534
الرحمن قال الله تعالى " وجعلوا الملائكة الذين هم عبد الرحمن إنثا " الزخرف 19
" يعرفون كلا بسيماهم " يعني أصحاب الأعراف يعرفون أهل الجنة إذا مروا بهم ببياض وجوههم ويعرفون أهل النار بسواد وجوههم والسيماء هي العلامة " ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم " فإذا مرت بهم زمرة من أهل الجنة قالوا " سلام عليكم " " لم يدخلوها " يعني إن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة " وهم يطمعون " أن يدخلوها ويقال أن أهل النار لم يدخلوها إبدا وهم يطمعون وقال الحسن والله ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدهم بها ويقال " لم يدخلوها " يعني أهل الجنة لم يدخلوها حتى يسلم عليهم أهل الأعراف فانصرفوا وهم يطمعون بدخولها ويقال أهل النار لم يدخلوها أبدا وهم يطمعون وطمعهم أن أفيضوا علينا من الماء
سورة الأعراف 47 - 49
قوله تعالى " وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار " قال من سرعة ما انصرفوا كأنهم صرفوا " تلقاء أصحاب النار " يعني أنهم إذا نظروا قبل أصحاب النار " قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين " يعني مع الكافرين في النار
قوله تعالى " ونادى أصحاب الأعراف رجالا " يعني في النار " يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم " في الدنيا " وما كنتم تستكبرون " يعني ما أغنى عنكم ما كنتم تستكبرون عن الإيمان وقرأ بعضهم " وما كنتم تستكثرون " يعني تجمعون المال الكثير وهي قراءة شاذة
قوله تعالى " أهولاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة " يعني أن أهل الأعراف يقولون يا وليد يا أبا جهل أهولاء يعني صهيبا وبلالا والضعفة من المسلمين الذين كنتم تحلفون لا ينالهم الله برحمة أنهم لا يدخلون الجنة
ثم يقول الله تعالى لأصحاب الأعراف " ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون " وعن أبي مجلز أنه قال " وعلى الأعراف رجال " من الملائكة " نادوا أصحاب الجنة " قبل أن يدخلوها سلام عليكم ولم يدخلوها وهم يطمعون دخولها يعني أهل الجنة وإذا نظروا إلى أصحاب النار حين مروا بهم " قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ونادى أصحاب الأعراف رجالا " من المشركين " يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون "
قوله تعالى " أهولاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة " يعني لأهل
(1/534)
535
الجنة قال مقاتل فأقسم أهل النار أن أصحاب الأعراف داخلون النار معهم فقالت الملائكة لأهل النار أهولاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ثم تقول الملائكة لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة ويقال إن أهل النار يقولون لأصحاب الأعراف ما أغنى عنكم جمعكم وعملكم وأنتم والله تكونون معنا في النار ولا تدخلون الجنة فتقول الملائكة لأهل النار أهولاء الذين أقسمتم يعني لأصحاب الأعراف لا ينالهم الله برحمته ثم تقول الملائكة لأصحاب الأعراف " أدخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون "
سورة الأعراف 50 - 53
قوله تعالى " ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله " يعني اسقونا من الماء أو شيئا من الفواكه وثمار الجنة فإن فينا من معارفكم فأعلم الله تعالى أن ابن آدم غير مستغن عن الطعام والشراب وإن كان في العذاب فأجابهم أهل الجنة " قالوا إن الله حرمهما على الكافرين " يعني الماء والثمار وروي في الخبر أن أبا جهل بن هشام بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستهزئ به أطعمني من عنب جنتك أو شيئا من الفواكه فقال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه قل له إن الله حرمهما على الكافرين
ثم وصفهم فقال عز وجل " الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا " يعني اتخذوا الإسلام باطلا ودخلوا في غير دين الإسلام ويقال اتخذوا عيدهم لهوا وفرحا " وغرتهم الحياة الدنيا " يعني غرهم ما أصابهم من زينة الدنيا " فاليوم ننساهم " يعني نتركهم في النار " كما نسوا لقاء يومهم هذا " يعني كما تركوا العمل ليومهم هذا ويقال كما تركوا الإيمان ليومهم هذا يعني أنكروا البعث " وما كانوا بآياتنا يجحدون " يعني ويجحدون بآياتنا بأنها ليست من الله تعالى
قوله تعالى " ولقد جئناهم بكتاب " يعني أكرمناهم بالقرآن " فصلناه " يعني بينا فيه الآيات والحلال والحرام " على علم " يعني بعلم منا " هدى " يعني بيانا من الضلالة ويقال جعلناه هاديا " ورحمة " يعني نعمة ونجاة من العذاب " لقوم يؤمنون " يعني لمن آمن وصدق به يعني أكرمناهم بهذا الكتاب فلم يؤمنوا ولم يصدقوا وإنما أضاف إلى المؤمنين لأنهم هم الذين يهتدون ويستوجبون به الرحمة
(1/535)
536
ثم قال الله تعالى " هل ينظرون إلا تأويله " يعني ما ينتظرون إلا عاقبة ما وعدهم الله تعالى في القرآن من العذاب " يوم يأتي تأويله " يعني عاقبة ما وعدهم الله وهو يوم القيامة
" يقول الذين نسوه " يعني يقول الذين تركوا العمل والإيمان " من قبل " يعني في الدنيا " قد جاءت رسل ربنا بالحق " وذلك أنهم حين عاينوا العذاب وذكروا قول الرسل فندموا على تكذيبهم إياهم يقولون " قد جاءت رسل ربنا بالحق " يقول بأمر وأخبار عن القيامة والبعث فكذبناهم في ذلك " فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا " لأنهم يرون الشفعاء يشفعون للمؤمنين فيقال لهم ليس لكم شفيع فيقولون " أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل " يقولون هل نرد إلى الدنيا فنصدق الرسل ونعمل غير الشرك " فنعمل " صار نصبا لأنه جواب الاستفهام وجواب الاستفهام إذا كان بالفاء فهو نصب وكذلك جواب الأمر والنهي
يقول الله تعالى " قد خسروا أنفسهم " يعني غبنوا حظ أنفسهم " وضل عنهم ما كانوا يفترون " يعني يكذبون بأن الآلهة شفعاؤهم عند الله وقرئ " أو نرد " بالنصب عطف على " فيشفعوا " أو لأن " أو " بمعنى إلى أن وقرئ " أو نرد " بالرفع والمعنى هل نرد وهو قول الفراء أو عطف على المعنى وهو قول الزجاج أي هل يشفع لنا أحد أو نرد وقرأ الحسن " أو نرد " " فنعمل " برفعهما
سورة الأعراف 54
قوله تعالى " إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عير المشركين بعبادة آلهتهم ونزل قوله تعالى " لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له " الحج73 وقوله " كمثل العنكبوت أتخذت بيتا " العنكبوت 41 سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا من ربك الذي تدعونا إليه وأرادوا أن يتخذوا في اسمه طعنا أو في شيء من أفعاله فنزلت هذه الآية فتحيروا وعجزوا عن الجواب فقال " إن ربكم الله " يعني خالقكم ورزاقكم " الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام " قال ابن عباس يعني من أيام الآخرة طول كل يوم ألف سنة وقال الحسن البصري من أيام الدنيا ويقال " في ستة أيام " أي في ست ساعات من ستة أيام من أطول أيام الدنيا ولو شاء أن يخلقها في ساعة واحدة لخلقها ولكن علم عباده التأني والرفق والتدبير في الأمور
" ثم استوى على العرش " قال بعضهم هذا من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله وذكر عن يزيد بن هارون أنه سئل عن تأويله فقال تأويله الإيمان به وذكر أن رجلا دخل على مالك بن أنس فسأله عن قوله " الرحمن على العرش استوى " طه5 فقال الاستواء غير
(1/536)
537
مجهول والكيفية غير معقولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا ضالا فأخرجوه وذكر عن محمد بن جعفر نحو هذا وقد تأوله بعضهم وقال " ثم " بمعنى الواو فيكون على معنى الجمع والعطف لا بمعنى الترتيب والتراخي ومعنى قوله " استوى " يعني استولى كما يقال فلان استوى على بلد كذا يعني استولى عليه فكذلك هذا معناه خالق السموات والأرض ومالك العرش ويقال ثم صعد أمره إلى العرش وهذا معنى قول ابن عباس قال صعد على العرش يعني أمره يعني قال له كن فكان ويقال " ثم استوى على العرش " يعني كان فوق العرش قبل أن يخلق السموات والأرض ويكون " على " بمعنى العلو والارتفاع ويقال " استوى " بمعنى استعلى وذكر أن أول شيء خلقه الله تعالى القلم ثم اللوح فأمر القلم بأن يكتب في اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة ثم خلق ما شاء ثم خلق العرش ثم خلق حملة العرش ثم خلق السموات والأرض وإنما خلق العرش لا لحاجة نفسه ولكن لأجل عباده ليعلموا أين يتوجهون في دعائهم لكي لا يتحيروا في دعائهم كما خلق الكعبة علما لعبادتهم ليعلموا إلى أين يتوجهون في العبادة فكذلك خلق العرش علما لدعائهم ليعلموا إلى أين يتوجهوا بدعائهم
ثم قال تعالى " يغشى الليل النهار " يعني إن الليل يأتي على النهار فيغطيه ولم يقل يغشى النهار الليل لأن في الكلام دليلا عليه وقد بين في آية أخرى " يكور اليل على النهار ويكور النهار على اليل " الزمر 5 فكذلك هاهنا معناه يغشى النهار الليل ويغشى الليل النهار يعني إذا جاء النهار يذهب بظلمة الليل وإذا جاء الليل يذهب بنور النهار
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " يغشى الليل النهار " بتشديد الشين ونصب الغين وقرأ الباقون بجزم الغين مع تخفيف الشين وهما لغتان غشى ويغشى وأغشى يغشى
ثم قال " يطلبه حثيثا " يعني سريعا في طلبه أبدا ما دامت الدنيا باقية
ثم قال " والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره " يعني جاريات مذللات لبني آدم بأمره
قرأ ابن عامر " والشمس والقمر والنجوم " كلها بالضم على معنى الابتداء وقرأ الباقون بالنصب على معنى العطف أي " خلق الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره "
ثم قال " إلا له الخلق والأمر " " ألا " كلمة التنبيه يعني اعلموا أن الخلق لله تعالى وهو الذي خلق الدنيا والأشياء كلها وأمره نافذ في خلقه قال سفيان بن عيينه الخلق هو الخلائق والأمر هو القرآن وهو كلام الله تعالى وليس بمخلوق ولا هو مباين منه وتصديقه قوله تعالى " ذلك أمر الله أنزله إليكم " الطلاق 5 ويقال الأمر هو القضاء
ثم قال " تبارك الله رب العالمين " قال ابن عباس يعني تعالى الله عما يقول
(1/537)
538
الظالمون ويقال " تبارك الله " يعني تفاعل من البركة بمعنى ذو البركة يعني البركة كلها من الله تعالى والبركة فيما يذكر عليه اسم الله رب العالمين يعني سيد الخلق أجمعين
سورة الأعراف 55 - 57
فلما وصف وبالغ في ذلك وأعجزهم فأمرهم أن يدعوه فقال عز وجل " ادعوا ربكم تضرعا وخفية " قال الكلبي يعني في خفض وسكون ويقال " خفية " يعني اعتقدوا عبادته في أنفسكم لأن الدعاء معناه العبادة ويقال علانية وسرا ويقال هذا أمر بالدعاء في الأحوال كلها يعني ادعوا الذي خلق هذه الأشياء في الأحوال كلها
ثم قال " إنه لا يحب المعتدين " يعني أن تدعوا بما لا يحل أو تدعوا على أحد باللعن والخزي أو تدعوا عليه بالشر
ثم قال تعالى " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها " وذلك أن الله تعالى إذا بعث نبيا فأطاعوه صلحت الأرض وصلح أهلها وفي المعصية فساد الأرض وفساد أهلها ويقال " لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها " يعني لا تجوروا في الأرض فتخربوها لأن الأرض قامت بالعدل ويقال لا تخربوا المساجد فتتركوا الجماعة " وادعوه " يعني اعبدوه " خوفا وطمعا " يعني " خوفا " من عذابه " وطمعا " في رحمته ويقال ادعوه في حال الخوف والضيق ويقال خوفا عن قطيعته ورجاء في لقائه
ثم قال " إن رحمة الله قريب من المحسنين " ولم يقل قريبة قال بعضهم لأن البعيد والقريب يصلحان للواحد وللجمع المذكر والمؤنث كما قال " لعل الساعة تكون قريبا " الأحزاب 63 وقال " وما هي من الظالمين ببعيد " هود 83 وقال بعضهم تفسير الرحمة هاهنا المطر فذكر بلفظ التذكير وقال بعضهم لأن الرحمة بمعنى الغفران والعفو فانصرف إلى المعنى ومعناه المحسنون قريب من الجنة وهم المؤمنون
ثم قال عز وجل " وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته " يعني قدام المطر قرأ حمزة والكسائي " الريح " بلفظ الوحدان وقرأ الباقون " الرياح " بلفظ الجماعة واختار أبو عبيدة ان كل ما ذكر في القرآن من ذكر الرحمة فهو رياح وكل ما ذكر فيه العذاب فهو ريح واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا هبت الريح اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا
(1/538)
539
وقرأ ابن عامر " نشرا " بضم النون وجزم الشين وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع " نشرا " بضمتين وقرأ حمزة والكسائي " نشرا " بنصب النون وجزم الشين وقرأ عاصم " بشرا " بالباء ويكون من البشارة كما قال في آية أخرى " يرسل الرياح مبشرات " الروم 46
ومن قرأ " نشرا " بالنون والنصب يكون معناه ( يرسل الرياح ) تنشر السحاب نشرا ومن قرأ " نشرا " بضمتين يكون جمع نشور يقال ريح نشور تنشر نشرا السحاب ورياح نشر ومن قرأ بضمة واحدة لأنه لما اجتمعت الضمتان حذفت إحداهما للتخفيف
ثم قال تعالى " حتى إذا أقلت سحابا ثقالا " والسحاب جمع السحابة يعني الريح حملت سحابا ثقالا من الماء " سقناه لبلد ميت " يعني السحاب تمر بأمر الله تعالى إلى أرض ليس فيها نبات " فأنزلنا به الماء " يعني بالمكان ويقال بالسحاب " فأخرجنا به من كل الثمرات " يعني نخرج بالماء من الأرض من ألوان الثمرات
ثم قال " كذلك نخرج الموتى " يعني هكذا نحيي الموتى بالمطر كما أحييت الأرض الميتة بالمطر وذكر في الخبر انه إذا كان قبل النفخة الأخيرة أمطرت السماء أربعين ليلة مثل مني الرجال فتشرب الأرض فتنبت الأجساد بذلك الماء ثم ينفخ في الصور فإذا هم قيام ينظرون وفي هذه الآية إثبات القياس وهو رد المختلف فيه إلى المتفق عليه لأنهم كانوا متفقين أن الله تعالى هو الذي ينزل المطر ويخرج النبات من الأرض فاحتج عليهم لإحيائهم بعد الموت بإحياء الأرض بعد موتها
ثم قال " لعلكم تذكرون " يعني لكي تتعظوا وتعتبروا في البعث أنه كائن
سورة الأعراف 58
ثم ضرب مثلا للمؤمنين والكافرين فقال عز وجل " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه " يعني المكان العذب الزكي اللين من الأرض يخرج نباته إذا أمطرت فينتفغ به كذلك المؤمن يسمع الموعظة فتدخل في قلبه فينتفع بها وينفعه القرآن كما ينفع المطر البلد الطيب " والذي خبث لا يخرج إلا نكدا " يعني الأرض السبخة لا يخرج نباتها إلا من كد وعناء فكذلك الكافر لا يسمع الموعظة ولا يتكلم بالإيمان ولا يعمل بالطاعة إلا كرها لغير وجه الله
ثم قال " كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون " يعني هكذا نبين الآيات والعلامات والأمثال لمن آمن وشكر رب هذه النعم ووحده
سورة الأعراف 59 -
(1/539)
540
64
قوله تعالى " لقد أرسلنا نوحا إلى قومه " يعني بعثنا نوحا إلى قومه بالرسالة فاتاهم ويقال وجعلنا نوحا رسولا إلى قومه " فقال يا قوم اعبدوا الله " يعني وحدوا الله وأطيعوه " ما لكم من إله غيره " يعني ليس لكم رب سواه
قرأ الكسائي " إله غيره " بكسر الراء وقرأ الباقون " غيره " بضم الراء فمن قرأ بكسر الراء فلأجل " من " وجعله كله كلمة واحدة والغير تابعا له ومن قرأ بالضم فمعناه ما لكم إله غيره ودخلت " من " مؤكدة
ثم قال " إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " وهو الغرق
قوله تعالى " قال الملأ من قومه " وهم الرؤساء والأجلة والأشراف سموا بذلك لأنهم ملئوا بما يحتاج إليه منهم ويقال لأنهم ملؤوا الناظر هيبة إذا اجتمعوا في موضع قالوا " إنا لنراك في ضلال مبين " يعني في خطأ بين " قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين " وفي الآية بيان أدب للخلق في حسن الجواب والمخاطبة لأنه رد جهلهم بأحسن الجواب وهذا كما قال الله تبارك وتعالى " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سالما " الفرقان 63 يعني السداد من القول
ثم قال عز وجل " أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم " يعني أمنعكم من الفساد وأدعوكم إلى التوحيد وأحذركم من العذاب وقال أهل اللغة أنصح لكم وأنصحكم لغتان بمعنى واحد كما يقال شكرت لك وشكرتك
ثم قال " وأعلم من الله ما لا تعلمون " يعني أعلم أنكم إن لم تتوبوا يأتيكم العذاب وأنتم لا تعلمون ذلك وذلك أن سائر الأنبياء عليهم السلام خوفوا أممهم بعذاب الأمم السالفة كما قال شعيب لقومه " يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط عنكم ببعيد " هود 89 وأما قوم نوح فلم يكن بلغهم هلاك أمة قبلهم فقال لهم نوح " وأعلم من الله ما لا تعلمون " من العذاب الذي ينزل بكم فقال الكبراء للضعفاء لا تتبعوه فإن هذا بشر مثلكم فأجابهم نوح فقال " أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم " يعني ينزل الكتاب والرسالة على رجل منكم تعرفون حليته ونسبه " لينذركم " بالنار " ولتتقوا " بالشرك قال بعضهم هذه الواو صلة وهو زيادة في الكلام ومعناه " لينذركم " لكي تتقوا " ولعلكم ترحمون " يعني لكي تطيعوه فترحموا وتنجوا من العذاب قرأ أبو عمرو
(1/540)
541
" أبلغكم " بجزم الباء والتخفيف وقرأ الباقون " أبلغكم " بالتشديد من المبالغة
قوله تعالى " فكذبوه " يعني نوحا " فأنجيناه والذين معه في الفلك " يعني الذين اتبعوه من المؤمنين في السفينة والفلك اسم للواحد والجماعة يعني أنجينا المؤمنين من الغرق " وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين " عن نزول العذاب ويقال " عمين " عن الحق جعلوا أمره باطلا وقد بين الله تعالى قصته في سورة هود
سورة الأعراف 65 - 72
قوله تعالى " وإلى عاد أخاهم هودا " يعني أرسلنا إلى عاد نبيهم هودا عطفا على قوله " لقد أرسلنا نوحا إلى قومه " أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا وهود لم يكن أخاهم في الدين ولكن كان من نسبهم وقال السدي كانت عاد قوما من أهل اليمن فأتاهم هود فدعاهم إلى الإيمان والتوحيد وذكرهم ووعظهم فكذبوه ويقال عاد اسم ملك ينسب القوم كلهم إليه ويقال اسم القرية " قال يا قوم اعبدوا الله " يعني وحدوه " ما لكم من إله غيره " وقد ذكرناه " أفلا تتقون " يعني الشرك
قوله تعالى " قال الملأ الذين كفروا من قومه " وقد ذكرناه " إنا لنراك في سفاهة " يعني جهالة " وإنا لنظنك من الكاذبين " بأنك رسول الله " قال يا قوم ليس بي سفاهة " يعني جهالة " ولكني رسول من رب العالمين " إليكم " أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين " يعني كنت فيكم قبل اليوم أمينا فكيف تتهموني اليوم
قوله تعالى " أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم " يعني الرسالة والبيان " على رجل منكم " تعرفون نسبه " لينذركم " بالعذاب " واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح " يعني خليفة في الأرض بعد هلاك قوم نوح " وزادكم في الخلق بسطة " يعني فضيلة في الطول على
(1/541)
542
غيركم والخلفاء والخلائف جمع الخليفة
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " بسطة " بالسين وقرأ حمزة بإشمام الزاي وقرأ الباقون بالصاد قال ابن عباس كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعا وروى إبراهيم بن يوسف عن المسيب عن الكلبي قال كان طول قوم عاد أطولهم مائة وعشرين ذراعا وأقصرهم ثمانين ذراعا وقال مقاتل كان طول كل رجل منهم اثني عشرا ذراعا فذلك قوله " لم يخلق مثلها في البلد " الفجر 8 ويقال كان بين نوح وبين آدم عشرة آباء كلهم على الإسلام
وكان إدريس جد أبي نوح ولم يكن بين آدم ونوح نبي مرسل وكان إدريس نبيا ولم يؤمر بدعوة الخلق ويقال أنزل عليه عشرون صحيفة وقد آمن به كثير من الناس وكان بين نوح وإبراهيم ألف سنة ويقال ألفان وأربعون سنة وكان بين إبراهيم وموسى ألف سنة وكان بين موسى وعيسى ألف سنة وبين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وكان هود بين نوح وإبراهيم فلما دعا قومه فكذبوه أنذرهم بالعذاب فقال إن الله تعالى يرسل عليكم الريح فيهلككم بها فاستهزؤوا به وقالوا أي ريح تقدر علينا فأمر الله تعالى خازن الريح أن يخرج من الريح العقيم التي هي تحت الأرض مقدار ما يخرج من حلقة الخاتم كما قال في آية أخرى " وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم " الذاريات 41 فجاءتهم وحملت الرجال والدواب كالأوراق في الهواء فأهلكتهم كلهم فلم يبق منهم أحد كما قال " فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين " الأحقاف 25 وذلك بعد ما أنذرهم وأخذ عليهم الحجة وذكرهم نعم الله تعالى في حقهم قال لهم " فاذكروا آلاء الله " يعني اشكروا نعمة الله قال بعضهم الآلاء اتصال النعمة والنعماء دفع البلية وقال بعضهم على ضد هذا وقال أكثر المفسرين الآلاء والنعماء بمعنى واحد " لعلكم تفلحون " يعني أي لكي تنجوا من عذابه
قوله تعالى " قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده " يعني قالوا له يا هود أتأمرنا أن نعبد ربا واحدا " ونذر ما كان يعبد آباونا " يعني نترك عبادة آلهتنا التي كان يعبدها آباؤنا قال لهم هود عليه السلام إن لم تفعلوا ما آمركم يأتيكم العذاب قالوا " فأتنا بما تعدنا " يعني تخوفنا من العذاب " إن كنت من الصادقين " في أنك رسول الله
قوله تعالى " قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب " يعني وجب عليكم عذاب وغضب من ربكم " أتجادلولني في أسماء سميتموها أنتم وآباوكم " يعني تجعلون قول أنفسكم وقول آبائكم حجة من غير أن تثبت لكم من الله حجة وقد اتخذتم الأصنام بأيديكم وسميتموها آلهة " ما نزل الله بها من سلطان " يقول ليس لكم عذر وحجة في عبادة الأصنام " فانتظروا " أي الهلاك " إني معكم من المنتظرين " يعني الهلاك بكم لأنهم أرادوا أن(1/542)
يهلكوه
قوله تعالى " فأنجيناه والذين معه برحمة منا " يعني بنعمة منا عليهم " وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا " يعني قطع أصلهم واستأصلهم " وما كانوا مؤمنين " يعني الذين أهلكهم الله
543
تعالى كلهم كانوا كافرين
سورة الأعراف 73 - 74
قوله تعالى " وإلى ثمود أخاهم صالحا " يعني أرسلنا إلى ثمود نبيهم صالحا قال بعضهم " ثمود " اسم القرية وقال بعضهم " ثمود " اسم القبيلة وأصله في اللغة الماء القليل ويقال بئر كانت بين الشام والحجاز ويقال هي عين يخرج منها ماء قليل في تلك الأرض ويقال لها أرض الحجر كما قال في آية أخرى " ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين " الحجر 80 وقال بعضهم كان في تلك القرية تسعمائة أهل بيت وقال بعضهم ألف وخمسمائة فدعاهم صالح إلى الله تعالى سنين كثيرة فكذبوه وأرادوا قتله فخرجوا إلى عيد لهم فأتاهم صالح ودعاهم إلى الله تعالى فقالوا له إن كنت نبيا فأخرج لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء حتى نؤمن بك ونصدقك فقام صالح وصلى ركعتين ودعا الله تعالى فتحركت الصخرة فانصدعت عن ناقة عشراء ذات زغب فلم يؤمنوا به فولدت الناقة ولدا وقال بعضهم خرج ولدها خلفها من الصخرة فصارت الناقة بلية ومحنة عليهم وكانت من أعظم الأشياء فتأتي مراعيهم فتنفر منهم دوابهم وتأتي العين وتشرب جميع ما فيها من الماء فجعل صالح الماء قسمة بينهم يوما للناقة ويوما لأهل القرية فإذا كان اليوم الذي تشرب الناقة لا يحضر أحد العين وكانوا يحلبونها في ذلك اليوم مقدار ما يكفيهم وكان في المدنية تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون فاجتمعوا لقتل الناقة فقال لهم صالح لا تفعلوا فأنكم إذا قتلتموها يأتيكم العذاب فجاؤوا ووقفوا على طريق الناقة فلما مرت بهم الناقة متوجهة إلى العين رماها واحد منهم يقال له مصدع بن دهر فأصاب السهم رجل الناقة فلما رجعت الناقة من العين خرج قذار بن سالف وهو أشقى القوم كما قال الله تعالى " إذ انبعث أشقها " الشمس 12 فضربها بالسيف ضربة فقتلها وقسموا لحمها على أهل القرية
وروي عن الحسن البصري أنه قال لما عقرت ثمود الناقة ذهب فصيلها حتى صعد جبلا وقال ثلاث مرات أين أمي أين أمي أين أمي فأخبر بذلك صالح فقال يأتيكم العذاب بعد ثلاثة أيام فقالوا وما العلامة في ذلك فقال أن تصبحوا في اليوم الأول وجوهكم مصفرة وفي اليوم الثاني وجوهكم محمرة وفي اليوم الثالث وجوهكم مسودة ثم خرج
(1/543)
544
من بين أظهرهم مع من آمن منهم فأصبحوا في اليوم الأول وجعل بعضهم يقول لبعض قد اصفر وجهك وفي اليوم الثاني يقول بعضهم لبعض قد احمر وجهك وفي اليوم الثالث يقول بعضهم لبعض قد اسود وجهك فأيقنوا جميعا الهلاك فجاء جبريل عليه السلام وصاح بهم صيحة فماتوا كلهم ويقال قد أتتهم النار فأحرقتهم فذلك قوله " قال يا قوم اعبدوا الله " يعني وحدوا الله " ما لكم من إله غيره " قد ذكرناه
ثم قال " قد جاءتكم بينة من ربكم " يقول قد أتيتكم بعلامة نبوتي وهي الناقة كما قال الله تعالى " هذه ناقة الله لكم آية " يعني علامة لنبوتي لكي تعتبروا وتوحدوا الله ربكم " فذروها تأكل في أرض الله " يقول دعوها ترتع في أرض الحجر " ولا تمسوها بسوء " يقول لا تعقروها " فيأخذكم عذاب أليم " وهو ما عذبوا به
قوله تعالى " واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد " يعني من بعد هلاك عاد " وبوأكم في الأرض " يعني أنزلكم في أرض الحجر " تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا " وذلك أنه كانت لهم قصور يسكنون فيها أيام الصيف وقد اتخذوا بيوتا في الجبل لأيام الشتاء فذكرهم الله تعالى نعمته فقال واذكروا هذه النعم حيث وفقكم الله حين اتخذتم القصور في سهل الأرض واتخذتم البيوت في الجبال " فآذكروا آلاء الله " يعني نعم الله عليكم " ولا تعثوا في الأرض مفسدين " يعني لا تعملوا في الأرض بالمعاصي
سورة الأعراف 75 - 79
قوله تعالى " قال الملأ الذين استكبروا من قومه " قرأ ابن عامر " وقال الملأ " بالواو وقرأ الباقون بغير واوا يعني قال الملأ الذين تكبروا عن الإيمان من قومه وهم القادة " للذين استضعفوا " " لمن آمن منهم " بصالح " أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه " يعني أتصدقون صالحا بأنه مرسل من ربكم إليكم " قالوا " يعني المؤمنين " إنا بما أرسل به مؤمنون " يعني مصدقين به " قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون " يعني برسالة صالح
قوله تعالى " فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم " يعني عصوا وتركوا أمر ربهم وأبوا عن طاعته في التوحيد ويقال فيه تقديم ومعناه عتوا عن أمر ربهم وعقروا الناقة وروي عن ابن عباس أنه قال إنهم عقروا الناقة ليلة الأربعاء في عشية الثلاثاء فأهلكهم الله في يوم السبت
(1/544)
545
" وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا " يعني بما تخوفنا به من العذاب " إن كنت من المرسلين " يعني إن كنت رسول رب العالمين " فأخذتهم الرجفة " يعني الزلزلة ويقال صيحة جبريل كما قال " فأخذتهم الصيحة مصبحين " الحجر 83 وقيل الزلزلة ثم أخذتهم الصيحة بعد ويقال النار " فأصبحوا في دارهم جاثمين " يعني صاروا في مدينتهم ومنازلهم ميتين لا يتحركون وأصله من الجثوم ويقال أصابهم العذاب بكورة يوم الأحد
قوله تعالى " فتولى عنهم " فيه تقديم وتأخير يعني حين كذبوه خرج من بين أظهرهم " وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم " يعني دعوتكم إلى التوبة وحذرتكم بالعذاب " ولكن لا تحبون الناصحين " يعني لا تطيعون الداعين ويقال إنما قال ذلك بعد هلاكهم على وجه الحزن أي قد بلغتكم الرسالة وروي عن ابن عباس أنه قال إن الله تعالى لم يهلك قوما ما دام الرسول فيهم فإذا خرج من بين ظهرانيهم أتاهم ما أوعد لهم وقال في رواية الكلبي لما هلك قوم صالح رجع صالح ومن معه من المؤمنين فسكنوا ديارهم وقال في رواية الضحاك خرج صالح إلى مكة فكان هناك حتى قبضه الله تعالى
سورة الأعراف 80 - 84
قوله تعالى " ولوطا إذ قال لقومه " يعني وأرسلنا لوطا إلى قومه ويقال معناه واذكروا لوطا " إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة " يعني اللواطة " ما سبقكم بها " يعني لم يعمل مثل عملكم " من أحد من العالمين " قبلكم " إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء " يعني تجامعون الرجال من دون النساء يعني إن إتيان الرجال أشهى عندكم من إتيان النساء وقرأ أبو عمرو " آينكم " بالمد بغير همز وقرأ ابن كثير ونافع " إنكم " بهمزة واحدة بغير مد وقرأ الباقون بهمزتين بغير مد ومعنى ذلك كله واحد وهو الاستفهام
ثم قال " بل أنتم قوم مسرفون " يعني معتدين من الحلال إلى الحرام
قوله تعالى " وما كان جواب قومه " وإنما صار الجواب نصبا لأنه خبر كان والاسم هو ما بعده " إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون " يعني يتقذرون منا ويتنزهون عن فعلنا " فأنجيناه وأهله " يعني ابنتيه زعوراء وريثا " إلا امرأته " وهي واعلة " كانت من الغابرين " يعني من الباقين في الهلاك فيمن أهلكوا " وأمطرنا عليهم مطرا " يعني الحجارة ويقال أمطر للعذاب ومطر للرحمة ويقال أمطر ومطر بمعنى واحد " فانظر كيف كان عاقبة
(1/545)
546
المجرمين ) يعني كيف كان عاقبة أمرهم وقد بين قصته في سورة هود
وقال مجاهد لو أن الذي يعمل عمل قوم لوط اغتسل بكل قطرة في السماء وبكل قطرة في الأرض ما زال نجسا إلى يوم القيامة وقد اختلف الناس في حده قال بعضهم هو كالزاني فإن كان محصن رجم وإن كان غير محصن جلد وروي عن الشعبي أنه قال يرجم في الأحوال كلها محصنا كان أو غير محصن وروي عن علي بن أبي طالب أنه أتي برجل قد عمل ذلك العمل فأمر بأن يلقى من أشرف البناء منكوسا ثم يتبع بالحجارة لأن الله تعالى ذكر قتلهم بالحجارة قال بعضهم يعزر ويحبس حتى يظهر توبته ولا يحد وهو قول أبي حنيفة رحمه الله
سورة الأعراف 85 - 87
قوله تعالى " وإلى مدين أخاهم شعيبا " يعني أرسلنا إلى أهل مدين نبيهم شعيبا ومدين هو آل مدين وكان مدين بن إبراهيم خليل الرحمن تزوج ريثاء ابنة لوط فولدت آل مدين فتوالدوا وكثروا ثم صار هو اسما للمدينة فسميت المدينة مدين وسمي أولئك القوم مدين فكفروا بالله تعالى ونقصوا الميزان والمكيال في البيع وأظهروا الخيانة فبعث الله تعالى إليهم شعيبا وقال الضحاك كان شعيبا أفضلهم نسبا وأصدقهم حديثا وأحسنهم وجها ويقال إنه بكى من خشية الله تعالى حتى ذهب بصره وصار أعمى فدعا قومه إلى الله تعالى و " قال يا قوم اعبدوا الله " يعني وحدوه وأطيعوه " ما لكم من إله غيره قد جاءتكم موعظة من ربكم " قال بعضهم مجيء شعيب عليه السلام إليهم آية ولم يكن لشعيب علامة سوى مجيئه وإخباره بأن الله واحد وقال بعضهم كانت له علامة لأن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا وقد جعل له علامة ليظهر تصديق مقالته إلا أن الله تعالى لم يبين لنا علامته وقد بين علامة بعض الأنبياء ولم يبين علامة الجميع
ثم قال " فأوفوا الكيل والميزان بالقسط " يعني أتموا الكيل والميزان بالعدل " ولا تبخسوا الناس أشياءهم " يقول ولا تنقصوا الناس حقوقهم في البيع والشراء " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها " يعني لا تعملوا في الأرض بالمعاصي بعد ما بين الله تعالى طريق الحق
(1/546)
547
وأمركم بالطاعة " ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين " يعني وفاء الكيل وترك الفساد في الأرض خير لكم من النقصان والفساد في الأرض " إن كنتم مؤمنين " يعني مصدقين بما حرم الله عليكم
قوله تعالى " ولا تقعدوا بكل صراط توعدون " يعني لا ترصدوا بكل طريق توعدون أهل الإيمان بالقتل " وتصدون عن سبيل الله " يقول تمنعون الناس عن دين الله هو دين الإسلام " من آمن به " يعني شعيبا " وتبغونها عوجا " يقول تريدون بملة الإسلام زيغا وغيرا
وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله " بكل صراط توعدون " قال بكل سبيل حق تصدون الناس تخوفون الناس وتخوفون أهل الإيمان بشعيب
ثم قال " واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم " يعني كنتم قليلا في العدد فكثر عددكم ويقال كنتم فقراء فأغناكم وكثر أموالكم " وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين " يعني كيف صار آخر أمر المكذبين بالرسل يعني الذين قبلهم قوم نوح وقوم عاد وقوم هود وقوم صالح
ثم قال تعالى " وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به " يعني إن كان جماعة منكم صدقوا بي " وطائفة لم يؤمنوا " يعني أي لم يصدقوا بي " فاصبروا حتى يحكم الله بيننا " يعني حتى تنظروا أن عاقبة المؤمنين تكون أفضل أم عاقبة الكافرين فذلك قوله " حتى يحكم الله بيننا " يعني حتى يقضي الله بين المؤمنين وبين الكافرين " وهو خير الحاكمين " يعني أعدل العادلين
سورة الأعراف 88 - 93
قوله تعالى " قال الملأ الذين استكبروا من قومه " يعني الأشراف والرؤساء الذين تعظموا عن الإيمان " لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا " يعني لتدخلن في ديننا الذين نحن عليه ويقال هذا الخطاب لقومه الذين آمنوا لترجعن إلى ديننا كما كنتم " قال " لهم شعيب " أو لو كنا كارهين " يعني أتجبروننا على ذلك قالوا نعم قال لهم
(1/547)
548
شعيب " قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم " يقول قد اختلقنا على الله كذبا إن دخلنا في دينكم " بعد إذ نجانا الله منها " ويقال معناه كنا كاذبين مثلكم لو دخلنا في دينكم بعد إذ نجانا الله منها ويقول أكرمنا الله تعالى بالإسلام ولم يجعلنا من أهل الكفر وأنقذنا من ملتكم ويقال " بعد إذ " أكرمنا الله بالإسلام ولم يجعلنا من أهل الكفر " وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا " يعني ما ينبغي لنا وما يجوز لنا أن ندخل في ملتكم إلا أن يشاء الله يعني لا يشاء الله الكفر مثل قولك لا أكلمك حتى يبيض القار وحتى يشيب الغراب وهذا طريق المعتزلة
ثم قال " وسع ربنا كل شيء علما " يعني علم ما يكون منا من الخلق " على الله توكلنا " يعني فوضنا أمرنا إلى الله لقولهم " لنخرجنك يا شعيب " " ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق " يقول اقض بيننا وبين قومنا بالعدل وروى قتادة عن ابن عباس قال ما كنت أدري ما معنى قوله " ربنا افتح بيننا " حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لعلي بن أبي طالب تعالى أفاتحك يعني أحاكمك وقيل أخاصمك وقال القتبي الفتح أن تفتح شيئا مغلقا كقوله " حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها " الزمر 73 وسمي القضاء فتحا لأن القضاء فصل الأمور وفتح لما أشكل منها " وأنت خير الفاتحين " يعني خير الفاصلين
قوله تعالى " وقال الملأ الذين كفروا من قومه لأن اتبعتم شعيبا " يعني لئن أطعتم شعيبا في دينه " إنكم إذا لخاسرون " يعني جاهلين فلما وعظهم شعيب ولم يتعظوا أخبرهم أن العذاب نازل بهم فلم يصدقوه فخرج شعيب ومن آمن معه من بين أظهرهم فأصابهم يعني أهل القرية حر شديد فخرجوا من القرية ودخلوا غيضة كانت عند قريتهم وهي الأيكة كما قال في آية أخرى " كذب أصحاب لئيكة المرسلين " الشعراء 176 فأرسل الله تعالى نارا فأحرقت الأشجار ومن فيها من الناس ويقال أصابتهم الزلزلة فأتتهم نار فأحرقتهم فذلك قوله " فأخذتهم الرجفة " يعني الزلزلة والحر الشديد فهلكوا واحترقوا " فأصبحوا في دارهم جاثمين " يعني صاروا ميتين
قوله تعالى " الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها " يقال معناه من كان رآهم بعد إهلاكنا إياهم ظن أنه لم يكون هناك أحد يعني لم يعيشوا فيها قط وقال قتادة " كأن لم يغنوا " يعني كأن لم يتنعموا " فيها " ويقال كأن لم يعمروا ثم قال " الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين " يعني المغبونين في العقوبة يعني إنهم كانوا يقولون لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون فصار الذين كذبوا هم الخاسرون لا الذين آمنوا به
(1/548)
549
قوله تعالى " فتولى عنهم " يعني أعرض عنهم يعني حين خرج من بين أظهرهم " وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي " في نزول العذاب " ونصحت لكم " وقد ذكرناه " فكيف آسى على قوم كافرين " يعني أحزن بعد النصيحة على قوم إن عذبوا
سورة الأعراف 94 - 99
قوله تعالى " وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها " ففي الآية مضمر ومعناه وما أرسلنا في قرية من نبي فكذبوه إلا أخذنا أهلها " بالبأساء والضراء " يعني عاقبنا أهلها بالخوف والبلاء والقحط والفقر ويقال البأساء ما يصيبهم من الشدة في أموالهم والضراء ما يصيبهم في أنفسهم " لعلهم يضرعون " فأدغمت التاء في الضاد وأقيم التشديد مقامه ومعناه لكي يدعوا ربهم ويؤمنوا بالرسل ويعرفوا ضعف معبودهم
قوله تعالى " ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة " يعني حولنا مكان الشدة الرخاء ومكان الجدوبة الخصب " حتى عفوا " كثروا واستغنوا وكثرة أموالهم ولم يشكروا الله تعالى ويقال " حتى عفوا " أي حتى سروا به " وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء " يعني مثل ما أصاب آباءنا مرة يكون الرخاء ومرة يكون الشدة " فأخذتهم بغتة " يعني فجأة " وهم لا يشعرون " يعني أتاهم العذاب من حيث لم يعلموا به ويقال إن الشدة للعام تكون تنبيها وزجرا والنعمة تكون استدراجا وأما النعمة للخاص فهي تنبيه لأنه بعد ذلك عقوبة كما روي أن الله تعالى قال لموسى إذا رأيت الفقر مقبلا إليك فقل مرحبا بشعار الصالحين وإذا رأيت الغنى مقبلا إليك فقل ذنب عجلت عقوبته
قوله تعالى " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا " يعني وحدوا الله تعالى واتقوا الشرك " لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " يعني أنزلنا عليهم من السماء المطر والرزق والنبات من الأرض " ولكن كذبوا " الرسل " فأخذناهم " يعني عاقبناهم " بما كانوا يكسبون " من الشرك ففي الآية دليل أن الكفاية والسعة في الرزق من السعادة إذا كان المرء شاكرا وتكون
(1/549)
550
عقوبة له إذا لم يكن شاكرا لأنه قال في آية أخرى " لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة " الزخرف 33 يعني الغنى يكون وبالا لمن لم يشكر الله وعقوبة له
ثم قال تعالى " أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا " يعني أن ينزل عليهم عذابنا ليلا " وهم نائمون أو أمن أهل القرى " فتحت الواو لأنها واو العطف أدخلت عليها ألف الاستفهام وكذلك " أفأمن " لأنها فاء العطف أدخل عليها ألف الاستفهام قرأ نافع وابن كثير " أو أمن " بجزم الواو لأن أصله أو وأمن وأو حرف من حروف الشك فأدغم في حرف النسق " أن يأتيهم بأسنا ضحى " يعني يأتيهم عذابنا نهارا " وهم يلعبون " يعني لاهون عنه
ثم قال تعالى " أفأمنوا مكر الله " يعني عذاب الله " فلا يأمن مكر الله " يعني عذاب الله " إلا القوم الخاسرون " يعني المغبونين بالعقوبة
سورة الأعراف 100 - 102
قوله تعالى " أو لم يهد للذين يرثون الأرض " يعني أو لم يبين قال القتبي أصل الهدى الإرشاد كقوله " عسى ربي أن يهديني " يعني يرشدني ثم يصير الإرشاد على معان منها إرشاد تبيان مثل قوله " أو لم يهد للذين " يعني أو لم يبين لهم ومنها إرشاد بمعنى بالدعاء كقوله " ولكل قوم هاد " الرعد 7 يعني نبيا يدعوهم وقوله " وجعلنهم أئمة يهدون بأمرنا " الأنبياء 73 يعني يدعون الخلق وقرأ بعضهم " أو لم نهد بالنون " يعني أو لم نبين لهم الطريق ومن قرأ بالياء معناه أو لم يبين الله " أو لم نهد بالنون " يعني أو لم نبين لهم الطريق ومن قرأ بالياء معناه أو لم يبين الله " للذين يرثون الأرض من بعد أهلها " يعني ينزلون الأرض من بعد هلاك أهلها ويقال أولم نبين لأهل مكة هلاك الأمم الخالية كيف أهلكناهم ولم يقدر مبعودهم على نصرتهم " أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم " يعني أهلكناهم بذنوبهم كما أهلكنا من كان قبلهم عند التكذيب
ثم قال " ونطبع على قلوبهم " يعني نختم على قلوبهم بأعمالهم الخبيثة عقوبة لهم " فهم لا يسمعون " الحق ولا يقبلون الموعظة
قال عز وجل " تلك القرى نقص عليك من أنبائها " يعني تلك القرى التي أهلكنا أهلها نخبرك في القرآن من حديثها " ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات " يعني بالعلامات الواضحة والبراهين القاطعة التي لو اعتبروا بها لاهتدوا " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل " يعني أهل مكة لم يصدقوا بما كذب به الأمم الخالية وقال مجاهد فما كانوا ليؤمنوا
(1/550)
551
بعد العذاب بما كذبوا من قبل وهذا مثل قوله تعالى " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " الأنعام 28 وقال السدي " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا " يوم الميثاق يعني فما كانوا ليؤمنوا في دار الدنيا بما كذبوا من قبل يوم الميثاق وأقروا به وهو قوله " ألست بربكم قالوا بلى " الأعراف172 ثم قال في الدنيا وما وجدناهم على ذلك الإقرار ويقال " فما كانوا ليؤمنوا " عند مجيء الرسل " بما كذبوا من قبل " مجيء الرسل معناه أن مجيء الرسل لم ينفعهم " كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين " يعني هكذا يختم الله تعالى " على قلوب الكافرين " مجازاة لكفرهم
قوله تعالى " وما وجدنا لأكثرهم من عهد " " من " زيادة للصلة يعني ما وجدنا لأكثرهم من وفاء فيما أمروا به يعني الذين كذبوا وعذبوا من الأمم الخالية ويقال " ما وجدنا لأكثرهم من عهد " لأنهم أقروا يوم الميثاق ثم نقضوا العهد حيث كفروا ويقال " ما وجدنا لأكثرهم من عهد " أي من قبول العهد الذي عاهدوا على لسان الرسل
ثم قال " وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين " يعني وقد وجدنا أكثرهم لناقضين العهد تاركين لما أمروا به
سورة الأعراف 103 - 108
قوله تعالى " ثم بعثنا من بعدهم موسى " يعني أرسلنا من بعد الرسل الذين ذكرهم في هذه السورة ويقال ثم بعثنا من بعد هلاكهم موسى وهو موسى بن عمران " بآياتنا " يعني اليد البيضاء والعصا " إلى فرعون " وهو ملك مصر واسمه وليد بن مصعب وروي عن وهب بن منبه أنه قال كان فرعون في وقت يوسف فعاش إلى وقت موسى فبعث الله تعالى إليه موسى ليأخذ عليه العهد والحجة وأنكر عليه ذلك عامة المفسرين وقالوا هو كان غيره وكان جبارا ظهر بمصر واستولى عليها فأرسل الله تعالى إليه موسى فذلك قوله تعالى " ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه " يعني جنوده وأتباعه " فظلموا بها " يعني جحدوا بالآيات " فانظر كيف عاقبة المفسدين " يعني كيف صار آخر أمر المشركين وقال ابن عباس أول الآيات العصا فضرب بها موسى باب فرعون ففزع منها فرعون فشاب رأسه فاستحيا فخضب رأسه بالسواد فأول من خضب رأسه بالسواد فرعون قال ابن عباس كان طول العصا عشرة أذرع على طول موسى وكانت من آس الجنة يضرب بها الأرض فيخرج
(1/551)
552
النبات فلما دخل عليه مع هارون " وقال " له " موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين " إليك قال له فرعون كذبت قال له موسى " حقيق علي أن لا أقول على الله إلا الحق " قرأ نافع " حقيق " علي بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف على فمن قرأ بالتخفيف فمعناه واجب علي أن لا أقول يعني واجب بأن أترك القول على الله إلا الحق ومن قرأ بالتشديد معناه واجب علي ترك القول على الله إلا الحق فلما كذبوه قال إني لا أقول بغير برهان " قد جئتكم ببينة من ربكم " يعني جئتكم بعلامة لنبوتي " فأرسل معي بني إسرائيل " ولا تستعبدهم لأن فرعون كان قد استعبد بني إسرائيل واتخذهم سخرة ف " قال " له فرعون " إن كنت جئت بآية " يعني بعلامة لنبوتك " فأت بها إن كنت من الصادقين " بأنك رسول الله " فألقى عصاه " يعني ألقى موسى عصاه من يده " فإذا هي ثعبان مبين " وهي أعظم الحيات ويقال الثعبان الحية الذكر الصفراء والشقراء ويقال صارت حية من أعظم الحيات رأسها مع شرف قصر فرعون ففتحت فاها نحو فرعون وكان فرعون على سريره فوثب فرعون من سريره وهرب منها وهرب الناس وصاحوا إلى موسى ونادى فرعون يا موسى خذها عني فأخذها فإذا هي عصا بيده كما كانت وجعل الناس يضحكون مما صنع موسى ومعنى قوله " ثعبان مبين " يعني أنها حية تسعى لا لبس فيها فقال له فرعون هل معك غير هذا قال نعم " ونزع يده " يعني أخرج يده أخرجها من جيبه كما قال في آية أخرى " وأدخل يدك فى جيبك تخرج بيضاء من غير سوء " النمل12 يعني من غير برص " فإذا هي بيضاء للناظرين " يعني لها شعاع غلب على نور الشمس ومعنى قوله " للناظرين " يعني يتعجب ويتحير منها الناظرون ويقال إن البياض من غير برص لأن الناس يكرهون النظر إلى الأبرص فأخبر أن ذلك بياض ينظرون إليه ثم أدخل يده في جيبه وأخرجها فصارت كما كانت
سورة الأعراف 109 - 116
" قال الملأ من قوم فرعون " يعني الأشراف والرؤساء قال مقاتل يعني إن فرعون قال بهذه المقالة فصدقه قومه في سورة الشعراء " قال للملأ حوله إن هذا لسحر عليم " الشعراء34 يعني حاذق بالسحر
ثم قال قومه " إن هذا لساحر عليم " يعني تصديقا لقوله " يريد أن يخرجكم من
(1/552)
553
أرضكم ) بسحره يعني من أرض مصر فقال لهم فرعون " فماذا تأمرون " يعني ماذا تشيرون في أمره ويقال إن بعضهم قال لبعض فماذا تأمرون يعني ماذا ترون فيه " قالوا أرجه وأخاه " يعني احسبهما ولا تقتلهما وأصله في اللغة التأخير يعني أخر أمرهما حتى تجتمع السحرة فيغلبوهما فإنك إن قتلتهما قبل أن يظهر حالهما يظن الناس بأنهما صادقان فإذا تبين كذبهما عند الناس فاقتلهما حينئذ فذلك قوله " أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين " يعني الشرط يحشرون الناس إليك " يأتوك بكل ساحر عليم " أي حاذق بالسحر قرأ ابن كثير " أرجئهو " بالهمزة والواو بعد الهاء وقرأ الكسائي " أرجهي " بغير همز والياء بعد الهاء وكذلك نافع في رواية ورش وهكذا قرأ حمزة إلا أنه يكسر الهاء ولا يتبع الياء وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبو بكر وابن عامر في إحدى الروايتين " أرجئه " بالهمزة والضمة بغير مد وقرأ عاصم بالهمز وهذه لغات كلها مروية عن العرب وقرأ حمزة والكسائي " بكل سحار عليم " على وجه المبالغة في السحر وقرأ الباقون " بكل ساحر " وهكذا في يونس واتفقوا في الشعراء
قوله تعالى " وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا " يعني قالوا لفرعون أتعطينا جعلا ومالا " إن كنا نحن الغالبين " لموسى " قال " لهم فرعون " نعم " لكم الجعل " وإنكم لمن المقربين " يعني لكم المنزلة سوى العطية يعني أنكم تكونوا أول من يدخل علي بالسلام قرأ أبو عمرو " آين لنا لأجرا " بمد الألف وقرأ ابن كثير ونافع وحفص " إن لنا " بهمزة واحدة بغير ياء وقرأ عاصم وحمزة والكسائي " إن لنا " بهمزتين فلما اجتمعت السحرة ووعدوا للخروج يوما وأعلم الناس بخروجهم ليجتمعوا عند سحرتهم كما قال في آية أخرى " قال موعدكم يوم الزينة " طه 59 يعني يوم عيد كان لهم ويقال يوم النيروز فلما اجتمعوا قالت السحرة أي سحرة فرعون لموسى " قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين " يعني إما أن تطرح عصاك على الأرض وإما أن نكون نحن الملقين قبلك " قال " لهم موسى " ألقوا فلما ألقوا " يعني السحرة ألقوا الحبال والعصي " سحروا أعين الناس " يعين أخذوا أعينهم بالسحر " واسترهبوهم " يعني طلبوا رهبتهم حتى رهبهم الناس قال الكلبي كانت السحرة سبعين فألقوا سبعين عصا وسبعين حبلا وقال بعضهم كانوا اثنين وسبعين حبلا وروى الأسباط عن السدي قال قال ابن عباس كانوا بضعا وثلاثين ألفا وقال محمد بن إسحاق كانوا ألف رجل وخمسمائة رجل ومع كل واحد منهم عصا وقد كانوا خاطوا الحبال وجعلوها مموهة بالرصاص وحشوها بالزئبق حتى إذا ألقوها تحركت كأنها حيات لأن الزئبق لا يستقر في مكان واحد فلما طلعت عليها الشمس صارت شبيها بالحيات فنظر(1/553)
موسى فإذا الوادي قد امتلأ بالحيات فدخل فيه الخوف ونظر الناس إلى ذلك فخافوا من كثرة الحيات فذلك قوله " واسترهبوهم " يعني أفزعوهم وأخافوهم " وجاؤوا بسحر عظيم "
554
يعني بقول عظيم ويقال بسحر تام ويقال " وجاؤوا بسحر عظيم " يعني بقول عظيم حتى قالوا " بعزة فرعون إنا لنحن الغلبون " الشعراء 44 ويقال وجاؤوا بكذب عظيم
سورة الأعراف 117 - 127
قال الله تعالى " وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك " يعني اطرح عصاك إلى الأرض فألقى عصاه من يده فصارت حية أعظم من جميع حياتهم " فإذا هي تلقف ما يأفكون " يعني تلتقم وتأكل جميع ما جاؤوا به من الكذب والسحر قرأ عاصم في رواية حفص " تلقف " بجزم اللام وتشديد القاف وقرأ الباقون بنصب اللام وتشديد القاف ومعناهما واحد
وقصدت الحية إلى فرعون فنادى موسى فأخذها فإذا هي عصا على حالها فنظر السحرة فإذا حبالهم وعصيهم قد ذهبت " فوقع الحق " يعني استبان الحق فظهر أنه ليس بسحر " وبطل ما كانوا يعملون " من السحر يعني ذهب وهلك واضمحل " فغلبوا هنالك " وغلب موسى السحرة عند ذلك " وانقلبوا صاغرين " يعني رجعوا ذليلين قالوا لو كان هذا سحر فأين صارت حبالنا وعصينا ولو كانت سحرا لبقيت حبالنا وعصينا وهذا من الله تعالى وليس بسحر فآمنوا بموسى
قوله تعالى " وألقي السحرة ساجدين " يعني خروا لله تعالى ساجدين قال الأخفش من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا ويقال وفقهم الله تعالى للسجدة " قالوا آمنا برب العالمين " فقال لهم فرعون إياي تعنون فأراد أن يلبس على قومه فقالوا " رب موسى وهارون " فندم فرعون على ما سألهم لأن بعض الناس كانوا يظنون عند مقالتهم برب العالمين أنهم أرادوا به فرعون فلما سألهم فرعون وقالوا " برب موسى وهارون " ظهر عند جميع الناس أنهم لم يريدوا به فرعون وإنما أرادوا به الإيمان بموسى وبرب العالمين
" قال فرعون آمنتم به " يعني صدقتم بموسى " قبل أن آذن لكم " يعني قبل أن آمركم بالإيمان بموسى قرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير " آمنتم " بالمد وقرأ الباقون بغير مد بهمزتين ومعناهما واحد ويكون استفهاما إلا عاصم في رواية حفص قرأ آمنتم بهمزة واحدة
(1/554)
555
بغير مد على وجه الخبر " إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة " يعني صنع صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في المدينة " لتخرجوا منها أهلها " يعني إنكم أردتم أن تخرجوا الناس من مصر بسحركم
ثم قال لهم " فسوف تعلمون " يعني تعلمون ماذا أفعل بكم " لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف " يعني اليد اليمنى والرجل اليسرى " ثم لأصلبنكم أجمعين " على شاطئ نهر مصر " قالوا إنا إلى ربنا منقلبون " يعني لا نبالي من فعلك وعقوبتك فإن مرجعنا إلى الله تعالى يوم القيامة
قوله تعالى " وما تنقم منا " يعني وما تعيب علينا وما تنكر منا " إلا أن آمنا " بالله يعني إلا إيماننا بالله ويقال وما نقتمتك علينا ولم يكن منا ذنب " إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا " يعني لما ظهر عندنا أنه حق
ثم سألوا الله تعالى الصبر على ما يصيبهم لكي لا يرجعوا عن دينهم فقالوا " ربنا أفرغ علينا " يعني أنزل علينا " صبرا " عند القطع والصلب ومعناه ارزقنا الصبر وثبت قلوبنا حتى لا نرجع كفار " وتوفنا مسلمين " على دين موسى وروي عن عبيد الله بن عمير أنه قال كانت السحرة أول النهار كفارا سحرة وآخر النهار شهداء بررة وقال بعض الحكماء إن سحرة فرعون كانوا كفروا خمسين سنة فغفر لهم بإقرار واحد وبسجدة واحدة فالذي أقر وسجد خمسين سنة فكيف لا يرجو رحمته ومغفرته
قوله تعالى " وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض " يعني أن السحرة قد آمنوا به فلو تركهما يؤمن بهما جميع أهل مصر فيفسدوا في الأرض يعني موسى وقومه ويغيروا عليك دينك في أرض مصر " ويذرك وآلهتك " وذلك أن فرعون جعل لقومه أصناما يعبدونها وكان يقول لهم هؤلاء أربابكم الصغار وأنا ربكم الأعلى فذلك قوله " ويذرك وآلهتك " يعني يدعك ويدع أصنامك التي أمرت بعبادتها وروي عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه كان يقرأ " ويذرك وآلهتك " يعني عبادتك وتعبدك قال ابن عباس كان فرعون يعبد ولا يعبد ويقال معنى قوله " أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض " يعني يغلبوا عليكم ويقتلوا أبناءكم ويستحيوا نساءكم كما فعلتم بهم كما قال في آية أخرى " إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد " غافر 26 فقال فرعون " سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم " لأنهم قد كانوا تركوا قتل الأبناء فأمرهم بأن يرجعوا إلى فعل ذلك قرأ ابن كثير ونافع " سنقتل " بجزم القاف والتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد على معنى التكثير والمبالغة في القتل
ثم قال " وإنا فوقهم قاهرون " يعني مسلطون فشكت بنو إسرائيل إلى موسى
(1/555)
556
سورة الأعراف 128 - 131
ثم قال " قال موسى لقومه استعينوا بالله " يعني سلوا الله التوفيق " واصبروا " يعني اصبروا على أذاهم حتى يأتيكم المخرج " إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده " يعني أرض مصر ينزلها من يشاء من عباده ويقال الجنة قرأ عاصم في رواية حفص " يورثها " بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف وهما لغتان ورثت وأورثت بمعنى واحد
ثم قال " والعاقبة للمتقين " أي للمتقين الذين يعملون في طاعة الله تعالى على نور من الله مخافة عقاب الله ورجاء ثواب الله تعالى يعني آخر الأمر لهم وروي في الخبر أن مسيلمة الكذاب كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتابا من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإن الأرض بيني وبينكم نصفان إلا أن العرب قوم يظلمون الناس فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين
قوله تعالى " قالوا أودينا من قبل أن تأتينا " يعني أن قوم موسى قالوا لموسى إنهم قد عذبونا قبل أن تأتينا بالرسالة " ومن بعد ما جئتنا " لأن قوم فرعون كانوا يكلفون بني إسرائيل من العمل ما لا يطيقون وكان آل فرعون لا يعرفون شيئا من الأعمال وكانت بنو إسرائيل حذاقا في الأشياء والأعمال فكانوا يأمرونهم في العمل ولا يعطونهم الأجر " فقال " لهم موسى " عسى ربكم أن يهلك عدوكم " يعني فرعون وقومه " ويستخلفكم في الأرض " يعني يجعلكم سكانها من بعد هلاكهم يعني أرض مصر من بعد هلاك فرعون وقومه " فينظر كيف تعملون " يعني يبتليكم بالنعمة كما ابتلاكم بالشدة فيظهر عملكم في حال اليسر والشدة لأنه قد وعد لهم بقوله تبارك تعالى " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم إئمة ونجعلهم الورثين " القصص 5 ويقال " فينظر كيف تعملون " من بعده يعني من بعد انطلاق موسى إلى الجبل فعبدوا العجل
قوله تعالى " ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين " يعني بالجوع والقحط " ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون " يعني يتعظون ويؤمنون فلم يؤمنوا ولم يتعظوا
قال الله تعالى " فإذا جاءتهم الحسنة " يعني الخير والخصب والرخاء " قالوا لنا هذه "
(1/556)
557
يعني نحن أهل لهذه الحسنة وأحق بها " وإن تصبهم سيئة " يعني القحط والبلاء والشدة " يطيروا بموسى ومن معه " وأصله يتطيروا فأدغمت التاء في الطاء كقوله " يذكرون " وأصله يتذكرون يعني يتشاءمون بموسى ومن معه على دينه
قال الله تعالى " ألا إنما طائرهم عند الله " يعني إن الذي أصابهم من عند الله وبفعلهم ويقال إنما الشؤم الذي يلحقهم هو الذي وعدوا به في الآخرة لا ما ينالهم في الدنيا " ولكن أكثرهم لا يعلمون " أنه من الله تعالى ولا يعلمون ما عليهم في الآخرة
سورة الأعراف 132 - 137
قوله تعالى " وقالوا مهما تأتنا به من آية " يقول متى ما تأتنا ويقال كلما تأتنا وروي عن الخليل أنه قال " مهما تأتنا " هي متى الشرطية أدخلت معها ما الزائدة كقوله متى ما تأتني آتك وما زائدة فكأنه قال ما تأتنا به فأبدلوا الهاء من الألف وهكذا قال الزجاج
وقوله " به من آية " يعني من آية " لتسحرنا بها " يعني لتأخذ أعيننا بها " فما نحن لك بمؤمنين " يعني بمصدقين بأنك مبعوث ورسول من الله فغضب موسى عند ذلك فدعا عليهم قال الله تعالى " فأرسلنا عليهم الطوفان " وهو المطر الدائم من السبت إلى السبت حتى خربت بنيانهم وانقطعت السبل وكادت أن تصير مصرا بحرا واحدا فخافوا الغرق فاستغاثوا بموسى فأرسلوا إليه وقالوا اكشف عنا العذاب نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا موسى ربه فكشف عنهم المطر وأرسل الله عليهم الريح فجففت الأرض فخرج من النبات شيء لم يروا مثله بمصر قط قالوا هذا الذي جزعنا منه خير لنا ولكن لم نشعر به فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل فنقضوا العهد وعصوا ربهم فمكثوا شهرا فدعا عليهم موسى فأرسل الله تعالى كما قال تعالى " والجراد " مثل الليل فكانوا لا يرون الأرض ولا السماء من كثرتها فأكل كل شيء أنبتته الأرض فاستغاثوا بموسى وقالوا يا أيها الساحر يعني يا أيها العالم سل لنا ربك ليكشف عنا العذاب ونؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل
(1/557)
558
فدعا موسى ربه فأرسل الله تعالى ريحا فاحتملت الجراد وألقته في البحر فلم يبق في أرض مصر جرادة واحدة فقال لهم فرعون انظروا هل بقي شيء فنظروا فإذا هو قد بقي لهم بقية من كلئهم وزرعهم ما يكفيهم عامهم ذلك قالوا قد بقي لنا ما في بلغتنا هذه السنة فقالوا يا موسى لا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل فمكثوا شهرا ثم دعا عليهم فأرسل الله تعالى عليهم " القمل " قال قتادة القمل أولاد الجراد التي لا تطير وهكذا قال السدي وذكر عن أبي عبيدة أنه قال القمل عند العرب الحمنان وهو ضرب من القردان فلم يبق من أرض مصر عود أخضر إلا أكلته وأتاهم منه مثل السيل على وجه الأرض فأكل كل شيء في أرض مصر من نبات أو ثمر فصاحوا إلى موسى ادع لنا ربك هذه المرة يكشف عنا العذاب ونحن نطيعك ونعطيك عهدا موثقا لنؤمنن بك ولنرسلن معك بني إسرائيل فدعا موسى ربه فأرسل الله تعالى ريحا حارة فأحرقته فلم يبق منه شيء وحملته الريح فألقته في البحر فقال لهم موسى أرسلوا معي بني إسرائيل فقالوا له قد ذهبت الأنزال كلها فأي شيء تفعل بعد هذا فعلى أي شيء نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل اذهب فما استطعت أن تضر بنا فضرنا فإنا لو نؤمن بك ولن نرسل معك بني إسرائيل فمكثوا شهر فدعا الله تعالى عليهم موسى فأرسل الله تعالى " الضفادع " فخرجوا من البحر مثل الليل الدامس فغشوا أهل مصر ودخلوا البيوت ووقع على ثيابهم وفرشهم وسررهم وكان الرجل منهم يستيقظ في الليل وقد امتلأ فراشه من الضفادع فكان الرجل يكلم صاحبه يجعل فمه في أذنه ليسمع كلامه من كثرة نقيق الضفادع فضاق الأمر عليهم فصاحوا إلى موسى فقالوا يا موسى لئن رفعت عنها هذه الضفادع لنؤمنن بك ولنرسلن معك بني إسرائيل فدعا موسى ربه فأذهب الله تعالى عنهم الضفادع فقال لهم موسى أرسلوا معي بني إسرائيل فقالوا نعم اخرج بهم ولا تخرج معهم مواشيهم وأموالهم فقال لهم موسى إن الله أمرني أن أخرج بهم ولا أخلف من أموالهم ومواشيهم شيئا فقالوا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل فمكثوا شهرا فدعا عليهم فأرسل الله تعالى عليهم " الدم " فجرت أنهارهم دما فلم يكونوا يقدرون على الماء العذب ولا غيره وبنو إسرائيل في الماء العذب وكلما دخل رجل من آل فرعون يستقي من أنهار بني إسرائيل ماء صار الماء دما والماء من بين يديه ومن خلفه فركب فرعون وأشراف أصحابه فأتوا أنهار بني إسرائيل فإذا هي عذبة صافية فجعل يدخل فرعون الرجل منهم فإذا دخل واغترف صار الماء في يده دما فمكثوا كذلك سبعة أيام لا يشربون إلا الدم فمات كثير منهم في ذلك فاستغاثوا بموسى فقال فرعون اقسم بإلهك يا موسى لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن بك ولنرسلن معك بني(1/558)
إسرائيل فدعا موسى ربه فأذهب الله تعالى عنهم الدم وعذب ماؤهم وصفا فعادوا إلى كفرهم فذلك قوله تعالى " فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات " يعني متتابعات قال
(1/559)
559
الحسن وسعيد بن جبير وغيرهما كانوا يعافون بين كل آيتين شهرا فإذا جاءت الآية قامت عليهم سبعا من السبت إلى السبت وروي عن مجاهد أنه قال " الطوفان " المطر الكثير وقوله " آيات مفصلات " صار نصبا للحال
وقوله تعالى " فاستكبروا " يعني تعظموا عن الإيمان " وكانوا قوما مجرمين " يعني أقاموا على كفرهم
قوله تعالى " ولما وقع عليهم الرجز " يعني وجب عليهم العذاب وحل بهم " قالوا يا موسى ادع لنا ربك " يعني سل لنا ربك " بما عهد عندك " يعني بما أمرك ربك أن تدعو الله ويقال بالعهد الذي سل ربك " لئن كشفت عنا الرجز " يعني رفعت عنا العذاب " لنؤمنن لك " يعني لنصدقنك " ولنرسلن معك بني إسرائيل "
قال الله تعالى " فلما كشفنا عنهم الرجز " يعني العذاب " إلى أجل هم بالغوه " يعني إلى وقت الغرق ويقال إلى وقت بقية آجالهم " إذا هم ينكثون " يعني ينقضون العهد الذي عاهدوا عليه مع موسى
قال الله تعالى " فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم " يعني في البحر بلسان العبرانية وذلك أن الله تعالى أمر موسى بأن يخرج ببني إسرائيل من أرض مصر ليلا فاستعار نسوة من بني إسرائيل من نساء آل فرعون حليهن وثيابهن وقلن إن لنا خروجا فخرج موسى ببني إسرائيل في أول الليل وهم ستمائة ألف من رجل وامرأة وصبي فذكر ذلك لفرعون فتهيأ للخروج إليهم فلما كان وقت الصبح ركب فرعون ومعه ألف ألف ومائتا ألف رجل فأدركهم حين طلعت الشمس وانتهى موسى إلى البحر فضرب البحر فانفلق له اثنا عشرة طريقا وكانت بنو إسرائيل اثني عشر سبطا فعبر كل سبط في طريق وأقبل فرعون ومن معه حتى انتهوا إلى حيث عبر موسى فدخلوا في ذلك الطريق في طلبهم فلما دخل آخرهم وهم أولهم أن يخرج أمر الله تعالى البحر أن ينطبق عليهم فغرقهم فذلك قوله " فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا " يعني الآيات التسع وهي اليد والعصا والسنون ونقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم " آيات مفصلات " " وكانوا عنها غافلين " يعني معرضين فلم يتفكروا ولم يعتبروا بها حتى رجع موسى ببني إسرائيل فسكنوا أرض مصر فذلك قوله تعالى " وأورثنا القوم " يعني بني إسرائيل " الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض " يعني الأرض المقدسة " ومغاربها " يعني الأردن وفلسطين ويقال " مشارق الأرض " يعني الشام " ومغاربها " " التي باركنا فيها " يعني بالبركة الماء والثمار الكثيرة
وقال تعالى " وتمت كلمة ربك الحسنى " يقول وجبت نصرة ربك بالإحسان " على بني إسرائيل " قال مجاهد هو ظهور قوم موسى على فرعون وتمكين الله لهم في الأرض وقال
(1/560)
560
مقاتل يعني بالكلمة التي ذكرها في سورة القصص " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة الورثين " القصص 5 وقال الكلبي " وتمت كلمة ربك " يعني نعمة ربك " الحسنى " يعني أنهم يجزون الحسنى الجنة " بما صبروا " ولم يدخلوا في دين فرعون ويقال " وتمت كلمة ربك " يعني ما وعدهم الله من إهلاك عدوهم واستخلافهم
ثم قال " ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه " يعني أهلكنا ما كان يصنع فرعون وقومه وأبطلنا كيده ومكره " وما كانوا يعرشون " يعني أهلكنا ما كانوا يبنون من البيوت والكروم وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر " يعرشون " بضم الراء وقرأ الباقون بالكسر ومعناهما واحد
سورة الأعراف 138 - 141
قوله تعالى " وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم " يقول مروا على قوم " يعكفون على أصنام لهم " يعني يعبدون الأصنام ويقومون على عبادتها وكل من يلازم شيئا ويواظب عليه يقال عكفه ولهذا سمي الملازم للمسجد معتكفا " قالوا يا موسى اجعل لنا إلها " قال الجهال من بني إسرائيل لموسى " اجعل لنا إلها " نعبده " كما لهم آلهة " يعبدونها " قال " لهم موسى " إنكم قوم تجهلون " يعني تكلمتم بغير علم وعقل وجهلتم الأمر
قوله تعالى " إن هؤلاء متبر ما هم فيه " يعني مهلكا مفسدا ما هم فيه من عبادة الأصنام " وباطل " يعني ضلال " ما كانوا يعملون " والتبار الهلاك كقوله تعالى " ولا تزد الظالمين إلا تبارا " نوح 28 أي هلاكا
ثم " قال " تعالى لهم قل " أغير الله أبغيكم إلها " يعني أسوى الله آمركم أن تعبدوا وتتخذوا إلها " وهو فضلكم على العالمين " يعني على عالمي زمانكم يعني أنه قد أحسن إليكم فلا تعرفون إحسانه وتطلبون عبادة غيره وهم الذين كانوا أجابوا السامري حيث دعاهم إلى عبادة العجل بعد انطلاق موسى إلى الجبل
ثم ذكرهم النعم فقال عز وجل " وإذ أنجيناكم " يعني اذكروا حيث أنجاكم الله " من آل
(1/561)
561
فرعون ) وقرأ ابن عامر " وإذ أنجاكم " يعني اذكروا حيث أنجاكم الله " من آل فرعون " وقرأ الباقون " وإذ انجيناكم " معناه مثل ذلك " يسومونكم سوء العذاب " يعني يعذبونكم بأشد العذاب " يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم " يعني يستخدمون نساءكم " وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم " يعني في الإنجاء نعمة من ربكم عظيم ويقال في قتل الأبناء واستخدام النساء بلية من ربكم عظيمة قرأ نافع " يقتلون أبناءكم " بنصب الياء مع التخفيف وقرأ الباقون بضم الياء وكسر التاء مع التشديد على التكثير وقرأ حمزة والكسائي " يعكفون " بكسر الكاف وقرأ الباقون بالضم
سورة الأعراف 142 - 144
قوله تعالى " وواعدنا موسى ثلاثين ليلة " قرأ أبو عمرو " ووعدنا " بغير ألف والباقون بالألف ومعناهما واحد " وأتمممناها بعشر " يعني ثلاثين من ذي القعدة وعشرا من ذي الحجة ويقال ثلاثين من ذي الحجة وعشرا من المحرم والمناجاة في يوم عاشوراء وكانت المواعدة ثلاثين يوما وأمر بأن يصوم ثلاثين يوما فلما صام ثلاثين يوما أنكر خلوف فمه فاستاك بعود خرنوب ويقال بورقة موز فقالت له الملائكة كنا نجد من فيك ريح المسك فأفسدته بالسواك فأمر بأن يصوم عشرا أخر فصارت الجملة أربعين يوما كما قال في آية أخرى " وإذا وعدنا موسى أربعين ليلة " البقرة51 يعني صارت الجملة أربعين ولكن مرة ثلاثين يوما ومرة عشرة " فتم ميقات ربه أربعين ليلة " يعني ميعاد ربه
" وقال موسى لأخيه هارون " يعني قال له قبل انطلاقه إلى الجبل " اخلفني في قومي " يعني كن خليفتي على قومي " وأصلح " يعني مرهم بالصلاح ويقال وأصلح بينهم ويقال ارفق لهم " ولا تتبع سبيل المفسدين " يعني لا تتبع طريق العاصين ولا ترضى به واتبع سبيل المطيعين وقال بعض الحكماء من هاهنا ترك قومه عبادة الله وعبدوا العجل لأنه سلمهم إلى هارون ولم يسلمهم إلى ربهم ولهذا لم يستخلف النبي صلى الله عليه وسلم بعده وسلم أمر أمته إلى الله تعالى فاختار لأمته أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر الصديق فأصلح بينهم
(1/562)
562
قوله تعالى " ولما جاء موسى لميقاتنا " يعني لميعادنا لتمام أربعين يوما ويقال " لميقاتنا " يعني للوقت الذي وقتنا له " وكلمة ربه " فسمع موسى كلام الله تعالى بغير وحي فاشتاق إلى رؤيته " قال رب أرني أنظر إليك " " انظر " صار جزما لأنه جواب الأمر " قال " له ربه " لن تراني " يعني إنك تراني في الدنيا " ولكن انظر إلى الجبل " يعني انظر إلى أعظم جبل بمدين " فإن استقر مكانه فسوف تراني " يعني سوف تقدر أن تراني إن استقر الجبل مكانه معناه كما أن الجبل لا يستقر لرؤيتي فإنك لن تطيق رؤيتي " فلما تجلى ربه للجبل " قال الضحاك ألقى عليه من نوره فاضطرب الجبل من هيبته يعني من رهبة الله تعالى وقال القتبي " تجلى " أي ظهر وأظهر من أمره ما شاء يقال جلوت المرآة والسيف إذا أبرزته من الصدأ وكشفت عنه وجلوت العروس إذا أبرزتها " فما تجلى ربه للجبل " يعني جبل زبير " جعله دكا " قرأ حمزة والكسائي " دكاء " بالمد والهمز يعني جعله أرضا دكاء وقرأ الباقون " دكا " بالتنوين يعني دكه دكا قال بعضهم صار الجبل قطعا فصار على ثمان قطع فوقع ثلاث بمكة وثلاث بالمدينة واثنان بالشام ويقال صار ستة فرق ويقال صار أربع فرق ويقال صار كله رملا عالجا وروي عكرمة عن ابن عباس أنه قال " جعله دكا " أي ترابا وقال القتبي " جعله دكا " أي ألصقه بالأرض ويقال ناقة دكاء إذا لم يكن لها سنام وروي عن وهب بن منبه قال لما سأل موسى النظر إلى ربه أمر الله الضباب والصواعق والظلمات والرعد والبرق فهبطن حتى أحطن بالجبل وأمر الله تعالى ملائكة السموات فهبطوا وارتعدت فرائض موسى وتغير لونه فقال له جبريل اصبر لما سألت ربك فإنما رأيت قليلا من كثير فلما غشي الجبل النور خمد كل شيء وانقطعت أصوات الملائكة وانهار الجبل من خشية الله تعالى حتى صار دكا
قوله تعالى " وخر موسى صعقا " قال مقاتل يعني ميتا كقوله عز وجل " فصعق من في السموات " سورة الزمر 68 يعني مات ويقال " وخر موسى صعقا " يعني مغشيا عليه " فلما أفاق " من غشيانه قال مقاتل رد الله حياته إليه " قال سبحانك " يعني تنزيها لك " تبت إليك " من قولي " وأنا أول المؤمنين " روى الربيع بن أنس عن أبي العالية قال قد كان قبله من المؤمنين ولكن يقول أنا أول من آمن به بأنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة وقال مقاتل " وأنا أول المؤمنين " بأنك لا ترى في الدنيا ويقال معناه تبت إليك بأن لا أسألك بعد هذا سؤالا محالا فاعترف أنه طلب شيئا في غير حينه وأوانه ووقته وقال الزجاج قد قال موسى " أرني أنظر إليك " يعني أرني أمرا عظيما لا يرى مثله في الدنيا مما لا تحتمل عليه نفسي " فلما تجلى ربه للجبل " أي أمر به قال وهذا(1/563)
خطأ ولكن لما سمع كلامه قال يا رب إني سمعت كلامك وأحب أن أراك
قوله تعالى " قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي " يعني على بني
563
إسرائيل يعني إني اصطفيتك بنبوتي قرأ ابن كثير ونافع " برسالتي " وقرأ الباقون " برسالاتي " بلفظ الجماعة ومعناهما واحد يعني اختصصتك بالنبوة " وبكلامي " يعني بتكلمي معك من غير وحي " فخذ ما آتيتك " يعني اعمل بما أعطيتك " وكن من الشاكرين " لما أعطيتك وقال القتبي قوله " وأنا أول المؤمنين " أراد به في زمانه كقوله " وأني فضلتكم على العالمين " البقرة 47
سورة الأعراف 145 - 147
قوله تعالى " وكتبنا له في الألواح " روي سعيد بن جبير عن ابن عباس قال أعطى الله تعالى موسى التوراة في سبعة ألواح من زبرجد فيها تبيان لكل شيء وموعظة قال التوراة مكتوبة ويقال طول الألواح عشرة أذرع فيها " من كل شيء موعظة " من الجهل " وتفصيلا " يعني بيانا " لكل شيء " من الحلال والحرام
قال الفقيه حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا إسحاق بن عبد الرحمن القاري قال حدثنا أبو بكر بن أبي العوام قال حدثنا أبي قال حدثنا يحيى بن سابق عن خثيمة بن خليفة عن ربيعة عن أبي جعفر عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كان فيما أعطى الله موسى في الألواح عشرة أبواب يا موسى لا تشرك بي شيئا فقد حق القول مني لتلفحن وجوه المشركين النار واشكر لي ولوالديك أقك المتالف وأنسى لك في عمرك وأحييك حياة طيبة وأقلبك إلى خير منها ولا تقتل النفس التي حرمتها إلا بالحق فتضيق عليك الأرض برحبها والسماء بأقطارها وتبوء بسخطي في ناري ولا تحلف باسمي كاذبا فإني لا أطهر ولا أزكي من لم ينزهني ولم يعظم أسمائي ولا تحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله فإن الحاسد عدو لنعمتي راد لقضائي ساخط لقسمتي التي أقسم بين عبادي ولا تشهد بما لم يقع بسمعك ويحفظ قلبك فإني أوفق أهل الشهادات على شهاداتهم يوم القيامة ثم أسألهم عنها سؤالا حثيثا ولا تزن ولا تسرق فأحجب عنك وجهي وأغلق عنك أبواب السماء وأحبب للناس ما تحب لنفسك ولا تذك لغيري فإني لا أقبل من القربان إلا ما
(1/564)
564
ذكر عليه اسمي وكان خالصا لوجهي وتفرغ لي يوم السبت وجميع أهل بيتك فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى جعل يوم السبت لموسى عيدا واختار لنا يوم الجمعة فجعلها لنا عيدا
قوله تعالى " فخذها بقوة " يعني اعمل بما أمرك الله بجد ومواظبة عليها " وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " يعملوا بما فيها من الحلال والحرام ويقال مرهم بالخير وانههم عن الشر يعني اعملوا بالخير وامتنعوا عن الشر ويقال اعملوا بأحسن الوجوه وهو أنه لو يكافئ ظالمه منه جاز ولو تجاوز عنه كان أحسن وقال الكلبي كان موسى أشد عبادة من قومه فأمر بما لم يؤمروا به يعني أمر بأن يعمل بالمواظبة وأمر قومه بأن يأخذوا بأحسن العمل
ثم قال " سأريكم دار الفاسقين " قال مقاتل يعني سنة أهل مصر أي هلاكهم حين قذفهم البحر فأراهم سنة الفاسقين في التقديم ويقال جهنم هي دار الكافرين ويقال إذا سافروا يريهم منازل عاد وثمود وقال مجاهد مصيرهم في الآخرة إلى النار
قوله تعالى " سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون " يعني أصرف قلوب الذين يتكبرون عن الإيمان حتى لا يؤمنوا فأخذتهم بكفرهم ولا أوفقهم بتكذيبهم الأنبياء مجازاة لهم ويقال أمنع قلوبهم من التفكر في أمر الدين وفي خلق السموات والأرض الذين يتكبرون " في الأرض بغير الحق " يعني يظنون أنهم أفضل الخلق وليسوا كذلك ولهذا قال " بغير الحق " وقيل " يتكبرون " يعني يتعظمون عن الإيمان لكي لا يتفكروا في السماء ولا يعقلون فيها ولا يذكرونها ويقال سأصرف عن النعماء التي أعطيتها المؤمنين يوم القيامة أصرفهم عن تلك النعمة " وإن يروا كل آية " يمنعوا منها كي " لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد " يعني طريق الحق الإسلام " لا يتخذوه سبيلا " يعني لا يتخذوه دينا " وإن يروا سبيل الغي يعني طريق الضلالة والكفر " يتخذوه سبيلا " يعني دينا ويتبعونه " ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا " قال مقاتل يعني بآياتنا التسع وقال الكلبي يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " وكانوا عنها غافلين " يعني تاركين لها قرأ حمزة والكسائي " سبيل الرشد " بنصب الراء والشين وقرأ الباقون " الرشد " بضم الراء وإسكان الشين وهما لغتان ومعناهما واحد
ثم قال عز وجل " والذين كذبوا بآياتنا " أي بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " ولقاء الآخرة " يعني كذبوا بالبعث بعد الموت " حبطت أعمالهم " يعني بطلت حسناتهم " هل يجزون " يعني هل يثابون " إلا ما كانوا يعملون " يعني في الدنيا
سورة الأعراف
(1/565)
565
148 - 149
قوله تعالى " واتخذ قوم موسى من بعده " يعني من بعد انطلاقه إلى الجبل " من حليهم عجلا جسدا له خوار " وذلك أن موسى عليه السلام لما وعد لقومه ثلاثين يوما فتأخر عن ذلك قال السامري لقوم موسى إنكم أخذتم الحلي من آل فرعون فعاقبكم الله تعالى بتلك الخيانة ومنع الله تعالى عنا موسى فاجمعوا الحلي الذي أخذتم من آل فرعون حتى نحرقها فلعل الله تعالى يرد علينا موسى فجمعوا الحلي وكان السامري صائغا فجعل الحلي في النار واتخذ منه عجلا وقد كان رأي جبريل على فرس الحياة فكلما وضع الفرس حافره ظهر النبات في موضع حافره فأخذ كفا من أثر حافره من التراب وألقى ذلك التراب في العجل فصار عجلا جسدا فذلك قوله " من حليهم عجلا جسدا " قال الزجاج الجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز إنما معنى الجسد يعني الجثة فقط وروي عن ابن عباس صار عجلا له لحم ودم وله خوار يعني صوت ولم يسمع منه إلا صوت واحد وقال بعضهم جعله مشتبكا يدخل فيه الريح فيسمع منه صوت مثل صوت العجل فقال لقومه هذا إلهكم وإله موسى فاغتر به الجهال من بني إسرائيل وعبدوه
قال الله تعالى " ألم يروا أنه لا يكلمهم " يعني لا يقدر على أن يكلمهم " ولا يهديهم سبيلا " يعني لا يرشدهم طريقا " اتخذوه وكانوا ظالمين " يعني كافرين بعبادتهم إياه وقرأ حمزة والكسائي " من حليهم " بكسر الحاء وقرأ الباقون " من حليهم " بضم الحاء فمن قرأ بالكسر فهو اسم لما يتحسن به من الذهب والفضة ومن قرأ بالضم فهو جمع الحلي ويقال كلاهما جمع الحلي وأصله الضم إلا أن من كسره فلاتباع الكسرة بالكسرة
قوله " ولما سقط في أيديهم " يعني ندموا على ما صنعوا يقال سقط في يده إذا ندم وأصله أن الإنسان إذا ندم جعل يده على رأسه
" ورأوا أنهم قد ضلوا " يعني علموا أنهم ضلوا عن الهدى " قالوا لئن لم يرحمنا ربنا " قرأ حمزة والكسائي " لئن لم ترحمنا " بالتاء على معنى المخاطبة " ربنا " بالنصب يعني يا ربنا وقرأ الباقون " لئن لم يرحمنا ربنا " بالياء معنى الخبر " ربنا " بالضم " ويغفر لنا " بعد التوبة " لنكونن من الخاسرين " يعني من المغبونين
سورة الأعراف
(1/566)
566
150 - 151
قوله تعالى " ولما رجع موسى إلى قومه " يعني من الجبل " غضبان أسفا " يعني حزينا والأسف في اللغة شدة الغضب ومنه قوله تعالى " فلما ءاسفونا انتقمنا منهم " الزخرف 55 ويقال أشد الحزن كقوله " يأسفي على يوسف " يوسف 84 " قال بئسما خلفتموني من بعدي " يعني بعبادة العجل يعني بئس ما فعلتم في غيبتي " أعجلتم أمر ربكم " يعني استعجلتم ميعاد ربكم ويقال أعصيتم أمر ربكم ويقال معناه " أعجلتم " بالفعل الذي استوجبتم به عقوبكم ربكم " وألقى الألواح " من يده قال الكلبي انكسرت الألواح وصعد عامة الكلام الذي كان فيها من كلام الله تعالى إلى السماء وقال بعضهم هذا الكلام في ظاهرة غير سديد لأن الكلام صفة والصفة لا تفارق الموصوف فلا يجوز أن يقال الكلام يصعد ويذهب ولكن تأويله أن الألواح لما انكسرت ذهب أثر المكتوب منها وهذا إذا كان من غير الأحكام وأما الأحكام أيضا فلا يجوز أن تذهب عنه وإنما أراد بذلك حجة عليهم وروي في الخبر أن الله تعالى أخبر موسى أن قومه عبدوا العجل قال موسى يا رب من اتخذ لهم العجل قال السامري قال من جعل فيه الروح قال أنا قال فأنت فتنت قومي قال له ربه تركتهم لمرادهم وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس الخبر كالمعاينة لما أخبر الله موسى بأن قومه قد عبدوا العجل لم يلق الألواح فلما عاين ألقى الألواح
ثم قال تعالى " وأخذ برأس أخيه " يعني أخذ بشعر رأسه ولحيته " يجره إليه قال ابن أم " يعني قال له هارون يا ابن أمي لا تأخذ بلحيتي قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص يا " ابن أم " بنصب الميم وقرأ الباقون بالكسر وهكذا في سورة طه فمن قرأ بالنصب جعله كاسم واحد كأنه يقول يا ابن أماه كما يقال يا ويلتاه ويا حسرتاه ومن قرأ بالكسر فهو على معنى الإضافة إلى نفسه وكان موسى أخاه لأبيه وأمه ولكن ذكر الأم ليرققه عليه
قال " إن القوم استضعفوني " يعني قهروني واستذلوني " وكادوا يقتلونني " يعني هموا بقتلي " فلا تشمت بي الأعداء " يعني لا تفرح علي أعدائي يعني الشياطين ويقال أصحاب العجل " ولا تجعلني مع القوم الظالمين " يعني لا تظنن أني رضيت بما فعلوا قال موسى " رب اغفر لي " بما فعلت بأخي هارون ويقال لإلقاء الألواح " و " اغفر " لأخي " ما كان منه من التقصير في تركهم على عبادة العجل " وأدخلنا في رحمتك " يعني جنتك " وأنت أرحم الراحمين " يعني أنت أرحم بنا منا بأنفسنا وقال الحسن يعني أنت أرحم بنا من الأبوين
(1/567)
567
سورة الأعراف 152 - 154
قوله تعالى " إن الذين اتخذوا العجل " يعني الذين اتخذوا العجل إلها " سينالهم غضب من ربهم " يعني يصيبهم عذاب من ربهم " وذلة في الحياة الدنيا " وهو ما أمروا بقتل أنفسهم ويقال هذا قول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم يعني يصيب أولادهم ذلة في الحياة الدنيا وهي الجزية " وكذلك نجزي المفترين " يعني هكذا نعاقب المكذبين
ثم قال تعالى " والذين عملوا السيئات " يعني الشرك بالله " ثم تابوا " يعني رجعوا عن الشرك بالله وعن السيئة " وآمنوا " يعني صدقوا بوحدانية الله تعالى " إن ربك من بعدها " يعني من بعد التوبة " لغفور رحيم " يقال من بعد السيئات يعني " لغفور " لذنوبهم " رحيم " بهم بعد التوبة
ثم رجع إلى قصة موسى وهو قوله تعالى " ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح " يعني لما سكن عن موسى الغضب " أخذ الألواح وفي نسختها " يعني في بقيتها فنسخت له الألواح يعني وأعيدت له في اللوحين مكان التي انكسرت " هدى ورحمة " يعني فيما بقي منها بيانا من الضلالة ورحمة من العذاب " للذين هم لربهم يرهبون " يعني يخافون الله ويعلمون له بالغيب ويقال " وفي نسختها " يعني في كتابها هدى من الضلالة ورحمة من العذاب للذين يخشون ربهم
سورة الأعراف 155
قوله تعالى " واختار موسى قومه " أي من قومه " سبعين رجلا لميقاتنا " يعني للميقات الذي وقتنا له " فلما أخذتهم الرجفة " يعني الزلزلة تزلزل الجبل بهم فماتوا " قال " موسى " رب لو شئت أهلكتهم من قبل " يعني من قبل أن يصحبوني " وإياي " بقتل القبطي " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " قال الكلبي ظن موسى أنه إنما أهلكهم باتخاذ بني إسرائيل العجل آلها وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال انطلق موسى وهارون ومعهما شبر وشبير وهما ابنا هارون حتى انتهوا إلى جبل فيه سرير فنام عليه هارون فقبض فرجع موسى إلى
(1/568)
568
قومه فقالوا له أنت قتلته حسدا على خلقه ولينه فقال كيف أقتله ومعي ابناه فاختاروا من شئتم فاختاروا سبعين فانتهوا إليه فقالوا له من قتلك يا هارون قال ما قتلني أحد ولكن توفاني الله تعالى فأخذتهم الرجفة فماتوا كلهم فقال موسى " رب لو شئت أهلكتهم من قبل " وإياي وروي عن ابن عباس أنه قال لما انطلق موسى إلى الجبل أمر بأن يختار سبعين رجلا من قومه فاختار من كل سبط ستة رجال فبغلوا اثنين وسبعين فقال موسى إني أمرت بسبعين فليرجع اثنان ولهما أجر من حضر فرجع يوشع بن نون وكالوب بن يوقنا فذهب موسى مع السبعين إلى الجبل فلما رجع إليهم موسى من المناجاة قالوا له إنك قد لقيت ربك فأرنا الله جهرة حتى نراه كما رأيته فجاءتهم نار فأحرقتهم فماتوا فقال موسى حين أماتهم الله ( رب لو شئت أهلكتهم من قبل ) هذا اليوم " وإياي " معهم " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " يعني أتوقعني في ملامة بني إسرائيل وتعييرهم بفعل هؤلاء السفهاء ثم أحياهم الله تعالى
وروى أسباط عن السدي قال إن موسى انطلق بسبعين من بني إسرائيل يعتذرون إلى ربهم عن عبادة العجل وذكر نحو حديث عبد الله بن عباس ثم قال " إن هي إلا فتنتك " يعني بليتك وعذابك ويقال عبادة العجل بليتك حيث جعلت الروح فيه " تضل بها " يعني بالفتنة " من تشاء وتهدي من تشاء " من الفتنة " أنت ولينا " يعني حافظنا وناصرنا " فاغفر لنا " ذنوبنا " وارحمنا " يعني ولا تعذبنا " وأنت خير الغافرين " يعني المتجاوزين عن الذنوب
سورة الأعراف 156
قوله تعالى " واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة " يعني اقض لنا وأعطنا في الدنيا العلم والعبادة والنصرة والرزق الحلال الحسن " وفي الآخرة حسنة " يعني أعطنا في الآخرة حسنة وهي الجنة ( إنا هدنا إليك ) يعني تبنا إليك وأقبلنا إليك هكذا قال عكرمة ومجاهد وعطاء وقتادة وأصله في اللغة الرجوع من الشيء إلى الشيء " قال عذابي أصيب به من أشاء " من عبادي يعني هذا عذابي أخص به من أشاء من العباد من كان أهلا لذلك " ورحمتي وسعت كل شيء " إن رحمتهم ويقال إن الزلزلة والرجفة كانتا عذابي وأنا أنزلتهما وأنا أصيب بالعذاب من أشاء وما سألت من الغفران فمن رحمتي " ورحمتي وسعت كل شيء " من كان أهلا لها ويقال لكل شيء حظ من رحمتي
وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن قتادة والحسن قالا " ورحمتي وسعت كل شيء " يعني وسعت في الدنيا البر والفاجر هي يوم القيامة للذين اتقوا خاصة ويقال لما نزلت هذه الآية " ورحمتي وسعت كل شيء " تطاول إبليس وقال انا من تلك الأشياء فأكذبه
(1/569)
569
الله تعالى وآيسه فأنزل " فسأكتبها للذين يتقون " يعني فسأقضيها وسأوجهها للذين يتقون الشرك " ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون " وقالت اليهود والنصارى نحن آمنا بالآيات وهي التوراة والإنجيل ونعطي الزكاة فهذه الرحمة لنا فأكذبهم الله تعالى فنزل " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي " الآية ويقال " ورحمتي وسعت كل شيء " يعني طمع كل قوم برحمتي وأنا أوجبتها للمؤمنين وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يتقون الشرك " ويؤتون الزكاة " " والذين هم بآياتنا يؤمنون " يعني يصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن
سورة الأعراف 157
قوله تعالى " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم الذي لا يكتب ولا يقرأ الكتب قال الزجاج " الأمي " الذي هو على خلقه أمه لم يتعلم الكتابة وهو على جبلته ويقال إنما سمى محمد أميا لأنه كان من أم القرى وهي مكة
ثم قال " الذين يجدونه مكتوبا عندهم " يعني يجدون نعته وصفته " مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف " يعني شرائع الإسلام وبالتوحيد " وينهاهم عن المنكر " عن الشرك وما لا يعرف في الشريعة ولا السنة " ويحل لهم الطيبات " يعني يرخص لهم الحلالات من اللحوم والشحوم وأشبهاهما " ويحرم عليهم الخبائث " يعني ويبين لهم الحرام الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر " ويضع عنهم إصرهم " يعني ثقلهم من العهود قرأ ابن عامر " آصارهم " على معنى الجماعة وأصل الإصر الثقل فسمي العهد إصرا لأن حفظ العهد يكون ثقيلا ويقال يعني الأمور التي كانت عليهم في الشرائع ويقال هو ما عهد عليهم من تحريم الطيبات
ثم قال " والأغلال التي كانت عليهم " وهي كناية عن أمور شديدة لأن في الشريعة الأولى كان الواحد منهم إذا أصابه البول في ثوبه وجب قطعه وكان عليهم ألا يعملوا في السبت وغير ذلك من الأعمال الشديدة فوضع عنهم ذلك
ثم قال " فالذين آمنوا به " يعني صدقوه وأقروا بنبوته " وعزروه " يعني عظموه وشرفوه ويقال أعانوه " ونصروه " بالسيف " واتبعوا النور " يعني القرآن " الذي أنزل معه أولئك " يعني أهل هذه الصفة " هم المفلحون " الناجون في الآخرة وهم في الرحمة التي قال الله تعالى " ورحمتي وسعت كل شيء " الأعراف 156
(1/570)
570
سورة الأعراف 158
قوله تعالى " قل يا أيها الناس " يعني يا أهل مكة ويقال هو لجميع الناس " إني رسول الله إليكم جميعا " ويقال إنه أول نداء نادى به في مكة بهذه الآية وكان من قبل يدعو واحدا واحدا فلما نزلت هذه الآية أظهر ونادى في الناس " يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا " من ذلك الرب " الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو " يعني لا خالق ولا رازق في السماء ولا في الأرض إلا هو " يحيي ويميت " يعني يحيي الأموات للبعث ويميت الأحياء في الدنيا ويقال " يحيي " يعني يخلق الخلق من النطفة ويميتهم عند انقضاء آجالهم " فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله " يعني يصدق بالله " وكلماته " يعني القرآن قال السدي " وكلمته " يعني صدق بأن عيسى صار مخلوقا بكلمة الله " واتبعوه " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " لعلكم تهتدون " من الضلالة
سورة الأعراف 159 - 162
قوله تعالى " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق " يعني جماعة يدعون إلى الحق " وبه يعدلون " يعني وبالحق يعملون وقال بعضهم يعني به مؤمني أهل الكتاب وهم عبد الله بن سلام وأصحابه وهذا كما قال في آية أخرى " من أهل الكتب أمة قائمة يتلون ءايت الله " آل عمران 113 الآية وقال بعضهم هم قوم من وراء الصين ما وراء رمل عالج من أمة موسى وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى البيت المقدس ومعه جبريل فرفعه إليهم وكلمهم وكلموه فقال لهم جبريل هل تعرفون من تكلمون قالوا لا قال فإن هذا محمد النبي الأمي قالوا يا جبريل وقد بعثه الله تعالى قال نعم فآمنوا به وصدقوه وقالوا يا رسول الله إن موسى بن عمران أوصانا أن من أدرك ذلك النبي عليه السلام منكم فليقرأ عليه
(1/571)
571
السلام مني ومنكم ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم على موسى وعليهم السلام ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لي أرى بيوتكم مستوية قالوا لأنا قوم لا يبغي بعضنا على بعض قال فما لي لا أرى عليها أبوابا قالوا إنا لا يضر بعضنا بعضا قال فما لي لا أراكم تضحكون ما ضحكنا قط لأن الله تعالى أخبرنا في كتابه أن جهنم عرضها ما بين الخافقين وقعرها الأرض السفلى وقد أقسم الله تعالى ليملأنها من الجنة والناس أجمعين قال فهل تبكون على الميت قالوا لا يا رسول الله كيف نبكي على الميت وكلنا ميت وهو سبيل لا بد منه والله أعطانا والله أخذ منا قال فهل تمرضون قالوا يا رسول الله إنما يمرض أهل الذنوب والخطايا فأما نحن فمعصومون بدعاء نبي الله موسى قال فكيف تموتون إذا لم تمرضوا قالوا إذا استوفى أحدنا رزقه جاءه ملك الموت فقبض روحه فندفنه حيث يموت قال فهل تحزنون إذا ولد لأحدكم جارية قالوا لا يا رسول الله ولكنا نصوم لله تعالى شهرا شكرا فإذا ولد لأحدنا غلام نصوم لله شهرين شكرا قال فهل فيكم حيات وعقارب قالوا نعم قال كيف تصنعون بهن قالوا يا رسول الله نمشي عليهن ويمشين علينا ولا نؤذيهن ولا تؤذينا هم آمنات منا ونحن آمنون منهن قال فهل لكم ماشية قالوا نعم نجز أصوافها فنتخذ منه الأفنية والأكسية ونأكل من لحومها الكفاف وكل أهل القرية فيها شرع أي سواء ليس أحد أحق به منا قال فهل تزنون أو يوزن عليكم قالوا لا نزن ولا يوزن علينا ولا نكيل ولا يكال علينا ولا نشتري ولا نبيع قال فمن أين تأكلون قالوا يا رسول الله نخرج فنزرع ويرسل الله تعالى السماء علينا فينبته ثم نخرج إليه فنحصده ونضعه في أماكن من القرية فيأخذ أهل القرية الكفاف ويدعون ما سواه قال فهل تجامعون النساء قالوا نعم يا رسول الله لنا بيوت مظلمة وثياب معلومة فإذا أردنا أن نجامع النساء لبسنا ثيابنا تلك ودخلنا تلك البيوت لا يرى الرجل عورة امرأته ولا المرأة عورته قال فهل فيكم زنى قالوا لا يا رسول الله فإن فعل ذلك أحد منا لظننا أن الله تعالى يبعث عليه نارا فتحرقه أو تخسف به الأرض ولكن إذا كان للرجل منا ابنة طلبها رجل منه رجل فيزوجه إياها أراد به الأجر والعفة قال فهل تكنزون الذهب والفضة قالوا لا يا رسول الله إنما يكنز الذهب والفضة من لا يثق بالله ومن يرى أن الله تعالى لم يتكفل عنه برزقه فأما نحن فلا نكنز الذهب والفضة فأقرأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سور من القرآن نزلت بمكة ولم تكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة فعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن وأمرهم بالصلاة والزكاة ورجع من ليلته وقال قتادة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله "(1/572)
ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " قال قد أعطيتم مثلها " وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " يعني من هذه الأمة
ثم قال تعالى " وقطعناهم " يعني بني إسرائيل فرقناهم " اثنتي عشرة أسباطا أمما " يعني جماعة والأسباط جمع سبط والسبط في بني إسرائيل مثل القبيلة عند العرب
572
" وأوحينا إلى موسى " يعني في التيه " إذ استسقاه قومه " إلى قوله " رجزا من السماء بما كانوا يظلمون " كل ذلك مذكور في سورة البقرة قرأ أبو عمرو " نغفر لكم " بالنون " خطاياكم " وقرأ ابن عامر " تغفر لكم " بالتاء والضم " خطيئتكم " بالرفع وبلفظ الواحد وقرأ نافع " تغفر " لكم بالتاء والضم " خطيئاتكم " بلفظ الجماعة وقرأ الباقون " نغفر لكم " بالنون " خطيئاتكم " بلفظ الجماعة
سورة الأعراف 163 - 166
قوله تعالى " واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر " واسمها أيلة وذلك أن اليهود قالوا نحن من أبناء إبراهيم صلى الله عليه وسلم فلا يعذبنا الله تعالى إلا مقدار عبادة العجل فقال الله تعالى " واسألهم عن القرية " يعني أهل القرية التي كانت حاضرة البحر كيف عذبهم الله تعالى بذنوبهم
ثم أخبر عن ذنوبهم فقال " إذ يعدون في السبت " يعني أنهم استحلوا الصيد في يوم السبت وقال يعتدون في يوم السبت وأصل الاعتداء هو الظلم يقال عدوت على فلان إذا ظلمته واعتديت عليه
ثم قال " إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا " يعني يوم استراحتهم شوارع في الماء وهو جمع الشارع " ويوم لا يسبتون لا تأتيهم " يعني إذا لم يكن يوم السبت ويوم الراحة لا تأتيهم وقال بعضهم وإنما تم الكلام عند قوله " تأتيهم " ثم ابتدأ فقال " كذلك نبلوهم " يعني هكذا نختبرهم وقال بعضهم إنما يتم الكلام عند قوله " ويوم لا يسبتون لا تأتيهم " " كذلك " يعني لا تأتيهم كما تأتيهم يوم السبت لأن في يوم السبت تأتيهم الحيتان شارعات من أسفل الماء إلى أعلاه وفي سائر الأيام يأتيهم القليل ولا يأتيهم كما يأتيهم يوم السبت ثم ابتداء الكلام فقال " نبلوهم بما كانوا يفسقون " يعني نختبرهم بما كانوا يعصون الله تعالى
ثم قال عز وجل " وإذ قالت أمة منهم " أي عصبة وجماعة منهم وهي الظلمة للأمة الواعظة " لم تعظون قوما الله مهلكهم " لأن الواعظة وعظوهم عن أخذ الحيتان وخوفوهم فرد عليهم الظلمة " لم تعظون قوما الله مهلكهم " " أو معذبهم عذابا شديدا قالوا " قالوا أي الواعظة " معذرة إلى ربكم " قرأ عاصم في إحدى الروايتين " معذرة " بالنصب يعني نعتذر إلى ربكم
(1/573)
573
معذرة وقرأ الباقون بالضم يعني هي " معذرة " يعني لا ندع الأمر بالمعروف حتى نكون معذورين عند الله تعالى " ولعلهم يتقون " يعني ينتهون
قوله تعالى " فلما نسوا ما ذكروا به " يعني تركوا ما وعظوا به " أنجينا " أي من العذاب " الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا " يعني عذبنا الذين تركوا أمر الله " بعذاب بئيس " يعني شديد " بما كانوا يفسقون " يعني يعصون ويتركون أمر الله تعالى وقال ابن عباس كان القوم ثلاثة فرق فرقة كانوا يصطادون وفرقة كانوا ينهون وفرقة لم ينهوا ولم يستحلوا وقالوا للواعظة " لم تعظون قوما الله مهلكهم "
وروى أبو بكر الهذلي عن عكرمة قال أتيت ابن عباس وهو يقرأ في المصحف ويبكي فدنوت منه حتى أخذت بلوحي المصحف وقلت ما يبكيك قال تبكيني هذه الأوراق وهو يقرأ سورة الأعراف وقال هل تعرف أيلة قلت نعم قال إن الله تعالى أسكنها حيا من اليهود وابتلاهم بحيتان حرمها عليهم يوم السبت وأحلها لهم في سائر الأيام فإذا كان يوم السبت خرجت إليهم الحيتان فإذا ذهب السبت غابت في البحر حتى يغوص لها الطالبون وإن القوم اجتمعوا واختلفوا فيها فقال فريق منهم إنما حرمت عليكم السبت أن تأكلوها فصيدوها يوم السبت وكلوها في سائر الأيام وقال الآخرون بل حرمت عليكم أن تصيدوها أو تنفروها أو تؤذوها وكانوا ثلاث فرق فرقة على أيمانهم وفرقة على شمائلهم وفرقة على وسطهم فجعلت الفرقة اليمنى تنهاهم في يوم السبت وجعلت تقول الله يحذركم بأس الله وأما الفرقة اليسرى فأمسكت أيديهم وكفت ألسنتهم وأما الفرقة الوسطى فوثبت على السمك تأخذه وجعلت الفرقة الأخرى التي كفت أيديها وألسنتها ولم تتكلم تقول " لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا " فقال " الذين ينهون " " معذرة إلى ربكم ولعلكم تتقون " فدخل الذين أصابوا السمك إلى المدينة وأبى الآخرون أن يدخلوا معهم فغدا هؤلاء الذين أبوا أن يدخلوا المدينة فجعلوا ينادون من فيها فلم يجبهم أحد فقالوا لعل الله قد خسف بهم أو رموا من السماء بحجارة فارفعوا رجلا ينظر فجعلوا رجلا على سلم فأشرف عليهم فإذا هم قردة تعاوي ولها أذناب قد غير الله تعالى صورتهم بصنيعهم فصاح إلى القوم فإذا هم قد صاروا قردة فكسروا الباب ودخلوا منازلهم فجعلوا لا يعرفون أنسابهم فيقولون لهم ألم ننهكم عن معصية الله تعالى ونوصيكم فيشيرون برؤوسهم بلى ودموعهم تسيل على خدودهم فأخبر الله تعالى أنه أنجى الذين ينهون عن السوء وأخذ الذين ظلموا ولا أدري ما صنع بالذين لم ينهوا وقال عكرمة بل أهلكهم الله لأنه أنجى الذين ينهون عن السوء وأهلك الفريقين الآخرين فوهب له ابن عباس بردين بهذا الكلام
وروي في رواية أخرى(1/574)
أنهم كانوا يتخذون الحظائر والحياض بجنب البحر ويسيلون الماء فيها يوم السبت من البحر حتى يدخل السمك فيها ويأخذونه في يوم الأحد فقالوا إنا
574
نأخذه في يوم الأحد فلما لم يعذبوا استحلوا الأخذ في يوم السبت من البحر وقالوا إنما حرم الله على آبائنا ولم يحرم علينا فنهاهم الصلحاء فلم يمتنعوا فضربوا حائطا بينهما وصارت الواعظة في ناحية والذين استحلوا في ناحية والحائط بين الفريقين فأصبحوا في يوم من الأيام ولم يفتح الباب الذي بينهما فارتقى واحد منهم الحائط فإذا القوم قد مسخوا قردة وقال بعضهم كان القوم أربعة أصناف صنف يأخذون وصنف يرضون وصنف ينهون وصنف يسكتون وروى قتادة عن ابن عباس أنه قال هم ثلاث فرف فهلك الثاني ونجا الثالث والله أعلم ما فعل بالفرقة الثالثة قرأ نافع " بعذاب بيس " بكسر الباء بلا همزة وقرأ عاصم في رواية أبي بكر " بعذاب بيأس " بفتح الباء وسكون الياء وفتح الهمزة وقرأ الباقون " بعذاب بئيس " بنصب الباء وكسر الياء والهمزة وسكون الياء وهي اللغة المعروفة والأولى لغة لبعض العرب
ثم قال تعالى " فلما عتوا عما نهوا عنه " يعني تركوا ما وعظوا به " قلنا لهم كونوا قردة خاسئين " يعني صاغرين مبعدين عن رحمة الله
سورة الأعراف 167 - 170
قوله تعالى " وإذ تأذن ربك " يعين أعلم ربك وكل شيء في القرآن تأذن فهو إعلام ومعناه قال " ليبعثن " أي ليسلطن " عليهم إلى يوم القيامة " يعني على بني إسرائيل والذين لا يؤمنون يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم " من يسومهم سوء العذاب " يعني يعذبهم بالجزية والقتل " إن ربك لسريع العقاب " إذا عاقب من أصر على كفره " وإنه لغفور " لمن تاب من الشرك " رحيم " بعد ذلك
ثم قال " وقطعناهم " يعني وفرقناهم " في الأرض أمما " يعني فرقا " منهم الصالحون " يعني المؤمنون وهم مؤمنو أهل الكتاب ويقال هم الذين وراء رمل عالج " ومنهم دون ذلك " وهم الكفار منهم " وبلوناهم بالحسنات والسيئات " يعني اختبرناهم بالخصب والجدوبة " لعلهم يرجعون " من الكفر إلى الإيمان
ثم قال " فخلف من بعدهم خلف " يعني بعد بني إسرائيل خلف السوء " ورثوا الكتاب " يعني التوراة " يأخذون عرض هذا الأدنى " يقول يستحلون أخذ الحرام من هذه
(1/575)
575
الدنيا وهو الرشوة في الحكم " ويقولون سيغفر لنا " قال مجاهد يعني يأخذون ما يجدون حلالا أو حراما ويتمنون المغفرة " وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " يعني وإن يجدوا من الغد مثله يأخذوه ويقال معناه أنهم يصرون على الذنوب وأكل الحرام فإذا أخذوا أول النهار يعودون إليه في آخر النهار ولا يتوبون عنه ويقال يطلبون بعلمهم الدنيا ويقال يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا هذه المرة " وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " ويقولون مثل ذلك أي سيغفر لنا لأنا لا نشرك بالله شيئا وقال سعيد بن جبير " يأخذون عرض هذا الأدنى " يقول يعملون بالذنوب ويقولون سيغفر لنا ما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار وما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل " وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " يعني الذنوب
قال الله تعالى " ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب " يعني ألم يؤخذ عليهم ميثاقهم في التوراة " أن لا يقولوا على الله إلا الحق " يعني إلا الصدق " ودرسوا ما فيه " يعني قرؤوا ما فيه " والدار الآخرة خير للذين يتقون " يعني يتقون الشرك ويحلون حلاله ويحرمون حرامه " أفلا تعقلون " أن الآخرة خير من الدنيا ويقال " أفلا يعقلون " ما يدرسون من الكتاب ويقال " أفلا يعقلون " أن الإصرار على الذنوب ليس من علامة المغفورين قرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص " أفلا تعقلون " بالتاء على وجه المخاطبة وقرأ الباقون بالياء على وجه المغايبة
قوله تعالى " والذين يمسكون بالكتاب " يعني يعملون بالكتاب يعني بالتوراة ولا يغيرونها عن مواضعها " وأقاموا الصلاة " يعني أتموا الصلاة المفروضة " إنا لا نضيع أجر المصلحين " يعني عمل الموحدين وهم الذين " يمسكون " بالتخفيف وقرأ الباقون " يمسكون " بالتشديد على معنى المبالغة
سورة الأعراف 171
قوله تعالى " وإذ نتقنا الجبل فوقهم " يقول قلعنا ورفعنا الجبل فوقهم " كأنه ظلة " كهيئة الغمام " وظنوا " يعني أيقنوا سقوطه عليهم " أنه " يعني الجبل " واقع بهم " " خذوا ما آتيناكم بقوة " يعني قيل لهم اعملوا بما أعطيناكم من التوراة " بقوة " يعني بجد ومواظبة " واذكروا ما فيه " يعني اعملوا ما فيه " لعلكم تتقون " المعاصي وذلك حين أبوا أن يقبلوا التوراة فرفع الجبل فوقهم فقبلوها
سورة الأنعام 172 - 174
(1/576)
576
قوله تعالى " وإذ أخذ ربك " يعني واذكر يا محمد " وإذ أخذ ربك " ويقال معناه وقد أخذ " ربك من بني آدم " من ظهور بني آدم " ذريتهم " قال بعضهم يعني الذرية التي تخرج وقتا بعد وقت إلى يوم القيامة " وأشهدهم على أنفسهم " أي وقال لهم " ألست بربكم قالوا بلى " يعني إن كل بالغ تشهد له خلقته بأن الله تعالى واحد قال الله تعالى " شهدنا " يعني قال الله تعالى شهدنا " أن تقولوا " أي لكيلا تقولوا ويقال هذا كراهة أن يقولوا " يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " وروي عن ابن عباس أنه قال إن الله تعالى مسح على ظهر آدم فأخرج ذريته من صلبه كهيئة الذر من هو مولود إلى يوم القيامة فقال لهم " ألست بربكم قالوا بلى " قالوا بلى شهدنا بأنك ربنا قال بعضهم هذا التفسير لا يصح وطعنوا فيه من وجوه أحدها أن الروية لم تصح لأنها رواية أبي صالح وأبو صالح ليس ممن يعتمد على روايته لأنه روي عن الشعبي أنه كان يمر بأبي صالح ويفرك أذنه ويقول له إنك لم تحسن أن تقرأ القرآن فكيف تفسره قالوا ولأن هذا غير محتمل في اللغة لأنه قال " من ظهورهم " ولم يقل من ظهر آدم وقالوا ولأنه لا يجوز من الحكيم أن يخاطب الذر وإنما يجوز خطاب من هو عاقل ومن كان مثل الذر فكيف يجوز خطابه وقالوا ولأنه لا يجوز أن تكون حجة الله بشيء لم يذكر وإنما تكون الحجة بشيء يكون الإنسان ذاكرا له قالوا ولأن الله تعالى قال " ربنا امتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " غافر11 ولم يقل أحييتنا ثلاث مرات ولكن الجواب أن يقال إن الرواية صحيحة لأن الآثار قد جاءت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يجوز دفعه فمن ذلك ما حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الماسرجسي قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم وهو ابن علية عن كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم " قال مسح الله تعالى ظهر آدم فأخرج كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة فأخذ ميثاقهم وأشهدهم على أنفسهم " ألست بربكم قالوا بلى "
قال حدثنا محمد بن داود قال حدثنا محمد بن أحمد بأستراباذ قال حدثنا أحمد بن زكريا قال حدثنا عبد السلام بن صالح عن جعفر بن سليمان عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال حججنا مع عمر في أول خلافته فوقف على الحجر ثم قال إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك فقال له علي لا تقل هذا يا أمير المؤمنين فإنه يضر وينفع بإذن الله ولو أنك قرأت القرآن وعلمت ما فيه ما أنكرت علي ما قلت قال الله تعالى " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " فلما(1/577)
أقروا بالعبودية على أنفسهم كتب الله إقرارهم في رق ثم دعا هذا الحجر فقال له افتح قال فألقمه ذلك الرق فهو أمين الله في هذا المكان يشهد لمن استلمه ووافاه يوم القيامة أمين فقال له عمر لقد جعل الله بين ظهرانيكم من العلم غير قليل
(1/578)
577
وروى ربيع بن أنس عن ابن العالية عن أبي بن كعب في قوله " وإذ أخذ ربك من بني آدم " الآية قال جمعهم جميعا فجعلهم أرواحا ثم صورهم ثم استنطقهم ثم قال " ألست بربكم قالوا بلى " شهدنا بأنك ربنا قال فإني أرسل إليكم رسلي وأنزل عليكم كتبي فلا تكذبوا رسلي وصدقوا بوعدي وأخذ عهدهم وميثاقهم فنظر إليهم آدم فرأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال آدم رب لو سويت بين عبادك فقال إني أحببت أن أشكر قال والأنبياء يومئذ مثل السرج فأخذ عليهم ميثاق الرسالة أن يبلغوها فهو قوله تعالى " وإذ أخذنا من النبين ميثقهم " الأحزاب7 الآية
قال الفقيه أخبرني الثقة بإسناده عن مالك بن أنس عن زيد بن أبي أنيسة أن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية فقال عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن هذه الآية فقال إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح على ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل فقال إن الله تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله النار وبهذا احتج الجبرية أنه ما يعمل عبد عملا من خير أو شر إلى ما قدره الله تعالى يوم الميثاق
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال لما خلق الله تعالى آدم أخرج ذريته من ظهر مثل الذر فقال لأصحاب اليمين هؤلاء في الجنة ولا أبالي وقال للآخرين هؤلاء في النار ولا أبالي
وروى أسباط عن السدي في قوله تعالى " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم " الآية قال لما أخرج الله تعالى آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهئية الذر فقال ادخلوا الجنة برحمتي ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية كهيئة الذر سودا فقال لهم ادخلوا النار ولا أبالي فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق فقال " ألست بربكم قالوا بلى " فأجابه طائفة طائعين وطائفة كارهين فقال هو والملائكة شهدنا أن يقولوا يوم القيامة " إنا كنا عن هذا غافلين "
فلما روي فيه من الأخبار من طرق شتى لا يجوز ردها ويرجع الطعن إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجب على الطاعن أن يطعن في فهم نفسه لا في الصحابة وهذا كقوله
(1/579)
578
" وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم " الأحقاف 11 أما الجواب عن قولهم إنه قال " من ظهورهم " ولم يقل من ظهر آدم فالمعنى فيه والله أعلم أنه قد أخرج ذرية آدم الذين هم ولده من صلبه ثم أخرج من ظهورهم ذريتهم ثم أخرج من بعدهم حتى أخرج جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة فأخرج من ظهورهم كل نسمة تخرج من ظهر فذكر الأخذ من ظهور ذريته ولم يذكر ظهر آدم لأن في الكلام دليلا عليه كما قال الله تعالى " ويوم تقوم الساعة أدخلوا ءال فرعون أشد العذاب " غافر 46 ولم يذكر فرعون لأن في الكلام دليلا عليه
وأما الجواب عن قولهم إنه لا يجوز خطاب الذر فعن هذا القول جوابان أحدهما أنه يجوز أن يكونوا كالذر في الصغر ورزقهم الله تعالى من العقل ما يكونوا به من أهل الخطاب ألا ترى أن نملة سليمان بن داود عليهما السلام قد تكلمت بكلام العقلاء وفهم ذلك عنها سليمان وسبح الطير والجبال مع داود فكذلك هذا وجواب آخر أنهم كانوا كالذر في الأزدحام والكثرة لا في الخلقة والجثة ولكنهم في الخلقة مثل خلقتهم اليوم لأن الذر إذا كثرت وازدحمت لا يعرف عددها فكذلك ذرية آدم كانوا في الكثرة والازدحام مثل الذر لا في الخلقة والجثة ولكنهم في الخلقة مثل خلقتهم اليوم
والجواب عن قولهم إنه لا تكون الحجة بشيء لم يذكر أن يقال إن الله تعالى قد أرسل الرسل وأخبرهم بذلك الميثاق وإذا أخبرهم الرسل بذلك صار حجة عليهم فإن قيل إن الرسل وإن أخبروهم فإذا لم يذكروا ذلك فكيف يصير حجة عليهم قيل له وإن لم يذكروا صار قول الثقات حجة عليهم ألا ترى أن رجلا لو طلق امرأته وقد نسي فشهد عليه شاهدان عدلان بأنه قد طلقها قبل غيبته عنها يجبأن يقبل قولهما وكذلك لو صلى فشهد عنده عدلان أنه ترك ركعة من صلاته وجب عليه أن يأخذ بقولهما وإن كان لا يذكر فكذلك ههنا
والجواب عن قولهم إنه لم يقل أحييتنا ثلاث مرات لأن الإحياء المعروف مرتان فذكر الإحياء الذي كان معروفا عنده
وقوله تعالى " شهدنا " قال بعضهم هذا حكاية قول الذرية " قالوا بلى شهدنا " وتم الكلام ثم في الآية مضمر ومعناه أخذنا عليهم الميثاق لكي لا يقولوا يوم القيامة " إنا كنا عن هذا غافلين " ومن قرأ بالتاء فمعناه أخذنا عليهم الميثاق لكيلا تقولوا يوم القيامة " إنا كنا عن هذا غافلين " قال بعضهم إنما تم الكلام عند قوله " بلى " ثم إنه قال تعالى " شهدنا " يعني شهدنا عليكم وأخذنا عليكم الميثاق لكيلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا الميثاق غافلين " أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل " ونقضوا العهد ( وكنا ذرية من بعدهم ) لم نعلم به " أفتهلكنا بما فعل المبطلون " يعني آباؤنا المشركون فإن قيل هل كان إقرارهم(1/580)
إيمانا ومنهم قيل له أما المؤمنون فكان إقرارهم إيمانا وأما الكافرون فلم يكن إقرارهم إيمانا لأن إقرارهم كان تقيه ولم يكن حقيقة قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو " ذرياتهم " بلفظ الجماعة وقرأ
579
الباقون " ذريتهم " بلفظ الوحدان لأن الذرية قد أضافها إلى الجماعة فاستغنى عن لفظ الجمع وقرأ أبو عمرو " أن يقولوا " بالياء وكذلك في قوله " أو يقولوا " وقرأ الباقون كلاهما بالتاء على معنى الخطاب
قوله تعالى " وكذلك نفصل الآيات " يعني هكذا نبين الآيات في أمر الميثاق " ولعلهم يرجعون " إلى إقرارهم وإلى التوبة فالواو الأولى للعطف وهو قوله " وكذلك " والواو الثانية زيادة للوصل وهو قوله " ولعلهم يرجعون " أي لكي يرجعوا
سورة الأعراف 175 - 178
قوله تعالى " واتل عليهم " يعني إن لم يرجعوا بذكر الميثاق ولم يتوبوا ولم يتعظوا فاتل عليهم " نبأ الذي آتيناه " يعني خبر الذي أعطيناه " آياتنا " يعني أكرمنا باسم الله الأعظم ويقال " آتيناه آياتنا " يعني الكتاب وهي علم التوراة وغيره " فانسلخ منها " يعني وخرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها ويقال تهاون بها ولم يعرف حقها ولا حرمتها وخرج منها " فأتبعه الشيطان " يقول غرة الشيطان " فكان من الغاوين " يعني فصار من الضالين قال بعضهم هو بلعم بن باعوراء كان عابدا من عباد بني إسرائيل وكان مستجاب الدعوة فنزع الله تعالى الإيمان عنه بدعاء موسى عليه السلام وذلك أن موسى عليه السلام قاتل فرعونا من الفراعنة فجمع ذلك الفرعون الكهنة والسحرة فقال لهم أعينوني على هؤلاء يعني على قوم موسى فقالوا له لن تستطيعهم ولكن بجوارك رجل منهم فلو بعثت إليه واستعنت به فبعث الملك إلى بلعم فلم يجبه فبعث الملك إلى امرأة بلعم بالهدايا وطلب منها بأن تأمره بأن يجيب الملك فجاءته امرأته وقالت نحن في جوار هذا الرجل فلا بد لك من إجابته فأجابها إلى ذلك وركب أتانا له وخرج إليهم فسار حتى إذا كان في بعض الطريق وقفت أتانه فضربها فلما ألح عليها كلمته الأتان وقالت انظر إلى ما بين يديك فنظر فإذا هو جبريل قال له جبريل خرجت مخرجا ما كان ينبغي لك أن تخرج فإذا خرجت فقل حقا قال فلما قدم عليه أمر له بالذهب والفضة والخدم والفرش فقبل فقال له قد دعوتك لتدعو لي على هذا العسكر دعوة قال غدا فلما تلاقى القوم قال بلعم إن بني إسرائيل أمة موسى ملعون من لعنهم ومبارك من بارك عليهم فقالوا له ما زدتنا إلا خبالا قال بلعم ما استطعت غير ما
(1/581)
580
رأيت ولكني أدلك على أمر إن فعلته فوقعوا به خذلوا ونصرت عليهم تعمد إلى نساء خبيثات فتجعل عليهم بالحلي والعطر ثم ترسلهن في عسكرهم فإن وقعوا بهن خذلوا ففعل ذلك فما تعرض لهن منهم إلا سفاؤهم فخذلوا فأخبر بذلك موسى فدعا عليه فنزع الله منه الإيمان وقال بعضهم إنما هو أمية بن أبي الصلت قرأ الكتب ورغب عن عبادة الأوثان وكان يخبر أن نبينا يبعث وقد أطال زمانه وكان يرى أن الوحي ينزل عليه لكثرة علمه فلما سمع بخروج النبي صلى الله عليه وسلم وقصته كفر حسدا له وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع شعره قال آمن لسانه وكفر قلبه فذلك قوله " آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين "
ثم قال عز وجل " ولو شئنا لرفعناه بها " يعني بالآيات ويقال رفعناه في الآخرة بما علمناه من آياتنا " ولكنه أخلد إلى الأرض " يعني أمية بن أبي الصلت أو بلعم بن باعوراء مال إلى الدنيا ورضي بها " واتبع هواه " يعني هوى نفسه ويقال عمل بهوى المرأة وترك رضى الله ويقال أخذ مسافل الأمور وترك معاليها " فمثله كمثل الكلب " يقول مثل بلعم كمثل الكلب " إن تحمل عليه يلهث " يقول إن طردته يلهث " أو تتركه يلهث " يعني وإن تركته فهو يلهث قال القتبي كل شيء يلهث من إعياء أو عطش ما خلا الكلب فإنه يلهث في حال الراحة والصحة والمرض فضرب الله تعالى به مثلا يعني كما أن الكلب إن طردته أو تركته يلهث فكذلك بلعم أو أمية بن أبي الصلت إن وعظته لم يتعظ وإن تركته لم يعقل وقال مجاهد يعني الكفار أن قرئ عليهم الكتاب لم يقبلوا وإن لم يقرأ عليهم لم يعملوا فهم أهل مكة " ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا " يعني ذلك صفة الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " فاقصص القصص " يعني اقرأ عليهم القرآن " لعلهم يتفكرون " يعني لكي يتعظوا بأمثال القرآن ويؤمنوا به
قوله تعالى " ساء مثلا " يعني بئس مثل " القوم الذين كذبوا بآياتنا " يعني بئس مثل من كان مثل الكلب وإنما ضرب المثل بالكلب تقبيحا لمذهبهم ويقال " بئس مثل القوم الذين " من ان صفتهم مثل بلعم وهو أهل مكة " كذبوا بآياتنا " فلم يؤمنوا بها مثل بلعم " وأنفسهم كانوا يظلمون " يعني يضرون بأنفسهم
ثم قال تعالى " من يهد الله فهو المهتدي " يعني من يهده الله لدينه فهو المهتدي من الضلالة " ومن يضلل " يعني ومن يضله عن دينه ويخذله " فأولئك هم الخاسرون " بالعقوبة
سورة الأعراف 179
قوله تعالى " ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا " يعني خلقنا لجهنم كثيرا " من الجن والإنس " فأن قيل قد قال في آية أخرى " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " الذاريات 56 فأخبر أنه
(1/582)
581
خلق الجن والإنس لعبادته وههنا يقول خلق بعضهم لجهنم قيل له قد خلقهم للأمرين جميعا منهم من يصلح لجهنم فخلقه لها ومنهم من يصلح للعبادة فخلقه لها ولأن من لا يصلح لشيء لا يخلقه لذلك الشيء ويقال معنى قوله " إلا ليعبدون " يعني للأمر والنهي ويقال " إلا ليعبدون " يعني إلا لكي يمكنهم أن " يعبدون " ويقد بينت لهم الطريق ويقال في هذه الآية تقديم وتأخير معناه ولقد ذرأنا جهنم لكثير من الجن والإنس
ثم وصفهم فقال تعالى " لهم قلوب لا يفقهون بها " يعني لا يعقلون بها الحق كما قال في آية أخرى " ختم الله على قلوبهم " البقرة 7 ثم قال " ولهم أعين لا يبصرون بها " يعني الهدى " ولهم آذان لا يسمعون بها " يعني الهدى
ثم ضرب لهم مثلا آخر فقال " أولئك كالأنعام " فشبههم بالأنعام لقلة رغبتهم وتغافلهم عن الحق يعني إنهم كالأنعام في ذهنهم لا في صورهم لأنه ليس للأنعام هو إلا الأكل والشرب فهي تسمع ولا تعقل كذلك الكافر هو غافل عن الأمر والنهي والوعد والوعيد
ثم قال " بل هم أضل " يعني الكفار أخطأ طريقا من الأنعام لان الأنعام إذا عرفت أنها تركت الطريق رجعت إلى الطريق والكفار لا يرجعون إلى الطريق ولأن الأنعام تعرف ربها والكفار لا يعرفون ربهم ويقال لما نزلت هذه الآية " أولئك كالأنعام " تضرعت الأنعام إلى ربها فقالت يا ربنا شبهت الكفار بنا ونحن لا ننكر وحدانيتك فأعذر الله تعالى الأنعام فقال " بل هم أضل " من الأنعام لأن الأنعام مطيعة لله تعالى والكفار غير مطيعين لله تعالى
ثم قال " أولئك هم الغافلون " يعني عن أمر الله تعالى وعما ينفعهم قال الفقيه حدثنا أبو جعفر قال حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن عبد الله القاري قال حدثنا حازم بن يحيى الحلواني قال حدثنا الحسين بن الأسود قال حدثنا أبو أسامة عن يزيد بن سنان عن أبي منيب الحمصي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق الله الجن ثلاثة أصناف صنفا حيات وعقارب وخشاش الأرض وصنفا كالريح في الهواء وصنفا عليهم الثواب والعقاب وخلق الله الإنس ثلاثة أصناف صنفا كالبهائم وهم الكفار قال الله تعالى " لهم قلوب لا يفقهون بها " إلى قوله " أولئك كالأنعام بل هم أضل " وصنفا آخر أجسادهم كأجساد بني آدم وأرواحهم كأرواح الشياطين وصنفا في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله
سورة الأعراف 180
قوله تعالى " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها " وذلك أن رجلا دعا الله في صلاته ودعا
(1/583)
582
الرحمن فقال أبو جهل أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا فما بال هذا يدعو ربين اثنين فأنزل الله تعالى " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها " الرحمن الرحيم الملك القدوس ونحوه فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الرجل فقال ادع الله أو ادع الرحمن رغما لأنف المشركين ويقال " ولله الأسماء الحسنى " يعني الصفات العلى " فادعوه بها " وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة ومن أسمائه عز وجل الرحمن الرحيم وقد ذكرنا تفسيرها ومن أسمائه الأحد وأصله الوحد بمعنى الواحد وهو الذي ليس كمثله شيء ومنها الصمد وهو السيد الذي صمد إليه كل شيء أي قصده ومنها القيوم وهو البالغ في القيام بكل ما خلق ومنها الولي يعني المتولي أمور المؤمنين ومنها اللطيف وهو الذي يلطف بالخلق من حيث لا يعلمون ولا يقدرون ومنها الودود المحب الشديد المحبة ومنها الظاهر والباطن الذي يعلم ما ظهر وما بطن ومنها البديع الذي ابتدع الخلق على غير مثال ومنها القدوس أي ذو البركة ويقال الطاهر ومنها الشهيد الذي لا يغيب عنه شيء ومنها الحنان أي ذو الرحمة والعطف ومنها المنان الكثير المن على عباده ومنها الفتاح يعني الحاكم ومنها الديان يعني المجازي ومنها الرقيب يعني الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء ومنها المتين يعني الشديد القوة على أمر ومنها الوكيل الذي توكل بالقيام بجميع ما خلق ومنها السبوح الذي تنزه عن كل سوء ومنها السلام يعني الذي سلم الخلق من ظلمه ومنها المؤمن الذي أمن الخلق من ظلمه ومنها العزيز المنيع الذي لا يغلبه شيء ومنها المهيمن يعني الشهيد ومنها الجبار الذي جبر الخلق على ما أراد ومنها المتكبر الذي تكبر عن ظلم العباد ومنها الباري يعني الخالق وسائر الأسماء التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة وقال الزجاج لا ينبغي لأحد أن يدعوه بما لم يصف به نفسه ولم يسم به نفسه فيقول يا جواد ولا ينبغي له أن يقول يا سخي لأنه لم يسم به نفسه وكذلك يقول يا قوي ولا يقول يا جلد
ثم قال تعالى " وذروا الذين يلحدون في أسمائه " قرأ حمزة " يلحدون " بنصب الحاء والياء وقرأ الباقون بضم الياء وكسر الحاء " يلحدون " فمن قرأ بالنصب فمعناه وذروا الذين يميلون في أسمائه يعني يحورون ويمارون في أسمائه ويعدلون فسموا اللات والعزى ومن قرأ بالضم فمعناه وذروا الذين يجادلون ويمارون في أسمائه ويقال إن الله تعالى قد احتج على الكفار بأربعة أشياء بالخلق وهو قوله تعالى " هذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه " لقمان 11 وقال " الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له(1/584)
وإن "
583
الحج 73 والثاني في الملك وهو قوله " وقالوا اتخذ الله ولدا سبحنه بل له ما في السموات والأرض كل له " البقرة 116 وقال في الأوثان " لا يملكون شيئا " الزمر 43 والثالث في القوة وهو قوله تعالى " إن الله على كل شيء قدير " البقرة 20 " وهو السميع البصير " الشورى 11 " إن ربي قريب مجيب " هود 61 " ذو القوة المتين " الذاريات 58وقال في الأوثان " ألهم أرجل يمشون بها " الأعراف 195 فوصفهم بالعجز والرابع بالأسماء فقال " ولله الأسماء الحسنى " وقال في الأوثان " وذروا الذين يلحدون في أسمائه " ويقال إن الكفار أرادوا أن يسموا آلهتهم الله فجرى على لسانهم اللات وقال أهل اللغة إنما سمي اللات لأنه عنده كان رجل يلت السويق وأرادوا أن يسموا العزيز فجرى على لسانهم العزى وأرادوا أن يسموا منان فجرى على لسانهم مناة وبقيت تلك الأسماء للأصنام وأصل الإلحاد هو الميل ولهذا سمي اللحد لحدا لأنه في ناحية
ثم قال " سيجزون ما كانوا يعملون " يعني سيثابون ويعاقبون بما كانوا يعملون من الشرك والإلحاد في الأسماء
سورة الأعراف 181 - 186
قوله تعالى " وممن خلقنا أمة يهدون بالحق " يعني جماعة وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم " يهدون بالحق " يعني يدعون إلى الحق ويأمرون بالحق " وبه يعدلون " يعني وبالحق يعملون وذلك أنه لما نزل قوله تعالى " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " الأعراف 159 قال أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله قد ذكر الله تعالى هؤلاء الرهط بالخير الجسيم من بني إسرائيل إن آمنوا بك وجعل لهم أجرين ولنا أجرا واحدا وقد صدقناك والرسل والكتب فنزل " وممن خلقنا أمة " يعني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم " يهدون بالحق وبه يعدلون "
قوله تعالى " والذين كذبوا بآياتنا " يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " سنستدرجهم " يعني سنأخذهم بالعذاب " من حيث لا يعلمون " يعني من حيث لا يشعرون وقال الكلبي يعني نزين لهم فنهلكهم من حيث لا يعلمون يقول سنأتيهم بالعذاب وهم المستهزئون فيقتل كل رجل منهم بغير قتلة صاحبه وقال القتبي الاستدراج أن يذيقهم من بأسه قليلا قليلا ويقال
(1/585)
584
استدرج فلان فلانا يعني يعرف ما عنده وأصل هذا من الدرجة لأن الراقي يرقى درجة فاستعير من هذا كقوله تعالى " والمرسلات غرفا " المرسلات 1 يعني الملائكة يتابعون بعضهم بعضا كعرف الفرس وكقوله تعالى " ويقبضون أيديهم " التوبة 67 يعني يمسكون عن العطية وقال السدي " سنستدرجهم " يعني كلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها ثم نأخذهم من حيث لا يعلمون فذلك الاستدراج
ثم قال " وأملي لهم " يعني وأمهلهم " إن كيدي متين " يعني عقوبتي شديدة ويقال إن صنعي محكم ويقال إن أخذي شديد
ثم قال تعالى " أو لم يتفكروا " يعني أهل مكة فيما يأمرهم محمد صلى الله عليه وسلم ان يعبدوا خالقهم ورازقهم وكاشف الضر عنهم ولا يعبدوا من لا يقدر على شيء منه أمثل هذا يكون مجنونا ويقال معناه " أو لم يتفكروا " في دلائل النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته ليستدلوا بأنه نبي وقد تم الكلام
ثم استأنف فقال " ما بصاحبهم من جنة " ويقال هذا على وجه البناء ومعناه أولم يتفكروا ليعلموا " ما بصاحبهم من الجنة " يعني جنونا ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم صعد ذات ليلة الصفا فدعا قريشا إلى عبادة الله تعالى بأسمائهم فردا فردا فقال بعضهم إن صاحبكم لمجنون فوعظهم الله تعالى فقال " أو لم يتفكروا " يقول أولم يجالسوه ويكلموه هل به من جنون " إن هو إلا نذير مبين " يعني رسولا نبيا وهذا كقوله تعالى " قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة " سبأ 46
ثم وعظهم ليعتبروا في صنعه فيوحدوه فقال " أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض " يعني في خلق السموات والأرض " وما خلق الله من شيء " يعني في السماء من الشمس والقمر والنجوم وما خلق الله في الأرض من الجبال والبحار وغير ذلك فيعتبروا ويؤمنوا بأن الذي خلق الذين ترون هو رب واحد لا شريك له " وأن عسى " يعني ينظرون في أن عسى " أن يكون قد اقترب أجلهم " يعني قد دنا هلاكهم " فبأي حديث بعده يؤمنون " يعني إن لم يؤمنوا بالقرآن فبأي حديث يؤمنون بعد القرآن لأن هذا آخر كتاب نزل وليس بعده كتاب منزل
ثم قال تعالى " من يضلل الله فلا هادي له " يعني من يخذله الله عن دين الإسلام فلا هادي له إلى الهدى " ويذرهم في طغيانهم يعمهون " يعني يتركهم في ضلالتهم يترددون قرأ أبو عمرو " ويذرهم " بالياء وضم الراء على معنى الخبر وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر " ونذرهم " بالنون وضم الراء وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " ويذرهم " بالياء وجزم الراء جعلوه جواب الشرط ومعناه من يضلل الله يذره
(1/586)
585
سورة الأعراف 187 - 188
قوله تعالى " يسألونك عن الساعة " يعني عن قيام الساعة " أيان مرساها " يعني متى حينها وقيامها ويقال هذا الكلام على الاختصار ومعناه أي أوان قيامها
ثم قال " قل إنما علمها عند ربي " يعني علم قيام الساعة عند ربي وما لي بها من علم " لا يجليها لوقتها " يعني لا يكشفها لحينها " إلا هو " يعني إلا الله تعالى ويقال لا يقدر أحد على إظهارها إلا هو يعني إلا الله ويقال لا يعلم أحد قيامها إلا هو " ثقلت في السموات والأرض " يعني ثقل علم قيام الساعة على أهل السموات وأهل الأرض ويقال " ثقلت " يعني خفي علمها وإذا خفي الشيء ثقل علمه ويقال معناه ثقل حمل ذكرها لفظاعة شأنها وأمرها
ثم قال " لا تأتيكم إلا بغتة " يعني فجأة ثم قال " يسألونك كأنك حفي عنها " قال مقاتل كأنك استحفيت عنها السؤال حتى علمتها وقال القتبي أي كأنك حفي تطلب علمها ومنه يقال تحفى فلان بالقوم إذا بالغ في البر ويقال " كأنك حفي عنها " يعني كأنك جاهل بها ويقال في الآية تقديم ومعناه يسألونك عها كأنك عالم بها قل إنما علمها عند ربي وروى إبراهيم بن يوسف بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل فقال متى الساعة فقال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ولكن أشراط الساعة عشرة يقرب فيها الماحل ويطرف فيها الفاجر ويعجز فيها المنصف وتكون الصلاة منا والزكاة مغرما والأمانة مغنما واستطالة القراء فعند ذلك تكون أمارة الصبيان وسلطان النساء ومشورة الإماء
ثم قال " قل إنما علمها عند الله " يعني علم قيامها عند الله " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " أنها كائنة ولا يصدقون بها
قوله تعالى " قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا " قال مقاتل يعني لا أقدر لنفسي أن أسوق إليها خيرا أو أدفع عنها ضرا حين ينزل بي فكيف أملك علم الساعة " إلا ما شاء الله " فيصيبني " ولو كنت أعلم الغيب " يعني غيب النفع إذ جاء " لاستكثرت من الخير وما مسني السوء " يعني لاستكثرت من النفع وما أصابني الضر وقال الكلبي إن أهل مكة قالوا له ألا يخبرك ربك بالبيع الرخيص قبل أن يغلو فتشتريه فتربح فيه فنزل قل لهم " لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير " أي من العمل الصالح " من الخير " للجدوبة والقحط(1/587)
586
ويقال لو كنت أعلم متى أموت لاستكترت من العمل الصالح وقال الضحاك قال " لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا " يعني الغنى والفقر " إلا ما شاء الله " إن شاء أغنى عبده وإن شاء أفقره " ولو كنت أعلم الغيب " يعني مواضع الكنوز لاستخرجتها " وما مسني السوء " يعني الفقر " إن أنا إلا نذير " يعني مخوف بالنار " وبشير " يعني مبشر بالجنة " لقوم يؤمنون " يعني يصدقون بالبعث
سورة الأعراف 189 - 193
قوله تعالى " هو الذي خلقكم من نفس واحدة " يعني من نفس آدم " وجعل منها زوجها " يعني خلق من نفس آدم من ضلع من أضلاعه اليسرى زوجته حواء " ليسكن إليها " يعني ليطمئن إليها ويجامعها " فلما تغشاها " يعني سكن إليها وجامعها " حملت حملا خفيفا " يعني خفيف الماء " فمرت به " يعني استمرت بالحمل يقول قامت بالحمل وقعدت ولا تدري أهي حبلى أم لا " فلما أثقلت " يعني ثقل الولد في بطنها " دعوا الله ربهما " وقعدت ولا تدري أهي حبلى أم لا " فلما أثقلت " يعني ثقل الولد في بطنها " دعوا الله ربهما " وذلك أن إبليس أتاها فقال يا حواء ما هذا الذي في بطنك قالت ما أدري قال أخاف إنها بهيمة وإني من الله بمنزلة فإن دعوت الله فولدت إنسانا صالحا أتسميه باسمي قالت نعم وما اسمك قال عبد الحارث فكذب فدعت حواء وآدم فذلك قوله " دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا " يعني أعطيتنا ولدا سويا صحيح الجوارح " لنكونن من الشاكرين " وهذا قول سعيد بن جبير رواه عن ابن عباس وروى معمر عن قتادة أنه قال كان آدم لا يولد له ولد إلا مات فجاءه الشيطان وقال إن سرك أن يعيش ولدك فسمه عبد الحارث ففعل فأشركا في الاسم ولم يشركا في العبادة وروي عن السدي أنه قال كان اسم إبليس هو الحارث يوم لعن فأراد أن ينسب إليه فأمرها فسمته عبد الحارث فعاش بعد ذلك أياما ثم مات فذلك قوله " فلما آتاهما " يعني أعطاهما " صالحا " خلقا آدميا سويا " جعلا له شركا فيما آتاهما " قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر " جعلا له شركاء " بكسر الشين وجزم الراء وقرأ الباقون " شركاء " بالضم ونصب الراء فمن قرأ بالكسر فهو على معنى التسمية وهو اسم يقوم مقام المصدر ومن قرأ بالضم فمعناه " جعلا له شركاء " يعني الشريك في الاسم وإنما ذكر الشركاء وأراد به الشريك يعني الشيطان فإن قيل من قرأ بالكسر كان من حق الكلام أن(1/588)
587
يقول جعلا لغيره شركا لأنهما لا ينكران أن الأصل لله تعالى وإنما جعلا لغيره شركا يعني نصيبا قيل له معناه " جعلا له شركاء " يعني ذا شرك فذكر الشرك والمراد به ذا شرك كقوله تعالى " وسئل القرية " يوسف 12 يعني أهل القرية فضرب الله تعالى بهذا مثلا للكفار يعني كما أن آدم وحواء أعطاهما الله تعالى ولدا سويا جعلا له شركا في الإسم فكذلك الكفار الله تعالى ورزقهم فأشركوا في عبادته
ثم نزه نفسه عن الشرك فقال تعالى " فتعالى الله عما يشركون " يعني هو أعلى وأجل من أن يوصف بالشرك
ثم رجع إلى قصة الكفار فقال الله تعالى " أيشركون ما لا يخلق شيئا " يعني أيشركون الآلهة مع الله تعالى وهم كفار مكة ما لا يخلق شيئا وهي الآلهة " وهم يخلقون " يعني ينحتونها ويصنعونها بأيديهم " ولا يستطيعون لهم نصرا " يعني لا يستطيعون نصرا لمن يعبدها " ولا أنفسهم ينصرون " يعني لا يستطيعون أن يمتنعوا مما نزل بهم من العذاب " وإن تدعوهم إلى الهدى " قال الكلبي يعني الآلهة أن يدع المشركون آلهتهم إلى أمر " لا يتبعوكم " يعني لا يتبعهم آلهتهم " سواء عليكم " يا أهل مكة " أدعوتموهم ثم أم أنتم صامتون " لا يعقلون شيئا لأنه ليس فيها روح وقال مقاتل " وإن تدعوهم إلى الهدى " يعني كفار مكة " لا يتبعوكم " يعني النبي صلى الله عليه وسلم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون فلا يؤمنون قرأ نافع " لا يتبعوكم " بجزم التاء وقرأ بالباقون بالنصب والتشديد وهما لغتان تبعته وأتبعته ومعناهما واحد
سورة الأعراف 194 - 195
ثم قال تعالى " إن الذين تدعون " يعني تعبدون " من دون الله " يعني الأصنام " عباد أمثالكم " يعني مخلوقين مملوكين أشباهكم وليسوا بآلهة " فادعوهم فليستجيبوا لكم أن كنتم صادقين " أنها آلهة
ثم قال عز وجل " ألهم أرجل يمشون بها " يعني في حوائجكم " أم لهم أيد يبطشون بها " يعني يعطون بها ويمنعون عنكم الضر " أم لهم أعين يبصرون بها " يعني عبادتكم " أن لهم آذان يسمعون بها " يعني دعاءكم وقد احتجت المشتبهة بهذه الآية أن من لا تكون له يد ولا رجل لا يصلح أن يكون إلها ولكن لا حجة لهم في ذلك لأن الله تعالى بين ضعف معبودهم وعجزه وبين أنهم اشتغلوا بشيء لا فائدة فيه ولا منفعة لهم في ذلك(1/589)
588
ثم قال " قل " يا محمد يعني لكفار مكة " ادعوا شركاءكم " يعني آلهتكم " ثم كيدون " يعني اعملوا بي ما شئتم " فلا تنظرون " يعني لا تمهلون ولا تؤجلون لأنهم خوفوه بآلهتهم قرأ أبو عمرو " ثم كيدوني " بالياء في حال الوصل وقرا الباقون بغير الياء
سورة الأعراف 196 - 197
ثم قال عز وجل " إن وليي الله الذي نزل الكتاب " يعني حافظي وناصري الله الذي نزل الكتاب يعني القرآن ويقال إن الذي يمنعني منكم الله الذي أنزل جبريل بالكتاب " وهو يتولى الصالحين " يعني المؤمنين فيحفظهم ولا يكلهم إلى غيره
ثم قال " والذين تدعون من دونه " يعني تعبدون من دون الله " لا يستطيعون نصركم " يعني لا يقدرون منعكم " ولا أنفسهم ينصرون " يعني يمنعون ممن أذاها لأن الكفار كانوا يلطخون العسل في فم الأصنام وكان الذباب يجتمع عليه فلا تقدر دفع الذباب عن نفسها
ثم قال تعالى " وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا " قال الكلبي يعني إن دعا المشركون آلهتهم لا يسمعون أي لا يجيبونهم " وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون " شيئا قال مقاتل " وإن تدعوهم إلى الهدى " يعني كفار مكة " لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك هم لا يبصرون " الهدى
سورة الأعراف 199 - 200
قوله تعالى " خذ العفو وأمر بالعرف " قال ابن عباس يعني خذ ما أعطوك من الصدقة يعني ما فضل من الأكل والعيال ثم نسخ بآية الزكاة وهذا كقوله تعالى " ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو " البقرة 219 يعني الفضل " وأمر بالعرف " يعني ادعهم إلى التوحيد " وأعرض عن الجاهلين " أي من جهل عليك مثل أبي جهل وأصحابه كل ذلك قبل الأمر بالقتال ويقال " خذ العفو وأمر بالعرف " يعني اعف عمن ظلمك واعط من حرمك وصل من قطعك
قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الديبلي قال حدثنا أبو عبد الله وقال حدثنا سفيان عن أبي بن ربيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " أسأل عنها جبريل فقال جبريل حتى أسأل العالم فيه فذهب ثم أتاه فقال يا محمد إن الله تعالى يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك(1/590)
589
وتعفو عن من ظلمك وقال القتبي في قول النبي صلى الله عليه وسلم أوتيت جوامع الكلم فإن شئت أن تعرف ذلك فتدبر في هذه الآية فكيف جمع له في هذا كل خلق عظيم لأن في أخذ العفو صلة القاطعين والصفح عن الظالمين وإعطاء المانعين وفي الأمر بالمعروف تقوى الله وصلة الأرحام وغض البصر وفي الإعراض عن الجاهلين الحلم وتنزيه النفس عن مماراة السفيه وعن منازعة اللجوج وإنما سمي المعروف معروفا لأن كل نفس تعرفه وكل قلب يطمئن إليه
قوله تعالى " وإما ينزغنك من الشيطان نزع " قال مقاتل يعني وإما يفتتك الشيطان فتنة في أمر أبي جهل " فاستعذ بالله " قال الكلبي أي وإما يصيبنك ذنب من الشيطان وسوسة فاستعذ بالله وقال الزجاج النزع أدنى حركة ومعناه إن إتاك من الشيطان أدنى وسوسة فاستعذ بالله " إنه سميع عليم " يعني ( سميع ) لدعائك " عليم " بوسوسة الشيطان
سورة الأعراف 201 - 203
قوله تعالى " إن الذين اتقوا " يعني اتقوا الشرك والفواحش " إذا مسهم طائف من الشيطان " يعني ذنب من الشيطان " تذكروا " يعني عرف المتقي منهم أنها معصية " فإذا هم مبصرون " يعني منتهون عن المعصية وقال الزجاج يعني عرف المتقي أنها معصية " تذكروا " ما أوضح الله لهم من الحجة " فإذا هم مبصرون " يعني إذا هم على بصيرة قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي " طيف " بغير ألف وقرأ الباقون بالألف وروي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ " إذا مسهم طيف " والطيف الغضب وعن مجاهد في قوله " طائف " قال الغضب
ثم ذكر حال الكفار فقال عز وجل " وإخوانهم يمدونهم في الغي " يعني إخوان الشياطين يمدونهم أي يدعونهم إلى المعصية ويقال يلجؤونهم إلى الشرك والضلالة " ثم لا يقصرون " عنها كما أقصر المسلمون عنها حين أبصروها قرأ نافع " يمدونهم " بضم الياء وكسر الميم من أمد يمد وقرأ الباقون " يمدونهم " بالنصب من مد يمد قال بعضهم هذا عطف على قوله " وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا " " وإخوانهم يمدونهم " وقال الزجاج معناه التقديم والمعنى لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون " وإخوانهم يمدونهم في الغي " يعني الشياطين والغي الجهل والوقوع في الهلكة(1/591)
590
قوله تعالى " وإذا لم تأتهم بآية " وذلك حين أبطأ عليه جبريل حين سألوه شيئا " قالوا لولا اجتبيتها " أي هلا أتاهم من تلقاء نفسه وهذا كقوله " ائت بقرءان غير هذا " يونس 15 قال إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي ) يعني قال إذا أمرت بأمر فعلت ولا أبتدع ما لم أومر " هذا بصائر من ربكم " يعني القرآن بيان من ربكم وقال بعض أهل اللغة البصائر في اللغة طريق الأمر واحدتها بصيرة ويقال طريقة الدين معناه ظهور الشيء وبيانه " وهدى ورحمة " يعني القرآن هدى من الضلالة ويقال كرامة ورحمة من العذاب ونعمة لمن آمن به " لقوم يؤمنون " يعني يصدقون
سورة الأعراف 204 - 206
قوله تعالى " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " وذلك أن المسلمين كانا يتكلمون في الصلاة قبل نزول هذه الآية فنهوا عن ذلك وأمروا بالسكوت وروى عبد الوهاب عن مجاهد عن أبي العالية الرياحي قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى فقرأ وقرأ الصحابة خلفه حتى نزل " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " فسكت القوم وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم وروى قتادة عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى " وإذا قريء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " قال في الصلاة وروى مغيرة عن إبراهيم مثله وسئل ابن عباس عن قوله " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " هذا كل قارئ قال لا ولكن هذا في الصلاة المفروضة وقال أبو هريرة مثله وقال مجاهد وجب الإنصات في موضعين في الصلاة والإمام يقرأ وفي الجمعة والإمام يخطب وعن مجاهد قال لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم وقال عطاء والحسن إن هذا في الصلاة والخطبة ويقال " فاستمعوا له وأنصتوا " يعني اعملوا بما في كتاب الله ولا تجاوزوا عنه إلى غيره ثم قال " لعلكم ترحمون " يعني لكي ترحموا ولا تعذبوا
قوله تعالى " واذكر ربك في نفسك تضرعا " يقول اقرأ يا محمد إذا كنت إماما بنفسك " تضرعا " يعني مستكينا " وخيفة " يعني خوفا من عذابه وهذا قول مقاتل وقال الكلبي " واذكر ربك في نفسك " يعني سرا " ودون الجهر من القول " يعني العلانية حتى يسمع من خلفك وقال الضحاك معناه اجهر بالقراءة في الغداة والمغرب والعشاء " ولا تكن من الغافلين " يعني لا تغفل عن القراءة في الظهر والعصر فإنك تخفي القراءة فيهما وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال اذكروا الله ذكرا كثيرا خاملا قيل وما الذكر الخامل قال الذكر الخفي
وقوله " بالغدو والآصال " يعني غدوة وعشية وروى يحيى عن أيوب عن خالد بن(1/592)
الجزء الثانى من تفسير بحر العلوم للسمرقندى(2/2)
3
سورة الأنفال
مدنية وهي سبعون وخمس آيات
سورة الأنفال 1 - 4
قوله تعالى " يسألونك عن الأنفال " يعني الغنائم واحدها نفل غنيمة وكذلك قال لبيد
( إن تقوى ربنا خير نفل % وبإذن الله ريثي وعجل )
( من هداه سبل الخير إهتدى % ناعم البال ومن شاء أضل )
قال إبن عباس " عن " صلة في الكلام وإنما هو يسألونك الأنفال يعني الغنائم ويقال فيه تقديم ومعناه يسألون عنك الأنفال ويقال معناه يسألونك لمن الأنفال يقال إنما هم سألوا عنها لأنها كانت محرمة من قبل فسألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل " يسألونك عن الأنفال " يعني الغنائم
قال الفقيه حدثنا أبو الفضل بن أبي حفص قال حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال حدثنا إبراهيم بن أبي داود قال حدثنا سعيد بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن الحارث عن سليمان بن موسى عن مكحول عن أبي أمامة عن عبادة بن الصامت قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر فلقي العدو فلما هزمهم الله تعالى أتبعهم طائفة من المسلمين يقتلونهم وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم وإستولت طائفة بالعسكر والنهب فقال الذين طلبوهم نحن طلبنا إحاطة العدو وبنا نفاهم الله تعالى وهزمهم فلنا النفل وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا ينال العدو منه غرة فهو لنا
وقال الذين إستولوا على العسكر والنهب والله ما أنتم بأحق منا بل هو لنا نحن حويناه(2/3)
4
واستولينا عليه فأنزل الله تعالى " يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم " فقسم النبي صلى الله عليه وسلم بينهم عن فواق أي عن سواء وروى أسباط عن السدي قال كانت الأنفال لله ورسوله فنسخ بقوله " فأن لله خمسه وللرسول " [ الأنفال : 41 ] وعن عكرمة ومجاهد مثله
قوله تعالى " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم " يعني إخشوا الله وأطيعوه في أمر الغنيمة وأصلحوا ما بينكم من الإختلاف في الغنيمة " وأطيعوا الله ورسوله " يعني في أمر الصلح والغنيمة " إن كنتم مؤمنين " يعني إن كنتم مصدقين ويقال معناه أتركوا المراء في أمر الغنيمة إن كنتم مصدقين
ثم نعت المؤمنين المصدقين فقال الله تعالى " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " ويقال إنما المصدقون الذين إذا أمروا بأمر في أمر الغنيمة وغيرها من قبل الله تعالى خافت قلوبهم ويقال إنما المصدقون " الذين إذا ذكر الله " أي ذكر عندهم أمر الله ويقال الذين إذا أمروا بأمر من الله " وجلت قلوبهم " يعني قبلت قلوبهم فسمى قبول القلوب وجلا لأن بالوجل يثبت القبول لأنهم وجلوا عقوبة الله تعالى فقبلوه
ثم قال " وإذا تليت عليهم آياته " يعني إذا قرئت عليهم آياته بالأمر والنهي في أمر الصلح وغيره " زادتهم إيمانا " يعني تصديقا ويقينا وقال الضحاك يعني زادتهم تصديقا بحكم الناسخ مع تصديقهم بالمنسوخ وقال الزجاج تأويل الإيمان التصديق فكل ما تلي عليهم من عند الله تصديقا صدقوا به فزادهم تصديقا فذلك زيادة إيمانهم وروي عن إبن عباس أنه قال زادتهم تصديقا بالفرائض مع تصديقهم بالله " وعلى ربهم يتوكلون " يعني يفوضون أمرهم إلى الله ويثقون به ولا يثقون بما في أيديهم من الغنائم ويعلمون أن الله رازقهم
ثم قال الله تعالى " الذين يقيمون الصلاة " يعني يتمونها في مواقيتها بركوعها وسجودها " ومما رزقناهم ينفقون " يعني يتصدقون مما أعطيناهم من الأموال وينفقونها في طاعة الله
قوله تعالى " أولئك هم المؤمنون حقا " يعني أهل هذه الصفة هم المؤمنون الموحدون " حقا " صدقا وهم المصدقون " لهم درجات عند ربهم " يعني فضائل عند ربهم في الآخرة ويقال لهم منازل في الرفعة على قدر أعمالهم " ومغفرة ورزق كريم "(2/4)
5
يعني مغفرة لذنوبهم وثواب حسن في الجنة ويقال الفتوح والغنيمة قال إبن عباس في قوله " أولئك هم المؤمنون حقا " قال المؤمن مؤمن حقا والكافر كافر حقا
سورة الأنفال 5 - 6
قوله تعالى " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون " قال القتبي معناه كراهتهم فيما فعلته في الغنائم ككراهتهم الخروج معك ويقال معناه أولئك هم المؤمنون حقا " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن كان فريقا من المؤمنين لكارهون " فكذلك ننفل الغنيمة لمن نشاء وإن كرهوا ذلك ويقال هذا إبتداء القصة ومعناه إمض على وجهك كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون
قوله تعالى " يجادلونك في الحق " وكان هذا بعد خروجه إلى بدر وكانت غزوة بدر في السنة الثانية من مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وفي تلك السنة حولت القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام وكانت غزوة بدر في شهر رمضان وكانت قصته أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن عير قريش خرجت من الشام فيهم أبو سفيان بن حرب ومخرمة بن نوفل في أربعين رجلا من تجار قريش ويقال أكثر من ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه هذه عير أبي سفيان قد أقبلت فاخرجوا إليها فلعل الله أن ينفلكموها على جهادكم وتتقووا بها على عدوكم فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من جهينة حليفين في الأنصار بأن ينظرا ويأتيا بخبر العير فخرجا وأتيا وادي الصفراء وهي منزل من أحد على طريق الشام فقالا لأهل الصفراء هل أحسستم من أحد فقالوا لا فخرجا فمرا بجاريتين تتلازمان فقالت إحداهما للأخرى إقضيني درهما لي عليك فقالت لا والله ما عندي اليوم ولكن عير قريش نزلت بموضع كذا يقدمون غدا فأعمل لهم فأقضيك درهمك فسمع الرجلان ما قالت الجاريتان فرجعا وأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك
فجاء أبو سفيان بن حرب حين أمسى الصفراء فقال لأهل الصفراء هل أحسستم من أحد قالوا لا إلا رجلين نزلا عند هذا الكثيب ثم ركبا فرجع أبو سفيان إلى ذلك الموضع فرأى هناك بعر الإبل فأخذ بعرة ففتها فوجد فيه النوى فقال علائف أهل يثرب واللات والعزى فأرسل من الطريق ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة يخبرهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد إعترض لعيركم فأدركوها
وكانت عاتكة بنت عبد المطلب رأت قبل أن يقدم ضمضم بن عمرو بثلاثة أيام في(2/5)
6
منامها كأن راكبا أقبل على بعير أورق ومعه راية سوداء فدخل المسجد الحرام ثم نادى بأعلى صوته يا آل فلان يا آل فلان إنفروا إلى مصارعكم إلي ثلاث ثم إرتقى على أبي قبيس ونادى ثلاث مرات ثم قلع صخرة من أبي قبيس فرماها على أعلى مكة فتكسرت فلم يبق أحد من قريش إلا أصابته فلقة منها فلما أصبحت قصت رؤياها على أخيها العباس وقالت إني خاف أن يصيب قومك سوء فاغتم العباس بما سمع منها وذكر العباس ذلك للوليد بن عتبة وكان صديقا له فذكر الوليد ذلك لأبيه عتبة بن ربيعة فذكر ذلك عتبة لأبي جهل بن هشام وفشا ذلك الحديث في قريش فخرج العباس إلى المسجد وقد إجتمع فيه صناديد قريش يتحدثون عن رؤيا عاتكة فقال أبو جهل يا أبا الفضل متى حدثت فيكم هذه النبية أما رضيتم أن قلتم منا نبي حتى قلتم منا نبية فوالله لننتظرن بكم ثلاثا فإن جاء تأويل هذه الرؤيا وإلا كتبنا عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب فقال له العباس يا كذاب يا مصفر الاست تاالله أنت أولى بالكذب واللؤم منا
فلما كان اليوم الثالث جاء ضمضم وقد شق قميصه وجدع أذن ناقته وجعل التراب على رأسه وهو ينادي يا معشر قريش الغوث الغوث أدركوا عيركم فقد عرض لها محمد صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا وخرجوا وهم كارهون مشفقون لرؤيا عاتكة ومعهم القينات والدفوف بطرا ورياء كما قال الله تعالى " خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس " [ الأنفال : 47 ] وكل يوم يطعمهم واحد من أغنيائهم
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة وأمر أصحابه بالخروج فخرج معه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا من المهاجرين والأنصار فخرجوا على نواضحهم ليس لهم ظهر غيرها ومعهم ثلاثة أفراس ويقال فرسان فخرجوا بغير قوت ولا سلاح لا يرون أنه يكون ثمة قتالا فلما نزلوا بالروحاء نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم فأخبره بخروج المشركين من مكة إلى عيرهم وقال يا محمد إن الله تعالى وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما العسكر فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بخروج المشركين من مكة إلى عيرهم فشق ذلك على بعضهم وقالوا يا رسول الله هلا كنت أخبرتنا أنه يكون ثم قتالا فنخرج معنا سلاحنا وقسينا وفرسنا إنما خرجنا نريد العير والعير كانت أهون شوكة وأعظم غنيمة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أشيروا علي فكان أبو بكر وعمر يشيران عليه بالمسير وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول أشيروا علي وكان يحب أن يكلمه الأنصار فقال سعد بن معاذ يا رسول الله إمض حيث شئت وأقم حيث شئت فوالله لئن أمرتنا أن نخوض في البحر لنخوضنه ولا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى " فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون " [ المائدة : 24 ] ولكن نقول إذهب
أنت وربك فقاتلا ونحن معكما متبعون فنزل " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق " يعني إمض من الروحاء " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق " " وإن فريقا من المؤمنين لكارهون " يعني القتال " يجادلونك في(2/6)
7
الحق ) يخاصمونك في الحرب " بعدما تبين " يعني بعد ما تبين لهم أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله به " كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون " يعني ينظرون إلى القتل
سورة الأنفال 7 - 8
ثم قال تعالى " وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم " يعني الغنيمة إما العير وإما العسكر " وتودون أن غير ذات الشوكة " يعني تمنون غير ذات السلاح وقال القتبي ومنه قيل فلان شاك في السلاح ويقال " غير ذات الشوكة " يعني شدة القتال " تكون لكم " الغنيمة " ويريد الله أن يحق الحق بكلماته " يعني أن يظهر الإسلام بتحقيقه بما أنزل عليك من القرآن " ويقطع دابر الكافرين " يعني يهلك الشرك ويستأصله " ليحق الحق " يعني ليظهر الإسلام " ويبطل الباطل " يعني الشرك " ولو كره المجرمون " أي المشركون
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم سيروا على بركة الله فإني رأيت مصارع القوم وجاءت قريش وأدركوا العير وأفلتوهم فقال بعضهم لبعض إنما خرجتم لأجل العير فلما وجدتم العير فارجعوا سالمين فقال أبو جهل لا نرجع حتى نقتل محمدا ومن معه فسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل بدرا بجانب الوادي الأدنى ونزل المشركون على جانبه الأقصى على الماء والوادي فيما بينهما فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة حتى أوتر وكانت ليلة النصف من شهر شعبان وقال في قنوته اللهم لا تفلتن أبا جهل بن هشام وفلانا وفلانا فباتوا تلك الليلة وقد أجنبوا وليس معهم ماء فأتاهم الشيطان عند ذلك فوسوس إليهم فقال تزعمون أنكم على دين الله وأنكم تصلون محدثين مجنبين والمشركون على الماء وكان الوادي ذا رمل تغيب فيه الأقدام فمطرت السماء حتى سال الوادي فاشتد ذلك الرمل واغتسل المسلمون من جنابتهم وشربوا وسقوا دوابهم فذلك قوله " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به " [ الأنفال : 11 ] إلى قوله " ويثبت به الأقدام " [ الأنفال : 11 ]
وكان علي والزبير يحرسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء سقاة قريش يستقون الماء فأخذهم علي والزبير فسألاهم عن أبي سفيان فقالوا ما لنا بأبي سفيان من علم فقالا فمع من أنتم فقالوا مع قريش من أهل مكة فقالا فكم هم قالوا لا ندري هم كثير فضرباهم فقالوا هم قليل فتركاهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تضربونهم إن صدقوكم وتتركونهم إن كذبوكم(2/7)
8
فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال كم القوم فقالوا كم هم وهم كثير فلا ندري كم هم فقال كم ينحر لهم في كل يوم فقالوا في يوم ينحر لهم عشرة جذور وفي يوم تسعة فقال النبي صلى الله عليه وسلم القوم ما بين تسعمائة إلى ألف وكانت عدتهم تسعمائة وخمسين وكانوا قد خرجوا من مكة ألفا ومائتين وخمسين فرجع الأخنس بن شريق مع ثلاثمائة من بني زهرة مع العير وبقي تسعمائة وخمسون رجلا
فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف الغداة ورفع يديه وقال اللهم لا تهلك هذه العصابة فإنك إن أهلكتهم لا تعبد على وجه الأرض أبدا فقال أبو بكر عليك يا رسول الله قد دنا القوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبشر يا أبا بكر فإني رأيت جبريل معتمرا بعمامة يقود فرسا بين السماء والأرض فأمده الله بجبريل في ألف من الملائكة وميكائيل في ألف من الملائكة وإسرافيل في ألف من الملائكة فذلك قوله " يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين " [ آل عمران : 124 ]
فقال أبو جهل اللهم أنصر أحب الدينين إليك ديننا العتيق ودين محمد الحديث فقال عتبة بن ربيعة يا معشر قريش إن محمدا رجل منكم فإن يكن نبيا فأنتم أسعد الناس به وإن يكن ملكا تعيشوا في ملك أخيكم وإن يك كاذبا يقتله سواكم لا يكون هذا منكم وإني مع ذلك لأرى قوما زرق العيون لا يموتون حتى يقتلوا عددا منكم فقال أبو جهل يا أبا الوليد جبنت وإنتفخ سحرك فقال له عتبة يا كذاب ستعلم اليوم أينا الجبان فلبس لأمته وخرج معه أخوه شيبة بن ربيعة وخرج معه إبنه الوليد بن عتبة وتقدموا إلى القوم وقالوا يا محمد إبعث إلينا أكفاءنا فخرج إليهم قوم من الأنصار فقالوا لهم من أنتم فقالوا نحن أنصار الله ورسوله فقالوا لا نريدكم ولكن نريد إخواننا من قريش فانصرفوا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا بني هاشم تقدموا إليهم فقام إليهم علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وعليهم البيض فقال لهم عتبة تكلموا حتى نعرفكم فقال حمزة أنا أسد الله وأسد رسوله فقال عتبة كفوء كريم قال فمن هذان معك فقال علي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث فذهب الشيخ إلى الشيخ والشاب إلى الشاب والكهل إلى الكهل فذهب عبيدة إلى شيبة بن ربيعة وكلاهما شيخان وذهب علي إلى الوليد بن عتبة وكلاهما شابان وذهب حمزة إلى عتبة بن ربيعة وكلاهما كهلان فقتل حمزة بن عبد المطلب عتبة بن ربيعة وقتل علي بن أبي طالب الوليد بن عتبة واختلف عبيدة بن الحارث وشيبة بن ربيعة ضربتين ضرب عبيدة بالسيف على رأس شيبة بن ربيعة وضرب شيبة ضربة في رجل عبيدة فمال حمزة وعلي على شيبة بن ربيعة فقتلا شيبة وحملا(2/8)
9
عبيدة إلى العسكر فمات عبيدة في حال إنصرافهم قبل أن يصل إلى المدينة فدفن بمضيق الصفراء
ففي هذا الخبر دليل من الفقه أن المشركين إذا طلبوا البراز فلا بأس للمؤمنين بأن يخرجوا بغير إذن الإمام ما لم ينههم عن ذلك لأن الأنصار قد خرجوا قبل أن يأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه دليل أنه لا بأس بأن ينصر أحد المبارزين صاحبه لأن حمزة وعليا قد أعانا عبيدة على قتل شيبة وفيه دليل أنه لا بأس بالإفتخار عند الحرب لأن حمزة قال أنا أسد الله وأسد رسوله ولا بأس بأن يتبختر في مشيته في حال القتال
ثم خرج مهجع مولى عمر بن الخطاب فأصابته رمية بين الصفين وكان أول قتيل يوم بدر وحرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على القتال فقال عمير بن الحمام السلمي وهو قائم وفي يده تمرات يأكلها فقال يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله فلي الجنة قال نعم فألقى التمرات وأخذ سيفه وشد على القوم فقاتل حتى قتل فخرج أبو جهل بن هشام على جمل له فخرج إليه شاب من الأنصار يقال له معاذ بن عمرو بن الجموح فضربه ضربة على فخذه فخر أبو جهل عن بعيره فخرج إليه عبد الله بن مسعود فلما رآه أبو جهل قال يا ابن أم عبد لمن الدولة اليوم وعلى من الدائرة فقال له إبن مسعود لله ولرسوله يا عدو الله لأنت أعتى من فرعون لأن فرعون جزع عند الغرق وأنت لم يزدك هذا المصرع إلا تماديا في الضلالة ثم وضع رجله على عاتق أبي جهل فقال له أبو جهل لأنت رويعنا بالأمس لقد إرتقيت مرتقى عظيما فقتله عبد الله بن مسعود وحز رأسه وجاء برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخر رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدا ثم قال لأبي بكر ويقال قال لعلي ناولني كفا من التراب فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب ورمى بها في وجوه القوم وقال شاهت الوجوه فدخلت في أعين القوم كلهم وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرون منهم وحملوا على المشركين والملائكة معهم وقذف في قلوب المشركين الرعب وقتلوا في تلك المعركة منهم سبعين وأسروا سبعين وأستشهد يومئذ من المهاجرين والأنصار ثلاثة عشر رجلا ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسارى والغنائم إلى المدينة واستشار النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الأسارى فأقبل على أبي بكر فقال ما تقول يا أبا بكر فقال قومك وبنو عمك فإن قتلتهم صاروا إلى النار وإن تفدهم فلعل الله يهديهم إلى الإسلام ويكون ما نأخذه منهم قوة للمسلمين وقوة على جهادهم بأعدائهم ثم أقبل على عمر فقال ما تقول يا أبا حفص فقال عمر إن في يديك رؤوس المشركين وصناديدهم فاضرب أعناقهم وسيغني الله المؤمنين من فضله فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثلك يا
أبا بكر من الملائكة مثل ميكائيل فإنه لا ينزل إلا بالرحمة ومثلك من الأنبياء مثل إبراهيم حيث قال " فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم " [ إبراهيم : 36 ] ومثل عيسى حيث قال " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " [ المائدة : 118 ](2/9)
10
ومثلك يا عمر من الملائكة مثل جبريل فإنه ينزل بالعذاب والشدة ومثلك من الأنبياء مثل نوح حيث قال " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا " [ نوح : 26 ] ومثل موسى حيث قال " ربنا أطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " [ يونس : 88 ]
وروى سماك بن حرب عن عكرمة عن عبد الله بن عباس قال قيل للنبي صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر عليك بالعير ليس دونها شيء فناداه العباس وهو أسير في وثاقه إنه لا يصلح فقال النبي صلى الله عليه وسلم لم قال لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك
سورة الأنفال 9 - 11
قوله تعالى " إذ تستغيثون ربكم " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى كثرة المشركين علم أنه لا قوة لهم إلا بالله فدعا ربه فقال اللهم إنك لا تخلف الميعاد " فاستجاب " له ربه ونزل " إذ تستغيثون ربكم " يقول واذكروا إذ تسألون ربكم وتدعونه يوم بدر بالنصرة على عدوكم " فاستجاب لكم " يعني فأجابكم ربكم " إني ممدكم " يعني أزيدكم " بألف من الملائكة مردفين " يعني متتابعين بعضهم على أثر بعض قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر " مردفين " بالنصب وقرأ الباقون بالكسر وكلاهما يرجع إلى معنى واحد وهو التتابع
وقال عكرمة أمدهم يوم بدر بألف من الملائكة ووعد لهم ثلاثة آلاف من الملائكة لغزوة بعدها بدعائه وزاده ألفين فذلك خمسة آلاف من الملائكة ويقال هذا كله كان في يوم بدر
ثم قال عز وجل " وما جعله الله إلا بشرى " يقول وما أنزل الله الملائكة إلا للبشارة وقال بعضهم الملائكة لم يقاتلوا وإنما كانوا مبشرين وروي عن إبن عباس أنه قال قاتلت الملائكة يوم بدر ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ولا يوم حنين " وما جعله الله " يعني مدد الملائكة " إلا بشرى " و " لتطمئن قلوبكم " يعني لتسكن إليه قلوبكم " وما النصر إلا من عند الله " يعني ليس النصر بقلة العدد ولا بكثرة العدد ولكن النصر من عند الله " إن الله عزيز حكيم " " عزيز " بالنقمة " حكيم " حكم بالنصرة للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين والهزيمة للمشركين
قوله تعالى " إذ يغشيكم النعاس " يقول ألقى عليكم النوم " أمنة منه " يعني أمنا من عند الله وروى عاصم عن إبن رزين عن عبد الله بن مسعود قال النعاس عند القتال(2/10)
11
أمنة من الله وهو في الصلاة من الشيطان قرأ نافع " يغشيكم " بضم الياء وجزم الغين ونصب النعاس ومعناه يغشيكم الله النعاس وقرأ إبن كثير وأبو عمرو " يغشاكم " بالألف ونصب الياء وضم النعاس يعني أخذكم النعاس وقرأ الباقون بضم الياء وتشديد الشين ونصب النعاس ومعناه يغشيكم الله النعاس أمنة منه والتشديد للمبالغة
ثم قال " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به " يعني بالماء من الأحداث والجنابة " ويذهب عنكم رجز الشيطان " يعني وسوسة الشيطان وكيده وقال القتبي أصل الرجز العذاب كقوله تعالى " رجزا من السماء " [ البقرة : 59 ] ثم سمي كيد الشيطان رجزا لأنه سبب للعذاب
ثم قال " وليربط على قلوبكم " يعني يشدد قلوبكم بالنصرة منه عند القتال " ويثبت به الأقدام " يعني لتستقر الأرجل على الرمل حتى أمكنهم الوقوف عليه ويقال " ويثبت به الأقدام " في الحرب
سورة الأنفال 12 - 14
ثم قال تعالى " إذ يوحي ربك إلى الملائكة " يعني ألهم ربك الملائكة " أني معكم " أي معينكم وناصركم " فثبتوا الذين آمنوا " يعني بشروا المؤمنين بالنصرة فكان الملك يمشي أمام الصف فيقول أبشروا فإنكم كثير وعدوكم قليل والله تعالى ناصركم " سألقي " يعني سأقذف " في قلوب الذين كفروا الرعب " يعني الخوف من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين
ثم علم المؤمنين كيف يضربون ويقتلون فقال تعالى " فاضربوا فوق الأعناق " يعني على الأعناق " واضربوا منهم كل بنان " يعني أطراف الأصابع وغيرها ويقال كل مفصل قال الفقيه سمعت من حكى عن أبي سعيد الفاريابي أنه قال أراد الله إلا يلطخ سيوفهم بفرث المشركين فأمرهم أن يضربوا على الأعناق ولا يضربوا على الوسط ويقال معناه إضربوا كل شيء إستقبلكم من أعضائهم ولا ترحموهم " ذلك بأنهم " يعني ذلك الضرب والقتل بسبب " بأنهم شاقوا الله ورسوله " يعني عادوا الله ورسوله وخالفوا الله ورسوله " ومن يشاقق الله ورسوله " يعني من يخالف الله ورسوله " فإن الله شديد العقاب " إذا عاقب
ثم قال تعالى " ذلكم " القتل يوم بدر " فذوقوه " في الدنيا " وأن للكافرين عذاب(2/11)
12
النار ) يوم القيامة مع القتل في الدنيا يعني أن القتل والضرب لم يصر كفارة لهم
سورة الأنفال 15 - 16
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا " يعني إذا لقيتم الذين كفروا بتوحيد الله تعالى يوم بدر " زحفا " يعني مزاحفة ويقال زحف القوم إذا دنوا للقتال ومعناه إذا واقعتموهم للقتال " فلا تولوهم الأدبار " يعني منهزمين " ومن يولهم يومئذ دبره " يعني تولى ظهره منهزما " يومئذ " يعني يوم حربهم وقال الكلبي يعني يوم بدر خاصة " إلا متحرفا لقتال " يعني مستطردا للكرة يريد الكرة للقتال " أو متحيزا إلى فئة " يعني ينحاز من فئة إلى فئة من أصحابه يمنعونه من العدو قال أهل اللغة تحوزت وتحيزت أي إنضممت إليه ومعناه إذا كان منفردا فينحاز ليكون مع المقاتلة " فقد باء بغضب من الله " وفي الآية تقديم يعني " ومن يولهم يومئذ دبره " " فقد باء بغضب من الله " أي إستوجب الغضب من الله " ومأواه جهنم وبئس المصير " إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة
وروي عن الحسن أنه قال كان كل هذا يوم بدر وغيره وعن الضحاك قال هذا يوم بدر خاصة خاصة لأنه لم يكن لهم فئة ينحازون إليها وعن داود بن أبي هند عن أبي نضرة قال نزلت يوم بدر لأنهم لم ينحازوا إلا إلى المشركين لم يكن في الأرض مسلمون غيرهم وقد قال بعضهم بأن الآية غير منسوخة لأنه لا يجوز للواحد أن يهرب من الإثنين ويجوز أن يهرب من الجماعة وإذا لم يكن معه سلاح جاز له أن يهرب ممن معه السلاح وإذا لم يكن راميا جاز له أن يهرب من الرامي فإذا كان عدد المسلمين نصف عدد الكفار ومعهم سلاح لا يجوز لهم أن يهربوا من الكفار وإذا كان المسلمون إثني عشر ألفا ومعهم سلاح لا يجوز لهم أن يهربوا من الكفار وإن كانوا مائة ألف لأنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال خير الصحابة أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولن يغلب إثنا عشر ألفا من قلة إذا كانت كلمتهم واحدة فينبغي لهم أن يجعلوا كلمتهم واحدة ويقاتلوهم حتى ينصرهم الله تعالى والآية نزلت في الذي لا يجوز له الهرب وروى سليمان بن هلال عن ثور بن زيد عن أبي المغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إجتنبوا الموبقات(2/12)
13
قالوا وما هي يا رسول الله قال الشرك بالله وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات
سورة الأنفال 17 - 18
قوله تعالى " فلم تقتلوهم " وذلك أن المسلمين كانوا يقولون قتلنا فلانا وقتلنا فلانا فأراد الله تعالى أن لا يعجبوا بأنفسهم فقال " فلم تقتلوهم " يقول فما قتلتموهم " ولكن الله قتلهم " يعني الله تعالى نصركم وأمدكم بالملائكة " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " يعني الله تعالى تولى ذلك وذلك حين رمى النبي صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فملأ الله تعالى أعينهم بها فانهزموا قال الله تعالى " وما رميت " أي لم تصب رميتك ولم تبلغ ذلك المبلغ ولكن الله تعالى تولى ذلك ويقال رمى النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد بالحربة فأصابت أبي بن خلف الجمحي فقتله
قرأ حمزة والكسائي " ولكن الله رمى " بكسر النون والتخفيف و " الله " بالضم وكذلك في قوله " ولكن الله قتلهم " وقرأ الباقون بنصب النون مع التشديد ونصب ما بعده
ثم قال " وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا " يعني لينصرهم نصرا جميلا ويختبرهم بالتي هي أحسن ويقال ولينعم المؤمنين نعمة بينة " إن الله سميع عليم " يعني سميع لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وعليم بإجابته
" ذلكم " يعني الهلاك والهزيمة للكفار ويقال معناه الأمر من ربكم " ذلكم " ثم إبتداء فقال " وأن الله موهن كيد الكافرين " يعني مضعف كيد الكافرين يعني صنيع الكافرين ببدر وقرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو " موهن كيد الكافرين " بنصب الواو والتشديد منونة " كيد " بنصب الدال وقرأ عاصم في رواية حفص " موهن " بضم النون بغير تنوين " كيد " بكسر الدال على معنى الإضافة وقرأ الباقون " موهن " بالتنوين والتخفيف " كيد " بنصب الدال والموهن والموهن واحد ويقال وهنت الشيء وأوهنته إذا جعلته واهنا ضعيفا
سورة الأنفال 19
ثم قال تعالى " إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح " يقول إن تستنصروا فقد نصركم الله(2/13)
14
وذلك حين قال أبو جهل بن هشام اللهم أنصر أعز الجندين إليك وأحب الفئتين إليك فاستجيب دعاؤه على نفسه وعلى أصحابه
ثم قال " وإن تنتهوا " عن قتاله " فهو خير لكم " من قتاله ويقال إن أهل مكة حين أرادوا الخروج إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة وقالوا اللهم أي الفئتين أحب إليك فانصرهم فنزل " إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا " عن قتال محمد صلى الله عليه وسلم وعن الكفر " فهو خير لكم " من الإقامة عليه " وإن تعودوا " لقتال محمد صلى الله عليه وسلم " نعد " عليكم الهزيمة " ولن تغني عنكم فئتكم " يعني جماعتكم " شيئا ولو كثرت " في العدد " وأن الله مع المؤمنين " يعني معين لهم وناصرهم قرأ نافع وإبن عامر وعاصم في إحدى الروايتين " وأن الله " بالنصب والباقون بالكسر على معنى الإستئناف ويشهد لها قراءة عبد الله بن مسعود والله مع المؤمنين
سورة الأنفال 20 - 21
ثم قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله " في أمر الغنيمة والصلح " ولا تولوا عنه " يعني لا تعرضوا عن أمره ويقال عن طاعته ويقال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأنتم تسمعون " المواعظ في القرآن وفي أمر الصلح
قوله تعالى " ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون " يعني لم يسمعوا ولم يفهموا ولم يتفكروا فيما سمعوا ويقال إن قوله " ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا " أي قالوا أطعنا " وهم لا يسمعون " يعني لا يطيعون قال الكلبي وهم بنو عبد الدار لم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويد بن خويلد وقال الضحاك ومقاتل " ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا " الإيمان " وهم لا يسمعون " أي لا يؤمنون هم المنافقون
سورة الأنفال 22 - 23
ثم قال عز وجل " إن شر الدواب عند الله " يعني إن شر الناس عند الله " الصم " عن الهدى " البكم " يعني الخرس الذين لا يتكلمون بخير " الذين لا يعقلون " الإيمان يعني بني عبد الدار وغيرهم من الكفار الذين لم يسلموا
قوله تعالى " ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم " يعني يقول لو علم الله تعالى فيهم صدقا لأعطاهم الإيمان وأكرمهم به " ولو أسمعهم " يعني لو أكرمهم بالإسلام " لتولوا وهم معرضون " يعني أعرضوا عن الإيمان بما سبق في علم الله فيهم وقال الزجاج معناه(2/14)
15
" ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم " الجواب عن كل ما يسألون عنه " ولو أسمعهم " يعني ولو بين لهم كل ما يختلج في نفوسهم لأعرضوا عنه لمعاندتهم
سورة الأنفال 24 - 26
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إستجيبوا لله " يعني أجيبوا الله بالطاعة في أمر القتال " وللرسول إذا دعاكم " إلى القتال أو غيره وإنما قال " إذا دعاكم " ولم يقل إذا دعواكم لأن الدعوة واحدة ومن يجب الرسول فقد أجاب الله تعالى
قوله تعالى " لما يحييكم " يعني القرآن الذي به حياة القلوب ويقال " لما يحييكم " أي أمر الحرب الذي يعزكم ويصلحكم ويقويكم بعد الضعف ويقال " لما يحييكم " يعني يهديكم ويقال " لما يحييكم " يعني لما يكون سببا للحياة الدائمة في نعيم الآخرة " واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه " قال الفقيه حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا فارس بن مردويه عن محمد بن الفضل عن أبي مطيع عن حماد بن سلمة عن الكلبي عن أبي صالح عن إبن عباس أنه قال يحول بين المؤمن ومعاصيه التي تسوقه وتجره إلى النار ويحول بين الكافر وطاعته التي تجره إلى الجنة ويقال يحول بين المرء وإرادته لأن الأمر لا يكون بإرادة العبد وإنما يكون بإرادة الله تعالى كما قال أبو الدرداء
( يريد المرء أن يعطى مناه % ويأبى الله إلا ما أرادا )
ويقال يحال " بين المرء وقلبه " يعني وأمله لأن الأجل حال دون الأمل وقال سعيد بن جبير يحول بين الكافر والإيمان وبين المؤمن والكفر وقال مجاهد " يحول بين المرء وقلبه " يعني يدركه ولا يفعله ثم قال " وأنه إليه تحشرون " يعني في الآخرة فتثابون بأعمالكم
قوله تعالى " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة " قال مقاتل نزلت الآية في شأن علي وطلحة والزبير قال الفقيه حدثنا عمر بن محمد قال حدثنا أبو بكر الواسطي قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا قبيصة عن سفيان عن جويبر عن الضحاك في قوله تعالى " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة " قال نزلت في شأن أصحاب(2/15)
16
محمد صلى الله عليه وسلم قال حدثنا عمر بن محمد قال حدثنا أبو بكر الواسطي قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا أبو معاوية عن السدي عن المعلى عن أبي ذر أن عمر أخذ بيده يوما فغمزها فقال خل عني يا قفل الفتنة فقال عمر ما قولك قفل الفتنة قال إنك جئت ذات يوم فجلست آخر القوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تصيبنكم فتنة ما دام لهذا فيكم وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال جعلت أنا وعثمان فتنة لهذه الأمة وقال بعضهم قوله " لا تصيبن الذين ظلموا منكم " خاصة يعني لا تعرضوا الذين ظلموا منكم خاصة لما ينزل بهم وقال بعضهم هذا جواب الأمر بلفظ النهي مثل قوله تعالى " لا يحطمنكم سليمان وجنوده " [ النمل : 18 ]
ثم قال تعالى " واعلموا أن الله شديد العقاب " أي لمن وقع في الفتنة ثم ذكرهم النعم فقال " واذكروا إذ أنتم قليل " يعني واحفظوا نعمة الله عليكم إذ كنتم قليلا في العدد وهم المهاجرون والأنصار " مستضعفون في الأرض " يعني مقهورون في أرض مكة " تخافون أن يتخطفكم الناس " يعني يختلسكم الناس ويذهب بكم الكفار وهم أهل فارس والروم " فآواكم " بالمدينة " وأيدكم " يعني وقواكم وأعانكم " بنصره " يوم بدر وقال قتادة كانوا بين أسدين قيصر وكسرى " تخافون أن يتخطفكم الناس " وهم أهل فارس والروم والعرب ممن حول مكة
ثم قال " ورزقكم من الطيبات " يعني الحلال وهو الغنيمة " لعلكم تشكرون " يعني لكي تشكروا الله وتطيعوه وتعرفوا ذلك منه
سورة الأنفال 27 - 29
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول " روى أسباط عن السدي قال كانوا يسمعون من النبي عليه السلام الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين فنهاهم الله عن ذلك فقال " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول " ويقال كل رجل مؤتمن على ما فرض الله عليه إن شاء أداها وإن شاء خانها وقال القتبي الخيانة أن يؤتمن على شيء فلا يؤدي إليه ثم سمى العاصي من المسلمين خائنا لأنه قد إئتمن على دينه فخان كما قال في آية أخرى " علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم " [ البقرة : 187 ] ويقال نزلت الآية في أبي(2/16)
17
لبابة بن عبد المنذر حين أشار إلى بني قريظة أن لا ينزلوا على حكم سعد وأشار إلى حلقه إنه الذبح وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر بني قريظة من بعد إنصرافهم من الخندق ووقف بباب الحصن وفيه ستمائة رجل من اليهود وقد كانوا ظاهروا قريشا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداهم يا إخوة القردة والخنازير إنزلوا على حكم الله ورسوله فقالت اليهود يا محمد ما كنت فحاشا قبل هذا فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر فدخل على اليهود فركنوا إليه وقالوا يا أبا لبابة أتأمرنا بالنزول إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأشار بيده إلى حلقه يعني إنه الذبح إن نزلتم إليه فقال أبو لبابة والذي نفسي بيده ما زالت قدماي من مكاني حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله وأوثق نفسه إلى سارية المسجد حتى أنزل الله تعالى توبته ونزل " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول " " وتخونوا أماناتكم " يعني لا تخونوا أماناتكم " وأنتم تعلمون " أنها خيانة قال محمد بن إسحاق " لا تخونوا الله والرسول " يعني لا تظهروا له من الحق ما يرضى عنكم ثم تخالفوه في السر فإن ذلك هلاكا لأنفسكم وخيانة لأماناتكم
ثم قال عز وجل " واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة " يعني بلاء عليكم لأن أبا لبابة إنما ناصحهم من أجل ماله وولده الذي كان عند بني قريظة " وأن الله عنده أجر عظيم " يعني الجنة لمن صبر ولم يخن
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله " يعني إن تطيعوا الله ولا تعصوه " يجعل لكم فرقانا " يعني يجعل لكم مخرجا ونجاة ونصرا في الدنيا ويقال المخرج من الشبهات وقال مجاهد مخرجا في الدنيا والآخرة " ويكفر عنكم سيئاتكم " يقول يمحو عنكم ذنوبكم " ويغفر لكم " يعني يستر ذنوبكم وعيوبكم " والله ذو الفضل العظيم " يعني ذو الكرم والتجاوز عن عباده
سورة الأنفال 30
قوله تعالى " وإذ يمكر بك الذين كفروا " وذلك أن نفرا من قريش إجتمعوا في دار الندوة وكانت قريش إذا إجتمعوا للمشورة والتدبير كانوا يجتمعون في تلك الدار فاجتمعوا فيها وأغلقوا الباب لكيلا يدخل رجل من بني هاشم ليمكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ويحتالوا في أمره(2/17)
18
فدخل إبليس لعنه الله في صورة شيخ وعليه ثياب أطمار وجلس معهم فقالوا من أدخلك أيها الشيخ في خلوتنا بغير إذننا فقال أنا رجل من أهل نجد ورأيت حسن وجوهكم وطيب ريحكم فأردت أن أسمع حديثكم وأقتبس منكم خيرا وقد عرفت مرادكم فإن كرهتم مجلسي خرجت عنكم فقالوا هذا رجل من أهل نجد وليس من أرض تهامة لا بأس عليكم منه فتكلموا فيما بينهم فقال عمرو بن هشام أرى أن تأخذوه وتجعلوه في بيت وتسدوا بابه وتجعلوا له كوة لطعامه وشرابه حتى يموت فقال إبليس بئس الرأي الذي رأيت تعمدون إلى رجل له فيكم أهل بيت وقد سمع به من حولكم فتحبسونه وتطعمونه يوشك أهل بيته الذين له فيكم أن يقاتلوكم ويفسدوا جماعتكم فقالوا صدق والله الشيخ ثم تكلم أبو البختري بن هشام قال أرى أن تحملوه على بعير ثم تخرجوه من أرضكم حتى يموت أو يذهب به حيث شاء فقال إبليس بئس الرأي الذي رأيت تعمدون إلى رجل أفسد جماعتكم ومعه منكم طائفة فتخرجوه إلى غيركم فيأتيهم سوء فيفسد منهم أيضا جماعة ويقبل إليكم ويكون فيه هلاككم فقالوا صدق والله الشيخ
فقال أبو جهل أرى أن يجتمع من كل بطن منكم رجل ثم تعطونهم السيوف فيضربونه جميعا فلا يدري قومه من يأخذون وتؤدي قريش ديته فقال إبليس صدق والله هذا الشاب فتفرقوا على ذلك فأمره الله تعالى بالهجرة وأخبره بمكر المشركين فنزلت هذه الآية " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك " يعني ليحبسوك في البيت " أو يقتلوك " بالسيف " أو يخرجوك " من مكة
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب بأن يبيت في مكانه ثم خرج ومعه أبو بكر ونام علي مكانه وأهل مكة يحرسونه ويظنون أنه في البيت ثم دخلوا البيت فإذا هو علي رضي الله عنه فقالوا يا علي أين محمد فقال لا أدري فطلبوه فلم يجدوه " ويمكرون " يعني ويمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويريدون به الشر " ويمكر الله " يعني ويريد بهم الهلاك حين أخرجهم إلى بدر فقتلوا " والله خير الماكرين " يعني أصدق الماكرين فعلا وأفضل الصانعين صنعا وأعدل العادلين عدلا
سورة الأنفال 31 - 32
قوله تعالى " وإذا تتلى عليهم آياتنا " يعني القرآن " قالوا قد سمعنا " يعني قد سمعنا قولك " لو نشاء لقلنا مثل هذا " القرآن " إن هذا إلا أساطير الأولين " نزلت في شأن نضر بن الحارث كان يحدث عن الأمم الخالية من حديث رستم وإسفنديار فقال إن(2/18)
19
الذي يخبركم محمد مثل ما أحدثكم من أحاديث الأولين وكذبهم فقال له عثمان بن مظعون إتق الله يا نضر فإنه ما يقول إلا حقا فقال النضر بن الحارث " وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك " يعني إن كان ما يقول محمد من القرآن حقا " فأمطر علينا حجارة من السماء " قال أبو عبيدة كل شيء في القرآن أمطر فهو من العذاب وما كان من الرحمة فهو مطر وروى أسباط عن السدي قال قال النضر بن الحارث اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء " أو إئتنا بعذاب أليم " فنزل " سأل سائل بعذاب واقع " [ المعارج : 1 ] فاستجيب دعاؤه وقتل في بدر
قال سعيد بن جبير قتل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة يوم بدر صبرا النضر بن الحارث وطعمة بن عدي وعتبة بن أبي معيط وكان النضر أسره المقداد فقال المقداد يا رسول الله أسيري فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه كان يقول في الله ورسوله ما يقول فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيري فقال اللهم أغن المقداد من فضلك فقال المقداد هذا الذي أردت فنزل " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " وكان ذلك القول من النضر حين كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة فأخبر الله تعالى أنه لا يعذبهم وأنت بين ظهرانيهم حتى يخرجك عنهم كما أخرج الأنبياء قبلك عن قومهم ثم عذبهم
سورة الأنفال 33 - 35
ثم قال عز وجل " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " يعني يصلون لله الصلوات الخمس وهم أهل الإيمان وقال مجاهد " وهم يستغفرون " يعني وهم مسلمون ويقال فيهم من يؤول أمره إلى الإسلام ويقال " وهم يستغفرون " يعني وفي أصلابهم من يسلم وروي عن أبي موسى الأشعري قال كان أمانان في الأرض رفع أحدهما وبقي الآخر " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " وقال عطية " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " يعني المشركين حتى يخرجك منهم " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " يعني المؤمنين
ثم عاد إلى ذكر المشركين فقال " وما لهم إلا يعذبهم الله " يعني بعد ما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بينهم " وهم يصدون عن المسجد الحرام " يعني يمنعون المؤمنين عن المسجد الحرام " وما كانوا أولياءه " يعني المشركين قال الكلبي يعني ما كانوا(2/19)
20
أولياء المسجد الحرام ويقال وما كانوا أولياء الله " إن أولياؤه إلا المتقون " يعني ما كان أولياء الله إلا المتقون من الشرك " ولكن أكثرهم لا يعلمون " توحيد الله
ثم قال " وما كان صلاتهم " معناه وما لهم ألا يعذبهم الله " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية " يعني لم تكن صلاتهم حول البيت " إلا مكاء " يعني إلا الصفير " وتصدية " يعني التصفيق باليدين إذا صلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام قرأ الأعمش " ما كان صلاتهم " بالنصب " إلا مكاء وتصدية " كلاهما بالضم وهكذا قرأ عاصم في إحدى الروايتين فجعل الصلاة خبر كان وجعل المكاء والتصدية إسم كان وقرأ الباقون " صلاتهم " بالضم فجعلوه إسم كان " ومكاء وتصدية " بالنصب على معنى خبر كان
ثم قال " فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " بتوحيد الله تعالى فأهلكهم الله في الدنيا ولهم عذاب الخلود في الآخرة
سورة الأنفال 36 - 38
قوله تعالى " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم " على عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليصدوا عن سبيل الله " يعني ليصرفوا الناس عن دين الله وطاعته قال إبن عباس نزلت الآية في المطعمين يوم بدر وهم الذين كانوا يطعمون أهل بدر حين خرجوا في طريقهم
قال الله تعالى " فسينفقونها " وكانوا ثلاثة عشر رجلا أطعموا الناس الطعام فكان على كل رجل منهم يوما منهم أبو جهل وأخوه الحارث إبنا هشام وعتبة وشيبة إبنا ربيعة ومنبه ونبيه إبنا الحجاج وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام وأبي بن خلف وغيرهم
يقول الله تبارك وتعالى " فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة " يعني تكون نفقاتهم عليهم حسرة وندامة لأنها تكون لهم زيادة العذاب فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم وقال مجاهد هو نفقة أبي سفيان على الكفار يوم أحد وقال الحكم أنفق أبو سفيان على المشركين يوم أحد أربعين أوقية ذهبا " ثم يغلبون " يعني يهزمون ولا تنفعهم نفقتهم شيئا " والذين كفروا إلى جهنم يحشرون " يعني القتل والهزيمة لم تكن كفارة لذنوبهم فيحشرون في الآخرة إلى جهنم
ثم قال الله تعالى " ليميز الله الخبيث من الطيب " يعني " الخبيث " من العمل(2/20)
21
و " الطيب " من العمل " ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا " يعني يجمعه وهذا قول الكلبي وقال مقاتل ليميز الله الكافرين من المؤمنين ويجعل في الآخرة الخبيثة أنفسهم ونفقاتهم وأنفسهم فيركم بعضه على بعض جميعا " فيجعله في جهنم " ويقال " ليميز الله الخبيث من الطيب " بين ونفقة المؤمنين ونفقة المشركين فيقبل نفقة المؤمنين ويثيبهم على ذلك ويجعل نفقة الكفار وبالا عليهم ويجعل ذلك سببا لعقوبتهم فتكون بها جباههم وقال القتبي " فيركمه " أي يجعله ركاما بعضه على بعض
ثم قال " أولئك هم الخاسرون " يعني المغبونين في العقوبة قرأ حمزة والكسائي " ليميز الله " بضم الياء مع التشديد والباقون " ليميز " بالنصب مع التخفيف ومعناهما واحد ماز يميز وميز يميز
قوله تعالى " قل للذين كفروا إن ينتهوا " يعني أبا سفيان وأصحابه وما كان في مثل حالهم إلى يوم القيامة " إن ينتهوا " أي عن الشرك وعن قتال محمد وعن المؤمنين " يغفر لهم ما قد سلف " يعني يتجاوز عنهم ما سلف من ذنوبهم وشركهم " وإن يعودوا " إلى قتال محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه " فقد مضت سنة الأولين " بنصرة أوليائه وقهر أعدائه ويقال يعني القتل يحذرهم بالعقوبة لكيلا يعودوا فيصيبهم مثل ما أصابهم وقال الكلبي " فقد مضت سنة الأولين " أن ينصر الله أنبيائه ومن آمن معهم كقوله " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا " [ غافر : 51 ]
سورة الأنفال 39 - 40
ثم حث المؤمنين على قتال الكفار فقال تعالى " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " يعني لا يكون الشرك بمكة ويقال حتى لا يتخذوا شركاء ويوحدوا ربهم " ويكون الدين كله لله " يعني يظهر دين الإسلام ولا يكون دين غير دين الإسلام " فإن إنتهوا " عن الشرك وعن عبادة الأوثان وقتال المسلمين " فإن الله بما يعملون بصير " فيثيبكم بأعمالكم " وإن تولوا " يعني أبوا وأعرضوا عن الإيمان يا معشر المؤمنين " فاعلموا أن الله مولاكم " يعني حافظكم وناصركم
ثم قال " نعم المولى ونعم النصير " " نعم المولى " يعني الحفيظ و " نعم النصير " يعني المانع
سورة الأنفال 41(2/21)
22
قوله تعالى " واعلموا أنما غنمتم من شيء " علمهم قسم الغنيمة وجعل أربعة أخماسها للذين أصابوها وأمر بأن يقسم الخمس على خمسة أسهم وقال بعضهم على ستة أسهم وقال أبو العالية الرياحي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالغنيمة فيقسمها على خمسة أسهم أربعة لمن شهدها ويأخذ الخمس فيجعله على ستة أسهم سهم لله تعالى فيجعل للكعبة وسهم للرسول وسهم لذوي القربي يعني قرابة النبي صلى الله عليه وسلم وسهم لليتامي وسهم للمساكين وسهم لإبن السبيل وقال بعضهم سهم الله ورسوله واحد
وروى سفيان عن قيس بن مسلم قال سألت الحسن بن محمد بن الحنفية عن قوله " فأن لله خمسه " قال هذا مفتاح الكلام لله الدنيا والآخرة ثم قال وقد إختلف بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في سهم الرسول وسهم ذوي القربى فقال بعضهم للخليفة وقال بعضهم لقرابة الخليفة فاجتمعوا على أن جعلوا هذين السهمين في الكراع والعدة في سبيل الله تعالى فكانا كذلك في خلافة أبي بكر وعمر وروى أبو يوسف عن الكلبي عن أبي صالح عن إبن عباس قال كان الخمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم على خمسة أسهم سهم الله ورسوله واحد ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وقسم بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي على ثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل وبهذا أخذ أبو حنيفة وأصحابه أن الخمس يقسم على ثلاثة أسهم ولا يكون لأغنياء ذوي القربى شيء ويكون لفقرائهم فيه نصيب كما يكون لسائر الفقراء وكذلك يتاماهم وابن السبيل منهم
ثم قال " إن كنتم آمنتم بالله " يجوز أن تكون متعلقة بقوله " فاعلموا أن الله مولاكم " إن كنتم آمنتم بالله عز وجل ويجوز أن يكون معناه فاقبلوا ما أمرتم به من القسمة في الخمس " إن كنتم آمنتم بالله " يعني إن كنتم صدقتم بتوحيد الله " وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان " يعني وصدقتم بما أنزلنا على محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن يوم الفرقان يعني يوم بدر قال الكلبي يعني يوم النصر يوم بدر فرق بين الحق والباطل وقال مقاتل معناه وما أنزلنا من الفرقان يوم بدر فأقروا بحكم الله تعالى في أمر الغنيمة " يوم التقى الجمعان " يعني يوم جمع المسلمين وجمع المشركين " والله على كل شيء قدير " يعني على نصرة المؤمنين وهزيمة الكفار
سورة الأنفال 42(2/22)
23
ثم قال الله تعالى " إذ أنتم بالعدوة الدنيا " يعني أذكروا هذه النعمة إذ كنتم بالعدوة الدنيا قرأ إبن كثير وأبو عمرو " بالعدوة " بالكسر وقرأ الباقون بالضم ومعناهما واحد وهو شفير الوادي ويقال عدوة الوادي وعدوته يعني كنتم على شاطىء الوادي مما يلي المدينة " وهم بالعدوة القصوى " يعني من الجانب الآخر مما يلي مكة " والركب أسفل منكم " يعني العير أسفل منكم بثلاثة أميال على شاطىء البحر حين أقبلوا من الشام " ولو تواعدتم " أنتم والمشركون بالإجماع للقتال " لاختلفتم في الميعاد " أنتم والمشركون " ولكن " جمع الله بينكم على غير ميعاد " ليقضي الله أمرا كان مفعولا " يعني كائنا وكان من قضائه هزيمة الكفار ونصرة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه
قوله تعالى " ليهلك من هلك عن بينة " يقول ليكفر من أراد أن يكفر بعد البيان له من الله تعالى " ويحيى من حي عن بينة " يقول ويؤمن من أراد أن يؤمن بعد البيان له من الله تعالى وقال الكلبي " ليهلك من هلك " على الكفر بعد البيان " ويحيي من حي " بالإيمان " عن بينة " ويقال هذا وعيد من الله لأهل مكة يقول ليقم على كفره من أراد أن يقيم بعد ما بينت له الحق ببدر حين فرقت الحق من الباطل " ويحيي " يعني يقم على الإيمان من أراد أن يقيم بعد ما أرسلت إليه الرسول وأقمت عليه الحجة قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن كثير في رواية شبل البزي " من حيي " بإظهار الياءين والباقون بياء واحدة وأصله بياءين إلا أن أحد الحرفين أدغم في الآخر لأنهما من جنس واحد ثم قال " وإن الله لسميع عليم "
سورة الأنفال 43 - 44
قوله تعالى " إذ يريكهم الله في منامك قليلا " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن العدو قليل قبل أن يلتقوا فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما رأى في المنام أن العدو قليل فقالوا رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق والقوم القليل فلما إلتقوا ببدر قلل الله المشركين في أعين المؤمنين لتصديق رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم
ثم قال " ولو أراكهم كثيرا لفشلتم " يعني لجبنتم وتركتم الصف " ولتنازعتم في الأمر " يعني إختلفتم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم " ولكن الله سلم " يعني ولكن الله أتم للمسلمين أمرهم على عدوهم ويقال " سلم " يعني قضى بالهزيمة على الكفار والنصرة للمؤمنين ويقال " إذ يريكهم الله في منامك قليلا " يعني في عينك لأن العين موضع النوم في موضع منامك وروي عن الحسن قال معناه في عينيك التي تنام بها ثم قال " إنه عليم بذات الصدور "(2/23)
24
قوله تعالى " وإذ يريكموهم إذ إلتقيتم " يعني إلتقيتموهم يوم بدر " في أعينكم قليلا " في العدد وروى أبو عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين قال أراهم مائة حتى أخذنا رجلا منهم فسألناه فقال كنا ألفا
ثم قال " ويقللكم في أعينهم " يا معشر المؤمنين في أعين المشركين وذلك حين لقوا العدو وقلل الله المشركين في أعين المؤمنين لكيلا يجبنوا وقلل المؤمنين في أعين المشركين ليزدادوا جرأة على القتال حتى قتلوا ولكي يظهر عندهم فضل المؤمنين " ليقضي الله أمرا كان مفعولا " يعني إذا قضى الله تعالى أمرا فهو كائن وهو النصرة للمؤمنين والذل لأهل الشرك بالقتل والهزيمة " وإلى الله ترجع الأمور " يعني عواقب الأمور في الآخرة
سورة الأنفال 45 - 47
ثم ثبت المؤمنين على القتال فقال تبارك وتعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا " يعني جماعة من الكفار " فاثبتوا " لهم وقاتلوهم مع نبيكم " واذكروا الله كثيرا " يعني في الحرب " لعلكم تفلحون " يعني تفوزون به وتؤمنون به
ثم قال الله تعالى " وأطيعوا الله ورسوله " فيما يأمركم من القتال " ولا تنازعوا " يعني لا تختلفوا فيما بينكم من القتال " فتفشلوا " يعني فتجبنوا من عدوكم " وتذهب ريحكم " وقال مجاهد يعني نصرتكم وذهبت ريحكم يوم أحد حين نازعتموه وقال الأخفش يعني دولتكم وقال قتادة الريح الحرب وأصله في اللغة تستعمل في الدولة ويقال الريح له اليوم يراد به الدولة
ثم قال " واصبروا " يعني لقتال عدوكم " إن الله مع الصابرين " يعني معين لهم وناصرهم " ولا تكونوا " يعني " ولا تكونوا " يا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " كالذين خرجوا من ديارهم " معناه قاتلوا لوجه الله تعالى ولا تقاتلوا رياء وسمعة " بطرا " يعني أشرا ورياء وأصله الطغيان في النعمة " ورئاء الناس " يعني لكي يذكروا بمسيرهم يقولون تسامع الناس بمسيرنا وقال محمد بن إسحاق خرجت قريش وهم تسعمائة وخمسون مقاتلا ومعهم مائتا فرس يقودونها وخرجوا ومعهم القينات يضربون بالدفوف ويتغنين بهجاء المسلمين(2/24)
25
ثم قال " ويصدون عن سبيل الله " يعني يصرفون الناس عن دين الإسلام " والله بما يعملون محيط " يعني عالم بهم وبأعمالهم
سورة الأنفال 48 - 51
قوله تعالى " وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم " يعني مسيرهم ومعناه أن خروجهم لما كان للشيطان " زين لهم الشيطان أعمالهم " وذلك أن أهل مكة لما وجدوا العير أرادوا الرجوع إلى مكة فأتاهم إبليس على صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني فقال لهم لا ترجعوا حتى تستأصلوهم فإنكم كثير وعدوكم قليل
ثم قال " وقال لا غالب لكم اليوم من الناس " يعني لا يطيقكم أحد لكثرتكم وقوتكم " وإني جار لكم " يعني معين لكم وهؤلاء بنو كنانة تأتيكم وهم على أثرى " فلما تراءت الفئتان " يعني إجتمع الجمعان جمع المؤمنين وجمع المشركين " نكص على عقبيه " يعني راجعا وراءه فقال له الحارث بن هشام أين ما ضمنت لنا " وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون " فقال له الحارث وهل ترى إلا جعاشيش أهل يثرب والجعاشيش جمع جعشوش وهو الرجل الحقير الدميم القصير فقال " إني أخاف الله والله شديد العقاب " قال إبن عباس خاف إبليس أن يأخذه جبريل أسيرا فيعرفه الناس فيراه الكفار فيعرفونه بعد ذلك فلا يطيعونه ولم يخف على نفسه الموت والقتل لأنه كان يعلم أن له بقاء إلى يوم ينفخ في الصور قال إبليس " إني أرى ما لا ترون " أي أرى جبريل معتجرا بردائه يقود الفرس فلما تولى قالوا هزم الناس سراقة فسار سراقة بعد رجوعهم إلى مكة وقال والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم فقالوا له ألم تأتنا يوم كذا وكذا فحلف أنه لم يحضر فلما أسلموا علموا أنه كان إبليس
وقال مقاتل لم يجتمع جمع قط منذ كانت الدنيا أكثر من يوم بدر وذلك إن إبليس جاء(2/25)
26
بنفسه وحضرت الشياطين وحضر كفار الجن كلهم وتسعمائة وخمسين من المشركين وثلاثمائه عشر من المؤمنين وتسعون من مؤمني الجن وألفا من الملائكة وروي عن الحسن البصري أنه كان إذا قرأ هذه السورة كان يقول طوبى لجيش كان قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبارزهم أسد الله وجهادهم طاعة الله ومددهم ملائكة الله وجاسوسهم أمين الله وثوابهم رضوان الله
قوله تعالى " إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض " يعني شكا ونفاقا قال الحسن هم قوم من المنافقين لم يشهدوا القتال يوم بدر فسموا منافقين وقال الضحاك نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه ويقال معناه " إذ يقول المنافقون " وهم الذين في قلوبهم مرض قال إبن عباس نزلت الآية في الذين أسلموا بمكة وتخلفوا عن الهجرة فأخرجهم أهل مكة إلى بدر كرها فلما رأوا قلة المؤمنين إرتابوا ونافقوا وقالوا لأهل مكة " غر هؤلاء دينهم " وقاتلوا مع المشركين فقتل عامتهم
يقول الله تعالى " ومن يتوكل على الله " يعني يثق بالله ولا يثق بغيره " فإن الله عزيز " بالنقمة " حكيم " حكم الهزيمة على المشركين فلما قتلوا ضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم فنزل " ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا " يعني ولو ترى يا محمد إذ يتوفى الذين كفروا حين يقبض أرواحهم " الملائكة يضربون وجوههم " عند قبض أرواحهم ويضربون " وأدبارهم " يعني ويضربون ويقول لهم الملائكة يوم القيامة " ذوقوا عذاب الحريق " ولم يذكر الجواب لأن في الكلام دليلا عليه ومعناه لو رأيت ذلك لرأيت أمرا عظيما قرأ إبن عامر " إذ تتوفى " الذين بلفظ التأنيث وقرأ الباقون " يتوفى " بلفظ التذكير وروي عن إبن مسعود أنه كان يذكر الملائكة في جميع القرآن خلافا للمشركين لقولهم الملائكة بنات الله
ثم قال تعالى " ذلك بما قدمت أيديكم " يعني ذلك العذاب " بما قدمت أيديكم " من الكفر والتكذيب وبترككم الإيمان " وأن الله ليس بظلام للعبيد " يقول لم يعذبهم بغير ذنب
سورة الأنفال 52 - 54
ثم قال عز وجل " كدأب آل فرعون " يعني صنيعهم كصنيع آل فرعون ويقال كأشباه آل فرعون في التكذيب والجحود " والذين من قبلهم " من الأمم الخالية " كفروا بآيات الله " يعني جحدوا بعذاب الله في الدنيا أنه غير نازل بهم " فأخذهم الله " يعني عاقبهم(2/26)
27
وأهلكهم " بذنوبهم " وشركهم ثم قال " إن الله قوي شديد العقاب " يعني " قوي " في أخذه " شديد العقاب " لمن عصاه
قوله تعالى " ذلك " العذاب الذي نزل بهم " بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " _ في الدين والنعم فإذا غيروا غير الله عليهم ما بهم من النعمة وهذا قول الكلبي وروى أسباط عن السدي في قوله " لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم " قال أنعم الله تعالى بمحمد صلى الله عليه وسلم على أهل مكة وكفروا به فنقله إلى الأنصار ويقال أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف فلم يشكروا فجعل لهم مكان الأمن الخوف ومكان الرخاء الجوع وهذا كقوله " وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مطمئنة " إلى قوله " فأذاقها الله لباس الجوع والخوف " [ النحل : 112 ] وقال الضحاك ما عذب الله قوما قط ولا سلبهم النعمة ولا فرق بينهم وبين العافية حتى كذبوا رسلهم فلما فعلوا ذلك ألزمهم الذل وسلبهم العز فذلك قوله تعالى " ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " ثم قال " وأن الله سميع عليم " " سميع " لمقالتهم " عليم " بأفعالهم
ثم قال " كدأب آل فرعون " في الهلاك " والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم " يعني بكفرهم " وأغرقنا آل فرعون " يعني فرعون لإدعائه الربوبية ولأنهم عبدوا غيري " وكل كانوا ظالمين " يعني مشركين ومعناه كصنيع آل فرعون وقد أعطاه الله تعالى الملك والعز في الدنيا ولم يغير عليه تلك النعمة حتى كذب بآيات الله فغير الله عليه النعمة وأهلكه مع قومه
سورة الأنفال 55 - 59
قوله تعالى " إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون " قال إبن عباس نزلت في بني قريظة كعب بن الأشرف وأصحابه لأنهم عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نقضوا العهد وأعانوا أهل مكة بالسلاح على قتال النبي صلى الله عليه وسلم ثم قالوا نسينا وأخطأنا فعاهدهم مرة أخرى فنقضوا العهد فذلك قوله تعالى " الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة " يعني في كل حين وفي كل وقت " وهم لا يتقون " نقض العهد
قوله تعالى " فإما تثقفنهم في الحرب " يقول إن تظفر بهم في الحرب يعني في(2/27)
28
القتال ويقال إن أدركتهم في القتال " فشرد بهم " يقول نكل بهم في العقوبة " من خلفهم " يعني ليتعظ بهم من بعدهم الذي بينك وبينهم عهد ويقال إفعل بهم فعلا من العقوبة والتنكيل يفرق به من وراءهم من أعدائك وقال أبو عبيدة " فشرد بهم " إنها لغة قريش أي سمع بهم من خلفهم والتشريد في كلامهم للتشديد والتفريق " لعلهم يذكرون " يعني النكال فلا ينقضون العهد
قوله تعالى " وإما تخافن من قوم خيانة " يعني وإن علمت من قوم نقض العهد والخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة وسمي ناقض العهد خائنا لأنه أؤتمن بالعهد فغدر ونكث " فانبذ إليهم على سواء " يعني فأعلمهم بأنك قد نقضت العهد وأعلمهم بالحرب لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على سواء وقال القتبي إذا أردت أن تعرف فضل العربية على غيرها فانظر في الآية وقد ترجموا سائر الكتب ومن أراد أن يترجم القرآن إلى لغة أخرى فلا يمكنه ذلك لأنك لو أردت أن تنقل قوله " وإما تخافن من قوم خيانة " لم تستطع بهذا للفظ ما لم تبسط مجموعها وتظهر مستورها فتقول إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقضا فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطت لهم وآذنهم بالحرب لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على سواء ثم قال " إن الله لا يحب الخائنين " يعني الناقضين للعهد
قوله تعالى " ولا يحسبن الذين كفروا " يعني لا يظنن الذين كفروا من العرب وغيرهم من الذين جحدوا بوحدانية الله تعالى " سبقوا " يعني فاتوا بأعمالهم الخبيثة " إنهم لا يعجزون " يقول لن يفوتوا الله حتى يعاقبهم ويقال لا يجدون الله تعالى عاجزا عن عقوبتهم قرأ إبن عامر وحمزة وعاصم في رواية حفص " ولا يحسبن " بالياء على وجه المغايبة ونصب السين وقرأ عاصم في رواية أبي بكر " ولا تحسبن " بالتاء على وجه المخاطبة ونصب السين وقرأ الباقون على وجه المخاطبة وكسر السين وقرأ إبن عامر " أنهم " بالنصب على معنى البناء وقرأ الباقون بالكسر على معنى الإبتداء فمن قرأ بالنصب معناه لأنهم لا يعجزون يعني لا يفوتون وقرأ بعضهم بكسر النون " لا يعجزون " يعني لا يعجزونني وهي قراءة شاذة
سورة الأنفال 60 - 63(2/28)
29
قوله تعالى " وأعدوا لهم ما إستطعتم من قوة " يعني السلاح وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر " وأعدوا لهم ما إستطعتم من قوة " قال ألا إن القوة الرمي ثلاثا وفي خبر آخر زيادة لهو المؤمن في الخلاء وقوته عند القتال وروي عن عكرمة قال أي ثلاثا " وأعدوا لهم ما إستطعتم من قوة " قال الحصون " ومن رباط الخيل " قال الإناث من الخيل
ثم قال " ترهبون به " يعني تخوفون بالسلاح " عدو الله وعدوكم " يعني كفار العرب " وآخرين من دونهم " يعني بني قريظة " لا تعلمونهم " يعني لا تعرفونهم " الله يعلمهم " يعني يعرفهم ويعرفكم فأعدوا لهم أيضا وقال مقاتل " وآخرين من دونهم " أي من دون كفار العرب يعني اليهود وقال السدي " وآخرين من دونهم " أهل فارس
ثم قال " وما تنفقوا من شيء في سبيل الله " يعني السلاح والخيل " يوف إليكم " ثوابه " وأنتم لا تظلمون " أي لا تنقصون من ثواب أعمالكم ويقال إن الجن لا يدخل في بيت فيه قوس وسهام
قوله تعالى " وإن جنحوا للسلم " يقول إن أرادوا الصلح ومالوا إليه " فاجنح لها " يعني مل إليها وأرده يعني صالحهم قرأ عاصم في رواية أبي بكر " وإن جنحوا للسلم " بالكسر وقرأ الباقون بالنصب " وتوكل على الله " يعني ثق بالله وإن نقضوا العهد والصلح فإني أنصرك ولا أخذلك " إنه هو السميع العليم " يعني " السميع " بمقالتهم " العليم " بنقض العهد
قال الفقيه إنما يجوز الصلح إذا لم يكن للمسلمين قوة القتال فأما إذا كان للمسلمين قوة فلا ينبغي أن يصالحوهم وينبغي أن يقاتلوهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية إن لم يكونوا من العرب وإنما لم توضع الجزية على العرب وتوضع على غير العرب حتى لا تبقى بقية الكفر في أنساب النبي صلى الله عليه وسلم لأن العرب كلهم من نسبه ولا توضع حتى يسلموا أو يقتلوا وإنما أمر الله تعالى نبيه بالصلح حين كانت الغلبة للمشركين وكانت بالمسلمين قلة
ثم قال الله تعالى " وإن يريدوا أن يخدعوك " بالصلح يعني يهود بني قريظة أرادوا أن يصالحوك لتكف عنهم حتى إذا جاء مشركو العرب أعانوهم عليك
قال الله تعالى " فإن حسبك الله " يعني إن أرادوا إن يخدعوك حسبك الله بالنصرة لك " هو الذي أيدك " وأعانك وقواك " بنصره وبالمؤمنين " يعني الأنصار وهم قبيلتان الأوس والخزرج(2/29)
30
قوله تعالى " وألف بين قلوبهم " يعني لين قلوبهم من العداوة التي كانت بين الأوس والخزرج في الجاهلية " لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم " يعني ما قدرت أن تؤلف بينهم " ولكن الله ألف بينهم " بالإسلام " إنه عزيز حكيم " حكم بالألفة بين الأنصار بعد العداوة وحكم بالنصر على أعدائه
وروى أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال نزلت هذه الآية في المتحابين في الله " لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم " وقال عبد الله المؤمن متألف يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف
سورة الأنفال 64 - 66
قوله تعالى " يا أيها النبي حسبك الله " بالنصر والعون لك " ومن إتبعك من المؤمنين " قال بعضهم " من " في موضع الرفع ومعناه حسبك من إتبعك من المؤمنين خاصة وهم الأنصار ويقال يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويقال هذه الآية خاصة من هذه السورة نزلت بمكة حين أسلم عمر وكان المسلمون تسعة وثلاثين فلما أسلم عمر رضي الله عنه تم أربعون وظهر الإسلام بمكة بإسلام عمر وقال بعضهم " من " في موضع النصب يعني حسبك ومن إتبعك من المؤمنين وقال الضحاك ومن إتبعك من المؤمنين حسبهم الله وهو ناصرهم في الدنيا والآخرة
ثم قال عز وجل " يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال " يعني حثهم على قتال الكفار " إن يكن منكم عشرون صابرون " يعني محتسبين في الجهاد " يغلبوا مائتين " يعني يقاتلون مائتين ويثبتوا على القتال لينصرهم الله " وإن يكن منكم مئة " صابرة يعني محتسبة " يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون " أمر الله تعالى وروى إبن أبي نجيح عن مجاهد فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا ألفا يوم بدر جعل على كل رجل منهم قتال عشرة فرفعوا أصواتهم بالدعاء فضجوا فجعل على كل رجل قتال رجلين تخفيفا من الله وهو قوله تعالى " الآن خفف الله عنكم " يعني هون الله عليكم القتال الذي إفترض الله عليكم(2/30)
31
يوم بدر " وعلم أن فيكم ضعفا " يعني عجزا عن القتال " فإن يكن منكم مائة صابرة " يعني محتسبة صادقة " يغلبوا مائتين " من المشركين " وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين " من المشركين " بإذن الله " يعني بأمر الله تعالى وبنصرته " والله مع الصابرين " بالنصرة لهم على عدوهم
وقال مقاتل لم تكن فريضة ولكن كان تحريضا فلم يطق المؤمنون فخفف الله عنهم بعد قتال بدر فنزل " الآن خفف الله عنكم " وروى عكرمة عن إبن عباس أنه قال فرض على المسلمين أن لا يفر رجل من عشرة ولا عشرة من مائة فجهد الناس وشق عليهم فنزلت هذه الآية " الآن خفف الله عنكم " ففرض عليهم أن لا يفر رجل من رجلين ولا قوم من مثلهم فنقص من النصرة بقدر ما نقص من العدد وروى عطاء عن إبن عباس قال من فر من رجلين فقد فر ومن فر من ثلاثة لم يفر قال الفقيه إذا لم يكن معه سلاح ومع الآخر سلاح جاز له أن يفر لأنه ليس بمقاتل
سورة الأنفال 67 - 69
قوله تعالى " ما كان لنبي أن يكون له أسرى " يقول ما ينبغي وما يجوز للنبي أن يبيع الأسارى يقول لا يقبل الفدية عن الأسارى ولكن السيف " حتى يثخن في الأرض " يعني حتى يغلب في الأرض على عدوه قرأ إبن كثير ونافع وإبن عامر " فإن تكن " كلاهما بالتاء بلفظ التأنيث لأن لفظ جماعة العدد مؤنث وقرأ أبو عمرو الأولى خاصة بالياء والأخرى بالتاء وقرأ الباقون كلاهما بالتاء بلفظ التذكير لأن الفعل مقدم وقرأ حمزة وعاصم " وعلم أن فيكم ضعفا " بنصب الضاد وجزم العين وقرأ الباقون بضم الضاد ومعناهما واحد ضعف وضعف وهما لغتان وقرأ بعضهم " ضعفا " بضم الضاد ونصب العين وهي قراءة أبي جعفر المدني يعني عجزة
قوله تعالى " تريدون عرض الدنيا " يعني الفداء وروي عن إبن عباس قال لما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ما ترون في هؤلاء الأسارى قال أبو بكر يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة أرى لهم أن تأخذ منهم الفدية فتكون لنا عدة على الكفار ولعل الله يهديهم الإسلام وقال عمر أرى أن تمكننا منهم فنضرب أعناقهم فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ما قال أبو بكر قال عمر فلما كان من الغد(2/31)
32
جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان فقلت يا رسول الله من أي شيء تبكي فقال أبكي للذي عرض علي لأصحابك من أخذهم الفداء فنزل " ما كان لنبي أن يكون له أسرى " وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه أحد غير عمر قرأ أبو عمرو " أن تكون له أسرى " بلفظ التأنيث والباقون بالياء بلفظ التذكير لأن الفعل مقدم
ثم قال " والله يريد الآخرة " يعني عزة الدين " والله عزيز " في ملكه " حكيم " في أمره
قوله تعالى " لولا كتاب من الله سبق " يقول لولا أن الله أحل الغنائم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم " لمسكم فيما أخذتم " يعني لأصابكم فيما أخذتم من الفداء " عذاب عظيم " ثم طيبها وأحلها لهم فقال " فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا " وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أنه قال لم تحل الغنيمة لقوم سود الرؤوس قبلكم كان تنزل نار من السماء فتأكلها حتى كان بدر فوقعوا في الغنائم فأحلت لهم فأنزل الله تعالى " لولا كتاب من الله سبق " وقال النبي صلى الله عليه وسلم أعطيت خمسا لم يعطها أحد قبلي بعثت إلى الناس كافة ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وجعلت لي شفاعة لأمتي يوم القيامة
وللآية وجه آخر روى الضحاك في قوله تعالى " ما كان لنبي أن يكون له أسرى " وذلك أنه لما كان يوم بدر ووقعت الهزيمة على المشركين أسرع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخذ أسلاب المشركين ممن قتل يوم بدر وأخذ الغنائم وفداء الأسرى وشغلوا أنفسهم بذلك عن القتال فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله ألا ترى إلى ما يصنع أصحابك تركوا قتال العدو وأقبلوا على أسلابهم وإني أخاف أن تعطف عليهم خيل من خيل المشركين فنزل " تريدون عرض الدنيا " يعني أتطلبون الغنائم وتتركون القتال " والله يريد الآخرة " يعني قهر المشركين وإظهار الإسلام " والله عزيز حكيم "
قوله تعالى " لولا كتاب من الله سبق " يعني لولا ما سبق من الكتاب أن الغنائم تحل لهذه الأمة لأصابكم " عذاب عظيم " وقال النبي صلى الله عليه وسلم لو نزل من السماء عذاب ما نجا أحد غير عمر لأنه لم يترك القتال(2/32)
33
وروى مجاهد عن إبن عباس قال " لولا كتاب من الله سبق " قال سبقت من الله الرحمة لهذه الأمة قبل أن يعملوا بالمعصية وقال الحسن سبقت المغفرة لأهل بدر وعن الحسن أنه قال " لولا كتاب من الله سبق " قال في الكتاب السابق من الله تعالى أن لا يعذب قوما إلا بعد قيام الحجة عليهم وقال سعيد بن جبير لولا ما سبق لأهل بدر من السعادة " لمسكم فيما أخذتم " من الفداء " عذاب عظيم " ويقال " لولا كتاب من الله سبق " أن لا يعذب قوما حتى يبين لهم ما يتقون
ثم قال تعالى " واتقوا الله " يعني إتقوا الله فيما أمركم به ولا تعصوه " إن الله غفور " متجاوز يعني ذو تجاوز فيما أخذتم من الغنيمة قبل حلها " رحيم " إذ أحلها لكم
سورة الأنفال 70
قوله تعالى " يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى " قرأ أبو عمرو " من الأسارى " بالضم وزيادة الألف وقرأ الباقون " الأسرى " بالنصب وبغير الألف فمن قرأ بالأسرى فهو جماعة الأسير يقال أسير وأسرى مثل جريح وجرحى ومريض ومرضى وقتيل وقتلى من قرأ بالأسارى فهو جمع الجمع ويقال هما لغتان بمعنى واحد
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وضع الفداء على كل إنسان من الأسارى أربعين أوقية من ذهب فكان مع العباس عشرون أوقية من ذهب فأخذ منه ولم يحسبها من فدائه وكان قد خرج بها معه ليطعم بها أهل بدر من المشركين لأنه كان أحد الثلاثة عشر الذين ضمنوا إطعام أهل بدر وقد جاءت توبته فأراد أن يطعمهم فاقتتلوا يومئذ فلم يطعمهم حتى أخذ وأخذ ما معه فكلم العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل العشرين أوقية من فدائه فأبى عليه وقال هذا شيء خرجت لتستعين به علينا فلا أتركه لك فوضع عليه فداءه وفداء إبن أخيه عقيل فقال العباس أتترك عمك يسأل الناس بكفه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أين الذهب الذي أعطيت لأم الفضل وقلت لها كيت وكيت فقال له من أعلمك بهذا يا إبن أخي قال الله أخبرني فأسلم العباس وأمر إبن أخيه أن يسلم فنزل " قل لمن في أيديكم من الأسرى " يعني العباس وابن أخيه " إن يعلم الله في قلوبكم خيرا " يعني معرفة وصدقا وإيمانا كقوله " لن يؤتيهم الله خيرا " [ هود : 31 ] يعني إيمانا " يؤتكم خيرا مما أخذ منكم " يعني يعطيكم في الدنيا من الفداء " ويغفر لكم " ذنوبكم " والله غفور " لما كان في الشرك " رحيم " به في الإسلام
روى سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال بعث العلاء بن الحضرمي إلى رسول(2/33)
34
الله صلى الله عليه وسلم من البحرين بثمانين ألفا ما أتاه من مال أكثر منه لا قبل ولا بعد قال فنثرت على حصير ونودي بالصلاة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فمثل على المال قائما وجاء أهل المسجد فما كان يومئذ عدد ولا وزن ما كان إلا قبضا قال فجاء العباس فقال يا رسول الله أعطيت فدائي وفداء عقيل يوم بدر ولم يكن لعقيل مال فأعطني من هذا المال فقال خذ من هذا المال فحثى في خميصته فأراد أن يقوم فلم يستطع فرفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إرفع علي فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أعد من المال طائفة وقم بما تطيق قال ففعل فجعل العباس يقول وهو منطلق أما إحدى اللتين وعدنا الله فقد أنجزها فلا ندري ما يصنع في الأخرى وهو قوله " يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم " وعن أبي صالح أنه قال رأيت للعباس بن عبد المطلب عشرين عبدا كل واحد منهم يتجر بعشرة آلاف قال العباس أنجزني الله أحد الوعدين فأرجو أن ينجز الوعد الثاني ويقال " يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم " يعني الجنة
سورة الأنفال 71
قوله تعالى " وإن يريدوا خيانتك " يعني خلافك ويميلوا إلى الكفر بعد إسلامهم " فقد خانوا الله من قبل " يعني عصوا الله وكفروا من قبل " فأمكن منهم " يعني فأمكنك منهم وأظهرك عليهم يوم بدر حتى قهرتهم وأسرتهم " والله عليم " بخلقه " حكيم " حيث أمكنك عليهم يعني إن خانوك أمكنك منهم لتفعل بهم مثل ما فعلت من قبل
سورة الأنفال 72
قوله تعالى " إن الذين آمنوا " يعني صدقوا بتوحيد الله وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " وهاجروا " من مكة إلى المدينة " وجاهدوا " العدو " بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله " يعني في طاعته وفيما فيه رضاء الله
ثم ذكر الأنصار فقال " والذين آووا ونصروا " يعني آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه والمهاجرين يعني أنزلوهم وأسكنوهم ديارهم ونصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف " أولئك بعضهم أولياء بعض " يعني في الميراث وفي الولاية ليرغبهم في الهجرة فريضة في ذلك الوقت(2/34)
35
ثم قال " والذين آمنوا ولم يهاجروا " إلى المدينة " ما لكم من ولايتهم من شيء " في الميراث قرأ حمزة " ولايتهم " بكسر الواو وقرأ الباقون " ولايتهم " بالنصب يعني النصرة ومن قرأ بالكسر فهو من الإمارة والسلطان ثم قال " حتى يهاجروا " يعني إلى المدينة قالوا يا رسول الله هل نعينهم إذا إستعانوا بنا على المشركين يعني الذين آمنوا ولم يهاجروا قال الله تعالى " وإن إستنصروكم في الدين " يعني إستغاثوا بكم على المشركين فانصروهم " فعليكم النصر " على من قاتلهم " إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق " يعني إلا أن يقاتلوا قوما بينكم وبينهم ميثاق عهد فلا تنصروهم عليهم وأصلحوا بينهم " والله بما تعملون بصير " في العون والنصرة
سورة الأنفال 73 - 75
قوله تعالى " والذين كفروا بعضهم أولياء بعض " يعني في الميراث يرث بعضهم من بعض " إلا تفعلوه " يعني إن لم تفعلوا يعني ولاية المؤمن للمؤمن والكافر للكافر " تكن فتنة في الأرض " يعني بلية " وفساد كبير " يعني سفك الدماء فافعلوا ما أمرتم واعرفوا أن الولاية في الدين وقال الضحاك " والذين كفروا " يعني كفار مكة وكفار ثقيف " بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه " يعني إن لم تطيعوا الله في قتل الفريقين تكن فتنة في الأرض وفساد كبير وقال مقاتل وفي الآية تقديم ومعناه وإن إستنصروكم في الدين فعليكم النصر " إلا تفعلوه " يعني إن لم تنصروهم على غير أهل عهدكم من المشركين " تكن فتنة في الأرض " يعني كفر وفساد كبير في الأرض
ثم قال " والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا " يعني أنزلوا وأوطنوا ديارهم المهاجرين " ونصروا " النبي صلى الله عليه وسلم وإنما سمي المهاجرون مهاجرين لأنهم هجروا قومهم وديارهم " أولئك هم المؤمنون حقا " يعني صدقا " لهم مغفرة ورزق كريم " يعني ثواب حسن في الجنة
ثم قال تعالى " والذين آمنوا من بعد وهاجروا " يعني من بعد المهاجرين " وجاهدوا معكم فأولئك منكم " يعني على دينكم " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " يعني في الميراث من المهاجرين والأنصار
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال كان المسلمون يتوارثون بالهجرة(2/35)
36
وبالمؤاخاة التي آخى بينهم النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يتوارثون بالإسلام وبالهجرة وكان الرجل يسلم ولا يهاجر فلا يرثه أخاه فنسخ ذلك قوله " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " وروى محمد بن سالم عن الشعبي قال كان عبد الله بن مسعود لا يعطي مولى نعمة مع ذي رحم شيئا ويتأول هذه الآية " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض " وروى الحسن بن صالح عن إبن عباس أنه قال هيهات هيهات أين ذهب عبد الله بن مسعود إنما كان المهاجرون يتوارثون دون الأعراب فنزل " أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " ثم قال " في كتاب الله " يعني في حكم الله كقوله تعالى " كتب الله لأغلبن " [ المجادلة : 21 ] يعني حكم الله تعالى ويقال " في كتاب الله " مبين في القرآن ويقال " في كتاب الله " يعني في اللوح المحفوظ " إن الله بكل شيء عليم " من قسمة المواريث " عليم " بما فرض الله من المواريث والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد(2/36)
37
سورة التوبة
مدنية وهي مائة وتسع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قال إبن عباس كلها مدنية وقال مقاتل كلها مدنية إلا قوله تعالى " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " الآية قال الفقية حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الماسرخسي قال حدثنا إسحاق قال أخبرني أسامة قال حدثنا عوف بن أبي جميلة قال حدثني يزيد الفارسي وهو كتاب إبن عباس عن إبن عباس رضي الله عنهما قال قلت لعثمان ما حملكم على أن عدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المائين فقرأتموهما معا ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموهما في السبع الطوال فقال عثمان كان النبي صلى الله عليه وسلم تنزل عليه السورة ذوات العدد فكان إذا نزل عليه شيء يدعو بعض من يكتب له ويقول ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أول ما أنزل عليه بالمدينة وكانت براءة في آخر القرآن وكانت قصتهما يشبه بعضها بعضا فظننت أنها منها وقبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بسم الله الرحمن الرحيم
وذكر عن الكلبي أنه قال براءة من الأنفال فلذلك لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم وهي تسمى الفاضحة لأنها فضحت المنافقين وروي عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن ذلك فقال لأنها نزلت في السيف وليس في السيف أمان وبسم الله الرحمن الرحيم من الأمان وروي عن عائشة أنها قالت نسي الكاتب أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم في أول هذه السورة فتركت على حالها
سورة التوبة 1 - 2
قوله تعالى " براءة من الله ورسوله " أي تبرؤ من الله ورسوله لمن كان له عهد من المشركين من ذلك العهد ويقال " براءة " أي قطع من الله ورسوله إلى من كان له عهد في المشركين من ذلك العهد ويقال هذه السورة " براءة من الله ورسوله " ويقال هذه الآية " براءة من لله ورسوله " " إلى الذين عاهدتم من المشركين " وقال إبن عباس البراءة(2/37)
38
نقض العهد " إلى الذين عاهدتم من المشركين " يقول من كان بينه وبين رسول الله عهد فقد نقضه وذلك أن المشركين نقضوا عهودهم قبل الأجل وأمر الله تعالى نبيه فيمن كان له عهد أربعة أشهر أن يقره إلى أن يمضي أربعة أشهر ومن كان عهده أكثر من ذلك أن يحطه إلى أربعة أشهر
وروى إبن أبي نجيح عن مجاهد قال أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ منها فأراد الحج ثم قال إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك فأرسل أبا بكر وعليا فطافا في الناس بذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يجتمعون بها فآذنوا أصحاب العهد أن يأمنوا أربعة أشهر وهي الأشهر الحرم ثم لا عهد لهم فذلك قوله تعالى " فسيحوا في الأرض أربعة أشهر " يعني فسيروا في الأرض أربعة أشهر آمنين غير خائفين " واعلموا أنكم غير معجزي الله " يعني غير سابقي الله بأعمالكم وغير فائتين بعد الأربعة الأشهر ومعناه إنكم وإن أجلتم هذه الأربعة الأشهر إنكم لن تفوتوا الله " وأن الله " يعني واعلموا أن الله " مخزي الكافرين " يعني مذل الكافرين ويقال معذب الكافرين في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار
سورة التوبة 3 - 4
ثم قال عز وجل " وأذان من الله ورسوله " يعني إعلام من الله ورسوله وروي عن أبي هريرة أنه قال كنت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ببراءة فقيل ما كنتم تنادون قال كنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أجله وأمده إلى أربعة أشهر فإذا مضت أربعة أشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله ولا يحج بعد العام مشرك
ويقال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ومعه عشر آيات وأمره أن يقرأها على أهل مكة ثم بعث عليا وأمره أن يقرأ هذه الآيات ويقال إنما أمر عليا بالقرآن لأن أبا بكر كان خفيض الصوت وكان علي جهوري الصوت فأراد أن يقرأ علي حتى يسمعوا جميعا فذلك قوله تعالى " وأذان من الله ورسوله " " إلى الناس يوم الحج الأكبر " وروى الأعمش عن عبد الله بن(2/38)
39
أبي سنان قال خطبنا المغيرة بن شعبة يوم النحر وقال هذا يوم النحر وهذا يوم الحج الأكبر وقال الحسن إنما سمي الحج الأكبر لأنه حج أبو بكر فاجتمع فيها المسلمون والمشركون ووافق أيضا عيد اليهود والنصارى فلذلك سمي الحج الأكبر لإجتماع المسلمين والمشركين في ذلك اليوم
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال الحج الأكبر يوم النحر وروي عن قيس بن مخرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحج الأكبر يوم عرفة وإنما سمي يوم عرفة يوم الحج الأكبر لأنه يوقف بعرفة ويقال الحج الأكبر هو الحج والحج الأصغر هو العمرة كما قال إبن عباس العمرة هي الحجة الصغرى وقال إبن أبي أوفى يوم الحج الأكبر يوم إهراق الدماء وحلق الشعر وهو يوم النحر
" أن الله بريء من المشركين ورسوله " يعني ورسوله أيضا بريء من المشركين وقرأ بعضهم " ورسوله " بنصب اللام ومعناه أن رسوله بريء من المشركين وهي قراءة شاذة
ثم قال " فإن تبتم " يعني رجعتم من الكفر " فهو خير لكم " من الإقامة عليه " وإن توليتم " يعني أبيتم الإسلام وأقمتم على الكفر وعبادة الأوثان " فاعلموا أنكم غير معجزي الله " يعني لن تفوتوا من عذابه
ثم قال " وبشر الذين كفروا بعذاب أليم " وهو القتل في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة
ثم إستثنى الذين لم ينقضوا العهد فقال " إلا الذين عاهدتم من المشركين " وهم بنو كنانة وبنو ضمرة " ثم لم ينقصوكم شيئا " من عهودكم " ولم يظاهروا " يقول ولم يعاونوا " عليكم أحدا " " فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم " يعني إلى تمام أجلهم " إن الله يحب المتقين " الذين يتقون نقض العهد
سورة التوبة 5
قوله تعالى " فإذا إنسلخ الأشهر الحرم " يقول إذا مضى الأشهر التي جعلتها أجلهم " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " في الحل والحرم يعني المشركين الذين لا عهد لهم بعد ذلك الأجل ويقال إن هذه الآية " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " نسخت سبعين آية في القرآن من الصلح والعهد والكف مثل قوله " قل لست عليكم بوكيل " [ الأنعام : 66 ] وقوله " لست عليهم بمصيطر " [ الغاشية : 22 ] وقوله " فأعرض عنهم " [ النساء : 63 ] وقوله " لكم(2/39)
40
دينكم ولي دين ) [ الكافرون : 6 ] وما سوى ذلك من الآيات التي نحو هذا صارت كلها منسوخة بهذه الآية
قوله تعالى " وخذوهم " يعني إئسروهم وشدوهم بالوثاق " واحصروهم " يعني إن لم تظفروا بهم فاحصروهم في الحصن والحصار قال الكلبي يعني واحبسوهم عن البيت الحرام أن يدخلوه وقال مقاتل " واحصروهم " يعني إلتمسوهم " واقعدوا لهم كل مرصد " يعني أرصدوا لهم بكل طريق وقال الأخفش يعني إقعدوا لهم على كل مرصد وكلمة على محذوفة من الكلام ومعناه واقعدوا لهم على كل طريق يأخذون فيه " فإن تابوا " من الشرك " وأقاموا الصلاة " يعني وأقروا بالصلاة " وآتوا الزكاة " يعني وأقروا بالزكاة المفروضة " فخلوا سبيلهم " يعني أتركوهم ولا تقتلوهم " إن الله غفور رحيم " يعني " غفور " لما كان من الذنوب في الشرك " رحيم " بهم بعد الإسلام
فقال رجل من المشركين يا علي إن أراد رجل منا بعد إنقضاء الأجل أن يأتي محمدا ويسمع كلامه أو يأتيه لحاجة أيقتل فقال علي لا
سورة التوبة 6 - 7
قال الله تعالى " وإن أحد من المشركين إستجارك " يعني إستأمنك ويقال فيه تقديم ومعناه وإن إستجارك أحد من المشركين يقول وإن طلب أحد من المشركين منك الأمان " فأجره " يقول فآمنه " حتى يسمع كلام الله " يعني إعرض عليه القرآن حتى يسمع قراءتك بكلام الله فإن أبى أن يسلم " ثم أبلغه مأمنه " يقول فرده إلى مأمنه من حيث أتاك " ذلك بأنهم قوم لا يعلمون " يعني أمرتك بذلك لأنهم قوم لا يعلمون حكم الله تعالى وفي الآية دليل أن حربيا لو دخل دار الإسلام على وجه الأمان يكون آمنا ما لم يرجع إلى مأمنه
ثم قال على وجه التعجب " كيف يكون للمشركين عهد عند الله ورسوله " ويقال على وجه التوبيخ يعني لا يكون لهم عهد عند الله ولا عند رسوله ثم إستثنى فقال " إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام " يعني بني كنانة وبني ضمرة وهم لم ينقضوا العهد فأمر الله تعالى بإتمام عهدهم ويقال هم بنو خزاعة وبنو مدلج وبنو خزيمة " فما إستقاموا لكم " على وفاء العهد " فاستقيموا لهم " بالوفاء على التمام " إن الله يحب المتقين " الذين يتقون ربهم ويمتنعون عن نقض العهد
سورة التوبة 8 - 10(2/40)
41
قوله تعالى " كيف وإن يظهروا عليكم " يقول كيف تقاتلوهم ويقال كيف يكون لهم عهد وقد سبق في الكلام ما يدل على هذا الإضمار " وأن يظهروا عليكم " يقول يغلبوا عليكم ويظفروا بكم " لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة " يعني لا يحفظوا فيكم قرابة ولا عهدا وقال سعيد بن جبير الإل هو الله تعالى وقال إبن عباس الإل القرابة والذمة والعهد " يرضونكم بأفواههم " يعني بألسنتهم مثل قول المنافقين " وتأبي قلوبهم " يعني وتنكر قلوبهم يقولون قولا بغير حقيقة " وأكثرهم فاسقون " يعني عاصون بنقض العهد
قوله تعالى " إشتروا بآيات الله ثمنا قليلا " قال مقاتل باعوا الإيمان بعرض من الدنيا وذلك أن أبا سفيان كان يعطي الناقة والطعام والشيء ليصد بذلك الناس عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وقال الكلبي " إشتروا بآيات الله ثمنا قليلا " يقول كتموا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم بشيء من الماكلة يأخذونه من السفلة " إنهم ساء ما كانوا يعملون " يعني بئسما كانوا يعملون بصدهم الناس عن دين الله
قوله تعالى " لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة " يعني لا يحفظون في المؤمنين قرابة ولا عهدا " وأولئك هم المعتدون " بنقض العهد وترك أمر الله تعالى
سورة التوبة 11 - 12
قوله تعالى " فإن تابوا " من الشرك " وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة " يعني أقروا بهما " فإخوانكم في الدين " يعني هم مؤمنون مثلكم " ونفصل الآيات " يعني نبين العلامات " لقوم يعلمون " أنه من الله تعالى
قوله تعالى " وإن نكثوا أيمانهم " يعني نقضوا عهودهم " من بعد عهدهم " يعني بعد أجله " وطعنوا في دينكم " يقول وعابوا في دينكم الإسلام " فقاتلوا أئمة الكفر " يعني قادة أهل الكفر ورؤساءهم " إنهم لا أيمان لهم " قرأ إبن عامر لا " إيمان " بالكسر وهي قراءة الحسن البصري يعني لا إسلام لهم والباقون " لا أيمان " بالنصب يعني لا عهد لهم قرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو " أئمة " بهمزة واحدة والباقون بهمزتين ثم قال " لعلهم ينتهون " يعني لعلهم ينتهون عن نقض العهد(2/41)
42
سورة التوبة 13 - 16
ثم حث المؤمنين على قتال كفار قريش وذلك قبل فتح مكة فقال عز وجل " ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم " يقول نقضوا عهودهم من قبل أجلها " وهموا بإخراج الرسول " يقول هموا لقتال الرسول " وهم بدؤوكم أول مرة " بنقض العهد حين أعانوا بني بكر على خزاعة " أتخشونهم " أي أفلا تقاتلونهم " فالله أحق أن تخشوه " في ترك أمره " إن كنتم مؤمنين " يعني إن كنتم مصدقين بوعد الله تعالى
ثم وعد لهم النصرة فقال " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم " يعني بالقتل والهزيمة " ويخزهم " يعني ويذلهم بالهزيمة " وينصركم عليهم " يعني على قريش " ويشف صدور قوم مؤمنين " يعني ويفرح قلوب بني خزاعة وفي الآية دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى قد وعد المؤمنين على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب الكفار بأيديهم ويخزهم وينصركم عليهم فأنجز وعده ولم يظهر خلاف ما وعد لهم
قال الفقيه حدثنا أبي قال حدثنا أحمد بن يحيى السمرقندي قال حدثنا محمد بن الحسن الجوى باري قال حدثنا حماد بن زيد عن عكرمة قال لما واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة وقد كانت بنو خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وكان بنو بكر حلفاء قريش فدخلت بنو خزاعة في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت بنو بكر في صلح قريش ثم كان بين بني خزاعة وبين بني بكر قتال فأمدت قريش بني بكر بسلاح وطعام وظلوا عليهم ثم إن قريشا خافوا أن يكونوا قد نقضوا العهد وغدروا فقالوا لأبي سفيان إذهب إلى محمد وجدد الحلف ثانيا فليس في قوم أطعموا قوما ما يكون فيه نقض عهد يعني إن الذي أطعم الطعام فلا يكون عليه نقض عهد فانطلق أبو سفيان في ذلك فلما قصد أبو سفيان المدينة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاءكم أبو سفيان وسيرجع راضيا بغير قضاء حاجته فلما قدم أبو سفيان المدينة أتى أبا بكر فقال يا أبا بكر جدد الحلف وأصلح بين الناس فقال له أبو بكر الأمر إلى الله وإلى رسوله ثم أتى عمر فقال له نحو ما قال لأبي بكر فقال له عمر أن نقضتم أن(2/42)
43
نقضتم فما كان منه جديدا فأبلاه الله وما كان منه متينا أو شديدا فقطعه الله تعالى فقال له أبو سفيان ما رأيت كاليوم شاهد عشيرة يعني شاهدا على هلاك قومه مثلك ثم أتى فاطمة فقال لها يا فاطمة هل لك في أمر تسودين فيه نساء قريش ثم قال لها نحو ما قال لأبي بكر وعمر فقالت الأمر إلى الله وإلى رسوله ثم أتى عليا فذكر له نحوا من ذلك فقال له علي ما رأيت كاليوم رجلا أضل منك أنت سيد الناس فجدد الحلف وأصلح بين الناس فضرب أبو سفيان يمينه على يساره فقال أجرت الناس بعضهم من بعض ثم رجع إلى قومه فأخبرهم بما صنع فقالوا ما رأينا كاليوم وافد قوم والله ما جئتنا بصلح فنأمن ولا بحرب فنحذر وقدم وافد بني خزاعة على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنع القوم ودعاه إلى النصرة فقال في ذلك شعرا
( اللهم إني ناشد محمدا % حلف أبينا وأبيه الأتلدا )
( إن قريشا أخلفوك الموعدا % ونقضوا ميثاقك المؤكدا )
( وزعموا أن لست تدعو أحدا % وهم أذل وأقل عددا )
( هم بيتونا بالوتين هجدا % وقتلونا ركعا وسجدا )
( إسلامنا قد صح لم ننزع يدا % فانصر رسول الله نصرا أعتدا )
( وابعث جنود الله تأتي مددا % فيهم رسول الله قد تجردا )
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرحيل وروي في خبر آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا وقال والله لا نصرت إن لم أنصركم فخرج إلى مكة ومعه عشرة آلاف رجل ثم رجعنا إلى حديث عكرمة قال فتجهزوا وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس حتى نزلوا برمال الظهران فخرج أبو سفيان من مكة فرأى العسكر والنيران فقال ما هذه فقيل هؤلاء بنو تميم فقال والله هؤلاء أكثر من أهل منى فلما علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكر وأقبل يقول دلوني على العباس فأتاه فانطلق به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدخله عليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا سفيان أسلم تسلم فقال أبو سفيان كيف أصنع باللات والعزى
قال حماد بن زيد حدثني أبو الخليل عن سعيد بن جبير أن عمر قال وهو خارج من القبة وفي عنقة السيف أخر عليهما أما والله لو كنت خارجا عن القبة ما سألت عنهما أبدا(2/43)
44
قال من هذا فقالوا عمر بن الخطاب فأسلم أبو سفيان فانطلق به العباس إلى منزله فلما أصبح رأى الناس قد تحركوا للوضوء والصلاة فقال أبو سفيان للعباس يا أبا الفضل أو أمروا في بشيء قال لا ولكنهم قاموا إلى الصلاة فتوضأ ثم إنطلق به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة قاموا فلما كبر كبروا فلما ركع ركعوا فلما سجد سجدوا فقال أبو سفيان يا أبا الفضل ما رأيت كاليوم طاعة قوم لا فارس الأكارم والروم ذات القرون
قال حماد بن زيد فزعم يزيد بن حازم عن عكرمة أنه قال يا أبا الفضل أصبح إبن أخيك عظيم الملك فقال له العباس إنه ليس بملك ولكن نبوة قال هو ذاك فقال حماد قال أيوب ثم قال واصباح قريش فقال العباس يا رسول الله لو أذنت لي فأتيتهم ودعوتهم وأمنتهم وجعلت لأبي سفيان شيئا يذكر به قال صلى الله عليه وسلم فافعل فركب العباس بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل مكة فنادى يا أهل مكة أسلموا تسلموا فقد إستبطأتم بأشهب باذل قد جاءكم الزبير من أعلى مكة وجاء خالد من أسفل مكة وخالد وما خالد والزبير وما الزبير ثم قال من أسلم فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل وأغلق بابه فهو آمن ومن تعلق بأستار الكعبة فهو آمن ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر عليهم فآمن الناس جميعا إلا بني بكر من أجل خزاعة فقاتلتهم خزاعة إلى نصف النهار فأنزل الله تعالى " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين " وهم خزاعة " ويذهب غيظ قلوبهم " يعني حقد قلوب خزاعة وروى مصعب بن سعد عن أبيه قال لما كان يوم فتح مكة آمن الناس إلا ستة نفر عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن ضبابة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وإمرأتين فقال إقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة
وروى عبد الله بن رباح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار إلى مكة ذكر إلى أن قال دخل صناديد قريش من المشركين إلى الكعبة وهم يظنون أن السيف لا يرفع عنهم فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت فصلى ركعتين ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب فقال ما تقولون وما تظنون قالوا نقول أخ كريم وإبن عم حليم رحيم قال أقول كما قال يوسف " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم " فخرجوا كأنما نشروا من القبور ودخلوا في الإسلام وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يلي الصفا فخطب والأنصار أسفل منه فقالت الأنصار بعضهم لبعض أما إن الرجل أخذته الرأفة بقومه وأدركته الرغبة في قرابته فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلتم كذا وكذا والله إني رسول الله
حقا إن محياه لمحياكم وإن مماته لمماتكم فقالوا يا رسول الله قلنا مخافة أن تفارقنا ضنا بك قال أنتم الصادقون عند الله وعند رسوله
قال الله تعالى " ويتوب الله على من يشاء " يعني من أهل مكة يهديهم الله لدينه " والله عليم " بمن يؤمن من خلقه " حكيم " في أمره(2/44)
45
قوله تعالى " أم حسبتم أن تتركوا " وذلك أنه لما أمرهم الله تعالى بالقتال شق ذلك على بعض المؤمنين فنزل قوله " أم حسبتم أن تتركوا " يعني أظننتم أن تتركوا على الإيمان أيها المؤمنون ولا تبتلوا بالقتال ولا تؤمروا به " ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم " يعني لم يميز الله الذين جاهدوا منكم من الذين لم يجاهدوا وقد كان يعلم الله ذلك منهم قبل أن يجاهدوا وقبل أن يخلقهم ولكن كان علمه علم الغيب ولا يستوجبون الجنة والثواب بذلك العلم وإنما يستوجبون الثواب والعقاب بما يظهر منهم من الجهاد ويقال معناه أظننتم أن تدخلوا الجنة بغير جهاد وبغير تعب النفس وهكذا قال في آية أخرى " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم " [ البقرة : 214 ] وكما قال في آية أخرى " أحسب الناس أن يتركوا " [ العنكبوت : 2 ] الآية
ثم قال " ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله " يعني لم يتخذوا أولياء من دون الله تعالى ولا رسوله يعني ولا من دون رسوله " ولا المؤمنين " يعني يميزهم من غيرهم " وليجة " يعني بطانة من غير أهل دينه ليفشي إليه سره وقال الزجاج الوليجة البطانة وهي مأخوذة من ولج الشيء في الشيء إذا دخل يعني ولم يتخذوا بينهم وبين أهل الكفر خلة ومودة ويقال نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة يخبرهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم يريد الخروج إليهم وأراد بذلك مودة أهل مكة وفيه نزلت " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء " [ الممتحنة : 1 ] الآية
ثم قال تعالى " والله خبير بما تعملون " يعني من الخير والشر والجهاد والتخلف ومودة أهل الكفر
سورة التوبة 17 - 18
قوله تعالى " ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين " قرأ نافع وعاصم وإبن عامر وحمزة والكسائي " مساجد " بلفظ الجماعة وكذلك الثاني يعني جميع المساجد وقرأ الباقون الأول " مسجد " بغير ألف والثاني بألف وروي عن إبن كثير كلاهما بغير ألف يعني المسجد الحرام وقرأ إبن كثير وأبو عمرو الأول " مسجد " بغير ألف والثاني بألف يعني المسجد الحرام ومن قرأ " مساجد " أيضا يجوز أن يحمل على المسجد الحرام لأنه يذكر المساجد ويريد به مسجدا واحدا كما قال " يا أيها الرسل " [ المؤمنون : 51 ] يعني به النبي صلى الله عليه وسلم
ثم قال تعالى " شاهدين على أنفسهم بالكفر " يعني ما كانت لهم عمارة المسجد في حال إقرارهم بالكفر يعني لا ثواب لهم بغير إيمان " أولئك حبطت أعمالهم " يعني بطل(2/45)
46
ثواب أعمالهم ويقال " شاهدين على أنفسهم " يعني كلامهم يشهد عليهم بالكفر " وفي النار هم خالدون " يعني يكونون في النار هم دائمون ويقال شاهدين على أنفسهم يوم القيامة فلا ينفعهم عمارة المسجد بغير إيمان وروى أسباط عن السدي في قوله " شاهدين على أنفسهم بالكفر " أنه قال يسأل النصراني ما أنت فيقول نصراني ويسأل اليهودي ما أنت فيقول يهودي ويسأل المشرك ما أنت فيقول مشرك فذلك قوله تعالى " شاهدين على أنفسهم بالكفر "
ويقال الآية نزلت في شأن العباس حين أسر يوم بدر فأقبل عليه نفر من المهاجرين وعيروه بقتال النبي صلى الله عليه وسلم وبقطيعة الرحم فقال العباس ما لكم تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا فقال له علي رضي الله عنه فهل لكم من المحاسن شيء فقال نعم إنا نعمر المسجد الحرام ونحج الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني ونفادي الأسير ونؤمن الخائف ونقري الضيف فنزل " ما كان للمشركين " إلى قوله " أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون "
قوله تعالى " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله " يعني صدق بوحدانية الله تعالى " واليوم الآخر " يعني آمن بالبعث بعد الموت لأن عمارة المسجد بإقامة الجماعات وهم كانوا لا يقيمون الصلاة فلم يكن ذلك عمارة المسجد فذلك قوله " وأقام الصلاة " يعني يداوم على الصلوات الخمس ويقيمها بركوعها وسجودها في مواقيتها " وآتى الزكاة " المفروضة " ولم يخش إلا الله " يعني ولم يعبد إلا الله ولم يوحد غيره " فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين " يعني أولئك هم المهتدون لدينه ولهم ثواب أعمالهم
سورة التوبة 19
قوله تعالى " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله " يعني كإيمان من آمن بالله " وجاهد " في طاعة الله وقال القتبي " أجعلتم سقاية الحاج " يعني صاحب سقاية الحاج كمن آمن بالله ويقال أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن بالله كما قال في آية أخرى " لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها إسم الله كثيرا " [ الحج : 40 ] والصلوات لا تهدم وإنما أراد به بيوت الصلوات كما قال " من قريتك التي أخرجتك " [ محمد : 13 ] يعني أهل قريتك كذلك ها هنا سقاية الحاج أراد به صاحب السقاية قرأ بعضهم " سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام " يعني جمع الساقي والعامر وهي قراءة شاذة(2/46)
47
ثم قال " لا يستوون عند الله " يعني لا يستوون في الثواب والعمل عند الله " والله لا يهدي القوم الظالمين " يعني لا يرشد المشركين إلى الحجة ويقال لا يكرمهم بالمعرفة ما لم يتركوا كفرهم كما قال في آية أخرى " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " [ العنكبوت : 69 ]
سورة التوبة 20 - 22
قوله تعالى " الذين آمنوا وهاجروا " يعني صدقوا بوحدانية الله " وهاجروا " إلى المدينة " وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله " يعني هؤلاء أفضل عند الله وأفضل درجة في الجنة من الذين لم يهاجروا ولم يؤمنوا ولم يعمروا المسجد الحرام ولم يسقوا الحاج " أولئك هم الفائزون " يعني الناجين من النار
قوله تعالى " يبشرهم ربهم " يعني يفرحهم " برحمة " يعني بجنة " منه ورضوان " رضي الله تعالى عنهم كما قال في آية أخرى " رضي الله عنهم ورضوا عنه " [ المجادلة : 22 ] بالثواب الذي أعطاهم
ثم قال تعالى " وجنات لهم فيها نعيم مقيم " يعني دائما لا ينقطع عنهم " خالدين فيها " يعني مقيمين دائمين في الجنات " أبدا " هو تأكيد للخلود " إن الله عنده أجر عظيم " وهي الجنة
سورة التوبة 23
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء " يعني الذين بمكة أولياء قال مقاتل نزلت الآية في التسعة الذين إرتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة فنهاهم الله تعالى عن ولا يتهم وقال في رواية الكلبي لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة فجعل الرجل يقول لإمرأته ولأخيه إنا قد أمرنا بالهجرة فيخرج معه ومنهم من تعلق به زوجته وعياله فيرق لهم فيقولون له لمن سوف تدعنا حتى نضيع فيرق لهم ويجلس معهم فنزل " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء " في الدين والعون " إن إستحبوا الكفر " يعني إن إختاروا الكفر " على الإيمان " ويقال إختاروا الكفر على الإيمان ويقال إختاروا الجلوس مع الكفار على الجلوس مع المؤمنين " ومن يتولهم منكم " بعد نزول هذه الآية " فأولئك هم الظالمون " أي الضارون بأنفسهم(2/47)
48
سورة التوبة 24
قوله تعالى " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم " يعني قومكم قرأ عاصم في رواية أبي بكر " وعشيراتكم " بالألف بلفظ الجماعة وقرأ الباقون " وعشيرتكم " بغير ألف " وأموال إقترفتموها " يعني إكتسبتموها بمكة " وتجارة تخشون كسادها " يعني تخشون أن تبقى عليكم فلا تنفق " ومساكن ترضونها " يعني منازلكم بمكة تعجبكم الإقامة فيها " أحب إليكم من الله ورسوله " يعني إن كانت هذه الأشياء أحب إليكم من أن تهاجروا إلى الله ورسوله بالمدينة " وجهاد في سبيله " يعني في طاعة الله " فتربصوا " يعني فانتظروا " حتى يأتي الله بأمره " يعني فتح مكة ويقال الموت والقيامة وقال الضحاك " حتى يأتي الله بأمره " يعني حتى يأمر الله بقتال آبائكم وأبنائكم وإخوانكم وعشيرتكم
ثم قال " والله لا يهدي القوم الفاسقين " وهذا وعيد من الله تعالى للذين لم يهاجروا ويقال من أول سورة براءة إلى قوله " ونفصل الآيات لقوم يعلمون " [ التوبة : 11 ] نزلت بعد فتح مكة ثم من قوله " وإن نكثوا أيمانهم " [ التوبة : 12 ] إلى ها هنا كان نزل قبل فتح مكة فوضع ها هنا
سورة التوبة 25
ثم بعد هذا نزلت بعد فتح مكة وهو قوله تعالى " لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين " وذلك أنه لما نزل قوله تعالى " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد " [ التوبة : 5 ] فأمرهم الله تعالى بأن يقاتلوا ويتوكلوا على الله ويطلبوا النصرة منه ولا يعتمدوا على الكثرة والقلة لأن النصرة من الله تعالى فذلك قوله " لقد نصركم الله في مواطن كثيرة " يعني من مشاهد كثيرة وهو يوم بدر ويوم بني قريظة ويوم خيبر ويوم فتح مكة وخاصة يوم حنين يعني نصركم الله في مواطن كثيرة " إذ أعجبتكم كثرتكم " يعني جماعتكم " فلم تغن عنكم شيئا " يعني عن قضاء الله تعالى لم تغن كثرتكم شيئا وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى حنين في إثني عشر ألفا وعشرة آلاف خرجوا معه من المدينة إلى فتح مكة وخرج معه ألفان من أهل مكة فقال رجل من المسلمين يقال له سلمة بن سلامة لن نغلب اليوم من قلة وقد كان فتح مكة في شهر رمضان وبقيت عليه أيام(2/48)
49
من رمضان فمكث حتى دخل شوال فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني سليم عينا له يقال له عبد الله بن أبي حدرد فأتى حنينا فكان بينهم يسمع أخبارهم فسمع من مالك بن عوف أمير القوم لأصحابه أنتم اليوم أربعة آلاف رجل فإذا لقيتم العدو فاحملوا عليهم حملة رجل واحد واكسروا جفون سيوفكم فوالله لا تضربون بأربعة آلاف سيف شيئا إلا أفرج لكم وكان مالك بن عوف على هوازن فأقبل إبن أبي حدرد حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بمقالتهم فقال رجل من المسلمين فوالله يا نبي الله صلى الله عليه وسلم لا نغلب اليوم من كثرة فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمته وابتلى الله المؤمنين بكلمته تلك
قال الفقية حدثنا أبو جعفر قال حدثنا الفقيه علي بن أحمد الفارسي قال حدثنا نصير بن يحيى قال حدثنا أبو سليمان قال حدثنا الفقيه محمد بن الحسن عن مجمع بن يعقوب عن إسحاق بن عبد الله عن أبي طلحة قال سمعت أنس بن مالك يقول لما إنتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي حنين وهو وادي من أودية تهامة له مضايق وشعاب فاستقبلنا من هوازن جيش لا والله ما رأيت مثله في ذلك قط من السواد والكثرة وقد ساقوا أموالهم ونساءهم وأبناءهم وراءهم ثم صفوا فحملوا النساء فوق الإبل وراء صفوف الرجال ثم جاؤوا بالإبل والغنم وراء ذلك لكيلا يفروا بزعمهم فلما رأينا ذلك السواد حسبناهم رجالا كلهم فلما إنحدرنا بالوادي وهو وادي حدور فبينا نحن فيه إذ شعرنا أي ما شعرنا إلا بالكتائب قد خرجت علينا من مضايق الوادي وشعبه فحملوا علينا حملة رجل واحد وقد كانت قريش بمكة طلبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا معه إلى حنين فلم يقل لهم لا ولا نعم فخرجوا وكانوا هم أول من إنهزم من الناس قال أنس فولوا دبرهم وتبعهم الناس منهزمين ما يلوون على شيء فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يقول والتفت عن يمينه وعن يساره يا أنصار الله وأنصار رسوله أنا عبد الله ورسوله صابر اليوم ثم تقدم بحربته أمام الناس فوالذي بعثه بالحق ما ضربنا بسيف ولا طعنا برمح حتى هزمهم الله تعالى ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المعسكر وأمر بطلبهم وأن يقتل كل من قدر عليه منهم وجعلت هوازن تولي وثاب من إنهزم من المسلمين قال الراوي فقالت أم سليم وكانت يومئذ تقاتل شادة على بطنها بثوب تقول أرأيت يا رسول الله الذين أسلموا وفروا عنك وخذلوك لا تعف عنهم إن أمكنك الله منهم فاقتلهم كما تقتل هؤلاء المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أم سليم عفو الله أوسع
وروي في خبر آخر أن دريد بن الصمة كان شيخا كبيرا في عسكر مالك بن عوف وكان صاحب تدبير وكان لا يبصر شيئا ما لم يرفع
حاجباه فقال ما لي أسمع رغاء الإبل(2/49)
50
وثغاء الغنم وصوت الصبيان فقالوا له إن مالك بن عوف أمرنا بإخراج الأموال لكي يقاتل كل واحد منهم عن ماله فقال لهم هلا أخبرتموني بذلك قبل الخروج فقال هل يرى المنهزم شيئا فالرجل إذا جاءته الهزيمة متى يبالي بماله وولده ولكن إذا فعلتم ذلك فاكسروا جفون سيوفكم واحملوا حملة رجل واحد ففعلوا ذلك فانهزم المسلمون ولم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا العباس وأبو سفيان بن حرب بن عبد المطلب وعدة من الأنصار فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بغلته وأخذ السيف نحو العدو وجعل ينادي يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة إلي إلي فأمده الله بخمسة آلاف من الملائكة ورجع إليه المسلمون وانهزم المشركون وأخذ المسلمون أموالهم وهو الذي يسمى يوم أوطاس فنزلت هذه الآية " لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين " فأخبر الله تعالى أن الغلبة ليست بكثرتكم ولكن بنصر الله تعالى وكان ذلك من آيات الله
ثم قال " وضاقت عليكم الأرض بما رحبت " يعني برحبها وسعتها من خوف العدو " ثم وليتم مدبرين " يعني منهزمين لا تلوون على أحد
سورة التوبة 26 - 27
قوله تعالى " ثم أنزل الله سكينته على رسوله " يعني رحمته " وعلى المؤمنين وأنزل جنودا " يعني خمسة آلاف من الملائكة " لم تروها " وفي الآية دليل أن المؤمن لا يخرج من الإيمان وإن عمل الكبيرة لأنهم إرتكبوا الكبيرة حيث هربوا وكان عددهم أكثر من عدد المشركين فسماهم الله تعالى مؤمنين " وعذب الذين كفروا " يعني بالقتل والهزيمة " وذلك " يعني ذلك العذاب " جزاء " عقاب " الكافرين "
قوله " ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء " من أصحاب مالك بن عوف من كان أهلا للإسلام وروي عن محمد بن كعب القرظي قال لما إنهزم مالك بن عوف سار مع ثلاثة آلاف فقال لأصحابه هل لكم أن تصيبوا من محمد مالا قالوا نعم فأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إني أريد أن أسلم فما تعطيني فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم إني أعطيك مائة من الإبل ورعاتها فجاء فأسلم فأقام يومين أو ثلاثة فلما رأى المسلمين ورقتهم وزهدهم واجتهادهم رق لذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا إبن عوف ألا نفي لك بما أعطيناك من الشرط فقال يا رسول الله أمثلي يأخذ على الإسلام شيئا قال فكان مالك بن عوف بعد ذلك ممن إفتتح عامة(2/50)
51
الشام ثم قال " والله غفور " لما كان في الشرك " رحيم " بهم في الإسلام
سورة التوبة 28
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس " يعني قذر ورجس ولم يقل أنجاس لأن النجس مصدر والمصدر لا يثنى ولا يجمع " فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " فهذه الآية من الآيات التي قرأها عليهم علي بن أبي طالب بمكة يعني لا يدخلوا أرض مكة وقال مقاتل يعني الحرم كله وقال مالك بن أنس لا يجوز للكفار أن يدخلوا المساجد لأن الله تعالى قال " إنما المشركون نجس " كما أن الجنب لا يجوز له أن يدخل المسجد
وقال الزهري له أن يدخل جميع المساجد إلا المسجد الحرام وهو قول الشافعي رحمه الله وقال أبو حنيفة رضي الله عنه وأصحابه يجوز للذمي أن يدخل جميع المساجد لأن الكفار كانوا يدخلون مسجد المدينة إذا قدموا وافدين من قومهم وهذه الآية نزلت في شأن أهل الحرب إنهم لا يدخلون المسجد الحرام بغير أمان ولا يكون لهم ولاية البيت وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال لا يدخلون المسجد الحرام إلا بإذن أو عهد
ثم قال تعالى " وإن خفتم عيلة " يعني حاجة وفقرا وقال الزجاج العيلة الفقر كما قال الشاعر
( وما يدري الفقير متى غناه % ولا يدري الغني متى يعيل )
ثم قال " فسوف يغنيكم الله من فضله " أي من رزقه وذلك أنه لما منع المشركون من مكة قال أناس من التجار لأهل مكة من أين تأكلون فنزل " وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله " يعني من رزقه ففرحوا بذلك فأسلم أهل جدة وصنف من أهل اليمن فحملوا الطعام إلى مكة من البر والبحر وأغناهم الله بذلك يعني أغناهم عن تجار الكفار بالمؤمنين ثم قال " إن شاء " يعني يدوم لكم بمشيئة الله " إن الله عليم " بخلقه " حكيم " في أمره
سورة التوبة 29
قوله تعالى " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله " يعني لا يصدقون بتوحيد الله " ولا باليوم الآخر " بالبعث بعد الموت " ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله " في التوراة والإنجيل والقرآن " ولا يدينون دين الحق " يقول لا يخضعون لدين الحق ولا يقرون بشهادة لا إله(2/51)
52
إلا الله ومعناه لا يؤمنون بالله إيمان الموحدين لأن أهل الكتاب كانوا يقرون بالله ولكنهم قالوا لله ولد وأقروا بالبعث ولكنهم لا يقرون لأهل الجنة بالنعمة ولأنهم لا يقرون بالأكل والشرب والجماع ولا يقرون كما أعلم الله تعالى فليسوا يدينون بدين الحق يعني دين الإسلام ويقال دين الله تعالى لأن الله تعالى هو الحق فأمر الله تعالى بقتلهم إلا أن يعطوا الجزية وهو قوله تعالى " حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " قال بعضهم عن قهر وذل كما تقول اليد في هذا لفلان يعني الأمر النافذ لفلان ويقال " عن يد " يعني عن إنعام عليهم بذلك لأن قبول الجزية وترك أنفسهم يد ونعمة عليهم ويقال عن إعتراف للمسلمين بأن أيديهم فوق أيديهم ويقال " عن يد " يعني عن قيام يمشون بها صاغرين تؤخذ من أيديهم وقال الأخفش يعني كرها " وهم صاغرون " يعني ذليلين
قال الفقيه قتال الكفار على ثلاثة أنواع في وجه يقاتلون حتى يسلموا ولا يقبل منهم إلا الإسلام وهم مشركو العرب والمرتدون من الأعراب أو من غيرهم وفي وجه يقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وهم اليهود والنصارى والمجوس فأما اليهود والنصارى فبهذه الآية وأما المجوس فبالخبر وهو قوله صلى الله عليه وسلم سنوا بهم سنة أهل الكتاب وفي الوجه الثالث إختلفوا فيه وهم المشركون من غير العرب وغير أهل الكتاب مثل الترك والهند ونحو ذلك في قول الشافعي لا يجوز أخذ الجزية منهم وفي قول أبي حنيفة وأصحابه يجوز أخذ الجزية منهم كما يجوز من المجوس لأنهم من غير العرب
سورة التوبة 30 - 31
قوله تعالى " وقالت اليهود عزير إبن الله " قرأ عاصم والكسائي " عزير " بالتنوين وقرأ الباقون بغير تنوين فمن قرأ بالتنوين فلأن الإبن خبر وليس بنسبة ومن قرأ بغير تنوين فلالتقاء الساكنين كما قرأ بعضهم " قل هو الله أحد الله الصمد " [ الإخلاص : 1 ] بغير تنوين فلا إختلاف بين النحويين أن إثبات التنوين أجود من طريق أهل اللغة وإنما قالت اليهود ذلك لأنه لما خرب بخت نصر بيت المقدس وأحرق التوراة حزنوا على ذهاب التوراة فأملاها عليهم عزير صلوات الله عليه عن ظهر قلبه فتعلموها وفي أنفسهم منها شيء مخافة أن يكون قد(2/52)
53
زاد فيها أو نقص منها شيئا فبينما هم كذلك إذ وقعوا على خوابي مدفونة في قرية فيها التوراة فعارضوا بها ما كتبوا من عزير فلم يزد شيئا ولم ينقص حرفا فقالوا عند ذلك ما علم عزير هذا إلا وهو إبن الله
" وقالت النصارى المسيح إبن الله " وإنما قالوا ذلك لأن المسيح كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله تعالى فقالوا لم يكن يفعل هذا إلا وهو إبن الله ويقال إن الإفراط في كل شيء مذموم لأن النصارى أفرطوا في حب عيسى عليه السلام وقالوا فيه ما قالوا حتى كفروا بسبب ذلك واليهود أفرطوا بحب عزير وقالوا فيه ما قالوا حتى كفروا كما أفرطت الروافض في حب علي حتى أبغضوا غيره وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما
ثم قال تعالى " ذلك قولهم بأفواههم " يعني " ذلك " كذبهم بألسنتهم ويقال معناه يقولون بأفواههم قولا بلا فائدة ولا برهان ولا معنى صحيح تحته
ثم قال " يضاهئون قول الذين كفروا " يعني يوافقون قول الذين كفروا " من قبل " حين قالوا الملائكة بنات الله وقال قتادة يشبهون قول الذين كفروا يعني قول اليهود موافق قول النصارى وقول النصارى يوافق قول اليهود ويقال يتشابهون في قولهم هذا من تقدم من كفر منهم يعني إنما قالوا إتباعا لهم بدليل قوله تعالى " إتخذوا أحبارهم ورهبانهم " قرأ عاصم " يضاهئون " بكسر الهاء مع الهمزة وهي لغة لبعض العرب وقرأ الباقون بالسكون بغير همزة وهي اللغة المعروفة وقال القتبي " يضاهون " يعني يشبهون قول من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى قول أوليهم الذين كانوا قبلهم
ثم قال تعالى " قاتلهم الله " يعني لعنهم الله " أنى يؤفكون " يعني من أين يكذبون بتوحيد الله تعالى ثم قال " إتخذوا أحبارهم ورهبانهم " يعني أهل الصوامع والمتعبدين منهم " أربابا من دون الله " يعني إتخذوهم كالأرباب يطيعونهم في معاصي الله
قال الفقيه الزاهد حدثنا أبو جعفر قال حدثنا إسحق بن عبد الرحمن القاري قال حدثنا محمد بن عيسى قال حدثنا الحسن بن يزيد الكوفي عن عبد السلام بن حرب عن غطيف بن أعين عن مصعب بن سعيد عن عدي بن حاتم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ من سورة براءة " إتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " قال أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكن كانوا إذا أحلوا لهم شيئا إستحلوا وإذا حرموا عليهم شيئا حرموا(2/53)
54
ثم قال " والمسيح إبن مريم " يعني إتخذوا المسيح ربا من دون الله " وما أمروا " يقول وما أمرهم عيسى عليه السلام " إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو " يعني إلا قوله الله ربي وربكم ويقال " وما أمروا " في جميع الكتب إلا ليعبدوا إلها يعني ليوحدوا الله تعالى إلها واحدا ثم نزه نفسه فقال تعالى " لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون " يعني يعبدون من دونه
سورة التوبة 32 - 33
ثم قال عز وجل " يريدون " يعني اليهود النصارى " أن يطفئوا نور الله بأفواههم " يعني يريدون أن يردوا القرآن تكذيبا بألسنتهم ويقال يريدون أن يغيروا دين الإسلام بألسنتهم ويقال يريدون أن يبطلوا كلمة التوحيد بكلمة الشرك " ويأبى الله " يعني لا يرضى الله ولا يترك " إلا أن يتم نوره " يعني يظهر دينه الإسلام " ولو كره الكافرون " فيظهره
ثم قال تعالى " هو الذي أرسل رسوله بالهدى " يعني بالقرآن والتوحيد " ودين الحق " يعني دين الإسلام ويقال دين الله " ليظهره على الدين كله " حتى يظهره بالحجة على الدين كله ويقال بالقهر والغلبة والرعب في قلوب الكفار وقال إبن عباس " ليظهره على الدين كله " يعني بعد نزول عيسى عليه السلام لا يبقى أحد إلا ودخل في دين الإسلام " ولو كره المشركون "
سورة التوبة 34 - 35
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان " قال السدي الأحبار اليهود والرهبان النصارى وقال إبن عباس الأحبار العلماء والرهبان أصحاب الصوامع " ليأكلون أموال الناس بالباطل " يعني بالظلم بغير حق " ويصدون عن سبيل الله " يعني يصرفون الناس عن دين الله ثم بين الله تعالى حالهم للمؤمنين لكي يحذروا منهم ولا يطيعونهم(2/54)
55
قوله تعالى " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله " يعني يجمعون ويمنعون زكاتها قال بعضهم هذا نعت للأحبار والرهبان وقال بعضهم هذا إبتداء في حق كل من جمع المال ومنع منه حق الله وقال إبن عباس الكنز الذي لا يؤدى عنه زكاته
وروى نافع عن إبن عمر أنه قال أي مال كان على وجه الأرض لا تؤدى زكاته فهو كنز يعذب صاحبه يوم القيامة وما كان في الأرض تؤدى زكاته فليس بكنز وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال أربعة آلاف فما دونها نفقة وما كان أكثر منها فهو كنز
ثم قال " فبشرهم بعذاب أليم " يعني أهل هذه الصفة الذين يكنزون الذهب والفضة " ولا ينفقونها في سبيل الله " يعني لا يؤدون حقها في طاعة الله تعالى وقال " ولا ينفقونها " ولم يقل ينفقونه لأنه إنصرف إلى المعنى يعني لا ينفقون الكنوز ويقال لا ينفقون الأموال ويقال يعني الفضة
وقال بعضهم نزل هذا في شأن الكفار وقال بعضهم كان هذا في أول الإسلام ووجب عليهم أن يؤدوا الفضل ثم نسخ بآية الزكاة وقال بعضهم كل مؤمن لا يؤدي الزكاة فهو من أهل هذه الآية وهو قوله تعالى " يوم يحمى عليها في نار جهنم " يعني يوقد على الكنوز " فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم " ويقال لهم " هذا ما كنزتم " يعني ما جمعتم " لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون "
قال الفقيه حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضوان الله عليهم أنه قال والذي لا إله غيره لا يعذب رجل بكنز فيمس دينار دينارا ولا درهم درهما ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل درهم على جسده وكل دينار على خده وروى أبو أمامة الباهلي قال مات رجل من أهل الصفة فوجد في مؤتزره دينار فقال صلى الله عليه وسلم كية ومات رجل آخر فوجد في مؤتزره ديناران فقال النبي صلى الله عليه وسلم كيتان والمعنى في ذلك أنه قد أصاب ذلك من الغلول ولو لم يكن أصابه من الغلول لكان لا يستحق العقوبة لأن الزكاة لا تجب في أقل من عشرين دينارا وقال بعضهم كان هذا في الوقت الذي وجب عليه أن ينفق الفضل(2/55)
56
سورة التوبة 36
قوله تعالى " إن عدة الشهور عند الله إثنا عشر شهرا في كتاب الله " فأعلم الله تعالى أن عدة الشهور للمسلمين التي يعدون إثنا عشر شهرا على منازل القمر فجعل حجهم وأعيادهم وصيامهم على هذا العدد فالحج والصوم يكون مرة في الشتاء ومرة في الصيف وكانت أعياد أهل الكتاب في متعبداتهم وسنتهم على حساب دوران الشمس على كل سنة ثلاثمائة وخمسة وستين يوما فجعل شهور المسلمين بالأهلة كما قال الله تعالى " يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج " [ البقرة : 189 ] ويقال " إن عدة الشهور " يعني عدد الشهور التي وجبت عليكم الزكاة فيها إثنا عشر شهرا " في كتاب الله " يعني في اللوح المحفوظ " يوم خلق السموات والأرض " كتبها عليكم " منها أربعة حرم " يعني رجب وذا القعدة وذا الحجة والمحرم " ذلك الدين القيم " يعني ذلك الحساب المستقيم لا يزاد ولا ينقص وقال مقاتل بن حبان " ذلك الدين القيم " يعني ذلك القضاء البين وهكذا قال الضحاك
ثم قال " فلا تظلموا فيهن أنفسكم " قال بعضهم في الأربعة أشهر وقال قتادة الظلم في الشهر الحرام أعظم وزرا مما سوى ذلك وإن كان الظلم على كل حال غير جائز ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء ويقال " فلا تظلموا فيهن أنفسكم " يعني في هذه الإثني عشر شهرا ويقال هو على وجه التقديم إن عدة الشهور عند الله إثنا عشر شهرا فلا تظلموا فيهن أنفسكم منها أربعة حرم يعني وخاصة في الأربعة أشهر
ثم قال " وقاتلوا المشركين كافة " يعني جميعا في الشهر الحرام وغيره وكان القتال في الشهر الحرام محرما فنسخ بهذه الآية وصار مباحا في جميع الشهور وقال بعضهم هو غير مباح ومعنى هذه الآية " وقاتلوا المشركين كافة " إن قاتلوكم في الشهر الحرام وإن لم يقاتلوكم فلا يجوز والقول الأول أصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حاصر الطائف في الشهر الحرام ثم فتحها بعد ما مضى الشهر الحرام فلو كان القتال حراما لم يحاصرهم في الشهر الحرام ثم قال " واعلموا أن الله مع المتقين " يعني معينهم وناصرهم
سورة التوبة 37
قوله تعالى " إنما النسيء زيادة في الكفر " يعني تأخير المحرم إلى صفر زيادة الإثم في كفرهم وروى إبن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال كانوا يحجون في ذي الحجة عامين(2/56)
57
ثم يحجون في المحرم عامين ثم يحجون في صفر عامين وكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين حتى وافقت حجة أبي بكر رضي الله عنه الآخر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم من قابل في ذي الحجة وقال في خطبته ألا إن الزمان قد إستدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض
وروى أسباط عن السدي أنه قال كان رجل من بني مالك بن كنانة يقال له جنادة بن عوف يكنى أبا أمامة ينسىء عدد الشهور وقال في رواية الكلبي كان إسمه نعيم بن ثعلبة من بني كنانة وقال في رواية مقاتل كان إسمه ثمامة الكناني وكانت العرب يشتد عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر لا يغير بعضهم على بعض فإذا أرادوا أن يغيروا قام الكناني يوم منى وخطب الناس وقال إني قد أحللت لكم المحرم وحرمت صفر لكم مكانه فقاتل الناس في المحرم فإذا كان صفر غمدوا السيوف ووضعوا الأسنة ثم يقوم من قابل ويقول إني قد أحللت صفر وحرمت المحرم " يضل به الذين كفروا " بتأخير المحرم إلى صفر فذلك قوله " يحلونه عاما ويحرمونه " قرأ إبن كثير " إنما النسي " بتشديد الياء بغير همز وقرأ الباقون بالتخفيف والهمزة ومعناها واحد وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " يضل به الذين كفروا " بضم الياء ونصب الضاد على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون " يضل به " بفتح الياء وكسر الضاد ويكون معناه تأخيرهم عمل يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويقاتلون فيه ويحرمونه عاما ولا يقاتلون فيه " ليواطئوا " يعني ليوافقوا " عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم " يعني حسن لهم قبح أعمالهم " والله لا يهدي القوم الكافرين " يعني لا يرشدهم إلى دينه مجازاة لكفرهم
سورة التوبة 38 - 39
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم إنفروا في سبيل الله " يعني في الجهاد " إثاقلتم في الأرض " يعني تثاقلتم فأدغم التاء في الثاء وحذفت الألف لتسكين ما بعدها يعني قعدتم ولم تخرجوا وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالخروج إلى غزوة تبوك(2/57)
58
وكان في أيام الصيف حين إشتد الحر وطابت الثمار والظلال فكانوا يتثاقلون عن الخروج فعاتبهم الله تعالى فقال " أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة " يقول آثرتم واخترتم عمل الدنيا على عمل الآخرة " فما متاع الحياة الدنيا " يعني منفعة الدنيا " في الآخرة إلا قليل " يعني بجنب منفعة الآخرة إلا ساعة ويقال معناها ما يتمتع به في الدنيا قليل عندما يتمتع به أولياء الله في الجنة
ثم خوفهم فقال تعالى " إلا تنفروا يعذبكم " الله وأصله إن لا تنفروا فأدغم النون في اللام ومعناه إن لم تنفروا يعني إن لم تخرجوا إلى الغزو مع نبيكم يعذبكم " عذابا أليما " يعني يسلط عليكم عدوكم أو يهلككم " ويستبدل قوما غيركم " خيرا منكم وأطوع لله تعالى " ولا تضروه شيئا " يقول ولا تنقصوا عن ملكه شيئا بجلوسكم عن الجهاد " والله على كل شيء قدير " أن يستبدل بكم قوما غيركم
سورة التوبة 40
قوله تعالى " إلا تنصروه فقد نصره الله " يعني إن لم تنصروه ولم تخرجوا معه إلى غزوة تبوك فالله ينصره كما نصره " إذ أخرجه الذين كفروا " يعني كفار مكة من مكة " ثاني إثنين " يعني كان واحدا من إثنين يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ولم يكن معهما غيرهما فنصرهما الله تعالى " إذ هما في الغار " وذلك حين أراد أهل مكة قتله فهاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر فلم يجده فجلس إلى أن جاء أبو بكر فقبل رأس النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما لك بأبي أنت وأمي قال ما أرى قريشا إلا قاتلي فقال أبو بكر دمي دون دمك ونفسي دون نفسك لا يصنع بك شيء حتى يبدأ بي فقال أخل بي قال أبو بكر ليس بك عين إنما هما إبنتاي أسماء وعائشة قال قد أذن لي بالخروج من مكة فقال أبو بكر يا رسول الله إن عندي بعيرين حبستهما للخروج فخذ إحداهما واركبه قال لا آخذه إلا بالثمن فأخذه بالثمن وهي ناقته القصواء فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب بأن يبيت مكانه وخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر حتى أتيا ثورا جبلا بأسفل مكة
قال الفقيه حدثنا أبو جعفر قال حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن سهل القاضي قال(2/58)
59
حدثنا يحيى بن أبي طالب عن عبد الرحمن بن إبراهيم الرازي قال حدثنا الفرات عن ميمون بن مهران عن ضبة بن محصن عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال والله لليلة من أبي بكر خير من عمر وآله قيل وأيه ليلة هي قال لما خرج رسول الله هاربا من أهل مكة ليلا فتبعه أبو بكر فجعل أبو بكر يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا يا أبا بكر قال يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون خلفك ومرة عن يمينك وعن يسارك لا آمن عليك قال فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت فلما رآها أبو بكر أنها قد حفيت حمله على عاتقه وجعل يشتد به حتى أتى فم الغار فأنزله ثم قال والذي بعثك بالحق نبيا لا تدخله حتى أدخله أنا فإن كان من شيء نزل بي قبلك فدخل فلم ير شيئا فحمله وأدخله
وقال في رواية محمد بن إسحاق كان الغار معروفا بالهوام فجعل أبو بكر يسد الجحر حتى بقي جحرات فوضع عقبيه عليهما حتى أصبح وقال في رواية عمر وكان في الغار خرق فيه حيات فخشي أبو بكر أن يخرج منه شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقمه قدمه فجعلن يضربنه ويلسعنه وجعلت الدموع تنحدر على خده من شدة الألم الذي يجده ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا تحزن إن الله معنا " " فأنزل الله سكينته " يعني الطمأنينة لأبي بكر وهذه ليلته
قال الفقيه حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا أبو بكر القاضي قال حدثنا أحمد بن جرير قال حدثنا عمرو بن علي قال حدثنا عون بن عمرو القيسي عن مصعب المكي قال أدركت زيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة وأنس بن مالك يذكرون النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله تعالى شجرة فخرجت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فسترت وجه النبي صلى الله عليه وسلم وإن الله تعالى بعث العنكبوت فنسجت ما بينهما فسترت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الله تعالى حمامتين وحشيتين فأقبلتا تزقان حتى وقفتا بين العنكبوت وبين الشجرة فأقبلت فتيان قريش من كل بطن معهم عصيهم وقسيهم وهراواتهم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم على قدر مائتي ذراع قال الدليل سراقة بن مالك أنظروا في هذا الحجر ثم قال أين وضع رجله قال الفتيان أنت لم تخطىء منذ الليلة أثره حتى إذا أصبحنا قال للفتيان أنظروا إلى فم الغار فاستقدم القوم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم على قدر خمسين ذراعا نظروا فإذا حمامتان وحشيتان بغم الغار فرجعوا فقالوا رأينا حمامتين وحشيتين بفم الغار فعرفنا أنه ليس فيه أحد فسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم فعرف أن الله درأ(2/59)
60
بهما عنه فشمت لهما يعني بارك عليهما وأحرزهما الله تعالى في الحرم فأفرختا كما هما إلى الآن
وفي خبر آخر زيادة وقد كان أمر أبو بكر عامر بن فهيرة أن يريح إليه غنمه بثور وكان يريح إليهما غنمه وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما بأخبار أهل مكة فكانا فيه ثلاث ليال وكانا يريحان الغنم ويحلبان كل ليلة ما أرادا فلما نفدوا من الإلتماس وجاءهم عبد الله بن أبي بكر فأخبرهم بذلك فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعامر بن فهيرة واستأجر رجلا من بني الديل يهديهم الطريق يقال له عبد الله بن أريقط أخذ بهم أسفل مكة حتى خرجوا قريبا من جدة ثم عارضوا الطريق قريبا من عسفان ففطن سراقة بن مالك بن جعثم آثارهم فلبس لأمته وركب فرسه حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسخت قوائم فرسه فقال يا محمد أدع الله أن يطلق فرسي فإني أرى الحي قد إلتمسوني فأن أكون وراءك خير لك فأرد عنك من ورائي من الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إن كان صادقا فأطلق فرسه فانطلق فرسه فقال يا محمد خذ سهما من كنانتي فمر به على إبلي فإن أردت حمولة فخذ وإن أردت لبونا فخذ
فرجع سراقة فوجد الناس يلتمسون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم إرجعوا فقد إستبرأت لكم ما ها هنا وقد عرفتم من بصيرتي وقفوي بالآثار قال فرجعوا عنه فقدم النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر المدينة فذلك قوله " ثاني إثنين إذ هما في الغار "
قوله تعالى " إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " وإنما كان أبو بكر يخاف على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ذهاب التوحيد والإسلام لا على نفسه " إن الله معنا " في الدفع عنا " فأنزل الله سكينته " يعني طمأنينته " عليه " يعني طمأنينته على أبي بكر وروى سعيد بن جبير عن إبن عباس رضي الله عنهما قال في رواية الكلبي " فأنزل الله سكينته عليه " يعني على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سكن واطمأن
قال حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا أحمد بن محمد الحاكم القاضي قال حدثنا أحمد بن جرير قال حدثنا الحسن بن عرفة قال حدثنا أبو سوار عن أبي العطوف عن الزهري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت الأنصاري هل قلت في أبي بكر شيئا قال نعم قال فقل حتى أسمع فقال
( وثاني إثنين في الغار المنيف وقد % طاف العدو به إذ يصعد الجبلا )
( وكان حب رسول الله قد علموا % من البرية لم يعدل به رجلا )(2/60)
61
قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال صدقت يا حسان هو كما قلت
ثم قال تعالى " وأيده بجنود لم تروها " يعني يوم بدر والأحزاب وحنين " وجعل كلمة الذين كفروا السفلى " يعني الشرك بالله " وكلمة الله هي العليا " يعني شهادة أن لا إله إلا الله قرأ الأعمش ويعقوب الحضرمي " وكلمة الله " بالنصب يعني وجعل كلمة الله وقراءة العامة بالضم على معنى الإستئناف " والله عزيز حكيم " حكم بإظهار التوحيد وإطفاء دعوة المشركين
سورة التوبة 41 - 42
قوله تعالى " إنفروا خفافا وثقالا " قال الكلبي " خفافا " يعني أهل العسرة من المال وقلة العيال و " ثقالا " يعني أهل الميسرة في المال والصبية والعيال وقال الكلبي ويقال فيها وجه آخر " إنفروا خفافا " يقول نشاطا في الجهاد " وثقالا " غير نشاط في الجهاد وكذا قال مقاتل ويقال " إنفروا خفافا وثقالا " يعني شبانا وشيوخا وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن أبا طلحة الأنصاري قرأ هذه الآية " إنفروا خفافا وثقالا " فقال ما أرى الله تعالى إلا يستنفرنا شبابا وشيوخا جهزوني فقلنا قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وأنت اليوم شيخ قال جهزوني فجهزناه فركب البحر فمات في غزاته وروى سفيان عن منصور عن الحكم قال " أنفروا خفافا وثقالا " قال مشاغيل وغير مشاغيل وروى مسروق عن أبي الضحى قال أول ما نزلت من سورة براءة هذا " أنفروا خفافا وثقالا " ثم نزل أولها وآخرها وروي عن إبن عباس أنه قال نسختها هذه الآية " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " [ التوبة : 122 ] وقال بعضهم ليست بمنسوخة ولكنها في الحالة التي وقع فيها النفير عاما وجب على جميع الناس الخروج إلى الجهاد وإذا لم يكن النفير عاما لا يكون فرضا عاما فإذا خرج بعض الناس سقط عن الباقين وبه نأخذ
ثم قال تعالى " ذلكم خير لكم " يعني الجهاد خير لكم من الجلوس " إن كنتم تعلمون " يعني تصدقون بثواب الله ويقال معناه إن كنتم تعلمون أن الخروج إلى الجهاد خير لكم من القعود فانفروا خفافا وثقالا
ثم نزل في شأن المنافقين الذين تخلفوا قوله " لو كان عرضا قريبا " يعني غنيمة(2/61)
62
قريبة ويقال سهلا قريبا " وسفرا قاصدا " يعني هينا " لاتبعوك " يعني لو علموا أنهم يصيبون مغنما " لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة " والشقة السفر يعني ثقل عليهم السفر " وسيحلفون بالله " الذين تخلفوا " لو استطعنا " يعني لو قدرنا ولو كانت لنا سعة في المال والزاد " لخرجنا معكم " إلى الغزو
وقال الله تعالى " يهلكون أنفسهم " يعني بحلفهم كذبا " والله يعلم إنهم لكاذبون " بحلفهم وأن لهم سعة للخروج ولكنهم لم يريدوا الخروج
سورة التوبة 43 - 45
قوله تعالى " عفا الله عنك لم أذنت لهم " وذلك أن بعض المنافقين إستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتخلف عن الخروج إلى غزوة تبوك ولم يكن لهم عذر وأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم " عفا الله عنك " يا محمد " لم أذنت لهم " وقال عون بن عبد الله أخبره بالعفو قبل أن يخبره بالذنب ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل فعلين قبل أن يؤذن له فعاتبه الله تعالى على ذلك وعفا عنه أحدهما في فداء أسارى بدر والثاني في إذنه للمنافقين بالتخلف فقال له " عفا الله عنك " ولم يعاقبك لم أذنت لهم في التخلف والقعود
قال الفقيه سمعت من يذكر عن أبي سعيد الفاريابي أنه قال معناه " عفا الله عنك " يا سليم القلب لم أذنت لهم فيقال إن الله تعالى إذا قال لعبده لم فعلت كذا وكذا يكون ذلك أشد عليه من الموت كذا وكذا مرة لهيبة قوله لم فعلت كذا ولو أنه بدأ للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله لم أذنت لهم لكان يخاف على النبي صلى الله عليه وسلم أن ينشق قلبه من هيبة هذا الكلام إلا أن الله تعالى برحمته أخبره بالعفو حتى سكن قلبه ثم قال " لم أذنت لهم " بالقعود عن الجهاد " حتى يتبين لك الذين صدقوا " يعني معرفة الذين صدقوا بعذرهم وإيمانهم " وتعلم الكاذبين " في عذرهم وإيمانهم ويقال معناه حتى يتبين لك المؤمن المخلص من المنافق
ثم بين له علامة المؤمنين والمنافقين فقال الله تعالى " لا يستأذنك " يعني بغير عذر " الذين يؤمنون بالله " يعني صدقوا بالله " واليوم الآخر " في السر والعلانية " أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم " في سبيل الله " والله عليم بالمتقين " يعني بالمؤمنين المخلصين
ثم ذكر علامة المنافقين فقال " إنما يستأذنك " يعني في القعود عن الجهاد " الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر " يعني لا يصدقون في السر " وارتابت قلوبهم " يعني شكت(2/62)
63
قلوبهم ونافقت قلوبهم " فهم في ريبهم يترددون " يعني في شكهم ونفاقهم يتحيرون ولا يتوبون ولا يرجعون عن ذلك
سورة التوبة 46 - 49
قوله تعالى " ولو أرادوا الخروج " معك إلى الغزو " لأعدوا له عدة " يعني إتخذوا لأنفسهم قوة من السلاح معناه إن تركهم العدة دليل على إرادتهم التخلف ثم قال " ولكن كره إنبعاثهم " يعني لم يرد الله خروجهم معك لجبنهم وسوء نياتهم " فثبطهم " يعني حبسهم وأقعدهم عن الخروج ويقال ثقلهم عن الخروج ويقال جعل حلاوة الجلوس في قلوبهم حتى أقعدهم عن الخروج " وقيل إقعدوا مع القاعدين " يعني ألهموا أو خيل إليهم القعود مع المتخلفين
ثم أخبر الله تعالى أن لا منفعة للمسلمين في خروجهم معهم بل عليهم مضرة منهم ثم قال تعالى " لو خرجوا فيكم " يعني المنافقين لو خرجوا معكم " ما زادوكم إلا خبالا " يعني فسادا ويقال شرا وجبنا " ولأوضعوا خلالكم " ويقال ساروا بينكم ويقال والإيضاع في اللغة هو إسراع الإبل كما قال صلى الله عليه وسلم حين أفاض من عرفات أيها الناس عليكم بالسكينة والوقار فإن البر ليس في إيضاع الإبل ولا في إيجاف الخيل يعني إن المنافقين لو خرجوا معكم يسرعون الإبل فيما بينكم ويؤذونكم
ثم قال " يبغونكم الفتنة " يعني يطلبون منكم الشرك ويطلبون هزيمتكم وعيوبكم ويفشون سركم " وفيكم سماعون لهم " يعني وفي عسكركم عيون وجواسيس للمنافقين ويقال وفيكم من يسمع ما يقوله المنافقون ويقبلون منهم " والله عليم بالظالمين " يعني بالمنافقين وهذا وعيد لهم يعني " عليم " بعقوبتهم
ثم قال عز وجل " لقد إبتغوا الفتنة من قبل " يعني من قبل غزوة تبوك لأنهم قصدوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم قبل كثرة المؤمنين ويقال طلبوا إظهار الشرك قبل غزوة تبوك " وقلبوا لك الأمور " يعني إحتالوا في قتلك وفي هلاكك من كل وجه ويقال " قلبوا لك الأمور " ظهرا لبطن فانظر كيف يصنعون " حتى جاء الحق " يعني كثر المسلمون ويقال حتى جاء(2/63)
64
الحق يعني الإسلام " وظهر أمر الله " يعني ظهر دين الله الإسلام " وهم كارهون " يعني كارهون للإسلام
قوله تعالى " ومنهم من يقول إئذن لي " يعني جد بن قيس كان من المنافقين حرضه النبي صلى الله عليه وسلم على الخروج إلى الغزو فقال يا رسول الله إن قومي يعلمون حرصي على النساء فأخشى أني لو خرجت وقعت في الإثم ولا تفتني ببنات الأصفر وكان الأصفر رجلا من الحبش ملك ناحية من الروم فتزوج رومية فولدت له بنات إجتمع فيهن سواد الحبش وبياض الروم وكن فتنة فقال جد بن قيس لا تفتني ببنات الأصفر فإني أخاف أن لا أصبر وأضع يدي على الحرام فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم بالقعود فنزل " ومنهم من يقول " يعني من المنافقين " إئذن لي " في التخلف " ولا تفتني " يعني ولا توقعني في الفتنة والإثم
ثم قال الله تعالى " ألا في الفتنة سقطوا " يعني ألا في الكفر والنفاق وقعوا " وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " يعني جعلت جهنم للكافرين وهو جد بن قيس ومن تابعه
سورة التوبة 50 - 51
قوله تعالى " إن تصبك حسنة تسؤهم " يعني إن أصابك الغنيمة والنصر ساءهم ذلك " وإن تصبك مصيبة " يعني الشدة والنكبة والهزيمة " يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل " يعني حذرنا بالقعود والتخلف عن الخروج من قبل المصيبة " ويتولوا وهم فرحون " بما أصابك وبتخلفهم
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " يعني إلا ما قضى الله لنا وقدر علينا من شدة أو رخاء ويقال " إلا ما كتب الله لنا " يعني في اللوح المحفوظ ويقال " إلا ما كتب الله لنا " في القرآن وهو قوله تعالى " فيقتلون و يقتلون " [ التوبة : 111 ]
ثم قال " هو مولانا " أي ولينا وناصرنا وحافظنا " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " يعني وعلى المؤمنين أن يتوكلوا على الله ويقال وعلى الله فليثق الواثقون
سورة التوبة 52 - 55(2/64)
65
ثم قال تعالى " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " إما الشهادة وإما الغنيمة " ونحن نتربص بكم " يعني ننتظر بكم " أن يصيبكم الله بعذاب من عنده " وهو الموت " أو بأيدينا " يعني فيأمرنا أن نقتلكم ويقال معناه " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " يعني إلا إحدى الخبرين ونحن نتربص بكم أحد الشرين فبين ما ننتظر وتنتظرونه فرق عظيم " فتربصوا " يعني إنتظروا بنا الهلاك " إنا معكم متربصون " من المتربصين يعني المنتظرين لإهلاككم
ثم قال عز وجل " قل أنفقوا طوعا أو كرها " يعني قل للمنافقين أنفقوا " طوعا " من قبل أنفسكم " أو كرها " مخافة القتل " لن يتقبل " الله " منكم " النفقة " إنكم كنتم قوما فاسقين " يعني منافقين فقوله " أنفقوا " اللفظ لفظ الأمر ومعناه معنى الخبر يعني إن أنفقتم كما إنه يذكر لفظ الخبر والمراد به الأمر كقولك غفر الله لك وقولك رحم الله فلانا يعني اللهم إغفر وها هنا اللفظ لفظ الأمر ومعناه الخبر والشرط يعني إن أنفقتم طوعا أو كرها لن يتقبل الله منكم قرأ حمزة والكسائي " كرها " بضم الكاف وقرأ الباقون " كرها " بالنصب
ثم بين المعنى الذي لم تقبل نفقاتهم من أجله قال تعالى " وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله " يعني في السر قرأ حمزة والكسائي " لن يقبل منهم " بالياء على معنى التذكير وقرأ الباقون بلفظ التأنيث لأن الفعل مقدم فيجوز أن يذكر ويؤنث " ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى " يعني متثاقلين ولا يرونها واجبة عليهم " ولا ينفقون " في الجهاد " إلا وهم كارهون " على النفقة غير محتسبين
ثم قال عز وجل " فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم " يعني كثرة أموالهم وأولادهم " إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا " في الآية تقديم وتأخير قال إبن عباس فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة ثم قال " وتزهق أنفسهم " يعني تذهب أنفسهم وتقبض أرواحهم وأصله الذهاب كقوله تعالى " وقل جاء الحق وزهق الباطل " [ الإسراء : 81 ] " وهم كافرون " يعني تقبض أرواحهم على الكفر
سورة التوبة 56 - 57(2/65)
66
قوله تعالى " ويحلفون بالله إنهم لمنكم " يعني إنهم مؤمنون على دينكم في السر وهم كاذبون بذلك القول " وما هم منكم " يعني ليسوا على دينكم في السر " ولكنهم قوم يفرقون " يعني يخبثون فأظهروا الإيمان وأسروا النفاق
قوله تعالى " لو يجدون ملجأ " يعني حرزا يلجؤون إليه " أو مغارات أو مدخلا " يعني الغيران في الجبل وقال القتبي كل شيء غرت فيه فغبت فهو مغارة " أو مدخلا " يعني سربا في الأرض " لولوا إليه " يعني ذهبوا إليه وتركوك " وهم يجمحون " يعني يسرعون في المشي ومنه قيل فرس جموح إذا ذهب في عدوه فلم يثنه شيء ويقال الجمح مشي بين مشيتين وهو من لغات اليمن
سورة التوبة 58 - 59
قوله تعالى " ومنهم من يلمزك في الصدقات " روي عن إبن كثير أنه قرأ " يلمزك " بضم الميم والباقون بالكسر وهما لغتان ومعناهما واحد يقول من المنافقين من يطعنك ويعيبك ويقال لمزته إذا عبته وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري قال بينما نحن ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسما إذ جاءه إبن ذي الخويصرة التيمي فقال إعدل يا رسول الله فقال ويلك من يعدل إذا لم أعدل فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله أتأذن لي فأضرب عنقه فقال دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته عند صلاته وصيامه عند صيامه يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية آيتهم رجل أسود إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة يخرجون على حين فترة من الناس ويروى على حين الفتن من الناس فنزلت فيهم " ومنهم من يلمزك في الصدقات " الآية قال أبو سعيد أشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن عليا حين قتلهم وأنا معه أتى برجل بالنعت الذي نعته رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي عن إبن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم من الصدقات فقال أبو الخواص والنبي صلى الله عليه وسلم يعطي وروى بعضهم أبو الحواظ ألا ترون إلى صاحبكم يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أبا لك أما كان موسى راعيا أما كان داود راعيا فذهب أبو الخواص وقال النبي صلى الله عليه وسلم إحذروا هذا وأصحابه فنزل " ومنهم من يلمزك في الصدقات " " فإن أعطوا منها " يعني الصدقة(2/66)
67
" رضوا " بالقسمة " وإن لم يعطوا منها " يعني من الصدقة " إذا هم يسخطون " يعني لا يرضون بالقسمة
قوله تعالى " ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله " يعني إنهم لو رضوا بما رزقهم الله تعالى وبما يعطيهم رسول الله من العطية " وقالوا حسبنا الله " يعني يكفينا الله " سيؤتينا الله من فضله " يعني سيعطينا الله من رزقه " ورسوله " يعني سيعطينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنيمة إذا كان عنده سعة وفضل " إنا إلى الله راغبون " يعني طامعون وراجون ولم يذكر جوابه لأن في الكلام دليلا عليه ومعناه ولو أنهم فعلوا ذلك لكان خيرا لهم
سورة التوبة 60
ثم بين لهم موضع الصدقات فقال " إنما الصدقات " يعني ليست الصدقات للذين يلمزونك في الصدقات وإنما الصدقات " للفقراء والمساكين " قال بعضهم الفقراء الضعفاء الأحوال الذين لهم بلغة من العيش بدليل قول الشاعر
( أما الفقير الذي كانت حلوبته % وفق العيال فلم يترك له سبد )
والمسكين الذي لا شيء له بدليل قول الله تعالى " أو مسكينا ذا متربة " [ البلد : 16 ] يعني الذي لم يكن بينه وبين التراب شيء يقيه منه وقال بعضهم الفقير الذي لا شيء له والمسكين الذي له أدنى شيء كما قال الله تعالى " أما السفينة فكانت لمساكين " [ الكهف : 79 ] سماهم مساكين وإن كانت لهم سفينة وقال بعضهم الفقير الذي لا يسأل الناس إلحافا كما قال الله تعالى " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله " إلى قوله " لا يسئلون الناس إلحافا " [ البقرة : 273 ] والمسكين الذي يسأل الناس وقال بعضهم الفقير الذي يسأل الناس والمسكين الذي لا يسأل الناس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ليس المسكين الذي يطوف على أبوابكم فتردونه باللقمة واللقمتين وإنما المسكين المتعفف الذي لا يسأل الناس ولا يفطن له فيتصدق عليه وقال قتادة الفقير الذي به زمانة والمسكين الصحيح المحتاج وقال بعضهم الفقير الذي يكون عليه زي الفقر ولا تعرف حاجته والمسكين الذي يكون عليه زي الفقر وتكون حاجته ظاهرة
ثم قال تعالى " والعاملين عليها " وهم السعاة الذين يجبون الصدقات فيعطون على قدر حاجتهم " والمؤلفة قلوبهم " وهم قوم كان يعطيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتألفهم بالصدقة على(2/67)
68
الإسلام وكانوا رؤساء في كل قبيلة منهم أبو سفيان بن حرب والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن الفزاري وعباس بن مرداس السلمي وصفوان بن أمية وغيرهم فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاؤوا إلى أبي بكر وطلبوا منه وكتب لهم كتابا فجاؤوا بالكتاب إلى عمر بن الخطاب ليشهدوه فقال عمر أي شيء هذا فقالوا سهمنا فأخذ عمر الكتاب ومزقه وقال إنما كان يعطيكم النبي صلى الله عليه وسلم ليؤلفكم على الإسلام فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام فإن تبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف فرجعوا إلى أبي بكر فقالوا أنت الخليفة أم هو أي عمر قال هو إن شاء فبطل سهمهم
ثم قال " وفي الرقاب " يعني في فك الرقاب وهم المكاتبون
ثم قال " والغارمين " يعني أصحاب الديون الذين إستدانوا في غير فساد ولا تبذير وقال مجاهد ثلاثة من الغارمين رجل ذهب السيل بماله ورجل أصابه حريق فهلك ماله ورجل ليس له مال وله عيال فهو يستدين وينفق على عياله " وفي سبيل الله " وهم الذين يخرجون إلى الجهاد " وابن السبيل " يعني المسافر المنقطع من ماله قال بعضهم وجب أن يقسم الصدقات على ثمانية أصناف وهو قول الشافعي رحمه الله كما بين في هذه الآية وقال أصحابنا إذا صرف الصدقات إلى صنف من هذه الأصناف جاز وروي عن حذيفة بن اليماني أنه قال إذا أعطى الرجل الصدقة صنفا واحدا من الأصناف الثمانية جاز وعن عبد الله بن عباس أنه قال إذا وضعتها في صنف واحد فحسبك إنما قال " إنما الصدقات للفقراء " لأن لا تجعلها في غير هذه الأصناف وعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه أتي بصدقة فبعث بها إلى أهل بيت واحد
ثم قال تعالى " فريضة من الله " يعني وضع الصدقات في هذه المواضع فريضة من الله وهو مما أمر الله تعالى " والله عليم " بأهلها " حكيم " حكم قسمتها وبينها لأهلها
سورة التوبة 61 - 62
قوله تعالى " ومنهم الذين يؤذون النبي " قال إبن عباس نزلت الآية في جماعة من المنافقين منهم جلاس بن سويد ومحشر بن خويلد وأبو ياسر بن قيس وذلك أنهم كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل منهم لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه الخبر فقال الجلاس نقول ما نشاء فإنما " هو أذن " سامعة ثم نأتيه فيصدقنا والأذن الذي يقبل كل ما(2/68)
69
قيل له وقال القتبي " قل أذن خير لكم " يعني إن كان الأمر كما يذكرون فهو خير لكم ولكنه " يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين " يعني يصدق الله ويصدق المؤمنين لا أنتم والباء واللام زائدتان يعني يصدق الله ويصدق محمد المؤمنين فذلك قوله تعالى " ومنهم الذين يؤذون النبي " يعني من المنافقين من يؤذي النبي " ويقولون هو أذن " يعني سامع لمن حدثه
" قل أذن خير لكم " قراءة العامة " قل أذن " بغير تنوين " خير لكم " بكسر الراء وقرأ بعضهم " أذن " بالتنوين " خير " بالتنوين والضم فمن قرأ أذن بالتنوين فمعناه إن كان محمد كما قلتم أذن فهو خير لكم أي صلاح لكم ومن قرأ بالكسر فهو على الإضافة أي أذن خير لكم وأذن رحمة وقرأ نافع " أذن " بجزم الذال والباقون بالضم وهما لغتان
" يؤمن بالله " يعني يصدق بالله تعالى في مقالته " ويؤمن للمؤمنين " يعني يصدق قول المؤمنين " ورحمة " يعني نعمة " للذين آمنوا منكم " في السر والعلانية وقرأ حمزة " ورحمة للذين " على معنى الإضافة يعني أذن رحمة وقرأ الباقون " ورحمة " بالضم على معنى الإستئناف وقرأ نافع " أذن " بجزم الذال بضمة واحدة وقرأ الباقون بضمتين
ثم قال " والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم " يعني وجيع ثم جاؤوا إلى الرسول وحلفوا فأخبر الله تعالى أنهم كاذبون في حلفهم " ويحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه " قال الزجاج لم يقل أحق أن يرضوهما لأن في الكلام ما يدل عليه لأن في رضى الله تعالى رضى الرسول فحذف تخفيفا ومعناه والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه كما قال الشاعر
( نحن بما عندنا وأنت بما % عندك راض والرأي مختلف )
أي نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راض ويقال يكره أن يجمع بين ذكر الله تعالى وذكر رسوله في كتابة واحدة ويستحب أن يكون ذكر الله تعالى مقدما ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم مؤخرا وذكر في بعض الأخبار أن خطيبا قام عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال النبي صلى الله عليه وسلم بئس الخطيب أنت لأنه كان يجب أن يقول ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ثم قال " إن كانوا مؤمنين " يعني مصدقين بقلوبهم في السر
سورة التوبة 63 - 66(2/69)
70
قوله تعالى " ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله " يعني يخالف الله ورسوله ويقال يخاف أمر الله وأمر رسوله يعني أمر الله تعالى في الفرائض وأمر رسوله في السنن وفيما بين وقال الأخفش " يحادد الله " يعني يعادي الله ورسوله " فأن له نار جهنم " قرأ بعضم " فإن له " بالكسر على معنى الإستئناف وقرأ العامة بالنصب على معنى البناء " خالدا فيها ذلك الخزي العظيم " يعني العذاب الشديد
قوله تعالى " يحذر المنافقون " قال الزجاج قوله " يحذر " لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر أي ليحذر المنافقون ويقال على وجه الخبر يحذر يعني يخشى المنافقون وذلك أن بعضهم قال لو أني جلدت مائة جلدة أحب إلي من أن ينزل فينا شيء يفضحنا فنزل " يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم " يعني سورة براءة تنبئهم " بما في قلوبهم " من النفاق وكانت سورة البراءة تسمى الفاضحة " قل إستهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون " يعني مظهر " ما يحذرون " يعني تخافون من إظهار النفاق
ثم قال عز وجل " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب " وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع من تبوك وبين يديه هؤلاء الأربعة يسيرون ويقولون إن محمدا يقول إنه نزل في إخواننا الذين تخلفوا بالمدينة كذا وكذا وهم يضحكون ويستهزئون فأتاه جبريل فأخبره بذلك فبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر فقال له اذهب إلى أولئك واسألهم عما يتحدثون ويضحكون وأخبره أنهم يستهزئون بالقرآن وأنه إذا أتاهم وسألهم يقولون إنما كنا نخوض ونلعب فلما جاء إليهم عمار بن ياسر قال لهم ما تقولون قالوا إنا كنا نخوض ونلعب فيما يخوض فيه الركب إذا ساروا ونضحك بيننا فقال عمار صدق الله وبلغ رسوله هكذا أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكم تقولون ذلك غضب الله عليكم هلكتم هلكتم فجاؤوا واعتذروا فنزل " قل أبالله " يعني قل لهم يا محمد " أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون " وقال قتادة إذا رايا العبد يقول الله أنظروا إلى عبدي يستهزىء " قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون " فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم واعتذروا فنزل قوله تعالى " لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم " يعني كفرتم في السر بعد إيمانكم في العلانية ويقال قد أقمتم على كفركم الأول في السر بعد إيمانكم مع إقراركم بالعلانية بالإيمان " إن نعف عن طائفة منكم " وكان فيهم مخلص واحد ولم يقل معهم شيئا ولكن ضحك معهم فقال " إن نعف عن طائفة منكم " وكان فيهم واحد مخلص ولم يقل معهم بشيء ولكن ضحك معهم وقال " إن نعف عن طائفة منك "(2/70)
71
وهو المؤمن المخلص " نعذب طائفة " يعني المنافقين وقال القتبي قد يذكر الجماعة ويراد به الواحد كقوله " إن نعف عن طائفة " وإنما كان رجلا واحدا وكقوله " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات " وأراد به النبي صلى الله عليه وسلم ويقال " إن نعف عن طائفة منكم " وهم المخلصون " نعذب طائفة " وهم المنافقون " بأنهم كانوا مجرمين " يعني مذنبين كافرين في السر قرأ عاصم " إن نعف " بالنون " نعذب " بالنون وكسر الذال " طائفة " بالنصب وقرأ الباقون " إن يعف " بالياء والضم " تعذب " التاء ونصب الذال " طائفة " بالضم على معنى فعل ما لم يسم فاعله
سورة التوبة 67 - 69
قوله تعالى " المنافقون والمنافقات " يعني المنافقين من الرجال والمنافقات من النساء " بعضهم من بعض " يعني بعضهم على دين بعض في السر " يأمرون بالمنكر " يعني بالتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالشرك وبما لا يرضي الله تعالى ويقال المنكر ما يخالف الكتاب والسنة " وينهون عن المعروف " يعني عن التوحيد وإتباع محمد صلى الله عليه وسلم " ويقبضون أيديهم " يعني يمسكون أيديهم عن النفقة في سبيل الله ويقال كفوا عن الحق " نسوا الله " يقول تركوا طاعة الله " فنسيهم " يعني تركهم في النار ويقال تركهم في الحرمان والخذلان كقوله تعالى " ويذرهم في طغيانهم يعمهون " [ الأعراف : 186 ] " إن المنافقين هم الفاسقون " يعني الخارجين عن طاعة الله تعالى وكل منافق فاسق وقد يكون فاسقا ولا يكون منافقا ولا يكون منافقا إلا وهو فاسق
ثم قال " وعد الله المنافقين " الوعد يكون بالخير ويكون بالشر إذا قيد به والوعيد لا يكون إلا بالشر فقال " وعد الله المنافقين والمنافقات " يعني المنافقين الذين كانوا بالمدينة ومن كان على مذهبهم ويكون إلى يوم القيامة " والكفار " وهم أهل مكة ومن كان بمثل حالهم " نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم " يعني تكفيهم النار جزاء لكفرهم " ولعنهم الله " يعني طردهم الله من رحمته " ولهم عذاب مقيم " يعني دائم
قوله " كالذين من قبلكم " يعني صنيعكم مع نبيكم كما صنع الأمم الخالية مع(2/71)
72
أنبيائهم عليهم السلام وقال الضحاك يعني لعن المنافقين كما لعن الذين من قبلهم من الأمم الخالية ويقال ولهم عذاب دائم " كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا " يعني لم ينفعهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا فلا ينفعكم أموالكم ولا أولادكم أيضا " فاستمتعوا بخلاقهم " يعني فانتفعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا " فاستمتعتم بخلاقكم " يقول إنتفعتم أنتم بنصيبكم من الآخرة في الدنيا " كما إستمتع الذين من قبلكم " من الأمم الخالية " بخلاقهم " أي بنصيبهم " وخضتم " في الباطل " كالذي خاضوا " ويقال كذبتم الرسول كما كذبوا رسلهم " أولئك " يعني أهل هذه الصفة " حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة " يعني بطل ثواب أعمالهم فلا ثواب لهم لأنها كانت في غير إيمان " وأولئك هم الخاسرون " يعني في الآخرة
سورة التوبة 70
قوله تعالى " ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم " يعني ألم يأتهم خبر الذين من قبلهم في القرآن عند التكذيب كيف فعلنا بهم " قوم نوح " كيف أغرقناهم " و " قوم " عاد " كيف أهلكناهم بالريح العقيم " و " قوم " ثمود " وهم قوم صالح كيف أهلكناهم بالصيحة " وقوم إبراهيم " وهو نمروذ بن كنعان كيف أهلكناهم بأضعف الخلق وهو البعوض " وأصحاب مدين " وهم قوم شعيب كيف أهلكناهم بعذاب يوم الظلة " والمؤتفكات " يعني مدائن قوم لوط " والمؤتفكات " جمع المؤتفكة لأنها إئتفكت بهم يعني إنقلبت بهم كقوله تعالى " والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى " [ النجم : 53 ] يعني أمطرت عليهم الحجارة وقال مقاتل المؤتفكات يعني المكذبات " أتتهم رسلهم بالبينات " يعني بالأمر والنهي فتركوا طاعتي فأهلكتهم " فما كان الله ليظلمهم " يعني لم يهلكهم بغير ذنب " ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " بتركهم طاعتي وتكذيبهم الرسل
سورة التوبة 71 - 72
قوله تعالى " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض " يعني بعضهم على دين(2/72)
73
بعض وبعضهم معين لبعض في الطاعة " يأمرون بالمعروف " يعني بالإيمان واتباع محمد صلى الله عليه وسلم " وينهون عن المنكر " يعني عن الشرك " ويقيمون الصلاة " يعني يقرون بها ويتمونها " ويؤتون الزكاة " يعني ويقرون بها ويؤدونها " ويطيعون الله ورسوله " يعني يطيعون الله في فرائضه ويطيعون الرسول في السنن وفيما بين " أولئك سيرحمهم الله " يعني ينجيهم الله من العذاب الأليم " إن الله عزيز " ذو النقمة " حكيم " في أمره حكم للمؤمنين بالجنة وللكافرين بالنار قال الفقيه ذكر عن أبي سعيد الفاريابي أنه قال سيرحمهم الله في خمسة مواضع عند الموت وسكراته وفي القبر وظلماته وعند الكتاب وحسراته وعند الميزان وندامته وعند الوقوف بين يدي الله وسؤالاته
قوله تعالى " وعد الله المؤمنين والمؤمنات " يعني المصدقين من الرجال والمصدقات من النساء " جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة " يعني منازل طاهرة تطيب فيها النفس " في جنات عدن " في قصور من الدر والياقوت
وقال الفقيه حدثنا محمد بن الفضل وعبد الله بن محمد قالا حدثنا فارس بن مردويه قال حدثنا محمد بن الفضل العابد قال حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن مجاهد قال قرأ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على المنبر " جنات عدن " فقال هل تدرون ما جنات عدن ثم قال قصر في الجنة من ذهب له خمسمائة ألف باب وعلى كل باب خمسة وعشرون ألفا من الحور العين لا يدخلها إلا نبي وهنيئا لصاحب هذا القبر وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو صديق وهنيئا لأبي بكر أو شهيد وأنى لعمر بالشهادة ثم قال تعالى " ورضوان من الله أكبر " يعني رضى الرب عنهم أعظم مما هم فيه من الثواب والنعيم في الجنة " ذلك هو الفوز العظيم " يعني النجاة الوافرة
سورة التوبة 73 - 74
قوله تعالى " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين " " الكفار " بالسيف " والمنافقين " بالقول الشديد قال إبن مسعود قوله " جاهد الكفار والمنافقين " قال جاهد بيدك فإن لم تستطع فبلسانك فإن لم تستطع فبقلبك فالقهم بوجه عبوس وعن الحسن قال " جاهد الكفار " بالسيف و " المنافقين " بالحدود يعني أقم عليهم حدود الله " واغلظ عليهم " يعني أشدد عليهم يعني على الفريقين جميعا في المنطق(2/73)
74
ثم بين مرجعهم جميعا في الآخرة " ومأواهم جهنم " يعني مصيرهم ومآبهم إلى جهنم " وبئس المصير " الذي صاروا إليه
ثم بين خبثهم وسوء معاملتهم وفعالهم فقال الله تعالى " يحلفون بالله ما قالوا " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك فذكر المنافقين وسماهم رجسا فقال الجلاس بن سويد لئن كان محمد صادقا فيما يقول لنحن شر من الحمير فسمع عامر بن قيس فقال والله إن محمدا لصادق ولأنتم شر من الحمير فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه عامر بن قيس فأخبره فقال الجلاس بل كذب علي وأمرهما أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس وحلف ثم قام عامر بن قيس وحلف أنه قد قاله وما كذبت عليه ثم رفع يديه فقال اللهم أنزل على نبيك صلى الله عليه وسلم وبين الصادق منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون آمين فنزل جبريل قبل أن يتفرقوا بهذه الآية " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم " يقول كفروا في السر قبل إقرارهم في العلانية " وهموا بما لم ينالوا " يعني أرادوا قتل عامر بن قيس ويقال قتل النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنهم إجتمعوا ذات ليلة في مضيق جبل ليقتلوه إذا مر بهم فدفعهم الله عنه ويقال " وهموا بما لم ينالوا " وهو قول عبد الله بن أبي سلول لأصحابه " إتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون " [ المنافقون : 8 ] وقال سمن كلبك يأكلك يعني سلطناهم على أنفسنا فنزل " وهموا بما لم ينالوا " وقال مقاتل كان المنافقون أصحاب العقبة هموا ليلا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة في غزوة تبوك فنزل " وهموا بما لم ينالوا " وهكذا قال الضحاك
ثم قال تعالى " وما نقموا " يقول وما عابوا وما طعنوا على محمد صلى الله عليه وسلم " إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وكان أهل المدينة في شدة من عيشهم لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة إستغنوا فذلك قوله " إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله "
ثم قال الله تعالى " فإن يتوبوا يك خيرا لهم " يعني إن تابوا من الشرك والنفاق يكون خيرا لهم من الإقامة عليه " وإن يتولوا " يقول أبوا عن التوبة " يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة " يعني في الدنيا بإظهار حالهم وفي الآخرة في نار جهنم " وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير " يعني مانع يمنعهم من العذاب وذكر أنه لما نزلت هذه الآية تاب الجلاس بن سويد وحسنت توبته
سورة التوبة 75 - 77(2/74)
75
قوله تعالى " ومنهم من عاهد الله " قال في رواية الكلبي نزلت الآية في شأن حاطب بن أبي بلتعة كان له مال في الشام فجهد بذلك جهدا شديدا فحلف بالله " لئن آتانا من فضله " يعني المال الذي بالشام " لنصدقن " منه ولأؤدين حق الله منه فلم يفعل لما أعطاه الله تعالى المال قال مقاتل نزلت في ثعلبة بن حاطب الأنصاري كان محتاجا فقال " لئن آتانا الله من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين " فابتلاه الله تعالى فرزقه ذلك وذلك أن مولى لعمر بن الخطاب قتل رجلا من المنافقين خطأ فدفع النبي صلى الله عليه وسلم ديته إلى عصبته وهو ثعلبة فبخل ومنع حق الله تعالى
قال الفقيه حدثنا أبو الفضل بن أبي حفص قال حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال حدثنا الربيع بن سليمان المرادي قال حدثنا أسد بن موسى قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثنا معاذ بن رفاعة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أدع الله أن يرزقني مالا فقال صلى الله عليه وسلم ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه قال ثم رجع إليه فقال يا رسول الله أدع الله أن يرزقني مالا فقال ويحك يا ثعلبة أما ترضى أن تكون مثلي والله لو سألت الله تعالى أن يسيل علي الجبال ذهبا وفضة لسالت ثم رجع إليه ثالثا فقال يا رسول الله أدع الله لي أن يرزقني مالا فوالله لئن آتاني الله مالا لأؤدين لكل ذي حق حقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم أرزق ثعلبة مالا فاتخذ غنما فنمت حتى ضاقت بها أزقة المدينة فتنحى بها وكان يشهد الصلوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إليها ثم نمت حتى تعذرت عليها مراعي المدينة فتنحى بها وكان يشهد الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إليها ثم نمت فترك الجمعة والجماعات وجعل يتلقى الركبان ويقول ماذا عندكم من الخبر وما كان من أمر الناس فأنزل الله تعالى على رسوله " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم " [ التوبة : 103 ] فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقات رجلا من الأنصار ورجلا من بني سليم وكتب لهما كتاب الصدقة وأمرهما أن يصدقا الناس وأن يمرا بثعلبة فيأخذا منه صدقة ماله فأتيا ثعلبة وطلبا منه صدقة ماله فقال ثعلبة صدقا الناس فإذا فرغتما فمرا بي ففعلا فلما رجعا إليه وطلبا منه فأبى وقال ما هذه إلا أخية الجزية فانطلقا حتى أتيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله على رسوله " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه "
فركب رجل من
الأنصار هو إبن عم لثعلبة راحلته حتى أتى ثعلبة فقال ويحك يا ثعلبة(2/75)
76
هلكت قد أنزل الله فيك من القرآن كذا وكذا فأقبل ثعلبة بن حاطب وجعل على رأسه التراب وهو يبكي ويقول يا رسول الله إقبض مني صدقة مالي فلم يقبض منه صدقته حتى قبض الله تعالى رسوله ثم أتى إلى أبي بكر فلم يقبل صدقته ثم أتى إلى عمر فلم يقبل صدقته ثم أتى إلى عثمان فلم يقبل صدقته ومات في خلافة عثمان فذلك قوله تعالى " فلما آتاهم " يعني أعطاهم " من فضله " يعني من المال " بخلوا به " بمنع حق الله " وتولوا " عن الصدقة " وهم معرضون " لم يفوا بما قالوا
قوله تعالى " فأعقبهم نفاقا في قلوبهم " يقول جعل عاقبتهم إلى النفاق " إلى يوم يلقونه " يعني يلقون الله وهو يوم القيامة " بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون " لقوله " لئن آتانا الله من فضله لنصدقن " وقال عبد الله بن مسعود إعتبروا المنافق بثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر ثم قرأ " ومنهم من عاهد الله " إلى قوله " وبما كانوا يكذبون " فقد ذكر الثلاثة في هذه الآية
سورة التوبة 78
قوله تعالى " ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم " وقال مقاتل نزلت هذه الآية في أصحاب العقبة حين هموا بما لم ينالوا ويقال هذا عطف نسق عطف على قوله " لئن آتانا من فضله لنصدقن " " ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم " " وأن الله علام الغيوب " أي علم غيب كل شيء مما هموا به
سورة التوبة 79 - 80
قوله تعالى " الذين يلمزون المطوعين " يعني يطعنون ويعيبون " المؤمنين في الصدقات " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أراد أن يخرج إلى غزوة تبوك حث الناس على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وزن كل درهم مثقالا فقال أكثرت هل تركت لأهلك شيئا فقال يا رسول الله كان مالي ثمانية آلاف درهم فأما أربعة آلاف درهم التي جئت بها فأقرضتها ربي وأما أربعة آلاف التي بقيت فأمسكتها لنفسي وعيالي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك الله فيه حتى بلغ ماله حين مات وقد كان طلق إحدى نسائه الثلاث في مرضه فصالحوها من ثلث الثمن على ثمانين ألف(2/76)
77
درهم ونيف وفي رواية أخرى ثمانين ألف دينار ونيف
وجاء عاصم بن عدي بسبعين وسقا من تمر وكل واحد منهم جاء بمقدار طاقته حتى جاء أبو عقيل بن قيس بصاع من تمر وقال آجرت نفسي الليلة بصاعين فصاع أقرضته لربي وصاع تركته فأمره بأن ينثره في الصدقة وروي أن إمرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة واحدة فلم ينظر النبي صلى الله عليه وسلم إليها فنزل " الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين " إلى آخره وكان نفر من المنافقين جلوسا يستهزئون فقالوا لقد تصدق عبد الرحمن وعاصم بن عدي رياء ولقد كان الله غنيا عن صاع أبي عقيل فنزل " الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين " يعني يطعنون المتصدقين الذين يتصدقون بأموالهم وهم عبد الرحمن وعاصم وغيرهما
" والذين لا يجدون إلا جهدهم " قال أهل اللغة الجهد بالضم الطاقة والجهد بالنصب المشقة وقال الشعبي الجهد هو القيتة يعني القلة والجهد بالنصب هو الجهد في العمل " فيسخرون منهم " يقول يستهزئون بهم " سخر الله منهم " يعني يجازيهم جزاء سخريتهم وهذا كقوله " الله يستهزىء بهم " [ البقرة : 15 ]
ثم قال " ولهم عذاب أليم " يعني وجيع دائم فلما نزلت هذه الآية جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إستغفر لنا فنزل " إستغفر لهم أو لا تستغفر لهم " قوله " إستغفر لهم " اللفظ لفظ الأمر ومعناه معنى الخبر فمعناه إن شئت إستغفر لهم وإن شئت فلا تستغفر لهم يعني للمنافقين " إن تستغفر لهم سبعين مرة " يعني فإنك إن تستغفر لهم سبعين مرة " فلن يغفر الله لهم "
ثم بين المعنى الذي لم يغفر لهم بسببه فقال تعالى " ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله " يعني في السر وقال قتادة ومجاهد لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم لأزيدن على سبعين مرة فاستغفر لهم أكثر من سبعين مرة لعل الله يغفر لهم فأنزل الله تعالى " سواء عليهم إستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم " [ المنافقون : 6 ] ثم قال " والله لا يهدي القوم الفاسقين " يعني المنافقين الذين كفروا بالله ورسوله في السر والله تعالى لا يهديهم ما داموا ثابتين على النفاق
سورة التوبة 81 - 82(2/77)
78
قوله تعالى " فرح المخلفون " يقول عجب ورضي المتخلفون عن الغزو وهم المنافقون " بمقعدهم خلاف رسول الله " يعني بتخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر " يعني قال بعضهم لبعض لا تخرجوا إلى الغزو فإن الحر شديد قال الله تعالى " قل " يا محمد " نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون " يعني لو كانوا يفهمون قراءة إبن مسعود " لو كانوا يعلمون "
ثم قال عز وجل " فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا " اللفظ لفظ الأمر والمراد به التوبيخ قال الحسن يعني " فليضحكوا قليلا " في الدنيا " وليبكوا كثيرا " في الآخرة في النار " جزاء بما كانوا يكسبون " يعني عقوبة لهم ما كانوا يكفرون وعن أبي رزين أنه قال في قوله تعالى " فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا " قال يقول الله تعالى الدنيا قليل فليضحكوا قليلا فيها ما شاؤوا فإذا صاروا إلى النار بكوا بكاء لا ينقطع فذلك الكثير
وروى الأعمش عن عمارة بن عمير عن أبي عامر عن عمرو بن شرحبيل قال مر النبي صلى الله عليه وسلم على ملأ من قريش وفيهم أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة فقال أبو جهل هذا نبيكم يا بني عبد مناف فقال عتبة وما ننكر أن يكون منا نبي أو ملك فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل عليهم فقال أما أنت يا عتبة فلم تغضب لله ولا لرسوله وإنما غضبت للأصل وأما أنت يا أبا جهل فوالله لا يأتي عليك إلا غير كثير من الدهر حتى تبكي كثيرا وتضحك قليلا وأما أنتم يا ملأ قريش فوالله لا يأتي عليكم إلا غير كثير من الدهر حتى تدخلوا في هذا الأمر الذي تنكرون طائعين أو كارهين قال فسكتوا كأنما ذر على رؤوسهم التراب فلم يردوا عليه شيئا
وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يرسل الله تعالى البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع ثم يبكون الدم حتى يرى في وجوههم كهيئة الأخدود
سورة التوبة 83
قوله تعالى " فإن رجعك الله إلى طائفة منهم " يعني إن رجعك الله من تبوك إلى طائفة من المنافقين الذين تخلفوا " فاستأذنوك للخروج " معك إلى غزوة أخرى " فقل لن تخرجوا معي أبدا " إلى الغزو " ولن تقاتلوا معي عدوا " ويقال معناه لن تخرجوا إلا مطيعين من غير أن تكون لهم شركة في الغنيمة " إنكم رضيتم بالقعود أول مرة " أي بالتخلف عن غزوة تبوك " فاقعدوا مع الخالفين " يعني مع المتخلفين الذين تخلفوا بغير عذر ويقال الخالف(2/78)
79
الذي يخلف الرجل في أهله وماله ويقال الخالف الذي خالف قومه ويقال الخالف الفاسد ويقال الخالف المرأة والخوالف النساء
سورة التوبة 84 - 85
قوله تعالى " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا " يعني لا تصل أبدا على من مات من المنافقين " ولا تقم على قبره " يعني لا تدفنه " إنهم كفروا بالله ورسوله " في السر " وماتوا وهم فاسقون " يعني ماتوا على الكفر قال مقاتل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليه عبد الله بن أبي بن سلول وهو رأس المنافقين حين مات أبوه فقال أنشدك الله أن لا تشمت بي الأعداء فطلب منه أن يصلي على أبيه فأراد النبي أن يفعل فنزلت هذه الآية فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه وقال في رواية الكلبي لما إشتكى عبد الله بن أبي إبن سلول عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب منه عبد الله أن يصلي عليه إذا مات وأن يقوم على قبره وأن يكفنه في القميص الذي يلي جسده فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد أن يصلي عليه فقلت يا رسول الله أتصلي عليه وهو صاحب كذا وصاحب كذا فقال دعني يا عمر ثم عدت ثانيا ثم عدت ثالثا فنزلت هذه الآية " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا " الآية
وروى عكرمة عن إبن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى عليه وقام على قبره وكفنه في قميصه فنزل " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا " الآية فنهي أن يصلي على أحد من المنافقين بعده قال إبن عباس والله لا أعلم أي صلاة كانت وما خادع رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسانا قط وفي خبر آخر أن عمر قال يا رسول الله أتصلي عليه وتعطيه قميصك وهو كافر منافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم وما علمت يا عمر عسى أن يسلم بسبب هذا القميص خلق كثير ولا يغنيه قميص من عذاب الله شيئا فأسلم من بني الخزرج من أهاليه خلق كثير وقالوا لولا أن عبد الله عرفه حقا ما تبرك بقميصه وما طلب منه أن يصلي عليه
ثم قال تعالى " ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا "(2/79)
80
يعني بالأموال في الآخرة على وجه التقديم " وتزهق أنفسهم وهم كافرون "
سورة التوبة 86 - 89
قوله تعالى " وإذا أنزلت سورة " يعني سورة براءة " أن آمنوا بالله " يعني يأمرهم فيها أن صدقوا بقلوبكم كما أقررتم بلسانكم " وجاهدوا مع رسوله إستأذنك أولوا الطول منهم " يعني إستأذنك في القعود أهل السعة والغنى من المنافقين " وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين " يعني دعنا وائذن لنا نتخلف ونقعد مع القاعدين الذين تخلفوا في المدينة عن الجهاد و " رضوا بأن يكونوا مع الخوالف " يعني بأن يجالسوا النساء بالمدينة يقال الخوالف هم خساس الناس ودناتهم يقال خالف أهله إذا كان دونهم " وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون " التوحيد ويقال لا يعلمون ثواب الخروج إلى الجهاد
ثم قال عز وجل " ولكن الرسول " يعني إن لم يجاهد المنافقون فالله تعالى غني عنهم ويجاهد الرسول " والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم " إن لم تخرجوا أنتم " أولئك لهم الخيرات " يعني الحسنات ويقال زوجات حسان في الجنة والخيرة الزوجة والخيرة الثواب وقال القتبي والأخفش الخيرات واحدها خيرة وهن الفواضل
وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود أنه قال في قوله " وأولئك لهم الخيرات " قال لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة ولكل خيمة أربعة أبواب يدخل عليها في كل يوم من الله تعالى تحفة وكرامة وهدية لم يكن قبل ذلك لا طمحات ولا مرحات ولا بخرات ولا دفرات " وحور عين " [ الواقعة : 22 ] الآية قال أهل اللغة طمحات يعني ناكسات رؤوسهن مرحات خفيفات الرؤوس بخرات منتن ريح الفم ودفرات منتن ريح الإبط ثم قال " وأولئك هم المفلحون " يعني الناجون في الآخرة
قوله تعالى " أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم " يعني النجاة الوافرة والثواب الجزيل
سورة التوبة 90 - 92(2/80)
81
قوله تعالى " وجاء المعذرون من الأعراب " قرأ إبن عباس " المعذرون " بالتخفيف وهكذا قرأ الحضرمي وقراءة العامة " المعذرون " بالتشديد فمن قرأ بالتخفيف يعني الذين أعذروا وجاؤوا بالعذر ومن قرأ بالتشديد يعني المعتذرين الذين إلا أن التاء أدغمت في الذال لقرب المخرجين ويعني المعذرين الذين يعتذرون كان لهم عذر أو لم يكن لهم وهذا قول الزجاج
وروي عن إبن عباس رضي الله عنه أنه قال " وجاء المعذرون " بالتخفيف وهم المخلصون أصحاب العذر وقال لعن الله المعذرين بالتشديد لأن المعذرين هم الذين يعتلون بلا علة ويعتذرون بلا عذر " ليؤذن لهم " في التخلف " وقعد الذين كذبوا الله ورسوله " فمن قرأ بالتشديد يكون هذا نعتا لهم ومن قرأ بالتخفيف يكون صنفين ويكون معناه وجاء الذين لهم العذر وسألوا العذر وقعد الذين لا عذر لهم وهم الذين كذبوا الله ورسوله في السر ثم بين أمر الفريقين فقال " سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم " وهم الذين تخلفوا بغير عذر
وبين حال الذين قعدوا بالعذر فقال تعالى " ليس على الضعفاء " يعني على الزمن والشيخ الكبير " ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون " في الجهاد " حرج " يعني لا إثم عليهم " إذا نصحوا لله ورسوله " يعني إذا كانوا مخلصين مسلمين في السر والعلانية " ما على المحسنين من سبيل " يعني ليس على الموحدين المطيعين من حرج إذا تخلفوا بالعذر " والله غفور " لهم بتخلفهم " رحيم " بهم
قوله تعالى " ولا على الذين " يعني ولا حرج على الذين " إذا ما أتوك لتحملهم " على الجهاد روى أسباط عن السدي أنه قال أقبل رجلان من الأنصار أحدهما عبد الله بن الأزرق والآخر أبو ليلى فسألاه أن يحملهما " قلت لا أجد ما أحملكم عليه " فبكيا حزنا ألا يجدوا ما ينفقون وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال أتاه سبعة نفر من أصحابه سالم بن عمير وحزن بن عمرو وعبد الرحمن بن كعب يكنى أبا ليلى وسليمان بن صخر وعتبة بن زيد وعمرو بن عتبة وعبد الله بن عمرو المزني يستحملونه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا أجد ما أحملكم عليه " " تولوا وأعينهم تفيض من الدمع " يعني تسيل " من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون " في الخروج إلى الجهاد(2/81)
82
سورة التوبة 93 - 96
قوله تعالى " إنما السبيل " يعني إثم الخروج " على الذين يستأذنونك " في التخلف " وهم أغنياء " يعني لهم سعة للخروج " رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم " يعني ختم " فهم لا يعلمون " التوحيد
قوله تعالى " يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم " من الغزو " قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم " يعني لا نصدقكم أن لكم عذرا " قد نبأنا الله من أخباركم " يعني أخبرنا الله تعالى عنكم بأنه ليس لكم عذر ويقال أخبرنا الله عن نفاقكم ويقال أخبرنا الله عن أعمالكم وسرائركم " وسيرى الله عملكم ورسوله " فيما تستأنفون وسيراه المؤمنون " ثم تردون " يعني ترجعون بعد الموت " إلى عالم الغيب والشهادة " يعني إلى الذي يعلم ما غاب عن العباد وما شاهدوا " فينبئكم بما كنتم تعملون " في الدنيا
قوله تعالى " سيحلفون بالله لكم إذا إنقلبتم إليهم " يعني إذا رجعتم إليهم من الغزو " لتعرضوا عنهم " يعني تتجاوزوا وتصفحوا عنهم " فأعرضوا عنهم " يعني اصفحوا عنهم وتجاوزوا عنهم في الدنيا " إنهم رجس " يعني قذر نجس " ومأواهم جهنم " يعني مصيرهم في الآخرة إلى جهنم " جزاء بما كانوا يكسبون " من النفاق
قوله تعالى " يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم " يقول إن أنت رضيت عنهم يا محمد والمؤمنون " فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين " يعني المنافقين
سورة التوبة 97 - 98
قوله تعالى " الأعراب أشد كفرا ونفاقا " يعني أسد وغطفان وأعراب حاضري المدينة هم أشد في كفرهم ونفاقهم من غيرهم " وأجدر ألا يعلموا " يعني أحرى وأولى وأحق ألا يعلموا " حدود ما أنزل الله على رسوله " لأنهم كانوا أجهل وأقل علما من غيرهم وقال(2/82)
83
الكلبي يعني لا يعلمون من الفرائض التي أنزل الله تعالى وقال مقاتل هم أقل علما بالسنن من غيرهم
وروى الأعمش عن إبراهيم قال كان زيد بن صوحان جالسا يحدث وقد أصيبت يده يوم نهاوند فجاء أعرابي وقال إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبني فقال له زيد أو ليس الشمال قال الأعرابي والله لا أدري الشمال تقطع أو اليمين فقال زيد صدق الله " الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله " ويقال أن لا يعلموا أحكام الله في كتابه " والله عليم " بهم " حكيم " في أمرهم
ونزل فيهم " ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما " يعني ما ينفق في الجهاد يحسبه غرما ولا يحتسبه فيه الأجر " ويتربص بكم الدوائر " يعني ينتظر بكم الموت يعني محمدا صلى الله عليه وسلم خاصة وقال القتبي الدوائر دوائر الزمان ودوائر الزمان صروفه التي تأتيه مرة بالخير ومرة بالشر بقول الله تعالى " عليهم دائرة السوء " يعني عاقبة السوء والهلاك قرأ إبن كثير وأبو عمرو " دائرة السوء " بضم السين يعني عاقبة المضرة والشر وقرأ الباقون بالنصب يقال رجل سوء إذا كان خبيثا وعن الفراء أنه قال الفتح مصدر والضم إسم " والله سميع عليم " يعني سميعا لمقالتهم عليما بهلاكهم
سورة التوبة 99
ثم ذكر من أسلم من الأعراب من جهينة وغفار وأسلم فقال الله تعالى " ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق " في الجهاد " قربات عند الله " يعني قربة إلى الله تعالى " وصلوات الرسول " يعني طلب دعاء الرسول عليه السلام واستغفاره يقول الله تعالى " ألا إنها قربة لهم " يعني نفقاتهم قربة لهم إلى الله تعالى وفضيلة ونجاة لهم " سيدخلهم الله في رحمته " يعني في جنته " إن الله غفور " لذنوبهم " رحيم " بهم قرأ نافع في رواية ورش " قربة " بضم الراء وقرأ الباقون بجزم الراء ومعناهما واحد
سورة التوبة 100
قوله تعالى " والسابقون الأولون " وهم الذين صلوا إلى القبيلتين " من المهاجرين والأنصار " وشهدوا بدرا وروي عن قتادة قال قلت لسعيد بن المسيب من المهاجرون الأولون قال من صلى إلى القبلتين مع النبي صلى الله عليه وسلم فهو من المهاجرين الأولين وقال السدي كانت الهجرة قبل أن تفتح مكة فلما فتحت مكة كان من أسلم بعده ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو تابع(2/83)
84
وروي عن مجاشع بن مسعود البهزي أنه جاء بابن أخيه ليبايعه على الهجرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا بل بايع على الإسلام فإنه لا هجرة بعد الفتح ويكون من التابعين بإحسان قرأ العامة " والأنصار " بالكسر وقرأ الحضرمي " والأنصار " بالضم فمن قرأ بالضم فهو عطف على التابعين ومعناه والسابقون والأنصار ومن قرأ بالكسر فهو عطف على المهاجرين ومعناه ومن المهاجرين ومن الأنصار
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقرأ " الذين اتبعوهم بإحسان " بغير واو وقراءة العامة بالواو فمن قرأ بغير واو يكون نعتا للأنصار ومن قرأ بالواو يكون نعتا لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة
وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال سمع عمر رضي الله عنه رجلا يقرأ هذه الآية " والذين اتبعوهم بإحسان " فقال له عمر من أقرأك هذه الآية فقال أقرأنيها أبي بن كعب فقال لا تفارقني حتى أذهب بك إليه قال فلما جاءه قال يا أبي أنت أقرأته هذه الآية هكذا قال نعم قال أنت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم قال كنت أظن أنا قد إرتفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا قال أبي تصديق هذه الآية أول سورة الجمعة وأوسط سورة الحشر وآخر سورة الأنفال أما أول سورة الجمعة " وآخرين منهم لما يلحقوا بهم " [ الجمعة : 3 ] وأوسط سورة الحشر " والذين جاءو من بعدهم " [ الحشر : 10 ] وآخر سورة الأنفال " والذين آمنوا من بعد وهاجروا " [ الأنفال : 75 ]
وقال الشعبي " السابقون الأولون " من أدرك بيعة الرضوان وبايع تحت الشجرة " إتبعوهم بإحسان " يعني إتبعوهم على دينهم بإحسانهم " رضي الله عنهم " بأعمالهم " ورضوا عنه " يعني عن الله تعالى بثوابه إياهم في الجنة " وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار " قرأ إبن كثير " جنات تجري من تحتها الأنهار " بزيادة من وقرأ الباقون " جنات تجري تحتها الأنهار " بغير " من " صار " تحتها " نصبا لنزع الخافض " خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم " يعني الثواب الوافر
سورة التوبة 101 - 102
قوله تعالى " وممن حولكم من الأعراب منافقون " يعني الأعراب الذين حوالي المدينة " ومن أهل المدينة " وهو عبد الله بن أبي وأصحابه " مردوا على النفاق " يعني مرنوا وثبتوا على النفاق فلا يرجعون عنه ولا يتوبون " لا تعلمهم " يقول لا تعرفهم أنت بسبب إيمانهم بالعلانية " نحن نعلمهم " لأني عالم السر والعلانية ونعلم نفاقهم ونعرفك حالهم(2/84)
85
" سنعذبهم مرتين " قال مقاتل أحد العذابين عند الموت ضرب الملائكة الوجوه والأدبار الثاني عذاب القبر وهو ضرب منكر ونكير وقال الكلبي أول العذابين أنه أخرجهم من المسجد والعذاب الثاني عذاب القبر
وروى أسباط بن النضر الهمداني عن إسماعيل بن عبد الملك السدي عن أبي مالك عن إبن عباس أنه قال قام صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال يا فلان أخرج فإنك منافق ثم قال يا فلان أخرج إنك منافق فأخرجهم بأسمائهم وكان عمر لم يشهد الجمعة لحاجة كانت له فلقيهم وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم إستحياء أنه لم يشهد الجمعة وظن أن الناس قد إنصرفوا هم قد إختبؤوا من عمر وظنوا أنه قد علم بأمرهم فدخل عمر المسجد فإذا الناس لم يصلوا فقال له رجل من المسلمين أبشر يا عمر قد فضح الله المنافقين وهذا هو العذاب الأول والعذاب الثاني عذاب القبر وروى إبن أبي نجيح عن مجاهد " سنعذبهم مرتين " قال الجوع والقتل ويقال القتل والسبي وقال الحسن عذاب الدنيا وعذاب الآخرة " ثم يردون إلى عذاب عظيم " يعني عذاب جهنم أعظم مما كان في الدنيا
قوله تعالى " وآخرون إعترفوا بذنوبهم " يعني بتخلفهم عن الغزو وهم أبو لبابة بن عبد المنذر وأوس بن ثعلبة ووديعة بن خزام " خلطوا عملا صالحا " وهو التوبة " وآخر سيئا " بتخلفهم عن غزوة تبوك وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال تخلف أبو لبابة عن غزوة تبوك فربط نفسه بسارية المسجد ثم قال والله لا أحل نفسي منها ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا حتى كاد يخر مغشيا عليه حتى تاب الله عليه فقيل له قد تيب عليك فقال والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحله بيده ثم قال أبو لبابة يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن إنخلع من مالي كله صدقة لله تعالى ولرسوله فقال يجزيك الثلث يا أبا لبابة
وروي عن الزهري عن كعب بن مالك قال أول أمر عتب على أبي لبابة أنه كان بينه وبين يتيم عذق فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى به لأبي لبابة فبكى اليتيم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم دعه فأبى ثم قال فأعطه إياه ولك مثله في الجنة قال لا فانطلق أبو الدحداح فقال لأبي لبابة بعني هذا العذق بحديقتي قال نعم ثم إنطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت إن أعطيت هذا اليتيم هذا العذق ألي مثله في الجنة قال نعم(2/85)
86
فأعطاه إياه قال وأشار أبو لبابة إلى بني قريظة حين نزلوا على حكم سعد بن معاذ وأشار إلى حلقه يعني الذبح وتخلف عن غزوة تبوك ثم تيب عليه فذلك قوله " عسى الله أن يتوب عليهم " وعسى من الله واجب أن يتجاوز عنهم " إن الله غفور رحيم "
سورة التوبة 103 - 104
قوله تعالى " خذ من أموالهم صدقة " يعني من الذين قبلت توبتهم جاؤوا بأموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا هذه أموالنا فخذها وتصدق بها عنا فكره أن يأخذها فنزل " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم " بها من ذنوبهم ويقال هذا إبتداء يعني خذ من أموال المسلمين صدقة يعني الصدقة المفروضة " تطهرهم " يعني تطهر أموالهم " وتزكيهم بها " يعني تصلح بها أعمالهم " وصل عليهم " يعني إستغفر لهم وادع لهم " إن صلاتك " يعني دعاءك واستغفارك " سكن لهم " يعني طمأنينة لأن الله تعالى قد قبل منهم الصدقة ويقال إن الله قبل منهم التوبة " والله سميع " لقولهم ولصدقاتهم " عليم " بثوابهم قرأ نافع وإبن كثير وأبو عمرو وإبن عامر وعاصم في رواية أبي بكر " إن صلواتك " بلفظ الجماعة وقرأ الباقون " صلاتك " وقال أبو عبيدة وهذا أحب إلي لأن الصلاة أكثر من الصلوات ألا ترى إلى قول الله تعالى " وأقيموا الصلوة " [ الأنعام : 72 ] وإنما هي صلاة الأبد
قوله تعالى " ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات " يعني ويقبل الصدقات ومعناه وما منعهم عن التوبة والصدقة فكيف لم يتوبوا ولم يتصدقوا ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده والصدقة وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله يقبل الصدقة إذا كانت من طيب فيربيها كما يربي أحدكم فصيله أو مهره حتى تكون اللقمة مثل أحد " وأن الله هو التواب " يعني المتجاوز لمن تاب " الرحيم " بالمؤمنين
سورة التوبة 105 - 106
قوله تعالى " وقل إعملوا " أي إعملوا خيرا " فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " يعني ويراه رسوله ويراه المؤمنون وقال إبن مسعود رضي الله عنه إن الناس قد أحسنوا(2/86)
87
القول كلهم فمن وافق قوله فعله فذلك الذي أصاب حظه ومن خالف قوله فعله فإنما يوبخ نفسه " وستردون إلى عالم الغيب والشهادة " يعني يوم القيامة " فينبئكم بما كنتم تعملون " في الدنيا
قوله تعالى " وآخرون مرجون لأمر الله " يعني موفقون لأمر الله وقال القتبي مؤخرون على أمر الله ويقال متروكون لأمر الله تعالى لهم ويقال مؤخر أمرهم ولم يبين شيء فنزلت هذه الآية في الثلاثة الذين تخلفوا وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع ثم بين توبتهم في الآية التي بعد هذه " وعلى الثلاثة الذين خلفوا " قرأ حمزة والكسائي ونافع " مرجون " بغير همز وقرأ إبن كثير وأبو عمرو بالهمز وإختلف عن عاصم وإبن عامر وأصله من التأخير " إما يعذبهم " بتخلفهم " وإما يتوب عليهم " يعني يتجاوز عنهم " والله عليم " بهم " حكيم " يحكم في أمرهم ما يشاء
سورة التوبة 107 - 108
قوله تعالى " والذين إتخذوا مسجدا ضرارا " يعني بنوا مسجدا مضرة للمسلمين وقال القتبي يعني مضارة ليضاروا به مخالفيهم أي ليدخلوا عليهم المضرة " وكفرا " يعني وإظهارا للكفر " وتفريقا بين المؤمنين " قرأ نافع وإبن عامر " الذين إتخذوا " بغير واو وقرأ الباقون بالواو ومعناهما واحد إلا أن الواو للعطف
نزلت الآية في سبعة عشر من المنافقين من بني عمرو بن عوف قالوا تعالوا نبني مسجدا يكون فيه متحدثنا ومجمع رأينا فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يأذن لهم في بناء المسجد وقالوا قد بعد علينا المسير إلى الصلاة معك فتفوتنا الصلاة فأذن لنا أن نبني مسجدا لذوي العلة والليلة المطيرة فأذن لهم وكانوا ينتظرون رجوع أبي عامر الراهب من الشام وكان النبي صلى الله عليه وسلم سماه فاسقا وقال لا تقولوا راهب ولكن قولوا فاسق وقد كان آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم مرتين ثم رجع عن الإسلام فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات كافرا فلما ظهر أمرهم ونفاقهم جاؤوا يحلفون " إن أردنا إلا الحسنى " أي أردنا ببنيانه خيرا فنزل " والذين إتخذوا مسجدا ضرارا " يعني بنوا المسجد للضرار والكفر وللتفريق بين المؤمنين لكي يصلي بعضهم في مسجد قباء وبعضهم في مسجدهم وليجتمع الناس إلى مسجدهم ويتفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل " يعني إنتظارا لمن هو كافر بالله ورسوله(2/87)
88
من قبل بناء المسجد أن يقدم عليهم لهم من قبل الشام وهو أبو عامر الراهب " وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى " يعني ما أردنا ببناء المسجد إلا صوابا لكيلا تفوتنا الصلاة بالجماعة ولكي يرجع أبو عامر الراهب ليسلم " والله يشهد إنهم لكاذبون " فيما حلفوا وإنما إجتمعوا فيه لإظهار النفاق والكفر
ثم قال تعالى " لا تقم فيه أبدا " يعني لا تصل فيه أبدا لأنهم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي ويصلي فيه لكي يتبركوا بصلاته فيه فنهاه الله تعالى عن ذلك ونزل " لا تقم فيه أبدا " حتى للصلاة فيه ثم قال " لمسجد أسس على التقوى من أول يوم " يعني المسجد الذي بني على التوحيد من أول يوم قال الأخفش بني لوجه الله تعالى يعني منذ أول يوم ويقال بني للذكر والتكبير والتهليل ولإظهار الإسلام وقهر الشرك من أول يوم بني ثم قال " أحق أن تقوم فيه " يعني أولى وأجدر أن تصلي فيه
ثم قال " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " يعني الإستنجاء بالماء ويقال " يحبون أن يتطهروا " يعني يطهروا أنفسهم من الذنوب وذلك أن ناسا من أهل قباء كانوا إذا أتوا الخلاء إستنجوا بالماء وهم أول من فعل ذلك واقتدى بهم من بعدهم وروي في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بباب المسجد بعد نزول الآية وقال لمن فيه إن الله قد أحسن عليكم الثناء في طهوركم فبم تطهرون قالوا نستنجي بالماء فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية فذلك قوله " فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين " يعني المتطهرين
وقال سعيد بن المسيب المسجد الذي أسس على التقوى مسجد المدينة الأعظم وعن سهل بن سعد الساعدي قال إختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الآخر هو مسجد قباء فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال هو مسجدي هذا وروي عن إبن عباس أنه قال هو مسجد قباء
سورة التوبة 109 - 110
ثم قال تعالى " أفمن أسس بنيانه " يعني أصل بنيانه يعني مسجد قباء وقيل مسجد(2/88)
89
رسول الله صلى الله عليه وسلم " على تقوى " يعني على توحيد الله تعالى " ورضوان " من الله قرأ نافع وإبن عامر " أفمن أسس " بضم الألف وكسر السين " بنيانه " بضم النون على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون " أسس " بنصب الألف و " بنيانه " بنصب النون ومعنى الآية إن البناء الذي يراد به الخير ورضاء الرب تبارك وتعالى " خير أم من أسس بنيانه " يعني مسجد الضرار الذي " أسس بنيانه " يعني أصل بنيانه " على شفا جرف هار " يعني على طرف هوة ليس له أصل قرأ حمزة وإبن عامر وأبي بكر عن عاصم " على شفا جرف " بجزم الراء والباقون بالضم ومعناهما واحد وقال القتبي يعني على حرف جرف هائر والجرف ما ينجرف بالسيول من الأودية والهائر الساقط يقال تهور البناء وانهار وهار إذا سقط وهذا على سبيل المثل يعني إن الذي بنى المسجد إنما بنى على جرف جهنم فانهار بأهله في نار جهنم وقال الكلبي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين بعد رجوعه من غزوة تبوك فأحرقاه وهدماه
ثم قال " والله لا يهدي القوم الظالمين " يعني لا يرشدهم إلى دينه وهم الذين كفروا في السر
قوله تعالى " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم " يعني حسرة وندامة بما أنفقوا فيه وبما ظهر من أمرهم ونفاقهم " إلا أن تقطع قلوبهم " يعني لا يزال حسرة في قلوبهم إلى أن يموتوا لأنهم إذا ماتوا إنقطعت قلوبهم ويقال " إلا أن تقطع قلوبهم " يعني في القبر قرأ حمزة وإبن عامر وعاصم في رواية حفص " إلا أن تقطع " بالنصب فيكون الفعل للقلوب يعني إلا أن تتقطع قلوبهم وتتفرق والباقون بالرفع على فعل ما لم يسم فاعله " والله عليم حكيم " بهدم مسجدهم
سورة التوبة 111 - 112
قوله تعالى " إن الله إشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " معناه إنه طلب من المؤمنين أن يفدوا أنفسهم وأموالهم ويخرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ليثيبهم الجنة وذكر الشراء على وجه المثل لأن الأموال والأنفس كلها لله تعالى وهي عند أهلها عارية ولكنه أراد به التحريض والترغيب في الجهاد وهذا كقوله " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " [ البقرة : 245 ] ثم قال " يقاتلون في سبيل الله " يعني في طاعة الله تعالى مع العدو(2/89)
90
" فيقتلون ويقتلون " يعني يقتلون العدو ويقتلهم العدو قرأ حمزة والكسائي " فيقتلون " بالرفع " ويقتلون " بالنصب على معنى التقديم والتأخير وقرأ الباقون " يقتلون " بالنصب " ويقتلون " بالرفع " وعدا عليه حقا " يعني واجبا لهم ذلك بأن يفي لهم ما وعد وبين لهم ذلك " في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله " يعني ليس أحد أوفى من الله تعالى في عهده وشرطه لأنه عهد أن من قتل في سبيل الله فله الجنة فيفي عهده ذلك وينجز وعده
ثم قال " فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به " وهذا إعلام لهم أنهم يربحون في مبايعتهم " ذلك هو الفوز العظيم " يعني الثواب الوافر والنجاة الوافرة
قوله تعالى " التائبون العابدون " إلى آخره يعني لهم الجنة ويقال هم التائبون ويقال صار رفعا بالإبتداء وجوابه مضمر قرأ عاصم " التائبين العابدين " يعني إشترى من المؤمنين التائبين العابدين إلى آخره ويقال إشترى من عشرة نفر أولهم الغزاة ومن التائبين الذين يتوبون عن الذنوب والذين هم العابدون يعني الموحدون ويقال المطيعون لله تعالى في الطاعة والجهاد " الحامدون " الذين يحمدون الله على كل حال " السائحون " قال إبن عباس وإبن مسعود ومجاهد والحسن يعني الصائمين وأصله السائح في الأرض لأن السائح في الأرض يكون ممنوعا عن الشهوات فشبه الصائم به وذكر عن بعضهم أنه قال هم الذين يصومون شهر الصبر وهو شهر رمضان وأيام البيض " الراكعون " يعني الذين يحافظون على الصلوات " الساجدون " الذين يسجدون لله تعالى في الصلوات " الآمرون بالمعروف " يعني يأمرون الناس بالتوحيد وأعمال الخير " والناهون عن المنكر " الذين ينهون الناس عن الشرك والأعمال الخبيثة " والحافظون لحدود الله " يعني العاملين بما فرض الله عليهم وذكر عن خلف بن أيوب أنه أمر إمرأته في بعض الليل أن تمسك الرضاع عن الولد فقالت لم فقال لأنه قد تمت سنتان فقيل له لو تركتها حتى ترضع تلك الليلة وأيش يكون فقال أين قول الله تعالى " والحافظون لحدود الله " ثم قال " وبشر المؤمنين " يعني المصدقين بهذا الشرط والعاملين به
سورة التوبة 113 - 114
قوله تعالى " ما كان للنبي والذين آمنوا " يعني ما ينبغي وما جاز للنبي والذين آمنوا " أن يستغفروا للمشركين " وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له أتستغفر لأبويك وهما مشركان فقال ألم يستغفر إبراهيم(2/90)
91
لأبويه وهما مشركان فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزل " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " " ولو كانوا أولي قربى " يعني ذا قرابة في الرحم " من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " يعني أهل النار وماتوا على الكفر وهم في النار
ويقال أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لأبويه وهما مشركان واستأذن منه المسلمون أن يستغفروا لآبائهم فنهاهم الله تعالى عن ذلك وقال " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود أنه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجنا معه حتى إنتهينا إلى قبر فجلس إليه فناجاه طويلا ثم رفع رأسه باكيا فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل إلينا فتلقاه عمر رضي الله عنه فقال ما الذي أبكاك يا رسول الله فأخذ بيد عمر وأقبل إلينا فأتيناه فقال أفزعكم بكائي فقلنا نعم يا رسول الله فقال إن القبر الذي رأيتموني أناجيه قبر آمنة بنت وهب بن عبد مناف وإني إستأذنت ربي بالإستغفار لها فلم يأذن لي فأنزل الله تعالى " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " فأخذني ما يأخذ الولد للوالدين من الرقة فذلك الذي أبكاني
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إستأذنت ربي أن أستغفر لوالدي فلم يأذن لي وإستأذنته أن أزور قبرهما فأذن لي فنزلت هذه الآية " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " الآية
ثم قال تعالى " وما كان إستغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه " وذلك أن أباه وعد إبراهيم أن يسلم فكان يستغفر له رجاء أن يسلم وروى سعيد بن جبير عن إبن عباس أنه قال ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات " فلما " مات " تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " يعني ترك الدعاء ولم يستغفر له بعد لأنه مات على الكفر وللآية هذه وجه آخر روي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب بن حرب قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أمية فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب يا عم قل لا إله إلا الله كلمة النجاة أشهد لك بها عند الله تعالى فقال أبو جهل أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعانده أبو جهل بتلك المقالة حتى قال أبو(2/91)
92
طالب آخر مما كلمهم على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنه ) فأنزل الله تعالى " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " [ القصص : 56 ] ونزل " ما كان للنبي والذين آمنوا " الآية
قوله تعالى " إن إبراهيم لأواه حليم " وروى سماك عن عكرمة عن إبن عباس أنه قال كل القرآن أعلمه إلا أربعة غسلين وحنانا والأواه والرقيم وروي عن عبد الله بن عباس في رواية أخرى أنه قال الأواه الذي يذكر الله في أرض الوحشة وروي عن إبن مسعود أنه قال الأواه الرحيم وقال مجاهد الأواه الموقن وقال الضحاك الأواه الداعي الذي يلح في الدعاء إلى الله تعالى المقبل إليه بطاعته ويقال الأواه المؤمن بلغة الحبشة ويقال الأواه معلم الخير وقال كعب الأواه الذي إذا ذكر الله قال أواه من النار وقال القتبي المتأوه حزنا وخوفا " حليم " يعني حليما عن الجهل
سورة التوبة 115 - 116
قوله تعالى " وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنزل الله تعالى عليه الفرائض فعمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ثم إن الله تعالى أنزل ما ينسخ به الأمر الأول وقد غاب الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يبلغهم ذلك فعملوا بالمنسوخ وكانوا يصلون إلى القبلة الأولى ولا يعلمون ويشربون الخمر ولا يعلمون تحريمها فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى " وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم " وإن عملوا بالمنسوخ " حتى يبين لهم ما يتقون " يعني ما نسخ من القرآن يعني إنه قبل منهم ما عملوا بعد النسخ ولا يؤاخذهم بذلك ويقال وما كان الله ليهلك قوما في الدنيا حتى يقيم عليهم الحجة ويقال ما كان الله ليعذبهم في الآخرة حتى يبين لهم ما يتقون ويقال لا يتركهم بلا بيان بعد أن أكرمهم بالإيمان حتى يبين لهم ما يحتاجون أن يتقوه ويقال لا ينزع الإيمان عنهم بعد أن هداهم إلى الإيمان حتى يبين لهم الحدود والفرائض فإذا تركوا ذلك ولم يروه حقا عذبهم الله تعالى ونزع عنهم المعرفة ويقال " وما كان الله ليضل قوما " على الإبتداء " حتى يبين لهم ما يتقون " فيصيروا فيه ضلالا وهذا طريق المعتزلة والطريق الأول أصح وبه نأخذ
ثم قال تعالى " إن الله بكل شيء عليم " يعني عليم بكل ما يصلح للخلق
ثم قال تعالى " إن الله له ملك السموات والأرض " يعني يحكم فيهما بما يشاء بالأمر(2/92)
93
بعد الأمر يأمر بأمر ثم يأمر بغيره ويقر ما يشاء فلا ينسخه " يحيي ويميت " يعني يحيي الموتى ويميت الأحياء " وما لكم من دون الله " يعني من عذاب الله تعالى " من ولي " يعني من قريب ينفعكم " ولا نصير " يعني مانعا يمنعكم وقال الكلبي " يحيي " يعني في السفر " ويميت " في الحضر يعني إن هذا ترغيب في الجهاد لكي لا يمتنعوا مخافة الموت القتل والموت
سورة التوبة 117
قوله تعالى " لقد تاب الله على النبي " يعني تجاوز الله عن النبي إذنه للمنافقين بالتخلف كقوله " عفا الله عنك لم أذنت لهم " [ التوبة : 43 ] ويقال " لقد تاب الله على النبي " يعني غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كما ذكر في أول سورة الفتح ثم قال " والمهاجرين والأنصار " يعني تجاوز عنهم ذنوبهم لما أصابهم من الشدة في ذلك الطريق
ثم نعتهم فقال " الذين إتبعوه في ساعة العسرة " يعني وقت الشدة في غزوة تبوك كانت لهم العسرة في أربعة أشياء عسرة النفقة والركوب والحر والخوف " من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم " يعني تميل قلوب طائفة منهم عن الخروج إلى الغزو ويقال من بعد ما كادوا أن يرجعوا من غزوتهم من الشدة ويقال هم قوم تخلفوا عنه ثم خرجوا فأدركوه في الطريق " ثم تاب عليهم " يعني تجاوز عنهم " إنه بهم رؤوف رحيم " حين تاب عليهم قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص " يزيغ قلوب " بالياء بلفظ التذكير والباقون بالتاء بلفظ التأنيث ولفظ التأنيث إذا لم يكن حقيقيا جاز والتأنيث والتذكير لأن الفعل مقدم فيجوز التذكير والتأنيث
سورة التوبة 118
قوله تعالى " وعلى الثلاثة الذين خلفوا " يعني وتاب الله على الثلاثة وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية قال الفقيه سمعت أبي رحمه الله يذكر بإسناده عن معمر عن الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه قال لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة له غزاها حتى كانت غزوة تبوك إلا بدرا فلم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم أحدا تخلف عن بدر إنما خرج يريد العير فخرجت قريش معينين لعيرهم فالتقوا على غير موعدهم ثم لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها فأذن للناس بالرحيل وأراد أن يتأهبوا أهبة غزوتهم وذلك حين طابت الظلال وطابت الثمار وكان(2/93)
94
قل ما أراد غزوة إلا ورى بغيرها وكان يقول الحرب خدعة فأراد في غزوة أن يتأهب الناس أهبتهم وأنا أيسر ما كنت قد جمعت راحلتين وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد وخفة الحال وأنا في ذلك أصبو إلى الظلال وطيب الثمار
فلم أزل كذلك حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم غازيا بالغداة وذلك يوم الخميس وكان يحب أن يخرج يوم الخميس فأصبح غاديا فقلت إنطلق غاديا إلى السوق غدا فأشتري ثم ألحق بهم فانطلقت إلى السوق من الغد فعسر علي بعض شأني فرجعت فقلت أرجع غدا إن شاء الله فألحق بهم فعسر علي بعض شأني فلم أزل كذلك حتى إلتبس بي الريب وتخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أمشي في الأسواق وأطوف في المدينة فيحزنني أن لا أرى أحدا تخلف إلا رجلا مغموسا عليه في النفاق وكان جميع من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وثمانين رجلا ولم يذكرني النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فلما بلغ تبوك قال فما فعل كعب بن مالك فقال رجل من قومي خلفه يا رسول الله حسن برديه والنظر إلى عطفيه فقال معاذ بن جبل بئس ما قلت والله يا نبي الله ما نعلم منه إلا خيرا
فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وقفل ودنا من المدينة جعلت أتذكر بماذا أخرج من سخطة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي حتى إذا أقبل النبي صلى الله عليه وسلم زاح عني الباطل وعرفت ألا أنجو إلا بالصدق ودخل النبي صلى الله عليه وسلم ضحى فصلى في المسجد ركعتين وكان إذا جاء من السفر فعل ذلك فدخل المسجد وصلى ركعتين ثم جلس فجعل يأتيه من تخلف فيحلفون له ويعتذرون إليه ويستغفر لهم ويقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى
فدخلت المسجد فإذا هو جالس فلما رآني تبسم تبسم المغضب فجئت فجلست بين يديه فقال ألم تكن ابتعت ظهرك فقلت بلى يا رسول الله فقال ما خلفك فقلت والله لو أني بين يدي أحد من الناس غيرك لخرجت من سخطه علي بعذر ولقد أوتيت جدلا ولكني قد علمت يا رسول الله أني لو أخبرتك اليوم بقول تجد علي فيه وهو حق فإني أرجو فيه عفو الله وإن حدثتك حديثا ترضى عني فيه وهو كذب يوشك الله أن يطلعك علي والله يا نبي الله ما كنت قط أيسر ولا أخف حالا حين تخلفت عنك قال أما هذا فقد صدقكم الحديث قم حتى يقضي الله فيك فقمت فنازعني ناس من قومي يؤنبونني وقالوا والله ما نعلمك أذنبت ذنبا قط قبل هذا فهلا إعتذرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما يرضى عنك فيه فكان إستغفاره سيأتي من وراء ذلك ولم توقف نفسك موقفا ما تدري ما يقضى لك فيه
فلم يزالوا يؤنبونني حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي فقلت هل قال هذا القول أحد غيري قالوا نعم فقلت من هو فقالوا هلال
بن أمية ومرارة بن الربيع فذكروا رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة فقلت والله لا أرجع إليه في هذا أبدا ولا أكذب(2/94)
95
نفسي قال فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا نحن الثلاثة قال فجعلت أخرج إلى السوق فلا يكلمني أحد وتنكر لنا الناس حتى ما هم بالذين نعرفهم وتنكرت لنا الأرض حتى ما هي بالتي نعرف
وكنت أقوى أصحابي فكنت أخرج وأطوف بالأسواق وآتي المسجد وآتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وأقول هل حرك شفتيه بالسلام فإذا قمت أصلي إلى سارية فأقبلت على صلاتي نظر إلي بمؤخر عينيه فإذا نظرت إليه أعرض عني واستكان صاحباي فجعلا يبكيان الليل والنهار ولا يطلعان رؤوسهما فبينما أنا أطوف بالسوق إذا برجل نصراني جاء بطعام له يبيعه يقول من يدلني على كعب بن مالك فانطلق الناس يشيرون إلي فأتاني بصحيفة من ملك غسان وإذا فيها أما بعد فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولست بدار مضيعة ولا هوان فالحق بنا نواسيك فقلت هذا أيضا من البلاء يعني الدعوة إلى الكفر فسجرت لها التنور فأحرقتها فيه
فلما مضت أربعون ليلة إذا رسول من النبي صلى الله عليه وسلم قد أتاني وقال إعتزل إمرأتك فقلت أطلقها فقال لا ولكن لا تقربها فجاءت إمرأة هلال بن أمية فقالت يا نبي الله إن هلالا شيخ ضعيف فهل تأذن لي أن أخدمه قال نعم ولكن لا يقربنك فقالت يا نبي الله والله ما به من حركة من شيء يبكي الليل والنهار منذ كان من أمره ما كان قال كعب فلما طال علي البلاء إقتحمت على أبي قتادة حائطه وهو إبن عمي فسلمت عليه فلم يرد علي السلام فقلت أنشدك الله يا أبا قتادة أتعلم أني أحب الله ورسوله فسكت ثم قلت أنشدك بالله يا أبا قتادة أتعلم أني أحب الله ورسوله حتى عاودته ثلاث مرات قال الله تعالى ورسوله أعلم فلم أملك نفسي أن بكيت ثم إقتحمت الحائط خارجا حتى إذا مضت خمسون ليلة من حين نهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا صليت على ظهر بيت لنا صلاة الفجر ثم جلست وأنا في المنزلة التي قال الله تعالى " ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم " إذ سمعت نداء من ذروة سلع أن أبشر يا كعب بن مالك فخررت ساجدا وعرفت أن الله تعالى قد جاء بالفرج ثم جاء رجل يركب على فرس يبشرني فكان الصوت أسرع من فرسه فأعطيته ثوبي بشارة ولبست ثوبين آخرين وانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجعل الأنصار يستقبلونني فوجا فوجا ويهنئونني ويبشرونني ولم يقم أحد من المهاجرين غير طلحة بن عبيد الله قام وتلقاني بالتهنئة فما نسيت ذلك منه
وانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون وهو يستنير كاستنارة القمر وكان إذا بشر بالأمر إستنار وجهه كالقمر فجئت فجلست بين يديه فقال أبشر يا كعب بخير يوم أتى عليك منذ ولدتك أمك فقلت يا نبي الله أمن عندك أم من عند الله قال بل
من عند الله ثم تلا قوله تعالى " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار " إلى(2/95)
96
قوله " وعلى الثلاثة الذين خلفوا " الآية فقلت يا نبي الله إن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا وأن أنخلع من مالي كله صدقة لله ورسوله قال أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك قال فما أنعم الله علي نعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدقته أنا وصاحباي ألا نكون كذبنا فهلكنا كما هلكوا وإني لأرجو ألا يكون الله أبلى أحدا في الصدق كما أبلاني ما تعمدت لكذبة قط مذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي
وروى الزهري عن كعب بن مالك قال كانت توبتنا نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في ثلث الليل فقالت أم سلمة يا نبي الله ألا نبشر كعبا بن مالك قال إذا يحطمنكم الناس ويمنعونكم النوم سائر الليلة وكانت أم سلمة محسنة في شأني تحزن بأمري وذلك قوله تعالى " وعلى الثلاثة الذين خلفوا " يعني وتاب الله على الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ويقال " وعلى الثلاثة الذين تخلفوا " عن التوبة يعني أبا لبابة " حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت " يعني بسعتها " وضاقت عليهم أنفسهم " يعني ضاقت قلوبهم " وظنوا أن لا ملجأ من الله " يعني علموا وأيقنوا أن لا مفر من عذاب الله " إلا إليه " يعني إلا بالتوبة إليه " ثم تاب عليهم ليتوبوا " يعني تجاوز عنهم حتى تابوا ويقال أكرمهم الله فوفقهم للتوبة لكي يتوبوا ويقال تاب عليهم ليتوب من بعدهم ويقتدي بهم " إن الله هو التواب الرحيم " يعني المتجاوز لمن تاب " الرحيم " بهم بعد التوبة
سورة التوبة 119 - 121
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إتقوا الله " أي إخشوا الله ولا تعصوه وهم من أسلم من أهل الكتاب " وكونوا مع الصادقين " قال الضحاك يعني مع الذين صدقت نياتهم(2/96)
97
واستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو بإخلاص نية ويقال هذا الخطاب للمنافقين الذين كانوا يعتذرون بالكذب ومعناه " يا أيها الذين آمنوا " في العلانية " إتقوا الله " " وكونوا مع الصادقين " أي مع الذين صدقوا
وروي عن كعب بن مالك أنه قال فينا نزلت " وكونوا مع الصادقين " وقال الكلبي " وكونوا مع الصادقين " يعني المهاجرين والأنصار الذين صلوا إلى القبلتين وقال مقاتل هم الذين وصفهم الله تعالى في آية أخرى " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله " [ النور : 62 ] الآية ويقال " مع الصادقين " في إيمانهم يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضوان الله عليهم أجمعين حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا أبو بكر القاضي قال حدثنا أحمد بن جرير قال حدثنا قتيبة قال حدثنا عبد الرحمن المحاربي عن جويبر عن الضحاك في قوله " وكونوا مع الصادقين " قال أمروا أن يكونوا مع أبي بكر وعمر وأصحابهما
قوله تعالى " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب " يعني المنافقين الذين بالمدينة وحوالي المدينة " أن يتخلفوا عن رسول الله " في الغزو " ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه " يعني لا ينبغي أن يكونوا بأنفسهم أبر وأشفق من نفس محمد صلى الله عليه وسلم وأن يتركوا محبته ويقال " ولا يرغبوا بأنفسهم " يعني لا يركنوا بإبقاء أنفسهم على إبقاء نفسه يعني ينبغي لهم أن يتبعوه حيث ما يريد " ذلك " يعني النهي عن التخلف ويقال ذلك التحضيض الذي حضهم عليه " بأنهم لا يصيبهم " في غزوهم " ظمأ ولا نصب " يعني ولا تعب ولا مشقة في أجسادهم
ثم قال " ولا مخمصة " يعني مجاعة " في سبيل الله ولا يطؤون موطئا " يعني لا يطؤون أرضا وموضعا من سهل أو جبل " يغيظ الكفار " يعني يحزن الكفار بهم " ولا ينالون من عدو نيلا " يعني لا يصيبون من عدو قتلا أو غارة أو هزيمة " إلا كتب لهم به عمل صالح " يعني يضاعف حسناتهم على حسنات القاعدين " إن الله لا يضيع أجر المحسنين " يقول لا يبطل ثواب المجاهدين وفي هذه الآية دليل أن ما أصاب الإنسان من الشدة يكتب له بذلك ثواب قال بعضهم لا يكتب له بالشدة ثواب ولكن يحط عنه الخطيئة وقال بعضهم لا يكون بالمشقة أجر ولكن بالصبر على ذلك
ثم قال تعالى " ولا ينفقون نفقة " يعني في الجهاد " صغيرة ولا كبيرة " يعني قليلا ولا كثيرا " ولا يقطعون واديا " من الأودية مقبلين إلى العدو أو مدبرين " إلا كتب لهم " يعني كتب لهم ثواب " ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون " يقول ليجزيهم بأعمالهم ويقال يجزيهم أحسن من أعمالهم لأنه يعطي بحسنة واحدة عشرة إلى سبعمائة إلى ما لا يدرك حسابه ويقال ليجزيهم بأحسن أعمالهم وتصير سائر
أعمالهم فضلا(2/97)
98
سورة التوبة 122
قوله تعالى " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " روي عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن إبن عباس في قوله " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " يعني ما كان للمؤمنين لينفروا جميعا ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده بالمدينة " فلولا نفر " يقول فهلا خرج " من كل فرقة منهم طائفة " يعني عصبة وجماعة ويقيم طائفة مع النبي صلى الله عليه وسلم " ليتفقهوا في الدين " يعني ليتعلموا العلم وشرائع الدين فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون عن النبي صلى الله عليه وسلم فيعلمونهم ويقولون إن الله تعالى قد أنزل على نبيكم بعدكم كذا وكذا وهذا قوله " ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " يعني يتعظون بما أمروا ونهوا عنه
ولها وجه آخر وهو ما روي أيضا عن معاوية بن صالح عن علي بن طلحة عن إبن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا على مضر بالسنين أجدبت بلادهم وكانت القبيلة تقبل بأسرها حتى يلحقوا بالمدينة ويعلنوا بالإسلام وهم كاذبون فضيقوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم فأنزل الله تعالى يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم ليسوا بمؤمنين فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عشائرهم وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم بعد ذلك وهو قوله " ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون "
وروى أسباط بن السدي قال أقبلت أعراب هذيل وأصابتهم مجاعة واستعانوا بتمر المدينة وأظهروا الإسلام وكانوا يفتخرون على المؤمنين فيقولون نحن أسلمنا طائعين يعني بغير قتال وأنتم قوتلتم فنحن خير منكم فآذوا المؤمنين فأنزل الله تعالى فيهم يخبرهم بأمرهم قال " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " أي جميعا " فلولا نفر من كل فرقة منهم " يعني من كل بطن طائفة فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعوا كلامه ثم رجعوا إلى قومهم فأخبروهم " لعلهم يحذرون " يعني يتعظون فيعملون به ولا يعملون بخلافه وفي هذه الآية دليل أن أخبار الآحاد مقبولة ويجب العمل بها لأن الله تعالى أخبر أن الفرقة من الطائفة إذا تفقهت في الدين وأنذرت قومهم صح ذلك ولفظ الطائفة يتناول الواحد والأكثر لأن أقل الفرقة إثنان والطائفة من الإثنين واحد
سورة التوبة 123 - 125(2/98)
99
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " يعني ما حولكم وبقربكم من عدوكم وهم بنو قريظة والنضير وفدك وخيبر فأمر الله تعالى كل قوم بأن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار قال أبو جعفر الطحاوي منع الله تعالى نبيه عن قتال الكفار بقوله " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " ثم أباح قتال من يليه بقوله " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " ثم أباح قتال جميع الكفار بقوله " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " [ التوبة : 5 ] ثم قال " وليجدوا فيكم غلظة " يعني شدة عليهم " واعلموا أن الله مع المتقين " ينصرهم على عدوهم
قوله تعالى " وإذا ما أنزلت سورة " يعني القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم " فمنهم " يعني من المنافقين " من يقول " بعضهم لبعض " أيكم زادته هذه " السورة " إيمانا " يعني تصديقا إستهزاء بها
قال الله تعالى " فأما الذين آمنوا " يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم " فزادتهم إيمانا " يعني تصديقا بهذه السورة مع تصديقهم بالله تعالى وثباتا على الإيمان " وهم يستبشرون " يقول يفرحون بما أنزل الله من القرآن
قال الفقية حدثنا محمد بن الفضل وأبو القاسم الشنابازي قالا حدثنا فارس بن مردويه قال حدثنا محمد بن الفضل العابد قال حدثنا يحيى بن عيسى قال حدثنا أبو مطيع عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة أنه قال جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان يزيد وينقص قال لا الإيمان مكمل في القلب زيادته ونقصانه كفر
قال الفقيه حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستلم قال حدثنا أبو عمران المؤدب الدستجردي قال حدثنا صخر بن نوح قال حدثنا مسلم بن سالم عن أبي الحويرث عن عون بن عبد الله قال سمعت عمر بن عبد العزيز يقول في خطبته لو كان الأمر على ما يقول الشكاك الضلال أن الذنوب تنقص الإيمان لأمسى أحدنا حين ينقلب إلى أهله وهو لا يدري ما ذهب من إيمانه أكثر أو ما بقي
قوله تعالى " وأما الذين في قلوبهم مرض " يعني شكا ونفاقا " فزادتهم رجسا إلى رجسهم " قال الكلبي أي شكا إلى شكهم وقال مقاتل إثما على إثمهم وقال القتبي أصل الرجس النتن ثم قال الكفر والنفاق رجس لأنهما نتنان " وماتوا وهم كافرون " يعني ماتوا على الكفر لأنهم كانوا كفارا في السر ولم يكونوا مؤمنين في الحقيقة
سورة التوبة126 - 127
(2/99)
100
قوله تعالى " أو لا يرون أنهم يفتنون " قرأ حمزة " أو لا ترون " بالتاء ويكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقرأ الباقون بالياء يعني " أو لا يرون " المنافقون ولا يعتبرون " أنهم يفتنون في كل عام " يقول يبتلون بإظهار ما في صدورهم من النفاق في كل عام " مرة أو مرتين ثم لا يتوبون " من نفاقهم وكفرهم في السر " ولا هم يذكرون " يعني لا يتعظون ولا يتفكرون قال الكلبي كانوا ينقضون عهدهم في السنة مرة أو مرتين فيعاقبون ثم لا يتوبون عن نقض العهد وقال مقاتل وذلك أنهم إذا خلوا تكلموا بما لا يحل لهم فإذا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بما تكلموا به فيعرفون أنه نبي ثم يأتيهم الشيطان فيحدثهم أنه يخبرهم بما بلغه عنهم فيشكون فيه فذلك قوله " يفتنون في كل عام مرة أو مرتين " يعني يعرفون مرة أنه نبي وينكرون مرة أخرى " ثم لا يتوبون " عن ذلك " ولا هم يذكرون " فيما أخبرهم ويقال " يفتنون " يعني يبتلون بالأمراض والأسقام ويعاهدون الله تعالى لو زال عنا لفعلنا كذا وكذا ثم لا يوفون به ولا يتوبون من النفاق " ولا هم يذكرون " أي لا يتعظون بما أنزل الله عليهم
قوله تعالى " وإذا ما أنزلت سورة " يعني من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل سورة براءة فيها عيب المنافقين " نظر بعضهم إلى بعض " أي ويتغامزون ويقولون فيما بينهم " هل يراكم من أحد " من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإذا رآهم أحد قاموا وصلوا وإن لم يرهم أحد إنصرفوا يعني خرجوا من المسجد ويقال إنصرفوا عن الإيمان " صرف الله قلوبهم " عن الإيمان وخذلهم عن الفهم بخروجهم وانصرافهم عن الإيمان ويقال هذا على وجه الدعاء واللعن كقوله تعالى " قاتلهم الله " [ التوبة : 30 ] ويقال هذا على معنى التقديم ومعناه صرف الله قلوبهم لأنهم إنصرفوا عن الإيمان " بأنهم قوم لا يفقهون " أمر الله تعالى
سورة التوبة 128 - 129
قوله تعالى " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " قال مقاتل يعني يا أهل مكة قد جاءكم رسول من أنفسكم تعرفونه ولا تنكرونه ويقال هذا الخطاب لجميع العرب " لقد جاءكم رسول " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " من أنفسكم " يعني من جميع العرب لأنه لم يكن في العرب قبيلة إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيها قرابة وهذا من المجاز والإستعارة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان فيهم ولم يجىء من موضع آخر ولكن معناه ظهر فيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال هذا الخطاب لجميع(2/100)
101
الناس " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " يعني آدميا مثلكم قرأ بعضهم " من أنفسكم " بنصب الفاء يعني من أشرفكم وأعزكم وهي قراءة شاذة
ثم قال تعالى " عزيز عليه ما عنتم " يعني شديد عليه ما أثمتم وعصيتم " حريص عليكم " قال الكلبي يعني على إيمانكم وقال مقاتل " حريص عليكم " بالرشد والهدى وقال قتادة " حريص " على من لم يسلم أن يسلم ثم قال " بالمؤمنين رؤوف رحيم " أي رفيق بجميع المؤمنين رحيم بهم
ثم قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم " فإن تولوا " يعني إن أعرضوا عنك ولم يؤمنوا بك " فقل حسبي الله " يعني قل كفاني الله وفوضت أمري إلى الله ووثقت به " لا إله إلا هو " يعني لا ناصر ولا رازق ولا معين إلا هو " عليه توكلت " يعني به أثق " وهو رب العرش العظيم " يعني خالق السرير العظيم الذي هو أعظم من السموات والأرض وقرأ بعضهم " العظيم " بالرفع فجعل العظيم من نعت الله تعالى وقراءة العامة " العظيم " بالخفض ويكون العظيم نعتا للعرش
وذكر عن عثمان بن عفان أنه لما جمع القرآن في المصحف كان لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد بها رجلان فجاء خزيمة بن ثابت بهاتين الآيتين " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " إلى آخر السورة فلم يطلب منه البينة وأثبتها في المصحف وروي عن حذيفة أنه قال يسمون سورة براءة سورة التوبة وهي سورة العذاب عن إبن عباس أنه قال كنا نسميها الفاضحة فما زالت تنزل في المنافقين فيهم ومنهم حتى أشفق كل واحد على نفسه والله أعلم بالصواب(2/101)
102
سورة يونس
مكية وهي مائة وتسع آيات
سورة يونس 1 - 2
قال الله عز وجل " الر " قال إبن عباس معناه أنا الله أرى وهكذا عن الضحاك وقد ذكرنا تفسير الحروف في أول سورة البقرة قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وإبن عامر وعاصم في رواية أبي بكر " الر " بإمالة الراء وقرأ إبن كثير وحفص بنصب الراء وقرأ نافع بين ذلك
" تلك آيات الكتاب " يعني هذه آيات الكتاب الذي أنزل عليك يا محمد ويقال تلك الآيات التي وعدتك يوم الميثاق أن أوحينا إليك الكتاب " الحكيم " قال مقاتل يعني المحكم من الباطل لا كذب فيه ولا إختلاف وقال الكلبي يعني أحكم بحلاله وحرامه ويقال " الكتاب الحكيم " يعني الحاكم على الكتب كلها ويقال " تلك آيات " يعني حجج وبراهين وهي التي إحتج بها النبي صلى الله عليه وسلم على دعواه
ثم قال تعالى " أكان للناس عجبا " لأن أهل مكة كانوا يتعجبون ويقولون " أبعث الله بشرا رسولا " فنزل " أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم " يقول أعجب أهل مكة أن أختار عبدا من عبيدي وأرسله إلى عبادي من جنسهم وحسبهم حتى يقدروا أن ينظروا إليه فيعرفونه ولا ينكرونه ثم بين ما أوحى الله تعالى إليه فقال " أن أنذر الناس " يعني خوف أهل مكة بما في القرآن من الوعيد ويقال في الآية تقديم ومعناه تلك آيات الكتاب الحكيم للناس أكان عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وقال عامة المفسرين على ظاهر التنزيل
ثم قال " وبشر الذين آمنوا " أي بما في القرآن من الثواب في الجنة " أن لهم قدم صدق عند ربهم " قال مقاتل يعني بأن أعمالهم التي قدموها بين أيديهم ستكون خيرا عند(2/102)
103
ربهم وهي الجنة وقال إبن عباس يعني السعادة عند ربهم وهي الجنة وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال يعني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم لهم شفيع صدق عند ربهم وقال الحسن هي رضوان الله في الجنة وقال القتبي " قدم صدق " يعني عملا صالحا قدموه
" قال الكافرون إن هذا لساحر مبين " قرأ نافع وأبو عمرو وإبن عامر " لسحر " بغير ألف يعني إن هذا القرآن لسحر مبين يعني كذب بين ظاهر وقرأ الباقون " لساحر مبين " يعني أن الذي يقرأ عليهم القرآن لساحر مبين فالساحر إسم والسحر فعل فإن قيل إذا قال الكفار هذا القول فما الحكمة في حكاية كلامهم في القرآن قيل له الحكمة فيه من وجوه أحدها أنهم كانوا يقولون قولا فيما بينهم فيظهر قولهم عند النبي صلى الله عليه وسلم فكان في ذلك علامة لنبوته لمن أيقن به والثاني أن في ذلك تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم ليصبر على ذلك كما قال " فاصبر على ما يقولون " والثالث أن في ذلك تنبيها لمن بعده أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولا يمتنع بما يسمع من المكروه
سورة يونس 3 - 5
قوله تعالى " إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم إستوى على العرش " وقد ذكرناه ثم قال " يدبر الأمر " يعني يقضي القضاء وينظر في تدبير الخلق وروى الأعمش عن عمرو بن مرة عن إبن سابط قال مدبر أمر الدنيا أربعة جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل أما جبريل فعلى الرياح والوحي والجنود وأما ميكائيل فعلى النبات والمطر وأما ملك الموت فعلى الأنفس وأما إسرافيل فينزل إليهم بما يؤمرون " ما من شفيع إلا من بعد إذنه " لأن الكفار كانوا يعبدون الأصنام ويقولون هم شفعاؤنا عند الله وبعضهم كانوا يعبدون الملائكة فأخبر الله تعالى أنه لا شفاعة لأحد إلا بإذن الله ويقال " ما من شفيع إلا من بعد إذنه " يعني لا يشفع أحد لأحد يوم القيامة من الملائكة ولا من المرسلين إلا من بعد إذنه في الشفاعة لهم
" ذلكم الله ربكم " يعني الذي يفعل هذا من خلق السموات والأرض وتدبير الخلق هو ربكم وخالقكم " فاعبدوه " فدل أولا على وحدانيته وتدبيره ثم أمرهم بالتوحيد والطاعة(2/103)
104
فقال " فاعبدوه " يعني وحدوه وأطيعوه " أفلا تذكرون " يعني أفلا تتعظون بالقرآن ويقال أفلا تتعظون بأن لا تعبدوا من لا يملك شيئا وتعبدون من يملك الدنيا وما فيها قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " تذكرون " بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد لأن أصله تتذكرون فأدغم إحدى التاءين في الذال وأقيم التشديد مقامه
ثم خوفهم فقال " إليه مرجعكم جميعا " يعني مرجع الخلائق كلهم يوم القيامة " وعد الله حقا " يعني البعث كائنا وصدقا وقال الزجاج " وعد الله " صار نصبا على معنى وعدكم الله وعدا لأن قوله " إليه مرجعكم " معناه الوعد بالرجوع إليه " إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده " قال أهل اللغة الياء صلة ومعناه إنه بدأ الخلق ثم يعيده يعني خلق الخلق في الدنيا ثم يحييهم بعد الموت يوم القيامة " ليجزي الذين آمنوا " يعني لكي يثبت الذين آمنوا بالبعث بعد الموت " وعملوا الصالحات بالقسط " يعني عملوا الطاعات بالعدل وقال الضحاك يعني الذين قاموا بالعدل وأقاموا على توحيده يعطيهم من رياض الجنة حتى يرضوا " والذين كفروا " يعني ويجزي الذين كفروا
ثم بين جزاءهم فقال تعالى " لهم شراب من حميم " يعني ماء حارا قد إنتهى حره " وعذاب أليم بما كانوا يكفرون " يعني يجحدون بالرسالة والكتاب
ثم ذكرهم النعم لكي يستحيوا منه ولا يعبدوا غيره فقال تعالى " هو الذي جعل الشمس ضياء " بالنهار " والقمر نورا " بالليل ويقال جعل الشمس ضياء مع الحر والقمر نورا بلا حر " وقدره منازل " يعني جعل الليل والنهار منازل يزيد أحدهما وينقص الآخر ولا يجاوزان المقدار الذي قدره ويقال " قدره " يعني القمر " منازل " كل ليلة بمنزلة من النجوم وهي ثمانية وعشرون منزلا في كل شهر وهذا كقوله " والقمر قدرناه منازل " [ يس : 39 ] " لتعلموا عدد السنين والحساب " يعني لتعلموا بالقمر حساب السنين والشهور كقوله تعالى " يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس " [ البقرة : 189 ]
ثم قال ( ما خلق الله ذلك إلا بالحق ) يعني لتعلموا عدد السنين والحساب ولتعتبروا وتعلموا أن له خالقا ومدبرا وهو قادر على أن يحيي الموتى ثم قال " يفصل الآيات " يعني يبين العلامات يعني علامة وحدانيته " لقوم يعلمون " يعني لمن كان له عقل وذهن وتمييز قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص " يفصل الآيات " بالياء وقرأ الباقون بالنون ومعناهما قريب
سورة يونس 6 - 10(2/104)
105
قوله تعالى " إن في اختلاف الليل والنهار " وذلك أن أهل مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إئتنا بعلامة كما أتت بها الأنبياء قومهم فنزل " إن في اختلاف الليل والنهار " يعني في مجيء الليل وذهاب النهار ومجيء النهار وذهاب الليل ويقال ما يأخذ النهار من الليل وما يأخذ الليل من النهار " وما خلق الله في السموات والأرض " من العجائب يعني فيما خلق الله " آيات " يعني علامات " لقوم يتقون " الله ويخشون عقوبته ويقال لقوم يتقون الشرك
ثم قال تعالى " إن الذين لا يرجون لقاءنا " يعني لا يخافون البعث بعد الموت ويقال لا يرجون ثوابنا بعد الموت " ورضوا بالحياة الدنيا " يعني إختاروا ما في الحياة الدنيا يعني على ثواب الآخرة " واطمأنوا بها " يقول ورضوا بها وسكنوا إليها وآثروها وفرحوا بها " والذين هم عن آياتنا غافلون " يعني عن محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن معرضون فلا يؤمنون ويقال تاركين لها ومكذبين بها ويقال لم يتفكروا فيها
قوله تعالى " أولئك مأواهم النار " يعني أهل هذه الصفة مصيرهم إلى النار " بما كانوا يكسبون " يعني جزاء لكفرهم وتكذيبهم
ثم أنزل فيما أعد الله للمؤمنين فقال " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم " وقال مقاتل يهديهم على الصراط إلى الجنة بالنور " بإيمانهم " يعني بتوحيدهم الله تعالى في الدنيا وقال الضحاك يدعوهم ربهم بإيمانهم إلى الجنة وقال الكلبي نحو هذا ويقال هذا على معنى التقديم ومعناه إن الذين يهديهم ربهم بإيمانهم حتى آمنوا وعملوا الصالحات ويقال يهديهم ربهم في الدنيا حتى يثبتهم على الإيمان ويدخلهم في الآخرة الجنة بإيمانهم ويقال ينجيهم ربهم بإيمانهم وقال الحسن يرحمهم ربهم بإيمانهم
ثم قال تعالى " تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم " ينتعمون فيها ثم قال " دعواهم فيها " يعني قولهم في الجنات " سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام " فهذه علامة بينهم وبين خدمهم في الجنة فإذا قالوا هذه المقالة جاءهم الخدم بالموائد ووضعوها بين أيديهم وأوتوا بما يشتهون فإذا فرغوا من الطعام قالوا الحمد لله رب العالمين فذلك قوله تعالى " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين " يعني وآخر قولهم بعد ما فرغوا من الطعام أن يقولوا الحمد لله رب العالمين " وتحيتهم فيها سلام " على معنى التقديم وقال الضحاك في قوله تعالى " دعواهم فيها سبحانك اللهم " وذلك أن أهل الجنة إذا خلفوا القيامة وصاروا إلى دار الكرامة يكون فاتحة كلامهم سبحانك اللهم على ما مننت به علينا " وتحيتهم فيها سلام " يقول يسلم عليهم الملائكة من الله تعالى ويقال يسلم بعضهم على بعض(2/105)
106
ويقال يسلمون على الله تعالى ويقال تحيتهم لله تعالى بالسلام كقوله " تحيتهم يوم يلقونه سلام " [ الأحزاب : 44 ] " وآخر دعواهم " يعني بعدما رأوا من الكرامات وبعد ما أكلوا من الطعام حمدوا الله تعالى على ما أعطاهم من الخير
سورة يونس 11 - 12
قوله تعالى " ولو يعجل الله للناس الشر إستعجالهم بالخير " قال مقاتل وذلك حين تمنى النضر بن الحارث السهمي العذاب فنزل قوله " ولو يعجل الله للناس الشر " يقول له أستجيب لهم في الشر إستعجالهم بالخير يعني كما يحبون أن يستجاب لهم في الخير " لقضي إليهم أجلهم " في الدنيا بالهلاك وقال مجاهد والضحاك والكلبي " ولو يعجل الله للناس الشر " يعني العقوبة إذا دعا على نفسه وولده وعلى صاحبته أخزاك الله ولعنك الله كما يعجل لهم الخير إذا دعوه بالرحمة والرزق والعافية لماتوا وهلكوا وقال القتبي هذا من الإضمار ومعناه " لو يعجل الله للناس الشر " يعني إجابتهم بالشر " إستعجالهم بالخير " يعني كإجابتهم بالخير وإنما صار " إستعجالهم " نصبا على معنى مثل إستعجالهم قرأ إبن عامر " لقضى إليهم أجلهم " بالنصب يعني لقضى الله أجلهم لأنه إتصل بقوله " ولو يعجل الله " وقرأ الباقون " لقضي إليهم أجلهم " بالضم على معنى فعل ما لم يسم فاعله
ثم قال " فنذر الذين لا يرجون لقاءنا " يعني بترك الذين لا يخافون البعث بعد الموت " في طغيانهم يعمهون " يعني يتحيرون ويترددون فيها مجازاة لهم
قوله تعالى " وإذا مس الإنسان الضر " يقول إذ مس الكافر ما يكره من المرض والفقر والبلاء " دعانا " يقول أخلص في الدعاء إلينا " لجنبه " يعني وهو مطروح على جنبه إذا إشتد به المرض " أو قاعدا " إذا كانت العلة أهون " أو قائما " إذا بقي فيه أثر العلة ويقال دعانا في الأحوال كلها مضطجعا كان أو قائما أو قاعدا " فلما كشفنا عنه ضره " يعني فلما رفعنا عنه بلاءه " مر " يقول إستمر على ترك الدعاء ونسي الدعاء ويقال " مر " في العافية على ما كان عليه قبل أن يبتلى ولم يتعظ بما ناله " كأن لم يدعنا إلى ضر مسه " يعني إلى بلاء أصابه قبل ذلك فلم يشكره ويقال معناه أمن من أن يصيبه مثل الضر الذي دعا فيه حين مسه " كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون " يعني المشركين " ما كانوا يعملون " يعني بالدعاء عند الشدة وترك الدعاء عند الرخاء(2/106)
107
سورة يونس 13
قوله تعالى " ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا " يعني أهلكناهم بالعذاب حين كذبوا الرسل أقاموا على كفرهم خوف أهل مكة بمثل عذاب الأمم الخالية لكيلا يكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم " وجاءتهم رسلهم بالبينات " يعني بالآيات بالأمر والنهي " وما كانوا ليؤمنوا " يعني لم يصدقوا الرسل ولم يرغبوا في الإيمان ويقال وما كانوا ليصدقوا بنزول العذاب بما كذبوا من قبل يوم الميثاق " كذلك نجزي " يعني نعاقب " القوم المجرمين " يعني الكافرين
سورة يونس 14 - 16
قوله تعالى " ثم جعلناكم خلائف " يعني جعلناكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم " خلائف في الأرض من بعدهم " يعني من بعد هلاكهم " لننظر كيف تعملون " وهذا على معنى التهديد يعني إن كانت معاملتكم مثل معاملتهم في تكذيب الرسل أهلكتكم كما أهلكت تلك القرون
قوله تعالى " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات " يعني القرآن " قال الذين لا يرجون لقاءنا " يعني كفار قريش لما سمعوا القرآن قالوا " إئت بقرآن غير هذا أو بدله " يعني إمحه وانسخه فإنا نجد فيه تحريم عبادة الأوثان وما نحن عليه وهذا قول الضحاك وقال الكلبي " وإذا تتلى عليهم " يعني المستهزئين وكانوا خمسة رهط " قال الذين لا يرجون لقاءنا " يعني لا يخافون البعث بعد الموت " إئت بقرآن غير هذا أو بدله " إئت يا محمد أو إجعل مكان آية الرحمة آية العذاب ومكان آية العذاب آية الرحمة وقال الزجاج معناه إئت بقرآن ليس فيه ذكر البعث والنشور وليس فيه عيب آلهتنا أو بدل منه ذكر البعث والنشور
قال الله تعالى " قل ما يكون لي " يعني قل ما يجوز لي " أن أبدله من تلقاء نفسي " يقول من قبل نفسي " إن أتبع إلا ما يوحى إلي " يعني لا أعمل إلا ما أومر به وأنزل علي من القرآن " إني أخاف إن عصيت ربي " يعني إني أعلم أن لو فعلت ما لم أؤمر به " عذاب(2/107)
108
يوم عظيم ) يعني يوم القيامة قال مقاتل والكلبي نسختها " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " [ الفتح : 2 ] ويقال هذا على وجه المثل ومعناه إني أعلم أن من عصى الله وخالف أمره له عذاب يوم عظيم يعني يصيبه العذاب " ولا أدراكم به " ولا أعلمكم به ومعناه أن الله تعالى لو لم يجعلني رسولا إليكم ما تلوته عليكم كما لم أتل عليكم قبل الوحي ويقال معناه لو رضي الله لكم ما أنتم عليه من الكفر والجهل ما بعثني إليكم رسولا قرأ أبو عمرو وحمزة ونافع في رواية ورش والكسائي " ولا أدريكم " بكسر الراء وقرأ الباقون بالنصب وهما لغتان ومعناهما واحد وعن الحسن أنه قرأ " ولا أدرأتكم " بالتاء قال أبو عبيدة ما أرى ذلك إلا غلطا منه في الرواية لأنه لا مخرج لها في العربية
ثم قال " فقد لبثت فيكم عمرا من قبله " يعني إلى أربعين سنة من قبل هذا القرآن فهل سمعتموني أقرأ شيئا من هذا عليكم " أفلا تعقلون " أني لم أتقوله من تلقاء نفسي ولكنه هو القرآن الذي أوحى الله من عنده لأنه لو كان من تلقاء نفسي لسمعتم مني قبل هذا شيئا منه
سورة يونس 17 - 18
قوله تعالى " فمن أظلم ممن إفترى على الله كذبا " يعني من أشد في كفره ممن إختلق على الله كذبا أن معه شريكا " أو كذب بآياته " بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " إنه لا يفلح المجرمون " يعني المشركين وقال الضحاك " فمن أظلم ممن إفترى على الله كذبا " يعني مسيلمة الكذاب " إنه لا يفلح المجرمون " يعني أتباعه وأشياعه ونظراؤه
قوله تعالى " ويعبدون من دون الله " يعني الأصنام " ما لا يضرهم " إن لم يعبدوها " ولا ينفعهم " إن عبدوها ولا تضرهم إن لم يعبدوها " ويقولون هؤلاء " يعني الأصنام " شفعاؤنا عند الله " يشفعون لنا في الآخرة " قل أتنبئون الله " يعني أتخبرون الله " بما لا يعلم " من الآلهة " في السموات ولا في الأرض " أنها تشفع لأحد يوم القيامة ويقال معناه أتخبرون الله بشفاعة آلهتكم أما علموا أنها لا تكون أبدا ويقال معناه أتشركون مع الله بجاهل لا يعلم ما في السموات ولا ما في الأرض
ثم نزه نفسه عن الولد والشريك فقال تعالى " سبحانه " يعني تنزيها له " وتعالى " يعني إرتفع " عما يشركون " من الآلهة ويقال معناه هو أعلى وأجل من أن يوصف له شريك قرأ عاصم وأبو عمرو وإبن عامر " يشركون " بالياء على معنى المغايبة وقرأ الباقون بالتاء على وجه المخاطبة(2/108)
109
سورة يونس 19
قوله تعالى " وما كان الناس إلا أمة واحدة " قال مقاتل وما كان الناس إلا على ملة واحدة يعني على عهد آدم وعلى عهد نوح من بعد الغرق كانوا كلهم مسلمين " فاختلفوا " في الدين بعد ذلك وروى إبن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال " وما كان الناس إلا أمة واحدة " على عهد آدم فاختلفوا حين قتل أحد إبني آدم أخاه فتفرقوا مؤمنا وكافرا وقال الكلبي " وما كان الناس إلا أمة واحدة " كافرة على عهد إبراهيم فتفرقوا مؤمنا وكافرا وقال الزجاج " وما كان الناس " يعني العرب كانوا على الشرك قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم فتفرقوا واختلفوا بعده فآمن بعضهم وكفر بعضهم وقال الزجاج وقيل أيضا " وما كان الناس إلا أمة واحدة " يعني ولدوا على الفطرة واختلفوا بعد الفطرة " ولو لا كلمة سبقت من ربك " أي لو أن الله جعل لهم أجلا للقضاء بينهم في اللوح المحفوظ بأن لا يعجل عقوبة العاصين ويتركهم لكي يتوبوا " لقضي بينهم " في وقت إختلافهم وقال مقاتل " ولو لا كلمة سبقت من ربك " بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة " لقضي بينهم " في الدنيا وقال الكلبي لولا أن الله تعالى أخبر هذه الأمة أن لا يهلكهم كما أهلك الذين من قبلهم " لقضى بينهم " في الدنيا " فيما فيه يختلفون " من الدين
سورة يونس 20 - 21
قوله تعالى " ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه " وذلك حين قال عبد الله بن أمية " لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " [ الإسراء : 90 ] وسألته قريش أن يأتيهم بآية فقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم " فقل إنما الغيب لله " أي نزول الآية من عند الله تعالى " فانتظروا " نزولها " إني معكم من المنتظرين " لنزولها ويقال فانتظروا بي الموت إني معكم من المنتظرين لهلاككم
قوله تعالى " وإذا أذقنا الناس " يعني أصبنا الناس " رحمة " يعني المطر ويقال العافية " من بعد ضراء مستهم " من بعد القحط ويقال من بعد الشدة والبلاء أصابتهم " إذا لهم(2/109)
110
مكر في آياتنا ) يعني تكذيبا بالقرآن ويقال تكذيبا بنعمة الله تعالى ويقولون سقينا بنوء كذا ولا يقولون هذا من رزق الله تعالى وقال القتبي " إذا لهم مكر في آياتنا " يعني قولهم بالطعن والحيلة ليجعلوا لتلك الرحمة سببا آخر " قل الله أسرع مكرا " يعني أشد عذابا وأشد أخذا " إن رسلنا " الحفظة " يكتبون ما تمكرون " يعني ما تقولون من التكذب
سورة يونس 22 - 23
قوله تعالى " هو الذي يسيركم في البر والبحر " يعني يحملكم في البر على الدواب وفي البحر على السفن ويقال هو الذي يحفظكم إذا سافرتم في بر أو بحر قرأ إبن عامر " ينشركم " بالنون والشين من النشر يعني يبثكم والقراءة المعروفة " يسيركم " من التسيير يعني يسهل لكم السير " حتى إذا كنتم في الفلك " يعني في السفن " وجرين بهم بريح " يقال للسفينة الواحدة جرت وللجماعة جرين وإسم الفلك يقع على الواحد وعلى الجماعة ويكون مذكرا إذا أريد به الواحد ومؤنثا إذا أريد به الجماعة كقوله " في الفلك المشحون " [ يس : 41 ] وقال " والفلك التي تجري في البحر " [ البقرة : 164 ] ذكرا بلفظ التأنيث مرة وبلفظ التذكير مرة وفيه الدليل أن الكلام يكون بعضه على وجه المخاطبة وبعضه على وجه المغايبة كما قال ها هنا " حتى إذا كنتم في الفلك " ذكر بلفظ المخاطبة ثم قال " وجرين بهم " بلفظ المغايبة بريح " طيبة " يعني لينة ساكنة " وفرحوا بها " بالريح الطيبة " جاءتها " يعني السفينة " ريح عاصف " يعني شديدة " وجاءهم الموج من كل مكان " يعني من كل ناحية " وظنوا أنهم أحيط بهم " يعني علموا وأيقنوا أنه قد دنا هلاكهم وقال القتبي وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بالقرية يقال دنا أهلها من الهلكة قال الله تعالى " وأحيط بثمره " [ الكهف : 42 ] فصار ذلك كناية عن الهلاك " دعوا الله مخلصين له الدين " يعني إذا دنا هلاكهم أخلصوا لله تعالى يعني بالدعاء وقالوا " لئن أنجيتنا من هذه " يعني من هذه الريح العاصف ويقال من هذه الأهوال " لنكونن من الشاكرين " يعني من الموحدين المطيعين " فلما أنجاهم إذا هم يبغون " يعني يعصون " في الأرض بغير الحق " يعني الدعاء إلى غير عبادة الله تعالى والعمل بالمعاصي والفساد(2/110)
111
قوله تعالى " يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم " يعني إثم معصيتكم عليكم وهو كقوله " من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها " [ فصلت : 46 ] ويقال مظالمكم فيما بينكم " على أنفسكم " يعني جنايتكم عليكم وهذا كما يقال في المثل المحسن سيجزى بإحسانه والمسيء ستكفيه مساويه يعني وباله يرجع إليه ثم قال " متاع الحياة الدنيا " يعني تمتعون فيها أيام حياتكم " ثم إلينا مرجعكم " ويقال عيشكم في الدنيا قليل ويقال عمر الدنيا في حياة الآخرة قليل " ثم إلينا مرجعكم " أي بعد الموت في الآخرة " فننبئكم " يعني نخبركم " بما كنتم تعملون " قرأ عاصم في رواية حفص " متاع " بالنصب ويكون نصبا على المصدر ومعناه تمتعون متاع الحياة الدنيا وقرأ الباقون بالضم " متاع " ومعناه هو متاع الحياة الدنيا
سورة يونس 24
ثم ضرب للحياة الدنيا مثلا فقال " إنما مثل الحياة الدنيا " يعني في فنائها وبقائها " كماء أنزلناه من السماء " يعني المطر " فاختلط به نبات الأرض " يعني يدخل الماء في الأرض فينبت به النبات فاتصل كل واحد بالآخر فاختلط " مما يأكل الناس والأنعام " يعني مما يأكل الناس من الحبوب والثمار ومما تأكل الدواب والأنعام من العشب والكلأ " حتى إذا أخذت الأرض زخرفها " يعني زينتها " وازينت " يعني حسنت بألوان النبات وأصله تزينت فحذفت التاء وأقيم التشديد مقامها وهذا كقوله " أدراكم " [ الحاقة : 3 ] وأصله تدارك ثم قال " وظن أهلها " يعني وحسب أهل الزرع " أنهم قادرون عليها " يعني على غلاتها وأنها ستتم لهم الآن " أتاها أمرنا " يعني عذابنا " ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا " قال أبو عبيدة الحصيد المستأصل ويقال الحصيد كحصيد السيف " كأن لم تغن بالأمس " يعني صار كأن لم يكن بالأمس فكذلك الدنيا والإنسان يجمع المال ويشتري الضياع ويبني البنيان فيظن أنه قد نال مقصوده فيأتيه الموت فيصير كأنه لم يكن أو رجل ولد له مولود فإذا بلغ فظن أنه قد نال به مقصوده فيموت ويصير كأنه لم يكن " كذلك نفصل الآيات " يعني نبين علامات غرور الدنيا وزوالها لكيلا يغتروا ونبين بقاء الآخرة ليطلبوها " لقوم يتفكرون " بأمثال القرآن ويعتبرون بها
سورة يونس 25
قوله تعالى " والله يدعو إلى دار السلام " يعني يدعو إلى عمل الجنة " ويهدي من(2/111)
112
يشاء إلى صراط مستقيم ) وهو الدين القيم ويقال إن عطاءه على وجهين خاص وعام فأما العطاء الخاص فالتوفيق والعصمة واليقين وأما العطاء العام فالصحة والنعمة والفراغ والأمن والدعوة هنا عامة والهداية خاصة فقد دعا جميع الناس بقوله تعالى " والله يدعو إلى دار السلام " ثم قال " ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " فجعل الهداية خاصا لأنها فضله وفضل الله يؤتيه من يشاء وقال قتادة " والله يدعو إلى دار السلام " والله هو السلام وداره الجنة ويقال السلام هو السلامة وإنما سميت الجنة دار السلام لأنها سالمة من الآفات والأمراض وغير ذلك
روى أبو أيوب عن أبي قلابة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال نامت عيني وعقل قلبي وسمعت أذني ثم قيل لي إن سيدا بنى دارا وصنع مائدة وأرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المائدة ورضي عنه السيد ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة ولم يرض عنه السيد فالله تعالى هو السيد والدار الإسلام والمأدبة الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم " ويهدي من يشاء " يعني يكرم من يشاء بالمعرفة من كان أهلا لذلك " إلى صراط مستقيم " يعني إلى دين الإسلام
سورة يونس 26 - 27
قوله تعالى " للذين أحسنوا الحسنى " للذين وحدوا الله وأطاعوه في الدنيا لهم الجنة في الآخرة " وزيادة " يعني فضلا قال عامة المفسرين هي النظر إلى وجه الله تعالى وهكذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر الصديق وحذيفة بن اليمان وأبي موسى الأشعري وغيرهم
قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا أبو العباس السراج قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال حدثنا عفان بن مسلم عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " قال إذا دخل أهل الجنة الجنة ودخل أهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند ربكم موعدا يحب أن ينجزكموه فيقولون وما هو الموعد ألم يثقل موازيننا وبيض وجوهنا وأدخلنا الجنة ونجانا من النار قال ثم يكشف الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فوالله ما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجه الله تعالى(2/112)
113
قال الفقيه رضي الله عنه وأخبرنا الثقة بإسناده عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وحذيفة قالا الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى وعن أبي موسى الأشعري قال الحسنى هي الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله تعالى وعن عامر بن سعد وعن قتادة وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى وعن عكرمة مثله
قال الفقيه سمعت محمد بن الفضل العابد قال سمعت علي بن عاصم قال أجمع أهل السنة والجماعة أن الله تعالى لم يره أحد من خلقه وأن أهل الجنة يرونه يوم القيامة وقال الزجاج القول في النظر إلى وجه الله تعالى كثير في القرآن وفي التفسير مروي بالأسانيد الصحاح أنه لا شك في ذلك وقال مجاهد " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " قال الحسنى مثلها والزيادة المغفرة والرضوان وروي عن علقمة قال الحسنى مثلها وزيادة عشر أمثالها ويقال الحسنى الجنة وما فيها من الكرامة والزيادة ما يأتيهم كل يوم من التحف والكرامات من الله تعالى فيأتيهم رسول الله فيقول لهم أنا رضيت عنكم فهل رضيتم عني
ثم قال تعالى " ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة " يعني لا يعلو ولا يغشى وجوههم " قتر " يعني سواد وهو كسوف الوجوه عند معاينة النار ويقال حزن " ولا ذلة " يعني ولا مذلة " أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون " يعني دائمين لا يموتون فيها ولا يخرجون منها
ثم بين حال أهل النار فقال تعالى " والذين كسبوا السيئات " يعني أشركوا بالله وعبدوا الأصنام والشمس والقمر والملائكة فهذا كله من السيئات " جزاء سيئة بمثلها " بلا زيادة يعني لا يزاد على ذلك وهذا موصول بما قبله فكأنه قال " وللذين أحسنوا الحسنى وزيادة " " والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها " بلا زيادة وهذا كقوله تعالى " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها " [ الأنعام : 160 ] ويقال " جزاء سيئة بمثلها " يعني جزاء الشرك النار فلا ذنب أعظم من الشرك ولا عذاب أشد من النار فيكون العذاب موافقا لسيئاتهم كقوله تعالى " جزاء وفاقا " [ النبأ : 26 ] أي موافقا لشركهم
ثم قال تعالى " وترهقهم ذلة " يعني يغشى وجوههم المذلة يعني سواد الوجوه والعذاب " ما لهم من الله من عاصم " يعني مانع يمنعهم من عذاب الله
ثم وصف سواد وجوههم فقال " كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما " يعني سواد الليل مظلما ويقال " قطعا من الليل " يعني بعضا من الليل وساعة منه
قال الفقيه حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا محمد بن عقيل قال حدثنا العباس الدوري قال حدثنا يحيى بن أبي بكر عن شريك عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقد على النار ألف سنة حتى إحمرت ثم أوقد عليها ألف(2/113)
114
سنة حتى إبيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى إسودت فهي سوداء كالليل المظلم قرأ إبن كثير والكسائي " قطعا " بجزم الطاء وهو إسم ما قطع منه يعني طائفة من الليل قرأ الباقون " قطعا " بنصب الطاء يعني جمع قطعة وإنما أراد به سواد الليل " مظلما " صار نصبا للحال أي في حالة الظلام " أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " أي مقيمون
سورة يونس 28 - 30
قوله تعالى " ويوم نحشرهم جميعا " هذا كله في يوم نجمعهم جميعا يعني الكفار وآلهتهم " ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم " يعني قفوا أنتم وآلهتكم ويقال الرؤساء والأتباع " فزيلنا بينهم " يعني ميزنا وفرقنا بين المشركين وبين آلهتهم وأصله في اللغة من زال يزول وأزلته وزيلته بمعنى واحد ويقال فرقنا ما بينهم من التواصل والألفة يعني بين الرؤساء والأتباع ويقال يأمر الله تعالى أن تلحق كل أمة بما كانوا يعبدون من دون الله فيفرق بين أهل الملل فذلك قوله " فزيلنا بينهم " يعني بين أهل الشرك وأهل الإسلام
ثم قال للمشركين ماذا كنتم تعبدون فينكرون ويحلفون ثم يقرون بعدما يختم على أفواههم وتشد أعضاؤهم أنهم كان يعبدون الأصنام " وقال شركاؤهم " يعني آلهتهم لمن عبدها " ما كنتم إيانا تعبدون " في الدنيا بأمرنا ولا نعلم بعبادتكم إيانا ولم تكن فينا روح فنعقل عبادتكم إيانا فيقول من عبدها قد عبدناكم وأمرتمونا فأطعناكم فقالت الآلهة " فكفى بالله شهيدا " يعني عالما " بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين " يعني ولم نعلم أنكم تعبدوننا والفائدة في إحضار الأصنام أن يظهر عند المشركين ضعف معبودهم فيزيدهم حسرة على ذلك
ثم قال تعالى " هنالك تبلو كل نفس " قرأ حمزة والكسائي " تتلوا كل نفس " بالتاءين يعني عند ذلك تقر كل نفس برة أو فاجرة " ما أسلفت " يعني ما عملت من خير أو شر وهذا قوله " يوم ندعوا كل أناس بإمامهم " [ الإسراء : 71 ] ويقال تتلو يعني تتبع كقوله تعالى " والقمر إذا تلاها " [ الشمس : 2 ] يعني يتبعها وقرأ الباقون " تبلو " بالتاء والباء يعني عند ذلك تجد ويقال تظهر كقوله " يوم تبلى السرائر " [ الطارق : 9 ] وقال القتبي أي يختبر
ثم قال " وردوا إلى الله مولاهم الحق " يعني رجعوا في الآخرة إلى الله مولاهم(2/114)
115
الحق " وضل عنهم " يعني إشتغل عنهم آلهتهم بأنفسهم " ما كانوا يفترون " يعني يختلفون من الكذب الأوثان فلا يكون لهم شفاعة ويقال بطل إفتراؤهم وإضمحل
سورة يونس 31 - 33
قوله تعالى " قل من يرزقكم من السماء " يعني قل يا محمد للمشركين من يرزقكم من السماء المطر ومن " والأرض " النبات " أمن يملك السمع والأبصار " يعني يخلق لكم السمع والأبصار " ومن يخرج الحي من الميت " يعني ومن يقدر أن يخرج الحي من الميت يعني الفرخ من البيضة " ويخرج الميت من الحي " يعني البيضة من الطير والنطفة من الإنسان والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن " ومن يدبر الأمر " يعني من يقدر أن يدبر الأمر بين الخلق وينظر في تدبير الخلائق ويقال من يرسل الملائكة بالأمر " فسيقولون الله " يفعل ذلك كله لا الأصنام لأن الأصنام لم يكن لهم قدرة في هذه الأشياء " فقل أفلا تتقون " الشرك فتوحدونه إذ تعلمون أنه لا يقدر أحد أن يفعل هذه الأشياء إلا الله تبارك وتعالى ويقال " أفلا تتقون " أي تطيعون الله الذي يملك ذلك
ثم قال تعالى " فذلكم الله ربكم الحق " وغيرة من الآلهة باطل ليس بشيء " فماذا بعد الحق إلا الضلال " يعني فما عبادتكم بعد ترك عبادة الله تعالى إلا عبادة الشيطان ويقال فماذا بعد التوحيد إلا الشرك " فأنى تصرفون " يعني فمن أين تمتنعون عن الإيمان بالله ويقال " فأنى تصرفون " عن هذا الأمر بعد المعرفة وقال مقاتل فمن أين تعدلون به غيره ويقال كيف ترجعون عن هذا الإقرار
ثم قال " كذلك حقت كلمة ربك " يعني هكذا وجبت كلمة العذاب من ربك كقوله " ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين " [ الزمر : 71 ] ويقال وجبت كلمة ربك وهو قوله " لأملأن جهنم " [ الأعراف : 18 ] وقوله تعالى " على الذين فسقوا " يعني كفروا بربهم " أنهم لا يؤمنون " يعني لا يصدقون بعلم الله تعالى السابق فيهم ويقال " إنهم لا يؤمنون " يعني لأنهم لا يؤمنون فوجب عليهم العذاب بترك إيمانهم قرأ نافع وإبن عامر " كلمات ربك " بلفظ الجماعة وقرأ الباقون " كلمة ربك " وكذلك الإختلاف في قوله " إن الذين حقت عليهم كلمت ربك " [ يونس : 96 ]
سورة يونس 34 - 35(2/115)
116
قوله تعالى " قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده " يعني أصنامكم التي تعبدونها هل يقدرون أن يخلقوا خلقا من غير شيء ثم يبعثونهم في الآخرة كما يفعل الله تعالى فإن أجابوك وإلا ف " قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده " يعني إن معبودكم لا يستطيع ذلك " فأنى تؤفكون " يعني من أين تكذبون " قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق " يقول هل يقدر أحد من آلهتكم أن يهدي إلى الحق يقول يدعو الخلق إلى الإسلام فإن قالوا لا " قل الله يهدي للحق " يعني يدعو الخلق إلى الإسلام ويوفق من كان أهلا لذلك " أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع " يقول من يدعو إلى الحق أحق أن يعمل بأمره ويعبد " أمن لا يهدي " طريقا ولا يهتدي " إلا أن يهدى " يعني يمشي بنفسه إلا أن يحمل من مكان إلى مكان قرأ نافع وأبو عمرو " أمن لا يهدي " بجزم الهاء وتشديد الدال لأن أصله في اللغة يهتدي فأدغم التاء في الدال وأقيم التشديد مقامه وقرأ إبن كثير وإبن عامر ونافع في رواية ورش " يهدي " بنصب الهاء وتشديد الدال لأن حركة التاء وقعت على الهاء وقرأ عاصم في رواية حفص " يهدي " بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال لأنه لما إجتمع الساكنان حرك أحدهما بالكسر وقرأ عاصم في رواية أبي بكر " يهدي " بكسر الياء والهاء وتشديد الدال فأتبع الكسرة الكسرة وقرأ حمزة والكسائي " يهدي " بجزم الهاء وتخفيف الدال ويكون معناه لا يهتدي قال الكسائي قوم من العرب يقول هديت الطريق بمعنى إهتديت فهذه خمس من القراءات في هذه الآية
ثم قال " فما لكم كيف تحكمون " يعني كيف تقضون لأنفسكم يعني تقولون قولا ثم ترجعون عنه ويقال " ما لكم " كلام تام فكأنه قيل لهم فأي شيء لكم في عبادة الأوثان ثم قيل لهم " كيف تحكمون " أي على أي حال تحكمون ويقال معناه كيف تعبدون آلهتكم بلا حجة ولا تعبدون الله ولا توحدونه بعد هذا البيان لكم
سورة يونس 36 - 39
ثم قال " وما يتبع أكثرهم إلا ظنا " يعني لا يستيقنون أن اللات والعزى آلهة إلا(2/116)
117
بالظن ومعناه أنهم يتركون عبادة الله وهو الحق لأنهم يقرون بأن الله خالقهم فيتركون الحق ويتبعون الظن " إن الظن لا يغني من الحق شيئا " يعني علمهم لا يغني من عذاب الله شيئا ويقال " وما يتبع أكثرهم " يعني ما قذف الشيطان في أوهامهم لا يستطيعون أن يدفعوا الباطل بالحق ويقال " وما يتبع " يعني وما يعمل أكثرهم " إلا ظنا " يظنون في غير يقين وهم الرؤساء وأما السفلة فيطيعون رؤساءهم " إن الظن لا يغني من الحق شيئا " " إن الله عليم بما يفعلون " من عبادتهم الأصنام وما يقولون من القول المختلق والكذب
ثم قال " وما كان هذا القرآن أن يفترى " يعني لهذا القرآن أن يختلق " من دون الله " تعالى وقال القتبي أي وما كان هذا القرآن أن يضاف إلى غير الله أو يختلق " ولكن تصديق الذي بين يديه " يعني نزل بتصديق الذي بين يديه من التوراة والإنجيل ويقال معناه ولكن بتصديق النبي الذي أنزل القرآن " الذي بين يديه " يعني الذي هو قبل سماعكم لأن القرآن تصديق لما جاء من أنباء الأمم السابقة وأقاصيص أنبيائهم " وتفصيل الكتاب " يعني بيان كل شيء ويقال بيان الحلال والحرام " لا ريب فيه " يعني لا شك فيه عند المؤمنين إنه نزل من عند " رب العالمين "
قوله تعالى " أم يقولون " يعني أيقولون إفتراه وهم كفار مكة " إفتراه " يقول تقوله من تلقاء ذات نفسه " قل فأتوا بسورة مثله " يعني مثل القرآن " وادعوا " يعني إستعينوا على ذلك " من استطعتم " ممن تعبدون " من دون الله إن كنتم صادقين " بأنه تقوله من تلقاء نفسه فلما قال لهم ذلك سكتوا ولم يجيبوا فنزل قوله " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه " يعني بما لم يعلموا بعلمه يعني القرآن لم يعلموا بما فيه ويقال لم يعلموا ما عليهم بتكذيبهم " ولما يأتهم تأويله " يعني ولما يأتهم عاقبة ما وعدوا في هذا القرآن يعني سيأتيهم ما وعد لهم وهو كائن في الدنيا بالعذاب وفي الآخرة بالنار
ثم قال " كذلك كذب الذين من قبلهم " يعني هكذا كذب الأمم الخالية رسلهم " فانظر كيف كان عاقبة الظالمين " يعني كيف صار جزاء المكذبين لرسلهم فيه تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحث له على الصبر وتخويف لهم بالعقوبة
سورة يونس 40 - 43
قوله تعالى " ومنهم من يؤمن به " يعني بالقرآن " ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم(2/117)
118
بالمفسدين ) يعني بعقوبة من لم يؤمن به قال مقاتل " ومنهم من يؤمن به " من أهل الكتاب " ومنهم من لا يؤمن به " من أهل مكة وقال الكلبي " ومنهم من يؤمن به " من اليهود يعني يؤمن به من قبل موته ولا يموت حتى يقر به " ومنهم من لا يؤمن به " يعني بعلم الله تعالى السابق فيه وقال الزجاج معناه " ومنهم من يؤمن " أي يعلم أنه حق فيصدق بقلبه ويعاند فيظهر الكفر " ومنهم من لا يؤمن به " أي يشك ولا يصدق
قوله تعالى " وإن كذبوك " يعني المشركين بما أتيتهم به " فقل لي عملي " يعني ديني " ولكم عملكم " يعني دينكم " أنتم بريئون مما أعمل " وأدين " وأنا بريء مما تعملون " وتدينون به غير الله وهذا قبل أن يؤمر بالقتال ولما نزلت آية القتال نسخت هذه الآية
ثم قال تعالى " ومنهم من يستمعون إليك " قال الكلبي نزلت في شأن اليهود قدموا مكة وكانوا يسمعون قراءة القرآن فيعجبون به ويشتهونه وتغلب عليهم الشقاوة ولا يسلمون
قال الله تعالى " أفأنت تسمع الصم " يعني تفقه الكافر الذي لا يعقل الموعظة وقال الضحاك " ومنهم من يستمعون إليك " وذلك أن كفار قريش دخلوا المسجد الحرام والنبي صلى الله عليه وسلم قائم عند المقام يصلي وهو يقرأ سورة طه قال الوليد بن المغيرة يا معشر قريش إنما يتلو محمد ليأخذ بقلوبكم فقال أبو جهل وأصحابه لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه فنزل " أفأنت تسمع الصم " وذلك أنهم صموا عن الحق ويقال " أفأنت تسمع الصم " يعني من يتصامم ولا يستمع إليك " ولو كانوا لا يعقلون " يقول فإن كانوا مع ذلك لا يرغبون في الحق " ومنهم من ينظر إليك " يعني بغير رغبة " أفأنت تهدي العمي " يقول أفأنت ترشد من يتعامى " ولو كانوا لا يبصرون " الحق ولا يرغبون فيه قال القتبي هذا من جوامع الكلم حيث بين فضل السمع والبصر حيث جعل مع الصم فقدان العقل ولم يجعل مع العمى إلا فقدان البصر
سورة يونس 44 - 46
ثم قال تعالى " إن الله لا يظلم الناس شيئا " يقول لا ينقص من أجور الناس شيئا ولا يحمل عليهم من أوزار غيرهم " ولكن الناس أنفسهم يظلمون " يعني يضرون أنفسهم بتركهم الحق قرأ حمزة والكسائي " ولكن الناس " بكسر النون مع التخفيف وضم السين وقرأ الباقون " ولكن الناس " بالنصب
قوله تعالى " ويوم يحشرهم " يقول يجمعهم في الآخرة " كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار " قال الكلبي كأن لم يلبثوا في قبورهم إلا ساعة من النهار وقال الضحاك كأن لم(2/118)
119
يلبثوا في القبور إلا ما بين العصر إلى غروب الشمس أو ما بين صلاة الغداة إلى طلوع الشمس ويقال يعني بين النفختين لأنه يرفع عنهم العذاب فيما بين ذلك وقال مقاتل كأن لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من النهار " يتعارفون بينهم " قال الكلبي يعني يتعارفون بينهم حين خرجوا من قبورهم ثم تنقطع عنهم المعرفة فلا يعرف أحد أحدا وقال الضحاك يتعارفون بينهم حين خرجوا وذلك أن أهل الإيمان يبعثون يوم القيامة على ما كانوا عليه في الدنيا من التواصل والتراحم يعرف بعضهم بعضا محسنهم لمسيئهم وأما أهل الشرك فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون
قال الله تعالى " قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله " يعني بالبعث بعد الموت " وما كانوا مهتدين " يقول لم يكونوا مؤمنين في الدنيا
وقال تعالى " وإما نرينك بعض الذي نعدهم " من العذاب " أو نتوفينك " قبل أن نريك " فإلينا مرجعهم " يعني مصيرهم في الآخرة وروي عن عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله أنهما قالا أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستخلف أمته من بعده " ثم الله شهيد " في الآخرة " على ما يفعلون " في الدنيا من الكفر والتكذيب
سورة يونس 47 - 49
قوله تعالى " ولكل أمة رسول " يعني لأهل كل دين رسول أتاهم " فإذا جاء رسولهم " يعني فأبلغهم فكذبوه " قضي بينهم " وبين رسولهم " بالقسط " يعني بالعدل " وهم لا يظلمون " يعني لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئا وقال مجاهد " فإذا جاء رسولهم " يعني يوم القيامة " قضي بينهم " بالعدل " وهم لا يظلمون "
قوله تعالى " ويقولون متى هذا الوعد " وهو قوله تعالى " فإما نرينك بعض الذي نعدهم " " إن كنتم صادقين " أن العذاب ينزل بنا " قل " يا محمد " لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا " يعني ليس في يدي دفع مضرة ولا جر منفعة " إلا ما شاء الله " أن يقويني عليه قال مقاتل معناه قل لا أملك لنفسي أن أدفع عنها سوءا حين ينزل ولا أن أسوق إليها خيرا إلا ما شاء الله فيصيبني فكيف أملك على نزول العذاب بكم وقال القتبي الضر بضم الضاد الشدة والبلاء كقوله " وإن يمسسك الله بضر " [ الأنعام : 17 ] وكقوله " ثم إذا كشف الضر عنكم " [ النحل : 54 ] والضر بفتح الضاد ضد النفع ومنه قوله تعالى " قل لا أملك لنفسي ضر ولا نفعا " [ يونس : 49 ] يعني قل لا أملك جر نفع ولا دفع ضر
ثم قال " لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم " يعني وقتنا ويقال " لكل أمة أجل " أي(2/119)
120
مهلة ويقال أجل الموت بالعذاب " فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " يعني لا يتأخرون عنه ساعة ولا يتقدمون عنه ساعة فكذلك هذه الأمة إذا نزل بهم العذاب لا يتأخر عنهم ساعة
سورة يونس 50 - 52
قوله تعالى " قل أرأيتم " يا أهل مكة " إن أتاكم عذابه " يعني عذاب الله تعالى " بياتا " ليلا كما جاء إلى قوم لوط " أو نهارا " يعني مجاهرة كما جاء إلى قوم شعيب عليه السلام " ماذا يستعجل منه المجرمون " يقول بأي شيء يستعجل منه المجرمون يعني المشركين ويقال ماذا ينفعهم إستعجالهم منه أي من عذاب الله
قوله تعالى " أثم إذا ما وقع آمنتم به " يعني إذا وقع العذاب صدقتم به يعني بالعذاب ويقال صدقتم بالله تعالى " الآن " يعني يقال لهم آمنتم بالعذاب حين لا ينفعكم " وقد كنتم به تستعجلون " وهذا اللفظ لفظ الإستفهام والمراد به التهديد
قوله تعالى " ثم قيل للذين ظلموا " يعني قالت لهم خزنة جهنم " ذوقوا عذاب الخلد " الذي لا ينقطع " هل تجزون " يقول هل تثابون " إلا بما كنتم تكسبون " من الكفر والتكذيب
سورة يونس 53 - 56
قوله تعالى " ويستنبئونك أحق هو " قال قتادة ومقاتل وذلك أن حيي بن أخطب حين قدم مكة قال للنبي صلى الله عليه وسلم أحق هذا العذاب قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " قل إي وربي " يعني إي والله إنه لكائن ويقال معناه ويسألونك عن البعث أحق هو ويسألونك عن دينك أحق هو " قل إي وربي " يعني قل يا محمد نعم " إنه لحق " يعني العذاب نازل بكم إن لم تؤمنوا " وما أنتم بمعجزين " بفائتين من العذاب حتى يجزيكم به
ثم أخبر عن حالهم حين نزل بهم العذاب فقال تعالى " ولو أن لكل نفس ظلمت "(2/120)
121
يعني كفرت وأشركت بالله تعالى " ما في الأرض " يعني لو كان لها ما في الأرض " جميعا " يعني النفس " لافتدت به " يعني النفس لافتدت من سوء العذاب أي لا ينفعها لها ولا يقبل منها " وأسروا الندامة " يعني أخفوا الندامة يعني أن القادة أخفوا الندامة من السفلة " لما رأوا العذاب " حين نزل بهم العذاب وعاينوه وشاهدوه " وقضي بينهم بالقسط " بين القادة والسفلة بالعدل ويقال " قضي بينهم " يعني الخلق بالعدل فيعطي ثوابهم على قدر أعمالهم ويقال يقضي بين الكفار بالعدل وبين المؤمنين بالفضل ثم قال " وهم لا يظلمون " يعني لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئا
ثم بين إستغناءه عن عبادة الخلق وقدرته عليهم فقال " إلا إن لله ما في السموات والأرض " يعني كلهم عبيده وإماؤه وهو قادر عليهم ويقال كل شيء يدل على توحيده وأن له صانعا " ألا إن وعد الله حق " يعني بالبعث بعد الموت هو كائن " ولكن أكثرهم لا يعلمون " يعني لا يصدقون به ثم قال تعالى " هو يحيي ويميت وإليه ترجعون " في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم
سورة يونس 57 - 58
قوله تعالى " يا أيها الناس " يعني يا أهل مكة ويقال جميع الناس " قد جاءتكم موعظة من ربكم " يعني نهيا من ربكم عن الشرك على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم " وشفاء لما في الصدور " يعني القرآن شفاء للقلوب من الشرك ويقال شفاء من العمى لأن فيه بيان الحلال والحرام " وهدى " من الضلالة ويقال صوابا وبيانا " ورحمة للمؤمنين " يعني القرآن نعمة من الله تعالى على المؤمنين يمنع العذاب عمن آمن وعمل بما فيه
قوله تعالى " قل بفضل الله " يعني قل يا محمد للمؤمنين بفضل الله والإسلام " وبرحمته " القرآن وروي عن إبن عباس أنه " بفضل الله " يعني القرآن " وبرحمته " الإسلام يعني بنعمته عليكم إذ أكرمكم بالإسلام والقرآن وهكذا قال أبو سعيد الخدري وقال الضحاك ومجاهد بفضل القرآن وبرحمته الإسلام وقال مقاتل بفضل الله الإسلام وبرحمته القرآن وعن الحسن مثله وقال القتبي مثله " فبذلك فليفرحوا " يعني بالقرآن والإيمان " هو خير مما يجمعون " من الأموال قرأ إبن عامر " فبذلك فلتفرحوا هو خير مما تجمعون " بالتاء كلاهما على معنى المخاطبة وقرأ الباقون بالياء على معنى المغايبة
سورة يونس 59 - 60
قوله تعالى " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق " في الكتاب ويقال من السماء ويقال ما أعطاكم الله من الرزق والحرث والأنعام والبحيرة والسائبة وبين في كتاب الله تحليلها " فجعلتم منه حراما وحلالا " يعني حراما على النساء وحلالا على الرجال " قل الله أذن لكم " يعني الله عز وجل أمركم بتحريمه وبتحليله " أم على الله تفترون " يعني تختلقون على الله
كذبا ما لم يقله ولم يأمر به ويقال " قل آلله أذن لكم " أي أمركم بتحريمه فقالوا بلى أمرنا بها فقال الله تعالى " أم على الله تفترون " يعني على الله تختلقون
ثم قال تعالى " وما ظن الذين يفترون على الله الكذب " يعني وما ظنهم حين ينزل بهم العذاب " يوم القيامة " وكيف ينجون منه " إن الله لذو فضل على الناس " يعني لذو من على الناس بتأخير العذاب عنهم " ولكن أكثرهم لا يشكرون " نعمة الله تعالى عليهم بتأخير العذاب عنهم
سورة يونس 61
قوله تعالى " وما تكون في شأن " يقول وما تكون يا محمد في أمر من الأمور " وما تتلوا منه من قرآن " يعني وما تقرأ من الله من قرآن يعني مما أوحي إليك فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم وخاطب أمته أيضا فقال تعالى " ولا تعلمون من عمل إلا كنا عليكم شهودا " يعني عالما بكم وبأعمالكم فلا تنسوه ويقال إلا جعل عليكم شاهدا من الملائكة وهم الحفظة " إذ تفيضون فيه " يعني حين تأخذون في قراءة القرآن ويقال حين تخوضون فيه " وما يعزب عن ربك " قرأ الكسائي " وما يعزب " بكسر الزاي وقرأ الباقون بالضم وهما لغتان وهكذا روي عن الفراء يعني وما يغيب " عن ربك من مثقال ذرة " قال الكلبي الذرة هي النملة الحميراء وقال مقاتل أصغر نملة في الأرض ويقال الذرة ما يرى في شعاع الشمس والمثقال عبارة عن الوزن يعني لا يغيب عنه وزن الذرة " في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك " يعني ولا أخف من وزن الذرة " ولا أكبر " يعني ولا أثقل من وزن الذرة ويقال لا أقل منه ولا أعظم " إلا في كتاب مبين " يعني مكتوبا في اللوح المحفوظ قرأ حمزة " ولا أصغر من ذلك ولا أكبر " بضم الراءين ومعناه ولا يغيب عنه أصغر من ذلك ولا أكبر منه فيصير رفعا لأنه فاعل وقرأ الباقون بالنصب لأن معناه ولا(2/121)
122
57 - 58
قوله تعالى " يا أيها الناس " يعني يا أهل مكة ويقال جميع الناس " قد جاءتكم موعظة من ربكم " يعني نهيا من ربكم عن الشرك على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم " وشفاء لما في الصدور " يعني القرآن شفاء للقلوب من الشرك ويقال شفاء من العمى لأن فيه بيان الحلال والحرام " وهدى " من الضلالة ويقال صوابا وبيانا " ورحمة للمؤمنين " يعني القرآن نعمة من الله تعالى على المؤمنين يمنع العذاب عمن آمن وعمل بما فيه
قوله تعالى " قل بفضل الله " يعني قل يا محمد للمؤمنين بفضل الله والإسلام " وبرحمته " القرآن وروي عن إبن عباس أنه " بفضل الله " يعني القرآن " وبرحمته " الإسلام يعني بنعمته عليكم إذ أكرمكم بالإسلام والقرآن وهكذا قال أبو سعيد الخدري وقال الضحاك ومجاهد بفضل القرآن وبرحمته الإسلام وقال مقاتل بفضل الله الإسلام وبرحمته القرآن وعن الحسن مثله وقال القتبي مثله " فبذلك فليفرحوا " يعني بالقرآن والإيمان " هو خير مما يجمعون " من الأموال قرأ إبن عامر " فبذلك فلتفرحوا هو خير مما تجمعون " بالتاء كلاهما على معنى المخاطبة وقرأ الباقون بالياء على معنى المغايبة
سورة يونس 59 - 60
قوله تعالى " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق " في الكتاب ويقال من السماء ويقال ما أعطاكم الله من الرزق والحرث والأنعام والبحيرة والسائبة وبين في كتاب الله تحليلها " فجعلتم منه حراما وحلالا " يعني حراما على النساء وحلالا على الرجال " قل الله أذن لكم " يعني الله عز وجل أمركم بتحريمه وبتحليله " أم على الله تفترون " يعني تختلقون على الله كذبا ما لم يقله ولم يأمر به ويقال " قل آلله أذن لكم " أي أمركم بتحريمه فقالوا بلى أمرنا بها فقال الله تعالى " أم على الله تفترون " يعني على الله تختلقون
ثم قال تعالى " وما ظن الذين يفترون على الله الكذب " يعني وما ظنهم حين ينزل بهم العذاب " يوم القيامة " وكيف ينجون منه " إن الله لذو فضل على الناس " يعني لذو من على الناس بتأخير العذاب عنهم " ولكن أكثرهم لا يشكرون " نعمة الله تعالى عليهم بتأخير العذاب عنهم
سورة يونس 61
قوله تعالى " وما تكون في شأن " يقول وما تكون يا محمد في أمر من الأمور " وما تتلوا منه من قرآن " يعني وما تقرأ من الله من قرآن يعني مما أوحي إليك فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم وخاطب أمته أيضا فقال تعالى " ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا " يعني عالما بكم وبأعمالكم فلا تنسوه ويقال إلا جعل عليكم شاهدا من الملائكة وهم الحفظة " إذ تفيضون فيه " يعني حين تأخذون في قراءة القرآن ويقال حين تخوضون فيه " وما يعزب عن ربك " قرأ الكسائي " وما يعزب " بكسر
الزاي وقرأ الباقون بالضم وهما لغتان وهكذا روي عن الفراء يعني وما يغيب " عن ربك من مثقال ذرة " قال الكلبي الذرة هي النملة الحميراء وقال مقاتل أصغر نملة في الأرض ويقال الذرة ما يرى في شعاع الشمس والمثقال عبارة عن الوزن يعني لا يغيب عنه وزن الذرة " في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك " يعني ولا أخف من وزن الذرة " ولا أكبر " يعني ولا أثقل من وزن الذرة ويقال لا أقل منه ولا أعظم " إلا في كتاب مبين " يعني مكتوبا في اللوح المحفوظ قرأ حمزة " ولا أصغر من ذلك ولا أكبر " بضم الراءين ومعناه ولا يغيب عنه أصغر من ذلك ولا أكبر منه فيصير رفعا لأنه فاعل وقرأ الباقون بالنصب لأن معناه ولا(2/122)
123
يغيب عنه بمثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا بمثقال ذرة أصغر من ذلك فموضعه خفض إلا أنه لا ينصرف فصار نصبا
سورة يونس 62 - 64
قوله تعالى " ألا إن أولياء الله " يعني المؤمنين ويقال أحباء الله وهم حملة القرآن والعلم ويقال الذين يجتنبون الذنوب في الخلوات ويعلمون أن الله تعالى مطلع عليهم وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أولياء الله تعالى فقال هم الذين أدامو ذكر الله تعالى وقال وهب بن منبه قال الحواريون لعيسى ابن مريم يا روح الله من أولياء الله قال الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها ونظروا إلى أجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها فأحبوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة ويحبون الله تعالى ويحبون ذكره وقال الضحاك " ألا إن أولياء الله " يعني المخلصين لله " لا خوف عليهم " يعني لا يخافون من أهوال يوم القيامة " ولا هم يحزنون " حين زفرت جهنم
ثم نعتهم فقال تعالى " الذين آمنوا وكانوا يتقون " يعني أقروا وصدقوا بوحدانية الله تعالى ويتقون الشرك والفواحش " لهم البشرى في الحياة الدنيا " يعني البشارة وهي الرؤيا الصالحة يراها العبد المسلم لنفسه أو يرى له غيره وروي عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءا من النبوة وفي خبر آخر من أربعين جزءا من النبوة وفي خبر آخر من ستة وأربعين جزءا وروى عطاء بن يسار عن رجل كان يفتي بالبصرة قال سألت أبا الدرداء عن هذه الآية " لهم البشرى في الحياة الدنيا " قال أبو الدرداء ما سألني أحد منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما سألني عنها أحد قبلك هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له
ثم قال " وفي الآخرة " الجنة وعن عبادة بن الصامت أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأجابه بمثل ذلك ويقال " لهم البشرى في الحياة الدنيا " يعني عند الموت تبشرهم الملائكة كما(2/123)
124
قال في آية أخرى " تنزل عليكم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون " " وفي الآخرة " تبشرهم الملائكة حين يخرجون من قبورهم " لا تبديل لكلمات الله " يقول لا تغيير ولا تحويل لقول الله لأن قوله حق بأن " لهم البشرى في الحياة الدنيا " ويقال " لا تبديل لكلمات الله " يعني لا خلف لمواعيده التي وعد في القرآن " ذلك هو الفوز العظيم " يعني الثواب الوافر ويقال النجاة الوافرة
سورة يونس 65 - 66
قوله تعالى " ولا يحزنك قولهم " يقول يا محمد لا يحزنك تكذيبهم " إن العزة لله جميعا " يعني بأن النعمة والقدرة لله تعالى وجميع من يتعزز إنما هو بإذن الله تعالى " هو السميع العليم " يعني " السميع " لمقالتهم " العليم " بهم وبعقوبتهم على ترك توحيدهم
ثم قال " ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض " يعني من الخلق كلهم عبيده وإماؤه " وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء " يعني وما يعبد الذين يعبدون من دون الله الأوثان والأصنام ولم يأت بجوابه وجوابه مضمر ومعناه وما هم لي شركاء ولا نفع لهم في عبادتهم " إن يتبعون إلا الظن " يقول ما يعبدون الأصنام إلا بالظن " وإن هم إلا يخرصون " يقول وما هم إلا يكذبون يقول ما أمرهم الله تعالى بعبادتها ولا تكون لهم شفاعة
سورة يونس 67 - 68
ثم دل بصنعه على وحدانيته فقال تعالى " هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه " يعني خلق لكم الليل لتقروا فيه من النصب والتعب " والنهار مبصرا " يعني خلق النهار مطلبا للمعيشة " إن في ذلك " يعني في تقلب الليل والنهار " لآيات " يعني لعبرات وعلامات لوحدانية الله " لقوم يسمعون " يعني المواعظ
ثم رجع إلى ذكر كفار مكة فقال تعالى " قالوا إتخذ الله ولدا " حين قالوا الملائكة بنات الله تعالى " سبحانه " نزه نفسه عن الولد فقال " هو الغني " عن الولد " له ما في السموات وما في الأرض " من الخلق كلهم عبيده وإماؤه " إن عندكم من سلطان بهذا " يعني ما عندكم من حجة بهذا القول " أتقولون على الله مالا تعلمون " بغير حجة(2/124)
125
سورة يونس 69 - 70
قوله تعالى " قل إن الذين يفترون على الله الكذب " بأن له ولدا " لا يفلحون " يعني لا يأمنون من عذابه ولا ينجون منه " متاع " قليل يعني منفعتهم " في الدنيا " قليل " ثم إلينا مرجعهم " يعني مصيرهم في الآخرة " ثم نذيقهم " يعني نصيبهم العذاب الشديد " بما كانوا يكفرون " أي بكفرهم
سورة يونس 71 - 73
قوله تعالى " واتل عليهم نبأ نوح " فإن لم تعتبروا بذلك فاتل عليهم يعني إقرأ عليهم خبر نوح في القرآن " إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم " يعني عظم وثقل عليكم " مقامي " يعني طول مقامي فيكم " وتذكيري بآيات الله " يعني وعظي لكم بالله تعالى وهو ما قال الله تعالى في سورة نوح " إستغفروا ربكم إنه كان غفارا " [ نوح : 10 ] إلى قوله " الذي خلق سبع سموات طباقا " [ الملك : 3 ] الآية فلما وعظهم بذلك أرادوا قتله حين قالوا " لئن لم تنته يانوح لتكونن من المرجومين " [ الشعراء : 26 ] يعني من المقتولين بالحجارة فقال لهم نوح " إن كان كبر عليكم مقامي " فيكم وعظتي لكم " فعلى الله توكلت " يقول وثقت وفوضت أمري إلى الله تعالى " فأجمعوا أمركم " يعني كيدكم ويقال قولكم وعملكم " وشركاءكم " يعني وادعوا شركاءكم " ثم لا يكن أمركم عليكم غمة " يقول أظهروا أمركم فلا تكتموه يعني القتل وقال القتبي الغم والغمة واحد كما يقال كربة وكرب يعني لا يكون أمركم غما عليكم " ثم إقضوا إلي " يعني إمضوا إلي ويقال إعملوا ما تريدون كقوله تعالى " فاقض ما أنت قاض " [ طه : 72 ] " ولا تنظرون " يعني ولا تمهلون يعني إقضوا إلي ما أنتم قاضون واستعينوا بآلهتكم ويقال إعملوا بما في أنفسكم من الشر وروي عن نافع أنه قرأ " فاجمعوا " بالوصل والجزم من جمعت وقرأ الباقون " فاجمعوا " بالقطع من الإجماع وقرأ الحسن البصري ويعقوب الحضرمي " شركاؤكم " بالرفع يعني أين شركاؤكم ليجمعوا أمرهم معكم ويعينوكم " فإن توليتم " يعني أعرضتم وأبيتم عن الإيمان وأبيتم أن تقبلوا ما أتيتكم به ونهيتكم عنه " فما سألتكم من أجر " يعني ما سألتكم بذلك أجرا في الدنيا(2/125)
126
ومعناه إن أعرضتم عن الإيمان لا يضرني لأني لا أطلب منكم بذلك أجرا في الدنيا " إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين " يعني وأمرت أن أستقيم على التوحيد مع المسلمين
قوله تعالى " فكذبوه " بالعذاب بأنه غير نازل بهم " فنجيناه ومن معه في الفلك " من الغرق " وجعلناهم خلائف " يعني خلفاء من بعد هلاك كفارهم " وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا " يعني أهلكنا الذين كذبوا نوحا بما أتاهم به " فانظر كيف كان عاقبة المنذرين " يعني كيف كان آخر أمر من أنذرهم الرسل فلم يؤمنوا
سورة يونس 74 - 78
قوله تعالى " ثم بعثنا من بعده " أي من بعد هلاك قوم نوح " رسلا إلى قومهم " مثل هود وصالح وإبراهيم وإسماعيل واسحاق ويعقوب عليهم السلام " فجاؤوهم بالبينات " يعني بالأمر والنهي ويقال بالآيات والعلامات " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل " قال مقاتل يعني ما كان كفار مكة ليصدقوا بالعذاب أنه نازل بهم كما لم يصدق به أوائلهم من قبل كفار مكة وقال الكلبي " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به " عند الميثاق حين أخرجهم من صلب آدم وقال " فما كانوا ليؤمنوا " يعني أولئك القوم ما بعد دعاهم الرسل بما كذبوا به من قبل أن يأتيهم الرسل " كذلك نطبع على قلوب المعتدين " يعني نختم على قلوبهم المتجاوزين من الحلال وإلى الحرام ويقال صار تكذيبهم طبعا على قلوبهم فمنعهم عن الإيمان
قوله تعالى " ثم بعثنا من بعدهم " أي من بعد الرسل " موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا " التسع ثم قال " فاستكبروا " يعني تكبروا عن الإيمان " وكانوا قوما مجرمين " يعني مشركين
قوله تعالى " فلما جاءهم الحق " يعني ظهر لهم الحق " من عندنا " من عند الله تعالى " قالوا إن هذا لسحر مبين " يعني الذي أتيتنا به كذب بين " قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا " وفي الآية مضمر ومعناه أتقولون للحق لما جاءكم إنه سحر ثم قال(2/126)
127
أسحر هذا يعني أيكون مثل هذا سحرا فليس ذلك بسحر ولكن ذلك علامة النبوة " ولا يفلح الساحرون " في الدنيا والآخرة ويقال لا ظفر لهم
قوله تعالى " قالوا أجئتنا لتلفتنا " يعني قال فرعون وقومه لموسى " أجئتنا " يعني لتصرفنا وتصدنا " عما وجدنا عليه آباءنا " يقول عما كان يعبد آباؤنا " وتكون لكما الكبرياء " يعني السلطان والشرف والملك " في الأرض " يعني في أرض مصر " وما نحن لكما بمؤمنين " يعني بمصدقين بأنكما رسولا رب العالمين
سورة يونس 79 - 86
ثم قال " وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم " يعني حاذقا بالسحر قرأ حمزة والكساني " سحار " على معنى المبالغة وقرأ الباقون " بكل ساحر " " فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون " يعني إطرحوا ما في أيديكم من العصي والحبال إلى الأرض " فلما ألقوا " ما معهم من الحبال والعصي إلى الأرض " قال موسى ما جئتم به السحر " يعني العمل الذي عملتم به هو السحر " إن الله سيبطله " يعني سيهلكه " إن الله لا يصلح عمل المفسدين " يعني لا يرضى عمل المفسدين قرأ أبو عمرو السحر بالمد على وجه الإستفهام ويكون معناه " قال موسى ما جئتم به " يعني ما الذي جئتم به وتم الكلام ثم قال " السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين " يعني عمل السحرة
قوله تعالى " ويحق الله الحق بكلماته " يعني يظهر دينه الإسلام بتحقيقه وبنصرته " ولو كره المجرمون " يعني فرعون وقومه
قال الله تعالى " فما آمن لموسى " يعني ما صدق بموسى " إلا ذرية من قومه " يعني قبيلته من قومه الذين كانت أمهاتهم من بني إسرائيل وآباؤهم من القبط وروى مقاتل عن إبن عباس أنه قال " إلا ذرية من قومه " يعني من قوم موسى وهم بنو إسرائيل وهم ستمائة ألف وكان يعقوب حين ركب إلى مصر من كنعان في إثنين وسبعين إنسانا فتوالدوا بمصر حتى بلغوا ستمائة ألف ويقال " إلا ذرية من قومه " يعني خربيل وهو الذي قال في آية أخرى " وقال رجل مؤمن من ءال فرعون " [ غافر : 28 ](2/127)
128
ثم قال تعالى " على خوف من فرعون وملائهم " أي فما أمن لموسى خوفا من فرعون " وملأهم " أي قومهم إشارة إلى فرعون بلفظ الجماعة كقوله " فإلم يستجيبوا لكم " [ هود : 14 ] يعني محمدا صلى الله عليه وسلم خاصة " أن يفتنهم " يعني يقتلهم " وإن فرعون لعال في الأرض " يعني لعات ويقال لغالب ويقال المخالف والمتكبر في أرض مصر " وإنه لمن المسرفين " يعني لمن المشركين روى موسى بن عبيدة عن محمد بن المنكدر قال عاش فرعون ثلاثمائة سنة منها مائتين وعشرين سنة لم ير مكروها ودعاه موسى عليه السلام ثمانين سنة
" وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين " يعني ثقوا بالله وذلك حين قالوا له " أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا " [ الأعراف : 129 ] فلما قال لهم هذا موسى عليه السلام " قالوا على الله توكلنا " يعني فوضنا أمرنا إليه " ربنا لا تجعلنا فتنة " يقول بلية وعبرة " للقوم الظالمين " يعني لا تنصرهم علينا قال مجاهد يعني لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون ولا بعذاب من عندك فيقولوا لو كانوا على الحق ما عذبوا وما سلطنا عليهم فيفتنوا بنا " ونجنا برحمتك " يعني بنعمتك " من القوم الكافرين " يعني فرعون وقومه
سورة يونس 87 - 89
قال الله تعالى " وأوحينا إلى موسى وأخيه " هارون وذلك لما منعهم فرعون وقومه الصلاة علانية وخربوا مساجدهم " أن تبوءا لقومكما بيوتا " يعني إتخذوا لقومكما بمصر مساجد في جوف البيوت " واجعلوا بيوتكم قبلة " يعني مساجد فتصلون فيها ويقال " واجعلوا بيوتكم قبلة " أي حولوا بيوتكم نحو القبلة وقال مجاهد كانوا يصلون في البيع فأمرهم أن يصلوا في البيوت وقال إبراهيم النخعي كانوا خائفين فأمرهم بالصلاة في بيوتهم وكان إبراهيم النخعي خائفا من الحجاج وكان يصلي في بيته
ثم قال تعالى " وأقيموا الصلاة " يعني أتموها بركوعها وسجودها ولم يأمرهم بالزكاة لأن فرعون قد إستعبدهم وأخذ أموالهم فلم يكن لهم مال يجب عليهم الزكاة فيه ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم " وبشر المؤمنين " يعني المصدقين بتوحيد الله تعالى بالجنة قرأ عاصم في(2/128)
129
رواية حفص " أن تبويا " بلا همز لأنه كره همزة بين حرفين فجعلها ياء وقرأ الباقون بغير ياء بالهمزة إلا أنه روي عن حمزة أنه كان يهمز
قوله تعالى " وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه " وذلك أن أهل مصر لما عذبوا بالطوفان والجراد والسنين قالوا " لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك " [ الأعراف : 134 ] ثم نكثوا العهد ولم يؤمنوا فغضب موسى عليهم ودعا الله تعالى عليهم وقال " ربنا إنك آتيت فرعون وملأه " يعني أعطيت فرعون وملأه زينة يعني الأشراف من قومه أعطيتهم " زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا " أي ربنا أعطيتهم ليضلوا " عن سبيلك " يعني عن دينك الإسلام قرأ أهل الكوفة وعاصم وحمزة الكسائي " ليضلوا " بضم الياء يعني ليضلوا الناس ويصرفونهم عن دينك وقرأ الباقون " ليضلوا " بنصب الياء يعني يرجعون عن دينك ويمتنعون عنه " ربنا إطمس على أموالهم " يعني غير دراهمهم ودنانيرهم وذلك حين وعد فرعون لموسى بأن يؤمن ويرسل معه بني إسرائيل ثم نقض العهد فدعا عليهم موسى عليه السلام وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى " ربنا إطمس على أموالهم " قال بلغنا أن حروثا لهم صارت حجارة وعن السدي أنه قال صارت دراهمهم ودنانيرهم حجارة وعن أبي العالية أنه قال صارت أموالهم حجارة وقال مجاهد في قوله تعالى " ربنا إطمس على أموالهم " يعني أهلكها وقال القتبي في قوله " ربنا إطمس " يعني أهلكها وهو من قولك طمس الطريق إذا عفى ودرس
ثم قال تعالى " واشدد على قلوبهم " أي إقسها ويقال إطبع قلوبهم وأمتهم على الكفر ولا توفقهم للإيمان يعني لكي " لا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " وهو الغرق فدعا موسى عليه السلام وأمن هارون قال الله " قد أجيبت دعوتكما " قال ومحمد بن كعب القرظي " قد أجبت دعوتكما " دعا موسى وأمن هارون وعن أبي العالية وعكرمة وأبي صالح مثله وعن أبي هريرة مثله وعن أنس بن مالك أنه قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الله تعالى أعطاني خصالا ثلاثا أعطاني صلاة بالصفوف وأعطاني تحية إنها تحية أهل الجنة وأعطاني التأمين ولم يعط أحدا من النبيين قبلي إلا أن يكون الله تعالى أعطاه لهارون يدعو موسى ويؤمن هارون قال مقاتل فمكث موسى بعد هذه الدعوة أربعين سنة وهكذا روى الضحاك إن الإجابة ظهرت بعد أربعين سنة وقال بعضهم بعد أربعين يوما وقال بعضهم كان هذا الدعاء حين خرج موسى ببني إسرائيل وأيس من إيمانهم
ثم قال الله تعالى " فاستقيما " أي قال لموسى وهارون " إستقيما " على الرسالة والدعوة وإستقيما على ما أمرتكما " ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون " يعني طريق فرعون وآله من أهل مصر وروى إبن ذكوان عن إبن عامر أنه قرأ " تتبعان
" بجزم التاء ونصب الباء(2/129)
130
وقرأ الباقون " تتبعان " بنصب التاء والتشديد وكسر الباء ومعناهما واحد وهذه النون أدخلت مؤكدة
سورة يونس 90 - 92
ثم قال تعالى " وجاوزنا ببني إسرائيل البحر " يعني بحر القلزم ويقال هو نهر مصر وهو النيل " فأتبعهم فرعون وجنوده " يعني لحقهم وقال القتبي أتبعت القوم أي لحقتهم وتبعتهم كنت في أثرهم ثم قال " بغيا " يعني تكبرا " وعدوا " يعني ظلما ويقال " بغيا " في المقالة حيث قال " إن هؤلاء لشرذمة قليلون " [ الشعراء : 18 ] " وعدوا " يعني أعتدي عليهم وأرادوا قتلهم " حتى إذا أدركه الغرق " يعني كربة الموت ويقال ألجمه الماء ويقال بلغه الموت والأجل وذلك أن بني إسرائيل لما رأوا فرعون ومن معه قالوا هذا فرعون وقد كنا نلقى منه ما نلقى فكيف بنا وأين المخرج في البحر فأوحى الله إلى موسى " أن إضرب بعصاك البحر " [ الشعراء : 63 ] فضرب فصار إثني عشر طريقا يابسا فلما إنتهى فرعون إلى البحر فرآها قد يبست فقال لقومه إن البحر قد يبس خوفا مني فصدقوه وهو قوله " وأضل فرعون قومه وما هدى " [ طه : 79 ] ولما جاوز قوم موسى ودخل قوم فرعون فلما هم أولهم أن يخرج من البحر ودخل آخرهم طم عليهم البحر فغرقهم و " قال " فرعون عند ذلك " آمنت " أي صدقت " أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين " على دينهم ويقال أنا ممن المخلصين على التوحيد قرأ حمزة والكسائي " إنه " بالكسر على معنى الإبتداء الباقون بالنصب على معنى البناء أي صدقت بإنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل
قال الله تعالى " الآن وقد عصيت قبل " يعني أتؤمن في هذا الوقت حين عاينت العذاب وقد عصيت " قبل " يعني قبل نزول العذاب وهذا موافق لقوله تعالى " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن " [ النساء : 18 ] الآية ويقال إن جبريل هو الذي قال له " الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين " يعني من الكافرين
قال الفقيه أبو الليث حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا علي بن أحمد قال حدثنا نصر بن يحيى قال حدثنا أبو مطيع عن الحسن بن دينار عن حميد بن هلال قال كان(2/130)
131
جبريل عليه السلام يناجي النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ذات يوم يا محمد ما غاظني عبد من عباد الله تعالى مثل ما غاظني فرعون لما أدركه الغرق قال " آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل " فخشيت أن تدركه الرحمة فضربت بيدي في البحر فأخذت كفا من حمئه وربما قال من طينه فكبسته في فيه فما نبس بكلمة
قوله تعالى " فاليوم ننجيك ببدنك " يقول نخرجك من البحر بجسدك وقال أبو عبيدة نلقيك على نجوة من الأرض والنجوة من الأرض ما إرتفع منها " ببدنك " أي وحدك " لتكون لمن خلفك آية " يعني عبرة لمن بعدك من الكفار لكيلا يدعوا الربوبية وقال قتادة لما أغرق الله فرعون لم تصدق طائفة من الناس بذلك فأخرجه الله تعالى من البحر ليكون لهم عظة وآية " وإن كثيرا من الناس عن آياتنا " يعني عن هلاك فرعون " لغافلون " يخالفون ولا يعتبرون
سورة يونس 93
ثم قال تعالى " ولقد بوأنا بني إسرائيل " يعني أنزلنا بني إسرائيل " مبوأ صدق " يعني منزل صدق وهو أرض مصر وذلك أن الله تعالى قد وعد لهم بأن يورثهم أرض مصر فلما غرق فرعون رجع موسى عليه السلام ببني إسرائيل إلى أرض مصر فنزلوا بها وسكنوا الديار ويقال " مبوأ صدق " يعني أرضا كريمة يعني أرض الأردن وفلسطين ويقال منزلا حسنا وقال قتادة أرض الشام ويقال الأرض المقدسة " ورزقناهم من الطيبات " يعني من ميراث أهل مصر وأهل الشام " فما اختلفوا حتى جاءهم العلم " فما اختلفوا في الدين حتى جاءهم الكتاب يعني جاءهم موسى عليه السلام بعلم التوراة فاختلفوا من بعد يوشع بن نون ويقال فما اختلفوا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم حتى جاءهم العلم يعني خرج النبي صلى الله عليه وسلم وجاء بالقرآن إليهم لأنهم لم يزالوا مؤمنين به وذلك أنهم يجدونه مكتوبا عندهم فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم جحدوا به بعد العلم " إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " من الذين آمن به بعضهم وكفر به بعضهم
سورة يونس 94 - 97
قوله تعالى " فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك " والله أعلم أنه لم يشك ولا يشك(2/131)
132
ولكن أراد أن يقول ما أشك كما قال لعيسى " أأنت قلت للناس " علم أنه لم يقل ولكن أراد أن يقول ما قلت لهم وذلك أن كفار قريش قالوا إن هذا الوحي يلقيه إليه الشيطان فأنزل الله تعالى " فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك " من القرآن " فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك " يعني مؤمني أهل الكتاب فسيخبرونك أنه مكتوب عندهم في التوراة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أسأل أحدا ولا أشك فيه بل أشهد أنه الحق وقال القتبي فيه تأويلان أحدهما أن تكون المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد فيه غيره من الشكاك لأن القرآن نزل عليه بمذاهب العرب وهم يخاطبون الرجل بشيء ويريدون به غيره كما قالوا إياك أعني واسمعي يا جارية وكقوله " يا أيها النبي إتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين " [ الأحزاب : 1 ] أراد به الأمة يدلك عليه قوله تعالى في آخره " إن الله كان بما تعملون خبيرا " [ النساء : 94 ] وكقوله " وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن إلهة يعبدون " [ الزخرف : 45 ] ووجه آخر أن الناس كانوا على ثلاث مراتب منهم من كان مؤمنا ومنهم من كان كافرا ومنهم من كان شاكا وإنما خاطب بهذا الشاك
ثم قال تعالى " لقد جاءك الحق من ربك " يعني القرآن " فلا تكونن من الممترين " يعني من الشاكين " ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله " يعني بالكتاب وبالرسل " فتكون من الخاسرين " يعني من المغبونين
قوله تعالى " إن الذين حقت عليهم كلمة ربك " يعني وجبت عليهم كلمة ربك بالسخط وقدر عليهم الكفر " لا يؤمنون " يعني لا يصدقون بالقرآن أنه من الله تعالى " ولو جاءتهم كل آية " يعني علامة " حتى يروا العذاب الأليم " يعني الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة قرأ نافع وإبن عامر " كلمات ربك " وقرأ الباقون " كلمة ربك "
سورة يونس 98
قوله تعالى " فلولا كانت قرية آمنت " يقول لم يكن أهل قرية كافرة آمنت عند نزول العذاب " فنفعها إيمانها " وقبل منها الإيمان ودفع عنهم العذاب " إلا قوم يونس " عليه السلام قال مقاتل " فلولا " على ثلاثة أوجه الأول " لولا " يعني فلم مثل قوله تعالى " فلولا كانت قرية آمنت " " فلولا كان من القرون " الثاني " فلولا " يعني فهلا كقوله " فلولا إذ جاءهم بأسنا " [ الأنعام : 43 ] " فلولا إن كنتم غير مدينين " [ الواقعة : 86 ] والثالث(2/132)
133
" فلولا " يعني فلوما كقوله " ولولا فضل الله عليكم ورحمته " [ النساء : 83 ] " فلولا أنه كان من المسبحين " [ الصافات : 143 ]
ويقال " فلولا " ها هنا بمعنى فهلا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها ومعناه فهلا آمنت في وقت ينفعها إيمانها فأعلم الله تعالى أن الإيمان لا ينفع عند وقوع العذاب ثم قال " إلا قوم يونس " معناه لكن قوم يونس " لما آمنوا كشفنا عنهم " يعني أنهم آمنوا قبل المعاينة فكشفنا عنهم وروى إبن أبي نجيح عن مجاهد قال " فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها " كما نفع يونس وعن قتادة إن قوم يونس عليه السلام خرجوا ونزلوا على تل فدعوا الله تعالى أربعين ليلة حتى تاب الله عليهم وروي عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أن يونس بعثه الله تعالى إلى قومه فدعاهم إلى عبادة الله تعالى وترك ما هم فيه من الكفر فأبوا فدعا ربه فقال يا رب قد دعوتهم فأبوا فأوحى الله تعالى إليه أن إدعهم فإن أجابوك وإلا فأعلمهم أن العذاب يأتيهم إلى ثلاثة أيام فدعاهم فلم يجيبوه فأخبرهم بالعذاب فقالوا ما جربنا عليه كذبة مذ كان معنا فإن لم يلبث معكم وخرج من عندكم فاحتالوا لأنفسكم فلما كان بعض الليل خرج يونس من بينهم فلما كان اليوم الثالث رأوا حمرة وسوادا في السماء كهيئة النار والدخان فظنوا أن العذاب نازل بهم فجعلوا يطلبون يونس فلم يجدوه فلما كان آخر النهار أيسوا من يونس وجعل يهبط السواد والحمرة فقال قائل منهم إن لم تجدوا يونس عليه السلام فإنكم تجدون رب يونس فادعوه وتضرعوا إليه
فخرجوا من القرية إلى الصحراء وأخرجوا النساء والصبيان والبهائم وفرقوا بين كل إنسان وولده وبين كل بهيمة وولدها ثم عجوا إلى الله تعالى مؤمنين به مصدقين وارتفعت أصوات الرجال والنساء والصبيان وخوار البهائم وأولادها واختلطت الأصوات وقربت منهم الحمرة والدخان حتى غشي السواد سطوحهم وبلغهم حر النار فلما عرف الله تعالى منهم صدق التوبة رفع عنهم العذاب بعدما كان غشيهم فذلك قوله تعالى " فلولا كانت قرية آمنت " يعني لم يكن أهل قرية آمنت " فنفعها إيمانها " عند نزول العذاب " إلا قوم يونس لما آمنوا " يعني صدقوا بالألسن والقلوب عرف الله تعالى منهم الصدق " كشفنا عنهم " يعني رفعنا وصرفنا عنهم " عذاب الخزي في الحياة الدنيا " يعني عذاب الهون " ومتعناهم إلى حين " يعني إلى منتهى آجالهم وفي هذه الآية تخويف وتهديد لكفار مكة ولجميع الكفار إلى يوم القيامة أنهم إن لم يؤمنوا ينزل بهم العذاب فلا ينفعهم إيمانهم عند نزول العذاب
سورة يونس 99 - 100(2/133)
134
قوله تعالى " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا " يعني وفقهم لذلك وهداهم ويقال في الآية مضمر ومعناه ولو شاء ربك أن يؤمنوا لآمنوا كلهم جميعا " أفأنت تكره الناس " يعني الكفار " حتى يكونوا مؤمنين " ويقال هو عمه أبو طالب ولها وجه آخر " ولو شاء ربك " لأراهم علامة ليضطروا إلى الإيمان كما فعل بقوم يونس ولكن لم يفعل ذلك لأن الدنيا دار إبتلاء ومحنة
ثم قال تعالى " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله " يعني بإرادة الله تعالى وتوفيقه " ويجعل الرجس " يعني الكفر " على الذين لا يعقلون " يعني يترك حلاوة الكفر في قلوب الذين لا يرغبون في الإيمان ويقال " ويجعل الرجس " يعني الإثم ويقال " الرجس " يعني العذاب قرأ عاصم في رواية أبي بكر " ونجعل الرجس " بالنون وقرأ الباقون بالياء ثم أخبر أنه لا عذر لمن تخلف عن الإيمان لأنه قد بين العلامات
سورة يونس 101 - 103
قوله تعالى " قل أنظروا ماذا في السموات والأرض " من الدلائل من الشمس والقمر والنجوم " و " ما في " الأرض " من الجبال والبحار والأشجار والثمار فاعتبروا به
ثم قال حين لم يعتبروا به " وما تغني الآيات " يعني ما تنفع العلامات التي في السموات والأرض " والنذر " يعني الرسل " عن قوم لا يؤمنون " يعني لا يرغبون في الإيمان ولا يطلبون الحق وقال أبو العالية لا تنفع الآيات والرسل " عن قوم لا يؤمنون " أي علم الله في سابق علمه أنهم لا يؤمنون ويقال " عن " ها هنا صلة ومعناه وما تغني الآيات والنذر قوما لا يؤمنون يعني علم الله في الأزل أنهم لا يؤمنون
ثم خوفهم فقال تعالى " فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم " يعني أن يصيبهم العذاب مثل ما أصاب الأمم الخالية " قل فانتظروا " يعني إنتظروا العذاب " إني معكم من المنتظرين " ويقال إنتظروا لهلاكي فإني معكم من المنتظرين لهلاتكم
قوله تعالى " ثم ننجي رسلنا " يعني أنجيناهم من العذاب والهلاك " والذين آمنوا " معهم إنصرف هذا إلى قوله " مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ثم ننجي رسلنا " يعني أنجيناهم من العذاب " والذين آمنوا " يعني أنجيناهم معهم ومعناه إذا جاءهم العذاب ينجي الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه كما أنجى سائر الرسل والذين آمنوا معهم " كذلك حقا علينا " يعني هكذا واجب علينا " ننج المؤمنين " من العذاب قرأ الكسائي وعاصم في رواية حفص " ثم ننجي " بجزم النون وتخفيف الجيم وقرأ الباقون " ننجي "(2/134)
135
بالنصب والتشديد وكذلك في قوله " ننج " المؤمنين ومعناها واحد نجيته وأنجيته
سورة يونس 104 - 107
ثم قال عز وجل " قل يا أيها الناس " يعني يا أهل مكة وذلك حين دعوه إلى دين آبائهم فقال " إن كنتم في شك من ديني " الإسلام وترجون أن أرجع إلى دينكم وأترك هذا الدين فلا أفعل ذلك وهو قوله " فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله " من الآلهة ويقال معناه إن كنتم في شك من ديني فأنا مستيقن في دينكم ومعبودكم أنهما باطلان " فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله " " ولكن أعبد الله " يعني أوحده وأطيعه " الذي يتوفاكم " يعني يميتكم عند إنقضاء آجالكم " وأمرت أن أكون من المؤمنين " يعني مع المؤمنين على دينهم ولا أرجع عن ذلك
قوله تعالى " وأن أقم وجهك " يعني إن الله تعالى قال لي في القرآن أن أخلص عملك ودينك " للدين حنيفا " يعني إستقم على التوحيد مخلصا " ولا تكونن من المشركين " أو يقال وأمرت أن أكون من المسلمين إلى ها هنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك للكفار وقد تم الكلام إلى هذا الموضع ثم قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بهذا أمرتك " وأن أقم وجهك للدين حنيفا " يعني وأمرتك أن تخلص عملك ودينك " للدين حنيفا " يعني إستقم على ذلك مستقيما والحنف في اللغة هو الميل والإقبال على شيء لا يرجع عنه أبدا لهذا سمي الرجل أحنف إذا كان أصابع رجليه مائلا بعضها إلى بعض
ثم قال تعالى " ولا تدع من دون الله " يعني لا تعبد غير الله " ما لا ينفعك ولا يضرك " يعني ما لا ينفعك إن عبدته ولا يضرك إن عصيته وتركت عبادته " فإن فعلت " ذلك يعني فإن عبدت غير الله " فإنك إذا من الظالمين " يعني الضارين أنفسهم
قوله تعالى " وإن يمسسك الله بضر " يعني إن يصيبك الله بشدة أو بلاء " فلا كاشف له إلا هو " يعني لا دافع لذلك الضر إلا هو يعني لا تقدر الأصنام على دفع الضر عنك " وإن يردك بخير " يعني إن يصبك بسعة في الرزق وصحة في الجسم " فلا راد لفضله " يعني لا مانع لعطائه " يصيب به " يعني بالفضل " من يشاء من عباده " من كان أهلا لذلك " وهو الغفور " لذنوب المؤمنين " الرحيم " بهم(2/135)
136
فأعلم الله تعالى أنه كاشف الضر ومعطي الفضل في الدنيا وهو الغفور في الآخرة للمؤمنين الرحيم بقبول حسناتهم قال الفقيه رضي الله عنه حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا شيخ بصري عن الحسن أنه قال قال عامر بن قيس ما أبالي ما أصابني من الدنيا وما فاتني منها بعد ثلاث آيات ذكرهن الله تعالى في كتابه قوله " وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك فلا راد لفضله " وقوله " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده " [ فاطر : 2 ] وقوله " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها " [ هود : 6 ]
سورة يونس 108 - 109
قوله تعالى " قل يا أيها الناس " يعني يا أهل مكة " قد جاءكم الحق من ربكم " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم والقرآن " فمن إهتدى " يعني من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل " يعني ومن كفر ولم يؤمن به " فإنما يضل عليها " يعني جنايته على نفسه وإثم الضلالة على نفسه " وما أنا عليكم بوكيل " يعني لست عليكم بمسلط وهذا قبل الأمر بالقتال
ثم قال تعالى " واتبع ما يوحى إليك " يعني إن لم يصدقوك فاعمل بما أنزل إليك من القرآن " واصبر " على تكذيبهم " حتى يحكم الله " يعني يقضي الله تعالى بعذابهم في الدنيا وفي الآخرة " وهو خير الحاكمين " يعني أعدل العادلين ويقال " واصبر حتى يحكم الله " يعني حتى يأمر الله تعالى المؤمنين بقتالهم ويقال " فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه " يعني من إجتهد حتى إهتدى فإنما يهتدي لنفسه " ومن ضل فإنما يضل عليها " يعني ومن تغافل عن الحق حتى ضل فعقوبته عليها والله أعلى وأعلم وصلى الله على سيدنا محمد(2/136)
137
سورة هود
مكية وهي مائة وثلاث وعشرون آية
سورة هود 1 - 4
قال الله تعالى " الر " قال إبن عباس يعني أنا الله أرى ويقال الألف الله آلاؤه واللام لطفه والراء ربوبيته " كتاب " يعني هذا الكتاب وهو القرآن " أحكمت آياته " من الباطل فلم يوجد فيه عوج ولا تناقض " ثم فصلت " يعني بين أمره ونهيه وقال الحسن " أحكمت آياته " بالأمر والنهي وفصلت بالوعد والوعيد والثواب والعقاب وقال مجاهد " فصلت " أي فسرت وقال القتبي " أحكمت " فلم تنسخ ثم " فصلت " بالحلال والحرام ويقال " فصلت " يعني أنزلت شيئا بعد شيء فلم تنزل جملة " من لدن حكيم خبير " يعني أنزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى قال " حكيم " في أمره " خبير " بالعباد وبأعمالهم " ألا تعبدوا إلا الله " يعني نزل جبريل بالقرآن وقد بين فيه ألا توحدوا ولا تطيعوا غير الله " إنني لكم منه " يعني قل لهم يا محمد إنني لكم من الله تعالى " نذير " يعني مخوفا من عذابه للكافرين " وبشير " بالجنة للمؤمنين " وأن إستغفروا ربكم " من الذنوب ويقال صلوا لربكم " ثم توبوا إليه " يعني وتوبوا إليه من الشرك والذنوب " يمتعكم متاعا حسنا " يعني يعيشكم في الدنيا عيشا حسنا في خير وعافية " إلى أجل مسمى " إلى منتهى آجالكم وقال القتبي أصل الإمتاع الإطالة يقال حبل ماتع وقد متع النهار إذا طال " يمتعكم " يعني يعمركم ويقال " يمتعكم متاعا حسنا " يعني يجعلكم راضين بما يعطيكم ويقال ويجعل حياتكم في الطاعة
ثم قال " ويؤت كل ذي فضل فضله " يعني يعطي في الآخرة كل ذي فضل في العمل في الدنيا فضله والدرجات وروى جويبر عن الضحاك قال يؤت كل ذي عمل ثواب عمله وقال سعيد بن جبير في قوله " ويؤت كل ذي فضل فضله " قال من عمل حسنة(2/137)
138
كتبت له عشر حسنات ومن عمل سيئة كتبت عليه سيئة واحدة فإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من العشرة واحدة وبقيت له تسع حسنات وهكذا قال إبن مسعود ثم قال إبن مسعود هلك من غلب آحاده أعشاره
" وإن تولوا " يعني أعرضوا عن الإيمان " فإني أخاف عليكم " يعني قل لهم يا محمد إني أخاف عليكم " عذاب يوم كبير " يعني القحط قال مقاتل حبس الله تعالى عنهم القطر سبع سنين حتى أكلوا الموتى ويقال " فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير " يعني عذاب النار يوم القيامة ويقال " إني أخاف " يعني أعلم فيوضع الخوف موضع العلم لأن فيه طرفا من العلم
ثم قال " إلى الله مرجعكم " يعني مصيركم في الآخرة " وهو على كل شيء قدير " يعني هو قادر على بعثكم بعد الموت
سورة هود 5 - 6
قوله تعالى " ألا إنهم يثنون صدورهم " قال الكلبي يقول يكتمون ما في صدورهم من العداوة " ليستخفوا منه " يعني ليستروا ذلك منه " ألا حين يستغشون ثيابهم " يعني يلبسون ثيابهم يعني حين يغشي الرجل نفسه بثيابه يعني ما تحت ثيابه و " يعلم ما يسرون " من العداواة " وما يعلنون " بألسنتهم قال الكلبي نزلت في شأن أخنس بن شريق وقال مقاتل " ألا إنهم يثنون صدورهم " يعني يلوون وذلك أن كفار مكة كانوا إذا سمعوا القرآن نكسوا رؤوسهم على صدورهم كراهية إستماع القرآن " ليستخفوا منه " يعني من النبي صلى الله عليه وسلم
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال أخفى ما يكون للإنسان إذا أسر في نفسه شيئا ويغطى بثوبه فذلك أخفى ما يكون والله تعالى مطلع على ما في نفوسهم " إنه عليم بذات الصدور " يعني ما في قلوب العباد من الخير والشر
قوله تعالى " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها " يعني إلا الله القائم على رزقها ويقال الله ضامن لرزقها ويقال يرزقها الله حيث ما توجهت " ويعلم مستقرها ومستودعها " يعني " يعلم مستقرها " حيث تأوي بالليل " ومستودعها " حيث تموت وتدفن وروي عن عبد الله بن مسعود قال مستقرها الأرحام ومستودعها الأرض التي تموت فيها وقال عبد الله إذا كان الرجل بأرض وقد دنا أجله عرضت له الحاجة حتى إذا كان عند إنقضاء أجله قبض فتقول الأرض يوم القيامة هذا ما إستودعتني وقال سعيد بن جبير ومجاهد المستقر الرحم والمستودع الأصلاب " كل في كتاب مبين " يعني المستقر(2/138)
139
والمستودع وبيان كل شيء ورزق كل دابة مكتوب في اللوح المحفوظ وهو خلق من درة بيضاء
سورة هود 7
قوله تعالى " وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام " قال إبن عباس يعني من أيام الآخرة وقال الحسن من أيام الدنيا " وكان عرشه على الماء " قبل خلق السموات والأرض لأنه لم يكن تحته شيء سوى الماء
قال الفقيه حدثنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عوف قال حدثنا فارس بن مردويه قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا أبو مطيع عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود أنه قال بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام وبين السماء السابعة وبين الكرسي مسيرة خمسمائة عام وبين الكرسي وبين الماء خمسمائة عام والعرش فوق الماء والله فوق العرش بعلوه وقدرته يعلم ما أنتم فيه
وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال كان عرشه على الماء فلما خلق الله تعالى السموات والأرض قسم ذلك الماء قسمين فجعل نصفه تحت العرش وهو البحر المسجور وجعل النصف الآخر تحت الأرض السفلى وهو مكتوب في الكتاب الأول ويسمى اليم
وعن سعيد بن جبير قال سئل إبن عباس عن قول الله تعالى " وكان عرشه على الماء " على أي شيء كان الماء قال على متن الريح ويقال " وكان عرشه على الماء " يعني فوق الماء كقولك السماء فوق الأرض لا أنه ملتزق بالماء
" ليبلوكم أيكم أحسن عملا " يعني ليختبركم " أيكم أحسن عملا " أي أخلص عملا وأزهد في الدنيا والإختبار من الله تعالى هو إظهار ما يعلم من خلقه
ثم قال " ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت " يعني يوم القيامة " ليقولن الذين كفروا " يعني أهل مكة " إن هذا إلا سحر مبين " يعني ما هذا إلا كذب بين حتى يخبرنا أنه يكون البعث قرأ حمزة والكسائي " ساحر مبين " بالألف وقرأ الباقون " سحر مبين " بغير ألف
سورة هود 8 - 11(2/139)
140
قوله تعالى " ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة " يعني سنين معلومة يعني إلى الوقت الذي جعل أجلهم وقال القتبي يعني إلى حين توفته وفي قوله " وادكر بعد أمة " [ يوسف : 45 ] إنما هو سبع سنين " ليقولن ما يحبسه " يعني العذاب على وجه الإستهزاء " ألا يوم يأتيهم " يعني العذاب " ليس مصروفا عنهم " يعني ليس أحد يصرف العذاب عنهم إذا نزل بهم في الدنيا وفي الآخرة " وحاق بهم " يعني نزل بهم " ما كانوا به يستهزئون " أنه غير نازل بهم
قوله تعالى " ولئن أذقنا الإنسان " يعني أصبنا الإنسان " منا رحمة " يعني نعمة وخيرا وعافية " ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور " يعني آيس من رحمة الله كفور بنعم الله تعالى
ثم قال " ولئن أذقناه نعماء " يعني أعطيناه خيرا وعافية وسعة في الرزق " بعد ضراء مسته " يعني أصابته " ليقولن ذهب السيئات عني " يعني فلا يشكر الله تعالى
ذكر في الإبتداء " ليقولن " بنصب اللام بلفظ الواحد لتقديم الفعل على الإسم وفي الثاني بضم اللام لأنه فعل جماعة ولم يذكر الإسم وفي الثالث ذكر بنصب اللام لأنه فعل الواحد ويقول ذهب السيئات عني " إنه لفرح فخور " يعني بطرا فرحا بما أعطاه الله تعالى وهو الطغيان في النعمة " فخور " في نعم الله تعالى ومتكبر على الناس
ثم إستثنى فقال تعالى " إلا الذين صبروا " وهم المؤمنون الذين صبروا على الطاعات والشدائد ليسوا كذلك وليسوا من أهل هذه الصفة إذا إبتلوا صبروا وإذا أعطوا شكروا " وعملوا الصالحات " بينهم وبين ربهم " أولئك لهم مغفرة " لذنوبهم في الدنيا " وأجر كبير " يعني ثوابا عظيما في الجنة
سورة هود 12 - 14
قوله تعالى " فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك " وذلك أن كفار مكة قالوا كيف لا ينزل الله إليه ملكا أو يكون له كنز وطلبوا منه بأن لا يعيب آلهتهم فهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يترك عيبها رجاء أن يتبعوه فنزل " فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك " من أمر الآلهة " وضائق به(2/140)
141
صدرك ) في البلاغ " أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز " يعني المال " أو جاء معه ملك " يعينه ويصدقه فأمر بأن لا يترك تبليغ الرسالة بقولهم وقال قل يا محمد " إنما أنت نذير " يعني إنما عليك تبليغ الرسالة والتخويف " والله على كل شيء وكيل " يعني شهيد بأنك رسول الله تعالى
قوله تعالى " أم يقولون إفتراه " يعني أتقولون و " أم " صلة إفتراء يعني إختلقه من تلقاء نفسه " قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات " يعني مختلقات قال الكلبي يعني بعشر سور مثله مثل سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والتوبة ويونس وهود لأن العاشرة هي سورة هود وقال بعضهم هذا التفسير لا يصح لأن سورة هود مكية والبقرة وآل عمران والنساء والمائدة مدنيات أنزلت بعد سورة هود بمدة طويلة ولكن معناه " فأتوا بعشر سور " مثل سور القرآن أي سورة كانت " مفتريات " يعني مختلقات إن كنتم تزعمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم يختلقه من ذات نفسه " وادعوا من إستطعتم من دون الله " يعني إستعينوا بآلهتكم " إن كنتم صادقين " في مقالتكم فسكتوا ولم يجيبوا فنزل قوله تعالى " فإن لم يستجيبوا لكم " يعني فإن لم يجيبوك خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الجماعة كما قال " يا أيها الرسل " [ المؤمنون : 51 ] ويقال أراد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه " فاعلموا أنما أنزل بعلم الله " يقال فاعلموا يا أهل مكة إنما أنزل بعلم الله يعني أنزل جبريل هذا القرآن بإذن الله تعالى وبأمره وقال القتبي " بعلم الله " يعني من علم الله والباء مكان من
ثم قال تعالى " وأن لا إله إلا هو " يعني فاعلموا أن لا إله إلا هو يعني أن الله تعالى هو منزل الوحي وليس أحد ينزل الوحي غيره " فهل أنتم مسلمون " يعني مقرين بأن الله أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ويقال مخلصون بالتوحيد ويقال " فهل أنتم مسلمون " هذا على وجه الأمر يعني أسلموا
سورة هود 15 - 16
قوله تعالى " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها " يعني من كان يريد بعمله الدنيا ولا يريد به وجه الله تعالى " نوف إليهم أعمالهم فيها " يعني ثواب أعمالهم في الدنيا " وهم فيها لا يبخسون " يعني لا ينقص من ثواب أعمالهم شيء في الدنيا " أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار " قال إبن عباس نزلت هذه الآية في أهل القبلة وقال الحسن نزلت في المنافقين والكافرين
" وحبط ما صنعوا فيها " يعني ثواب أعمالهم لأنه لم يكن لوجه الله تعالى " وباطل ما كانوا يعملون " وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا كان يوم القيامة صارت أمتي(2/141)
142
ثلاث فرق فرقة يعبدون الله تعالى خالصا وفرقة يعبدون الله تعالى رياء وفرقة يعبدون الله تعالى ليصيبوا بها الدنيا فيقول الله تعالى للذي كان يعبد الله للدنيا وماذا أردت بعبادتك فيقول الدنيا فيقول الله عز وجل لا جرم ولا ينفعك ما جمعت ولا ترجع إليه ويقول إنطلقوا به إلى النار ويقول للذي كان يعبد الله رياء ماذا أردت بعبادتك فيقول الرياء فيقول الله تعالى إنطلقوا به إلى النار ويقول للذي كان يعبد الله تعالى خالصا ماذا أردت بعبادتك فيقول أنت أعلم به مني كنت أعبدك لوجهك وذاتك قال صدق عبدي إنطلقوا به إلى الجنة
سورة هود 17
ثم قال تعالى " أفمن كان على بينة من ربه " يعني على بيان من ربه وهو محمد صلى الله عليه وسلم " ويتلوه شاهد منه " يقول يقرأ جبريل هذا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وهو " شاهد منه " يعني من الله تعالى وهذا قول إبن عباس وأبي العالية ومجاهد وقتادة وإبراهيم النخعي ويقال " أفمن كان على بينة من ربه " يعني أن الله بين أمره ونبوته بدلائل أعطاها محمدا صلى الله عليه وسلم " ويتلوه " يعني يقرأ القرآن جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم " شاهد منه " أي ملك أمين من الله تعالى وهو جبريل وقال شهر بن حوشب القرآن شاهد من الله تعالى ومعناه يتلو القرآن وهو شاهد من الله تعالى وقال الحسن " ويتلوه شاهد منه " يعني لسان محمد صلى الله عليه وسلم وقال قتادة لسانه شاهد منه وكذلك قال عكرمة
قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا السراج قال حدثنا أبو إسماعيل قال حدثنا صفوان بن صالح قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثنا الخليل عن قتادة عن عروة عن محمد بن علي قال قلت لعلي إن الناس يزعمون في قوله تعالى " ويتلوه شاهد منه " أنك أنت التالي قال وددت أني أنا هو ولكنه لسان محمد صلى الله عليه وسلم ويقال الشاهد القرآن " ويتلوه " يعني بعده ويقال " يتلوه " يعني يتبعه كقوله " والقمر إذا تلاها " [ الشمس : 2 ] قال القتبي هذا كلام على الإختصار ومعناه أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه كالذي يريد الحياة الدنيا وزينتها فاكتفى من الجواب بما تقدم كقوله " أمن هو قانت ءاناء اليل ساجدا وقائما " [ الزمر : 9 ] يعني كمن هو بخلاف ذلك
ثم قال تعالى " ومن قبله كتاب موسى " يعني جبريل قرأ التوراة على موسى عليه(2/142)
143
السلام من قبل أن يتلو القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وهذا قول الكلبي ومقاتل وقال عبد الله بن سلام يتلو القرآن وكان من قبله يتلو التوراة والتأويل الأول أصح لأن هذه السورة مكية وعبد الله بن سلام أسلم في بالمدينة ويقال هم الذين آمنوا بمكة من أهل الكتاب حين قدموا من الحبشة
ثم قال " إماما ورحمة " يعني " إماما " يهتدى به ويعمل به " ورحمة " يعني ونعمة من العذاب لمن آمن به يعني كتاب موسى عليه السلام " أولئك يؤمنون به " يعني بالقرآن وهذا كقوله " فالذين آتينهم الكتاب يؤمنون به " [ العنكبوت : 47 ] يعني بالقرآن
ثم قال " ومن يكفر به من الأحزاب " يعني من يجحد بالقرآن " فالنار موعده " يعني مصيره قال سعيد بن جبير ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وجدت مصداقه في كتاب الله تعالى حتى بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار فجعلت أقول وأتفكر أين هذا في كتاب الله حتى أتيت على هذه الآية " ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده " قال هي في أهل الملل كلها
ثم قال " فلا تك في مرية منه " يعني فلا تك في شك منه أن موعده النار و " إنه الحق من ربك " وهذا قول الكلبي وقال مقاتل فلا تك في شك أن القرآن من الله تعالى و " أنه الحق من ربك " أي الصدق من ربك ردا لقولهم إنه يقول ذلك من شيطان يلقيه إليه يقال له الري
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من أحد إلا ومعه شيطان فاغر بين يديه إلا أن الله تعالى أعانني عليه وأسلم ثم قال " ولكن أكثر الناس لا يؤمنون " يعني لا يصدقون بالقرآن يعني أهل مكة بأنه من عند الله تعالى
سورة هود 18 - 23(2/143)
144
ثم قال " ومن أظلم ممن إفترى على الله كذبا " يعني ومن أشد في كفره " ممن إفترى " يقول ممن إختلق على الله كذبا بأن معه شريكا " أولئك يعرضون على ربهم " يعني يساقون إلى ربهم يوم القيامة " ويقول الأشهاد " يعني الرسل قد بلغناهم الرسالة وقال الضحاك " ويقول الأشهاد " يعني الأنبياء وقال قتادة ومجاهد " ويقول الأشهاد " يعني الملائكة وقال الأخفش " الأشهاد " واحدها شاهد مثل أصحاب وصاحب ويقال شهيد وأشهاد مثل شريف وأشراف
قال الله تعالى " هؤلاء الذين كذبوا على ربهم " يعني إفتروا على الله عز وجل بأن معه شريكا وقال الله " ألا لعنة الله على الظالمين " يعني عذابه وغضبه على المشركين
ثم وصفهم فقال تعالى " الذين يصدون عن سبيل الله " يعني يصرفون الناس عن دين الإسلام " ويبغونها عوجا " يطلبون بملة الإسلام زيفا وغيرا " وهم بالآخرة هم كافرون " أي ينكرون البعث
قوله تعالى " أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض " يعني لم يفوتوا ولم يهربوا من عذاب الله تعالى حتى يجزيهم بأعمالهم الخبيثة " وما كان لهم من دون الله من أولياء " يعني ما كان لهم من عذاب الله تعالى مانع يمنعهم من العذاب " يضاعف لهم العذاب " يعني الرؤساء يكون لهم العذاب بكفرهم وبما أضلوا غيرهم " ما كانوا يستطيعون السمع " يعني ما كانوا في العذاب " يستطيعون السمع " يعني لا يقدرون أن يسمعوا " وما كانوا يبصرون " في النار شيئا
ويقال ذلك التضعيف لهم لأنهم كانوا لا يستطيعون الإستماع إلى محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا من بغضه " وما كانوا يبصرون " أي عميا لا ينظرون إليه من بغضه وقال الكلبي " يضاعف لهم العذاب " بما كانوا يستطيعون السمع والهدى وبما كانوا لا يبصرون الهدى ويقال ما كانوا يستطيعون السمع فلم يسمعوا وكانوا يستطيعون أن يبصروا فلم يبصروا ويقال " ما كانوا يستطيعون السمع " يعني لم يكن لهم سمع القلب " وما كانوا يبصرون " أي لم يكن لهم بصر القلب قرأ إبن كثير وإبن عامر " يضعف لهم " بتشديد العين بغير ألف وقرأ الباقون " يضاعف " بالألف ومعناهما واحد
ثم بين أن ضرر ذلك يرجع إلى أنفسهم فقال تعالى " أولئك الذين خسروا أنفسهم " يعني غبنوا حظ أنفسهم " وضل عنهم ما كانوا يفترون " يعني وبطل عنهم ما كانوا يعملون ويعبدون من دون الله تعالى فات عنهم ولا ينفعهم شيئا
ثم قال تعالى " لا جرم " قال الكلبي يعني حقا ويقال نعم ويقال " لا جرم "(2/144)
145
يعني لا شك ويقال لا كذب ويقال " لا جرم " أي بلى وذكر عن الفراء أنه قال " لا جرم " كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة فكثر إستعمالهم إياها حتى صارت بمنزلة حقا " أنهم في الآخرة هم الأخسرون " يعني الخاسرين ويقال الأخسر إذا قلت بالألف واللام يكون بمعنى الخاسر وإذا قلت أخسر بغير الألف واللام يكون أخسر من غيره
ثم أخبر عن المؤمنين وما أعد لهم في الآخرة فقال " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني صدقوا بوحدانية الله تعالى " وعملوا الصالحات " يعني الطاعات فيما بينهم وبين ربهم " وأخبتوا إلى ربهم " قال القتبي يعني تواضعوا والإخبات التواضع وقال مقاتل " وأخبتوا " يقول أخلصوا ويقال يخشعون فرقا من عذاب ربهم " أولئك أصحاب الجنة " يعني أهل الجنة " هم فيها خالدون " يعني دائمون لا يموتون ولا يخرجون منها
سورة هود 24 - 27
ثم ضرب مثل المؤمنين والكافرين فقال تعالى " مثل الفريقين " يعني مثل المؤمن والكافر مثل الذي يبصر الحق ومثل الذي لا يبصر الحق " كالأعمى " يعني عن الإيمان ولا يبصره " والأصم " عن الإيمان ولا يسمعه وهو الكافر " والبصير والسميع " وهو المؤمن " هل يستويان مثلا " في الشبه ويقال معناه مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع يعني الذي لا يسمع من الذي لا يسمع ولا يبصر هل يستوي بالذي يسمع ويبصر ويقال معناه كالأعمى والبصير والأصم والسميع وقال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار مكة هل يستوي الأعمى والبصير والأصم والسميع قالوا لا قال " أفلا تذكرون " يعني أنهما لا يستويان قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم " أفلا تذكرون " بالتخفيف وقرأ الباقون " أفلا تذكرون " بالتشديد
ثم قال تعالى " ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين " قرأ نافع وعاصم وإبن عامر " إني لكم " بكسر الألف ومعناه قال لهم إني لكم نذير وقرأ الباقون بالنصب ومعناه ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه بالإنذار وفي الآية تهديد لأهل مكة ومعناه واتل عليهم نبأ نوح يعني إن لم يتعظوا بما ذكرت فاتل عليهم خبر نوح(2/145)
146
وروى أبو صالح عن إبن عباس أن نوحا أوحي إليه وهو إبن أربعمائة وثمانون سنة فدعا قومه مائة وعشرين سنة وركب السفينة وهو إبن ستمائة سنة ومكث بعد هلاك قومه ثلاثمائة وخمسين سنة فذلك ألف سنة إلا خمسين عاما وذكر عن وهب بن منبه قال أوحى الله تعالى إلى نوح وهو إبن خمسين سنة ولبث فيما بينهم تسعمائة وخمسين سنة فلما هلك قومه عاش بعدهم خمسين سنة فتمام عمره ألف وخمسون سنة
وقال عكرمة إنما سمي نوحا لأنه كان ينوح على أهله ونفسه ويقال كان إسمه شاكرا فمن كثرة نواحه على نفسه سمي نوحا فدعا قومه إلى الله تعالى وقال لهم " إني لكم نذير مبين " من العذاب ويقال " مبين " يعني بين بلغة تعرفونها " أن لا تعبدوا إلا الله " يعني ألا تطيعوا ولا توحدوا إلا الله " إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم " يعني الغرق
قال الله تعالى " فقال الملأ الذين كفروا من قومه " يعني الأشراف من قومه " ما نراك إلا بشرا مثلنا " يعني آدميا مثلنا " وما نراك إتبعك " يعني ما آمن بك " إلا الذين هم أراذلنا " يعني سفلتنا وضعفاؤنا " بادي الرأي " قال الكلبي ظاهر الرأي يعني إنهم يعرفون الظاهر فلا تمييز لهم وقال مقاتل يعني أراذلنا أي سفلتنا وضعفاؤنا وقال القتبي " أراذلنا " يعني شرارنا وهو جمع أرذل وقوله " بادي الرأي " بغير همز أي ظاهر الرأي من بدا يبدو وأما بالهمز فيعني أول الرأي من قولك بدأ يبدأ قرأ أبو عمرو " بادىء الرأي " بالهمز وقرأ الباقون على ضد ذلك
ثم قال " وما نرى لكم علينا من فضل " أي قوم نوح قالوا لنوح " ما نرى لكم علينا من فضل " في ملك ولا مال " بل نظنكم كاذبين " يعني نحسبك من الكاذبين وقد يخاطب الواحد بلفظ الجماعة ويقال إنما أراد به نوحا ومن آمن معه
سورة هود 28 - 29
قوله تعالى " قال يا قوم " يعني قال نوح لقومه " أرأيتم إن كنت على بينة من ربي " يعني أخبروني إن كنت على دين ويقين من ربي وبيان " وآتاني رحمة من عنده " يقول أكرمني بالرسالة والنبوة " فعميت عليكم " يعني عميت عليكم هذه البينة ويقال عميتم عن ذلك يقال عمي عليه هذا إذا لم يفهم ويقال إلتبست عليكم هذه النعمة وهذه البينة التي هي من الله تعالى فلم تبصروها ولم تعرفوها قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " فعميت " بضم العين وتشديد الميم على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون(2/146)
147
بنصب العين والتخفيف ومعناه واحد يعني فخفيت عليكم هذه النعمة والرحمة واتفقوا في سورة القصص " فعميت عليهم الأنباء " [ القصص : 66 ] بالنصب
ثم قال " أنلزمكموها وأنتم لها كارهون " يعني نعرفكموها وأنتم للنبوة كارهون قال قتادة أما والله لو إستطاع نبي الله لألزمها قومه ولكن لم يملك ذلك ويقال أفأريكموها يعني أنفهمكموها " وأنتم لها كارهون " أي منكرون ويقال أنحملكموها أي معرفتها ويقال أنعلمكموها وأنتم تكذبونني ولا تناظرونني في ذلك
ثم أخبرهم عن شفقته وقلة طمعه في أموالهم فقال " ويا قوم لا أسألكم عليه مالا " يعني لا أطلب منكم على الإيمان أجرا يعني رزقا ولا جعلا " إن أجري إلا على الله " يعني ما ثوابي إلا على الله " وما أنا بطارد الذين آمنوا " لأنهم طلبوا منه أن يطرد من عنده من الفقراء والضعفاء فقال " إنهم ملاقو ربهم " فيجزيهم بأعمالهم ويقال " إنهم ملاقو ربهم " فيشكونني إلى الله تعالى إن لم أقبل منهم الإيمان وأطردهم " ولكني أراكم قوما تجهلون " ما أمرتكم به وما جئتكم به
سورة هود 30 - 35
ثم قال تعالى " ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم " يعني لو طردتهم فيعذبني الله بذلك فمن يمنعني من عذاب الله إن طردتهم عن مجلسي " أفلا تذكرون " أي أفلا تتعظون ولا تفهمون أن من آمن بالله لا يطرد
ثم قال " ولا أقول لكم عندي خزائن الله " يعني مفاتيح الله في الرزق " ولا أعلم الغيب " أن الله يهديكم أم لا ويقال " ولا أعلم الغيب " يعني علم ما غاب عني " ولا أقول إني ملك " من الملائكة " ولا أقول للذين تزدري أعينكم " يعني تحتقر أعينكم من السفلة " لن يؤتيهم الله خيرا " يعني لا أقول إن الله تعالى لا يكرمهم بالإيمان ولا يهدي من
هو حقير في أعينكم ولكن الله يهدي من يشاء(2/147)
148
ثم قال " الله أعلم بما في أنفسهم " يعني بما في قلوبهم من التصديق والمعرفة " إني إذا لمن الظالمين " يعني إن طردتهم فلم أقبل منهم الإيمان بسبب إحتقاركم إياهم ما لم أعلم ما في قلوبهم كنت ظالما على نفسي
فعجز قومه عن جوابه " قالوا يا نوح قد جادلتنا " قال مقاتل يعني ماريتنا " فأكثرت جدالنا " يعني مرآءنا وقال الكلبي دعوتنا فأكثرت دعاءنا ويقال وعظتنا فأكثرت موعظتنا " فأتنا بما تعدنا " يعني لا نقبل موعظتك فأتنا بما تعدنا من العذاب " إن كنت من الصادقين " بأن العذاب نازل بنا
" قال " لهم نوح " إنما يأتيكم به الله إن شاء " إن شاء يعذبكم وإن شاء يصرفه عنكم " وما أنتم بمعجزين " يعني إن أراد أن يعذبكم لا تفوتون من عذابه
ثم قال " ولا ينفعكم نصحي " يعني دعائي وتحذيري ونصيحتي " إن أردت أن أنصح لكم " يعني إن أردت أن أدعوكم من الشرك إلى التوحيد والتوبة والإيمان " إن كان الله يريد أن يغويكم " يعني لا تنفعكم دعوتي إن أراد الله أن يضلكم عن الهدى ويترككم على الضلالة ويهلككم " هو ربكم " يعني هو أولى بكم ويقال هو ربكم رب واحد ليس له شريك " وإليه ترجعون " يعني بعد الموت فيجزيكم بأعمالكم
ثم قال تعالى " أم يقولون إفتراه " قال مقاتل هذا الخطاب لأهل مكة معناه أتقولون إن محمدا تقوله من ذات نفسه " قل " لهم " إن إفتريته " من ذات نفسي " فعلي إجرامي " يعني خطيئتي " وأنا بريء مما تجرمون " يعني من خطاياكم وقال الكلبي هذا الخطاب أيضا لقوم نوح يعني قوم نوح " أم يقولون إفتراه " يعني إختلقه من ذات نفسه فقال لهم نوح " إن إفتريته فعلي إجرامي " يعني آثامي " وأنا بريء مما تجرمون " يعني مما تأثمون
سورة هود 36 - 37
قوله تعالى " وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " قال الحسن إن نوحا عليه السلام لم يدع على قومه حتى نزلت هذه الآية " إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " فدعا عليهم عند ذلك " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا " [ نوح : 26 ]
ثم قال تعالى " فلا تبتئس بما كانوا يفعلون " من الكفر وذلك أن نوحا ندم على دعائه وجعل يبكي ويتأسف عليهم فقال الله تعالى " فلا تبتئس بما كانوا يفعلون " يعني لا يحزنك إذا نزل بهم الغرق بما كانوا يفعلون من الكفر
ثم قال تعالى " واصنع الفلك بأعيننا ووحينا " يقول إعمل السفينة ويقال للواحد وللجماعة الفلك " بأعيننا " قال الكلبي يعني بمنظر منا " ووحينا " يعني بوحينا إليك(2/148)
149
وقال مقاتل يعني بتعليمنا وأمرنا " ولا تخاطبني في الذين ظلموا " يعني فلا تراجعني في قومك ولا تدعني بصرف هذا العذاب عنهم " إنهم مغرقون " بالطوفان ويقال " ولا تخاطبني في الذين ظلموا " يعني إبنه كنعان
وقال عكرمة كان طول سفينة نوح ثلاثمائة ذراع وعمقها في الماء ثلاثون ذراعا وعرضها خمسون ذراعا وقال الحسن كان طول سفينة نوح ألف ومائتا ذراع وعمقها في الماء ثلاثون ذراعا وعرضها ستمائة ذراع وقال إبن عباس كان طول سفينة نوح ثلاثمائة وطولها في الماء ثلاثون ذراعا وعرضها خمسون ذراعا
وقال القتبي قرأت في التوراة إن الله تعالى أوحى إلى نوح أن أصنع الفلك وليكن طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعا وإرتفاعها ثلاثون ذراعا وليكن بابها في عرضها وادخل أنت في الفلك وإمرأتك وبنوك ونساء بنيك ومن كل زوجين من الحيوان ذكرانا وإناثا فإني منزل المطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة فأتلف كل شيء خلقته على الأرض فأرسل الله تعالى ماء الطوفان على الأرض في سنة ستمائة من عمر نوح عليه السلام ولبث في الماء مائة وخمسين يوما وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة وروي عن وهب بن منبه أنه قال مكث نوح ينجر السفينة مائة سنة فلما فرغ من عملها أمره الله تعالى أن يحمل فيها من كل زوجين إثنين من كل حيوان فحمل فيها إمرأته وبنيه ونساءهم فركب فيها لسبع عشرة ليلة خلت من صفر فمكث في الماء سبعة أشهر لم يقر لها قرار فأرسيت على الجودي خمسة أشهر فأرسل الغراب لينظر كم بقي من الماء فمكث على جيفة فغضب عليه نوح ولعنه ثم أرسل الحمامة فوقعت في الماء فبلغ الماء قدر حمرة رجليها فجاءت فأرته فبارك عليها نوح
سورة هود 38 - 40
قوله تعالى " ويصنع الفلك " يعني ينحت السفينة ويقال إن الله تعالى أمره بأن يغرس الأشجار فغرسها حتى أدركت وقطعها حتى يبست ثم إتخذ منها السفينة فاستأجر أجراء ينحتون معه " وكلما مر عليه ملأ من قومه " يعني الأشراف من قومه " سخروا منه " يعني إستهزؤوا به وكانوا يقولون إن الذي يزعم أنه نبي صار نجارا ومرة كانوا يقولون أتجعل(2/149)
150
للماء إكافا فأين الماء " قال " لهم نوح " إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم " يعني إن تسخروا منا اليوم فإنا نسخر منكم بعد الهلاك يعني يصيبكم جزاء السخرية " كما تسخرون " منا يعني بما تسخرون ويقال إن تستجهلوا بنا بهذا الفعل فإنا نستجهلكم بترك الإيمان كما تستجهلوننا " فسوف تعلمون " يعني تعرفون بعد هذا من أحق بالسخرية وهذا وعيد لهم " فسوف تعلمون " يعني تعرفون " من يأتيه عذاب يخزيه " يعني يهلكه ويذله " ويحل عليه عذاب مقيم " يعني ينزل عليه عذاب دائم لا ينقطع عنه أبدا
قوله تعالى " حتى إذا جاء أمرنا " يعني قولنا بالعذاب ويقال حتما إذا جاء عذابنا وهو الغرق " وفار التنور " يعني نبع الماء من أسفل التنور وقال مقاتل التنور الذي يخبز فيه في أقصى ديار بالشام وقال إبن عباس " وفار التنور " يعني نبع الماء من وجه الأرض وقال علي بن أبي طالب " وفار التنور " يعني طلوع الفجر أي تنور الصبح يعني إذا طلع الفجر كان وقت الهلاك وروي عن علي رضي الله عنه أيضا أنه قال فار منه التنور وجرت منه السفينة إلى مسجد بالكوفة " قلنا إحمل فيها " يعني في السفينة " من كل زوجين إثنين " يعني من كل صنفين " وأهلك " يعني واحمل أهلك فيها معك " إلا من سبق عليه القول " بالغرق يعني سوى من قدرت عليه الشقاوة والكفر فلا تحمله يعني إمرأته الكافرة وإبنه كنعان " ومن آمن " يعني واحمل في السفينة من آمن معك
قال الفقيه أخبرني الثقة بإسناده عن وهب بن منبه قال أمر نوح بأن يحمل من كل زوجين إثنين فقال رب كيف أصنع بالأسد والبقرة وكيف أصنع بالذئب والعناق وكيف أصنع بالحمام والهرة قال يا نوح من ألقى بينهم العداوة قال أنت يا رب قال فإني أؤلف بينهم حتى يتراضوا
قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الماسرخسي قال حدثنا إسحاق قال حدثنا قبيصة بن عقبة قال حدثنا سفيان عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن إبن عباس قال كثر الفأر في السفينة حتى خافوا على حبال السفينة فأوحى الله تعالى إلى نوح أن إمسح عن جبهة الأسد فمسحها فعطس فخرج منها سنوران فأكلا الفئران وكثرت العذرة في السفينة فشكوا إلى نوح فأوحى الله تعالى إلى نوح إن إمسح ذنب الفيل فمسحه فخرج خنزير فأكل العذرة وفي خبر آخر فخرج منه خنزيران فأكلا العذرة قال الفقيه أبو الليث رحمه الله وفي خبر وهب بن منبه دليل أن الهرة كانت من قبل وفي هذا الخبر أن الهرة لم تكن من قبل والله أعلم بالصواب منهما
وروي عن إبن عباس أنه قال لما فار الماء من التنور فأرسل الله تعالى من السماء مطرا(2/150)
151
شديدا فأقبلت الوحوش حين أصابتها المطر إلى نوح وسخرت له فحمل في السفينة من كل طير زوجين ومن كل دابة زوجين ومن كل بهيمة زوجين ومن كل سبع زوجين يعني الذكر والأنثى فقال نوح رب هذه الحية والعقرب كيف أصنع بهما فبعث الله تعالى جبريل فقطع فقار العقرب وضرب فم الحية وكان نوح عليه السلام جعل للسفينة ثلاثة أبواب بعضها أسفل من بعض فجعل في الباب الأسفل السباع والهوام وجعل في الباب الأوسط البهائم والوحوش وجعل في الباب الأعلى بني آدم من ذكر منهم فذلك قوله تعالى " وما آمن معه إلا قليل " قال إبن عباس هم ثمانون إنسانا وقال الأعمش في قوله " وما آمن معه إلا قليل " قال كان نوح وثلاثة بنين ونساؤهم وقال مقاتل كانوا أربعين رجلا وأربعين إمرأة قرأ عاصم في رواية حفص " من كل " بالتنوين يعني من كل شيء ثم قال " زوجين " على وجه التفسير للكل وقرأ الباقون " من كل زوجين " بغير تنوين على معنى الإضافة
سورة هود 41 - 42
قوله تعالى " وقال إركبوا فيها " يعني إدخلوا في السفينة ويقال إلجؤوا فيها من الغرق " بسم الله مجراها " يعني إذا ركبتموها فقولوا " بسم الله مجراها ومرساها " قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " بسم الله مجريها " بنصب الميم وهكذا قرأ إبن مسعود والأعمش وقرأ الباقون بضم الميم واتفقوا في " مرساها " أنها بضم الميم إلا أن حمزة والكسائي قرأ بالإمالة فأما من قرأها بضم الميم فيكون بمعنى المصدر ومعناه يعني إجراؤها إرساؤها بأمر الله تعالى وهذا قول الفراء ويقال معناه بسم الله من حيث تجري وتحبس ومن قرأ بالنصب فمعناه بسم الله جريها وحبسها يعني بأمر الله تعالى " إن ربي لغفور رحيم " بالمؤمنين
قوله تعالى " وهي تجري بهم في موج " يعني السفينة تجري بهم في أمواج " كالجبال ونادى نوح إبنه " كنعان وقرأ بعضهم " ونادى إبنها " يعني إبن إمرأته ولم يكن إبنه حقيقة وقرأ بعضهم " ونادى نوح إبنه " بضم الألف وهي بلغة طيء ويقال إنه لم يكن إبنه ولكن كان إبن إمرأته وقراءة العامة " ونادى نوح إبنه " قالوا " وكان " إبن نوح " في معزل " يعني في ناحية من السفينة ويقال من الجبل " يا بني إركب معنا " يعني أسلم واركب في السفينة معنا " ولا تكن مع الكافرين " يعني لا تثبت على الكفر وتتخلف مع الكافرين قرأ عاصم " يا بني إركب " بنصب الياء قرأ الباقون " يا بني إركب " بالكسر وقال أبو عبيدة(2/151)
152
القراءة عندنا بالكسر للإضافة إلى نفسه كما إتفقوا في قوله " يابني لا تقصص رءياك " [ يوسف : 5 ] وفي لقمان " يابني إنها " [ لقمان : 16 ] وإنما فرق عاصم فيهما لمكان يرى الألف الحقيقية التي في قوله " إركب "
سورة هود 43 - 44
" قال سآوي " يعني قال ابنه سأصعد " إلى جبل يعصمني من الماء " يعني يمنعني من الغرق ولا أؤمن ولا أركب السفينة " قال " نوح " لا عاصم اليوم من أمر الله " يقول لا مانع اليوم من عذاب الله أي الغرق لا جبل ولا غيره " إلا من رحم " يعني إلا من آمن فعصمه تعالى
ثم قال " وحال بينهما الموج " يعني فرق بين كنعان وبين الجبل الموج وهذا قول الكلبي وقال مقاتل " وحال بينهما " يعني بين نوح وإبنه الموج " فكان من المغرقين " يعني فصار من المغرقين
وروي عن إبن عباس أنه أمطرت السماء أربعين يوما وخرج ماء الأرض أربعين يوما الليل والنهار فذلك قوله تعالى " ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر " [ القمر : 11 - 12 ] وارتفع الماء على كل جبل في الأرض خمسة عشر ذراعا وروي عن الحسن أنه قال إرتفع الماء فوق كل جبل وكل شيء ثلاثين ذراعا وسارت بهم السفينة فطافت بهم الأرض كلها في خمسة أشهر ما استقرت على شيء حتى أتت الحرم فلم تدخله ودارت بالحرم أسبوعا ورفع البيت الذي بناه آدم إلى السماء السادسة وهو البيت المعمور وجعل الحجر الأسود على أبي قبيس ويقال أودع فيه ثم ذهبت السفينة في الأرض حتى إنتهت بهم إلى الجودي وهو جبل بأرض الموصل فاستقرت عليه بعد خمسة أشهر
قال إبن عباس ركب نوح السفينة لعشر مضين من رجب وخرج منها يوم عاشوراء فذلك ستة أشهر فلما إستقرت على الجودي كشف نوح الطبق الذي فيه الطير فبعث الغراب ليأتيه بالخبر فأبصر جيفة فوقع عليها فأبطأ على نوح فلم يأته ثم أرسل الحدأة على أثره فأبطأت عليه ثم أرسل بالحمامة فلم تجد في الأرض موضعا فجاءت بورق الزيتون فعرف نوح أن الماء قد نقص فظهرت الأشجار ثم أرسلها فوقعت على الأرض فغابت رجلاها في الطين فجاءت إلى نوح فعرف أن الأرض قد ظهرت وذلك قوله تعالى " وقيل يا أرض إبلعي ماءك " معناه ماءك الذي خرج منك " ويا سماء أقلعي " يعني إحبسي وأمسكي " وغيض الماء " يعني نقص الماء وظهرت الجبال والأرض " وقضي الأمر " يعني فرغ من الأمر(2/152)
153
ومعناه نجا من نجا وهلك من هلك " واستوت على الجودي " يعني إستقرت السفينة على الجودي
وروي في الخبر أن الله تعالى أوحى إلى الجبال أني أنزل السفينة على جبل فتشامخت الجبال وتواضع الجودي لله تعالى فأرسيت عليه السفينة وقال الحكيم خرج قوس قزح بعد الطوفان أمانا لأهل الأرض من الغرق أن يغرقوا جميعا " وقيل بعدا للقوم الظالمين " يعني سحقا ونكسا للقوم الكافرين وهو البعد من رحمة الله
سورة هود 45 - 47
قوله تعالى " ونادى نوح ربه فقال رب إن إبني من أهلي " فإنك قد وعدتني أن تنجيهم من العذاب " وإن وعدك الحق " يعني أنت الصادق في وعدك " وأنت أحكم الحاكمين " يعني أعدل العادلين " قال " الله تعالى " يا نوح إنه ليس من أهلك " الذي وعدتك أن أنجيهم وروي عن الحسن أنه قال إنه تخلف لأنه لم يكن إبن نوح
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال كنت عند الحسن قال " ونادى نوح إبنه " فقال لعمر الله ما هو إبنه قلت يا أبا سعيد يقول الله تعالى " ونادى نوح إبنه " وأنت تقول هو ليس بإبنه قال أفرأيت قوله " إنه ليس من أهلك " الذي وعدتك أن أنجيهم ولا يختلف أهل الكتاب أنه إبنه قال إن أهل الكتاب يكذبون
وروي عن إبن عباس ومجاهد وعكرمة أنه إبنه غير أنه خالفه في العمل وقال بعض الحكماء إن الإبن إذا لم يفعل ما يفعل الأب إنقطع عنه والأمة إذا لم يفعلوا ما فعل نبيهم أخاف أن ينقطعوا عنه
ثم قال " إنه عمل غير صالح " قرأ الكسائي " إنه عمل غير صالح " بكسر الميم ونصب الراء " وغير صالح " بنصب الراء وروت أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ هكذا ومعناه إن إبنك عمل عمل المشركين ولم يعمل عمل المؤمنين وقرأ الباقون " عمل غير " بالتنوين والضم " غير صالح " بضم الراء ومعناه إن سؤالك ودعاءك لإبنك الكافر عمل غير صالح " فلا تسألن ما ليس لك به علم " يعني بيانا وقرأ أهل الكوفة " فلا تسألن " بتخفيف النون بغير ياء لأن الكسر يقوم مقام الياء وروي عن أبي عبيدة أنه قال رأيت في مصحف عثمان هكذا(2/153)
154
وقرأ أبو عمرو " فلا تسألني " بإثبات الياء بغير تشديد وهو الأصل في اللغة وقرأ إبن كثير " فلا تسألن " بنصب النون والتشديد بغير ياء ويكون معناه التأكيد في النهي وقرأ إبن عامر ونافع في رواية قالون " فلا تسألن " بالكسر بغير ياء مع التشديد وقرأ نافع في رواية ورش " فلا تسألني " بالياء مع التشديد
ثم قال " إني أعظك " أي أنهاك " أن تكون من الجاهلين " يعني ممن يترك أمري ويقال من المكذبين بقدرة الله تعالى وقضائه " قال " نوح عليه السلام " رب إني أعوذ بك " يعني أعتصم وأمتنع بك " أن أسألك ما ليس لي به علم " يعني إحفظني بعد اليوم لكيلا أسألك ما ليس به علم " وإلا تغفر لي وترحمني " يعني إن لم تغفر لي ولم ترحمني " أكن من الخاسرين " أي أكن من المغبونين
سورة هود 48
قوله تعالى " قيل يا نوح إهبط بسلام منا " يعني إنزل من السفينة مسلما من عذابنا وغرقنا ويقال بسلامي عليك كما قال " سلام على نوح في العالمين " [ الصافات : 79 ] " وبركات " يعني وسعادات " عليك وعلى أمم ممن معك " يعني الذين كانوا معه في السفينة " وأمم سنمتعهم " يعني من كان من أهل الشقاء سنمتعهم في الدنيا " ثم يمسهم " يعني يصيبهم " منا عذاب أليم " في الآخرة وقال مقاتل إهبط من السفينة بسلام منا فسلمه الله ومن معه من الغرق " وبركات عليك وعلى أمم ممن معك " يعني بالبركة أنهم توالدوا وكثروا " وأمم سنمتعهم " وهم قوم هود وشعيب ولوط
وقال محمد بن كعب القرظي في قوله " إهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمعتهم ثم يمسهم منا عذاب أليم " قال دخل في السلام والبركة كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ودخل في المتاع والعذاب كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة ويقال إنهم لما خرجوا من السفينة بنوا مدينة وسموها مدينة الثمانين ويقال ماتوا كلهم ولم يكن منهم نسل إلا من أولاد نوح عليه السلام وكان له ثلاثة بنين سام وحام ويافث سوى الذي غرق كما قال في موضع آخر " وجعلنا ذريته هم الباقين " [ الصافات : 77 ]
سورة هود 49
قوله تعالى " تلك من أنباء الغيب " يعني ما سبق من ذكر نوح وقومه يعني من أخبار الغيب يعني أحاديث ما غاب عنك فكان في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن قصته دلالة نبوته لأنه لا(2/154)
155
يعرف ذلك إلا بالوحي " نوحيها إليك " يعني أخبار الغيب ينزل بها عليك جبريل " ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا " يعني القرآن " فاصبر " يعني إن لم يصدقوك فاصبر على تكذيبهم " إن العاقبة للمتقين " يعني آخر الأمر للموحدين الذين يتقون الشرك والفواحش
سورة هود 50 - 52
قوله تعالى " وإلى عاد " يعني أرسلنا إلى عاد " أخاهم " نبيهم " هودا قال يا قوم إعبدوا الله " يعني وحدوا الله " ما لكم من إله غيره " يعني ليس لكم رب سواه " إن أنتم إلا مفترون " يعني ما أنتم إلا تكذبون في مقالتكم بأن لله شريكا
قوله تعالى " يا قوم لا أسألكم عليه " أي لا أسألكم على الإيمان " أجرا " يعني جعلا ورشوة ومعناه لست بطامع في أموالكم " إن أجري " يعني ما ثوابي " إلا على الذي فطرني " يعني خلقني " أفلا تعقلون " أن الذي خلقكم هو ربكم وهو أحق بعبادتكم من غيره
ثم قال " ويا قوم إستغفروا ربكم " قال الضحاك يعني وحدوا ربكم وقال الكلبي يعني صلوا لربكم ويقال معناه قولوا ربنا إغفر لنا ذنوبنا " ثم توبوا إليه " يعني توبوا إليه من شرككم " يرسل السماء عليكم مدرارا " يعني إن تبتم يغفر لكم ذنوبكم ويرسل عليكم المطر متتابعا دائما كلما تحتاجون إليه " ويزدكم قوة إلى قوتكم " يعني شدة مع شدتكم بالماء والولد ويقال صحة الجسم وطول العمر " ولا تتولوا مجرمين " يقول لا تعرضوا كافرين ويقال لا تعرضوا عما أدعوكم إليه من الإيمان والتوحيد وتثبتوا على الشرك
سورة هود 53 - 56
قال له قومه " قالوا يا هود ما جئتنا ببينة " يقولون لم تأتنا بحجة وبيان " وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك " يقول لا نترك عبادة آلهتنا بقولك " وما نحن لك بمؤمنين " يعني لا(2/155)
156
نصدقك بأنك رسول الله " إن نقول إلا إعتراك " يعني ما نقول إلا أصابك " بعض آلهتنا بسوء " يعني إعتراك من بعض الأوثان الخبل والجنون فاجتنبها سالما ويقال أن نقول لك إلا نصيحة كيلا يصيبك بعض آلهتنا بشدة فرد عليهم هود عليه السلام ف " قال إني أشهد الله واشهدوا " أنتم " أني بريء مما تشركون من دونه " من الأوثان " فكيدوني جميعا " يعني إعملوا بي أنتم وآلهتكم ما استطعتم واحتالوا في هلاكي " ثم لا تنظرون " أي لا تمهلون
ثم قال " إني توكلت على الله " يعني فوضت أمري إلى الله " ربي وربكم " يعني خالقي وخالقكم ورازقي ورازقكم " ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها " يعني هو قادر عليها يحييها ويميتها وهو يرزقها وهي في ملكة وسلطانه
ثم قال " إن ربي على صراط مستقيم " يعني على الحق فإن كان هو قادرا على كل شيء فإنه لا يشاء إلا العدل وقال مجاهد " إن ربي على صراط مستقيم " يعني على الحق ويقال " على صراط مستقيم " يعني بيده الهداية وهو يهدي إلى صراط مستقيم وهو دين الإسلام ويقال يدعوكم إلى طريق الإسلام ويقال معناه أمرني ربي أن أدعوكم إلى صراط مستقيم
سورة هود 57
" فإن تولوا " يعني إن تتولوا ومعناه إن أعرضتم عن الإيمان فلم تؤمنوا وهذا كقوله " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم " [ محمد : 38 ] ثم قال " فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم " يعني إن تتولوا فأنا معذور لأني قد أبلغتكم الرسالة " ويستخلف ربي قوما غيركم " إن شاء ويقال قد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم من التوحيد ونزول العذاب في الدنيا " ويستخلف ربي " بعد هلاككم " قوما غيركم " يعني خيرا منكم وأطوع لله تعالى " ولا تضرونه شيئا " يعني إن لم تؤمنوا به فلا تنقصون من ملكه شيئا ويقال إهلاككم لا ينقصه شيئا " إن ربي على كل شيء حفيظ " يعني حافظا لا يغيب عنه شيء ويقال معناه حفظ كل شيء عليه
سورة هود 58 - 60(2/156)
157
ثم قال " ولما جاء أمرنا " يعني عذابنا وهو الريح العقيم " نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا " يعني بنعمة منا " ونجيناهم من عذاب غليظ " يعني من العذاب الذي عذب به عاد في الدنيا ومما يعذبون به في الآخرة
قال تعالى " وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم " يعني كذبوا بعذاب ربهم أنه غير نازل بهم ومعناه يا أهل مكة أنظروا إلى حالهم كيف عذبوا في الدنيا وفي الآخرة وهذا كقوله تعالى " فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا " [ النمل : 52 ] فكذلك ها هنا " وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم " بين جرمهم ثم بين عقوبتهم فقال " وعصوا رسله " يعني عادا خاصة ويقال معناه كذبوا هودا بما أخبرهم عن الرسل وقيل إنما جمع لأن من كذب رسولا واحدا فقد كذب جميع الرسل " واتبعوا أمر كل جبار عنيد " يعني عملوا بقول كل جبار ويقال أخذوا بدين كل جبار والجبار الذي يضرب ويقتل عند الغضب " عنيد " يعني معرضا ومجانبا عن الحق
ثم بين عقوبتهم فقال " واتبعوا " يعني ألحقوا " في هذه الدنيا لعنة " يعني العذاب والهلاك وهو الريح العقيم " ويوم القيامة " لعنة أخرى وهو عذاب النار إلى الأبد " ألا إن عادا كفروا ربهم " فهذا تنبيه للكفار أن عادا كفروا ربهم فأهلكهم الله تعالى فاحذروا كيلا يصيبكم بكفركم ما أصابهم بكفرهم ويقال " ألا إن عادا كفروا ربهم " يعني ينادي مناد يوم القيامة لإظهار حالهم " ألا إن عادا كفروا ربهم " وقال الضحاك ترفع لهم راية الغدر يوم القيامة فينادي مناد يوم القيامة هذه غدرة قوم عاد فيلعنهم الملائكة وجميع الخلق فذلك قوله تعالى " ألا بعدا " يعني خزيا وسحقا " لعاد قوم هود "
سورة هود 61 - 63
قوله تعالى " وإلى ثمود أخاهم صالحا " يعني وأرسلنا إلى ثمود وإنما لم ينصرف لأنه إسم القبيلة وفي الموضع الذي ينصرف جعله إسما للقوم " قال يا قوم إعبدوا الله " أي وحدوا الله وأطيعوه " ما لكم من إله غيره " يعني ليس لكم رب غيره " هو أنشأكم " يعني هو الذي خلقكم " من الأرض " يعني خلق آدم من أديم الأرض وأنتم ولده " واستعمركم فيها " يعني أسكنكم وأنزلكم فيها وأصله أعمركم يقال أعمرته الدار إذا جعلتها له أبدا(2/157)
158
وهي العمرى وقال مجاهد " واستعمركم " يعني أطال عمركم فيها ( فاستغفروه ثم توبوا إليه ) يعني توبوا من شرككم " إن ربي قريب مجيب " يعني قريبا ممن دعاه مجيبا بالإجابة لمن دعاه من أهل طاعته
قوله تعالى " قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا " يعني كنا نرجو أن ترجع إلى ديننا قبل أن تدعونا إلى دين غير دين آبائنا " أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب " يعني يريبنا أمرك ودعاؤك إيانا إلى هذا الدين ومعناه إنا مريبون في أمرك
" قال " لهم صالح " يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي " يقول أخبروني إن كنت على بيان وحجة ودين أتاني من ربي " وآتاني منه رحمة " يقول أكرمني الله تعالى بالإسلام والنبوة أيجوز لي أن أترك أمره ولا أدعوكم إلى الله وإلى دينه " فمن ينصرني من الله إن عصيته " يقول فمن يمنعني من عذاب الله إن رجعت إلى دينكم وتركت دين الله تعالى " فما تزيدونني غير تخسير " يقول ما تزيدونني في مقالتكم إلا بصيرة في خسارتكم ويقال معناه فما تزيدونني غير تكذيب لأن التكذيب سبب لخسارتهم ويقال معناه فما تزيدونني إن تركت ما أوجب الله علي من الدعوة غير تخسير لأن العذاب إذا نزل بي لا تقدرون على منعه عني
سورة هود 64 - 68
ثم قال تعالى " ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن صالحا لما دعا قومه إلى الإسلام كذبوه فضاق صدره فسأل ربه أن يأذن له بالخروج من عندهم فإذن له فخرج وانتهى إلى ساحل البحر فإذا رجل يمشي على الماء فقال له صالح ويحك من أنت فقال أنا من عباد الله قال كنت في سفينة كان قومها كفرة غيري فأهلكهم الله تعالى ونجاني منهم فخرجت إلى جزيرة أتعبد هناك فأخرج أحيانا وأطلب شيئا من رزق الله تعالى ثم أرجع إلى مكاني
فمضى صالح وانتهى إلى تل عظيم فرأى رجلا يتعبد هناك فانتهى إليه وسلم عليه فرد عليه السلام فقال له صالح من أنت قال كانت ها هنا قرية كان أهلها كفارا غيري(2/158)
159
فأهلكهم الله تعالى ونجاني منهم فجعلت على نفسي أن أعبد الله تعالى ها هنا إلى أن أموت وقد أنبت الله تعالى لي شجرة رمان وأظهر لي عين ماء فآكل من الرمان وأشرب من ماء العين وأتوضأ منه
فذهب صالح وانتهى إلى قرية كان أهلها كفارا كلهم غير أخوين مسلمين يعملان عمل الخوص فضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلا قال لو أن مؤمنا دخل قرية فيها ألف رجل كلهم كفار وفيها مؤمن واحد فلا يسكن قلبه مع أحد حتى يجد المؤمن ولو أن منافقا دخل قرية فيها ألف رجل مؤمن ومنافق واحد فلا يسكن قلب المنافق مع أحد ما لم يجد المنافق
فدخل صالح فانتهى إلى الأخوين ومكث عندهما أياما وسألهما عن حالهما فأخبراه أنهما يصبران على إيذاء المشركين وأنهما يعملان عمل الخوص ويمسكان قوتهما ويتصدقان بالفضل فقال صالح الحمد لله الذي أراني في الأرض من عباده الصالحين الذين صبروا على أذى الكفار فأنا أرجع إلى قومي وأصبر على أذاهم فرجع إليهم وقد كانوا خرجوا إلى عيد لهم فدعاهم إلى الإيمان فسألوا منه أن يخرج لهم ناقة من الصخرة فدعا الله تعالى فأخرج لهم ناقة عشراء فذلك قوله " ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية " أي علامة وعبرة " فذروها تأكل في أرض الله " يعني في أرض الحجر " ولا تمسوها بسوء " يعني لا تعقروها " فيأخذكم " يعني يصيبكم " عذاب قريب "
فولدت الناقة ولدا وكانت لهم بئر واحدة عذبة قال إبن عباس كان للناقة شرب يوم لا يقربونها ولهم شرب يوم وهي لا تحضره وكانوا يستقون الماء في يومهم ما يكفيهم للغد فيقتسمونه فيما بينهم فإذا كان يوم شربها كانت ترتع في الوادي ثم تجيء إلى البئر فتبرك فتدلي رأسها في البئر فتشرب منها ثم تعود فترعى ثم تعود إلى البئر فتشرب منها فتفعل ذلك نهارها كله
وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون منهم قذار بن سالف ومصدع بن دهر وكانت في تلك القرية إمرأة جميلة غنية وكانت تتأذى بالناقة لأجل سائمتها فقالت من عقر الناقة أزوج نفسي منه فخرج قذار بن سالف ومصدع بن دهر وكمن لها مصدع في مضيق من ممرها ورماها بسهم فأصاب رجلها فمرت بقدار وهي تجر رجلها فضربها بالسيف فعقرها وقسموا لحمها على جميع أهل القرية وكان في القرية تسعمائة أهل بيت ويقال ألف وخمسمائة فذلك قوله " فعقروها فقال " لهم صالح " تمتعوا في داركم " يعني عيشوا وانتفعوا في داركم " ثلاثة أيام " ثم يأتيكم العذاب " ذلك وعد غير مكذوب " فقالوا له ما العلامة في ذلك قال أن تصبحوا في اليوم الأول وجوهكم مصفرة وفي اليوم الثاني محمرة وفي اليوم الثالث مسودة ثم خرج صالح من بينهم
قوله تعالى " فلما جاء أمرنا " يعني عذابنا " نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة
منا "(2/159)
160
يعني بنعمة منا " ومن خزي يومئذ " يعني من عذاب يومئذ قرأ نافع والكسائي " ومن خزي يومئذ " بنصب الميم لأنها إضافة إلى إسم غير متمكن فيجوز النصب وقرأ الباقون " يومئذ " بكسر الميم على معنى الإضافة " إن ربك هو القوي العزيز " أخبر الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم أنه قادر في أخذه المنيع ممن عصاه
ثم قال تعالى " وأخذ الذين ظلموا الصيحة " يعني كفروا صيحة جبريل صاح صيحة فماتوا كلهم " فأصبحوا في ديارهم جاثمين " يعني صاروا خامدين ميتين " كأن لم يغنوا فيها " يعني صاروا كأن لم يكونوا في الدنيا ويقال كأن لم ينزلوا في ديارهم ولم يكونوا
" ألا إن ثمودا كفروا ربهم " يعني جحدوا وحدانية ربهم فهذا تنبيه وتخويف لمن بعدهم " ألا بعدا لثمود " يعني خزيا وسحقا لثمود في الهلاك قرأ الكسائي " ألا بعدا لثمود " بكسر الدال مع التنوين وجعله إسما للقوم فلذلك جعله منصرفا وقرأ الباقون بنصب الدال لأنه إسم القبيلة وإنما يجري في قوله " إلا إن ثمودا " إتباعا للكتابة في مصحف الإمام وأما الكسائي فأجراه لقربه من قوله " إلا إن ثمودا كفروا ربهم " أي جحدوا بوحدانية ربهم
سورة هود 69 - 73
قوله تعالى " ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى " يعني ببشارة الولد وذلك أن مدينة يقال لها سدوما ويقال سدوم وكانت بلدة فيها من السعة والخير ما لم يكن في سائر البلدان وكان الغرباء يحضرون من سائر البلدان في أيام الصيف ويجمعون من فضل ثمارهم مما كان خارجا من الكروم والحدائق فجاء إبليس عليه اللعنة فشبه نفسه بغلام أمرد وجعل يدخل كرومهم وحدائقهم ويروادهم إلى نفسه حتى أظهر فيهم الفاحشة وجاء إلى نسائهم وقال إن الرجال قد إستغنوا عنكن فعلمهن أن يستغنين عن الرجال حتى إستغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء فأوحى الله تعالى إلى لوط ليدعوهم إلى الإيمان ويمتنعوا عن الفواحش فلم يمتنعوا فبعث الله جبريل ومعه أحد عشر من الملائكة بإهلاكهم فجاؤوا إلى إبراهيم كهيئة الغلمان فدخلوا على إبراهيم فنظر فرأى إثني عشر غلاما أمرد ويقال كانوا(2/160)
161
ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل ويقال كانوا أربعة فسلموا عليه " قالوا سلاما قال " إبراهيم " سلام " يعني رد عليهم السلام
قرأ إبن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وإبن عامر " قالوا سلاما قال سلام " كلاهما سلام إلا أن الأول صار نصبا لوقوع الفعل عليه والآخر رفعا بالحكاية ومعناه قال قولا فيه سلام وقرأ حمزة والكسائي " قالوا سلاما قال سلم " بكسر السين وسكون اللام يعني أمري سلم ما أريد إلا السلامة " فما لبث " يعني فما مكث " أن جاء بعجل حنيذ " قال السدي الحنيذ السمين كما قال في آية أخرى " بعجل سمين " [ الذاريات : 26 ] ويقال " حنيذ " يعني نضيج ويقال المشوي الذي يقطر منه الودك وقال أهل اللغة بأجمعهم الحنيذ المشوي بغير تنور وهو أن يتخذ له في الأرض حنذا فيلقى فيه قال مقاتل إنما جائهم بعجل لأنه كان أكثر ماله البقر فلما قربه إليهم ووضع بين أيديهم كفوا ولم يأكلوا ولم يتناولوا منه
قوله " فلما رأى " إبراهيم " أيديهم لا تصل إليه " يعني إلى الطعام ولم يمدوا أيديهم إلى الطعام " نكرهم " يقول أنكرهم " وأوجس منهم خيفة " يعني وأضمر منهم خوفا حيث لم يأكلوا من طعامه وظن أنهم لصوص وذلك أنه في ذلك الزمان إذا لم يأكل أحد من طعام إنسان يخاف عليه غائلته " قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط " بهلاكهم وقال السدي لما لم يأكلوا من الطعام قال لهم إبراهيم عليه السلام ما لكم لا تأكلون طعامي قالوا إنا قوم لا نأكل طعاما إلا بثمن فقال إبراهيم إن لطعامي ثمنا فأصيبوا منه قالوا وما ثمنه قال تذكرون إسم الله عليه في أوله وتحمدونه في آخره فقال جبريل لميكائيل حق لهذا أن يتخذه الله خليلا
قوله تعالى " وامرأته قائمة فضحكت " وفي الآية تقديم يعني بشرناها بإسحاق فضحكت سرورا ويقال ضحكت تعجبا من خوف إبراهيم ورعدته في حشمه وخدمه ولم يخف ولم يرتعد من نمرود الجبار حين قذفه في النار وهذا قول القتبي وقال عكرمة في قوله " فضحكت " يعني حاضت يقال ضحكت الأرنب إذا حاضت وغيره من المفسرين جعلها الضحك بعينه وكذلك هو في التوراة قرأت فيها أنها حين بشرت بالغلام ضحكت في نفسها وقالت من بعد ما بليت أعود شابة وقال قتادة ضحكت من أمر القوم وغفلتهم وجبريل جاءهم بالعذاب يعني قوم لوط " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " قال الشعبي الوراء ولد الولد وروى حبيب بن أبي ثابت أن رجلا دخل على إبن عباس ومعه إبن إبنه فقال له من هذا فقال إبن إبني فقال إبنك من وراء فوجد الرجل في نفسه فقرأ إبن عباس " ومن وراء إسحاق يعقوب " وقال مقاتل يعني ومن بعد إسحق يعقوب وقال أبو عبيدة الوراء ولد الولد(2/161)
162
وقرأ إبن عامر وحمزة وعاصم في رواية حفص " يعقوب " بنصب الباء وقرأ الباقون بالضم فمن قرأ بالضم فهو على معنى الإبتداء يعني ويكون من وراء إسحاق يعقوب ومن قرأ بالنصب فهو عطف على قوله " بإسحاق " فيكون في موضع خفض إلا أنه لا ينصرف
" وقالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز " يعني عقيما لم ألد قط وقد كبرت في السن " وهذا بعلي شيخا " قال الكلبي كانت سارة إبنة ثمان وتسعين سنة وكان إبراهيم إبن تسع وتسعين سنة أكبر منها بسنة وقال الضحاك كان إبراهيم إبن مائة وعشرين سنة وسارة بنت تسع وتسعين سنة " إن هذا لشيء عجيب " أي لأمر عجيب " قالوا أتعجبين من أمر الله " يعني من قدرة الله " رحمة الله وبركاته عليكم " يعني نعمته وسعادته عليكم " أهل البيت " يعني يا أهل البيت ويقال " أتعجبين " أي ألا تعلمين أن رحمة لله وبركاته عليكم أن يستخرج الأنبياء كلهم من هذا البيت وقال السدي أخذ جبريل عودا من الأرض يابسا فدلكه بين أصبعيه فإذا هو شجرة تهتز فعرفت أنه من الله تعالى ثم قال " إنه حميد " في فعاله ويقال حميد لأعمالكم " مجيد " يعني شريفا
سورة هود 74 - 76
قوله تعالى " فلما ذهب عن إبراهيم الروع " يعني الفزع من الرسل " وجاءته البشرى " بالولد " يجادلنا في قوم لوط " يعني يخاصم ويتشفع في قوم لوط وكان لوط إبن أخيه وهو لوط بن هازر بن آزر وإبراهيم بن آزر ويقال إبن عمه وسارة كانت أخت لوط فلما سمعا بهلاك قوم لوط إغتما لأجل لوط وروى معمر عن قتادة في قوله " يجادلنا في قوم لوط " قال لهم أرأيتم لو كان فيهم من المسلمين خمسون أتعذبونهم قالوا لا نعذبهم قال أربعون قالوا ولا أربعون قال ثلاثون قالوا ولا ثلاثون حتى بلغوا عشرة قال مقاتل فما زال ينقص خمسة خمسة حتى إنتهى إلى خمسة أبيات يعني لو كان فيها خمسة أبيات من المسلمين لم يعذبهم
ثم قال " إن إبراهيم لحليم أواه منيب " الأواه الذي إذا ذكر الله تعالى تأوه " منيب " أي راجع إليه بالتوبة
وقد ذكرناه في سورة التوبة ثم قال جبريل " يا إبراهيم أعرض عن هذا " يعني أترك جدالك " إنه قد جاء أمر ربك " أي عذاب ربك " وإنهم آتيهم عذاب غير مردود " يعني غير مصروف عنهم
ثم خرجوا من عند إبراهيم متوجهين إلى قوم لوط فانتهوا إليهم نصف النهار فإذا هم(2/162)
163
بجواري يستقين من الماء فأبصرتهم إبنة الوط وهي تستقي الماء فقالت لهم ما شأنكم ومن أين أقبلتم وأين تريدون قالوا أقبلنا من مكان كذا ونريد مكان كذا فأخبرتهم عن حال أهل المدينة وخبثهم فأظهروا الغم وقالوا هل أحد يضيفنا قالت ليس فيها أحد يضيفكم إلا ذلك الشيخ فأشارت إلى أبيها لوط وهو على بابه فأتوا لوطا فلا رآهم وهيئتهم ساءه ذلك فذلك قوله تعالى
سورة هود 77 - 83
قوله تعالى " ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم " يقول ساءه مجيئهم " وضاق بهم ذرعا " يعني صدره إغتماما ومخافة عليهم لا يدري أيأمرهم بالرجوع أم بالنزول " وقال هذا يوم عصيب " يعني شديد ثم قال لإمرأته ويحك قومي واخبزي ولا تعلمي أحدا وكانت إمرأته كافرة منافقة فانطلقت تطلب بعض حاجاتها وجعلت لا تدخل على أحد إلا أعلمته وتقول إن عندنا قوما من هيئتهم كذا وكذا فلما علموا بذلك جاؤوا إلى باب لوط عليه السلام فذلك قوله تعالى " وجاءه قومه يهرعون إليه " يعني يسرعون إليه وهو مشيء بين المشيتين ويقال يدفعون إليه دفعا ويقال يشتدون إليه شدا " ومن قبل كانوا يعملون السيئات " يعني من قبل أن يبعث إليهم لوط ويقال من قبل إتيان الرسل كانوا يعملون الفواحش وهي اللواطة والكفر فلما أرادوا الدخول " قال " لهم لوط " يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم " أي أحل لكم من ذلك وكان لوط يناظرهم ويقول هن أطهر لكم وكان جبريل مع أحد عشر من الملائكة وكسروا الباب فضرب أعينهم
قال الضحاك " هؤلاء بناتي " عرض عليهم بنات قومه وقال قتادة أمرهم لوط أن يتزوجوا النساء وقال " هن أطهر لكم " ولم يعرض عليهم بناته وروى سفيان عن ليث عن مجاهد قال لم يكن بناته ولكن كن من أمته وكل نبي هو أب أمته وروي عن إبن مسعود أنه كان يقرأ " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " [ الأحزاب : 6 ] وهو أب لهم وهي قراءة أبي بن(2/163)
164
كعب وهكذا قال سعيد بن جبير إنه أراد بنات أمته ويقال إن رؤساءهم كانوا خطبوا بناته وكان يأبى فقال لهم إنى أزوجكم بناتي هن أطهر لكم من الحرام وكان النكاح بين الكافر والمسلم جائزا
ثم قال تعالى " فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي " يقول لا تفضحوني في أضيافي " أليس منكم رجل رشيد " يعني مرشدا صالحا يزجركم عن هذا الأمر ويقال رجل عاقل ويقال رجل على الحق يستحي مني " قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق " يعني من حاجة يقولون ما لنا في النساء من حاجة " وإنك لتعلم ما نريد " إنما نريد الأضياف ف " قال " لوط " لو أن لي بكم قوة " يعني منعة بالولد " أو آوي إلى ركن شديد " أي أرجع إلى عشيرة كبيرة يعني لو كانت لي عشيرة ومنعة لمنعتكم مما تريدون
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال رحم الله أخي لوطا لقد أوى إلى ركن شديد يعني إن الله تعالى ناصره وروى عكرمة عن إبن عباس قال ما بعث الله نبيا بعد لوط إلا في منعة في قومه وعز ويقال لما أرادوا الدخول وضع جبريل يده على الباب فلم يقدروا على فتحه فكسروا الباب ودخلوا فامتلأت داره فمسح جبريل جناحه على وجوههم فذهبت أعينهم كما قال في آية أخرى " فطمسنا أعينهم " [ القمر : 37 ] فرجعوا وقالوا يا لوط جئت بالسحرة حتى طمسوا أعيننا والله لنهلكنك غدا فلما سمع لوط تهديدهم إياه ساءه صنيع القوم وخاف فلما رأى جبريل ما دخله " قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك " يعني لن يقدروا أن يصنعوا بك شيئا " فأسر بأهلك " يعني سر وادلج بأهلك " بقطع من الليل " قال الكلبي القطع من الليل آخر السحر وقد بقيت منه قطعة وقال السدي سألت أعرابيا عن قوله " بقطع من الليل " قال ربع الليل " ولا يلتفت منكم أحد " يعني لا يتخلف منكم أحد " إلا إمرأتك إنه مصيبها " من العذاب " ما أصابهم "
قرأ إبن كثير ونافع " فاسر " بجزم الألف وقرأ الباقون " فأسر " بقطع الألف ومعناهما واحد يقال سريت وأسريت إذا سرت بالليل وقرأ إبن كثير وأبو عمرو " إلا إمرأتك " بضم التاء وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالنصب إنصرف إلى الإسراء يعني أسر بأهلك إلا إمرأتك على معنى الإستثناء وفي قراءة إبن مسعود فاسر بأهلك بقطع من الليل إلا إمرأتك ومن قرأ بالضم فهو ظاهر يعني أنها تتختلف مع الهالكين
وقال لوط لجبريل عليه السلام إن أبواب المدينة قد أغلقت فجمع لوط أهله وابنتيه ريثا وزغورا فحمل جبريل لوطا وابنتيه وماله على جناحه إلى مدينة زغر وهي إحدى مدائن لوط(2/164)
165
وهي خمس مدائن وهي على أربعة فراسخ من سدوما ولم يكونوا على مثل عملهم فقال له جبريل " إن موعدهم الصبح " يعني وقت هلاكهم وقت الصبح فقال لوط يا جبريل الآن عجل هلاكهم فقال له جبريل " أليس الصبح بقريب " فلما كان وقت الصبح أدخل جبريل جناحه تحت أرض المدائن الأربعة فاقتلعها من الماء الأسود ثم صعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديك ثم قلبها فجعل عاليها سافلها فأقبلت تهوي من السماء إلى الأرض فذلك قوله " فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة "
قال وهب بن منبه لما رفعت إلى السماء أمطر الله عليهم حجارة الكبريت والنار ثم قلبت وقال مقاتل أمطر على أهلها من كان خارجا من المدائن الأربعة حجارة " من سجيل " يعني من طين مطبوخ كما يطبخ الآجر " منضود " يعني متتابعا بعضه على أثر بعض وقال مجاهد " سجيل " بالفارسية سنج وجك كقوله " لنرسل عليهم حجارة من طين " [ الذاريات : 33 ] وروي عن إبن عباس في بعض الروايات قال سنك وكل وقال أبو عبيدة السجيل الشديد " منضود " أي ملتزق بالحجارة " مسومة " قال الفراء مخططة بالحمرة والسواد وقال أبو عبيدة " مسومة " أي معلمة ويقال مكتوب على كل حجر إسم صاحبه الذي يصيبه ويقال مختمة وقال وكيع رفع إلي حجر من تلك الحجارة المختمة بطرسوس
ثم قال " وما هي من الظالمين ببعيد " يعني من قوم لوط عليه السلام ويقال هذا تهديد لأهل مكة وغيرهم من المشركين فقال " وما هي من الظالمين ببعيد " لكيلا يعملوا مثل عملهم ويقال ما هن من الظالمين ببعيد قريات لوط ليست ببعيدة من أهل مكة فأمرهم بأن يعتبروا بها وقال الزجاج " سجيل " يعني ما كتب لهم أن يعذبوا به ويقال " سجيل " من سجلته يعني أرسلته ومعناه حجارة مرسلة عليهم ويقال كثيرة شديدة
سورة هود 84 - 86
قوله تعالى " وإلى مدين أخاهم " يعني وأرسلنا إلى مدين أخاهم " شعيبا قال يا قوم إعبدوا الله " يعني وحدوا الله وأطيعوه " ما لكم من إله غيره " يعني ليس لكم رب سواه " ولا تنقصوا المكيال والميزان " في البيع والشراء " إني أراكم بخير " يعني بسعة في المال والنعمة " وأني أخاف عليكم عذاب يوم محيط " يعني إن لم ترجعوا عن نقصان المكيال(2/165)
166
والميزان تزول عنكم النعمة والسعة ويصيبكم القحط والشدة وعذاب الآخرة وقال مجاهد " إني أراكم بخير " يعني برخص السعر
" ويا قوم أوفوا المكيال والميزان " يعني أتموا الكيل والوزن " بالقسط " يقول بالعدل " ولا تبخسوا الناس أشياءهم " يعني لا تنقصوا الناس حقوقهم " ولا تعثوا في الأرض مفسدين " يعني لا تسعوا في الأرض بالفساد والمعاصي ونقصان الكيل والوزن وقال سعيد بن المسيب إذا أتيت أرضا يوفون المكيال والميزان فأطل المقام بها وإذا أتيت أرضا ينقصون المكيال والميزان فأقل المقام بها وقال عكرمة أشهد أن كل كيال ووزان في النار قيل له فمن وفى الكيل والوزن قال ليس رجل في المدينة يكيل كما يكتال ولا يزن كما يوزن والله تعالى يقول " ويل للمطففين " [ المطففين : 1 ]
ثم قال " بقية الله خير لكم " قال إبن عباس ما أبقى الله لكم من الحلال خير لكم من الحرام " إن كنتم مؤمنين " يعني مصدقين فصدقوني فيما أقول لكم ويقال ثواب الله خير لكم في الآخرة وقال مجاهد " بقية الله خير لكم " يعني طاعة الله " إن كنتم مؤمنين " خير لكم ويقال ثواب الله خير لكم في الآخرة " وما أنا عليكم بحفيظ " يعني رقيبا ووكيلا وإنما علي البلاغ
سورة هود 87 - 89
قوله " قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك " يعني قال له قومه قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " أصلاتك " بلفظ الوحدان يعني أقراءتك ويقال أدعاؤك يأمرك وقرأ الباقون " أصلواتك " بلفظ الجماعة يعني أكثرة صلواتك تأمرك " أن نترك ما يعبد آباؤنا " وكان شعيب كثير الصلاة " أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء " من نقصان الكيل والوزن " إنك لأنت الحليم الرشيد " يعني السفيه الضال إستهزاء منهم به
" قال " شعيب " يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي " يعني على دين وطاعة وبيان وأتاني رحمة من ربي " ورزقني منه رزقا حسنا " يعني بعثني بالرسالة فهداني لدينه ووسع علي من رزقه وقال الزجاج جواب الشرط ها هنا متروك والمعنى إن كنت على بينة من ربي أتبع الضلال فترك الجواب لعلم المخاطبين بالمعنى(2/166)
167
ثم قال " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه " يعني لا أنهاكم عن شيء وأعمل ذلك العمل من نقصان الكيل والوزن ويقال ومعناه أختار لكم ما أختار لنفسي نصيحة لكم وشفقة عليكم " إن أريد إلا الإصلاح " يقول ما أريد إلا العدل " ما استطعت " يعني ما قدرت يعني لا أترك جهدي في بيان ما فيه مصلحة لكم
ثم قال " وما توفيقي إلا بالله " يعني وما تركي هذه الأشياء ودعوتي لكم " إلا بالله " أي إلا بتوفيق الله وبأمره " عليه توكلت " يعني وثقت به " وإليه أنيب " أقبل إليه وأدعو الله بالطاعة
ثم قال " ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي " يعني لا يحملنكم بغضي وعداوتي أن لا تتوبوا إلى ربكم " أن يصيبكم " يعني يقع بكم العذاب " مثل ما أصاب قوم نوح " يعني مثل عذاب قوم نوح بالغرق " أو قوم هود " بالريح " أو قوم صالح " بالصيحة فإن طال عهدكم بهم فاعتبروا بمن أقرب منكم وهم قوم لوط فقال " وما قوم لوط منكم ببعيد " يعني كان هلاكهم قريبا منكم ولا يخفى عليكم أمرهم
سورة هود 90 - 91
قوله تعالى " واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه " يعني وتوبوا إلى الله " إن ربي رحيم " بعباده " ودود " يعني يتودد إلى أوليائه بالمغفرة ويقال محب لأهل طاعته
قوله تعالى " قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول " يعني لا نعقل ما تدعونا إليه من التوحيد ومن وفاء الكيل والوزن يعنون إنك تدعونا إلى شيء خلاف ما كنا عليه وخلاف ما كان عليه آباؤنا " وإنا لنراك فينا ضعيفا " يعني ومع ذلك أنت ضعيف العين عنا وقال مقاتل يعني ذليلا لا قوة لك ولا حيلة وقال الكلبي يعني ضرير البصر ويقال إنه ذهب بصره من كثرة بكائه من خشية الله تعالى ويقال وحيدا لم يوافقك من عظمائنا أحد " ولولا رهطك لرجمناك " يعني لولا عشيرتك لقتلناك لأنهم كانوا يقتلون رجما وقال القتبي أصل الرجم الرمي كقوله تعالى " وجعلناها رجوما للشياطين " [ الملك : 5 ] ثم قد يستعار ويوضع موضع الشتم إذ الشتم رمي كقوله " لئن لم تنته لأرجمنك " [ مريم : 46 ] يعني لأشتمنك ويوضع موضع الظن كقوله " رجما بالغيب " [ الكهف : 22 ] أي ظنا
والرجم أيضا الطرد واللعن وقيل للشيطان رجيم لأنه طريد يرجم بالكواكب وقد يوضع الرجم موضع القتل لأنهم كانوا يقتلون بالرجم ولأن إبن آدم قتل أخاه بالحجارة فلما كان أول القتل رجما سمي القتل رجما وإن لم يكن القتل بالحجارة(2/167)
168
ثم قالوا " وما أنت علينا بعزيز " يعني بكريم ويقال بعظيم أي لا خطر لك عندنا لولا حرمة عشيرتك ويقال ما قتلك علينا بشديد
سورة هود 92 - 93
ثم " قال " لهم شعيب عليه السلام " يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله " يعني حرمة قرابتي أعظم عندكم من حرمة الله تعالى ويقال خوفكم من عقوبة قرابتي أكبر عندكم من خوف الله ويقال عشيرتي أعظم عليكم من كتاب الله تعالى ومن أمره " واتخذتموه وراءكم ظهريا " يقول تركتم أمر الله خلف ظهوركم وتعظمون أمر رهطي وتتركون تعظيم الله تعالى ولا تخافونه وهذا قول الفراء وقال الزجاج معناه إتخذتم أمر الله " وراءكم ظهريا " أي نبذتموه وراء ظهوركم والعرب تقول لكل من لا يعبأ بأمره قد جعل فلان هذا الأمر بظهره وقال الأخفش " وراءكم ظهريا " يقول لم تلتفتوا إليه " إن ربي بما تعملون محيط " يعني عالما بأعمالكم من نقصان الكيل والوزن وغيره والإحاطة إدراك الشيء بكماله
ثم قال تعالى " ويا قوم إعملوا على مكانتكم " يعني إعملوا في هلاكي وفي أمري " إني عامل " في أمركم ومكانتكم والمكانة والمكان بمعنى واحد
ثم قال " سوف تعلمون " وهذا وعيد لهم ستعلمون من هو كاذب ويقال " من يأتيه عذاب يخزيه " يعني يهلكه ويهينه " ومن هو كاذب " يعني ستعلمون من هو كاذب ويقال معناه من يأتيه عذاب يخزيه ويخزي أمره من هو كاذب على الله بأن معه شريكا " وارتقبوا " يعني إنتظروا بي العذاب " إني معكم رقيب " يعني منتظر بكم العذاب في الدنيا
سورة هود 94 - 95
قوله تعالى " ولما جاء أمرنا " يعني عذابنا وذلك أنه أصابهم حر شديد فخرجوا إلى غيضة لهم فدخلوا فيها فظهرت لهم سحابة كهيئة الظلة فأحدقت بالأشجار وأشعلت فيها النار وصاح فيهم جبريل صيحة فماتوا كلهم كما قال في آية أخرى " فأخذهم عذاب يوم الظلة " [ الشعراء : 189 ] وذلك قوله " ولما جاء أمرنا " يعني عذابنا " نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة " يعني صيحة جبريل " فأصبحوا في ديارهم جاثمين " يعني صاروا في مواضعهم ميتين لا يتحركون(2/168)
169
قوله تعالى " كأن لم يغنوا فيها " يعني كأن لم يعمروا ولم يكونوا فيها " ألا بعدا لمدين " يعني بعدوا من رحمة الله " كما بعدت ثمود " من رحمته وروى أبو صالح عن إبن عباس قال لم تعذب أمتان بعذاب واحد إلا قوم شعيب بن ذويب وصالح بن كاثوا صاح بهم جبريل فأهلكهم
سورة هود 96 - 99
قوله تعالى " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا " التسع " وسلطان مبين " يعني حجة بينة " إلى فرعون وملئه " يعني قومه " فاتبعوا أمر فرعون " يعني أطاعوا قول فرعون وقومه وطاعتهم حين قال " ما أريكم إلا ما أرى " [ غافر : 29 ] فأطاعوه في ذلك حين قال لهم " ما علمت لكم من إله غيري " [ القصص : 38 ] فأطاعوه وتركوا أمر موسى عليه السلام قال الله تعالى " وما أمر فرعون برشيد " يعني ما قول فرعون بصواب
قوله تعالى " يقدم قومه يوم القيامة " يقول يتقدم أمام قومه يوم القيامة وهم خلفه كما كانوا يتبعونه في الدنيا ويقودهم إلى النار " فأوردهم النار " يقول أدخلهم النار " وبئس الورد المورود " يقول بئس المدخل المدخول يعني بئس المصير الذي صاروا إليه
قوله تعالى " وأتبعوا في هذه لعنة " يعني جعل عليهم اللعنة في الدنيا وهو الغرق " ويوم القيامة " لعنة أخرى وهي النار " بئس الرفد المرفود " يعني اللعنة على أثر اللعنة ومعناه بئس الغرق وزفرة النار ترادفت عليهم اللعنتان لعنة الدينا الغرق ولعنة الآخرة النار وقال القتبي " بئس الرفد المرفود " يعني بئس العطاء المعطى يقال رفدته أي أعطيته وقال الزجاج كل شيء جعلته عونا لشيء وأسندت به شيئا فقد رفدته وقال قتادة في قوله " يقدم قومه " يعني يمضي بين أيديهم حتى يهجم بهم على النار وفي قوله " بئس الرفد المرفود " قال وزيدوا بها اللعنة في الآخرة على اللعنة في الدنيا
سورة هود 100 - 101
قوله تعالى " ذلك من أنباء القرى " يعني هذا الذي وصفت لك وقصصت عليك من أخبار الأمم والقرون الماضية " نقصه عليك " يعني ينزل جبريل ليقرأ عليك ليكون فيها دليل نبوتك " منها قائم وحصيد " يعني من تلك القرى قائم ومنها ما هو حصيد والقائم(2/169)
170
يعني الظاهر ينظر إليه الناظر والحصيد يعني خرب وهلك أصحابه ويقال القائم على بنيانه والحصيد ما خرب وقال قتادة " منها قائم " يعني خاوية على عروشها " وحصيد " يعني مستأصلة وقال الضحاك " منها قائم " يعني مدينة عاد هلكوا وبقيت مساكنهم " وحصيد " يعني مدائن قوم لوط حصدت أي قلعت من الأرض السفلى
ثم قال تعالى " وما ظلمناهم " يعني لم نعذبهم بغير ذنب " ولكن ظلموا أنفسهم " يعني أضروا بأنفسهم حيث أكلوا رزق الله وعبدوا غيره وكذبوا رسله " فما أغنت عنهم آلهتهم " يعني ما نفعتهم عبادة آلهتهم " التي يدعون من دون الله من شيء " إنما سماهم آلهة على وجه المجاز يعني آلهتهم بزعمهم ولم يكونوا آلهة في الحقيقة ومعناه أصنامهم لا تقدر أن تمنعهم من عذاب الله من شيء " لما جاء أمر ربك " يعني حين جاء عذاب ربك وقال القتبي إذا رأيت للما جوابا بمعنى حين كقوله تعالى " فلما آسفونا إنتقمنا منهم " [ الزخرف : 55 ] يعني حين أغضبونا وكقوله " لما جاء أمر ربك " يعني حين جاء أمر ربك يعني عذاب ربك " وما زادوهم غير تتبيب " يعني غير تخسير كقوله " تبت يدا أبي لهب " [ المسد : 1 ] أي خسرت
سورة هود 102 - 107
قوله تعالى " وكذلك أخذ ربك " يعني هكذا عقوبة ربك " إذا أخذ القرى " يعني إذا عاقب القرى " وهي ظالمة " يعني أهلها كفار جاحدون بوحدانية الله تعالى قرأ عاصم الجحدري " إذ أخذ " بألف واحدة لأن إذ تستعمل للماضي وإذا تستعمل للمستقبل وهذه حكاية عن الماضي يعني حين أخذ ربك القرى وهي قراءة شاذة وقراءة العامة " إذا أخذ " بألفين ومعناه هكذا أخذ ربك متى أخذ القرى
ثم قال " إن أخذه أليم شديد " يعني عقوبته مؤلمة شديدة وروى أبو موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته(2/170)
171
ثم قرأ " وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى وهي ظالمة " الآية
ثم قال " إن في ذلك لآية " يعني في الذي أخبرتك عن الأمم الخالية لعبرة " لمن خاف عذاب الآخرة " ويقال في عذابهم موعظة وعبرة بالغة لمن آمن بالله واليوم الآخر ويقال فيه عبرة لمن أيقن بالنار وأقر بالبعث " ذلك يوم مجموع له الناس " يعني مجموع فيه الناس يعني يجمع فيه الأولون والآخرون " وذلك يوم مشهود " يشهده أهل السموات وأهل الأرض
قوله تعالى " وما نؤخره إلا لأجل معدود " يعني إلى حين معلوم ويقال لإنقضاء أيام الدنيا ومعناه أنا قادر على إقامتها الآن ولكن أؤخرها إلى وقت معدود " يوم يأت " يعني إذا جاء يوم القيامة ويقال " يوم يأت " ذلك اليوم " لا تكلم نفس إلا بإذنه " يعني لا تتكلم نفس بالشفاعة إلا بأمره ويقال معناه لا يجترىء أحد أن يتكلم من هيبته وسلطانه بالإحتجاج وإقامة العذر إلا بإذنه
قرأ عاصم وإبن عامر وحمزة " يوم يأت " بغير ياء في الوصل والقطع وقرأ الباقون بالياء عند الوصل قال أبو عبيدة القراءة عندنا على حذف الياء في الوصل والوقف قال ورأيت في مصحف الإمام عثمان " يوم يأت " بغير ياء وهي لغة هذيل قال وروي عن عثمان أنه عرض عليه المصحف فوجد فيه حروفا من اللحن فقال لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف فكأنه قدم هذيلا في الفصاحة
ثم قال تعالى " فمنهم شقي وسعيد " يعني يوم القيامة من الناس " شقي " يعني يعذب في النار " وسعيد " يعني مكرم في الجنة
قوله تعالى " فأما الذين شقوا " يعني كتب عليهم الشقاوة " ففي النار لهم فيها زفير وشهيق " قال الربيع بن أنس الزفير في الحلق والشهيق في الصدر وروي عن إبن عباس أنه قال زفير كزفير الحمار وهو أول ما ينهق الحمار والشهيق وهو أول ما يفرغ من نهيقه في آخره ويقال زفير وشهيق معناه أنينا وصراخا " خالدين فيها " يعني مقيمين دائمين في النار " ما دامت السموات والأرض " يعني سماء الجنة وأرضها " إلا ما شاء ربك " يعني إلا من أخرجهم منها وهم الموحدون
وقال الكلبي ومقاتل " خالدين فيها ما دامت السموات والأرض " يعني كما تدوم السموات والأرض لأهل الدنيا فكذلك يدوم الأشقياء في النار " إلا ما شاء ربك " أي يخرجون من النار وقال الضحاك يعني سماء القيامة وأرضها وهما باقيتان ويقال العرب كانت من عادتهم أنهم إذا ذكروا الأبد يقولون ما دامت السموات والأرض فذكر على عادتهم على ما يتعاهدون ويتفاهمون ومعناه أنهم خالدون فيها أبدا ثم قال " إن ربك فعال لما يريد " إن شاء أدخل النار خالدا وإن شاء أخرجه إن كان موحدا وأدخله الجنة(2/171)
172
سورة هود 108 - 109
قوله تعالى " وأما الذين سعدوا " قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " سعدوا " بضم السين وقرأ الباقون بنصب السين فمن قرأ بالنصب فمعناه الذين إستوجبوا السعادة في الجنة ومن قرأ بالضم فمعناه وأما الذين سعدوا أي قدر عليهم السعادة وخلقوا للسعادة " ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك " أن يحبس في المحشر وعلى الصراط ويقال الذين شقوا يعني الكفار والذين سعدوا المؤمنين ومعناه الكفار في النار إلا ما شاء الله أن يسلموا والمؤمنون في الجنة إلا ما شاء الله أن يرجعوا عن الإسلام ويقال " إلا ما شاء ربك " يعني قد شاء ربك
ثم قال " عطاء غير مجذوذ " يعني رزقا غير منقطع عنهم ولا ينقص من ثمارهم ولا من نعمتهم
ثم قال تعالى " فلا تك في مرية " يعني في شك " مما يعبد هؤلاء " إن الله تعالى يعاقبهم بذلك " ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل " يعني لا يرغبون في التوحيد كما لم يرغب آباؤهم من قبل الذين هلكوا " وأنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص " يعني نوف لهم ولآبائهم حظهم من العذاب غير منقوص عنهم وهو قول مقاتل وقال سعيد بن جبير معنى نصيبهم من الكتاب الذي كتب في اللوح المحفوظ من السعادة والشقاوة وقال مجاهد " وإنا لموفوهم نصيبهم " يعني ما قدر لهم من خير أو شر
سورة هود 110 - 112
قوله تعالى " ولقد آتينا موسى الكتاب " يعني أعطينا موسى التوراة " فاختلف فيه " يعني آمن به بعضهم وكفر به بعضهم وهذا تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يصبر على تكذيبهم كما صبر موسى على تكذيبهم
ثم قال " ولولا كلمة سبقت من ربك " يعني وجب قول ربك بتأخير العذاب عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم " لقضي بينهم " يعني لجاءهم العذاب ولفرغ من هلاكهم " وإنهم لفي شك منه " يعني من القرآن " مريب " يعني ظاهر الشك
قوله تعالى " وإن كلا " قرأ إبن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر " وإن كلا " بجزم(2/172)
173
النون وقرأ الباقون بالنصب والتشديد فمن قرأ بالجزم يكون معناه وما كل إلا ليوفينهم كقوله " وإن كل لما جميع " [ يس : 32 ] يعني ما كل جميع ومن قرأ بالتشديد يكون إن لتأكيد الكلام وقرأ حمزة وإبن عامر وعاصم في رواية حفص " لما " بتشديد الميم وقرأ الباقون بالتخفيف فمن قرأ بالتخفيف يكون لما لصلة الكلام ومعناه وإن كلا ليوفينهم فتكون ما صلة كقولهم عما قليل يعني عن قليل ومن قرأ بالتشديد يكون بمعنى إلا يعني وإن كلا إلا ليوفينهم كقوله " إن كل نفس لما عليها حافظ
[ الطارق : 4 ] فمن قرأ بالتشديد كتلك الآية يكون معناه إلا عليها حافظ ومعنى الآية إن كلا الفريقين " ليوفينهم ربك " ثواب " أعمالهم " بالخير خيرا وبالشر شرا " إنه بما يعملون خبير " من الخير والشر
قوله تعالى " فاستقم كما أمرت " يعني إستقم على التوحيد والطاعة كما أمرت " ومن تاب معك " أيضا يستقيموا على التوحيد " ولا تطغوا " أي لا تعصوا الله في التوحيد وطاعته " إنه بما تعملون " من الخير والشر " بصير " قال الفقيه حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا أبو حفص عن سعيد عن قتادة في قوله تعالى " فاستقم كما أمرت " أي إمض على ما أمرت قال إن الله تعالى أمر بالإستقامة على التوحيد وأن لا يطغى في نعمته وقال القتبي " فاستقم كما أمرت " يعني إمض على ما أمرت به إن الله أمر بأن يمضى ما أمر به
سورة هود 113 - 115
قوله تعالى " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار " قال قتادة ولا ترجعوا إلى الشرك فتمسكم النار يعني تصيبكم النار وقال أبو العالية ولا ترضوا بأعمال أهل البدع والركون هو الرضا ويقال ولا تميلوا إلى دين الذين كفروا ويقال ولا ترضوا قول الذين ظلموا وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل وعن عبد الله بن مسعود أنه قال إعتبروا الناس بأخدانهم
ثم قال تعالى " وما لكم من دون الله من أولياء " يعني حين تمسكم النار لم يكن لكم من عذاب الله " من أولياء " يعني من أقرباء ينفعونكم " ثم لا تنصرون " يعني لا تمنعون من العذاب(2/173)
174
قوله تعالى " وأقم الصلاة " يعني واستقم كما أمرت " وأقم الصلاة " أي أتم الصلاة " طرفي النهار " أي صلاة الفجر والظهر والعصر " وزلفا من الليل " يعني دخولا من الليل ساعة بعد ساعة واحدها زلفة وهي صلاة المغرب والعشاء " إن الحسنات يذهبن السيئات " يعن الصلوات الخمس يكفرن السيئات فيما دون الكبائر " ذلك ذكرى للذاكرين " يعني الصلوات الخمس توبة للتائبين
قال الكلبي نزلت الآية في عمرو بن غزية الأنصاري ويقال نزلت في شأن أبي اليسر كان يبيع التمر فجاءته إمرأة تشتري تمرا فأدخلها في الحانوت وفعل بها كل شيء إلا الجماع ثم ندم فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ويقال نزلت في شأن أبي مقبل التمار وروي عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني لقيت إمرأة في البستان فضممتها إلي وقبلتها وفعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل وقرأها عليه فقال عمر أله خاصة أم للناس كافة قال بل للناس كافة
وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد قال عن أبي عثمان قال كنت مع سلمان فأخذ غصنا من شجرة يابسة فحته ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى تحاتت خطاياه كما تحات هذا الورق ثم قرأ هذه الآية " وأقم الصلاة طرفي النهار " إلى آخرها
ثم قال تعالى " واصبر " نفسك يا محمد على التوحيد ولا تركن إلى الظلمة " واصبر " على ما أصابك ويقال " واصبر " أي أقم على هذه الصلوات الخمس حتى لا تترك منها شيئا " فإن الله لا يضيع أجر المحسنين " يعني ثواب الموحدين المخلصين ويقال المقيمين على الصلوات
سورة هود 116 - 117(2/174)
175
قوله تعالى " فلولا كان " يعني فهلا كان " من القرون من قبلكم أولو بقية " يعني ذوو بقية من آمن وقال مقاتل يعني فلم يكن من القرون من قبلكم " أولو بقية " يعني ذوو بقية من دين " ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم " وهم الذين ينهون عن الفساد في الأرض وقال القتبي فهلا كان أولو بقية من دين يقال قوم لهم بقية إذا كان فيهم خير قال القتبي إذا رأيت فلولا بغير جواب يريد به هلا كقوله " فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا " [ الأنعام : 43 ] " فلولا كانت قرية آمنت " [ يونس : 98 ] وقال بعض المفسرين جعل لولا هلا ها هنا وفي سورة يونس بمعنى لم وقال الزجاج " أولو بقية " معناه أولو تمييز ويجوز أولو طاعة وفضل ومعنى بقية إذا قلت في فلان بقية معناه فيه فضل فيما يمدح به " إلا قليلا ممن أنجينا منهم " إستثناء منقطع والمعنى لكن قليلا ممن أنجينا ممن ينهى عن الفساد وروى سيف بن سليمان المكي بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه فإذا فعلوا ذلك عذب الخاصة والعامة ثم قال " واتبع الذين ظلموا " يقول إشتغل الذين كفروا " ما أترفوا فيه " يقول ما أنعموا وأعطوا من المال ويقال إرتكنوا على ما خولوا في الدنيا واشتغلوا عما سواها من أمر الآخرة ويقال " واتبع الذين ظلموا " يعني السفلة " ما أترفوا في " يعني من أترفوا وهم القادة والرؤساء وقال الفراء إتبعوا في دنياهم ما عودوا من النعيم وإيثار الدنيا على الآخرة " وكانوا مجرمين " يعني مشركين
قوله " وما كان ربك ليهلك القرى بظلم " يقول لم يكن ربك ليعذب أهل قرية " بظلم " يعني بغير جرم " وأهلها مصلحون " يعني موحدين مطيعين وروي عن إبن عباس أنه قال ما أهلك الله قوما إلا بعملهم ولم يهلكهم بالشرك يعني لم يهلكهم بشركهم وهم مصلحون لا يظلم بعضهم بعضا لأن مكافأة الشرك النار لا دونها وإنما أهلكهم الله بمعاصيهم زيادة على شركهم مثل قوم صالح بعقر الناقة وقوم لوط بالأفعال الخبيثة وقوم شعيب بنقصان الكيل والوزن وقوم فرعون بإيذائهم موسى وبني إسرائيل ويقال " وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون " يعني وفيهم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وقال لم يكن ليهلكهم وهم يتعاطون الحق فيما بينهم وإن كانوا مجرمين
سورة هود 118 - 120(2/175)
176
قوله تعالى " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة " يقول لجميع الناس على ملة واحدة وأكرمهم بدين الإسلام كلهم ولكن علم أنهم ليسوا بأهل لذلك " ولا يزالون مختلفين " يعني أهل الباطل في الدين " إلا من رحم ربك " يعني عصم ربك من الإختلاف وقال عطاء ولا يزالون مختلفين يعني اليهود والنصارى والمجوس " إلا من رحم ربك " بالحنيفية " ولذلك خلقهم " يعني الحنيفية خلقهم للرحمة وقال الحسن " لذلك خلقهم " يقول للإختلاف هؤلاء لجنته وهؤلاء لناره
وقال إبن عباس " ولذلك خلقهم " يعني فريقين فريقا يرحم ولا يختلف وفريقا لا يرحم ويختلف ويقال " ولذلك خلقهم " يعني للأمر والنهي بدليل قوله تعالى " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " [ الذاريات : 56 ] يعني للأمر والنهي وقال الضحاك وللرحمة خلقهم وقال مقاتل وللرحمة خلقهم وهو الإسلام وروى حماد بن سلمة عن الكلبي قال خلقهم أهل الرحمة أن لا يختلفوا وقال قتادة " ولذلك خلقهم " للرحمة والعبادة " ولا يزالون مختلفين " يقول لا يزال أهل الأديان مختلفين في دين الإسلام
ثم إستثنى بعضا وقال " إلا من رحم ربك " وهم المؤمنون أهل الحق " وتمت كلمة ربك " يقول سبق ووجب قول ربك للمختلفين " لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " فهذا لام القسم فكأنه أقسم أن يملأ جهنم من كفار الجنة والناس أجمعين
قوله تعالى " وكلا نقص عليك من أنباء الرسل " يعني ننزل عليك من أخبار الرسل " ما نثبت به فؤادك " يقول ما نشدد به قلبك ونحفظه ونعلم أن الذي فعل بك قد فعل بالأنبياء قبلك " وجاءك في هذه الحق " قال قتادة أي في الدنيا وقال إبن عباس يعني في هذه السورة وروى سعيد بن عامر عن عوف عن أبي رجاء قال خطبنا إبن عباس على منبر البصرة فقرأ سورة هود وفسرها فلما أتى على هذه الآية " وجاءك في هذه الحق " قال في هذه السورة وقال سعيد بن جبير وأبو العالية ومجاهد مثله وهكذا قال مقاتل عن الفراء ثم قال " وموعظة " يعني تأدبة لهذه الأمة " وذكرى " يعني عظة وعبرة " للمؤمنين " يعني للمصدقين بتوحيد الله تعالى
سورة هود 121 - 123
قال الله تعالى " وقل للذين لا يؤمنون " يعني لا يصدقون بتوحيد الله تعالى " واعملوا على مكانتكم " يعني على منازلكم على إهلاكي " إنا عاملون " في أمركم يقال " وانتظروا " بهلاكي " إنا منتظرون " بكم العذاب والهلاك فهذا تهديد لهم
ثم قال تعالى " ولله غيب السموات والأرض " يعني غيب نزول العذاب متى ينزل(2/176)
177
بكم ويقال سر أهل السموات وسر أهل الأرض " وإليه يرجع الأمر كله " يعني عواقب الأمور كلها ترجع إليه يوم القيامة " فاعبده " يقول أطعه واستقم على التوحيد " وتوكل عليه " يقول فوض إليه جميع أمورك " وما ربك بغافل عما تعملون " يعني بما يفعل الكفار قرأ نافع وعاصم في رواية حفص " وإليه يرجع الأمر كله " بضم الياء ونصب الجيم على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون بنصب الياء وكسر الجيم فيكون الفعل للأمر وقرأ نافع وعاصم في رواية حفص " عما تعملون " بالتاء على وجه المخاطبة وقرأ الباقون بالياء على وجه المغايبة وروي عن كعب الأحبار أنه قال خاتمة السورة هذه الآية " ولله غيب السموات والأرض " إلى آخر السورة وصلى الله على سيدنا محمد(2/177)
178
سورة يوسف
مكية وهي مائة وإحدى عشرة آية
سورة يوسف 1 - 2
قوله تعالى " الر تلك " وذلك أن اليهود والنصارى قالوا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سلوا صاحبكم ما كان سبب إنتقال يعقوب وأولاده من كنعان إلى مصر ومبدأ أمرهم فنزل " الر " يقول أنا الله أرى وأسمع سؤالهم إياك يا محمد عن هذه القصة ويقال " الر " أنا الله أرى صنيع إخوة يوسف ومعاملتهم معه ويقال أنا الله أرى ما يرى الخلق وما لا يرى " تلك آيات الكتاب " يعني حججه وبراهينه ويقال هذه الآيات التي وعدتكم في التوراة أن أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم وعدهم بأن ينزل عليه كتابا في كثير من أوائل سورة حروف الهجاء " المبين " يعني مبين حلاله وحرامه ويقال بين فيه خبر يوسف وإخوته وروى معمر عن قتادة قال بين الله رشده وهداه
قوله تعالى " إنا أنزلناه قرآنا عربيا " يقول إنا أنزلنا جبريل ليقرأ على محمد صلى الله عليه وسلم القرآن بلسان العرب " لعلكم تعقلون " يعني لعلكم تفهمون ما فيه
سورة يوسف 3 - 4
ثم قال تعالى " نحن نقص عليك أحسن القصص " وذلك أن المسلمين قالوا لسلمان أخبرنا عن التوراة فإن فيها العجائب فأنزل الله تعالى " نحن نقص عليك أحسن القصص " في هذا القرآن ويقال لا يصح هذا لأن سلمان أسلم بالمدينة وهذه السورة مكية ولكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تمنوا نزول سورة عليهم لا يكون فيها أمر ونهي وأحكام وحدود فنزلت هذه السورة ويقال كانت اليهود تفاخروا بأن لهم قصة يوسف مذكورة في التوراة فنزلت هذه السورة أفصح من لغة اليهود فذهب إفتخارهم على المسلمين فقال تعالى " نحن نقص عليك أحسن القصص " سماه الله في إبتدائه أحسن القصص وفي آخره عبرة فقال " لقد كان في(2/178)
179
قصصهم عبرة لأولي الألباب ) [ يوسف : 111 ] ويقال ينزل عليك جبريل بأحكم الخبر " بما أوحينا إليك " يقول بالذي أوحينا إليك " هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين " عن خبر يوسف لم تعلمه
قوله تعالى " إذ قال يوسف لأبيه يا أبت " أي نقص عليك " إذ قال يوسف لأبيه " ويقال معناه واذكر " إذ قال يوسف لأبيه " قرأ إبن عامر " يا أبت " بنصب التاء في جميع القرآن لأن أصلها يا أبتاه وقرأ الباقون بالكسر لأجل الإضافة " إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين " يعني رأيت في المنام أحد عشر كوكبا نزلت من السماء والشمس والقمر نزلا من السماء يسجدون لي وروي عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال الكواكب إخوته والشمس والقمر أبواه وقال معمر قال بعض أهل العلم أبوه وخالته وفي رواية الكلبي قال رؤياه كانت ليلة القدر في ليلة جمعة
سورة يوسف 5 - 6
قال تعالى " قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك " فلما قصها على أبيه إنتهره وزجره وقال ليوسف في السر إذا رأيت رؤيا بعد هذا فلا تقصها على إخوتك فذلك قوله تعالى " فيكيدوا لك كيدا " يعني يعملوا بك عملا ويحتالوا بك حيلة في هلاكك فإن قيل قوله " رأيتهم " هذا اللفظ يستعمل في العقلاء ولا يستعمل في غير العقلاء يقال رأيتها ورأيتهن فكيف قال ها هنا " رأيتهم " قيل له لأنه حكى عنها الفعل الذي يكون من العقلاء وهي السجدة فذكر باللفظ الذي يوصف به العقلاء " إن الشيطان للإنسان عدو مبين " ظاهر العداوة قرأ أبو جعفر القاريء المدني " أحد عشر " بجزم الدال وقراءة العامة " أحد عشر " بالنصب قال أبو عبيدة هكذا تقرؤها لأنها أعرف اللغتين والناس عليها
ثم قال " وكذلك يجتبيك ربك " يقول يصطفيك ويختارك بالنبوة ويقال بالحسن والجمال والمحبة في القلوب " ويعلمك من تأويل الأحاديث " يعني من تعبير الرؤيا ويقال هي الكتب المنزلة ويقال عواقب الأمور يعني يفهمك ويعلمك " من تأويل الأحاديث " حتى تكون عالما بعواقبها " ويتم نعمته عليك " يعني يثبتك على الإسلام ويقال بالنبوة والإسلام " وعلى آل يعقوب " يعني إخوة يوسف " كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق " وأكرمهما بالنبوة وثبتهما على الإسلام(2/179)
180
قال الزجاج وقد فسر له يعقوب الرؤيا فالتأويل أنه لما قال يوسف " إني رأيت أحد عشر كوكبا " تأول لأحد عشر نفسا لهم فضل وأنهم يستضاء بهم لأن الكواكب لا شيء أضوء منها وتأول الشمس والقمر أبويه فالقمر الأب والشمس الأم والكواكب إخوته فتأول ليوسف أنه يكون نبيا وأن إخوته يكونون أنبياء لأنه أعلمه أن الله تعالى يتم نعمته عليه وعلى إخوته كما أتمها على أبويه إبراهيم وإسحاق ويقال " كما أتمها على أبويك " حين رأى إبراهيم في المنام أنه يذبح إبنه فأمره الله تعالى أن يفديه وروي عن سعيد بن جبير عن إبن عباس أنه كان يجعل الجد أبا ثم يقرأ هذه الآية " كما أتمها على أبويك " ثم قال " إن ربك عليم حكيم " يعني " عليم " بما صنع به إخوته " حكيم " بما حكم من إتمام النعمة عليه
سورة يوسف 7 - 9
قوله تعالى " لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين " قرأ إبن كثير آية بلفظ الوحدان وهكذا قرأ مجاهد يعني فيه علامة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقرأ الباقون بلفظ الجماعة " آيات " وهذا موافق لمصحف الإمام عثمان حكى أبو عبيدة أنه رأى في مصحف الإمام هكذا ومعنى الآية أن في خبر يوسف وإخوته عبرة وموعظة لمن سأل عن أمرهم
قال إبن عباس وذلك أن حبرا من أحبار اليهود دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وكان قارئا للتوراة فوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة يوسف كما أنزلت في التوراة فقال له الحبر يا محمد من علمكها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله علمنيها فرجع الحبر إلى اليهود فقال لهم أتعلمون والله إن محمدا يقرأ في القرآن سورة يوسف كما أنزلت في التوراة فانطلق بنفر منهم حتى جاؤوا ودخلوا عليه فجعلوا يستمعون إلى قراءته ويتعجبون فقالوا يا محمد من علمكها قال الله علمنيها فنزلت " لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين "
قال الشيخ وكان بدء أمرهم أن يعقوب عليه السلام كان مع خاله وكان لخاله إبنتان إحداهما يقال لها لايا ويقال لاوى وهي أكبرهما والأخرى راحيل وهي أصغرهما فخطب يعقوب إلى خاله بأن يزوجه إحداهما فقال له هل لك مال قال لا ولكن أعمل لك قال صداقها أن ترعى لي سبع سنين وفي بعض الروايات قال أن تخدمني سبع سنين وقال يعقوب أخدمك سبع سنين على أن تزوجني راحيل وهي شرطي قال ذلك بيني وبينك فرعى له يعقوب سبع سنين فلما قضى الأجل زفت إليه الكبرى وهي لايا فقال له يعقوب إنك خدعتني وإنما أردت راحيل فقال له خاله إنا لا ننكح الصغيرة قبل الكبيرة(2/180)
181
ولكن هلم فاعمل سبع سنين أخرى فأزوجك أختها وكان الناس في ذلك الزمان يجمعون بين الأختين إلى أن بعث الله موسى عليه السلام فرعى له سبع سنين أخرى فزوجه راحيل وكان خاله حين جهزها دفع إلى كل واحدة منهما أمة تخدمها فوهبتا الأمتين ليعقوب فولدت لايا أربعة بنين وولدت له راحيل إبنين وولدت كل واحدة من الأمتين ثلاثة بنين فجملة بنيه إثنا عشر سوى البنات
قال الفقيه أبو الليث سمعت أهل التوراة يقولون إن أسماء أولاد يعقوب مثبتة في التوراة روبيل وشمعون ويهوذا ولاوي فهؤلاء من إمرأته لايا ويوسف وبنيامين من إمرأته الأخرى راحيل والستة الباقون من الأمتين يستر وبالعربية يساخر وزوبولون وبالعربية زبالون ودون وبالعربية دان ونفتال وبالعربية يفتاييل وحوذ وبالعربية حاذ وروى بعضهم هاذ بالهاء وأشير وبالعربية أشر فأراد يعقوب أن يخرج إلى بيت المقدس ولم يكن له نفقة وكان ليوسف خال له أصنام من ذهب فقالت لايا ليوسف إذهب واسرق من أصنامه فلعلنا نستنفق به فذهب يوسف وأخذ واحدا وكان يوسف أعطف على أبيه وكان أحب أولاده إليه فحسده إخوته مما رأوا من حب أبيه له
ورأى يوسف في المنام أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ساجدين له فقالوا عند ذلك " ليوسف وأخوه " بنيامين " أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة " يعني جماعة عشرة فهو يؤثرهما علينا في المنزلة والحب " إن أبانا لفي ضلال مبين " يقول في خطأ بين في حب يوسف وأخيه حيث قدم الصغيرين في المحبة علينا ونحن جماعة ونفعنا أكثر من نفعهما وقال مقاتل كان فضل حسن يوسف على الناس في زمانه كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وقال القتبي العصبة ما بين العشرة إلى الأربعين
ثم قال بعضهم لبعض " إقتلوا يوسف أو إطرحوه أرضا " بعيدا من أبيكم " يخل لكم وجه أبيكم " يقول يقبل إليكم أبوكم بوجهه ويصف لكم وجهه ويقال يصلح حالكم عند أبيكم " وتكونوا من بعده قوما صالحين " يعني إذا غاب عنكم صلحت أحوالكم عند أبيكم بعد ذهاب يوسف ويقال وتكونوا من بعد هلاكه قوما تائبين إلى الله تعالى وقال بعض الحكماء هكذا يكون المؤمن يهيىء أمر التوبة قبل المعصية
سورة يوسف 10 - 14(2/181)
182
قوله تعالى " قال قائل منهم " يعني من إخوة يوسف لا تقتلوه يعني " لا تقتلوا يوسف " فإن قتله عظيم وقال الكلبي كان صاحب هذا القول يهوذا لم يكن أكبرهم في السن ولكن كان أعقلهم وقال قتادة والضحاك صاحب هذا القول روبيل وكان أكبر القوم سنا " وألقوه في غيابة الجب " يعني إطرحوه في أسفل الجب وقال الزجاج الغيابة كل ما غاب عنك أو غيبت شيئا عنك قرأ نافع " غيابات " بلفظ الجماعة وقرأ الباقون " غيابة الجب " لأن المعنى فيها على موضع واحد وروي عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ " غيبة الجب " وقال الزجاج الجب البئر التي ليست بمطوية سميت جبا لأنها قطعت قطعا ولم يحدث فيها غير القطع
ثم قال " يلتقطه بعض السيارة " يعني يأخذه بعض من يمر عليه من المسافرين " إن كنتم فاعلين " يعني إن كنتم لا بد فاعلين من الشر الذي تريدون وروي عن الحسن ومجاهد أنهما قرآ " تلتقطه " بالتاء ومعناه تلتقطه السيارة وينصرف إلى المعنى فلما قال لهم ذلك يهوذا أو روبيل أطاعوه بذلك وجاؤوا إلى أبيهم و " قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف " بأن ترسله معنا " وإنا له لناصحون " يعني لحافظون ويقال محبون مشفقون قرأ أبو جعفر القارىء المدني " لا تأمنا " بجزم النون وقرأ الباقون " تأمنا " بإشمام النون إلى الرفع لأن أصلها تأمننا فأدغمت إحداهما في الأخرى وأقيم التشديد مقامها وبقي رفعه
ثم قال " أرسله معنا غدا " يعني اخوة يوسف قالوا لأبيهم أرسل يوسف معنا إلى الغنم " يرتع ويلعب " قال مجاهد يحفظ بعضنا بعضا ونتحارس وقال قتادة ننشط ونسعى ونلهو وقال القتبي من قرأ بتسكين العين أي نأكل يقال رتعت الإبل إذا رعت ومن قرأ بكسر العين أراد به نتحارس ويرعى بعضنا بعضا أي يحفظ قرأ إبن كثير " نرتع " بالنون وكسر العين " ونلعب " بالنون وقرأ نافع " يرتع " بالياء وكسر العين وقرأ حمزة والكسائي وعاصم " يرتع ويلعب " بالياء وجزم العين وقرأ أبو عمرو وإبن عامر " نرتع ونلعب " بالنون وجزم العين واتفقوا في جزم الباء
قال أبو عبيدة قلت لأبي عمرو كيف يقولون نلعب وهم أنبياء قال لم يكونوا يومئذ أنبياء قال الفقيه أبو الليث لم يريدوا به اللعب الذي هو منهي عنه وإنما أرادوا به المطايبة في خروجهم وفيه دليل أن القوم إذا خرجوا من المصر فلا بأس بالمطايبة والمزاح في غير مأثم ويقال " نرتع ونلعب " يعني نجيء ونذهب حتى نتشجع ونترحل ويقال حتى نجمع النفع والسرور " وإنا له لحافظون " لا يصيبه أذى ولا مكروه وإنا مشفقون عليه " قال " لهم يعقوب " إني ليحزنني أن تذهبوا به " يعني إن ذهابكم به ليحزنني قرأ نافع " ليحزنني " بضم الياء وكسر الزاي وقرأ الباقون بنصب الياء وضم الزاي
ومعناهما واحد
ثم قال " وأخاف أن يأكله الذئب " يعني أخاف أن تضيعوه فيأكله الذئب " وأنتم عنه(2/182)
183
غافلون ) يعني مشغولين بأمركم قرأ أبو عمرو والكسائي ونافع في رواية ورش " الذيب " بغير همز وقرأ الباقون بالهمز وهما لغتان وروي عن بعض الصحابة أنه قال لا ينبغي أن يلقن الخصم حجته لأن إخوة يوسف كانوا لا يعلمون أن الذئب يأكل الناس إلى أن قال لهم يعقوب ذلك وإنما قال ذلك يعقوب لأنه رأى في المنام ذئبا كان يعدو على يوسف فأنجاه بنفسه
" قالوا " يعني إخوة يوسف " لئن أكله الذئب ونحن عصبة " يعني جماعة عشرة " إنا إذا لخاسرون " يعني لعاجزين فلما قالوا ذلك رضي بخروجه معهم فبعثه معهم وأوصاهم عند خروجه أن يحسنوا إليه ويتعاهدوا أمره ويردوه إذا طلب الرجوع فقبلوا ذلك منه ويقال إنه أبى أن يرسله معهم حتى أتوا يوسف فقالوا له أطلب من أبيك ليبعثك معنا وطلب يوسف ذلك من أبيه فبعثه معهم
سورة يوسف 15 - 18
قال " فلما ذهبوا به " يعني فلما برزوا به إلى البرية " وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب " يقول واتفقوا أن يلقوه في أسفل الجب ثم أظهروا له العداوة فجعل أحدهم يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه الآخر فجعل لا يرى منهم رحيما فضربوه حتى كادوا أن يقتلوه فقال يهوذا أليس قد أعطيتموني موثقا أن لا تقتلوه قوله " فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب " أي فانطلقوا به إلى الجب وهي بئر على رأس فرسخين من كنعان ويقال أربع فراسخ فجعلوا يدلونه في البئر فيتعلق بشفة البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال يا إخوتاه ردوا علي قميصي أتوارى في الجب فقالوا له أدع الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر يؤنسوك فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه وأرادوا أن يموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة في البئر وقام عليها وجعل يبكي فجاءه جبريل يؤنسه ويطعمه
قال الله تعالى " وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا " أي لتخبرهم بصنيعهم " وهم لا يشعرون " يعني تخبرهم بأمورهم أو بصنيعهم هذا بمصر " وهم لا يشعرون " يعني لا يعرفونك بمصر ويقال معناه " وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون " أن الله تعالى أوحى إليه وهم لا يعرفونه ويقال لما أرادوا أن يلقوه في البئر تعلق بإخوته فقال له(2/183)
184
جبريل لا تتعلق بهم فإنك تنجو من البئر فألقوه حتى وقع في قعرها فارتفع حجر حتى قام عليه ثم إنهم أخذوا جديا من الغنم فذبحوه ثم لطخوا القميص بدمه
ثم أقبلوا إلى أبيهم كما قال الله تعالى " وجاؤوا أباهم عشاء يبكون " يعني بعد العصر فلما سمع يعقوب أصواتهم فزع وقال يا بني ما لكم " قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق " يعني نتصيد ويقال ننتضل أي يسابق بعضنا البعض في الرمي " وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب " فلما قالوا هذا القول بكى يعقوب وصاح بأعلى صوته ثم قال أين قميصه فأخذ القميص وبكى ثم قال إن هذا الذئب كان بإبني رحيما كيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه وروى سماك عن عامر أنه قال في قميص يوسف ثلاث آيات حين قد قميصه من دبر وحين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيرا وحين جاؤوا على قميصه بدم كذب علم أن الذئب لو أكله لخرق قميصه
فقال لهم كذبتهم فقالوا له " وما أنت بمؤمن لنا " يعني بمصدق لنا في مقالتنا " ولو كنا صادقين " في مقالتنا " وجاؤوا على قميصه بدم كذب " يعني بدم السخلة ولم يكن دم يوسف ويقال بدم كذب أي مكذوب به وقرأ بعضهم " بدم كدب " بالدال يعني بدم طري فأروه القميص بالدم ليعرف به وهي قراءة شاذة وقراءة العامة بالذال وقال يعقوب " قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا " يقول زينت واشتهت لكم أنفسكم أمرا فضيعتموا يوسف " فصبر جميل " يعني علي صبر جميل بلا جزع ويقال معناه لا حيلة لي إلا الصبر ويقال معناه فصبري صبر جميل
وروي عن بعض الصحابة أنه كان يقرأ " فصبرا جميلا " يعني أصبر صبرا جميلا وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن قوله " فصبر جميل " قال صبر لا شكوى فيه ومن بث فلم يصبر ثم قال " والله المستعان على ما تصفون " يقول أستعين بالله وأطلب العون من الله وأستعين بالله على ما تقولون وتكذبون من أمر يوسف
سورة يوسف 19 - 20
قوله تعالى " وجاءت سيارة " أي قافلة يمرون من قبل مدين إلى مصر فنزلوا بقرب البئر " فأرسلوا واردهم " أي طالب مائهم ويقال أرسل كل قوم ساقيهم يستقي لهم الماء فجاء مالك بن دعر إلى الجب الذي فيه يوسف " فأدلى دلوه " يقول أرخى وأرسل دلوه في البئر فتعلق يوسف بالدلو فنظر مالك بن دعر فإذا هو بغلام أحسن ما يكون من الغلمان " قال يا بشرى هذا غلام " قرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو وإبن عامر " يا بشراي " بالألف والياء ونصب الياء وقرأ عاصم " يا بشرى " بنصب الراء وسكون الياء وقرأ نافع في رواية(2/184)
185
ورش بالألف والياء مع السكون وكذلك يقرأونه في " مثواي " و " محياي " و " عصاي " بسكون بالياء وقرأ حمزة والكسائي " يا بشري " بغير ألف وسكون الياء وكسر الراء
فمن قرأ " يا بشراي " يكون بمعنى الإضافة إلى نفسه ومن قرأ " يا بشرى " يكون على معنى تنبيه المخاطبين كقوله يا عجبا وإنما أراد به اعجبوا ومن قرأ " يا بشرى " كأنه إسم رجل دعاه بإسمه بشرى وقال أبو عبيدة هذه القراءة تقرأ لأنها تجمع المعنيين إن أراد به الإسم أو أراد به البشرى بعينها
وقال السدي تعلق يوسف بالحبل فخرج فلما رآه صاحب الدلو نادى رجلا من أصحابه يقال له البشرى وقال يا بشراي هذا غلام وقال قتادة وغيره إنه بشر واردهم حين وجد يوسف
ثم قال " وأسروه بضاعة " يعني التجار بعضهم بعضا وقال بعضهم لبعض أكتموه عن أصحابكم لكيلا يسألوكم فيه بشركة فإن قالوا لكم ما هذا الغلام قولوا إستبضعنا بعض أهل الماء لنبيعه لهم بمصر فذلك قوله " وأسروه بضاعة " يعني أسروه وأعلنوه بضاعة فرجع إخوته بعد ثلاثة أيام فرأوا يوسف في أيديهم فقالوا هذا غلام أبق منا منذ ثلاثة أيام فقالوا لهم ما بال هذا الغلام لا يشبه العبيد وإنما هو يشبهكم فقالوا إنما ولد في حجرنا وإنه إبن وليدة منا أمرتنا ببيعه وقالوا ليوسف بلسانهم لئن أنكرت أنك عبد لنا لنأخذنك ونقتلنك أترى أنا نرجع بك إلى يعقوب أبدا وقد أخبرناه أن الذئب قد أكلك فقال يا إخوتاه إرجعوا بي إلى أبي وأنا ضامن لكم رضاه وأنا لا أذكر له هذا أبدا فأبوا عليه فذلك قوله تعالى " والله عليم بما يعملون " يعني بما يصنع به إخوته
قوله تعالى " وشروه بثمن " يعني باعوه " بثمن بخس " يعني ظلما وحراما لم يحل بيعه ويقال " بثمن بخس " أي بدراهم رديئة ويقال البخس الخسيس " دراهم معدودة " أي يسير عددها وقال مجاهد البخس القليل والمعدودة عشرون درهما وقال كان في ذلك الزمان ما كان فوق الأوقية وزنوه وزنا وما كان دون الأوقية عدوه عدا وقال بعضهم باعوه بعشرة دراهم لأن إسم الدرهم يقع على ما بين الثلاثة إلى العشرة فأصاب كل واحد منهم درهما
وروي عن الضحاك أنه قال باعوه باثني عشر درهما وقال إبن مسعود بيع بعشرين درهما وقال عكرمة البخس أربعون درهما وقال بعضهم لم يبعه إخوته ولكن الذين وردوا الماء وجدوه في البئر وأخرجوه من البئر فباعوه بثمن بخس " دراهم معدودة " وهو قول المعتزلة لأن مذهبهم أن الأنبياء معصومون عن الكبيرة قبل النبوة لأن الكبيرة عندهم تخرج(2/185)
186
المؤمن عن الإيمان وعند أهل السنة الكبيرة لا تخرج المؤمن عن الإيمان وجاز جريان المعصية قبل النبوة وقال عامة المفسرين إن إخوته باعوه وروي عن إبن عباس أن إخوته باعوه بعشرين درهما وكتب يهوذا شراءه على رجل منهم
ثم قال " وكانوا فيه من الزاهدين " يعني الذين اشتروه لم يعلموا بحاله وقصته ويقال يعني إخوة يوسف في ثمنه لم يكونوا محتاجين إليه ثم إن مالك بن دعر لما أدخله مصر باعه قال مقاتل باعه بعشرين دينارا ونعلين وحلة وقال الكلبي بعشرين درهما ونعلين وحلة وقال بعضهم باعه بوزنه فضة وقال بعضهم باعه بوزنه ذهبا وقال وهب بن منبه باعه مالك بن دعر بعدما عرضه في بيع من يزيد ثلاثة أيام فزاد الناس بعضهم على بعض حتى بلغ ثمنه بحيث لا يقدر أحد عليه فاشتراه عزيز مصر وكان خازن الملك وصاحب جنوده لامرأته زليخا بوزنه مرة مسكا ومرة لؤلؤا ومرة ذهبا ومرة فضة ومرة حللا وسلم كلها
سورة يوسف 21 - 22
قوله تعالى " وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته " قال إبن عباس كان إسمه قوطيفر وهو العزيز قال لامرأته واسمها زليخا " أكرمي مثواه " يعني منزله وولايته " عسى أن ينفعنا " في ضياعنا وغلاتنا على وجه التبرك به " أو نتخذه ولدا " يقول نتبناه فيكون إبنا لنا وروى أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال أفرس الناس ثلاثة العزيز حين قال لامرأته " أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا " وبنت شعيب التي قالت " يا أبت إستأجره إن خير من إستأجرت القوي الأمين " [ القصص : 26 ] وأبو بكر حين تفرس في عمر رضي الله عنها وولاه من بعده
قال الله تعالى " وكذلك مكنا ليوسف في الأرض " يعني في أرض مصر وهي أربعون فرسخا في أربعين فرسخا " ولنعلمه من تأويل الأحاديث " يعني كي يلهمه تعبير الرؤيا وغير ذلك من العلوم " والله غالب على أمره " إذا أمر بشيء لا يقدر أحد أن يرد أمر الله تعالى إذا أراد بأحد من خلقه ويقال " والله غالب على أمره " يعني والله متم ليتم أمر يوسف الذي(2/186)
187
هو كائن " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " يعني أهل مصر ويقال يعني أهل مكة لا يعلمون أن الله تعالى غالب على أمره
قوله تعالى " ولما بلغ أشده " يعني يوسف تمت قوة نفسه وعقله ويقال بلغ مبلغ الرجال ويقال الأشد بلوغ ثلاثين سنة وقال الضحاك يعني بلغ ثلاثا ثلاثين سنة ويقال الأشد ما بين ثمانية عشرة سنة إلى ثلاثين سنة ويقال إلى ست وثلاثين سنة ويقال من خمسة عشر إلى ثمان وثلاثين سنة " آتيناه حكما وعلما " يقول أكرمناه بالنبوة والعلم والفهم والفقه فجعلناه حكيما وعليما " وكذلك نجزي المحسنين " يعني هكذا نكافىء من أحسن ويقال هكذا نجزي المخلصين في العمل بالفهم والعلم
سورة يوسف 23 - 24
قوله تعالى " وراودته التي هو في بيتها عن نفسه " يعني راودته عما أرادت عليه مما تريد النساء من الرجال فعلم بذلك ذكر الفاحشة الذي راودته عليه ومعناه طلبت إليه أن يمكنها من نفسه يعني إمرأة العزيز وإسمها زليخا " وغلقت الأبواب " عليها وعلى يوسف وجعلت تغمزه وتمازحه ويوسف يعظها بالله ويزجرها
وروي عن إبن عباس أنه قال كان يوسف إذا تبسم رئيت النور في ضواحكه وإذا تكلم رأيت شعاع النور في كلامه يذهب من بين يديه ولا يستطيع آدمي أن ينعت نعته فقالت له يا يوسف ما أحسن عينيك قال هما أول شيء يسيلان إلى الأرض من جسدي ثم قالت يا يوسف ما أحسن ديباج وجهك قال هو للتراب يأكله ثم قالت يا يوسف ما أحسن شعرك قال هو أول ما ينتثر من جسدي " وقالت " يا يوسف " هيت لك " قرأ حمزة والكسائي وعاصم " هيت لك " بنصب الهاء والتاء بمعنى أقبل ويقال هلم إلي والعرب تقول هيت فلان لفلان إذا دعاه وصاح به وهكذا قرأ إبن مسعود وإبن عباس والحسن وقرأ إبن عامر في رواية هشام " هئت " بكسر الهاء وبالهمز وضم التاء بمعنى تهيأت لك وقرأ إبن كثير " هيت " لك بنصب الهاء وضم التاء ومعناه أنا لك وأنا فداؤك وقرأ نافع وإبن عامر في إحدى الروايتين " هيت " بكسر الهاء ونصب التاء بغير همز " قال معاذ الله " قال يوسف أعوذ بالله أن أعصيه وأخونه " إنه ربي أحسن مثواي " يعني إنه سيدي الذي إشتراني أحسن إكرامي فلم أكن لأفعل بإمرأته ذلك " إنه لا يفلح الظالمون " يعني لا ينجو الزناة من عذاب الله تعالى وفي هذه الآية دليل أن معرفة الإحسان واجب لأن يوسف إمتنع عنها لأجل شيئين لأجل المعصية والظلم ولأجل إحسان الزوج إليه(2/187)
188
قوله تعالى " ولقد همت به وهم بها " روى حماد بن سلمة عن الكلبي أنه قال كان من همها أنها دعته إلى نفسها واضطجعت وهم بها بالموعظة والتخويف من الله تعالى وقيل إنه حل سراويله وجلس بين رجليها " لولا أن رأى برهان ربه " يقول مثل له يعقوب في الحائط عاضا على شفتيه فاستحيا فتنحى بنفسه وقال وهب بن منبه لم تزل تخدعه حتى هم بها ودخل معها في فراشها فنودي من السماء مهلا يا يوسف فإنك لو وقعت في خطيئة محي إسمك عن ديوان النبوة وروى إبن أبي مليكة عن إبن عباس أنه سئل عن قوله " لقد همت به وهم بها " ما بلغ من همه قال أطلق هميانه فنودي يا يوسف لا تكن كالطائر له ريش فزنى فسقط ريشه ويقال كان همها هم إرادة وشهوة وهمه هم إضطرار وغلبة وقال بعضهم كان همه حديث النفس والفكر وهما مرفوعان وقال بعضهم " هم بها " يعني يضربها وقال بعضهم يعني هم بالفرار عنها وقال بعضهم " ولقد همت به " تم الكلام ثم قال " وهم بها لولا أن رأى برهان ربه " يعني لما رأى البرهان لم يهم بها فقد قيل هذه الأقاويل والله أعلم وقد روي في الخبر أنه ليس من نبي إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة غير يحيى بن زكريا ولكنهم كانوا معصومين من الفواحش
وقوله تعالى " لولا أن رأى برهان ربه " روى سعيد بن جبير عن إبن عباس أنه قال مثل له يعقوب فضرب بيده على صدره فخرجت شهوته من أنامله وقال محمد بن كعب " لولا أن رأى برهان ربه " قال لولا أن قرأ القرآن من تحريم الزنى وذلك أنه إستقبل بكتاب لله " ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا " [ الإسراء : 32 ]
قال الله تعالى " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء " يقول هكذا صرفت السوء والفحشاء عن يوسف بالبرهان حين إستعاذ إلي بقوله معاذ الله
ثم قال " إنه من عبادنا المخلصين " بالتوحيد والطاعة قرأ إبن كثير وأبو عمرو وإبن عامر " المخلصين " بكسر اللام ومعناه ما ذكرناه وقرأ الباقون " المخلصين " بالنصب يعني المعصومين من الذنوب والفواحش ويقال أخلصه الله بالنبوة والرسالة والإسلام
سورة يوسف 25 - 29
قوله تعالى " واستبقا الباب " يعني تبادرا إلى الباب يعني يوسف وزليخا أما يوسف(2/188)
189
فاستبق ليخرج من الباب وأما زليخا فاستبقت لتغلق الباب فأدركته قبل أن يخرج من الباب فتعلقت به قبل أن يخرج من الباب " وقدت قميصه من دبر " يعني مزقت وخرقت قميصه من خلفه " وألفيا سيدها " يعني صادفا ووجدا سيدها " لدى الباب " يعني زوجها عند الباب " قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا " يعني قالت لزوجها " ما جزاء " يعني ما عقاب " من أراد بأهلك سوءا " يعني قصد بها الزنى " إلا أن يسجن " يعني يحبس في السجن " أو عذاب أليم " يعني يضرب ضربا وجيعا وذلك أن الزوج قال لهما ما شأنكما قالت له زليخا كنت نائمة في الفراش عريانة فجاء هذا الغلام العبراني وكشف عن ثيابي وراودني عن نفسي فدفعته عن نفسي فانشق قميصه " قال " يوسف بل " هي راودتني عن نفسي " يعني دعتني إلى نفسها " وشهد شاهد من أهلها " قال مجاهد قميصه شاهد أنه قد قد من دبر فظهر أن الذنب كان لها بتلك العلامة وروي عن عكرمة عن إبن عباس أنه قال كان صبي في المهد لم يتكلم بعد فتكلم وقال " إن كان قد قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين " الآية وقال قتادة كان رجلا حكيم من أهلها ويقال كان رجل من خواص الملك وروي عن عكرمة أنه قيل له إنه صبي قال لا ولكنه رجل حكيم وقال الحسن ولكن كان رجلا له رأي فقال برأيه وروى أبو صالح عن إبن عباس أنه قال كان زوجها على الباب مع إبن عم لها يقال له تمليخا وكان رجلا حكيما فقال قد سمعنا الإشتداد والجلبة من وراء الباب ولا ندري أيكما قدام صاحبه فقال إبن عمها إن كان قد شق القميص من قدامه فأنت صادقة فيما قلت وإن كان مشقوقا من خلفه فهو صادق فنظروا إلى قميصه فإذا هو مشقوق من خلفه فذلك قوله تعالى " وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت " يعني زليخا " وهو " يعني يوسف " من الكاذبين " " وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت " يعني زليخا " وهو " يعني يوسف " من الصادقين " وذلك أن الرجل لا يأتيها إلا مقبلا " فلما رأى قميصه قد من دبر " يعني مقدودا من دبر " قال " إبن عمها " إنه من كيدكن " يعني من صنيعكن ويقال قال الزوج " إن كيدكن عظيم " يعني صنيعكن عظيم يخلص إلى البريء والسقيم والصالح والطالح وفي هذه الآية دليل أن القضاء بشهادة الحال جائز وقال بعض الحكماء سمى الله كيد الشيطان ضعيفا وسمى كيد النساء عظيما لأن كيد الشيطان بالوسوسة والخيال وكيد النساء بالمواجهة والعيان
ثم أقبل على يوسف فقال " يوسف أعرض عن هذا " يعني يا يوسف أعرض عن هذا القول ولا تذكره واكتم هذا الحديث ثم أقبل عليها فقال " واستغفري لذنبك " يعني توبي وارجعي عن ذنبك ويقال إبن عمها هو الذي قال لها واستغفري لذنبك واعتذري إلى زوجك من ذنبك " إنك كنت من الخاطئين
" يعني من المذنبين وفشا ذلك الخبر في مصر وتحدثت النساء فيما بينهن(2/189)
190
سورة يوسف 30 - 33
قوله تعالى " وقال نسوة في المدينة " قال الكلبي هن أربع نسوة إمرأة ساقية يعني ساقي الملك وامرأة الخباز وامرأة صاحب السجن وامرأة صاحب دوابه ويقال هن خمس خامستهن امرأة صاحب الملك ويقال أربعون إمرأة ويقال جماعة كثيرة من النساء إجتمعن في موضع وقلن فيما بينهن " إمرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه " يعني تطلب عبدها وتدعوه إلى نفسها " قد شغفها حبا " قال الحسن يعني قد شق شغاف قلبها حبه وقال عامر الشعبي الشغوف المحب والمشغوف المحبوب وقال القتبي " قد شغفها حبا " أي بلغ الحب شغافها وهو غلاف القلب ومن قرأ " قد شغفها " أي فتنها من قولك فلان شغوف بفلانة ويقال شغف الشيء الشيء إذا علاه " قد شغفها " أي علاها ويقال أهلكها فلا تعقل غيره " إنا لنراها في ضلال مبين " يعني في خطأ بين ويقال في عشق بين فلا تعقل غيره
قوله تعالى " فلما سمعت بمكرهن " يعني سمعت زليخا بمقالتهن وإنما سمي قولهن مكرا والله أعلم لأن قولهن لم يكن على وجع النصيحة والنهي عن المنكر ولكن كان على وجه الشماتة والتعيير " أرسلت إليهن " فدعتهن " وأعدت لهن متكأ " يعني إتخذت لهن وسائد يتكئن عليها لجلوسهن وذلك أنها إتخذت ضيافة ودعت النسوة ووضعت الوسائد لجلوسهن وقال الفراء من قرأ " متكأ " غير مهموز فإنه الأترج وكذلك قال إبن عباس
روى منصور عن مجاهد أنه قال من قرأ مثقلة قال يعني الطعام ومن قرأ مخففة قال الأترج ويقال الزماورد وهو نوع من التمر وقال عكرمة كل شيء يقطع بالسكين " وآتت كل واحدة منهن سكينا " يعني أعطت زليخا كل واحدة من النسوة سكينا وأمرت يوسف بأن يلبس أحسن ثيابه وزينته أحسن الزينة " وقالت أخرج عليهن " يعني أخرج على النساء فخرج عليهن روى أبو الأحوص عن إبن مسعود قال أوتي يوسف وأمه ثلث حسن الناس في الوجه والبياض وغير ذلك وكانت المرأة إذا رأت يوسف غطى وجهه مخافة أن تفتن به فلما خرج يوسف إلى النسوة غطى وجهه فنظرن إليه " فلما رأينه أكبرنه " يقول أعظمنه أي(2/190)
191
أعظمن شأنه وتحيرن وبقين مدهوشات طائرة عقولهن " وقطعن أيديهن " يقول حززن وخدشن أيديهن بالسكين ولم يشعرن بذلك " وقلن حاش لله " يعني معاذ الله " ما هذا بشرا " قرأ بعضهم بالرفع " ما هذا بشر " وقرأ بعضهم " ما هذا ببشر " يعني مثل هذا لا يكون بشرا وقراءة العامة " ما هذا بشرا " بنصب الراء والتنوين لأنه خبر ما ولأنه صار نصبا لنزع الخافض ومعناه " ما هذا بشرا " يعني مثل هذا لا يكون آدميا " إن هذا إلا ملك كريم " يعني على ربه فإن قيل إنهن لم يرين الملك فكيف شبهنه بشيء لم يرينه قيل له لأن المعروف عند الناس أنهم إذا وصفوا أحدا بالحسن يقولون هذا يشبه الملك كما أنهم إذا وصفوا أحدا بالقبح يقولون هو كالشيطان وإن لم يروا الشيطان
قرأ أبو عمرو " حاشا لله " بالألف وقرأ الباقون بغير ألف وكذلك الذي بعده " قالت " زليخا للنسوة " فذلكن الذي لمتنني فيه " يقول عذلتني فيه وعبتني فيه فهل عذرتنني فقلن لها أنت معذورة قالت " ولقد راودته عن نفسه " يعني طلبت إليه أن يمكنني من نفسه " فاستعصم " أي فامتنع بنفسه مني " ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن " يعني أحبسه في السجن " وليكونا من الصاغرين " يعني من المهانين بالسجن ويقال من المذلين وقرأ بعضهم " ليكونن " بتشديد النون وهذا خلاف مصحف الإمام وقراءة العامة " وليكونا " لأن النون الخفيفة تبدل منها في الوقف بالألف
" قال " يوسف " رب " يقول يا سيدي " السجن أحب إلي مما يدعونني " النسوة " إليه " من العمل القبيح قرأ بعضهم " قال رب السجن " بنصب السين على معنى المصدر يقال سجنته سجنا وهي قراءة شاذة وقراءة العامة الكسر يعني نزول بيت السجن أحب إلي مما يدعونني إليه يعني به إمرأة العزيز خاصة ويقال أراد به النسوة اللاتي حضرن هناك لأنهن قلن له أطع مولاتك ولا تخالفها فإن لها عليك حقا وقد إشترتك بمالها وهي تحسن إليك وتحبك وتطلب هواك فقال " رب السجن أحب إلي " وقال بعض الحكماء لو أنه قال رب العافية أحب إلي لعافاه الله تعالى ولكن لما نجا بدينه لم يبال بما أصابه في الله
ثم قال " وإلا تصرف عني كيدهن " يعني إذا لم تصرف عني عملهن وشرهن " أصب إليهن " أي أمل إليهن " وأكن من الجاهلين " يعني من المذنبين
سورة يوسف 34 - 35
قوله تعالى " فاستجاب له ربه " فيما دعاه يوسف " فصرف عنه كيدهن " يعني فعلهن وشرهن " إنه هو السميع العليم " يسمع لمن دعاه ويقال " السميع " للدعاء فيما دعاه يوسف " العليم " به(2/191)
192
ثم إن المرأة قالت لزوجها إن هذا الغلام العبراني لا يقلع عني وقد فضحني في الناس يعتذر إليهم ويخبرهم ويقول أنني راودته عن نفسه ولست أطيق أن أعتذر بعذري فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر إلى الناس وأخبرهم بحالي وإما أن تحبسه حتى ينقطع حديثه فذلك قوله تعالى " ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات " يعني ثم بدا للزوج من بعد ما رأى شق القميص وقضاء إبن عمها بينهما " ليسجننه حتى حين " قال الكلبي فسجنه خمس سنين ويقال " حتى حين " يعني إلى يوم من الأيام أو إلى وقت من الأوقات
سورة يوسف 36 - 37
قوله تعالى " ودخل معه السجن فتيان " يعني حبس معه في السجن الخباز والساقي عبدان لملك غضب عليهما يعني صاحب شرابه وصاحب مطبخه " قال أحدهما " ليوسف " إني أراني " في المنام " أعصر خمرا " يعني عنبا بلغة عمان قال الضحاك إن ناسا من العرب يسمون العنب خمرا ويقال معناه أعصر العنب الذي يكون عصيره خمرا وذلك أنه قال رأيت في المنام كأني دخلت كرما فيه حبلة حسنة فيها ثلاث من القضبان وفي القضبان ثلاثة عناقيد عنب قد أينع وبلغ فأخذته وعصرته في الكأس ثم أتيت به الملك فسقيته
" وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا " يقول رأيت في المنام كأني أحمل فوق رأسي ثلاث سلال خبزا " تأكل الطير منه نبئنا بتأويله " يقول أخبرنا بتفسير هذه الرؤيا " إنا نراك من المحسنين " أي من الموحدين وذلك أنه ينصر المظلوم ويعين الضعيف وكان يداوي مرضاهم ويعزي مكروبهم فإذا إحتاج واحد منهم قام وجمع له شيئا ويقال " إنا نراك من المحسنين " يعني من الصادقين في القول ويقال كان متعبدا لربه ويقال كان أهل السجن يجتمعون عنده ويسألونه أشياء فيخبرهم فقالا " إنا نراك من المحسنين " يعني نراك عالما وقد أحسنت العلم " قال " لهما يوسف " لا يأتيكما طعام ترزقانه " يعني تطعمانه " إلا نبأتكما بتأويله " يقول أخبرتكما بتفسيره وألوانه " قبل أن يأتيكما " الطعام وإنما أراد بذلك أن يبين لهما علامة نبوته وهذا مثل قول عيسى عليه السلام لقومه " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " [ آل عمران : 49 ] فلما أخبر يوسف بذلك قالا وكيف تعلم ولست بساحر ولا عراف ولا كاهن قال يوسف " ذلكما مما علمني ربي " أراد أن يبين لهما علامة نبوته لكي يسلما
ثم قال " إني تركت " يعني تبرأت من " ملة قوم " يعني دين قوم " لا يؤمنون بالله "(2/192)
193
أي لا يصدقون بوحدانية الله " وهم بالآخرة هم كافرون " يعني بالبعث جاحدون
سورة يوسف 38
ثم قال تعالى " واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب " يعني إتبعت دينهم " ما كان لنا " أي ما جاز لنا " أن نشرك بالله من شيء " من الآلهة " ذلك من فضل الله " يعني ويقال ذلك الإرسال الذي أرسل إليه بالنبوة من فضل الله " علينا وعلى الناس " يعني المؤمنين " ولكن أكثر الناس " يعني أهل مصر " لا يشكرون " النعمة
سورة يوسف 39 - 41
ثم دعاهما إلى الإسلام فقال " يا صاحبي السجن " يعني الخباز والساقي " أأرباب متفرقون " أي الآلهة وعبادتها " خير أم " عبادة " الله الواحد القهار "
ثم قال " ما تعبدون من دونه " أي من الآلهة " إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان " يعني لا عذر ولا حجة بعبادتكم إياها " إن الحكم " يعني ما القضاء فيكم " إلا لله " في الدنيا والآخرة " أمر ألا تعبدوا إلا إياه " يعني أمر في الكتاب أن لا تطيعوا في التوحيد إلا إياه " ذلك الدين القيم " يعني هذا التوحيد هو الدين المستقيم وهو دين الإسلام الذي لا عوج فيه " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " أن دين الله هو الإسلام
ثم أخبرهما بتأويل الرؤيا بعد ما نصحهما ودعاهما إلى الإسلام وأخذ عليهما الحجة فقال " يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا " وهو الساقي قال له يوسف تكون في السجن ثلاثة أيام ثم تخرج فتكون على عملك وتسقي سيدك خمرا وقرأ بعضهم " فيسقي " بضم الياء من أسقيته إذا جعلت له سقيا يعني تتخذ الشراب الذي تسقي للملك قراءة العامة " فيسقي " بنصب الياء يقال سقيته إذا ناولته
ثم بين تأويل رؤيا الآخر فقال " وأما الآخر " وهو الخباز " فيصلب " يعني يخرج من السجن بعد ثلاثة أيام ويصلب " فتأكل الطير من رأسه " فلما أخبرهما يوسف بتأويل الرؤيا قالا ما رأينا شيئا فقال لهما يوسف عليه السلام " قضي الأمر الذي كنتم فيه تستفتيان " يعني تسألان رأيتماها أو لم ترياها قلتما لي وقلت لكما فكذلك يكون وروى إبراهيم النخعي(2/193)
194
عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أنه قال إنهما كان يتحاكما ليجرباه فلما أول رؤياهما قالا إنما كنا نلعب قال يوسف " قضي الأمر الذي فيه تستفتيان "
سورة يوسف 42 - 44
قوله تعالى " وقال للذي ظن أنه ناج منهما " يعني قال يوسف عليه السلام للذي علم أنه ينجو من السجن والقتل وهو الساقي " أذكرني عند ربك " قال يوسف للساقي إذا دعاك الملك وسقيته فاذكرني عنده فإني مظلوم قد عدا علي إخوتي فباعوني " فأنساه الشيطان ذكر ربه " يعني أنسى الشيطان يوسف أن يستغيث بالله تعالى فاستغاث بالملك وقال الفراء أنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف عند الملك وروى إبن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى " فأنساه الشيطان " قال هو يوسف أنساه الشيطان ذكر ربه وأمره بذكر الملك وابتغى الفرج من عنده " فلبث في السجن بضع سنين " بقوله " أذكرني عند ربك "
وروى معمر عن قتادة أنه قال بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لو لم يستعن يوسف على ربه لما لبث في السجن طول ما لبث وروي عن أبي عبيدة أنه قال البضع ما دون نصف العقد يعني من واحد إلى أربعة وقال الأصمعي ما بين الثلاث إلى التسع هكذا قال قطرب والسدي وروى منصور عن مجاهد قال البضع ما بين الثلاث إلى السبع وذكر عبد العزيز بن عمر الكندي أن يوسف رأى جبريل في السجن فقال له يا أخا المنذرين ما لي أراك بين الخاطئين فقال له جبريل يا طاهر الطاهرين رب العزة يقرئك السلام ويقول أما إستحييت مني إذا إستشفعت بالآدميين فبعزتي لألبثنك في السجن بضع سنين قال بعضهم بضع سنين أي سبع سنين سوى الخمس الذي مكث فيه وذلك إثنتا عشرة سنة وقال بعضهم جميع ما أقام فيه سبع سنين وقال بعضهم ثماني عشرة سنة
ثم إن الملك رأى في المنام واسم الملك ريان بن الوليد فذلك قوله تعالى " وقال الملك إني أرى " يعني رأيت في المنام " سبع بقرات سمان " خرجن من نهر مصر ثم خرج من بعدهن " سبع بقرات عجاف " هزلى فابتلع العجاف السمان فدخلن في بطونهن فلم ير منهن شيء ورأيت " وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات " يعني سنبلات أخر يابسات " يا أيها(2/194)
195
الملأ ) يعني العرافين والسحرة والكهنة " أفتوني في رؤياي " يعني عبروا رؤياي وبينوا تفسيرها " إن كنتم للرؤيا تعبرون " أي تفسرون " قالوا أضغاث أحلام " يعني أباطيل أحلام مختلطة " وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين " يعني ليس للرؤيا المختلطة عندنا تفسير وقال أهل اللغة كل رؤيا لا تأويل لها فهي " أضغاث أحلام " أي أباطيل أحلام مختلطة واحدها ضغث
سورة يوسف 45 - 50
قوله تعالى " وقال الذي نجا منهما " وهو الساقي " وادكر بعد أمة " يعني تذكر بعد حين أي بعد سبع سنين وقال الزجاج أصل " إدكر " إدتكر ولكن التاء أبدلت بالدال وأدغم الدال في الدال وقال القتبي الأمة الصنف من الناس والجماعة كقوله تعالى " إلا أمم أمثالكم " [ الأنعام : 38 ] ثم تستعمل الأمة في الأشياء المختلفة يقال للإمام أمة كقوله " إن إبراهيم كان أمة " [ النحل : 120 ] لأنه سبب للإجتماع ويسمى الدين أمة كقوله " إنا وجدنا آباءنا على أمة " [ الزخرف : 22 ] أي على دين لأن القوم يجتمعون على دين واحد فيقام ذلك اللفظ مقامه ويسمى الحين أمة كقوله " وادكر بعد أمة " وكقوله " إلى أمة معدودة " [ هود : 8 ] وإنما سمي الحين أيضا أمة لأن الأمة من الناس ينقرضون في حين فيقام الأمة مقام الحين
وقرأ بعضهم " وادكر بعد أمة " يعني بعد نسيان يقال أمهت أي نسيت وقال الفراء يقال رجل مأموه كأنه ليس معه عقل فلما تذكر الساقي حال يوسف جاء وجثا بين يدي الملك وقال " أنا أنبئكم بتأويله " يعني بتأويل ما رأيت من الرؤيا وروي عن الحسن أنه كان يقرأ " أنا آتيكم بتأويله " وقراءة العامة " أنبئكم بتأويله " فقال وما يدريك يا غلام ولست بمعبر ولا كاهن فقص عليه أمره الذي كان وقت كونه في السجن برؤيته الرؤيا وتعبير يوسف لها وصدق تعبيره على نحو ما وصفه له وأخبره بحال يوسف وحكمته وعلمه وفهمه قال " فأرسلون " يعني أرسلني أيها الملك إلى " يوسف " خاطبه بلفظ الجماعة كما يخاطب الملوك فأرسله الملك فلما جاء إلى يوسف في السجن فدخل عليه واعتذر إليه بما أنساه الشيطان ذكر ربه وقال " يوسف أيها الصديق " يعني يا يوسف أيها الصديق و " الصديق "(2/195)
196
الكثير الصدق يعني أيها الصادق فيما عبرت لنا " أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن " أي يبتلعهن " سبع عجاف " هزلى " وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس " يعني إلى أهل مصر " لعلهم يعلمون " قدرك ومنزلتك ويقال أرجع إلى الناس يعني إلى الملك لكي يعلم مكانك فيكون ذلك سببا لخلاصك إذا علم تعبير رؤياه فعبر يوسف رؤياه وهو في الحبس فقال أما السبع البقرات السمان فهي سبع سنين خصب أما السبع العجاف فهي سبع سنين شدة وقحط ولا يكون في أرض مصر البر وأما السبع السنبلات الخضر فهي الخصب واليابسات هي القحط
" قال تزرعون سبع سنين دأبا " يعني إزرعوا سبع سنين " دأبا " يعني دائما " فما حصدتم " من الزرع " فذروه في سنبله " يعني في كعبرته فهو أبقى لكم لكي لا يأكله السوس إذا كانت في الكعبرة " إلا قليلا مما تأكلون " يعني تدرسون بقدر ما تحتاجون إليه فتأكلون
" ثم يأتي من بعد ذلك " الخصب " سبع شداد " يعني القحط سنين مجدبات " يأكلن ما قدمتم لهن " يعني ما وراء السبع السنين ويقال " ما قدمتم " يعني ما جمعتم لهن " إلا قليلا مما تحصنون " يعني تدخرون وتخزنون " ثم يأتي من بعد ذلك " القحط " عام فيه يغاث الناس " يعني يمطر الناس والغيث المطر ويقال هو من الإغاثة يعني يغاثون بسعة الرزق " وفيه يعصرون " يعني ينجون من الشدة ويقال يعصرون العنب والزيتون قرأ حمزة والكسائي " تعصرون " بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ الباقون بالياء على معنى المغايبة يعني الناس وقرأ بعضهم " يعصرون " بضم الياء ونصب الصاد يعني يمطرون من قوله تعالى " وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا " [ النبأ : 14 ] فرجع الساقي إلى الملك وأخبره بذلك
قال تعالى " وقال الملك ائتوني به " قال بعضهم كان الملك رأى الرؤيا ونسيها فأتاه يوسف فأخبره بما رأى وأخبره بتفسيره ولكن في ظاهر الآية دليل أن الملك كان ذاكرا لرؤياه وأن يوسف عبر رؤياه وهو في السجن قبل أن ينتهي إلى الملك " وقال الملك إئتوني به " يعني بيوسف " فلما جاءه الرسول " برسالة الملك أن الملك يدعوك " قال " يوسف للرسول " إرجع إلى ربك " يعني إلى سيدك وهو الملك " فاسأله ما بال النسوة التي قطعن أيديهن " يعن سله حتى يتبين له أني مظلوم في حبسي أو ظالم " إن ربي بكيدهن عليم " يعني إن سيدي وخالقي عالم بما كان منهن
قال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا إبراهيم الدبيلي قال حدثنا أبو عبيد الله عن سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا الكلمة التي قال يوسف " للذي ظن أنه ناج منهما أذكرني عند ربك " ما لبث في السجن طول ما لبث ولقد(2/196)
197
عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله لو كنت أنا الذي دعيت إلى الخروج لبادرتهم إلى الباب ولكن أحب أن يكون له العذر بقوله " فلما جاءه الرسول قال إرجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة التي قطعن أيديهن " قال إبن عباس لو خرج يوسف حين دعي لم يزل في قلب الملك منه شيء فلذلك " قال إرجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة "
سورة يوسف 51 - 53
قوله تعالى " قال ما خطبكن " وذلك أن الملك أرسل إلى النسوة وجمعهن ثم سألهن فقال " ما خطبكن " يعني ما حالكن وشأنكن في أمركن " إذ راودتن يوسف عن نفسه " يعني طلبت إمرأة العزيز إلى يوسف المراودة عن نفسه هل ليوسف في ذلك ذنب فأخبرن الملك ببراءة يوسف فقال " قلن حاش لله " يعني معاذ الله " ما علمنا عليه من سوء " يعني ما رأينا منه شيئا من الفاحشة ولم يكن له ذنب فلما رأت إمرأة العزيز أن النسوة شهدن عليها إعترفت على نفسها وأقرت بذلك فذلك قوله تعالى " قالت إمرأة العزيز الآن حصحص الحق " يعني ظهر الحق ووضح ويقال إستبان قال الزجاج إشتقاقه في اللغة من الحصة أي بانت حصة الحق وجهته من حصة الباطل ومن جهته " أنا راودته عن نفسه " يعني طلبت إليه أن يمكنني من نفسه " وإنه لمن الصادقين " إنه لم يراودني وهو صادق فيما قال ذلك اليوم حيث قال هي راودتني عن نفسي قال يوسف عند ذلك إنما فعلت " ذلك ليعلم " العزيز " أني لم أخنه بالغيب " يعني لم أخنه في إمرأته إذا غاب عني فذلك قوله " ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين " يعني لا يرضى عمل الزانين
وروى إسماعيل بن سالم عن أبي صالح قال " ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب " قال هو يوسف لم يخن العزيز في إمرأته وروى عكرمة عن إبن عباس رضي الله عنه أنه لما قال يوسف " ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب " قال له جبريل عند ذلك ولا يوم هممت بما هممت به قال يوسف عليه السلام " وما أبرىء نفسي " يعني من الهم الذي هممت به " إن النفس لأمارة بالسوء " يعني بالمعصية ويقال القلب آمر للجسد بالسوء والإثم يقال في اللغة إذا أمرت النفس بشيء فهي آمرة وإذا أكثرت الأمر يقال هي أمارة فقال " إن النفس لأمارة(2/197)
198
بالسوء ) يعني مائلة إلى الشهوات " إلا من رحم ربي " أي إلا من عصمه الله تعالى من المعصية " إن ربي غفور " للهم الذي هممت به " رحيم " حين تاب وعصمني وغفر لي
سورة يوسف 54 - 60
قوله تعالى " وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي " يعني أجعله في خاصه نفسي فلما خرج يوسف من السجن ودع أهل السجن ودعا لهم وقال اللهم اعطف قلوب الصالحين عليهم ولا تستر الأخبار عليهم فمن ثم تقع الأخبار عند أهل السجن قبل أن تقع عند عامة الناس ولما دخل يوسف على الملك وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا فأجابه يوسف بذلك كله ثم تكلم يوسف بالعبرانية فلم يحسنها الملك فقال ما هذا اللسان يا يوسف قال هذا لسان آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام
ثم كلمه بالعربية فلم يحسنها الملك فقال ما هذا اللسان فقال لسان عمي إسماعيل " فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين " في المنزلة " أمين " على ما وكلتك قال له يوسف عليه السلام " إجعلني على خزائن الأرض " يعني على خراج مصر " إني حفيظ " للتدبير ويقال " حفيظ " بما وكلت به " عليم " بجميع الألسن ويقال " عليم " بأخذها ووضعها مواضعها وإنما سأل ذلك صلاحا للخلق لأنه علم أنه ليس أحد يقوم بإصلاح ذلك الأمر مثله ويقال " حفيظ عليم " يعني عليما بساعة الجوع وكان الملك يأكل في كل يوم نصف النهار فلما كانت الليلة التي قضى الله بالقحط فيها أمر يوسف بأن يتخذ طعام الملك بالليل فلما أصبح الملك قال الجوع الجوع فأتي بطعام مهيء قال وما يدريكم بذلك قالوا أمرنا بذلك يوسف ففوض الملك أموره كلها إلى يوسف وهو قوله تعالى " وكذلك مكنا ليوسف " يعني صنعنا ليوسف " في الأرض " يعني أرض مصر " يتبوأ منها " يعني ينزل منها " حيث يشاء " قرأ إبن كثير " حيث نشاء " بالنون يعني حيث يشاء الله وقرأ الباقون بالياء " حيث يشاء " يوسف " نصيب برحمتنا من نشاء " نختص بنعمتنا النبوة والإسلام والنجاة من نشاء " ولا نضيع أجر المحسنين " يعني لا نبطل ثواب الموحدين حتى نوفيه جزاءه في الدنيا ومع ذلك له ثواب في الآخرة فذلك قوله تعالى " ولأجر الآخرة خير "(2/198)
199
يعني ثواب الآخرة أفضل مما أعطي في الدنيا " للذين آمنوا " أي صدقوا بوحدانية الله تعالى " وكانوا يتقون " الشرك
وروي في الخبر أن زوج زليخا مات وبقيت إمرأته زليخا فجلست يوما على الطريق فمر عليها يوسف في حشمه فقالت زليخا الحمد لله الذي جعل العبد ملكا بطاعته وجعل الملك مملوكا بمعصيته وتزوجها يوسف فوجدها عذراء وأخبرت أن زوجها كان عنينا لم يصل إليها ثم وقع القحط بالناس حتى أكلوا جميع ما في أيديهم واحتاجوا إلى ما عند يوسف وكان يوسف قد جمع في وقت الخصب مقدار ما يكفي السنين المجدبة للأكل والبيع فجعل الناس يعطونه أموالهم العروض والرقيق والعقار وغير ذلك ويأخذون منه الطعام ووقع القحط بأرض كنعان حتى أصاب آل يعقوب الحاجة إلى الطعام فقال يعقوب لبنيه إنهم يزعمون أن بمصر ملكا يبيع الطعام فخرج بنو يعقوب وهم عشرة نحو مصر حتى أتوا يوسف فدخلوا عليه وعليه زي الملوك فلم يعرفوه فعرفهم يوسف وكلموه بالعبرانية فأرسل يوسف إلى الترجمان وهو يعلم لسانهم ولكنه أراد أن يشتبه عليهم فذلك قوله تعالى " وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم " يعني عرف يوسف أنهم إخوته " وهم له منكرون " يعني لم يعرفوا أنه يوسف لأنهم كانوا فارقوه في حال الصغر وكان يوسف عليه زي الملوك بخلاف ما كانوا كانوا رأوه في حال الصغر
روى أسباط عن السدي وغيره قال إستعمله الملك على مصر وكان صاحب أمره الذي يلي البيع والتجارة فبعث يعقوب بنيه إلى مصر فلما دخلوا على يوسف عرفهم فلما نظر إليهم قال أخبروني ما أمركم فإني أنكر شأنكم قالوا نحن قوم من أرض الشام قال فما جاء بكم قالوا جئنا نمتار طعاما قال كأنكم عيون كم أنتم قالوا عشرة قال أنتم عشرة آلاف كل رجل منكم أمير ألف رجل فأخبروني خبركم قالوا إنا إخوة بنو رجل صديق وإنا كنا إثني عشر فكان أبونا يحب أخا لنا وهو هلك في الغنم ووجدنا قميصه ملطخا بالدم فأتينا به أبانا فكان أحبنا إلى أبينا منا قال فإلى من سكن منكم أبوكم بعده قالوا إلى أخ له أصغر منه قال فكيف تخبروني أنه صديق وهو يختار الصغير منكم دون الكبير وكيف تخبروني أنه هلك وبقي قميصه فلو كان اللصوص قتلوه لأخذوا قميصه ولو كان الذئب أكله لمزق قميصه فإذا كلامكم متناقض إحبسوهم ثم قال إن كنتم صادقين في مقالتكم فخلفوا عندي بعضكم وأتوني بأخيكم هذا حتى أنظر إليه " فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون " قالوا إختر أينا شئت فارتهن شمعون ثم أمر يوسف بوفاء كيلهم فذلك قوله تعالى " ولما جهزهم بجهازهم " يعني كال لهم كيلهم وأعطى كل واحد منهم حمل بعير ثم " قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوف الكيل وأنا خير المنزلين " يعني أفضل من يضيف
ويكرم الذي نزل به " فإن لم تأتوني به " يعني بأخيكم " فلا(2/199)
200
كيل لكم عندي ) فيما تستقبلون " ولا تقربون " يعني ولا تستقبلوا إلي مرة أخرى فإني لا أعطي لكم الطعام قال الزجاج القراءة بالكسر يعني بكسر النون وهو الوجه ويجوز " ولا تقربون " بفتح النون لأنها نون الجماعة كما قال " فبم تبشرون " [ الحجر : 54 ] بفتح النون قال ويكون " ولا تقربون " لفظه لفظ الخبر ومعناه معنى النهي
سورة يوسف 61 - 64
قوله تعالى " قالوا سنراود عنه أباه " يعني سنطلب من أبيه أن يبعثه معنا " وإنا لفاعلون " يعني لصانعون ذلك فنطلبه من أبيه ليبعثه ويقال وإنا لضامنون ذلك " وقال لفتيانه " قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " لفتيانه " بالألف والنون وقرأ الباقون " لفتيته " فقال أهل اللغة الفتيان والفتية بمعنى واحد وهم الغلمان والخدم يعني قال يوسف لغلمانه وقومه الذين يكيلون يعني الطعام " واجعلوا بضاعتهم في رحالهم " يعني دسوا دراهمهم في رحالهم يعني في جواليقهم " لعلهم يعرفونها " يعني يعرفون كرامتي عليهم " إذا انقلبوا " يعني إذا رجعوا " إلى أهلهم لعلهم يرجعون " الثانية
قال الفراء فيها قولان أحدهما أن يوسف خاف ألا يكون عند أبيهم دراهم فجعل البضاعة في رحالهم لعلهم يرجعون ولا يتأخرون عن الرجوع بسبب الدراهم والآخر أنهم إذا عرفوا بضاعتهم وقد إكتالوا الطعام ردوها عليه ولا يستحلون إمساكها لأنهم أنبياء الله تعالى لا يستحلون إمساك مال الغير " فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل " فيما نستقبل يعني الحنطة وأخبروه بالقصة قالوا " فأرسل معنا أخانا " بنيامين " نكتل " يعني يشتري هو ويكيلون لنا " وإنا له لحافظون " من الضيعة حتى نرده إليك قرأ حمزة والكسائي " يكتل " بالياء وقرأ الباقون بالنون فمن قرأ بالياء يعني هو يكتال لنفسه لأنهم كانوا لا يبيعون من كل رجل إلا وقرأ واحد ومن قرأ بالنون فمعناه أن الملك قد أخبر أنه لا كيل لنا في المستقبل فلو أرسلته معنا فإنا نكتال منه فلما أخبروه بذلك " قال " يعقوب عليه السلام " هل آمنكم عليه " يعني هل أئتمنكم عليه " إلا كما أمنتكم على أخيه " يوسف " من قبل " ومعناه هكذا قلتم لي في أمر يوسف ولا أقدر أن آخذ عليكم من العهد أكثر ما أخذت عليكم في يوسف من قبل قرأ إبن مسعود هل تحفظونه إلا كما حفظتم من قبل أخاه يوسف " فالله خير حافظا " منكم إن أرسلته معكم " وهو أرحم الراحمين " حين خلصه من الجوع ولا بد من(2/200)
201
أن أرسله قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " حافظا " بالألف وقرأ الباقون " حفظا " بغير ألف والحافظ الإسم والحفظ المصدر
سورة يوسف 65 - 67
قوله تعالى " ولما فتحوا متاعهم " يعني أوعيتهم وجواليقهم " وجدوا بضاعتهم " يعني دراهمهم " ردت إليهم قالوا " لأبيهم " يا أبانا ما نبغي " يعني ما نكذب إنه ألطف علينا وأكرمنا " هذه بضاعتنا " أي دراهمنا " ردت إلينا ونمير أهلنا " يعني نمتار لأهلنا يعني مار أهله وأمار لأهله إذا حمل إليهم قوتهم من غير بلده يعني أبعثه معنا لكي نحمل الطعام لأهلنا " ونحفظ أخانا " من الضيعة " ونزداد كيل بعير " أي حمل بعير من أجله
روى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة أنه كان يقرأ " ردت إلينا " بكسر الراء لأن أصله رددت فأدغمت إحدى الدالين في الأخرى ونقل الكسر إلى الراء وهي قراءة شاذة
ثم قال " ذلك كيل يسير " يعني سريع لا حبس فيه إن أرسلته معنا ويقال ذلك أمر هين الذي نسأل منك
" وقال " لهم يعقوب " لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله " يعني تعطوني عهدا وثيقا من الله " لتأتنني به إلا أن يحاط بكم " قال الكلبي إلا أن ينزل بكم أمر من السماء أو من الأرض وروى معمر عن قتادة أنه قال إلا أن تغلبوا حتى لا تطيقوا ذلك وقال مجاهد " إلا أن يحاط بكم " يعني تهلكوا جميعا وقال الفراء إلا أن يأتيكم من أمر الله تعالى ما يعذركم " فلما آتوه موثقهم " يعني أعطوه عهودهم " قال " يعقوب " الله على ما نقول وكيل " يعني كفيلا ويقال شهيدا
ثم قال تعالى " قال يا بني لا تدخلوا من باب واحد " يعني قال يعقوب لبنيه حين أرادوا الخروج يا بني لا تدخلوا من باب واحد يعني إذا دخلتم مصر فلا تدخلوا من سكة واحدة ومن طريق واحد ويقال من درب واحد " وادخلوا من أبواب متفرقة " يعني من سكك متفرقة ومن طرق شتى لكي لا يظن بكم أحد أنكم جواسيس ويقال خاف يعقوب عليهم العين لجمالهم وقوتهم وهم كلهم بنو رجل واحد فإن قيل أليس هذا بمنزلة الطيرة(2/201)
202
وقد نهي عن الطيرة قيل له لا ولكن أمر العين حق وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرقي من العين ويتعوذ منها للحسن والحسين
ثم قال " وما أغني عنكم من الله " يعني من قضاء الله " من شيء إن الحكم " يعني ما القضاء " إلا لله " إن شاء أصابكم العين وإن شاء لم يصبكم " عليه توكلت " يعني فوضت أمري وأمركم إليه " وعليه فليتوكل المتوكلون " يعني فليثق الواثقون
سورة يوسف 68
قوله تعالى " ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم " من السكك المتفرقة " ما كان يغني عنهم من الله من شيء " يعني حذرهم لا يغني من قضاء الله من شيء يعني إن العين لو قدرت أن تصيبهم لأصابتهم وهم متفرقون كما تصيبهم وهم مجتمعون
ثم قال " إلا حاجة في نفس يعقوب " يعني حزازة في قلبه وهي الحزن " قضاها " يعني أبداها وتكلم بها ويقال معناه لكن لحاجة في نفس يعقوب قضاها " وإنه لذو علم لما علمناه " يعني علم يعقوب أنه لا يصيبهم إلا ما أراد الله تعالى وقدر عليهم وعلم أن دخولهم في سكك متفرقة لا ينفعهم من قضاء الله تعالى من شيء ويقال معناه أنه عالم بما علمناه ويقال " لذو علم لما علمناه " أي لتعليمنا إياه ويقال لذو حظ لما علمناه
ثم قال " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " أنه لا يصيبهم إلا ما قدر الله تعالى عليهم
سورة يوسف 69 - 75
قوله تعالى " ولما دخلوا على يوسف " يعني إخوته " آوى إليه أخاه " يعني ضم إليه أخاه بنيامين " قال إني أنا أخوك " قال بعضهم أخبره في السر أنه أخوه وقال بعضهم لم يخبره ولكن معناها إني لك كأخيك الهالك فأنزلهم يوسف منزلا وأجرى عليهم الطعام والشراب فلما كان الليل أتاهم بالفرش وقال لينام كل أخوين منكم على فراش واحد ففعلوا وبقي الغلام وحده فقال يوسف هذا ينام معي على فراشي فبات معه يوسف يشم ريحه(2/202)
203
ويقال لما كان عند الطعام أمر كل إثنين أن يأكلا في قصعة واحدة وبقي بنيامين وحده فبكى وقال لو كان أخي في الأحياء لأكلت معه فقال له يوسف إني أنا أخوك يعني بمنزلة أخيك " فلا تبتئس بما كانوا يعملون " يقول لا تحزن بما يعيرون يوسف وأخاه بشيء
قوله تعالى " فلما جهزهم بجهازهم " يعني كال لهم كيلهم " جعل السقاية " يعني وضع ودس الإناء " في رحل أخيه " بنيامين فخرجوا وحملوا الطعام وذهبوا فخرج يوسف على أثرهم حتى أدركهم " ثم أذن مؤذن " يعني نادى مناد بينهم واسم المنادي أفرايم من فتيان يوسف قال " أيتها العير إنكم لسارقون " إناء الملك فانقطعت ظهورهم وساء ظنهم
قوله تعالى " قالوا وأقبلوا عليهم " يعني وأقبلوا إليهم وقالوا " ماذا تفقدون " يعني ماذا تطلبون " قالوا " يعني قال المنادي والغلمان " نفقد صواع الملك " قال قتادة ( صواع ) إناء الملك الذي يشرب فيه وقال عكرمة هو إناء من فضة وقال سعيد بن جبير هو المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه وكانت الأعاجم تشرب فيه وروى سعيد بن جبير عن إبن عباس أنه قال كان إناء من فضة مثل المكوك وكان للعباس واحد منها في الجاهلية
وروي عن أبي هريرة أنه قرأ " صاع الملك " يعني الصاع الذي يكال به الحنطة وقرأ بعضهم " صوع الملك " وقرأ يحيى بن عمرو " صوغ الملك " بالغين يعني إناء مصوغا وقراءة العامة " صواع الملك " يعني الإناء وهي المشربة من فضة وكان الشرب في إناء الفضة مباحا في الشريعة الأولى وأما في شريعتنا فالشراب في إناء الفضة حرام
ثم قال " ولمن جاء به حمل بعير " يعني قال المنادي من جاء بالصوع فله حمل بعير من بر " وأنا به زعيم " أي أنا كفيل بتسليم ذلك إليه لأن الملك يتهمني في ذلك " فقالوا " أي أخوة يوسف " تالله " والله " لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض " يعني ما جئنا لنعمل بالمعاصي في أرض مصر ونخون أحدا " وما كنا سارقين " وكان الحكم في أرض مصر للسارق الضرب والتضمين وكان الحكم بأرض كنعان أنهم يأخذون السارق ويسترقونه ففوضوا الحكم إلى بني يعقوب ليحكموا بحكم بلادهم " قالوا " يعني المؤذن وأصحابه لأولاد يعقوب " فما جزاؤه " يعني فما جزاء السارق " إن كنتم كاذبين قالوا " يعني إخوة يوسف " جزاؤه " يعني عقابه " من وجد في رحله " يعني في وعائه " فهو جزاؤه " يعني الإستعباد جزاء سرقته " كذلك نجزي الظالمين " يعني هكذا نعاقب السارق في سنة آل يعقوب
سورة يوسف 76 - 77
ثم قال " فبدأ " يعني المنادي ويقال يوسف " بأوعيتهم " يعني أوعية إخوته وطلب في أوعيتهم " قبل وعاء أخيه " فلم يجد فيها شيئا وروى معمر عن قتادة أنه قال كلما فتح متاع رجل إستغفر الله تائبا مما صنع حتى بقي
متاع الغلام فقال ما أظن هذا أخذ شيئا قالوا بلى فاستبرأه فطلب فوجد فيه فاستخرجها من وعاء أخيه فلما إستخرجت من رحله إنقطعت ظهور القوم وتحيروا وقالوا يا بنيامين لا يزال لنا منكم بلاء ما لقينا من إبني راحيل فقال بنيامين بل لقي إبنا راحيل منكم فأما يوسف فقد فعلتم به ما فعلتم وأما أنا فسرقتموني قالوا فمن جعل الإناء في متاعك قال الذي جعل الدراهم في متاعكم فسكتوا فذلك قوله " ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف " يعني كذلك صنعنا ليوسف والكيد الحيلة يعني كذلك إحتلنا له وألهمناه الحيلة
ثم قال " ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك " يعني في قضاء ملك مصر لأنه لم يكن في قضائه أن يستعبد الرجل في سرقته ثم قال " إلا أن يشاء الله " يعني وقد شاء الله أن يأخذه بقضاء أبيه ويقال ما كان يقدر أن يأخذ في ولاية الملك بغير حكم إلا بمشيئة الله تعالى ويقال إلا أن يشاء الله ذلك ليوسف ثم قال " نرفع درجات من نشاء " يعني من نشاء بالفضائل
وقرأ أهل الكوفة " نرفع درجات " بتنوين التاء وقرأ الباقون " درجات من نشاء " بغير تنوين على معنى الإضافة " وفوق كل ذي علم عليم " يعني ليس من عالم إلا وفوقه أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله تعالى وروى وكيع عن أبي معشر عن محمد بن كعب أن رجلا سأل عليا عن مسألة فقال فيها قولا فقال الرجل ليس هو كذا ولكنه كذا فقال علي أصبت وأخطأت وفوق كل ذي علم عليم وروي عن سعيد بن جبير أن إبن عباس حدث بحديث فقال رجل عنده الحمد لله " وفوق كل ذي علم عليم " فقال إبن عباس إن الله تعالى هو العالم وهو فوق كل عالم
ثم قال تعالى " قالوا إن يسرق " يعني قال إخوة يوسف إن يسرق بنيامين " فقد سرق أخ له من قبل " يعنون يوسف " فأسرها يوسف " يعني فأضمر الكلمة يوسف " في نفسه " أي في قلبه " ولم يبدها لهم " يعني لم يعلن لهم جوابا " قال أنتم شر مكانا " يعني صنيعا من يوسف لأن يوسف سرق الوثن وأنتم تسرقون الصواع وذلك أن يوسف كان سرق صنما من(2/203)
204
ثم قال " فبدأ " يعني المنادي ويقال يوسف " بأوعيتهم " يعني أوعية إخوته وطلب في أوعيتهم " قبل وعاء أخيه " فلم يجد فيها شيئا وروى معمر عن قتادة أنه قال كلما فتح متاع رجل إستغفر الله تائبا مما صنع حتى بقي متاع الغلام فقال ما أظن هذا أخذ شيئا قالوا بلى فاستبرأه فطلب فوجد فيه فاستخرجها من وعاء أخيه فلما إستخرجت من رحله إنقطعت ظهور القوم وتحيروا وقالوا يا بنيامين لا يزال لنا منكم بلاء ما لقينا من إبني راحيل فقال بنيامين بل لقي إبنا راحيل منكم فأما يوسف فقد فعلتم به ما فعلتم وأما أنا فسرقتموني قالوا فمن جعل الإناء في متاعك قال الذي جعل الدراهم في متاعكم فسكتوا فذلك قوله " ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف " يعني كذلك صنعنا ليوسف والكيد الحيلة يعني كذلك إحتلنا له وألهمناه الحيلة
ثم قال " ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك " يعني في قضاء ملك مصر لأنه لم يكن في قضائه أن يستعبد الرجل في سرقته ثم قال " إلا أن يشاء الله " يعني وقد شاء الله أن يأخذه بقضاء أبيه ويقال ما كان يقدر أن يأخذ في ولاية الملك بغير حكم إلا بمشيئة الله تعالى ويقال إلا أن يشاء الله ذلك ليوسف ثم قال " نرفع درجات من نشاء " يعني من نشاء بالفضائل
وقرأ أهل الكوفة " نرفع درجات " بتنوين التاء وقرأ الباقون " درجات من نشاء " بغير تنوين على معنى الإضافة " وفوق كل ذي علم عليم " يعني ليس من عالم إلا وفوقه أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله تعالى وروى وكيع عن أبي معشر عن محمد بن كعب أن رجلا سأل عليا عن مسألة فقال فيها قولا فقال الرجل ليس هو كذا ولكنه كذا فقال علي أصبت وأخطأت " وفوق كل ذي علم عليم وروي عن سعيد بن جبير أن إبن عباس حدث بحديث فقال رجل عنده الحمد لله " وفوق كل ذي علم عليم " فقال إبن عباس إن الله تعالى هو العالم وهو فوق كل عالم
ثم قال تعالى " قالوا إن يسرق " يعني قال إخوة يوسف إن يسرق بنيامين " فقد سرق أخ له من قبل " يعنون يوسف " فأسرها يوسف " يعني فأضمر الكلمة يوسف " في نفسه " أي في قلبه " ولم يبدها لهم " يعني لم يعلن لهم جوابا " قال أنتم شر مكانا " يعني صنيعا من يوسف لأن يوسف سرق الوثن وأنتم تسرقون الصواع وذلك أن يوسف كان سرق صنما من(2/204)
205
ذهب من خاله لاوي وقال قتادة ذكر لنا أنه سرق صنما كان لجده أبي أمه فعيروه بذلك " فقال أنتم شر مكانا " لأن سرقتكم قد ظهرت وسرقة أخيه لم تظهر إلا بقولكم ولا ندري أنتم صادقون في مقالتكم أم لا " والله أعلم بما تصفون " يعني بما تقولون وروى عكرمة عن إبن عباس قال عوقب يوسف ثلاث مرات حين هم بها فسجن وحين قال " أذكرني عند ربك فلبث في السجن بضع سنين " وحين قال " إنكم لسارقون " فردوا عليه وقالوا فقد سرق أخ له من قبل
سورة يوسف 78 - 81
قوله تعالى " قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا " يعني ضعيفا حزينا على إبن له مفقود " فخذ أحدنا مكانه " رهنا " إنا نراك من المحسنين " إن فعلت ذلك إلينا فقد أحسنت إلينا الإحسان كله ويقال " إنا نراك من المحسنين " إلى من أتاك من الآفاق فأحسن إلينا فقال يوسف عليه السلام " قال معاذ الله " يعني أعوذ بالله " أن نأخذ " رهنا " إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون " لو أخذنا غيره
قوله تعالى " فلما إستيأسوا منه " يعني أيسوا من بنيامين أن يرد عليهم ويقال أيسوا من الملك أن يقضي حاجتهم " خلصوا نجيا " يعني إعتزلوا يتناجون بينهم ليس فيهم غيرهم " قال كبيرهم " يعني كبيرهم في العقل وهو يهوذا ولم يكن أكبرهم في السن وهذا في رواية الكلبي ومقاتل وقال في قوله تعالى " كبيرهم " أي أعلمهم وهو شمعون وكان رئيسهم وقال في قوله تعالى " كبيرهم " أي كبيرهم في السن روبيل وهو الذي أشار إليهم ألا يقتلوه " ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله " يعني عهدا من الله في هذا الغلام " لتأتنني به " أي لتردنه إلي " ومن قبل ما فرطتم في يوسف " يعني ما تركتم وضيعتم العهد في أمر يوسف من قبل هذا الغلام " فلن أبرح الأرض " يعني فلن أترك أرض مصر " حتى يأذن لي ربي " أي حتى يبعث إلي أحدا أن آتيه " أو يحكم الله لي " فيرد علي أخي بنيامين " وهو خير الحاكمين " يعني أعدل العادلين وأفصل الفاصلين
وروى أسباط عن السدي أنه قال كان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا فغضب(2/205)
206
روبيل فقال أيها الملك والله لتتركنا أو لأصيحن صيحة لا تبقى إمرأة حامل إلا ألقت ما في بطنها وقامت كل شعرة في جسده فخرجت من ثيابه وقال إبن عباس كان يهوذا إذا غضب وصاح لم تسمع صوته إمرأة حامل إلا وضعت حملها وتقوم كل شعرة في جسده فلا يسكن حتى يضع بعض آل يعقوب يده عليه فيسكن فقال يوسف لإبن له صغير إذهب وضع يدك عليه فذهب ووضع يده عليه فسكن غضبه فقال إن في هذا الدار أحدا من آل يعقوب
ثم قال لإخوته " إرجعوا إلى أبيكم " يعني قال يهوذا " فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق " أي سرق الصواع يعني إناء الملك وروي عن إبن عباس أنه كان يقرأ " إن إبنك سرق " بضم السين وكسر الراء مع التشديد يعني إتهم بالسرقة " وما شهدنا إلا بما علمنا " أي وما قلنا إلا ما رأينا حين أخرج من رحله " وما كنا للغيب حافظين " يعني وما كنا نرى أنه سرق ولو علمنا ما ذهبنا به ويقال إنا لم نطلع على أنه سرق ولكنهم سرقوه
سورة يوسف 82 - 84
قوله تعالى " واسأل القرية التي كنا فيها " يعني سل أهل القرية قال الكلبي وهي قرية من قرى مصر ويقال هي مصر بعينها ويقال هو المنزل الذي أذن المؤذن فيه إنكم لسارقون " والعير التي أقبلنا فيها " يعني سل أهل العير الذين كانوا معنا من أرض كنعان " وإنا لصادقون " في قولنا فرجعوا إلى يعقوب بذلك القول فاتهمهم يعقوب فقال كلما خرجتم من عندي نقصتم واحدا ذهبتم مرة فنقصتم يوسف وذهبتم مرة فنقصتم شمعون وذهبتم الآن ونقصتم بنيامين فقد صرتم كالذئاب يأكل بعضهم بعضا
ثم قال تعالى " قال بل سولت لكم أنفسهم أمرا " يعني قال يعقوب إشتهت وزينت لكم قلوبكم " أمرا " فصنعتموه " فصبر جميل " يعني علي صبر جميل حسن من غير جزع لا أشكو فيه إلى أحد " عسى الله أن يأتيني بهم جميعا " يعني لعل الله أن يرد علي يوسف ويهوذا وبنيامين " إنه هو العليم " بمكانهم " الحكيم " أن يحكم بردهم علي
قوله تعالى " وتولى عنهم " يعني أعرض عن بنيه وخرج عنهم " وقال يا أسفى على يوسف " يعني يا حزنا على يوسف والأسف أشد الحسرة " وابيضت عيناه من الحزن " يعني من البكاء " فهو كظيم " يعني مغموما مكروبا يتردد الحزن في جوفه والكظيم والكاظم بمعنى واحد مثل القدير والقادر وهو الممسك على حزنه لا يظهره ولا يشكوه وروي عن الحسن أنه قال مكث يعقوب ثمانين سنة ما تجف دموعه ولا يفارق قلبه الحزن يوما وما كان على الأرض يومئذ أحد أكرم على الله منه قال وألقي يوسف في الجب وهو(2/206)
207
يومئذ إبن سبع سنين وغاب عن أبيه ثمانين سنة وعاش بعدما جمع الله شمله ثلاثا وعشرين سنة وروي عن إبن عباس أنه قال غاب يوسف عنه إثنين وعشرين سنة وقال سعيد بن جبير ما أعطيت أمة من الأمم " إنا لله وإنا إليه راجعون " [ البقرة : 156 ] غير هذه الأمة ولو كان أوتيها أحد قبلكم لأوتيها يعقوب حين قال " يا أسفى على يوسف " وروي عن إبراهيم بن ميسرة أنه قال لو أن الله أدخلني الجنة لعاتبت يوسف بما فعل بأبيه حيث لم يكتب إليه كتابا ولم يعلمه حاله ليسكن ما به من الغم
سورة يوسف 85 - 87
قوله تعالى " قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف " يعني أن بنيه قالوا ليعقوب لا تزال تذكر يوسف " حتى تكون حرضا " أي دنفا من الوجع ويقال حتى تبلى وتهرم وقال القتبي لا تحذف من الكلام ويراد به إثباتها لقوله " تفتؤ " أي لا تفتأ أي لا تزال تذكر يوسف كقوله " أن تحبط أعمالكم " [ الحجرات : 2 ] أي لكيلا تحبط أعمالكم " حتى تكون حرضا " وقال الربيع بن أنس حتى تكون باليا يابس الجلد وقال محمد بن إسحاق " حتى تكون حرضا " يعني لا عقل لك " أو تكون من الهالكين " يعني من الميتين وقال مجاهد الحرض ما دون الموت والهالك الميت " قال " يعقوب " إنما أشكو بثي وحزني " يعني همي وغمي " إلى الله " لما رأى من فظاظتهم وسوء لفظهم ولا أشكو ذلك إليكم وقال القتبي البث أشد الحزن إنما سمي الحزن البث لأن صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثه أي يفشوه
ثم قال " وأعلم من الله مالا تعلمون " أن يوسف حي وليس بميت وإنما كان يعلم ذلك من تحقيق رؤيا يوسف حين رأى في المنام أحد عشر كوكبا أن ذلك سيكون ويقال إن يعقوب رأى ملك الموت في المنام وسأله هل قبضت روح قرة عيني يوسف قال لا ولكن هو في الدنيا حي فلذلك قال " وأعلم من الله ما لا تعلمون "
ثم قال تعالى " يا بني إذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه " يعني إنطلقوا إلى مصر فاطلبوا خبر يوسف " وأخيه " قالو له أما بنيامين فلا نترك الجهد في أمره وأما يوسف فإنه ميت وإنا لا نطلب الأموات فقال لهم يعقوب " ولا تيأسوا من روح الله " يعني لا تقنطوا من رحمة الله " إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " يعني الجاحدين لنعمة الله
سورة يوسف 88 - 89
قوله تعالى " فلما دخلوا عليه " يعني رجعوا إلى يوسف ودخلوا عليه " قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر " يعني أصابنا وأهلنا الجوع " وجئنا ببضاعة مزجاة " قال الحسن يعني قليلة وقال المزجاة النفاية وكان لا يؤخذ في الطعام إلا جيدا في ذلك الوقت لأن الطعام كان عزيزا فلا يؤخذ فيها إلا الجيد وعن عبد الله بن الحارث في قوله " وجئنا ببضاعة مزجاة " قال متاع الأعراب الصوف والسمن واللبن ونحو
ذلك وعن إبن عباس قال يعني جئنا بدراهم رديئة وقال سعيد بن جبير بدراهم زيوف " فأوف لنا الكيل " يعني أتمم لنا الكيل " وتصدق علينا " يعني وتصدق علينا ما بين الثمنين يعني ما بين الجيد والرديء " إن الله يجزي المتصدقين " يعني يثيبهم في الآخرة بما صنعوا وقال إبن عباس لو علموا أنه مسلم لقالوا إن الله يجزيك بالصدقة يعني إنه كان يلبس عليهم فلا يعرفون حاله ومذهبه فأخرج يوسف الكتاب الذي كان كتبه يهوذا حين باعوا يوسف ودفعه إليهم فعرف يهوذا خطه وقالوا نحن بعنا هذا الغلام إذ كنا نرعى الغنم فقال لهم ظلمتم وبعتم الحر فدعا يوسف بالسيافين وأمرهم بأن يقتلوا إخوته جميعا فاستغاثوا كلهم وصرخوا وقالوا إن لم ترحمنا فارحم الشيخ الضعيف فإنه قد جزع على ولد واحد فكيف إن هلك أولاده كلهم " قال " لهم يوسف " هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون " يعني مذنبون ووصف لهم ما فعلوا به
سورة يوسف 90 - 93
" قالوا أإنك لأنت يوسف " قرأ إبن كثير " إنك لأنت يوسف " بهمزة واحدة وكسر الألف يعني حققوا أنه يوسف وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وإبن عامر " أإنك " بهمزتين على معنى الإستفهام يعني إنك يوسف أم لا وقرأ نافع وأبو عمرو " آينك " بهمزة واحدة مع المد ومعناه مثل الأول على معنى الإستفهام " قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا " يعني أنعم علينا بالصبر " إنه من يتق " الله تعالى " ويصبر " على البلاء " فإن الله لا يضيع أجر المحسنين " أي ثواب الصابرين
قوله تعالى " قالوا تالله لقد آثرك الله علينا " يعني إخوة يوسف إعتذروا إليه فقالوا لقد فضلك الله علينا واختارك " وإن كنا لخاطئين " يقول وقد كنا لعاصين لله تعالى فيما صنعنا بك(2/207)
208
قوله تعالى " فلما دخلوا عليه " يعني رجعوا إلى يوسف ودخلوا عليه " قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر " يعني أصابنا وأهلنا الجوع " وجئنا ببضاعة مزجاة " قال الحسن يعني قليلة وقال المزجاة النفاية وكان لا يؤخذ في الطعام إلا جيدا في ذلك الوقت لأن الطعام كان عزيزا فلا يؤخذ فيها إلا الجيد وعن عبد الله بن الحارث في قوله " وجئنا ببضاعة مزجاة " قال متاع الأعراب الصوف والسمن واللبن ونحو ذلك وعن إبن عباس قال يعني جئنا بدراهم رديئة وقال سعيد بن جبير بدراهم زيوف " فأوف لنا الكيل " يعني أتمم لنا الكيل " وتصدق علينا " يعني وتصدق علينا ما بين الثمنين يعني ما بين الجيد والرديء " إن الله يجزي المتصدقين " يعني يثيبهم في الآخرة بما صنعوا وقال إبن عباس لو علموا أنه مسلم لقالوا إن الله يجزيك بالصدقة يعني إنه كان يلبس عليهم فلا يعرفون حاله ومذهبه فأخرج يوسف الكتاب الذي كان كتبه يهوذا حين باعوا يوسف ودفعه إليهم فعرف يهوذا خطه وقالوا نحن بعنا هذا الغلام إذ كنا نرعى الغنم فقال لهم ظلمتم وبعتم الحر فدعا يوسف بالسيافين وأمرهم بأن يقتلوا إخوته جميعا فاستغاثوا كلهم وصرخوا وقالوا إن لم ترحمنا فارحم الشيخ الضعيف فإنه قد جزع على ولد واحد فكيف إن هلك أولاده كلهم " قال " لهم يوسف " هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون " يعني مذنبون ووصف لهم ما فعلوا به
سورة يوسف 90 - 93
" قالوا أإنك لأنت يوسف " قرأ إبن كثير " إنك لأنت يوسف " بهمزة واحدة وكسر الألف يعني حققوا أنه يوسف وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وإبن عامر " أإنك " بهمزتين على معنى الإستفهام يعني إنك يوسف أم لا وقرأ نافع وأبو عمرو " آينك " بهمزة واحدة مع المد ومعناه مثل الأول على معنى الإستفهام " قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا " يعني أنعم علينا بالصبر " إنه من يتق " الله تعالى " ويصبر " على البلاء " فإن الله لا يضيع أجر المحسنين " أي ثواب الصابرين
قوله تعالى " قالوا تالله لقد آثرك الله علينا " يعني إخوة يوسف إعتذروا إليه فقالوا لقد فضلك الله علينا واختارك " وإن كنا لخاطئين " يقول وقد كنا لعاصين لله تعالى فيما صنعنا بك(2/208)
209
" قال " يوسف عليه السلام " لا تثريب عليكم اليوم " يعني لا تعيير عليكم اليوم ولا عيب ولا عار عليكم وأصل التثريب الإفساد ويقال ثرب الأمر علينا إذا أفسد ثم قال " يغفر الله لكم " فيما فعلتم " وهو أرحم الراحمين " من غيره
ثم قال تعالى " إذهبوا بقميصي هذا " وروي عن وهب بن منبه قال كان القميص من الجنة وهو القميص الذي ألبس جبريل لإبراهيم حين ألقي في النار فبردت عليه النار فصار عند إسحاق ثم صار عند يعقوب فجعله يعقوب في عوذه وعلقه في عنق يوسف فكان معه حين ألقي في الجب ونزع عنه قميصه فبشره جبريل وألبسه في الجب وكان القميص معه وقال لإخوته " اذهبوا بقميصي هذا " " فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا " أي يعود إليه بصره وذلك أنه سألهم فقال ما فعل أبي بعدي قالوا لما فارقه بنيامين عمي من الحزن قال " إذهبوا بقميصي هذا " فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا كما كان أول مرة
ثم قال " وائتوني بأهلكم أجمعين " فاختلفوا فيما بينهم فقال كل واحد منهم أنا أذهب به فقال يوسف يذهب به الذي ذهب بقميصي الأول فقال يهوذا أنا ذهبت بالقميص الأول وهو ملطخ بالدم وأخبرته بأنه قد أكله الذئب وأنا اليوم أذهب بالقميص فأخبره أنه حي وأفرحه كما أحزنته وأمر لهم بالهدايا والدواب والرواحل فتوجهوا نحو كنعان
سورة يوسف 94 - 98
قوله تعالى " ولما فصلت العير " يعني خرجت العير من مصر " قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف " قال ابن عباس لما خرجت العير هاجت ريح فجاءت بريح قميص يوسف من مسيرة ثمان ليال فقال يعقوب إني لأشم ريح يوسف " لولا أن تفندون " يقول لولا أن تعيروني وتجهلوني يقال فنده الهرم إذا خلط في كلامه " قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم " يعني ولد ولده قالوا ليعقوب إنك مختلط في الكلام كما كنت في القديم من ذكر يوسف
قوله تعالى " فلما أن جاء البشير " يعني جاء يهوذا بالبشارة " ألقاه على وجهه " يعني دفع القميص إليه ووضعه على وجهه فذلك قوله تعالى " فارتد بصيرا " يعني رجع بصيرا كما كان " قال " يعقوب لولد ولده " ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون " ويقال قال لولده ألم أقل لكم حين قلت لكم " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا(2/209)
210
تعلمون ) أن يوسف في الأحياء " قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا " فاعتذروا إليه لما فعلوا به وطلبوا منه أن يستغفر لهم واعترفوا بذنبهم أنهم كانوا خاطئين حيث قالوا " إنا كنا خاطئين " " قال " لهم يعقوب عليه السلام " سوف أستغفر لكم " يعني عند السحر أستغفر لكم ويقال معناه سوف أستغفر لكم إن شاء الله على وجه التقديم في قوله " وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " فأخر الإستغفار إلى أن قدموا مصر فاستغفر لهم ليلة الجمعة عند السحر " إنه هو الغفور الرحيم " لمن تاب ورجع وندم على ما فعل فخرجوا كلهم بأثقالهم وأهاليهم ومواشيهم وكانوا اثنين وسبعين رأسا وروى أبو عبيدة عن عبد الله بن مسعود أنه قال كان أهل بيت يعقوب حين دخلوا مصر ثلاثة وسبعين إنسانا رجالهم ونساؤهم فخرجوا مع موسى عليه السلام وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا فلما دنوا من مصر خرج يوسف بجماعته وحاشيته حتى أدخلهم مصر
سورة يوسف 99 - 100
قوله تعالى " فلما دخلوا على يوسف آوى إليه " أي ضم إليه " أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " قال أبو عبيدة هذا من كلام يعقوب حيث قال سوف أستغفر لكم إن شاء الله وكذلك قال إبن جريج ويقال هذا من كلام يوسف قال لهم حين دخلوا مصر انزلوا بأرض مصر ويقال إنما قال لهم قبل أن يدخلوها " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " من الجوع ويقال من الخوف لأنها أرض الجبابرة
قوله تعالى " ورفع أبويه على العرش " يعني على السرير أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله قال مقاتل يعني أباه وخالته وكانت أمه راحيل قد ماتت وخالته تحت يعقوب أبيه وعن وهب بن منبه قال أبوه وخالته وعن سفيان الثوري مثله وهو قول إبن عباس وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الخالة أم ويقال إن أمه راحيل قد ماتت في ولادة بنيامين ولذلك سمي بنيامين واليامين وجع الولادة بلسانهم
ثم قال " وخروا له سجدا " على وجه التقديم يعني " وخروا له سجدا " " ورفع أبويه على العرش " وكانت تحيتهم أن يسجد الوضيع للشريف فسجد له إخوته وأبوه وخالته " وقال " يعني يوسف عند ذلك " يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل " يعني هذا السجود تحقيق رؤياي من قبله " قد جعلها ربي حقا " يعني جعل رؤياي صدقا ويقال كائنا وروي(2/210)
211
" وقال " يعني يوسف عند ذلك " يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل " يعني هذا السجود تحقيق رؤياي من قبله " قد جعلها ربي حقا " يعني جعل رؤياي صدقا ويقال كائنا وروي عن ابن عباس أنه قال كان بين رؤياه وبين ذلك اثنان وعشرون سنة وروى أبو عثمان النهدي عن سلمان أنه قال كان بين رؤياه وبين أن رأى تأويلها أربعون سنة وعن عبد الله بن شداد بن الهاد أنه قال وقعت رؤيا يوسف بعد أربعين سنة وإليه ينتهي الرؤيا وقال السدي كان بينهما تسع وثلاثون سنة وقال حين رأى رؤياه كان يوسف ابن تسع سنين فظهر تأويلها وهو إبن أربعين سنة
ثم قال تعالى " وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو " يعني جاء بكم معافين سالمين من البادية يعني أرض كنعان و " من بعد أن نزغ الشيطان " يعني من بعد أن أفسد وألقى الشيطان " بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء " من الفرقة والجماعة ويقال " لطيف " في فعاله إن يشأ فرق وإن يشأ جمع " إنه هو العليم " بما صنعوا " الحكيم " إذ رد علي أبي وجمع بيني وبين إخوتي
سورة يوسف 101
قوله تعالى " رب قد آتيتني من الملك " قال الفقيه أبو الليث رحمه الله إن الله تعالى مدح يوسف في هذه السورة في ثمانية مواضع أولها أن أخوته لما فعلوا به ما فعلوا صرف العداوة من إخوته إلى الشيطان فقال " من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي " والثاني حين راودته المرأة قال " إنه ربي أحسن مثواي " فعرف حرمة سيده ولم يهتك حرمته الثالث " قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه " فاختار السجن على الشهوة الحرام والرابع قال " وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء " بعد ما ظهر أن الذنب كان من غيره والخامس لما اعتذر إليه إخوته قال لهم " لا تثريب عليكم واليوم " والسادس أنه بعث القميص على يد إخوته كما أدخلوا على أبيهم الحزن في الإبتداء أراد أن يدخلوا عليه السرور فقال " اذهبوا بقميصي هذا " والسابع لما لقي أباه لم يذكر عنده ما لقي من الشدة وإنما ذكر المحاسن حيث قال " يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو " والثامن لما تم أمره تمنى الموت وترك الدنيا قال " رب قد آتيتني من الملك " أي أعطيتني من الملك يعني بعض الملك وهو ملك مصر " وعلمتني من تأويل الأحاديث " يعني بعض التأويل ويقال " من " هاهنا لإبانة الجنس لا للتبعيض ومعناه " رب قد آتيتني من الملك وعلمتني تأويل الأحاديث " يعني تعبير الرؤيا " فاطر السموات والأرض " يعني خالق السموات والأرض " أنت وليي في الدنيا(2/211)
212
والآخرة ) يعني ولي نعمتي في الدنيا والآخرة ويقال أنت حافظي وناصري وربي في الدنيا والآخرة " توفني مسلما " يعني أمتني مخلصا بتوحيدك " وألحقني بالصالحين " يعني بآبائي المرسلين ويقال عاش يعقوب في أرض مصر سبع عشرة سنة وكان عمره مائة وسبعا وأربعين سنة وعاش يوسف بعده ثلاثا وعشرين سنة ومات يوسف وهو ابن مائة وعشرين سنة ويقال إبن مائة وعشر سنين وأوصى يعقوب بأن يدفن عند آبائه فحمل إلى الأرض المقدسة فدفن مع أخيه عيصو بن إسحاق عليهم السلام فلما مات يوسف أرادوا أن يحملوه إلى الأرض المقدسة فلم يتركهم أهل مصر واختلفوا في دفنه وأراد أهل كل محلة أن يدفن في مقابرهم وكاد أن يقع بينهم قتال حتى إصطلحوا واتفقوا على أن يدفن عند قسمة مياههم في أعلى مصر لكي يصيب بركته أهل مصر وكان هناك إلى زمن موسى عليه السلام فرفعه موسى وحمله إلى الأرض المقدسة ووضعه عند آبائه وقد كان يوسف أوصى إلى بني إسرائيل أن يحملوا عظامه من أرض مصر إذا خرجوا من أرض مصر
سورة يوسف 102 - 106
قوله تعالى " ذلك من أنباء الغيب " يقول من أخبار ما غاب عنك علمه يا محمد " نوحيه إليك " يعني ننزل عليك جبريل بالقرآن ليقرأه عليك " وما كنت لديهم " يعني وما كنت عند إخوة يوسف " إذ أجمعوا أمرهم " يعني قولهم أن يطرحوا يوسف في البئر " وهم يمكرون " أي يحتالون ليوسف
ثم قال " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " في الآية تقديم ومعناه وما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت لعلم الله السابق فيهم ويقال " ولو حرصت بمؤمنين " يعني من قدرت عليه الكفر وعلمت أنه أهل لذلك لا يؤمن بك
ثم قال تعالى " وما تسألهم عليه من أجر " يعني على الإيمان يعني إن لم يجيبوك فلا تبال لأنهم لا ينقصون من رزق ربك شيئا " إن هو " يعني ما هذا القرآن " إلا ذكر للعالمين " من الجن والإنس
قوله تعالى " وكأين من آية " يعني وكم من علامة " في السموات والأرض " يعني الشمس والقمر والنجوم وفي الأرض الأمم الخالية والأشياء التي خلقت في الأرض " يمرون عليها وهم عنها معرضون " يعني مكذبين لا يتفكرون فيما قال(2/212)
213
ثم قال تعالى " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " قال ابن عباس قال الله تعالى " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " فهذا إيمان منهم ثم هم يشركون وقال القتبي وهم في غيره مشركون قد يكون في معان فمن الإيمان تصديق ببعض وتكذيب ببعض قال الله تعالى " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " [ يوسف : 106 ] يعني مقرون أن الله خالقهم وهم مع ذلك يجعلون لله شريكا وقال الضحاك كانوا مشركين في تلبيتهم وقال عكرمة يعلمون أنه ربهم وهم مشركون به من دونه
سورة يوسف 107 - 108
ثم قال تعالى " أفأمنوا " يعني أهل مكة " أن تأتيهم غاشية " يعني يغشاهم العذاب ويقال غاشية قطعة " من عذاب الله " في الدنيا " أو تأتيهم الساعة بغتة " يعني فجأة " وهم لا يشعرون " بقيامها " قل " يا محمد " هذه سبيلي " يعني ديني الإسلام ويقال هذه دعوتي " أدعوا " الخلق " إلى الله " تعالى ويقال أدعوكم إلى توحيد الله وعبادته " على بصيرة " أي على يقين وحقيقة ويقال على بيان " أنا ومن اتبعني " يعني من اتبعني على ديني فهو أيضا على بصيرة " وسبحان الله " تنزيها له عن الشرك " وما أنا من المشركين " على دينهم
سورة يوسف 109 - 110
قوله تعالى " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم " يعني الأنبياء كانوا من الآدميين ولم يكونوا من الملائكة قرأ عاصم في رواية حفص " نوحي إليهم " بالنون وقرأ الباقون بالياء " يوحى إليهم " ومعناهما واحد " من أهل القرى " يعني منسوبين إليها ثم أمرهم بأن يعتبروا فقال تعالى " أفلم يسيروا " يعني يسافروا " في الأرض " ويقال يقرؤوا القرآن " فينظروا " يعني يعتبروا " كيف كان عاقبة الذين من قبلهم " يعني كيف كان آخر المنذرين من قبلهم من الأمم الخالية " ولدار الآخرة " وهي الجنة " خير للذين اتقوا " الشرك " أفلا تعقلون " أن الآخرة أفضل من الدنيا
ثم رجع إلى حديث الرسل الذين كذبهم قومهم فقال تعالى " حتى إذا إستيأس الرسل " يعني أيسوا من إيمان قومهم أن يؤمنوا " وظنوا أنهم قد كذبوا " قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي " كذبوا " بتخفيف الذال وقرأ الباقون بالتشديد وروى الأعمش عن أبي(2/213)
214
الضحى عن ابن عباس أنه قرأ " كذبوا " بتخفيف الذال ويقال لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم جاءهم بالنصرة
وروى ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن إبن عباس أنه قال " حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا " قال كانوا بشرا فضعفوا وسئموا وظنوا أنهم قد كذبوا وأشار بيده إلى السماء قال ابن أبي مليكة فذكرت ذلك لعروة فقال قالت عائشة رضي الله عنها معاذ الله ما حدث رسوله شيئا إلا وعلم الله أنه سيكون قبل أن يموت قالت ولكن نزل بالأنبياء البلاء حتى خافوا أن يكون من معهم من المؤمنين كذبوهم وكانت تقرأ " قد كذبوا " بالتشديد وعن عائشة قالت استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم أن يصدقوهم وظنوا أن من قد آمن بهم من قومهم قد كذبوهم وقال القتبي الذي قالت عائشة أحسنها في الظاهر وأولاها بأنبياء الله تعالى " جاءهم نصرنا " أي للأنبياء بالنصرة
ثم قال " فنجي من نشاء " يعني من آمن بالأنبياء قرأ عاصم وابن عامر " فنجي من نشاء " بنون واحدة مع التشديد وقرأ الباقون بالنونين إلا أن من قرأ بنون واحدة أدغم إحداهما في الأخرى ثم قال " ولا يرد بأسنا " يعني عذابنا " عن القوم المجرمين " يعني الكافرين
سورة يوسف 111
قوله تعالى " لقد كان في قصصهم " يعني في قصة يوسف وإخوته " عبرة لأولى الألباب " يعني لذوي العقول يعني عجيبة لمن له عقل لكيلا يحسد أحد أحدا ويقال لمن أراد أن يعتبر بيوسف ويقتدي به ولا يكافىء أحدا بسيئة ويقال " عبرة " يعني دلالة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لمن أراد أن يؤمن به " ما كان حديثا يفترى " يعني مثل هذا الكلام لا يكون اختلافا وكذبا " ولكن تصديق الذي بين يديه " من الكتب التوراة والإنجيل " وتفصيل كل شيء " يعني بيان الحلال والحرام " وهدى " من الضلالة " ورحمة " يعني رحمة من العذاب " لقوم يؤمنون " يعني يصدقون بتوحيد الله تعالى وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن والله أعلم(2/214)
215
سورة الرعد
وهي أربعون وخمس آيات كلها مكية غير آيتين قوله تعالى " ولا يزال الذين كفروا " " ومن عنده علم الكتاب " ويقال كلها مكية
سورة الرعد 1 - 2
قوله تعالى " المر " قال إبن عباس أنا الله أعلم وأرى ويقال معناه أنا الله أعلم وأرى ما تحت العرش إلى الثرى وما بينهما ويقال أنا الله أعلم وأرى ما لا يعلم الخلق وما لا يرى ويقال أنا الله أعلم وأرى ما يعملون ويقولون ويقال هذا قسم أقسم الله به " تلك آيات الكتاب " قال قتادة يعني التي قبل القرآن من التوراة والإنجيل " والذي " يعني القرآن " أنزل إليك من ربك الحق " يعني الكتب التي قبل القرآن والقرآن الذي أنزل إليك كله من الله تعالى وهو الحق والإيمان به واجب وقال ابن عباس " تلك آيات الكتاب " يعني تلك آيات القرآن ومعناه هذه آيات الكتاب " والذي أنزل من ربك هو الحق " يعني القرآن
ويقال " تلك آيات الكتاب " يعني الأحكام والحجج والدلائل " والذي أنزل إليك " يعني جبريل ليقرأ عليك من ربك الحق يعني اتبعوه واعملوا به " ولكن أكثر الناس " يعني أهل مكة " لا يؤمنون " يعني لا يصدقون أنه من الله تعالى
فلما ذكر أنهم لا يؤمنون بين في الدلائل التي توجب التصديق بالخالق فقال تعالى " الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها " يعني ليس لها عمد ترونها يعني بلا عمد تبصرونها وهذا قول الحسن وقتادة وقال ابن عباس وسعيد بن جبير معناه لها عمد ولكن لا ترونها يعني أنتم ترونها بغير عمد في المشاهدة ولكن لها عمد وكلا التفسيرين معناهما واحد لأن من قال إن لها عمدا ولكن لا ترونها يقول العمد هو قدرة الله تعالى التي تمسك السموات والأرض
" ثم استوى على العرش " قال ابن عباس كان فوق العرش حين خلق السموات والأرض وقد ذكرناه من قبل " وسخر الشمس والقمر " يعني ضوء الشمس بالنهار وضوء(2/215)
216
القمر بالليل وذلك لبني آدم " كل يجري لأجل مسمى " يقول يسير إلى وقت معلوم لا يجاوزه وللشمس والقمر منازل كل واحد منهما يغرب في كل ليلة في منزل ويطلع في منزل حتى ينتهي إلى أقصى منازله " يدبر الأمر " يعني يقضي القضاء ويبعث الملائكة بالوحي والتنزيل " يفصل الآيات " يقول يبين العلامات في القرآن " لعلكم بلقاء ربكم توقنون " يعني تصدقون بالبعث
سورة الرعد 3 - 4
قوله تعالى " وهو الذي مد الأرض " يعني بسط الأرض من تحت الكعبة على الماء وكانت تكفي بأهلها كما تكفي السفينة فأرساها الله بالجبال الثقال وهو قوله تعالى " وجعل فيها رواسي " يعني الجبال الثوابت من فوقها " وأنهارا " يعني خلق في الأرض أنهارا " ومن كل الثمرات " يعني خلق فيها من ألوان كل الثمرات " جعل فيها زوجين إثنين " يعني خلق من كل شيء لونين من الثمار حلوا وحامضا ومن الحيوان ذكرا وأنثى
" يغشي الليل النهار " يعني يعلو الليل على النهار ويعلو النهار على الليل واقتصر بذكر أحدهما إذا كان في الكلام دليل عليه قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " يغشي " بنصب الغين وتشديد الشين وقرأ الباقون بالجزم والتخفيف ثم بين أن ما ذكر من هذه الأشياء فيه برهان وعلامات لمن تفكر فيها فقال " إن في ذلك " يعني فيما ذكر من صنعه " لآيات " يعني لعبرات " لقوم يتفكرون " في إختلاف الليل والنهار فيوحدونه
ثم بين أن في الأرض علامات كثيرة ودلائل كثيرة لوحدانيته لمن له عقل سليم فقال تعالى " وفي الأرض قطع متجاورات " يعني بالقطع الأرض السبخة والأرض العذبة " متجاورات " يعني ملتصقات متدليات قريبة بعضها من بعض فتكون أرضا سبخة وتكون إلى جنبها أرض طيبة جيدة وقال قتادة " قطع متجاورات " أي قرى متجاورات ويقال العمران والخراب والقرى والمفاوز " وجنات من أعناب " يعني الكروم " وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان " قرأ بعضهم بضم الصاد وقراءة العامة بالكسر وهما لغتان ومعناهما واحد قال مجاهد وقتادة الصنوان النخلة التي في أصلها نخلتان وثلاث أصلهن واحد وقال الضحاك يعني النخل المتفرق والمجتمع ويقال " صنوان " النخلة التي بجنبها نخلات " وغير صنوان " يعني المنفردة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تؤذوني في العباس فإنه(2/216)
217
بقية آبائي وإن عم الرجل صنو أبيه قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص " وزرع ونخيل صنوان " كلها بالضم على معنى الإبتداء وقرأ الباقون بالكسر على معنى النعت للجنات ويقال على وجه المجاورة لأن الزرع لا يكون في الجنات
ثم قال " يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل " يعني أن الماء والتراب واحد وتكون الثمار مختلفة في ألوانها وطعومها فدل على نفسه وبراهينه على من ضل عنه لأنه لو كان ظهور الثمار بالماء والتراب لوجب في القياس أن لا تختلف الألوان والطعوم ولا يقع التفاضل في الجنس الواحد إذا ثبت في مغرس واحد وسقي بماء واحد ولكنه صنع اللطيف الخبير وقال مجاهد هذا مثل لبني آدم أصلهم من أب واحد ومنهم صالح ومنهم خبيث
ثم قال تعالى " إن في ذلك " يعني فيما ذكر " لآيات لقوم يعقلون " أنه من الله تعالى قرأ حمزة والكسائي " يسقى " بالياء و " يفضل " بالياء وقرأ عاصم وابن عامر في إحدى الروايتين " يسقى " بالياء بلفظ التذكير " ونفضل " بالنون وقرأ الباقون " تسقى " بالتاء " ونفضل " بالنون
سورة الرعد 5
ثم قال تعالى " وإن تعجب فعجب قولهم " قال الكلبي يعني إن تعجب من تكذيب أهل مكة لك وكفرهم بالله " فعجب قولهم " يقول أعجب من ذلك قولهم " أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد " وقال مقاتل " وإن تعجب " مما أوحينا إليك من القرآن فعجب قولهم " أئذا كنا ترابا " " أئنا لفي خلق جديد " إكذابا منهم بالبعث قرأ الكسائي " أإذا " بهمزتين على وجه الإستفهام وقرأ عاصم وحمزة كليهما بهمزتين وقرأ أبو عمرو " آيذا " بهمزة واحدة مع المد وكذلك في قوله " آينا " بالمد وقرأ ابن كثير " أيذا " بالياء وكذلك " أينا " وقرأ ابن عامر " إيذا كنا " بهمزة واحدة بغير إستفهام " أينا " بالهمزة والمد قال لأنهم لم يشكوا في الموت وإنما شكوا في البعث فينبغي أن يكون الإستفهام في الثاني دون الأول
ثم قال تعالى " أولئك الذين كفروا بربهم " يعني جحدوا بوحدانية الله تعالى " وأولئك الأغلال في أعناقهم " يعني تغل أيمانهم على أعناقهم بالحديد في النار " وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " أي دائمون فيها ولا يخرجون منها
سورة الرعد 6(2/217)
218
قوله تعالى " ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة " قال ابن عباس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم العذاب إستهزاء منهم بذلك فنزل " ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة " يعني بالعذاب قبل العافية " وقد خلت من قبلهم المثلات " يعني قد مضت من قبلهم العقوبات والنقمات قبل قريش فيمن هلك وأصل المثلة الشبه وما يعتبر به وجمعه المثلات " وإن ربك لذو مغفرة " يقول تجاوز " للناس على ظلمهم " يعني على شركهم إن تابوا ويقال بتأخير العذاب عنهم " وإن ربك لشديد العقاب " لمن مات منهم على شركه
سورة الرعد 7 - 8
قوله تعالى " ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه " يعني هلا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم علامة من ربه لنبوته
قال الله تعالى " إنما أنت منذر " يعني مخوفا ومبلغا لهذه الأمة الرسالة " ولكل قوم هاد " قال الكلبي داع يدعوهم إلى الضلالة أو إلى الحق وقال الضحاك يعني " إنما أنت منذر " وأنا الهادي وقال سعيد بن جبير الهادي هو الله وقال عكرمة محمد صلى الله عليه وسلم هو النذير وهو الهادي يعني يدعوهم إلى الهدى " ولكل قوم هاد " وقال مجاهد يعني لكل قوم نبي قرأ ابن كثير " هادي " بالياء عند الوقف وكذلك قوله " ما لك من الله من ولي ولا واق " [ الرعد : 37 ] وقرأ الباقون بغير ياء
قوله تعالى " الله يعلم ما تحمل كل أنثى " ذكرا أو أنثى ويعلم ما في الأرحام سويا أو غير سوي ثم قال " وما تغيض الأرحام " يعني ما تنقص الأرحام من تسعة أشهر في الحمل " وما تزداد " يعني على التسعة أشهر في ذلك الحمل " وكل شيء عنده بمقدار " قال قتادة رزقهم وأجلهم وقال ابن عباس من الزيادة والنقصان والمكث في البطن والخروج كل ذلك بمقدار قدره الله تعالى فلا يزيد ولا ينقص على ذلك وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى " وما تغيض الأرحام " يعني الحامل إن ترى الدم نقص من الولد وإن لم تر الدم يزيد في الولد وروى أسباط عن السدي قال إن المرأة إذا حملت واحتبس حيضها كان ذلك الدم رزقا للولد فإذا حاضت على ولدها خرج وهو أصغر من الذي لم تحض عليه " وما تغيض الأرحام " وهي الحيضة التي على الولد " وما تزداد " فحين يستمسك الدم فلا تحيض وهي حبلى قال الفقيه هذا الذي قال السدي إن الحامل تحيض إنما هو على سبيل المجاز لأن دم الحامل لا يكون حيضا ولكن معناه إذا سال منها الدم فيكون ذلك استحاضه
قال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا ابن خزيمة قال حدثنا علي قال حدثنا(2/218)
219
اسماعيل عن عبد الله بن دينار أنه سمع إبن عمر رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله لا يعلم ما تغيض الأرحام أحد إلا الله ولا يعلم ما في غد أحد إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله تعالى
سورة الرعد 9 - 12
ثم قال تعالى " عالم الغيب والشهادة " يعني ما غاب عن العباد وما شاهدوه ويقال عالم بما كان وبما لم يكن ويقال عالم السر والعلانية " الكبير المتعال " يعني هو أكبر وأعلى من أن تكون له صاحبة وولد
قوله تعالى " سواء منكم من أسر القول " يعني سواء عند الله من أسر القول " ومن جهر به " يعني من أخفى العمل ومن أعلن بالعمل " ومن هو مستخف بالليل " يعني في ظلمة الليل " وسارب بالنهار " أي منصرف في حوائجه يقال سرب يسرب إذا انصرف ومعناه المختفي والظاهر عنده سواء وقال مجاهد المستخفي بالمعصية والسارب يعني الظاهر بالمعاصي " له معقبات " قال إبن عباس له حافظات " من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله " يعني بأمر الله حتى ينتهوا به إلى المقادير فإذا جاءت المقادير خلوا بينه وبين المقادير المعقبات يعني الملائكة يعقب بعضهم بعضا في الليل والنهار إذا مضى فريق يخلفه بعده فريق وروي عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة " له معقبات " قال الملائكة يتعاقبون بالليل والنهار " يحفظونه من أمر الله " يعني بأمر الله ويقال للمؤمن طاعات وصدقات " يحفظونه من أمر الله " أي من عذاب الله عند الموت وفي القبر وفي يوم القيامة
ثم قال " إن الله لا يغير ما بقوم " يعني لا يبدل ما بقوم من النعمة التي أنعمها عليهم " حتى يغيروا " يقول يبدلوا " ما بأنفسهم " بترك الشكر قال مقاتل " إن الله لا يغير ما بقوم " يعني كفار مكة نظيرها في الأنفال " ذلك بأنهم إستحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم " [ الأنفال : 53 ] إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف فلم يعرفوها فغير ما بهم فجعل ذلك لأهل المدينة قال الفقيه أبو الليث رحمه الله في الآية تنبيه لجميع الخلق ليعرفوا نعمة الله عليهم ويشكروه لكيلا تزول عنهم النعم(2/219)
220
ثم قال تعالى " وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له " يعني إذا أراد بهم عذابا أو هلاكا فلا مرد لقضائه " وما لهم من دونه من وال " يعني ليس لهم من عذابه ولي ولا قريب يمنعهم ولا ملجأ يلجؤون إليه
قوله تعالى " هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا " يعني خوفا للمسافر وطمعا للمقيم الحاضر ويقال " خوفا " لمن يخاف ضرر المطر " وطمعا " لمن يحتاج إلى المطر لأن المطر يكون لبعض الأشياء ضررا ولبعضها رحمة
ثم قال " وينشىء السحاب الثقال " يعني يخلق السحاب الثقال من الماء
سورة الرعد 13 - 14
قوله تعالى " ويسبح الرعد بحمده " يعني بأمره قال حدثنا عمرو بن محمد قال حدثنا أبو بكر الواسطي قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا وكيع عن عمرو بن أبي زائدة أنه قال سمعت عكرمة يقول الرعد ملك يزجر السحاب بصوته كالحادي بالإبل وروى وكيع عن المسعودي عن سلمة بن كهيل أنه سئل عن الرعد فقال هو ملك يزجر السحاب وسئل عن البرق فقال هو مخاريق بأيدي الملائكة وسئل وهب بن منبه عن الرعد فقال ثلاث ما أظن أحدا يعلمهن إلا الله عز وجل الرعد والبرق والغيث وما أدري من أين هن وما هن فقيل له " أنزل من السماء ماء " قال نعم ولا ندري أنزل من السماء أو من السحاب فتلقحت فيه أو يخلق في السحاب فيمطر وسمى السحاب سماء وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرعد فقال هو ملك في السماء واسمه الرعد والصوت الذي يسمع هو زجر السحاب ويؤلف بعضه إلى بعض فيسوقه
ثم قال " والملائكة من خيفته " يقول يسبح الملائكة كلهم خائفين لله تعالى " ويرسل الصواعق " وهي نار من السماء لا دخان لها " فيصيب بها من يشاء " من خلقه " وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال " قال ابن عباس يعني الله تعالى " شديد المحال " ويقال أصله في اللغة الحيلة وقال قتادة يعني الحيلة والقوة لله ويقال هو شديد القدرة والعذاب ويقال " المحال " في اللغة هو الشدة وقال بعضهم هو كناية عن الذي يجادل ويكون معناه " فيصيب بها من يشاء " " وهم يجادلون في الله " يعني يصيبهم في حال جدالهم وقال مجاهد جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد أخبرني من أي شيء ربك أمن لؤلؤ هو(2/220)
221
فأرسل الله عليه صاعقة فقتلته فنزل " وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال " يعني شديد العداوة وقال قتادة دخل عامر بن الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أسلم على أن لك المدر ولي الوبر يعني لك ولاية القرى ولي ولاية البوادي فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنت من المسلمين لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم قال عامر لك الوبر ولي المدر فأجابه بمثل ذلك قال عامر ولي الأمر من بعدك فأجابه بمثل ذلك فغضب عامر وقال لأملأنها عليك رجالا ألفا رجل أشعر وألفا أمرد فخرج ولقي أربد بن قيس فقال له ادخل على محمد والهه بالكلام حتى أدخل فأقتله فدخلا عليه فجعل عامر يسأله ويقول أخبرنا يا محمد عن إلهك أمن ذهب هو أم من فضة فلما طال حديثه قاما وخرجا فقال عامر مالك لم تقتله قال كلما أردت أن أقتله وجدتك بيني وبينه فجاء جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فدعا عليه فأصابته صاعقة فقتلته فنزل " ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال "
قوله تعالى " له دعوة الحق " يعني كلمة الإخلاص لا إله إلا الله يدعو الخلق إليها ويقال معناه له على العباد دعوة الحق أن يدعوه فيجيبهم " والذين يدعون من دونه " يعني الأصنام والأوثان " لا يستجيبون لهم بشيء " يقول لا ينفعهم بشيء " إلا كباسط كفيه " يعني كماد يديه " إلى الماء ليبلغ فاه " والعرب تقول لمن طلب شيئا لا يجده هو كقابض الماء يعني كمن هو مشرف يدعو الماء بلسانه ومشرف يدعو الماء بلسانه فلا يجيبه أبدا أو يشير باليد " وما هو ببالغه " يقول فلا يناله أبدا وقال مجاهد كالذي يشير بيده إلى الماء فيدعوه بلسانه فلا يجيبه أبدا هذا مثل ضربه الله تعالى للمشرك الذي عبد مع الله إلها آخر أنه لا يجيبه الصنم ولا ينفعه كمثل العطشان الذي ينظر إلى الماء من بعيد ولا يقدر عليه " وما دعاء الكافرين " يقول ما عبادة أهل مكة " إلا في ضلال " يضل عنهم إذا احتاجوا إليه في الآخرة
سورة الرعد 15
قوله تعالى " ولله يسجد من في السموات والأرض " من الخلق " طوعا وكرها " قال قتادة أما المؤمن فيسجد لله طائعا وأما الكافر فيسجد كرها ويقال أهل الإخلاص يسجدون لله طائعين وأهل النفاق يسجدون له كرها ويقال من ولد في الإسلام يسجد " طوعا " ومن سبي في دار الحرب يسجد " كرها " ويقال " يسجد لله " يعني يخضع له من في السموات والأرض ولا يقدر أحد أن يغير نفسه عن خلقته " وظلالهم " يعني تسجد ظلالهم(2/221)
222
وسجود الظل دورانه ويقال ظل المؤمن يسجد معه وظل الكافر يسجد لله تعالى إذا سجد الكافر للصنم " بالغدو والآصال " يعني أول النهار وآخره وقال أهل اللغة الأصيل ما بين العصر إلى المغرب وجمعه أصل والآصال جمع الجمع
سورة الرعد 16 - 17
قوله تعالى " قل من رب السموات والأرض " يعني قل يا محمد لأهل مكة من خالق السموات والأرض فإن أجابوك وإلا ف " قل الله "
ثم قال " قل أفاتخذتم من دونه أولياء " يعني أفعبدتم غيره " لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير " أي كما لا يستوي الأعمى والبصير كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن ويقال " الأعمى " الجاهل الذي لا يتفكر ولا يرغب في الحق " والبصير " العالم الذي يتفكر ويرغب في الحق " أم هل تستوي الظلمات والنور " أي كما لا تستوي الظلمات والنور فكذلك لا يستوي الإيمان والكفر قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " يستوي " بلفظ التذكير وقرأ الباقون بالتاء بلفظ التأنيث لأن تأنيثه ليس بحقيقي فيجوز أن يذكر ويؤنث ولأن الفعل مقدم على الاسم
ثم قال " أم جعلوا لله شركاء " يعني بل جعلوا لله شركاء من الأصنام ويقال معناه أجعلوا لله شركاء والميم صلة ثم قال " خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم " يعني هل خلق الأوثان خلقا كما خلق الله فاشتبه عليهم خلق الله تعالى من خلق غيره فلما ضرب الله مثلا لآلهتهم سكتوا
قال الله تعالى " قل الله خالق كل شيء " قل يا محمد الله عز وجل خالق جميع الموجودات " وهو الواحد القهار " يعني الذي لا شريك له القاهر لخلقه القادر عليهم ثم ضرب الله تعالى مثلا للحق والباطل لأن العرب كانت عادتهم أنهم يوضحون الكلام بالمثل وقد أنزل الله تعالى القرآن بلغة العرب فأوضح لهم الحق من الباطل بالمثل فقال " أنزل من السماء ماء " يعني المطر " فسالت أودية بقدرها " يعني سال في الوادي الكبير بقدره وفي الوادي الصغير بقدره فشبه القرآن بالمطر وشبه القلوب بالأودية وشبه الهدى بالسيل " فاحتمل السيل زبدا رابيا " يعني عاليا على الماء فشبه الزبد بالباطل يعني احتملته القلوب(2/222)
223
على قدر أهوائها باطلا كبيرا فكما أن السيل يجمع كل قذر كذلك الأهواء تحتمل الباطل وكما أن الزبد لا وزن له فكذلك الباطل لا ثواب له فذلك قوله " فأما الزبد فيذهب جفاء " يعني يذهب كما جاء ويقال يذهب " جفاء " أي سريعا وقال مقاتل " جفاء " أي يابسا فلا ينتفع به ويقذفه السيل وقال القتبي الجفاء ما رمى به الوادي في جنباته ويقال جفأت القدر بزبدها إذا ألقته عنها " وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " يعني يبقى الماء الصافي في الأرض فكذلك الإيمان واليقين ينتفع به أهله في الآخرة كما ينتفع بالماء الصافي في الدنيا والباطل لا ينتفع به لا في الدنيا ولا في الآخرة
ثم ضرب مثلا آخر بالذهب والفضة فقال تعالى " ومما يوقدون عليه في النار " من الذهب والفضة " ابتغاء حلية " يعني التماس حلية تلبسونها يخرج منها الخبث ويبقى الذهب والفضة خالصا
ثم ضرب مثلا آخر فقال " أو متاع زبد مثله " يعني النحاس والحديد والصفر يزول عنها الخبث ويبقى الصفر والحديد خالصا فيتخذ منها المتاع فهذه ثلاثة أمثال ضربها الله تعالى في مثل واحد كما يضمحل هذا الزبد ويبقى خالص الماء وخالص الذهب والفضة والحديد والصفر فكذلك يضمحل الباطل عن أهله وكما يمكث الماء في الأرض ويخرج نباتها وكما يبقى خالص الذهب والفضة حين يدخلان النار فكذلك يبقى الحق وثوابه لصاحبه وقال القتبي في قوله " فاحتمل السيل زبدا رابيا " قال هذا مثل ضربه الله تعالى للحق والباطل يقول الحق الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلا فإن الله سيمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله مثل مطر سال في الأودية بقدرها " فاحتمل السيل زبدا رابيا " أي عاليا على الماء كما يعلو الباطل تارة على الحق ومن جواهر الأرض التي تدخل الكور توقدون عليها يعني الذهب والفضة للحلية " أو متاع " يعني الشبه والحديد والآنك يكون للآنية له خبث يعلوها مثل زبد الماء فأما الزبد فيذهب جفاء يتعلق بأصول الشجر وكنبات الوادي وكذلك خبث الفلز يعني الجوهر يقذفه فهذا مثل الباطل وأما ما ينفع الناس وينبت المرعى فيمكث في الأرض فكذلك الصفر من الفلز يبقى صالحا فهو مثل الحق
ثم قال " كذلك يضرب الله الحق والباطل " على وجه التقديم والتأخير يعني هكذا يضرب الله المثل للحق والباطل ويقال معناه هكذا يبين الله الحق من الباطل " فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " على معنى التقديم والتأخير وقد ذكرناه من قبل " كذلك يضرب الله الأمثال " يعني يبين الله الأشباه ويوضح الطريق ويقيم الحجة
سورة الرعد 18(2/223)
224
ثم قال " للذين استجابوا لربهم الحسنى " يعني للذين أجابوا ربهم بالطاعات في الدنيا لهم الجنة في الآخرة
ثم قال " والذين لم يستجيبوا له " يعني لم يجيبوه ولم يطيعوه في الدنيا " لو أن لهم ما في الأرض جميعا " يوم القيامة " ومثله معه " يعني وضعفه معه " لافتدوا به " يقول لفادوا به أنفسهم من العذاب ولو فادوا به لا يقبل منهم " أولئك لهم سوء الحساب " يعني شديد العقاب ويقال " سوء الحساب " المناقشة في الحساب وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال أتدرون ما سوء الحساب قالوا لا قال هو الذنب يحاسب عليه العبد ثم لا يغفر له وعن الحسن أنه سئل عن سوء الحساب قال يؤخذ العبد بذنوبه كلها فلا يغفر له منها ذنب
ثم قال " ومأواهم جهنم " أي مصيرهم ومرجعهم إلى جهنم " وبئس المهاد " يعني الفراش من النار ويقال بئس موضع القرار في النار
سورة الرعد 19 - 25
قوله تعالى " أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق " يعني يعلم أن القرآن الذي أنزل من الله تعالى هو الحق " كمن هو أعمى " يعني كمن هو لا يعلم ويقال " أفمن يعلم " أن ما ذكر من المثل حق كمن لا يعلم وهذا كقوله " فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم " [ البقرة : 26 ] يعني المثل ويقال " أفمن يعلم " يقول أفمن يرغب في الحق أي يعلم أن ما أنزل إليك من ربك هو الحق " كمن هو أعمى " يعني كمن لا يرغب فيه ثم قال " إنما يتذكر أولو الألباب " يعني يتعظ بما أنزل إليك من القرآن ذوو العقول من الناس وهم المؤمنون
ثم وصفهم فقال تعالى " الذين يوفون بعهد الله " يعني العهد الذي بينهم وبين الله تعالى والعهد الذي بينهم وبين الناس " ولا ينقضون الميثاق " يعني الميثاق الذي أخذ عليهم يوم الميثاق ويقال يعني الميثاق الذي أخذ على أهل الكتاب في كتابهم
قوله " والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل " يعني يصلون الأرحام ولا يقطعونها(2/224)
225
وقال يعني الإيمان بجميع الأنبياء " ويخشون ربهم " يعني يمتنعون عما نهاهم الله تعالى عنه والخشية من الله الإمتناع عن المحرمات والمعاصي " ويخافون سوء الحساب " يعني شدة الحساب
قوله " والذين صبروا " يعني صبروا عن المعاصي وصبروا عن أداء الفرائض وصبروا على المصائب والشدائد وصبروا على أذى الكفار والمنافقين " ابتغاء وجه ربهم " يعني صبروا على ما ذكر ابتغاء مرضاة الله تعالى " وأقاموا الصلاة " يعني أتموها بركوعها وسجودها في مواقيتها " وأنفقوا مما رزقناهم " يعني من الأموال " سرا وعلانية " يعني يتصدقون في الأحوال كلها ظاهرا وباطنا ويقال مرة يتصدقون سرا مخافة الرياء ومرة يتصدقون علانية لكي يقتدى بهم ويقال يتصدقون صدقة التطوع في السر ويتصدقون صدقة الفريضة في العلانية " ويدرؤون بالحسنة السيئة " يقول يدفعون بالكلام الحسن السيئة يعني الكلام القبيح فهذا كله صفة ذوي الألباب وهم الذين استجابوا لربهم
ثم بين ثوابهم ومرجعهم في الآخرة فقال " أولئك لهم عقبى الدار " يعني هؤلاء لهم الجنة وهم المهاجرون والأنصار ومن كان في مثل حالهم إلى يوم القيامة
ثم قال تعالى " جنات عدن يدخلونها ومن صلح " يعني ومن آمن وأطاع الله تعالى " من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم " يدخلون أيضا جنات عدن وهذا كقوله " ألحقنا بهم ذريتهم " [ الطور : 21 ] " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب " ويسلمون عليهم ويقولون لهم " سلام عليكم بما صبرتم " على أمر الله تعالى وطاعته " فنعم عقبى الدار " يعني نعم العاقبة الجنة فقد بين حال الذين استجابوا لربهم والذين يعلمون أن الذي أنزل إليك هو الحق
ثم بين حال الذين لم يستجيبوا له وهم الذين ينقضون الميثاق فقال تعالى " والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه " يعني من بعد تأكيده وتغليظه يعني بعد إقرارهم بالتوحيد يوم الميثاق " ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل " يعني الأرحام ويقال الإيمان بالنبيين " ويفسدون في الأرض " بالدعاء إلى عبادة غير الله تعالى أي عبادة الأوثان " أولئك لهم اللعنة " يعني يلعنهم في الدنيا والآخرة " ولهم سوء الدار " يعني سوء المرجع ويقال " لهم اللعنة " يعني هم مطرودون من رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة " ولهم سوء الدار " يعني عذاب النار في الآخرة
سورة الرعد 26
قوله تعالى " الله يبسط الرزق لمن يشاء " يعني يوسع الرزق لمن يشاء من عباده " ويقدر " يعني يقتر في الرزق يعني يختار للغني الغنى وللفقير الفقر في رزق الله تعالى لأنه يعلم أن صلاحه فيه وروي عن ابن عباس أنه قال إن الله تعالى خلق الخلق وهو بهم(2/225)
226
عليم فجعل الغنى لبعضهم صلاحا وجعل الفقر لبعضهم صلاحا فذلك الخيار للفريقين وقال الحسن البصري ما أحد من الناس يبسط الله له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر به فيها إلا كان قد نقص علمه وعجز رأيه وما أمسكها الله من عبد فلم يظن أنه خير له فيها إلا كان قد نقص علمه وعجز رأيه
ثم قال " وفرحوا بالحياة الدنيا " يقول استأثروا الحياة الدنيا على الآخرة " وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع " يعني الدنيا بمنزلة الأواني التي لا تبقى مثل السكرجة والزجاجة وأشباه كل ذلك التي يتمتع بها ثم يذهب فكذلك هذه الدنيا تذهب وتفنى وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ماء يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع وقال مجاهد " إلا متاع " أي قليل ذاهب وهكذا قال مقاتل
سورة الرعد 27 - 29
قوله تعالى " ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه " يعني هلا أنزل عليه آية من ربه يعني علامة لنبوته " قل إن الله يضل من يشاء " يعني من عباده عن الهدى يعني إذا لم يرغب فيه " ويهدي إليه " يعني يرشد إلى دينه " من أناب " يعني من رجع إلى الحق ويقال رجع عن الشرك
ثم قال تعالى " الذين آمنوا " هذا مقرون بالأول يعني ويهدي الذين آمنوا " وتطمئن قلوبهم " يعني تسكن قلوبهم وترضى " بذكر الله " يعني إذا ذكروا الله تعالى بوحدانيته آمنوا به غير شاكين وقال الكلبي يعني وتسكن وترضى قلوبهم لمن يحلف لهم بالله " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " يعني تسكن وترضى قلوب المؤمنين " الذين آمنوا " يعني صدقوا بالله وبمحمد وبالقرآن " وعملوا الصالحات " يعني الطاعات " طوبى لهم " يعني غبطة لهم قال مجاهد " طوبى لهم " يعني الجنة ويقال " طوبى " شجرة في الجنة
قال الفقيه حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي اليسر عن أبي أوفى عن مغيث بن سمي في قوله تعالى " طوبى لهم " قال طوبى شجرة في الجنة ليس لأهل الجنة من دار إلا ويظلهم غصن من أغصانها قال ابن عباس " طوبى " شجرة في الجنة ساقها من ذهب الورقة منها تغطي الدنيا ليس في الجنة منزل إلا وفيه غصن من أغصانها وقال أبو(2/226)
227
هريرة " طوبى " شجرة في الجنة وقال قتادة هي كلمة عربية يقول الرجل طوبى لك إذا أصبت خيرا وقال عكرمة " طوبى لهم " أي نعمى لهم ويقال " طوبى لهم " أي خير لهم ثم قال تعالى " وحسن مآب " يعني حسن المرجع في الآخرة
سورة الرعد 30
قوله تعالى " كذلك أرسلناك في أمة " يقول هكذا بعثناك في أمة كما بعثنا إلى من كان قبلك من الرجال في الأمم الخالية " قد خلت من قبلها أمم " يعني قد مضت من قبل قومك " أمم لتتلو عليهم " يعني أرسلناك لتقرأ عليهم " الذي أوحينا إليك " من القرآن " وهم يكفرون بالرحمن " يعني يجحدون ويكذبون وذلك أن عبد الله بن أمية المخزومي وأصحابه قالوا ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة الكذاب
قال الله تعالى " قل هو ربي " يعني قل يا محمد الرحمن الذي تكفرون به هو الله ربي الذي " لا إله إلا هو عليه توكلت " يعني فوضت أمري إليه " وإليه متاب " يعني وإليه أتوب وأرجع
سورة الرعد 31
قوله تعالى " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال " وذلك أن عبد الله بن أمية وغيره من كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم سير لنا جبال مكة ذهبا وفضة حتى نعلم أنك صادق في مقالتك أو قرب أسفارنا كما فعل سليمان بن داود بريحه أو كلم موتانا كما فعل عيسى بدعائه فنزل " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال " عن أماكنها " أو قطعت به الأرض " غدوها شهر ورواحها شهر " أو كلم به الموتى " فلم يذكر جوابه لأن في الكلام دليلا عليه يعني لو فعلنا ذلك بقرآن قبل قرآن محمد صلى الله عليه وسلم لفعلنا ذلك بقرآن محمد صلى الله عليه وسلم ويقال لو فعل أحد من الأنبياء ما سألتموني لفعلت لكم ولكن الأمر إلى الله تعالى إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل فذلك قوله تعالى " بل لله الأمر جميعا " ويقال معناه ولو أن قرآنا سيرت به الجبال عن أماكنها أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى لم يؤمنوا به وهذا كقوله " ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا " [ الأنعام : 111 ] الآية إلى قوله " ما كانوا ليؤمنوا " [ الأنعام : 111 ] " بل لله الأمر جميعا " إن شاء هدى من كان أهلا لذلك وإن شاء لم يهد من لم يكن أهلا لذلك(2/227)
228
قوله تعالى " أفلم ييأس الذين آمنوا " قال الحسن وقتادة أفلم يعلم الذين آمنوا وقال الفراء لم أجد في العربية مثل هذا ويقال معناه أفلم يتبين للذين آمنوا ويقال هو من الإياس ومعناه أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الذين وصفهم الله تعالى بأنهم لا يؤمنون " أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا " يعني إنهم لم يكونوا أهلا لذلك فلم يهدهم وروى ابن أبان بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقرأ " أفلم يتبين للذين آمنوا " فقيل له إنها " أفلم ييأس الذين آمنوا " فقال إني أرى الكاتب كتبها وهو ناعس وروي في خبر آخر أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن قوله " أفلم ييأس " قال أفلم يعلم الذين آمنوا وقال ابن عباس أما سمعت مالك بن عوف وهو يقول
( قد يئس الأقوام أني أنا ابنه % وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا )
ثم قال " ولا يزال الذين كفروا " يعني أهل مكة " تصيبهم بما صنعوا قارعة " يعني نكبة وشدة ويقال " قارعة " داهية تقرع ويقال لكل مهلكة قارعة ويقال نازلة تنزل لأمر شديد فالمراد هنا سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم تأتيهم وتصيبهم من ذلك شدة " أو تحل قريبا من دارهم " يعني تنزل أنت يا محمد بجماعة أصحابك قريبا من دارهم يعني من مكة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سار بجنوده حتى أتى عسفان ثم بعث مائتي راكب حتى انتهوا قريبا من مكة ثم قال " حتى يأتي وعد الله " يعني فتح مكة قالوا هذه الآية مدنية
ثم قال " إن الله لا يخلف الميعاد " أي بفتح مكة على النبي صلى الله عليه وسلم
سورة الرعد 32
قوله تعالى " ولقد استهزىء برسل من قبلك " كما استهزأ بك قومك " فأمليت للذين كفروا " يعني أمهلتهم بعد الإستهزاء ولم أعاقبهم " ثم أخذتهم " بالعذاب عند المعصية بالتكذيب فأهلكتهم " فكيف كان عقاب " يعني فكيف رأيت إنكاري وتعييري عليهم بالعذاب لم ير النبي صلى الله عليه وسلم عقوبتهم إلا أنه علم بحقيقته فكأنه رأى عيانا
سورة الرعد 33 - 34
قوله تعالى " أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت " يقول هو الله القائم على كل نفس برة وفاجرة بالرزق لهم والدفع عنهم وجوابه مضمر يعني كمن هو ليس بقائم على ذرة وهذا كقوله " أفمن يخلق كمن لا يخلق " [ النحل : 17 ] ثم قال " وجعلوا لله شركاء " يعني قالوا ووصفوا لله شركاء وقال مقاتل " وجعلوا لله شركاء " يقول يعني السواء أنا القائم(2/228)
229
على كل نفس بأرزاقهم وأطعمتهم كالذين يصفون أن لي شريكا معناه لا تكون عبادة الله كعبادة غيره " قل سموهم " يعني قل يا محمد سموا هؤلاء الشركاء يعني سموا دلائلهم وبراهينهم وحججهم ويقال سموا منفعتهم وقدرتهم
ثم قال " أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض " يعني تخبرونه بما علم أنه لا يكون ويقال معناه أتشركون معه جاهلا لا يعلم ما في الأرض ويقال معناه أتخبرون الله بشيء لا يعلم من آلهتكم يعني يعلم الله أنه ليس لها في الأرض قدرة " أم بظاهر من القول " يعني أتقولون قولا بلا برهان ولا حجة ويقال بباطل من القول يعني إن قلتم إن لها قدرة لقلتم باطلا وقال قتادة الظاهر من القول الباطل وكذلك قال مجاهد
ثم قال " بل زين للذين كفروا مكرهم " يقول ولكن زين للذين كفروا من أهل مكة كفرهم وقولهم الشرك " وصدوا عن السبيل " قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " وصدوا عن السبيل " بنصب الصاد يعني إن الكافرين صدوا الناس عن دين الله الإسلام وقرأ الباقون " وصدوا " بضم الصاد على فعل ما لم يسم فاعله مثل قوله " فزين لهم " [ فاطر : 8 ]
ثم قال " ومن يضلل الله " يعني من يخذله الله عن دينه الإسلام ولا يوفقه " فما له من هاد " يعني ما له من مرشد إلى دينه غير الله تعالى
قوله تعالى " لهم عذاب في الحياة الدنيا " يعني لهم في الدنيا الشدائد والأمراض ويقال عند الموت ويقال القتل على أيدي المسلمين والغلبة عليهم " ولعذاب الآخرة أشق " يعني أشد " وما لهم من الله من واق " يعني ملجأ يلجؤون إليه يقيهم من عذاب الله
سورة الرعد 35 - 37
قوله تعالى " مثل الجنة التي وعد المتقون " قال بعضهم المثل هنا أراد به الصفة ولم يرد به التشبيه لأنه قد ذكر من قبل حديث الجنة وهو قوله تعالى " للذين استجابوا لربهم الحسنى " [ الرعد : 18 ] وقال بعد ذلك " جنات عدن يدخلونها " [ الرعد : 23 ] ثم بين ها هنا صفة الجنة يعني صفة الجنة " التي وعد المتقون " الذين يتقون الشرك والفواحش روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقرأ " أمثال الجنة التي وعد المتقون " يعني صفاتها وأحاديثها " تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم " يعني حملها ونعيمها لا ينقطع عنهم أبدا " وظلها "(2/229)
230
يقول وهكذا ظلها دائم أبدا ليس فيها شمس وقال بعضهم أراد به التشبيه لأن الله عرفنا نعيم الجنة وأمورها التي لم نرها ولم نشاهدها بما شهدنا من أمور الدنيا ومعناه " مثل الجنة التي وعد المتقون " جنة تجري من تحتها الأنهار
ثم قال " تلك عقبى الذين اتقوا " يعني تلك الجنة جزاء الذين اتقوا الشرك والفواحش " وعقبى الكافرين النار " يعني مصيرهم وجزاؤهم النار
ثم قال تعالى " والذين آتيناهم الكتاب " أي التوراة " يفرحون بما أنزل إليك " وهم مؤمنو أهل الكتاب يعجبون بذكر الرحمن " ومن الأحزاب من ينكر بعضه " يعني أهل مكة ينكرون ذكر الرحمن ويقولون ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب ويقال " ومن الأحزاب من ينكر بعضه " يعني من أهل الكتاب من ينكر ما كان فيه نسخ شرائعهم ( قل ) يا محمد " إنما أمرت أن أعبد الله " يعني أمرت أن أقيم على التوحيد " ولا أشرك به " شيئا
ثم قال " إليه أدعو " يقول أدعوالخلق إلى توحيده " وإليه مآب " يعني المرجع في الآخرة
ثم قال " وكذلك أنزلناه " يعني القرآن أنزلنا جبريل ليقرأ عليك القرآن " حكما " يعني القرآن حكما على الكتب كلها ويقال محكما " عربيا " يعني القرآن بلغة العرب " ولئن إتبعت أهواءهم " قال الكلبي يعني لئن صليت إلى قبلتهم نحو بيت المقدس " بعد ما جاءك من العلم " يعني من بعد ما أتاك العلم بأن قبلتك نحو الكعبة ويقال " ولئن إتبعت أهواءهم " يعني أهل مكة فيما يدعونك إلى دين آبائك بعد ما ظهر لك أن الإسلام هو الحق " ما لك من الله " يعني من عذابه " من ولي " ينفعك " ولا واق " يقيك من عذاب الله والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أصحابه
سورة الرعد 38 - 39
قوله تعالى " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك " وذلك أن اليهود عيروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لو كان هذا نبيا كما يزعم لشغلته النبوة عن تزوج النساء فنزل " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك " يا محمد " وجعلنا لهم أزواجا وذريه " قال الكلبي كان لسليمان بن داود عليه السلام ثلاثمائة امرأة مهرية وتسعمائة سرية وكان لداود مائة إمرأة
ثم قال " وما كان لرسول " يعني ليس ينبغي لرسول " أن يأتي بآية " إلى قومه " إلا بإذن الله " يعني بأمر الله تعالى ويقال معناه ما كان أحد يقدر أن يأتي بآية من الآيات إلا بإذن الله " لكل أجل كتاب " أي لكل أجل من آجال الدنيا كتاب مكتوب لا يزاد عليه ولا ينقص(2/230)
231
منه ويقال لكل أجل وقت قد كتب فيه وقال الفراء هذا مقدم ومؤخر أي لكل كتاب أجل مثل قوله " وجاءت سكرة الموت بالحق " [ ق : 19 ] أي سكرة الحق بالموت وكذلك قال ابن عباس
ثم قال تعالى " يمحو الله ما يشاء ويثبت " روى شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أن قريشا لما نزلت هذه الآية " وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله " [ الرعد : 38 ] قالوا ما نراك يا محمد تملك من شيء ولقد فرغ من الأمر فنزلت هذه الآية تخويفا ووعيدا لهم فإنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما نشاء فيمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء من أرزاق العباد ومصايبهم فيما يعطيهم وبما يرزقهم ويقسم لهم وروى وكيع عن الأعمش عن أبي وائل أنه كان يقول في دعائه اللهم إن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا وإن كنت كتبتنا أشقياء فامحنا واكتبنا سعداء فإنك تمحو ما تشاء وتثبت ما تشاء وعندك أم الكتاب
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال " يمحو الله ما يشاء ويثبت " إلا الشقاوة والسعادة والموت والحياة وروى منصور عن مجاهد أنه قال الشقاوة والسعادة لا يتغيران ويقال " يمحو الله ما يشاء " يعني من أعمال بني آدم وما كتبت الحفظة ما ليس فيه جزاء خير ولا شر " ويثبت " ما فيه جزاء خير أو شر وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت إن الحفظة إذا رفعت ديوان العبد فإن كان في أوله وآخره خير يمحو الله ما بينهما من السيئات وإن لم يكن في أوله وآخره حسنات يثبت ما فيه من السيئات وقال مقاتل " يمحو الله " يعني ينسخ الله ما يشاء من القرآن " ويثبت " يقول ويقر المحكم الناسخ ما يشاء فلا ينسخه ويقال " يمحو الله ما يشاء " يعني المعرفة عن قلب من يشاء " ويثبت " في قلب من يشاء وهو مثل قوله " يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب " [ الرعد : 27 ] وفي آية أخرى " يمحو الله ما يشاء ويثبت " أي يمحو من الشرائع والكتب الممحوة التوراة والإنجيل والزبور والمثبت هو القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهذا القول هو المختار ويقال يقضي على العبد البلاء فيدعو العبد فيزول عنه كما روي في الخبر الدعاء يرد البلاء
ثم قال تعالى " وعنده أم الكتاب " يعني أصل الكتاب وجملته وهو اللوح المحفوظ كتب فيه كل شيء قبل أن يخلقهم
سورة الرعد 40 - 42
قوله تعالى " وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم " من العذاب والزلازل والمصائب في الدنيا إذ كذبوك وأنت حي " أو نتوفينك " يقول أو نميتنك قبل أن نرينك " فإنما عليك البلاغ " بالرسالة " وعلينا الحساب " يعني الجزاء
ثم قال " أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها " يعني نفتحها من نواحيها وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هو ذهاب العلماء وقال
ابن عباس ذهاب فقهائها وخيار أهلها وعن إبن مسعود نحوه وقال الضحاك أو لم ير المشركون أنا ننقصها من أطرافها يعني يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ما حولهم من أراضيهم وقراهم وأموالهم أفهم الغالبون يعني أو لا يرون أنهم المغلوبون والمنتقصون وعن عكرمة أنه قال الأرض لا تنقص ولكن تنقص الثمار وينقص الناس وعن عطاء أنه قال هو موت فقهائها وخيارها وقال السدي يعني ينقص أهلها من أطرافها ولم تهلك قرية إلا من أطرافها يعني تخرب قبل ثم يتبعها الخراب " والله يحكم لا معقب لحكمه " يقول لا راد لحكمه ولا مغير له ولا مرد لما حكم لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنصر والغنيمة " وهو سريع الحساب " إذا حاسب فحسابه سريع
قوله تعالى " وقد مكر الذين من قبلهم " يعني صنع الذين من قبلهم كصنيع أهل مكة بمحمد صلى الله عليه وسلم " فلله المكر جميعا " يعني يجازيهم جزاء مكرهم وينصر أنبياءه ويبطل مكر الكافرين ثم قال " يعلم ما تكسب كل نفس " برة أو فاجرة " وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار " يعني الجنة
سورة الرعد 43
قوله تعالى " ويقول الذين كفروا لست مرسلا " يعني كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وسائر اليهود ويقال يعني أهل مكة " قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم " يقول كفى بالله شاهدا بيني وبينكم على مقالتكم " ومن عنده علم الكتاب " يعني ومن آمن من أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه " شهيدا بيني وبينكم " لأنهم وجدوا نعته وصفته في كتبهم قرأ إبن كثير وأبو عمرو وعاصم " يمحو الله ما يشاء ويثبت " بجزم الثاء والتخفيف وقرأ الباقون بنصب الثاء وتشديد الباء ومعناهما واحد وقرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو " وسيعلم الكافر " بلفظ الجماعة وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ " ومن عنده " بالكسر(2/231)
232
قوله تعالى " وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم " من العذاب والزلازل والمصائب في الدنيا إذ كذبوك وأنت حي " أو نتوفينك " يقول أو نميتنك قبل أن نرينك " فإنما عليك البلاغ " بالرسالة " وعلينا الحساب " يعني الجزاء
ثم قال " أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها " يعني نفتحها من نواحيها وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هو ذهاب العلماء وقال إبن عباس ذهاب فقهائها وخيار أهلها وعن إبن مسعود نحوه وقال الضحاك أو لم ير المشركون أنا ننقصها من أطرافها يعني يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ما حولهم من أراضيهم وقراهم وأموالهم أفهم الغالبون يعني أو لا يرون أنهم المغلوبون والمنتقصون وعن عكرمة أنه قال الأرض لا تنقص ولكن تنقص الثمار وينقص الناس وعن عطاء أنه قال هو موت فقهائها وخيارها وقال السدي يعني ينقص أهلها من أطرافها ولم تهلك قرية إلا من أطرافها يعني تخرب قبل ثم يتبعها الخراب " والله يحكم لا معقب لحكمه " يقول لا راد لحكمه ولا مغير له ولا مرد لما حكم لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنصر والغنيمة " وهو سريع الحساب " إذا حاسب فحسابه سريع
قوله تعالى " وقد مكر الذين من قبلهم " يعني صنع الذين من قبلهم كصنيع أهل مكة بمحمد صلى الله عليه وسلم " فلله المكر جميعا " يعني يجازيهم جزاء مكرهم وينصر أنبياءه ويبطل مكر الكافرين ثم قال " يعلم ما تكسب كل نفس " برة أو فاجرة " وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار " يعني الجنة
سورة الرعد 43
قوله تعالى " ويقول الذين كفروا لست مرسلا " يعني كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وسائر اليهود ويقال يعني أهل مكة " قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم " يقول كفى بالله شاهدا بيني وبينكم على مقالتكم " ومن عنده علم الكتاب " يعني ومن آمن من أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه " شهيدا بيني وبينكم " لأنهم وجدوا نعته وصفته في كتبهم قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم " يمحو الله ما يشاء ويثبت " بجزم الثاء والتخفيف وقرأ الباقون بنصب الثاء وتشديد الباء ومعناهما واحد وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " وسيعلم الكافر " بلفظ الجماعة وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ " ومن عنده " بالكسر(2/232)
233
يعني القرآن من عند الله تعالى وروي عنه أيضا " وسيعلم الكافرون " وقرأ أبي بن كعب " وسيعلم الذين كفروا " وقال عبد الله بن مسعود هذه السورة مكية وعبد الله بن سلام أسلم بعد ذلك بمدة فكيف يجوز أن يكون المراد به عبد الله بن سلام وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قرأ بالكسر وقرأ بعضهم " ومن عنده علم الكتاب " بضم العين وكسر اللام على معنى فعل ما لم يسم فاعله وروى عن ابن عباس أنه كان يقول هذه الآية مدنية وكان يقرأ " ومن عنده " بالنصب والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم(2/233)
234
سورة إبراهيم
مكية وهي اثنتان وخمسون آية إلا آيتين مدنيتين
سورة إبراهيم 1 - 3
قال الله عز وجل " الر كتاب أنزلناه إليك " يعني هذا كتاب أنزلنا جبريل ليقرأ عليك وهو القرآن " لتخرج الناس " أي لتدعو الناس " من الظلمات إلى النور " يعني من الكفر إلى الإيمان وسمى الكفر ظلمات لأن الكفر طريق الضلالة فمن وقع فيه ضل الطريق وسمى الإيمان نورا لأنه طريق واضح مبين " بإذن ربهم " يقول بأمر ربهم " إلى صراط العزيز الحميد " يعني دين الإسلام العزيز المنيع بالنقمة لمن لم يجب الرسول " الحميد " لمن وحده ويقال " الحميد " في فعاله ويقال " الحميد " لأفعال الخلق يشكر لهم اليسير من أعمالهم ويعطي الجزيل
ثم قال الله تعالى " الله الذي له ما في السموات وما في الأرض " من الخلق قرأ ابن عامر ونافع " الله " بالضم على معنى الإبتداء وقرأ الباقون " الله " بالكسر على معنى البناء
ثم قال " وويل للكافرين " يعني الكافرين بوحدانية الله تعالى " من عذاب شديد " أي غليظ دائم والويل الشدة من العذاب ويقال الويل واد في جهنم
ثم نعتهم فقال " الذين يستحبون الحياة الدنيا " يعني يستأثرون ويختارون الدنيا الفانية " على الآخرة " الباقية " ويصدون عن سبيل الله " يعني يصرفون الناس عن ملة الإسلام " ويبغونها عوجا " يعني يريدون بملة الإسلام غيرا وزيغا " أولئك في ضلال بعيد " عن الحق يعني في خطأ طويل بعيد عن الحق
سورة إبراهيم 4
قوله تعالى " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " يعني بلغة قومه ليفهموه وليكون(2/234)
235
أبين لهم يعني " ليبين لهم " طريق الهدى " فيضل الله من يشاء " عن دين الإسلام من لم يكن أهلا لذلك " ويهدي من يشاء " إلى دينه الإسلام من كان أهلا لذلك " وهو العزيز " في ملكه " الحكيم " في أمره وقضائه ويقال " الحكيم " حكم بالضلالة والهدى لمن يشاء
سورة إبراهيم 5
قوله تعالى " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا " يعني باليد والعصا " أن أخرج قومك " يعني ادع قومك " من الظلمات إلى النور " يعني من الكفر إلى الإيمان " وذكرهم بأيام الله " يعني خوفهم بمثل عذاب الأمم الخالية ليحذروا فليؤمنوا وقال مجاهد أيام نعمه وكذلك قال قتادة والسدي يعني ذكرهم نعمائي ليؤمنوا بي وروي في الخبر أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن حببني إلى عبادي قال رب كيف أحببك إلى عبادك والقلوب بيدك فأوحى الله إليه أن ذكرهم نعمائي
ثم قال " إن في ذلك لآيات " يعني في الذي فعلت بالأمم الخالية وما أعطيتهم من النعم لعلامات " لكل صبار " على طاعة الله والصبار هو المبالغ في الصبر " شكور " يعني شكور لنعم الله تعالى وهو على ميزان فعول وهو المبالغة في الشكر
سورة إبراهيم 6 - 8
ثم قال تعالى " وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون " يعني من فرعون وآله كما قال في آية أخرى " وأغرقنا آل فرعون " [ الأنفال : 54 ] يعني فرعون وآله " يسومونكم سوء العذاب " يقول يعذبونكم بأشد العقاب " ويذبحون أبناءكم " الصغار " ويستحيون نساءكم " يعني يستخدمون نساءكم " وفي ذلكم " يعني ذبح الأبناء واستخدام النساء " بلاء من ربكم عظيم " يعني بلية عظيمة لكم من خالقكم ويقال في إنجاء الله نعمة عظيمة لكم
قوله تعالى " وإذ تأذن ربكم " يعني قد قال ربكم ويقال أعلم ربكم " لئن شكرتم " نعمتي عليكم " لأزيدنكم " من النعمة " ولئن كفرتم " بتوحيد الله وجحدتم نعمتي عليكم " إن عذابي لشديد " في الآخرة قال الفقيه حدثنا أبي رحمه الله بإسناده عن أبي هريرة أنه قال من رزق ستا لم يحرم ستا من رزق الشكر لم يحرم الزيادة لقوله تعالى " لئن شكرتم لأزيدنكم "(2/235)
236
ومن رزق الصبر لم يحرم الثواب لقوله تعالى " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " [ الزمر : 10 ] ومن رزق التوبة لم يحرم القبول لقوله تعالى " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده " [ الشورى : 25 ] ومن رزق الإستغفار لم يحرم المغفرة لقوله تعالى " إستغفروا ربكم إنه كان غفارا " [ نوح : 10 ] ومن رزق الدعاء لم يحرم الإجابة لقوله تعالى " أدعوني أستجب لكم " [ غافر : 60 ] ومن رزق النفقة لم يحرم الخلف لقوله تعالى " وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه " [ سبأ : 39 ]
قوله تعالى " وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا " يعني إن جحدتم نعمة الله ولم تؤمنوا به " فإن الله لغني " يعني غنيا عن إيمانكم وطاعتكم " حميد " لمن عبده منكم بالمغفرة
سورة إبراهيم 9
قوله تعالى " ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم " يقول ألم يأتكم في القرآن خبر الذين من قبلكم من الأمم الماضية كيف عذبهم الله تعالى عند تكذيب رسلهم " قوم نوح " كيف أهلكهم الله بالغرق " وعاد " كيف أهلكهم الله بالريح " وثمود " كيف أهلكهم بالصيحة فهذا تهديد لأهل مكة ليعتبروا بهم
قوله تعالى " والذين من بعدهم " كيف عذبوا " لا يعلمهم إلا الله " يعني لا يعلم عددهم إلا الله قال إبن مسعود كذب النسابون وقرأ هذه الآية " والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله " " جاءتهم رسلهم بالبينات " يعني الأمم الخالية جاءتهم رسلهم بالأمر والنهي " فردوا أيديهم في أفواههم " قال مقاتل وضع الكفار أيديهم على أفواههم فقالوا للرسل إسكتوا فإنكم كذبة وإن العذاب غير نازل بنا وروى هبيرة بن يزيد عن عبد الله بن مسعود في قوله " فردوا أيديهم في أفواههم " قال جعلوا أصابعهم في فيهم وقال القتبي أي عضوا عليها حنقا وغيظا
قال مجاهد وقتادة يعني ردوا عليهم قولهم وكذبوهم ويقال " فردوا أيديهم " يعني نعم رسلهم لأن مجيئهم بالبينات نعم يعني قوله " في أفواههم " أي بأفواههم أي ردوا تلك النعمة بالنطق بالتكذيب " وقالوا إنا كفرنا " فهذا هو ردهم " بما أرسلتم به " يعني بما تدعونا إليه " وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب " وهو المبالغة في الشك يعني ظاهر الشك
سورة إبراهيم 10 - 12
قوله تعالى " قالت رسلهم أفي الله شك " يقول أفي وحدانية الله شك وعلامات وحدانيته ظاهرة هو قوله " فاطر السموات والأرض " يعني أتشكون في الله خالق السموات والأرض " يدعوكم ليغفر لكم " يعني يدعوكم إلى الإقرار بوحدانية الله تعالى ليتجاوز عنكم " من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى " يعني منتهى آجالكم فلا يصيبكم فيه العذاب فأجابهم قومهم " قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا " يقول ما أنتم إلا آدميون مثلنا لا فضل لكم علينا بشيء "
تريدون أن تصدونا " أي تصرفونا " عما كان يعبد آباؤنا " من الآلهة " فأتونا بسلطان مبين " يعني بحجة بينة
" قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم " يقول ما نحن إلا آدميون مثلكم كما تقولون " ولكن الله يمن على من يشاء من عباده " ويختاره للنبوة " وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان " جوابا لقولهم " فأتونا بسلطان مبين " يعني لا ينبغي أن نأتيكم بسلطان " إلا بإذن الله " لأن الأمر بيد الله تعالى " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " يعني على المؤمنين أن يتوكلوا على الله
قوله " وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا " يعني وفقنا لطريق الإسلام ويقال أكرمنا بالنبوة " ولنصبرن على ما آذيتمونا على الله فليتوكل المتوكلون " أي فليثق الواثقون
سورة إبراهيم 13 - 14
قوله تعالى " وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا " يقول لتدخلن في ديننا فهذا كله تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذى المشركين كما صبر من قبله من الرسل " فأوحى إليهم ربهم " يقول أوحى الله تعالى إلى الرسل " لنهلكن الظالمين " فهذا لام القسم ويراد به التأكيد للكلام أن يهلك الكافرين من قومهم " ولنسكننكم الأرض من بعدهم " يقول لننزلنكم في الأرض من بعد هلاكهم فأهلك الله تعالى قومهم فسكن الرسل ومن معهم من المؤمنين ديارهم " ذلك لمن خاف مقامي " يقول ذلك الثواب " لمن خاف مقامي " يعني مقامه يوم القيامة بين يدي رب العالمين
وروي عن أبي بن كعب أنه قال يقومون ثلاثمائة عام لا يؤذن لهم فيقعدون أما المؤمنون فيهون عليهم كما تهون عليهم الصلاة المكتوبة وروي عن منصور عن خيثمة أنه(2/236)
237
قوله تعالى " قالت رسلهم أفي الله شك " يقول أفي وحدانية الله شك وعلامات وحدانيته ظاهرة وهو قوله " فاطر السموات والأرض " يعني أتشكون في الله خالق السموات والأرض " يدعوكم ليغفر لكم " يعني يدعوكم إلى الإقرار بوحدانية الله تعالى ليتجاوز عنكم " من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى " يعني منتهى آجالكم فلا يصيبكم فيه العذاب فأجابهم قومهم " قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا " يقول ما أنتم إلا آدميون مثلنا لا فضل لكم علينا بشيء " تريدون أن تصدونا " أي تصرفونا " عما كان يعبد آباؤنا " من الآلهة " فأتونا بسلطان مبين " يعني بحجة بينة
" قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم " يقول ما نحن إلا آدميون مثلكم كما تقولون " ولكن الله يمن على من يشاء من عباده " ويختاره للنبوة " وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان " جوابا لقولهم " فأتونا بسلطان مبين " يعني لا ينبغي أن نأتيكم بسلطان " إلا بإذن الله " لأن الأمر بيد الله تعالى " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " يعني على المؤمنين أن يتوكلوا على الله
قوله " وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا " يعني وفقنا لطريق الإسلام ويقال أكرمنا بالنبوة " ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون " أي فليثق الواثقون
سورة إبراهيم 13 - 14
قوله تعالى " وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا " يقول لتدخلن في ديننا فهذا كله تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذى المشركين كما صبر من قبله من الرسل " فأوحى إليهم ربهم " يقول أوحى الله تعالى إلى الرسل " لنهلكن الظالمين " فهذا لام القسم ويراد به التأكيد للكلام أن يهلك الكافرين من قومهم " ولنسكننكم الأرض من بعدهم " يقول لننزلنكم في الأرض من بعد هلاكهم فأهلك الله تعالى قومهم فسكن الرسل ومن معهم من المؤمنين ديارهم " ذلك لمن خاف مقامي " يقول ذلك الثواب " لمن خاف مقامي " يعني مقامه يوم القيامة بين يدي رب العالمين
وروي عن أبي بن كعب أنه قال يقومون ثلاثمائة عام لا يؤذن لهم فيقعدون أما المؤمنون فيهون عليهم كما تهون عليهم الصلاة المكتوبة وروي عن منصور عن خيثمة أنه(2/237)
238
قال كنا عند عبد الله بن عمر فقلنا إن عبد الله بن مسعود كان يقول إن الرجل ليعرق حتى يسبح في عرقه ثم يرفعه العرق حتى يلجمه فقال ابن عمر هذا للكفار فما للمؤمنين فقلنا الله أعلم فقال يرحم الله أبا عبد الرحمن حدثكم أول الحديث ولم يحدثكم آخره إن للمؤمنين كراسي يجلسون عليها ويظلل عليهم بالغمام ويكون يوم القيامة عليهم كساعة من نهار
ثم قال تعالى " وخاف وعيد " أي وخشي عذابي عليه قرأ نافع في رواية ورش " وخاف وعيدي " بالياء يعني خاف عذاب الله وقرأ الباقون بغير ياء لأن الكسرة تقوم مقامه وأصله الياء
سورة إبراهيم 15 - 17
ثم قال تعالى " واستفتحوا " يقول واستنصروا قال قتادة استنصرت الرسل على قومهم وقال مقاتل يعني قومهم دعوا الله فقالوا اللهم إن كانت رسلنا صادقين فعذبنا ويقال استنصر كلا الفريقين " وخاب كل جبار عنيد " يقول خسر عند الدعاء كل متكبر عن الإيمان معرض عن التوحيد وقال الزجاج الجبار الذي لا يرى لأحد عليه حقا والعنيد الذي يعدل عن القصد ويقال الجبار الذي يضرب عند الغضب ويقتل عند الغضب وقال مجاهد " كل جبار عنيد " أي المعاند للحق مجانبه ويقال هذه الآية نزلت في أبي جهل
قوله تعالى " من ورائه جهنم " يقول من قدامه جهنم يعني بعد الموت ويقال من بعده جهنم ويقال " من ورائه جهنم " يعني أمامه كقوله تعالى " وكان وراءهم ملك " [ الكهف : 79 ] يعني أمامهم
ثم قال " ويسقى من ماء صديد " يعني بماء يسيل من جلودهم من القيح والدم ويقال ماء كهيئة الصديد
قوله تعالى " ويتجرعه " يعني يرده في حلقه " ولا يكاد يسيغه " يقول ولا يقدر على ابتلاعه لكراهيته وقال ابن عباس " ويأتيه الموت من كل مكان " يعني يجتره من كل مكان من جسده ويقال من كل ناحية ومن كل عرق ومن كل موضع شعرة يجد طعم الموت " وما هو بميت " يعني لا يموت أبدا " ومن ورائه " يعني من بعد الصديد " عذاب غليظ " يعني شديد لا يفتر عنه
سورة إبراهيم 18 - 20(2/238)
239
قوله تعالى " مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم " يقول صفة الذين كفروا ويقال مثل أعمال الذين كفروا بربهم يوم القيامة " كرماد اشتدت به الريح " يقول ذرته الريح " في يوم عاصف " يعني عاصف شديد الريح فكذلك الكفار أحبط الله ثواب أعمالهم وهذا كقوله " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " [ الفرقان : 23 ] لأن أعمالهم كانت بغير إيمان ولا تقبل الإيمان إذا لم يكن بالإخلاص ولا تقبل الأعمال إلا بالإيمان ولا ثواب لهم بها قرأ نافع " اشتدت به الرياح " بالألف وقرأ الباقون بغير ألف " لا يقدرون مما كسبوا على شيء " يقول لا يقدرون على ثواب أعمالهم " ذلك هو الضلال البعيد " يعني الخطأ البعيد عن الحق
قوله تعالى " ألم تر أن الله خلق " يقول ألم تعلم أن الله " خلق السموات والأرض " قرأ حمزة والكسائي " خالق السموات والأرض " بكسر الضاد على معنى الإضافة وقرأ الباقون " خلق السموات والأرض " بنصب الضاد على معنى الفعل الماضي
وقوله " بالحق " يعني بالعدل ويقال ببيان الحق " إن يشأ يذهبكم " يقول يميتكم ويهلكهم إن عصيتموه " ويأت بخلق جديد " يعني قوما غيركم خيرا منكم وأطوع لله تعالى فهذا تهديد من الله تعالى ليخافوه
ثم قال " وما ذلك على الله بعزيز " يعني إهلاككم ليس على الله بشديد
سورة إبراهيم 21
قوله تعالى " وبرزوا لله جميعا " يقول وخرجوا من قبورهم لأمر الله تعالى يعني القادة والأتباع اجتمعوا للحشر والحساب وهذا كقوله " وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا " [ الكهف : 47 ] " فقال الضعفاء " يعني الأتباع والسفلة " للذين استكبروا " وهم القادة " إنا كنا لكم تبعا " في الدنيا نطيعكم فيما أمرتمونا به " فهل أنتم مغنون عنا " يقول هل أنتم حاملون عنا " من عذاب الله من شيء قالوا " يعني القادة للسفلة " لو هدانا الله لهديناكم " يقول لو أكرمنا الله(2/239)
240
بالهدي والتوحيد لهديناكم لدينه وأنا أمرناكم بأعمالنا التي كنا عليها ويقال معناه لو أدخلنا الله الجنة لشفعنا لكم
ثم قالت القادة للسفلة " سواء علينا " العذاب " أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص " يعني من مفر ولا ملجأ من عذاب الله وروى أسباط عن السدي أنه قال يقول أهل النار تعالوا فلنصبر لعل الله يرحمنا بصبرنا فيصبرون فلا يرحمون فيقولون تعالوا فلنجزع لعل الله يرحمنا بجزعنا فيجزعون فلا يغني عنهم شيئا فيقولون " سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص "
سورة إبراهيم 22
قوله تعالى " وقال الشيطان لما قضي الأمر " روى سفيان عن رجل عن الحسن أنه قال إذا كان يوم القيامة ودخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة قام إبليس خطيبا على منبر من نار فقال " إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتم " ويقال إنهم لما دخلوا النار أقبلوا على إبليس وجعلوا يتهمونه ويلومونه ويقولون أنت الذي أضللتنا فيرد عليهم إبليس عليه اللعنة فبين الله تعالى رده عليهم لكيلا يغتروا به في الدنيا فذلك قوله " وقال الشيطان لما قضي الأمر " يعني لما فرغ من الأمر حين دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فقال إبليس لأهل النار " إن الله وعدكم وعد الحق " يعني البعث بعد الموت والجنة والنار " ووعدتكم " بأنه لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب " فأخلفتكم " فكذبتكم الوعد " وما كان لي عليكم من سلطان " يعني لم يكن لي قدرة على الإكراه والقهر ويقال لم أكن ملكا فقهرتكم على عبادتي ويقال لم يكن لي حجة على ما قلت لكم " إلا أن دعوتكم " يعني سوى أن دعوتكم إلى طاعتي " فاستجبتم لي " يعني أجبتم لي طوعا واختيارا " فلا تلوموني " بدعوتي إياكم " ولوموا أنفسكم " بالإجابة " ما أنا بمصرخكم " أي بمغيثكم فأخرجكم من النار " وما أنتم بمصرخي " يقول ولا أنتم بمغيثي فتخرجونني من النار " إني كفرت بما أشركتموني من قبل " قال الكلبي فيه تقديم وتأخير يقول إني كفرت من قبل ما عبدتموني به وكنت كافرا قبل ذلك فليس لكم عندي صراخ ولا إجابة وقال مقاتل معناه إني تبرأت اليوم بما أشركتموني مع الله في طاعتي من قبل في الدنيا وقال القتبي في قوله " إني كفرت " أي تبرأت كقوله في سورة الممتحنة " كفرنا بكم " [ الممتحنة : 4 ] أي تبرأنا منكم وكذلك في العنكبوت " ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض " [ العنكبوت : 25 ] يعني يتبرأ بعضكم من بعض وهذا موافق لقوله تعالى " يكفرون بشرككم " [ فاطر : 14 ](2/240)
241
ثم قال " إن الظالمين لهم عذاب أليم " يعني الكافرين لهم عذاب دائم قرأ حمزة " ما أنتم بمصرخي " بكسر الياء وهي قراءة الأعمش وقرأ الباقون بنصب الياء قال أبو عبيدة النصب أحسن والأول ما نراه إلا غلطا وهكذا قال الزجاج ويقال هي لغة لبعض العرب والنصب هي اللغة الظاهرة وهو موافق للعربية قرأ أبو عمرو " أشركتموني " بالياء عند الوصل وقرأ الباقون بغير الياء وقرأ نافع " اشتدت به الرياح " بالألف والباقون بغير ألف
سورة إبراهيم 23
قوله تعالى " وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني وحدوا الله وأدوا الفرائض وانتهوا عن المحارم " جنات تجري من تحتها الأنهار " وهي الأنهار التي ذكر في قوله فيها " أنهار من ماء غير آسن " [ محمد : 15 ] الآية " خالدين فيها " مقيمين في الجنة لا يموتون فيها ولا يخرجون منها أبدا " بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام " يعني يسلم بعضهم على بعض ويقال لهم التحية من الله تعالى
سورة إبراهيم 24 - 25
قوله تعالى " ألم تر كيف ضرب الله مثلا " يقول كيف بين الله شبها " كلمة طيبة " وهي كلمة الإخلاص لا إله إلا الله لا تكون في كلمة التوحيد زيادة ولا نقصان ولكن يكون لها مدد وهو التوفيق للطاعة في الأوقات " كشجرة طيبة " وهي النخلة كما أنه ليس في الثمار شيء أحلى وأطيب من الرطب فكذلك ليس في الكلام شيء أطيب من كلمة الإخلاص
ثم وصف النخلة فقال " أصلها ثابت " يعني في الأرض " وفرعها في السماء " يعني رأسها في الهواء فكذلك الإخلاص يثبت في قلب المؤمن كما تثبت النخلة في الأرض فإذا تكلم المؤمن بالإخلاص فإنها تصعد في السماء كما أن النخلة رأسها في السماء وكما أن النخلة لها فضل على سائر الشجر في الطول واللون والطيب والحسن فكذلك كلمة الإخلاص لها فضل على سائر الكلام فهذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن يقول " أصلها ثابت " يعني أن المعرفة في قلب المؤمن ثابتة كالشجرة الثابتة في الأرض بل هي أثبت في الشجرة في الأرض لأن الشجرة تقطع ومعرفة العارف لا يقدر أحد أن يخرجها من قلبه إلا المعرف الذي عرفه ويقال " وفرعها في السماء " يعني ترفع أعمال المؤمن المصدق إلى السماء لأن الأعمال لا تقبل بغير إيمان فالإيمان أصل والأعمال فرع الإيمان فترفع أعماله وتقبل منه
ثم قال " تؤتي أكلها كل حين " يعني تخرج ثمارها في كل وقت وتخرج منها في كل(2/241)
242
وقت من ألوان المنفعة " كل حين " يعني في كل وقت روى الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس أنه قال " تؤتي أكلها كل حين " قال غدوة وعشية وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال النخلة يكون حملها شهرين فنرى أن الحين شهران وروى هشام بن حسان عن عكرمة أنه قال حلف رجل فقال إن فعلت كذا إلى حين فعلي كذا فأرسل عمر بن عبد العزيز إلى ناس من الفقهاء فسألهم فلم يقولوا شيئا قال عكرمة فقلت إن من الحين حينا لا يدرك كقوله تعالى " ولتعلمن نبأه بعد حين " [ ص : 88 ] " ومتعناهم إلى حين " [ يونس98 ] ومنها ما يدرك كقوله تعالى " تؤتي أكلها كل حين " فأراد ما بين خروج الثمرة إلى صرامها فأراد به ستة أشهر قال فأعجب بذلك أي فرح بذلك عمر بن عبد العزيز وروي عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن إمرأة حلفت ألا تدخل على أهلها حينا قال الحين ما بين أن يطلع الطلع إلى أن يجد فبين أن يجد إلى أن يطلع الطلع ستة أشهر وعن عكرمة عن إبن عباس أنه قال الحين ما بين الثمرتين أي سنة وروي عن وهب بن منبه أنه قال الحين السنة وعن مقاتل سنة وعن سعيد بن جبير عن ا بن عباس أنه قال الحين ستة أشهر وقال عكرمة النخلة لا يزال فيها شيء ينتفع به إما ثمرة وإما حطبه فكذلك الكلمة الطيبة ينتفع بها صاحبها في الدنيا والآخرة
ثم قال تعالى " بإذن ربها " أي بأمر ربها " ويضرب الله الأمثال للناس " يعني يبين الله الأشباه " للناس لعلهم يتذكرون " يعني يتعظون ويتفكرون في الأمثال فيوحدونه
سورة إبراهيم 26 - 27
قوله تعالى " ومثل كلمة خبيثة " يعني كلمة الشرك " كشجرة خبيثة " وهي الحنظلة ليس لها حلاوة ولا رائحة طيبة فكذلك الشرك بالله خبيث ثم وصف الشجرة فقال " اجتثت من فوق الأرض " أي اقتلعت من فوق الأرض " ما لها من قرار " يعني ليس لها أصل تجيء بها الريح وتذهب فكذلك الكفر ليس له أصل ولا حجة في الأرض ولا في السماء
ثم قال تعالى " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت " بلا إله إلا الله " في الحياة الدنيا " يعني يثبتهم على ذلك القول عند النزع " وفي الآخرة " يعني في القبر وقال البراء بن عازب نزلت الآية في عذاب القبر يسأل من ربك ومن نبيك وما دينك يعني إذا أجاب فقد ثبته الله تعالى وقال الضحاك إذا وضع المؤمن في قبره وانصرف عنه الناس دخل عليه ملكان فيجلسانه ويسألانه من ربك ومن نبيك وما دينك وما كتابك وما قبلتك فيثبته الله في القبر كما يثبته في الحياة الدنيا بالإقرار بالله تعالى وكتبه ورسله وروى ابن طاوس عن أبيه(2/242)
243
أنه قال " في الحياة الدنيا " يعني قول لا إله إلا الله يثبتهم عليها في الدنيا " وفي الآخرة " عند المسألة في القبر وهكذا قال قتادة وقال الربيع بن أنس " في الحياة الدنيا " يعني في القبر " وفي الآخرة " يعني يوم الحساب ويقال " في الحياة الدنيا وفي الآخرة " يعني يموت مع الإيمان ويبعث على الإيمان يوم القيامة
ثم قال " ويضل الله الظالمين " يعني يضلهم عن الحجة فلا يقولونها في القبر وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا دخل الكافر والمنافق قبره قالا له من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول لا أدري فيقولان له لا دريت ويضربانه بمرزبة فيصيح صيحة يسمعها ما بين الخافقين إلا الجن والإنس فذلك قوله تعالى " ويضل الله الظالمين " " ويفعل الله ما يشاء " يعني ما شاء للمؤمنين أن يثبتهم وللكافرين أن يضلهم عن الجواب
سورة إبراهيم 28 - 30
قوله تعالى " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا " قال مقاتل كانت النعمة أن الله أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف يعني من الخوف والقتل ثم بعث فيهم رسولا منهم فكفروا بهذه النعمة وبدلوها وهم بنو أمية وبنو المغيرة " وأحلوا قومهم دار البوار " يعني وأنزلوا سائر قريش " دار البوار " أي دار الهلاك بلغة عمان أهلكوا قومهم ثم يصيرون بعد القتل إلى النار يوم القيامة فذلك قوله تعالى " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا " أي غيروا نعمة الله عليهم بالكفر " وأحلوا قومهم دار البوار " يعني دار الهلاك قال قتادة وهم قادة المشركين يوم بدر قال الكلبي " أحلوا قومهم دار البوار " يعني " جهنم يصلونها " هي دارهم في الآخرة وقال الكلبي " أحلوا قومهم دار البوار " يعني مصرعهم ببدر " جهنم يصلونها " يعني يدخلونها يوم القيامة " وبئس القرار " يعني بئس المستقر جهنم
ثم قال تعالى " وجعلوا لله أندادا " يعني شركاء " ليضلوا عن سبيله " يعني ليصرفوا الناس عن دين الإسلام قرأ أبو عمرو وإبن كثير " ليضلوا " بنصب الياء يعني إنهم أخطؤوا الطريق وضلوا وقرأ الباقون بالضم يعني ليصرفوا الناس عن الهدى
قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم " قل تمتعوا " يعني عيشوا في الدنيا " فإن مصيركم إلى النار " يعني مرجعكم يوم القيامة إلى النار(2/243)
244
سورة إبراهيم 31 - 34
قوله تعالى " قل لعبادي الذين آمنوا " قرأ حمزة والكسائي وابن عامر " قل لعباد الذين " بغير ياء وقرأ الباقون " قل لعبادي الذين " بالياء مع النصب وأصله الياء إلا أن الكسرة تغني عن الياء وقال بعض الحكماء شرف الله تعالى عباده بهذه الياء وهي خير لهم من الدنيا وما فيها لأن فيه إضافة إلى نفسه والإضافة تدل على العتق لأن رجلا لو قال لعبده يا ابن أو يا ولد لا يعتق ولو قال يا ولدي أو يا إبني يعتق بالإضافة إلى نفسه فكذلك إذا أضاف الله العباد إلى نفسه وفيه دليل على أنه يعتقهم من النار
قوله " يقيموا الصلاة " يعني يتمونها بركوعها وسجودها ومواقيتها " وينفقوا مما رزقناهم " من الأموال " سرا وعلانية " يعني " سرا " على المتعففين " وعلانية " على السائلين " من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه " يعني لا فداء فيه " ولا خلال " يعني لا مخالة تنفعه وهي الصداقة لأنه إذا نزل بهم شدة في الدنيا يفادون ويشفع خليلهم وليس في الآخرة شيء من ذلك وإنما هي أعمالهم قرأ ابن كثير وأبو عمرو " لا بيع ولا خلال " بنصب العين واللام وقرأ الباقون بالرفع والتنوين فيهما وهذا الإختلاف مثل قوله " ولا خلة ولا شفاعة " [ البقرة : 254 ]
ثم بين دلائل وحدانيته فقال تعالى " الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء " وهو المطر " فأخرج به " يعني فأنبت بالمطر " من الثمرات " يعني من ألوان الثمرات " رزقا لكم " يعني طعاما لكم " وسخر لكم الفلك " يعني ذلل لكم ركوب الفلك " لتجري في البحر بأمره " يقول بإذنه " وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين " يعني دائمين مطيعين يعني ذلل لكم ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل " وسخر لكم الليل والنهار " يعني جعل بني آدم يلتمسون فيها المعيشة وينتشرون في النهار إلى حوائجهم وفي الليل مستقرهم ومنامهم " وآتاكم من كل ما سألتموه " يعني أعطاكم من كل شيء لم تحسنوا أن تسألوا فأعطيتكم برحمتي وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أنه قال لم تسألوه بكل الذي أعطاكم وقال معمر والحسن آتاكم من كل الذي سألتموه قال مجاهد كل ما سألتموه أي رغبتم إليه فيه قرأ بعضهم " من كل " بالتنوين يعني أعطاكم من كل شيء(2/244)
245
وقراءة العامة " من كل ما سألتموه " من غير تنوين على معنى الإضافة يعني من جميع ما سألتموه
ثم قال " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " يعني لا تقدروا على أداء شكرها ويقال " لا تحصوها " يعني لا تحفظوها " إن الإنسان " يعني الكافر " لظلوم كفار " يعني يظلم نفسه بالكفر بنعم الله تعالى
سورة إبراهيم 35 - 37
قوله تعالى " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا " يعني مكة آمنا من القتل والغارة ويقال من الجذام والبرص " واجنبني وبني " وذلك أن إبراهيم عليه السلام لما فرغ من بناء البيت سأل ربه أن يجعل هذا البلد آمنا وخاف على بنيه لأنه رأى القوم يعبدون الأوثان فسأل ربه أن يجنبهم عبادة الأوثان فقال " واجنبني وبني " يقول إحفظني وبني " أن نعبد الأصنام " يعني لكي لا نعبد الأصنام وفيه دليل أن المؤمن لا ينبغي له أن يأمن على إيمانه وينبغي أن يكون متضرعا إلى الله ليثبته على الإيمان كما سأله إبراهيم لنفسه ولبنيه الثبات على الإيمان وروي عن يحيى بن معاذ أنه كان يقول إن جميع سروري بهذا الإسلام وأخاف أن تنزعه مني فما دام هذا الخوف معي رجوت أن لا تنزعه مني
ثم قال " رب إنهن أضللن كثيرا من الناس " يقول بهن ضل كثير من الناس فكأن الأصنام سبب لضلالتهم فنسب الإضلال إليهن وإن لم يكن منهن عمل في الحقيقة وقال بعضهم كان الإضلال منهن لأن الشياطين كانت تدخل أجواف الأصنام وتتكلم فذلك الإضلال منهن
ثم قال تعالى " فمن تبعني فإنه مني " يعني من آمن بي فهو معي على ديني ويقال فهو من أمتي " ومن عصاني " يعني لم يطعني ولم يوحدك " فإنك غفور رحيم " إن تاب وأن توفقه حتى يسلم
ثم قال تعالى " ربنا إني أسكنت من ذريتي " يعني أنزلت بعض ذريتي وهو إسماعيل " بواد غير ذي زرع " يعني بأرض مكة وذلك أن سارة كانت لها جارية يقال لها هاجر فوهبتها من إبراهيم فولدت منه إسماعيل فغارت سارة وناشدته أن يخرج بهما من أرض الشام فأخرجهما إبراهيم عليه السلام إلى أرض مكة ثم رجع إلى سارة فلما كبر إسماعيل(2/245)
246
رجع إبراهيم إليه وبنى معه البيت فذلك قوله " ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع " أي بعض ذريتي وهو إسماعيل بأرض ليس فها زرع " عند بيتك المحرم " الذي حرم فيه القتال والإصطياد وأن يدخل فيه أحد بغير إحرام " ربنا ليقيموا الصلاة " يعني وفقهم ليتموا الصلاة وإنما ذكر الصلاة خاصة لأن الصلاة أولى العبادات وأفضلها " فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم " يعني تشتاق إليهم قال مجاهد لو قال إبراهيم فاجعل أفئدة الناس تهوى إليهم لزاحمتهم الروم وفارس ولكنه قال " أفئدة من الناس " " وارزقهم " يعني أطعمهم " من الثمرات لعلهم يشكرون " يعني لكي يشكروا فيما رزقتهم
سورة إبراهيم 38 - 44
ثم قال تعالى " ربنا إنك تعلم ما نخفي " من الوجد بإسماعيل وهاجر والحب لهما " وما نعلن " عند سارة من الصبر عنهما " وما يخفى على الله من شيء " يعني لا يذهب على الله شيء " في الأرض ولا في السماء " يعني من عمل أهل السماء وأهل الأرض قال بعضهم هذا كلام إبراهيم وقال بعضهم هذا كلام الله تعالى
ثم رجع إلى كلام إبراهيم فقال " الحمد لله الذي وهب لي على الكبر " يعني بعد الكبر وهو ابن تسع وتسعين سنة في رواية الكلبي وفي رواية الضحاك ابن مائة وعشرين سنة " إسماعيل وإسحاق " وكان إسماعيل أكبرهما بثلاث عشرة سنة " إن ربي لسميع الدعاء " يعني مجيب الدعاء
قوله تعالى " رب اجعلني مقيم الصلاة " يعني أكرمني بإتمام الصلاة " ومن ذريتي " يعني فأكرمهم أيضا لإتمام الصلاة " ربنا وتقبل دعاء " أي استجب دعائي ويقال معناه تقبل عملي واستجب دعائي " ربنا اغفر لي ولوالدي " قرأ بعضهم " ولوالدتي " لأن أمه كانت مسلمة وقرأ بعضهم " ربنا اغفر لي ولولدي " يعني إسماعيل وإسحاق وقراءة العامة " ولوالدي " لأنه كان يستغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه " وللمؤمنين " يعني اغفر لجميع المؤمنين " يوم يقوم الحساب " يعني يوم القيامة(2/246)
247
قوله تعالى " ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون " قرأ حمزة وعاصم وابن عامر " ولا تحسبن " بنصب السين وقرأ الباقون بالكسر ومعناهما واحد يعني لا تظنن يا محمد أن الله غافل عما يعمل الظالمون أي المشركين يعني إن أعمالهم لا تخفى علي ولو شئت لعجلت عقوبتهم في الدنيا قال ميمون بن مهران هذه الآية تعزية للمظلوم ووعيد الظالم " إنما يؤخرهم " يعني يمهلهم ويؤجلهم قرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين " نؤخرهم " بالنون وقرأ الباقون بالياء " ليوم تشخص فيه الأبصار " يعني تشخص فيه أبصار الكافرين وذلك حين عاينوا النار شخصت فيه أبصارهم فلا يطرفون فيها
" مهطعين " أي مسرعين يقال أهطع البعير في السير إذا أسرع ويقال " مهطعين " أي ناظرين قاصدين نحو الداعي وقال قتادة " مهطعين " أي مسرعين " مقنعي رؤوسهم " المقنع الذي يرفع رأسه شاخصا بصره لا يطرف وقال مجاهد " مهطعين " مديمي النظر " مقنعي رؤوسهم " رافعي رؤوسهم وقال الخليل بن أحمد المهطع الذي قد أقبل إلى الشيء ينظره ولا يرفع عينيه عنه " مقنعي " يعني رافعي رؤوسهم مادي أعناقهم " لا يرتد إليهم طرفهم " يعني لا يرجع إلى الكفار بصرهم " وأفئدتهم هواء " يعني خالية من كل خير كالهواء ما بين السماء والأرض وقال السدي هوت أفئدتهم بين موضعها وبين الحنجرة فلم ترجع إلى موضعها ولم تخرج كقوله " إذ القلوب لدى الحناجر " [ غافر : 18 ] وهكذا قال مقاتل وقال أبو عبيدة " هواء " أي مجوفة لا عقول فيها
ثم قال " وأنذر الناس " يعني خوف أهل مكة " يوم يأتيهم العذاب " في الآخرة
قوله تعالى " فيقول الذين ظلموا " يعني أشركوا " ربنا أخرنا " يعني أجلنا " إلى أجل قريب " لنرجع إلى الدنيا " نجب دعوتك " يعني الإسلام " ونتبع الرسل " على دينهم يقول الله تعالى " أو لم تكونوا أقسمتم من قبل " يقول حلفتم وأنتم في الدنيا من قبل هذا اليوم " ما لكم من زوال " أي لا تزولون عن الدنيا ولا تبعثون
سورة إبراهيم 45 - 47
قوله تعالى " وسكنتم " يقول نزلتم " في مساكن الذين ظلموا أنفسهم " أي أشركوا يعني منازل قوم عاد وثمود " وتبين لكم كيف فعلنا بهم " يقول كيف عاقبناهم عند التكذيب " وضربنا لكم الأمثال " يقول بينا ووصفنا لكم عصيانهم وجحودهم والعذاب الذي نزل بهم يعني إنكم سمعتم هذا كله في الدنيا فلم تعتبروا فلو رجعتم بعد هذا اليوم لا تنفعكم الموعظة أيضا(2/247)
248
ثم قال تعالى " وقد مكروا مكرهم " يعني علم الله مكرهم وقد صنعوا صنيعهم يعني الأمم الخالية " وعند الله مكرهم " يعني علم الله مكرهم ولا يخفى عليه قال علي بن أبي طالب " وعند الله مكرهم " أي التابوت والنسور وهو نمرود بن كنعان وقومه وروى وكيع بإسناده عن علي رضي الله عنه قال إن جبارا من الجبابرة قال لا أنتهي حتى أعلم ما في السماء يعني نمرود فاتخذ فراخ نسور ثم أمر بها فأطعمت اللحم حتى اشتدت وغلظت واستفلحت وأخذ تابوتا يسع فيه رجلان ثم أمر بالنسور فجوعت ثم ربط أرجلها بالأوتاد وشدت بقوائم التابوت وجعل في وسط التابوت اللحم ثم جلس في التابوت هو ورجل معه ثم أرسل النسور وجعل اللحم على رأس خشبة على التابوت فطارت النسور إلى السماء ما شاء الله ثم قال لصاحبه انظر ماذا ترى فنظر فقال أرى الجبال كأنها ذباب ثم طارت ما شاء الله ثم قال انظر ماذا ترى فنظر فقال ما أرى إلا السماء وما تزداد منها إلا بعدا قال نكس الخشبة فنكسها فانقضت النسور حتى سقطت على الأرض فسمع هزته الجبال فكادت تزول عن أماكنها ثم قرأ علي رضي الله عنه " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " أي وقد كاد مكرهم ليزيل الجبال عن أماكنها ويقال إن نمرود بن كنعان هو أول من تجبر وقهر وسن سنن السوء وأول من لبس التاج فأهلكه الله تعالى ببعوضة دخلت في خياشمه فعذب بها أربعين يوما ثم مات وقال قتادة " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " يعني الكفار حين ادعوا لله تعالى ولدا فكاد أن تزول الجبال ويقال أهل مكة مكروا في دار الندوة وقد كاد مكرهم أن يزول منه أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمر دين الإسلام إذ ثبوته كثبوت الجبال لأن الله تعالى وعد نبيه صلى الله عليه وسلم إظهار دين الإسلام بدليل ما قال بعد هذا " فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله " قرأ الكسائي " لتزول " بنصب اللام الأولى ورفع الثانية وقرأ الباقون بكسر اللام الأولى ونصب الثانية ومعناه ما كان مكرهم ليزول به أمر دين الإسلام إذ ثبوته كثبوت الجبال ومن قرأ " ليزول " فمعناه وإن كان مكرهم يعني مكر الكفار ليبلغ إلى إزالة الجبال فإن الله ينصر دينه وروي عن ابن مسعود أن قرأ " وإن كاد مكرهم "
قوله تعالى " فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله " يعني في نزول العذاب بكفار مكة إن شاء عجل لهم العقوبة في الدنيا " إن الله عزيز ذو انتقام " ذو انتقام للكفار
سورة إبراهيم 48 - 52(2/248)
249
قوله تعالى " يوم تبدل الأرض غير الأرض " قال علي بن أبي طالب يعني أي غير هذه الأرض التي عليها بنو آدم بأرض بيضاء نقية لم يعمل فيها بالمعاصي ولا سفك عليها الدماء وهكذا قال ابن مسعود
قال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا أبو يعقوب قال حدثنا محمد بن يونس العامري قال حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا القاسم بن الفضل عن الحسن عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل تذكرون أهاليكم يوم القيامة قال أما عند مواطن ثلاثة فلا عند الصراط والكتاب والميزان قالت ألم يقل الله تعالى " يوم تبدل الأرض غير الأرض " أين يكون الناس يومئذ قال سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك فقال الناس يومئذ على الصراط وروي عن ابن عباس أنه قال تمد الأرض مد الأديم ويزاد في سعتها
ثم قال " وبرزوا لله الواحد القهار " يعني خرجوا من قبورهم وظهروا " لله الواحد القهار " لخلقه
قوله تعالى " وترى المجرمين " يعني المشركين " يومئذ مقرنين " مسلسلين " في الأصفاد " يعني في الأغلال يقرن كل كافر مع شيطان " سرابيلهم " يعني قمصهم " من قطران " أي قمصهم من النحاس المذاب هكذا قال قتادة وقال الحسن البصري " القطران " الآنك وقال عكرمة هو القطران الذي يطلى به الأشياء حتى يشتعل نارا وقال الضحاك " من قطران " يعني من صفر حار قد انتهى حره وقال القتبي " مقرنين " أي قرن بعضهم إلى بعض في الأغلال وروي عن أبي هريرة أنه كان يقرأ من " قطران " ويقول القطر النحاس والآنك الذي انتهى حره و " سرابيلهم " أي قمصهم
ثم قال تعالى " وتغشى وجوههم النار " يعني تعلو وجوههم النار ولا يمتنعون منها
قوله تعالى " ليجزي الله كل نفس ما كسبت " من خير أو شر " إن الله سريع الحساب " يقول إذا حاسب فحسابه سريع
قوله " هذا بلاغ للناس " يعني هذا القرآن إرسال وبيان من الله تعالى ويقال أبلغكم عن الله تعالى " ولينذروا به " يعني ليخوفوا بالقرآن عن معصية الله تعالى " وليعلموا " يعني لكي يعلموا " أنما هو إله واحد " صادق " وليذكر " أي ليتعظ بما أنزل من التخويف في القرآن " أولو الألباب " يعني ذوو العقول من الناس والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم(2/249)
250
سورة الحجر
مكية وهي تسعون وتسع آيات
سورة الحجر 1 - 3
قال الله عز وجل " الر تلك آيات الكتاب " أي هذه آيات الكتاب " وقرآن مبين " أي بين حلاله وحرامه والكتاب والقرآن واحد وقال قتادة في قوله " وقرآن مبين " بين الله هداه ورشده وخيره " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين " قرأ نافع وعاصم " ربما " بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد وقال عاصم قرأت عند زر بن حبيش " ربما " بالتشديد فقال إنك لتحب الرب وقال هي ربما مخففة ولكن معناهما واحد فالتخفيف لغة بعض العرب واللغة الظاهرة بالتشديد أي ربما يأتي على الكافر يوم يتمنى أنه كان أسلم ويقال أقسم الله بالألف واللام والراء إن هذا القرآن حق وهو يبين لكم الحق من الباطل وأقسم أنه رب يوم يأتي على الكافر يتمنى أنه ليت كان مؤمنا في الدنيا يقول الكافر يا ليتني كنت مؤمنا في الدنيا أي يوم القيامة وذلك أن الكافر كلما رأى حالا من أحوال العذاب ورأى حالا من أحوال المسلمين ود أن لو كان مسلما وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال يخرج من النار حين يقال أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيتمنى الكافر أن لو كان مؤمنا فذلك قوله " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين "
وروي حماد بن أبي سليمان قال سألت إبراهيم النخعي عن هذه الآية قال نزلت في الكفار يعيرون أهل التوحيد ويقولون ما أغنى عنكم إيمانكم وأنتم معنا فيغضب الله لهم فيأمر الله النبيين والملائكة فيشفعون فيخرج أهل التوحيد من النار حتى إن إبليس يتطاول رجاء أن يخرج ويتمنى الكافر أن لو كان مسلما في الدنيا
قال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا محمد بن شوكر قال حدثنا القاسم قال حدثنا أبو حنيفة عن يزيد بن صهيب عن جابر بن عبد الله قال سألته عن الشفاعة فقال يعذب الله قوما من أهل الإيمان ثم يخرجهم منها بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم قلت له فأين قوله " يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها " [ المائدة : 37 ] قال اقرأ ما قبلها " إن الذين كفروا " [ غافر : 10 ] الآية يعني إن تلك الآية نزلت في الكفار وقال مجاهد إذا أخرج من(2/250)
251
النار من قال لا إله إلا الله فعند ذلك يقولون يا ليتنا كنا مسلمين وعن أبي العالية مثله
ثم قال تعالى " ذرهم يأكلوا ويتمتعوا " يقول اتركهم وخل عنهم يا محمد في الدنيا يأكلوا ويتمتعوا " يأكلوا " كالأنعام " ويتمتعوا " بعيشهم في الدنيا لا تهمهم الآخرة ولا يعرفون ما في غد " ويلههم الأمل " يعني يشغلهم الأمل الطويل عن الطاعة وعن ذكر الله تعالى ويقال يشغلهم طول الأمل عن الطاعة وذكر الأجل " فسوف يعلمون " وهذا وعيد لهم أي يعرفون ما نزل بهم من العذاب والشدة يوم القيامة
سورة الحجر 4 - 9
قوله تعالى " وما أهلكنا من قرية " يعني أهل قرية " إلا ولها كتاب معلوم " أي أجلا مؤقتا ووقتا معروفا " ما تسبق من أمة أجلها " يعني لا يموت أحد قبل أجله " وما يستأخرون " بعد أجلهم طرفة عين " وقالوا " يعني أهل مكة " يا أيها الذي نزل عليه الذكر " أي الذي يزعم أنه ينزل عليه القرآن " إنك لمجنون " نزلت في عبد الله بن أمية " لو ما تأتينا بالملائكة " يعني هلا تأتينا بالملائكة فتخبرنا بأنك رسول الله " إن كنت من الصادقين " بأنك نبي مرسل وأن العذاب نازل بنا
قال الله تعالى " ما ننزل الملائكة إلا بالحق " أي بالوحي والعذاب وبقبض الأرواح " وما كانوا إذا منظرين " يعني إذا نزلت عليهم الملائكة لا يؤجلون بعد نزول الملائكة قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص ما " ننزل " بالنون وتشديد الزاي ونصب " الملائكة " من قولك نزل ينزل وقرأ عاصم في رواية أبي بكر " ما تنزل " بالتاء والضم ونصب الزاي مع التشديد على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون " ما تنزل " بنصب التاء وتشديد الزاي فجعل الفعل للملائكة
ثم قال " إنا نحن نزلنا الذكر " أي القرآن " وإنا له لحافظون " يعني القرآن ويقال محمدا صلى الله عليه وسلم من القتل وقال قتادة يعني القرآن يحفظه الله تعالى من أن يزيد فيه الشيطان باطلا أو يبطل منه حقا وكذلك قال مقاتل
سورة الحجر 10 - 15(2/251)
252
ثم قال عز وجل " ولقد أرسلنا من قبلك " يعني قد أرسلنا قبلك يا محمد رسلا " في شيع الأولين " أي في أمم وقرون الأولين قبل أمتك " وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون " أي كانوا يسخرون منهم كما سخر منك قومك " كذلك نسلكه في قلوب المجرمين " قرأ بعضهم " نسلكه " بضم النون وكسر اللام وقراءة العامة بنصب النون وضم اللام وهما لغتان يقال سلكت الخيط في الإبرة إذا أدخلته فيها ومعناه هكذا ندخل الإضلال في قلوب المجرمين أي المشركين عقوبة ومجازاة لكفرهم ويقال معناه هكذا نطبع على قلوب المجرمين ويقال نجعل حلاوة التكذيب بالعذاب ويقال للشرك في قلوب المشركين الذين " لا يؤمنون به " يعني لا يصدقون بالله ويقال بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقال بالعذاب إنه غير نازل بهم " وقد خلت سنة الأولين " أي مضت بالعذاب عند التكذيب ويقال تقدمت سيرة الأولين بالهلاك
قوله عز وجل " ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون " أي فصاروا يصعدون فيه وينزلون يعني الملائكة ويراهم المشركون وهم أهل مكة " لقالوا إنما سكرت أبصارنا " يقول أخذت وأغشيت أبصارنا " بل نحن قوم مسحورون " أي ولقالوا سحرنا فلا نبصر وروى قتادة عن إبن عباس أنه قال لو فتح الله عليهم بابا من السماء فظلت الملائكة يعرجون فيه لقالوا أخذت أبصارنا قرأ إبن كثير " سكرت " بالتخفيف وهكذا قرأ الحسن وقرأ الباقون بالتشديد وقال القتبي " سكرت " بالتشديد أي غشيت ومنه يقال سكر النهر إذا سد ومنه إذا أسكر الشراب وهو الغطاء على العقل ومن قرأ " سكرت " بالتخفيف أي سحرت يعني إنهم لا يعتبرون به كما لم يعتبروا بانشقاق القمر حين رأوه معاينة
سورة الحجر 16 - 21
ثم قال " ولقد جعلنا في السماء بروجا " أي نجوما ويقال هي القصور في السماء وقال الضحاك وسعيد بن المسيب ومجاهد هي النجوم " وزيناها للناظرين " أي زينا السماء بالكواكب لمن نظر إليها " وحفظناها " يعني السماء " من كل شيطان رجيم " أي مرجوم ويقال ملعون مبعد من الرحمة " إلا من استرق السمع " أي لكن من اختلس السمع خلسة(2/252)
253
" فأتبعه شهاب مبين " أي لحقه نجم حار متوهج متوقد لا يخطئه الشهاب أن يصيبه فإما أن يأتي على نفسه وإما أن يخبله حتى لا يعود إلى الإستماع إلى السماء
وقال ابن عباس إن أهل الجاهلية من الكهنة قالوا لا يكون كاهن إلا ومعه تابع من الجن فينطلق الشياطين الذين كانوا مع الكهنة فيقعدون من السماء مقاعد السمع ويستمعون إلى ما هو كائن في الأرض من الملائكة فينزلون به على كهنتهم فيقولون إنه قد كان كذا وكذا من الأمر فتفشيه كهنتهم إلى الناس فيتكلمون به قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم قالوا قد علمنا قبله وكانت الشياطين لا تحجب عن الإستماع في السموات حتى بعث عيسى ابن مريم فمنعوا من ثلاث سماوات وكانوا يصعدون في أربع سماوات فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات السبع وكان الشيطان المارد منهم يصعد ويكون آخر أسفل منه فإذا استمع قال للذي أسفل منه قد كان من الأمر كذا وكذا فيهرب الأسفل ويرمي الذي استمع بالشهاب ويأتي الأسفل بالأمر الذي سمع إلى كهنتهم فذلك قوله " إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين "
ثم قال " والأرض مددناها " يقول بسطناها على الماء " وألقينا فيها رواسي " أي الجبال الثوابت لكي لا تتحرك من أمكنتها " وأنبتنا فيها " أي في الجبال " من كل شيء موزون " أي مقسوم معلوم ويقال " من كل شيء موزون " مما يخرج من الجبال من الحديد والرصاص والفضة والذهب " وجعلنا لكم فيها معايش " أي من الزرع والنبات ويقال " وأنبتنا فيها " أي في الأرض " من كل شيء موزون " أي معدود من الحبوب وغيره " ومن لستم له برازقين " أي خلقنا فيها معايش البهائم والوحوش والطيور يعني أنتم لستم ترزقونها وأنا أرزقها
قوله " وإن من شيء إلا عندنا خزائنه " أي مفاتيح رزقه ويقال علمه كقوله " وعنده مفاتح الغيب " [ الأنعام : 59 ] وهو المطر " وما ننزله " أي المطر " إلا بقدر معلوم " أي بكيل ووزن معروف قال ابن عباس أي يعلمه الخزان إلا يوم الطوفان الذي أغرق الله به قوم نوح فإنه طغى على خزانه وخرج وكثر فلم يحفظوا ما خرج منه يومئذ وخرج أربعين يوما
سورة الحجر 22 - 25
قوله عز وجل " وأرسلنا الرياح لواقح " قال بعث الله الريح فتلقح السحاب ثم تمر به فتدر كما تدر اللقحة ثم تمطر هذا قول ابن مسعود وقال ابن عباس في قوله " وأرسلنا الرياح لواقح " أي ملقحات تلقح الأشجار وقال قتادة " لواقح " أي تلقح السحاب(2/253)
254
وهكذا قال الكلبي قرأ حمزة " وأرسلنا الريح " بلفظ الوحدان وقرأ الباقون بلفظ الجماعة
ثم قال " فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه " يعني بماء المطر فأرويناكم به وحبستم الماء في الغدران والحياض لتسقوا الضياع والمواشي " وما أنتم له بخازنين " أي بمالكين وحافظين ويقال ليس مفاتيحه بأيديكم
ثم قال عز وجل " وإنا لنحن نحيي ونميت " أي نحيي للبعث ونميت في الدنيا ويقال " نحيي " الأرض بالمطر أيام الربيع ونميتها أيام الخريف " ونحن الوارثون " أي المالكون ويقال معناه يهلك الخلق ويبقى الرب تبارك وتعالى
قوله عز وجل " ولقد علمنا المستقدمين منكم " أي الأموات " ولقد علمنا المستأخرين " يعني الأحياء ويقال " ولقد علمنا المستقدمين منكم " في الصف الأول " ولقد علمنا المستأخرين " في الصف الآخر وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس أنه قال كانت امرأة حسناء تصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم فكان بعض القوم يتقدم في الصف الأول لكي يراها ويتأخر بعضهم فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فنزل " ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين " ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم حرض الناس على الصف الأول وكان قوم بيوتهم قاصية من المسجد فقالوا لنبيعن دورنا ونشتري دورا قريبة من المسجد حتى ندرك الصف الأول فصارت الديار البعيدة خالية فقال النبي صلى الله عليه وسلم من أتى المسجد فإنه يكتب آثاره ويكتب له بكل خطوة كذا وكذا حسنة وترفع له كذا وكذا درجة فجعل الناس يشترون الدور البعيدة من المسجد لكي يكتب لهم آثارهم فنزل " ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين " وإنما يؤجرون بالنية فاطمأنوا وسكنوا وقال مجاهد " ولقد علمنا المستقدمين " أي ما مضى " ولقد علمنا المستأخرين " ما بقي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقال قتادة " المستقدمين " آدم ومن مات قبل نزول هذه الآية " والمستأخرين " من لم يخلق بعد كلهم قد علمهم وقال الحسن " المستقدمين " في الخير " والمستأخرين " يقول المبطئين
قوله " وإن ربك هو يحشرهم " يوم القيامة " إنه حكيم " حكم بحشر الأولين والآخرين " عليم " بهم
سورة الحجر 26 - 27
قوله عز وجل " ولقد خلقنا الإنسان " أي آدم " من صلصال " أي من طين يتصلصل إذا مشيت عليه يتقلقل وإذا تركته يتفلق " من حمإ مسنون " أي من طين أسود منتن وقال الأخفش أي من طين مصبوب ويقال " مسنون " أي متغير الرائحة كقوله " لم يتسنه " [ البقرة : 259 ] ويقال الذي أتت عليه السنون وقال القتبي " الصلصال " الطين اليابس الذي لم تصبه نار إذا ضربته صوت وإذا مسته النار فهو فخار والمسنون المتغير الرائحة(2/254)
255
والحمأ جمع حمئة وهو الطين المتغير " والجان خلقناه من قبل " آدم " من نار السموم " وهي نار لا دخان لها وهم في الأرض مع إبليس سكان الأرض
سورة الحجر 28 - 35
قوله عز وجل " وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا " يعني قال ربك للملائكة سأخلق خلقا " من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته " أي جمعت خلقه " ونفخت فيه من روحي " أي جعلت الروح فيه " فقعوا له ساجدين " أي فخروا له سجدا " فسجد الملائكة " سجدة تحية لا سجدة عبادة وكانت التحية لآدم عليه السلام والعبادة لله تعالى " كلهم أجمعون " روي عن الخليل أنه قال " أجمعون " على معنى توكيد بعد توكيد وذكر عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال معناه سجدوا كلهم في حالة واحدة وقال الزجاج الأول أجود لأن أجمعين معرفة ولا يكون حالا " إلا إبليس " قال بعضهم لكن إبليس لم يكن من الساجدين لأن إبليس لم يكن من الملائكة فلا يكون الإستثناء من غير جنس ما تقدم بدليل قوله " إلا إبليس كان من الجن " [ الكهف : 50 ] وقال بعضهم إستثنى إبليس من الملائكة وكان من جنسهم إلا أنه لما لم يسجد لعن وغير عن صورة الملائكة فذلك قوله " إلا إبليس " " أبى أن يكون مع الساجدين " أي تعظم عن السجود لآدم مع الملائكة قوله عز وجل " قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين " أي مع الملائكة " قال " إبليس " لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون قال فاخرج منها " أي من الأرض ويقال من الجنة " فإنك رجيم " أي ملعون مطرود فألحقه بجزائر البحور " وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين " أي طرد من رحمته إلى يوم الحساب
سورة الحجر 36 - 41
قوله " قال رب فأنظرني " أي أجلني " إلى يوم يبعثون " من قبورهم " قال فإنك من المنظرين " أي من المؤجلين " إلى يوم الوقت المعلوم " أي النفخة الأولى " قال رب بما(2/255)
256
أغويتني ) يقال معناه بإغوائك إياي ويقال أضللتني عن الهدى لأجل آدم قال القتبي أي بالذي أغويتني " لأزينن لهم في الأرض " أي ما في الأرض من الشهوات واللذات " ولأغوينهم " أي لأضلنهم عن الهدى " أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين " قرأ ابن كثير وأبو عمرو وإبن عامر " المخلصين " بكسر اللام أي المخلصين في العبادة ويقال الموحدين وقرأ الكسائي ونافع وحمزة وعاصم " المخلصين " بنصب اللام أي المعصومين من الشرك
قال حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا أبو القاسم قال حدثنا محمد بن سلمة قال حدثنا أحمد بن عبد الله قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن هشام عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لعن إبليس قال فبعزتك لا أفارق قلب ابن آدم حتى يموت قال قيل له وعزتي لا أحجب عنه التوبة حتى يغرغر بالموت
ثم قال عز وجل " قال هذا صراط علي " أي هذا التوحيد صراط " مستقيم " وعلى دلالته وهذا قول الحسن ويقال معناه على ممر من أطاعك ومن عصاك كقوله " إن ربك لبالمرصاد " [ الفجر : 14 ] ويقال معناه هذا بيدي لا بيدك وقال الضحاك هذا سبيل الله علي مستقيم أي علي هدايته ودلالته كقوله " وعلى الله قصد السبيل " [ النحل : 9 ] وروي عن ابن سيرين أنه كان يقرأ " هذا صراط علي مستقيم " بكسر اللام ورفع الياء مع التنوين ومعناه هذا صراط رفيع مستقيم وهو قول قتادة أي طريق شريف لا عوج فيه
سورة الحجر 42 - 44
قوله عز وجل " إن عبادي " أي عبادي الذين لا يطيعونك " ليس لك عليهم سلطان " أي حجة ولا ملكا ولا أسلطك عليهم كقوله " إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا " [ النحل : 99 ]
ثم قال تعالى " إلا من اتبعك من الغاوين " أي من أطاعك من الكافرين ويقال معناه إنما نفاذ دعوتك ووسوستك لمن اتبعك من المشركين
ثم بين مصير من اتبعه ومصير من لم يتبعه فقال " وإن جهنم لموعدهم أجمعين " أي لمصير من اتبعه " لها سبعة أبواب " أي سبعة منازل " لكل باب منهم جزء مقسوم " أي لكل منزل صنف ممن يعذب من الكفار على قدر منزلته من الذنب نصيب معروف أسفلها هاوية وهي لآل فرعون ولأصحاب المائدة الذين كفروا بعيسى وللمنافقين والزنادقة والثانية لظى وهي منزلة المجوس والثنوية الذين قالوا بإلهين والثالثة سقر وهي منزلة المشركين وعبدة(2/256)
257
الأوثان والرابعة الجحيم وهي منزلة اليهود الذين كذبوا الرسل وقتلوا أنبياء الله بغير حق والخامسة الحطمة وهي منزلة النصارى الذين كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم وقالوا قولا عظيما والسادسة السعير وهي منزلة الصابئين ومن أعرض عن دين الإسلام وخرج منه والسابعة جهنم وهي أعلى المنازل وعليها ممر الخلق كلهم وهي منزل أهل الكبائر من المسلمين قال ابن عباس في رواية أبي صالح الباب الأول جهنم والثاني السعير والثالث سقر والرابع جهنم والخامس لظى والسادس الحطمة والسابع الهاوية وقال بعضهم جهنم إسم عام يقع على الإدراك كلها والأول أصح إن جهنم اسم لا يقع على الإدراك وهكذا روي عن جماعة من الصحابة
سورة الحجر 45 - 48
ثم قال تعالى " إن المتقين في جنات وعيون " أي الذين يتقون الشرك والفواحش ويتقون إجابة الشيطان في بساتين وعيون ظاهرة " ادخلوها " أي الجنة " بسلام " أي مسلمين ويقال سالمين ناجين من العذاب " آمنين " أي من الموت والخوف
قوله " ونزعنا ما في صدورهم من غل " أي من حسد وعداوة كانت بينهم في الدنيا ويكونون في الآخرة " إخوانا " صار نصبا على الحال " على سرر متقابلين " أي متزاورين متحدثين وروى سفيان عن منصور عن إبراهيم أن عليا قال أرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم " ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين " وروى ربعي بن خراش قال قام رجل من همدان فقال يا أمير المؤمنين الله أعدل من ذلك فصاح به علي فقال إذا لم نكن نحن فمن هم ثم قال " لا يمسهم فيها نصب " يقول لا يصيبهم في الجنة تعب ولا مشقة " وما هم منها بمخرجين " أي من الجنة
سورة الحجر 49 - 56
قوله عز وجل " نبىء عبادي " أي أخبر عبادي يا محمد " أني أنا الغفور الرحيم " لمن تاب منهم " وأن عذابي هو العذاب الأليم " لمن مات على الكفر ولم يتب قال حدثنا أبو(2/257)
258
جعفر قال حدثنا إسحاق بن عبد الرحمن قال حدثنا محمد بن شاذان الجوهري قال حدثنا محمد بن مقاتل قال حدثنا عبد الله بن المبارك قال حدثنا مصعب بن ثابت عن عاصم بن عبيد عن عطاء عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال اطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ونحن نضحك فقال أتضحكون ثم قال لا أراكم تضحكون ثم أدبر فكأن على رؤوسنا الرخم حتى إذا كان عند الحجر ثم رجع إلينا القهقرى فقال جاء جبريل فقال يا محمد إن الله تعالى يقول لم تقنط عبادي " نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم " وقال قتادة ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لو يعلم العبد قدر رحمة الله ما تورع عن حرام قط ولو علم قدر عقوبة الله لبخع نفسه أي أهلك نفسه في عبادة الله تعالى
ثم قال " ونبئهم عن ضيف إبراهيم " أي عن أضياف إبراهيم إلا أن هذا اللفظ مصدر والمصدر لا يثنى ولا يجمع وذلك حين بعث الله تعالى جبريل في إثني عشر من الملائكة
قوله " إذ دخلوا عليه " أي على إبراهيم " فقالوا سلاما " أي فسلموا عليه فرد عليهم السلام كما قال في موضع آخر " فقالوا سلاما قال سلام " [ الذاريات : 25 ] وقال الكلبي فأنكرهم إبراهيم في تلك الأرض لأنهم لم يطعموا من طعامه " قال إنا منكم وجلون " أي خائفين " قالوا لا توجل " أي لا تخف منا وبشروه فقالوا " إنا نبشرك " قرأ حمزة " نبشرك " بجزم الباء مع التخفيف ونصب النون وضم الشين وقرأ الباقون بالتشديد " بغلام عليم " أي بإسحاق " عليم " في صغره حليم في كبره " قال أبشرتموني على أن مسني الكبر " أي بعدما أصابني الكبر والهرم " فبم تبشرون " قرأ نافع " تبشرون " بكسر النون مع التخفيف لأن أصله تبشروني بالياء فأقيم الكسر مقامه وقرأ إبن كثير " فبم تبشرون " بكسر النون مع التشديد لأنه في الأصل بنونين فأدغم إحداهما في الأخرى مثل قوله " تأمرونني " و " تحاجونني " في الأصل وقرأ الباقون " تبشرون " بنصب النون مع التخفيف لأنها نون الجماعة وقال أبو عبيدة هذا أعجب إلي لصحتها في العربية " قالوا بشرناك بالحق " أي بالولد ويقال بالصدق " فلا تكن من القانطين " أي من الآيسين من الولد ويقال من نعم الله " قال إبراهيم ومن يقنط من رحمة ربه " أي من نعمة ربه " إلا الضالون " أي الجاهلون قرأ الكسائي وأبو عمرو " يقنط " بكسر النون وقرأ الباقون " يقنط " بالنصب ومعناهما واحد
سورة الحجر 57 - 65(2/258)
259
ثم قال " قال فما خطبكم أيها المرسلون " أي قال إبراهيم ما حالكم وشأنكم وبماذا جئتم " قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين " أي مشركين قال إبراهيم من هم قالوا قوم لوط قال إبراهيم أتهلكونهم وفيهم لوط فقالوا " إلا آل لوط " يعني ابنتيه زعورا وريثا ويقال امرأة له أخرى غير التي أهلكت " إنا لمنجوهم أجمعين " قرأ حمزة والكسائي " إنا لمنجوهم " بالتخفيف وقرأ الباقون بنصب النون وتشديد الجيم من أنجى ينجي ونجى ينجي بمعنى واحد " إلا امرأته قدرنا " عليها الهلاك " إنها لمن الغابرين " أي لمن المتخلفين للهلاك قرأ عاصم في رواية أبي بكر " قدرنا " بالتخفيف وهو من القدر وقرأ الباقون بالتشديد وهو من التقدير
قوله عز وجل " فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون " أي لما دخلوا عليه أنكرهم ولم يعرفهم " قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون " أي بما كانوا يشكون من نزول العذاب بهم " وأتيناك بالحق " أي بالعذاب وهو العدل والصدق " وإنا لصادقون " بأن العذاب نازل بهم " فأسر بأهلك بقطع من الليل " أي في بعض الليل قرأ ابن كثير ونافع " فاسر " بجزم الألف والباقون بالنصب سريت وأسريت إذا سرت ليلا " واتبع أدبارهم " يقول امش وراءهم " ولا يلتفت منكم أحد " لا يتخلف منكم أحد " وامضوا " أي انطلقوا " حيث تؤمرون " أي إلى المدينة وهي مدينة زغر
سورة الحجر 66 - 71
قوله " وقضينا إليه ذلك الأمر " أي أمرناه بالخروج إلى الشام إلى مدينة زغر " أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين " أي إنهم مستأصلون عند الصباح
ثم قال " وجاء أهل المدينة يستبشرون " بدخول الرجال منزل لوط " قال " " لوط إن هؤلاء ضيفي " يقول أضيافي " فلا تفضحون " فيهم " واتقوا الله ولا تخزون " أي لا تذلوني في أضيافي " قالوا أو لم ننهك عن العالمين " أي ألم ننهك أن تضيف أحدا من الغرباء " قال هؤلاء بناتي " أي بنات قومي أزوجكم بهن " إن كنتم فاعلين " أي فتزوجوا النساء فإن الله تعالى خلق النساء للرجال وأمر بتزويجهن(2/259)
260
سورة الحجر 72 - 79
ثم قال " لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون " أي بحياتك يا محمد إنهم لفي جهالتهم وضلالتهم " يعمهون " أي يترددون ويتجبرون يعني إن أهل مكة يسمعون هذه العجائب ولا تنفعهم وهم على جهلهم مصرون قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا ابن معاذ قال حدثنا عبد العزيز بن أبان عن سعيد بن زيد عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس أنه قال ما خلق الله نفسا أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره فقال " لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون "
ثم رجع إلى قصة قوم لوط فقال تعالى " فأخذتهم الصيحة مشرقين " أي أخذتهم صيحة جبريل عند طلوع الشمس وذلك أن جبريل قلع الأرض وقت الصبح فرفعها مع الملائكة إلى قريب من السماء ثم قلبها وأهواها إلى الأرض وصاح بهم وقت طلوع الشمس فذلك قوله " فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل " وقد ذكرناها " إن في ذلك " أي في هلاك قوم لوط " لآيات " أي علامات " للمتوسمين " يقول للمتفكرين وقال قتادة للمعتبرين وقال الضحاك للناظرين وقال مجاهد للمفتسرين قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا أبو يعقوب قال حدثنا عمار بن الربيع الباهلي عن أبي صالح بن محمد عن محمد بن مروان عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ " إن في ذلك لآيات للمتوسمين " وقال الزجاج حقيقته في اللغة النظار المثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء يقال توسمت في فلان كذا وكذا أي عرفت ذلك من هيئته
ثم قال " وإنها " أي قريات لوط " لبسبيل مقيم " أي بطريق واضح بين يرونها حين مروا بها " إن في ذلك " أي في هلاك قوم لوط " لآية " أي لعلامة وعبرة " للمؤمنين وإن كان " يقول وقد كان " أصحاب الأيكة " أي أصحاب الغيضة والغيضة والأيكة الشجرة وهم قوم شعيب قال قتادة ذكر لنا أنهم كانوا أهل غيضة وقال بعضهم بعث شعيب إلى قومين أهل مدين وإلى أصحاب الأيكة وقال بعضهم آل مدين والأيكة واحد لأن الأيكة كانت عند مدين وهذا أصح " لظالمين " أي لكافرين(2/260)
261
قوله " فانتقمنا منهم " بالعذاب " وإنهما " أي قريات لوط وشعيب " لبإمام مبين " أي لبطريق واضح وقال القتبي أصل الإمام ما يؤتم به قال الله تعالى " إني جاعلك للناس إماما " أي يؤتم ويقتدى بك ثم تستعمل لمعاني منها يسمى الكتاب إماما لأنه يؤتم بما أحصاه الكتاب قال الله تعالى " يوم ندعوا كل أناس بإمامهم " [ الإسراء : 71 ] أي بكتابهم وقال تعالى " وكل شيء أحصيناه في إمام مبين " [ يس : 12 ] أي في اللوح المحفوظ وهو الكتاب ويسمى الطريق إماما لأن المسافر يأتم به ويستدل به قال الله تعالى " وإنهما لبإمام مبين " أي بطريق واضح أي قرية شعيب وقريات قوم لوط عليهما السلام
سورة الحجر 80 - 84
قوله تعالى " ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين " وهم قوم صالح كذبوا صالحا والحجر أرض ثمود " وآتيناهم آياتنا " أي الناقة " فكانوا عنها معرضين " يقول مكذبين لها " وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين " من أن تقع عليهم الجبال ويقال " آمنين " من نزول العذاب فلم يعرفوا نعمة الله تعالى فعقروا الناقة وقسموا لحمها فأهلكهم الله تعالى بصيحة جبريل فذلك قوله " فأخذتهم الصيحة مصبحين " أي حين أصبحوا ويقال " آمنين " من العذاب بعقر الناقة " فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون " من الكفر والشرك
سورة الحجر 85 - 86
قوله عز وجل " وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق " أي للحق والباء توضع موضع اللام أي لينظر عبادي إليها فيعتبروا ويقال وما خلقناهما إلا عذرا وحجة على خلقي " وإن الساعة لآتية " أي لكائنة لا محالة " فاصفح الصفح الجميل " أي أعرض عنهم إعراضا جميلا بلا جزع منك " إن ربك هو الخلاق العليم " أي عليما بمن يؤمن وبمن لا يؤمن ويقال " العليم " متى تقوم الساعة
سورة الحجر 87 - 91
قوله " ولقد آتيناك سبعا من المثاني " أي فاتحة الكتاب " والقرآن العظيم " أي سائر القرآن وهذا قول ابن عباس وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وروى مجاهد عن ابن عباس(2/261)
262
أنه قال السبع المثاني السبع الطوال وعن سعيد بن جبير قال البقرة آل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس قال لأنه يثني فيها حدود الفرائض والقرآن ويقال السبع المثاني والقرآن كله وهو سبعة أسباع سمي مثاني لأن ذكر الأقاصيص فيه مثنى كقوله " الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني " [ الزمر : 23 ] وقال طاوس القرآن كله مثاني وقال أبو العالية المثاني فاتحة الكتاب سبع آيات وإنما سمي مثاني لأنه يثنى مع القرآن كلما قرىء القرآن قيل إنهم يزعمون أنها السبع الطوال قال لقد أنزلت هذه الآية وما أنزل شيء من الطوال وسئل الحسن عن قوله " سبعا من المثاني " قال " الحمد لله رب العالمين " حتى أتى على آخرها وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال الحمد لله رب العالمين أم الكتاب وأم القرآن والسبع المثاني وقال قتادة السبع المثاني هي فاتحة الكتاب تثنى في كل ركعة مكتوبة أو تطوع يعني في كل صلاة ويقال " من المثاني " أي مما أثني به على الله تعالى لأن فيها حمد الله تعالى وتوحيده و " من " ها هنا على ضربين يكون للتبعيض من القرآن أي أعطيناك سبع آيات من جملة الآيات التي يثنى بها على الله تعالى وآتيناك القرآن العظيم ويجوز أن يكون السبع هي المثاني كقوله " فاجتنبوا الرجس من الأوثان " [ الحج : 30 ] أي إجتنبوا الأوثان
قوله " لا تمدن عينيك " أي لا تنظرن بعين الرغبة " إلى ما متعنا به " أي إلى ما أعطيناك في الدنيا من القرآن خير وأفضل مما أعطيناهم من الأموال فاستغن بما أعطيناك من القرآن والدين والعلم ولا تنظر إلى أموالهم " أزواجا منهم " أي أصنافا منهم وألوانا من الأموال وقوله " منهم " أي أعطينا رجلا من المشركين منهم " ولا تحزن عليهم " أي على كفار مكة إن لم يؤمنوا لأن مقدوري عليهم الكفر ويقال " ولا تحزن عليهم " إن نزل بهم العذاب " واخفض جناحك للمؤمنين " يقول لين جناحك عليهم أي تواضع للمؤمنين " وقل إني أنا النذير المبين " أخوفكم بعذاب مبين بلغة تعرفونها
قال عز وجل " كما أنزلنا على المقتسمين " أي كما أنزلنا العذاب " على المقتسمين " وهم الذين إقتسموا على عقاب مكة ليردوا الناس عن دين الإسلام وعن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقال " إني أنا النذير المبين " بالقرآن كما أنزلنا التوراة والإنجيل على المقتسمين وهم اليهود والنصارى اقتسموا فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وقال مجاهد هم اليهود والنصارى فرقوا القرآن آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه ويقال إن أهل مكة قالوا أقاويل مختلفة " الذين جعلوا القرآن غصين " أي فرقوا القول فيه قال بعضهم سحر وقال بعضهم شعر وهذا قول قتادة ويقال أصله في اللغة الفرقة
يقال فرقوه أي عضوه أعضاء يقال ليس دين الله بالتعضية أي بالتفريق وروى الضحاك عن ا بن عباس أنه قال جزؤوه وجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور(2/262)
263
سورة الحجر 92 - 96
ثم قال " فوربك لنسألنهم أجمعين " أقسم بنفسه ليسألنهم يوم القيامة " عما كانوا يعملون " من الشرك وعن ترك قول لا إله إلا الله وعن الإيمان بالله والرسول " فاصدع بما تؤمر " أي أظهر أمرك وامض لما أمرتك " وأعرض عن المشركين " أي اتركهم حتى يجيء أمر الله تعالى وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية مستخفيا لا يظهر شيئا مما أنزل الله عليه حتى نزلت هذه الآية فأعرض عن المشركين
قوله عز وجل " إنا كفيناك المستهزئين " أي أظهر أمرك فقد أهلك الله المستهزئين وهم خمسة رهط فأهلكوا كلهم في يوم وليلة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى الموسم أيام الحج ليدعو الناس فمنعه المستهزئون وبعثوا على كل طريق رجلا فإذا سألهم أحد من الغرباء عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا هو ساحر كاهن ثم قالوا هذا دأبنا كل سنة فشق على النبي صلى الله عليه وسلم فأهلكهم الله تعالى منهم الوليد بن المغيرة فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال كيف تجد هذا فقال بئس الرجل فقال كفيناكه فمضى وهو يتبختر في ردائه ويقال ببردته فمر رجل يصنع السهام فتعلق سهم بردائه وأخذ طرف ردائه ليجعله على كتفه فأصاب السهم أكحله فنزف فمات
ومنهم العاص بن وائل السهمي مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عنه فقال بئس الرجل هو فقال كفيناكه فوطىء على شوكة فتساقط لحمه عن عظامه حتى هلك ومنهم الحارث بن حنظلة أصاب ساقه شيء فانتفخ فمات ومنهم أسود بن عبد يغوث أصابه العطش فجعل يشرب الماء حتى انتفخ بطنه فمات ومنهم أسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى ضربه جبريل بجناحه فمات ويقال خرج مع غلام له فأتاه جبريل عليه السلام وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح برأسه الشجرة ويضرب وجهه بالشوك فاستغاث بغلامه فقال غلامه لا أرى أحدا يصنع بك شيئا غير نفسك حتى مات وهو يقول قتلني رب محمد وفي رواية الكلبي أن أسود بن عبد يغوث خرج من أهله فأصابه السواد حتى عاد حبشيا فأتى أهله فلم يعرفوه وأغلقوا دونه الباب حتى مات
وروي في خبر آخر أن العاص بن وائل السهمي خرج في يوم مطير على راحلته مع ابنين له فنزل شعبا من الشعاب فلما وضع قدمه على الأرض لدغت فطلبوا فلم يجدوا شيئا فانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير فمات مكانه وعن أبي بكر الهذلي أنه قال قلت(2/263)
264
للزهري إن سعيد بن جبير وعكرمة قد اختلفا في رجل من المستهزئين فقال سعيد هو الحارث بن عيطلة وقال عكرمة هو الحارث بن قيس فقال صدقا كانت أمه اسمها عيطلة وأبوه قيس ويقال إنه أكل حوتا مالحا فأصابه عطش فلم يزل يشرب عليه الماء حتى انقد فمات وهو يقول قتلني رب محمد فنزل " إنا كفيناك المستهزئين " " الذين يجعلون " أي يقولون " مع الله إلها آخر فسوف يعلمون " ماذا يفعل بهم هذا وعيد لسائر الكفار
سورة الحجر 97 - 99
قوله عز وجل " ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون " من تكذيبهم إياك " فسبح بحمد ربك " يقول صل بأمر ربك ويقال إستعن بعبادة ربك ولا تشغل قلبك بهم " وكن من الساجدين " من المصلين " واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " أي واستقم على التوحيد " حتى يأتيك اليقين " أي الموت
قال الفقيه حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا المحاربي عن إسماعيل بن عياش عن شرحبيل عن مسلم عن جبير بن نفير عن أبي مسلم الخولاني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أوحى الله تعالى إلي أن أجمع المال وأكون من التجار ولكن أوحى إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين والله أعلم(2/264)
265
سورة النحل
مكية وهي مائة وعشرون وثمان آيات
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله أخبرنا الثقة بإسناده عن الشعبي قال نزلت سورة النحل كلها بمكة إلا هذه الآية " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " الآية وقال ابن عباس سورة النحل كلها مكية إلا أربع آيات نزلت بالمدينة قوله " والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا " وقوله " إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا " وقوله " وإن عاقبتم فعاقبوا " وقوله " واصبر وما صبرك إلا بالله " إلى آخرها
سورة النحل 1 - 3
قوله تعالى " أتى أمر الله " أي يوم القيامة ويقال يعني العذاب كقوله " حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور " [ هود : 40 ] وقوله " أتاها أمرنا ليلا أو نهارا " [ يونس : 24 ] أي أتى أمر الله بمعنى يأتي أي هو قريب لأن ما هو آت آت وهذا وعيد لهم إنها كائنة وقال ابن عباس لما نزلت هذه الآية " إقترب للناس حسابهم " [ الأنبياء : 1 ] ثم نزل بعدها " اقتربت الساعة " [ القمر : 1 ] قالوا يا محمد تزعم أن الساعة قد إقتربت ولا نرى من ذلك شيئا فنزل " أتى أمر الله " أي عذاب الله فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما لا يشك أن العذاب قد أتاهم فقال لهم جبريل " فلا تستعجلوه " قال فجلس النبي صلى الله عليه وسلم بعد قيامه ثم قال " سبحانه " نزه نفسه عن الولد والشريك ويقال إرتفع وتعاظم عن صفة أهل الكفر فقال عز وجل " وتعالى عما يشركون " به من الأوثان قرأ حمزة والكسائي " تشركون " بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ الباقون بالياء بلفظ المغايبة وكذلك ما بعده
ثم قال " ينزل الملائكة " أي جبريل " بالروح " أي بالوحي وبالنبوة والقرآن " من أمره " أي بأمره قال القتبي " من " توضع موضع الباء كقوله " يحفظونه من أمر الله " [ الرعد : 11 ] أي بأمر الله وقال ها هنا يلقي الروح " من أمره " أي بأمره " على من يشاء من عباده "(2/265)
266
أي يختار للنبوة والرسالة وقال قتادة ينزل الملائكة بالرحمة والوحي " على من يشاء من عباده " من كان أهلا لذلك قرأ إبن كثير وأبو عمرو " ينزل " بجزم النون من قولك أنزل ينزل وقرأ عاصم في رواية أبي بكر " تنزل " بالتاء ونصب النون والزاي مع التشديد على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون " ينزل " بالياء وكسر الزاي مع التشديد من قولك ننزل
ثم قال تعالى " أن أنذروا أنه " أي خوفوا بالقرآن الكفار وأعلموهم أنه " لا إله إلا أنا فاتقون " يعني إن الله واحد لا شريك له فوحدوه وأطيعوه " خلق السموات والأرض بالحق " أي للحق ويقال للزوال والفناء " تعالى " أي تبرأ " عما يشركون " به من الأوثان
سورة النحل 4 - 9
قوله عز وجل " خلق الإنسان من نطفة " يقول من ماء الرجل " فإذا هو خصيم مبين " يقول جدل باطل ظاهر الخصومة وهو أبي بن خلف حيث أخذ عظما باليا ففته بيده وقال عجبا لمحمد يزعم أنه يعيدنا بعد ما كنا عظاما ورفاتا وإنا نعاد خلقا جديدا فنزل " أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة " [ يس : 77 ] الآية
ثم بين النعمة فقال تعالى " والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع " أي ما يستدفأ به من الأكسية وغيرها والذي يتخذ منه البيوت من الشعر والوبر والصوف وأما المنافع فظهورها التي تحمل عليها وألبانها ويقال الدفء الصغار من الإبل وروى عكرمة عن إبن عباس أنه قال " لكم فيها دفء " أي في نسل كل دابة " ومنها تأكلون " أي من لحمها
قوله " ولكم فيها جمال " أي ولكم يا بني آدم في الأنعام " جمال " حسن المنظر " حين تريحون " أي حتى تروح الإبل راجعة إلى أهلها " وحين تسرحون " أي تسرح إلى الرعي أول النهار " وتحمل أثقالكم " أي أمتعتكم وزادكم " إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس " قال هي مكة ويقال هذا الخطاب لأهل مكة كانوا يخرجون إلى الشام وإلى اليمن ويحملون أثقالهم على الإبل " إن ربكم لرؤوف رحيم " إذ لم يعجلكم بالعقوبة
ثم قال " والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة " أي خلقها لكم لتركبوها " وزينة " أي جمالا ومنظرا حسنا وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه سئل عن لحوم الخيل فكرهها وتلا هذه الآية " والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة " يعني إنما خلق هذه(2/266)
267
الأصناف الثلاثة للركوب والزينة لا للأكل وسائر الأنعام خلقت للركوب وللأكل كما قال " ومنها تأكلون " وبه كان يقول أبو حنيفة إن لحم الخيل مكروه " ويخلق ما لا تعلمون " أي خلق أشياء تعلمون وخلق أشياء مما لا تعلمون وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله خلق أرضا بيضاء مثل الدنيا ثلاثين مرة محشوة خلقا من خلق الله تعالى لا يعلمون أن الله تعالى يعصى طرفة عين قالوا يا رسول الله أمن ولد آدم هم قال ما يعلمون أن الله خلق آدم قالوا فأين إبليس منهم قال ما يعلمون أن الله خلق إبليس ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويخلق ما لا تعلمون "
قوله عز وجل " وعلى الله قصد السبيل " أي بيان الهدى ويقال هداية الطريق " ومنها جائر " أي من الطرق ما هو مائل من طريق الهدى إلى طريق اليهودية والنصرانية وروى جويبر عن الضحاك أنه قال " وعلى الله قصد السبيل " يعني بيان الهدى " ومنها جائر " أي سبيل الضلالة وقال قتادة في قراءة عبد الله بن مسعود " ومنها جائر " أي مائلا عن طريق الهدى " ولو شاء لهداكم أجمعين " أي لو علم الله تعالى أن الخلق كلهم أهلا للتوحيد لهداهم ويقال لو شاء الله لأنزل آية يضطر الخلق إلى الإيمان
سورة النحل 10 - 13
قال عز وجل " هو الذي أنزل من السماء ماء " أي المطر " لكم منه شراب " وهو ما يستقر في الأرض من الغدران وتشربون منه وتسقون أنعامكم " ومنه شجر " أي ومن الماء ما يتشرب في الأرض فينبت منه الشجر والنبات " فيه تسيمون " أي ترعون أنعامكم " ينبت لكم به الزرع " أي يخرج لكم بالمطر الزرع " والزيتون والنخيل والأعناب " أي الكروم " ومن كل الثمرات " أي من ألوان الثمرات قرأ عاصم في رواية أبي بكر " ننبت لكم " بالنون وقرأ الباقون بالياء ومعناهما واحد " إن في ذلك لآية " يعني فيما ذكر من نزول المطر وخروج النبات لعبرة " لقوم يتفكرون " في آياته
ثم قال عز وجل " وسخر لكم الليل والنهار " أي ذلل لكم الليل والنهار لمعايشكم(2/267)
268
" والشمس والقمر " أي خلق الشمس والقمر " والنجوم مسخرات بأمره " أي مذللات بإذنه " إن في ذلك لآيات " أي لعبرات " لقوم يعقلون " أي لمن له ذهن الإنسانية
ثم قال عز وجل " وما ذرأ لكم في الأرض " أي وما خلق لكم في الأرض من الدواب والأشجار والثمار " مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية " أي في اختلاف ألوانها لعبرة " لقوم يتذكرون " أي يتعظون قرأ ابن عامر " والشمس والقمر والنجوم " كلها بالرفع على معنى الإبتداء وقرأ عاصم في رواية حفص " والشمس والقمر " بالنصب على معنى البناء أي سخر لكم الشمس والقمر ثم ابتدأ فقال " والنجوم " بالضم على معنى الإبتداء وقرأ الباقون الثلاثة كلها بالنصب ويكون بمعنى المفعول
سورة النحل 14 - 17
قوله عز وجل " وهو الذي سخر البحر " أي ذلل لكم البحر ويقال ذلل لكم ما في البحر " لتأكلوا منه " أي من البحر " لحما طريا " أي السمك الطري " وتستخرجوا منه " يعني من البحر " حلية تلبسونها " يعني لؤلؤا تتزينون بها يعني زينة للنساء " وترى الفلك مواخر فيه " أي مقبلة ومدبرة فيه ويقال تذهب وتجيء بريح واحدة وقال عكرمة يعني السفينة حين تشق الماء يقال مخرت السفينة إذا جرت لأنها إذا جرت تشق الماء " ولتبتغوا من فضله " أي لكي تطلبوا من رزقه حين تركبون السفينة للتجارة " ولعلكم تشكرون " أي لكي تشكروا الله فيما صنع لكم من النعم
قوله عز وجل " وألقى " أي وضع " في الأرض رواسي " يعني الجبال الثوابت " أن تميد بكم " يعني لكيلا تميد بكم وقد يحذف لا ويراد إثباته كما قال ها هنا " أن تميد بكم " أي لا تميد بأهلها وروى معمر عن قتادة أنه قال لما خلقت الأرض كادت تميد فقالت الملائكة ما هذه بمقرة على ظهرها أحدا فأصبحوا وقد خلقت الجبال فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال وقال القتبي الميد الحركة والميل ويقال " أن تميد " أي كراهة أن تميد بكم " وأنهارا " أي وجعل لكم فيها أنهارا " وسبلا " أي طرقا " لعلكم تهتدون " أي تعرفون بها الطرق " وعلامات " أي جعل في الأرض علامات من الجبال وغيرها تهتدون به الطرق في حال السفر " وبالنجم هم يهتدون " أي بالجدي والفرقدين تعرفون بها الطرق في البر والبحر وروى عبد الرزاق عن معمر في قوله " وعلامات " قال قال الكلبي الجبال وقال(2/268)
269
قتادة النجوم وروى سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله " وعلامات وبالنجم هم يهتدون " قال منها ما يكون علامة ومنها ما يهتدى به وقال عمر بن الخطاب تعلموا من النجوم ما تهتدون به في طرقكم وقبلتكم ثم كفوا وتعلموا من الأنساب ما تصلون به أرحامكم وقال السدي " وعلامات " أي الجبال بالنهار يهتدون بها الطرق والنجوم بالليل
ثم قال " أفمن يخلق " يعني " أفمن يخلق " هذه الأشياء التي وصفت لكم " كمن لا يخلق " أي لا يقدر أن يخلق شيئا وهم الأصنام " أفلا تذكرون " أي أفلا تتعظون في صنعه وتوحدوه وتعبدوه ولا تعبدوا غيره
سورة النحل 18 - 23
ثم قال عز وجل " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " أي لا تطيقوا إحصاءها فكيف تقدرون على أداء شكرها " إن الله لغفور رحيم " لمن تاب ورجع " والله يعلم ما تسرون " في قلوبكم " وما تعلنون " بالقول ويقال ما تخفون من أعمالكم " وما تعلنون " أي تظهرون منها فالسر والعلانية عنده سواء
ثم قال تعالى " والذين يدعون من دون الله " أي يعبدون من دون الله من الأوثان " لا يخلقون شيئا " أي لا يقدرون أن يخلقوا شيئا " وهم يخلقون " أي ينحتون من الأحجار والخشب وغيره " أموات غير أحياء " قال الكلبي يعني أن الأصنام أموات ليس فيها روح " وما يشعرون " يعني الأصنام " أيان يبعثون " أي متى يحيون فيحاسبون ويقال " أموات " يعني أن الكفار غير أحياء يعني كأنهم أموات لا يعقلون شيئا " وما يشعرون أيان يبعثون " يعني أن الكفار لا يعلمون متى يبعثون و " أيان " كلمة اختصار أصله أي أوان " فالذين لا يؤمنون بالآخرة " يعني الذين لا يصدقون بالبعث " قلوبهم منكرة " للتوحيد ويقال قلوبهم خبيثة لا تدخل المعرفة فيها " وهم مستكبرون " أي متعظمون عن الإيمان
ثم قال تعالى " لا جرم " أي حقا وذكر عن الفراء أنه قال " لا جرم " بمنزلة لا بد ولا محالة ثم كثرت في الكلام حتى صارت بمنزلة حقا " أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون " أي ما يكتمون وما يظهرون من الكفر والمكر في أمر محمد صلى الله عليه وسلم " إنه لا يحب المستكبرين " أي المتعظمين عن الإيمان ويقال لا يحب المتكبرين الذين يتكبرون على الناس(2/269)
270
قال الفقيه حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا الفضل بن دكين عن مسعر بن كدام عن أبي مصعب عن أبيه عن أبي كعب قال سيأتي المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذر في صور الرجال يغشاهم أو يأتيهم الذل من كل مكان
سورة النحل 24 - 25
قوله عز وجل " وإذا قيل لهم " يعني الخراصين من أهل مكة وروى أسباط عن السدي قال إجتمعت قريش فقالوا إن محمدا رجل حلو اللسان إذ كلمه رجل ذهب بعقله فانظروا أناسا من أشرافكم فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين فمن جاء يريده ردوه عنه فخرج ناس منهم في كل طريق فكان إذا جاء رجل وافد قوم ينظر ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فنزل بهم فقالوا له أنا فلان بن فلان فيعرفه بنسبه ثم يقول أنا أخبرك عن محمد فلا تتبعنه هو رجل كذاب لم يتبعه إلا السفهاء والعبيد ومن لاخير فيه أما أشياخ قومه وأخيارهم فهم مفارقوه فيرجعون أي الوافدون وإذا كان الوافد ممن عزم الله له على الرشد يقول بئس الوافد أنا لقومي إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل وأنظر ماذا يقول فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فيقولون " خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة " [ النحل : 30 ] فذلك قوله " وإذا قيل لهم " أي للمقتسمين من أهل مكة " ماذا أنزل ربكم " على محمد صلى الله عليه وسلم " قالوا أساطير الأولين " يعني الذين يذكر أنه منزل هو كذب الأولين وأحاديثهم
قال عز وجل " ليحملوا أوزارهم " أي آثامهم " كاملة " أي وافرة " يوم القيامة " أي لا يغفر لهم شيء وذنوب المؤمنين تكفر عنهم من الصلاة إلى الصلاة ومن رمضان إلى رمضان ومن الحج إلى الحج وتكفر بالشدائد والمصائب وذنوب الكفار لا تغفر لهم ويحملونها كاملة يوم القيامة أي وبال الذنوب التي عملوا بأنفسهم " ومن أوزار الذين يضلونهم " أي يصدونهم عن الإيمان " بغير علم " أي بغير عذر وحجة وبرهان ويقال " من أوزار الذين يضلونهم " أي أوزار إضلالهم وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " ألا ساء ما يزرون " أي بئس ما يحملون من الذنوب ويقال بئس الزاد زادهم الذنوب
سورة النحل 26 - 27
ثم قال تعالى " قد مكر الذين من قبلهم " أي قد صنع الذين من قبلهم مثل المقتسمين فأبطل الله كيدهم " فأتى الله بنيانهم من القواعد " أي قلع بنيانهم من أساس البيت " فخر عليهم السقف من فوقهم " أي سقف البيت قال الكلبي وهو نمروذ بن كنعان بنى صرحا طوله في السماء خمسة آلاف ذراع وكان عرضه ثلاثة آلاف ذراع وخمسون ذراعا فهدم الله
بنيانه وخر عليهم السقف من فوقهم فأهلكهم الله وقال القتبي هذا مثل أي أهلك من قبلهم من الكفار كما أهلك من هدم مسكنه من أسفله فخر عليه ويقال هدم بنيان مكرهم من الأصل فخر عليهم السقف أي رجع وبال مكرهم إليهم كقوله تعالى " ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله " [ فاطر : 43 ] " وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون " أي لا يعلمون
قوله عز وجل " ثم يوم القيامة يخزيهم " أي يعذبهم وما أصابهم في الدنيا لم يكن كفارة لذنوبهم " ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم " أي تعادونني وتخالفونني بسببهم وعبادتهم قرأ نافع " تشاقون " بكسر النون على معنى الإضافة والباقون بالنصب لأنها نون الجماعة
قوله " قال الذين أوتوا العلم " أي الملائكة ويقال المؤمنون " إن الخزي اليوم " أي العقاب " والسوء " أي الشدة من العذاب " على الكافرين "
سورة النحل 28
قوله عز وجل " الذين تتوفاهم الملائكة " أي يقبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه " ظالمي أنفسهم " أي الذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله تعالى " فألقوا السلم " أي إنقادوا واستسلموا حين رأوا العذاب قالوا " ما كنا نعمل من سوء " أي ما كنا نشرك وقال الكلبي هم قوم خرجوا مع المشركين يوم بدر وقد تكلموا بالإيمان فلما رأوا قلة المؤمنين رجعوا إلى الشرك فقتلوا ويقال جميع المشركين قال الله تعالى " بلى " أشركتم بالله " إن الله عليم بما كنتم تعملون " من الشرك
سورة النحل 29 - 31(2/270)
271
ثم قال تعالى " قد مكر الذين من قبلهم " أي قد صنع الذين من قبلهم مثل المقتسمين فأبطل الله كيدهم " فأتى الله بنيانهم من القواعد " أي قلع بنيانهم من أساس البيت " فخر عليهم السقف من فوقهم " أي سقف البيت قال الكلبي وهو نمروذ بن كنعان بنى صرحا طوله في السماء خمسة آلاف ذراع وكان عرضه ثلاثة آلاف ذراع وخمسون ذراعا فهدم الله بنيانه وخر عليهم السقف من فوقهم فأهلكهم الله وقال القتبي هذا مثل أي أهلك من قبلهم من الكفار كما أهلك من هدم مسكنه من أسفله فخر عليه ويقال هدم بنيان مكرهم من الأصل فخر عليهم السقف أي رجع وبال مكرهم إليهم كقوله تعالى " ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله " [ فاطر : 43 ] " وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون " أي لا يعلمون
قوله عز وجل " ثم يوم القيامة يخزيهم " أي يعذبهم وما أصابهم في الدنيا لم يكن كفارة لذنوبهم " ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم " أي تعادونني وتخالفونني بسببهم وعبادتهم قرأ نافع " تشاقون " بكسر النون على معنى الإضافة والباقون بالنصب لأنها نون الجماعة
قوله " قال الذين أوتوا العلم " أي الملائكة ويقال المؤمنون " إن الخزي اليوم " أي العقاب " والسوء " أي الشدة من العذاب " على الكافرين "
سورة النحل 28
قوله عز وجل " الذين تتوفاهم الملائكة " أي يقبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه " ظالمي أنفسهم " أي الذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله تعالى " فألقوا السلم " أي انقادوا واستسلموا حين رأوا العذاب قالوا " ما كنا نعمل من سوء " أي ما كنا نشرك وقال الكلبي هم قوم خرجوا مع المشركين يوم بدر وقد تكلموا بالإيمان فلما رأوا قلة المؤمنين رجعوا إلى الشرك فقتلوا ويقال جميع المشركين قال الله تعالى " بلى " أشركتم بالله " إن الله عليم بما كنتم تعملون " من الشرك
سورة النحل 29 - 31(2/271)
272
ثم قال " فادخلوا أبواب جهنم " أي تقول لهم خزنة جهنم ادخلوا أبواب جهنم " خالدين فيها " أي مقيمين فيها أبدا " فلبئس مثوى المتكبرين " عن الإيمان
ثم نزل في المؤمنين الذين يدعون الناس إلى الإيمان وذلك أن أهل مكة لما بعثوا إلى عقاب مكة رجالا ليصدوا الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا من أصحابه إلى عقاب مكة فكان الوافد إذا قدم قالوا له إن هؤلاء المشركين كذبوا بل محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الحق ويأمر بصلة الرحم ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى الخير فذلك قوله تعالى " وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا " أي يدعو إلى الخير " للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة " أي للذين وحدوا الله في هذه الدنيا لهم الحسنة في الآخرة أي الجنة " ولدار الآخرة خير " أي أفضل من الدنيا " ولنعم دار المتقين " يعني المطيعين قال مقاتل في قوله " قالوا خيرا " أي قالوا للوافد إنه يأمر بالخير وينهى عن الشر " قالوا خيرا " ثم قطع الكلام
يقول الله تعالى " للذين أحسنوا الحسنى " أي أحسنوا العمل في هذه الدنيا لهم حسنة في الآخرة أي في الجنة " ولدار الآخرة خير " يعني الجنة أفضل من ثواب المشركين الذين يحملون أوزارهم ويقال هذه كلها حكاية كلام المؤمنين إلى قوله " المتقين " قرأ عاصم في رواية أبي بكر " تسرون وتعلنون " بالتاء على معنى المخاطبة " ويدعون " بالياء على معنى المغايبة وروي عنه حفص الثلاث كلها بالياء على معنى المغايبة وقرأ الباقون كلها بالتاء على معنى المخاطبة
ثم وصف دار المتقين فقال " جنات عدن " يعني الدار التي هي للمتقين هي جنات عدن " يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون " أي يحبون " كذلك يجزي الله المتقين " أي هكذا يثيب الله المتقين الشرك
سورة النحل 32 - 33
قوله عز وجل " الذين تتوفاهم الملائكة " أي ملك الموت " طيبين " يقول زاكين طاهرين من الشرك والذنوب " يقولون " أي يقول لهم خزنة الجنة في الآخرة " سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون " في الدنيا ويقال هذا مقدم ومؤخر أي جنات عدن يدخلونها
ثم قال " الذين تتوفاهم الملائكة " قرأ حمزة " الذين يتوفاهم " بالياء بلفظ التذكير والباقون بالتاء بلفظ التأنيث لأن الفعل إذا كان قبل الإسم جاز التذكير والتأنيث(2/272)
273
قوله " هل ينظرون " يقول ما ينظرون وهم أهل مكة " إلا أن تأتيهم الملائكة " أي ملك الموت ليقبض أرواحهم " أو يأتي أمر ربك " أي عذاب ربك يوم بدر ويقال يوم القيامة " كذلك فعل " أي كذلك كذب " الذين من قبلهم " رسلهم كما كذبك قومك فأهلكهم الله تعالى " وما ظلمهم الله " يعني بإهلاكه إياهم " ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " بتكذيبهم رسلهم قرأ حمزة والكسائي " إلا أن يأتيهم " بالياء بلفظ التذكير والباقون بلفظ التأنيث لأن الفعل مقدم
سورة النحل 34 - 37
ثم قال " فأصابهم سيئات ما عملوا " أي جزاء ما عملوا " وحاق بهم " أي نزل بهم " ما كانوا به يستهزئون " من العذاب أنه غير نازل بهم
قوله " وقال الذين أشركوا " أي أهل مكة " لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء " قالوا ذلك على وجه الإستهزاء يعني إن الله قد شاء لنا ذلك الذي " نحن " فيه " ولا آباؤنا " ولكن شاء لنا ولآبائنا " ولا حرمنا من دونه من شيء " ولكن شاء لنا ولآبائنا من تحريم البحيرة والسائبة وأمرنا به ولو لم يشأ ما " حرمنا من دونه من شيء "
قال الله تعالى " كذلك فعل الذين من قبلهم " يقول هكذا كذب الذين من قبلهم من الأمم " فهل على الرسل إلا البلاغ " أي تبليغ الرسالة " المبين " أي يبينوا لهم ما أمروا به
قوله " ولقد بعثنا في كل أمة " أي في كل جماعة " رسولا " كما بعثناك إلى أهل مكة " أن اعبدوا الله " أي وحدوا الله وأطيعوه " واجتنبوا الطاغوت " أي اتركوا عبادة الطاغوت وهو الشيطان والكاهن والصنم " فمنهم من هدى الله " لدينه وهم الذين أجابوا الرسل للإيمان " ومنهم من حقت عليه الضلالة " فلم يجب الرسل إلى الإيمان " فسيروا في الأرض " يقول سافروا في الأرض " فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين " يقول إعتبروا كيف كان آخر أمر المكذبين
فلما نزلت هذه الآية قرأها صلى الله عليه وسلم عليهم فلم يؤمنوا فنزل " إن تحرص على هداهم " يعني على إيمانهم " فإن الله لا يهدي من يضل " يقول من يضلل الله وعلم أنه أهل لذلك(2/273)
274
وقدر عليه ذلك قال مقاتل فإن الله لا يهدي من يضل يقول " من يضلل الله فلا هادي له " [ الأعراف : 186 ] قرأ أهل الكوفة حمزة وعاصم والكسائي " لا يهدي " بنصب الياء وكسر الدال أي لا يهدي من يضلله الله وقرأ الباقون " لا يهدى " بضم الياء ونصب الدال على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقال إبراهيم بن الحكم سألت أبي عن قوله تعالى " فإن الله لا يهدي من يضل " فقال قال عكرمة قال إبن عباس من يضلله الله لا يهدى " وما لهم من ناصرين " أي من مانعين من نزول العذاب
سورة النحل 38 - 39
قوله " وأقسموا بالله جهد أيمانهم " وكل من حلف بالله فهو جهد اليمين وكانوا ينكرون البعث فحلفوا بالله حين قالوا " لا يبعث الله من يموت " فكذبهم الله عز وجل في مقالتهم فقال " بلى وعدا عليه حقا " أوجبه على نفسه ليبعثنهم بعد الموت " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " أي لا يصدقون بالبعث بعد الموت
ثم قال " ليبين لهم الذي يختلفون فيه " من الدين يوم القيامة يعني يبعثهم ليبين لهم أن ما وعدهم حق " وليعلم الذين كفروا " يعني ليستبين لهم عندما خرجوا من قبورهم " أنهم كانوا كاذبين " في الدنيا
سورة النحل 40 - 42
قوله عز وجل " إنما قولنا لشيء " يعني إن بعثهم على الله يسير " إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة " فيكون " بضم النون وقرأ الباقون بالنصب
قوله " والذين هاجروا في الله " أي هاجروا من مكة إلى المدينة في طاعة الله " من بعد ما ظلموا " أي عذبوا " لنبوئنهم في الدنيا حسنة " أي لننزلنهم بالمدينة ولنعطينهم الغنيمة فهذا الثواب في الدنيا " ولأجر الآخرة " أي الجنة " أكبر " أي أفضل " لو كانوا يعلمون " أي يصدقون بالثواب
ثم نعتهم فقال " الذين صبروا " على العذاب " وعلى ربهم يتوكلون " أي يثقون به ولا يثقون بغيره منهم بلال بن حمامة وعمار بن ياسر وصهيب بن سنان وخباب بن الأرت قال مقاتل نزلت الآية في هؤلاء الأربعة عذبوا على الإيمان بمكة وقال في رواية(2/274)
275
الكلبي نزلت في ستة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرهم أهل مكة وذكر هؤلاء الأربعة واثنين آخرين عابس وجبير مولى لقريش فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام فأما صهيب فابتاع نفسه بماله ورجع إلى المدينة وأما سائر أصحابه فقالوا بعض ما أرادوا ثم هاجروا إلى المدينة بعد ذلك
سورة النحل 43 - 47
ثم قال " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم " كما أوحي إليك وذلك أن مشركي قريش لما بلغهم النبي صلى الله عليه وسلم الرسالة ودعاهم إلى عبادة الله تعالى أنكروا ذلك وقالوا لن يبعث الله رجلا إلينا ولو أراد الله أن يبعث إلينا رسولا لبعث إلينا من الملائكة الذين عنده فنزل " وما أرسلنا من قبلك " إلى الأمم الماضية " إلا رجالا " مثلك " نوحي إليهم " كما نوحي إليك قرأ عاصم في رواية حفص " نوحي " بالنون وقرأ الباقون بالياء
قوله عز وجل " فاسألوا أهل الذكر " أي أهل التوراة والإنجيل " إن كنتم لا تعلمون " ذلك " بالبينات والزبر " وفي الآية تقديم وتأخير اي وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم بالبينات والزبر وروى أسباط عن السدي قال " البينات " الحلال والحرام " والزبر " كتب الأنبياء وقال الكلبي " البينات " أي بالآيات الحلال والحرام والأمر والنهي ما كانوا يأتون به قومهم منها وهو كتاب النبوة ويقال " البينات " التي كانت تأتي بها الأنبياء مثل عصا موسى وناقة صالح وقال مقاتل " والزبر " يعني حديث الكتب
ثم قال " وأنزلنا إليك الذكر " يعني القرآن " لتبين للناس " لتقرأ للناس " ما نزل إليهم " أي ما أمروا به في الكتاب " ولعلهم يتفكرون " يتفكروا فيه ليؤمنوا به
ثم خوفهم فقال " أفأمن الذين مكروا السيئات " أي أشركوا بالله " أن يخسف الله بهم الأرض " يعني أن تغور الأرض بهم حتى يدخلوا فيها إلى الأرض السفلى " أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون " أي من حيث لا يعلمون بهلاكهم " أو يأخذهم في تقلبهم " أي في سفرهم في ذهابهم ومجيئهم في تجارتهم " فما هم بمعجزين " أي بفائتين " أو يأخذهم على تخوف " أي على تنقص ويقال يأخذ قرية بالعذاب ويترك أخرى قريبة منها فيخوفها بمثل ذلك وهذا قول مقاتل وروي عن بعض التابعين أن عمر سأل جلساءه عن قوله " أو يأخذهم على تخوف " فقالوا ما نرى إلا عند بعض ما يرون من الآيات يخوفهم فقال عمر(2/275)
276
ما أراه إلا عند بعض ما يتنقصون من معاصي الله فخرج رجل فلقي أعرابيا فقال يا فلان ما فعل دينك تخوفته أي تنقصته فرجع إلى عمر فأخبره بذلك ثم قال تعالى " فإن ربكم لرءوف رحيم " أي لا يعجل عليهم بالعقوبة
سورة النحل 48 - 50
قوله " أولم يروا " قرأ حمزة والكسائي " تروا " بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ الباقون بالياء على معنى المغايبة يعني أولم يعتبروا " إلى ما خلق الله من شيء " عند طلوع الشمس وعند غروبها " يتفيؤا ظلاله " يعني يدور ظلاله " عن اليمين والشمائل " قال القتبي أصل الفيء الرجوع وتفيؤ الظلال رجوعها من جانب إلى جانب " سجدا لله وهم داخرون " أي صاغرون ويقال وهم مطيعون وأصل السجود التطأطؤ والميل يقال سجد البعير إذا تطأطأ وسجدت النخلة إذا مالت ثم قد يستعار السجود ويوضع موضع الإستسلام والطاعة ودوران الظل من جانب إلى جانب هو سجوده لأنه مستسلم منقاد مطيع فذلك قوله " سجدا لله وهم داخرون "
ثم قال تعالى " ولله يسجد " أي يستسلم " ما في السموات " من الملائكة والشمس والقمر والنجوم " وما في الأرض من دابة " أي يسجد لله جميع ما في الأرض من دابة " والملائكة " يعني وما على الأرض من الملائكة ويقال فيه تقديم وتأخير ومعناه ما في السموات من الملائكة وما في الأرض من دابة ويقال معناه يسجد له جميع ما في السموات وما في الأرض يعني الدواب والملائكة يعني الذين هم في السموات والأرض " وهم لا يستكبرون " أي لا يتعظمون عن السجود لله تعالى " يخافون ربهم من فوقهم " أي يخافون الله تعالى وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن لله تعالى ملائكة في السماء السابعة سجودا مذ خلقهم الله تعالى إلى يوم القيامة ترعد فرائصهم من مخافة الله تعالى فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم فقالوا ما عبدناك حق عبادتك فذلك قوله " يخافون ربهم من فوقهم " أي يخافون خوفا معظمين مجلين ويقال خوفهم بالقهر والغلبة والسلطان ويقال معناه يخافون ربهم الذي على العرش كما وصف نفسه والطريق الأول أصح كقوله " يد الله فوق أيديهم " [ الفتح : 10 ] أي بالقهر والغلبة والسلطان " ويفعلون ما يؤمرون " أي لا يعصون الله تعالى طرفة عين قرأ أبو عمرو " يتفيؤا " بالتاء بلفظ التأنيث وقرأ الباقون بالياء لأن تأنيثه ليس بحقيقي ولأن الفعل مقدم فيجوز أن يذكر ويؤنث(2/276)
277
سورة النحل 51 - 56
قوله عز وجل " وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين " أي لا تقولوا ولا تصفوا إلهين اثنين أي نفسه والأصنام ويقال نزلت الآية في صنف من المجوس وصفوا إلهين اثنين
قال الله تعالى " إنما هو إله واحد فإياي فارهبون " أي فاخشوني ووحدوني وأطيعوني ولا تعبدوا غيري " وله ما في السموات " من الملائكة " والأرض " من الخلق الجن والإنس كلهم عبيده وإماؤه " وله الدين واصبا " أي دائما خالصا ويقال الألوهية والربوبية له خالصا ويقال دينه واجبا أبدا لا يجوز لأحد أن يميل عنه ويقال معناه وله الدين والطاعة رضي العبد بما يؤمر به أو لم يرض والوصب في اللغة الشدة والتعب " أفغير الله تتقون " أي تعبدون غيره
قوله عز وجل " وما بكم من نعمة فمن الله " يعني إن الذي بكم من الغنى وصحة الجسم من قبل الله تعالى " ثم إذا مسكم الضر " أي الفقر والبلاء في جسدكم " فإليه تجأرون " يعني إليه تتضرعون ليكشف الضر عنكم كما قال في سورة الدخان " ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون " [ الدخان : 12 ] " ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم " أي الكفار " بربهم يشركون " أي الكفار يعبدون غيره " ليكفروا بما آتيناهم " أي يجحدوا بما أعطيناهم من النعمة " فتمتعوا " بقية آجالكم " فسوف تعلمون " أي تعرفون في الآخرة ماذا نفعل بكم
ثم قال " ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا " أي يجعلون لآلهتهم نصيبا من الحرث والأنعام كقوله " فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا " [ الأنعام : 136 ] وقوله " لما لا يعلمون نصيبا " [ النحل : 56 ] قال بعضهم يعني الكفار جعلوا لأصنامهم نصيبا ولا يعلمون منهم ضرا ولا نفعا وبعضهم قالوا معناه يجعلون للأصنام الذين لا يعلمون شيئا نصيبا أي حظا " مما رزقناهم " من الحرث والأنعام قال تعالى " تالله أي والله لتسألن عما كنتم تفترون " أي تكذبون على الله لأنهم كانوا يقولون إن الله أمرنا بهذا
سورة النحل 57 - 59(2/277)
278
قوله " ويجعلون لله البنات " يعني يصفون لله ويقولون الملائكة بنات الله فقال " سبحانه " أي تنزيها له عن الولد " ولهم ما يشتهون " يعني الأولاد الذكور أي يصفون لغيرهم البنات ولأنفسهم الذكور
ثم وصف كراهتهم البنات لأنفسهم فقال " وإذا بشر أحدهم بالأنثى " يقول إذا بشر أحد الكفار بالأنثى " ظل وجهه مسودا " أي صار وجهه متغيرا من الحزن والخجل " وهو كظيم " أي مكروبا مغموما من الحزن يتردد حزنه في جوفه
ثم قال " يتوارى من القوم من سوء ما بشر به " يعني يكتم ما به من القوم ويستتر ويختفي من سوء ما بشر به أي ما ظهر على وجهه من الكراهية ويدبر في نفسه كيف أصنع بها " أيمسكه على هون " أي الأنثى التي ولدت له على هوان يعني أيحفظه على هوان " أم يدسه " أي يدفنه " في التراب ألا ساء ما يحكمون " أي بئسما يقضون به لأنفسهم الذكور وله الإناث
سورة النحل 60 - 62
ثم قال عز وجل " للذين لا يؤمنون بالآخرة " أي المشركين " مثل السوء " أي جزاء السوء النار في الآخرة ويقال عاقبة السوء ويقال لآلهتهم صفة السوء صم بكم عمي ويقال للكفار هم صم بكم عمي " ولله المثل الأعلى " أي الصفة العليا وهي شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " [ الشورى : 11 ] " لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " [ الإخلاص : 3 - 4 ] فهذا وصفه الأعلى " وهو العزيز " في ملكه " الحكيم " في أمره أمر الخلق أن لا يعبدوا غيره
قوله " ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم " أي بشركهم ومعصيتهم " ما ترك عليها من دابة " أي لم يترك على ظهر الأرض من دابة ودل الإضمار على الأرض لأن الدواب إنما هي على الأرض يقول أنا قادر على ذلك " ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى " أي إلى وقت معلوم ويقال " ما ترك عليها من دابة " لأنه لو أخذهم بذنوبهم لمنع المطر وإذا منع المطر لم يبق في الأرض دابة إلا أهلكت ولكن يؤخر العذاب إلى أجل مسمى وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال لو عذب الله الخلائق بذنوب بني آدم لأصاب العذاب جميع الخلائق حتى الجعلان في جحرها ولأمسكت السماء عن الأمطار ولكن يؤخرهم بالفضل والعفو(2/278)
279
ثم قال " فإذا جاء أجلهم " أي أجل العذاب " لا يستأخرون " أي لا يتأخرون عن الوقت " ساعة ولا يستقدمون " أي لا يتقدمون قبل الوقت
قوله " ويجعلون " أي يقولون ويصفون لله ما يكرهونه لأنفسهم من البنات " وتصف ألسنتهم الكذب " أي يقولون الكذب " أن لهم الحسنى " أي الذكور من الولد ويقال الجنة أي يصفون لأنفسهم مع أعمالهم القبيحة أن لهم في الآخرة الجنة
ثم قال عز وجل " لا جرم " أي حقا ويقال لا بد ولا محالة " أن لهم النار " وهو كقوله " أم حسب الذين إجترحوا السيئات " [ الجاثية : 21 ] إلى قوله " ساء ما يحكمون " [ الجاثية : 21 ] " وأنهم مفرطون " قرأ نافع بكسر الراء يعني أفرطوا في القول وأفرطوا في المعصية وقرأ الباقون " مفرطون " بفتح الراء أي متروكون في النار ويقال منسيون في النار وهو قول سعيد بن جبير وقال قتادة أي معلجون في النار ويقال الفارط في اللغة الذي يتقدم إلى الماء وهذا قول يوافق قول قتادة
سورة النحل 63 - 64
قوله تعالى " تالله " يقول والله " لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك " أي بعثنا إلى أمم من قبلك الرسل كما أرسلناك إلى قومك " فزين لهم الشيطان أعمالهم " أي ضلالهم حتى أطاعوا الشيطان وكذبوا الرسل " فهو وليهم اليوم " أي قرينهم في النار " ولهم عذاب أليم " فهذا تهديد لكفار مكة أنه يصيبهم مثل ما أصابهم وهو تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذاهم
ثم قال " وما أنزلنا عليك الكتاب " أي القرآن " إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه " من الدين لأنهم كانوا في طرق مختلفة اليهودية والنصرانية والمجوسية وغير ذلك فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبين لهم طريق الهدى " وهدى ورحمة " أي أنزلنا القرآن بيانا من الضلالة ونعمة من العذاب لمن آمن به " لقوم يؤمنون " بالقرآن
سورة النحل 65 - 67
قوله عز وجل " والله أنزل من السماء ماء " أي المطر " فأحيا به الأرض بعد موتها " أي بعد يبسها " إن في ذلك لآية " أي علامة لوحدانيته وعلموا أن معبودهم لا يستطيع شيئا " لقوم يسمعون " أي يطيعون ويصدقون ويعتبرون ويبصرون(2/279)
280
قوله عز وجل " وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه " قرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر " نسقيكم " بنصب النون وقرأ الباقون بضم النون ومعناهما واحد يقال سقيته وأسقيته بمعنى واحد " مما في بطونه " ولم يقل مما في بطونها والأنعام جماعة مؤنثة وفي هذا قولان إن شئت رددت إلى واحد من الأنعام وواحدها نعم والنعم تذكر وتؤنث كقوله " وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار " [ البقرة : 74 ] أي من الحجر وإن شئت قلت على تأويل آخر " نسقيكم مما في بطونه " أي بطون ما ذكرنا وهذا مثل قوله " جنات معروشات وغير معروشات " إلى آخره [ الأنعام : 141 ] وقال " إنما الخمر والميسر " إلى آخره [ المائدة : 90 ] ولم يقل فاجتنبوها أي فاجتنبوا ما ذكرنا
ثم قال تعالى " من بين فرث ودم " يعني يخرج اللبن من بين الفرث والدم قال ابن عباس في رواية أبي صالح إن الدابة تأكل العلف فإذا إستقر في كرشها طحنه الكبد فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما والكبد مسلط على هذه الأصناف الثلاثة فيقسم الدم فيجري في العروق ويجري اللبن في الضرع ويبقى الفرث كما هو في الكرش وقال بعضهم إذا استقر العلف في الكرش صار دما بحرارة الكبد ثم ينصرف الدم في العروق فمقدار ما ينتهي إلى الضرع صار لبنا لبرودة الضرع بدليل أن الضرع إذا كانت فيه آفة يخرج منه الدم مكان اللبن " لبنا خالصا " صار اللبن نصبا على معنى التفسير " سائغا للشاربين " أي سهلا في الشرب لا يغص به شاربه ويقال ليشتهي شاربه
ثم قال تعالى " ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا " أي من الثمرات سكرا ويقال " منه " كناية عن الأول وهو قوله " ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون " من ذلك " سكرا " والسكر هو نقيع التمر إذا غلى واشتد قبل أن يطبخ ويقال يعني خمرا قال ابن عباس نزلت هذه الآية وهي يومئذ لهم حلال وهكذا قال الحسن والقتبي إن هذه الآية نزلت في الخمر " ورزقا حسنا " يعني الخل والزبيب والرب وروي عن ابن عباس أنه قال " تتخذون منه سكرا " يعني ما حرم منه " ورزقا حسنا " ما أحل منه وقال الشعبي السكر هو النبيذ والخل والرزق الحسن التمر والزبيب وقال الضحاك السكر الحرام والرزق الحسن الحلال وهؤلاء كلهم قالوا كان هذا قبل تحريم الخمر وقال الأخفش " سكرا " طعاما يقال هذا سكر لك أي طعام لك وقال القتبي لست أدري هذا
ثم قال " إن في ذلك لآية " أي لعبرة " لقوم يعقلون " توحيد الله تعالى
سورة النحل 68 - 69(2/280)
281
قوله عز وجل " وأوحى ربك إلى النحل " أي ألهمها إلهاما مثل قوله " بأن ربك أوحى لها " [ الزلزلة : 5 ] " أن إتخذي من الجبال بيوتا " أي مسكنا " ومن الشجر " يعني أن اتخذي من الجبال ومن الشجر مسكنا " ومما يعرشون " قرأ إبن عامر وعاصم في رواية أبي بكر " يعرشون " بضم الراء والباقون بالكسر ومعناهما واحد أي ومما يبنون من سقوف البيت مسكنا " ثم كلي من كل الثمرات " أي من ألوان الثمرات أي ألهمها بأكل الثمرات " فاسلكي سبل ربك ذللا " أي ادخلي الطريق الذي يسهل عليك ويقال خذي طرق ربك مذللا أي مسخرا لك وقال مقاتل " فاسلكي سبل ربك " يعني أدخلي طرق ربك في الجبال وفي خلال الشجر " ذللا " لأن الله تعالى ذلل لها طرقها حيثما توجهت " يخرج من بطونها " أي من بطون النحل من قبل أفواهها مثل اللعاب " شراب " أي العسل " مختلف ألوانه " أي العسل أبيض وأصفر وأحمر ويقال يخرج من أفواه الشبان من النحل الأبيض ومن الكهول الأصفر ومن الشيوخ الأحمر " فيه " أي في العسل " شفاء للناس " روى أبو المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أخي استطلق بطنه فقال له اسقه عسلا فسقاه ثم جاء فقال سقيته فلم يزده إلا استطلاقا فقال له إسقه عسلا فسقاه ثم جاءه فقال سقيته فلم يزده إلا إستطلاقا فقال له اسقه عسلا صدق الله وكذب بطن أخيك فسقاه فبرىء
قال الفقيه أبو الليث إنما يكون العسل شفاء إذا عرف الإنسان مقداره ويعرف لأي داء هو فإذا لم يعرف مقداره ولم يعرف موضعه فربما يكون فيه ضرر كما أن الله تعالى جعل الماء حياة كل شيء وربما يكون الماء سببا للهلاك وقال السدي العسل شفاء الأوجاع التي يكون شفاؤها فيه وقال مجاهد " فيه شفاء للناس " أي في القرآن بيان للناس من الضلالة وروى أبو الأحوص عن عبد الله بن مسعود أنه قال العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور وروى الأسود عن ابن مسعود أنه قال عليكم بالشفاءين القرآن والعسل " إن في ذلك لآية " أي فيما ذكر من أمر النحل لعلامة لوحدانيتي " لقوم يتفكرون " يعني أن معبودهم لم يغنهم من شيء
سورة النحل 70 - 71
ثم قال عز وجل " والله خلقكم ثم يتوفاكم " أي يقبض أرواحكم " ومنكم من يرد إلى أرذل العمر " أي إلى أسفل العمر وهو الهرم " لكي لا يعلم بعد علم شيئا " أي صار بحال لا يعلم ما علم من قبل ويقال لكيلا يعقل من بعد عقله الأول شيئا ويقال إن الهرم أسوأ(2/281)
282
العمر وشره وقوله " لكي لا يعلم " أي حتى لا يعلم بعد علمه بالأمور شيئا لشدة هرمه بعد ما كان يعلم الأمور قبل الهرم " إن الله عليم " بكم " قدير " على تحويلكم ويقال معناه " ومنكم من يرد إلى أرذل العمر " يعني أنه يحولكم من حال إلى حال تكرهونه ولا يقدر معبودكم أن يمنعني من تغيير ذلك والله عليم قدير على ذلك
قوله عز وجل " والله فضل بعضكم على بعض في الرزق " أي فضل الموالي عل العبيد في المال " فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم " أي الموالي لا يرضون بدفع المال إلى المماليك " فهم فيه سواء " أي لا ترضون أن يكون عبيدكم معكم شركاء في أموالكم فكيف ترضون لله تعالى أن تصفوا له شريكا في ملكه وصفاته وتصفوا له ولدا من عباده وقال قتادة هو الذي فضل في المال والولد لا يشرك عبيده في ماله فقد رضيتم بذلك لله تعالى ولم ترضوا به لأنفسكم وقال مجاهد ضرب الله مثلا للآلهة الباطلة مع الله تعالى ويقال نزلت الآية في وفد نجران حين قالوا في عيسى ما قالوا
ثم قال تعالى " أفبنعمة الله يجحدون " يقول بوحدانية الله تعالى تكفرون وترضون له ما لا ترضون لأنفسكم
سورة النحل 72 - 74
قوله عز وجل " والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا " أي خلق لكم من جنسكم إناثا " وجعل لكم من أزواجكم بنين " أي خلق لكم من نسائكم بنين " وحفدة " أي ولد الولد ويقال هم الأعوان والخدم والأصهار وروي عن زر بن حبيش عن ابن مسعود أنه قال الحفدة الأختان وقال مجاهد الخدم وأنصاره وأعوانه وعن ابن مسعود أنه قال هم أصهاره وقال الربيع بن أنس البنون ابن الرجل من امرأته والحفدة ابن المرأة من غيره وقال زر بن حبيش الحفدة حشم الرجل وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال الولد الصالح وقال أهل اللغة أصله في اللغة السرعة في المشي ويقال في دعاء التوتر ونحفد أي ونجتهد في الخدمة والطاعة
قوله تعالى " ورزقكم من الطيبات " قال الكلبي يعني الحلال إن أخذتم به وقال مقاتل " الطيبات " الخبز والعسل وغيرهما من الأشياء الطيبة بخلاف رزق البهائم والطيور
ثم قال " أفبالباطل يؤمنون " قال الكلبي يعني الآلهة وقال مقاتل " أفبالباطل " يقول بالشيطان يصدقون بأن مع الله إلها آخر ويقال " أفبالباطل يؤمنون " يعني أفيعبدون الأصنام التي لا تقدر على قوتهم ولا على منفعتهم " وبنعمة الله هم يكفرون " أي يجحدون(2/282)
283
بوحدانية الله تعالى ويقال " وبنعمة الله هم يكفرون " فلا يؤمنون برب هذه النعمة
قوله " ويعبدون من دون الله " أي الأصنام " ما لا يملك لهم " أي لا يقدر لهم " رزقا من السموات " أي من إنزال المطر " والأرض " والنبات " شيئا " يعني لا يملكون شيئا من ذلك وقال القتبي إنما نصب " شيئا " بإيقاع الرزق عليه ومعناه يعبدون ما لا يملك أن يرزقهم شيئا كما تقول ويخدم من لا يستطيع إعطاءه درهما " ولا يستطيعون " ذلك " فلا تضربوا لله الأمثال " أي لا تصفوا لله شريكا فإنه لا إله إلا غيره " إن الله يعلم " أنه لا شريك له ويقال إن الله يعلم ضرب الأمثال " وأنتم لا تعلمون " ضرب الأمثال
سورة النحل 75 - 76
ثم قال عز وجل " ضرب الله مثلا " أي وصف الله شبها " عبدا مملوكا " وهو الكافر " لا يقدر على شيء " يقول لا يقدر على مال ينفقه في طاعة الله " ومن رزقناه منا رزقا حسنا " أي مالا حلالا " فهو ينفق منه " أي يتصدق منه " سرا وجهرا " يقول يتصدق خفية وعلانية وهو المؤمن " هل يستوون " في الطاعة مثلا " الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون " ضرب المثل وروي عن ابن عباس أنه قال نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان والآخر أبو العيص بن أمية وهو كافر لا يقدر أن ينفق خيرا لمعاده وعثمان أنفق لآخرته فهل يستويان أي هل يستوي الكافر والمؤمن ويقال ضرب المثل للآلهة ومعناه أن الإثنين المتساويين في الخلق إذا كان أحدهما قادرا على الإنفاق والآخر عاجزا لا يستويان فكيف يسوون بين الحجارة التي لا تتحرك ولا تعقل وبين الذي هو على كل شيء قدير فبين الله تعالى علامة ضلالتهم ثم حمد نفسه ودل خلقه على حمده فقال " الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون "
ثم ضرب مثلا آخر فقال " وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم " أي أخرس وهو الصنم " لا يقدر على شيء " من مال ولا منفعة " وهو كل على مولاه " أي ثقل على وليه وقرابته يعني الصنم عيال ووبال على عابده " أينما يوجهه لا يأت بخير " أي حيث يبعثه لا يجيء بخير " هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل " يعني بالتوحيد " وهو على صراط مستقيم " يدل الخلق إلى التوحيد ويقال هذا المثل للكافر مع النبي صلى الله عليه وسلم يعني الكافر الذي لا يتكلم بخير هل يستوي هو " ومن يأمر بالعدل " أي التوحيد ويدعو الناس إليه " وهو على صراط مستقيم " يدعو الناس إليه وهو على دين الإسلام وقال السدي المثلان ضربهما الله لنفسه وللآلهة(2/283)
284
سورة النحل 77 - 78
ثم قال تعالى " ولله غيب السموات والأرض " أي ما غاب عن العباد " وما أمر الساعة " أي قيام الساعة " إلا كلمح البصر " أي كرجع البصر " أو هو أقرب " أي بل هو أقرب أي أسرع قال الزجاج أخبر الله تعالى أن البعث والإحياء في قدرة الله تعالى ومشيئته كلمح البصر ولم يرد أن الساعة تأتي في لمح البصر ولكنه وصف سرعة القدرة على الإتيان بها ويقال " أو هو أقرب " الألف زائدة ومعناه وهو أقرب " إن الله على كل شيء قدير " يعني من البعث وغيره
قوله عز وجل " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم " قرأ حمزة والكسائي " أمهاتكم " بكسر الألف وقرأ الباقون بالضم ومعناهما واحد وقال الزجاج الأصل في الأمهات أمات ولكن الهاء زيدت مؤكدة كما زادوها في قولهم أهرقت الماء وأصله أرقت الماء " لا تعلمون شيئا " أي لا تعقلون شيئا ويقال لا تعلمون الأشياء كلها " وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون " أي لكي تشكروا النعمة
سورة النحل 79 - 80
ثم بين لهم العبرة ليعتبروا بها ويعرفوا بها وحدانيته فقال تعالى " ألم تروا إلى الطير مسخرات " يقول مذللات " في جو السماء " أي في الهواء " ما يمسكهن " عند قبض الأجنحة وعند بسطها " إلا الله إن في ذلك لآيات " أي لعلامات لوحدانية الله تعالى لمن علم أن معبوده لم يعنه في ذلك " لقوم يؤمنون " أي لمن آمن به قرأ ابن عامر وحمزة " ألم تروا " بالتاء على المخاطبة وقرأ الباقون بالياء
ثم قال " والله جعل لكم من بيوتكم سكنا " أي خلق لكم البيوت قرارا ومأوى لكم ويقال معناه سخر لكم الأرض لتبنوا فيها البيوت ويقال معناه وفقكم لبناء البيوت لسكناكم وقراركم فذكر النعم والمنن والدلائل لوحدانيته
وقال عز وجل " وجعل لكم من جلود الأنعام " أي من الشعر والصوف والوبر " بيوتا " أي الفساطيط والخيام " تستخفونها " أي تستخفون حملها " يوم ظعنكم ويوم إقامتكم " أي يوم انتقالكم وسفركم ويوم نزولكم " ومن أصوافها " أي من أصواف الغنم " وأوبارها " أي(2/284)
285
الإبل " وأشعارها " أي أشعار المعز " أثاثا " متاع البيت أي من الأكسية والفرش وقال قتادة والكلبي " أثاثا " أي المال " ومتاعا إلى حين " أي المنفعة تعيشون فيه إلى الموت ويقال تنتفعون بها إلى حين تبلى وقرأ نافع وإبن كثير وأبو عمرو " يوم ظعنكم " بنصب العين والباقون بالجزم ومعناهما واحد
سورة النحل 81 - 83
قوله عز وجل " والله جعل لكم مما خلق ظلالا " أي أشجارا تستظلون بها ويقال بيوتا تسكنون فيها " وجعل لكم من الجبال أكنانا " أي الغيران والأسراب واحدها كن " وجعل لكم سرابيل " أي القمص " تقيكم الحر " والبرد اكتفى بذكر أحدهما إذا كان يدل على الآخر وقال قتادة في قوله " مما خلق ظلالا " أي من الشجر وغيره " وجعل لكم من الجبال أكنانا " قال غيرانا في الجبال يسكن فيها " تقيكم من الحر " أي من القطن والكتان والصوف قال وكانت تسمى هذه السورة سورة النعم " وسرابيل تقيكم بأسكم " وهي الدروع من الحديد تدفع عنكم قتال عدوكم " كذلك يتم نعمته عليكم " أي ما ذكر من النعم في هذه السورة " لعلكم تسلمون " أي تعرفون رب هذه النعم فتوحدوه وتخلصوا له بالعبادة وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ " لعلكم تسلمون " بنصب التاء واللام ومعناه تسلمون من الجراحات إذا لبستم الدروع وتسلمون من الحر والبرد إذا لبستم القمص
ثم قال بعد ما بين العلامات " فإن تولوا " أي أعرضوا عن الإيمان " فإنما عليك البلاغ المبين " تبلغهم رسالتي وتبين لهم الهدى من الضلالة
قوله تعالى " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها " أي يعرفون أن خالق هذه الأشياء هو الله تعالى " ثم ينكرونها " ويقولون هي بشفاعة آلهتنا وهذا قول الكلبي وقال السدي يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم أنه نبي وأنه صادق ولا يؤمنون به وروى إبن أبي نجيح عن مجاهد في قوله " يعرفون نعمة الله " قال هي المساكن والأنعام وما يرزقون منها وسرابيل الحديد والثياب يعرف هذا الكافرون " ثم ينكرونها " أي البعث " وأكثرهم الكافرون " بالتوحيد ويقال جاحدون بالنعم
سورة النحل 84 - 86(2/285)
286
قوله تعالى " ويوم نبعث " أي واذكر يوم نبعث " في كل أمة شهيدا " أي نبيا شاهدا على أمته بالرسالة أنه بلغها " ثم لا يؤذن للذين كفروا " أي في الكلام " ولا هم يستعتبون " أي لا يرجعون من الآخرة إلى الدنيا وقال أهل اللغة عتب يعتب إذا وجد عليه وأعتب يعتب إذا رجع عن ذنبه واستعتب يستعتب إذا طلب منهم الرجوع أي لا يطلب منهم الرجوع إلى الدنيا
وقوله " وإذا رأى الذين ظلموا العذاب " أي الكفار " فلا يخفف عنهم " أي العذاب حين رأوها " ولا هم ينظرون " أي لا يمهلون ولا يؤجلون ولا يتركون ساعة ليستريحوا
وقوله عز وجل " وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم " أي آلهتهم " قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا " يقولون نعبد من دونك وهم أمرونا بذلك ويقال يعني السفلة إذا رأوا شركاءهم يعني أمراءهم ورؤساءهم قالوا ربنا هؤلاء الذين كنا ندعو من دونك أي هم أمرونا بالمعصية فأطعناهم " فألقوا إليهم القول " يعني القادة والآلهة وأجابوهم " إنكم لكاذبون " ما أمرناكم بذلك
سورة النحل 87 - 89
قوله عز وجل " وألقوا إلى الله يومئذ السلم " أي استسلموا وخضعوا وانقادوا العابد والمعبود والتابع والمتبوع خضعوا كلهم يومئذ لله تعالى " وضل عنهم " أي اشتغل عنهم آلهتهم بأنفسهم " ما كانوا يفترون " أي يختلفون ويقال بطل عنهم ما كانوا يقولون من الكذب في الدنيا
ثم بين عذابهم فقال " الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله " أي صرفوا الناس عن دين الإسلام " زدناهم عذابا فوق العذاب " فوق عذاب السفلة ويقال التابع والمتبوع زدناهم في كل وقت عذابا مع العذاب وقال مقاتل يجري الله عليهم خمسة أنهار من نحاس ذائب ثلاثة أنهار في وقت الليل واثنان في وقت النهار " بما كانوا يفسدون " في الدنيا وقال الكلبي نحو هذا
قال الفقيه أبو الليث حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا(2/286)
287
ابراهيم بن يوسف عن عبيد الله عن إسرائيل عن السدي عن مرة عن عبد الله بن مسعود في قوله " زدناهم عذابا فوق العذاب " قال أفاعي في النار وعن ابن مسعود قال زيدوا عقارب في النار أنيابها كالنخل الطوال وعن مجاهد قال في النار عقارب كالبغال أنيابهن كالرماح تضرب إحداهن على رأسه فيسقط لحمه على قدميه ويقال يسألون الله تعالى المطر في ألف سنة ليسكن ما بهم من شدة الحر والغم فتظهر لهم سحابة فيظنون أنها تمطر عليهم الغيث فإذا هي تمطر عليهم الحيات والعقارب ويقال يسلط عليهم الجوع ويقال الجرب
قوله عز وجل " ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم " أي رسولا من الآدميين " وجئنا بك " يا محمد " شهيدا على هؤلاء " أي على أمتك " ونزلنا عليك الكتاب " أي القرآن " تبيانا لكل شيء " من الأمر والنهي إلا أن بعضه مفسر وبعضه مجمل يحتاج إلى الإستخراج والإستنباط وقال مجاهد ما يسأل الناس عن شيء إلا في كتاب الله تبيانه ثم قرأ " تبيانا لكل شيء " وقال علي بن أبي طالب كل شيء علمه في الكتاب إلا أن آراء الرجال تعجز عنه
ثم قال " وهدى ورحمة " أي " هدى " من الضلالة " ورحمة " أي نعمة من العذاب لمن آمن به وعمل بما فيه " وبشرى للمسلمين " بالجنة
سورة النحل 90
قوله عز وجل " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " أي بتوحيد الله وشهادة أن لا إله إلا الله " والإحسان " إلى الناس والعفو عن الناس " وإيتاء ذي القربى " أي صلة الرحم " وينهى عن الفحشاء " أي عن الزنى ويقال جميع المعاصي " والمنكر " يعني ما لا يعرف في شريعة ولا في سنة ويقال المنكر ما وعد الله عليه النار " والبغي " يعني الإستطالة والكبر فقد أمر بثلاثة أشياء ونهى عن ثلاثة أشياء وجمع في هذه الأشياء الستة علم الأولين والآخرين وجميع الخصال المحمودة
وروي عن عثمان بن مظعون أنه قال ما أسلمت يوم أسلمت إلا حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنه كان يدعوني فيعرض علي الإسلام فاستحييت منه فأسلمت ولم يقر الإسلام في قلبي فمررت به ذات يوم وهو بفناء داره جالسا محتبيا فدعاني فجلست إليه فبينما هو يحدثني إذ رأيت بصره شخص إلى السماء حتى رأيت طرفه قد إنقطع ثم رأيته خفضه عن يمينه ثم ولاني وركه ينفض رأسه كأنه يستفهم شيئا يقال له ثم دعا فرفع رأسه إلى السماء ثم خفضه حتى وضعه عن يساره ثم أقبل علي محمرا وجهه يفيض عرقا فقلت يا رسول الله ما رأيتك صنعت هذا في طول ما كنت أجالسك فقال ولقد رأيت ذلك قلت نعم قال(2/287)
288
بينما أحدثك إذ رفعت بصري إلى السماء فرأيت جبريل ينزل علي فلم تكن لي همة غيره حتى نزل عن يميني فقال يا محمد " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى " إلى آخر الآية قال عثمان فوقر الإيمان في قلبي فآمنت به وصدقته فأتيت أبا طالب فأخبرته بما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا معشر قريش اتبعوا ابن أخي ترشدوا وتفلحوا ولئن كان محمد صادقا أو كاذبا ما يأمركم إلا بمكارم الأخلاق فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم من عمه اللين قال يا عماه أتأمر الناس أن يتبعوني وتدع نفسك وجهد عليه فأبى أن يسلم فنزل " إنك لا تهدي من أحببت " [ القصص : 56 ] إلى آخر الآية
قال الفقيه أبو الليث حدثنا أبو منصور عبد الله الفرائضي بسمرقند بإسناده عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر " إلى آخر الآية فقال له يا ابن أخي أعد علي فأعاد عليه فقال والله يا ابن أخي إن له لحلاوه وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما هذا بقول البشر وقال قتادة في قول الله تعالى " إن الله يأمر بالعدل الإحسان " الآية قال ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يستحسنونه بينهم إلا أمر الله به وليس من خلق سيء يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه
ثم قال تعالى " يعظكم " أي يأمركم وينهاكم عن هذه الأشياء التي ذكرها الله في الآية " لعلكم تذكرون " أي تتعظون
سورة النحل 91 - 93
قوله عز وجل " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم " يقول إذا حلفتم بالله فأتموا له بالفعل ويقال " أوفوا بعهد الله " أي العهود التي بينكم وبين الله تعالى والعهود التي بينكم وبين الناس
ثم قال " ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها " أي لا تنكثوا العهود بعد تغليظها(2/288)
289
وتشديدها " وقد جعلتم الله عليكم كفيلا " أي شهيدا على إتمام العهود والوفاء بها ويقال حفيظا على ما قال الفريقان " إن الله يعلم ما تفعلون " في وفاء العهد والنقض
ثم ضرب الله تعالى مثلا آخر فقال " ولا تكونوا " في نقض العهد " كالتي نقضت غزلها " وهي ريطة الحمقاء بنت عمرو بن كعب بن سعد وهي أم الأخنس بن شريف الزهري " من بعد قوة أنكاثا " أي من بعد ما أبرمته وأحكمته كانت إذا غزلت الشعر والكتان نقضته ثم غزلته فقال ولا تنقضوا العهد بعد توكيده كما نقضت المرأة غزلها وقال القتبي أي لا تؤكدوا على أنفسكم الأيمان والعهود ثم تنقضوا ذلك فتكونوا كامرأة غزلت ونسجت ثم نقضت ذلك النسج فجعلته أنكاثا والأنكاث ما نقض من غزل الشعر وغيره واحدها نكث
ثم قال " تتخذون أيمانكم دخلا بينكم " أي دغلا وخيانة " أن تكون أمة " أي فريقا منكم " هي أربى من أمة " أي هي أكثر وأغنى من أمة قال ابن عباس نزلت هذه الآية في كندة ومراد وذلك أنه كان بينهم قتال حتى كل الظهر ثم تواعدوا لستة أشهر حتى يصلح الظهر أي الدواب ولحم الخيل فلما مضت خمسة أشهر أمر قيس بن معد يكرب بالجهاد إليهم فقالوا قد بقي من الأجل شهر فمكث حتى علم أنه يأتيهم بعد انقضاء الأجل فقتلوه وهزموا قومه فذلك قوله " ولا تتخذوا أيمانكم " [ النحل : 94 ] أي عهودكم بالله " دخلا " أي مكرا وخديعة بينكم " أن تكون أمة هي أربى من أمة " يعني أن تكون أمة أكثر من أمة فينقضون العهد لأجل كثرتهم فلا تحملنكم الكثرة على نقض العهد " إنما يبلوكم الله به " يعني إنما يبتليكم الله بالكثرة لنقض العهد والوفاء وقال مجاهد كانوا يحالفون الحلفاء فإذا وجدوا أكثر منهم وأعز نقضوا وحالفوا الأعز فنزل " إنما يبلوكم الله به " أي يختبركم بنقض العهود وبالكثرة " وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون " من الدين ويبين لكم ما نقضتم من العهود ويجازيكم به
قوله " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة " أي على ملة واحدة وهي الإسلام " ولكن يضل من يشاء " أي يخذل من علم أنه ليس من أهل الإسلام " ويهدي من يشاء " أي يكرم بالإسلام من هو أهل لذلك " ولتسألن عما كنتم تعملون " فهذه اللام لام القسم والتأكيد أي يسألكم " عما كنتم تعملون " من الوفاء والنقض بالعهد
سورة النحل 94 - 97(2/289)
290
قوله عز وجل " ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها " أي إن ناقض العهد يزل عن الطاعة كما تزل قدم الرجل بعد الإستقامة " وتذوقوا السوء " أي تتجرعوا العقوبة " بما صددتم عن سبيل الله " أي صرفتم الناس عن دين الله " ولكم عذاب عظيم " أي شديد في الآخرة
" ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا " أي لا تختاروا على عهد الله والحلف به عرضا يسيرا من الدنيا " إنما عند الله " في الآخرة من الثواب الدائم " هو خير لكم " أي ثواب الجنة " إن كنتم تعلمون " أن الآخرة خير من الدنيا ويقال إن كنتم تصدقون بثوابه قال الكلبي نزلت الآية في رجل من حضرموت يقال له عبدان بن الأشوع قال يا رسول الله إن إمرأ القيس الكندي جاورني في الأرض فاقتطع أرضي فذهب بها وغلبني عليها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أيشهد لك أحد على ما تقول قال يا رسول الله إن القوم كلهم يعلمون أني صادق فيما أقول ولكنه أكرم عليهم مني عليهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرىء القيس ما يقول صاحبك قال الباطل والكذب فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحلف فقال عبدان إنه لفاجر وما يبالي أن يحلف فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يكن لك شهود فخذ يمينه فقال عبدان وما لي يا رسول الله إلا يمينه فقال لا فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلف فلما قام ليحلف أخره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له انصرف فانصرف من عنده فنزلت هذه الآية " ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا " إلى قوله " ما عندكم ينفد " أي ما عندكم من أمر الدنيا يفنى " وما عند الله باق " أي ثواب الله في الجنة دائم لأهلها " ولنجزين الذين صبروا " عن اليمين وأقروا بالحق ويقال الذين صبروا على الإيمان وأقروا بالحق " أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " يعني بالإحسان الذي كانوا يعملون في الدنيا ويقال يجزيهم بأحسن أعمالهم ويبقى سائر الأعمال فضلا قال الكلبي فلما نزلت هاتان الآيتان قال امرؤ القيس أما ما عندي فينفد وأما صاحبي فيجزى بأحسن ما كان يعمل اللهم إنه صادق فيما قال لقد اقتطعت أرضه والله ما أدري كم هي ولكنه يأخذ ما يشاء من أرضي ومثلها معها بما أكلت من ثمارها فنزلت " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن " أي لا يقبل العمل منه ما لم يكن مؤمنا فإذا كان مؤمنا وعمل صالحا يقبل منه
وقال " فلنحيينه حياة طيبة " في الجنة ويقال يجعل حياته في طاعة الله ويقال فلنقنعنه باليسير من الدنيا وروي عن ابن عباس أنه قال الكسب الطيب والعمل الصالح وعن علي قال القناعة وقال الحسن لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة وقال الضحاك الرزق الحلال وعبادة الله تعالى
ثم قال "
ولنجزينهم أجرهم " أي ثوابهم " بأحسن ما كانوا يعملون " أي ليثيبهم(2/290)
291
بإحسانهم ويعفو عن سيئاتهم قرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر في إحدى الروايتين " ولنجزين " بالنون وقرأ الباقون " ولنجزينهم " بالياء
سورة النحل 98 - 101
قوله عز وجل " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله " يعني إذا أردت أن تقرأ القرآن في الصلاة وغير الصلاة " فاستعذ بالله " أي تعوذ بالله وهذا كقولك إذا أكلت فقل بسم الله يعني إذا أردت أن تأكل وهذا مثل قوله " إذا قمتم إلى الصلاة " [ المائدة : 6 ] يعني إذا أردتم القيام للصلاة
وقوله " من الشيطان الرجيم " يعني اللعين الخبيث ويقال " الرجيم " يعني المرجوم ويقال فيه تقديم ومعناه فاستعذ بالله إذا قرأت القرآن
ثم قال " إنه ليس له سلطان " يقال ليس له غلبة ولا حجة ويقال ليس له نفاذ الأمر " على الذين آمنوا " أي صدقوا بتوحيد الله تعالى " وعلى ربهم يتوكلون " أي يثقون به ولا يثقون بغيره
قوله عز وجل " إنما سلطانه " أي غلبته وحجته " على الذين يتولونه " أي يطيعونه من دون الله تعالى فمن أطاعه فقد تولاه " والذين هم به مشركون " أي بالله وقال القتبي " والذين هم به مشركون " لم يرد أنهم بإبليس كافرون ولو كانوا هكذا لكانوا مؤمنين وإنما أراد به الذين هم من أجله مشركون بالله تعالى كما يقال صار فلان بك عالما أي من أجلك
قوله " وإذا بدلنا آية " أي ناسخة " مكان آية " منسوخة أي نسخنا آية بآية قال ابن عباس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه آية فيها شدة أخذ الناس بها وعملوا ما شاء الله أن يعملوا فيشق ذلك عليهم فينسخ الله تعالى هذه الشدة ويأتيهم بما هو ألين منها وأهون عليهم منها قالوا أي كفار قريش ما يعلمه إلا عابس غلام حويطب بن عبد العزى ويسار بن فكيهة مولى ابن الحضرمي وكانا قد أسلما وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيهما فيحدثهما ويعلمهما وكانا يقرآن كتابهما بالعبرانية فنزل " وإذا بدلنا آية مكان آية " " والله أعلم بما ينزل " يعني بما يصلح للخلق " قالوا إنما أنت مفتر " أي مختلق من تلقاء نفسك " بل أكثرهم لا يعلمون " أن الله أمرك بما شاء نظرا لصلاح العباد وقال مقاتل في الآية تقديم ومعناه " وإذا بدلنا آية مكان آية " " قالوا إنما أنت مفتر " فتقول على الله تعالى الكذب قلت كذا ثم نقضته فجئت بغيره ثم قال في التقديم " والله أعلم بما ينزل "(2/291)
292
سورة النحل 102 - 103
قال عز وجل " قل نزله روح القدس " أي قل يا محمد نزل جبريل بالقرآن والتشديد لكثرة نزوله ويقال نزله بمعنى تنزل كما يقال قدم بمعنى تقدم وبين بمعنى تبين ويقال " نزله " بمعنى تلاه والوحي بلغه ويقال " قل نزله روح القدس " يعني جبريل الذي يأتيك بالناسخ والمنسوخ " من ربك " أي من عند ربك ويقال من كلام ربك " بالحق " أي بالوحي ويقال بالصدق ويقال للحق ويقال لصلاح الخلق " ليثبت الذين آمنوا " أي ليحفظ قلوب الذين آمنوا على الإسلام ويقال لتطمئن إليه قلوب الذين آمنوا " وهدى " من الضلالة " وبشرى للمسلمين " بالجنة
وقال " ولقد نعلم أنهم يقولون " يعني أن كفار قريش يقولون " إنما يعلمه بشر " يعنون جبرا ويسارا وروى حصين عن عبد الله بن مسلم قال كان لنا غلامان من أهل اليمن نصرانيان اسم أحدهما يسار والآخر جبر صيقليان وكانا يقرآن بلسانهما فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر عليهما ويستمع منهما فقال المشركون إنما يتعلم منهما فأكذبهم الله تعالى حيث قال " لسان الذي يلحدون إليه أعجمي " أي رومي اللسان وقال مقاتل كان غلام لإبن الحضرمي إسمه يسار وهو يهودي أعجمي اللسان فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا آذاه كفار قريش يدخل عليه ويحدثه فقال المشركون إنما يعلمه يسار فقال الله تعالى ردا عليهم " لسان الذي يلحدون إليه أعجمي " أي يميلون إليه ويزعمون أنه يعلمه أعجمي أي عبراني وأصل الإلحاد الميل " وهذا " يعني القرآن " لسان عربي مبين " يعني مفقه بلغتهم وروي عن طلحة بن عمير أنه كان يقول بلغني أن خديجة كانت تختلف إلى غلام ابن الحضرمي وكان نصرانيا صاحب كتب يقال له جبر وكانت قريش تقول إن عبد الحضرمي يعلم خديجة وخديجة تعلم محمدا صلى الله عليه وسلم فنزل " ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر " ثم أسلم جبر بعد ذلك وحسن إسلامه وهاجر مع سيده قرأ إبن كثير " روح القدس " بجزم الدال وقرأ الباقون " القدس " بالضم وقرأ حمزة والكسائي " يلحدون " بنصب الياء والحاء وقرأ الباقون " يلحدون " بضم الياء وكسر الحاء ومعناهما واحد
سورة النحل 104 - 107(2/292)
293
قوله عز وجل " إن الذين لا يؤمنون بآيات الله " أي القرآن " لا يهديهم الله " أي لا يوفقهم الله ولا يكرمهم لقلة رغبتهم في الإيمان ويقال لا ينجيهم في الآخرة من النار " ولهم عذاب أليم " في الآخرة
ثم قال " إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون " أي إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله كذبوا بها وهؤلاء أكذب الكذبة " من كفر بالله من بعد إيمانه " فعليهم غضب من الله على معنى التقديم
ثم إستثنى فقال " إلا من أكره " أي أكره على الكفر وتكلم بالكفر مكرها " وقلبه مطمئن بالإيمان " يقول قلبه معتقد عليه وهو عمار بن ياسر وأصحابه وذلك أن ناسا من أهل مكة آمنوا فخرجوا مهاجرين فأدركتهم قريش بالطريق فعذبوهم فكفروا مكرهين فنزلت هذه الآية فيهم وروى إبن أبي نجيح عن مجاهد مثله وروي عن قتادة أنه قال ذكر لنا أن عمار بن ياسر أخذه بنو المغيرة فطرحوه في بئر ميمونة حتى أمسى فقالوا له اكفر بمحمد وأشرك بالله فتابعهم على ذلك وقلبه كاره فنزلت الآية وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عمار بن ياسر وهو يبكي فجعل يمسح الدموع من عينيه ويقول أخذني الكفار ولم يتركوني حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير فقال كيف وجدت قلبك قال مطمئن بالإيمان فقال إن عادوا فعد وقال مقاتل أسلم جبر مولى إبن الحضرمي فأخذه مولاه وعذبه حتى رجع إلى اليهودية ثم رجع إلى هؤلاء النفر فنزلت الآية " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان "
ثم بين حال الذين ثبتوا على الكفر فقال " ولكن من شرح بالكفر صدرا " أي فتح صدره بالقبول يعني قبل الكفر طائعا وهو عبد الله بن سعد بن أبي سرح ارتد ولحق بمكة " فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم " أي شديد في الآخرة " ذلك " العذاب " بأنهم إستحبوا الحياة الدنيا " أي اختاروا الدنيا " على الآخرة وأن الله لا يهدي " أي لا يرشد إلى دينه " القوم الكافرين " مجازاة لهم
سورة النحل 108 - 110
قوله " أولئك الذين طبع الله على قلوبهم " مجازاة لهم " وسمعهم وأبصارهم " أي ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وأبصارهم " وأولئك هم الغافلون " أي التاركون لأمر الله تعالى(2/293)
294
ثم قال " لا جرم " أي حقا " أنهم في الآخرة هم الخاسرون " " ثم إن ربك للذين هاجروا " قال ابن عباس نزلت في عمار بن ياسر وأبويه وبلال وصهيب وخباب بن الأرت حيث عذبهم المشركون ثم هاجروا إلى المدينة فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل " ثم إن ربك للذين هاجروا " " من بعد ما فتنوا " يقول عذبهم أهل مكة " ثم جاهدوا " مع النبي صلى الله عليه وسلم " وصبروا " على البلاء " وصبروا " على دينهم " وصبروا " مع النبي صلى الله عليه وسلم على طاعة الله تعالى " إن ربك من بعدها " أي من بعد الفتن ويقال من بعد الهجرة " لغفور " لذنوبهم " رحيم " ويقال نزلت الآية في عياش بن أبي ربيعة وقد ذكرناه في سورة النساء قرأ إبن عامر " ما فتنوا " بفتح الفاء والتاء أي أصابتهم الفتنة وقرأ الباقون " فتنوا " على معنى فعل ما لم يسم فاعله
سورة النحل 111
قوله عز وجل " يوم تأتي كل نفس " أي تحضر " تجادل عن نفسها " يعني كل إنسان يخاصم عن نفسه ويذب عنها ويقول نفسي نفسي وذلك حين زفرت جهنم زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه وقال رب نفسي نفسي أي أريد نجاة نفسي " وتوفى كل نفس ما عملت " أي توفى كل نفس برة أو فاجرة جزاء ما عملت في دار الدنيا من خير أو شر " وهم لا يظلمون " أي لا ينقصون من حسناتهم ولا يزادون على سيئاتهم
سورة النحل 112 - 114
قوله عز وجل " وضرب الله مثلا " يقول وصف الله شبها " قرية كانت آمنة مطمئنة " يعني مكة من العدو " مطمئنة " من العدو أي ساكنة مقيما أهلها بمكة " يأتيها رزقها " أي يحمل إليها طعامها ورزق أهلها " رغدا من كل مكان " أي موسعا من كل أرض يحمل إليها الثمار وغيرها " فكفرت بأنعم الله " أي طغت وبطرت ويقال كفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم " فأذاقها الله لباس الجوع " أي عاقبهم الله تعالى بالجوع سبع سنين ومعنى اللباس هنا سوء الحال واصفرار الوجوه " والخوف " يعني خوف العدو وخوف سرايا النبي صلى الله عليه وسلم " بما كانوا يصنعون " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها(2/294)
295
عليهم سنين كسني يوسف فاستجاب الله دعاءه فوقع القحط والجدوبة حتى اضطروا إلى أكل الميتة والكلاب قال القتبي أصل الذوق بالفم ثم يستعار فيوضع موضع الإبتلاء والإختبار " فأذاقها الله لباس الجوع والخوف " أي إبتلاهم الله بالجوع والخوف وظهر عليهم من سوء آثارهم وتغير الحال عليهم
قوله عز وجل " ولقد جاءهم رسول منهم " أي محمد صلى الله عليه وسلم " فكذبوه فأخذهم العذاب " أي الجوع " وهم ظالمون " أي كافرون ثم إن أهل مكة بعثوا أبا سفيان بن حرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما هذا البلاء هبك عاديت الرجال فما بال الصبيان والنساء فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحمل إليهم الطعام فحمل إليهم الطعام ولم يقطع عنهم وهم مشركون
ثم قال " فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا " أي من الحرث والأنعام " حلالا طيبا " وهم خزاعة وثقيف " واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون " يعني إن كنتم تريدون بذلك وجه الله ورضاء الله وعبادته فإن رضاه أن تستحلوا ما أحل الله وتحرموا ما حرم الله
سورة النحل 115 - 117
ثم بين المحرمات فقال تعالى " إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به " أي ذبح بغير اسم الله " فمن اضطر " أي أجهد إلى شيء مما حرم الله عليه " غير باغ ولا عاد " في أكله أي لا يأكل فوق حاجته ويقال غير مفارق الجماعة " فإن الله غفور " فيما أكل " رحيم " حين رخص له في أكل الميتة عند الاضطرارا
ثم قال " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب " أي لا تقولوا يا أهل مكة فيما أحللت لكم " هذا حلال " على الرجال " وهذا حرام " على النساء ويقال في الآية تنبيه للقضاة والمفتين كي لا يقولوا قولا بغير حجة وبيان
ثم قال " لتفتروا على الله الكذب " أي بتحريم البحيرة والسائبة " إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون " أي لا يفوزون ولا ينجون من العذاب " متاع قليل " أي عيشهم في الدنيا قليل " ولهم عذاب أليم " في الآخرة
سورة النحل 118 - 119(2/295)
296
قوله عز وجل " وعلى الذين هادوا " يقول مالوا عن الإسلام وهم اليهود " حرمنا ما قصصنا عليك من قبل " أي في القرآن من قبل هذه السورة في سورة الأنعام " وما ظلمناهم " بتحريم ما حرمنا عليهم " ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " بكفرهم فحرمنا عليهم الأشياء عقوبة لهم " ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة " أي عملوا المعصية بجهالة وروي عن إبن عباس أنه قال كل سوء يعمله العبد فهو فيه جاهل وإن كان يعلم أن ركوبه سيئة " ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا " أي العمل " إن ربك من بعدها " أي من بعد السيئة ويقال من بعد التوبة " لغفور " لذنوبهم " رحيم " بهم
سورة النحل 120 - 123
قوله تعالى " إن إبراهيم كان أمة قانتا لله " أي إماما يقتدى به " قانتا " أي مطيعا لربه وروى عامر بن مسروق أنه قال ذكر عند عبد الله بن مسعود معاذ بن جبل فقال عبد الله بن مسعود كان معاذ بن جبل أمة قانتا فقال رجل وما الأمة قال الذي يعلم الناس الخير والقانت الذي يطيع الله ورسوله وقال القتبي إنما سماه " أمة " لأنه كان سبب الإجتماع وقد يجوز أنه سماه أمة لأنه إجتمع عنده خصال الخير ويقال إنما سماه " أمة " لأنه آمن وحده حين لم يكن مؤمن غيره وهذا كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يجيء زيد بن عمرو بن نفيل يوم القيامة أمة وحده وقد كان أسلم قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يكن بمكة مؤمن غيره وتابعه ورقه بن نوفل وعاش ورقة بن نوفل إلى وقت خروج النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنزل عليه الوحي
ثم قال " حنيفا مسلما " أي مستقيما مائلا عن الأديان كلها " ولم يك من المشركين " أي مع المشركين على دينهم وأصله ولم يكن فحذفت النون لكثرة إستعمال هذا الحرف " شاكرا لأنعمه " يقول بما أنعم الله عليه " إجتباه " أي إصطفاه واختاره للنبوة " وهداه إلى صراط مستقيم " أي إلى دين قائم وهو الإسلام " وآتيناه في الدنيا حسنة " يقول أكرمناه بالثناء الحسن ويقال بالنبوة ويقال بالولد الطيب " وإنه في الآخرة لمن الصالحين " يعني مع الأنبياء في الجنة
قوله " ثم أوحينا إليك " أي بعده هذه الكرامة التي أعطيناها إبراهيم أمرناك " أن إتبع ملة إبراهيم " أي إستقم على دين إبراهيم " حنيفا وما كان من المشركين " على دينهم
سورة النحل 124 - 126
قوله عز وجل " إنما جعل السبت على الذين إختلفوا فيه " يقول إنما أمروا في السبت بالقعود عن العمل " على الذين إختلفوا فيه " أي في يوم الجمعة وذلك أن موسى عليه السلام أمرهم أن يتفرغوا لله تعالى في كل سبعة أيام يوما واحدا فيعبدوه ولا يعملوا فيه شيئا من أمر الدنيا وستة أيام لصناعتهم ومعايشهم ويتفرغوا في يوم الجمعة
فأبوا أن يقبلوا ذلك اليوم وقالوا إنما نختار السبت اليوم الذي فرغ الله فيه من أمر الخلق فجعل ذلك عليهم وشدد عليهم ثم جاءهم عيسى بالجمعة فاختاروا يوم الأحد وقال مجاهد " إنما جعل السبت على الذين إختلفوا فيه " أي في السبت إتبعوه وتركوا الجمعة وروى همام عن أبي هريرة أنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة وأوتيناه من بعدهم يوم الجمعة فهذا يومهم الذي إختلفوا فيه فهدانا الله له فهم لنا فيه تبع واليهود غدا والنصارى بعد غد
ثم قال " وإن ربك ليحكم بينهم " أي يقضي بينهم " يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " من الدين فبين لهم الحق معاينة
ثم قال عز وجل " أدع إلى سبيل ربك " أي إلى دين ربك وإلى طاعة ربك " بالحكمة " أي بالنبوة والقرآن " والموعظة الحسنة " أي عظهم بالقرآن " وجادلهم بالتي هي أحسن " أي حاججهم وناظرهم بالحجة والبيان ويقال باللين وفي الآية دليل أن المناظرة والمجادلة في العلم جائزة إذا قصد بها إظهار الحق وهذا مثل قوله " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " [ العنكبوت : 46 ] وقوله " فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا " [ الكهف : 22 ]
ثم قال " إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله " أي عن دينة " وهو أعلم بالمهتدين " لدينه
قوله عز وجل " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " قال إبن عباس وذلك حين قتل المشركون حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومثلوا به فقال النبي صلى الله عليه وسلم لئن أمكننا الله لنمثلن بالأحياء فضلا عن الأموات فنزل " وإن عاقبتم فعاقبوا مثل ما عوقبتم به " الآية وقال محمد بن كعب القرظي لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بالحال التي هو بها حين(2/296)
297
قوله عز وجل " إنما جعل السبت على الذين إختلفوا فيه " يقول إنما أمروا في السبت بالقعود عن العمل " على الذين إختلفوا فيه " أي في يوم الجمعة وذلك أن موسى عليه السلام أمرهم أن يتفرغوا لله تعالى في كل سبعة أيام يوما واحدا فيعبدوه ولا يعملوا فيه شيئا من أمر الدنيا وستة أيام لصناعتهم ومعايشهم ويتفرغوا في يوم الجمعة فأبوا أن يقبلوا ذلك اليوم وقالوا إنما نختار السبت اليوم الذي فرغ الله فيه من أمر الخلق فجعل ذلك عليهم وشدد عليهم ثم جاءهم عيسى بالجمعة فاختاروا يوم الأحد وقال مجاهد " إنما جعل السبت على الذين إختلفوا فيه " أي في السبت اتبعوه وتركوا الجمعة وروى همام عن أبي هريرة أنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة وأوتيناه من بعدهم يوم الجمعة فهذا يومهم الذي إختلفوا فيه فهدانا الله له فهم لنا فيه تبع واليهود غدا والنصارى بعد غد
ثم قال " وإن ربك ليحكم بينهم " أي يقضي بينهم " يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " من الدين فبين لهم الحق معاينة
ثم قال عز وجل " ادع إلى سبيل ربك " أي إلى دين ربك وإلى طاعة ربك " بالحكمة " أي بالنبوة والقرآن " والموعظة الحسنة " أي عظهم بالقرآن " وجادلهم بالتي هي أحسن " أي حاججهم وناظرهم بالحجة والبيان ويقال باللين وفي الآية دليل أن المناظرة والمجادلة في العلم جائزة إذا قصد بها إظهار الحق وهذا مثل قوله " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " [ العنكبوت : 46 ] وقوله " فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا " [ الكهف : 22 ]
ثم قال " إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله " أي عن دينه " وهو أعلم بالمهتدين " لدينه
قوله عز وجل " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " قال إبن عباس وذلك حين قتل المشركون حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومثلوا به فقال النبي صلى الله عليه وسلم لئن أمكننا الله لنمثلن بالأحياء فضلا عن الأموات فنزل " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " الآية وقال محمد بن كعب القرظي لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بالحال التي هو بها حين(2/297)
298
مثل به فقال النبي صلى الله عليه وسلم لئن ظفرت بقريش لأمثلن بثلاثين منهم فلما رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما به من الوجع قالوا لئن ظفرنا بهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد فنزل " وإن عاقبتم " أي فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " ولئن صبرتم " فلم تعاقبوا ولم تمثلوا " لهو خير للصابرين " من المثلة أي ثواب الصبر خير من المكافأة ثم صارت الآية عامة في وجوب القصاص أنه لا يجوز إلا مثلا بمثل والعفو أفضل
سورة النحل 127 - 128
قال عز وجل " واصبر " يقول " واصبر " أي أثبت على الصبر " وما صبرك إلا بالله " يعني ألهمك ووفقك للصبر " ولا تحزن عليهم " أي على كفار قريش إن لم يسلموا " ولا تك في ضيق مما يمكرون " قرأ ابن كثير " في ضيق " بكسر الضاد وقرأ الباقون بالنصب ومعناهما واحد أي لا يضق صدرك مما يقولون لك ويصنعون بك وقال مقاتل نزلت الآية في المستهزئين
ثم قال تعالى " إن الله مع الذين اتقوا " أي معين للذين اتقوا الشرك " والذين هم محسنون " في العمل ويقال معين الذين اتقوا مكافأة المسيء " والذين هم محسنون " إلى من أساء إليهم والله أعلم بالصواب وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم(2/298)
299
سورة الإسراء
مكية وهي مائة وإحدى عشرة آية
سورة الإسراء 1
قوله تعالى " سبحان " أي عجب من أمر الله تعالى " الذي أسرى بعبده " ويقال تنزيه الله تعالى وروى موسى بن طلحة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن " سبحان " فقال نزه الله نفسه عن السوء وروي عن علي بن أبي طالب أن ابن أبي الكواء سأله عن سبحان الله فقال علي كلمة رضيها الله لنفسه ويقال معناه سبحوا الله " سبحان الذي أسرى بعبده " أي أدلج برسوله صلى الله عليه وسلم " ليلا " أي في ليلة ويقال " أسرى " يعني سار بعبده ليلا " من المسجد الحرام " أي مكة وقال ابن عباس من بيت أم هانىء " إلى المسجد الأقصى " يعني إلى بيت المقدس
قال الفقيه أخبرني الثقة بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الليلة التي أسرى به فيها فقال أوتيت بدابة هي أشبه الدواب بالبغل وهو البراق وهو الذي كان يركبه الأنبياء قال فانطلق بي يضع يده عند منتهى بصره فسمعت نداء عن يميني يا محمد على رسلك فمضيت ولم أعرج عليه أي ما التفت إليه ثم سمعت نداء عن شمالي فمضيت ثم استقبلتني امرأة عليها من كل زينة فمدت يديها وقالت على رسلك فمضيت ولم ألتفت إليها ثم أتيت البيت المقدس أو قال المسجد فنزلت وأوثقته بالحلقة التي كانت الأنبياء يوثقون بها ثم دخلت المسجد فصليت فقلت يا جبريل سمعت نداء عن يميني فقال ذاك داعي اليهودية أما إنك لو وقفت عليه لتهودت أمتك فقلت وسمعت نداء عن شمالي قال كان ذلك داعي النصارى أما إنك لو وقفت عليه لتنصرت أمتك وأما المرأة كانت الدنيا تزينت لك أما إنك لو وقفت عليها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة قال ثم أوتيت بإناءين أحدهما فيه لبن والآخر فيه خمر فقال لي اشرب أيهما شئت فأخذت اللبن وشربت فقال أصبت الفطرة أي أعطيت أمتك الإسلام أما إنك لو أخذت الخمرة لغوت أمتك ثم جيء بالمعراج الذي تعرج فيه أرواح بني آدم فإذا هو أحسن ما رأيت فعرج بنا(2/299)
300
فيه وذكر قصة طويلة فنزل " سبحان الذي أسرى بعبده " محمدا صلى الله عليه وسلم من أول الليل من المسجد الحرام يقول من الحرم من بيت أم هانىء بنت أبي طالب إلى المسجد الأقصى أي الأبعد يعني إلى مسجد إيلياء وهو بيت المقدس " الذي باركنا حوله " بالماء والأشجار وهو المدائن التي حوله مثل دمشق والأردن وفلسطين " لنريه من آياتنا " أي لكي نريه من آياتنا أراه الله تعالى في تلك الليلة من عجائب السموات والأرض " إنه هو السميع " لمقالة أهل مكة وإنكارهم " البصير " أي العليم بهم
وذلك أنه لما أخبرهم عن قصة تلك الليلة أنكروا وروى الزهري عن عروة قال إنه لما أسري به صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى فأخبر الناس بذلك فارتد ناس كثير ممن كان صدقه وفتنوا بذلك وكذبوا به وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر فقالوا له هذا صاحبك يزعم أنه قد أسري به الليلة إلى بيت المقدس ثم رجع من ليلته فقال أبو بكر أو قال ذلك قالوا نعم قال فإني أشهد إن كان قال ذلك أنه قد صدق فقالوا أتصدقه بأنه جاء إلى الشام ورجع في ليلة واحدة قبل أن يصبح فقال أبو بكر نعم إني أصدقه في أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء غدوة وعشية فذلك سمي أبو بكر الصديق قال الزهري أخبرني أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم فرضت عليه الصلاة ليلة أسري به خمسين ثم نقصت إلى خمس ثم نودي يا محمد ما يبدل القول لدي وإن لك بالخمس خمسين
سورة الإسراء 2 - 5
ثم قال الله تعالى " وآتينا موسى الكتاب " أي التوراة جملة واحدة " وجعلناه " أي الكتاب " هدى لبني إسرائيل " أي بيانا لهم من الضلالة أي دللناهم به على الهدى " ألا تتخذوا من دوني وكيلا " يعني ألا تعبدوا من دوني ربا
قوله " ذرية " يعني بالذرية " من حملنا مع نوح " في السفينة في أصلاب الرجال وأرحام النساء ويقال معناه ألا تعبدوا ذرية من حملنا مع نوح مثل عيسى وعزير قرأ أبو عمرو " أن لايتخذوا " بالياء على معنى المغايبة والخبر عنهم أي أعطيناك الكتاب لكيلا يتخذوا إلها غيري وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة أي قل لهم لا تتخذوا إلها غيري(2/300)
301
ثم أثنى على نوح فقال تعالى " إنه كان عبدا شكورا " أي كان يحمد الله إذا أكل وشرب واكتسى ويقال الشكور هو المبالغ في الشكر أي كان شاكرا في الأحوال كلها
قوله " وقضينا إلى بني إسرائيل " يقول أعلمنا وبينا كقوله " وقضينا إليه ذلك الأمر " [ الحجر : 60 ] أي أعلمناه وبيناه " في الكتاب " أي أخبرناهم في التوراة " لتفسدن في الأرض مرتين " أي لتعصن في الأرض ولتهلكن فيها مرتين " ولتعلن علوا كبيرا " أي لتقهرن قهرا شديدا
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أنه قال أما المرة الأولى فسلط الله عليهم جالوت حتى بعث الله طالوت ومعه داود فقتله داود ثم ردت الكرة لبني إسرائيل ثم جاء وعد الآخرة من المرتين " ليسوؤا وجوهكم " [ الإسراء : 7 ] أي يقبحوا وجوهكم وليدمروا تدميرا وهو بختنصر وإن عدتم عدنا فعادوا فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال وعد أولاهما جاءتهم فارس معهم بختنصر ثم رجعت فارس أي أهل فارس معهم ولم يكن قتال ونصرت بنو إسرائيل عليهم فذلك وعد الأولى فإذا كان وعد الآخرة جاءهم بختنصر ودمر عليهم
وروى أسباط عن السدي أن وعد الأولى كان ملك النبط فجاسوا خلال الديار ثم إن بني إسرائيل تجهزوا وغزوا النبط فأصابوا منهم واستنقذوا ما في أيديهم فردت الكرة عليهم وكان بختنصر في ذلك الوقت يتيما في ذلك العسكر وخرج ليسأل شيئا فلما كبر وجمع الجيوش وجاءهم وخوفهم وخرب البلدة
قال القتبي إن بختنصر غزاهم فرغبوا إلى الله وتابوا فرد الله عنهم بعد أن فتحوا المدينة وجالوا في أسواقهم ثم أحدثوا فبعث الله إليهم أرميا النبي عليه السلام فقام فيهم بوحي الله فضربوه وقيدوه وحبسوه فبعث الله تعالى إليهم عند ذلك بختنصر ففعل ما فعل
وقال الكلبي لما عصوا الله تعالى وهو أول الفسادين سلط الله عليهم بختنصر خرج من بابل فأتاهم بالشام وظهر على بيت المقدس فقتل منهم أربعين ألفا ممن كان يقرأ التوراة وأدخل بقيتهم أرضه فمكثوا كذلك سبعين سنة حتى مات ثم إن رجلا من همدان يقال له كورش غزا أهل بابل فظهر عليهم وسكن الدار وتزوج إمرأة من بني إسرائيل وطلبت إلى زوجها أن يرد قومها إلى أرضهم ففعل فردهم إلى أرض بيت المقدس فمكثوا فيها فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه ثم عادوا فعصوا المرة الثانية فسلط الله عليهم ملكا من ملوك الروم يقال له إسبسيانوس فحاصرهم سنين ثم مات فبعث الله عليهم ابنه ططيوس بن إسبسيانوس الرومي فحاصرهم ثم بعد ذلك ملكهم فقتل منهم مائة ألف وثمانين ألفا حتى قتل يحيى بن زكريا وسبى منهم مثل ذلك وخرب بيت المقدس فلم يزل خرابا حتى بناه المؤمنون في زمن عمر
رضي الله عنه فذلك قوله " فإذا جاء وعد أولاهما " يقول أول الفسادين " بعثنا(2/301)
302
عليكم ) أي سلطنا عليكم " عبادا لنا أولي بأس شديد " يعني ذوي قتال شديد " فجاسوا خلال الديار " يقول قتلوكم وسط الأزقة وقال القتبي " فجاسوا " أي عاثوا وأفسدوا ويكون " جاسوا " بمعنى دخلوا بالفساد " وكان وعدا مفعولا " أي كائنا لئن فعلتم لأفعلن بكم
سورة الإسراء 6 - 8
وقال " ثم رددنا لكم الكرة عليهم " يقول أعطيناكم الدولة ويقال الرجعة عليهم
قوله " وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا " يعني أكثر رجالا وعددا وقال القتبي " أكثر نفيرا " أي أكثر عددا أصله من نفر ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته والنفير والنافر مثل القدير والقادر
قوله " إن أحسنتم " يقول إن وحدتم الله وأطعتموه " أحسنتم لأنفسكم " أي يثاب لكم الجنة " وإن أسأتم " أي أشركتم بالله " فلها " رب يغفر لها " فإذا جاء وعد الآخرة " أي آخر الفسادين " ليسوءوا وجوهكم " أخذ من السوء أي بعثناكم إليكم ليقبحوا وجوهكم بالقتل والسبي قرأ حمزة وإبن عامر وعاصم في رواية أبي بكر " ليسوء " بالياء ونصب الواو معه وقرأ الكسائي " لنسوء " بالنون فيكون الفعل لله تعالى وقرأ الباقون " ليسوءوا " بالياء وضم الواو بلفظ الجماعة يعني إن القوم يفعلون ذلك " وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة " يعني بيت المقدس " وليتبروا ما علوا تتبيرا " يقول وليخربوا ما ظهروا عليه " تتبيرا " أي هلاكا وقال الزجاج يقال لكل شيء منكسر من الحديد والذهب والفضة والزجاج تبر ومعنى " ما علوا " أي وليدمروا في حال علوهم
قوله " عسى ربكم أن يرحمكم " بعد هاتين المرتين فرحمهم وعادوا إلى ما كانوا عليه وبعث فيهم الأنبياء فكانوا رحمة لهم فذلك قوله " وإن عدتم عدنا " أي إن " عدتم " إلى المعصية " عدنا " إليكم بالعذاب ويقال " إن عدتم " إلى تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم كما كذبتم سائر الأنبياء " عدنا " يعني سلطناه عليكم فيعاقبكم بالقتل والجزية والسبي في الدنيا " وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا " أي سجنا ومحبسا قال الحسن أي سجنا وقال قتادة أي وحبسا يحبسون فيها وقال مقاتل أي مجلسا يجلسون ولا يخرجون أبدا كقوله " للفقراء الذين أحصروا " [ البقرة : 273 ] ويقال هذا فعيل بمعنى فاعل وقال الزجاج(2/302)
303
" حصيرا " أي حبيسا أخذ من قوله حصرت الرجل إذا حبسته وهو محصور والحصير المنسوج وإنما سمي " حصيرا " لأنه حصرت طاقاته بعضها فوق بعض
سورة الإسراء 9 - 12
ثم قال " إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم " أي يدعو ويدل ويرشد إلى التي هي " أقوم " وهو توحيد وشهادة أن لا إله إلا الله والإيمان برسول الله والعمل بطاعة الله هذه صفة الحال التي هي أقوم " ويبشر المؤمنين " يعني القرآن بشارة للمؤمنين " الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا " في الجنة " وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة " أي لا يصدقون بالبعث " أعتدنا لهم " أي هيأنا لهم " عذابا أليما " أي وجيعا قرأ حمزة والكسائي " ويبشر المؤمنين " بنصب الياء وجزم الباء والتخفيف وقرأ الباقون " ويبشر " برفع الياء والتشديد
قوله " ويدع الإنسان بالشر " وأصله في اللغة ويدعو بالواو إلا أن الواو والألف حذفت في الكتابة لأن الضمة تقوم مقامها مثل قوله " سندع الزبانية " [ العلق : 18 ] وأصله سندعو أي يدعو الإنسان باللعن على نفسه وأهله وولده وماله وخدمه " دعاءه بالخير " أي دعاءه بالرزق والعافية والرحمة وما يستجاب له فلو استجيب له إذا دعاه باللعن كما يجاب له بالخير لهلك ويقال نزلت في النضر بن الحارث حيث قال " فأمطر علينا حجارة من السماء " [ الأنفال : 32 ] " وكان الإنسان عجولا " يعني إن آدم عجل بالقيام قبل أن تتم فيه الروح وكذلك النضر بن الحارث استعجل بالدعاء على نفسه وهو يستعجل العذاب ويروي الحكم عن إبراهيم عن سلمان أنه قال لما خلق الله تعالى آدم بدأ بأعلاه قبل أسفله فجعل آدم ينظر وهو يخلق فلما كان بعد العصر قال يا رب عجل قبل الليل فذلك قوله " وكان الإنسان عجولا " قال ابن عباس لما جعل فيه الروح فإذا جاوز عن نصفه أراد أن يقوم فسقط فلذلك قيل له لا تعجل فذلك قوله " وكان الإنسان عجولا "
قوله عز وجل " وجعلنا الليل والنهار آيتين " أي خلقنا الشمس والقمر علامتين يدلان على أن خالقهما واحد " فمحونا آية الليل " أي ضوء القمر وهو السواد الذي في جوف القمر وقال محمد بن كعب القرظي كانت شمس بالليل وشمس بالنهار فمحيت شمس الليل وقال ابن عباس كان في الزمان الأول لا يعرف الليل من النهار فبعث الله جبريل فمسح جناحه بالقمر فذهب ضوؤه وبقي علامة جناحه وهو السواد الذي في القمر فذلك(2/303)
304
قوله " فمحونا آية الليل " " وجعلنا آية النهار مبصرة " أي وتركنا علامة النهار مضيئة مبينة " لتبتغوا فضلا من ربكم " أي لتطلبوا رزقا من ربكم في النهار " ولتعلموا عدد السنين والحساب " أي حساب الشهور والأيام " وكل شيء فصلناه تفصيلا " أي بيناه في القرآن
سورة الإسراء 13 - 15
قوله عز وجل " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه " قال ابن عباس أي خيره وشره مكتوب عليه لا يفارقه وقال قتادة سعادته وشقاوته قال الفقيه حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا يزيد بن ربيع عن يونس عن الحسن قال في قوله " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه " قال " طائره " عمله وإليه هداه أميا كان أو غير أمي وروى الحكم عن مجاهد قال ما من مولود إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد وقال الضحاك " طائره في عنقه " الشقاوة والسعادة والأجل والرزق " ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا " أي مفتوحا قرأ ابن عامر " يلقاه " بضم الياء وتشديد القاف أي يعطاه والباقون " يلقاه " أي يراه
وقوله " اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " أي شاهدا ويقال محاسبا لما ترى فيه كل حسنة وسيئة محصاة عليك قال ابن عباس فإن كان مؤمنا أعطي كتابه بيمينه وهي صحيفة يقرأ سيئاته في باطنها وحسناته في ظاهرها فيجد فيها عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا وصنعت كذا وكذا وقلت كذا وكذا في سنة كذا وكذا في شهر كذا وكذا وفي يوم كذا وفي ساعة كذا وكذا فإذا انتهى إلى أسفلها قيل له قد غفرها الله لك اقرأ ما في ظهرها فيقرأ حسناته فيسره ما يرى فيها ويشرق لونه عند ذلك يقول " هآؤم اقرءوا كتابيه " [ الحاقة : 19 ] قال ويعطى الكافر كتابه بشماله ويقرأ حسناته في باطنها وسيئاته في ظاهرها فإذا انتهى إلى آخره قيل له هذه حسناتك قد ردت عليك اقرأ ما في ظهرها فيرى فيها سيئاته قد حفظت عليه كل صغيرة وكبيرة فيسوءه ذلك ويسود وجهه وتزرق عيناه ويقول عند ذلك " ياليتني لم أوت كتابيه " [ الحاقة : 25 ] فذلك قوله " كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " أي حفيظا وقال مقاتل وذلك حين جحد فختم على لسانه وتكلمت جوارحه فشهدت جوارحه على نفسه وذلك قوله " كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " أي شهيدا فلا شاهد عليك أفضل من نفسك
ثم قال " من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه " يعني من اجتهد حتى اهتدى فثوابه لنفسه(2/304)
305
" ومن ضل " أي ومن تغافل حتى ضل " فإنما يضل عليها " أي إثمه عليها " ولا تزر وازرة وزر أخرى " أي لا تؤخذ نفس بذنب نفس أخرى
وقال " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " حجة عليهم مع علمه أنهم لا يطيعون وينذرهم على ما هم عليه من المعصية فإن أجابوا وإلا عذبوا
سورة الإسراء 16 - 19
قوله تعالى " وإذا أردنا أن نهلك قرية " أي أهل قرية " أمرنا مترفيها " أي أكثرنا جبابرتها يقال أمر إذا أكثر وآمر إذا أكثر وهما لغتان وروي عن زينب بنت جحش أنها قالت دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وحلق إبهامه بالتي تليها قالت قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث ويقال أمر وآمر مثل فعل وأفعل بمعنى أكثر ومنه قوله صلى الله عليه وسلم خير المال مهرة مأمورة أي خيل كثير النتاج قرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين وابن كثير في إحدى الروايتين ونافع في إحدى الروايتين أمرنا بالتشديد بغير مد وفي إحدى الروايتين عن ابن كثير ونافع آمرنا بالمد والتخفيف فمن قرأ بالمد يعني أكثرنا جبابرتها وقرأ الباقون بالتخفيف بغير مد فمن قرأ بالتشديد فمعناه سلطنا جبابرتها ومن قرأ بالتخفيف له معنيان أحدهما أكثرنا جبابرتها وأشرافها وورؤساءها " ففسقوا فيها " أي فعصوا فيها ومعنى آخر أمرناهم بالطاعة وخذلناهم حتى تركوا الأمر وعصوا الله تعالى " فحق عليها القول " أي وجب عليها السخط بالعذاب " فدمرناها تدميرا " أي أهلكناها بالعذاب إهلاكا
قوله عز وجل " وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا " يعني إن الله تعالى عالم بذنوبهم قادر على أخذهم ومجازاتهم فيه تهديد لهذه الأمة لكي يطيعوا الله ولا يعصوه فيصيبهم مثل ما أصابهم
قوله عز وجل " من كان يريد العاجلة " أي من كان يريد بعمله الذي افترض الله عليه ثواب الدنيا " عجلنا له " أي أعطينا له " فيها ما نشاء " من عرض الدنيا " لمن نريد " أن نهلكه(2/305)
306
سعيهم مشكورا ) أي عملهم مقبولا ويقال معناه من كان غرضه وقصده وعزمه الدنيا وحطامها وزهرتها عجلنا له فيها للمزيد في الدنيا ما نشاء لمن نريد أن نعطيه بإرادتنا لا بإرادته ومن كان قصده وعزمه الآخرة وعمل عمل الآخرة فنعطي له ما يريد من الآخرة
سورة الإسراء 20 - 22
قوله تعالى " كلا نمد هؤلاء " أي كلا الفريقين من المؤمنين والكافرين نعطي هؤلاء من أهل الطاعة " وهؤلاء " من أهل المعصية " من عطاء ربك " أي من رزق ربك وقال الحسن " كلا نمد " أي نعطي من الدنيا البر والفاجر " وما كان عطاء ربك محظورا " أي محبوسا عن البر والفاجر في الدنيا
" أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض " في الدنيا بالمال " وللآخرة أكبر درجات " يقول ولفضائل الآخرة أرفع درجات مما فضلوا في الدنيا " وأكبر تفضيلا " أي وأرفع في الثواب وقال الضحاك " وللآخرة أكبر درجات " في الجنة فالأعلى يرى فضله على من هو أسفل منه والأسفل لا يرى أن فوقه أحدا وقال مقاتل معناه فضل المؤمنين في الآخرة على الكفار أكبر من فضل الكفار على المؤمنين في المال في الدنيا وقال بعض الحكماء إذا أردت هذه الدرجات وهذا التفضيل فاستعمل هذه الخصال التي ذكر في هذه الآيات إلى قوله " عند ربك مكروها " وروي عن إبن عباس أنه قال هذه الثماني عشرة آية كانت في ألواح موسى حيث كتب الله له فيها أنزلها الله تعالى على نبيه محمد عليه السلام وهي كلها في التوحيد وهي في الكتب كلها موجودة لم تنسخ قط وهو قوله تعالى " لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما " أي ويذمك الناس بفعلك " مخذولا " ويخذلك الذي تعبده فتبقى في النار يذمك الله ويذمك الناس وتذم نفسك " مخذولا " أي يخذلك معبودك ولا ينصرك
سورة الإسراء 23 - 24
قوله عز وجل " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " أي أمر ربك أن ألا تطيعوا أحدا إلا إياه يعني إلا الله تعالى فلا تطيعوا أحدا في المعصية وتطيعوا الله في الطاعة ويقال لا توحدوا إلا الله " وبالوالدين إحسانا " أي أمر بالإحسان إلى الوالدين برا بهما وعطفا عليهما " إما يبلغن عندك الكبر " قرأ حمزة والكسائي " إما يبلغان " بلفظ التثنية لأنه سبق ذكر الوالدين(2/306)
307
وقرأ الباقون " يبلغن " بلفظ الوحدان لأنه انصرف إلى قوله " أحدهما " يعني إن يبلغ الكبر " أحدهما أو كلاهما " يعني إن بلغ أحد الأبوين عندك الهرم أو كلا الأبوين " فلا تقل لهما أف " أي لا تقذرهما ولا تقل لهما " أف " قولا رديئا عند خروج الغائط منهما إذا إحتاجا إلى معالجتهما عند ذلك
قال الفقيه حدثنا أبو عبد الرحمن بن محمد قال حدثنا فارس بن مردويه قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا أصرم عن عيسى بن عبد الله الأشعري عن زيد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو علم الله شيئا من العقوق أعظم من أف لحرمه فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة وليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار وقال مجاهد إذا كبرا فلا تأف لهما لأنهما قد رأيا منك مثل ذلك وقال القتبي " لا تقل لهما أف " بكسر وبفتح وبضم وهو ما غلظ من الكلام يعني لا تستثقل شيئا من كلامها ولا تغلظ لهما القول قرأ إبن كثير وإبن عامر " أف " بنصب الفاء وقرأ نافع وعاصم في رواية حفص " أف " بكسر الفاء مع التنوين وقرأ الباقون " أف " بكسر الفاء بغير تنوين ومعنى ذلك كله واحد " ولا تنهرهما " يقول لا تغلظ عليهما القول " وقل لهما قولا كريما " أي لينا حسنا
قوله " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة " أي كن ذليلا رحيما عليهما وروى هشام عن عروة عن أبيه في قوله " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة " قال يكون لهما ذليلا ولا يمتنع من شيء أحباه وقال عطاء جناحك يداك لا ينبغي أن ترفع يديك على والديك ولا ينبغي لك أن تحد بصرك إليهما تغيظا وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا دعاك أبواك وأنت في الصلاة فأجب أمك ولا تجب أباك وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لو كان جريج الراهب فقيها لعلم أن أجابة أمه أفضل من صلاته
قال الفقيه أبو الليث رضي الله عنه لأن في ذلك الوقت كان الكلام الذي يحتاج إليه مباحا في الصلاة وكذلك في أول شريعتنا ثم نسخ الكلام في الصلاة فلا يجوز أن يجيبها إلا إذا علم أنه وقع لها أمر مهم فيجوز له أن يقطع ثم يستقبل
ثم قال تعالى " وقل رب إرحمهما " أي عند معالجتك في الكبر إياهما ويقال رب إجعل رحمتهما في قلبي حتى أربيهما في كبرهما " كما ربياني صغيرا " أي كما عالجاني في صغري ويقال معناه أدع لهما بالرحمة بعد موتهما أي كن بارا بهما في حياتهما وادع لهما بعد موتهما
سورة الإسراء 25 - 27(2/307)
308
ثم قال تعالى " ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين " أي بارين فإن لم تكونوا بارين فارجعوا إلى الله وتوبوا إليه " فإنه كان للأوابين غفورا " أي للراجعين من الذنوب إلى طاعة الله تعالى وقال مجاهد الأواب الذي يذكر ذنوبه في الخلوة ويستغفر منها وقال سعيد بن جبير الأواب الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب وقال الحسن الأواب الذي يقبل إلى الله بقلبه وعمله وقال السدي الأواب المحسن وقال القتبي الأواب التائب مرة بعد مرة من قولك آب يؤوب ويقال الأواب الذي يصلي بين المغرب والعشاء
قوله تعالى " وآت ذا القربى حقه " أي صلته " والمسكين " أي أعط السائلين " وابن السبيل " أي الضيف النازل وحقه ثلاثة أيام " ولا تبذر تبذيرا " أي لا تنفق مالك في غير طاعة الله تعالى وروي عن عثمان بن الأسود أنه قال سمعت مجاهدا ونحن نطوف بالبيت ورفع رأسه إلى أبي قبيس وقال لو كان أبو قبيس ذهبا لرجل فأنفقه في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفا ولو أنفق درهما في طاعة الشيطان كان مسرفا وروى الأعمش عن الحكم عن أبي عبيدة وكان ضريرا وكان عبد الله بن مسعود يدنيه فجاءه يوما فقال من نسأل إن لم نسألك فقال سل فقال فما الأواه قال الرحيم قال فما التبذير قال إنفاق المال في غير حقه قال فما الماعون قال ما يعاره الناس فيما بينهم قال فما الأمة قال الذي يعلم الناس الخير
ثم قال تعالى " إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين " أي المنفقين أموالهم في غير طاعة الله تعالى كانوا أعوان الشياطين " وكان الشيطان لربه كفورا " أي كافرا
سورة الإسراء 28 - 29
قوله عز وجل " وإما تعرضن عنهم " أي عن قرابتك في الرحم وغيرهم ممن يسألك حياء منهم ورحمة لهم " إبتغاء رحمة من ربك ترجوها " أي إنتظار رزق من ربك أن يأتيك أو قدوم مال غائب عنك ترجو حضوره " فقل لهم قولا ميسورا " أي هينا لينا وعدهم عدة حسنة وقال مقاتل نزلت الآية في خباب بن الأرت وبلال وعمار ونحوهم من أصحاب الصفة كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجد شيئا يعطيهم فيعرض عنهم فنزلت الآية وقال السدي معناه لا تعرض عنهم إبتغاء أن تصيب مالا " فقل لهم قولا ميسورا " أي قل لهم نعم وكرامة ليس عندنا اليوم شيء فإن أتانا شيء نعرف حقكم وقال محمد بن الحنفية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول لشيء لا فإذا سئل وأراد أن يفعل يقول نعم وإذا لم يرد أن يفعل سكت فكان قد علم ذلك منه(2/308)
309
قوله " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك " يقول لا تمسك يدك في النفقة من البخل بمنزلة المغلولة يده إلى عنقه " ولا تبسطها كل البسط " في الإسراف فتعطي جميع ما عندك فيجيء الآخرون ويسألونك فلا تجد ما تعطيهم وهذا قول إبن عباس وقال قتادة لا تمسكها عن طاعة الله وعن حقه " ولا تبسطها كل البسط " يقول لا تنفقها في المعصية وفيما لا يصلح وقال مقاتل في قوله " لا تبسطها كل البسط " في العطية فلا يبقى عندك شيء وإذا سئلت لم تجد ما تعطيهم وقال بعض الحكماء كان النبي صلى الله عليه وسلم لأمته كالوالد ولا ينبغي للوالد أن يعطي جميع ماله لبعض ولده ويترك الآخرين فنهاه الله تعالى أن يعطي جميع ماله لمسكين واحد وأمره أن يقسم بالسوية كي لا ييأسوا منه
ثم قال تعالى " فتقعد ملوما محسورا " يعني لو أعطيت جميع مالك فتبقى " ملوما " يلومك الناس وتلوم نفسك " محسورا " منقطعا عن المال لا مال لك والمحسور في اللغة المنقطع وروي في الخبر أن إمرأة بعثت إبنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له قل له إن أمي تستكسيك درعا فإن قال لك حتى يأتينا شيء فقل له إنها إذن تستكسيك قميصك فأتاه فقال له إن أمي تستكسيك درعا فقال له حتى يأتينا شيء فقال إنها تستكسيك قميصك قال فنزع قميصه ودفعه إليه ولم يبق له قميص يخرج به إلى الصلاة فنزلت هذه الآية " ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا " أي تبقى عريانا لا تقدر أن تخرج إلى الصلاة بغير قميص
قال الفقيه إذا أردت أن تعرف أن البخل قبيح فانظر إلى هذه الآية وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطى قميصه حتى عجز عن الخروج إلى الصلاة عاتبه الله تعالى على ذلك فبدأ بالنهي عن الإمساك فقال " ولا تجعل يدك مغلولة " فنهاه أولا عن البخل ثم نهاه عن دفع الكل وهو التبذير
سورة الإسراء 30 - 33
ثم قال تعالى " إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء " أي يوسع الرزق على من يشاء من كان صلاحه في ذلك " ويقدر " أي يضيق على من يشاء في الرزق وقال الحسن " إن ربك يبسط الرزق لم يشاء ويقدر " لمن يشاء " إنه كان بعباده خبيرا بصيرا " من البسط والتقتير يعلم صلاح كل واحد من خلقه(2/309)
310
قوله عز وجل " ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق " أي مخافة الفقر " نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا " أي ذنبا عظيما ويقال ظلما عظيما وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قال يا رسول الله ثم أي قال أن تزني بحليلة جارك قال ثم أي قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قرأ ابن عامر " خطأ كبيرا " بنصب الخاء وجزم الطاء وقرأ إبن كثير " خطاء " بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الألف وقرأ الباقون بكسر الخاء بغير مد أي إثما كبيرا ويقال خطىء يخطأ خطأ مثل أثم يأثم إثما ومن قرأ بالنصب معناه إن قتلهم كان غير صواب يقال أخطأ يخطىء خطأ وخطاء وقرأ بعضهم بنصب الخاء والطاء وهي قراءة شاذة
ثم قال " ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة " أي معصية " وساء سبيلا " أي بئس المسلك وروى عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود أنه قال لا أحد أغير من الله وبذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله تعالى ولذلك مدح نفسه ولا أحد أحب إليه العذر من الله تعالى ولذلك بعث الرسل وأنزل الكتب
ثم قال تعالى " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " يعني إلا بإحدى ثلاث مواضع إذا قتل أحدا فيقتص به أو زنى وهو محصن فيرجم أو يرتد فيقتل " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا " أي سبيلا وحجة عليه إن شاء قتله وإن شاء عفا عنه وإن شاء أخذ الدية يعني إذا إصطلحا وقال مجاهد كل سلطان في القرآن فهو حجة وكل ظن في القرآن فهو يقين " فلا يسرف في القتل " بالتاء على معنى المخاطبة أي لا تقتل غير القاتل حمية ولا تقتل بعد ما عفا أو أخذ الدية " إنه كان منصورا " أي معانا من الله تعالى في كتابه جعل الأمر إليه في القود قرأ حمزة والكسائي " فلا تسرف " بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ الباقون بالياء
سورة الإسراء 34 - 38
ثم قال عز وجل " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن " أي إلا على وجه التجارة لينمو مال اليتيم بالأرباح أو ينمو على وجه المضاربة " حتى يبلغ أشده " يعني حتى " يبلغ "(2/310)
311
ويتم خلقه وقال القتبي أشد الرجل غير أشد اليتيم وإن كان لفظهما واحدا لأن قوله تعالى " حتى إذا بلغ أشده " [ الأحقاق : 25 ] إنما هو الإكتهال وذلك ثلاثون سنة وأشد الغلام أن يشتد خلقه وذلك ثمان عشرة سنة وقال مقاتل هذه الآية منسوخة بقوله " وإن تخالطوهم فإخوانكم " [ البقرة : 220 ]
ثم قال " وأوفوا بالعهد " يعني العهد الذي بينكم وبين الله تعالى والعهد الذي بينكم وبين الناس " إن العهد كان مسؤولا " يعني إن ناقض العهد يسأل عنه يوم القيامة
ثم قال عز وجل " وأوفوا الكيل إذا كلتم " لغيركم " وزنوا بالقسطاس المستقيم " أي بالميزان العدل بلغة الروم قرأ حمزة والكسائي " بالقسطاس " بكسر القاف والباقون بالضم وهما لغتان يعني الميزان ويقال هو القبان " ذلك خير " أي الوفاء بجميع ما أمركم الله به ونهاكم عنه خير من البخس والنقصان " وأحسن تأويلا " أي عاقبة ومرجعا في الآخرة
وقال " ولا تقف ما ليس لك به علم " يقول لا تقل ما لم تعلم فتقول علمت ولم تعلم ورأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع أي كأنك تقفو الأمور يقال قفوت أثره والقائف الذي يعرف الآثار ويتبعها
ثم حذرهم فقال " إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا " أي يسأل العبد عن أعضائه يوم القيامة فيشهدن عليه ويقال معناه صاحب السمع والبصر والفؤاد يسأل يوم القيامة عن السمع والبصر والفؤاد ويقال معنى قوله " ولا تقف ما ليس لك به علم " أي لا تقل ما لم تعلم ولا تسمع اللغو ولا تنظر إلى الحرام ولا تحكم على الظن " كل أولئك كان عنه مسؤولا " يعني عن الكلام باللسان والتسمع بالسمع والتبصر بالبصر على وجه الإضمار وهو من جوامع الكلم
ثم قال " ولا تمش في الأرض مرحا " يعني بالتكبر والفخر " إنك لن تخرق " يعني لن تدخل " الأرض " ولن تجاوزها " ولن تبلغ الجبال طولا " يريد أنه ليس للعاجز أن يمدح نفسه ويستكبر " كل ذلك " أي كل ما أمرتك به ونهيتك عنه " كان سيئه عند ربك " أي ترك ذلك سيئة ومعصية عند الله " مكروها " أي منكرا قرأ إبن كثير وأبو عمرو ونافع " سيئة " بنصب الهاء مع التنوين يعني خطيئة ومعناه ما ذكر في هذه الآية تركه كان معصية وسيئة وقرأ الباقون " سيئه " بضم الهاء على معنى الإضافة قال أبو عبيدة وبهذه القراءة نقرأ وحجته قراءة أبي كان يقرأ سيئاته على معنى الإضافة
سورة الإسراء 39 - 41(2/311)
312
قوله عز وجل " ذلك مما أوحى إليك ربك " يعني مما بين الله تعالى وأمر ونهى وكان ذلك مكتوبا في اللوح وأوحى إليك ربك " من الحكمة " أي بيان الحلال والحرام " ولا تجعل " أي لا تقل " مع الله إلها آخر " فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته " فتلقى " أي تطرح " في جهنم ملوما " أي يلومك الناس " مدحورا " أي مقصيا من كل خير وقال القتبي " مدحورا " أي مبعدا يقال في الدعاء اللهم إدحر عني الشيطان أي أبعده عني
قوله عز وجل " أفأصفاكم ربكم بالبنين " أي أفاختاركم بالبنين " واتخذ " لنفسه " من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما " في العقوبة ويقال قولا منكرا قبيحا
قال تعالى " ولقد صرفنا في هذا القرآن " أي من كل وجه " ليذكروا " أي ليتعظوا بالقرآن ويقال في القرآن من كل شيء يحتاج إليه الناس ويقال بينا في هذا القرآن من كل وعد ووعيد " ليذكروا " أي ليتعظوا بما في القرآن فينتهوا عن عبادة الأوثان " وما يزيدهم " أي الوعيد في القرآن " إلا نفورا " أي تباعدا عن الإيمان قرأ حمزة والكسائي " ليذكروا " بالتخفيف يعني ليذكروا ما فيه وقرأ الباقون بالتشديد لأن أصله ليتذكروا فأدغم التاء في الذال وشدد
سورة الإسراء 42 - 44
قوله عز وجل " قل لو كان معه آلهة " قال إبن عباس قل لأهل مكة " لو كان معه آلهة " " كما يقولون " من الأوثان " إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا " أي طريقا وكانوا كهيئته وقال قتادة أي يعرفوا فضل ذي العرش ومرتبته عليهم ويقال إبتغوا طريقا للوصول إليه وقال مقاتل لطلبوا سبيلا ليقهروه كفعل الملوك بعضهم بعضا
ثم نزه نفسه عن الشريك فقال تعالى " سبحانه " أي تنزيها له " وتعالى عما يقولون " أي عما يقول الظالمون أن معه شريكا " علوا كبيرا " أي بعيدا عما يقول الكفار
وقوله " تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن " من الخلق " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " أي ما من شيء إلا يسبح له بأمره وبعلمه " ولكن لا تفقهون تسبيحهم " وقال الكلبي كل شيء ينبت يسبح من الشجر وغير ذلك فإذا قطع منه صار ما قطع منه ميتا لا يسبح
وروي عن الحسن أنه قيل له أيسبح هذا الخوان قال كان يسبح في شجره فأما الآن فلا ويقال إذا قطع الشجر فإنه يسبح ما دام رطبا بدليل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مر بقبرين فقال إنهما ليعذبان في القبر ومما يعذبان بكبيرة فأما أحدهما كان يمشي بالنميمة(2/312)
313
وأما الآخر فكان لا يستنزه عن البول ثم أخذ جريدتين من شجر وغرس إحداهما في قبر والأخرى في قبر الآخر فقال لعلهما لا يعذبان ما دامتا رطبتين قال الحكماء الحكمة في ذلك أنهما ما دامتا رطبتين تسبحان الله تعالى ويقال معناه ما من شيء إلا يسبح بحمده ويقال معناه " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " يدل على وحدانية الله تعالى ويسبحه فإن الله خالقه " ولكن لا تفقهون تسبيحهم " يعني أثر صنعه فيهم هذا بعيد وهو خلاف أقاويل المفسرين " إنه كان حليما " حيث لم يجعل العقوبة لمن إتخذ معه آلهة " غفورا " لمن تاب منهم
سورة الإسراء 45 - 47
قوله عز وجل " وإذا قرأت القرآن " يعني إذا أخذت في قراءة القرآن " جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا " قال بعضهم الحجاب المستور هو أن يمنعهم عن الوصول إليه كما روي أن إمرأة أبي لهب جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان عنده أبو بكر فدخلت فقالت لأبي بكر هجاني صاحبك قال أبو بكر والله هو ما ينطق بالشعر ولا يقوله فرجعت فقال أبو بكر أما رأتك يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل بيني وبينها ملك يسترني عنها حتى رجعت وقال قتادة الحجاب المستور هو الأكنة وقال مقاتل الحجاب المستور هو قوله " وجعلنا على قلوبهم أكنة " أي جعلنا أعمالهم على قلوبهم أغطية حتى لا يرغبوا في الحق ويقال " جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة " يعني الجن والشياطين " حجابا مستورا " فلا يصلون إليك وقال الكلبي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا القرآن ستره الله وحجبه عن المشركين بثلاث آيات إذا قرأهن حجب عنهم إحداهن في سورة الكهف " وجعلنا على قلوبهم أكنة " [ الكهف : 57 ] والآية الثانية في النحل " أولئك الذين طبع الله على قلوبهم " [ النحل : 108 ] والثالثة في حم الجاثية " أفرءيت من إتخذ إلهه هواه " [ ال جاثية : 23 ] الآية
قوله تعالى " وفي آذانهم وقرأ " أي صمما وثقلا لا يسمعون الحق قرأ إبن كثير " قل لو(2/313)
314
كان معه آلهة كما يقولون ) [ الإسراء : 42 ] كلها بالتاء على معنى المخاطبة والآخرون بالياء وقرأ أبو عمرو الأوسط بالياء واختلفوا عن عاصم في رواية حفص الآخر خاصة بالتاء وروى أبو بكر مثل إبن عامر
وقال تعالى " وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده " يعني وحدانيته قول لا إله إلا الله " ولوا على أدبارهم نفورا " أي أعرضوا تباعدا عن الإيمان وقال القتبي ولوا على أعقابهم هربا وهو مثل ما قال مقاتل ولوا على أعقابهم وذلك حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم قولوا لا إله إلا الله تملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم فنفروا من ذلك
ثم قال " نحن أعلم بما يستمعون به " يعني بالقرآن " إذ يستمعون إليك " أي إلى قراءتك القرآن " وإذ هم نجوى " يعني يتناجون فيما بينهم " إذ يقول الظالمون " أي المشركون للمؤمنين " إن تتبعون إلا رجلا مسحورا " أي ما تطيعون إلا رجلا مغلوب العقل وذكر القتبي عن مجاهد أنه قال " مسحورا " أي مخدوعا لأن السحر حيلة وخديعة كقوله " فأنى تسحرون " [ المؤمنون : 89 ] أي من أيه تخدعون وذكر عن أبي عبيدة قال السحر الرئة يقال للرجل إنتفخ سحرك إذا جبن يعني إن تتبعون إلا رجلا ذا رئة أي بشرا مثلكم
سورة الإسراء 48 - 49
ثم قال " أنظر كيف ضربوا لك الأمثال " أي وصفوا لك الأشباه حيث قالوا ساحر أو مجنون " فضلوا " أي أخطؤوا في المقالة وتحيروا " فلا يستطيعون سبيلا " أي لا يجدون مخرجا مما قالوا لتناقض كلامهم لأنهم قالوا مرة ساحر والساحر عندهم المبالغ في العلم ومرة قالوا مجنون والمجنون عندهم من هو في غاية الجهل قال إبن السائب وذلك أن أبا سفيان بن حرب وحويطب بن عبد العزى وأبا جهل بن هشام وأبا لهب وامرأته جميلة أخت أبي سفيان والنضر بن الحارث وغيرهم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستمعون إلى حديثه فقال النضر ذات يوم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه ما أدري ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه تتحركان فقال أبو جهل هو مجنون وقال أبو لهب بل هو كاهن وقال حويطب بل هو شاعر فنزل " وإذا قرأت القرآن " إلى قوله " قل عسى أن يكون قريبا "
وقوله " وقالوا أئذا كنا عظاما " أي صرنا عظاما " ورفاتا " أي ترابا " أئنا لمبعوثون " أي لمحيون في الآخرة " خلقا جديدا " والإختلاف في قوله " أئنا " في القرآن مثل ما ذكرنا في الرعد(2/314)
315
سورة الإسراء 50 - 53
قال الله تعالى " قل كونوا حجارة أو حديدا " اللفظ لفظ الأمر ومعناه معنى الخبر يعني لو كنتم من الحجارة أو من الحديد " أو خلقا مما يكبر في صدوركم " قال مجاهد معناه حجارة أو حديدا أو ما شئتم فكونوا فسيعيدكم الله الذي فطركم أول مرة كما كنتم ويقال " أو خلقا مما يكبر في صدوركم " يعني السماء والأرض والجبال وقال الكلبي معناه لو كنتم الموت لأماتكم الله وعن الحسن وسعيد بن جبير وعكرمة قالوا " أو خلقا مما يكبر في صدوركم " يعني الموت فيبعثكم كما خلقكم أول مرة قالوا لو كنا من الحجارة أو من حديد أو من الموت فمن يعيدنا وهو قوله تعالى " فسيقولون من يعيدنا قل " يا محمد فسيعيدكم الله " الذي فطركم " أي خلقكم " أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم " يهزون إليك رؤوسهم تعجبا من قولك وقال القتبي يعني يحركونها إستهزاء بقولك وقال الزجاج أي سيحركون رؤوسهم تحريك من يستثقله ويستبطئه
" ويقولون متى هو " يعنون البعث " قل عسى أن يكون قريبا " وكل ما هو آت فهو قريب و " عسى " من الله واجب قالوا يا محمد فمتى هذا القريب فنزل " يوم يدعوكم " يعني إسرافيل وهي النفخة الأخيرة " فتستجيبون بحمده " يقول تخرجون من قبوركم بأمره وتقصدون نحو الداعي وقال مقاتل يوم يدعوكم من قبوركم فتستجيبون للداعي بأمره وذلك أن إسرافيل يقوم على صخرة بيت المقدس يدعو أهل القبور في قرن أيتها العظام البالية واللحوم المتفرقة والعروق المتقطعة أخرجوا من قبوركم فيخرجون من قبورهم
ثم قال " وتظنون إن لبثتم " في القبور " إلا قليلا " أي ما لبثتم في القبور إلا يسيرا قال الكلبي وذلك أنه يرفع عنهم العذاب ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة فينسون العذاب فيظنون أنهم لم يلبثوا في قبورهم إلا يسيرا وروي ذلك عن إبن عباس وهذا أصح ما قيل فيه لأن بعض المبتدعين قالوا إذا وضع الميت في قبره لا يكون عليه العذاب إلى وقت البعث فيظنون أنهم مكثوا في القبر قليلا
قوله عز وجل " وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن " قال إبن عباس كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذيهم المشركون بمكة بالقول فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل " وقل لعبادي " أي المسلمين " يقولوا التي هي أحسن " أي يجيبوا بجواب حسن برد السلام بلا(2/315)
316
فحش وهذا كقوله " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " [ الفرقان : 63 ] ويقال نزلت الآية في شأن أبي بكر سبه رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر الله بالكف عنه ويقال نزلت في شأن عمر كان بينه وبين كافر كلام
ثم قال تعالى " إن الشيطان ينزع بينهم " أي يوسوس ويوقع بينهم العداء لعنه الله ليفسد أمرهم " إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا " أي ظاهر العداوة وهذا كقوله " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا [ فاطر : 6 ]
سورة الإسراء : 54 - 57
ثم قال عز وجل " ربكم أعلم بكم " أي أعلم بأحوالكم وما أنتم فيه من أذى المشركين " إن يشأ يرحمكم " فينجيكم من أهل مكة إذا صبرتم على ذلك " أو إن يشأ يعذبكم " فيسلطهم عليكم إذا جزعتم ولم تصبروا " وما أرسلناك عليهم وكيلا " يعني مسلطا وهذا قبل أن يؤمر بالقتال ويقال " وما أرسلناك عليهم وكيلا " أي ليست المشيئة إليك في الهدى والضلالة
وقال " وربك أعلم بمن في السموات والأرض " أي ربك عالم بأهل السموات وأهل الأرض وهو أعلم بصلاح كل واحد منهم
قوله عز وجل " ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض " منهم من فضل الله بالكلام وهو موسى ومنهم من إتخذه خليلا وهو إبراهيم عليه السلام ومنهم من رفعه مكانا عليا وهو إدريس ومنهم من إصطفاه وهو محمد صلى الله عليه وسلم " وآتينا داود زبورا " أي كتابا قال مقاتل الزبور مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا فريضة إنما ثناء على الله عز وجل قرأ حمزة " زبورا " بضم الزاي وقرأ الباقون بالنصب وهما لغتان ومعناهما واحد
قوله " قل أدعوا الذين زعمتم من دونه " قال إبن عباس إن ناسا من خزاعة كانوا يعبدون الجن وهم يرون أنهم هم الملائكة فقال الله تعالى " قل أدعوا الذين زعمتم من دونه " أي تعبدون من دون الله " فلا يملكون " لا يقدرون " كشف الضر عنكم " يقول صرف السوء عنكم من الأمراض والبلاء إذا نزل بكم " ولا تحويلا " يقول ولا تحويله إلى غيره ما هو أهون منه ويقال ولا يحولونه إلى غيرهم " أولئك " يعني الملائكة " الذين يدعون " أي يعبدونهم ويدعونهم آلهة قرأ إبن مسعود " تدعون " بالتاء على معنى(2/316)
317
المخاطبة " يبتغون إلى ربهم الوسيلة " يقول يطلبون إلى ربهم القربة والفضيلة والكرامة بالأعمال الصالحة " أيهم أقرب " أكرم على الله تعالى وأقرب في الفضيلة والكرامة " ويرجون رحمته " أي جنته " ويخافون عذابه " أي ناره " إن عذاب ربك كان محذورا " يعني لم يكن لأحد أمان من عذاب الله تعالى ويقال " محذورا " يعني ينبغي أن يحذر منه
وروى الأعمش عن إبراهيم عن عبد الله بن مسعود أنه قال كان ناس من الإنس يعبدون قوما من الجن فأسلم الجن وبقي الإنس على كفرهم فأنزل الله " أولئك الذين يدعون " أي الجن " يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب " وروى السدي عن أبي صالح عن إبن عباس أنه قال " أولئك الذين يدعون " عيسى وعزيرا والملائكة وما عبد من دون الله وهو لله مطيع
سورة الإسراء 58 - 60
قوله عز وجل " وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة " قال إبن عباس يعني نميت أهلها " أو معذبوها عذابا شديدا " يعني بالسيف والزلازل والأمراض والخوف والغرق والحرق " كان ذلك في الكتاب مسطورا " أي في الذكر الذي عند الله وقال مجاهد " مهلكوها " أي مبيدوها أو معذبوها بالقتل والبلاء ما كان من قرية في الأرض إلا سيصيبها بعض ذلك روى حماد بن سلمة عن أبي العلاء عن مكحول أنه قال أول أرض تصير خرابا أرض أرمينية وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال أول أرض تصير خرابا أرض الشام وروى إبن سيرين عن إبن عمر أنه قال البصرة أسرع الأرضين خرابا وأخبثهم ترابا عن علي بن أبي طالب أنه قال أكثروا الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه فكأني برجل من الحبشة حمش الساقين يهدمها حجرا حجرا
ثم قال تعالى " وما منعنا أن نرسل بالآيات " وذلك أن قريشا طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية فنزل " وما منعنا " أي ليس أحد يمنعنا أن نرسل الآيات عندما سألوها " إلا أن كذب بها الأولون " يعني تكذيب الأولين حين أتتهم الآيات فلم يؤمنوا فأتاهم العذاب
قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا أبو العباس بن السراج قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال حدثنا جرير عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن(2/317)
318
سعيد بن جبير عن إبن عباس قال سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الصفا لهم ذهبا وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعونها فقيل له إن شئت أن تستأني بهم لعلنا نتخير منهم وإن شئت أن نريهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما هلك من كان قبلهم فقال بل أستأني بهم فنزل " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون "
ثم قال " وآتينا ثمود الناقة مبصرة " أي معاينة يبصرونها ويقال علامة لنبوته " فظلموا بها " أي جحدوا بها فعقروها فعذبوا فقال الله تعالى " وما نرسل بالآيات إلا تخويفا " لهم ليؤمنوا فإن أبوا أتاهم العذاب
قوله عز وجل " وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس " قال الكلبي أحاط علمه بالناس ويقال هم في قبضته أي قادر عليهم وقال قتادة يعني يمنعك من الناس حتى تبلغ رسالات الله وقال السدي معناه إن ربك مظهرك على الناس
قال عز وجل " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس " قال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا محمد بن إبراهيم بن أحمد الدبيلي قال حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن إبن عباس قال في قوله " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس " قال هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به " والشجرة الملعونة في القرآن " أي ذكر الشجرة الملعونة في القرآن فتنة لهم يعني بلية لهم وذلك أن المشركين قالوا يخبرنا هذا أن في النار شجرة والنار تأكل الشجرة فصار ذلك فتنة لهم يعني بلية لهم
ويقال لما نزل " إن شجرة الزقوم طعام الأثيم " قالوا هي التمر والزبد فرجع أبو جهل إلى منزله فقال لجاريته زقمينا وأمرها أن تأتي بالتمر والزبد فخرج به إلى الناس وقال كلوا فإن محمدا يخوفكم بهذا فصار ذكر الشجرة فتنة لهم ثم يخوفهم بذكر شجرة الزقوم فذلك قوله " ونخوفهم " " فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا " يعني تماديا في المعصية قال الكلبي قوله " والشجرة " قال هي شجرة الزقوم ثم قال هي ليلة أسري به صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس فنشر له الأنبياء كلهم فصلى بهم ثم صلى الغداة بمكة فكذبوه فذلك قوله " فتنة للناس " حين كذبه أهل مكة وقال عكرمة أما إنها رؤيا عين يقظة ليست برؤيا منام وقال سعيد بن المسيب أري النبي صلى الله عليه وسلم بني أمية على المنابر فساءه ذلك فقيل له إنما هي دنيا يعطونها فقرت عينه فنزل " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة لنا " يعني بني أمية
سورة الإسراء 61
ثم قال تعالى " وإذ قلنا للملائكة إسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا " فتعظم عن السجود لآدم(2/318)
319
سورة الإسراء 62 - 64
وقال " قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي " الآية وفيها مضمر معناه فلعنه الله فقال إبليس أرأيتك هذا الذي لعنتني لأجله وفضلته علي " لئن أخرتن إلى يوم القيامة " يعني لئن أجلتني إلى يوم البعث قرأ إبن كثير وأبو عمرو ونافع " لئن أخرتني " بالياء عند الوصل وقرأ الباقون بغير ياء لأن الكسرة تقوم مقامه ثم قال " لأحتنكن ذريته " أي لأستزلن ذريته يقول أطلب زلتهم وقال القتبي " لأحتنكن " أي لأستأصلن يقال إحتنك الجراد ما على الأرض إذا أكله كله ويقال هو من حنك الدابة يحنكها حنكا إذا شد في حنكها الأسفل حبلا يقودها به أي لأقودنهم حيث شئت " إلا قليلا " يعني الأنبياء والمخلصين لله ويقال إلا من عصمته مني
قوله عز وجل " قال إذهب فمن تبعك " أي من أطاعك " منهم فإن جهنم جزاؤكم " يعني نصيبكم من العذاب في النار " جزاء موفورا " أي نصيبا " موفورا " أي وافرا لا يفتر عنهم
ثم قال " واستفزز " يقول إستزل " من استطعت منهم بصوتك " يقول بدعائك ووسوستك ويقال بأصوات الغناء والمزامير " وأجلب عليهم بخيلك ورجلك " يعني إستعن عليهم بأعوانك من مردة الشياطين الذين يوسوسون للناس ويقال خيل المشركين ورجالهم وكل خيل تسعى في معصية الله تعالى فهي من خيل إبليس قرأ عاصم في رواية حفص " ورجلك " بنصب الراء وكسر الجيم فدل الواحد على الجنس وقرأ الباقون بجزم الجيم وهو جمع الراجل
" وشاركهم في الأموال " أي ما أكل من الأموال بغير طاعة الله تعالى وهو ما جمع من الحرام ويقال " وشاركهم في الأموال " وهو ما جعلوا من الحرث والأنعام نصيبا لآلهتهم ويقال كل طعام لم يذكر إسم الله عليه فللشيطان فيه شركة
قال الفقيه رضي الله عنه حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا سفيان بن يحيى قال حدثنا أبو مطيع عن الربيع بن زيد عن أبي محمد وهو رجل من أصحاب أنس قال قال إبليس لربه يا رب جعلت لبني آدم بيوتا فما بيتي قال الحمام قال وجعلت لهم مجلسا فما مجلسي قال السوق قال وجعلت لهم قرآنا فما قرآني قال(2/319)
320
الشعر قال وجعلت لهم حديثا فما حديثي قال الكذب قال وجعلت لهم أذانا فما أذاني قال المزامير قال وجعلت لهم رسلا فما رسلي قال الكهنة قال وجعلت لهم كتابا فما كتابي قال الوشم قال وجعلت لهم طعاما فما طعامي قال ما لم يذكر إسم الله عليه قال وجعلت لهم شرابا فما شرابي قال كل مسكر قال وجعلت لهم مصايد فما مصايدي قال النساء
ثم قال " وشاركهم في الأموال " أي كل نفقة في معصية الله تعالى " والأولاد " أي أولاد الزنى فهذا قول مجاهد وسعيد بن جبير ويقال هو ما سموا أولادهم عبد العزى وعبد الحارث ويقال كل معصية بسبب الولد ويقال إذا جامع الرجل أهله ولم يذكر إسم الله فيه جامع معه الشيطان ويقال المرأة النائحة والسكرانة يجامعها الشيطان فيكون له شركة في الولد قال الفقيه أبو الليث هذا الكلام مجاز لا على وجه الحقيقة إنما يراد به المثل
ثم قال " وعدهم " أي منهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث " وما يعدهم الشيطان إلا غرورا " أي باطلا
سورة الإسراء 65 - 69
قوله تعالى " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " أي حجة ويقال نفاذ الأمر " وكفى بربك وكيلا " أي كفيلا على ما قال ويقال حفيظا لهم وقال أبو العالية قوله " إن عبادي " الذين لا يطيعونك
ثم ذكر الدلائل والنعم ليطيعوه ولا يطيعوا الشيطان ثم قال " ربكم الذي يزجي لكم الفلك " أي يسير لكم الفلك " في البحر لتبتغوا من فضله " أي من رزقه " إنه كان بكم رحيما " يعني إن ربكم رحيم بكم
ثم قال " وإذا مسكم الضر في البحر " يقول إذا أصابكم الخوف وأهوال البحر " ضل من تدعون إلا إياه " أي بطل من تدعون من الآلهة وتخلصون بالدعاء لله تعالى " فلما نجاكم إلى البر " يعني من أهوال البحر " أعرضتم " أي تركتم الدعاء والتضرع ورجعتم إلى عبادة الأوثان " وكان الإنسان كفورا " أي كافرا " كفورا " بأنعم الله(2/320)
321
قوله تعالى " أفأمنتم " يعني إن عصيتموه " أن يخسف بكم " أي يغور بكم " جانب البر " إلى الأرض السفلى وقال مقاتل يعني ناحية من البر " أو يرسل عليكم حاصبا " أي حجارة من فوقكم كما أرسل على قوم لوط " ثم لا تجدوا لكم وكيلا " أي مانعا يمنعكم
قوله تعالى " أم أمنتم أن يعيدكم فيه " أي البحر " تارة أخرى " يعني مرة أخرى " فيرسل عليكم قاصفا من الريح " أي ريحا شديدا " فيغرقكم بما كفرتم " بالله وبنعمه " ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا " أي من يتبعنا ويطالبنا بدمائكم كقوله " فإتباع بالمعروف " [ البقرة : 178 ] أي مطالبة حسنة ويقال يعني ثائرا ولا ناصرا ينتقم لكم مني قرأ إبن كثير وأبو عمرو " أن نخسف بكم " " أو نرسل " " أن نعيدكم فنرسل عليكم فنغرقكم " هذه الخمسة كلها بالنون وقرأ الباقون كلها بالياء
سورة الإسراء : 70 - 72
ثم قال تعالى " ولقد كرمنا بني آدم " بعقولهم وقال الضحاك " كرمنا بني آدم " بالعقل والتمييز ويقال إن الله تعالى خلق نبات الأرض والأشجار وجعل فيها الروح لأنه ينمو ويزداد بنفسه ما دام فيه الروح فإذا يبس خرج منه الروح وانقطع نماؤه وزيادته وخلق الدواب وجعل لهن زيادة روح تطلب بها رزقها وتسمع منه الصوت وخلق بني آدم وجعل لهم زيادة روح يعقلون بها ويميزون ويعلمون وخلق الأنبياء وجعل لهم زيادة روح يبصرون بها الملائكة ويأخذون بها الوحي ويعرفون أمر الآخرة
ثم قال " وحملناهم في البر والبحر " أي " حملناهم في البر " على الرطوبة أي على ظهر الدواب وفي البحر على اليبوسة وهي السفن " ورزقناهم من الطيبات " أي الحلال ويقال من نبات الحبوب والفواكه والعسل وجعل رزق البهائم التبن والشوك " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " يعني على الجن والشياطين والبهائم وروي عن إبن عباس أنه قال فضلوا على الخلائق كلهم غير طائفة من الملائكة جبريل وميكاييل وإسرافيل وأشباههم منهم وروي عن أبي هريرة أنه قال المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده
قوله عز وجل " يوم ندعو كل أناس بإمامهم " أي بكتابهم ويقال بداعيهم الذي دعاهم في الدنيا إلى ضلالة أو هدى يدعى إمامهم قبلهم وقال أبو العالية " بإمامهم " أي(2/321)
322
بأعمالهم وقال مجاهد بنبيهم وقال الحسن بكتابهم الذي فيه أعمالهم " فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم " أي يقرؤون حسناتهم ويعطون ثواب حسناتهم " ولا يظلمون فتيلا " يعني لا يمنعون من ثواب أعمالهم مقدار الفتيل وهو ما فتلته من الوسخ بين أصبعيك
ثم قال الله تعالى " ومن كان في هذه أعمى " أي من كان في هذه النعم أعمى يعني لم يعلم أنها من الله " فهو في الآخرة أعمى " عن حجته " وأضل سبيلا " يعني أضل عن حجته قال مجاهد " من كان في هذه الدنيا أعمى " عن الحجة فهو في الآخرة أعمى عن الحجة " وأضل سبيلا " أي أخطأ طريقا وقال قتادة " من كان في هذه الدنيا أعمى " عما عاين من نعم الله وخلقه ومن عجائب الله فهو في الآخرة التي هي غائبة عنه ولم يرها أعمى
وقال مقاتل فيه تقديم ومعناه " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " ومن كان عن هذه النعم أعمى فهو عما غاب عنه من أمر الآخرة أعمى وقال الزجاج معناه إذا عمي في الدنيا وقد تبين له الهدى وجعل إليه التوبة وضله عن رشده فهو في الآخرة لا يجد متابا ولا مخلصا مما هو فيه فهو أشد عمى وأضل سبيلا أي أضل طريقا لأنه لا يجد طريقا إلى الهداية فقد حصل على عمله وذكر عن الفراء أنه قال تأويله من كان في هذه النعم التي ذكرتها أعمى لا يعرف فضلها ولا يشكر عليها وهي محسوسة " فهو في الآخرة أعمى " يعني أشد شكا في الذي هو غائب عنه في الآخرة من الثواب والعقاب
سورة الإسراء 73
ثم قال تعالى " وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك " أي وقد كادوا ليصرفونك عن الذي أوحينا إليك إن قدروا على ذلك وذلك أن ثقيفا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا نحن أخوالك وأصهارك وجيرانك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا تريدون قالوا نريد أن نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال فقال صلى الله عليه وسلم وما هن قالوا لا ننحني في الصلاة ولا نكسر أصنامنا بأيدينا وأن تمتعنا بالأصنام سنة أي بطاعة الأصنام سنة فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم أما قولكم لا ننحني في الصلاة فإنه لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود قالوا فإنا نفعل ذلك وإن كان فيه دناءة وأما قولكم إنا لا نكسر أصنامنا بأيدينا فإنا سنأمر بكسرها قالوا فتمتعنا باللات فقال فإني غير ممتعكم بها سنة قالوا يا رسول الله فإنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكره أن يقول لا مخافة أن يأبوا الإسلام فنزل " وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره "
وقال السدي إن قريشا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إنك ترفض آلهتنا كل الرفض فلو أنك تأتيها فتمسها أو تبعث بعض ولدك
فيمسها كان أرق لقلوبنا وأحرى أن نتبعك فأراد أن يبعث ابنه(2/322)
323
الطاهر فيمسح فنهاه الله تعالى عن ذلك ونزل " وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك " وروى أبو معشر عن أصحابه منهم القرظي قال لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النجم فبلغ " أفرءيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى " [ النجم : 20 ] جرى على لسانه تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن ترتجى فلما بلغ السجدة سجد فسجد معه المشركون ثم جاء جبريل فقال ما جئتك بهذا فنزل " وإن كادوا ليفتنونك " إلى قوله " وإذا لاتخذوك خليلا " فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم مغموما حتى نزل " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " إلى قوله " ألقى الشيطان في أمنيته " الآية
وروى سعيد بن جبير عن قتادة قال ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه ويسودونه ويقاربونه وكان في قولهم أن قالوا يا محمد إنك تأتي بشيء لم يأت به أحد من الناس وأنت سيدنا وإبن سيدنا فما زالوا يكلمونه حتى كاد أن يقاربهم ولا أن الله تعالى منعه وعصمه عن ذلك فقال تعالى " ولولا أن ثبتناك " [ الإسراء : 74 ] الآية وذلك قوله " وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك " في القرآن " لتفتري علينا غيره " يعني لتقول وتفعل غير الذي أمرتك في القرآن " وإذا لاتخذوك خليلا " أي صفيا وصديقا ويقال إن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أطرد عن مجلسك سقاط الناس ومواليهم حتى نجلس معك فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك فنزل " وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك " من تقريب المسلمين " وإذا لاتخذوك خليلا " لو فعلت ما طلبوا منك
سورة الإسراء : 74 - 76
ثم قال " ولولا أن ثبتناك " يقول عصمناك ويقال حفظناك " لقد كدت تركن إليهم " أي هممت أن تميل إليهم " شيئا قليلا " وتعطي أمنيتهم شيئا قليلا " إذا لأذقناك ضعف الحياة " أي عذاب الدنيا " وضعف الممات " أي عذاب الآخرة وهذا قول إبن عباس وروى إبن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال " ضعف الحياة " عذابها أي عذاب الدنيا " وضعف الممات " أي عذاب الآخرة وهذا مثل الأول ويقال " ضعف الممات " أي عذاب القبر ويقال هذا وعيد للنبي صلى الله عليه وسلم أي لو فعلت ذلك يضاعف لك العذاب على عذاب غيرك كما قال تعالى " يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب(2/323)
324
ضعفين ) [ الأحزاب : 30 ] لأن درجة النبي صلى الله عليه وسلم ودرجة من وصفهم فوق درجة غيرهم فجعل لهم العذاب أشد وروي عن مالك بن دينار أنه قال سألت أبا الشعثاء عن قوله " ضعف الحياة وضعف الممات " فقال ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة
ثم قال " ثم لا تجد لك علينا نصيرا " يقول مانعا يمنعك من ذلك ويقال مانعا يمنع منك العذاب " وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها " أي ليستزلونك وليخرجونك من أرض مكة " وإذا لا يلبثون خلافك " أي بعدك " إلا قليلا " فيهلكهم الله تعالى
وروى عبد الرزاق عن معمر قال قد فعلوا ذلك فأهلكهم الله تعالى يوم بدر ولم يلبثوا بعده إلا قليلا وقال مقاتل " وإن كادوا ليستفزونك من الأرض " يعني من أرض المدينة نزلت الآية في حيي بن أخطب وغيره من اليهود حين دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة حسدوه وقالوا إنك لتعلم أن هذه ليست من أرض الأنبياء إنما أرض الأنبياء الشام فإن كنت نبيا فاخرج منها فخرج فنزل " وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها " أي من أرض المدينة إلى الشام " وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا " وأمر بالرجوع إلى المدينة
سورة الإسراء : 77 - 78
ثم قال تعالى " سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا " أي هكذا سنتي فيمن قد مضى أن أهلك من عصوا الرسول ولم يتبعوه ولا أهلكهم ونبيهم بين أظهرهم فإذا خرج نبيهم من بين أظهرهم عذبهم " ولا تجد لسنتنا تحويلا " يعني تغييرا أو تبديلا قرأ حمزة والكسائي وإبن عامر وعاصم في رواية حفص " لا يلبثون خلافك " وقرأ الباقون " خلفك " ومعناهما قريب أي بعدك
ثم قال عز وجل " أقم الصلاة لدلوك الشمس " أي بعد زوالها الظهر والعصر " إلى غسق الليل " أي إلى دخول الليل وهو المغرب والعشاء وروى سالم عن إبن عمر أنه قال دلوكها زيغها بعد نصف النهار وقال قتادة دلوكها زيغها عن كبد السماء وروى إبن طاوس عن أبيه أنه قال دلوكها غروبها وروى معمر عن الشعبي عن إبن عباس أنه قال " لدلوك الشمس " حين تزول الشمس وروى مجاهد عن إبن عباس أنه قال دلوكها غروبها وكذا قال إبن مسعود وقال القتبي إلى غسق الليل والغسق ظلامه
ثم قال " وقرآن الفجر " أي صلاة الغداة وإنما سميت صلاة الغداة قرآنا لأن القراءة فيها أكثر وأطول ويقال لأنه يقرأ في كلتا الركعتين وفي كلتا الركعتين القراءة فريضة " إن قرآن الفجر كان مشهودا " أي صلاة الغداة مشهودة يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار(2/324)
325
ويقال " كان " أي صار يعني صار مشهودا لأن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الغداة فينزل ملائكة النهار والقوم في صلاة الغداة قبل أن تعرج ملائكة الليل فإذا فرغ الإمام من صلاته عرجت ملائكة الليل فيقولون ربنا إنا تركنا عبادك وهم يصلون ويقول الآخرون ربنا أدركنا عبادك وهم يصلون " وقرآن الفجر " صار نصبا لأن معناه أقم قرآن الفجر ويقال صار نصبا على وجه الإغراء أي عليك بقرآن الفجر
سورة الإسراء 79 - 81
ثم قال تعالى " ومن الليل فتهجد به نافلة لك " يعني قم بالليل بعد النوم والتهجد القيام بعد النوم روى شهر بن حوشب عن أبي أمامة أنه قال كانت النافلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وقال مجاهد لم تكن النافلة إلا للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ويقال " نافلة لك " أي فضلا لك ويقال خاصة لك " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " قال مقاتل يعني إن الشفاعة لأصحاب الأعراف يحمده الخلق كلهم ويقال إخراج قوم من النار
قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا محمد بن معاوية الأنماطي قال حدثنا الحسن بن الحسين عن عطية العوفي قال حدثنا أبو حنيفة عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " قال يخرج الله أقواما من النار من أهل الإيمان بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فذلك المقام المحمود فيؤتى بهم نهرا يقال له الحيوان فيلقون فيه فينبتون كما ينبت التقارير ثم يخرجون فيدخلون الجنة فيسمون فيها الجهنميون ثم يطلبون إلى الله تعالى أن يذهب عنهم هذا الإسم فيذهب به عنهم
وروي عن حذيفة بن اليمان أنه قال يجتمع الأولون والآخرون يوم القيامة في صعيد واحد ينفذهم البصر ويسمعهم المنادي فيقول يا محمد فيقول لبيك وسعديك والخير بيديك وهو المقام المحمود ويغبطه به الأولون والآخرون
ثم قال تعالى " وقل رب أدخلني مدخل صدق " أي قال هذا حين أمره الله بالرجوع إلى المدينة أي أدخلني في المدينة إدخال صدق " وأخرجني مخرج صدق " يعني من المدينة إلى مكة إخراج صدق ويقال " أدخلني " في الدين " مدخل صدق " أي ثبتني على(2/325)
326
الدين " وأخرجني " أي احفظني من الكفر ويقال أخرجني من الدنيا إخراج صدق وأدخلني في الجنة ويقال أدخلني بعز وشرف وإظهار الإسلام ويقال أدخلني في القبر مدخل صدق وأخرجني من القبر مخرج صدق وقال مجاهد أدخلني في النبوة والرسالة مدخل صدق الجنة وقال السدي أدخلني المدينة وأخرجني من مكة وعن أبي صالح أدخلني في الإسلام وارفعني في الإسلام " واجعل لي من لدنك " أي من عندك " سلطانا نصيرا " أي ملكا مانعا لا زوال فيه ولا يرد قولي ويقال حجة ثابتة ظاهرة
قوله عز وجل " وقل جاء الحق " ظهر الإسلام والقرآن " وزهق الباطل " يقول وهلك الشرك وأهله " إن الباطل كان زهوقا " يعني إن الشرك كان هالكا لم يكن له قرار ولا دوام روي عن عبد الله بن الشخير عن عبد الله بن مسعود قال دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده ويقول " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " [ الإسراء : 81 ] " جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد " وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك والصنم ينكب لوجهه
سورة الإسراء 82 - 84
ثم قال تعالى " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " أي بيان من العمى ويقال شفاء للبدن إذا قرىء على المريض يبرأ أو يهون عليه " ورحمة للمؤمنين " أي ونعمة من العذاب لمن آمن بالقرآن " ولا يزيد الظالمين " أي المشركين ما نزل من القرآن " إلا خسارا " أي تخسيرا وغبنا
قوله عز وجل " وإذا أنعمنا على الإنسان " أي إذا وسعنا على الكافر الرزق ورفعنا عنه العذاب في الدنيا " أعرض " عن الدعاء ويقال النعمة هي إرسال محمد صلى الله عليه وسلم أعرض عنه الكافر " ونأى بجانبه " يعني تباعد عن الإيمان فلم يقربه قرأ إبن عامر " وناء " بمد الألف على وزن باع وقرأ أبو عمرو بنصب النون وكسر الألف وقرأ حمزة والكسائي بكسر النون والألف وقرأ الباقون بنصب النون " وإذا مسه الشر كان يؤوسا " يعني إذا أصابه الفقر في معيشته والسقم في الجسم كان آيسا من رحمة الله
ثم قال تعالى " قل كل يعمل على شاكلته " قال القتبي أي على خليقته وطبيعته وهو من الشكل وقال الحسن " على شاكلته " أي على نيته وكذلك قال معاوية بن قرة وقال الكلبي على ناحيته ومنهاجه وحديثه وأمره الذي هو عليه " فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا " أي بمن هو أصوب دينا ويقال هو عالم بمن هو على الحق(2/326)
327
سورة الإسراء 85
قوله عز وجل " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " أي لا علم لي فيه وقال مجاهد الروح خلق من خلق الله تعالى له أيد وأرجل وقال مقاتل الروح ملك عظيم على صورة الإنسان أعظم من كل مخلوق وروى معمر عن قتادة والحسن أنهما قالا هو جبريل وقال قتادة كان إبن عباس يكتمه أي يجعله من المكتوم الذي لا يفسر
وروى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن إبن مسعود قال كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بقوم من اليهود فقال بعضهم سلوه عن الروح وقال بعضهم لا تسألوه فقالوا يا محمد ما الروح فقام متوكئا على عسيب فظننت أنه يوحى إليه فقال " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " فقال بعضهم لبعض قد قلنا لكم لا تسألوه
ويقال الروح القرآن كقوله " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا " [ الشورى : 7 ] وروي بعض الرواة عن إبن عباس قال الروح ملك له مائة ألف جناح كل جناح لو فتحه يأخذ ما بين المشرق والمغرب ويقال إن جميع الملائكة تكون صفا واحدا والروح وحده يكون صفا واحدا كقوله " يوم يقوم الروح والملائكة صفا " [ النبأ : 38 ] ويقال معناه " يسألونك عن الروح " الذي هو في الجسد كيف هو قل " الروح من أمر ربي " ويقال الروح جبريل كقوله " نزل به الروح الأمين " [ الشعراء : 193 ] أي يسألونك عن إتيان جبريل كيف نزوله عليك " قل الروح من أمر ربي " " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " أي ما أعطيتم من العلم مما عند الله إلا قليلا
سورة الإسراء 86 - 88
ثم قال تعالى " ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك " من القرآن من قلبك ويقال " لئن شئنا " لمحوناه من القلوب ومن الكتب حتى لا يوجد له أثر " ثم لا تجد لك به علينا وكيلا " أي لا تجد من تتوكل عليه في رد شيء منه ويقال ثم لا تجد لك مانعا يمنعني من ذلك " إلا رحمة من ربك " يعني لكن الله رحمك فأثبت ذلك في قلبك وقلوب المؤمنين وروى أبو حازم عن أبي هريرة أنه قال سيؤتى على كتاب الله فيرفع إلى السماء فلا تصبح(2/327)
328
على الأرض من آية من القرآن وينزع من قلوب الرجال فيصبحون ولا يدرون ما هو وروي عن ابن مسعود أنه قال يصبح الناس كالبهائم ثم قرأ " ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك " الآية
ثم قال " إن فضله كان عليك كبيرا " أي بالنبوة والإسلام
قوله عز وجل " قل لئن إجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله " أي بمثل هذا القرآن على نظمه وإيجازه ونسقه مع كثير مما ضمن فيه من الأحكام والحدود وفنونها ويقال مثل هذا القرآن من تعريه عن التناقض مع كثرة الأقاصيص والأخبار ويقال " على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله " لأن فيه علم ما كان وعلم ما يكون ولا يعرف ذلك إلا بالوحي ويقال " بمثل هذا القرآن " لأنه كلام منثور لا على وجه الشعر لأن تحت كل كلمة معاني كثيرة " ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " أي معينا
سورة الإسراء 89 - 93
قال تعالى " ولقد صرفنا في هذا القرآن من كل مثل " أي بينا للناس منه من كل لون من الحلال والحرام والأحكام والحدود والوعد والوعيد " فأبى أكثر الناس إلا كفورا " أي ثباتا على الكفر ويقال أبوا عن الشكر " إلا كفورا " أي كفرانا مكان الشكر ويقال لم يقبلوه
قوله عز وجل " وقالوا لن نؤمن لك " أي لن نصدقك وهو عبد الله بن أمية المخزومي وأصحابه قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم " لن نؤمن لك " " حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " أي عيونا قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي " تفجر " بنصب التاء وجزم الفاء وضم الجيم مع التخفيف وقرأ الباقون " تفجر " بضم التاء ونصب الفاء مع التشديد وقال أبو عبيدة هذا أحب إلي لأنهم إتفقوا في الذي بعده ولا فرق بينهما في اللغة فمن قرأ بالتشديد فللتكثير والمبالغة كما يقال قتلوا تقتيلا للمبالغة
ثم قال " أو تكون لك جنة " أي بستان " من نخيل وعنب " أي الكروم " فتفجر الأنهار " أي تشقق الأنهار " خلالها " وسطها " تفجيرا " أي تشقيقا " أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا " أي قطعا قرأ إبن عامر وعاصم ونافع " كسفا " بنصب السين وقرأ(2/328)
329
الباقون بالجزم ومعناهما واحد أي تسقط علينا طبقا واشتقاقه من كسفت الشيء إذا غطيته ومن قرأ بالنصب جعلها جمع كسفة وهي القطعة " أو تأتي بالله والملائكة قبيلا " أي ضمينا وكفيلا والقبيل الكفيل ويقال من المقابلة أي معاينا شهيدا يشهدون لك بأنك نبي الله " أو يكون لك بيت من زخرف " أي من ذهب " أو ترقى في السماء " أي تصعد إلى السماء " ولن نؤمن لرقيك " أي لصعودك " حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه "
روى أسباط عن السدي أنه قال لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جاءه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أمية المخزومي أخو أم سلمة فأبى أن يبايعهما فقالت أم سلمة ما بال أخي يكون أشقى الناس بك يا رسول الله وابن عمك فقال أما إبن عمي فإنه كان يهجونا وأما أخوك فإنه زعم أنه لا يؤمن بي حتى أرقى السماء ولو رقيت إلى السماء لن يؤمن حتى آتيه بكتاب يقرؤه ثم دعاهما فقبل منهما وبايعهما
قال الله تعالى " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " فإني لا أقدر على ما تسألوني قرأ إبن كثير وإبن عامر " قال سبحان " على وجه الحكاية وقرأ الباقون " قل سبحان " على وجه الأمر
سورة الإسراء 94 - 96
قال تعالى " وما منع الناس أن يؤمنوا " يعني أهل مكة " إذ جاءهم الهدى " يعني القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم " إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا " يعني الرسول من الآدميين ومعناه أنه ليست لهم حجة سوى ذلك القول
قال الله تعالى " قل " يا محمد " لو كان في الأرض ملائكة يمشون " أي لو كان سكان الأرض ملائكة يمشون " مطمئنين " أي مقيمين في الأرض " لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا " أي لبعثنا عليهم رسولا من الملائكة وإنما يبعث الملك إلى الملائكة والبشر إلى البشر فلما قال لهم ذلك قالوا له من يشهد لك بأنك رسول الله قال الله تعالى " قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم " بأني رسول الله " إنه كان بعباده خبيرا بصيرا "
سورة الإسراء 97 - 98(2/329)
330
ثم قال تعالى " ومن يهد الله فهو المهتدي " أي من يكرمه الله تعالى بالإسلام ويوفقه فهو على الهدى والصواب قرأ نافع وأبو عمرو " المهتدي " بالياء عند الوصل وقرأ الباقون بغير ياء " ومن يضلل " أي يخذله عن دينه " فلن تجد لهم أولياء من دونه " أي يهدونهم من الضلالة " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم " أي نبعثهم يوم القيامة ونسوقهم منكبين على وجوههم يسحبون عليها " عميا وبكما وصما " عن الهدى ويقال في ذلك الوقت يكونون عميا وبكما وصما كما وصفهم " مأواهم جهنم " أي مصيرهم إلى جهنم " كلما خبت زدناهم سعيرا " يقول كلما سكن لهبها ولم تجد شيئا تأكله " زدناهم سعيرا " أي وقودا وأعيدوا خلقا جديدا قال مقاتل أن النار إذا أكلتهم فلم تبق منهم غير عظام وصاروا فحما سكنت النار فهو الخبو يقال أخبت النار إذا سكن اللهب وإذا بقي في جمرها شيء ويقال خمدت وانطفأت ثم بدلوا جلودا غيرها فتشتعل وتسعر عليهم فذلك قوله تعالى " زدناهم سعيرا " وقال أهل اللغة وإذا لم يبق من جمرها شيء يقال همدت
ثم قال تعالى " ذلك جزاؤهم " أي ذلك العذاب عقوبتهم وجزاء أعمالهم " بأنهم كفروا بآياتنا " أي بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا " أي ترابا " أئنا لمبعوثون خلقا جديدا " بعد الموت
سورة الإسراء 99 - 100
قال الله تعالى " أو لم يروا " يعني أو لم يخبروا في القرآن " أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم " يعني يحييهم بعد الموت " وجعل لهم أجلا لا ريب فيه " يقول لا شك فيه عند المؤمنين أنه كائن " فأبى الظالمون إلا كفورا " أي أبى المشركون عن الإيمان ولم يقبلوا إلا الكفر
ثم قال تعالى " قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي " يقول لو تقدرون على مفاتيح رزق ربي " إذا لأمسكتم " يقول لبخلتم وامتنعتم عن الصدقة " خشية الإنفاق " أي مخافة الفقر " وكان الإنسان قتورا " أي ممسكا بخيلا قال الزجاج هذا جواب لقولهم " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " [ الإسراء : 90 ] وقال بعضهم هذا إبتداء وصف بخلهم
سورة الإسراء 101 - 102(2/330)
331
قوله تعالى " ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات " أي علامات واضحات مضيئات بالحجة عليهم وهاديات إذ جاءهم موسى بالبينات وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن إبن عباس في قوله " تسع آيات بينات " وهي في سورة الأعراف " ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات " [ الأعراف : 130 ] قال السنين لأهل البوادي والنقص من الثمرات لأهل القرى فهاتان آيتان والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وهذه خمس ويد موسى إذ أخرجها بيضاء من غير سوء وعصاه إذ ألقاها فإذا هي ثعبان مبين
قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا أبو موسى محمد بن إسحاق وخزيمة قالا حدثنا علي بن حزم قال حدثنا علي بن يونس عن شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن صفوان بن عسال قال قال يهودي لصاحبه إذهب بنا إلى هذا النبي فنسأله عن هذه الآيات " ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات " فقال لا تقل فإنه لو سمعها صارت له أربعة أعين فأتوه فسألوه فقال ألا تشركوا بالله شيئا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تأكلوا الربا ولا تسح روا ولا تقذفوا محصنا أو قال ولا تفروا يوم الزحف شك شعبة ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله وعليكم خاصة يا معشر اليهود ألا تعدوا في السبت فقبلا يديه ورجليه وقالا نشهد إنك نبي الله ورسوله فقال وما يمنعكما أن تسلما فقالا لأن داو د دعا ربه ألا يزال في ذريته نبي فنخاف أن تقتلنا اليهود
ثم قال تعالى " فاسأل بني إسرائيل " يعني موسى " إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا " أي مغلوب العقل " قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء " الآيات قرأ الكسائي " علمت " بضم التاء يعني علمت أنا ما أنزل هؤلاء الآيات " إلا رب السموات والأرض " يعني إن لم تصدقني فأنا على يقين من ذلك وقرأ الباقون بالنصب يعني إنك تعلم ذلك كما قال في آية أخرى " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم " [ النمل : 14 ] " بصائر " أي علامات لنبوتي " وإني لأظنك " أي لأعلمنك " يا فرعون مثبورا " أي ملعونا هالكا قال الحسن " مثبورا " أي مهلكا وكذا قال قتادة وروى مجاهد عن إبن عباس أنه قال " مثبورا " ملعونا وكذا روي عن الكلبي والضحاك(2/331)
332
سورة الإسراء 103 - 106
وقال " فأراد أن يستفزهم من الأرض " أي يستنزلهم ويخرجهم ويقال أي يستخفهم من الأرض يعني من أرض الأردن وفلسطين ومصر " فأغرقناه ومن معه جميعا وقلنا من بعده لبني إسرائيل " الذين مع موسى " أسكنوا الأرض " أي أنزلوا أرض الأردن وفلسطين ومصر " فإذا جاء وعد الآخرة " أي البعث بعد الموت " جئنا بكم لفيفا " أي جميعا واللفيف الجماعة من كل قبيلة
قوله عز وجل " وبالحق أنزلناه " أي أنزلنا عليك جبريل بالقرآن " وبالحق نزل " أي بالقرآن نزل جبريل ويقال أنزلناه بالحق والحكمة والحجة
ثم قال " وما أرسلناك إلا مبشرا " بالجنة للمؤمنين " ونذيرا " بالنار للكافرين
وقال تعالى " وقرآنا فرقناه " حين أنزلنا به جبريل متفرقا آية بعد آية وسورة بعد سورة " لتقرأه على الناس على مكث " أي على ترسل ومهل ليفهموه ويحفظوه وكان إبن عباس يقرأ " فرقناه " بالتشديد أي بينا فيه الحلال والحرام ويقال أنزلناه متفرقا " ونزلناه تنزيلا " أي بيناه بيانا
سورة الإسراء 107 - 111
قوله تعالى " قل آمنوا به " أي صدقوا بالقرآن " أو لا تؤمنوا " يعني أو لا تصدقوا ومعناه إن صدقتم به أو لم تصدقوا فإنه غني عن إيمانكم وتصديقكم " إن الذين أوتوا العلم من قبله " يعني أعطوا علم كتابهم وهم مؤمنو أهل الكتاب من قبله أي من قبل القرآن " إذا يتلى عليهم " أي يعرض عليهم القرآن عرفوه " يخرون للأذقان " أي يقعون على الوجه " سجدا ويقولون سبحان ربنا " أي تنزيها لربنا وقال الكلبي أي نصلي لربنا " إن كان وعد ربنا لمفعولا " وقد كان وعد ربنا " لمفعولا " أي كائنا مقدورا
وقال تعالى " ويخرون للأذقان " أي يقعون على الوجوه " يبكون ويزيدهم خشوعا "(2/332)
333
أي تواضعا ومذلة " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن " قال الكلبي كان ذكر الرحمن في القرآن قليلا في بدىء ما نزل من القرآن وقد كان أسلم ناس من اليهود منهم عبد الله بن سلام وأصحابه وكان ذكره في التوراة كثيرا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزل " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن " قرأ حمزة والكسائي " قل أدعوا الله أو أدعوا الرحمن " بكسر اللام والواو وقرأ أبو عمرو بكسر اللام وضم الواو وقرأ الباقون بالضم ومعناهما واحد " أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " يعني بأي الإسمين تدعون فهو حسن " فله الأسماء الحسنى " أي له الصفات العلى
قوله عز وجل " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها " وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بمكة وكان يصلي بأصحابه فإذا رفع صوته أذاه المشركون وإذا خفض لا يسمع صوته الذين خلفه فأنزل الله تعالى " ولا تجهر بصلاتك " أي بقراءتك فيؤذيك المشركون " ولا تخافت بها " في جميع الصلوات يعني لا تسر قراءتك فلا يسمع أصحابك قراءتك " وابتغ بين ذلك سبيلا " أي اجهر في بعض الصلوات وخافت في البعض
ثم قال " وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا " قال الكلبي وذلك أنه لما نزل " قل أدعوا الله أو ادعوا الرحمن " قالت كفار قريش كان محمد يدعو إلها واحدا وهو اليوم يدعو إلهين ما نعرف الرحمن إلا مسليمة الكذاب فنزل " ومن الأحزاب من ينكر بعضه " يعني ذكر الرحمن وأمره بأن يقول " الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك " أي لم يتخذ ولدا فيرث ملكه " ولم يكن له شريك في الملك " فيعارضه في عظمته وقال أبو العالية معناه وقل الحمد لله الذي لم يجعلني ممن يتخذ له ولدا ولم يجعلني ممن يقول له شريك في الملك " ولم يكن له ولي من الذل " أي من اليهود والنصارى وهم أذل خليقة الله تعالى يؤدون الجزية وقال مقاتل معناه لم يذل فيحتاج إلى ولي يعينه أي لم يكن له ولي ينتصر به من الذل
" وكبره تكبيرا " أي عظمه تعظيما ولا تقل له شريك وروى إبراهيم بن الحكم عن أبيه أنه قال بلغني أن رجلا أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني رجل كثير الدين كثير الهم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إقرأ آخر سورة بني إسرائيل " قل أدعوا الله أو ادعوا الرحمن " حتى تختمها ثم قل توكلت على الحي الذي لا يموت ثلاث مرات(2/333)
334
سورة الكهف
مكية وهي مائة وعشر آيات
سورة الكهف 1 - 6
قوله تعالى " الحمد لله " يقول الشكر لله والألوهية لله " الذي أنزل على عبده الكتاب " أي أنزل على عبده محمدا صلى الله عليه وسلم القرآن " ولم يجعل له عوجا " أي لم ينزله متناقضا " قيما " بل أنزله مستقيما ويقال في الآية تقديم ومعناه الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما أي مستقيما " ولم يجعل له عوجا " أي لم ينزله مخالفا للتوراة والإنجيل قال أهل اللغة " عوجا " بكسر العين في الأقوال وبنصب العين في الأشخاص ويقال في كلامه عوج وفي هذه الخشبة عوج " لينذر بأسا شديدا " أي لينذركم ببأس شديد كما قال " يخوف أولياءه " [ آل عمران : 175 ] أي بأوليائه وهذا قول القتبي وقال الزجاج أي لينذرهم بالعذاب البئيس " من لدنه " أي من قبله ويقال " لينذر بأسا شديدا " أي يخوفهم بالعذاب الشديد بما في القرآن " من لدنه " أي من عنده قرأ عاصم في رواية أبي بكر " من لدنه " بجزم الدال وقرأ الباقون بالضم ومعناهما واحد " ويبشر المؤمنين " بالجنة
ثم وصف المؤمنين فقال " الذين يعملون الصالحات " فيما بينهم وبين ربهم ثم بين الذي يبشرهم به فقال " أن لهم أجرا حسنا " في الجنة " ماكثين فيه أبدا " أي مقيمين في الثواب والنعيم خالدا مخلدا و " ماكثين " منصوب على الحال في معنى خالدين
" وينذر الذين قالوا " أي يخوف بالقرآن الذين قالوا " اتخذ الله ولدا " وهم المشركون والنصارى " ما لهم به من علم " أي ليس لهم بذلك القول بيان ولا حجة " ولا لآبائهم " أي ولا حجة لآبائهم الذين مضوا فأخبر أنهم أخذوا دينهم من آبائهم بالتقليد لا بالحجة والبيان لأنهم قالوا كان آباؤنا على هذا " كبرت كلمة " أي عظمت الكلمة قرأ الحسن(2/334)
335
بالضم ومعناه عظمت كلمة وهي قولهم " اتخذ الله ولدا " [ البقرة : 116 ] " كلمة " " تخرج من أفواههم " فصارت نصبا بالتفسير " إن يقولون إلا كذبا " أي ما يقولون إلا كذبا
وقال " فلعلك باخع نفسك " أي قاتل نفسك أسفا وحزنا " على آثارهم " أي على أعمالهم " إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا " أي بهذا القرآن أسفا والأسف المبالغة في الحزن والغضب وهو منصوب لأنه مصدر في موضع الحال
سورة الكهف 7 - 10
قال تعالى " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها " أي ما على وجه الأرض من الرجال زينة لها أي للأرض ويقال جعلنا ما على الأرض من النبات والأشجار والأنهار زينة لها أي للأرض " لنبلوهم " أي لنختبرهم " أيهم أحسن عملا " أي أخلص ويقال أيهم أخلص في الزهد في الدنيا وأترك لها " وإنا لجاعلون ما عليها " أي ما على الأرض في الآخرة من شيء من الزهرة " صعيدا جرزا " أي ترابا أملس لا نبات فيه وقال القتبي الصعيد المستوي قال ويقال وجه الأرض ومنه يقال للتراب صعيد لأنه وجه الأرض والجرز الذي لا نبات فيه يقال أرض جرز وسنة جرز إذا كان فيه جدوبة
قوله تعالى " أم حسبت أن أصحاب الكهف " أي غار في الجبل " والرقيم " الكتاب وقال قتادة دراهمهم وقال عكرمة عن إبن عباس قال كل القرآن أعلمه إلا أربعة غسلين وحنان والأواه والرقيم وقال القتبي " الرقيم " لوح كتب فيه خبر أصحاب الكهف ونصب على باب الكهف " والرقيم " الكتاب وهو فعيل بمعنى مفعول ومنه كتاب مرقوم أي مكتوب وقال الزجاج هو اسم الجبل الذي فيه الكهف وقال كعب الأحبار " الرقيم " اسم القرية
روي عن إبن عباس أن قريشا اجتمعوا وكان فيهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي وأبو جهل بن هشام وأمية وأبي أبناء خلف والأسود بن عبد المطلب وسائر قريش فبعثوا منهم خمسة رهط إلى يهود يثرب أي يهود المدينة فسألوهم عن محمد وعن أمره وصفته وأنه خرج من بين أظهرنا ويزعم أنه نبي مرسل واسمه محمد وهو فقير يتيم فلما قدموا المدينة أتوا أحبارهم وعلماءهم فوجدوهم قد إجتمعوا في عيد لهم فسألوهم عنه ووصفوا لهم صفته فقالوا لهم نجده في التوراة كما وصفتموه لنا وهذا زمانه ولكن سلوه عن ثلاث خصال فإن أخبركم بخصلتين ولم يخبركم بالثالثة فاعلموا أنه نبي فاتبعوه فإنا قد سألنا مسيلمة الكذاب عن هؤلاء الخصال فلم يدر ما هن وقد زعمتم أنه يتعلم من مسيلمة(2/335)
336
الكذاب سلوه عن أصحاب الكهف أي قصوا عليه أمرهم وسلوه عن ذي القرنين إن كان ملكا وكان أمره كذا وكذا وسلوه عن الروح فإن أخبركم عن قليل أو كثير فهو كاذب ففرحوا بذلك فلما رجعوا وأخبروا أبا جهل ففرح وأتوه فقال أبو جهل إنا سائلوك عن ثلاث خصال فسألوه عن ذلك فقال لهم إرجعوا غدا أخبركم ولم يقل إن شاء الله فرجعوا ولم ينزل عليه جبريل إلى ثلاثة أيام وفي رواية الكلبي إلى خمسة عشر يوما وفي رواية الضحاك إلى أربعين يوما فجعلت قريش تقول يزعم محمد أنه يخبرنا غدا بما سألناه وقد مضى كذا وكذا يوما فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه جبريل فقال لجبريل لقد علمت ما سألني عنه قومي فلم أبطأت علي فقال أنا عبد مثلك " وما نتنزل إلا بأمر ربك " [ مريم : 64 ] وقال " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله " [ الكهف : 23 - 24 ] وكان المشركون يقولون إن ربه قد ودعه وأبغضه فنزل " ما ودعك ربك وما قلى " [ الضحى : 3 ] ونزل " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم " " كانوا من آياتنا عجبا " فلما قرأ عليهم قالوا هذان ساحران يعني محمدا وموسى عليهما السلام ولم يصدقوه وقوله " عجبا " يقول هم عجب وأمرهم أعجب وغيرهم مما خلقت أعجب منهم الشمس والقمر والجبال والسموات والأرض أعجب منهم
ثم بين أمرهم فقال تعالى " إذ أوى الفتية إلى الكهف " أي صاروا إليه وجعلوه مأواهم والفتية جمع فتى غلام وغلمة وصبي وصبية " فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة " أي ثبتنا على الإسلام " وهيء لنا من أمرنا رشدا " أي هب لنا من أمرنا مخرجا
سورة الكهف 11 - 13
قوله تعالى " فضربنا على آذانهم " أي أنمناهم وألقينا عليهم النوم وقال الزجاج " فضربنا على آذانهم " أي منعناهم أن يسمعوا لأن النائم إذا سمع انتبه " في الكهف سنين عددا " ويراد بذكر العدد التأكيد لأن الكثير يحتاج أن يعد وإنما صار نصبا لأنه مصدر
قال إبن عباس في حديث أصحاب الكهف أنه قال إن مدينة كانت بالروم ظهر عليها ملك من الملوك يقال له دقيانوس غلب على مدينتهم وأرضهم وكانت المدينة تسمى أفسوس فجعل يدعوهم إلى عبادة الأوثان ويقتلهم على ذلك فمن كفر بالله واتبع دينه تركه فهدى الله شابا من أهل تلك المدينة إلى دين الإسلام فجعل يدعوهم سرا حتى تابعه على ذلك سبعة أغلمة ففطن لهم الملك فأرسل إليهم وأخذهم ودفعهم إلى آبائهم يحفظونهم حتى يرسل(2/336)
337
إليهم من يطلبهم من آبائهم فأرسل إليهم فهربوا فقالت آباؤهم والله لقد خرجوا من عندنا بالأمس فما ندري أين هم فمروا بغلام راع ومعه كلب له فدعوه إلى أمرهم فأعجبه ذلك فتابعهم عليه فمضى معهم واتبعه كلبه حتى أتوا غارا أي كهفا فدخلوا فيه ثم أرسلوا بعضهم إلى السوق ليشتري لهم طعاما من السوق فركب الملك والناس معه في طلبهم وهم يسألون عنهم فسمع رسولهم بذلك فعجل أن يشتري لهم كل الذي أرادوا فاشترى بعضه وأتاهم فأخبرهم أن الملك والناس في طلبهم فأكلوا ما أتاهم به ولم يشبعوا ثم ناموا على وجوههم فضرب الله على آذانهم بالنوم سنين عددا
وسار الملك والناس معه حتى انتهوا إلى باب الكهف فوجدوا آثارهم داخلين ولم يجدوا آثارهم خارجين فدخلوا الكهف فأعمى الله عليهم فطلبوهم فلم يجدوا شيئا فقال الملك سدوا عليهم باب الكهف حتى يموتوا فيه فيكون قبرهم إن كانوا فيه ثم انصرف الملك والناس معه فعمد رجلان مسلمان يكتمان إيمانهما إلى لوح من رصاص فكتبا فيه أسماء الفتية وأسماء آبائهم ومدينتهم وأنهم خرجوا فرارا من دقيانوس الملك الكافر فمن ظهر عليهم يعلم بأنهم مسلمون وألزقاه في السد من داخل الكهف
وقال في رواية السدي في قصة أصحاب الكهف كان في المدينة فتية ليس منهم أحد يعرف صاحبه فخرج ملكهم مخرجا له وخرج الفتية ومنهم واحد له كلب وليس منهم أحد إلا وهو يقول في نفسه إن رأيت أحدا استضعفت دعوته إلى الإيمان بالله فلما رجع الناس تخلف الفتية فاجتمعوا على باب المدينة وقد أغلق الباب دونهم فطلبوا أن يدخلوا فلم يفتح لهم فقال بعضهم إني أسر إليكم أمرا فإن تابعتموني عليه رشدتم فقص عليهم أمره فقالوا جميعا نحن على هذا فذلك قوله عز وجل " إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض " الآية فصاروا إلى الكهف فدخلوه ورقدوا فيه ورقد الكلب بفناء الكهف فضرب الله على آذانهم بالنوم فلما فقدهم أهلوهم إنطلقوا إلى الملك فأخبروه فدعا بصخرة فكتب فيها أسماءهم وكتب فيها أنهم هلكوا في زمن كذا ثم ضربها في سور المدينة على الباب وهو الرقيم
وفي رواية وهب بن منبه قال جاء حواري من حواريي عيسى ابن مريم عليهما السلام إلى مدينة أصحاب الكهف فأراد أن يدخلها فقيل له إن على بابها صنما لا يدخلها أحد إلا سجد له فكره أن يدخلها وأتى حماما كان قريبا من تلك المدينة فكان يعمل فيه يعني أنه أجر نفسه من صاحب الحمام فرأى صاحب الحمام في حمامه البركة ودر عليه الرزق واجتمع إليه فتية من أهل المدينة فكان يخبرهم بخبر السماء والأرض وخبر الآخرة حتى آمنوا به وصدقوه وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة فكانوا في ذلك حتى جاء إبن الملك بإمرأة فدخل بها الحمام فماتا في الحمام
جميعا فأتي الملك فقيل له صاحب الحمام قتل إبنك(2/337)
338
فالتمسه فلم يقدر عليه فقال من كان يصحبه فسموا الفتية فالتمسوهم فخرجوا من المدينة فمروا بصاحب لهم في زرع له وكان على مثل أمرهم فذكروا له أنهم التمسوا فانطلق معهم ومعه الكلب حتى آواهم الليل إلى الكهف فدخلوه وقالوا نبيت ها هنا الليلة ثم نصبح إن شاء الله فترون رأيكم فضرب على آذانهم فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم حتى وجدوا آثارهم وقد دخلوا الكهف فلما أراد رجل منهم أن يدخل الكهف أرعب فلم يطق أحد أن يدخل عليهم فقال له قائل ألست لو كنت قدرت عليهم قتلتهم فسد عليهم باب الكهف ودعهم حتى يموتوا عطشا وجوعا ففعل ذلك
ثم أن راعيا إحتاج أن يبني حظيرة لغنمه فهدم ذلك السد وبنى عليه لغنمه فصار باب الكهف مفتوحا وكلما غزا ملك تلك المدينة فظهر عليها أظهر علامته إن كان مسلما أظهر علامة المسلمين وإن كان كافرا أظهر علامة المشركين ثم مات دقيانوس وملك ملك آخر مسلم فأظهر علامة المؤمنين بالمدينة وكان يقال له ستفاد الملك
ثم إن أصحاب الملك استيقظوا بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين فنظر واحد منهم إلى الشمس وقد دنت إلى الغروب ويقال عند زوال الشمس فقال " كم لبثتم " " قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم " فقال كبيرهم لا تختلفوا فإنه لم يختلف قوم إلا هلكوا ثم قال الآخرون " فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما " [ الكهف : 19 ] أي أحل وأطهر لأنهم كانوا يذبحون الخنازير فدفعوا الدراهم إلى رجل يقال له تمليخا
فخرج تملينا فلما إنتهى إلى باب الكهف رأى حجارة مكسرة على بابه فقال إن هذا شيء ما رأيناه بالأمس فلما خرج أنكر الطريق فدنا إلى باب المدينة فلم يعرفها فلما دخل المدينة لم يعرف أحدا من الناس فأشكل عليه فقال لعل هذه غير تلك المدينة فسأل إنسانا فقال أي مدينة هذه فقال أقسوس فقال لقد أصابني شر أو تغير عقلي فهذه مدينتنا ولا أعرفها ولا أعرف أحدا من أهلها فأخرج الدراهم وجاء إلى الخباز ودفعها إليه فأخذ الخباز الدراهم فأنكرها وقال من أين لك هذه الدراهم لقد وجدت كنزا لتخبرني وإلا رفعتك إلى الملك
وكان كل ملك يحدث بعد آخر تضرب دراهم على سكته وختمه فمن وجد معه دراهم غير تلك الدراهم علم أنه كنز فلما وجدوا معه تلك الدراهم قالوا هذا كنز فقال هذه الدراهم ما أخرجت من المدينة إلا أمس فظن الخباز أنه يتجانن عليه ليرسله فقال له لقد علمت أنك تتجانن علي لا أرسلك حتى تعطيني من هذا الكنز وإلا رفعتك إلى الملك
فاجتمع الناس عليه وذهبوا به إلى الملك فجعل تمليخا يبكي خوفا من الملك وأن يرفع إلى ملكهم الجبار الذي فر منه فلما أدخل على غيره سكن فقال له الملك من أين لك هذه الدراهم فقال خرجت بها عشية أمس أنا
وأصحاب لي فرارا من دقيانوس الملك فقال إنك(2/338)
339
رجل شاب وذلك الملك قد مضى عليه دهر طويل فما أنا بالذي أرسلك حتى تخبرني من أين لك هذه الدراهم فقص عليه أمره وأمر أصحابه فقال أناس من المسلمين قد أخبروا بقصتهم أن آباءنا أخبرونا أن فتية قد خرجوا بدينهم وهم مسلمون فرارا من دقيانوس الملك وإنا والله لا ندري ولعله صادق فاركب وانظر لعله شيء أراد الله أن يظهرك عليه أو يكون في ولايتك فركب الملك وركب معه الناس المسلم والكافر حتى إنتهوا إلى الكهف فلما رأى أصحابه الناس قد إنتهوا إليهم عانق بعضهم بعضا يبكون ولا يشكون إلا أنه الملك الجبار الكافر فقال لهم تمليخا أمكثوا حتى أدخل أولا فدخل عليهم فأخبرهم بالقصة
قال إبن عباس في رواية أبي صالح دخل عليهم الملك والناس فسألوهم عن أمرهم فقصوا عليهم قصتهم فنظروا فإذا اللوح الرصاص الذي كتبه المسلمان فيه أسماؤهم وأسماء آبائهم فقال الملك هم قوم هلكوا في زمن دقيانوس وأحياهم الله في زماني فلم يبق أحد من الكفار مع الملك إلا أسلموا كلهم إذا رأوهم فبينما هم يتحدثون إذ ماتوا كلهم
وقال في رواية سعيد بن جبير عن إبن عباس قال إن القوم لما انتهوا إلى الكهف قال لهم الفتى مكانكم حتى أدخل على أصحابي لا تهجموا عليهم فيفزعوا منكم فدخل فعمي عليهم المكان فلم يدروا أين ذهب ولم يقدروا على الدخول عليهم فقالوا " لنتخذن عليهم مسجدا " فجعلوا عليهم مسجدا وصاروا يصلون فيه فذلك قوله " فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ثم بعثناهم " أي أيقظناهم " لنعلم أي الحزبين " يعني أي الفريقين المسلم والكافر " أحصى " أي أحفظ " لما لبثوا أمدا " يعني لما مكثوا أجلا وكان المسلمان كتبا في اللوح فظهر لهم مقدار ما لبثوا فيه ولم يعلم الكفار مقدار ذلك ويقال " أي الحزبين " يعني الذين كانوا مؤمنين قبل ذلك والذين أسلموا في ذلك الوقت ويقال أي الفريقين أصدق قولا لأنهم قد إختلفوا في البعث منهم من كان ينكر ذلك فظهر لهم أن البعث حق
قوله تعالى " نحن نقص عليك نبأهم " أي ننزل عليك في القرآن خبر الفتية " بالحق " أي بالصدق " إنهم فتية آمنوا بربهم " أي صدقوا بتوحيد ربهم " وزدناهم هدى " أي يقينا وبصيرة في أمر دينهم
سورة الكهف 14 - 16(2/339)
340
وقال عز وجل " وربطنا على قلوبهم " أي حفظنا قلوبهم على الإيمان وقيل ألهمناهم الصبر حتى ثبتوا على دينهم " إذ قاموا " من نومهم ويقال قاموا بإثبات الحجة ويقال خرجوا من عند الملك " فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها " أي لم نقل من دون الله ربا وإن فعلنا " فقد قلنا إذا شططا " أي كذبا وجورا ويقال " شططا " أي علوا يقال قد أشط إذا علا في القول أي جاوز الحد " هؤلاء قومنا اتخذوا " أي عبدوا " من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين " يعني هلا يأتون بحجة بينة على عبادة آلهتهم " فمن أظلم ممن افترى " أي إختلق " على الله كذبا " أن له شريكا
ثم قال " وإذ اعتزلتموهم " يقول بعضهم لبعض لو تركتموهم " وما يعبدون إلا الله " يعني لو تركتم ما يعبدون فلا يعبدون إلا الله ويقال لو اعتزلتم عبادتهم إلا الله يعني قولهم الله خالقنا ويقال " وإذ اعتزلتموهم " هذا قولهم ثم قال حكاية عن قولهم فقال " وما يعبدون إلا الله " يعني أصحاب الكهف " فأووا إلى الكهف " أي فارجعوا إلى الكهف ويقال فادخلوا الكهف " ينشر لكم ربكم من رحمته " أي يهب لكم ربكم من نعمته ويقال يبسط لكم من رزقه " ويهيىء لكم من أمركم مرفقا " أي يجعل لكم من أمركم الذي وقعتم فيه ما يرفق بكم ويصلحكم ويقال مخرجا ونجاة ورزقا
سورة الكهف 17 - 18
قوله تعالى " وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم " أي تميل وتنحرف عن كهفهم " ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم " أي تجاوزهم ويقال تتركهم وتمر بهم وأصل القرض القطع ومنه سمي المقراض " ذات الشمال " أي شمال الكهف " وهم في فجوة منه " أي في ناحية من الغار ويقال في متسع منه فأخبر أنه بوأهم كهفا مستقبلا بنات نعش والشمس تميل عنه وتستدير طالعة وغاربة ولا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرها ولا يحلفهم سمومها فيغير ألوانهم وتبلى أبدانهم وكانوا في متسع منه ينالهم نسيم الريح وينفي عنهم غمة الغار والغمة الهواء العفن ويجوز الرفع النصب " في فجوة منه " الغار وكربه
قوله " ذلك من آيات الله " أي ذلك الخبر والذكر ويقال ذلك الذي فعل بهم واختار لهم المكان الموافق من عجائب الله ولطفه وكرمه " من يهد الله فهو المهتد " أي من يوفقه الله للهدى فهو المهتدي " ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا " أي موفقا يرشده إلى(2/340)
341
التوحيد قرأ نافع وإبن عامر وعاصم في رواية أبي بكر " من أمركم مرفقا " بنصب الميم وكسر الفاء والباقون بكسر الميم ونصب الفاء ومعناهما واحد وهو ما يرتفق به وقرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو " تزاور " بتشديد الزاي مع الألف لأن أصله تتزاور أي تميل فأدغم وشدد الزاي وقرأ إبن عامر " تزور " بجزم الزاي وتشديد الراء ومعنى ذلك كله واحد وهو الميل
قال الله تعالى " وتحسبهم أيقاظا وهم رقود " لأن عيونهم كانت مفتحة ويقال من كثرة تقلبهم ذات اليمين وذات الشمال " ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال " وذلك أن جبريل عليه السلام كان يقلبهم في كل سنة مرة لكيلا تأكل الأرض لحومهم وهو قول إبن عباس وقال مجاهد مكثوا ثلاثمائة عام على شق واحد وقلبوا في التسع سنين " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " أي مادا ذراعيه بفناء الباب " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا " أي لو هجمت عليهم اليوم لأدبرت فرارا من هيئتهم
وروى سعيد بن جابر عن إبن عباس أنه قال غزا معاوية غزوة نحو الروم فمروا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف فقال معاوية لو كشفنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال إبن عباس قد منع الله ذلك عمن هو خير منك يعني قال للنبي صلى الله عليه وسلم " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا " " ولملئت منهم رعبا " فقال معاوية لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث أناسا فقال أذهبوا فادخلوا الكهف فلما ذهبوا ودخلوا بعث الله تعالى ريحا فأخرجتهم
سورة الكهف 19 - 21
وقال " وكذلك بعثناهم " أيقظناهم من نومهم " ليتساءلوا بينهم " ليتحدثوا " قال قائل منهم كم لبثتم " أي كم مكثتم في نومكم " قالوا لبثنا يوما " فلما رأوا الشمس قد زالت قالوا " أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة " وروى مجاهد عن إبن عباس قال كانت دراهم أصحاب الكهف مثل أخفاف الإبل قرأ إبن كثير ونافع " ولملئت " بتشديد اللام وهي لغة لبعض العرب وقرأ الباقون بالتخفيف وهما لغتان وقرأ أبو عمرو وحمزة وعاصم في رواية أبي بكر " بورقكم " بجزم الراء وقرأ الباقون بالكسر وهما لغتان(2/341)
342
" فلينظر أيها أزكى طعاما " أي أطيب خبزا أو أحل ذبيحة وهذا قول إبن عباس ويقال أي أهلها أزكى طعاما وقال عكرمة أي أكثر وأرخص طعاما " فليأتكم برزق منه " أي بطعام منه ويقال " أزكى طعاما " أي لم يكن غصبا " وليتلطف " أي وليرفق في السؤال " ولا يشعرن بكم أحدا " أي لا يعلمن بمكانكم أحدا من الناس " إنهم إن يظهروا عليكم " يعني إن يطلعوا عليكم " يرجموكم " يقتلوكم " أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا " أي لن تفوزوا ولن تسعدوا إذا أبدا إن عبدتم غير الله تعالى
" وكذلك أعثرنا عليهم " يقول أطلعنا الملك عليهم قال القتبي وأصله في اللغة أن من عثر بشيء نظر إليه حتى يعرفه فاستعير العثار مكان التبين والظهور " ليعلموا أن وعد الله حق " يعني البعث بعد الموت وذلك أن القوم كانوا مختلفين منهم من كان مقرأ بالبعث ومنهم من كان جاحدا فلما ظهر حالهم عرفوا أن البعث حق وأنه كائن " وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم " يعني إذ يختلفون فيما بينهم وقال بعضهم اختلفوا في عددهم وقال بعضهم اختلفوا فقال المؤمنون فيما بينهم نبني مسجدا وقالت النصارى نبني كنيسة فغلب عليهم المسلمون وبنوا المسجد فذلك قوله " فقالوا ابنوا عليهم بنيانا " أي مسجدا " ربهم أعلم بهم " أي عالم بهم " قال الذين غلبوا على أمرهم " الذين كانوا على دين أصحاب الكهف وهم المؤمنون " لنتخذن عليهم مسجدا " قال الزجاج فيه دليل أنه ظهر أمرهم وغلب الذين أقروا بالبعث على غيرهم لأنهم اتخذوا مسجدا والمسجد للمسلمين
سورة الكهف 22 - 24
ثم قال تعالى " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم " قال بعضهم اختلفوا في أمرهم ويقال هذا الإختلاف في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا وذلك أن أهل نجران السيد والعاقب ومن معهما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان السيد صارما يعقوبيا والعاقب نسطوريا وصنف منهم ملكانيا فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن عدة أصحاب الكهف فقال السيد وأصحابه " ثلاثة رابعهم كلبهم " " ويقولون " أي العاقب وأصحابه " خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب " أي ظنا بالغيب " ويقولون " أي صنف منهم " سبعة وثامنهم كلبهم "
قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم " قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل " وهذا إخبار من الله تعالى أن عدتهم سبعة قال إبن عباس وفي رواية أخرى أنه قال أظن القوم كانوا ثلاثة(2/342)
343
قال واحد منهم كم لبثتم فقال الثاني لبثنا يوما أو بعض يوم فقال الثالث ربكم أعلم بما لبثتم وروي عن إبن عباس أنه قال إنهم سبعة وذكر أسماءهم فقال مكسلمينا وهو أكبرهم وتمليخا ومطرونس وسارينوس ونوانس وكفاشطهواس وبطنبورسوس وذكر في رواية وهب أسماؤهم بخلاف هذا إلا تمليخا فقد إتفقوا على اسمه وقال ابن عباس كان اسم الكلب قطمير وقال سعيد بن جبير كان إسمه فرفدين ويقال كان لونه خليج ويقال كان لونه غلبة بالفارسية ومعناه بالعربية أبلق وقال بعض المحدثين إن كلب أهل الكهف يكون معهم في الجنة وقال بعضهم يصير ترابا مثل سائر الحيوانات وإنما الجنة للمؤمنين خاصة
ثم قال عز وجل " فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا " قال قتادة " فلا تمار " يقول حسبك ما أعلمناك من خبرهم " ولا تستفت فيهم منهم أحدا " أي لا تسأل عن أصحاب الكهف من النصارى أحدا " ولا تقولن لشيء " أردت أن أفعله " إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله " يعني إلا أن تستثني فتقول إن شاء الله " واذكر ربك إذا نسيت " يعني إذا نسيت الإستثناء فاذكرها بعد ما ذكرت واستثن وهذا في غير اليمين وأما في اليمين فاتفق الفقهاء من أهل الفتوى أن الإستثناء لا يكون موصولا إلا رواية عن إبن عباس روى عنه مجاهد قال يستثني الرجل في يمينه متى ذكر ثم قرأ " واذكر ربك إذا نسيت " وهذه الرواية غير مأخوذة
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كان لسليمان بن داود مائة امرأة فقال لأطوفن الليلة عليهن جميعا وكل إمرأة تأتي بغلام يقاتل في سبيل الله ونسي أن يقول إن شاء الله فلم تأت واحدة منهن بشيء إلا امرأة واحدة أتت بشق غلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لولد له ذلك وكان دركا له في حاجته
ثم قال تعالى " وقل عسى أن يهديني ربي " أي يرشدني " لأقرب " أي لأسرع " من هذا " الميعاد الذي وعدت لكم " رشدا " أي صوابا وهذا قول مقاتل وقال الزجاج معناه عسى ربي أن يعطيني من الآيات والدلائل على النبوة ما يكون أقرب في الرشد وأدل على قصة أصحاب الكهف قرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو " أن يهديني " بالياء عند الوصل وقرأ الباقون بحذف الياء
سورة الكهف 25 - 26
قال تعالى " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا " قالت النصارى أما ثلاثمائة فقد عرفنا وأما تسعا فلا علم لنا فيه فنزل " وازدادوا تسعا " قرأ حمزة والكسائي " ثلاث مائة " بكسر الهاء بغير تنوين على معنى الإضافة وقرأ الباقون بالتنوين " له غيب(2/343)
344
السموات والأرض ) أي عالم بما لبثوا في رقودهم وقال الكلبي " أبصر به وأسمع " أي هو عالم بقصة أصحاب الكهف وغيرهم " ما لهم من دونه من ولي " أي أصحاب الكهف " ولا يشرك في حكمه أحدا " قرأ إبن عامر " ولا تشرك " بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ الباقون بالياء ومعناه أنه قد جرى ذكر علمه وقدرته وأعلم أنه لا يشرك في حكمه أحدا كما قال " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا " [ الجن : 26 ] ومن قرأ بالتاء يقول لا تنسبن أحدا إلى عالم الغيب ومعناه أنه لا يجوز لأحد أن يحكم بين رجلين بغير حكم الله تعالى فيما حكم أو دل عليه حكم الله فليس لأحد أن يحكم من ذات نفسه
سورة الكهف 27 - 28
ثم قال تعالى " واتل ما أوحي إليك " يقول اقرأ عليهم الذي أنزل إليك " من كتاب ربك " يعني القرآن " لا مبدل لكلماته " يقول لا مغير لنزول القرآن ولا خلف له ويقال ولا ينقص منه ولا يزاد فيه " ولن تجد من دونه ملتحدا " أي لا ملجأ يمنعك منه ويقال " ملتحدا " أي مانعا يمنعك ويقال معدلا وإنما سمي اللحد لحدا لأنه في ناحية ويقال معناه وإن زدت فيه أو نقصت منه لن تجد من عذابه ملجأ " واصبر نفسك " يقول واحبس نفسك " مع الذين يدعون ربهم " أي يصلون لله تعالى " بالغداة والعشي " يعني الصلوات الخمس
قال إبن عباس نزلت الآية في سلمان وصهيب وعمار بن ياسر وخباب بن الأرت وعامر بن فهيرة ونحوهم من الفقراء قالوا بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ذات يوم عنده سلمان على بساط منسق بالخوص أي منسوج إذ دخل عليه عيينة بن حصن الفزاري فجعل يدفعه بمرفقه وينحيه حتى أخرجه من البساط وكان على سلمان شملة قد عرق فيها فقال عيينة إن لنا شرفا فإذا دخلنا عليك فأخرج هذا أو أضربه فوالله إنه ليؤذيني ريحه أما يؤذيك ريحه فإذا خرجنا من عندك فأدخلهم وأذن لهم بالدخول إن بدا لك أن يدخلوا عليك أو إجعل لنا مجلسا ولهم مجلسا فنزل " واصبر نفسك " الآية " يريدون وجهه " أي يطلبون رضاه
وقال " ولا تعد عيناك عنهم " أي لا تجاوزهم ويقال لا تحتقرهم ولا تزدرهم " تريد زينة الحياة الدنيا " أي ما قال عيينة بن حصن الفزاري وأمثاله " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " أي عن القرآن " واتبع هواه " في عبادة الأصنام " وكان أمره فرطا " أي ضياعا وقال السدي هلاكا قال أبو عبيدة ندما وقال القتبي أصله من العجلة والسبق قال المفسرون أي سرفا وقال الزجاج تفريطا وهو العجز(2/344)
345
سورة الكهف 29 - 31
ثم قال تعالى " وقل الحق من ربكم " أي القرآن " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " أي من شاء فليقل لا إله إلا الله ويقال معناه من شاء الله له الإيمان آمن ومن شاء الله له الكفر كفر ويقال " فمن شاء فليؤمن " من لفظه لفظ المشيئة والمراد به الأمر يعني آمنوا " ومن شاء فليكفر " لفظه لفظ المشيئة والمراد به الخبر ومعناه ومن كفر " إنا أعتدنا للظالمين نارا " يعني للكافرين " أحاط بهم سرادقها " يعني أن دخانها محيط بالكافرين قال الكلبي ومقاتل يخرج عنق من النار فيحيط بهم كالحظيرة
ثم قال " وإن يستغيثوا " من العطش " يغاثوا بماء كالمهل " أي أسود غليظا كرديء الزيت وهذا قول الكلبي والسدي وإبن جبير وروى عكرمة عن إبن عباس مثله ويقال هو الصفر المذاب أو النحاس المذاب إذ بلغ غايته في الحر وروى الضحاك عن إبن مسعود أنه أذاب فضة من بيت المال ثم بعث إلى أهل المسجد وقال من أحب أن ينظر إلى المهل فلينظر إلى هذا وقال مجاهد المهل القيح والدم الأسود كعكر الزيت " يشوي الوجوه " يعني إذا هوى به إلى فيه أنضج وجهه " بئس الشراب " المهل " وساءت مرتفقا " يقول بئس المنزل النار رفقاؤهم فيها الشياطين والكفار " وساءت مرتفقا " أي مجلسا وأصل الإرتفاق الإتكاء على المرفق
قوله عز وجل " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا " أي لا نبطل ثواب من أحسن عملا في الآخرة
ثم بين ثوابهم فقال " أولئك لهم جنات عدن " العدن الإقامة ويقال العدن بطنان الجنة وهي وسطها " تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق " السندس ما لطف من الديباج والإستبرق ما ثخن من الديباج وقال القتبي يقول قوم هو فارسي معرب أصله استبراك وقال الزجاج في قوله " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات " يجوز أن يكون خبره " إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا " كأنه يقول إنا لا نضيع أجرهم ويحتمل أن يكون الجواب قوله " أولئك لهم جنات عدن " ويجوز أن يكون جوابه لم يذكر(2/345)
346
وقد بين ثواب من أحسن عملا في موضع آخر وهو قوله " منهم مغفرة وأجرا عظيما " وقوله " أساور " جمع أسورة واحدها سوار والأسورة جمع الجمع " متكئين فيها على الأرائك " أي على السرر في الحجال ولا يكون أريكة إلا إذا اجتمعا على السرير والحجلة " نعم الثواب " الجنة " وحسنت مرتفقا " أي منزلا في الجنة قرناؤهم الأنبياء والصالحون
سورة الكهف 32 - 34
ثم قال تعالى " واضرب لهم مثلا رجلين " أي صف لأهل مكة صفة رجلين أخوين من بني مخزوم أحدهما مؤمن واسمه أبو سلمة بن عبد الأسد والآخر كافر ويقال له أسود بن عبد الأسود وهما من هذه الأمة وآخرين أيضا من بني إسرائيل مؤمن وكافر فالمؤمن إسمه تمليخا ويقال يهوذا والكافر إسمه أبو قطروس هكذا روي عن إبن عباس ويقال هذا المثل لجميع من آمن بالله وجميع من كفر به وروي عن إبن مسعود أنه قال كانا مشركين من بني إسرائيل أحدهما مؤمن والآخر كافر فاقتسما فأصاب كل واحد منهما أربعين ألف درهم وروي عن إبن عباس أنه قال كانا أخوين ورث كل واحد منهما من أبيه أربعة آلاف دينار فالكافر أنفق ماله في زينة الدنيا نحو شراء المنازل والخدم والحيوان وأنفق المؤمن ماله في طاعة الله تعالى وتصدق على الفقراء والمساكين وذلك قوله تعالى " جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب " أي بساتين قال السدي كان بستانا واحدا عليه جدار واحد وكان في وسطه نهر فلذلك قال " جنتين " لمكان النهر الذي بينهما وسماه جنة للمكان الدائر الذي عليه " وحففناهما بنخل " يعني الجنتين ثم قال " وجعلنا بينهما زرعا " أي مزرعا يقال كان حول البستان نخيل وأشجار وداخل الأشجار كروم وداخل الكروم موضع الزرع والرطاب ونحو ذلك " كلتا الجنتين آتت أكلها " أي أعطت وأخرجت حملها وثمارها " ولم تظلم منه شيئا " أي لم تنقص من ثمر الجنتين شيئا
وقال الزجاج " كلتا الجنتين آتت أكلها " لأن لفظ كلتا واحد والمعنى أن كل واحدة منهما " آتت أكلها " يعني أعطت وأخرجت حملها وثمرتها " ولم تظلم منه شيئا " يعني لم ينقص من ثمر الجنتين شيئا ولو قال أتت لكان جائزا " وفجرنا خلالهما " أي أجرينا وسطها " نهرا " والنهر بنصب الهاء والجزم بمعنى واحد في اللغة إلا أن قراءة النصب أصح
وقال " وكان له ثمر " قرأ أبو عمرو " ثمر " بضم الثاء وجزم الميم وقرأ الباقون غير عاصم بضم الثاء والميم ومعناهما واحد وقرأ عاصم بنصب الثاء والميم فمن قرأ بالنصب فهو ما يخرج من الشجر ومن قرأ بالضم فهو المال يقال قد أثمر فلان مالا ويقال الثمر(2/346)
347
جمع ثمار ويقال ثمرة وثمار وجمع الثمار ثمر " فقال لصاحبه " يعني قال الكافر للمؤمن " وهو يحاوره " أي يفاخره ويراجعه وذلك أن أخاه إحتاج فأتاه يسأله منه شيئا فلم يعطه شيئا وعاتبه بدفع ماله وذلك قوله تعالى " فقال لصاحبه وهو يحاوره " " أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا " يعني وأكثر خدما
سورة الكهف 35 - 42
وقال " ودخل جنته " وهو آخذ بيد أخيه المسلم " وهو ظالم لنفسه " بالشرك فمن كفر بالله فهو ظالم لنفسه لأنه أوجب لها العذاب الدائم " قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا " لأن أخاه المؤمن عرض عليه الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر فأجابه الكافر ف " قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا " يعني لن تفنى هذه أبدا " وما أظن الساعة قائمة " أي كائنة " ولئن رددت إلى ربي " أي إن كان الأمر كما يقول ورجعت إلى ربي في الآخرة " لأجدن خيرا منها منقلبا " في الآخرة أي مرجعا قرأ إبن كثير ونافع وإبن عامر " خيرا منهما " لأنها كناية عن الجنتين وقرأ الباقون " منها " لأنه كناية عن قوله " ودخل جنته "
" قال له صاحبه " أي أخاه المسلم " وهو يحاوره " أي يكلمه ويعظه في الله تعالى " أكفرت بالذي خلقك من تراب " يعني آدم عليه السلام " ثم من نطفة ثم سواك رجلا " يعني خلقك معتدل القامة
قوله " لكنا هو الله ربي " قرأ إبن عامر ونافع في إحدى الروايتين " لكنا " بالألف وتشديد النون لأن أصله لكن أنا فأدغم فيه وقرأ الباقون " لكن " وفي مصحف الإمام " لكن أنا هو الله ربي " فهذا هو الأصل في اللغة ومعناه لكن أنا أقول هو الله ربي " ولا أشرك بربي أحدا ولولا إذ دخلت جنتك " يقول فهلا إذ دخلت بستانك " قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله " يعني بقوة الله أعطانيها لا بقوتي وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من أعطي خيرا من أهل أو مال فيقول عند ذلك ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم ير فيه ما يكره
ثم قال " إن ترن " يعني إن رأيتني " أنا أقل منك مالا وولدا " في الدنيا " فعسى ربي(2/347)
348
أن يؤتين خيرا من جنتك ) هذه في الآخرة " ويرسل عليها " أي على جنتك " حسبانا من السماء " أي نارا من السماء وهذا وقول الكلبي والضحاك ومقاتل وقال قتادة " حسبانا " أي مرامي واحدها حسبانة وقال الزجاج الحسبان أصله الحساب كقوله " الشمس والقمر بحسبان " [ الرحمن : 5 ] أي بحساب وهكذا قال هنا " حسبانا " أي حسابا بما كسبت يداك وقال بعض أهل اللغة الحسبان في اللغة سهم فارق وهو ما يرمى به
ثم قال " فتصبح صعيدا زلقا " أي فتصير ترابا أملس لا نبات فيها " أو يصبح ماؤها غورا " أي غائرا يقال غار ماؤها فلم يقدر عليه " فلن تستطيع له طلبا " أي حيلة " وأحيط بثمره " أي فأهلك جميع ماله والإختلاف في الثمر كما ذكرنا " فأصبح يقلب كفيه " أي يصفق يده على الأخرى ندامة " على ما أنفق فيها " من المال " وهي خاوية على عروشها " أي ساقطة على سقوفها " ويقول " في الآخرة " يا ليتني لم أشرك بربي أحدا " في الدنيا
سورة الكهف 43 - 45
وقال " ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله " أي جندا وقوما وأعوانا يمنعونه من عذاب الله " وما كان منتصرا " أي ممتنعا هو بنفسه قرأ حمزة والكسائي " ولم يكن " بالياء بلفظ التذكير وقرأ الباقون بالتاء بلفظ التأنيث وقال الزجاج لو قال نصره لجاز وإنما ينصره على المعنى أي أقواما ينصرونه
" هنالك الولاية لله الحق " أي عند ذلك وهو يوم القيامة يعني السلطان والحكم لله الحق لا ينازعه أحد في ملكه يومئذ وهذا كقوله " والأمر يومئذ لله " [ الإنفطار : 19 ] فمن قرأ " الحق " بكسر القاف جعله نعتا لله ومن قرأ بالضم جعله نعتا للولاية قرأ حمزة " هنالك الولاية " بكسر الواو وضم القاف وقرأ الباقون " الولاية لله الحق " " الولاية " بنصب الواو وكسر القاف وقال بعضهم " الولاية " بالكسر والنصب لغتان وقيل بالكسر مصدر الوالي يقال والى بين الولاية وبالنصب مصدر الولي بين الولاية " هو خير ثوابا " أي خير من أثاب العبد " وخير عقبا " أي خير من أعقب قرأ حمزة وعاصم " عقبا " بجزم القاف وقرأ الباقون بضم القاف ومعناهما واحد وهو العاقبة فبين الله تعالى حال الأخوين في الدنيا وبين حالهما في الآخرة في سورة الصافات في قوله تعالى " قال قائل منهم إني كان لي قرين " [ الصافات : 51 ] إلى قوله " في سواء الجحيم " [ الصافات : 55 ]
ثم قال " واضرب لهم مثل الحياة الدنيا " أي للمشركين شبه ما في الدنيا من الزينة(2/348)
349
والزهرة " كماء أنزلناه من السماء " وهو المطر " فاختلط به نبات الأرض " أي إختلط الماء بالنبات لأن الماء إذا دخل في الأرض ينبت به النبات فكأنه إختلط به " فأصبح هشيما تذروه الرياح " وفي الآية مضمر ومعناه فاختلط الماء بنبات الأرض فنبت وحسن حتى إذا بلغ أرسل الله آفة فأيبسته فصار هشيما أي صار يابسا متكسرا بعد حسنه قال القتبي وأصله من هشمت الشيء إذا كسرته ومنه سمي الرجل هاشما " تذروه الرياح " أي ذرته الرياح كالرماد ولم يبق منه شيء فكذلك الدنيا في فنائها وزوالها تهلك إذا جاءت الآخرة وما فيها من الزهرة " وكان الله على كل شيء مقتدرا " أي قادرا من البعث وغيره قرأ حمزة والكسائي " الريح " بلفظ الوحدان وقرأ الباقون " الرياح " بلفظ الجماعة
سورة الكهف 46 - 48
قوله تعالى " المال والبنون زينة الحياة الدنيا " أي غرورا لا يبقى كما لا يبقى الهشيم حين ذرته الريح وإنما يبقى في الآخرة " والباقيات الصالحات " أي الصلوات الخمس هكذا روي عن أبي الهيثم ومسروق وقال مسروق " الباقيات الصالحات " هي الخمس صلوات وهي الحسنات يذهبن السيئات وكذلك قال إبن أبي مليكة وروى سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد في قوله " والباقيات الصالحات " قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ) وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج على قومه وقال خذوا جنتكم قالوا يا رسول الله أمن عدو حضر قال لا بل من النار قالوا وما جنتنا من النار قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ويقال كل طاعة يبقى ثوابها فهي الباقيات الصالحات الصلاة والصدقة والتسبيح وجميع الطاعات " خير عند ربك ثوابا وخير أملا " أي خير من هذه الزينة والغرور عند الله تعالى وخير ما يثبت الله العبد " وخير أملا " أي خير ما يوصل العبد الصلاة والتسبيح أي أفضل رجاء مما يرجو الكافر لأن ثواب الكافر النار ومرجعه إلى النار
وقال تعالى " ويوم نسير الجبال " أي نزيلها عن وجه الأرض ونسيرها كما نسير السحاب كقوله " وهي تمر مر السحاب " [ النمل : 88 ] " وترى الأرض بارزة " أي ظاهرة من تحت الجبال ويقال " بارزة " أي خالية مما فيها من الكنوز والأموات كما قال " وألقت ما فيها وتخلت " [ الإنشقاق : 4 ] قرأ إبن كثير وأبو عمرو وإبن عامر " ويوم تسير الجبال " بالتاء مع الضمة ونصب الياء وضم اللام على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون " نسير " بالنون ونصب اللام كما قال " وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا " أي لم نترك منهم أحدا ولا(2/349)
350
نخلف منهم أحدا " وعرضوا على ربك صفا " يقول جميعا كقوله " ثم ائتوا صفا " [ طه : 64 ] أي جميعا
يقول الله تعالى ذكره " لقد جئتمونا " فرادى عراة حفاة " كما خلقناكم أول مرة " بلا أهل ولا مال " بل زعمتم " أي قد قلتم في الدنيا " أن لن نجعل لكم موعدا " أي لن نبعثكم في الآخرة
سورة الكهف 49 - 50
وقال تعالى " ووضع الكتاب " أي وضع كتاب كل إمرىء منهم بيمينه أو بشماله " فترى المجرمين " أي المشركين والمنافقين والعاصين " مشفقين مما فيه " أي خائفين مما في الكتاب من الإحصاء " ويقولون يا ويلتنا " يا ندامتنا " مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة " يعني الزلل والكبائر ويقال تبسما وضحكا " إلا أحصاها " يقول حفظها عليهم " ووجدوا ما عملوا " في الكتاب " حاضرا " من خير أو شر مكتوبا " ولا يظلم ربك أحدا " أي لا ينقص من ثواب أعمالهم ولا يزيد في سيئاتهم
قوله تعالى " وإذ قلنا للملائكة " الذين كانوا في الأرض مع إبليس " اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن " قال بعضهم كان أصله من الجن فلحق بالملائكة وجعل يتعبد معهم وقال مقاتل كان من الجن وهو جنس من الملائكة يقال لهم الجن روي عن إبن عباس أنه كان من الملائكة الذين هم خزان الجنان ويقال " كان من الجن " أي صار من الجن كقوله " فكان من المغرقين " [ هود : 43 ] " ففسق عن أمر ربه " أي تعظم من طاعة ربه وخرج عن طريق ربه يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني " أفتطيعونه وتتركون أمر الله " وهم لكم عدو " أي أعداء كقوله " هم العدو فاحذرهم " [ المنافقون : 4 ] " بئس للظالمين بدلا " أي بئس ما استبدلوا عبادة الشيطان بعبادة الله تعالى ويقال بئس ما أستبدلوا بولاية الله تعالى ولاية الشيطان
سورة الكهف 51 - 54(2/350)
351
ثم قال " ما أشهدتهم خلق السموات والأرض " أي ما استعنت بهم على خلق السموات والأرض يعني إبليس وذريته " ولا خلق أنفسهم " أي ولا استعنت بهم على خلق أنفسهم " وما كنت متخذ المضلين " أي ما كنت أتخذ الذين يضلون الناس عونا يعني الشياطين " عضدا ويوم يقول نادوا شركائي " أي لعبده الأوثان وهو يوم القيامة " نادوا شركائي " أي أدعوا آلهتكم " الذين زعمتم " في الدنيا أنهم لي شركاء ليمنعوكم مني من عذابي " فدعوهم " يعني الآلهة " فلم يستجيبوا لهم " أي لم يجيبوهم " وجعلنا بينهم موبقا " قال مجاهد واد في جهنم وهكذا قال مقاتل وقال القتبي أي مهلكا بينهم وبين آلهتهم في جهنم ومنه يقال أوبقته ذنوبه ويقال موعدا وقال الزجاج وجعلنا بينهم من العذاب ما يوبقهم أي وجعلنا بينهم وبين شركائهم الذين أضلوهم " موبقا " أي مهلكا قرأ حمزة ويوم " نقول " بالنون وقرأ الباقون بالياء
ثم قال " ورأى المجرمون النار " أي رآها المشركون من مكان بعيد " فظنوا " أي علموا واستيقنوا " أنهم مواقعوها " أي داخلوها " ولم يجدوا عنها مصرفا " أي معدلا ولا ملجأ ولا مفرا يرجعون إليه
قوله تعالى " ولقد صرفنا " أي بينا " في هذا القرآن للناس من كل مثل " أي من كل وجه ونوع ليتعظوا فلم يتعظوا ويقال بينا من كل وجه يحتاجون إليه " وكان الإنسان أكثر شيء جدلا " من أمر الباطل يعني من أمر البعث مثل أبي بن خلف وأصحابه
قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا يحيى بن محمد الصاعد قال حدثنا العباس بن محمد الدوري قال حدثنا محمد بن بشر قال حدثنا الحجاج بن دينار قال عن أبي غالب عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل والدليل على أن الإنسان أراد به الكافر ما قال في سياق الآية " ويجادل الذين كفروا بالباطل " الآية
سورة الكهف 55 - 56
ثم قال " وما منع الناس أن يؤمنوا " يقول لم يمنع المشركون أن يصدقوا " إذ جاءهم الهدى " يعني الرسول والكتاب والدلائل والحجج قوله " ويستغفروا ربهم " أي وما منعهم من الإستغفار والرجوع عن شركهم " إلا أن تأتيهم سنة الأولين " أي عذاب الأمم الخالية " أو يأتيهم العذاب قبلا " أي عيانا بالسيف قرأ عاصم وحمزة والكسائي " قبلا " بضم القاف والباء وقرأ الباقون بكسر القاف ونصب الباء فمن قرأ بالضم فهو بمعنى فعل من(2/351)
352
قبل أي مما يقابلهم ويجوز أن يكون جمع قبيل هو أن يأتيهم العذاب أنواعا ومن قرأ بالكسر معناه عيانا
وقال " وما نرسل المرسلين إلا مبشرين " أي للمؤمنين بالجنة " ومنذرين " أي للكافرين بالنار " ويجادل الذين كفروا بالباطل " أي يخاصموا بالباطل " ليدحضوا به " أي ليزيلوا ويذهبوا به " الحق " ومنه يقال حجة داحضة إذا زالت عن المحجة وقال مقاتل " ليدحضوا به " أي ليبطلوا به الحق يعني القرآن والإسلام يعني يريدون أن يفعلوا إن قدروا عليه " واتخذوا آياتي " يعني القرآن " وما أنذروا " أي وما خوفوا به " هزوا " أي سخرية
سورة الكهف 57 - 59
قوله تعالى " ومن أظلم " أي فلا أحد أظلم ويقال أشد في كفره " ممن ذكر بآيات ربه " أي وعظ بالقرآن " فأعرض عنها " يقول فكذب بها ولم يؤمن بها " ونسي ما قدمت يداه " أي نسي ذنوبه التي أسلفها " إنا جعلنا على قلوبهم أكنة " أي جعلنا أعمالهم على قلوبهم أكنة " أن يفقهوه " أي لكيلا يعرفوه ولا يفهموه " وفي آذانهم وقرا " أي صمما وثقلا مجازاة لكفرهم " وإن تدعهم إلى الهدى " أي إلى الإسلام " فلن يهتدوا " أي لن يؤمنوا " إذا أبدا وربك الغفور " أي المتجاوز إن رجعوا " ذو الرحمة " أي بتأخير العذاب عنهم " لو يؤاخذهم بما كسبوا " أي لو يعاقبهم بكفرهم " لعجل لهم العذاب " في الدنيا " بل لهم موعد " أي أجلا " لن يجدوا من دونه موئلا " أي ملجأ يلجؤون إليه ولا منجى منه
قوله عز وجل " وتلك القرى " أي أهلها يعني " أهلكناهم لما ظلموا " يعني القرون الماضية حين أقاموا وثبتوا على كفرهم " وجعلنا لمهلكهم موعدا " أي لهلاكهم أجلا يهلكون فيه قرأ عاصم في رواية أبي بكر " لمهلكهم " بنصب الميم واللام وقرأ عاصم في رواية حفص بنصب الميم وكسر اللام وقرأ الباقون بضم الميم ونصب اللام ومعنى ذلك كله واحد قال الزجاج يكون للمصدر ويجوز للوقت وإن كان مصدرا فمعناه جعلنا لوقت هلاكهم أجلا وإن كان للوقت فمعناه جعلنا لوقت هلاكهم أجلا
سورة الكهف 60 - 65(2/352)
353
ثم قال تعالى " وإذ قال موسى لفتاه " أي لتلميذه وهو يوشع بن نون وقال أهل الكتاب إنما هو موسى بن إفراتيم بن يوسف بن يعقوب وذكر عن القتبي أنه قال زعم أهل التوراة أنه موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب وقال عامة المفسرين هو موسى بن عمران الذي هو أخو هارون
قال الفقيه رضي الله عنه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا أبو المغيرة قال حدثنا الأوزاعي عن الزهري عن عبيد الله بن منبه أن إبن عباس تمارى هو وجبر بن قيس الفزاري في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إليه قال إبن عباس هو الخضر إذ مر أبي بن كعب فناداه إبن عباس فقال تماريت أنا وهذا في صاحب موسى فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا موسى في ملإ بني إسرائيل إذ قام إليه رجل فقال هل تعلم أحدا أعلم منك فقال لا فأوحى الله إليه بل عبدي الخضر فسأل موسى السبيل إلى لقائه فجعل الله له الحوت آية فقال إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه فكان من شأنهما ما قص الله تعالى في القرآن
وروى سعيد بن جبير قال قلت لإبن عباس إن نوف البكالي زعم أن موسى نبي بني إسرائيل ليس هو موسى صاحب الخضر فقال إبن عباس كذب عدو الله أخبرنا أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قام موسى خطيبا في بني اسرائيل وذكر نحو الحديث الأول
وروى أسباط عن السدي قال بلغنا أن موسى بن عمران نبي الله خطب خطبة فأبلغ فيها فدخله بعض العجب وتعجبت بنو إسرائيل لبلاغته فقالوا يا نبي الله هل تعلم أحدا أبلغ منك فأوحى الله تعالى إليه أن لي عبدا في الأرض هو أعلم منك فاطلبه قال وما علامته قال تنطلق معك بزاد فإذا تعبت في سفرك أي أعييت وفقدت زادك فعند ذلك تلقاه فانطلق موسى وفتاه يوشع بن نون وحملا معهما خبزا وحوتا فذلك قوله تعالى " وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح " قال الكلبي وإنما سماه موسى فتى لأنه كان يخدمه ويتبعه ويتعلم منه وكان يوشع من أشراف بني إسرائيل وهو الذي إستخلفه موسى على بني إسرائيل وقال مقاتل كان فتاه يوشع بن نون وهو إبن أخت موسى من سبط يوسف(2/353)
354
قوله " لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين " أي بحر الملح وهو بحر فارس وبحر الروم والبحر العذب وقد قيل معناه آتي الموضع الذي يجتمع فيه بين العالمين يعني موسى والخضر وهما بحران في العلم والتفسير الأول أصح لأنه ذكر بعد هذا حديث البحر " أو أمضي حقبا " أي زمانا ودهرا وقال الكلبي الحقب الواحد ثمانون سنة " فلما بلغا مجمع بينهما " أي موسى ويوشع بن نون مجمع البحرين جلسا على شاطىء البحر فأصابا من طعامهما ونام موسى وجعل يوشع يتوضأ من عين على شاطىء البحر فانتضح من ذلك الماء على الحوت الملح فحيي فعاش الحوت وكانت تلك العين عين الحياة لا تصيب شيئا إلا عاش فوثب الحوت في الماء فجعل الحوت يضرب بذنبه في الماء فلا يضرب في ذنبه في الماء إلا يبس فأراد يوشع أن يخبر موسى بذلك فلما استيقظ موسى نسي يوشع أن يخبر موسى فذلك قوله " نسيا حوتهما " يعني أن يوشع نسي أن يخبر موسى عن خبر الحوت " فاتخذ سبيله في البحر سربا " قال الفراء أي أخذ طريقه يبسا وقال القتبي اتخذ طريقه في البحر مذهبا ومسلكا فذهبا عن ذلك الموضع في غدوتهما حتى أصابهما التعب ولم ينصب موسى في سفره حتى كان يومئذ فنصب فقال لفتاه يوشع
قوله " فلما جاوزا قال لفتاه " يوشع " آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا " أي مشقة وتعبا " قال " يوشع لموسى " أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة " أي حين نزلنا عند الصخرة " فإني نسيت الحوت " يقول نسيت أن أذكر لك أمر الحوت " وما أنسانيه إلا الشيطان أن اذكره " لك وأمره " واتخذ سبيله في البحر " أي طريقه " عجبا " قال بعضهم " عجبا " هو من كلام موسى وقال بعضهم من كلام يوشع قال " عجبا " وذلك أن يوشع لما أخبره فقال موسى عجبا فكأنه قال أعجب عجبا وقال بعضهم هو كلام يوشع " قال إتخذ سبيله في البحر عجبا " أي يبسا وذلك حين يبس له الماء وأثره في الماء
ف " قال " موسى " ذلك ما كنا نبغ " أي نطلب من حاجتنا " فارتدا " أي رجعا " على آثارهما قصصا " يقتصان أثر طريقهما الذي جاء فيه وإنما سمي قاصا لأنه يقص أثر الأمم ومعناه أنهما رجعا في الطريق الذي سلكاه فلما انتهيا إلى الصخرة حيث قام الحوت أراه يوشع مكان الحوت وأثره في الماء فجب موسى من أثره فأبصر رجلا عند الصخرة قائما يصلي وعليه مدرعة صوف وكساء صوف فلما فرغ من صلاته قال موسى السلام عليك فقال وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل قال ومن أخبرك أني نبي بني إسرائيل قال أخبرني الذي أخبرك بمكاني فذلك قوله " فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا " أي أعطيناه النبوة ( وعلمناه من لدنا علما ) أي علم بعض الكوائن روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الخضر في بعض الأخبار فقال
كان إبن ملك من الملوك فأراد أبوه أن يستخلفه من بعده فلم يقبل وهرب منه ولحق بجزائر البحر فطلبه أبوه فلم يقدر عليه(2/354)
355
سورة الكهف 66 - 70
ثم قال " قال له موسى هل أتبعك " أي أصحبك " على أن تعلمن مما علمت رشدا " أي هدى وصوابا قرأ أبو عمرو وإبن عامر " رشدا " بالنصب وقرأ الباقون بالضم وأختلف عن عاصم ونافع ومعناهما واحد فقال له الخضر إن لك فيما في التوراة كفاية من طلب العلم في بني إسرائيل وفضل وإنك سترى مني أشياء تنكرها ولا ينبغي للرجل الصالح أن يرى شيئا منكرا لا يغيره فذلك قوله تعالى " قال إنك لن تستطيع معي صبرا " يعني إنك ترى مني أشياء لا تصبر عليها " وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا " أي ما لم تعلم به علما ويقال معناه كيف تصبر على ما ظاهره منكر " قال " موسى " ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا " أي لا أترك أمرك فيما أمرتني " قال " الخضر " فإن إتبعتني " أي صحبتني " فلا تسألني عن شيء " فعلت " حتى أحدث لك منه ذكرا " أي حتى أخبرك منه خبرا يعني إن أنكرته فلا تعجل علي بالمسألة فأمر موسى يوشع أن يرجع إلى بني إسرائيل وأقام موسى مع الخضر
قرأ نافع " فلا تسألني " بتشديد النون مع إثبات الياء والتشديد للتأكيد والنهي وقرأ إبن عامر " فلا تسألن " بتشديد النون بغير ياء لأن الكسرة تدل عليه وقرأ الباقون " فلا تسألني " بالتخفيف وإثبات الياء وقرأ بعضهم بالتخفيف بغير ياء
سورة الكهف 71
ثم قال " فانطلقا " يعني موسى والخضر وذلك أن موسى رد يوشع إلى بني إسرائيل وذهب موسى مع الخضر " حتى إذا ركبا في السفينة " وذلك أنهما لما أتيا السفينة قال أهل السفينة لا يدخل علينا هذان الرجلان فإنا لا نعرفهما ونخاف على متاعنا منهما فقال الملاح بل سيماهما سيما الزهاد فحملهما في السفينة بغير نول أي مجانا فأخذ الخضر فأسا لما ركبا السفينة وجعل يثقب السفينة ويخرقها فقال أهل السفينة الله الله لا تخرق سفينتنا فنغرق فقال موسى حملنا بغير نول وتخرق السفينة وتغرق أهلها فذلك قوله " حتى إذا ركبا في السفينة " " خرقها " أي ثقبها " قال " موسى " أخرقتها لتغرق أهلها " قرأ حمزة والكسائي " ليغرق " بالياء والنصب " أهلها " بضم اللام وقرأ الباقون بالتاء والضم وكسر الراء والنصب في اللام فمن قرأ بنصب التاء فالأهل هو المفعول " لقد جئت شيئا إمرا " أي(2/355)
356
منكرا شديدا قال القتبي " إمرا " أي داهية وكذلك " نكرا " إلا أن النكر أشد إستعظاما بالعين وإنكارا بالقلب
سورة الكهف 72 - 74
قوله تعالى " قال " له الخضر " ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا " روي عن إبن عباس أنه قال قال له موسى يا عبد الله إنه لا يحل لك أن تخرق سفينة القوم فتغرقهم فلم يكلمه الخضر وجعل يخرق السفينة حتى خرقها فتنحى موسى وجلس فقال وما كنت أصنع إن أتبع هذا الرجل يظلم هؤلاء القوم وقد كنت في بني إسرائيل أقرأ عليهم كتاب الله غدوة وعشية ويقبلون مني فتركتهم وصحبت هذا الرجل الذي يظلم هؤلاء القوم فقال الخضر يا موسى أتدري ما حدثت به نفسك فقال موسى ما هو قال الخضر قلت كنت في بني إسرائيل أتلو عليهم كتاب الله غدوة وعشية يقبلونه مني فتركتهم وصحبت هذا الرجل الذي يظلم هؤلاء القوم ثم قال له " ألم أقل لك إنك لا تستطيع معي صبرا "
قال فجاء عصفور فوقع على جانب السفينة فنقر من البحر نقرة من الماء ثم طار فقال الخضر والله ما ذهبت أنا وأنت من العلم في علم الله تعالى إلا مثل ما يغرف هذا العصفور من الماء من هذا البحر " قال " موسى " لا تؤاخذني بما نسيت " أي بما تركت من وصيتك وقال إبن عباس هذا من معاريض الكلام لأن موسى لم ينس ولكن قال " لا تؤاخذني بما نسيت " يعني إذا كان مني نسيان فلا تؤاخذني به " ولا ترهقني من أمري عسرا " يعني لا تكلفني من أمري شدة " فانطلقا " أي خرجا من السفينة ومضيا " حتى إذا لقيا غلاما " قال الكلبي كان إسمه خشنوذ وقال غيره كان إسمه خربث بن كاذرى فقتله أي أخذ برأسه قرعه قال إبن عباس في رواية أبي صالح كان رجلا إلا أنه لم يهتك بعد وكان كافرا يقطع الطريق وقال سعيد بن جبير في رواية إبن عباس كان صبيا غير مدرك فمر بغلمان يلعبون فأخذ برأس غلام منهم فقطعه وقال في بعض الروايات خنقه فذلك قوله " فقتله " وروي أن نجدة الحروري كتب إلى إبن عباس أن النبي نهى عن قتل الصبيان في دار الحرب وأن صاحب موسى قد قتل صبيا فكتب إليه إبن عباس إنك لو علمت من الصبيان ما علم صاحب موسى جاز لك أن تقتلهم
" قال " له موسى " أقتلت نفسا زكية بغير نفس " أي طاهرة بغير ذنب ويقال " زكية " لم تجن عليك " بغير نفس " يقول بغير دم وجب عليها قرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو " زاكية " بالألف وقرأ الباقون بغير ألف ومعناهما واحد مثل قاسية وقسية وقال(2/356)
357
القتبي الزكية المطهرة التي لم تذنب قط " لقد جئت شيئا نكرا " أي منكرا أي أمرا فظيعا قال القتبي إنما قال ها هنا " نكرا " لأن قتل النفس أشد إستعظاما من خرق السفينة وقال الزجاج " نكرا " أقل من إمرا لأن إغراقه من في السفينة كان أعظم عنده من قتل النفس الواحدة
سورة الكهف 75 - 78
" قال " الخضر " ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا " وقد زاد هنا " لك " للتأكيد قيل لأنه سبق منه الزجر مرة " قال " موسى " إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني " يعني إن طلبت صحبتك فلا تتابعني وقد قرىء " فلا تصحبني " أبدا " قد بلغت من لدني عذرا " يقول قد أعذرت فيما بيني وبينك في الصحبة
" فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية " قال إبن عباس وهي أنطاكية " إستطعما أهلها " أي إستضافا قال بعضهم سألاهم وقال بعضهم لم يسألاهم ولكن كان نزولهما بين ظهرانيهم بمنزلة السؤال منهما " فأبوا أن يضيفوهما " يعني لم يطعموهما " فوجدا فيها جدارا " يعني في تلك القرية " يريد أن ينقض " وهذا كلام مجاز لأن الجدار لا يكون له إرادة ومعناه كاد أن يسقط " فأقامه " يعني سواه الخضر " قال " موسى " لو شئت لاتخذت عليه أجرا " أي جعلا خبزا تأكله قرأ إبن كثير وأبو عمرو " لتخذت " بغير ألف وكسر الخاء والباقون " لاتخذت " ومعناهما واحد وقرأ نافع " من لدني " بنصب اللام وضم الدال وتخفيف النون وقرأ حمزة والكسائي وإبن كثير وأبو عمرو " من لدني " بتشديد النون وهي اللغة المعروفة والأول لغة لبعض العرب واختلف الروايات عن عاصم " قال " الخضر " هذا فراق بيني وبينك " أي هذا شرط الفراق بيني وبينك وأنت حكمت على نفسك " سأنبئك بتأويل " أي بتفسير " ما لم تستطع عليه صبرا " أي تعلم ما رأيتني أصنع فأنكرت لتعرف أهلها وتأويله
سورة الكهف 79
قال تعالى " أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر " أي يؤاجرون في البحر ويكسبون قوتهم " فأردت أن أعيبها " أي أجعلها معيبة " وكان وراءهم ملك " أي أمامهم(2/357)
358
ملك روي عن إبن عباس أنه كان يقرأ وكان أمامهم ملك " يأخذ كل سفينة غصبا " وكان إبن مسعود يقرأ أيضا كل سفينة صالحة غصبا أي كل سفينة بغير عيب وكان إسم الملك جلندى يعني أنها لو كانت بغير عيب أخذها الملك فإذا كانت مع العيب تبقى للمساكين
قال الفقيه أبو الليث فيه دليل أن للوصي أن ينقض مال اليتيم إذا رأى فيه صلاحا وهو أنه لو كانت له دار نفيسة فخاف أن يطمع فيها بعض السلاطين فأراد أن يخرب بعضها ليبقيها لليتيم جاز وروي عن أبي يوسف أنه كان يجيز مصانعة الوصي في مال اليتيم وهو يدفع من ماله شيئا إلى السلطان ليدفعه عن بقية ماله
سورة الكهف 80 - 82
ثم قال " وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما " أي يقول يكلفهما " طغيانا وكفرا " يقول تماديا وإثما ومعصية " فأردنا أن يبدلهما " قرأ نافع وأبو عمرو " يبدلهما " بتشديد الدال وقرأ الباقون بالتخفيف ومعناهما واحد يقال بدل وأبدل بمعنى واحد أي يعطيهما ولدا غير هذا الولد " ربهما خيرا منه " أي أفضل " زكاة " أي ولدا صالحا " وأقرب رحما " أي أوصل رحما ويقال رحما ويقال أقرب رحمة وعطفا عليهما قال الكلبي فولدت إمرأته جارية فتزوجها نبي من الأنبياء فهدى الله على يده أمة من الأمم
ثم قال " وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة " أحدهما أصرم والآخر صريم " وكان تحته كنز لهما " قال الكلبي أي مالا لهما وقال مقاتل ومجاهد كل شيء في القرآن من كنز فهو مال غير ها هنا فإنه الصحف التي فيها علم وقال الضحاك " كنز لهما " أي علم لهما
قال الفقيه حدثني أبي بإسناده عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد تحت الجدار الذي قال الله تعالى " وكان تحته كنز لهما " لوح من ذهب والذهب لا يصدأ ولا ينقص مكتوب فيه بسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يوقن بالقدر كيف يحزن وعجبت لمن يوقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله روي عن إبن عباس أنه قال كان في اللوح خمس كلمات وذكر نحوه
قوله " وكان أبوهما صالحا " ذا أمانة واسمه كاشح فحفظا بصلاح أبيها ولم يذكر منهما(2/358)
359
صلاحا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله تعالى ليصلح بصلاح الرجل أهله وولده وأهل دويرته وأهل الدويرات حوله " فأراد ربك أن يبلغا أشدهما " أي يبلغا مبلغ الرجال " ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك " أي نعمة من ربك " وما فعلته عن أمري " أي من قبل نفسي ولكن الله أمرني به " ذلك تأويل " أي تفسير " ما لم تستطع عليه صبرا " تستطع وتسطع بمعنى واحد يقال اسطاع واستطاع
قال الفقيه رضي الله عنه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد الدوري قال حدثنا الحجاج الأعور قال حدثنا حمزة الزيات عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن إبن عباس عن أبي بن كعب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا لأحد بدأ بنفسه وقال رحمة الله علينا وعلى موسى فلو كان صبر لقص الله علينا من خبرهما وفي رواية أخرى لقص الله علينا من خبرهما العجائب فلما أراد موسى أن يرجع قال للخضر أوصني فقال له الخضر إياك واللجاجة ولا تمش في غير حاجة ولا تضحك من غير عجب ولا تعير الخطائين بخطاياهم وابك على خطيئتك يا ابن عمران قال مجاهد إنما سمي الخضر خضرا لأنه لا يكون بأرض إلا إخضرت
سورة الكهف 83 - 86
ثم قال تعالى " ويسألونك عن ذي القرنين " وكان إسمه إسكندر وروي عن وهب بن منبه أنه قيل له لم سمي ذا القرنين فقال أختلف فيه أهل الكتاب فقال بعضهم لأنه ملك الروم وفارس وقال بعضهم لأنه كان في رأسه شبه القرنين وقال بعضهم لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها فسماه الملك الذي عند قاف ذا القرنين ويقال رأى في المنام أنه دنا من الشمس وأخذ منها فقص رؤياه على قومه فسموه ذا القرنين وقال الزجاج سمي ذا القرنين لأنه كان له ضفيرتان وعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال ضرب على قرني رأسه وقيل لأنه بلغ قطر الأرض وقال عكرمة كان ذو القرنين نبيا ولقمان نبيا والخضر نبيا وروى مجاهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص كان ذو القرنين نبيا وروي عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن ذي القرنين فقال كان رجلا صالحا وهكذا قال إبن عباس وجمعة من الصحابة أن ذا القرنين كان رجلا صالحا ولقمان كان رجلا حكيما(2/359)
360
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذي القرنين فقال هو ملك يسيح في الأرض وقال مجاهد ملك الأرض أربعة إثنان مؤمنان وإثنان كافران أما المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين وأما الكافران فالنمروذ بن كنعان وبختنصر
قال تعالى " قل سأتلوا عليكم منه ذكرا " أي خبرا وعلما من الله تعالى " إنا مكنا له في الأرض " أي ملكناه وأعطيناه " وآتيناه من كل شيء سببا " أي علما ويقال أعطيناه علم الوصول إلى كل شيء يحتاج إليه من الحروف وغيرها ويقال علما بالطريق " فاتبع سببا " أي أخذ طريقا فسار إلى المغرب " حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة " قرأ إبن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " حامئة " بالألف وقرأ الباقون " حمئة " بغير ألف فمن قرأ " حامئة " يعني جائرة ومن قرأ بغير ألف يعني من طينة سوداء منتنة وروي أن معاوية قرأ " في عين حامة " فقال إبن عباس ما نقرؤها إلا حمئة فسأل معاوية عبد الله بن عمرو كيف تقرؤها فقال كما قرأتها قال إبن عباس في بيتي نزل القرآن فبعث معاوية إلى كعب يسأله أين تجد الشمس تغرب في التوراة قال في ماء وطين وقال في مدرة سوداء قال القتبي " حمئة " ذات حمات والحامية حارة وقرأ إبن كثير وأبو عمرو ونافع " فاتبع " بتشديد التاء وكذلك ما بعده وقرأ الباقون فأتبع بنصب الألف وجزم التاء بغير تشديد
" ووجد عندها قوما " أي عند العين التي تغرب فيها الشمس مؤمنين وكافرين فظهر عليهم " قلنا يا ذا القرنين " قال مقاتل أوصى الله تعالى إليه وقال إبن عباس ألهمه الله تعالى " إما أن تعذب " يعني أن تقتل من كان كافرا " وإما أن تتخذ فيهم حسنا " يعني تنعم عليهم وتغفر لمن كان مؤمنا وقال بعضهم كانوا كلهم كفارا قيل له إما أن تعذب من لم يؤمن وإما أن تتخذ فيهم حسنا لمن آمن
سورة الكهف 87 - 93
" قال " ذو القرنين " أما من ظلم " أي كفر بالله " فسوف نعذبه " أي نقتله إن لم يتب " ثم يرد إلى ربه " في الآخرة " فيعذبه " في النار " عذابا نكرا " يقول شديدا " وأما من آمن " يقول صدق بالله " وعمل صالحا " فيما بينه وبين الله تعالى " فله جزاء الحسنى " قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " جزاء " بنصب الألف والتنوين وقرأ الباقون(2/360)
361
بضم الألف بغير تنوين فمن قرأ بالنصب فمعناه أن له الحسنى جزاء صار الجزاء نصبا للحال ومن قرأ بالضم جزاء للإضافة بغير جزاء إحسانه " وسنقول له من أمرنا يسرا " أي سنعد له في الدنيا معروفا عدة حسنة معروفة ويقال وسنقول له قولا جميلا
ثم قال " ثم أتبع سببا " أي أخذ طريقا وقال القتبي السبب أصله الحبل ثم كل شيء توصلت به إلى موضع أو حاجة فهو سبب تقول فلان سببي إليك أي وصلتي وتسمى الطريق سببا لأنه يصل إلى الموضع الذي يريده
" حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا " أي لم يكن لهم من دون الشمس شيء يظلهم لا شجر ولا جبل ولا ثوب إلا عراة عماة عن الحق وكانوا في مكان لا يستقر عليه البناء وقال قتادة يقال إنهم الزنج وكانوا في مكان لا ينبت فيه نبات وكانوا يدخلون سربا إذا طلعت الشمس حتى تزول عنهم ويخرجون في معايشهم " كذلك " يعني هكذا بلغ مطلع الشمس أيضا كما بلغ مغربها
ثم أستأنف فقال " وقد أحطنا بما لديه خبرا " أي بما عنده علما وهذا قول مقاتل " كذلك " أي كما أخبرتك بهذا الخبر كذلك كان علمنا محيطا به قبل ذلك " ثم أتبع سببا " أي أخذ طريقا
ثم قال " حتى إذا بلغ بين السدين " أي بين الجبلين قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر " السدين " بضم السين وكذلك الثاني والذي في سورة يس وروى حفص عن عاصم أنه نصب كله وإبن كثير وأبو عمرو نصبا ها هنا ورفعا في يس وحمزة والكسائي رفعا بين السدين ونصبا ما سوى ذلك وقال بعض أهل اللغة ما كان مسدودا خلقة فهو سد بالنصب وما كان بعمل الناس فهو سد بالضم وروي عن إبن عباس ومجاهد وقيل إن المراد ها هنا طرفا الجبل " وجد من دونهما " أي من قبل الجبلين " قوما لا يكادون يفقهون قولا " أي كلاما غير كلامهم ولسانا غير لسانهم قرأ حمزة والكسائي " يفقهون " بضم الياء وكسر القاف يعني أن كلامهم لا يفهمه أحد غيرهم وقرأ الباقون " يفقهون " بالنصب يعني أنهم لا يفقهون قول غيرهم
سورة الكهف 94 - 97
" قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض " أي يخرجون إلى أرضنا(2/361)
362
ويأكلون رطبنا ويحملون يابسنا ويقتلون أولادنا وكان يأجوج رجلا ومأجوج رجلا وكانا أخوين من بني يافث بن نوح فكثر نسلهما فنسب إليهما ويقال سمي يأجوج ومأجوج لكثرتهم وازدحامهم لأنهم يموجون بعضهم في بعض " فهل نجعل لك خرجا " قرأ عاصم " يأجوج ومأجوج " بهمز الألف وقرأ الباقون بغير همز وقرأ حمزة والكسائي " خراجا " بالألف وقرأ الباقون " خرجا " بغير ألف ويقال الخراج هو الضريبة والخرج هو الجعل ويقال أحدهما إسم والآخر مصدر " على أن تجعل بيننا سدا " أي حاجزا
ف " قال " ذو القرنين " ما مكني فيه ربي خير " قرأ إبن كثير " ما مكنني " بنونين وهو الأصل في اللغة وقرأ الباقون " مكني " فأدغم إحدى النونين في الأخرى وأقيم التشديد مقامه أي ما ملكني وأعطاني فيه ربي من القوة والمال خير من جعلكم ويقال ما يعطيني الله تعالى في الآخرة من الثواب خير من جعلكم في الدنيا " فأعينوني بقوة " قالوا وما تريد قال آلة العمل وهي آلة الحدادين " أجعل بينكم وبينهم ردما " قالوا وما هي قال " آتوني زبر الحديد " أي قطع الحديد " أجعل بينكم وبينهم سدا " قرأ عاصم في إحدى الروايتين " إيتوني " على معنى جيئوني وقرأ الباقون " آتوني " بمد الألف أي أعطوني فأتوه بقطع الحديد فبناه
" حتى إذا ساوى بين الصدفين " قرأ إبن كثير وأبو عمرو وإبن عامر " الصدفين " بضم الصاد والدال وقرأ عاصم في رواية أبي بكر " الصدفين " بضم الصاد وجزم الدال وقرأ الباقون بنصب الصاد والدال وهما ناحيتا الجبل فأخذ قطع الحديد وجعل بينهما حطبا وفحما ووضع المنافخ وقال أنفخوا فنفخوه حتى صار كهيئة النار ثم أتى بالصفر ويقال بالنحاس فأذابه وأفرغ عليه حتى صار جبلا من حديد ونحاس فذلك قوله " حتى إذا ساوى بين الصدفين " أي بين الجبلين " قال أنفخوا " فنفخوا " حتى إذا جعله نارا " أي صير الحديد نارا " قال آتوني أفرغ عليه قطرا " وهو الصفر المذاب أصبب عليه قرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة " قال أئتوني " بجزم الألف والباقون بالمد " فما إسطاعوا " أي فما قدروا " أن يظهروه " يعني أن يعلوا فوق السد " وما استطاعوا له نقبا " أي ما قدروا على نقب السد ويقال " ما استطاعوا له نقبا " أي ما تحت السد في الأرض لأنه بناه في الأرض إلى السماء
قال الفقيه رضي الله عنه حدثنا عمرو بن محمد قال حدثنا أبو بكر الواسطي قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا أبو حفص عن سعيد عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن يأجوج ومأجوج يحفرون الردم في كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذين عليهم إرجعوا فسنحفره غدا فيعيده الله كما كان حتى إذا بلغت مدتهم
قال الذين عليهم إرجعوا فسنحفره غدا إن شاء الله تعالى فيعودون إليه فإذا هو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس فيستقون المياه وتحصن الناس في(2/362)
363
حصونهم فيبعث الله عليهم نغفا في أقفيتهم فيهلكهم الله بها
وروى أبو صالح عن إبن عباس أن يأجوج ومأجوج لا يموت الرجل منهم حتى يلد لصلبه ألف إبن وذكر أن يأجوج ومأجوج كما ذكرنا وهما إبنا يافث بن نوح فإذا إنكسر السد وذلك عند إقتراب الساعة يخرجون فيمرون ببحيرة طبرية بأرض الشام وهي مملوءة ماء فيشربها أولهم ثم يمر آخرهم فيقولون لقد كان ها هنا مرة ماء قال والسد نحو بنات نعش ثم يمرون بالبحر فيأكلون ما في جوفه من سمك وسرطان وسلحفاة أو دابة ثم يأكلون ورق الشجر ويأكلون ما في الأرض من شيء ويهرب الناس منهم فيقتلون من قدروا عليه ولا يستطيعون أن يأتوا أربعة مساجد المسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد بيت المقدس ومسجد طور سيناء ثم لا يرون على الأرض غيرهم ثم يقولون لقد قتلنا أهل الأرض وبقي أهل السماء فيرمون سهامهم نحو السماء فتصيب الطير في جو السماء فترجع سهامهم مختضبة بالدماء فيقولون لقد قتلنا أهل السماء وأهل الأرض ولم يبق غيرنا فيبعث الله تعالى عليهم دودا يسمى النغف فيدخل في آذانهم فيقتلهم فتنتن الأرض من جيفهم ثم يرسل الله تعالى السما أربعين يوما حتى يحمل السيل جيفهم فيرميها إلى البحر ويعود البحر كما كان قرأ حمزة " فما اسطاعوا " بتشديد الطاء والباقون بالتخفيف
سورة الكهف 98 - 102
فلما فرغ ذو القرنين من بناء السد " قال هذا رحمة من ربي " أي هذا السد رحمة من ربي عليكم " فإذا جاء وعد ربي " يقول إذا جاء أجل ربي " جعله دكاء " يعني كسرا قرأ أهل الكوفة " دكاء " بالمد وقرأ الباقون بالتنوين قال القتبي " جعله دكا " أي ألقصه بالأرض وقرأ الباقون بالتنوين " دكا " إذا لم يكن لها سنام " وكان وعد ربي حقا " أي صدقا وكائنا بخروجهم
ثم قال " وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض " أي يجول في بعض وراء السد " ونفخ في الصور " قال أبو عبيدة تنفخ الأرواح في الصور وقال عامة المفسرين يعني ينفخ إسرافيل في الصور وهذا موافق لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كيف أنعم(2/363)
364
وصاحب القرن قد إلتقمه وحنا جبهته عليه وينتظر متى يؤمر فينفخ فيه " فجمعناهم جمعا " أي يوم القيامة نجمع يأجوج ومأجوج وجميع الخلق " وعرضنا جهنم يومئذ " أي كشفنا الغطاء عنها قبل دخولهم جهنم " للكافرين عرضا " أي كشفا ويكون المصدر لتأكيد الكلام
ثم نعت الكافرين فقال " الذين كانت أعينهم " أي أعين الكافرين " في غطاء عن ذكري " أي في عمى عن التوحيد والقرآن فلم يؤمنوا " وكانوا لا يستطيعون سمعا " أي إستماعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من بغضه وعداوته
قوله تعالى " أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء " يعني أن يعبدوا غيري ومعناه لا يحسبن الكافرون بأن يتخذوا أولياء يعبدون معي شيئا لأن المشركين كانوا يدعون بعض المؤمنين إلى الشرك وهذا كقوله " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " [ الحجر : 42 ] ويقال ومعناه أفيظن الذين كفروا أن يعبدوا عبادي يعني الملائكة وعزيرا والمسيح " من دوني أولياء " يعني أربابا ومعناه يظنون أنهم لو إتخذوهم أربابا تنفعهم عبادتهم ويفوتون من عذابي
ثم بين عذابهم فقال " إنا إعتدنا جهنم للكافرين نزلا " أي منزلا روي عن علي بن أبي طالب أنه قرأ " أفحسب الذين كفروا " بجزم السين وضم الباء ومعناه أيكفيهم مني ومن طاعتي أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء فحسبهم جهنم " إنا إعتدنا جهنم للكافرين نزلا " أي منزلا
سورة الكهف 103 - 108
وقال " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا " يعني الخاسرين أعمالهم " الذين ضل سعيهم " أي بطلت أعمالهم " في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " أي يظنون أنهم يفعلون فعلا حسنا قال علي بن أبي طالب هم الخوارج وهكذا روي عن أبي أمامة الباهلي وروي عن سلمان الفارسي أنه قال هم رهبان النصارى أهل الصوامع وهكذا قال مقاتل " أولئك الذين كفروا بآيات ربهم " أي بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " ولقائه " أي البعث بعد الموت " فحبطت أعمالهم " أي بطلت حسناتهم " فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " أي لا توزن أعمالهم مثقال ذرة ويقال لا نقيم لأعمالهم ميزانا " ذلك جزاؤهم " أي هكذا عقوبتهم " جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي " أي القرآن ومحمدا صلى الله عليه وسلم " هزوا " أي إستهزاء(2/364)
365
وقال تعالى " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا " أي منزلا وقال مقاتل " الفردوس " بلغة الروم البساتين عليها الحيطان وقال السدي الأعناب بالنبطية وروى الحسن عن سمرة بن جندب قال الفردوس ربوة خضراء من الجنة هي أعلاها وأحسنها وقال الكلبي جنات الفردوس من أدنى الجنان منزلا وروى أبو أمامة الباهلي قال الفردوس سرة الجنة أي أوسطها " خالدين فيها " أي دائمين فيها " لا يبغون عنها حولا " أي تحولا رضوا بها وبثوابها وقال بعض المفسرين تمام النعمة أنهم لا يتمنون التحول لأنهم لو تمنوا التحول عنها لتنغص النعم عليهم
سورة الكهف 109 - 110
قوله تعالى " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي " وذلك أن اليهود قالوا يزعم محمد أن من أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ثم يزعم ويقول " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " [ الإسراء : 85 ] فكيف نوافق الخير الكثير مع العلم القليل فنزل قل يا محمد " لو كان البحر مدادا لكلمات ربي " يكتب به " لنفد البحر " وتكسرت الأقلام " قبل أن تنفذ كلمات ربي " أي لا تنفذ كلمات ربي كما قال في آية أخرى " ما نفدت كلمات الله " [ لقمان : 27 ] " ولو جئنا بمثله مددا " أي بمثل البحر وقرأ بعضهم " ولو جئنا بمثله مدادا " وقراءة العامة " مددا " ومعناهما واحد " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا " [ البقرة : 269 ] وهو قليل عند علم الله تعالى
قوله تعالى " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه " أي من يخاف البعث بعد الموت " فليعمل عملا صالحا " أي خالصا فيما بينه وبين الله تعالى " ولا يشرك " أي لا يخلط ولا يرائي " بعبادة ربه أحدا " وقال سعيد بن جبير " فمن كان يرجو " أي من كان يرجو ثواب ربه وروي عن مجاهد أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال إني أتصدق بالصدقة وألتمس بها وجه الله وأحب أن يقال لي خيرا فنزل " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا " قرأ حمزة والكسائي وإبن عامر في إحدى الروايتين " أن ينفد " بالياء بلفظ التذكير وقرأ الباقون بالتاء بلفظ التأنيث لأن الفعل إذا كان مقدما على الإسم يجوز التأنيث والتذكير
قال الفقيه حدثنا أبو الحسن أحمد بن عمران قال حدثنا أبو شهاب قال حدثنا غنام بن يوسف قال حدثنا أبو عبد الله المديني عن مخلد بن عبد الواحد عن الخليل عن علي بن زيد بن جدعان عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من(2/365)
366
قرأ سورة الكهف فهو معصوم ثمانية أيام من كل فتنة تكون فإن خرج الدجال في تلك الثمانية أيام عصمه الله من فتنة الدجال ومن قرأ الآية التي في آخرها " قل إنما أنا بشر مثلكم " إلى الخاتمة حين يأخذ مضجعه كان له نور يتلألأ في مضجعه إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم من مضجعه وإن كان مضجعه بمكة فتلاها كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه ويستغفرون له حتى يستيقظ من نومه إلى غير ذلك مما ورد في فضلها من الأخبار والآثار وصلى الله على سيدنا محمد النبي المختار وعلى آله وصحابته الأطهار صلاة وسلاما دائمين ما تعاقب الليل والنهار آمين آمين آمين والحمد لله رب العالمين(2/366)
367
سورة مريم
مكية وهي تسعون وثمان آيات
سورة مريم 1 - 6
قوله سبحانه وتعالى " كهيعص " قرأ إبن كثير وعاصم في رواية حفص بنصب الهاء والياء وقرأ عاصم في رواية أبي بكر والكسائي بكسر الهاء والياء وقرأ أبو عمرو بكسر الهاء ونصب الياء وقرأ حمزة وإبن عامر بنصب الهاء وكسر الياء وقرأ نافع بين الكسر والفتح وهو إختيار أبي عبيدة ومعنى هذا كله واحد قال إبن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله " كهيعص " قال الكاف فالله كاف لخلقه والهاء فالله الهادي لخلقه وأما الياء فيد الله مبسوطة على خلقه بالرزق لهم والعطف عليهم وأما العين فالله تعالى عالم بخلقه وأمورهم وأما الصاد فالله تعالى صادق بوعده وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال هو اسم الله الأعظم وروي عنه أنه قال هو قسم أقسم الله تعالى بكهيعص ويقال هي حروف تدل على إبتداء السور نحو " الر " و " المر " وغيرهما
ثم قال " ذكر رحمة ربك عبده زكريا " معناه على طريق إبن عباس باسم الله الكافي الهادي العالم الصادق " ذكر رحمة ربك عبده زكريا " بالرحمة ومن قال إنه قسم فمعناه ورب كهيعص إنه ذكر عبده زكريا بالرحمة ومن قال هو إبتداء السورة فمعناه إقرأ " كهيعص "
ثم قال " ذكر رحمة ربك عبده زكريا " ومعناه ذكر ربك عبده زكريا بالرحمة لأن ذكره بالرحمة لا يكون إلا بالله تعالى ففي الآية تقديم وتأخير يقول ذكر ربك عبده زكريا بالرحمة وهو زكريا بن ماثان " إذ نادى ربه نداء خفيا " يقول دعا ربه نداء خفيا يقول(2/367)
368
أخفاه وأسره من قومه ويقال دعا ربه دعاء سرا لأنه علم أن دعاء السر أنفع وأسرع إجابة ويقال دعا ربه نداء خفيا يعني خالصا " قال رب إني وهن العظم مني " أي ضعف عظمي " واشتعل الرأس شيبا " يعني أخذ في الرأس شيبا وبياضا " شيبا " صار نصبا بالتمييز والمعنى إشتعل الرأس من الشيب يقال للشيب إذا كثر جدا قد أشتعل رأس فلان بالشيب
ثم قال " ولم أكن بدعائك رب شقيا " يعني لم تكن تخيب دعائي عندك إذا دعوتك
ثم قال " وإني خفت الموالي من ورائي " يعني خشيت ويقال يعني الورثة ويقال بنو العم ويقال العصبة من ورائي يعني من بعد موتي خاف أن يرثه غير الولد وروي عن قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يرحم الله تعالى زكريا وما كان عليه من ورثة وروي عن سعيد بن العاص أنه قال أملى علي عثمان رضي الله عنه " وإني خفت الموالي " بنصب الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء ويقال يعني ذهبت الموالي وقال أبو عبيدة لولا خلاف الناس لاتبعنا عثمان فيها
ثم قال " وكانت إمرأتي عاقرا " يعني عقيما لم تلد " فهب لي من لدنك وليا " يعني ولدا " يرثني ويرث من آل يعقوب " وقال عكرمة يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوة وهكذا قال الضحاك وقال بعضهم " يرثني " يعني علمي وسنتي لأن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون مالا وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الأنبياء لم يورثوا دراهم ولا دنانير وإنما ورثوا هذا العلم ويقال لأنه رأى من الفتن وغلبة أهل الكفر فيخاف على إفساد مواليه إن لم يكن أحد يقوم مقامه ويخولهم بالموعظة قرأ أبو عمرو والكسائي " يرثني ويرث " بجزم كلا الثاءين على معنى جواب الأمر أي أنك إذا وهبت لي وليا يرثني وقرأ الباقون " يرثني ويرث " بالضم وقال أبو عبيدة وهذا أحب إلي قال معناه هب لي الذي هذه حاله وصفته لأن الأولياء قد يكون منهم الوراثة وغيرهم فيقول هب لي الذي يكون ورائي وارث النبوة ثم قال " واجعله رب رضيا " يعني صالحا زكيا
سورة مريم 7 - 10
قوله تعالى " يا زكريا إنا نبشرك بغلام إسمه يحيى " يعني أوحى الله تعالى وأرسل إليه(2/368)
369
جبريل وأن جبريل عليه السلام أدى إليه الرسالة من الله عز وجل قال الله تعالى " إنا نبشرك " وقد بين ذلك في سورة آل عمران " فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى " [ آل عمران : 39 ] ثم قال هنا " بغلام إسمه يحيى " " لم نجعل له من قبل سميا " يعني لم نجعل لزكريا من قبل يحيى ولدا يسمى يحيى ويقال لم يكن قبله أحد يسمى بذلك الإسم ويقال لم يكن بذلك الإسم في زمانه أحد وإنما سمي يحيى لأنه حي بالعلم والحكمة التي أوتيها ويقال لأنه حي به المجالس ويقال لأنه حيي به عقر أمه ويقال " لم نجعل له من قبل سميا " أي نظيرا ومثالا قرأ حمزة " نبشرك " بنصب النون وجزم الباء وضم الشين بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد وضم النون ونصب الباء وكسر الشين " نبشرك "
فقال زكريا عند ذلك لجبريل عليه السلام " قال رب " يقول يا سيدي " أنى يكون لي غلام " يعني من أين يكون لي ولد ويقال إنما قال ذلك على وجه الدعاء لله تعالى فقال يا رب من أين يكون لي ولد " وكانت إمرأتي عاقرا " من الولد " وقد بلغت من الكبر عتيا " يقول تحول العظم مني يابسا ومنه يقال قلب عات إذا كان قاسي القلب غير لين ويقال لكل شيء إنتهى فقد عتى ولم يكن زكريا شاكا في بشارة الله عز وجل ولكن أحب أن يعلم من أي وجه يكون قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص والكسائي " عتيا " بكسر العين وكذلك " صليا " و " جثيا " " وبكيا " إلا أن عاصما خالفهما في " بكيا " وقرأ الباقون كلها بالضم وكان أبو عبيدة إختار الضم لأنه أفصح اللغتين وهي قراءة أبي رضي الله عنه
" قال " جبريل لزكريا " كذلك " يعني هكذا كما قلت إنك " قد بلغت من الكبر عتيا قال ربك هو على هين " يعني كما قلت أنك قد بلغت من الكبر عتيا ولكن الله عز وجل " قال هو علي هين " يعني خلقه علي يسير " وقد خلقتك من قبل " يعني من قبل يحيى " ولم تك شيئا " قرأ حمزة والكسائي " وقد خلقناك " بالنون مقدمة والألف مؤخرة وقرأ الباقون " خلقتك " وهو إختيار أبي عبيدة
قال زكريا عليه السلام " رب إجعل لي آية " في الولد روى أسباط عن السدي قال لما بشر زكريا عليه السلام جاءه الشيطان عليه اللعنة فقال إن هذاء النداء الذي نوديت ليس من الله عز وجل وإنما هو من الشيطان ليسخر بك ولو كان من الله عز وجل لأوحاه إليك كما كان يوحي إليك ف " قال " عند ذلك " رب إجعل لي آية " أعلم بها أن هذا النداء منك
" قال " الله تعالى له " آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا " أي علامتك أن لا تستطيع أن تكلم الناس ثلاث ليال وأنت صحيح سليم من غير خرس ولا مرض ورجع تلك الليلة إلى إمرأته فقربها ووضع الولد في رحمها فلما أصبح إعتقل لسانه عن كلام
الناس(2/369)
370
سورة مريم 11 - 15
" فخرج على قومه من المحراب " يعني من المسجد " فأوحى إليهم " يعني أشار وأومأ إليهم ويقال كتب كتابا وألقاه على الأرض ولم يقدر أن يتكلم به " أن سبحوا " يعني صلوا لله تعالى " بكرة وعشيا " يعني غدوة وعشيا فعرف عند ذلك أنه آية الولد
قوله عز وجل " يا يحيى خذ الكتاب بقوة " يعني أوحى الله تعالى إليه أن " يا يحيى خذ الكتاب بقوة " يعني بجد ومواظبة " وآتيناه الحكم صبيا " يعني أجرينا الحكم على لسانه في حال صغره وذلك أنه مر بصبيان يلعبون فقالوا له تعال حتى نلعب فقال لهم ما للعب خلقنا ويقال " خذ الكتاب بقوة " أي بجد وعون من الله تعالى ويقال بكثرة الدرس " آتيناه الحكم صبيا " يعني النبوة والفقه والخير كله في صغره " وحنانا من لدنا " يعني آتيناه رحمة من عندنا وأصله من حنين الناقة على ولدها " وزكاة " يعني وصدقة منا ويقال التطهير ويقال صلاحا في دينه وقال سعيد بن جبير الزكاة التزكية " وكان تقيا " يعني مطيعا لربه " وبرا بوالديه " يعني مطيعا لهما ولا يعصيهما " ولم يكن جبارا " يعني لم يكن قتالا والجبار الذي يقتل على الغضب ويضرب على الغضب " عصيا " يعني لم يكن عصيا لربه والعصي والعاصي واحد
قوله عز وجل " وسلام عليه " أي السلام من الله عز وجل والسعادة تناله " يوم ولد " أي حين ولد " ويوم يموت " يعني حين يموت " ويوم يبعث حيا " أي حين يبعث حيا وروى قتادة عن الحسن أن يحيى عليه السلام قال لعيسى عليه السلام حين إلتقيا أنت خير مني فقال عيسى صلوات الله عليه بل أنت خير مني سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي وروي عن بعض الصحابة أنه قال ما من الناس أحد إلا وهو يلقى الله عز وجل يوم القيامة وهو ذو ذنب إلا يحيى بن زكريا عليهما السلام وروي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما أذنب يحيى ولا هم بإمرأة
سورة مريم 16 - 21(2/370)
371
قوله تعالى " واذكر في الكتاب مريم " يعني أذكر في القرآن خبر مريم ومعناه إقرأ عليهم ما أنزل عليك في القرآن من خبر مريم " إذ إنتبذت " يعني إعتزلت وتنحت " من أهلها مكانا شرقيا " يعني مشرقة الشمس في دار أهلها " فاتخذت من دونهم حجابا " يعني ضربت وأرخت من دونهم سترا " فأرسلنا إليها روحنا " يعني بعثنا إليها جبريل عليه السلام " فتمثل لها بشرا سويا " يعني تشبه لها في صورة شاب تام الخلقة فدنا منها فأنكرت مريم مكان الرجل و " قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا " يعني إن كنت مطيعا لله عز وجل وإنما قالت " إن كنت تقيا " لأن التقي إذا وعظ بالله عز وجل إتعظ وخاف والفاسق يخوف بالسلطان والمنافق يخوف بالناس فالتقي يخوف بالله ويقال في الآية مضمر ومعناه إحذر إن كنت تقيا " قال " لها جبريل عليه السلام " إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا " يعني ولدا صالحا قرأ أبو عمرو ونافع في إحدى الروايتين " ليهب لك " بالياء وقرأ الباقون " لأهب لك " بالألف فمن قرأ " ليهب " فمعناه ليهب الله تعالى لك ومن قرأ " لأهب لك " يكون فيه مضمر ومعناه إنما أنا رسول ربك فقال " لأهب لك غلاما زكيا " يعني قال ربك وهذا إختيار أبي عبيدة وهو موافق لخط المصاحف
" قالت " مريم لجبريل عليه السلام " أنى يكون لي غلام " يعني من أين يكون لي ولد " ولم يمسسني بشر " يعني لم يقربني زوج " ولم أك بغيا " يعني لم أك فاجرة " قال " لها جبريل عليه السلام " كذلك " يعني هكذا كما قلت " قال ربك هو علي هين " يعني خلقه علي يسير " ولنجعله آية للناس " يعني عبرة للناس يعني لبني إسرائيل " ورحمة منا " يعني ونعمة منا " وكان أمرا مقضيا " يعني قضاء كائنا
سورة مريم 22 - 26
ثم قال عز وجل " فحملته " يعني حملت مريم بعيسى عليه السلام وقال وهب بن منبه إن مريم حملت بعيسى عليه السلام تسعة أشهر وقال بعضهم ثمانية أشهر فتلك آية لأنه لا يعيش مولود في ثمانية أشهر وروي في بعض الروايات عن إبن عباس أنه قال ما هي إلا أن حملت ثم وضعت وقال مقاتل حملت في ساعة ووضعت في ساعة " فانتبذت به(2/371)
372
مكانا قصيا ) يعني إنفردت بولادتها مكانا بعيدا قال القتبي القصي أشد بعدا من القاصي
ثم قال " فأجاءها المخاض " يعني جاء بها وألجأها المخاض يعني الطلق بولادة عيسى عليه السلام " إلى جذع النخلة " أي أصل النخلة قال إبن عباس النخلة اليابسة في شدة الشتا يعني الطلق " قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا " يعني شيئا متروكا لم أذكر ويقال للشيء الحقير الذي إذا ألقي ينسى نسي وقال قتادة يعني لا أعرف ولا أدري من أنا وقال عكرمة يعني جيفة ملقاة وهكذا قال الضحاك وقال ربيعة بن أنس يعني سقطا قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص " نسيا " بنصب النون والباقون " نسيا " بكسر النون قال أبو عبيد وبالكسر نقرؤها لأنها كانت أكثر في لغة العرب وأفشاها وعليها أهل الحرمين والبصرة
ثم قال عز وجل " فناداها من تحتها " قرأ حمزة والكسائي ونافع وعاصم في رواية حفص " من تحتها " بكسر الميم يعني الملك وهكذا قرأ مجاهد والحسن وقرأ الباقون " من تحتها " بالنصب يعني به عيسى عليه السلام وقال أبو عبيد بالأولى نقرأ يعني بالكسر لأن قراءتها أكثر والمعنى فيها أعم لأنه إذا قال " من تحتها " بالكسر فقد أحتمل أن يكون الملك ويكون عيسى وإذا قرأ " من تحتها " فإنما هو عيسى خاصة " ألا تحزني " بولادة عيسى ومكان الحدث " قد جعل ربك تحتك سريا " يعني نهرا صغيرا بحبال ويقال " قد جعل ربك تحتك سريا " أي بيتا فذكر هذا القول عند إبن حميد فأنكره وقال هو الجدول ألا ترى أنه قال " فكلي واشربي " قال مجاهد السري بالسريانية وقال سعيد بن جبير بالنبطية
ثم قال عز وجل " وهزي إليك بجذع النخلة " يقول حركي أصل النخلة " تساقط عليك رطبا جنيا " يعني غضا طريا قرأ حمزة " تساقط " بنصب التاء وتخفيف السين وأصله تتساقط إلا أنه حذفت منه إحدى التاءين للتخفيف وهذا كقوله " لو تسوى بهم الأرض " [ النساء : 42 ] وأصله تتسوى وكقوله " تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان " [ البقرة : 85 ] وكقوله " ويوم تشقق السماء بالغمام " [ الفرقان : 25 ] وقرأ عاصم في رواية حفص " تساقط " بضم التاء وتخفيف السين وكسر القاف يعني أن النخلة تساقط عليك وقرأ الباقون بنصب التاء وتشديد السين ونصب القاف لأن التشديد أقيم مقام التاء التي حذفت وروي عن البراء بن عازب أنه كان يقرأ " يساقط " بالياء يعني أن الجذع يساقط عليك وقرأ بعضهم " نساقط " بالنون ومعناه ونحن نساقط عليك وروي أنها كانت نخلة بلا رأس وكان ذلك في الشتاء فجعل الله عز وجل لها رأسا وأنبت فيها رطبا فذلك قوله عز وجل " تساقط عليك رطبا " أي غضا طريا
قيل لها " فكلي " من الرطب " واشربي " من النهر " وقري عينا " يعني طيبي نفسا بولادة عيسى
عليه السلام وقال الربيع بن خيثم ما للنفساء عندي دواء إلا الرطب ولا للمريض إلا العسل(2/372)
373
ثم قال عز وجل " فإما ترين من البشر أحدا " يعني إن رأيت أحدا من الناس " فقولي " إن سألك سائل شيئا فقولي " إني نذرت للرحمن صوما " يعني صمتا وروي عن إبن عباس في بعض الروايات أنه كان يقرأ " إني نذرت للرحمن صمتا " " فلن أكلم اليوم إنسيا " يعني قولي ذلك بالإشارة لا بالقول وكان المتقدمون يصومون من الكلام كما يصومون من الطعام
سورة مريم 27 - 33
ثم قال " فأتت به قومها تحمله " وذلك أن مريم حملت عيسى عليه السلام ودخلت على أهلها وكان أهلها أهل بيت صالحين " قالوا " أي قال لها قومها " يا مريم لقد جئت شيئا فريا " يعني أتيت وفعلت أمرا منكرا عظيما لا يعرف منك ولا من أهل بيتك
قوله عز وجل " يا أخت هارون " يعني هارون بن ماثان وكان من أمثل بني إسرائيل " يا أخت هارون " يعني يا شبه هارون في الصلاة والصلاح ويقال كان رجل سوء يسمى هارون فعيروها به وشبهوها بهارون ويقال كان لها أخ يقال له هارون من أبيها ولم يكن من أمها وذكر أن أهل الكتاب قالوا كيف تقولون إن مريم أخت هارون وكان بينهما ستمائة سنة فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياء والصالحين عليهم السلام يعني أن أخا مريم سمي بإسم هارون النبي عليه السلام
ثم قال " ما كان أبوك امرأ سوء " يعني زانيا " وما كانت أمك بغيا " يعني فاجرة
قوله عز وجل " فأشارت إليه " يعني أشارت إلى عيسى عليه السلام أن كلموه يعني كلموا عيسى " قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا " يعني من هو في الحجر رضيع ويقال معناه كيف نكلم من هو يكون في المهد ويقال معناه كيف نكلم من يكون في المهد صبيا فأنطق الله عز وجل عيسى فتكلم و " قال إني عبد الله " فأول الكلام به الذي تكلم به هو رد على النصارى لأنه أقر بأنه عبد الله ورسوله ثم قال " آتاني الكتاب " روي عن إبن عباس أنه قال معناه علمني الكتاب في بطن أمي ويقال معناه يؤتيني الكتاب وهو الإنجيل " وجعلني نبيا " أي أكرمني الله تعالى بأن جعلني نبيا " وجعلني مباركا " يعني جعلني معلما للخلق " أينما كنت " يعني حيث ما كنت " وأوصاني بالصلاة والزكاة "(2/373)
374
يعني أوصاني وأمرني بإتمام الصلاة وإعطاء الزكاة " ما دمت حيا وبرا بوالدتي " يعني جعلني رحيما بوالدتي " ولم يجعلني جبارا شقيا " يعني لم يخذلني حتى صرت به جبارا عصيا " والسلام علي " يعني السلام علي من الله عز وجل " يوم ولدت " يعني حين ولدت " ويوم أموت " يعني حين أموت " ويوم أبعث حيا " يعني أبعث يوم القيامة فكلمهم بهذا ثم سكت فلم يتكلم حتى كان قدر ما يتكلم الغلمان
سورة مريم 34 - 36
ثم قال عز وجل " ذلك عيسى إبن مريم " أي ذلك الذي قال إني عبد الله هو عيسى إبن مريم عليه السلام لا كما يقول النصارى إنه إله " قول الحق " يعني خبر الصدق قرأ عاصم وإبن عامر " قول الحق " بنصب اللام وقرأ الباقون بالضم فمن قرأ بالنصب فمعناه أقول قول الحق ومن قرأ بالضم معناه وهو قول الحق " الذي فيه يمترون " يعني يشكون في عيسى عليه السلام ويختلفون فيما بينهم
ثم كذبهم في قولهم فقال عز وجل " ما كان لله أن يتخذ من ولد " يعني عيسى ثم نزه نفسه عن الولد فقال " سبحانه " " إذا قضى أمرا " يعني إذا أراد أن يخلق خلقا مثل عيسى " فإنما يقول له كن فيكون " قرأ إبن عامر " فيكون " بنصب النون وقرأ الباقون بالضم وقرأ بعضهم " تمترون " بالتاء على وجه المخاطبة وقراءة العامة بالياء لأنها ليست فيها مخاطبة
ثم قال " وإن الله ربي وربكم " قرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو " وأن الله " بنصب الألف " ربكم " بالنصب على معنى البناء وقرأ الباقون " وإن الله " بالكسر على معنى الإبتداء وهي قراءة أبي عبيدة وفي قراءة أبي " إن الله " بغير واو فتكون قراءته شاهدة على الكسر
ثم قال " فاعبدوه " يعني وحدوه وأطيعوه " هذا صراط مستقيم " يعني هذا الإسلام طريق مستقيم
سورة مريم 37 - 39
" فاختلف الأحزاب من بينهم " يعني الكفار من أهل النصارى " من بينهم " يعني بينهم في عيسى عليه السلام وتفرقوا ثلاث فرق قالت النسطورية عيسى إبن الله واليعقوبية قالوا إن الله هو المسيح والملكانية قالوا إن الله ثالث ثلاثة " فويل " يعني شدة من(2/374)
375
العذاب " للذين كفروا من مشهد يوم عظيم " يعني من عذاب يوم القيامة بأن عيسى لم يكن الله ولا ولده ولا شريكه ويقال ويل صخرة في جهنم
قال عز وجل " أسمع بهم وأبصر " يعني أعلمهم وأسمعهم وأبصرهم " يوم يأتوننا " يعني يوم القيامة بأن عيسى لم يكن الله ولا ولده ولا شريكه " لكن الظالمون " يعني المشركون " اليوم " يعني في الدنيا " في ضلال مبين " يعني في خطأ بين لا يسمعون الهدى ولا يبصرون ولا يرغبون فيه " وأنذرهم يوم الحسرة " يقول خوفهم يا محمد بهول يوم القيامة " إذ قضي الأمر " يعني فرغ من الأمر إذا دخل أهل الجنة الجنة ودخل أهل النار النار وهو يوم الندامة " وهم في غفلة " يعني هم في الدنيا في غفلة عن تلك الندامة والحسرة " وهم لا يؤمنون " يعني لا يصدقون بالبعث
قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا إسماعيل بن جعفر المدني عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن الزهري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يؤتى بالموت فيوقف على الصراط فيقال يا أهل الجنة فيطلعون ويقال يا أهل النار فيطلعون فيقال هل تعرفون هذا فيقولون نعم يا ربنا هذا الموت قال فيؤمر به فيذبح على الصراط ثم يقال للفريقين خلود لا موت فيها أبدا وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه فذلك قوله " وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر " الآية
سورة مريم 40 - 47
ثم قال " إنا نحن نرث الأرض ومن عليها " يعني نميت أهل الأرض كلهم ومن عليها " وإلينا يرجعون " في الآخرة
قوله تعالى " واذكر في الكتاب إبراهيم " يعني خبر إبراهيم " إنه كان صديقا نبيا " يعني صادقا وقال الزجاج الصديق إسم للمبالغة في الصدق يقال كل من صدق بتوحيد الله عز وجل وأنبيائه عليهم السلام وفرائضه وعمل بما صدق فيه فهو صديق ومن ذلك سمي أبو بكر الصديق " إذ قال لأبيه " وهو آزر بن تارخ بن تاخور وكان يعبد الأصنام " يا أبت(2/375)
376
لم تعبد ما لا يسمع ) دعاءك " ولا يبصر " عبادتك " ولا يغني عنك " من عذاب الله عز وجل " شيئا " قرأ إبن عامر " يا أبت " بالنصب والباقون بالكسر وكذلك ما بعده والعرب تقول في النداء يا أبت ولا تقول يا أبتي
ثم قال " يا أبت إني قد جاءني من العلم " من الله عز وجل من البيان " ما لم يأتك " أنه من عبد غير الله عز وجل عذبه الله في الآخرة بالنار " فاتبعني " يعني أطعني فيما أدعوك ويقال أتبع دين الله " أهدك " يعني أرشدك " صراطا سويا " يعني طريقا عدلا قائما ترضاه
ثم قال " يا أبت لا تعبد الشيطان " يعني لا تطع الشيطان فمن أطاع شيئا فقد عبده " إن الشيطان كان للرحمن عصيا " يعني عاصيا
ثم قال " يا أبت إني أخاف أن يمسك " يعني أعلم أن يمسك " عذاب " يعني إن أقمت على كفرك يصيبك عذاب " من الرحمن " " فتكون للشيطان وليا " يعني قرينا في النار " قال " له أبوه " أراغب أنت عن آلهتي " يعني أتارك أنت عبادة آلهتي " يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك " يقول إن لم تنته عن مقالتك ولم ترجع عنها لأسبنك وأشتمنك وكل شيء في القرآن من الرجم فهو القتل غير ها هنا فإن ها هنا أراد به السب والشتم " واهجرني مليا " يعني تباعد عني حينا طويلا ولا تكلمني وقال السدي " مليا " تعني أبدا وقال قتادة " واهجرني مليا " يعني تباعد عني سالما ويقال لا تكلمني دهرا طويلا
" قال " إبراهيم " سلام عليك " يعني أكرمك الله بالهدى " سأستغفر لك ربي " يعني سأدعو لك ربي " إنه كان بي حفيا " يعني بارا عودني الإجابة إذا دعوته ويقال تحفيت بالرجل إذا بالغت في إكرامه وهذا قول القتبي ويقال " حفيا " يعني عالما يستجيب لي إذا دعوته وكان يستغفر له ما دام أبوه حيا وكان يرجو أن يهديه الله عز وجل فلما مات كافرا ترك الإستغفار له
سورة مريم 48 - 50
قوله عز وجل " وأعتزلكم " يعني وأترككم " وما تدعون من دون الله " يعني وأترك عبادة ما تعبدون من دون الله عز وجل " وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا " يعني لا يخيبني إذا دعوته ثم هاجر إلى بيت المقدس " فلما إعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب " يعني أكرمناه بالولد وهو إسحاق وولد الولد وهو يعقوب عليهما السلام وقال بعض الحكماء من هاجر لطلب رضاء الله عز وجل أكرمه الله عز وجل في(2/376)
377
الدنيا والآخرة كما أن إبراهيم عليه السلام هاجر من قومه في طلب رضى الله تعالى عنه فأكرمه الله تعالى بإسحاق ويعقوب عليهما السلام والثناء العمل الصالح
ثم قال تعالى " وكلا جعلنا نبيا " يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام أكرمناهم بالنبوة " ووهبنا لهم من رحمتنا " يعني من نعمتنا المال والولد في الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم نعم المال الصالح للرجل الصالح " وجعلنا لهم لسان صدق عليا " يعني أكرمناهم بالثناء الحسن وكل أهل دين يتولون دين إبراهيم عليه السلام بزعمهم
سورة مريم 51 - 53
قوله عز وجل " واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا " يعني أخلصه الله عز وجل ويقال " مخلصا " يعني جعله الله مختارا خالصا قرأ حمزة والكسائي وعاصم بنصب اللام يعني أخلصه الله عز وجل ويقال معصوما من الكفر والمعاصي وقرأ الباقون " مخلصا " بالكسر يعني مخلصا في العمل " وكان رسولا نبيا " إلى بني إسرائيل " وناديناه من جانب الطور الأيمن " يعني من يمين موسى عليه السلام ولم يكن للجبل يمين ولا شمال " وقربناه نجيا " أي كلمناه بلا وحي وقال الكلبي " وقربناه نجيا " يعني وقربناه حتى سمع صرير القلم في اللوح وقال السدي أدخل في السماء الدنيا وكلم وقال الزجاج " وقربناه نجيا " مناجيا حتى سمع
ثم قال عز وجل " ووهبنا له من رحمتنا " أي من نعمتنا " أخاه هارون نبيا " فكان هارون عليه السلام معه وزيرا نبيا معينا
سورة مريم 54 - 55
قوله تعالى " واذكر في الكتاب إسماعيل " يعني أذكر في القرآن خبر إسماعيل " إنه كان صادق الوعد " إذا وعد أنجز قال مقاتل إن إسماعيل وعد رجلا أن ينتظره فقام مكانه ثلاثة أيام للميعاد حتى رجع الرجل إليه وقال في رواية الكلبي كان ميعاده الذي وعد فيه صاحبه إنتظره حتى حال الحول وقال مجاهد " إنه كان صادق الوعد " يعني لم يعد شيئا إلا وفى به " وكان رسولا نبيا " يعني " كان رسولا " إلى قومه " نبيا " يخبر عن الله عز وجل " وكان يأمر أهله " يعني أهل دينه وقومه " بالصلاة والزكاة " يعني بإتمام الصلاة وإيتاء الزكاة " وكان عند ربه مرضيا " يعني صالحا ذكيا
سورة مريم 56 - 58(2/377)
378
قوله عز وجل " واذكر في الكتاب إدريس " يعني خبر إدريس عليه السلام " إنه كان صديقا نبيا " يعني صادقا يخبر عن الله عز وجل وذكر عن وهب بن منبه أنه قال إنما سمي إدريس لكثرة ما يدرس من كتاب الله عز وجل والسنن وأنزل عليه ثلاثين صحيفة وهو أول من لبس ثوب القطن وكانوا من قبل ذلك يلبسون جلود الضأن وإسمه أخنوخ ويقال إلياس " ورفعناه مكانا عليا " يعني الجنة وقال مجاهد يعني في السماء الرابعة
قال أخبرني الثقة بإسناده عن إبن عباس أنه سئل كعب الأحبار عن إدريس فقال كعب إن إدريس كان رجلا خياطا وكان يقوم الليل ويصوم النهار ولا يفتر عن ذكر الله عز وجل وكان يكتسب فيتصدق بالثلثين فأتاه ملك من الملائكة عليهم السلام يقال له إسرافيل فبشره بالجنة وقال له هل لك من حاجة قال وددت أني أعلم إلى متى أجلي فأزداد خيرا فقال له ما أعلمه ولكن إن شئت حملتك إلى السماء قال فحمله إلى السماء فلقي ملك الموت فسأله عن أجله ففتح كتابا معه فقال لم يبق من أجلك إلا ست ساعات أو سبع ساعات وقال أمرت أن أقبض نفسك ها هنا فقبض نفسه في السماء فذلك قوله " رفعناه مكانا عليا " لا
وروى الكلبي عن زيد بن أسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن إدريس جد أبي نوح وكان أهل الأرض يومئذ بعضهم مؤمنا وبعضهم كافرا فكان يصعد لإدريس من العمل ما كان يصعد لجميع بني آدم فأحبه ملك الموت فاستأذن الله تعالى في خلته فأذن له قال فهبط إليه في صورة غير صورته على صورة آدمي لكيلا يعرفه فقال يا إدريس إني أحب أن أصحبك وأكون معك فقال له إدريس إنك لا تطيق ذلك قال أنا أرجو أن يقويني الله عز وجل على ذلك فكان معه يصحبه وكان إدريس عليه السلام يسيح النهار كله وهو صائم فإذا جنه الليل أتاه رزقه حيث يمسي فيفطر عليه ثم يحيي الليل كله فساحا النهار كله صائمين حتى إذا أمسيا أتى إدريس رزقه فأكله ودعا الآخر فقال لا الله الذي جعلك بشرا ما أشتهيه فطعم إدريس ثم إستقبلا الليل بالصلاة وإدريس تناله السآمة والفترة من الليل والآخر لا يسأم ولا يفتر فجعل إدريس عليه السلام يتعجب منه ثم أصبحا صائمين فساحا حتى إذا جنهما الليل أتى إدريس رزقه فجعل يطعم ودعا الآخر فقال لا والذي جعلك بشرا ما أشتهيه فطعم إدريس
ثم إستقبلا الليل كله فإدريس تناله السآمة والفترة والآخر لا يسأم ولا يفتر فجعل إدريس يتعجب منه ثم أصبحا اليوم الثالث صائمين فساحا فمرا على كرم قد أينع وطاب فقال يا(2/378)
379
إدريس لو أنا أخذنا من هذا الكرم فأكلنا فقال إدريس ما أرى صاحبه ها هنا فأشتريه منه وإني لأكره أن آخذ بغير ثمن قال فمضيا حتى مرا على غنم فقال يا إدريس لو أخذنا من هذا الغنم شاة فأكلنا من لحمها فقال له إدريس إنك معي منذ ثلاثة أيام ما طعمت شيئا فلو كنت آدميا لطعمت وإني لأدعوك إلى الحلال كل ليلة فتأبى علي فكيف تدعوني إلى الحرام أن آخذه فبصحبة ما بيني وبينك إلا أنبأتني من أنت قال إنك ستعلم قال أخبرني من أنت قال أنا ملك الموت ففزع إدريس عليه السلام حين قال أنا ملك الموت
قال فإني أسألك حاجة قال ما هي قال أن تذيقني الموت فإنه قد بلغني عنه شدة ولعلي أعلم ما شدته فأكون له أشد إستعدادا قال ملك الموت عليه السلام مالي من ذلك شيء وليس لك بد من أن تذوقه قال فأوحى الله عز وجل إلى ملك الموت أن يقبض روحه ساعة ثم يرسله قال فقبض نفسه ساعة ثم أرسله فقال كيف رأيت قال لقد بلغني عنه شدة فلقد كان أشد مما بلغني عنه
قال فإني أسألك حاجة أخرى قال ما هي قال أحب أن تريني النار قال ما لي من ذلك من شيء ولكن سأطلب لك فإن قدرت عليه فعلت فسأل ربه فأمره فبسط جناحه فحمله عليه حتى صعد به إلى السماء فانتهى به إلى باب من أبواب النار فدقه فقيل من هذا فقال ملك الموت فقال مرحبا بأمين الله عز وجل فهل أمرت فينا بشيء فقال لو أمرت فيكم بشيء لم أناظركم ولكن هذا إدريس عليه السلام سألني أن أريه النار فأحب أن تروها إياه ففتح باب منها بشيء فجاءت بأمر عظيم فخر إدريس مغشيا عليه فحمله ملك الموت وحبسه في ناحية حتى أفاق فقال له ملك الموت ما أحببت أن يصيبك هذا في صحبتي ولكن سألتني فأحببت أن أسعفك
قال فإني أسألك حاجة أخرى لا أسألك غيرها قال ما هي قال أحب أن تريني الجنة قال ما لي من ذلك من شيء ولكن سأطلب فإن قدرت عليه فعلت فانطلق به إلى خزنة الجنة فدق بابا من أبوابها فقيل من هذا فقال أنا ملك الموت فقالوا مرحبا بأمين الله عز وجل هل أمرت فينا بشيء فقال لو أمرت فيكم بشيء لم أناظركم ولكن هذا إدريس سألني أن أريه الجنة فأحب أن تروها إياه قال ففتح له الباب فدخل فنظر إلى شيء لم ينظر مثله قط فطاف فيها ساعة ثم قال له ملك الموت إنطلق بنا فلنخرج فانطلق إلى شجرة فتعلق بها ثم قال والله لا أخرج حتى يكون الله عز وجل هو الذي يخرجني فقال ملك الموت إنه ليس حينها ولا زمانها ولكن طلبت إليهم لترى فانطلق بنا فأبى عليه فقيض الله له ملكا من الملائكة فقال له ملك الموت إجعل هذا الملك حكما بيني وبينك قال نعم قال الملك ما(2/379)
380
هو ما ملك الموت فأخبره بالقصة ثم نظر الملك إلى إدريس قال ما تقول يا إدريس قال أقول إن الله يقول " كل نفس ذائقة الموت " [ آل عمران : 185 ] فقد ذقته ويقول الله عز وجل " وإن منكم إلا واردها " [ مريم : 71 ] وقد وردتها وقال لأهل الجنة " وما هم منها بمخرجين " [ الحجر : 48 ] فوالله لا أخرج منها حتى يكون الله عز وجل هو الذي يخرجني قال فسمع هاتفا يقول بإذني دخل وبإذني فعل فخل سبيله فذلك قوله عز وجل " ورفعناه مكانا عليا " يعني الجنة ويقال " رفعناه " في القدر والمنزلة ويقال " رفعناه " في النبوة والعلم
ثم قال عز وجل " أولئك " يعني إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس وسائر الأنبياء عليهم السلام " الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح " من سائر الأنبياء وهم ولد نوح عليه السلام إلا إدريس عليه السلام يعني حملناهم على السفينة وهم في صلب نوح وأولاده " ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل " وهو يعقوب " وممن هدينا " يعني أكرمنا بالنبوة ويقال أكرمنا بالإسلام " واجتبينا " يعني واصطفينا بعد هؤلاء " إذا تتلى عليهم آيات الرحمن " يعني القرآن " خروا سجدا وبكيا " يعني يسجدون ويبكون من خوف الله عز وجل بكي جمع باكي وقوله " سجدا وبكيا " منصوب على الحال وقال بعضهم " بكيا " مصدر بكى يبكي بكيا وقال الزجاج من قال مصدر فهو خطأ لأن " سجدا " جمع ساجد " وبكيا " عطف عليه فهو جمع باك
سورة مريم 59 - 62
قوله تعالى " فخلف من بعدهم خلف " يعني بقي بعد الأنبياء الذين ذكرناهم من أول السورة إلى هنا بقيات سوء وهم اليهود والنصارى يقال في الرداءة خلف بإسكان اللام وفي الصلاح خلف بفتح اللام
ثم وصفهم فقال " أضاعوا الصلاة " يعني عن وقتها ويقال تركوها ويقال تركوا الصلاة فلم يؤدوها وجحدوا بها فكفروا " واتبعوا الشهوات " يعني شرب الخمر ويقال إستحلوا الزنى ويقال إستحلوا نكاح الأخت من الأب " فسوف يلقون غيا " يعني شرا ويقال وادي في جهنم يسمى غيا ويقال مجازاة الغي كما قال الله عز وجل " يلق أثاما " [ الفرقان : 68 ] أي مجازاة الآثام
ثم إستثنى فقال تعالى " إلا من تاب " يعني رجع عن الكفر " وآمن " يعني صدق بتوحيد الله عز وجل " وعمل صالحا " بعد التوبة " فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا " يعني لا ينقصون شيئا من ثواب أعمالهم(2/380)
381
ثم قال عز وجل " جنات عدن " صار خفضا لأن معناه يدخلون في " جنات عدن " " التي وعد الرحمن عباده بالغيب " يعني ما غاب عن العباد والله عز وجل لا يغيب عنه شيء " إنه كان وعده مأتيا " يعني جائيا كائنا وقال القتبي " مأتيا " يعني المفعول بمعنى الفاعل يعني جائيا وقال الزجاج " مأتيا " مفعول من الإتيان لأن كل من وصل إليك فقد وصلت إليه وكل من أتاك فقد أتيته
ثم قال عز وجل " لا يسمعون فيها " يعني في الجنة " لغوا " يعني حلفا وباطلا " إلا سلاما " يعني ويسمعون السلام يسلم بعضهم على بعض وقال الزجاج اللغو ما يلغى من الكلام ويؤثم فيه والسلام إسم جامع للخير لأنه يتضمن السلامة يعني لا يسمعون إلا سلامهم
ثم قال " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا " يعني طعامهم على مقدار البكرة والعشي وليس هناك بكرة ولا عشي وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال كانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء أعجبهم ذلك فأخبرهم الله تعالى أن لهم في الجنة هذه الحالة وقال القتبي الناس يختلفون في طاعمهم فمنهم من يأكل الوجبة أي مرة واحدة في كل يوم ومنهم من يأكل متى وجد بغير وقت ولا عدد ومنهم من يأكل الغداء والعشاء فأعدل هذه الأحوال كلها وأنفعها الغداء والعشاء والعرب تقول من ترك العشاء يهرمه ويذهب بلحم الكارة يعني باطن الفخذ فجعل طعام أهل الجنة على قدر ذلك
سورة مريم 63 - 64
ثم قال عز وجل " تلك الجنة التي نورث من عبادنا " أي ننزل من عبادنا " من كان تقيا " يعني مطيعا لله عز وجل
قوله عز وجل " وما نتنزل إلا بأمر ربك " وذلك حين أبطأ عليه الوحي وعند سؤال أهل مكة عن ذي القرنين وأصحاب الكهف وأمر الروح عاتب المصطفى جبريل عليه السلام فقال الله تعالى قل يا جبريل لمحمد ومعناه قل " وما نتنزل إلا بأمر ربك " " له ما بين أيدينا " من أمر الآخرة " وما خلفنا " من أمر الدنيا " وما بين ذلك " أي ما بين النفختين " وما كان ربك نسيا " يعني لم يكن ينساك ربك حيث لم يوح إليك ويقال " ما بين أيدينا " يعني أمر الآخرة والثواب والعقاب " وما خلفنا " جميع ما مضى من أمر الدنيا " وما بين ذلك " ما يكون في هذا الوقت منا " وما كان ربك نسيا " أي قد علم الله عز وجل ما كان وما يكون وما هو كائن حافظ لذلك ويقال ما نسيك ربك وإن تأخر عنك الوحي وروي عن سعيد بن جبير(2/381)
382
عن إبن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت هذه الآية
سورة مريم 65 - 70
ثم قال " رب السموات والأرض " أي خالق السموات والأرض " وما بينهما " من الخلق ويقال " رب السموات والأرض " أي مالكهما وعالم بهما وما فيهما " فاعبده " أي أطعه " واصطبر لعبادته " يعني إحبس نفسك على عبادته " هل تعلم له سميا " يعني هل تعلم أحدا يسمى الله سوى الله وهل تعلم أحدا يسمى الرحمن سواه ويقال هل تعلم أحدا يستحق أن يقال له خالق وقادر وعالم بما كان وبما يكون
قوله عز وجل " ويقول الإنسان " يعني أبي بن خلف " أئذا ما مت لسوف أخرج حيا " للبعث على معنى الإستفهام قال الله عز وجل " أو لا يذكر الإنسان " يعني أو لا يتعظ ويعتبر " أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا " قرأ نافع وعاصم وإبن عامر " أو لا يذكر " بجزم الذال مع التخفيف يعني أو لا يعلم والباقون " أو لا يذكر " بنصب الذال والتشديد
ثم قال عز وجل " فوربك لنحشرنهم " أقسم الرب بنفسه ليبعثنهم وليجمعنهم يعني الذين أنكروا البعث " والشياطين " يعني الشياطين قرناءهم " ثم لنحضرنهم " يعني لنجمعنهم " حول جهنم جثيا " يعني جميعا قال أهل اللغة الجثي جمع جاثي مثل بارك وبرك وساجد وسجد وقاعد وقعد أي على ركبهم ولا يقدرون على القيام قال الزجاج الأصل ضم الجيم وجاز كسرها إتباعا لكسر التاء وهو نصب على الحال " ثم لننزعن من كل شيعة " يعني لنخرجن من كل شيعة يعني من أهل كل دين " أيهم أشد على الرحمن عتيا " يعني جرأة على الله عز وجل وهم القادة في الكفر وساداتهم نبدأ بهم فنعذبهم في النار وروي عن سفيان عن علي بن الأقمر عن أبي الأحوص في قوله " أيهم أشد على الرحمن عتيا " قال يبدأ بالأكابر فالأكابر جرما
قوله عز وجل " ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا " أي أحق بالنار دخولا(2/382)
383
سورة مريم 71 - 72
ثم قال عز وجل " وإن منكم إلا واردها " قال بعضهم يعني داخلها المؤمن والكافر يدخلون على الصراط وهو ممدود على متن جهنم ويقال " وإن منكم إلا واردها " يعني الكفار الذين تقدم ذكرهم
وروى سفيان عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد أن نافع بن الأزرق خاصم إبن عباس وقال لا يردها مؤمن فقال إبن عباس أما أنا وأنت فسندخلها فانظر بماذا تخرج منها إن خرجنا
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال يرد الناس جميعا الصراط وورودهم قيامهم حول النار ثم يمرون على الصراط بأعمالهم فمنهم من يمر مثل البرق ومنهم من يمر مثل الريح ومنهم من يمر مثل الطير ومنهم من يمر كأجود الخيل ومنهم من يمر كأجود الإبل ومنهم من يمر كعدو الرجل حتى أن آخرهم مثل رجل نوره على موضع إهاب قدميه ثم يتكفأ به الصراط والصراط دحض مزلق مزلقة كحد السيف عليه حسك كحسك العتاد وحافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس فبين مار ناج وبين مخدوش مكدوش في النار والملائكة عليهم السلام يقولون رب سلم سلم
وروى سفيان عن ثور بن خالد بن معدان قال إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا ألم يعدنا ربنا أنا نرد النار قيل إنكم قد مررتم بها وهي خامدة فذلك قوله عز وجل " وإن منكم إلا واردها " يعني الخلائق على الصراط والصراط في جهنم " كان على ربك حتما مقضيا " يعني قضاء واجبا
قال حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مندوست رحمه الله قال حدثنا فارس بن مردويه قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا عدي بن عاصم قال حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا جرير عن أبي السليل عن غنيم بن قيس عن أبي العوام قال قال كعب هل تدرون ما قوله " وإن منكم إلا واردها " قالوا ما كنا نرى ورودها إلا دخولها قال لا ولكن(2/383)
384
ورودها أن يجاء بجهنم كأنها متن إهالة حتى إذا إستوت عليها أقدام الخلائق برهم وفاجرهم نادى مناد خذي أصحابك وذري أصحابي فتخسف بكل ولي لها وهي أعلم بهم من الوالد بولده وينجو المؤمنون ندية ثيابهم
قال الفقيه وحدثني الثقة بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن إبن عباس قال لما نزلت هذه الآية كبا لها الناس كبوة شديدة وحزنوا حتى بلغ الحزن منهم كل مبلغ وقالوا وليس أحد إلا هو يدخلها فأنشؤوا يبكون قال ونزل بإبن مظعون ضيف فقال لامرأته هيئي لنا طعاما فاستوصي بضيفك خيرا حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى إليهم وهم يبكون فقال ما يبكيكم قالوا نزلت هذه الآية " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا " يقول كائنا لا يبقى أحد إلا دخلها فأنشأ عثمان بن مظعون يبكي ثم إنصرف إلى منزله باكيا فلما أتى منزله سمعت إمرأته بكاءه فأنشأت تبكي فلما سمع الضيف بكاءهما أنشأ يبكي فلما دخل عليهما عثمان قال لها ما يبكيك قالت سمعت بكاءك فبكيت فقال للضيف وأنت ما يبكيك قال عرفت أن الذي أبكاكما سيبكيني قال عثمان فابكوا وحق لكم أن تبكوا أنزل الله عز وجل اليوم على رسوله " وإن منكم إلا واردها " فمكثوا بعد هذه الآية سنتين ثم أنزل الله هذه الآية وهو قوله " ثم ننجي الذين إتقوا " وروي في بعض الأخبار أنه نزل بعد ثلاثة أيام " ثم ننجي الذين إتقوا " أي الذين إتقوا الشرك والمعاصي " ونذر الظالمين " يعني المشركين " فيها جثيا " يعني جميعا ففرح المسلمون بها قرأ الكسائي " ننجي " بالتخفيف قرأ والباقون بالنصب والتشديد أنجى ينجي ونجى ينجي بمعنى واحد
سورة مريم 73 - 76
قوله تعالى " وإذا تتلى عليهم " يعني تعرض عليهم " آياتنا بينات " يعني واضحات قد بين فيها الحلال والحرام " قال الذين كفروا للذين آمنوا " يعني النضر بن الحارث قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويقال أهل مكة قالوا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " أي الفريقين " يعني أي دينين " خير مقاما " يعني منزلا قرأ إبن كثير " مقاما " بضم الميم وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالضم فهو الإقامة يقال أقمت إقامة ومقاما ومن قرأ بالنصب فهو المكان الذي يقام فيه " وأحسن نديا " يعني مجلسا وذلك أنهم لبسوا الثياب وادهنوا الرؤوس ثم قالوا للمؤمنين أي الفريقين خير منزلة المسلمون أو المشركون وأرادوا أن يصرفوهم عن دينهم(2/384)
385
قوله عز وجل " وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا " يعني أكثر أموالا " ورئيا " يعني منظرا حسنا فلم يغن عنهم ذلك من عذاب الله شيئا قرأ نافع وإبن عامر " وريا " بتشديد الياء بغير همز يعني النعمة وقرأ الباقون " ورئيا " بالهمز بغير تشديد يعني المنظر قال أبو عبيد وهكذا تقرأ مهموزة لأنه من رؤية العين وإنما هي المنظر
ثم قال عز وجل " قل من كان في الضلالة " يعني قل يا محمد من كان في الكفر والشرك " فليمدد له الرحمن مدا " يعني يزيد له مالا وولدا قوله " فليمدد " هذا لفظ الأمر ومعناه الخبر وتأويله أن الله عز وجل جعل جزاء ضلالته أن يتركه فيها ويمده فيها كما قال " ويمدهم في طغيانهم يعمهون " [ البقرة : 15 ]
ثم قال تعالى " حتى إذا رأوا ما يوعدون " يعني في الآخرة من العذاب والثواب " إما العذاب " في الدنيا " وإما الساعة " يعني قيام الساعة " فسيعلمون " يعني فسيعرفون يوم القيامة " من هو شر مكانا " يعني صنيعا في الدنيا ومنزلا في الآخرة " وأضعف جندا " يعني أقل عددا وقوة ومنعة أهم أم المؤمنون
قوله عز وجل " ويزيد الله الذين إهتدوا هدى " يعني يزيد الله عز وجل الذين آمنوا بالمنسوخ هدى بالناسخ ليعملوا بالناسخ دون المنسوخ ويقال جعل جزاءهم أن يزيدهم في يقينهم ويزيدهم بصيرة " والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا " وقد ذكرناه " وخير مردا " يعني وأفضل مرجعا في الآخرة
سورة مريم 77 - 80
قوله عز وجل " أفرأيت الذي كفر بآياتنا " يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " وقال لأوتين " يعني لأعطين " مالا وولدا " في الجنة روى أسباط عن السدي أن خباب بن الأرت كان صائغا يعمل للعاص بن وائل حليا فجاء يسأله أجره فقال له العاص أنتم تزعمون أن لنا بعثا وجنة ونارا فإذا كان يوم القيامة فإني سأوتي مالا وولدا وأعطيك منه فنزل " أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا " في الجنة قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو " مالا وولدا " بفتح الواو واللام في كل القرآن غير أن أبا عمرو قرأ في سورة نوح بالضم وهكذا روي عن مجاهد وقرأ حمزة والكسائي بضم الواو وجزم اللام من ها هنا إلى آخر السورة والتي في الزخرف والتي في سورة نوح وقال أبو عبيد إنما قرأ هكذا لأنهما جعلا الولد غير الولد فيقال الولد جماعة الأهل والولد واحد وقال الزجاج الولد مثل أسد وأسد وجاز أن يكون(2/385)
386
الولد بمعنى الولد قال أبو عبيد والذي عندنا في ذلك أنهما لغتان والذي نختاره منهما بفتح الواو واللام
قال الله عز وجل ردا على الكافرين " أطلع الغيب " يقول أنظر في اللوح المحفوظ " أم إتخذ عند الرحمن عهدا " يعني أعقد عند الله عقد التوحيد وهو قول لا إله إلا الله ويقال أعهد إليه أن سيجعل له في الجنة " كلا " وهو رد عليه لا يعطى له ذلك واعلم أنه ليس في النصف الأول من القرآن كلا وأما النصف الثاني ففيه نيف وثلاثون موضعا ففي بعض المواضع في معنى الرد للكلام الأول وفي بعض المواضع للتنبيه في معنى الإفتتاح وفي بعض المواضع يحتمل كلا الوجهين
فأول ذلك " أطلع الغيب أم إتخذ عند الرحمن عهدا كلا " تم الكلام عنده أي كلا لم يطلع الغيب ولم يتخذ عهدا ثم إبتدأ " سنكتب ما يقول " ومن ذلك قوله " فأخاف أن يقتلون " [ القصص : 33 ] قال كلا لا يقتلونك وأما الذي هو للتنبيه في معنى الإفتتاح قوله عز وجل " حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون " [ التكاثر : 2 - 3 ] وقوله عز وجل " سنكتب ما يقول " يعني سنحفظ ما يقول من الكذب " ونمد له من العذاب " يعني نزيد له من العذاب " مدا " يعني بعضه على إثر بعض " ونرثه ما يقول " يعني نعطيه غير ما يقول في الجنة ونعطي ما يدعي لنفسه لغيره ثم قال " ويأتينا فردا " يعني وحيدا بغير مال ولا ولد
سورة مريم 81 - 82
قوله عز وجل " واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا " يعني منعة في الآخرة " كلا " رد عليهم أي لا يكون لهم منعة وتم الكلام ثم قال " سيكفرون بعبادتهم " يعني الآلهة يجحدون عبادتهم " ويكونون عليهم ضدا " يعني الآلهة تكون عونا عليهم في العذاب ويقال تكون عدوا لهم في الآخرة ومن هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم من طلب رضا المخلوق في معصية الخالق عاد الحامد له ذاما كما أن المشركين طلبوا العز من الآلهة فصارت الآلهة عونا عليهم في العذاب فوجدوا ضد ما طلبوا منه
سورة مريم 83 - 86
ثم قال عز وجل " ألم تر أنا أرسلنا الشياطين " يعني ألم تخبر في القرآن أنا سلطنا الشياطين " على الكافرين " مجازاة لهم ويقال خلينا بينهم وبين الكفار فلم نعصمهم " تؤزهم أزا " يعني تزعجهم إزعاجا وتغريهم إغراء حتى يركبوا المعاصي قال الضحاك " تؤزهم أزا "(2/386)
387
يعني تأمرهم أمرا وقال الحسن تقدمهم إقداما إلى الشر وقال الكلبي نزلت الآية في المستهزئين بالقرآن وهم خمسة رهط " فلا تعجل " يا محمد " عليهم " بالعذاب " إنما نعد لهم عدا " يعني أيام الحياة ثم ينزل بهم العذاب ويقال نعد عليهم النفس بعد النفس ويقال الأيام والليالي والشهور
قوله عز وجل " يوم نحشر المتقين " يعني أذكر يوم نحشر المتقين الذين إتقوا الشرك والفواحش " إلى الرحمن وفدا " يعني ركبانا على النوق والوفد جمع الوافد مثل الركب جمع راكب والوفد الذي يأتي بالخبر والبشارة ويجازي بالإحسان والكرامة وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ قوله تعالى " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا " ثم قال أتدرون على أي شيء يحشرون أما والله ما يحشرون على أقدامهم ولكن يؤتون بنوق لم ير الخلائق مثلها عليها رحال الذهب وأزمتها من الزبرجد ثم ينطلق بهم حتى يقرعوا باب الجنة وقال الربيع بن أنس يفدون إلى ربهم فيكرمون ويعظمون ويشفعون ويحيون فيها بسلام ويقال " إلى الرحمن " يعني إلى الرحمة وهي الجنة ويقال " إلى الرحمن " يعني إلى دار الرحمن
ثم قال عز وجل " ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا " يعني عطاشا مشاة وأصله الورود على الماء والوارد على الماء يكون عطشانا
سورة مريم 87 - 95
ثم قال عز وجل " لا يملكون الشفاعة إلا من إتخذ عند الرحمن عهدا " يعني من جاء بلا إله إلا الله وقال سفيان الثوري إلا من قدم عملا صالحا
قوله عز وجل " وقالوا إتخذ الرحمن ولدا " يعني اليهود والنصارى " لقد جئتم شيئا إدا " يعني قلتم قولا عظيما منكرا ويقال كذبا وزورا
قال عز وجل " تكاد السموات يتفطرن منه " يعني يتشققن من قولهم " وتنشق الأرض " يعني تتصدع الأرض " وتخر الجبال هدا " يعني تصير الجبال كسرا " أن دعوا للرحمن ولدا " يعني بأن قالوا لله ولد روي عن بعض الصحابة أنه قال كان بنو آدم لا يأتون شجرة إلا أصابوا منها منفعة حتى قالت فجرة بني آدم إتخذ الرحمن ولدا فاقشعرت الأرض وهلك الشجر وقرأ نافع والكسائي " يكاد " بالياء على لفظ التذكير وقرأ الباقون بالتاء بلفظ التأنيث(2/387)
388
لأن الفعل مقدم فيجوز كلاهما وقرأ إبن كثير ونافع والكسائي وعاصم في رواية حفص " تتفطرن " بالتاءين والباقون بالنون ومعناهما واحد مثل ينشق وتنشق
قال الله عز وجل " وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا " يعني ما اتخذ الله عز وجل ولدا " إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا " يعني أقر بالعبودية له يعني الملائكة وعيسى وعزيرا عليهم السلام وغيرهم " لقد أحصاهم " يعني حفظ عليهم أعمالهم ليجازيهم بها " وعدهم عدا " يعني علم عددهم ويقال " أحصاهم " أي حفظ أعمالهم فيجازيهم " وعدهم عدا " أي علم عدد أنفاسهم وحركاتهم " وكلهم آتيه يوم القيامة فردا " يعني وحيدا بغير مال ولا ولد
سورة مريم 96 - 98
قال عز وجل " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني الطاعات فيما بينهم وبين ربهم " سيجعل لهم الرحمن ودا " يعني يحبهم ويحببهم إلى الناس وقال كعب الأحبار رضي الله عنه قرأت في التوراة أنها لم تكن محبة لأحد إلا كان بدؤها من الله عز وجل ينزلها إلى أهل السماء ثم ينزلها إلى أهل الأرض ثم قرأت القرآن فوجدته فيه وهو قوله " سيجعل لهم الرحمن ودا " يعني محبة في أنفس القوم روى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أحب الله تعالى عبدا نادى جبريل عليه السلام قد أحببت فلانا فأحبوه فينادي في السماء ثم تنزل له المحبة في الأرض وإذا أبغض الله تعالى عبدا نادى جبريل قد أبغضت فلانا فينادي في أهل السماء ثم تنزل له البغضاء في أهل الأرض
قوله عز وجل " فإنما يسرناه بلسانك " يعني هونا قراءة القرآن على لسانك " لتبشر به المتقين " يعني الموحدين " وتنذر به قوما لدا " أي جدلا بالباطل شديدي الخصومة هو جمع ألد مثل أصم وصم
ثم قال عز وجل " وكم أهلكنا قبلهم من قرن " يعني من قبل قريش " هل تحس منهم من أحد " يعني هل ترى منهم من أحد " أو تسمع لهم ركزا " أي صوتا خفيا والركز الصوت الذي لا يفهم والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله(2/388)
389
سورة طه
وهي مكية مائة وثلاثون وخمس آيات
سورة طه 1 - 6
قوله سبحانه وتعالى " طه " قرأ أهل الكوفة وحمزة والكسائي في رواية أبي بكر طه بكسر الطاء والهاء وقرأ إبن عامر وإبن كثير وعاصم في رواية حفص " طه " بنصب الطاء والهاء وقرأ نافع وسطا بين النصب والكسر وقرأ أبو عمرو وإبن العلاء بنصب الطاء وكسر الهاء
قال إبن عباس رضي الله عنه في رواية أبي صالح لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي بمكة إجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادة فاشتد عليه فجعل يصلي الليل كله حتى شق عليه ذلك ونحل جسمه وتغير لونه فقال أبو جهل وأصحابه إنك شقي فأتنا بآية أنه ليس مع إلهك إله فنزل " طه " يعني يا رجل بلسان عك وعنى به النبي صلى الله عليه وسلم
وقال عكرمة والسدي هو بالنبطية وروى عكرمة عن إبن عباس أنه قال " طه " كقولك يا فلان ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع رجلا ووضع أخرى فأنزل الله عز وجل " طه " يعني طىء الأرض بقدميك جميعا
وقال مجاهد " طه " فواتح السورة ويقال طا طرب المؤمنين في الجنة وها هو أن الكافرين في النار ويقال طا طلب المؤمنين في الحرب وها هرب الكافرين
" ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " يعني لتتعب نفسك وتعيا " إلا تذكرة لمن يخشى " يقول لم ننزله إلا عظة لمن يسلم وقال القتبي في الآية تقديم يقول ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن يخشى لا أن تشقى
ثم قال " تنزيلا " يعني نزل به جبريل عليه السلام " ممن خلق الأرض والسموات العلى " يعني نزل من عند خالق السموات والأرض " العلى " يعني الرفيع وقال أهل اللغة " العلى " جمع العليا تقول السماء العليا والسموات العلى(2/389)
390
ثم قال " الرحمن على العرش استوى " أي إستولى حكمه ونفذ و " على العرش " يعني علا ويقال كان فوق العرش حين خلق السموات والأرض ويقال " استوى " إستولى وملك كما يقال إستوى فلان على بلد كذا يعني إستولى عليها وملكها فالله تعالى بين لخلقه قدرته وتمام ملكه أنه يملك العرش وله ما في السموات وما في الأرض فذلك قوله تعالى " له ما في السموات وما في الأرض " أي من خلق " وما بينهما وما تحت الثرى " يعني ما تحت الأرض السابعة السفلى وروى أسباط عن السدي في قوله عز وجل " وما تحت الثرى " قال الصخرة التي تحت الأرض السابعة وهي صخرة خضراء وهي " سجين " التي فيها كتاب الكفار ويقال الثرى تراب رطب مقدار خمسمائة عام تحت الأرض ولولا ذلك لأحرقت النار الدنيا وما فيها وروي عن إبن عباس أنه قال بسطت الأرض على الحوت والحوت على الماء والماء على الصخرة الصخرة بين قرني الثور والثور على الثرى وما يعلم ما تحت الثرى إلا الله عز وجل
سورة طه 7 - 12
ثم قال عز وجل " وإن تجهر بالقول " يعني تعلن بالقول يعني بالقرآن " فإنه يعلم السر وأخفى " يعني ما أسررت في نفسك " وأخفى " يعني ما لم تحدث به نفسك وهذا قول الضحاك وقال إبن عباس هكذا وقال عكرمة السر ما حدث الرجل به أهله " وأخفى " ما تكلمت به نفسك وروى منصور بن عمار عن بعض الصحابة قال السر ما أسررت به في نفسك " وأخفى " من السر ما لم يطلع عليه أحد أنه كائن
ثم قال عز وجل " الله لا إله إلا هو " يعني هو الله الخالق الرزاق لا خالق ولا رازق غيره " له الأسماء الحسنى " يعني الصفات العلى
" وهل أتاك حديث موسى " يعني خبر موسى عليه السلام في القرآن ثم أخبره فقال " إذ رأى نارا فقال لأهله أمكثوا " يعني إنزلوا مكانكم وقفوا " إني آنست نارا " يعني أبصرت نارا وذلك حين رجع من مدين مع أهله أصابهم البرد فرأى موسى نارا من البعد فقال لهم " أمكثوا إني آنست نارا " " لعلي آتيكم منها بقبس " يعني بشعلة وهو ما أقتبس من عود " أو أجد على النار هدى " يعني هاديا يدلنا على الطريق وكان موسى عليه السلام ضل الطريق وكانت ليلة مظلمة " فلما أتاها " يعني إنتهى إلى النار " نودي " يعني دعي " يا موسى " قال إبن عباس لما أتى النار فإذا هي نار بيضاء تستوقد من شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها وهي خضراء فجعل يتعجب منها وقال في رواية وهب بن منبه فوقف وهو يطمع أن يسقط منها شيء(2/390)
391
فيقتبسه فلما طال ذلك أهوى إليها بضغث في يده وهو يريد أن يقتبس من لهبها فلما فعل ذلك مالت نحوه كأنها تريده فاستأخر عنها ثم عاد فطاف بها فنودي " يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى " يعني المطهر قال مقاتل " طوى " إسم الوادي وقال مجاهد يعني طي الأرض حافيا قال عامة المفسرين إنما أمره أن يخلع نعليه لأنهما كانا من جلد حمار ميت وقال بعضهم أراد أن يصيب باطن قدميه من الوادي ليتبرك به وروي عن كعب الأحبار أنه كان جالسا في المسجد فجاء رجل يصلي فخلع نعليه ثم جاء آخر يصلي فخلع نعليه ثم جاء آخر فخلع نعليه فقال لهم كعب الأحبار أنبيكم صلى الله عليه وسلم أمركم بهذا قالوا لا قال فلم تخلعون نعالكم إذا صليتم قالوا سمعنا الله تعالى يقول " إخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى " قال أتدرون من أي شيء كانتا نعليه قالوا لا قال إنما كانتا من جلد حمار ميت فأمره الله تعالى أن يخلعهما ليمسه القدس كله وقال عكرمة " إخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى " قال لكي تمس راحة قدميه الأرض الطيبة قرأ إبن كثير وأبو عمرو " أني أنا ربك " بنصب الألف يعني بأني أنا ربك على معنى البناء وقرأ الباقون في " أنا ربك " بالكسر على معنى الإبتداء وقرأ حمزة " لأهله أمكثوا " بضم الهاء الثانية وقرأ الباقون بكسر الهاء وقرأ إبن كثير وأبو عمرو ونافع " طوى " بنصب الواو بغير تنوين وقرأ الباقون بالتنوين
سورة طه 13 - 16
ثم قال عز وجل " وأنا إخترتك " يعني إصطفيتك للرسالة قرأ حمزة بكسر الألف وتشديد النون " وإنا إخترناك " بالنون بلفظ الجماعة والباقون بنصب الألف وتخفيف النون وبالتاء " أنا إخترتك " قال أبو عبيدة وبهذا نقرأ لموافقة الخط يعني بخط عثمان ثم قال " فاستمع لما يوحى " يعني إعمل بما تؤمر وتنهى
ثم قال " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني " يعني أطعني واستقم على توحيدي " وأقم الصلاة لذكري " يعني لتذكرني فيها ويقال إن نسيت الصلاة فصلها إذا ذكرتها لأن الله تعالى يقول " وأقم الصلاة لذكري " وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم حين نام عن الصلاة حتى طلعت الشمس قال من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها إن الله تعالى يقول " أقم الصلاة لذكري " قال بعضهم هذا خطاب لموسى عليه السلام وقال بعضهم هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله " واتبع هواه فتردى "(2/391)
392
ثم رجع إلى قصة موسى بقوله " إن الساعة آتية " يعني كائنة " أكاد أخفيها " يعني أسرها عن نفسي فكيف أعلنها لكم يا أهل مكة هكذا روي عن جماعة من المتقدمين وهكذا قال إبن عباس في رواية أبي صالح وقال القتبي كذلك في قراءة أبي " أخفيها " من نفسي وهكذا ورى جماعة من المتقدمين وروى طلحة عن عطاء " إن الساعة آتية أكاد أخفيها " عن نفسي وروي في إحدى الروايتين عن أبي بن كعب أنه كان يقول تقرأ " أكاد أخفيها " بنصب الألف يعني أكاد أظهرها وهي قراءة سعيد بن جبير قال أهل اللغة خفى يخفى أي أظهر وقال إمرؤ القيس
( خفاهن من إنفاقهن كأنما % خفاهن من ودق سحاب مركب ) يذكر الفرس أنه إستخرج الفأرة من جحرهن كالمطر
ثم قال " لتجزى كل نفس بما تسعى " يعني لتثاب كل نفس بما تعمل
ثم قال عز وجل " فلا يصدنك عنها " يعني لا يصرفنك عنها يعني عن الإقرار بقيام الساعة " من لا يؤمن بها " يعني من لا يصدق بقيام الساعة " واتبع هواه فتردى " يعني فتهلك ويقال الردى الموت والهلاك
سورة طه 17 - 23
ثم رجع إلى قصة موسى عليه السلام فقال عز وجل " وما تلك بيمينك يا موسى " يعني أي شيء الذي بيدك أو ما الذي بيدك وكان عالما بما في يده ولكن الحكمة في سؤاله لإزالة الوحشة عن موسى لأن موسى كان خائفا مستوحشا كرجل دخل على ملك وهو خائف فسأله عن شيء فتزول بعض الوحشة عنه بذلك ويستأنس بسؤاله وقال بعضهم إنما سأله تقريرا له أن ما في يده عصا لكيلا يخاف إذا صار ثعبانا ف " قال " موسى " هي عصاي أتوكأ عليها " يعني أعتمد عليها إذا أعييت " وأهش بها على غنمي " يعني أخبط بها ورق الشجر لغنمي فإن قيل إنما سأله عما في يده ولم يسأله عما يصنع بها فلم أجاب موسى عن شيء لم يسأله عنه قيل له قد قال بعضهم في الآية إضمار يعني " وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي " فقال وما تصنع بها قال " أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي " وقال بعضهم إنما خاف موسى بذلك لأنه أمره بأن يخلع نعليه فخاف أن يأمره بإلقاء عصاه فجعل يذكر(2/392)
393
منافع عصاه فقال " أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي " " ولي فيها مآرب أخرى " يعني حوائج أخرى وواحدها مأربة وقال مقاتل كان موسى يحمل زاده على عصاه إذا سار وكان يركزها في الأرض فيخرج الماء وتضيء له بالليل بغير قمر فيهتدي على غنمه وروى أسباط عن السدي قال كانت عصا موسى من عود شجر آس من شجر الجنة وكان إستودعها إياه ملك من الملائكة في صورة إنسان يعني عند شعيب وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت عصا موسى من عود ورد من شجر الجنة إثني عشر ذراعا من ذراع موسى
قوله تعالى " قال ألقها يا موسى " يعني ألق عصاك من يدك فظن موسى أنه يأمره بإلقائها على وجه الرفض فلم يجد بدا " فألقاها فإذا هي حية تسعى " يعني تسرح وتسير على بطنها رافعة رأسها فخاف موسى وولى هاربا " قال " الله تعالى لموسى " خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى " يعني سنجعلها عصا كما كانت أول مرة وأصل السيرة الطريقة كما يقال فلان على سيرة فلان أي على طريقته وإنما صار نصبا لنزع الخافض والمعنى سنعيدها إلى حالها الأولى فتناولها موسى فإذا هي عصا كما كانت
ثم قال عز وجل " واضمم يدك إلى جناحك " قال الكلبي الجناح أسفل الإبط يعني أدخل يدك تحت إبطك " تخرج بيضاء " لها شعاع يضيء كضوء الشمس " من غير سوء " يعني من غير برص " آية أخرى " يعني علامة أخرى مع العصا " لنريك من آياتنا الكبرى " يعني العظمى ومعناه لنريك الكبرى من آياتنا ولهذا لم يقل الكبريات لأنه وقع المعنى على واحدة
سورة طه 24 - 36
ثم قال تعالى " إذهب إلى فرعون إنه طغى " يعني علا وتكبر وادعى الربوبية يعني إذهب إليه وادعه إلى الإسلام " قال " موسى عليه السلام " رب إشرح لي صدري " يعني يا رب وسع لي قلبي حتى لا أخاف منه ويقال لين قلبي بالإسلام حتى أثبت عليه " ويسر لي أمري " يعني هون علي ما أمرتني به " واحلل عقدة من لساني " يعني إبسط العقدة أي الرثة من لساني " يفقهوا قولي " يعني يفهموا كلامي وذلك أن موسى عليه السلام في حال صغره رفعه فرعون في حجره فلطمه موسى لطمة ويقال أخذ بلحيته ومدها إلى الأرض(2/393)
394
فقال فرعون هذا من أعدائي الذين كنت أتخوف به فقالت إمرأته آسية بنت مزاحم صبي جاهل لا عقل له ضع له طستا من حلي وطستا من نار حتى نعلم ما يصنع فوضعوا له ذلك فجاء جبريل عليه السلام فأخذ يده فأهوى بها إلى النار فأخذ جمرة فوضعها في فيه فكانت الرثوثة من ذلك فذلك قوله عز وجل " يفقهوا قولي "
" واجعل لي وزيرا من أهلي هارون " يعني إجعل لي معينا من أهلي يعني أخي هارون " أشدد به أزري " حتى يكون قوة لي والأزر الظهر وجماعته أزر ويراد به القوة يقال آزرت فلانا على الأمر أي قويته عليه وإنما نصب " هارون " لوقوع الفعل عليه والمعنى إجعل هارون أخي وزيرا فصار الوزير المفعول الثاني " وأشركه في أمري " يعني في نبوتي
قرأ إبن عامر " أشدد " بنصب الألف " وأشركه " بضم الألف على معنى الخبر عن نفسه أي أنا أفعل ذلك وإنما كان جزما على الجزاء في الأمر وقرأ الباقون " أشدد " بضم الألف " وأشركه " بنصب الألف على معنى الدعاء يعني اللهم أشدد به أزري وأشركه في أمري قال أبو عبيدة بهذه القراءة نقرأ ويكون حرف إبن مسعود شاهدا لها وكان يقرأ " هارون أخي واشدد به أزري وأشركه في أمري " وفي حرف أبي " وأشركه في أمري واشدد به أزري " قال كأنه دعا
ثم قال " كي نسبحك كثيرا " يعني نصلي لك كثيرا " ونذكرك " باللسان " كثيرا " يعني على كل حال " إنك كنت بنا بصيرا " أي كنت عالما بنا في الأحوال كلها
" قال " الله تعالى " قد أوتيت سؤلك يا موسى " يعني أعطيناك ما سألته
سورة طه 37 - 40
ثم قال " ولقد مننا عليك مرة أخرى " يعني قد أكرمتك بكرامات قبل هذا من غير أن تسألني ثم بين له الكرامات والنعم فقال " إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى " أي ألهمنا أمك ما ألهمت ويقال " ما يوحى " على الحجر يعني كان إلهاما ولم يكن وحيا " أن إقذفيه في التابوت " يعني إجعلي موسى في التابوت ثم " فاقذفيه في اليم " يعني إطرحيه في البحر " فليلقه اليم بالساحل " يعني شاطىء البحر(2/394)
395
فإن قيل لم أمر بإلقائه في اليم قيل له إنما أمره بذلك لأن البحر يخفي عن المنجمين ما فيه فكان إلقاؤه لتجنيب حال موسى عليه السلام عن المنجمين لكيلا يأخذه فرعون ويقتله وقيل أراد أن يكون مع الماء لكيلا يخاف وقت عبوره البحر لاحقا وقيل أراد الله تعالى أن يري أمه حفظ الله تعالى له
" يأخذه عدو لي وعدو له " يعني آل فرعون " وألقيت عليك محبة مني " يعني ألقيت محبتي عليك فكل من رآك أحبك " ولتصنع على عيني " يقول ما يصنع بك على منظر مني وبعلمي وبإرادتي " إذ تمشي أختك فتقول " لآل فرعون " هل أدلكم " يعني أرشدكم " على من يكفله " يعني يضمه ويحوطه ويرضعه " فرجعناك " يقول رددناك " إلى أمك كي تقر عينها " يعني لتطيب نفسها " ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم " يعني من القود " وفتناك فتونا " يعني إبتليناك ببلاء بعد بلاء ويقال بنعمة على إثر نعمة
قال أخبرني الثقة بإسناده عن سعيد بن جبير قال سألت إبن عباس عن قول الله عز وجل لموسى " وفتناك فتونا " فسألته عن الفتون ما هو فقال إستأنف النهار يا إبن جبير فإن له حديثا طويلا فلما أصبحت غدوت إلى إبن عباس ليخبرني ما وعدني من حديث الفتون فقال إبن عباس تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله عز وجل وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا فقال بعضهم إن بني إسرائيل لينتظرون ذلك ما يشكون فيه قال فرعون فكيف ترون فأتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشغار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه ففعلوا فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون وأن الصغار يذبحون قالوا يوشك أن يفنى بنو إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم فاقتلوا عاما ودعوا عاما لا تقتلوا منهم أحدا فنشأت الصغار مكان من يموت من الكبار فإنهم لن يكثروا فتخافون مكاثرتهم إياكم فأجمعوا أمرهم على ذلك فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان فولدته علانية حتى إذا كان من قابل حملت بموسى فوقع في قلبها من الحزن والهم فذلك من الفتون يا إبن جبير
فأدخل عليه في بطن أمه ما يراد به فأوحى الله تعالى إليها أن " لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " يعني أمر الله تعالى أم موسى إذا هي ولدته أن تجعله في التابوت ثم تلقيه في اليم فلما ولدته فعلت ما أمرت به حتى إذا توارى عنها إبنها أتاها الشيطان فقالت في نفسها ما فعلت بإبني لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه بيدي إلى دواب البحر تأكله فانطلق به الماء حتى أرقى به عند فرضة مستقى جواري إمرأة(2/395)
396
فرعون فرأينه فأخذنه فهممن أن يفتحن التابوت فقال بعضهن لبعض إن في هذا مالا وإنا إن فتحناه لم تصدقنا إمرأة الملك بما وجدنا فيه فحملنه كهيئته حتى رفعنه إليها فلما فتحنه رأت فيه الغلام فألقى عليه منها محبة لم يلق مثلها على أحد قط من البشر " وأصبح فؤاد أم موسى فارغا " من ذكر كل شيء إلا ذكر موسى فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا إلى إمرأة فرعون بشفارهم يريدون أن يذبحوه وذلك من الفتون يا إبن جبير
فقالت للذباحين إصبروا علي فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل لا ينقص فآتي به فرعون فأستوهبه منه إياه فإن وهبه لي فقد أحسنتم وأجملتم وإن أمر بذبحه لم أنهكم فلما أتت فرعون به قالت قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا فقال فرعون يكون لك فأما لي فلا حاجة لي فيه فقال إبن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يحلف به لو أقر فرعون بأن يكون قرة عين له لهداه الله عز وجل بموسى كما هدى به إمرأته قال فأرسلت إلى من حولها من كل إمرأة لها لبن لتختار له ظئرا فجعل كلما أخذته إمرأة منهن لترضعه لم يقبل من ثديها حتى أشفقت إمرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت فأحزنها ذلك ثم أمرت به فأخرج إلى السوق واجتمع الناس ترجو أن تجد له ظئرا تأخذه منها فلم يقبل فأصبحت أم موسى والهة فقالت لأخته قصي أثره فاطلبيه هل تسمعين له ذكرا أحي إبني أم قد أكلته الدواب في البحر فبصرت به عن جنب أي عن بعد والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد وهي إلى جنبه لا تشعر به فقالت " هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون " [ القصص : 12 ] فقالوا وما يدريك ما نصحهم له وهل يعرفونه حتى شكوا في ذلك وذلك من الفتون يا إبن جبير
فقالت نصحهم له وشفقتهم عليه لرغبتهم في الملك ورجاء منفعته فتركوها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها بالخبر فجاءت فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى إمتلأ جنباه ريا فانطلق البشرى إلى إمرأة فرعون يبشرونها بأن قد وجدنا لإبنك ظئرا فأرسلت إليها فأتت بها وبه فلما رأت ما يصنع بها قالت لها أمكثي عندي ترضعين إبني فإني لم أحب مثل حبه شيئا قط قالت لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلو خيرا إلا فعلت به وإلا فإني غير تاركة بيتي وولدي
فرجعت بإبنها إلى بيتها من يومها فأنجزها الله عز وجل وعده وأنبته الله تعالى نباتا حسنا فلم تزل بنو إسرائيل تمتنع به من الظلم والسخرة فلما ترعرع أي كبر قالت إمرأة فرعون لأم موسى أريني إبني فواعدتها يوما وقالت لخزانها وقها رمتها لا يبقى منكم أحد إلا ويستقبل إبني بهدية وكرامة فلم تزل الهدايا والكرامات
تستقبله من حيث خرج من بيت أمه إلى أن دخل إلى إمرأة فرعون فلما دخل عليها بجلته وأكرمته وفرحت به وأعجبها وبجلت أمه لأثرها عليه ثم قالت لأنطلق به إلى فرعون فليبجلنه وليكرمنه فلما دخلت به عليه جعلته في(2/396)
397
حجره فتناول موسى لحية فرعون ومدها إلى الأرض فقالت له الغواة من أعداء الله ألا ترى إلى ما وعد الله إبراهيم عليه السلام إنه يريد أن يصرعك وينزع عنك ملكك ويهلكك فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه وذلك من الفتون يا إبن جبير
فجاءت إمرأة فرعون تسعى إلى فرعون فقالت له ما بدا لك في هذا الصبي الذي وهبته لي فقال ألا ترينه إنه سيصرعني فقالت له إجعل بينك وبينه أمرا لتعرف فيه الحق إئت بجمرتين ولؤلؤتين فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين علمت أنه يعقل وإن تناول الجمرتين فاعلم بأنه لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل فقرب ذلك إليه فتناول الجمرتين فانتزعوهما منه مخافة أن تحرقا يديه
فلما بلغ أشده وكان من الرجال لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم ولا بسخرة فبينما هو يمشي في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان أحدهما من بني إسرائيل والآخر من آل فرعون فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فغضب موسى واشتد غضبه فوكزه فقتله وليس يراهما أحد إلا الله عز وجل والإسرائيلي فأتى فرعون فقيل له إن بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون فخذ لنا بحقنا فقال إئتوني بقاتله والذي يشهد عليه آخذ لكم بحقكم
فبينما هم يطوفون لا يجدون شيئا وإذا موسى قد رأى من الغد الإسرائيلي يقاتل فرعونيا آخر فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني وقد ندم موسى على ما كان منه بالأمس وكره الذي رأى فغضب على الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني فقال للإسرائيلي " إنك لغوي مبين " [ القصص : 18 ] فخاف الإسرائيلي وظن أنه يريد إياه فقال يا موسى " أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس " [ القصص : 19 ] فتتاركا فانطلق الفرعوني إلى قومه وأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر فأرسل فرعون إلى الذباحين ليقتلوا موسى فأخذ رسل فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هيئتهم يطلبون موسى وجاء رجل من شيعة موسى فاختصر طريقا قريبا حتى سبقهم إلى موسى فأخبره الخبر وذلك من الفتون يا إبن جبير
فخرج موسى متوجها نحو مدين لم يلق بلاء قبل ذلك وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه تعالى فإنه قال " قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل " [ القصص : 23 ] " ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم إمرأتين تذودان " [ القصص : 23 ] يعني إنهما حابستان غنمهما فقال ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس قالتا ليس لنا قوة نزاحم القوم وإنما ننتظر فضول حياضهم فنسقي فسقى لهما موسى فجعل يغرف في الدلو ماء كثيرا حتى كان أول الرعاة فراغا فانصرفتا إلى أبيهما بغنمهما وانصرف موسى إلى شجرة فاستظل بها فاستنكر أبو الجاريتين سرعة صدورهما بغنمهما حفلا فقال إن
لكما لشأنا اليوم فحدثاه بما صنع موسى فأمر إحداهما أن تدعوه له فأتته فدعته فلما دخل على شعيب عليه(2/397)
398
السلام فأخبره بالقصة قال " لا تخف نجوت من القوم الظالمين " [ القصص : 25 ] أي ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان ولسنا في مملكته
" قالت إحداهما ياأبت إستأجره إن خير من إستأجرت القوي الأمين " [ القصص : 26 ] فاحتملته الغيرة وقال ما يدريك ما أمانته وقوته فقالت أما قوته فما رأيت مثله حين سقى لنا الماء رجلا قط أقوى من ذلك في ذلك السقي منه وأما أمانته فإنه لما نظرني حين أقبلت إليه صوب رأسه ولم يرفعه ولم ينظر إلي حين بلغته رسالتك فقال لي إمشي خلفي وانعتي إلي الطريق يعني صفي لي ودليني على الطريق فسري عن أبيها فقال له " إني أريد أن أنكحك إحدى إبنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك " [ القصص : 27 ]
فكان على موسى ثمان سنين واجبة وكانت سنتان عدة منه فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله كان من أمره ما قص الله عليك في القرآن فشكا إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه عن كثير من الكلام فسأل ربه أن يعينه بأخيه ليتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به
فأعطاه الله عز وجل سؤاله وحل عقدة من لسانه فاندفع موسى بالعصا فلقي هارون فانطلقا جميعا إلى فرعون وأقاما على بابه حينا لا يؤذن لهما بالدخول ثم أذن لهما بعد حجاب شديد فقالا إنا رسولا ربك قال فمن ربكما فأخبراه بالذي قص الله عز وجل في القرآن فقال ما تريدان فقال موسى أريد أن تؤمن بالله تعالى وأن ترسل معنا بني إسرائيل فأبى عليه ذلك فقال " فأت بآية إن كنت من الصادقين " [ الشعراء : 154 ] فألقى عصاه فتحولت حية عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون فاقتحم فرعون عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل وأخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء ثم أعادها إلى كمه فصارت إلى لونها الأول فاستشار الملأ فيما رأى فقالوا إجمع لهما السحرة فإنهم بأرضك كثير فأرسل فرعون في المدائن فحشر له كل ساحر متعالم فلما أتوا فرعون قال بم يعمل هذان الساحران قالوا يعملان بالحيات فقالوا والله ما في الأرض قوم يعملون بالحيات التي نعمل فتواعدوا يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى
ويوم الزينة هو اليوم الذي أظهر الله عز وجل موسى على فرعون والسحرة وهو يوم عاشوراء فقال الناس بعضهم لبعض إنطلقوا فلنحضر هذا الأمر فنتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين يعنون بذلك موسى وهارون إستهزاء بهما قالت السحرة لموسى لقدرتهم بسحرهم " إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين " [ الأعراف : 115 ] قال لهم موسى ألقوا فألقوا حبالهم وعصيهم فرأى موسى من سحرهم شيئا عظيما فأوجس في نفسه خيفة فأوحى الله تعالى إليه أن ألق عصاك فلما ألقاها صارت ثعبانا عظيما فاغرة
فاها فجعلت تلتقم العصي(2/398)
399
والحبال حتى ما أبقت عصا ولا حبلا إلا إبتلعته فلما عرفت السحرة ذلك قالوا لو كان هذا ساحرا لم يبلغ من سحره كل هذا ولكن هذا أمر من أمر الله عز وجل
فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة أمر الله تعالى موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلا فلما أصبح فرعون فبعث في المدائن حاشرين وتبعهم بجنود عظيمة فنسي موسى أن يضرب بعصاه البحر فلما تراءى الجمعان وتقاربا قال قوم موسى إنا لمدركون إفعل ما أمرك الله عز وجل فتذكر موسى عليه السلام ما وعده الله عز وجل فضرب البحر بالعصا فانفلق البحر إثنتي عشرة فرقة فلما جاوز أصحاب موسى كلهم ودخل أصحاب فرعون كلهم إلتقى البحر عليهم فقال أصحاب موسى إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق فدعا موسى ربه فأخرجه حتى إستيقنوا فمضوا حتى أنزلهم منزلا ثم قال لهم أطيعوا هارون فإني إستخلفته عليكم وإني ذاهب إلى ربي وأجلهم ثلاثين يوما وقد صامهن أي صام موسى ليعلمهم
وكره أن يكلمه ربه وريح فمه ريح فم الصائم فتناول موسى من نبات الأرض شيئا فمضغه فقال له ربه حين أتاه لم أفطرت وهو أعلم به قال رب إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح قال الله عز وجل أو ما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك إرجع حتى تصوم عشرة أيام ثم إئتني ففعل موسى الذي أمره ربه تبارك تعالى فلما رأى قوم موسى أنه لم يأتهم للأجل ساءهم ذلك
وأخرج لهم السامري عجلا جسدا له خوار من حلي آل فرعون فتفرق بنو إسرائيل فقالت فرقة للسامري ما هذا قال هذا ربكم ولكن موسى أخطأ الطريق فقالوا لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى وقالت فرقة هذا من عمل الشيطان وليس هذا بربنا وأشرب فرقة في قلوبهم التصديق وقال لهم هارون إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فلما كلم الله عز وجل موسى أخبره بما لقي قومه بعده فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه كما قص الله عز وجل في هذه السورة وقال " وفتناك فتونا " يعني إختبرناك إختبارا ويقال أخلصناك إخلاصا كما قال تعالى " إنه كان مخلصا " [ مريم : 51 ]
ثم قال عز وجل " فلبثت سنين " أي عشر سنين " في أهل مدين " عند شعيب عليه السلام " ثم جئت على قدر يا موسى " يعني على وقت مقدور عليك يا موسى وهذا قول إبن عباس وقال مقاتل " على قدر " أي على ميقات ويقال على موعد ويقال على قدر من تكليمي إياك ويقال على قضاء قضيته ويقال على تمام الذي يوحى للأنبياء أربعين سنة
سورة طه 41 - 44(2/399)
400
" واصطنعتك لنفسي " يعني إخترتك للرسالة والنبوة ولإقامة حجتي فقال موسى يا رب حسبي حسبي فقد تمت كرامتي فقال الله عز وجل " إذهب أنت وأخوك بآياتي " يعني آياتي التسع " ولا تنيا في ذكري " يعني لا تفتروا ولا تضعفا ولا تعجزا عن أداء رسالتي " إذهبا إلى فرعون إنه طغى " يعني تكبر وعلا " فقولا له قولا لينا " يعني كلاما باللين والشفقة والرفق لأن الرؤساء بكلام اللين أقرب إلى الإنقياد من الكلام العنيف أي قولا له أيها الملك ويقال " فقولا له قولا لينا " لوجوب حقه عليك بما رباك وإن كان كافرا
وروى أسباط عن السدي قال القول اللين أن موسى جاءه فقال له تسلم وتؤمن بما جئت به وتعبد رب العالمين على أن لك شبابا لا يهرم أبدا وتكون ملكا لا ينزع منك أبدا حتى تموت ولا ينتزع منك لذة الطعام والشراب والجماع أبدا حتى تموت فإذا مت دخلت الجنة قال فكأنه أعجبه ذلك وكان لا يقطع أمرا دون هامان وكان هامان غائبا فقال له فرعون إن لي من أوامره وهو غائب حتى يقدم أي لأشاوره فلم يلبث أن قدم هامان فقال له فرعون علمت بأن ذلك الرجل أتاني فقال هامان ومن ذلك الرجل فقال هو موسى قال فما قال فأخبره بالذي دعاه إليه قال فما قلت له قال لقد دعاني إلى أمر أعجبني فقال له هامان قد كنت أرى لك عقلا وأن لك رأيا بينا أنت رب أفتريد أن تكون مربوبا وبينا أن تعبد أفتريد أن تعبد غيرك فغلبه على رأيه فأبى
ثم قال تعالى " لعله يتذكر أو يخشى " يعني يتعظ أو يسلم وقال الزجاج لعل في اللغة ترجي وتطمع يقول لعله يصير إلى خير والله سبحانه وتعالى خاطب العباد بما يعقلون والمعنى عند سيبويه إذهبا على رجائكما وطمعكما وقد علم الله تعالى أنه لا يتذكر ولا يخشى إلا أن الحجة إنما تجب بإبائه وقال بعض الحكماء إذا أردت أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فعليك باللين لأنك لست بأفضل من موسى وهارون ولا الذي تأمره بالمعروف ليس بأسوأ من فرعون وقد أمرهما الله تعالى بأن يأمراه باللين فأنت أولى أن تأمر وتنهى باللين
سورة طه 45 - 52
ثم قال الله عز وجل " قالا " يعني موسى وهارون " ربنا إننا نخاف أن يفرط(2/400)
401
علينا ) يعني أن يبادر بعقوبتنا يقال قد فرط منه أمر أي قد بدر منه قال النبي صلى الله عليه وسلم أنا فرطكم على الحوض ويقال " أن يفرط علينا " يعني أن يضر بنا " أو أن يطغى " يعني يقتلنا قال كان هذا القول من موسى وهارون حين رجع موسى إلى مصر وأوحى الله تعالى إليهما فقالا عند ذلك " إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى " وقال بعضهم قد قال الله عز وجل ذلك لموسى عند طور سيناء فأجابه موسى عن نفسه وعن هارون فأضاف القول إليهما جميعا
" قال " الله عز وجل " لا تخافا " عقوبة فرعون عند أداء الرسالة " إنني معكما " أي معينكما " أسمع " ما نزل عليكما " وأرى " ما يصنع بكما
ثم قال عز وجل " فأتياه " يعني فاذهبا إلى فرعون " فقولا إنا رسولا ربك " قال الفقيه أبو الليث رحمه الله في الآية دليل أنه يجوز رواية الأخبار بالمعنى وإنما العبرة للمعنى دون اللفظ لأن الله تعالى حكى معنى واحدا بألفاظ مختلفة وقال في موضع آخر " فقولا إنا رسول رب العالمين " [ الشعراء : 16 ] وقال ها هنا " إنا رسولا ربك " وقال في آية أخرى " قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون " [ الأعراف : 121 - 122 ] وقال في موضع " آمنا برب هارون وموسى "
ثم قال تعالى " فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم " يعني لا تستعبدهم " قد جئناك بآية من ربك " يعني باليد والعصا " والسلام على من إتبع الهدى " يعني على من طلب الحق ورغب في الإسلام قال الزجاج " والسلام على من إتبع الهدى " معناه أن من إتبع الهدى فقد سلم من عذاب الله عز وجل وسخطه
قال عز وجل " إنا قد أوحي إلينا أن العذاب " يعني أن العذاب في الآخرة بالدوام " على من كذب " بالتوحيد " وتولى " عن التوحيد والإيمان ولم يذكر في الآية أنهما أتيا فرعون لأن في الكلام دليلا عليه حيث ذكر قول فرعون ومعناه أنهما أتيا فرعون وأديا إليه الرسالة وقالا " إنا رسولا ربك " لأن في الكلام دليلا عليه حيث ذكر قول فرعون
" قال " فرعون " فمن ربكما يا موسى " ولم يقل من ربي تكبرا منه " قال " موسى " ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه " يعني شكله ويقال خلق لكل ذكر أنثى شبهه " ثم هدى " يعني ألهمه الأكل والشرب والجماع وقال القتبي الإهداء أصله الإرشاد كقوله " عسى ربي أن يهديني " [ القصص : 22 ] ثم الإرشاد مرة يكون بالدعاء ومرة بالبيان وقد ذكرناه في سورة الأعراف ومرة بالإلهام كقوله " أعطى كل شيء خلقه " أي صورته " ثم هدى " أي ألهمه إتيان الإناث ويقال ألهمه طلب المرعى وتوقي المهالك وقال الحسن " أعطى كل شيء خلقه " ما يصلح له ثم هداه ثم أن موسى أخبره بالبعث والجزاء وأمر الآخرة(2/401)
402
وقال فرعون " فما بال القرون الأولى " يعني ما حال وما شأن القرون الماضية " قال " موسى " علمها عند ربي في كتاب " يعني في اللوح المحفوظ " لا يضل ربي " يعني لا يخفى على ربي " ولا ينسى " ما كان من أمرهم وقال مجاهد " لا يضل ربي " أي لا يخفى عليه شيء واحد قال السدي أي لا يغفل ولا يترك وكان الحسن يقرأ " لا يضل " بضم الياء يعني لا يضله الله يعني به الكتاب وإلى هذا الموضع حكاية كلام موسى
سورة طه 53 - 54
ثم إن الله عز وجل قال لمشركي مكة " الذي جعل لكم الأرض مهدا " أي موضع القرار وهو الرب الذي ذكر موسى لفرعون ودعاه إلى عبادته قرأ حمزة والكسائي وعاصم " مهدا " وقرأ الباقون " مهادا " يعني فراشا وبساطا قال أبو عبيدة المهد الفعل يقال مهدت مهدا والمهاد إسم الموضع " وسلك لكم فيها سبلا " يعني جعل لكم فيها طرقا " وأنزل من السماء ماء " يعني المطر " فأخرجنا به أزواجا " يعني أنبتنا بالمطر أصنافا وألوانا " من نبات شتى " مختلف ألوانه " كلوا وارعوا أنعامكم " اللفظ لفظ الأمر ومعناه معنى الخبر يعني لتأكلوا منه وترعوا أنعامكم " إن في ذلك " يعني إن في إختلاف النبات ألوانه وغير ذلك " لآيات " أي لعبرات " لأولي النهى " يعني لذوي العقول من الناس
سورة طه 55 - 61
قوله عز وجل " منها خلقناكم " يعني آدم عليه السلام خلقناه من الأرض " وفيها نعيدكم " بعد موتكم " ومنها نخرجكم " يعني نحييكم ونخرجكم من الأرض " تارة أخرى "
ثم رجع إلى قصة فرعون فقال " ولقد أرينه آياتنا كلها " يعني العلامات والدلائل " فكذب " بالآيات " وأبى " أن يسلم " قال " فرعون وقومه " أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا(2/402)
403
سوى ) يعني لا نجاوزه مكانا سوى ذلك المكان وهذه قراءة نافع وأبي عمرو والكسائي وإبن كثير يقرؤون بالكسر وقرأ إبن عامر وعاصم وحمزة " سوى " بضم السين ومعناه الإنصاف وقال بعضهم سوى وسوى لغتان وقال مجاهد مكانا منصفا بينهم وقال السدي أي عدلا بينهم وقال القتبي أي وسطا بين الفريقين
قوله عز وجل " قال موعدكم يوم الزينة " يعني يوم عيد لهم وهو يوم النيروز وروي عن سعيد بن جبير عن إبن عباس قال هو يوم عاشوراء " وأن يحشر الناس ضحى " يعني إذا حشر الناس واجتمعوا على وقت الضحى " فتولى فرعون " يعني رجع إلى أهله " فجمع كيده " يعني سحرته " ثم أتى " يعني أتى الميعاد قرأ بعضهم " يوم الزينة " بنصب الميم والمعنى يقع في " يوم الزينة " وقراءة العامة " يوم الزينة " رفع على معنى خبر الإبتداء
ثم " قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا " يعني ضيق الله عليكم الدنيا لا تختلقوا على الله كذبا قال الزجاج " ويلكم " منصوب على أن ألزمهم الله ويلا قال ويجوز أن يكون على النداء كما قال " ياويلتنا " [ الكهف : 49 ] " فيسحتكم بعذاب " يعني يأخذكم بعذاب ويهلككم قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " فيسحتكم " بضم الياء وكسر الحاء وقرأ الباقون " فيسحتكم " بالنصب وهما لغتان يقال سحته وأسحته إذا إستأصله وأهلكه " وقد خاب " يعني خسر " من إفترى " يعني إختلق على الله كذبا
سورة طه 62 - 66
قال عز وجل " فتنازعوا أمرهم بينهم " يعني تناظروا أمرهم بينهم يعني إختلفوا فيما بينهم سرا من فرعون وهم السحرة وقالوا فيما بينهم إن كان ما يقول موسى حقا واجبا فيكون الغلبة لموسى فذلك قوله عز وجل " فتنازعوا أمرهم بينهم " يعني تناظروا أمرهم بينهم " وأسروا النجوى " يعني أخفوا الكلام " قالوا إن هذان لساحران " يعني موسى وهارون " يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما " قرأ أبو عمرو " إن هذين لساحران " لأن " إن " تنصب ما بعدها وقرأ إبن كثير وعاصم في رواية حفص " إن هذان " بجزم إن وتشديد نون هذان عند إبن كثير خاصة وقرأ الباقون " إن " بالنصب والتشديد " هذان لساحران "(2/403)
404
بالتخفيف وقال أبو عبيد نقرأ بهذا ورأيت في مصحف عثمان رضي الله عنه بهذا اللفظ " وإن هذين لساحران " " إن هاذين " ليس فيه ألف وهكذا رأيت رفع الإثنين في جميع المصاحف بإسقاط الألف وإذا كتبوا بالنصب والخفض كتبوها بالياء وحكى الكسائي عن أبي الحارث بن كعب وخثعم وزيد وأهل تلك الناحية الرفع مكان النصب وقال القائل
( أي قلوص راكب تراها % طاروا علاهن فطر علاها ) وقال آخر
( إن أباها وأبا أباها % قد بلغا في المجد غايتاها ) وقال آخر
( فمن يك أمسى بالمدينة رحلة % فإني وقيار بها لغريب )
وروى وكيع عن الأعمش عن إبراهيم قالوا كانوا يرون أن الألف والياء في القراءة سواء " إن هاذان لساحران " و " إن هاذين لساحرين " سواء وفي مصحف عبد الله " إن هاذان ساحران " وفي مصحف أبي " إن هذان إلا ساحران "
ثم قال الله عز وجل " ويذهبا بطريقتكم المثلى " يقول برجالكم الأمثل فالأمثل يقول ليغلبا على الرجال من أهل العقول والشرف وقال القتبي يقال هؤلاء طريقة القوم أي أشرافهم ويقال أراد سنتكم ودينكم وقال الزجاج معناه يذهبا بأهل طريقتكم كما قال " وسئل القرية " [ يوسف : 82 ]
ثم قال عز وجل " فأجمعوا كيدكم " قرأ أبو عمرو " فاجمعوا " بجزم الألف ونصب الميم يعني جيئوا بكل كيد تقدرون عليه لا تبقوا منه شيئا وقرأ الباقون " فاجمعوا " بقطع الألف وكسر الميم ومعناه ليكن عزمكم كلكم على الكيد مجمعا عليه ولا تختلفوا فتخذلوا وقال أبو عبيدة بهذا نقرأ لأن الناس عليها ولصحتها في العربية يقال أجمعت الأمر واجتمعت عليه وإنما يقال جمعت الشيء المتفرق فتجمع
ثم قال " ثم ائتوا صفا " يعني جميعا قال أبو عبيد الصف المصلى وقال الزجاج " ثم ائتوا صفا " يعني الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم قال ويجوز أن يكون قوله ثم ائتوا مصطفين مجتمعين ليكون أنظم لأمركم وأشد لهيبتكم " وقد أفلح اليوم " يعني قد فاز ونجا اليوم " من إستعلى " أي من علا بالغلبة
ثم جمع فرعون بينهم وبين موسى عليه السلام ف " قالوا يا موسى " يعني السحرة " إما أن تلقي " يعني أن تطرح عصاك على الأرض " وإما أن نكون أول من ألقى " إلى الأرض " قال " لهم موسى " بل ألقوا " فألقوا في الكلام مضمر " فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه " يعني تراءت إلى موسى " من سحرهم أنها تسعى " يعني كأنها حيات تسير وروي عن الحسن أنه كان يقرأ بالتاء " تخيل " لأن جمع العصي مؤنث وقراءة العامة بالياء يعني سعيها(2/404)
405
سورة طه 67 - 71
ثم قال " فأوجس في نفسه خيفة موسى " يعني أضمر في قلبه الخوف وخاف أن لا يظفر به إن صنع القوم مثل ما صنع ويقال خاف من الحيات من جهة الطبع " قلنا لا تخف " يعني أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن لا تخف " إنك أنت الأعلى " يعني الغالب و " فأوجس " أي أحس ووجد خوفا من سحرهم فقال تعالى " لا تخف إنك أنت الأعلى " عليهم بالظفر والغلبة
قوله عز وجل " وألق ما في يمينك " يعني إطرح ما في يمينك من العصا " تلقف ما صنعوا " يعني تلقم ما عملوا " إنما صنعوا كيد ساحر " يعني عمل سحر قرأ عاصم في رواية حفص " تلقف " بالجزم والتخفيف وقرأ إبن كثير في الروايتين " تلقف " بالنصب والتشديد وضم الفاء وقرأ الباقون بجزم الفاء وتشديد القاف لأنه جواب الأمر وقرأ حمزة والكسائي " كيد سحر " بغير ألف وقرأ الباقون " كيد ساحر " وقال أبو عبيد بهذا نقرأ لأن إضافة الكيد إلى الرجل أولى من إضافته إلى السحر وقرأ بعضهم " كيد سحر " بنصب الدال جعله نصبا لوقوع الفعل عليه وهو قوله تعالى " صنعوا " وهذا كما يقول إنما ضربت زيدا وقراءة العامة بالضم لأنه خبر إن وما إسم ومعناه إن الذي صنعوا كيد سحر " ولا يفلح الساحر حيث أتى " أي حيثما عمل ويقال لا يفوز حيثما كان وذهب
قوله عز وجل " فألقي السحرة سجدا " يعني من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا وهذا قول الأخفش وقال الفراء والقتبي وقعوا للسجود " قالوا آمنا برب هارون وموسى " يعني صدقنا به " قال " لهم فرعون " آمنتم له قبل أن آذن لكم " يعني قبل أن آمركم " إنه لكبيركم " يعني موسى لعالمكم " الذي علمكم السحر " وإنما أراد به التلبيس على قومه لأنه علم أنهم لم يتعلموا من موسى وإنما علموا السحر قبل قدوم موسى وقبل ولادته
ثم قال " فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف " اليد اليمنى والرجل اليسرى " ولأصلبنكم في جذوع النخل " يعني على أصول النخل على شاطىء النيل " ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى " يعني وأدوم أنا أم رب موسى
سورة طه 72 - 73(2/405)
406
قوله " قالوا لن نؤثرك " أي لن نختار عبادتك وطاعتك ولن نتبع دينك " على ما جاءنا من البينات " يعني على دين الله بعدما جاءنا من العلامات " والذي فطرنا " يعني ولا عبادتك على عبادة الذي خلقنا ويقال هو على معنى القسم أي لن نختارك ودينك والذي فطرنا " فاقض ما أنت قاض " يقول إصنع ما أنت صانع فاحكم فينا من القطع والصلب ما شئت " إنما تقضي هذه الحياة الدنيا " يقول لست بحاكم علينا ولا تملكنا إلا في الدنيا ما دام الروح فينا
قوله تعالى " إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا " يعني ما عملنا في حال الشرك " وما أكرهتنا عليه من السحر " يعني ليغفر لنا ما أجبرتنا عليه من السحر ويروى أن فرعون أكرههم على تعلم السحر " والله خير وأبقى " يعني الله خير لنا منك وأدوم وثواب الله عز وجل خير من عطائك وأبقى مما وعدتنا به من التعذيب
سورة طه 74 - 79
قوله تعالى " إنه من يأت ربه مجرما " أي مشركا وإن للتأكيد والهاء للعماد وهذا قول الله تعالى عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم إنه من يأت ربه يوم القيامة كافرا " فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى " يعني لا يموت فيستريح من العذاب ولا يحيى حياة تنفعه
قوله عز وجل " ومن يأته مؤمنا " يعني يأتي يوم القيامة مؤمنا يعني مصدقا " قد عمل الصالحات " يعني الطاعات " فأولئك لهم الدرجات العلى " يعني الفضائل في الجنة
ثم قال عز وجل " جنات عدن " يعني هي جنات عدن " تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها " يعني دائمين في الجنة " وذلك جزاء من تزكى " يعني ثواب من وحد
قوله تعالى " ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي " يعني سر بعبادي ليلا " فاضرب لهم طريقا " يعني بين لهم طريقا " في البحر يبسا " يعني يابسا " لا تخاف دركا " يعني إدراك فرعون " ولا تخشى " الغرق قرأ حمزة " لا تخف دركا " على معنى النهي يعني لا تخف أن يدركك فرعون وقرأ الباقون " لا تخاف " بالألف ومعناه لست تخاف وقال أبو عبيد بهذا نقرأ لأن من قرأ بالجزم يلزم أن يخشى لأنه حرف معطوف على الذي قبله(2/406)
407
ثم قال " فأتبعهم فرعون بجنوده " يعني لحقهم فرعون بجموعه " فغشيهم من اليم ما غشيهم " يعني أصابهم من البحر ما أصابهم ويقال علاهم من البحر ما علاهم حين إلتقى البحر عليهم ويقال فغشيهم من البحر ما غرقهم " وأضل فرعون قومه وما هدى " يعني أهلكهم وما نجا بنفسه ويقال أضلهم بحمله إياهم على الضلالة " وما هدى " يعني ما هداهم إلى الرشاد وهذا رد لقوله " إتبعون أهدكم سبيل الرشاد " [ غافر : 38 ] ويقال " وما هدى " يعني ما هداه إلى الصواب
سورة طه 80 - 82
ثم ذكر نعمته على بني إسرائيل فقال عز وجل " يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم " يعني فرعون " وواعدناكم جانب الطور الأيمن " يعني يمين موسى " ونزلنا عليكم المن والسلوى " حيث كانوا في التيه
" كلوا من طيبات ما رزقناكم " يعني قال لهم كلوا من حلالات ما رزقناكم يعني أعطيناكم قرأ حمزة والكسائي " أنجيتكم وواعدتكم ما رزقتكم " الثلاثة كلها بالتاء وقرأ إبن كثير وعاصم ونافع وإبن عامر الثلاثة بالألف والنون وقرأ أبو عمرو بالتاء إلا قوله " وواعدناكم " ثم قال " ولا تطغوا فيه " أي لا ترفعوا منه شيئا للغد " فيحل عليكم غضبي " يعني فيجب وينزل عليكم عذابي " ومن يحلل عليه غضبي " يعني ومن يجب وينزل عليه غضبي " فقد هوى " يعني هلك وتردى في النار قرأ الكسائي " فيحل " بضم الحاء من يحلل بضم اللام والباقون كلاهما بالكسر فمن قرأ بالضم يعني ينزل ومن قرأ بالكسر يعني يجب
ثم قال عز وجل " وإني لغفار لمن تاب وآمن " يعني رجع من الشرك والذنوب " وآمن " يعني صدق بالله ورسله " وعمل صالحا " يعني خالصا فيما بينه وبين ربه " ثم اهتدى " يعني علم أن لعمله ثوابا وهذا قول مقاتل وروى جويبر عن الضحاك " ثم إهتدى " أي ثم إستقام وروى وكيع عن سفيان قال " ثم إهتدى " أي مات على ذلك وقال إبن عباس " ثم إهتدى " أي مات على السنة
سورة طه 83 - 86(2/407)
408
قوله عز وجل " وما أعجلك عن قومك يا موسى " وذلك أن موسى لما انتهى إلى الجبل وخلف السبعين رجلا الذين إختارهم عجل موسى عليه السلام شوقا إلى كلام ربه وأمرهم بأن يتبعوه إلى الجبل فقال الله تعالى لموسى عليه السلام " وما أعجلك عن قومك يا موسى " يعني ما أسبقك عن قومك وتركت أصحابك خلفك " قال هم أولاء على أثري " ويحتمل أن يكون " أولاء " صلة يعني هم على أثري أي يجيئون من بعدي " وعجلت إليك رب لترضى " يعني لكي يزداد رضاك عني
قوله عز وجل " قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك " وهذا على وجه الإختصار لأنه لم يذكر ما جرى من القصة لأنه ذكر في موضع آخر فها هنا إختصر الكلام وقال " فإنا قد فتنا قومك " يعني إبتلينا قومك من بعد إنطلاقك إلى الجبل " وأضلهم السامري " يعني أمرهم السامري بعبادة العجل " فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا " أي حزينا وقال القتبي " أسفا " أي شديد الغضب فلما دخل المحلة رآهم حول العجل فأبصر ما يصنعون حوله " قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا " يعني وعدا صدقا ومعناه وعد الله عز وجل بأن يدفع الكتاب إلى موسى عليه السلام ليقرأه عليهم ويهتدوا به " أفطال عليكم العهد " يعني طالت عليكم المدة " أم أردتم أن يحل عليكم " يعني يجب " غضب " يعني سخط " من ربكم فأخلفتم موعدي " يعني بترك عبادة الله عز وجل
سورة طه 87 - 89
" قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا " يعني ما تعمدنا ذلك قرأ حمزة والكسائي " بملكنا " بضم الميم يعني ما فعلناه بسلطان كان لنا ولا قدرة وقرأ إبن كثير وأبو عمرو وإبن عامر " بملكنا " بكسر الميم والملك ما حوته اليد وقرأ نافع وعاصم " بملكنا " بنصب الميم وهو بمعنى الملك " ولكنا حملنا أوزارا " يعني آثاما " من زينة القوم " يعني من حلي آل فرعون ويقال " أوزارا " يعني أحمالا " فقذفناها " يعني فطرحناها في النار قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر " حملنا " بالنصب والتخفيف وقرأ الباقون " حملنا " بضم الحاء وتشديد الميم على فعل ما لم يسم فاعله " فكذلك ألقى السامري " يعني ألقاها في النار كما ألقينا(2/408)
409
وروى سعيد بن جبير عن إبن عباس قال كان السامري من أهل قرية يعبدون البقرة فدخل في بني إسرائيل فأظهر الإسلام معهم وفي قلبه حب عبادة البقر فابتلى الله عز وجل به بني إسرائيل فكشف له عن بصره فرأى أثر فرس جبريل عليه السلام فأخذ من أثرها وقد كان هارون قال لبني إسرائيل إنكم قد تحملتم من حلي آل فرعون وأمتعتهم معكم وهي نجسة فتطهروا منها وأوقدوا لهم نارا ثم قل لهم أحرقوها فيها فجعلوا يأتون بالحلي والأمتعة فيقذفونها في النار فانسبك الحلي وأقبل السامري وفي يده تلك القبضة من أثر فرس الرسول يعني جبريل عليه السلام فوقف فقال يا نبي الله ألقها فيه فقال نعم وهارون لا يظن إلا أنه من الحلي الذي يأتي به بنو إسرائيل فقذفها فيه وقال كن عجلا جسدا له خوار وقال السدي جاء جبريل ليذهب بموسى إلى ربه عز وجل وجبريل عليه السلام على فرس فبصر به السامري ويقال إن ذلك الفرس فرس الحياة فأخذ قبضة من أثر حافر الفرس فلما ألقى التراب في الحلي تفرخ عجلا جسدا له خوار فذلك قوله " فقالوا هذا إلهكم وإله موسى "
وقال بعضهم كان السامري من بين إسرائيل وقد ولدته أمه في غار مخافة أن يذبح فرباه جبريل عليه السلام في الغار حتى كبر فلما رأى جبريل على فرس الحياة عرفه لأنه قد كان رباه في صغره فأخذ قبضة من تراب من أثر حافر فرسه ثم ألقاها في جوف العجل فصار عجلا له خوار يعني صوت وقال مجاهد خوار العجل كان هفيف الريح إذا دخلت جوفه وهكذا روي عن علي بن أبي طالب وإحدى الروايتين عن إبن عباس رضي الله عنه أنه قال صار عجلا له لحم ودم وخرج منه الصوت مرة واحدة فقال " هذا إلهكم " يعني قال السامري وإله موسى " فنسي " يعني أخطأ موسى الطريق وروى عكرمة عن إبن عباس في قوله " فنسي " يعني قال نسي موسى أن يخبركم بأن هذا إله وقال قتادة هذا إلهكم وإله موسى ولكن موسى نسي ربه عندكم
قال الله تعالى " أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا " يعني لم يكن لهم عقل يعلموا أنه لم يكن إلههم حيث لا يكلمهم ولا يجيبهم " ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا " يعني لا يقدر على دفع مضرة ولا جر منفعة
سورة طه 90 - 94
قوله تعالى " ولقد قال لهم هارون من قبل " يعني من قبل مجيء موسى إليهم " يا(2/409)
410
قوم إنما فتنتم به ) يعني إنما إبتليتم بعبادة العجل " وإن ربكم الرحمن " يعني إلهكم الرحمن " فاتبعوني " يعني إتبعوا ديني " وأطيعوا أمري " يعني قولي
قوله تعالى " قالوا لن نبرح عليه " يعني لا نزال على عبادة العجل " عاكفين " يعني مقيمين " حتى يرجع إلينا موسى " فلما جاءهم موسى " قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا " يعني أخطؤوا الطريق بعبادة العجل " ألا تتبعني " يعني أن لا تتبع أمري في وصيتي فتناجزهم الحرب " أفعصيت أمري " يعني أفتركت وصيتي " قال " له موسى ذلك بعدما أخذ بشعر رأسه ولحيته فقال هارون عليه السلام " يا إبن أم " قرأ حمزة والكسائي وإبن عامر وعاصم في رواية أبي بكر " يا إبن أم " بكسر الميم على معنى الإضافة وقرأ الباقون بالنصب بمنزلة إسم واحد " لا تأخذ بلحيتي ولا " بشعر " برأسي " " إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل " يعني جعلتهم فرقتين وألقيت بينهم الحرب " ولم ترقب قولي " يعني لم تنتظر قدومي
سورة طه 95 - 97
ثم أقبل على السامري فقال له " قال فما خطبك يا سامري " يقول ما شأنك وما الذي حملك على ما صنعت " قال " السامري " بصرت بما لم يبصروا به " قرأ حمزة والكسائي بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ الباقون بالياء عل معنى المغايبة " بصرت بما لم يبصروا به " يعني رأيت ما لم يروا وعلمت ما لم يعلموا به يعني بني إسرائيل قال موسى ما الذي رأيت دون بني إسرائيل فقال رأيت جبريل عليه السلام على فرس الحياة وهو قوله " فقبضت قبضة من أثر الرسول " يعني من أثر فرس جبريل وفي قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه " فقبصت قبصة " بالصاد وروي عن الحسن أنه قرأ " فقبضت قبضة " بالصاد وهو الأخذ بأطراف الأصابع وقراءة الجماعة " فقبضت قبضة " بالضاد وهو القبض بالكف " فنبذتها " يعني فطرحتها في العجل ثم قال " وكذلك سولت لي نفسي " أي زينت فلا تلمني بهذا الفعل ولمهم بعبادتهم إياه
" قال " له موسى عليه السلام " فاذهب فإن لك في الحياة " يعني عقوبتك في الدنيا " أن تقول لا مساس " يعني لا أمس أحدا ولا يمسني أحد ويقال إبتلي بالوسواس وأصل الوسواس من ذلك الوقت ويقال معناه لن تخالط أحدا ولن يخالطك أحد فنفاه عن قومه(2/410)
411
" وإن لك موعدا " في الآخرة " لن تخلفه " قرأ إبن كثير وأبو عمرو " لن تخلفه " بكسر اللام يعني لن تغيب عنه ومعناه تبعث يوم القيامة لا تقدر على غير ذلك ولا تخلفه وقرأ الباقون " تخلفه " بنصب اللام يعني لن تؤخر ولن تجاوز عنه ويقال معناه يكافئك الله تعالى على ما فعلت والله لا يخلف الميعاد
ثم قال " وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا " يعني عابدا " لنحرقنه " روى معمر عن قتادة قال في حرف إبن مسعود " وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنذبحنه ثم لنحرقنه " وقرأ الحسن " لنحرقنه " بالتخفيف وقراءة العامة بالتشديد ونصب الحاء ومعناه أنه يحرق مرة بعد مرة وقرأ أبو جعفر المدني " لنحرقنه " بنصب النون وضم الراء ومعناه لنبردنه بالمبارد ويقال حرقه وأحرقه " ثم لننسفنه في اليم نسفا " يعني لنذرينه في البحر ذروا والنسف التذرية
سورة طه 98 - 104
ثم قال موسى عليه السلام " إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو " يعني أن العجل ليس بإلهكم وإنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو " وسع كل شيء علما " يعني أحاط علمه بكل شيء وهو عالم بما كان وما يكون
قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم " كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق " يعني هكذا نقص عليك من أخبار ما مضى " وقد آتيناك " يعني أعطيناك " من لدنا ذكرا " يعني أكرمناك من عندنا بالقرآن
قوله عز وجل " من أعرض عنه " يعني من كفر بالقرآن " فإنه يحمل يوم القيامة وزرا " يعني حملا من الذنوب " خالدين فيه " يعني دائمين في عقوبة الوزر " وساء لهم يوم القيامة حملا " يعني بئس الحمل الوزر وبئس ما يحملون من الذنوب
قوله عز وجل " يوم ينفخ في الصور " يعني في يوم ينفخ في الصور وهو يوم القيامة قرأ أبو عمرو " ويوم ننفخ في الصور " بالنون واحتج بقوله " ونحشر المجرمين " وقرأ الباقون بالياء قال أبو عبيدة وبهذا نقرأ لأن النافخ ملك قد إلتقم الصور وأما الحشر فالله عز وجل يحشرهم قال أبو عبيدة معناه ينفخ الأرواح في الصور وخالفه غيره ثم قال(2/411)
412
و " نحشر المجرمين " أي المشركين " يومئذ زرقا " يعني عطاشا ويقال عميا ويقال زرق الأعين وروي عن سعيد بن جبير أن رجلا قال لإبن عباس إن الله يقول في موضع " ونحشر المجرمين يومئذ زرقا " " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما " [ الإسراء : 97 ] فقال إبن عباس إن يوم القيامة له حالات في حال زرقا وفي حال عميا وقال القتبي " زرقا " أي تبيض عيونهم من العمى أي ذهب السواد والناظر وقال الزجاج يقال عطاشا لأن من شدة العطش يتغير سواد الأعين حتى تزرق
ثم قال " يتخافتون بينهم " يعني يتسارون فيما بينهم " إن لبثتم " يعني ما مكثتم بعد الموت في القبور " إلا عشرا " يعني عشرة أيام ويقال عشر ساعات
يقول الله عز وجل " نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة " يعني أوفاهم عقلا ويقال أعدلهم رأيا عند أنفسهم " إن لبثتم " يعني ما مكثتم في القبور " إلا يوما "
سورة طه 105 - 108
قوله عز وجل " ويسألونك عن الجبال " وذلك أن بني ثقيف من أهل مكة قالوا يا رسول الله كيف تكون الجبال يوم القيامة فنزل " يسألونك " يعني عن أمر الجبال " فقل ينسفها ربي نسفا " يعني يقلعها ربي قلعا من أمكنتها والنسف التذرية أي تصيير الجبال كالهباء المنثور " فيذرها قاعا صفصفا " قال القتبي القاع واحدة القيعة وهي الأرض التي يعلوها السراب كالماء والصفصف المستوي وقال السدي القاع الأملس والصفصف المستوي " لا ترى فيها عوجا ولا أمتا " يعني لا ترى فيها صعودا ولا هبوطا ويقال لا ترى فيها أودية و " لا أمتا " يعني ولا شخوصا والأمت في كلام العرب ما نشز من الأرض
ثم قال عز وجل " يومئذ يتبعون الداعي " يعني يقصدون نحو الداعي " لا عوج له " يعني لا عوج لهم عنه ومعناه لا يميلون يمينا ولا شمالا " وخشعت الأصوات " يعني ذلت وسكنت وخفضت الكلمات " للرحمن " يعني لهيبة الرحمن " فلا تسمع إلا همسا " يعني كلاما خفيا ويقال صوت الأقدام كهمس الإبل
سورة طه 109 - 112(2/412)
413
قوله عز وجل " يومئذ لا تنفع الشفاعة " يعني عنده " إلا من أذن له الرحمن " في الشفاعة " ورضي له قولا " يعني إذا قال بإخلاص القلب لا إله إلا الله في الدنيا " يعلم ما بين أيديهم " من أمر الآخرة " وما خلفهم " من أمر الدنيا " ولا يحيطون به علما " يعني لا يدركون علم الله تعالى " وعنت الوجوه " قال قتادة رحمه الله ذلت الوجوه " للحي القيوم " وقال القتبي رحمه الله أصله من عنته أي حبسته ومنه قيل للأسير عان وقال الزجاج رحمه الله عنت أي خضعت يقال عنا يعنو أي خضع " وقد خاب " يعني خسر " من حمل ظلما " يعني شركا
ثم قال " ومن يعمل من الصالحات " يعني من يعمل من الطاعات " ومن " للصلة والزينة " وهو مؤمن " يعمل وهو مؤمن مع عمله لأن العمل لا يقبل بغير إيمان " فلا يخاف ظلما ولا هضما " قال قتادة " ظلما " أي لا يزداد في سيئاته ولا ينقص من حسناته أي لا يهضم قال السدي رحمه الله الظلم أن يؤخذ لما لم يعمل والهضم النقصان من حقه قال القتبي ومنه قيل هضيم الكشحين أي ضامر الجنبين وهضمني الطعام أي أمرأني ويهضمني حقي قرأ إبن كثير " فلا يخف ظلما " على معنى النهي وقرأ الباقون " فلا يخاف " على معنى الخبر
سورة طه 113 - 114
ثم قال عز وجل " وكذلك أنزلنا قرآنا عربيا " يعني هكذا أنزلنا عليك جبريل ليقرأ عليك القرآن على لغة العرب " وصرفنا فيه من الوعيد " يعني بينا في القرآن من أخبار الأمم الماضية وما أصابهم بذنوبهم " لعلهم يتقون " يعني لكي يتقوا الشرك " أو يحدث لهم ذكرا " يعني يحدث الوعيد بهذا القرآن أو هذا القرآن لهم إعتبارا فيذكر به عذاب الله للأمم فيعتبروا وهذا قول مقاتل ويقال " أو يحدث لهم ذكرا " أي يحدد الوعيد بذكر القرآن العذاب فيزجرهم عن المعاصي ويقال " أو يحدث لهم ذكرا " أي شرفا والذكر الشرف
ثم قال عز وجل " فتعالى الله الملك الحق " يعني إرتفع وتعظم عن الشريك والولد " الملك الحق " أهل الربوبية ويقال " فتعالى الله الملك الحق " يعني إرتفع وتعظم من أن يزيد في سيئات أحد وينقص من حسناته " الملك الحق " الذي يعدل بين الخلق
ثم قال " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه " وذلك أن جبريل عليه السلام كان إذا قرأ القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعجل النبي صلى الله عليه وسلم بقراءته قبل أن يتم جبريل عليه السلام تلاوته مخافة أن لا يحفظ فنزل " ولا تعجل بالقرآن من قبل " أن يفرغ جبريل عليه السلام قراءته فيكون في الآية تعليم حفظ الأدب وهو الإستماع إلى من يتعلم منه وهذا(2/413)
414
مثل قوله " لا تحرك به لسانك لتعجل به " [ القيامة : 16 ] روى جرير بن حازم عن الحسن أن رجلا لطم إمرأته فجاءت تلتمس القصاص فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص قبل أن ينزل القرآن فنزل " ولا تعجل بالقرآن " الآية أي لا تعجل بالقصاص قبل أن ينزل عليك القرآن فنزل قوله عز وجل " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله " [ النساء : 34 ] وكان الحسن يقرأ " من قبل أن يقضي إليك وحيه " بالنصب يعني من قبل أن ينزل إليك الوحي وقراءة العامة " يقضى إليك وحيه " بالرفع على فعل ما لم يسم فاعله ومعنى القرائتين واحد ثم قال " وقل رب زدني علما " يعني زدني علما بالقرآن معناه زدني فهما في معناه
سورة طه 115 - 123
قوله عز وجل " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل " يعني أمرنا آدم عليه السلام بترك أكل الشجرة من قبل يعني من قبل محمد صلى الله عليه وسلم " فنسي " يعني فترك أمرنا " ولم نجد له عزما " قال حفظا لما أمر به روى سعيد بن جبير عن إبن عباس أنه قال " عهدنا إلى آدم من قبل فنسي " أي فترك أمرنا " ولم نجد له عزما " أي حزما وقال قتادة صبرا وقال السدي مثله وقال عطية " ولم نجد له عزما " أي حفظا بما أمر به وروى سعيد بن جبير عن إبن عباس قال عهد إلى آدم فنسي فسمي الإنسان وقال القتبي النسيان ضد الحفظ كقوله تعالى " فإني نسيت الحوت " [ الكهف : 63 ] والنسيان الترك كقوله " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي " وكقوله " فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا " [ السجدة : 32 ] وكقوله " ولا تنسوا الفضل بينكم "
ثم قال عز وجل " وإذ قلنا للملائكة إسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى " أي تعظم(2/414)
415
عن السجود " فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك " يعني إبليس عدو لك ولزوجك حواء فاحذروا منه " فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى " يعني فتتعب وتتعنى بعمل كفيك ولا تأكل إلا كدا بعد النعمة وقال سعيد بن جبير لما هبط آدم من الجنة وكلف العمل فكان يمسح العرق عن جبينه فذلك قوله " فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى " وهو العرق الذي مسحه من الجبين
ثم قال عز وجل " إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى " يعني أن حالك ما دمت في الجنة لا تجوع فيها ولا تعرى من الثياب " وأنك لا تظمأ فيها " يعني لا تعطش في الجنة " ولا تضحى " يعني لا يصيبك الضحى وهو حر الشمس قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر " وإنك " بالكسر على معنى الإبتداء وقرأ الباقون " وأنك " بالنصب على معنى البناء
قوله عز وجل " فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد " من أكل منها خلد ولم يمت " وملك لا يبلى " يعني هل أدلك عل ملك لا يفنى فهو أكل الشجرة " فأكلا منها " يعني من الشجرة وقد ذكرنا تفسير الشجرة في سورة البقرة " فبدت لهما سوآتهما " أي ظهرت لهما عوراتهما " وطفقا " يعني عمدا " يخصفان " يعني يلزقان " عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه " يعني ترك أمر ربه بأكله من الشجرة " فغوى " أخطأ ولم يصب بأكله ما أراد وما وعد له من الخلود
" ثم اجتباه ربه " يعني إصطفاه ربه واختاره بالنبوة " فتاب عليه " يعني تجاوز عنه وقبل توبته " وهدى " يعني هداه الله تعالى للتوبة بكلمات تلقاها أي آدم عليه السلام
قوله عز وجل " قال إهبطا منها جميعا " يعني من الجنة آدم وحواء وإبليس والحية " فإما يأتينكم مني هدى " يعني يا ذرية آدم سيأتيكم مني الكتاب والرسل خاطبه به وعنى ذريته " فمن إتبع هداي " يعني أطاع كتابي ورسلي " فلا يضل " باتباعه إياهما في الدنيا " ولا يشقى " في الآخرة وروى سعيد بن جبير عن إبن عباس قال من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله عز وجل من الضلالة ووقاه الله عز وجل يوم القيامة سوء الحساب فذلك قوله تعالى " فمن إتبع هداي فلا يضل ولا يشقى "
سورة طه 124 - 129(2/415)
416
ثم قال عز وجل " ومن أعرض عن ذكري " يعني عن القرآن والرسل ولم يؤمن وقال مقاتل من أعرض عن الإيمان " فإن له معيشة ضنكا " يعني معيشة ضيقة روي عن إبن مسعود وأبي سعيد الخدري أنهما قالا " معيشة ضنكا " يقول عذاب القبر وروى أبو سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " معيشة ضنكا " قال عذاب القبر " ونحشره يوم القيامة أعمى " أي أعمى عن الحجة وقال إبن عباس وذلك حين يخرج من القبر خرج بصيرا فإذا سيق إلى المحشر عمي قال عكرمة رحمه الله في قوله " ونحشره يوم القيامة أعمى " قال عمي عليه عن كل شيء إلا جهنم وقال الضحاك في قوله " معيشة ضنكا " قال كسب الخبيث وقال السدي " معيشة ضنكا " قال معيشة القبر حين يأتيه الملكان وقال قتادة الضنك الضيق يقول ضنكا في النار
قوله عز وجل " قال رب لم حشرتني أعمى " قال مجاهد " لم حشرتني أعمى " لا حجة لي " وقد كنت بصيرا " بالحجة في الدنيا ويقال " لم حشرتني أعمى " أي أعمى العينين " وقد كنت بصيرا " في الدنيا " قال كذلك أتتك آياتنا " يعني الرسول والقرآن " فنسيتها " وتركت العمل بها ولم تؤمن بها " وكذلك اليوم تنسى " أي تترك في النار ويقال " كذلك أتتك آياتنا فنسيتها " أي تعلمت القرآن فنسيته وتركته وقال السدي " وكذلك اليوم تنسى " أي تترك في النار وتترك عن الخير
ثم قال عز وجل " وكذلك نجزي من أسرف " يعني هكذا نعاقب من أشرك بالله " ولم يؤمن بآيات ربه " يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " ولعذاب الآخرة أشد وأبقى " يعني وأدوم
قوله عز وجل " أفلم يهد لهم " يعني أفلم يتبين لقومك " كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم " يعني يمرون على منازلهم " إن في ذلك " يعني في هلاكهم " لآيات " يعني لعبرات " لأولي النهى " يعني لذوي العقول من الناس " ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى " وهذا مقدم ومؤخر يقول " ولولا كلمة سبقت " بتأخير العذاب عن هذه الأمة " إلى أجل مسمى " أي إلى يوم القيامة أي " لكان لزاما " أي لأخذتهم بالعذاب كما أخذت من كان قبلهم من الأمم عند التكذيب ولكن نؤخرهم إلى يوم القيامة " وهو أجل مسمى " وقال القتبي معناه ولولا أن الله عز وجل جعل الجزاء يوم القيامة وسبقت بذلك كلماته لكان العذاب ملازما لا يفارقهم وقال في الآية تقديم أي ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان العذاب لازما
سورة طه 130 - 131(2/416)
417
ثم قال عز وجل " فاصبر على ما يقولون " يعني على ما يقول أهل مكة من تكذيبهم إياك " وسبح بحمد ربك " يعني صل لربك وبحمد ربك وبأمر ربك " قبل طلوع الشمس " يعني صلاة الفجر " وقبل غروبها " يعني صلاة العصر ويقال صلاة الظهر والعصر وروى جرير عن عبد الله البجلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته يعني لا تزدحمون مأخوذ من الضم أي لا ينضم بعضكم إلى بعض في رؤيته بظهوره كما في رؤية الهلال ويروى " لا تضامون " بالتخفيف وهو الضم أي الظلم أي لا يظلم بعضكم في رؤيته بأن يراه البعض دون البعض فإن إستطعتم أن لا تغلبوا عن الصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ هذه الآية " فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " على معنى التأكيد للتكرار
ثم قال " ومن آناء الليل " يعني ساعات الليل " فسبح " يعني صلاة المغرب والعشاء " وأطراف النهار " يعني غدوة وعشية على معنى التأكيد للتكرار " لعلك ترضى " يعني لعلك تعطى من الشفاعة حتى ترضى قرأ الكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " ترضى " بضم التاء على فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون بالنصب يعني ترضى أنت وقال أبو عبيدة وبالقراءة الأولى نقرأ يعني بالضم لأن فيها معنيين أحدهما ترضى أي تعطى الرضا والأخرى ترضى أي يرضاك الله وتصديقه قوله تعالى " وكان عند ربه مرضيا " [ مريم : 55 ] وليس في الأخرى وهي القراءة بالنصب إلا وجه واحد
ثم قال عز وجل " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به " يعني لا تنظر بالرغبة إلى ما أعطينا رجالا منهم من الأموال والأولاد " زهرة الحياة الدنيا " يعني فإنه زينة الدنيا " لنفتنهم فيه " يعني لنبتليهم بالمال وقلة الشكر " ورزق ربك خير وأبقى " يعني جنة ربك " خير " من هذه الزينة التي في الدنيا " وأبقى " أي وأدوم
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا وكيع عن موسى بن عبيدة عن يزيد بن عبد الله عن أبي رافع قال نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فبعثني إلى يهودي أن يبيعنا أو يسلفنا إلى أجل فقال اليهودي لا والله إلا برهن فرجعت إليه فأخبرته فقال لو باعني أو أسلفني لقضيته وإني لأمين في السماء وأمين في الأرض إذهب بدرعي الحديدي فذهبت بها فنزل من بعد هذه(2/417)
418
الآية يعزيه عن الدنيا " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم " إلى آخر الآية
سورة طه 132 - 135
وقال عز وجل " وأمر أهلك بالصلاة " يعني قومك وأهلك وأهل بيتك بالصلاة " واصطبر عليها " يعني إصبر على ما أصابك فيها من الشدة روى عبد الرزاق عن معمر عن رجل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل عليه نقص في الرزق أي الضيق في الرزق أمر أهله بالصلاة ثم قرأ " وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها " " لا نسألك رزقا " يعني لخلقنا ولا أن ترزق نفسك إنما نسألك العبادة " نحن نرزقك " في الدنيا ما دمت حيا فيها " والعاقبة للتقوى " يعني الجنة للمتقين
" وقالوا " يعني الكفار " لولا يأتينا بآية من ربه " يعني هلا يأتينا محمد صلى الله عليه وسلم بعلامة لنبوته قال الله تعالى " أو لم تأتهم بينة " يعني بيان " ما في الصحف الأولى " يعني ما في التوراة والإنجيل حتى يجدوا نعته فيه وهذا كقوله عز وجل " فسئل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك " [ يونس : 94 ]
ثم قال عز وجل " ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله " يقول لو أن أهل مكة أهلكناهم قبل محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى " يعني من قبل أن نعذب
ثم قال عز وجل " قل كل متربص " يعني منتظر لهلاك صاحبه أنا وأنتم وقال مقاتل كان كفار مكة قد قالوا نتربص بمحمد صلى الله عليه وسلم " ريب المنون " [ الطور : 30 ] يعنون الموت ووعدهم النبي صلى الله عليه وسلم العذاب فأنزل الله تعالى " قل كل متربص " يعني أنتم متربصون بمحمد صلى الله عليه وسلم الموت ومحمد صلى الله عليه وسلم متربص بكم العذاب فأنزل الله تعالى " قل كل متربص " " فتربصوا " يقول إنتظروا " فستعلمون " إذا نزل بكم العذاب " من أصحاب الصراط السوي " يعني العدل " ومن إهتدى " منا ومنكم قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم " أولم تأتهم " بالتاء لأن لفظ البينة مؤنث والباقون " أولم يأتهم " بالياء لأن معناه البيان والله سبحانه وتعالى أعلم وصل الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم(2/418)
419
سورة الأنبياء
كلها مكية وهي مائة وإثنتا عشرة آية
سورة الأنبياء 1 - 3
قول الله سبحانه وتعالى " إقترب للناس حسابهم " يعني قربت القيامة كقوله " إقتربت الساعة " [ القمر : 1 ] ويقال معناه إقترب وقت حسابهم ويقال دنا للناس ما وعدوا في هذا القرآن " وهم في غفلة " يعني في جهل وعمى من أمر آخرتهم " معرضون " يعني جاحدين مكذبين وهم كفار مكة ومن كان مثل حالهم
ثم نعتهم فقال " ما يأتيهم من ذكر ربهم محدث " يعني ما يأتيهم جبريل بالقرآن محدث والمحدث إتيان جبريل عليه السلام بالقرآن مرة بعد مرة ويقال قراءة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن مرة بعد مرة " إلا إستمعوه وهم يلعبون " يعني يستمعون لاعبين ويقال " وهم يلعبون " يعني يهزؤون ويسخرون
قوله عز وجل " لاهية قلوبهم " يعني ساهية قلوبهم عن أمر الآخرة " وأسروا النجوى " يعني أخفوا تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ويتناجون فيما بينهم ثم بين أمرهم فقال " الذين ظلموا " معناه " وأسروا النجوى " يعني الذين ظلموا
ثم بين ما يسرون فقال " هل هذا " يعني يقولون ما هذا " إلا بشر مثلكم " أي آدمي مثلكم " أفتأتون السحر " يعني أفتصدقون الكذب " وأنتم تبصرون " وتعلمون أنه سحر
سورة الأنبياء 4 - 6
قوله عز وجل " قال ربي " يعني قل يا محمد " ربي يعلم القول " يعني السر(2/419)
420
فأعلمهم الله تعالى أنه يعلم قولهم وأطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على سرهم وعلانيتهم فقال " قال ربي يعلم القول في السماء والأرض " يعني يعلم سر أهل السموات وسر أهل الأرض قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " قال ربي يعلم " على معنى الخبر وقرأ الباقون " قل ربي أعلم " على معنى الأمر ثم قال " وهو السميع " بمقالتهم " العليم " بهم وبعقوبتهم
" بل قالوا أضغاث أحلام " يعني أباطيل أحلام كاذبة وقال أهل اللغة لا يكون الضغث إلا من أخلاط شتى فلذلك يقال أضغاث أحلام يعني لما فيها من التخاليط وهو كل حلم لا يكون له تأويل ومن هذا قوله " وخذ بيدك ضغثا " [ ص : 4 ] يعني أخلاط العيدان عدد مائة ويقال في الآية تقديم ومعناه بل قالوا أضغاث أحلام " بل إفتراه " أي إختلقه من تلقاء نفسه " بل هو شاعر " يعني ينقضون قولهم بعضهم ببعض مرة يقولون سحر ومرة يقولون أضغاث أحلام " فليأتنا بآية كما أرسل الأولون " أي يقولون فأتنا بآية أي بعلامة كما في الرسل الأولين فأخبر الله تعالى أنهم لا يؤمنون وإن أتاهم بآية
فقال عز وجل " ما آمنت قبلهم " يعني قبل كفار مكة " من قرية " " من " للصلة والزينة يعني لم يصدق قبلهم أهل قرية للرسل إذا جاءتهم بالآيات " أهلكناها أفهم يؤمنون " يعني أفقومك يصدقون إذا جاءتهم الآيات أي لا يؤمنون
سورة الأنبياء 7 - 9
ثم قال عز وجل " وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم " يعني لم أرسل إليهم الملائكة بالرسالة وكانت الرسل من الآدميين " فاسألوا أهل الذكر " يعني أهل التوراة والإنجيل " إن كنتم لا تعلمون " يعني لا تصدقون وذلك أن أهل مكة قالوا لو أراد الله تعالى أن يبعث إلينا رسولا لأرسل ملائكة قرأ عاصم في رواية حفص " إلا رجالا نوحي إليهم " بالنون وكذلك في قوله " وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم " [ الأنبياء : 25 ] وقرأ حمزة والكسائي الأول بالياء والثاني بالنون والباقون كلاهما بالياء وهو إختيار أبي عبيد رحمه الله
ثم قال عز وجل " وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام " يعني ما خلقنا الرسل جسدا لا يأكلون ولا يشربون ولكن جعلناهم أجسادا فيها أرواح يأكلون ويشربون وقال " جسدا " ولم يقل أجسادا لأن الواحد ينبىء عن الجماعة ويقال معناه وما جعلناهم ذوي أجساد لا يأكلون الطعام لأنهم قالوا " مال هذا الرسول يأكل الطعام " [ الفرقان : 7 ] ثم قال " وما كانوا خالدين " يعني في الدنيا " ثم صدقناهم الوعد " يعني العذاب للكفار والنجاة(2/420)
421
للأنبياء عليهم السلام " فأنجيناهم ومن نشاء " يعني فأنجينا الأنبياء عليهم السلام ومن نشاء من المؤمنين " وأهلكنا المسرفين " يعني المشركين
سورة الأنبياء 10 - 12
قوله عز وجل " لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم " يعني القرآن فيه " ذكركم " يعني في القرآن عزكم وشرفكم يعني شرف العرب والذكر يوضع موضع الشرف لأن الشرف يذكر ويقال " فيه ذكركم " أي فيه تذكرة لكم ما ترجون من رحمته وتخافون من عذابه كما قال " كلا إنها تذكرة " [ عبس : 11 ] وقال السدي " فيه ذكركم " يعني ما تعنون به من أمر دنياكم وآخرتكم وما بينكم وقال الحسن رحمه الله " فيه ذكركم " يعني أمسك به عليكم دينكم وفيه بيان حلالكم وحرامكم ويقال وعدكم ووعيدكم ثم قال " أفلا تعقلون " أن فيه عزكم وشرفكم فتؤمنون به
قوله عز وجل " وكم قصمنا " القصم الكسر يعني كم أهلكنا " من قرية " يعني أهل قرية " كانت ظالمة " يعني كافرة " وأنشأنا بعدها " يعني خلقنا بعد هلاكها " قوما آخرين " خيرا منهم فسكنوا ديارهم " فلما أحسوا بأسنا " يعني رأوا عذابنا " إذا هم يركضون " يعني يهربون ويعدون وقال القتبي أصل الركض تحريك الرجلين يقال ركضت الفرس إذا أعديته بتحريك رجليك ومنه قوله " أركض برجلك " [ ص : 42 ]
سورة الأنبياء 13 - 17
ثم قال عز وجل " لا تركضوا " يعني قالت لهم الملائكة عليهم السلام لا تهربوا وقال قتادة هذا على وجه الإستهزاء وقال مقاتل لما إنهزموا قالت لهم الملائكة عليهم السلام كهيئة الإستهزاء لا تركضوا وقال القتبي هذا كما قال لبيد
( هلا سألت جموع كندة % يوم ولوا أين أينا )
قال إبن عباس إن قرية من قرى اليمن يقال لها حصور أرسل الله عز وجل إليهم نبيا فكذبوه ثم قتلوه فسلط الله عز وجل عليهم بختنصر فقتلهم وهزمهم فقالت لهم الملائكة عليهم السلام حين إنهزموا لا تركضوا يعني لا تهربوا " وارجعوا إلى ما أترفتم فيه " يعني خولتم فيه من أمر دنياكم " ومساكنكم " يعني ومنازلكم " لعلكم تسألون " عن قتل نبيكم(2/421)
422
ويقال عن الإيمان " قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين " بقتل نبينا عليه السلام ويقال بالشرك بالله عز وجل
قوله عز وجل " فما زالت تلك دعواهم " يعني كلمة الويل قولهم " حتى جعلناهم حصيدا خامدين " يعني محصودا وقال أهل اللغة فعيل بمعنى مفعول والحصيد بمعنى محصود ويقع على الواحد والإثنين والجماعة وقال السدي الحصيد الذي قد حصد ويقال كداسة الغنم بأظلافها خامدين ميتين لا يتحركون وقال مجاهد رحمه الله " خامدين " بالسيف
قوله عز وجل " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما " من الخلق والعجائب " لاعبين " يعني لغير شيء ولكن خلقناهم لأمر كائن ويقال وما خلقت هذه الأشياء إلا ليعتبروا ويتفكروا فيها ويعلموا أن خالق هذه الأشياء أحق بالعبادة من غيره ويكون لي عليهم الحجة يوم القيامة
قوله عز وجل " لو أردنا أن نتخذ لهوا " يعني زوجة بلغة حضرموت " لاتخذناه من لدنا " يعني من عندنا قال إبن عباس اللهو الولد وقال الحسن وقتادة اللهو المرأة وقال القتبي التفسيران متقاربان لأن المرأة للرجل لهو وولده لهو كما يقال هما ريحانتاه وأصل اللهو الجماع فكني به بالمرأة والولد كما كني عنه باللمس وتأويل الآية أن النصارى لما قالت في المسيح ما قالت قال الله تعالى " لو أردنا أن نتخذ لهوا " أي صاحبة " لاتخذناه من لدنا " أي من عندنا لا من عندكم لأن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره ثم قال " إن كنا فاعلين " يعني ما كنا فاعلين ويجوز أن يكون " إن كنا " ممن يفعل ذلك ولسنا ممن يفعله
سورة الأنبياء 18 - 23
ثم قال عز وجل " بل نقذف بالحق " يعني نرمي بالحق " على الباطل " ومعناه نبين الحق من الباطل " فيدمغه " أي يبطله ويضمحل به ويقال يكسره وقال أهل الله أصل هذا إصابة الرأس والدماغ بالضرب وهو مقتل " فإذا هو زاهق " يعني هالكا ويقال زاهق أي زائل ذاهب قال الفقيه أبو الليث رحمه الله في الآية دليل أن النكتة إذا قابلتها نكتة أخرى على ضدها سقط الإحتجاج بها لأنها لو كانت صحيحة ما عارضها غيرها لأن الحق لا يعارضه الباطل ولكن يغلب عليه فيدمغه(2/422)
423
ثم قال " ولكم الويل " يعني الشدة من العذاب وهم النصارى " مما تصفون " يعني تقولون من الكذب على الله عز وجل
قوله عز وجل " وله من في السموات والأرض " من الخلق " ومن عنده " من الملائكة " لا يستكبرون " يعني لا يتعظمون " عن عبادته ولا يستحسرون " يعني لا يعيون " يسبحون الليل والنهار لا يفترون " لا يملون ولا يستريحون وقال أهل اللغة الحسير المنقطع الواقف إعياء روي عن عبد الله بن الحارث أنه قال قلت لكعب الأحبار أرأيت قوله " يسبحون الليل والنهار لا يفترون " أما شغلهم رسالة أما شغلهم عمل فقال لي ممن أنت فقلت من بني عبد المطلب فضمني إليه فقال يا إبن أخي إنه جعل لهم التسبيح كما جعل لنا التنفس ألست تأكل وتشرب وتذهب وتجيء وأنت تتنفس كذلك جعل لهم التسبيح
ثم قال عز وجل " أم إتخذوا آلهة " الميم صلة معناه أعبدوا من دونه آلهة ويقال بل عبدوا آلهة " من الأرض " يعني إتخذوها من الأرض ويقال من الأرض أي في الأرض " هم ينشرون " يعني هل يحيون تلك الآلهة شيئا وقرىء أيضا " ينشرون " بضم الياء ونصب الشين يعني هل يحيون أبدا لا يموتون
ثم قال " لو كان فيهما آلهة إلا الله " يعني لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله " لفسدتا " يعني لخربت السموات والأرض ولهلك أهلها يعني أن التدبير لم يكن مستويا ثم نزه نفسه عن الشريك فقال " فسبحان الله رب العرش عما يصفون " يعني عما يقولون من الكذب
قوله عز وجل " لا يسأل عما يفعل " يعني لا يسأل عما يحكم في خلقه من المغفرة والعقوبة لأن عادل ليس بجائر " وهم يسألون " عما يفعلون بعضهم ببعض لأنهم يجورون ولا يعدلون ومعناه لا يسأل عما يفعل على وجه الإحتجاج عليه ولكن يسأل عن معنى الإستكشاف والبيان كقوله عز وجل " رب لم حشرتني أعمى " [ طه : 125 ] وروي عن مجاهد أنه قال لا يسأل عن قضائه وقدره وهم يسألون عن أعمالهم ويقال " لا يسأل عما يفعل " لأنه ليس فوقه أحد " وهم يسألون " لأنهم مملوكون
سورة الأنبياء 24 - 28(2/423)
424
ثم قال عز وجل " أم إتخذوا من دونه آلهة " الميم صلة يعني أعبدوا من دونه آلهة " قل هاتوا برهانكم " يعني حجتكم وكتابكم الذي فيه عذركم " هذا ذكر من معي " هذا القرآن خبر من معي إلى يوم القيامة " وذكر من قبلي " يعني خبر من قبلي فلا أجد فيه أن الشرك كان مباحا في وقت من الأوقات ويقال " هذا ذكر من معي وذكر من قبلي " يعني القرآن وكتب الأولين
ثم قال " بل أكثرهم لا يعلمون الحق " يعني لا يصدقون بالقرآن ويقال بالتوحيد " فهم معرضون " يعني مكذبين بالقرآن والتوحيد
ثم بين ما أمر في جميع الكتب للرسل فقال عز وجل " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه " كما يوحى إليك " أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " يعني فوحدوني
" وقالوا إتخذ الرحمن ولدا " وذلك حين قال مشركو قريش في الملائكة عليهم السلام ما قالوا فقال الله تعالى " سبحانه " نزه نفسه عن الولد " بل عباد مكرمون " يعني بل عبيد أكرمهم الله عز وجل بعبادته " لا يسبقونه بالقول " أي لا يقولون ولا يعملون شيئا ما لم يأمرهم " وهم بأمره يعملون " يعني يعملون ما يأمرهم به " يعلم ما بين أيديهم " من أمر الآخرة " وما خلفهم " من أمر الدنيا " ولا يشفعون " يعني الملائكة عليهم السلام " إلا لمن إرتضى " أي لمن رضي عنه بشهادة أن لا إله إلا الله " وهم من خشيته مشفقون " يعني من هيبته خائفون لأنهم عاينوا أمر الآخرة فيخافون عاقبة الأمر
سورة الأنبياء 29 - 30
ثم قال " ومن يقل منهم " أي من الملائكة " إني إله من دونه " يعني من دون الله ولم يقل ذلك غير إبليس عدو الله " فذلك " يعني ذلك القائل " نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين " أي الكافرين
قوله عز وجل " أو لم ير الذين كفروا " يعني أولم يخبروا في الكتاب قرأ إبن كثير " ألم ير " بغير واو وقرأ الباقون بالواو ومعناهما قريب " أن السموات والأرض كانتا رتقا " يعني ملتزما " ففتقناهما " أي فرقناهما وأبنا بعضها من بعض وقال مجاهد كانت السماء لا تمطر والأرض لا تنبت ففتقناهما بالمطر والنبات وقال القتبي كانتا منضمتين ففتقنا السماء بالمطر والأرض بالنبات وروى إبن أبي نجيح عن مجاهد قال كانت السموات واحدة والأرض واحدة فتفتقت السماء سبعا والأرض مثلهن وقال الزجاج ذكر السموات والأرض ثم قال " كانتا رتقا " لأن السموات يعبر عنها بالسماء بلفظ الواحد وأن السموات كانت سماء واحدة وكذلك(2/424)
425
الأرض والمعنى أن السموات كانت واحدة ففتقتها وجعلتها سبعا وكذلك الأرض وقيل إنما فتقت السماء بالمطر والأرض بالنبات بدليل قوله " وجعلنا من الماء كل شيء حي " وقال " رتقا " ولم يقل رتقين لأن الرتق مصدر والمعنى كانتا ذواتي رتق ودلهم بهذا على توحيده حيث قال " وجعلنا من الماء كل شيء حي " يعني جعلنا الماء حياة كل شيء وهو قول مقاتل وقال قتادة خلق كل شيء حي من الماء وقال أبو العالية رحمه الله " وجعلنا من الماء " يعني من النطفة " أفلا يؤمنون " يعني أفلا يصدقون بتوحيد الله بعد هذه العجائب
سورة الأنبياء 31 - 35
وقوله عز وجل " وجعلنا في الأرض رواسي " أي الجبال الثقال الثوابت " أن تميد بهم " يعني كيلا تميل ويقال كراهية أن تميل بكم " وجعلنا فيها فجاجا سبلا " يعني في الأرض وفي الجبال أودية والفجاج جمع فج وهو كل مخترق بين جبلين " سبلا " يعني طرقا " لعلهم يهتدون " لكي يعرفوا الطرق " وجعلنا السماء سقفا محفوظا " من السقوط كيلا تسقط عليهم " وهم عن آياتها معرضون " يعني عن شمسها وقمرها ونجومها وما فيها من الأدلة والعبر " معرضون " يعني لا يتفكرون فيها وقرأ بعضم " وهم عن آياتها معرضون " ومعناه أن السماء بنفسها من أعظم آية لأنها متمسكة بقدرته
ثم قال عز وجل " وهو الذي خلق الليل والنهار " يعني الظلمة والضوء " والشمس والقمر كل في فلك يسبحون " أي في دوران يجرون وقال قتادة يجرون في فلك السماء وقال الكلبي كل شيء يدور فهو فلك وقال القتبي الفلك القطب الذي تدور به النجوم وهو كوكب خفي بقرب الفرقدين وبنات نعش عليه تدور السماء فقد ذكر بلفظ العقلاء أنهم يسبحون لأنه وصف منهم الفعل كما ذكر من العقلاء
ثم قال عز وجل " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد " يعني في الدنيا " أفإن مت فهم الخالدون " وذلك أن أناسا من الكفار قالوا إن محمدا صلى الله عليه وسلم يموت فنزل " كل نفس ذائفة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة " يعني بالغنى والفقر والرخاء والشدة " فتنة " يعني إختبارا لهم " وإلينا ترجعون " في الآخرة قرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين " يرجعون " بالياء بلفظ المغايبة وقرأ الباقون " ترجعون " بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ إبن عامر في إحدى الروايتين " يرجعون " بنصب الياء(2/425)
426
سورة الأنبياء 36
قوله عز وجل " وإذا رآك الذين كفروا " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأبي سفيان بن حرب وأبي جهل بن هشام فقال أبو جهل لأبي سفيان هذا نبي بني عبد مناف كالمستهزئ فنزل قوله " وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا " يعني ما يقولون لك إلا سخرية ثم قال " أهذا الذي " يعني يقولون أهذا الذي " يذكر آلهتكم " بالسوء ويقال أهذا الذي يعيب آلهتكم " وهم بذكر الرحمن هم كافرون " يعني جاحدين تاركين وهذا كقوله عز وجل " وإذا ذكر الله وحده إشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة " [ الزمر : 45 ] قال الكلبي وذلك حين نزل " قل أدعوا الله أو أدعو الرحمن " [ الإسراء : 110 ] فقال أهل مكة ما يعرف الرحمن إلا مسيلمة الكذاب فنزل " وهم بذكر الرحمن هم كافرون " [ الأنبياء : 36 ]
سورة الأنبياء 37 - 40
قوله عز وجل " خلق الإنسان من عجل " أي مستعجلا بالعذاب وهو النضر بن الحارث وقال القتبي " خلق الإنسان من عجل " أي خلقت العجلة في الإنسان ويقال إن آدم عليه السلام إستعجل حين خلق وإستعجل كفار قريش نزول العذاب كما إستعجل آدم عليه السلام قال الله تعالى " سأريكم آياتي " قال الكلبي رحمه الله يعني ما أصاب قوم نوح وقوم هود وصالح وكانت قريش يسافرون في البلدان فيرون آثارهم ومنازلهم ويقال يعني القتل ببدر ويقال يعني يوم القيامة " فلا تستعجلون " بنزول العذاب
ثم قال عز وجل " ويقولون متى هذا الوعد " يعني البعث " إن كنتم صادقين " يعني إن كنت صادقا فيما تعدنا أن نبعث فنزل قوله عز وجل " لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون " يعني لا يصرفون ولا يرفعون " عن وجوههم النار " لأن أيديهم تكون مغلولة " ولا عن ظهورهم " في الآخرة " ولا هم ينصرون " يعني لا يمنعون عما نزل بهم من العذاب وجوابه مضمر يعني لو علموا ذلك الآن لامتنعوا من الكفر والتكذيب " بل تأتيهم بغتة " يعني الساعة تأتيهم فجأة " فتبهتهم " يعني فتفجأهم " فلا يستطيعون ردها " أي صرفها عن أنفسهم " ولا هم ينظرون " يعني لا يمهلون ولا يؤجلون(2/426)
427
سورة الأنبياء 41 - 43
قوله عز وجل " ولقد إستهزئ برسل من قبلك " كما إستهزأ بك قومك " فحاق بالذين سخروا منهم " يعني نزل بالذين سخروا منهم " ما كانوا به يستهزئون " يعني العذاب الذي كانوا به يستهزئون
قوله عز وجل " قل من يكلؤكم " أي من يحفظكم " بالليل والنهار من الرحمن " أي من عذاب الرحمن معناه من يمنعكم من عذاب الرحمن إلا الرحمن " بل هم عن ذكر ربهم " يعني عن التوحيد والقرآن " معرضون " مكذبون تاركون
قوله عز وجل " أم لهم آلهة " الميم صلة يعني ألهم آلهة " تمنعهم من دوننا " يعني من عذابنا " لا يستطيعون نصر أنفسهم " يعني لا تقدر الآلهة أن تمنع نفسها من العذاب أو السوء إن أرادوا بها فكيف ينصرونكم " ولا هم منا يصحبون " يعني يأمنون من عذابنا وقال مجاهد يعني ولا هم منا ينصرون وقال السدي لا نصحبهم فندفع عنهم في أسفارهم وقال القتبي أي لا يجارون لأن المجير صاحب لمجاره
سورة الأنبياء 44 - 46
ثم قال عز وجل " بل متعنا هؤلاء " يعني أجلناهم وأمهلناهم " وآباءهم " من قبلهم " حتى طال عليهم العمر " يعني الأجل " أفلا يرون " يعني أفلا ينظر أهل مكة " أنا نأتي الأرض ننقصها " أي نأخذ ونفتح الأرض ننقصها " من أطرافها " ما حول مكة يعني ننقصها لمحمد صلى الله عليه وسلم من نواحيها ويقال يعني نقبض أرواح أشراف أهل مكة ورؤسائها وقال الحسن هو ظهور المسلمين على المشركين وروى عكرمة عن إبن عباس قال هو موت فقهائها وذهاب خيارها وقال الكلبي يعني السبي والقتل والخراب ثم قال تعالى " أفهم الغالبون " يعني أن الله عز وجل هو الغالب وهم المغلوبون
ثم قال عز وجل " قل إنما أنذركم بالوحي " يعني بما نزل من القرآن " ولا يسمع الصم الدعاء " يعني أن من يتصامم لا يسمع الدعاء " إذا ما ينذرون " يخوفون قرأ إبن عامر " ولا تسمع الصم الدعاء " بالتاء بلفظ المخاطبة ومعناه أن لا تقدر أن تسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون يعني إذا خوفوا وقرأ الباقون " ولا يسمع " بالياء على وجه الحكاية عنهم(2/427)
428
ثم أخبر عن قلة صبرهم عند العذاب فقال " ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك " يعني أصابتهم عقوبة من عذاب ربك ويقال معناه ولئن أصابهم العذاب أي طرف من عذاب ربك ويقال أدنى شيء من عذاب ربك " ليقولن يا ويلتا إنا كن ظالمين " ظلمنا أنفسنا بترك الطاعة لله ربنا
سورة الأنبياء 47 - 50
قوله عز وجل " ونضع الموازين القسط " يعني ميزان العدال " ليوم القيامة " يعني في يوم القيامة قال إبن عباس هو ميزان له لسانان وكفتان توزن فيه أعمال الحسنات والسيئات فيجاء بالحسنات في أحسن صورة ويجاء بالسيئات في أقبح صورة " فلا تظلم نفس شيئا " يعني لا ينقص من ثواب أعمالهم شيئا " وإن كان مثقال حبة " يعني وزن حبة " من خردل " قرأ نافع " مثقال حبة " بضم اللام وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالرفع فمعناه وإن حصل للعبد مثقال حبة من خردل ومن قرأ بالنصب معناه وإن كان العمل مثقال حبة يصير خبر كان " أتينا بها " يعني جئنا بها وأحضرناها وقرأ بعضهم " أتينا " بالمد يعني جازينا بها وأعطينا بها وأثبتنا وقراءة العامة بغير مد ثم قال " وكفى بنا حاسبين " أي مجازين
قوله عز وجل " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان " يقول النصرة والنجاة فنصر موسى وهارون عليهما السلام وأهلك عدوهما فرعون " وضياء " يعني الذي أنزل عليهما من الحلال والحرام في الكتاب قرأ إبن كثير " وضئاء " بهمزتين وقرأ الباقون بهمزة واحدة " وذكرا " يعني عظة " للمتقين " الذين يتقون الكفر والفواحش والكبائر وقال مجاهد الفرقان الكتاب وقال السدي الفرقان والنصر والضياء النور وذكرا قال التوراة وقال مقاتل الفرقان والتوراة وروي عن إبن عباس أنه كان يقرأ " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء وذكرا " يعني أعطيناهما التوراة نورا وعظة وروي عن عكرمة قال كان إبن عباس أنه كان يقرأ " الذين إستجابوا لله والرسول " إقرأوا بالواو يعني والذين إستجابوا " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء " بغير واو وقال إجعلوا هذه الواو عند قوله " والذين إستجابوا لله والرسول "
ثم قال عز وجل " الذين يخشون ربهم بالغيب " يعني يعملون لربهم في غيب عنه(2/428)
429
والله تعالى لا يغيب عنه شيء " وهم من الساعة مشفقون " يعني من عذاب الساعة خائفون
قوله عز وجل " وهذا ذكر مبارك " يعني هذا القرآن " ذكر مبارك " يعني فيه السعادة والمغفرة للذنوب والنجاة لمن آمن به " أنزلناه " لكم " أفأنتم له منكرون " يعني أفأنتم للقرآن مكذبون جاحدون
سورة الأنبياء 51 - 60
قوله عز وجل " ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل " يعني أكرمناه بالمغفرة من قبل النبوة وقال مقاتل من قبل موسى وهارون عليهما السلام وقال مجاهد من قبل بلوغه وقال الكلبي يقول ألهمناه رشده الخير وهديناه قبل بلوغه ويقال من قبل محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " وكنا به عالمين " بأنه أهل للرشد ويقال للنبوة ويقال " وكنا به عالمين " " إذ قال " أي حين قال " لأبيه وقومه ما هذه التماثيل " يعني التصاوير يعني الأصنام " التي أنتم لها عاكفون " يعني عابدين ويقال عليها مقيمين وروى ميسرة النهدي أن عليا رضي الله عنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال " ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون "
فلما قال ذلك لهم ذلك إبراهيم عليه السلام " قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين " يعني فنحن نعبدها " قال " لهم إبراهيم عليه السلام " لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين " يعني في خطأ بين قال السدي كان أبوه يصنع الأصنام يبعث بها مع بنيه فيبيعونها فبعث إبراهيم بصنم ليبيعه فجعل ينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه وكان إخوته يبيعون ولا يبيع هو شيئا وقال " أنتم في ضلال مبين "
" قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين " يعني أجدا تقول يا إبراهيم أم أنت من اللاعبين قال إبراهيم بل أقول لكم حقا وأدعوكم إلى عبادة الله تعالى هو " ربكم " يعني خالقكم ورازقكم " رب السموات والأرض " هو ربكم " الذي فطرهن " يعني هو الذي خلقهن " وأنا على ذلكم من الشاهدين " بأن الذي خلق السموات والأرض هو ربكم
ثم قال عز وجل " وتالله لأكيدن أصنامكم " أي قال إبراهيم عليه السلام والله لأكسرن أصنامكم " بعد أن تولوا مدبرين " يعني بعد أن تنطلقوا ذاهبين إلى عيدكم وذلك(2/429)
430
أن القوم كانوا أرادوا أن يخرجوا إلى عيد لهم فقالوا لإبراهيم أخرج معنا حتى تنظر إلى عيدنا وكان القوم في ذلك الزمان ينظرون إلى النجوم فينظر أحدهم ويقول إنه يصيبني كذا وكذا من الأمر وكان ذلك معروفا عندهم وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يخلفوا بعدهم إلا من كان مريضا فنظر إبراهيم عليه السلام في النجوم " فقال إني سقيم " [ الصافات : 89 ] يعني أشتكي غدا فأصبح من الغد معصوبا رأسه وخرج القوم إلى عيدهم ولم يتخلف أحد غيره فلما خرج القوم قال إبراهيم أما والله لأكيدن أصنامكم فسمعها رجل منهم فحفظها عليه فأخذ إبراهيم فأسا ويقال قدوما وجاء إلى بيت أصنامهم وقد وضعوا ألوان الطعام بين أيديهم فإذا رجعوا من عيدهم كانوا يرفعون ذلك الطعام ويأكلونه تبركا ودخل إبراهيم بيت الأصنام فرأى ذلك الطعام بين أيديهم فقال " ألا تأكلون " [ الصافات : 91 ] فلم يجيبوه فقال " ما لكم لا تنطقون " [ الصافات : 92 ] فأقبل عليهم " ضربا باليمين " [ الصافات93 ] يعني جعل يضرب القدم بيده وقال السدي قطع رؤوسها كلها وقال إبن عباس كسرها كسرا وقال بعضهم نحت وجوههم وقال بعضهم قطع يد بعضهم ورجل بعضهم وأذن بعضهم فذلك قوله تعالى " فجعلهم جذاذا " يعني فتاتا ويقال كسرهم قطعا قطعا وقال أهل اللغة كل شيء كسرته فقد جذذته وقال أبو عبيد يعني فتاتا يقال كسرهم أي إستأصلهم ويقال جذ الله دابرهم أي إستأصلهم وقرأ الكسائي " جذاذا " بكسر الجيم والباقون بالضم " جذاذا " وقرئ بالشاذ " جذاذا " بالنصب ومعناه قريب بعضها من بعض وهو الكسر
" إلا كبيرا لهم " لم يكسره وتركه على حاله وقال الزجاج يحتمل الكبير في الخلقة ويحتمل أكبر ما عندهم في تعظيمهم " لعلهم إليه يرجعون " يعني إلى الصنم الأكبر ويقال " يرجعون " إلى قوله بإحتجاجه عليهم لوجوب الحجة عليهم فجعل القدوم على عنق ذلك الصنم الأكبر فلما رجعوا من عيدهم نظروا إلى آلهتهم مكسرة ويقال حين دخل إبراهيم عليه السلام بيت الأصنام كان عندهم خدم يعني الوصائف فخرجن وقلن إن هذا الرجل مريض جاء يطلب من الآلهة العافية فلما خرج إبراهيم ودخلن فنظرن إلى الأصنام مقطوعة الرؤوس فخرجن إلى الناس بالويل والصياح وأخبرنهم بالقصة فتركوا عيدهم ودخلوا فلما رأوا ذلك " قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين " في فعله " قالوا سمعنا فتى يذكرهم " يعني يعيبهم ويقال أخبر الرجل الذي سمع منه فقال إني سمعت فتى يذكرهم قال " تالله لأكيدن أصنامكم " " يقال له إبراهيم " صار إبراهيم رفعا بمعنى يقال له هو إبراهيم وقال ويحتمل يقال له إبراهيم رفع على معنى النداء المفرد
سورة الأنبياء 61 - 67(2/430)
431
قوله عز وجل " قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون " يعني يشهدون عليه بما يعرفون منه ويقال يشهدون عقوبته قال فجاؤوا به إلى ملكهم النمرود بن كنعان " قالوا " أي قال له الملك " أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال " إبراهيم " بل فعله كبيرهم هذا " يعني عظيمهم عندكم وإنما قال هذا على وجه الإستهزاء لا على وجه الجد " فاسألوهم إن كانوا ينطقون " يعني إن كانوا يتكلمون فسألوهم من فعل هذا بكم " فرجعوا إلى أنفسهم " فلاموها يعني إلى أصحابهم " فقالوا إنكم أنتم الظالمون " يعني حيث قلتم إن إبراهيم كسرها
" ثم نكسوا على رؤوسهم " يعني رجعوا إلى قولهم الأول وقال القتبي أي ردوا إلى ما كانوا يعرفون من أنها لا تنطق فقالوا " لقد علمت ما هؤلاء ينطقون " يا إبراهيم يعني تعلم أنهم لا يتكلمون " قال " لهم إبراهيم عليه السلام " أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا " إن عبدتموهم " ولا يضركم " إن تركتموهم " أف لكم " يعني قذرا لكم وسحقا لكم وتعسا لكم والإختلاف في قوله " أف لكم " مثل ما سبق " ولما تعبدون من دون الله " يعني أف لكم ولما تعبدون من دون الله " أفلا تعقلون " أن من ليس له ذهن ولا قوة ولا منفعة ولا مضرة أن لا تعبدوه
سورة الأنبياء 68 - 71
ثم قال عز وجل " قالوا " يعني قال ملكهم " حرقوه وانصروا آلهتكم " يعني إنتقموا لآلهتكم " إن كنتم فاعلين " به شيئا فافعلوا فأمر النمرود أهل القرى حتى جمعوا له الحطب أياما كثيرة وأمر بأن يبني بنيانا فبنى حائط مستدير وجمعوا له الحطب ما شاء الله ثم أضرموا فيه النار فارتفعت النار حتى بلغت السماء في أعين الناظرين وكانت الطير يمر بها فيصيبها حر النار فلا تستطيع أن تجوز فيه فتقع ميتة فلما أرادوا أن يلقوه فيها لم يستطيعوا لشدة حرها ولم يقدر أحد أن يدنو منها فبطل تدبيرهم وكادوا أن يتركوه حتى جاء إبليس عدو الله لعنه الله فدلهم على المنجنيق وهو أول منجنيق صنعت وجاؤوا بإبراهيم فأوثقوا يديه وجعلوه في المنجنيق وروي في الخبر أن السموات والأرض والجبال بكوا عليه وبكت(2/431)
432
عليه ملائكة السموات وقالوا ربنا عبدك إبراهيم يحرق فيك فقال لهم إن إستغاث بكم فأغيثوه فلما رمي في المنجنيق قال حسبي الله ونعم الوكيل فرمي به بالمنجنيق في الهواء فجعل يهوي نحو النار فقال جبريل عليه السلام يا رب عبدك إبراهيم يحرق فيك قال الله تعالى إن إستغاث بك فأغثه فأتاه جبريل وهو يهوي نحو النار فقال أتطلب النجاة فقال أما منك فلا قال أفلا تسأل الله عز وجل أن ينجيك منها فقال إبراهيم حسبي من سؤالي علمه بحالي فلما أخلص قلبه لله تعالى فعند ذلك قال الله تعالى " قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم " يعني سلميه من حرك وبردك
وقال عكرمة رحمه الله بردت نار الدنيا كلها يومئذ فلم ينتفع بها أحد من أهلها وقال كعب ما أحرقت النار من إبراهيم غير وثاقه وقال قتادة إن الخطاف كان تطفىء النار بأجنحته وكانت الوزغة تنفخ وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أقتلوا الوزغة فإنها كانت تنفخ على إبراهيم وكانت عائشة تقتلهن وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله " بردا وسلاما " لو لم يقل " وسلاما " لأهلكه البرد وكذلك قال إبن عباس فضمه جبريل بجناحه ووضعه على الأرض وضرب جناحه على الأرض فأظهر الماء واخضرت الأرض فلما كان في اليوم الثالث خرج النمرود مع جيشه وأشرف على موضع مرتفع لينظر إلى النار فرأى في وسط ذلك الموضع ماء وخضرة ورأى هناك شخصين والنار حواليهما فقال إنا قد رمينا إنسانا واحدا فما لي أرى فيها نفسين فرجع متحيرا
قال الله تعالى " وأرادوا به كيدا " يعني حرقا " فجعلناهم الأخسرين " يعني الأذلين الأسفلين " ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين " يعني إلى الأرض المقدسة فخرج إبراهيم عليه السلام من ذلك الموضع وقال للوط عليه السلام إني أريد أن أهاجر فصدقه واتبعه فخرجا إلى بيت المقدس ويقال إلى الشام " التي باركنا فيها " بالماء والثمار للناس
سورة الأنبياء 72 - 73
قوله عز وجل " ووهبنا له إسحاق " يعني الولد " ويعقوب نافلة " يعني زيادة وذلك أنه سأل الله تعالى الولد فأعطاه الله تعالى الولد وهو إسحاق عليه السلام وولد الولد فضله على مسألته وهو يعقوب عليه السلام ويقال " نافلة " أي غنيمة " وكلا جعلنا صالحين " يعني أكرمناهم بالإسلام وقال الكلبي كان لوط إبن أخي إبراهيم فكان لوط بن هازر بن آزر وإبراهيم بن آزر وهو عم لوط وقال بعضهم كان لوط إبن عمه وكانت سارة أخت لوط(2/432)
433
ثم قال عز وجل " وجعلناهم أئمة " يعني قادة في الخير ويقال أكرمناهم بالإمامة والنبوة " يهدون بأمرنا " أي يدعون الخلق " بأمرنا " إلى أمرنا وإلى ديننا " وأوحينا إليهم فعل الخيرات " يعني أمرناهم بالأعمال الصالحة ويقال بالدعاء إلى الله عز وجل أي قول لا إله إلا الله " وإقام الصلاة " يعني إتمام الصلاة " وإيتاء الزكاة " يعني الزكاة المفروضة وصدقة التطوع " وكانوا لنا عابدين " يعني مطيعين
سورة الأنبياء 74 - 75
وقوله عز وجل " ولوطا " يعني واذكر لوطا إذ " آتيناه حكما وعلما " يعني النبوة والفهم ويقال " ولوطا " يعني وأوحينا إليهم وآتينا لوطا يعني وآتينا لوطا حكما وعلما أي النبوة والفهم " ونجيناه من القرية " يعني مدينة سدوم " التي كانت تعمل الخبائث " يعني اللواطة " إنهم كانوا قوم سوء فاسقين " يعني عاصين " وأدخلنا في رحمتنا " يعني أكرمنا لوطا عليه السلام في الدنيا بطاعتنا وفي الآخرة بالجنة " إنه من الصالحين " أي من المرسلين
سورة الأنبياء 76 - 77
قوله عز وجل " ونوحا " يعني واذكر نوحا عليه السلام " إذ نادى من قبل " أي دعا على قومه من قبل إبراهيم وإسحاق عليهما السلام " فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم " يعني الغرق " ونصرناه من القوم " أي على القوم " الذين كذبوا بآياتنا " يعني كذبوا نوحا بما أنذرهم من الغرق ويقال " نصرناه من القوم " أي نجيناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا " إنهم كانوا قوم سوء " يعني كفارا " فأغرقناهم أجمعين " يعني الصغير والكبير فلم يبق منهم أحد إلا هلك بالطوفان
سورة الأنبياء 78 - 79
قال عز وجل " وداود وسليمان " يعني واذكر داود وسليمان عليهما السلام " إذ يحكمان في الحرث " يعني الزرع " إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين " وذلك أن غنما لقوم وقعت في زرع رجل فأفسدته قال إبن عباس في رواية أبي صالح إن غنم قوم(2/433)
434
وقعت في كرم قوم ليلا حين خرج عناقيده فأفسدته فاختصموا إلى دواد بن أيشا النبي صلى الله عليه وسلم فقوم داود الكرم والغنم فكانت القيمتان سواء أي قيمة الغنم وقيمة ما أفسدت من الكرم فدفع الغنم إلى صاحب الكرم فخرجوا من عنده فمروا بسليمان فقال بم قضى بينكم الملك فأخبروه فقال نعم ما قضى به وغير هذا كان أرفق للفريقين جميعا فرجع أصحاب الكرم والغنم إلى داود فأخبروه بما قال سليمان فأرسل داود إلى سليمان عليهما السلام فقال كيف رأيت قضائي بين هؤلاء فإني لم أقض بالوحي إنما قضيت بالرأي فقال نعم ما قضيت فقال عزمت عليك بحق النبوة وبحق الوالد على ولده إلا أخبرتني فقال سليمان غير هذا كان أرفق بالفريقين فقال وما هو قال سليمان يأخذ أهل الكرم الغنم ينتفعون بألبانها وسمنها وصوفها ونسلها ويعمل أهل الغنم لأهل الكرم في كرمهم حتى إذا عاد الكرم كما كان ردوه فقال دواد نعم ما قضيت به فقضى داود بينهم بذلك
وقال بعضهم كان ذلك القضاء نافذا فلم ينقض ذلك وكان سليمان في ذلك اليوم إبن إحدى عشرة سنة فذلك قوله " إذ نفشت فيه غنم القوم " يعني دخلت فيه غنم القوم ويقال نفشت أي دخلت فيه بالليل من غير حافظ لها وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الزهري رحمهم الله قال النفش لا يكون إلا ليلا والعمل بالنهار وروى قتادة عن الشعبي رحمه الله أن شاة وقعت في غزل الحواك فاختصموا إلى شريح رحمه الله فقال شريح أنظروا أوقعت فيه ليلا أو نهارا فإن كان بالليل يضمن وإن كان بالنهار لا يضمن ثم قرأ شريح " إذ نفشت فيه غنم القوم " وقال النفش بالليل والعمل بالنهار وكلاهما الرعي بلا راع
وروى سعيد بن المسيب أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا لقوم فأفسدته فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حفظ الأموال على أهلها بالنهار وعلى أهل الماشية ما أصابت الماشية بالليل وبهذا الخبر أخذ أهل المدينة وقال أهل العراق لا يضمن ليلا كان أو نهارا إلا أن يتعمد صاحبها فيرسلها فيه وذهبوا إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال جرح العجماء جبار ثم قال " وكنا لحكمهم شاهدين " يعني عالمين
قوله عز وجل " ففهمناها سليمان " يعني ألهمناها سليمان " وكلا آتينا حكما وعلما " يعني النبوة والفهم بالحكم وروي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال لولا هذه الآية لم يجرؤ أحد منا أن يفتي في الحوادث
ثم قال " وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير " يعني كلما سبح داود تسبح معه الجبال والطير أي سخرنا الجبال والطير يسبحن معه إذا سبح وقال كان داود يمر بالجبال مسبحا وهي تجاوبه وكذلك الطير وقال قتادة " يسبحن " أي يصلين معه إذا صلى يعني كل ما سبح داود تسبح معه الجبال
والطير أي سخرنا الطير والجبال يسبحن معه " وكنا فاعلين " يعني نحن فعلنا ذلك بهما(2/434)
435
سورة الأنبياء 80 - 82
قوله عز وجل " وعلمناه صنعة لبوس لكم " يعني دروع الحديد وذلك أن داود عليه السلام خرج يوما متنكرا ليسأل عن سيرته في مملكته فاستقبله جبريل عليه السلام على صورة آدمي فلم يعرفه داود فقال كيف ترى سيرة داود في مملكته فقال له جبريل عليه السلام نعم الرجل هو لولا أن فيه خصلة واحدة قال وما هي قال بلغني أنه يأكل من بيت المال وليس شيء أفضل من أن يأكل الرجل من كد يده فرجع داود عليه السلام وسأل الله عز وجل أن يجعل رزقه من كد يديه فألان له الحديد وكان يتخذ منها الدروع ويبيعها ويأكل من ذلك فذلك قوله " وعلمناه " يعني ألهمناه ويقال " علمناه " بالوحي " صفة لبوس لكم " " لتحصنكم من بأسكم " يعني يمنعكم قتال عدوكم قرأ إبن عامر وعاصم في رواية حفص بالتاء " لتحصنكم " وقرأ عاصم في رواية أبي بكر " لنحصنكم " بالنون بدليل قوله وعلمناه وقرأ الباقون بالياء بلفظ التذكير يعني ليحصنكم الله عز وجل ويقال يعني اللبوس ومن قرأ بالتاء فهو كناية عن الصنعة واختار أبو عبيد بالتاء " لتحصنكم " لأن اللبوس أقرب إليه
ثم قال " فهل أنتم شاكرون " اللفظ لفظ الإستفهام يعني أشكروا رب هذه النعم ووحدوه
قوله عز وجل " ولسليمان الريح " قرأ أبو عبد الرحمن الأعرج " الريح " بضم الحاء على معنى الإبتداء وقراءة العامة " الريح " بالنصب ومعناه وسخرنا لسليمان الريح " عاصفة " يعني قاصفة شديدة وقال في موضع آخر " تجري بأمره رخآء " [ ص : 36 ] أي لينة فإنها كانت تشتد إذا أراد وتلين إذا أراد " تجري بأمره " يعني تسير بأمر الله عز وجل ويقال بأمر سليمان " إلى الأرض التي باركنا فيها " بالماء والشجر " وكنا بكل شيء عالمين " يعني من أمر سليمان وغيره
قوله عز وجل " ومن الشياطين من يغوصون له " يعني سخرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون له في البحر " ويعملون عملا دون ذلك " من البنيان وغيره " وكنا لهم حافظين " من أن يهيجوا أحدا في زمانه ويقال يحفظهم أن لا يفسدوا ما عملوا ويقال " وكنا لهم حافظين " ليطيعوا سليمان عليه السلام ولا يعصوه
سورة الأنبياء 83
قوله عز وجل " وأيوب إذ نادى ربه " يعني أذكر أيوب عليه السلام وصبره روي في(2/435)
436
الخبر أن أيوب كان بمنزلة الملك وهو أيوب بن برضى النبي عليه السلام وكانت له أموال من صنوف مختلفة وكانت له ضياع كثيرة وكان له ثلاثمائة زوج ثيران وغلمان يعملون له في ضياعه وأموال السوائم من الغنم والإبل والبقر وكان متعبدا ناسكا منفقا متصدقا فحسده إبليس عدو الله وقال إن هذا يذهب بالدنيا والآخرة وأراد أن يفسد عليه إحدى الدارين أو كلتيهما فسأل الله تعالى وقال إن عبدك أيوب يعبدك لأنك أعطيته السعة في الدنيا ولولا ذلك لم يعبدك قال الله تعالى إني أعلم منه أنه يعبدني ويشكرني وإن لم يكن له سعة في الدنيا فقال يا رب سلطني عليه فسلطه على كل شيء منه إلا على روحه
فرجع إبليس إلى غنمه كهيئة النار وضرب عليها فأهلك جميع غنمه فجاءت رعاته فأخبروه بالقصة فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال هو الذي أعطى وهو الذي أخذ وهو أحق به ويقال إنه أحرق غنمه ورعاته فجاء إبليس على هيئة راع من رعاته فأخبره بذلك فقال له أيوب عليه السلام لو كان فيك خير لهلكت مع أصحابك ثم جاء إلى إبله وبقره ففعل مثل ذلك ثم جاء إلى زرعه كهيئة النار فأفسد جميع زرعه فأخبر بذلك فحمد الله عز وجل وأثنى عليه وقال هو الذي أعطى وهو الذي أخذ وهو أحق به
وكان له سبعة بنين وثلاث بنات ويقال سبعة بنين وسبع بنات في بيت فجاء إبليس عليه اللعنة فهدم البيت عليهم فماتوا كلهم فذكر ذلك لأيوب عليه السلام فحمد الله عز وجل على ذلك وأثنى عليه ولم يجزع وقال هو الذي أعطى وهو الذي أخذ ثم جاء إلى أيوب وكان في الصلاة فلما سجد نفخ في أنفه وفمه نفخة فانتفخ أيوب عليه السلام وخرجت به قروح وجعل تسيل منها الصديد وتفرق عنه أقرباؤه وأصدقاؤه ولم يبق معه أحد إلا إمرأته
وقال إبن عباس في رواية أبي صالح كان إسم إمرأته ماحين بنت ميشا بن يوسف بن يعقوب ويقال كان إسمها رحمة فتأذى به جيرانه وقالوا لامرأته إحمليه من ها هنا فإنا نتأذى به فحملته حتى أخرجته إلى كناسة قوم ووضعته عليها وجعلت تدخل على الناس وتخدمهم وتأخذ شيئا وتنفقه عليه وكان ذلك البلاء ما شاء الله فجاء إبليس في صورة طبيب وقال للمرأة إني أردت أن يبرأ من علته فمريه بشرب الخمر ويتكلم بكلمة الكفر فأخبرته المرأة بذلك فقال لها ذلك إبليس الذي أمرك بهذا فألحت عليه فغضب وقال والله لئن برئت لأضربنك مائة سوط قالت متى تبرأ فقال عند ذلك رب " أني مسني الضر "
ويقال إنه اشتهى شيئا يتخذ بالسمن فدخلت إمرأته على إمرأة غني من الأغنياء وسألتها ذلك فأبت عليها ثم نظرت إلى ذوائبها فرأت ذوائبها مثل الحبل فقالت لئن دفعت إلي ذوائبك دفعت إليك ما تطلبين مني فدفعت بالمقراض وقطعت ذوائبها ودفعتها إليها وأخذت منها ما سألت وجاءت
به إلى أيوب عليه السلام فقال لها من أين لك هذا فأخبرته بالقصة فبكى أيوب عند ذلك وقال رب " أني مسني الضر "(2/436)
437
قال بعضهم مكث أيوب في بلائه سبع سنين وقال بعضهم عشر سنين وروى عن إبن شهاب عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أيوب نبي الله لبث في بلائه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان فقال أحدهما لصاحبه والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين فقال له صاحبه وما ذلك فقال من ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله تعالى فيكشف ما به ثم راحا إليه فلم يصبرا حتى ذكرا ذلك له فعند ذلك قال رب " مسني الضر "
قال فلما كان ذات يوم خرجت إمرأته فأوحى الله تعالى إلى أيوب عليه السلام في مكانه أن " أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب " [ ص : 42 ] فشرب واغتسل فأذهب الله عز وجل ما به من البلاء فقال أيوب كان الركض برجلي أشد علي من البلاء الذي كنت فيه قال إبن عباس لما قال الله تعالى له " أركض برجلك " ففعل فانفجرت عين أغتسل منها فصح جسده ثم قيل له " أركض برجلك " ففعل فخرجت عين فشرب منها فالتأم ما في جوفه فلما رجعت إليه المرأة لم تعرفه فقالت له بارك الله فيك هل رأيت نبي الله المبتلى فوالله ما رأيت أحدا أشبه به منك إذ كان صحيحا قال فإني أيوب قال وكان له آنذاك أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله سحابتين إحداهما على أندر القمح فأفرغت الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض ذلك قوله تعالى " إذ نادى ربه أني مسني الضر " أصابني البلاء والشدة " وأنت أرحم الراحمين " فعرض ولم يفصح بالدعاء
سورة الأنبياء 84
قال الله تعالى " فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر " يعني رفعنا ما به من شدة " وآتيناه أهله ومثلهم معهم " قال مقاتل ولدت إمرأة أيوب منه سبعة بنين وثلاث بنات قبل البلاء فأحياهم الله تعالى ثم ولدت بعد كشف البلاء سبعة بنين وثلاث بنات فذلك قوله " ومثلهم معهم " وقال الكلبي ولدت سبعة بنين وسبع بنات فنشروا له وولدت إمرأته مثلهم سبعة بنين وسبع بنات ويقال آتاه الله عز وجل أهله في الدنيا ومثلهم معهم في الآخرة وروى وكيع عن إبن سفيان عن الضحاك أن إبن مسعود بلغه أن مروان بن الحكم قال " وآتيناه أهله ومثلهم معهم " أي أهلا غير أهله فقال إبن مسعود لا بل أهله بأعيانهم ومثلهم معهم
ثم قال " رحمة من عندنا " يعني نعمة منا " وذكرى للعابدين " يعني عظة(2/437)
438
للمطيعين وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليعتبروا به لأن أيوب عليه السلام لم يفتر عن عبادة ربه عز وجل في بلائه
سورة الأنبياء 85 - 86
ثم قال عز وجل " وإسماعيل وإدريس " يعني واذكر إسماعيل وهو إسماعيل بن إبراهيم الخليل وإدريس وهو جد أبي نوح " وذا الكفل " عليهم السلام قال بعضهم كان ذو الكفل نبيا وقال بعضهم لم يكن نبيا وكان رجلا صالحا تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقضي بينهم بالعدل ولذلك سمي ذا الكفل ويقال إنما ذكره مع الأنبياء عليهم السلام لأنه عمل عمل الأنبياء وقال قتادة كفل عن رجل صلاته كان يصلي كل يوم ألف ركعة فكفل عنه فكان يصلي بعد موته فسمي ذا الكفل ويقال إنه كفل مائة من الأنبياء عليهم السلام وأنجاهم من القتل وضمهم إلى نفسه فسمي ذا الكفل " كل من الصابرين " يعني صبروا على طاعة الله عز وجل وعلى ما أصابهم من الشدة في الله تعالى
ثم قال " وأدخلناهم في رحمتنا " يعني أكرمناهم بالنبوة ويقال أدخلناهم في الجنة " إنهم من الصالحين " يعني المطيعين لله تعالى
سورة الأنبياء 87 - 88
قوله عز وجل " وذا النون " يعني واذكر ذا النون يعني ذا السمكة وهو يونس بن متى عليه السلام " إذ ذهب مغاضبا " يعني مصارعا من قومه ويقال كان ضيق الصدر سريع الغضب وذلك أنه لما دعا قومه إلى الله تعالى كذبوه فأخبرهم بأن العذاب نازل بهم فأتاهم العذاب فأخلصوا لله تعالى بالدعاء فصرف عنهم وكان يونس عليه السلام اعتزلهم ينتظر هلاكهم فسأل بعض من مر عليه من أهل تلك المدينة فلما علم أنهم لم يهلكوا أنف أن يرجع إليهم مخافة أن ينسب إلى الكذب ويعير به و " ذهب مغاضبا " يعني أنفا قال القتبي غضب وأنف بمعنى واحد لقربهما
وقال بعضهم إنما غضب على الملك وذلك أن ملكا من الملوك يقال له إبن تغلب غزا بني إسرائيل فسبى منهم تسعة أسباط ونصف فلما ذهب أيام عقوبتهم يعني عقوبة بني إسرائيل ونزل أيام عافيتهم أوحى الله عز وجل إلى نبي من أنبياء إسرائيل يسمى شعياء أن ائت إلى حزقيا الملك فأخبره بذلك فدعا الملك يونس بن متى وأمره بأن يخرج فأبى أن(2/438)
439
يخرج وقال إن في بني إسرائيل أنبياء أقوياء غيري فعزم عليه الملك ليخرج فخرج وهو كاره فغضب على الملك فوجد قوما قد شحنوا سفينتهم فقال لهم أتحملونني معكم فعرفوه فحملوه فلما شحنت السفينة بهم وأسرعت في البحر إنكفأت بهم وغرقت فقال ملاحوها يا هؤلاء إن فيكم رجلا عاصيا لأن السفينة لا تفعل هذا من غير ريح إلا وفيكم رجل عاص فاقترعوا فخرج سهم يونس عليه السلام فقال التجار نحن أولى بالمعصية من نبي الله تعالى ثم أعادوا الثانية والثالثة فخرج سهم يونس فقال يا هؤلاء أنا والله العاصي قال فتلفف في كسائه وقام على رأس السفينة فرمى بنفسه في البحر فابتلعته السمكة فذلك قوله تعالى " إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه " يعني لن نقضي عليه بالعقوبة ويقال إن ذنبه لم يبلغ مبلغ الذي نقدر عليه العقوبة ويقال ظن أنا لن نضيق عليه الحبس كقوله " فقدر عليه رزقه " [ الفجر : 16 ] أي ضيق وقرأ بعضهم " فظن أن لن نقدر عليه " بالتشديد فهو من التقدير وقراءة العامة بالتخفيف " فنادى في الظلمات " يعني في ظلمات ثلاث ظلمة الليل وظلمة البحر ظلمة بطن الحوت " أن لا إله إلا أنت " أي ليس أحد له سجن كسجنك " سبحانك " إني تبت إليك " إني كنت من الظالمين " لنفسي
قال الله عز وجل " فاستجبنا له ونجيناه من الغم " يعني غم الماء في بطن الحوت ويقال من غم الذنب وقد بقي في بطن الحوت أربعين يوما ويقال أقل من ذلك
ثم قال " وكذلك ننجي المؤمنين " قرأ عاصم في رواية أبي بكر وإبن عامر في إحدى الروايتين " نجي المؤمنين " بنون واحدة وتشديد الجيم وقال الزجاج هو لحن لأن فعل ما لم يسم فاعله لا يكون بغير فاعل وإنما كتب في المصحف بنون واحدة لأن الثانية تخفى مع الجيم وقال أبو عبيد والذي عندنا أنه ليس بلحن وله مخرجان في العربية أحدهما أنه يريد " ننجي " مشددة كقوله " ونجيناه من الغم " ثم يدغم النون الثانية في الجيم والآخر معناه نجي نجاة المؤمنين قال هذه القراءة أحب إلي لأن المصاحف كلها كتبت بنون واحدة وهكذا رأيت في مصحف الإمام عثمان رضي الله عنه وقرأ الباقون " ننجي المؤمنين " بنونين
سورة الأنبياء 89 - 91
قوله عز وجل " وزكريا " يعني واذكر زكريا " إذ نادى ربه " يعني إذ دعا ربه " رب(2/439)