الله بها إلى الذين كانوا من قبلك
وقال ابن عباس ليس من نبي وإلا وقد أوحى الله تعالى إليه ب " حم عسق " كما أوحى الله بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم
قرأ ابن كثير " يوحى إليك " بالألف على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون " يوحي " بالكسر يعني هكذا يوحي الله إليك
وقرئ في الشاذ ( نوحي ) بالنون
ثم قال " الله العزيز " بالنقمة على من لم يجب الرسل " الحكيم " حكم بإنزال الوحي عليك
وقال مقاتل " كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك " يعني في أمر العذاب
قوله عز وجل " له ما في السموات وما في الأرض " يعني من خلق " وهو العلي " يعني الرفيع " العظيم " فلا شيء أعظم منه
يعني عظيم قدرته
سورة الشورى 5 - 7
قوله تعالى " تكاد السموات يتفطرن " يعني يتشققن " من فوقهن " يعني من هيبة الرحمن وجلاله وعظمته
قرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة وعاصم في رواية حفص " تكاد السموات " بالتاء بلفظ التأنيث " يتفطرن " بالتاء بلفظ التأنيث
وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر " تكاد " بالتاء بلفظ التأنيث " ينفطرن " بالنون وقرأ الباقون بالياء بلفظ التذكير " يتفطرن " بالياء
ثم قال " والملائكة يسبحون بحمد ربهم " يعني يسبحونه ويذكرونه " ويستغفرون لمن في الأرض " يعني للمؤمنين
وروى داود بن قيس قال دخلت على وهب بن منبه فسئل عن قوله " ويستغفرون لمن في الأرض " [ غافر 7 ] قال للمؤمنين منهم
وفي رواية أنه قال نسختها الآية التي في سورة المؤمن حيث قال " ويستغفرون للذين آمنوا " [ غافر 7 ]
وروى معمر عن قتادة قال " ويستغفرون لمن في الأرض " قال للمؤمنين منهم
قال أبو الليث رحمه الله هذا الذي روي عن قتادة أصح لأن النسخ في الأخبار لا يجوز وإنما يجوز في الأمر والنهي
قوله عز وجل " ألا إن الله هو الغفور " لذنوبهم ( الرحيم ) بهم في الرزق
ويقال " ويستغفرون لمن في الأرض " يعني يسألون لهم الرزق
قوله عز وجل " والذين اتخذوا من دونه " يعني عبدوا من دون الله " أولياء " يعني(3/224)
225
أصناما
" الله حفيظ عليهم " يعني يحفظ أعمالهم ويقال يشهد عليهم " وما أنت عليهم بوكيل " يعني بمسلط لتجبرهم على الإيمان
وهذا قبل أن يؤمر بالقتال
قوله عز وجل " وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا " يعني هكذا أنزلنا عليك جبريل ليقرأ عليك القرآن بلغتهم ليفهموه
" لتنذر أم القرى " يعني لتخوف بالقرآن أهل مكة " ومن حولها " من البلدان " وتنذر يوم الجمع " يعني لتنذرهم بيوم القيامة والباء محذوفة منه كما قال " لينذر بأسا شديدا " يعني ببأس شديد
وإنما سمي يوم الجمع لأنه يجتمع فيه أهل السماء وأهل الأرض كلهم من الأولين والآخرين
" لا ريب فيه " يعني يوم القيامة لا شك فيه أنه كائن
" فريق في الجنة " وهم المؤمنون " وفريق في السعير " وهم الكافرون
سورة الشورى 8 - 10
قوله تعالى " ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة " يعني على ملة واحدة وهو الإسلام
" ولكن يدخل من يشاء في رحمته " يعني يكرم بدينه من يشاء من كان أهلا لذلك ويدخله في الآخرة في جنته " والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير " يعني الكافرين ليس لهم مانع يمنعهم من العذاب ولا ناصر ينصرهم
قوله تعالى " أم اتخذوا من دونه أولياء " يعني عبدوا من دون الله أربابا " فالله هو الولي " يعني هو أولى أن يعبدوه
ويقال " الله هو الولي "
يعني هو الرب وهو إله السموات وإله الأرض
ويقال " هو الولي " لمصالحهم ينزل المطر بعد المطر " وهو يحيي الموتى " يعني يحيهم بعد الموت
ويقال يحيى قلوبهم بالمعرفة " وهو على كل شيء قدير " يعني قادر على ما يشاء
قوله تعالى " وما اختلفتم فيه من شيء " يعني إذا اختلفتم في أمر الدين " فحكمه إلى الله " يعني علمه عند الله " ذلكم الله ربي " يعني الذي ذكر هو الله ربي " عليه توكلت " يعني فوضت أمري إليه سبحانه " وإليه أنيب " يعني أقبل إلى الله تعالى بالطاعة
سورة الشورى 11 - 12(3/225)
226
سورة الشورى 13
قوله تعالى " فاطر السموات والأرض " يعني هو خالق السموات والأرض " جعل لكم من أنفسكم أزواجا " يعني أصنافا ذكرا وأنثى " ومن الأنعام أزواجا " يعني أصنافا ذكرا وأنثى
وقال القتبي " جعل لكم من أنفسكم أزواجا " يعني من جنسكم إناثا " ومن الأنعام أزواجا " يعني إناثا " يذرؤكم فيه " يعني يخلقكم فيه أي من الرحم
وقال الكلبي " يذرؤكم فيه " يعني يكثركم فيه في التزويج
وقال مقاتل يعيشكم فيما جعل لكم من الذكر والإناث من الأنعام
ثم قال " ليس كمثله شيء " في القدرة
وقال أهل اللغة هذا الكاف مؤكدة أي ليس مثله شيء
ويقال المثل صلة في الكلام يعني ليس هو كشيء " وهو السميع البصير " يعني هو " السميع " لمقالتهم " البصير " بهم وبأعمالهم
ومعنى الآية " ليس كمثله شيء " لأنه الخالق العالم بكل شيء والقادر على ما يشاء " الحي القيوم " [ البقرة 255 ] وهذه المعاني بعيدة من غيره
ثم قال عز وجل " له مقاليد السموات والأرض " يعني خزائن السموات والأرض وهو المطر وخزائن الأرض وهو النبات " يبسط الرزق لمن يشاء " يعني يوسع الرزق على من كان صلاحه في ذلك " ويقدر " يعني يقتر على من كان صلاحه في ذلك " إنه بكل شيء عليم " من البسط والتقتير
قوله تعالى " شرع لكم من الدين " قال مقاتل بين لكم الدين وهو الإسلام
و " من " هاهنا صلة وقال الكلبي اختار لكم دينا من الأديان وأكرمكم به
ثم قال " وما وصى به نوحا " يعني الدين الذي أمر به نوحا أن يدعو الخلق إليه وأن يستقيم عليه " والذي أوحينا إليك " إليك بأن تدعو الخلق إليه " وما وصينا به " يعني الذي أمرنا به " إبراهيم وموسى وعيسى "
ثم بين ما أمرهم به فقال " أن أقيموا الدين " يعني أقيموا التوحيد " ولا تتفرقوا فيه " يعني لا تختلفوا في التوحيد " كبر على المشركين " يعني على مشركي مكة " ما تدعوهم إليه " وهو التوحيد
وقال أبو العالية " أن أقيموا الدين " قال الإخلاص لله في عبادته لا شريك له ولا تتفرقوا فيه
قال لا تتعالوا فيه وكونوا عباد الله إخوانا " كبر على المشركين ما تدعوهم إليه " يعني الإخلاص لله تعالى
ويقال " إن أقيموا الدين " يعني وافقوا في الدين
ولا تتفرقوا فيه يعني لا تختلفوا فيه كما اختلف أهل الكتاب
قول عز وجل " الله يجتبي إليه من يشاء " أي يختار لدينه من يشاء من كان أهلا(3/226)
227
لذلك " ويهدي إليه من ينيب " يعني يرشد إلى دينه من يقبل إليه
ويقال يهدي من كان في علمه السابق أنه يتوب ويرجع ويقال " من ينيب " يعني من يجتهد بقلبه
كما قال " والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا "
سورة الشورى 14 - 15
قوله تعالى " وما تفرقوا " يعني مشركي مكة ما تفرقوا في الدين " إلا من بعد ما جاءهم العلم " يعني جاءهم محمد بالبينات
ويقال " وما تفرقوا " يعني أهل الكتاب " إلا من بعد ما جاءهم العلم " في كتابهم
يعني نعت محمد صلى الله عليه وسلم " بغيا بينهم " يعني حسدا فيما بينهم لأنه كان من العرب
وروى معمر عن قتادة أنه تلا " وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم " قال إياكم والفرقة فإنها مهلكة
وروي في الخبر إن لكل شيء آفة وآفة الدين الهوى
ثم قال " ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى " يعني بتأخير العذاب إلى وقت معلوم
" لقضي بينهم " يعني لفرغ منهم بالهلاك
" وإن الذين أورثوا الكتاب " يعني أعطوا التوراة والإنجيل " من بعدهم " يعني من بعد نوح وإبراهيم
وقال مقاتل من بعد الأنبياء " لفي شك منه " يعني من القرآن " مريب " أي ظاهر الشك
قوله تعالى " فلذلك فادع " يعني فإلى ذلك ادعهم يعني إلى القرآن ويقال إلى التوحيد " واستقم كما أمرت " يعني استقم عليه كما أمرت " ولا تتبع أهواءهم " يعني لا تعمل بهواهم وذلك حين دعوه إلى ملة آبائه " وقل آمنت " يعني صدقت " بما أنزل الله من كتاب " يعني بجميع ما أنزل الله من الكتب علي وعلى من كان قبلي " وأمرت لأعدل بينكم " وهو الدعوة إلى التوحيد وإلى قول لا إله إلا الله " الله ربنا وربكم " يعني خلقنا وخالقكم " لنا أعمالنا ولكم أعمالكم " يعني لنا ديننا ولكم دينكم " لا حجة بيننا وبينكم " يعني لا خصومة بيننا وبينكم في الدين " الله يجمع بيننا وبينكم " يعني يوم القيامة " وإليه المصير " يعني المرجع في الآخرة
سورة الشورى 16(3/227)
228
سورة الشورى 17 - 20
قوله تعالى " والذين يحاجون في الله " قال الضحاك نزلت هذه الآية في شأن أبي جهل حين دعا الله فقال اللهم انصر أحب الجندين إليك وأقربهم في الله يعني يخاصمون في توحيد الله ودين الله " من بعد ما استجيب له " يعني من بعد ما أجابوا إياه
وقال مجاهد طمع رجال بأن يعودوا إلى الجاهلية فنزل " والذين يحاجون في الله " إلى قوله " حجتهم داحضة " وروى معمر عن قتادة قال " والذين يحاجون في الله " قال هم اليهود والنصارى
قالوا كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم ونحن خير منكم فنزل " والذين يحاجون في الله " يعني في دين الله " من بعد ما استجيب له " يعني من بعد ما دخل الناس في الإسلام " حجتهم داحضة " يعني خصومتهم باطلة
ويقال احتجاجهم زائل ساقط
يقال دحض أي زال ومعناه ليس لهم حجة وسمى قولهم حجة على وجه المجاز يعني حجة بزعمهم كما قال " فما أغنت عنهم آلهتهم " يعني الآلهة بزعمهم ولم يكونوا آلهة في الحقيقة
ثم قال " عند ربهم وعليهم غضب " يعني بما يكابرون عقولهم " ولهم عذاب شديد " بما كانوا يفعلون
قوله عز وجل " الله الذي أنزل الكتاب بالحق " أي لبيان الحق " والميزان " يعني وأنزل الميزان وهو العدل
ويقال وأنزل الميزان في زمان نوح ويقال هي الحدود والأحكام والأمر والنهي
قوله " وما يدريك لعل الساعة قريب " يعني قيام الساعة قريب وهذا كقوله " اقتربت الساعة " وقال تعالى " لعل الساعة قريب " ولم يقل قريبة لأن تأنيثها ليس بحقيقي ولأنه انصرف إلى المعنى يعني البعث قريب
قوله تعالى " يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها " يعني المشركين كانوا يقولون " متى هذا الوعد إن كنتم صادقين " ويقولون " ربنا عجل لنا قطنا " " والذين آمنوا مشفقون منها " يعني خائفين من قيام الساعة لأنهم يعلمون أنهم مبعوثون محاسبون " ويعلمون أنها الحق " يعني يعلمون أن الساعة كائنة
" ألا إن الذين يمارون في الساعة " يعني يشكون ويخاصمون فيها
" لفي ضلال بعيد " أي في خطأ طويل بعيد عن الحق
قوله عز وجل " الله لطيف بعباده " يعني عالم بعباده ويقال رحيم بعباده ويقال(3/228)
229
اللطيف الذي يرزقهم في الدنيا ولا يعاقبهم في الآخرة
ويقال اللطيف بعباده بالبر والفاجر لا يهلكهم جوعا " يرزق من يشاء " بغير حساب
ويقال " يرزق من يشاء " مقدار ما يشاء في الوقت الذي يشاء " وهو القوي " على هلاكهم
" العزيز " يعني المنيع لا يغلبه أحد
قوله تعالى " من كان يريد حرث الآخرة " يعني ثواب الآخرة بعمله
" نزد له في حرثه " يعني ينال كليهما " ومن كان يريد حرث الدنيا " يعني ثواب الدنيا بعمله
" نؤته منها " يعني نعطه منها
" وما له في الآخرة من نصيب " لأنه عمل لغير الله تعالى
قال أبو الليث رحمه الله حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا محمد بن عقيل قال حدثنا محمد بن إسماعيل الصايغ قال حدثنا الحجاج قال حدثنا شعبة عن عمرو بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان عن أبيه عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من كانت نيته الآخرة جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت نيته الدنيا فرق الله عليه أمره وجعل فقره في عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له )
وقال القتبي الحرث العمل يعني من كان يريد بحرثه أي بعمله " الآخرة " نضاعف له الحسنات
ومن أراد بعمله الدنيا أعطيناه الدنيا ولا نصيب له في الآخرة
سورة الشورى 21 - 23
قوله عز وجل " أم لهم شركاء " يعني ألهم آلهة دوني
" شرعوا لهم من الدين " أي بينوا لهم من الدين " ما لم يأذن به الله " يعني ما لم يأمر به
ويقال معناه ألهم آلهة ابتدعوا لهم من الدين أي من الشريعة والطريقة
ويقال سنوا لهم ما لم يأذن به الله يعني ما لم ينزل به الله من الكتاب والدين " ولولا كلمة الفصل " يعني القضاء الذي سبق ألا يعذب هذه الأمة ويؤخر عذابهم إلى الآخرة
" لقضي بينهم " يعني أنزل بهم العذاب في الدنيا " وإن الظالمين " يعني المشركين
" لهم عذاب أليم "
قوله تعالى " ترى الظالمين " يعني ترى الكافرين يوم القيامة
" مشفقين مما كسبوا "(3/229)
230
يعني خائفين مما عملوا في الدنيا " وهو واقع بهم " يعني نازل بهم ما كانوا يحذرون
" والذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني الذين صدقوا بالتوحيد وأدوا الفرائض والسنن " في روضات الجنات " يعني في بساتين الجنة
" لهم ما يشاؤون عند ربهم " من الكرامة
" ذلك هو الفضل الكبير " يعني المن العظيم
قوله تعالى " ذلك الذي يبشر الله " يعني ذلك الثواب الذي يبشر الله " عباده " في الدنيا
قرأ حمزة والكسائي وابن كثير وأبو عمرو " يبشر " بنصب الياء وجزم الباء وضم الشين مع التخفيف
والباقون بالتشديد وقد ذكرناه " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني يبشرهم بتلك الجنة وبذلك الثواب ثم قال " قل لا أسألكم عليه أجرا " يعني قل يا محمد لأهل مكة " لا أسألكم عليه أجرا " على ما جئتكم به أجرا " إلا المودة في القربى " قال مقاتل يعني إلا أن تصلوا قرابتي وتكفوا عني الأذى
ثم نسخ بقوله " قل ما سألتكم من أجر لكم " فهو لكم ويقال " إلا المودة في القربى " يعني إلا ألا تؤذونني بقرابتي منكم
قال ابن عباس ليس حي من أحياء العرب إلا وللنبي صلى الله عليه وسلم فيه قرابة
وقال الحسن " إلا المودة في القربى " يعني إلا أن تتوددوا إلى الله تعالى بما يقربكم منه وهكذا قال مجاهد
وقال سعيد بن جبير " إلا المودة في القربى " يعني إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم
ثم قال " ومن يقترف حسنة " يعني يكتسب حسنة " نزد فيها حسنا " يعني للواحد عشرة
ويقال نزد له التوفيق في الدنيا ونضاعف له الثواب في الآخرة
" إن الله غفور شكور " يعني " غفور " لمن تاب " شكور " يقبل اليسير ويعطي الجزيل
سورة الشورى 24 - 26
قوله تعالى " أم يقولون افترى على الله كذبا " يعني تقوله من ذات نفسه ولم يأمره الله تعالى
يقول الله تعالى " فإن يشأ الله يختم على قلبك " يعني يحفظ قلبك حتى لا تدخل في قلبك المشقة من قولهم
" ويمحو الله الباطل " يعني يهلك الله تعالى الشرك " ويحق الحق "(3/230)
231
يعني يظهر دينه الإسلام " بكلماته " يعني بتحقيقه وبنصرته وبالقرآن " إنه عليم بذات الصدور " يعني يعلم ما في قلب محمد صلى الله عليه وسلم من الحزن ويعلم ما في قلوب الكافرين من التكذيب
قوله تعالى " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات " حتى يتجاوز عما عملوا قبل التوبة
وروى عبد العزيز بن إسماعيل عن محمد بن مطرف قال يقول الله تعالى ( ويح ابن آدم يذنب الذنب ثم يستغفر فاغفر له ثم يذنب ذنبا ثم يستغفر فأغفر له ثم يذنب ذنبا ثم يستغفر فأغفر له لا هو يترك ذنوبه ولا هو ييأس من رحمتي
أشهدكم أني قد غفرت له )
ثم قال " ويعلم ما تفعلون " من خير أو شر
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية " تفعلون " بالتاء على معنى المخاطبة والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم
قوله عز وجل " ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني يجيب دعاءهم ويعطيهم الثواب أكثر ما سألوا من المغفرة " ويزيدهم من فضله " يعني يزيدهم على أعمالهم من الثواب
ويقال يعطيهم الثواب في الجنة أكثر مما سألوا " والكافرين لهم عذاب شديد " يعني دائما لا يفتر عنهم
سورة الشورى 27 - 30
قوله تعالى " ولو بسط الله الزرق لعباده " يعني لو وسع الله تعالى عليهم المال " لبغوا في الأرض " يعني لطغوا في الأرض وعصوا " ولكن ينزل بقدر ما يشاء " يعني يوسع على كل إنسان بمقدار صلاحه في ذلك
قال أبو الليث رحمه الله حدثنا أبو القاسم حمزة بن محمد قال حدثنا أبو القاسم أحمد بن حيم قال حدثنا نصر بن يحيى قال سمعت سفيان بن إبراهيم الزاهد يقول " ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض " قال لو أن الله تعالى رزق العباد من غير كسب لتفرغوا وتقاسدوا في الأرض ولكن شغلهم بالكسب حتى لا يتفرغوا للفساد
ثم قال " إنه بعباده خبير بصير " يعني بالبر والفاجر والمؤمن والكافر
ويقال يعني عالم بصلاح كل واحد منهم
قوله تعالى " وهو الذي ينزل الغيث " يعني المطر " من بعد ما قنطوا " أي حبس(3/231)
232
عنهم " وينشر رحمته " يعني المطر " وهو الولي الحميد " يعني الولي للمطر يرسله مرة بعد مرة " الحميد " يعني أهلا أن يحمد على صنعه
قوله عز وجل " ومن آياته " يعني من علامات وحدانيته " خلق السموات والأرض " يعني خلقين عظيمين لا يقدر عليهما بنو آدم ولا غيرهم " وما بث فيهما من دابة " يعني ما خلق في السموات والأرض من خلق أو بشر فيهما " وهو على جمعهم " يعني على إحيائهم للبعث " إذا يشاء قدير " يعني قادرا على ذلك
ويقال " وما بث فيهما من دابة " يعني في الأرض خاصة كما قال " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " [ الرحمن 22 ] يعني من أحدهما
ثم قال " وما أصابكم من مصيبة " يعني ما تصابون من مصيبة في أنفسكم وأموالكم " فبما كسبت أيديكم " يعني يصيبكم بأعمالكم ومعاصيكم " ويعفو عن كثير " يعني ما عفا الله عنه فهو أكثر
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال ألا أخبركم بأرجى آية في كتاب الله أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا بلى فقرأ عليهم " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير " قال فالمصائب في الدنيا بكسب الأيدي وما عفا الله تعالى عنه في الدنيا ولم يعاقب فهو أجود وأمجد وأكرم من أن يعذب فيه يوم القيامة
وعن الضحاك قال ما تعلم رجل القرآن ثم نسيه إلا بذنب ثم قرأ " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن
قرأ نافع وابن عامر " بما كسبت أيديكم " بحذف الفاء ويكون " ما " بمعنى الذي ومعناه الذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم الباقون " فبما كسبت " بالفاء وتكون الفاء جواب الشرط ومعناه ما يصيبكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم
سورة الشورى 31 - 35
ثم قال " وما أنتم بمعجزين في الأرض " يعني بفائتين من عذاب الله حتى يجزيكم به " وما لكم من دون الله " يعني من عذاب الله " من ولي " يعني من حافظ " ولا نصير " يعني مانع يمنعكم من عذاب الله تعالى(3/232)
233
قوله تعالى " ومن آياته الجوار " قرأ ابن كثير الجواري بالياء في الوقف والوصل
وقرأ نافع وأبو عمر بالياء في الوصل وبغير الياء في الوقف والباقون بغير ياء في الوقف والوصل
فمن قرأ بالياء فهو الأصل في اللغة وهي جماعة السفن تجرين في الماء واحدتها جارية
كقوله " حملناكم في الجارية " [ الحاقة 11 ] يعني السفينة
ومن قرأ بغير ياء فلأن الكسر يدل عليه " في البحر كالأعلام " يعني تسير في البحر كالجبال " إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره " يعني يبقين سواكن على ظهر الماء " إن في ذلك لآيات " يعني لعلامات لوحدانيتي " لكل صبار شكور " يعني الذي يصبر على طاعة الله " شكور " لنعم الله
قوله تعالى " أو يوبقهن " يعني إن يشأ يهلك السفن " بما كسبوا " يعني بما عملوا من الشرك وعبادة الأوثان " ويعف عن كثير " ولا يجازيهم " ويعلم الذين يجادلون في آياتنا " قرأ ابن عامر ونافع " ويعلم الذين " بضم الميم والباقون بالنصب
فمن قرأ بالضم فلأنه عطف على قوله " ويعف " وموضعه الرفع وأصله " ويعفو " فاكتفى بضم الفاء و " الذين " كان معطوفا عليه رفع أيضا
ومن قرأ بالنصب صار نصبا للصرف يعني صرف الكلام عن الإعراب الأول ومعناه ولكي " يعلم الذين يجادلون في آياتنا " يعني في القرآن بالتكذيب " ما لهم من محيص " يعني مفر من الله تعالى
سورة الشورى 36 - 39
قوله عز وجل " فما أوتيتم من شيء " يعني ما أعطيتم من الدنيا " فمتاع الحياة الدنيا " يعني منفعة الحياة الدنيا " وما عند الله خير وأبقى " يعني في الآخرة من الثواب والكرامات " خير وأبقى " يعني أدوم
ثم بين لمن يكون ذلك الثواب فقال " للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون " يعني ويفوضون الأمور إليه
قوله تعالى " والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش " وهذا نعت المؤمنين أيضا " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش " قرأ حمزة والكسائي " كبير الإثم " بغير ألف بلفظ الواحد لأن الواحد يدل على الجمع والباقون " كبائر " وهو جمع كبيرة والكبيرة ما أوجب الله تعالى الحد عليها في الدنيا أو العذاب في الآخرة
ثم قال " وإذا ما غضبوا هم يغفرون " يعني إذا غضبوا على أحد يتجاوزون ويكظمون الغيظ
ثم قال " والذين استجابوا لربهم " يعني أجابوا وأطاعوا ربهم فيما يدعوهم إليه ويأمرهم به
" وأقاموا الصلاة " يعني أتموا الصلوات الخمس في مواقيتها " وأمرهم شورى بينهم "(3/233)
234
يعني إذا أرادوا حاجة تشاوروا فيما بينهم
وروي عن الحسن أنه قال هم الذين إذا حزبهم أمر استشاروا أولي الرأي منهم " ومما رزقناهم ينفقون " يعني يتصدقون في طاعة الله تعالى
ثم قال " والذين إذا أصابهم البغي " يعني الظلم " هم ينتصرون " يعني ينتقمون ويقتصون
روى سفيان عن منصور عن إبراهيم أنه قال كانوا يكرهون أن يستذلوا ويحبون العفو إذا قدروا
سورة الشورى 40 - 42
قوله تعالى " وجزاء سيئة مثلها " يعني يعاقب مثل عقوبته لغيره " فمن عفا وأصلح " يعني عفا عن مظلمته وأصلح بالعفو " فأجره على الله " يعني ثوابه على الله " إنه لا يحب الظالمين " يعني لمن يبدأ بالظلم
روي عن زيد بن أسلم أنه قال كانوا ثلاث فرق فرقة بالمدينة وفرقتان بمكة إحداهما تصبر على الأذى والثانية تنتصر والثالثة تكظم فنزلت الآية " والذين استجابوا لربهم " نزلت في الذين بالمدينة " والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون " نزلت في الذين ينتصرون وقوله " فمن عفا وأصلح " نزلت في الذين يصبرون
فأثنى الله تعالى عليهم جميعا
ثم نزل في الظالمين قوله عز وجل " إنما السبيل على الذين يظلمون الناس " وذكر أن أبا بكر رضي الله عنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم ورجل من المنافقين يسبه وأبو بكر رضي الله عنه لم يجبه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت يبتسم فأجابه أبو بكر فقام النبي صلى الله عليه وسلم وذهب فقام إليه أبو بكر فقال يا رسول الله ما دام يسبني كنت جالسا فلما أجبته قمت فقال صلى الله عليه وسلم ( إن ملكا كان يجيبه عنك فلما أجبته ذهب الملك وجاء الشيطان وأنا لا أجلس في مجلس يكون فيه الشيطان )
فنزل " فمن عفا وأصلح فأجره على الله "
وروى محمد بن المنكدر قال ينادي المنادي يوم القيامة من كان له عند الله حق فليقم قال فيقوم من عفا وأصلح
قوله عز وجل " ولم انتصر بعد ظلمه " يعني انتصف بعد ظلمه واقتص منه " فأولئك ما عليهم من سبيل " يعني من مأثم
وقال قتادة هذا فيما يكون بين الناس من القصاص فأما لو ظلمك لا يحل لك أن تظلمه يعني فيما لا يحتمل القصاص
وقال الحسن يعني إذا قال لعنك الله أن تقول له لعنك الله وإذا سبك أن تسبه ما لم يكن فيه حد أو كلمة لا تصلح(3/234)
235
ثم قال تعالى " إنما السبيل " يعني الإثم والحرج " على الذين يظلمون الناس " يعني يبدؤون بالظلم " ويبغون في الأرض بغير الحق " يعني يظلمون في الأرض بالمعاصي " أولئك لهم عذاب أليم " يعني وجيع
سورة الشورى 43 - 46
قوله عز وجل " ولمن صبر وغفر " يعني " صبر " عن مظلمته فلم يقتص من صاحبه " وغفر " يعني تجاوز عنه " إن ذلك " يعني الصبر والتجاوز " لمن عزم الأمور " يعني من أفضل الأمور وأصوب الأمور
قال بعضهم هذه الآيات مدنيات
وقال بعضهم مكيات
قوله تعالى " ومن يضلل الله " يعني يخذله الله عن الهدى ويقال من يخذله ويتركه على ما هو فيه من ظلم الناس " فما له من ولي من بعده " يعني من بعد خذلان الله تعالى إياه
قوله " وترى الظالمين " يعني المشركين والعاصين " لما رأوا العذاب " في الآخرة " يقولون هل إلى مرد من سبيل " يعني هل من رجعة إلى الدنيا من حيلة فنؤمن بك يتمنون الرجوع إلى الدنيا
قوله تعالى " وتراهم يعرضون عليها " يعني يساقون إلى النار " خاشعين من الذل " أي خاضعين من الحزن ويقال ساكتين ذليلين مقهورين من الحياء " ينظرون من طرف خفي " قال الكلبي يعني ينظرون بقلوبهم ولا يرونها بأعينهم لأنهم يسحبون على وجوههم
وقال مقاتل يعني يستخفون بالنظر إليها يعني إلى النار
قال القتبي يعني غضوا أبصارهم من الذل وقال بعضهم مرة ينظرون إلى العرش بأطراف أعينهم ماذا يأمر الله تعالى بهم ومرة ينظرون إلى النار
" وقال الذين آمنوا " يعني المؤمنين المظلومين " إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم " يعني الذين يظلمون غيرهم حتى تصير حسناتهم للمظلومين فخسروا أنفسهم " وأهليهم يوم القيامة " قال بعضهم هذه حكاية كلام المؤمنين في الآخرة بأنهم يقولون ذلك حين رأوا الظالمين الذين خسروا أنفسهم
وقال بعضهم هذه حكاية قولهم في الدنيا فحكى الله تعالى قولهم وصدقهم على مقالتهم فقال " ألا إن الظالمين في عذاب مقيم " يعني دائما وقال(3/235)
236
بعضهم هذا اللفظ لفظ الخبر عنهم والمراد به التعليم أنه ينبغي لهم يقولوا أن هكذا حتى يصبروا على ظلمهم
قوله تعالى " وما كان لهم من أولياء " يعني لا يكون للظالمين يوم القيامة مانع يمنعهم من عذاب الله " ينصرونهم من دون الله " يعني يمنعونهم من عذاب الله " ومن يضلل الله " يعني يضله الله عن الهدى " فما له من سبيل " إلى الهدى من حجة ويقال ما له من حيلة
سورة الشورى 47 - 50
قوله عز وجل " استجيبوا لربكم " يعني أجيبوا ربكم في الإيمان وفيما أمركم به " من قبل أن يأتي يوم لا مرد له " يعني لا رجعة له إذا جاء لا يقدر أحد على دفعه " من الله " ويقال فيه تقديم يعني من قبل أن يأتي عذاب الله يوم لا مرد له
يعني لا مدفع له " ما لكم من ملجإ يومئذ " يعني ما لكم من مفر ولا حرز يحرزكم من عذابه " وما لكم من نكير " يعني من مغير يغير العذاب عنكم
قوله عز وجل " فإن أعرضوا " يعني عن الإيمان وعن الإجابة بعد ما دعوتهم " فما أرسلناك عليهم حفيظا " تحفظهم على الإيمان وتجبرهم على ذلك " إن عليك إلا البلاغ " يعني ليس عليك إلا تبليغ الرسالة وهذا قبل أن يؤمر بالقتال
ثم قال " وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة " يعني أصبنا الإنسان منا نعمة " فرح بها " أي بطر بالنعمة
وقال بعضهم يعني أبا جهل وقال بعضهم جميع الناس والإنسان هو لفظ الجنس وأراد به جميع الكافرين بدليل أنه قال " وإن تصبهم " ذكر بلفظ الجماعة يعني إن تصبهم " سيئة " يعني القحط والشدة " بما قدمت أيديهم " يعني بما عملوا في المعاصي " فإن الإنسان كفور " لنعم الله يعني يشكو ربه عند المصيبة ولا يشكره عند النعمة
قوله تعالى " لله ملك السموات والأرض " يعني القدرة على أهل السموات والأرض " يخلق ما يشاء " يعني على أي صورة يشاء " يهب لمن يشاء إناثا " يعني يعطي من يشاء الأولاد الإناث فلا يجعل معهن ذكورا " ويهب لمن يشاء الذكور " يعني يعطي من يشاء الأولاد الذكور ولا يكون معهم إناث " أو يزوجهم ذكرانا وإناثا " يعني من يشاء الأولاد الذكور والإناث " ويجعل من يشاء عقيما " فلا يعطيه شيئا من الولد ويقال " يهب لمن يشاء(3/236)
237
إناثا ) كما وهب للوط النبي عليه السلام " ويهب لمن يشاء الذكور " كما وهب إبراهيم عليه السلام " أو يزوجهم ذكرانا وإناثا " كما جعل للنبي صلى الله عليه وسلم وكما وهب ليعقوب عليه السلام " ويجعل من يشاء عقيما " كما جعل ليحيى وعيسى عليهما السلام " إنه عليم قدير " يعني عالم بما يصلح لكل واحد منهم
القادر على ذلك
سورة الشورى 51 - 53
قوله عز وجل " وما كان لبشر " يعني لأحد من خلق الله " أن يكلمه الله إلا وحيا " يعني يرسل إليه جبريل ليقرأ عليه
ويقال " إلا وحيا " يعني إلهاما ويقال يسمع الصوت فيفهمه
وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يكلمك الله أو ينظر إليك إن كنت نبيا كما كلم موسى فنزل " وما كان لبشر أن يكلمه الله " يعني ما جاز لأحد من الآدميين " أن يكلمه الله إلا وحيا " يعني يسمع الصوت أو يرى في المنام ولا يجوز أن يكلمه مواجهة عيانا في الدنيا
" أو من وراء حجاب " فيكلمه كما كلم موسى " أو يرسل رسولا " كما أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم " فيوحي بإذنه ما يشاء " يعني فيرسل بأمره
ويقال " بإذنه ما يشاء " من أمره
قرأ نافع وابن عامر " أو يرسل " بضم اللام وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالضم فمعناه أو هو يرسل رسولا
ومن قرأ بالنصب فعلى الإضمار أيضا ومعناه أو يرسل رسولا " فيوحي " قرأ نافع وابن عامر " فيوحي " بسكون الياء ومعناه أو هو يرسل رسولا فيوحي وقرأ الباقون " فيوحي " بالنصب لإضمار أن
ثم قال " إنه علي حكيم " يعني أعلى من أن يكلم أحدا في الدنيا مواجهة ولا يراه فيها أحد عيانا " حكيم " حكم ألا يكلم أحدا في المواجهة ولا يراه أحد
قوله عز وجل " وكذلك أوحينا إليك روحا " يعني جبريل " من أمرنا " يعني بأمرنا
ويقال " أوحينا إليك روحا " يعني القرآن
وقال القتبي الروح روح الأجسام ويسمى كلام الله تعالى روحا لأن فيه حياة من الجهل وموت الكفر كما قال " يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده " [ غافر 15 ] قال " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا " " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان " يعني ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن ولا تدري كيف تدعو الخلق إلى الإيمان
" ولكن جعلناه نورا " يعني أنزلنا جبريل بالقرآن ضياء من العمى وبيانا من الضلالة
فإن قيل سبق ذكر الكتاب والإيمان ثم قال " ولكن جعلناه نورا " ولم يقل جعلناهما قيل(3/237)
238
له لأن المعنى هو الكتاب وهو دليل على الإيمان
ويقال لأن شأنهما واحد كقوله " وجعلنا ابن مريم وأمه ءاية " [ المؤمنون 50 ] ولم يقل آيتين ويقال " ولكن جعلناه نورا " يعني الإيمان كناية عنه ولأنه أقرب
" نهدي به من نشاء من عبادنا " يعني نوفق من نشاء إلى الهدى من كان أهلا لذلك " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " يعني لتدعو الخلق إلى دين الإسلام
قوله عز وجل " صراط الله " يعني دين الله " الذي له ما في السموات وما في الأرض " من خلق " ألا إلى الله تصير الأمور " أي إليه ترجع عواقب الأمور والله أعلم و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما(3/238)
239
سورة الزخرف
مكية وهي تسع وثمانون آية
سورة الزخرف 1 - 4
قوله تعالى " حم والكتاب المبين " يعني أقسم بحم وبالكتاب الذي أبان طريق الهدى من طريق الضلالة وأبان كل ما تحتاج إليه الأمة ويقال مبين لما بين بلغة تعرفونها
يعني بين فيه الحلال والحرام " إنا جعلناه " فهذا جواب القسم يعني " إنا جعلناه " قلناه ووصفناه وبيناه
ويقال أنزلنا به جبريل " قرآنا عربيا " يعني بلغة العرب " لعلكم تعقلون " يعني لكي تعقلوا وتفهموا ما فيه ولو نزل بغير لغة العرب لم تفهموا ما فيه
ثم قال " وإنه في أم الكتاب لدينا " يعني إن كذبتم بالقرآن فإن نسخته في أصل الكتاب يعني اللوح المحفوظ عندنا
" لعلي حكيم " يعني مرتفعا محكما من الباطل
ويقال " حكيم " أحكم حلاله وحرامه
ويقال " حكيم " أي حاكم على الكتب كلها
ويقال " حكيم " أي ذو حكمة كما قال " حكمة بالغة "
قرأ حمزة والكسائي " في أم الكتاب " بكسر الألف في جميع القرآن لأن الياء أخت الكسرة فاتبع الكسرة الكسرة والباقون أم بضم الألف وهو الأصل في اللغة
سورة الزخرف 5 - 11
قوله عز وجل " أفنضرب عنكم الذكر صفحا " يعني أفندع ونترك أن نرسل إليكم الوحي مبهما لا آمركم ولا أنهاكم
وقال القتبي معناه أن أمسك عنكم فلا أذكركم إعراضا
يقال صفحت عن فلان إذا أعرضت عنه
وقال مجاهد معناه تكذبون بالقرآن ولا تعاقبون فيه
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر " أن كنتم قوما مسرفين " بنصب الألف(3/239)
240
الباقون بالكسر
فمن قرأ بالنصب فمعناه أفنضرب عنكم ذكر العذاب بأن أسرفتم يعني إن أشركتم وعصيتم
ويقال أفنضرب عنكم ذكر العذاب لأن أسرفتم وكفرتم ومن قرأ بالكسر فمعناه إن كنتم قوما مسرفين ويقال هو على معنى الاستقبال ومعناه إن تكونوا مسرفين أفنضرب عنكم الذكر
ثم قال عز وجل " وكم أرسلنا من نبي في الأولين " يعني كم بعثنا من نبي في أمر الأمم الأولين كما أرسلناك إلى قومك " وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون " يعني يسخرون منه
قوله تعالى " فأهلكنا أشد منهم بطشا " يعني من كان أشد منهم قوة " ومضى مثل الأولين " يعني سنة الأولين بالهلاك
قوله تعالى " ولئن سألتهم " يعني المشركين " من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم " يعني يقولون خلقهن الله تعالى الذي هو " العزيز " في ملكه " العليم " بخلقه فزاد الله في جوابهم
فقال " الذي جعل لكم الأرض مهدا " قرأ حمزة والكسائي وعاصم " مهدا " والباقون " مهادا " بالألف يعني قرارا للخلق " وجعل لكم فيها سبلا " يعني طرقا " لعلكم تهتدون " يعني لكي تعرفوا طرقها من بلد إلى بلد ويقال " لعلكم تهتدون " يعني لكي تعرفوا هذه النعم وتأخذوا طريق الهدى
ثم ذكر النعم فقال عز وجل " والذي نزل من السماء ماء بقدر " يعني بمقدار ووزن " فأنشرنا به " يعني أحيينا بالمطر " بلدة " يعني أرضا " ميتة " لا نبات فيها " كذلك تخرجون " أنتم من قبوركم
سورة الزخرف 12 - 14
قوله تعالى " والذي خلق الأزواج كلها " يعني الأصناف كلها من الحيوان والنبات وغير ذلك " وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون " يعني جعل لبني آدم من السفن والإبل والدواب ما يركبون عليها
ثم قال " لتستووا على ظهوره " يعني لتركبوا ظهور الأنعام ولم يقل ظهورها لأنه انصرف إلى المعنى وهو جنس الأنعام " ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه " يعني إذا ركبتم فتحمدوا الله تعالى " وتقولوا " عند ذلك " سبحان الذي سخر لنا هذا " يعني ذلل لنا هذا " وما كنا له مقرنين " يعني مطيعين
وقال أهل اللغة أنا مقرن لك أي مطيق لك ويقال مقرنين أي مالكين
ويقال ضابطين(3/240)
241
ثم قال " وإنا إلى ربنا لمنقلبون " يعني راجعين إليه في الآخرة
وقد روى عثمان بن الأسود عن مجاهد أنه قال إذا ركب الرجل الدابة ولم يذكر اسم الله تعالى ركب الشيطان من ورائه ثم صك في قفاه فإن كان يحسن الغناء قال له تغن وإن كان لا يحسن الغناء قال له تمن يعني تكلم بالباطل
وعن علي بن ربيعة أنه قال كنت رديفا لعلي رضي الله عنه فلما وضع رجله في الركاب قال بسم الله فلما استوى قال الحمد لله ثم قال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون
سورة الزخرف 15 - 19
قال الله عز وجل " وجعلوا له من عباده جزءا " يعني وصفوا لله من خلقه شريكا وولدا " إن الإنسان لكفور مبين " يعني كفور لنعمه " مبين " أي بين الكفر
ثم قال تعالى " أم اتخذ مما يخلق بنات " وهو رد على بني مليح حيث قالوا الملائكة بنات الله معناه اختار لكم البنين ولنفسه البنات ثم وصف كراهيتهم البنات فقال " وأصفاكم بالبنين "
قوله عز وجل " وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا " يعني بما وصفوا لله تعالى من البنات وكرهوا لأنفسهم ذلك " ظل وجهه مسودا وهو كظيم " يعني تغير لونه وهو حزين مكروب
يعني أترضون لله ما لا ترضون لأنفسكم
قوله عز وجل " أو من ينشؤا في الحلية " يعني يغذى في الذهب والفضة
ويقال أفمن زين في الحلي والحلل " وهو في الخصام غير مبين " يعني في الكلام غير فصيح
ويقال هو في الخصومة غير مبينات في الحجة ويقال أفمن زين في الحلي وهو في الخصومة غير مبين لأن المرأة لا تبلغ خصومتها بكلامها ما يبلغ الرجل
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " أو من ينشأ " بضم الياء ونصب الشين ومعناه أفمن يربى في الحلية لفظه لفظ الاستفهام والمراد به التوبيخ
وقرأ الباقون " أو من ينشأ " بنصب الياء(3/241)
242
وجزم النون مع التخفيف يعني يشب وينبت في الحلي
ثم قال تعالى " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا " يعني وصفوا الملائكة بالأنوثة
قرأ ابن كثير وابن عامر ونافع " الذين هم عبد الرحمن " يعني الملائكة الذين هم في السماء والباقون " عباد الرحمن " يعني جمع عبد
ثم قال " أشهدوا خلقهم " يعني أحضروا خلق الملائكة حين خلقهم الله تعالى فتعلموا أنهم ذكور أو إناث هذا استفهام فيه نفي يعني لم يشهدوا خلقهم على وجه التوبيخ والتقريع
ثم قال " ستكتب شهادتهم " يعني ستكتب مقالتهم " ويسألون " عنه يوم القيامة
وروي عن الحسن أنه قرأ " ستكتب شهاداتهم " بالألف يعني أقوالهم
وقرأ عبد الرحمن الأعرج " سنكتب " بالنون
سورة الزخرف 20 - 25
قوله تعالى " وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم " يعني ما عبدنا الملائكة ويقال الأصنام " ما لهم بذلك من علم " أي ما لهم بذلك القول من حجة " إن هم إلا يخرصون " يعني يكذبون بغير حجة
وقال مقاتل في الآية تقديم يعني عباد الرحمن إناثا أي ما لهم بذلك من علم
قوله عز وجل " أم آتيناهم كتابا من قبله " يعني أنزلنا عليهم كتابا من قبل هذا القرآن " فهم به مستمسكون " يعني آخذون به عاملون اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به النفي
قوله عز وجل " بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة " يعني لكنهم قالوا " إنا وجدنا آباءنا " على دين وملة
وقال القتبي أصل الأمة الجماعة والصنف
كقوله " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم " [ الأنعام 38 ] ثم يستعار في أشياء منها الدين كقوله " إنا وجدنا آباءنا على أمة " أي على دين لأن القوم كانوا يجتمعون على دين واحد فتقام الأمة مكان الدين ولهذا قيل للمسلمين أمة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم على ملة واحدة وهي الإسلام
وروى عن مجاهد وعمر بن عبد العزيز أنهما قرآ " إمة " بكسر الألف أي على نعمة
ويقال على هيئة وقراءة العامة بالضمة يعني على دين
وروى أبو عبيدة عن بعض أهل اللغة أن الأمة والإمة لغتان
" وإنا على آثارهم مهتدون " يعني مستيقنين(3/242)
243
وقال " وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها " يعني جبابرتها " إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون " يعني بسنتهم مقتدون أي بأعمالهم
قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم " قال أولو جئتكم بأهدى " يعني أليس هذا الذي جئتكم به هو أهدى " مما وجدتم عليه آباءكم " يعني بأصوب وأبين من ذلك
قرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص " قال أولو جئتكم " على معنى الخبر والباقون " قل " بلفظ الأمر
وقرأ أبو جعفر المدني " قل أو لو جئناكم " بلفظ الجماعة
" قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون " يعني الجبابرة قالوا لرسلهم إنا بما أرسلتم به جاحدون
قوله عز وجل " فانتقمنا منهم " بالعذاب " فانظر كيف كان عاقبة المكذبين " يعني آخر أمرهم
سورة الزخرف 26 - 30
قوله عز وجل " وإذا قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون " يعني بريء من معبودكم
ذكر عن الفراء أنه قال " براء " مصدر صرف إسما وكل مصدر صرف إلى اسم فالواحد والجماعة والذكر والأنثى فيه سواء
قوله عز وجل " إلا الذي فطرني " يعني إلا الذي خلقني فإني لا أتبرأ منه
" فإنه سيهدين " ويقال " إلا " بمعنى لكن
يعني لكن الذي خلقني فهو سيهدين يعني يثبتني على دين الإسلام " وجعلها كلمة باقية في عقبه " يعني جعل تلك الكلمة ثابتة في نسله " وذريته " وهي كلمة التوحيد لا إله إلا الله " لعلهم يرجعون " عن كفرهم إلى الإيمان
وقال قتادة هو التوحيد والإخلاص لا يزال في ذريته
من يوحد الله تعالى ويعبده وقال مجاهد يعني كلمة لا إله إلا الله في عقبه وولده
ويقال " إنني براء " يعني ذو البراء كما يقال رجل عدل ورجال عدل أي ذو عدل
ثم قال " بل متعت هؤلاء " يعني أجلت هؤلاء وأمهلتهم
يعني قومك " وآباءهم حتى جاءهم الحق " يعني القرآن ويقال الدعوة إلى التوحيد " ورسول مبين " يعني بين أمره بالدلائل والحجج
ويقال " مبين " يعني بين لهم الحق من الباطل
قوله تعالى " ولما جاءهم الحق " يعني القرآن " قالوا هذا سحر وإنا به كافرون " يعني جاحدين
سورة الزخرف 31(3/243)
244
سورة الزخرف 32
" وقالوا " يعني أهل مكة " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " يعني على رجل عظيم من رجلي القريتين وهو الوليد بن المغيرة من أهل مكة وأبو مسعود الثقفي بالطائف يعني لو كان حقا لأنزل على أحد هذين الرجلين
وروى وكيع عن محمد بن عبد الله بن أفلح الطائفي عن خالد بن عبيد الله بن يزيد قال كنت جالسا عند عبد الله بن عباس بالطائف فسأله رجل عن هذه الآية وهي قوله " من القريتين عظيم " فقال القرية التي أنت فيها يعني الطائف
والقرية التي جئت منها يعني مكة
وسئل عن الرجلين فقال جبار من جبابرة قريش وهو الوليد بن المغيرة بمكة وعروة بن مسعود جد المختار يعني أبا مسعود يقال اسمه عمرو بن عمير
ثم قال تعالى " أهم يقسمون رحمة ربك " يعني أبأيديهم مفاتيح الرسالة والنبوة فيضعونها حيث شاؤوا وإلا كما نختار للرسالة من نشاء من عبادنا " نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا " يعني نحن قسمنا أرزاقهم فيما بينهم وهو أدنى من الرسالة فلم نترك اختيارها إليهم فكيف نفوض اختيار ما هو أفضل منه وأعظم وهو الرسالة إليهم
ثم قال " ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات " يعني فضلنا بعضهم على بعض بالمال في الدنيا
" ليتخذ بعضهم بعضا سخريا " يعني الاستهزاء ويقال فضل بعضهم على بعض في العز والرياسة فيخدم بعضهم بعضا ويستعبد الأحرار العبيد ثم أخبر أن الآخرة أفضل مما أعطوا في الدنيا
فقال " ورحمة ربك خير مما يجمعون " يعني خير مما يجمع الكفار من المال في الدنيا
سورة الزخرف 33 - 35
قوله عز وجل " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة " يقول لولا أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكفار في سعة المال
وقال الحسن لولا أن يتتابعوا في الكفر
" لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة " وهي سماء البيت " ومعارج عليها " يعني الدرج عليها " يظهرون " يعني يرتقون ويرتفعون
وقال الزجاج يصلح أن يكون لبيوتهم بدلا من قوله(3/244)
245
" لمن يكفر " ويكون المعنى لجعلنا البيوت من يكفر بالرحمن ويصلح أن يكون معناه لجعلنا لمن يكفر بالرحمن على بيوتهم
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " لبيوتهم سقفا " بنصب السين وجزم القاف ويكون عبارة عن الواحد فدل على الجمع
والمعنى لجعلنا لبيت كل واحد منهم سقفا من فضة
وقرأ الباقون " سقفا " بالضم على معنى الجمع
ويقال سقف وسقف مثل رهن ورهن
قوله تعالى " ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون " يعني يجلسون وينامون " وزخرفا " وهو الذهب يعني لجعلنا هذا كله من ذهب وفضة
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لولا أن يجزع عبدي المؤمن لعصبت الكافر بعصابة من حديد ولصببت عليه الدنيا صبا ) وإنما أراد بعصابة الحديد كناية عن صحة البدن يعني لا يصدع رأسه
ثم أخبر أن ذلك كله مما يفنى فقال " وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا " و " ما " ها هنا زيادة ومعناه وإن كل ذلك لمتاع ويقال وما ذلك إلا متاع الحياة الدنيا يفنى ولا يبقى " والآخرة عند ربك للمتقين " يعني الجنة للذين يتقون الشرك والمعاصي
قرأ عاصم وحمزة وابن عامر في رواية هشام " وإن كل ذلك لما " بتشديد الميم وقرأ الباقون بالتخفيف
فمن قرأ بالتخفيف فما للصلة والتوكيد
ومن قرأ بالتشديد فمعناه وما كل ذلك إلا متاع
وقال مجاهد كنت لا أعلم ما الزخرف حتى سمعت في قراءة عبد الله بيتا من ذهب
سورة الزخرف 36 - 39
قوله عز وجل " ومن يعش عن ذكر الرحمن " قال الكلبي يعني يعرض عن القرآن يعني لا يؤمن
ويقال من يعمى بصره عن ذكر الرحمن
وقال أبو عبيدة من يظلم بصره عن ذكر الرحمن " نقيض له شيطانا " يعني نسيب له شيطانا مجازاة لإعراضه عن ذكر الله
ويقال نسلط عليه ويقال نقدر له ويقال نجعل له شيطانا " فهو له قرين " يعني يكون له صاحبا في الدنيا فيزين له الضلالة
ويقال " فهو له قرين " يعني قرينه في سلسلة واحدة لا يفارقه
يعني في النار
وروي عن سفيان بن عيينة أنه قال ليس مثل من أمثال العرب إلا وأصله في كتاب الله تعالى
قيل له أين قول الناس أعط أخاك تمرة فإن أبي فجمرة
فقال قوله " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا " الآية " وإنهم ليصدونهم عن السبيل " يعني يصرفونهم عن الدين " ويحسبون أنهم مهتدون " يعني الكفار يظنون أنهم على الحق
" حتى إذا جاءنا " قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر ( جانآ ) بالمد بلفظ التثنية يعني الكافر وشيطانه الذي هو قرينه
وقرأ الباقون " جاءنا " بغير مد يعني(3/245)
246
الكافر يقول لقرينه " قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين " يعني ما بين المشرق والمغرب
ويقال بين مشرق الشتاء ومشرق الصيف " فبئس القرين " يعني بئس الصاحب معه في النار
ويقال هذا قول الله " فبئس القرين " يعني بئس الصاحب معه في النار
ويقال هذا قول الكافر " فبئس القرين " يعني بئس الصاحب كنت أنت في الدنيا وبئس الصاحب اليوم
فيقول الله تعالى " ولن ينفعكم اليوم " الاعتذار " إذ ظلمتم " يعني كفرتم وأشركتم في الدنيا " أنكم في العذاب مشتركون " يعني أنكم جميعا في النار التابع والمتبوع في العذاب سواء قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم
سورة الزخرف 40 - 45
" أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي " إلى الهدى " ومن كان في ضلال مبين " يعني من كان في علم الله في الضلالة
ومعنى الآية إنك لا تقدر أن تفهم من كان أصم القلب ويعمى عن الحق ومن كان في ضلال مبين يعني ظاهر الضلالة
قوله " فإما نذهبن بك " يعني نميتك قبل أن نريك الذي وعدناهم وقبل أن نريك النقمة " فإنا منهم منتقمون " يعني ننتقم منهم بعد موتك
قال قتادة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقيت النقمة قال وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ( أري ما يصيب أمته من بعده فما رئي ضاحكا مستبشرا حتى قبض )
ثم قال " أو نرينك الذي وعدناهم " يعني في حياتك " فإنا عليهم مقتدرون " يعني إنا لقادرون على ذلك
قوله تعالى " فاستمسك بالذي أوحي إليك " يعني اعمل بالذي أوحي إليك من القرآن " إنك على صراط مستقيم " يعني على دين الإسلام " وإنه لذكر لك ولقومك " يعني القرآن شرف لك ولمن آمن به ويقال " ولقومك " يعني العرب لأن القرآن نزل بلغتهم " وسوف تسألون " عن هذه النعم وعن شكر هذا الشرف
يعني القرآن إذا أديتم شكره أو لم تؤدوه
قوله تعالى " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا " قال مقاتل والكلبي يعني سل(3/246)
247
مؤمني أهل الكتاب " أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون " يعني هل جاءهم رسول يدعوهم إلى عبادة غير الله
ويقال " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا " يعني سل المرسلين فلقي النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء ليلة المعراج وصلى بهم ببيت المقدس فقيل له فسلهم فلم يشك ولم يسألهم
ويقال إنما خاطب النبي صلى الله عليه وسلم وأراد به أمته يعني سلوا أهل الكتاب وهذا كقوله " إن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب " [ يونس 94 ] الآية
سورة الزخرف 46 - 50
قوله تعالى " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه فقال إني رسول رب العالمين " وقد ذكرناه " فلما جاءهم بآياتنا " يعني باليد والعصا " إذا هم منها يضحكون " يعني يعجبون ويسخرون
" وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها " يعني أعظم من التي كانت قبلها وهي السنين والنقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم فلم يؤمنوا بشيء
" وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون " يعني عاقبناهم بهذه العقوبات لكي يرجعوا ويعرفوا ضعف معبودهم " وقالوا يا أيها الساحر " وكان الساحر فيهم عظيم الشأن يعني قالوا لموسى يا أيها العالم " ادع لنا ربك " يعني سل لنا ربك " بما عهد عندك " يعني بحق ما أمرك به ربك أن تدعو إليه " إننا لمهتدون " يعني نؤمن بك ونوحد الله تعالى
قوله تعالى " فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون " يعني ينقضون عهودهم
سورة الزخرف 51 - 56
وقال عز وجل " ونادى فرعون في قومه " يعني خطب فرعون لقومه " قال يا قوم أليس لي ملك مصر " وهي أربعون فرسخا في أربعين فرسخا " وهذه الأنهار تجري من تحتي " يعني من تحت يدي ويقال من حولي وحول قصوري وجناني " أفلا تبصرون " فضلي على موسى " أم أنا خير من هذا الذي هو مهين " يعني أنا خير و " أم " للصلة من هذا الذي هو مهين(3/247)
248
يعني ضعيفا ذليلا " ولا يكاد يبين " يعني لا يكاد يعبر حجة
ويقال معناه ألا تنظرون إلى فصاحتي وإلى عي كلام موسى
ثم قال " فلولا ألقي عليه " يعني هلا أعطي " أسورة من ذهب " يعني لو كان حقا وكان رسولا كما يقول لأعطي له المال فيكون حاله خيرا من هذا وكان آل فرعون يلبسون الأساور
قرأ عاصم في رواية حفص ( أسورة ) بغير ألف والباقون ( أساورة ) فمن قرأ " أسورة " فهو جمع السوار ومن قرأ " أساورة " فهو جمع الجمع
ويقال أساور جمع سوار
ثم قال " أو جاء معه الملائكة مقترنين " يعني لو كان حقا لأتته الملائكة متتابعين فصدقوه على مقالته ويقال " مقترنين " أي متعاونين " فاستخف قومه " يعني فاستذل قومه " فأطاعوه " يعني حملهم على الخفة فانقادوا له " إنهم كانوا قوما فاسقين " يعني كافرين عاصين
وذلك أن فرعون قال لهم ما أريكم إلا ما أرى فأطاعوه على تكذيب موسى عليه السلام " إنهم كانوا قوما فاسقين " يعني ناقضي العهد
قوله تعالى " فلما آسفونا انتقمنا " يعني أغضبونا
قال أهل اللغة الأسف الغضب
وروى معمر عن سماك بن الفضل
قال كنا عند عروة بن محمد وعنده وهب بن منبه فجاء قوم فشكوا عاملهم وأثبتوا على ذلك فتناول وهب عصا كانت في يد عروة فضرب بها رأس العامل حتى أدماه فاستهابها عروة وكان حليما قال يعيب علينا أبو عبد الله الغضب وهو يغضب فقال وهب وما لي لا أغضب وقد غضب الذي خلق الأحلام إن الله تعالى يقول " فلما آسفونا انتقمنا منهم " يعني أغضبونا
ويقال " فلما آسفونا " يعني وجب عليهم عذابنا " انتقمنا منهم " يعني أهلكناهم " فأغرقناهم أجمعين " يعني لم نبق منهم أحدا
قوله تعالى " فجعلناهم سلفا " قال مجاهد يعني كفار قوم فرعون " سلفا " لكفار مكة أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقال قتادة جعلناهم سلفا إلى النار
قرأ حمزة والكسائي ( سلفا ) بالضم والباقون ( سلفا ) بنصب السين واللام
فمن قرأ بالنصب فمعناه جعلناهم سلفا متقدمين ليتعظ بهم الآخرون
ومن قرأ بالضم فهو جمع سليف أي جمع قد مضى
ويقال سلفا واحدها سلفة من الناس أي قطعة " ومثلا للآخرين " يعني عبرة لمن بعدهم
سورة الزخرف 57 - 62
قوله تعالى " ولما ضرب ابن مريم مثلا " يعني وصف ابن مريم شبها " إذا قومك منه(3/248)
249
يصدون ) يعني يعرضون عن ذكره
ويقال لما قالت النصارى إن عيسى ابن الله " إذا قومك منه يصدون " قرأ ابن عامر والكسائي ونافع " يصدون " بضم الصاد والباقون ( يصدون ) بكسر الصاد
فمن قرأ بالضم فمعناه يعرضون ومن قرأ بالكسر فمعناه يضجون ويرفعون أصواتهم تعجبا وذلك أنهم قالوا لما جاز أن يكون عيسى ابن الله جاز أن تكون الملائكة بناته فعارضوه بذلك يعني أهل مكة ورفعوا أصواتهم بذلك
ويقال إن عبد الله بن الزبعرى قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا في سورة الأنبياء ففرح المشركون بذلك ورفعوا أصواتهم تعجبا من قوله " وقالوا أآلهتنا خير أم هو " يعني أم عيسى فإذا جاز أن يكون هو ولدا جاز أن تكون الأصنام والملائكة كذلك
ويقال فإذا جاز أن يكون هو في النار جاز أن تكون الأصنام معه في النار
قوله " وما ضربوه لك إلا جدلا " يعني ما عارضوك بهذه المعارضة إلا جدلا بالباطل " بل هم قوم خصمون " يعني يجادلون شديد المجادلة بالباطل
قوله تعالى " إن هو إلا عبد أنعمنا عليه " أي ما كان عيسى إلا عبدا لله أنعم الله تعالى عليه بالنبوة وأكرمه بها " وجعلناه مثلا لبني إسرائيل " يعني عبرة لبني إسرائيل ليعتبروا به حين ولد من غير أب
ثم قال " ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض " يعني لو شاء الله لجعل مكانكم في الأرض ملائكة " يخلفون " فكانوا خلفا منكم
ثم رجع إلى صفة عيسى عليه السلام فقال " وإنه لعلم للساعة " يعني نزول عيسى علامة لقيام الساعة ويقال نزول عيسى آية للناس
وروى وكيع عن سفيان عن عاصم عن أبي رزين عن أبي يحيى عن ابن عباس في قوله " وإنه لعلم للساعة " قال خروج عيسى ابن مريم
وروى معمر عن قتادة قال نزول عيسى
وروى عبادة عن حميد عن أبي هريرة قال لا تقوم الساعة حتى يرى عيسى عليه السلام في الأرض إماما مقسطا وكنت أرجو ألا أموت حتى آكل مع عيسى عليه السلام على مائدة فمن لقيه منكم فليقرئه مني السلام قرأ بعضهم " وإنه لعلم للساعة " بنصب العين واللام وقراءة العام " لعلم " بالكسر وقال القتبي من قرأ " وإنه لعلم للساعة " بأسر العين أي بنزول المسيح يعلم أنه قد قربت الساعة
ومن قرأ ( وإنه لعلم ) بنصب العين واللام فإنه بمعنى الدليل والعلامة
قوله تعالى " فلا تمترن بها " يعني لا تشكن في القيامة والبعث " واتبعوني " يعني أطيعونني " هذا صراط مستقيم " يعني هذا التوحيد صراط مستقيم " ولا يصدنكم الشيطان "(3/249)
250
يعني لا يضلنكم الشيطان عن طريق الهدى " إنه لكم عدو مبين " ظاهر العداوة
سورة الزخرف 63 - 67
قوله تعالى " ولما جاء عيسى بالبينات " يعني بالآيات والعلامات وهو إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص
ويقال " بالبينات " يعني بالإنجيل " قال قد جئتكم بالحكمة " يعني بالنبوة " ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه " قال بعضهم يعني كل الذي تختلفون فيه
وقال بعضهم معناه لأبين تحليل بعض الذي تختلفون فيه
كقوله " ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم " [ آل عمران 50 ] وكانوا في ذلك التحريم مختلفين فمصدق ومكذب " فاتقوا الله وأطيعون " فيما آمركم به من التوحيد
قوله تعالى " إن الله هو ربي وربكم " يعني خالقي وخالقكم " فاعبدوه " يعني وحدوه وأطيعوه " هذا صراط مستقيم " يعني دين الإسلام " فاختلف الأحزاب من بينهم " أي تفرقوا في أمر عيسى وهم النسطورية والماريعقوبية والملكانية وقد ذكرناه من قبل
ويقال الأحزاب تحزبوا وتفرقوا في أمر عيسى وهم اليهود فقالوا فيه قولا عظيما وفي أمه
فقالوا إنه ساحر
ويقال اختلفوا في قتله " فويل للذين ظلموا " يعني أشركوا " من عذاب يوم أليم " يعني عذاب يوم شديد
قوله تعالى " هل ينظرون إلا الساعة " يعني ما ينظرون إذا لم يؤمنوا إلا أن تأتيهم الساعة " أن تأتيهم بغتة " يعني فجأة " وهم لا يشعرون " بقيامها
قوله تعالى " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو " قال مجاهد الأخلاء في معصية الله تعالى في الدنيا يومئذ متعادين في الآخرة " إلا المتقين " الموحدين
قال مقاتل نزلت في أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط
وقال الكلبي كل خليل في غير طاعة الله فهو عدو لخليله
وروى عبيد بن عمير
قال كان لرجل ثلاثة أخلاء بعضهم أخص به من بعض فنزلت به نازلة فلقي أخص الثلاثة فقال يا فلان إنه قد نزل في كذا وكذا وإني أحب أن تعينني
فقال له ما أنا بالذي أعينك ولا أنفعك فانطلق إلى الذي يليه
فقال له أنا معك حتى أبلغ المكان الذي تريده ثم رجعت وتركتك
فانطلق إلى الثالث فقال له أنا معك حيثما دخلت
قال فالأول ماله والثاني أهله وعشيرته والثالث عمله
وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن قوله " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " فقال خليلان مؤمنان وخليلان كافران فتوفي أحد المؤمنين(3/250)
251
فيثني على صاحبه خيرا ثم يموت الآخر فيجمع بين أرواحهما فيقول كل واحد منهما لصاحبه نعم الأخ ونعم الصاحب ويمون أحد الكافرين فيثني على صاحبه شرا ثم يموت الآخر فيجمع بين أرواحهما فيقول كل واحد منهما لصاحبه بئس الأخ وبئس الصاحب
سورة الزخرف 68 - 76
قوله تعالى " يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون " يعني يوم القيامة
ثم وصفهم فقال " الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين " يعني مخلصين بالتوحيد
قوله تعالى " ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون " يعني تكرمون وتنعمون
ويقال تسرون والحبرة السرور
قوله تعالى " يطاف عليهم بصحاف من ذهب " قال كعب يطاف عليهم بسبعين ألف صحفة من ذهب في كل صحفة لون وطعام وليس في الأخرى والصحفة هي القصعة
" وأكواب " وهي الأباريق التي لا خراطيم لها يعني مدورة الرأس
ويقال التي لا عرى لها واحدها كوب
" وفيها ما تشتهيه الأنفس " يعني تتمنى كل نفس " وتلذ الأعين " من النظر إليها " وأنتم فيها خالدون وتلك الجنة " يعني هذه الجنة " التي أورثتموها " يعني أنزلتموها " بما كنتم تعملون " يعني دخلتموها برحمة الله تعالى بإيمانكم واقتسمتموها بأعمالكم
" لكم فيها فاكهة كثيرة " لا تنقطع
لقوله " لا مقطوعة ولا ممنوعة " [ الواقعة 33 ] " منها تأكلون " أي من الفواكه متى تشاؤوا
ثم وصف المشركين فقال " إن المجرمين " يعني المشركين " في عذاب جهنم خالدون " أي دائمون لا يموتون ولا يخرجون " لا يفتر عنهم " يعني لا ينقطع عنهم العذاب طرفة عين " وهم فيه مبلسون " يعني آيسين من رحمة الله تعالى
قوله تعالى " وما ظلمناهم " يعني لم نعذبهم بغير ذنب " ولكن كانوا هم الظالمين " لأنهم كانوا يستكبرون عن الإيمان(3/251)
252
سورة الزخرف 77 - 81
قوله تعالى " ونادوا يا ملك " وذلك لما يشتد عليهم العذاب يتمنون الموت ويقولون لخازن جهنم يا مالك " ليقض علينا ربك " يعني ادع لنا ربك لقبض أرواحنا فأجابهم بعد أربعين سنة " قال إنكم ماكثون " يعني خالدين فيها وروى عطاء بن السائب عن رجل عن ابن عباس قال يجيبهم بعد ألف سنة " إنكم ماكثون " ويقال إنهم ينادون " يا مالك ليقض علينا ربك " فأوحى الله تعالى إلى مالك ليجيبهم فيقول لهم مالك " إنكم ماكثون "
قوله تعالى " لقد جئناكم بالحق " يعني جاءكم جبريل في الدنيا بالقرآن والتوحيد " ولكن أكثركم للحق كارهون " يعني جاحدين
وهو قوله تعالى " أم أبرموا أمرا " قال مقاتل وذلك حين اجتمعوا في دار الندوة ودخل إبليس عليهم وقد ذكرناه في سورة الأنفال
فنزل " أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون " يعني أجمعوا أمرهم بالشر على النبي صلى الله عليه وسلم " فإنا مبرمون " أي مجمعون أمرنا على ما يكرهون
وقال الكلبي وذلك أن ثلاثة نفر اجتمعوا وقالوا إنه يقول بأن ربي يعلم السر أترى أنه يعلم ما نقول بيننا فنزل " أم أبرموا أمرا " يعني أقاموا على المعصية " فإنا مبرمون " أي معذبون عليها
قال القتبي أي أحكموه والمبرم المفتول على طاقين
قوله تعال " أم يحسبون " يعني بل يظنون
ويقال أيظنون والميم صلة " أنا لا نسمع سرهم ونجواهم " اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التوبيخ ومعناه إن الله تعالى يعلم سرهم ونجواهم
قال ابن عباس الذين يتناجون خلف الكعبة يعني الذين يقولون إن الله لا يسمع مقالتنا
قال الله تعالى " بلى " يعني نسمع ذلك " ورسلنا لديهم يكتبون " مقالتهم
قوله تعالى " قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين " يعني الموحدين من أهل مكة قال مقاتل لما نزلت هذه الآية وقرئت عليهم فقال النضر بن الحارث ألا ترونه صدقني
فقال له الوليد ما صدقك ولكنه يقول ما كان للرحمن ولد
يعني " إن " بمعنى ما " فأنا أول العابدين " يعني الموحدين من أهل مكة
وقال الكلبي أنا أول الآنفين أن لله ولدا
وقال القتبي إن كان هذا في زعمكم فأنا أول الموحدين لأنكم تزعمون أن له ولدا فلم توحدوه ومن وحد الله تعالى فقد عبده ومن جعل له ولدا فليس من العابدين كقوله " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " [ الذاريات 56 ] أي ليوحدون
سورة الزخرف 82 - 84(3/252)
253
سورة الزخرف 85
ثم نزه نفسه فقال " سبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون " يعني عما يقولون إن لله ولدا " فذرهم " يعني كفار مكة حين كذبوا بالعذاب " يخوضوا ويلعبوا " في أباطيلهم ويستهزئوا " حتى يلاقوا " يعني حتى يعاينوا " يومهم الذي يوعدون " وهو يوم القيامة
قوله تعالى " وهو الذي في السماء إله " يعبد " وفي الأرض إله " يعبد ويقال يوحد في السماء ويوحد في الأرض " وهو الحكيم " في أمره " العليم " بخلقه وبمقالتهم
ثم عظم نفسه فقال تعالى " وتبارك الذي " يعني تعالى عما وصفوه الذي " له ملك السموات " يعني خزائن السماوات المطر " والأرض " النبات " وما بينهما " من الخلق ويقال الذي له نفاذ الأمر في السماوات والأرض وما بينهما " وعنده علم الساعة " يعني علم قيام الساعة " وإليه ترجعون " قرأ أبو عمرو ونافع وعاصم ( ترجعون ) بالتاء على معنى المخاطبة
وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر عنهم
سورة الزخرف 86 - 89
قوله تعالى " ولا يملك الذين يدعون " يعني لا يقدر الذين يعبدون " من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق " يعني بلا إله إلا الله مخلصا " وهم يعلمون " أنه الحق حين شهدوا بها من قبل أنفسهم وأنهم يشفعون لهؤلاء
قوله تعالى " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " يعني كفار قريش " فأنى يؤفكون " يعني أنى يصرفون بعد التصديق
ثم قال " وقيله يا رب " يعني قال النبي صلى الله عليه وسلم " وقيله " بمعنى وقوله
قرأ عاصم وحمزة " قيله " بكسر اللام والباقون بالنصب
وقرئ في الشاذ ( وقيله ) بضم اللام
فمن قرأ بالنصب فنصبه من وجهين أحدهما على العطف على قوله " أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم " [ الزخرف 80 ] ( وقيله ) ومعنى آخر وعنده علم الساعة ويعلم " قيله " يعني علم الغيب ويعلم قوله ومن قرأ بالكسر معناه وعنده علم الساعة وعلم قيله يا رب
ومن قرأ بالرفع فمعناه وقيله قول يا رب " إن هؤلاء قوم لا يؤمنون " يعني لا يصدقون " فاصفح عنهم " يعني أعرض عنهم وهذا قبل أن يؤمر بالقتال " وقل سلام " يعني سدادا من القول " فسوف يعلمون " وهذا وعيد منه
قرأ نافع وابن عامر ( فسوف تعلمون ) بالتاء على معنى المخاطبة لهم والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم والله أعلم(3/253)
254
سورة الدخان
مكية وهي خمسون وتسع آيات
سورة الدخان 1 - 6
قوله تبارك وتعالى " حم والكتاب المبين إنا أنزلناه " يعني الكتاب " في ليلة مباركة " يعني في ليلة القدر سميت مباركة لما فيها من البركة والمغفرة للمؤمنين
وذلك أن القرآن أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر إلى السفرة ثم أنزله جبريل متفرقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال كان ينزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر مقدار ما ينزل به جبريل عليه السلام متفرقا إلى السنة الثانية ثم قال " إنا كنا منذرين " يعني مخوفين بالقرآن
قوله تعالى " فيها يفرق كل أمر حكيم " يعني في ليلة القدر يقضى كل أمر محكم ما يكون في تلك السنة إلى السنة الأخرى وهذا قول عكرمة
وروى منصور عن مجاهد قال فيها يقضى أمر السنة إلى السنة من المصائب والأرزاق وغير ذلك وهذا موافق للقول الأول
ويقال في تلك الليلة " يفرق " يعني ينسخ من اللوح المحفوظ ما يكون إلى العام القابل من الرزق والأجل والأمراض والخصب والشدة
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال إنك لتلقى الرجل في الأسواق وقد وقع اسمه في الأموات ثم قرأ هذه الآية " فيها يفرق كل أمر حكيم " في تلك الليلة يفرق أمر الدنيا إلى مثلها إلى السنة من قابل من شعبان
قوله عز وجل " أمرا من عندنا " يعني قضاء من عندنا ويقال معناه بأمر من عندنا فنزع حرف الخافض فصار نصبا " إنا كنا مرسلين " يعني الرسل إلى الخلق ويقال يعني الملائكة في تلك الليلة " رحمة من ربك " تعالى ويقال إنزال الملائكة رحمة من الله تعالى ويقال الرسالة رحمة من الله تعالى ويقال هذا القرآن رحمة لمن آمن به " إنه هو السميع " لقولهم " العليم " بهم وبأعمالهم
سورة الدخان 7 - 8(3/254)
255
قوله عز وجل " رب السموات والأرض " قرأ أهل الكوفة " رب السموات " بكسر الباء والباقون بالضم
فمن قرأ بالكسر رده إلى قوله " رحمة من ربك " " رب السموات " ومن قرأ بالضم رده إلى قوله " إنه هو السميع العليم " " رب السموات "
ويقال على الاستئناف ومعناه هو ربكم وهو رب السموات والأرض " وما بينهما إن كنتم موقنين " يعني مؤمنين موحدين بتوحيد الله
" لا إله إلا هو يحيي ويميت " وقد ذكرناه " ربكم ورب آبائكم الأولين " يعني هو خالقكم ورازقكم " ورب آبائكم الأولين " يعني خالقهم ورازقهم
سورة الدخان 9 - 16
قوله عز وجل " بل هم في شك يلعبون " يعني يستهزئون ويقال هذا جواب قوله " إن كنتم موقنين " فكأنه قال لا يوقنون " بل هم في شك يلعبون " يعني يخوضون في الباطل
قوله تعالى " فارتقب " يعني فانتظر يا محمد صلى الله عليه وسلم " يوم تأتي السماء بدخان مبين " يعني الجدب والقحط قال القتبي سمي الجدب والقحط دخانا وفيه قولان أحدهما إن الجائع كأنه يرى بينه وبين السماء دخانا من شدة الجوع والثاني أنه سمي القحط دخانا ليبس الأرض وانقطاع النبات وارتفاع الغبار فشبه بالدخان
وروى الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال خمس قد مضين الدخان واللزام والروم والبطشة والقمر
وروي عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال بينما رجل يحدث في المسجد فسئل عن قوله " يوم تأتي السماء بدخان مبين " فقال إذا كان يوم القيامة نزل دخان من السماء فأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم وأخذ المؤمنون منه بمنزلة الزكام
قال مسروق فدخلت على عبد الله فأخبرته وكان متكئا فاستوى قاعدا ثم أنشأ فقال يا أيها الناس من كان عنده علم فسئل عنه فليقل به ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم عن قريشا حين كذبوه يعني صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال ( اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها سنين كسني يوسف عليه السلام ) فأصابهم سنة وشدة الجوع حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام(3/255)
256
حتى كان يرى أحدهم كأن بينه وبين السماء دخانا ) فذلك قوله " فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين " يعني انتظر بهلاكهم يوم تأتي السماء بدخان مبين " يغشى الناس " يعني أهل مكة " هذا عذاب أليم " يعني يقولون هذا الجوع عذاب أليم
ثم إن أبا سفيان وعتبة بن ربيعة والعاص بن وائل وأصحابهم قالوا يا رسول الله استسق الله لنا فقد أصابنا شدة
قوله تعالى " ربنا اكشف عنا العذاب " يعني الجوع " إنا مؤمنون أنى لهم الذكرى " يعني من أين لهم التوبة والعظة والتذكرة " وقد جاءهم رسول مبين " بلغتهم ومفقه لهم " ثم تولوا عنه " يعني أعرضوا عما جاء به فلم يصدقوه ومع ذلك " وقالوا معلم مجنون " يعلمه جبر ويسار غلامي الحضرمي " إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون " إلى المعصية فعادوا فانتقم منهم يوم بدر فذلك قوله " يوم نبطش البطشة الكبرى " يعني نعاقب العقوبة العظمى " إنا منتقمون " منهم بكفرهم ويقال " يوم نبطش البطشة الكبرى " يعني يوم القيامة
ويقال إن الدخان لم يمض وسيكون في آخر الزمان
وروى إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال لم تمض آية الدخان بأخذ المؤمن كهيئة الزكام وينتفخ الكافر حتى يصير كهيئة الجمل
وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال أخبرت أن الكوكب ذا الذنب قد طلع فخشيت أن يكون الدخان قد طرق ويقال هذا كله يوم القيامة إذا خرجوا من قبورهم تأتي السماء بدخان مبين محيط بالخلائق فيقول الكافرون " ربنا اكشف عنا العذاب " أي ردنا إلى الدنيا " إنا مؤمنون " يقول الله تعالى من أين لهم الرجعة وقد جاءهم رسول مبين فلم يجيبوه
سورة الدخان 17 - 24
ثم قال تعالى " ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون " يعني ابتلينا قبل قومك قوم فرعون
" وجاءهم رسول كريم " على ربه وهو موسى عليه السلام
ويقال " رسول كريم " يعني شريفا " أن أدوا إلي عباد الله " يعني أرسلوا معي بني إسرائيل واتبعوني على ديني " إني لكم(3/256)
257
رسول أمين ) قد جئتكم من عند الله تعالى
ويقال كريم لأنه كان يتجاوز عنهم ويقال " أمين " فيكم قبل الوحي فكيف تتهموني اليوم
ويقال " كريم " حيث يتجاوز عنهم حين دعا موسى ورفع عنهم الجراد والقمل والضفادع والدم " إني لكم رسول أمين " فيما بينكم وبين ربكم
قوله تعالى " وأن لا تعلوا على الله " يعني لا تخالفوا أمر الله تعالى
ويقال لا تستكبروا عن الإيمان ولا تعلوا بالفساد لأن فرعون لعنه الله كان عاليا من المسرفين " إني آتيكم بسلطان مبين " يعني آتيكم بحجة بينة اليد والعصى وغير ذلك
" وإني عذت بربي وربكم " يعني أعوذ بالله " أن ترجمون " يعني أن تقتلون ومعناه أسأل الله تعالى أن يحفظني لكي لا تقتلوني
قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي " إني عذت " بإدغام الذال في التاء لقرب مخرجيهما والباقون بغير إدغام لتبيين الحرف
" وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون " يعني إن لم تصدقوني فاتركوني
قوله تعالى " فدعا ربه " يعني دعا موسى ربه كما ذكر في سورة يونس " ربنا اطمس على أموالهم " [ يونس 88 ] وقوله " ونجنا برحمتك من القوم الكافرين " [ يونس 86 ] " أن هؤلاء قوم مجرمون " يعني مشركون فأبوا أن يطيعوني " فأسر بعبادي ليلا " فأوحى الله تعالى إليه أن أدلج ببني إسرائيل " إنكم متبعون " يعني إن فرعون يتبع أثركم
فخرج موسى ببني إسرائيل وضرب بعصاه البحر فصار طريقا يابسا
وهذا كقوله تعالى " فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا " [ طه 77 ] فلما جاوز موسى مع بني إسرائيل البحر فأراد موسى أن يضرب بعصاه البحر ليعود إلى الحالة الأولى فأوحى الله تعالى إليه بقوله " واترك البحر رهوا " قال قتادة يعني طريقا يابسا واسعا
وقال الضحاك " رهوا " يعني سهلا
وقال مجاهد يعني منفرجا
وقال القتبي يعني طريقا سالكا كما هو
ويقال " رهوا " أي سككا جددا أي طريقا يابسا " إنهم جند مغرقون " وذلك أن بني إسرائيل خشوا أن يدركهم فرعون فقال لموسى اجعل البحر كما كان فإننا نخشى أن يلحق بنا
قال الله تعالى " إنهم جند مغرقون " يعني سيغرقون فدخل فرعون وقومه البحر فأغرقهم الله تعالى وبقيت قصورهم وبساتينهم
سورة الدخان 25 - 29
قوله تعالى " كم تركوا من جنات وعيون " يعني بساتين وأنهارا جارية " وزروع " يعني الحروث " ومقام كريم " يعني مساكن ومنازل حسنة
" كذلك " يعني هكذا(3/257)
258
أخرجناهم من النعيم " ونعمة كانوا فيها فاكهين " يعني معجبين
وقال أهل اللغة النعمة بكسر النون في المنة واليد الصالحة والنعمة بالضم هي المسرة والنعمة بالنصب هي السعة في العيش
ثم قال " كذلك " يعني هكذا أخرجناهم من السعة والنعمة " وأورثناها قوما آخرين " يعني جعلناها ميراثا لبني إسرائيل
قوله تعالى " فما بكت عليهم السماء والأرض " قال بعضهم هذا على سبيل المثل والعرب إذا أرادت تعظيم ملك عظيم الشأن عظيم العطية تقول كسف القمر لفقده وبكت الريح والسماء والأرض وقد ذكروا ذلك في أشعارهم
فأخبر الله تعالى أن فرعون لم يكن ممن يجزع له جازع ولم يوجد له فقد
وقال بعضهم " فما بكت عليهم السماء والأرض " يعني أهل السماء وأهل الأرض فأقام السماء والأرض مقام أهلها
كما قال " وسئل القرية " [ يوسف 82 ] وقال بعضهم يعني بكت السماء بعينها وبكت الأرض
وقال ابن عباس لكل مؤمن باب في السماء
يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه فإذا مات بكى عليه بابه في السماء وبكت عليه آثاره في الأرض وذكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه سئل أتبكي السماء والأرض على أحد قال نعم إذا مات المؤمن بكت عليه معادنه من الأرض التي كان يذكر الله تعالى فيها ويصلي وبكى عليه بابه الذي كان يرفع فيه عمله فاخبر الله تعالى أن قوم فرعون لم تبك عليهم السماء والأرض " وما كانوا منظرين " يعني مؤجلين
سورة الدخان 30 - 37
قوله عز وجل " ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين " يعني من العذاب الشديد
ويقال " المهين " يعني الهوان وهو قتل الأبناء واستخدام البنات " من فرعون " يعني من عذاب فرعون " إنه كان عاليا من المسرفين " يعني كان عاصيا عاتيا مستكبرا متعظما " وكان من المسرفين " يعني من المشركين " ولقد اخترناهم " يعني اصطفينا بني إسرائيل " على علم " يعني على علم من الله تعالى أنهم أهل لذلك
ويقال " على علم " الله فيهم من صبرهم " على العالمين " يعني على عالمي زمانهم " وآتيناهم من الآيات " يعني(3/258)
259
أعطيناهم من العلامات " ما فيه بلاء مبين " يعني ابتلاء بينا مثل انفلاق البحر وأشباه ذلك
ثم ذكر كفار مكة فقال " إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى " يعني ما هي إلا موتتنا الأولى " وما نحن بمنشرين " بعدها " فأتوا بآياتنا إن كنتم صادقين " أنا نبعث بعد الموت يعني قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم
قال الله تعالى " أهم خير أم قوم تبع " يعني قومك خير أم قوم تبع وإنما ذكر قوم تبع لأنهم كانوا أقرب إلى أهل مكة في الهلاك من غيرهم
قال الكلبي وكانوا أشراف حمير " والذين من قبلهم أهلكناهم " فكيف لا نهلك قومك إذا كذبوك قال وكان تبع اسم ملك منهم مثل فرعون
ويقال إنما سمي تبع لكثرة أتباعه فأسلم فخالفوه فأهلكهم الله تعالى وكان اسمه أسعد بن ملكى كرب
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن عائشة رضي الله عنها قالت إن تبع كان رجلا صالحا وكان كعب الأحبار يقول ذم الله قومه ولم يذمه
وقال سعيد بن جبير إن تبعا كسا البيت يعني الكعبة
وقال القتبي هم ملوك اليمن كل واحد منهم يسعى تبعا لأنه يتبع صاحبه وكذلك الظل يسمى تبعا لأنه يتبع الشمس وموضع التبع في الجاهلية موضع الخليفة في الإسلام وهم ملوك العرب
ثم قال " والذين من قبلهم " يعني من قبل تبع " أهلكناهم " يعني عذبناهم عند التكذيب " إنهم كانوا مجرمين " يعني مشركين
سورة الدخان 38 - 42
قوله عز وجل " وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين " يعني عابثين لغير شيء " ما خلقناهما إلا بالحق " يعني إلا لأمر هو كائن
ويقال خلقناهما للعبرة ومنفعة الخلق ويقال للأمر والنهي والترهيب والترغيب " ولكن أكثرهم لا يعلمون " يعني لا يصدقون ولا يفقهون
قوله عز وجل " إن يوم الفصل " أي يوم القضاء بين الخلق وهو يوم القيامة " ميقاتهم أجمعين " يعني ميعادهم أجمعين الأولين والآخرين
ويقال " يوم الفصل " يعني يوم يفصل بين الأب وابنه والأخ وأخيه والزوج والزوجة والخليل والخليلة(3/259)
260
ثم وصف ذلك اليوم فقال " يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا " يعني لا يدفع مولى عن ولي ولا قريب عن قريب شيئا في الشفاعة " ولا هم ينصرون " يعني لا يمنعون مما نزل بهم من العذاب
يعني الكافرين
ثم وصف المؤمنين فإنه يشفع بعضهم لبعض فقال " إلا من رحم الله إنه هو العزيز " في نعمته للكافرين " الرحيم " بالمؤمنين
سورة الدخان 43 - 50
قوله تعالى " إن شجرة الزقوم طعام الأثيم " يعني الفاجر وهو الوليد وأبو جهل ومن كان مثل حالهما " كالمهل يغلي في البطون " يعني كالصفر المذاب
قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص " كالمهل يغلي " بالياء بلفظ التذكير
والباقون بلفظ التأنيث
فمن قرأ بلفظ التذكير رده إلى المهل ومن قرأ بلفظ التأنيث رده إلى الشجرة " كغلي الحميم " يعني الماء الحار الذي قد انتهى حره
ثم قال للزبانية " خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم " يعني فسوقوه وادفعوه إلى وسط الجحيم
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر " فاعتلوه " بضم التاء والباقون بالكسر وهما لغتان معناهما واحد يعني امضوا به بالعنف والشدة
وقال مقاتل يعني ادفعوه على وجهه
وقال القتبي خذوه بالعنف " ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم " ويقال له " ذق إنك أنت العزيز الكريم " وذلك أن أبا جهل قال أنا في الدنيا أعز أهل هذا الوادي وأكرمه فيقال له في الآخرة " ذق إنك أنت العزيز الكريم " يعني المتعزز المتكرم كما قلت في الدنيا
قوله عز وجل " إن هذا ما كنتم به تمترون " يعني تشكون في الدنيا
قرأ الكسائي " ذق أنك " بنصب الألف والباقون بالكسر
فمن قرأ بالنصب فمعناه ذق يا أبا جهل لأنك قلت أنك أعز أهل هذا الوادي فقال الله تعالى " ذق إنك أنت " القائل أنا " العزيز الكريم " [ الدخان 49 ] ومن قرأ بالكسر فهو على الاستئناف
سورة الدخان 51 - 59(3/260)
261
ثم وصف حال المؤمنين في الآخرة فقال تعالى " إن المتقين في مقام أمين " يعني في منازل حسنة آمنين من العذاب
قرأ نافع وابن عامر " في مقام " بضم الميم والباقون بالنصب
فمن قرأ بالنصب يعني المكان والموضع ومن قرأ بالضم يعني الإقامة " في جنات وعيون " يعني في بساتين وأنهار جارية " يلبسون من سندس " يعني ما لطف من الديباج " وإستبرق " يعني ما ثخن منه " متقابلين " يعني متواجهين كما قال في آية أخرى " إخوانا على سرر متقابلين " [ الحجر 47 ] ثم قال " كذلك " يعني هكذا كما ذكرت لهم في الجنة
ثم قال عز وجل " وزوجناهم بحور عين " يعني بيض الوجوه حسان الأعين " يدعون فيها بكل فاكهة آمنين " يعني ما يتمنون من الفواكه " آمنين " من الموت
ويقال " آمنين " مما يلقى أهل النار " لا يذوقون فيها الموت " يعني في الجنة " إلا الموتة الأولى " يعني سوى ما قضى عليهم من الموتة الأولى في الدنيا " ووقاهم عذاب الجحيم " يعني يصرف عنهم عذاب النار
قوله تعالى " فضلا من ربك " يعني هذا الثواب عطاء من ربك للمؤمنين المخلصين " ذلك هو الفوز العظيم " يعني النجاة الوافرة " فإنما يسرناه بلسانك " يعني هونا قراءة القرآن على لسانك لكي تقرأه وتخبرهم بذلك " لعلهم يتذكرون " يعني يتعظون بالقرآن " فارتقب " يعني انتظر لهلاكهم " إنهم مرتقبون " يعني منتظرون هلاكك ويقال انتظر النصرة وإظهار دينك وهلاكهم إن لم يصدقوك " إنهم مرتبون " يعني منتظرون
روي يعلى بن عبيدة عن إسماعيل عن عبد الله بن عيسى قال أخبرت أنه من قرأ ليلة الجمعة سورة الدخان إيمانا واحتسابا وتصديقا أصبح مغفورا له والله أعلم
و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وعترته الطيبين الطاهرين وسلم تسليما دائما(3/261)
262
سورة الجاثية
مكية وهي ثلاثون وسبع آيات
سورة الجاثية 1 - 6
قوله تبارك وتعالى " حم تنزيل الكتاب " يعني هذا الكتاب تنزيل " من الله العزيز الحكيم " وقد ذكرناه
" إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين " يعني لعبرات للمؤمنين في خلقهن
ويقال معناه أن ما في السموات من الشمس والقمر والنجوم وفي الأرض من الجبال والأشجار والأنهار وغيرها من العجائب لعبرات ودلائل واضحات للمؤمنين
يعني للمقرين المصدقين ويقال " للمؤمنين " يعني لمن أراد أن يؤمن ويتقي الشرك
قوله عز وجل " وفي خلقكم وما يبث من دابة " يعني وفيما خلق من الدواب " آيات لقوم يوقنون " يعني عبرات ودلائل لمن كان له يقين
قرأ حمزة والكسائي " آيات " بالكسر والباقون بالضم
وكذلك الاختلاف في الذي بعده
فمن قرأ بالكسر فإن المعنى إن في خلقكم آيات لقوم يوقنون فهو في موضع النصب إلا أن هذه التاء تصير خفضا في موضع النصب وإنما أضمر فيه إن لأن قوله " إن في السموات والأرض لآيات " في موضع النصب فكذلك في الثاني معناه إن في خلقكم آيات
ومن قرأ بالضم فهو على الاستئناف على معنى وفي خلقكم آيات
قوله عز وجل " واختلاف الليل والنهار " يعني في اختلاف الليل والنهار في سواد الليل وبياض النهار يعني في اختلاف ألوانهما وذهاب الليل ومجيء النهار " آيات لقوم يعقلون " لمن كان له ذهن الإنسانية " وما أنزل الله من السماء من رزق " وهو المطر " فأحيا به الأرض بعد موتها " يعني بعد يبسها وقحطها " وتصريف الرياح " مرة رحمة ومرة عذابا
ويقال مرة جنوبا ومرة شمالا
ثم قال " تلك آيات الله " يعني هذه دلائل الله وعلامة وحدانيته " نتلوها عليك بالحق " يعني يقرأ عليك جبريل من القرآن بأمر الله " فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون " قال مقاتل(3/262)
263
إن لم تؤمنوا بهذا القرآن فبأي حديث بعد توحيد الله وبعد القرآن تؤمنون
يعني تصدقون
سورة الجاثية 7 - 11
قوله تعالى " ويل لكل أفاك أثيم " يعني كذابا فاجرا " يسمع آيات الله " يعني القرآن " تتلى عليه " يعني يعرض عليه ويقرأ عليه " ثم يصر مستكبرا " يعني يقيم على الكفر متكبرا عن الإيمان " كأن لم يسمعها " يعني كأن لم يعقلها ولم يفهمها " فبشره " يا محمد " بعذاب أليم " يعني شديدا
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " وآياته تؤمنون " بالتاء على معنى المخاطبة والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم
قوله عز وجل " وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا " يعني إذا سمع من آياتنا يعني من القرآن اتخذها " هزوا " يعني سخرية
ويقال مثل حديث رستم وإسنفديار وهو النضر بن الحارث " أولئك لهم عذاب مهين " يهانون فيه
قوله تعالى " من ورائهم جهنم " يعني أمامهم جهنم
ويقال من بعدهم في الآخرة جهنم " ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا " يعني لا ينفعهم ما جمعوا من المال
" ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء " يعني لا ينفعهم ما عبدوا دونه من الأصنام " ولهم عذاب عظيم " في الآخرة
قوله تعالى " هذا هدى " يعني هذا القرآن بيان من الضلالة
ويقال هذا العذاب الذي ذكر حق " والذين كفروا " يعني جحدوا " بآيات ربهم " القرآن " لهم عذاب من رجز أليم " يعني وجيعا في الآخرة
قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص " أليم " بضم الميم والباقون " أليم " بالكسر كما ذكرنا في سورة سبأ
سورة الجاثية 12 - 14
ثم ذكرهم النعم ليعتبروا فقال تعالى " الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون " وقد ذكرناه
ثم قال " وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض " يعني ذلل لكم ما في السموات وما في الأرض لصلاحكم
ثم قال تعالى " جميعا(3/263)
264
منه ) يعني جميع ما سخر الله تعالى وهو من قدرة ورحمته
ويقال " جميعا منه " يعني منة منه
قال مقاتل يعني جميعا من أمره
وروى عكرمة عن ابن عباس قال " جميعا منه " منه النور ومنه الشمس ومنه القمر
" إن في ذلك " يعني فيما ذكر " لآيات " يعني له دلالات وعبرات " لقوم يتفكرون " يعتبرون في صنعه وتوحيده
وروى الأعمش عن عمرو بن مرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بقوم يتفكرون في الخالق فقال ( تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق )
وروى وكيع عن هشام عن عروة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول من خلق السماء فيقول الله فيقول من خلق الأرض فيقول الله
فيقول من خلق الله تعالى فإذا افتتن أحدكم بذلك فليقل آمنت بالله ورسوله
قول الله تعالى " قل للذين آمنوا " قال مقاتل والكلبي وذلك أن رجلا من الكفار من قريش شتم عمر رضي الله عنه بمكة فهم عمر بأن يبطش به فأمره الله بالتجاوز عنه
فقال " قل للذين آمنوا " يعني عمر رضي الله عنه " يغفروا للذين " يعني يتجاوزوا ولا يعاقبوا الذين " لا يرجون أيام الله " يعني لا يخافون عقوبته التي أهلك بها عادا وثمودا والقرون التي أهلكت قبلهم
يعني لا يخشون مثل أيام الأمم الخالية
قال قتادة ثم نسختها آية القتال " وقاتلوا المشركين كافة " [ التوبة 36 ]
ثم قال " ليجزي قوما بما كانوا يكسبون " يعني يجزيهم بأعمالهم في الآخرة
قال مجاهد " لا يرجون أيام الله " يعني لا ينالون نعم الله
قرأ حمزة والكسائي وابن عامر " لنجزي " بالنون على معنى الإضافة إلى نفسه
والباقون " لنجزي " بالياء أي ليجزي الله
سورة الجاثية 15 - 17
قوله عز وجل " من عمل صالحا فلنفسه " يعني ثوابه لنفسه " ومن أساء فعليها " يعني عقوبته عليها " ثم إلى ربكم ترجعون " في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم
قال الله تعالى " ولقد آتينا بني إسرائيل " يعني أولاد يعقوب " الكتاب " أي التوراة والزبور والإنجيل لأن موسى وداود وعيسى كانوا في بني إسرائيل " والحكم " يعني الفهم والعلم " والنبوة " يعني جعلنا فيهم النبوة فكان فيهم ألف نبي
" ورزقناهم من الطيبات " يعني الحلال من الرزق وهو المن والسلوى
ويقال " رزقناهم من الطيبات " يعني أورثناهم أموال فرعون " وفضلناهم على العالمين " يعني فضلناهم بالإسلام على عالمي(3/264)
265
زمانهم
" وآتيناهم بينات من الأمر " يعني الحلال والحرام وبيان ما كان قبلهم ثم اختلفوا بعده
قوله تعالى " فما اختلفوا " يعني في الدين " إلا من بعد ما جاءهم العلم " أي صفة النبي صلى الله عليه وسلم في كتبهم " بغيا بينهم " يعني حسدا منهم وطلبا للعز والملك
ويقال اختلفوا في الدين فصاروا أحزابا فيما بينهم يلعن بعضهم بعضا ويتبرأ بعضهم من دين بعض
قال الله تعالى " إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة " يعني يحكم بينهم " فيما كانوا فيه يختلفون " في الكتاب والدين
سورة الجاثية 18 - 20
قوله عز وجل " ثم جعلناك على شريعة من الأمر " يعني أمرناك وألزمناك وأثبتناك على شريعة يعني على سنة من الأمر وذلك حين دعوه إلى ملتهم
ويقال " على شريعة " يعني على ملة ومذهب
ويقال " جعلناك على شريعة من الأمر " أي أمرناك وألزناك على شريعة
وقال قتادة الشريعة الفرائض والحدود والأحكام
" فاتبعها " يعني اثبت عليها
" ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون " يعني لا يصدقون بالتوحيد " إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا " يعني إن تركت الإسلام إنهم لا يمنعوك من عذاب الله شيئا " وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض " يعني بعضهم على دين بعض " والله ولي المتقين " أي ناصر الموحدين المخلصين
قوله تعالى " هذا بصائر للناس " يعني هذا بيان للناس ويقال " بصائر للناس " يبصرهم ما لهم وما عليهم والواحدة بصيرة يعني يبين لهم الحلال والحرام
ويقال هذا القرآن دلائل للناس
ويقال دعوة وكرامة
" وهدى ورحمة " يعني هدى من الضلالة ورحمة من العذاب " لقوم يوقنون " يعني يصدقون بالرسل والكتاب ويوقنون أن الله تعالى أنزل نعمة وفضلا
سورة الجاثية 21 - 23(3/265)
266
قوله عز وجل " أم حسب الذين اجترحوا السيئات " يعني اكتسبوا السيئات وذلك أنهم كانوا يقولون إنا نعطى في الآخرة من الخير ما لم تعطوا
قال الله تعالى " أم حسب " يعني أيظن الذين عملوا الشرك وهو عتبة وشيبة والوليد وغيرهم " أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني عليا وحمزة وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم " سواء محياهم ومماتهم " يعني يكونون سواء في نعم الآخرة
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " سواء " بالنصب والباقون بالضم
فمن قرأ بالنصب فمعناه أحسبوا أن نجعلهم سواء أي مستويا فيجعل " أن نجعلهم " متعديا إلى مفعولين
ومن قرأ بالضم جعل تمام الكلام عند قوله " وعملوا الصالحات " ثم ابتدأ فقال " سواء محياهم ومماتهم " خبر الابتداء
وقال مجاهد " سواء محياهم ومماتهم " قال المؤمنون في الدنيا والآخرة مؤمن يموت على إيمانه ويبعث على إيمانه والكافر في الدنيا والآخرة كافر يموت على الكفر ويبعث على الكفر
وروى أبو الزبير عن جابر قال يبعث كل عبد على ما مات عليه المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه ثم قال " ساء ما يحكمون " أي بئس ما يقضون الخير لأنفسهم حين يرون أن لهم ما في الآخرة ما للمؤمنين
قوله عز وجل " وخلق الله السموات والأرض بالحق " وقد ذكرناه " ولتجزي كل نفس بما كسبت " يعني ما عملت " وهم لا يظلمون " يعني لا ينقصون من ثواب أعمالهم ولا يزادون على سيئاتهم
قوله تعالى " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه " روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان أحدهم يعبد الحجر فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى حجره وعبد الأخر
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه " قال يعمل بهواه ولا يهوى شيئا إلا ركبه ولا يخاف الله
ثم قال " وأضله الله على علم " يعني علم منه أنه ليس من أهل الهدى " وختم على سمعه وقلبه " يعني خذله الله فلم يسمع الهدى قلبه يعني ختم على قلبه فلا يرغب في الحق " وجعل على بصره غشاوة " يعني غطاء كي لا يعتبر في دلائل الله تعالى
قرأ حمزة والكسائي " غشوة " بنصب الغين بغير ألف والباقون غشاوة
كما اختلفوا في سورة البقرة ومعناهما واحد
ثم قال " فمن يهديه من بعد الله " يعني من بعد ما أضله الله " أفلا تذكرون " أن من لا يقبل إلى دين الله ولا يرغب في طاعته لا يكرمه بالهدى والتوحيد(3/266)
267
سورة الجاثية 24 - 27
قوله تعالى " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا " يعني آجالنا تنقضي " نموت ويحيي " آخرون
يعني نموت نحن ويحيا أولادنا ويقال يموت قوم ويحيا آخرون
ووجه آخر " نموت ونحيا " يعني نحيا ونموت لأن الواو للجمع لا للتأخير ووجه آخر " نموت ونحيا " أي كنا أمواتا في أصل الخلقة ثم نحيا ثم يهلكنا الدهر فذلك قوله " وما يهلكنا إلا الدهر " يعني لا يميتنا إلا مضي الأيام وطول العمر
قال تعالى " وما لهم بذلك من علم " يعني يقولون قولا بغير حجة ويتكلمون بالجهل " إن هم إلا يظنون " يعني ما هم إلا جاهلون
قوله تعالى " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات " يعني القرآن آياته " بينات " واضحات بين فيه الحلال والحرام " ما كان حجتهم " يعني لم تكن حجتهم وجوابهم " إلا أن قالوا ائتوا بآيائنا " يعني أحيوا لنا آباءنا " إن كنتم صادقين " بأن نبعث " قل الله يحييكم " يخلقكم من النطفة " ثم يميتكم " عند انقضاء آجالكم
" ثم يجمعكم إلى يوم القيامة " يعني يوم القيامة يجمع أولكم وآخركم " لا ريب فيه " لا شك فيه عند المؤمنين
ويقال لا ينبغي أن يشك فيه " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " يعني أهل مكة لا يعلمون بالبعث بعد الموت
قوله عز وجل " ولله ملك السموات والأرض " يعني خزائن السموات والأرض
ويقال
له نفاذ الأمر في السموات والأرض " ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون " يعني يخسر المكذبون بالبعث وهم أهل الباطل والكذب
سورة الجاثية 28 - 31
ثم قال " وترى كل أمة جاثية " يعني مجتمعة للحساب على الركب " كل أمة تدعى إلى كتابها " يعني إلى ما في كتابها من خير أو شر وهذا كقوله " يوم ندعوا كل أناس بإمامهم "(3/267)
268
[ الإسراء 71 ] يعني بكتابهم " اليوم تجزون ما كنتم تعملون " يعني يقال لهم اليوم تثابون بما كنتم تعملون في الدنيا من خير أو شر
قوله تعالى " هذا كتابنا ينطق عليكم " يعني الذي كتب عليكم الحفظة " ينطق عليكم " " بالحق " يعني يشهد عليكم بالصدق
يعني أنتم تقرأونه فيذكركم فكأنه ينطق عليكم
ثم قال " إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " يعني نستنسخ عملكم من اللوح المحفوظ نسخة أعمالكم " ما كنتم تعملون " من الحسنات والسيئات
قال أبو الليث رحمه الله حدثنا الخليل بن أحمد
قال حدثنا الماسرجسي قال حدثنا إسحاق قال حدثنا بقية بن الوليد قال حدثني أرطأة بن المنذر عن مجاهد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أول ما خلق الله القلم فكتب ما يكون في الدنيا من عمل معمول برا وفاجرا وأحصاه في الذكر فاقرؤوا إن شئتم " إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " فهل يكون النسخ إلا من شيء قد فرغ منه )
وروى الضحاك عن ابن عباس قال أن الله تعالى وكل ملائكته يستنسخون عن ذلك الكتاب المكتوب عنده كل عام في شهر رمضان ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المقبلة فيعارضون به حفظه الله تعالى على عبادة كل عشية خميس فيجدون ما رفع الحفظة موافقا لما في كتابهم ذلك ليس فيه زيادة ولا نقصان
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ألستم قوما عربا هل يكون النسخ إلا من أصل كان قبل ذلك وقال القتبي " إنا كنا نستنسخ " قال إن الحفظة يكتبون جميع ما يكون من العبد ثم يقابلونه بما في أم الكتاب فما فيه من ثواب أو عقاب أثبت وما لم يكن فيه ثواب ولا عقاب محي فذلك قوله " يمحوا الله من يشاء ويثبت " [ الرعد 39 ] الآية
وقال الكلبي يرفعان ما كتبا فينسخان ما فيها من خير أو شر ويطرح ما سوى ذلك
ثم قال " فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين " وقد ذكرناه
قوله عز وجل " وأما الذين كفروا " يعني جحدوا الكتاب والرسل والتوحيد
يقال لهم " أفلم تكن آياتي تتلى عليكم " يعني تقرأ عليكم في الدنيا " فاستكبرتم " يعني تكبرتم عن الإيمان والقرآن " وكنتم قوما مجرمين " يعني مشركين كافرين بالرسل والكتب(3/268)
صفحة فارغة(3/269)
270
سورة الأحقاف
مكية وهي ثلاثون وخمس آيات
سورة الأحقاف 1 - 3
قوله تبارك وتعالى " حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " وقد ذكرناه
" ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما " من الشمس والقمر والنجوم والرياح والخلق " إلا بالحق " يعني إلا ببيان الحق لأمر عظيم هو كائن ولم يخلقهن عبثا " وأجل مسمى " يعني خلقهن لأجل أمر عظيم ينتهي إليه وهو يوم القيامة وهو الأجل المعلوم " والذين كفروا " يعني مشركي مكة " عما أنذروا معرضون " يعني عما خوفوا به تاركون فلا يؤمنون به ولا يتفكرون فيه
سورة الأحقاف 4 - 7
قوله عز وجل " قل أرأيتم ما تدعون من دون الله " يعني ما تعبدون من الأصنام
قال القتبي " ما " ههنا في موضع الجمع يعني الذين يدعون من الآلهة " أروني ماذا خلقوا من الأرض " يعني أخبروني ما الذي خلقوا من الأرض كالذي خلق الله تعالى إن كانوا آلهة ( أم لهم شرك في السموات ) يعني أم لهم نصيب ودعوة في السموات يعني في خلق السموات
ثم قال " ائتوني بكتاب من قبل هذا " يعني بحجة لعبادتكم الأصنام في كتاب الله ويقال ائتوني بحجة من الله ومن الأنبياء من قبل هذا القرآن الذي أتيتكم به فيه بيان ما تقولون " أو أثارة من علم " يعني رواية تروونها من الأنبياء والعلماء " إن كنتم صادقين " أن الله(3/270)
271
تعالى أمركم بعبادة الأوثان
قرأ الحسن وأبو عبد الرحمن السلمي " أو أثرة من علم "
قال القتبي هو اسم مبني على فعلة من ذلك والأول فعالة والأثرة التذكرة ومنه يقال فلان يأثر الحديث أي يخبره
وقال قتادة " أو أثارة " يعني خاصة من علم ويقال " أو أثارة من علم " يؤثر عن الأنبياء والعلماء " إن كنتم صادقين " فلما قال لهم ذلك سكتوا
قوله تعالى " ومن أضل ممن يدعو من دون الله " يعني من أشد كفرا ممن " يدعو من دون الله " يعني آلهة " من لا يستجيب له إلى يوم القيامة " يعني لا يجيبه وإن دعاه إلى يوم القيامة " وهم عن دعائهم غافلون " يعني عن عبادتهم
ثم بين إجابتهم وحالهم يوم القيامة فقال تعالى " وإذا حشر الناس " يعني إلى البعث " كانوا لهم أعداء " يعني صارت الآلهة أعداء لمن عبدهم " وكانوا بعبادتهم كافرين " يعني جاحدين ويتبرؤون منهم " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات " يعني تقرأ عليهم آياتنا واضحات فيها الحلال والحرام
ويقال " بينات " فيها دلائل واضحات " قال الذين كفروا للحق " يعني للقرآن " لما جاءهم هذا سحر مبين " أي حين جاءهم هذا سحر بين
سورة الأحقاف 8 - 10
قوله عز وجل " أم يقولون افتراه " يعني اختلقه من ذات نفسه " قل إن افتريته " يعني اختلقته من تلقاء نفسي يعذبني الله تعالى عليه
" فلا تملكون لي من الله شيئا " يعني لا تقدرون أن تمنعوا عذاب الله عني " هو أعلم بما تفيضون فيه " يعني تخوضون فيه من الكذب في القرآن " كفى به شهيدا " يعني كفى بالله عالما " بيني وبينكم " ويقال " تفيضون " أي تقولون ثم قال " وهو الغفور الرحيم " يعني " الغفور " لمن تاب " الرحيم " بهم
قوله تعالى " قل ما كنت بدعا من الرسل " يعني ما أنا أول رسول بعث " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " يعني يرحمني وإياكم أو يعذبني وإياكم
وقال الحسن في قوله " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " يعني في الدنيا
وقال الكلبي وذلك أنه رأى في المنام أنه أخرج إلى أرض ذات نخل وشجر فأخبر أصحابه فظنوا أنه وحي أوحي إليه فاستبشروا فمكثوا بذلك ما شاء فلم يروا شيئا مما قال لهم فقالوا يا رسول الله ما رأينا الذي قلت لنا فقال ( إنما كان رؤيا رأيتها ولم يأت وحي من السماء وما أدري أيكون ذلك أو لا يكون ) فنزل قوله " قل ما كنت بدعا من الرسل " يعني ما كنت أولهم وقد بعث قبلي رسل كثير(3/271)
272
( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) " إن أتبع إلا ما يوحى إلي " ويقال ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يرحمني وإياكم أو يعذبني وإياكم
فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إذا لا فرق بيننا وبينك كما نحن لا ندري ما يفعل بنا ولا تدري ما يفعل بك
وقد عير المشركون المسلمين فقالوا " إن تتبعون إلا رجلا مسحورا " [ الإسراء 47 ] لا يدري ما يفعل به فأنزل الله تبارك وتعالى " تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك " [ الفرقان 10 ] فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة نزل عليه " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " [ الفتح 20 ] وقد نسخت هذه الآية " إن تتبعون إلا رجلا مسحورا " [ الإسراء 47 ]
ثم قال تعالى " وما أنا إلا نذير مبين " يعني مخوفا مفقها لكم بلغة تعرفونها
قوله تعالى " قل أرأيتم إن كان من عند الله " يعني إن كان القرآن من عند الله تعالى " وكفرتم به " يعني جحدتم بالقرآن " وشهد شاهد من بني إسرائيل " قال مجاهد وعكرمة وقتادة هو عبد الله بن سلام
وروى عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( لا يشهد لأحد يمشي على الأرض أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام ) وفيه نزلت " وشهد شاهد من بني إسرائيل " " على مثله " ويقال " وشهد شاهد " يعني ابن بنيامين مثل شهادة عبد الله بن سلام وكان ابن أخ عبد الله بن سلام يشهد على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
وروى وكيع عن ابن عون قال ذكر عند الشعبي " وشهد شاهد من بني إسرائيل " أنه عبد الله بن سلام
فقال الشعبي وكيف يكون عبد الله بن سلام هو الشاهد وهذه السورة مكية وكان ابن سلام بالمدينة قال ابن عون صدق الشعبي إن تلك السورة نزلت بمكة ولكن هذه الآية نزلت بالمدينة فوضعت في هذه السورة
وروى داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق قال والله ما هو عبد الله بن سلام ولقد أنزلت بمكة فخاصم به النبي صلى الله عليه وسلم الذين كفروا من أهل مكة أن التوراة مثل القرآن وموسى مثل محمد صلى الله عليه وسلم وكل مؤمن بالتوراة فهو شاهد من بني إسرائيل
ثم قال " فآمن واستكبرتم " يعني تكبرتم وتعاظمتم عن الإيمان " إن الله لا يهدي القوم الظالمين " يعني الكافرين
سورة الأحقاف 11 - 14
قوله عز وجل " وقال الذين كفروا للذين آمنوا " يعني قال رؤساء المشركين لضعفاء(3/272)
273
المسلمين " لو كان خيرا " يعني لو كان هذا الدين حقا " ما سبقونا إليه " وقال قتادة قال أناس من المشركين نحن أعز ونحن أغنى ونحن أكرم فلو كان خيرا لما سبقنا إليه فلان وفلان
قال الله تعالى " يختص برحمته من يشاء " [ البقرة 105 وآل عمران 74 ] يعني يختار لدينه من كان أهلا لذلك " وإذ لم يهتدوا به " يعني لم يؤمنوا بهذا
أي بالقرآن كما اهتدى به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " فسيقولون هذا إفك قديم " يعني القرآن كذب قديم أي من محمد صلى الله عليه وسلم
قوله تعالى " ومن قبله كتاب موسى " يعني قد أنزل قبل هذا القرآن الكتاب على موسى يعني التوراة " إماما " يقتدى به " ورحمة " من العذاب لمن آمن به " وهذا كتاب مصدق " يعني وأنزل إليك هذا الكتاب مصدق للكتب التي قبله " لسانا عربيا " بلغتكم لتفهموا ما فيه " لينذر الذين ظلموا " يعني مشركي مكة
وقرا نافع وابن عامر " لتنذر " بالتاء على معنى المخاطبة يعني لتنذر أنت يا محمد صلى الله عليه وسلم
والباقون بالياء على معنى الأخبار عنه يعني ليخوف محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن " وبشرى للمحسنين " يعني بشارة بالجنة للموحدين ويقال معناه هو " بشرى للحسنين " يعني بشارة للموحدين بالجنة
ثم قال تعالى " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون " وقد ذكرناه
سورة الأحقاف 15 - 16
ثم قال الله تعالى " ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا " يعني أمرنا الإنسان بالإحسان إلى والديه
قال مقاتل والكلبي نزلت الآية في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ويقال هذا أمر عام لجميع الناس
قرأ حمزة والكسائي وعاصم " إحسانا " بالألف ومعناه أمرناه بأن يحسن إليهما إحسانا
والباقون " حسنا " بغير ألف فجعلوه اسما وأقاموه مقام الإحسان
ثم ذكر حق الوالدين فقال " حملته أمه كرها ووضعته كرها " يعني في مشقة " وحمله وفصاله " يعني حمله في بطن أمه وصاله ورضاعه " ثلاثون شهرا " وروى وكيع بإسناده عن علي رضي الله عنه قال إن رجلا قال له إني تزوجت جارية سليمة بكرا لم أر منها ريبة وإنها ولدت لستة أشهر
فقرأ علي " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " [ البقرة 233 ] وقرأ " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " فالحمل ستة أشهر والرضاع سنتين والولد ولدك
وقال وكيع هذا أصل إذا جاءت بولد دون ستة أشهر لم يلزمه فيفرق بينهما(3/273)
274
ثم قال " حتى إذا بلغ أشده " يعني بلغ ثلاثون وثلاثا وثلاثين " وبلغ أربعين سنة " صدق بالنبي صلى الله عليه وسلم يعني أبا بكر " قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك " يعني ألهمني ما أؤدي به شكر نعمتك وما أوزعت به نفسي أن أكفها عن كفران نعمتك وأصله من وزعته أي دفعته " قال رب أوزعني أن أشكر " يعني أن أؤدي به شكر نعمتك " التي أنعمت علي وعلى والدي " بالإسلام " وأن أعمل صالحا ترضاه " يعني تقبله " وأصلح لي في ذريتي " يعني أكرمهم بالتوحيد
ويقال اجعلهم أولادا صالحين مسلمين فأسلموا كلهم
ثم قال " إني تبت إليك " يعني أقبلت إليك بالتوبة " وإني من المسلمين " يعني المخلصين الموحدين على دينهم
قوله تعالى " أولئك " يعني أهل هذه الصفة
يعني أبا بكر ووالديه وذريته ومن كان في مثل حالهم " والذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا " يعني ستجزيهم بإحسانهم
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص
" نتقبل " بالنون " ونتجاوز " بالنون والباقون بالياء والضم
فمن قرأ بالنون فهو على معنى الإضافة إلى نفسه يعني نتقبل نحن والنصب أحسن لوقوع الفعل عليه
ومن قرأ بالياء والضم فهو على معنى فعل ما لم يسم فاعله ولهذا رفع قوله ( أحسن ) لأنه مفعول ما لم يسم فاعله
ثم قال " ونتجاوز عن سيئاتهم " يعني ما فعلوا قبل التوبة فلا يعاقبون عليها " في أصحاب الجنة " يعني هم مع أصحاب الجنة
وروى أبو معاوية عن عاصم الأحول عن الحسن قال " من يعمل سوءا يجز به " إنما ذلك لمن أراد الله هوانه وأما من أراد الله كرامته فإنه يتجاوز عن سيئاته في أصحاب الجنة
ثم قال " وعد الصدق " يعني وعد الصدق في الجنة
قوله " الذي كانوا يوعدون "
سورة الأحقاف 17 - 20
قوله عز وجل " والذي قال لوالديه أف لكما " يعني عبد الرحمن بن أبي بكر قال لوالديه أف لكما يعني قذرا لكما وهو الرديء من الكلام وقد ذكرنا الاختلاف في موضع آخر وقد قرئ على سبع قراءات بالكسر والنصب والضم وكل قراءة تكون بالتنوين وبغير تنوين فتلك ست قراءات والسابع " أف " بالسكون " أتعدانني أن أخرج " يعني أن أبعث بعد(3/274)
275
الموت وذلك قبل أن يسلم " وقد خلت القرون من قبلي " أي مضت الأمم ولم يبعث أحدهم " ومما يستغيثان الله " يعني أبويه يدعوان الله تعالى له بالهدى اللهم اهده وارزقه الإيمان ويقولان له " ويلك آمن إن وعد الله حق " يعني ويحك أسلم وصدق بالبعث فإن البعث كائن " فيقول " لهما " ما هذا إلا أساطير الأولين " يعني كذبهم فقال عبد الرحمن إن كنتما صادقين فأخرجا فلانا وفلانا من قبورهما فنزل " أولئك " يعني القرون التي ذكر " الذين حق عليهم القول " أي وجب عليهم العذاب
" في أمم قد خلت من قبلهم " يعني في أمم قد مضت من قبلهم من كفار " الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين " في الآخرة بالعقوبة فأسلم عبد الرحمن وحسن إسلامه وذكر في الخبر أن مروان بن الحكم قال نزلت هذه الآية في شأن عبد الرحمن فبلغ ذلك عائشة فقالت بل نزلت في أبيك وأخيك
قوله عز وجل " ولكل درجات مما عملوا " يعني فضائل في الثواب والعقاب مما عملوا " وليوفيهم أعمالهم " يعني أجورهم " وهم لا يظلمون " يعني لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئا ولا يزادون على سيئات أعمالهم
قوله تعالى " ويوم يعرض الذين كفروا على النار " يعني يكشف الغطاء عنها فينظرون إليها فيقال لهم " أذهبتم طيباتكم " يعني أكلتم حسناتكم " في حياتكم الدنيا " وقرأ ابن عامر " أأذهبتم " بهمزتين وقرأ ابن كثير " أذهبتم " بالمد ومعناهما واحد ويكون استفهاما على وجه التوبيخ
والباقون " أذهبتم " بهمزة واحدة بغير مد على معنى الخبر " واستمتعتم بها " يعني انتفعتم بها في الدنيا
وروي عن عمر أنه اشتهى شرابا فأتي بقدح فيه عسل فأدار القدح في يده فقال أشربها فتذهب حلاوتها أو تبقى نقمتها
ثم ناول القدح رجلا فسئل عن ذلك فقال خشيت أن أكون من أهل هذه الآية " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا "
وروي عن عمر أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير وقد أثر بجنبه الشريط فبكى عمر فقال ( ما يبكيك يا عمر ) فقال ذكرت كسرى وقيصر وما كانا فيه من الدنيا وأنت رسول رب العالمين قد أثر بجنبيك الشريط
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ونحن قوم أخرت لنا طيباتنا في الآخرة )
ثم قال " فاليوم تجزون عذاب الهون " يعني العذاب الشديد " بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق " يعني تستكبرون عن الإيمان " وبما كنتم تفسقون " يعني تعصون الله تعالى
سورة الأحقاف 21(3/275)
276
سورة الأحقاف 22 - 25
قوله تعالى " واذكر أخا عاد " يعني واذكر لأهل مكة ويقال معناه واصبر على ما يقولون
واذكر هودا " إذا أنذر قومه بالأحقاف " يعني خوف قومه بموضع يقال له أحقاف
روى منصور عن مجاهد قال الأحقاف الأرض ويقال جبل بالشام يسمى الأحقاف
وقال القتبي الأحقاف جمع حقف وهو من الرمل ما أشرف من كثبانه واستطال وانحنى " وقد خلت النذر من بين يديه " يعني مضت من قبل هود " ومن خلفه " يعني ومن بعده
" ألا تعبدوا إلا الله " يعني خوفهم ألا تعبدوا إلا الله ووحدوه " إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " يعني أعلم أنكم إن لم تؤمنوا يصبكم عذاب يوم كبير
وقال " قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا " يعني لتصرفنا عن عبادة آلهتنا " فأتنا بما تعدنا " من العذاب " إن كنت من الصادقين " أن العذاب نازل بنا " قال " هود " إنما العلم عند الله " يعني علم العذاب عند الله يجيء بأمر الله وإنما علي تبليغ الرسالة وليس بيدي إتيان العذاب
فذلك قوله " وأبلغكم ما أرسلت به " يعني ما يوحي الله إلي لأدعوكم إلى التوحيد " ولكني أراكم قوما تجهلون " لما قيل لكم ولما يراد بكم من العذاب
" فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم " يعني لما رأوا العذاب مقبلا وكانت السحابة إذا جاءت من قبل ذلك الوادي أمطروا
وقال القتبي العارض السحاب " قالوا هذا عارض ممطرنا " يعني هذه سحابة وغيم ممطرنا
أي تمطر به حروثنا لأن المطر كان حبس عنهم
فقال هود ليس هذا عارض " بل هو ما استعجلتم به " يعني الريح والعذاب " ريح فيها عذاب أليم " أي ملتف
وروى عطاء عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى رياحا مختلفة تلون وجهه وتغير وخرج ودخل وأقبل وأدبر فذكرت ذلك له فقال ( وما يدريك لعله كما قال الله " فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم " فإذا أمطرت سري عنه ويقول " وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته " [ الأعراف 57 ]
قوله عز وجل " تدمر كل شيء بأمر ربها " يعني تهلك الريح كل شيء بأمر ربها " فأصبحوا " يعني فصاروا من العذاب بحال " لا يرى مساكنهم " وقد ذكرناه في سورة(3/276)
277
الأعراف
قرأ حمزة وعاصم " لا يرى " بضم الياء " مساكنهم " بضم النون على معنى فعل ما لم يسم فاعله يعني لا يرى شيء وقد هلكوا كلهم
وقرأ الباقون " لا ترى " بالتاء والنصب على معنى المخاطبة ومعناه لا ترى شيئا أيها المخاطب لو كنت حاضرا ما رأيت إلا مساكنهم
" كذلك نجزي القوم المجرمين " يعني هكذا نعاقب القوم المشركين عند التكذيب
سورة الأحقاف 26 - 28
ثم قال " ولقد مكناهم " يعني أعطيناهم الملك والتمكين " فيما إن مكناكم فيه " يعني ما لم نمكن لكم ولم نعطكم يا أهل مكة
وقال القتبي إن الخفيفة قد تزاد في الكلام كقول الشاعر ما إن رأيت ولا سمعت به يعني ما رأيت ولا سمعت يعني " ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه " قال الزجاج إن ههنا مكان ما يعني فيما مكناكم فيه
ويقال معناه ولقد مكناهم في الذي مكناكم فيه
وقال " وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة " يعني جعلنا لهم سمعا ليسمعوا المواعظ وأبصارا لينظروا في الدلائل وأفئدة ليتفكروا في خلق الله تعالى
" فما أغنى عنهم " يعني لم ينفعهم من العذاب " سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء " إذ لم يسمعوا الهدى ولم ينظروا في الدلائل ولم يتفكروا في خلقه " إذ كانوا يجحدون بآيات الله " يعني بدلائله " وحاق بهم " يعني نزل بهم من العذاب " ما كانوا به يستهزئون " يعني العذاب الذي كانوا يجحدون به ويستهزئون
قوله عز وجل " ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى " يعني أهلكنا قبلكم يا أهل مكة بالعذاب ما حولكم من القرى " وصرفنا الآيات " يعني بينا لهم الدلائل والحجج والعلامات " لعلهم يرجعون " عن كفرهم قبل أن يهلكوا
قوله تعالى " فلولا نصرهم الذين " يعني فهلا نصرهم الذين
يعني كيف لم يمنعهم من العذاب " الذين اتخذوا من دون الله قربانا " يعني عبدوا من دون الله ما يتقربون بها إلى الله تعالى " آلهة " يعني أصناما كما قال في آية أخرى " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " [ الزمر 3 ] " بل ضلوا عنهم " يعني الآلهة لم تنفعهم شيئا ويقال اشتغلوا بأنفسهم ويقال بطلت عنهم
" وذلك إفكهم " يعني كذبهم " وما كانوا يفترون " يعني يختلفون
وذكر أبو(3/277)
278
عبيدة بإسناده عن عبد الله بن عباس أنه قرأ " أفكهم " بنصب الألف والفاء والكاف يعني ذلك الفعل أضلهم وأهلكهم وصرفهم عن الحق وقراءة العامة بضده " وذلك إفكهم " يعني ذلك الفعل وهو عبادتهم وقولهم وكذبهم
ويقال " وذلك إفكهم " اليوم كما كان إفك من كان قبلهم
سورة الأحقاف 29 - 32
قوله تعالى " وإذا صرفنا إليك نفرا من الجن " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث خرت الأصنام على وجوهها في تلك الليلة فصاح إبليس صيحة فاجتمعت عليه جنوده فقال لهم قد عرض أمر عظيم امضوا فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها يعني امشوا وانظروا ماذا حدث من الأمر
وروى ابن عباس أنه لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم حيل بين الشياطين وبين السماء وأرسل عليهم الشهب فجاؤوا إلى إبليس فأخبروه بذلك قال هذا الأمر حادث اضربوا مشارق الأرض ومغاربها فجاء نفر منهم فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي تحت نخلة في سوق عكاظ ومعه ابن مسعود وأصحابه وكان يقرأ سورة طه في الصلاة
وروى وكيع عن سفيان عن عاصم عن رجل عن زر بن حبيش في قوله تعالى " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن " قال كانوا تسعة أحدهم زوبعة أتوه ببطن نخلة " يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا " وروى عكرمة عن الزبير قال " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء الأخيرة فلما حضروا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا " أنصتوا " يعني لما حضروا النبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم لبعض أنصتوا للقرآن واستمعوا " فلما قضي " يعني فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من القراءة والصلاة " ولوا " يعني رجعوا " إلى قومهم منذرين " قال مقاتل يعني مؤمنين
وقال الكلبي يعني مخوفين
وقال مجاهد ليس في الجن رسل وإنما الرسل في الإنس والنذارة في الجن
ثم قرأ " فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين " يعني أنذروا قومهم من الجن
قوله تعالى " قالوا يا قومنا إنا سمعنا " من محمد صلى الله عليه وسلم " كتابا " يعني قراءة القرآن " أنزل(3/278)
279
من بعد موسى ) يعني أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم " مصدقا لما بين يديه " يعني موافقا لما قبله من الكتب " يهدي إلى الحق " يعني يدعو إلى توحيد الله تعالى من الشرك كما هو في سائر الكتب " وإلى طريق مستقيم " لا عوج فيه يعني دين الله تعالى وهو الإسلام
" يا قومنا أجيبوا داعي الله " يعني النبي صلى الله عليه وسلم " وآمنوا به " يعني صدقوا به وبكتابه " يغفر لكم من ذنوبكم " و " من " صلة في الكلام يعني يغفر لكم ذنوبكم إن آمنتم وصدقتم
" ويجزكم من عذاب أليم " يعني يؤمنكم من عذاب النار " ومن لا يجب داعي الله " يعني من لم يجب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدعو إليه من الإيمان " فليس بمعجز في الأرض " يعني لا يستطيع أن يهرب في الأرض من عذاب الله تعالى
ويقال معناه فلن يجد الله عاجزا عن طلبه " وليس له من دونه أولياء " يعني ليس له أنصار يمنعونه مما نزل به من العذاب " أولئك في ضلال مبين " يعني في خطأ بين
وذكر في الخبر أنهم لما أنذروهم وخوفوهم جاء جماعة منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فلقيهم بالبطحاء فقرأ عليهم القرآن فأمرهم ونهاهم وكان معه عبد الله بن مسعود وخط له النبي صلى الله عليه وسلم خطا وقال له ( لا تخرج من هذا الخط فإنك إن خرجت لن تراني إلى يوم القيامة ) فلما رجع إليه قال يا نبي الله سمعت هدتين أي صوتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أما إحداهما فإني سلمت عليهم فردوا علي السلام وأما الثانية فإنهم سألوا الرزق فأعطيتهم عظما رزقا لهم وأعطيتهم روثا رزقا لدوابهم "
سورة الأحقاف 33 - 35
ثم قال تعالى " أو لم يروا " يعني أو لم يعتبروا ولم يتفكروا
ويقال أو لم يخبروا " أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر " على أن يحيى الموتى لأنهم كانوا مقرين بأن الله تعالى هو الذي خلق السموات والأرض وكانوا منكرين للبعث بعد مماتهم فأخبرهم الله تعالى بأن الذي كان قادرا على خلق السموات والأرض قادر على إحيائهم بعد الموت ويقال " ولم يعي بخلقهن " يعني لم يعييه خلق السماوات والأرض
ثم قال " بلى " يعني هو قادر على البعث " إنه على كل شيء قدير " من الإحياء والبعث
قوله تعالى " ويوم يعرض الذين كفروا على النار " يعني يكشف الغطاء عنها ويقال(3/279)
280
يساق الذين كفروا إلى النار ويقال لهم " أليس هذا بالحق " يعني أليس هذا العذاب الذي ترون حقا وكنتم تكذبون به " قالوا بلى " يعني إنه الحق " وربنا " يعني والله إنه الحق فيقرون حين لا ينفعهم إقرارهم فيقال لهم " قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " يعني تجحدون " فاصبر " يا محمد صلى الله عليه وسلم يعني اصبر على أذى أهل مكة وتكذيبهم
" كما صبر أولو العزم من الرسل " يعني أولو الحزم
وهو أن يصبر في الأمور ويثبت عليها وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يدعو عليهم فأمره الله تعالى بالصبر كما صبر نوح وكما صبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وغيرهم من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين
وقال السدي " أولو العزم " الذين أمروا بالقتال من الرسل
وقال أبو العالية " أولو العزم من الرسل " كانوا ثلاثة والنبي صلى الله عليه وسلم رابعهم إبراهيم وهود ونوح فأمره الله تعالى أن يصبر كما صبروا
وقال مقاتل " أولو العزم من الرسل " اثني عشر نبيا في بيت المقدس فأوحى الله إليهم ثلاث مرات أن اخرجوا من بين أقوامكم فلم يخرجوا
فقال الله تعالى يمضي العذاب عليكم مع قومكم فتشاوروا فاختاروا هلاك أنفسهم بينهم " ولا تستعجل لهم " يعني لا تستعجل لهم بالعذاب " كأنهم يوم يرون ما يوعدون " يعني العذاب قد أتاهم من قريب في الآخرة فلقربه كأنهم يرونه في الحال
ويقال في الآية تقديم ومعناه كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة يعني إذا أتاهم ذلك اليوم يرون أنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا القليل
فذلك قوله " لم يلبثوا إلا ساعة من نهار " يعني من نهار الدنيا
ويقال يعني في القبور
وقال أبو العالية معناه كأنهم يرون حين يظنون أنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار
ثم قال " بلاغ " يعني ذلك بلاغ يعني وبلغه وأجل فإذا بلغوا أجلهم ذلك " فهل يهلك إلا القوم الفاسقون " يعني هل يهلك في العذاب إذا جاء العذاب إلا القوم العاصون
ويقال معناه لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون
ويقال " بلاغ " يعني هذا الذي ذكر بلاغ أي تمام العظة
ويقال هو من الإبلاغ أي هذا إرسال وبيان لهم كقوله " هذا بلاغ للناس " قرأ ابن عامر " أذهبتم طيباتكم " بهمزتين وقرأ ابن كثير " أذهبتم " بالمد ومعناها واحد ويكون استفهاما على وجه التوبيخ
وقرأ الباقون " أذهبتم " بهمزة واحدة من غير مد صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم(3/280)
281
سورة محمد
مكية وهي ثلاثون وثمان آيات
سورة محمد 1 - 3
قوله تبارك تعالى " الذين كفروا " يعني جحدوا بتوحيد الله تعالى وبالقرآن " وصدوا عن سبيل الله " يعني صرفوا الناس عن دين الله ويقال صرفوا الناس عن طاعة الله وهو الجهاد " أضل أعمالهم " يعني أبطل الله حسناتهم التي عملوا في الدنيا لأنهم عملوا بغير إيمان وكل عمل يكون بغير إيمان فهو باطل كما قال في آية أخرى " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الأخرة من الخاسرين " [ آل عمران 85 ] الآية
قال الكلبي نزلت في مطعمي بدر وهم رؤساء مكة الذين كانوا يطعمون الناس في حال خروجهم إلى بدر منهم أبو جهل والحارث بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبي وأمية ابنا خلف ومنبه ونبيه ابنا الحجاج وغيرهم
ويقال هذا في عامة الكفار
وهذا كقوله " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة " [ النور 39 ] الآية
وروى مجاهد عن ابن عباس قال " الذين كفروا " هم أهل مكة " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " هم الأنصار " الذين آمنوا " يعني صدقوا بالله تعالى وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن " وعملوا الصالحات " يعني أدوا الفرائض والسنن وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان في مثل حالهم " وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم " يعني صدقوا بما أنزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو الحق وليس فيه باطل ولا تناقض " كفر عنهم سيئاتهم " يعني محا عنهم ذنوبهم التي عملوا في الشرك بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وطاعتهم لله تعالى فيما يأمرهم به من الجهاد " وأصلح بالهم " يعني حالهم
وهذا قول قتادة وقال مقاتل يعني بين أمورهم في الإسلام وعملهم وحالهم حتى يدخلوا الجنة
وروى مجاهد " وأصلح بالهم " يعني شأنهم وقال القتبي " كفر عنهم سيئاتهم " أي سترها " وأصلح بالهم " أي حالهم
ويقال " أصلح بالهم " يعني أظهر الله تعالى أمرهم في الإسلام حتى يقتدى بهم
ثم بين المعنى الذي أحبط أعمال الكافرين وأصلح شأن المؤمنين فقال " ذلك بأن الذين(3/281)
282
كفروا ) يعني ذلك الإبطال بأن الذين كفروا " اتبعوا الباطل " يعني اختاروا الشرك وثبتوا عليه ولم يرغبوا في الإسلام
ويقال معناه لأنهم اختاروا الباطل على الحق واتباع الهوى على اتباع رضى الله سبحانه وتعالى " وأن الذين آمنوا " وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم " اتبعوا الحق من ربهم " يعني اتبعوا القرآن وعملوا به
ويقال معناه اختاروا الإيمان على الكفر واتباع القرآن واتباع رضى الله تعالى على اتباع الهوى
قوله " كذلك يضرب الله للناس أمثالهم " يعني هكذا يبين الله صفة أعمالهم
سورة محمد 4 - 6
ثم حرض المؤمنين على القتال فقال " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب " يعني اضربوا الرقاب صار نصبا بالأمر ومعناه اضربوا الأعناق ضربا
وروى وكيع عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله وإنما بعثت بضرب الرقاب وشد الوثاق ) " حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق " يعني حتى إذا قهرتموهم وأسرتموهم فشدوا الوثاق يعني فاستوثقوا أيديهم من خلفهم
ويقال الإثخان أن يعطوا أيديهم ويستسلموا
وقال الزجاج " حتى أثخنتموهم " يعني أكثرتم فيهم القتل والأسر بعد المبالغة في القتل
وقال مقاتل " حتى إذا أثخنتموهم " بالسيف فظفرتم عليهم " فشدوا الوثاق " يعني الأسر
" فإما منا بعد " يعني عتقا بعد الأسر بغير فداء " وإما فداء " يعني يفادي نفسه بماله
وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال الإمام بالخيار في الأسرى إن شاء فادى وإن شاء قتل وإن شاء استرق
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لا أفادي وإن طلبوا بمدين من ذهب وذكر عنه أيضا أنه كتب إليه في أسير التمسوا منه الفداء فقال اقتلوه لأن أقتل رجلا من المشركين أحي إلي من كذا وكذا
قال أبو الليث رحمه الله وقد كره بعض الناس قتل الأسير واحتج بظاهر هذه الآية " فإما منا بعد وإما فداء " وقال أصحابنا لا بأس بقتله بالخبر الذي روي عن أبي بكر رضي الله عنه
وروي عن ابن جريج وغيره من أهل التفسير أن هذه الآية منسوخة بقوله " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " [ التوبة 5 ] وقد قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ابن خطل بعدما وقع في منعة المسلمين فهو كالأسير
وأما الفداء فإن فادوا بأسير من المسلمين فلا بأس به كما قال إبراهيم النخعي إن شاء فادى بالأسير وإن أراد أن يفتدى بمال لا يجوز إلا عند الضرورة(3/282)
283
لأن في رد الأسير إلى دار الحرب قوة لهم في الحرب
فيكره ذلك كما يكره أن يحمل إليهم السلاح للبيع
ثم قال " حتى تضع الحرب أوزارها " روي عن ابن عباس أنه قال حتى بترك الكفار إشرارها ويوحدوا الرب تبارك وتعالى حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم يعني في ذمة المسلمين يعني الذين يعطون الجزية
وعن سعيد بن جبير قال " حتى تضع الحرب أوزارها " قال خروج عيسى عليه السلام يكسر الصليب فيلقى الذئب الغنم فلا يأخذها ولا تكون عداوة بين اثنين وهكذا قال مجاهد
وقال مقاتل " حتى تضع الحرب أوزارها " يعني في مكان يقاتل سماهم حربا
يعني الشرك وتوحدوا الرب وقال القتبي " حتى تضع الحرب " يعني حتى يضع أهل الحرب السلاح وقال قتادة " حتى تضع الحرب أوزارها " يعني في كل مكان تقاتل سماهم حربا
ثم قال عز وجل " ذلك " يعني افعلوا ذلك ثم استأنف فقال " ولو يشاء الله لانتصر منهم " بغير قتال يعني يهلكهم " ولكن ليبلو بعضكم ببعض " يعني لم يهلكهم لكي يختبرهم بالقتال حتى يتبين فضلهم ويستوجبوا الثواب
ثم قال " والذين قتلوا في سبيل الله " يعني جاهدوا عدوهم في طاعة الله تعالى " فلن يضل أعمالهم " يعني لن يبطل ثواب أعمالهم
قرأ أبو عمرو ( والذين قتلوا ) بضم القاف بغير ألف وهكذا روي عن عاصم في إحدى الروايتين يعني الذين قتلوا يوم أحد ويوم بدر وفي سائر الحروب
وقرأ الباقون " والذين قاتلوا في سبيل الله " بالنصب يعني جاهدوا الكفار وحاربوهم
ثم قال " سيهديهم " يعني يجنبهم من أهوال الآخرة ويقال " سيهديهم " يعني يثبتهم على الهدى " ويصلح بالهم " وقد ذكرناه
" ويدخلهم الجنة " في الآخرة " عرفها لهم " يعني هداهم الله تعالى إلى منازلهم
وروى أبو المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إذا أذن لأهل الجنة في دخولها لأحدهم أهدى أي أعرف بمنزله في الجنة من بمنزله الذي كان في الدنيا ) وعن ابن مسعود أنه قال ما أشبههم إلا أهل الجمعة حين انصرفوا من جمعتهم
يعني إن كل واحد منهم يهتدي إلى منزله
وقال الزجاج في قوله " سيهديهم ويصلح بالهم " أي يصلح لهم أمر معايشهم في الدنيا مع ما يجازيهم في الآخرة
وهذا كما قال تعالى " استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا " [ نوح 10 ، 11 ] الآية
ويقال " عرفها لهم " أي طيبها لهم
يقال طعام معرف أي مطيب(3/283)
284
سورة محمد 7 - 12
ثم حث المؤمنين على الجهاد فقال " يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم " يعني إن تنصروا دين الله بقتال الكفار " ينصركم " بالغلبة على أعدائكم " ويثبت أقدامكم " فلا تزول في الحرب
ثم قال تعالى " والذين كفروا تعسا لهم " يعني بعدا ونكسا وخيبة لهم
وهو من قولك تعست أي عثرت وسقطت " وأضل أعمالهم " يعني أبطل ثواب حسناتهم فلم يقبلها منهم
ثم بين المعنى الذي أبطل به حسناتهم فقال " ذلك " يعني ذلك الإبطال " بأنهم كرهوا ما أنزل الله " يعني أنكروا وكرهوا الإيمان بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم
" فأحبط أعمالهم " يعني ثواب أعمالهم
ثم خوفهم ليعتبروا فقال عز وجل " أفلم يسيروا في الأرض " يعني أفلم يسافروا في الأرض " فينظروا " يعني فيعتبروا " كيف كان عاقبة الذين من قبلهم " يعني كيف كان آخر أمرهم
" دمر الله عليهم " يعني أهلكهم الله تعالى بالعذاب " وللكافرين أمثالها " يعني للكافرين من هذه الأمة أمثالها من العذاب وهذا وعيد لكفار قريش
ثم قال " ذلك " يعني النصرة التي ذكر في قوله " إن تنصروا الله ينصركم " [ محمد 7 ] " بأن الله مولى الذين آمنوا " يعني إن الله تبارك وتعالى ناصر أوليائه بالغلبة على عدوهم " وأن الكافرين لا مولى لهم " يعني لا ناصر لهم ولا ولي لهم لا تنصرهم آلهتهم ولا تمنعهم مما نزل بهم من العذاب
ثم ذكر مستقر المؤمنين ومستقر الكافرين فقال " إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار " وقد ذكرناه " والذين كفروا يتمتعون " يعني يعيشون بما أعطوا في الدنيا " ويأكلون كما تأكل الأنعام " ليس لهم هم إلا الأكل والشرب والجماع " والنار مثوى لهم " أي منزلا ومستقرا لهم
سورة محمد 13 - 14(3/284)
285
سورة محمد 15
قوله تعالى " وكأين من قرية " يعني وكم من قرية فيما مضى يعني أهل قرية " هي أشد قوة " يعني أشد منعة وأكثر عددا وأكثر أموالا " من قريتك التي أخرجتك " يعني أهل مكة الذين أخرجوك من مكة إلى المدينة " أهلكناهم " يعني عذبناهم عند التكذيب " فلان ناصر لهم " يعني لم يكن لهم مانع مما نزل بهم من العذاب وهذا تخويف لأهل مكة
قوله تعالى " أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله " قال مقاتل والكلبي يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وأبا جهل بن هشام
يعني لا يكون حال من كان على بيان من الله تعالى كمن زين له قبح عمله
" واتبعوا أهواءهم " بعبادة الأوثان
ويقال هذا في جميع المسلمين وجميع الكافرين
لا يكون حال الكفار مثل حال المؤمنين في الثواب
قوله تعالى " مثل الجنة " يعني صفة الجنة " التي وعد المتقون " الذين يتقون الشرك والفواحش " فيها أنهار من ماء غير آسن " قرأ ابن كثير " من ماء غير أسن " بغير مد
والباقون بالمد ومعناهما واحد يعني ماء غير منتن ولا متغير الطعم والريح
" وأنهار من لبن لم يتغير طعمه " إلى الحموضة كما يتغير لبن أهل الدنيا عن الحالة الأولى
" وأنهار من خمر لذة للشاربين " يعني لذيذة
ويقال " لا يصدعون عنها ولا ينزفون " [ الواقعة 19 ] " وأنهار من عسل مصفى " ليس فيها العكر ولا الكدورة ولا الدردى كعسل أهل الدنيا
قال مقاتل هذه الأنهار الأربعة تتفجر من الكوثر إلى أهل الجنة
ويقال من تحت شجرة طوبى إلى أهل الجنة
" ولهم فيها من كل الثمرات " يعني من ألوان الثمرات " ومغفرة من ربهم " لذنوبهم في الآخرة
ويقال في الدنيا
" كمن هو خالد في النار " يعني هل يكون حال من هو في هذه النعم كمن هو في النار أبدا
" وسقوا ماء حميما " يعني حارا قد انتهى حره " فقطع أمعاءهم " من شدة الحر فذابت أمعاؤهم كقوله تعالى " يصر به ما في بطونهم والجلود " [ الحج 20 ]
سورة محمد 16 - 18
ثم قال " ومنهم " يعني من المنافقين " من يستمع إليك " " حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة وعاب في(3/285)
286
خطبته المنافقين فلما خرجوا من عنده قال بعض المنافقين لعبد الله بن مسعود وهو الذي أوتي العلم
ماذا قال آنفا يعني الساعة على جهة الاستهزاء
قال الله تعالى " أولئك الذين طبع الله على قلوبهم " مجازاة لهم " واتبعوا أهواءهم " يعني عملوا بهوى أنفسهم
ثم ذكر المؤمنين المصدقين فقال عز وجل " والذين اهتدوا زادهم هدى " يعني آمنوا بالله تعالى وأحسنوا الاستماع إلى ما قال صلى الله عليه وسلم " زادهم هدى " يعني بصيرة في دينهم وتصديقا لنبيهم
ويقال زادهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هدى
ويقال زادهم قول المنافقين واستهزاؤهم
" هدى " يعني تصديقا وثباتا على الإسلام وشكر الله تعالى " وآتاهم تقواهم " حين بين لهم التقوى
ويقال ألهمهم قبول الناسخ وترك المنسوخ
قوله تعالى " فهل ينظرون إلا الساعة " أي قيام الساعة
يعني فما ينتظر قومك إن لم يؤمنوا إلا الساعة يعني قيام الساعة " أن تأتيهم بغتة " يعني فجأة " فقد جاء أشراطها " يعني علاماتها وهو انشقاق القمر والدخان وخروج النبي صلى الله عليه وسلم
وروى مكحول عن حذيفة قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى الساعة فقال ( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ولكن لها أشراط تقارب الأسواق يعني كسادها ومطر ولا نبات يعني مطر في غير حينه وتفشوا الفتنة وتظهر أولاد البغية ويعظم رب المال وتعلوا أصوات الفسقة في المساجد ويظهر أهل المنكر على أهل الحق )
ثم قال " فأنى لهم إذ جاءتهم ذكراهم " يعني من أين لهم التوبة إذا جاءتهم الساعة
وقال قتادة فأنى لهم أن يتذكروا أو يتذاكروا إذا جائتهم الساعة
وقال مقاتل فيه تقديم يعني أنى لهم التذكرة والتوبة عند الساعة إذا جاءتهم وقد فرطوا فيها
سورة محمد 19 - 20
قوله عز وجل " فاعلم أنه لا إله إلا الله " قال الزجاج هذه الفاء جواب الجزاء ومعناه قد بينا ما يدل على توحيد الله فاعلم أنه لا إله إلا الله والنبي صلى الله عليه وسلم قد علم أن الله تعالى واحد وإنما خاطبه والمراد به أمته
ويقال هذا الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ومعناه
فأثبت عن إظهار قول(3/286)
287
لا إله إلا الله
يعني ادع الناس إلى ذلك
ويقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( ليتني أعلم أي الكلام أفضل وأي الدعاء أفضل )
فأعلمه الله أن أفضل الكلام التوحيد وأفضل الدعاء الاستغفار )
ثم قال " واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات " روى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إني لأستغفر الله وأتوب إليه في كل يوم سبعين مرة أو أكثر )
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إني أستغفر الله تعالى وأتوب إليه في كل يوم مائة مرة "
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن جريج قال قلت لعطاء استغفر للمؤمنين في المكتوبة قال نعم
قلت فمن ابتدئ قال فبنفسك كما قال الله تعال " واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات "
" والله يعلم متقلبكم ومثواكم " يعني منتشركم بالنهار ومأواكم بالليل
ويقال ذهابكم ومجيئكم
قوله عز وجل " ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة " وذلك أنهم كانوا يأنسون بالوحي ويستوحشون إذا أبطأ فاشتاقوا إلى الوحي فقالوا لولا " نزلت " يعني هلا نزلت سورة
قال الله تعالى " فإذا أنزلت سورة محكمة " يعني مبينة يعني الحلال والحرام " وذكر فيها القتال " يعني أمروا فيها بالقتال
وقال قتادة كل سورة ذكر فيها ذكر القتال فهي محكمة
وقال القتبي في قراءة ابن مسعود سورة محدثة وتسمى المحدثة المحكمة لأنها إذا نزلت تكون محكمة ما لم ينسخ منها شيء
ويقال " فإذا أنزلت سورة محكمة " فيها ذكر القتال وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم فرح بها المؤمنين وكره المنافقون فذلك قوله " رأيت الذين في قلوبهم مرض " يعني الشك والنفاق
" ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت " كراهية لنزول القرآن
يعني إنهم يشخصون إليك بأبصارهم وينظرون نظرا شديدا من شدة العداوة كما ينظر المريض عند الموت
" فأولى لهم " فهذا تهديد ووعيد
يعني وليهم المكروه يعني قل لهم احذروا العذاب وقد تقدم الكلام
سورة محمد 21 - 23
ثم قال " طاعة وقول معروف " قال القتبي هذا مخصوص يعني قولهم قبل نزول(3/287)
288
الفرض سمعا لك وطاعة
فإذا أمروا به كرهوا ذلك
ويقال معناه " طاعة وقول معروف " أمثل لهم
ويقال معناه فإذا أنزلت سورة ذات طاعة يؤمر فيها بالطاعة وقول معروف " فإذا عزم الأمر " أي جاء الجد ووقت القتال فلم يذكر في الآية جوابه والجواب فيه مضمر معناه " فإذا عزم الأمور " يعني وجب الأمر وجد الأمر كرهوا ذلك
ثم ابتدأ قال " فلو صدقوا الله " في النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به " لكان خيرا لهم " من الشرك والنفاق
قوله " فهل عسيتم إن توليتم " يعني لعلكم وإن وليتم أمر هذه الأمة " أن تفسدوا في الأرض " بالمعاصي
يعني أن تعصوا الله في الأرض " وتقطعوا أرحامكم "
قال السدي " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض " بالمعاصي " وتقطعوا أرحامكم " قال المؤمنين إخوة فإذا قتلوهم فقد قطعوا أرحامهم
وروى جويبر عن الضحاك قال نزلت في الأمراء " إن توليتم " أمر الناس " أن تفسدوا في الأرض "
ويقال معناه إن أعرضتم عن دين الإسلام وعما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء ودفن البنات وقطع الأرحام " فهل عسيتم إن توليتم " يعني هل تريدون إذا أنتم تركتم النبي صلى الله عليه وسلم وما أمركم به إلا أن تعودوا إلى مثل ما كنتم عليه من الكر والمعاصي وقطع الأرحام
قرأ نافع " فهل عسيتم " بكسر السين والباقون بالنصب وهما لغتان إلا أن النصب أظهر عند أهل اللغة
قوله عز وجل " أولئك الذين لعنهم الله " يعني أهل هذه الصفة خذلهم الله وطردهم من رحمته
" فأصمهم " عن الهدى لا يعقلونه " وأعمى أبصارهم " عن الهدى فلا ينظرونه عقوبة لهم
سورة محمد 24 - 28
قوله تعالى " أفلا يتدبرون القرآن " يعني أفلا يسمعون القرآن ويعتبرون به ويتفكرون فيما أنزل الله تعالى فيه من وعد ووعيد وكثرة عجائبه حتى يعلموا أنه من الله تعالى وتقدس
" أم على قلوب أقفالها " يعني بل على قلوب أقفالها
يعني أقفل على قلوبهم ومعناه أن أعمالهم لغير الله ختم على قلوبهم
قوله تعالى " إن الذين ارتدوا على أدبارهم " يعني رجعوا إلى الشرك " من بعد ما تبين(3/288)
289
لهم الهدى ) يعني من بعد ما ظهر لهم الإسلام
قال قتادة " إن الذين ارتدوا على أدبارهم " وهم أهل الكتاب عرفوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم وكفروا به
ويقال نزلت في المرتدين
ثم قال عز وجل " الشيطان سول لهم " يعني زين لهم ترك الهدى وزين لهم الضلالة
" وأملى لهم ذلك " قرأ أبو عمرو " وأملي " بضم الألف وكسر اللام وفتح الياء على معنى فعل ما لم يسم فاعله
والباقون " وأملى " بنصب اللام والألف
يعني أمهل الله لهم فلم يعاقبهم حين كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم
ويقال زين لهم الشيطان وأملى لهم الشيطان يعني خيل لهم تطويل المدة والبقاء
وقرأ يعقوب الحضرمي " وأملي " بضم الألف وكسر اللام وسكون الياء
ومعناه أنا أملي يعني أطول لهم المدة كما قال " إما نملي لهم ليزدادوا إنما " ثم قال ذلك يعني اللعن والصمم والعمى والتزين والإملاء
" بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله " وهم المنافقون قالوا ليهود بني قريظة والنضير وهم الذين كرهوا ما نزل الله يعني تركوا الإيمان بما أنزل الله من القرآن " سنطيعكم في بعض الأمر " يعني سنعينكم في بعض الأمر
قال الله تعالى " والله يعلم إسرارهم " بما قالوا فيما بينهم
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " إسرارهم " بكسر الألف والباقون بالنصب فمن قرأ بالنصب
فهو جمع السر
ومن قرأ بالكسر فهو مصدر أسررت إسرارا ويقال سر وأسرار
ثم خوفهم فقال الله تعالى " فكيف " يعني كيف يصنعون " إذا توفتهم الملائكة " يعني تقبض أرواحهم الملائكة ملك الموت وأعوانه " يضربون وجوههم وأدبارهم " يعني عند قبض الأرواح ويقال يعني يوم القيامة في النار
" ذلك " يعني ذلك الضرب الذي نزل بهم عند الموت وفي النار
" بأنهم اتبعوا ما أسخط الله " يعني اتبعوا الكفر وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم
" وكرهوا رضوانه " يعني عملوا بما لم يرض الله به وتركوا العمل بما يرضي الله تعالى
" فأحبط أعمالهم " يعني أبطل ثواب أعمالهم
سورة محمد 29 - 32
قوله تعالى " أم حسب الذين في قلوبهم مرض " يعني أيظن أهل النفاق والشك " أن لن يخرج الله أضغانهم " يعني لم يظهر الله نفاقهم
ويقال يعني الغش الذي في قلوبهم للمؤمنين وعداوتهم للنبي لله " ولو نشاء لأريناكهم " يعني لعرفتك المنافقين وأعلمتك(3/289)
290
" فلعرفتهم بسيماهم " يعني بعلاماتهم الخبيثة
ويقال " فلعرفتهم بسيماهم " إذا رأيتهم
ويقال لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة " فلعرفتهم بسيماهم " يعني حتى عرفتهم
" ولتعرفنهم في لحن القول " يعني ستعرفهم يا محمد بعد هذا اليوم " في لحن القول " يعني في محاورة الكلام
ويقال " في لحن القول " يعني كذبهم إذا تكلموا فلم يخف على النبي لله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية منافق عنده إلا عرفه بكلامه
ثم قال " والله يعلم أعمالكم " يعني لم يخف عليه أعمالكم قبل أن تعلموها فكيف يخفى عليه إذا عملتموها
قوله تعالى " ولنبلونكم " يعني لنختبرنكم عند القتال " حتى نعلم " أي نميز " المجاهدين منكم والصابرين " يعني صبر الصابرين عند القتال " ونبلوا أخباركم " يعني نختبر أعمالكم
ويقال أسراركم
قرأ عاصم في رواية أبي بكر " وليبلوكم حتى يعلم ويبلوا " الثلاثة كلها بالياء
يعني حتى يختبركم الله
والباقون الثلاثة كلها بالنون على معنى الإضافة إلى نفسه
قوله عز وجل " إن الذين كفروا " يعني جحدوا " وصدوا عن سبيل الله " يعني صرفوا الناس عن دين الإسلام قال مقاتل يعني اليهود
وقال الكلبي يعني رؤساء قريش حيث شاقوا أهل التوحيد " وشاقوا الرسول " يعني عادوا الله تعالى ورسوله وخالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين " من بعد ما تبين لهم الهدى " يعني الإسلام وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه الحق " لن يضروا الله شيئا " يعني لن ينقصوا الله من ملكه شيئا بكفرهم بل يضروا بأنفسهم " وسيحبط أعمالهم " يعني يبطل ثواب أعمالهم التي عملوا في الدنيا فلا يقبلها منهم
سورة محمد 33 - 35
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " يعني أطيعوه في السر كما في العلانية ويقال " أطيعوا الله " في الفرائض " وأطيعوا الرسول " في السنن وفيما يأمركم من الجهاد " ولا تبطلوا أعمالكم " يعني حسناتكم بالرياء
وقال أبو العالية كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع قول لا إله إلا الله ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزل " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم " فخافوا أن تبطل الذنوب الأعمال
وقال مقاتل نزلت في الذين يمنون عليك أن أسلموا " إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله " قال مقاتل وذلك أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم سأله عن والده أنه كان محسنا في كفره قال ( هو في النار )
فولى الرجل يبكي فدعاه فقال له ( والدك ووالدي ووالد(3/290)
291
إبراهيم في النار )
فنزل " إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله " " ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم " قال الكلبي نزلت الآية في رؤساء أهل بدر
قوله تعالى " فلا تهنوا " يعني لا تضعفوا عن عدوكم " وتدعوا إلى السلم " يعني إلى الصلح أي " ولا تهنوا " ولا تدعوا إلى الصلح نظير قوله تعالى " ولا تلبسوا الحق " [ البقرة 42 ] يعني ولا تكتموا الحق وفي هذه الآية دليل على أن أيدي المسلمين إذا كانت عالية على المشركين ولا ينبغي لهم أن يجيبوهم إلى الصلح لأن فيه ترك الجهاد
وإن لم تكن يدهم عالية عليهم فلا بأس بالصلح لقوله تعالى " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها " [ الأنفال 61 ] يعني إن مالوا للصلح فمل إليه
قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر " إلى السلم " بكسر السين والباقون بالنصب
قال بعضهم وهما لغتان وقال بعضهم أحدهما صلح والآخر استسلام
ثم قال " وأنتم الأعلون " يعني العالين يكون آخر الأمر لكم " والله معكم " يعني معينكم وناصركم " ولن يتركم أعمالكم " يعني لن ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا
يقال وترتني حقي يعني بخستني فيه
وقال مجاهد لن ينقصكم
وقال قتادة لن يظلمكم
سورة محمد 36 - 38
قوله عز وجل " إنما الحياة الدنيا لعب ولهو " يعني باطلا وفرح
" وإن تؤمنوا " أي تستقيموا على التوحيد " وتتقوا " النفاق " يؤتكم أجوركم " يعني يعطكم ثواب أعمالكم " ولا يسألكم أموالكم " يعني لا يسألكم جميع أموالكم ولكن ما فضل منها " وإن يسألكموها " يعني جميع الأموال " فيحفكم تبخلوا " يعني إن يلح عليكم بما يوجبه في أموالكم
ويقال " فيحفكم " يعني يجهدكم كثرة المسألة " تبخلوا " بالدفع " ويخرج أضغانكم " يعني يظهر بغضكم وعدواتكم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ويقال ويخرج ما في قلوبكم من حب المال
يقول هذا للمسلمين
ويقال هذا للمنافقين يعني يظهر نفاقكم
وقال قتادة علم الله أن في مسألة الأموال خروج الأضغان
ثم قوله عز وجل " ها أنتم هؤلاء " قرأ نافع وأبو عمرو " ها أنتم " بمدة طويلة بغير همز وقرأ عاصم وحمزة والكسائي
بالمد والهمز و ( ها ) تنبيه و ( أنتم ) كلمة على حدة وإنما مد ليفصل ألف هاء من ألف أنتم
وقرأ ابن كثير بالهمز بغير مد
ومعناه أأنتم(3/291)
292
ثم قلبت إحدى الهمزتين هاء
ومعنى هذه القراءات كلها أنتم يا معشر المؤمنين " تدعون لتنفقوا في سبيل الله " يعني لتتصدقوا في سبيل الله وتعينوا الضعفاء
" فمنكم من يبخل " بالنفقة في سبيل الله " ومن يبخل " بالنفقة " فإنما يبخل عن نفسه " يعني لا يكون له ثواب النفقة " والله الغني " عما عندكم من الأموال وعن أعمالكم
" وأنتم الفقراء " إلى ما عند الله من الثواب والرحمة والمغفرة " وإن تتولوا " يعني تعرضوا عما أمركم الله به من الصدقة وغير ذلك مما افترض الله عليكم من حق
" يستبدل قوما غيركم " يعني يهلككم ويأت بخير منكم وأطوع لله تعالى منكم " ثم لا يكونوا أمثالكم " يعني أشباهكم في معصية الله تعالى
قال بعضهم لم يتولوا ولم يستبدل بهم
وقال بعضهم استبدل بهم أناس كنده وغيرهم
وروى أبو هريرة قال لما نزلت هذه الآية قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا قال وعنده سلمان الفارسي فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده عليه ثم قال ( هذا وقومه ) ثم قال ( لو كان الإيمان معلقا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس ) صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم(3/292)
293
سورة الفتح
مدنية وهي عشرون وتسع آيات
سورة الفتح 1 - 3
قوله تبارك وتعالى " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " يعني قضينا لك قضاء بينا أكرمناك بالإسلام والنبوة وأمرناك بأن تدعو الخلق إليه
قال مقاتل وذلك أنه لما نزل بمكة " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " وكان المشركون يقولون لم تتبعون رجلا لا يدري ما يفعل به ولا بمن تابعه
فلما قدم المدينة عيرهم بذلك المنافقون أيضا فعلم الله تعالى ما في قلوب المؤمنين من الحزن وما في قلوب الكافرين من الفرح
فنزل " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " يعني قضينا لك قضاء بينا " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " فقال المؤمنون هذا لك فمالنا فنزل " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار " [ الفتح 5 ] الآية
فقال المنافقون فما لنا فنزل " ويعذب المنافقين والمنافقات " [ الفتح 6 ] الآية
وقال الزجاج " إنا فتحنا لك " يعني فتح الحديبية والحديبية بئر سمي المكان بها
والفتح هو الظفر بالمكان كان بحرب أو بغير حرب
قال ومعنى الفتح الهداية إلى الإسلام
وكان في فتح الحديبية معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنها بئر فاستسقى جميع ما فيها من ماء ولم يبق فيها شيء فمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مجه فيها فدرت البئر بالماء
ثم قوله تعالى " ليغفر لك " وقال القتبي هذه لام القسم فكأنه قال " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " وقال بعضهم هذه لام كي كأنه يقول لكي يغفر لك " ما تقدم من ذنبك " يعني ذنب آدم " وما تأخر " يعني ذنب أمتك ويقال ما كان قبل نزول الوحي وما كان بعده
قوله تعالى " ويتم نعمته عليك " بالنبوة وبإظهار الدين " ويهديك صراطا مستقيما " يعني يثبتك على الهدى وهو طريق الأنبياء " وينصرك الله " يعني لكي ينصرك الله على عدوك " نصرا عزيزا " بإظهار الإسلام(3/293)
294
سورة الفتح 4
قوله تعالى " هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم تجهز في سنة ست في ذي القعدة فخرج إلى العمرة معه ألف وستمائة رجل ويقال ألف وأربعمائة وساق سبعين بدنة
فبلغ قريشا خبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فبعثوا خالد بن الوليد في عصابة منهم ليصدوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت فلما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان قال ( إن قريشا جعلت لي عيونا فمن يدلني على طريق الثنية )
فقال رجل من المسلمين أنا يا رسول الله فسار بهم إلى أن انتهوا إلى الثنية وصعدوا فيها
فلما هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثنية بركت ناقته القصواء فلم تنبعث فزجرها وزجرها الناس وضربوها فلم تنبعث
فقال الناس خلأت القصواء أي صارت حرونا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما خلأت القصواء وما كان ذلك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل ) ثم قال ( لا يسألونني فيما بيني وبينهم شيئا يعظمون به حرماتهم إلا قبلته منهم ) ثم زجرها فانبعثت
فلما نزلوا على القليب بالحديبية لم يكن في البئر إلا ماء وشيك يعني قليلا متغيرا فاستسقوا فلم يبق في البئر ماء
فقال ( من رجل يهيج لنا الماء ) فقال رجل أنا يا رسول الله
فقال ( ما اسمك ) قال مرة
فقال ( تأخر ) فقال رجل آخر أنا يا رسول الله فقال ( ما اسمك )
قال ناجية
فقال ( أنزل )
فنزل فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشقصا فبحت به البئر فنبع الماء
وقال في رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال كان ماء الحديبية قد قل فأتى بدلو من ماء فتوضأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل منه في فيه ثم مجه في الدلو ثم أمرهم بأن يجعلوه في البئر ففعلوا فامتلأت البئر حتى كادوا يغرقون منها وهم جلوس
ففزع المشركون لنزول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الحديبية فجاؤوه واستعدوا ليصدوه
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر ( يا عمر اذهب فاستأذن لنا عليهم حتى نعتمر ويخلوا بيني وبين البيت لا أريد منهم غيره )
فقال عمر يا رسول الله ليس ثم أحد من قومي يمنعني
فأرسل عثمان فإن هناك ناسا من بني عمه يمنعونه فذهب عثمان فتلقاه أبان بن سعيد بن العاص فقال له أجرني من قومك حتى أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاره وحمله على فرسه وراءه ودخل به مكة فاستأذن عثمان قريشا فأبوا أن يأذنوا له
فقال أبان لعثمان طف أنت إن شئت فقال ما كنت لأتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي هناك ثلاثة أيام فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل
فقال لأصحابه ( بايعوني على الموت )
فجلس النبي صلى الله عليه
وسلم تحت الشجرة فبايعه أصحابه على الموت فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( إني أخاف ألا يدرك عثمان هذه البيعة فأنا أبايع له يميني بشمالي )(3/294)
295
ثم رجع عثمان فأخبر أنهم قد أبوا ذلك وبلغت قريشا البيعة فكبرت تلك البيعة عندهم وقالوا ليزيد بن الحارث الكناني أردده عنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ابعثوا الهدي في وجهه حتى يراها فإنهم قوم يعظمون الهدي ) فبعثوا الهدي في وجهه فلما رأى يزيد بن الحارث الهدى قال ما أرى أحد يفلح برد هذا الهدي ورجع إلى قريش فقال لهم لا تردوا هذا الهدي فإني أخشى أن يصيبكم عذاب من السماء
فأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلس إليه فقال يا محمد ارجع عن قومك هذه المرة فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويومئ بيديه إلى لحيته وكان المغيرة قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه بالسوط على يده وقال اكفف يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليك ما تكره
فقال عروة من هذا يا محمد فقال ( ابن أخيك المغيرة بن شعبة )
فقال يا غدر ما غسلت سلختك عني بعد أفتضرب يدي قال اكففها قبل أن لا تصل إليك
فرجع عروة إلى قريش فقالوا له ما وراءك فقال خلوا سبيل الرجل يعتمر فإني حضرت كسرى وقيصر والنجاشي فما رأيت ملكا قط أصحابه أطوع من هذا الملك والله إنه ليتنخم فيبتدرون نخامته والله إنه ليجلس فيبتدرون التراب الذي يجلس عليه وإنه ليتوضأ فيبتدرون وضوءه
فقالوا جبنت وانتفح سحرك
ثم قالوا لسهيل بن عمرو اذهب واردده عنا وصالحه
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( قد سهل أمرهم ) فجاءه سهيل في نفر من قريش فقال يا محمد ارجع عن قومك هذه المرة على أن لك أن تأتيهم من العام المقبل فتعتمر أنت وأصحابك ويدخل كل إنسان منكم بسلاحه راكبا فتصالحنا على أن لا تقاتلنا ولا نقاتلك سنتين
فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك
فقال ( اكتب بيننا وبينك كتابا ) فأمر عليا رضي الله عنه أن يكتب فكتب ( بسم الله الرحمن الرحيم )
فقال سهيل لا أعرف الرحمن
قال فكيف أكتب قال ( اكتب باسمك اللهم فكتب باسمك اللهم هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم )
فقال سهيل لو أعلم أنك رسول الله لاتبعتك
أفترغب عن اسم أبيك فقال علي رضي الله عنه فوالله إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم على رغم أنفك
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنا محمد رسول الله وأنا محمد بن عبد الله اكتب محمد بن عبد الله ) لأنه كان عهد أن لا يسألوه عن شيئا يعظمون به حرماتهم إلا قبله
فكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو ألا تقاتلنا ولا نقاتلك سنتين وندخل في حلفنا من نشاء وتدخلوا في حلفكم من شئتم وعلى أنكم تأتون من العام المقبل وتقيمون ثلاثة أيام ثم ترجعون وعلى أن ما جاء منا
إليكم لا تقبلوه وتردوه إلينا ومن جاء منكم إلينا فهو منا فلا نرده إليكم
فشق ذلك الشرط على المسلمين فقالوا يا رسول الله من لحق بنا منهم لم نقبله ومن لحق بهم منا فهو لهم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فأما من لحق بهم منا فأبعده الله وأولى بمن كفر
وأما من أراد أن يلحق بنا منهم فسيجعل الله له مخرجا )
فجاء أبو جندل بن سهيل يرسف في الحديد يعني يمشي مشي الأعرج قد أسلم فأوثقه أبوه حين خشي أن يذهب إلى(3/295)
296
النبي صلى الله عليه وسلم فلما وقع في ظهراني المسلمين قال إني مسلم
فجاء أبوه فقال إنما كتبنا الكتاب الساعة
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يا رسول الله أليس الله حق وأنت نبيه قال بلى
قال ونحن قوم مؤمنون وهم كفار قال بلى
قال فلم نعطهم الدنية في ديننا قال ( إنما كتبنا الكتاب الساعة )
فتحول عمر إلى أبي جندل فقال يا أبا جندل إن الرجل يقتل أباه في الله وإن دم الكافر لا يساوي دم كلب وجعل عمر يقرب إليه سيفه كيما يأخذه ويضرب به أباه
فقال أبو جندل مالك لا تقتله أنت فقال عمر نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال ما أنت بأحق بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مني لا أقتل أبي
فأخذ سهيل بن عمرو غصنا من أغصان تلك الشجرة فضرب به وجه أبي جندل والمسلمون يبكون
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( خلو بينه وبين ابنه فإن يعلم الله من أبي جندل الصدق ينجه منهم )
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهيل ( هبه لي ) فقال سهيل لا
فقال مكرز بن حفص قد أجرته
يعني أمنته فآمنه حتى رده إلى مكة فأنجى الله تعالى أبا جندل من أيديهم بعد ما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فخرج إلى شط البحر واجتمع إليه قريبا من سبعين رجلا كرهوا أن يقيموا مع المشركين وعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم لن يقبلهم حتى تنقضي المدة فعمدوا إلى عير لقريش مقبلة إلى الشام أو مدبرة فأخذوها وجعلوا يقطعون الطريق على المشركين فأرسل المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه إلا قبضهم إليه وقالوا له أنت في حل منهم
فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم الذين كرهوا الصلح أن الخير فيما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن ينحروا البدن ويحلقوا الرؤوس فلم يفعل ذلك منهم أحد
فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة فقال ( ألا تعجبين أمرت الناس أن ينحروا البدن ويحلقوا
فلم يفعل أحد منهم )
فقالت أم سلمة قم أنت يا رسول الله وانحر بدنك واحلق رأسك فإنهم سيقتدون بك
فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم البدن وحلق رأسه ففعل القوم كلهم فحلق بعضهم وقصر بعضهم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يرحم الله المحلقين )
فقالوا والمقصرين يا رسول الله فقال ( يرحم الله المحلقين والمقصرين )
فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فنزل " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " إلى قوله " هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين " يعني السكون والطمأنينة في البيعة في قلوب المؤمنين
" ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم " يعني تصديقا مع تصديقهم الذي هم عليه
ويقال تصديقا بما أمرهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم في البيعة
ويقال يعني إقرارا بالفرائض مع إقرارهم بالله تعالى(3/296)
297
وروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " هو الذي أنزل السكينة " قال يعني الرحمة " في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا "
قال إن الله تعالى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله كما قال " قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " [ الإخلاص ] فلما صدقوا بها زادهم الصلاة فلما صدقوا بها زادهم الزكاة فلما صدقوا بها زادهم الصوم فلما صدقوا بها زادهم الحج فلما صدقوا به زادهم الجهاد يعني إن في كل ذلك يزيد تصديقا مع تصديقهم
قوله تعالى " ولله جنود السموات والأرض " فجنود السموات الملائكة وجنود الأرض المؤمنون من الجن والإنس " وكان الله عليما " بخلقه " حكيما " في أمره حيث حكم بالنصر للمؤمنين يوم بدر
سورة الفتح 5 - 7
قوله عز وجل " ليدخل المؤمنين والمؤمنات " يعني المصدقين والمصدقات " جنات تجري من تحتها الأنهار " يعني من تحت غرفها وأشجارها " خالدين فيها " يعني دائمين مقيمين لا يموتون ولا يخرجون منها " ويكفر عنهم سيئاتهم " يعني يمحو ويتجاوز عن سيئاتهم يعني عن ذنوبهم " وكان ذلك عند الله " في الآخرة " فوزا عظيما " نجاة وافرة من العذاب
ثم قال " ويعذب المنافقين والمنافقات " يعني ولكن يعذب المنافقين من أهل المدينة والمنافقات " والمشركين " من أهل مكة " والمشركات " الذين أقاموا على عبادة الأصنام
" الظانين بالله ظن السوء " وظنهم ترك التصديق بالله تعالى ورسوله مخافة ألا ينصر محمد صلى الله عليه وسلم كما قال في آية أخرى " بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول " [ الفتح 12 ]
ثم قال " عليهم دائرة السوء " يعني عاقبة العذاب والهزيمة " وغضب الله عليهم ولعنهم " في الدنيا " وأعد لهم جهنم " في الآخرة " وساءت مصيرا " يعني بئس المصير الذي صاروا إليه
قوله تعالى " ولله جنود السموات والأرض وكان الله عزيزا " بالنقمة لمن مات على كفره ونفاقه " حكيما " في أمره وقضائه حكم بالنصر للنبي صلى الله عليه وسلم(3/297)
298
سورة الفتح 8 - 9
ثم قال " إنا أرسلناك شاهدا " يعني بعثناك " شاهدا " بالبلاغ إلى أمتك " ومبشرا " لمن أجابك بالجنة " ونذيرا " يعني مخوفا للكفار بالنار " لتؤمنوا بالله ورسوله " يعني لتصدقوا بالله فيما يأمركم وتصدقوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم " وتعزروه " يعني لكي تعينوه وتنصروه على عدوه بالسيف " وتوقروه " أي تعظموا النبي صلى الله عليه وسلم " وتسبحوه " يعني تصلوا لله تبارك وتعالى " بكرة وأصيلا " يعني غدوة وعشيا
فكأنه قال لتؤمنوا بالله وتسبحوه وتؤمنوا برسوله وتعزروه وتوقروه
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " ليؤمنوا بالله ورسوله ويعزروه ويوقروه ويسبحوه " كلها بالياء على معنى الخبر عنهم والباقون بالتاء على معنى المخاطبة
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " دائرة السوء " بضم السين وقرأ الباقون بالنصب كقولك رجل سوء وعمل سوء وقد روي عن ابن كثير وأبي عمرو بالنصب أيضا
سورة الفتح 10 - 11
قوله عز وجل " إن الذين يبايعونك " يعني يوم الحديبية تحت الشجرة وهي بيعة الرضوان قال الكلبي بايعوا تحت الشجرة وهي شجرة السمر وهم يومئذ ألف وخمسمائة وأربعون رجلا
وروى هشام عن محمد بن الحسن قال كانت الشجرة أم غيلان
" إنما يبايعون الله " يعني كأنهم يبايعون الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بايعهم بأمر الله تعالى ويقال " إنما يبايعون الله " يعني لله تعالى أي لأجله وطلب رضاه
ثم قال " يد الله فوق أيديهم " يعني يد الله بالقدرة والنصرة والمغفرة " فوق أيديهم " بالطاعة
وقال الزجاج " يد الله فوق أيديهم " يحتمل ثلاثة أوجه
أحدها " يد الله فوق أيديهم " بالوفاء ويحتمل " يد الله فوق أيديهم " بالثواب فهذان وجهان جاءا في التفسير ويحتمل أيضا " يد الله فوق أيديهم " في المنة عليهم وفي الهداية " فوق أيديهم " في الطاعة " فمن نكث " يعني نقض العهد والبيعة " فإنما ينكث على نفسه " يعني عقوبته على نفسه
" ومن أوفى بما عاهد عليه الله " من البيعة والتمام في ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
" فسيؤتيه أجرا عظيما " في الجنة
قرأ نافع وابن كثير وابن عامر " فسنؤتيه أجرا عظيما " بالنون والباقون بالياء وكلاهما يرجع إلى معنى واحد يعني سيؤتيه الله ثوابا عظيما(3/298)
299
قوله تعالى " سيقول لك المخلفون من الأعراب " وهم أسلم وأشجع وغفار
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى مكة عام الحديبية فاستتبعهم وكانت منازلهم بين مكة والمدينة فقالوا فيما بينهم نذهب معه إلى قوم جاؤوه فقتلوا أصحابه فقاتلهم فاعتلوا عليه بالشغل حتى رجع فأخبر الله تعالى رسوله قبل ذلك أنه إذا رجع إليهم استقبلوه بالعذر وهم كاذبون فقال " سيقول لك المخلفون من الأعراب " يعني الذين تخلفوا عن بيعة الحديبية " شغلتنا أموالنا وأهلونا " يعني خفنا عليهم الضيعة ولو لا ذلك لخرجنا معك
" فاستغفر لنا " في التخلف
" يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم " يعني من طلب الاستغفار وهم لا يبالون استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم
" قل " يا محمد " فمن يملك لكم من الله شيئا " يعني من يقدر أن يمنع عنكم من عذابه شيئا " إن أراد بكم ضرا " يعني قتلا وهزيمة " أو أراد بكم نفعا " يعني النصرة
قرأ حمزة والكسائي " ضرا " بضم الضاد وهو سوء الحال والمرض وما أشبه ذلك
والباقون بالنصب وهو ضد النفع
اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التقرير يعني لا يقدر أحد على دفع الضر ومنع النفع غير الله
ثم استأنف الكلام فقال " بل كان الله بما تعملون خبيرا " يعني عالما بتخلفكم ومرادكم
سورة الفتح 12 - 14
قوله عز وجل " بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون " يعني بل منعكم من السير معه لأنكم ظننتم " أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون " من الحديبية " إلى أهليهم " بالمدينة " أبدا وزين ذلك في قلوبكم " يعني وحسن التخلف في قلوبكم " وظننتم ظن السوء " يعني حسبتم ظن القبيح " وكنتم قوما بورا " يعني هلكى
وروي عن ابن عباس أنه قال البور في لغة أزد وعمان الشيء الفاسد والبور في كلام العرب لا شيء
يعني أعمالهم بورا أي مبطلة
قوله عز وجل ( ومن لم يؤمن بالله ورسوله ) يعني من لم يصدق بالله في السر كما صدقه في العلانية " فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا " يعني هيأنا لهم عذاب السعير
قوله تعالى " ولله ملك السموات والأرض " يعني خزائن السموان والأرض
ويقال ونفاذ الأمر في السموات والأرض " يغفر لمن يشاء " وهو فضل منه " ويعذب من يشاء " على الذنب الصغير وهو عدل منه " وكان الله غفورا " لذنوبهم " رحيما " بهم(3/299)
300
سورة الفتح 15 - 17
ثم قال عز وجل " سيقول المخلفون " يعني الذين تخلفوا عن الحديبية " إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها " يعني إلى غنائم خيبر " ذرونا نتبعكم " يعني اتركونا نتبعكم في ذلك الغزو " يريدون أن يبدلوا كلام الله " يعني يغيروا كلام الله
يعني ما قاله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم لا تأذن لهم في غزاة أخرى
قرأ حمزة والكسائي " كلم الله " وهو جمع الكلمة
والباقون " كلام الله " والكلام اسم لكل ما يتكلم به
" قل لن تتبعونا " في المسير إلى خيبر إلا متطوعين من غير أن يكون لكم شرك في الغنيمة
" كذلكم قال الله من قبل " يعني من قبل الحديبية
" فسيقولون بل تحدسوننا " يعني يقولون للمؤمنين إن الله لم ينهكم عن ذلك بل تحسدوننا على ما نصيب معكم من الغنائم " بل كانوا لا يفقهون " أي لا يعقلون ولا يرغبون عن ترك النفاق " إلا قليلا " أي لا قليلا ولا كثيرا
ويقال بل كانوا لا يفقهون النهي من الله تعالى يعني إلا قليلا منهم
قوله عز وجل " قل للمخلفين من الأعراب " يعني الذي تخلفوا عن الحديبية مخافة القتال " ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد " يعني قتال شديد
قال بعضهم يعني قتال أهل اليمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه
وقال مجاهد " إلى قوم أولي بأس شديد " يعني أهل الأوثان
وقال أيضا هم أهل فارس وقال عطاء بل فارس وقال سعيد بن جبير هوازن وثقيف
وقال الحسن فارس والروم
" تقاتلونهم أو يسلمون " قرأ بعضهم ( أو يسلموا ) مع ألف يغير نون وقراءة العامة بالنون
فمن قرأ " أو يسلموا " يعني حتى يسلموا أو إلى أن يسلموا
ومن قرأ بالنون فمعناه تقاتلونهم أو هم يسلمون " فإن تطيعوا " يعني تجيبوا توافقوا القتال وتخلصوا لله " يؤتكم الله أجرا حسنا " يعني ثوابا حسنا في الآخرة
" وإن تتولوا كما توليتم من قبل " يعني تعرضوا كما أعرضتم عن الإجابة يوم الحديبية
" يعذبكم عذابا أليما " يعني شديدا دائما فلما نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة والضعفاء فكيف بنا إذا دعينا إلى قتالهم ولا نستطيع الخروج فيعذبنا الله تعالى فنزل قوله " ليس على الأعمى حرج " وهذا قول الكلبي
وقال(3/300)
301
مقاتل نزل العذر في الذين تخلفوا عن الحديبية
" ليس على الأعمى حرج " يعني ليس عليهم إثم في التخلف " ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج " يعني إثم
" ومن يطع الله ورسوله " في الغزو ويقال " ومن يطع الله ورسوله " في السر والعلانية " يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار " وقد ذكرناه
" ومن يتول " يعني يعرض عن ذلك يعني عن طاعة الله ورسوله بالتخلف " يعذبه عذابا أليما " يعني شديدا دائما
قرأ نافع وابن عامر " ندخله ونعذبه " كلاهما بالنون والباقون كلاهما بالياء وكلاهما يرجع إلى معنى واحد
سورة الفتح 18 - 20
قوله تعالى " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " يعني شجرة السمرة ويقال أم غيلان
قال قتادة بايعوه يومئذ وهم ألف وأربعمائة رجل وكان عثمان يومئذ بمكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله وحاجة المؤمنين
ثم وضع إحدى يديه على الأخرى وقال هذه بيعة عثمان )
" فعلم ما في قلوبهم " أي ما في قلوبهم من الصدق والوفاء وهذا قول ابن عباس
وقال مقاتل " فعلم ما في قلوبهم " من الكراهية للبيعة على أن يقاتلوا ولا يفروا
" فأنزل " الله " السكينة عليهم " يعني أنزل الله تعالى الطمأنينة والرضى عليهم
" وأثابهم " يعني وأعطاهم
" فتحا قريبا " يعني فتح خيبر
قوله عز وجل " ومغانم كثيرة يأخذونها " يعني يغنمونها " وكان الله عزيزا حكيما " حكم عليهم بالقتل والسبي
ويقال حكم الغنيمة للمؤمنين والهزيمة للكافرين
ثم قال " وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها " يعني تغنمونها وهو ما أصابوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة
وقال ابن عباس هي هذه الفتوح التي تفتح لكم " فجعل لكم هذه " يعني فتح خيبر قرأ بعضهم " وأتاهم فتحا قريبا " يعني أعطاهم وقراءة العامة " وأثابهم فتحا قريبا " يعني كافأهم
قوله تعالى " وكف أيدي الناس عنكم " يعني أيدي أهل مكة ويقال أسد وغطفان أرادوا أن يعينوا أهل خيبر فدفعهم الله عن المؤمنين فصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألا يكونوا له ولا عليه
ثم قال " ولتكون آية للمؤمنين " يعني عبرة للمؤمنين وهو فتح خيبر لأن المسلمين كانوا ثمانية آلاف وأهل خيبر كانوا سبعين ألفا(3/301)
302
ثم قال " ويهديكم صراطا مستقيما " يعني يرشدكم دينا قيما وهو دين الإسلام
سورة الفتح 21 - 24
ثم قال " وأخرى لم تقدروا عليها " يعني وعدكم الله غنيمة أخرى " لم تقدروا عليها " يعني لم تملكوها بعد وهو فتح مكة
ويقال هو فتح قرى فارس والروم
" قد أحاط الله بها " يعني علم الله أنكم ستفتحونها وستغنمونها فجمعها وأحرزها لكم
" وكان الله على كل شيء قديرا " من الفتح وغيره
قوله عز وجل " ولو قاتلكم الذين كفروا " يعني كفار مكة يوم الحديبية ويقال أسد وغطفان مع أهل خيبر
" لولوا الأدبار " منهزمين " ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا " يعني قريبا ينفعهم " ولا نصيرا " أي مانعا يمنعهم من الهزيمة
قوله عز وجل " سنة الله التي قد خلت من قبل " يعني هكذا سنة الله بالغلبة والنصرة لأوليائه والقهر لأعدائه
" ولن تجد لسنة الله تبديلا " يعني تغييرا وتحويلا
قوله تعالى " وهو الذي كف أيديهم عنكم " يعني أيدي أهل مكة " وأيديكم عنهم " يعني عن أهل مكة من بعد أن أظفركم عليهم
وذلك أن جماعة من أهل مكة خرجوا يوم الحديبية يرمون المسلمين فرماهم المسلمون بالحجارة حتى أدخلوهم بيوت مكة
وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال اطلع قوم وهم ثمانون رجلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل التنعيم عند صلاة الصبح ليأخذوه فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم " " ببطن مكة " يعني بوسط مكة " من بعد أن أظفركم عليهم " يعني سلطكم عليهم " وكان الله بما تعملون بصيرا " بحرب بعضكم بعضا
سورة الفتح 25 - 26
قوله تعالى " هم الذين كفروا " يعني جحدوا بوحدانية الله تعالى " وصدوكم عن(3/302)
303
المسجد الحرام ) أن تطوفوا به " والهدي معكوفا " يعني محبوسا
يقال عكفه عن كذا أي حبسه ومنه العاكف في المسجد لأنه حبس نفسه يعني صيروا الهدي محبوسا عن دخول مكة وهي سبعون بدنة
ويقال مائة بدنة
" أن يبلغ محله " يعني منحره ومنحره منى للحاج وعند الصفا للمعتمر
ثم قال " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات " بمكة " لم تعلموهم " أنهم مؤمنون يعني لم تعرفوا المؤمنين من المشركين " أن تطؤوهم " يعني تحت أقدامكم ويقال فتضربوهم بالسيف " فتصيبكم منهم معرة " يعني فينا لكم من قتالهم إثم ويقال المعرة والتعيير واحد ويقال " فتصيبكم منهم معرة " أي تلزمكم الدية " بغير علم " يعني بغير علم منكم لهم ولا ذنب لكم
وذلك أن بعض المؤمنين كانوا مختلطين بالمشركين غير متميزين ولا معروفي الأماكن
فقال " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم " لو دخلتموها أن تقتلوهم " ليدخل الله في رحمته من يشاء " لو فعلتم فيصيبكم من قتلهم معرة أي يعيبكم ويعيركم المشركون بذلك ويقولون قتلوا أهل دينهم كما قتلونا فتلزمكم الديات
ثم قال " لو تزيلوا " أي تميزوا من المشركين " لعذبنا الذين كفروا " يقال لو تزيلوا بالسيف
وقال القتبي صار قوله " لعذبنا " جوابا لكلامين أحدهما " لولا رجال " والآخر " لو تزيلوا " يعني لو تفرقوا واعتزلوا
يعني المؤمنين من الكافرين " لعذبنا الذين كفروا " " منهم عذابا أليما " يعني شديدا وهو القتل
قوله تعالى " إذ جعل الذين كفروا " يعني أهل مكة " في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية " وذلك أنهم قالوا قتل آباءنا وإخواننا ثم أتانا يدخل علينا في منازلنا والله لا يدخل علينا فهذه الحمية التي في قلوبهم
" فأنزل الله سكينته " يعني طمأنينته " على رسوله وعلى المؤمنين " فأذهب عنهم الحمية حتى اطمأنوا وسكنوا
" وألزمهم كلمة التقوى " يعني ألهمهم كلمة لا إله إلا الله حتى قالوها " وكانوا أحق بها " يعني كانوا في علم الله تعالى أحق بهذه الكلمة من كفار مكة " وأهلها " يعني وكانوا أهل هذه الكلمة عند الله تعالى " وكان الله بكل شيء عليما " يعني عليما بمن كان أهلا للإيمان وغيره
سورة الفتح 27 - 28
قوله عز وجل " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق " يعني حقق الله تعالى رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوفاء والصدق وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام قبل الخروج إلى الحديبية أنهم يدخلون المسجد الحرام فأخبر الناس بذلك فاستبشروا
فلما صدهم المشركون قالت(3/303)
304
المنافقون في ذلك ما قالوا فنزل " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق " يعني يصدق رؤياه بالحق " لتدخلن المسجد الحرام " في العام الثاني
ويقال نزلت الآية بعد ما دخلوا في العام الثاني " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام " يعني ما أخبر أصحابه أنهم يدخلون المسجد الحرام " إن شاء الله آمنين " يعني لتدخلن " إن شاء الله آمنين " يعني بإذن الله وأمره
ويقال هذا اللفظ حكاية الرؤيا وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى في المنام رأى ملكا ينادي وهو يقول لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين فأنزل الله تعالى " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق " وهو قول الملك " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين " من العدو " محلقين رؤوسكم ومقصرين " يعني منهم من يحلق ومنهم من يقصر " لا تخافون " العدو " فعلم ما لم تعلموا " قال مقاتل فعلم أن يفتح عليهم خيبر قبل ذلك فوعد لهم الفتح ثم دخول مكة ففتحوا خيبر ثم رجعوا ثم دخلوا مكة وأتوا عمرة القضاء
وقال الكلبي في قوله " فعلم ما لم تعلموا " يعني علم الله أنه سيكون في السنة الثانية ولم تعلموا أنتم فلذلك وقع في أنفسكم ما وقع " فجعل من دون ذلك فتحا قريبا " يعني فتح خيبر
ثم قال عز وجل " هو الذي أرسل رسوله بالهدى " يعني بالتوحيد شهادة أن لا إله إلا الله " ودين الحق " وهو الإسلام " ليظهره على الدين كله " يعني على الأديان كلها قبل أن تقوم الساعة فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام " وكفى بالله شهيدا " بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يشهد كفار مكة وذلك حين أراد أن يكتب محمد رسول الله فقال سهيل بن عمرو إنا لا نعرف بأنك رسول الله ولا نشهد
فقال الله عز وجل " وكفى بالله شهيدا " وإن لم يشهد سهيل وأهل مكة
سورة الفتح 29
قال عز وجل " محمد رسول الله والذين معه " من المؤمنين " أشداء على الكفار " بالغلظة " رحماء بينهم " يعني متوادين فيما بينهم " تراهم ركعا سجدا " يعني يكثرون الصلاة " يبتغون فضلا من الله ورضوانا " يعني يلتمسون من الحلال
وقال بعضهم " والذين معه " يعني أبا بكر " أشداء على الكفار " يعني عمر " رحماء بينهم " يعني عثمان " تراهم ركعا سجدا " يعني عليا رضوان الله عليهم أجمعين " يبتغون فضلا من الله ورضوانا " يعني الزبير وعبد الرحمن بن عوف(3/304)
305
ثم قال " سيماهم في وجوههم " يعني علاماتهم وهي الصفرة في وجوههم " من أثر السجود " يعني السهر بالليل
ويقال يعرفون غرا محجلين يوم القيامة من أثر الوضوء
وقال مجاهد " سيماهم في وجوههم " قال الخشوع والوقار
وقال منصور قلت لمجاهد أهذا الذي يكون بين عيني الرجل قال إن ذلك قد يكون للرجل وهو أقسى قلبا من فرعون
ثم قال " ذلك مثلهم في التوراة " يعني هذا الذي ذكره من نعتهم وصفتهم في التوراة
ثم ذكر نعتهم في الإنجيل فقال " ومثلهم في الإنجيل " يعني مثل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه " كزرع أخرج شطأه "
روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال مثلهم في التوراة والإنجيل واحد
قال " مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه " قرأ ابن كثير وابن عامر " شطأه " بنصب الشين والطاء والباقون بنصب الشين وجزم الطاء ومعناهما واحد وهو فراخ الزرع
وقال مجاهد " شطأه " يعني قوائمه
قرأ ابن عامر " فأزره " بغير مد والباقون بالمد ومعناهما واحد
يعني قواه
ومنه قوله عز وجل " اشدد به أزري " [ طه 31 ] يعني أقوي به ظهري
ويقال " كزرع أخرج شطأه " يعني سنبله " فآزره " يعني أعانه وقواه
" فاستغلظ " يعني غلظ الزرع واستوى
" فاستوى على سوقه " وهو جماعة الساق " يعجب الزراع " يعني الزارع إذا نظر في زرعه بعدما استغلظ واستوى يعجبه ذلك
فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم تبعه أبو بكر ثم تبعه واحد بعد واحد من أصحابه حتى كثروا ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لكثرتهم
" ليغيظ بهم الكفار " يعني أهل مكة يكرهون ذلك لما رأوا من كثرة المسلمين وقوتهم
وروى خيثمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرئهم القرآن في المسجد فأتى على هذه الآية " كزرع أخرج شطأه " فقال أنتم الزرع وقد دنا حصادكم
ويقال " كزرع " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم
" أخرج شطأه " يعني أبا بكر " فآزره " يعني أعانه عمر على كفار مكة " فاستغلظ " يعني تقوى بنفقة عثمان " فاستوى على سوقه " يعني قام على أمره يعني قام علي بن أبي طالب يعينه وينصره على أعدائه
" يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار " يعني طلحة والزبير
وكان الكفار يكرهون إيمان طلحة والزبير لشدة قوتهما وكثرة أموالهما
" وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم " يعني لهم ويقال فيما بينهم وبين ربهم
ويقال من هاهنا لإبانة الجنس
يعني " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم " من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " مغفرة " لذنوبهم " وأجرا عظيما " يعني ثوابا وافرا في الجنة روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من قرأ سورة الفتح فكأنما شهد فتح مكة مع النبي صلى
الله عليه وسلم والله سبحانه أعلم(3/305)
306
سورة الحجرات
مدنية وهي ثماني عشرة آية
سورة الحجرات 1
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " يقال " يا " نداء وها تنبيه و " الذين " إشارة و " آمنوا " مدحه
روي عن الضحاك أنه كان يقرأ " لا تقدموا " بنصب التاء والدال وقراءة العامة " لا تقدموا " برفع التاء وكسر الدال
فمن قرأ بالنصب فهو في الأصل لا تتقدموا فحذفت إحدى التاءين لتكون أخف ومن قرأ بالضم فهو من قدم يقدم يقال فلان تقدم بين يدي أبيه وبين يدي الإمام
يعني تعجل بالأمر وانتهى بدونه يعني لا تقدموا الكلام بين يدي الله ورسوله
ومعناه لا تقولوا قبل أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم
ويقال معناه إذا أمرتم بأمر فلا تفعلوه قبل الوقت الذي أمرتم به
وقال الحسن إن قوما ذبحوا قبل أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يذبحوا آخر فنزل " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " وقال مسروق كنا عند عائشة يوم الشك فأتي بلبن فناولتني فقلت إني صائم فقالت عائشة رضي الله عنها وقد نهي عن هذا وقرأت هذه الآية وقالت هذه الآية نزلت في الصوم وغيره
وقال مقاتل نزلت الآية في ثلاثة نفر وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية وأمر عليهم المنذر بن عمرو فخرج بنو عامر بن صعصعة عند بئر معونة فرصدوهم على الطريق وقتلوهم فرجع ثلاثة منهم فلما دنوا إلى المدينة خرج رجلان من بني سليم صلحا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان أهداهما وكساهما فقالا نحن من بني عامر لأن بني عامر كانوا أقرب إلى المدينة فقتلوهما وأخذوا ثيابهما وجاؤوا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزل " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " يعني لا تعجلوا بأمر ولا بقتل حتى تستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وروي عن الحسن في رواية أخرى أنه قال لا تعملوا بخلاف الكتاب والسنة
ثم قال " واتقوا الله " يعني اخشوا الله عز وجل فيما يأمركم وينهاكم ولا تخالفوا أمر الله ورسوله
وقوله " إن الله سميع عليم " يعني " سميع " الدعاء " عليم " بخلقه
ويقال " سميع " لقول المستأمنين " عليم " بنيات الذين قتلوهما
وفي الآية بيان رأفة الله عز وجل على عباده حيث سماهم مؤمنين مع معصيتهم(3/306)
307
سورة الحجرات 2 - 3
فقال " يا أيها الذين آمنوا " ولم يقل يا أيها الذين عصوا وقد ذكرنا من قبل أن النداء على ست مراتب وهذا نداء مدح
قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " نزلت في وفد بني تميم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وهم سبعون أو ثمانون منهم الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وعطارد بن الجحاف وذلك حين قالوا ائذن لشاعرنا وخطيبنا في الكلام فعلت الأصوات واللغط فنزلت الآية " لا ترفعوا أصواتكم " عند رسول الله فوق صوته ويقال نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان في أذنه وقر فكان إذا تكلم رفع صوته
ثم قال " ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض " يعني لا تدعوه باسمه كما يدعو الرجل الرجل منكم باسمه ولكن عظموه ووقروه وقولوا يا رسول الله يا نبي الله
ثم قال " أن تحبط أعمالكم " يعني إن فعلتم ذلك فتحبط حسناتكم " وأنتم لا تشعرون " أن ذلك يحبطها وقال بعضهم من عمل كبيرة من الكبائر حبط جميع ما عمل من الحسنات واحتج بهذه الآية " أن تحبط أعمالكم " ولكن نحن نقول الكبيرة لا تبطل العمل ما لم يكفر وإنما ذكر هاهنا إبطال العمل لأن في ذلك استخفافا بالنبي صلى الله عليه وسلم
ومن قصد الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم كفر
ولما نزلت هذه الآية دخل ثابت بن قيس بيته وجعل يبكي ويقول أنا من أهل النار فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فبعث إليه وقال ( إنك من أهل الجنة بل غيرك من أهل النار )
فقال يا رسول الله لا أتكلم بعد ذلك إلا سرا أو ما كان يشبه السر فنزل " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله " صلى الله عليه وسلم روى ثابت عن أنس قال لما نزل " لا ترفعوا أصواتكم " وكان ثابت بن قيس رفيع الصوت
فقال أنا الذي كنت أرفع صوتي وحبط عملي أنا من أهل النار وجلس في أهله يبكي ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال فقال صلى الله عليه وسلم ( بل هو من أهل الجنة )
فقال أنس لكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة
فلما كان يوم اليمامة فكان فينا بعض الانكشاف فجاء ثابت بن قيس وقد تحنط ولبس كفنه فقال بئس ما تعودون أقرانكم فقاتلهم حتى قتل
ثم قال " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله " " أولئك الذين امتحن الله قلوبهم(3/307)
308
للتقوى ) يعني أخلص الله عز وجل قلوبهم
ويقال أصفى الله عز وجل قلوبهم من المعصية للتقوى يعني يجعل قلوبهم موضعا للتقوى " لهم مغفرة " لذنوبهم " وأجر عظيم " أي ثواب وافر يعني في الجنة يعني يجعل ثوابهم في الدنيا أن يخلص قلوبهم للتقوى وفي الآخرة أجر عظيم
سورة الحجرات 4 - 8
وقوله عز وجل " إن الذي ينادونك من رواء الحجرات " فالحجرات جمع حجرة يقال حجرة وحجرات مثل ظلمة وظلمات
وقرئ في الشاذ الحجرات بنصب الجيم
وقرأه العامة بالضم ومعناهما واحد
نزلت الآية في شأن نفر من بني تميم وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أسامة بن زيد فانتهى إلى قبيلة وكانت تسمى بني العنبر فأغار عليهم وسبى ذراريهم فجاء جماعة منهم ليشتروا أسراهم أو يفدوهم فنادوه وكان وقت الظهيرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم في الحجرة
فنادوه من وراء الحجرة وكان لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم حجرات فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم كلموه في أمر الذراري فقال لواحد منهم ( أحكم )
فقال حكمت أن تخلي نصف الأسارى وتبيع النصف منا
ففعل النبي صلى الله عليه وسلم
فنزلت الآية " إن الذين ينادونك من رواء الحجرات " " أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم " لأنهم لو لم ينادوه لكان يعتقهم كلهم
وروى معمر عن قتادة أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فناداه من وراء الحجرات فقال يا محمد إن مدحي زين وإن شتمي شين فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال ( ويلك ذلك الله عز وجل )
فنزل " إن الذي ينادونك " الآية
ثم قال عز وجل " والله غفور " يعني " غفور " لمن تاب " رحيم " بهم بعد التوبة
قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ " الآية
نزلت في الوليد بن عقبة بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق ليقبض الصدقات فخرجوا إليه ليبجلوه ويعظموه فخشي منهم لأنه كان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية
فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال خرجوا إلي(3/308)
309
بأسلحتهم ومنعوا مني الصدقات وطرحوني وأرادوا قتلي فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث لقتالهم فجاؤوا إلى المدينة وقالوا يا رسول الله لما بلغنا قدوم رسولك خرجنا نبجله ونعظمه فانصرف عنا فاغتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل الوليد بن عقبة فنزل " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ " يعني بحديث كذب وبخبر كذب " فتبينوا " يعني قفوا ولا تعجلوا " أن تصيبوا " يعني كيلا تصيبوا " قوما بجهالة " وأنتم لا تعلمون بأمرهم " فتصبحوا " يعني فتصيروا " على ما فعلتم نادمين "
قرأ حمزة والكسائي " فتثبتوا " بالثاء وقرأ الباقون بالياء " فتبينوا " مثل ما في سورة النساء
ثم قال للمؤمنين رضي الله عنهم " واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر " يعني ما أمرتم به لأن الناس كانوا قد حرضوه على إرسالهم لقتال بني المصطلق " لعنتم " يعني لأثمتم
وروى أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية " لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم " يعني هذا نبيكم وخياركم " لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم " فكيف بكم اليوم
ويقال " لعنتم " أي لهلكتم
وأصله من عنت البعير إذا انكسرت رجله
ثم ذكر لهم النعم فقال " ولكن الله حبب إليكم الإيمان " يعني جعل حب الإيمان في قلوبكم " وزينه في قلوبكم " يعني حسنه للثواب الذي وعدكم ويقال دلكم عليه بالحجج القاطعة
ويقال زينه في قلوبكم بتوفيقه إياكم لقبوله " وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان " يعني بغض إليكم الكفر والمعاصي لما بينه من العقوبة
ثم قال " أولئك هم الراشدون " يعني المهتدون
فذكر أول الآية على وجه المخاطبة وآخر الآية بالمغايبة
ثم قال " أولئك هم الراشدون " ليعلم أن جميع من كان حاله هكذا فقد دخل في هذا المدح
وفي الآية دليل أن من كان مؤمنا فإنه لا يحب الفسوق والمعصية لأن الله تعالى قال " وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان " والمؤمن إذا ابتلي بالمعصية فإن شهوته وغفلته تحمله على ذلك لا لحبه للمعصية
ثم قال " فضلا من الله ونعمة " يعني كان الإيمان الذي حببه إليكم والكفر الذي بغضه إليكم كان " فضلا من الله ونعمة " يعني رحمة " والله عليم " بخلقه " حكيم " في أمره وقضائه
سورة الحجرات 9 - 10
قوله عز وجل " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الأنصار ليكلمهم في أمر من الأمور وهو على حمار فوقف على حمار يكلم الأنصار(3/309)
310
فبال الحمار فقال عبد الله بن أبي المنافق خل للناس سبيل الريح من نتن هذا الحمار ثم قال أف وأمسك على أنفه
فشق على النبي صلى الله عليه وسلم قوله فانصرف عبد الله بن رواحة الأنصاري فقال أتقول هذا لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لبوله أطيب ريحا منك
فاقتتلا فاجتمع قوم ابن رواحة وهم الأوس وقوم عبد الله بن أبي وهم الخزرج فكان بينهم ضرب النعال والأيدي والسعف
ورجع النبي صلى الله عليه وسلم فاصلح بينهم فأنزل الله تعالى " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما " فكره بعضهم الصلح فأنزل قوله " فإن بغت إحداهما على الأخرى " يعني استطالت فلم ترجع إلى الصلح " فقاتلوا التي تبغي " يعني تظلم " حتى تفيء إلى أمر الله " يعني ترجع إلى ما أمر الله عز وجل
وروى أسباط عن السدي قال كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد فأبغضت زوجها وأرادت أن تلحق بأهلها وكان قد جعلها في غرفة له وأمر أهله أن يحفظوها وخرج إلى حاجة له
فأرسلت إلى أهلها فجاء ناس من أهلها وأرادوا أن يذهبوا بها فاقتتلوا بالنعال والتلاطم فنزل قوله تعالى " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا " الآية
ثم صارت الآية عامة في جميع المسلمين إذا اقتتل فريقان من المسلمين وجب على المؤمنين الإصلاح بين الفريقين
فإن ظهر أن أحد الفريقين ظالم فإنه يقاتل ذلك الفريق حتى يرجع إلى حكم الله
ثم قال " فإن فاءت " يعني رجعت إلى الصلح " فأصلحوا بينهما بالعدل " يعني بالحق " وأقسطوا " يعني اعدلوا بين الفريقين ولا تميلوا " إن الله يحب المقسطين " يعني العادلين
ثم قال عز وجل " إنما المؤمنون إخوة " يعني كالأخوة في التعاون لأنهم على دين واحد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ) وروي عنه أنه قال ( المؤمنون كعضو واحد إذا اشتكى عضو تداعى سائر الأعضاء إلى الحمى والسهر )
قرأ ابن سيرين " فأصلحوا بين إخوانكم " بالنون
وقرأ يعقوب الحضرمي " بين إخوتكم " بالتاء
يعني جمع الأخ وقراءة العامة " بين أخويكم " بالياء على تثنية الأخ
يعني بين كل أخوين
ثم قال " واتقوا الله لعلكم ترحمون " يعني اخشوا الله عز وجل ولا تعصوه " لعلكم ترحمون " يعني لكي ترحموا فلا تعذبوا(3/310)
311
سورة الحجرات 11
قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم " يعني لا يستهزئ الرجل من أخيه
وقال بعضهم الآية نزلت في ثابت بن قيس حيث عير الذي لم يوسع له في المكان وقال بعضهم الآية نزلت في الذين ينادونه من وراء الحجرات استهزؤوا من ضعفاء المسلمين " عسى أن يكونوا خيرا منهم " يعني أفضل منهم وأكرم على الله تعالى " ولا نساء من نساء " يعني لا تستهزئ امرأة من امرأة وذلك أن عائشة رضي الله عنها قالت إن أم سلمة جميلة لولا أنها قصيرة " وعسى أن يكون خيرا منهن " يعني أفضل ثم صارت الآية عامة في الرجال والنساء فلا يجوز أحد أن يسخر من صاحبه أو من أحد من خلق الله تعالى
وقال ابن مسعود رضي الله عنه البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب خشيت أن أكون مثله
ثم قال " ولا تلمزوا أنفسكم " يعني لا يطعن بعضكم بعضا
وقال القتبي ولا تغتابوا إخوانكم من المسلمين لأنهم كأنفسكم كما قال " ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا " [ النور 12 ] يعني بأمثالهم
ثم قال " ولا تنابزوا بالألقاب " يعني لا تسموا باللقب
وقال محمد بن كعب القرظي هو الرجل يكون على دين من الأديان فيسلم فيدعونه بدينه الأول يا يهودي ويا نصراني
ويقال لا تعيروا المسلم بالملة التي كان عليها ولا تسموه بغير دين الإسلام
وقال أهل اللغة الألقاب والأنباز واحد ومنه قيل في الحديث ( قوم نبزهم الرافضة ) أي لقبهم " ولا تنابزوا بالألقاب " أي لا تدعوا بها
ويقال هو اللقب الذي يكرهه الرجل
يعني أنه ينبغي للمؤمن أن يخاطب أخاه بأحب الأسماء إليه
وقرأ بعضهم " ولا تلمزوا " بضم الميم وقراءة العامة بالكسر وهما لغتان
يقال لمز فلان فلانا يلمزه إذا عابه
وذكر في التفسير أن الآية نزلت في مالك بن أبي مالك وعبد الله بن أبي حدرد وذلك أن أبا مالك كان على المقاسم فقال لعبد الله بن أبي حدرد الأسلمي يا أعرابي فقال له عبد الله يا يهودي
فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخلا عليه حتى تظهر توبتهما فنزل " بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان " يعني بئس التسمية لإخوانكم بالكفر وهم مؤمنون " ومن لم يتب " يعني لم يرجع من قوله " فأولئك هم الظالمون " فأوثقا أنفسهما حتى قبلت توبتهما(3/311)