بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب : تفسير السمرقندي ( بحر العلوم )
المؤلف : أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي الفقيه الحنفي
عدد الأجزاء : 3
دار النشر : دار الفكر - بيروت
تحقيق: د.محمود مطرجي
تنبيه
أولا : الكتاب موافق للمطبوع
ثانيا : الترقيم داخل الصفحات وهو لأوائل الصفحات وليس لذيلها(1/33)
التعريف بالتفسير :
1- يسوق الروايات عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم .
2- عدم تعقبه للروايات
3- قلة تعرضه للقراءات واحتكامه للغة أحيانا
4- يقوم بشرح القرآن بالقرآن إن وجد من الأيات القرآنية ما يوضح معنى أية .
5- يروي القصص الاسرائيلية
6- يروي احيانا عن الضعفاء كالكلبي والسدي وغيرهم
وبالجملة الكتاب قيم في ذاته جمع فيه صاحبه بين التفسير بالرواية والتفسير بالدراية
إلا أنه غلب الجانب النقلي فيه على الجانب العقلي ولذا عُد من ضمن كتب التفسير بالمأثور .
مع تحيات مكتبة مشكاة الإسلامية(1/34)
35
مقدمة المصنف
قال أخبرنا أبو الفضل جبريل بن أحمد اليوناني قال أنبأنا أبو محمد لقمان بن حكيم بن خلف الفرغاني بأوزكندة قال حدثنا الفقيه أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي رحمة الله عليه قال أخبرنا أبو جعفر الكرابيسي قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا وكيع عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن مرة الهمذاني قال قال ابن مسعود رضي الله عنه ( من أراد العلم فليثر القرآن ) وفي رواية أخرى فليؤثر القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال ما من شيء إلا وعلمه فى القرآن غير أن آراء الرجال تعجز عنه )
حدثنا أبو جعفر محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا محمد بن الفضل عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنهم كانوا يقرؤون على النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل )
قال حدثنا الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثنا أبي قال حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد المعلم قال حدثنا أبو عمران الفريابي قال حدثنا عبد الرحمن بن جبير قال حدثنا داود بن المخبر قال حدثنا عباد بن كثير عن عبد خير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته ( أيها الناس قد بين الله لكم في محكم كتابه ما أحل لكم وما حرم عليكم فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وآمنوا بمتشابهة واعملوا بمحكمه واعتبروا بأمثاله )
قال فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحل حلاله ويحرم حرامه ثم لا يمكن أن يحل حلاله ويحرم حرامه إلا بعد ما يعلم تفسيره ولأن الله تعالى أنزل القرآن هدى للناس وجعله حجة على جميع الخلق لقوله تعالى " وأوحى إلى هذا القرءان لأنذركم به ومن بلغ " الأنعام 19 فلما كان القرآن حجة على العرب والعجم ثم لا يكون حجة عليهم إلا بعد أن يعلموا تفسيره وتأويله فدل ذلك على أن طلب تفسيره وتأويله واجب ولكن لا يجوز لأحد أن يفسر القرآن برأيه من ذات نفسه ما لم يتعلم أو يعرف وجوه اللغة وأحوال التنزيل لأنه روي في الخبر ما حدثنا به محمد بن الفضيل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما عن(1/35)
36
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ) وروى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار )
قال الفقيه حدثنا محمد بن الفضيل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا أبو حفص عن ابن مجاهد قال قال رجل لأبي أنت الذي تفسر القرآن برأيك فبكى أبي ثم قال ( إني إذا لجرئ لقد حملت التفسير عن بضعة عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم
وروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن قوله تعالى " وفكهة وأبا " عبس 31 فقال لا أدري ما الأب فقيل له قل من ذات نفسك يا خليفة رسول الله قال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في القرآن بما لا أعلم فإذا لم يعلم الرجل وجوه اللغة وأحوال التنزيل فتعلم التفسير وتكلف حفظه فلا بأس ويكون بذلك على سبيل الحكاية والله أعلم
بسم الله الرحمن الرحيم
حدثنا القاضي الخليل بن أحمد قال حدثنا السراج قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا خالد عن داود عن عامر ع قال ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتب باسمك اللهم فلما نزل في(1/36)
37
سورة هود " بسم الله مجريها ومرسها " هود 41 كتب بسم الله فلما نزل في سورة بني إسرائيل " قل ادعوا الله او ادعوا الرحمن " الإسراء 110 كتب بسم الله الرحمن فلما نزل في سورة النمل " إنه من سليمن وإنه بسم الله الرحمن الرحيم " النمل 30 كتب بسم الله الرحمن الرحيم
ففي هذا الخبر دليل على أنه ليس من أول كل سورة ولكنه بعض آية من كتاب الله تعالى من سورة النمل
فأما تفسير قوله " بسم الله " له يعني بدأت باسم الله ولكن لم يذكر بدأت لأن الحال ينبئ أنك مبتدئ فيستغنى عن ذكره وأصله باسم الله بالألف ولكن حذفت من الاسم لكثرة الاستعمال لأنها ألف وصل وليست بأصلية بدليل أنها تسقط عند التصغير فتقول سمي وقال بعضهم معنى قوله " بسم الله " يعني بدأت بعون الله وتوفيقه وبركته وهذا تعليم من الله تعالى لعباده ليذكروا اسم الله تعالى عند افتتاح القراءة وغيرها حتى يكون الافتتاح ببركة اسم الله
وقوله " الله " هو اسم موضوع ليس له اشتقاق وهو أجل من أن يذكر له اشتقاق وهو قول الكسائي قال أبو الليث رحمه الله هكذا سمعت أبا جعفر يقول روي عن محمد بن الحسن أنه قال هو اسم موضوع ليس له اشتقاق وروي عن الضحاك أنه قال إنما سمي " الله " إلها لأن الخلق يألهون إليه فى قضاء حوائجهم ويتضرعون إليه عند شدائدهم وذكر عن الخليل بن أحمد البصري أنه قال لأن الخلق يألهون إليه بنصب اللام ويألهون بكسر اللام أيضا وهما لغتان وقيل أيضا إنه إنما اشتق من الارتفاع فكانت العرب تقول للشيء المرتفع لاه وكانوا يقولون إذا طلعت الشمس طلعت لاهة وغربت لاهة وقيل أيضا إنما سمي " الله " لأنه لا تدركه الأبصار ولاه معناه احتجب كما قال القائل
( لاه ربي عن الخلائق طرا % لا يرى خالق الخلق وهو يرى )
وقيل إنما سمي " الله " لأنه يوله قلوب العباد بحبه
فأما " الرحمن فالعاطف على جميع خلقه بالرزق لهم ولا يزيد فى رزق التقي لأجل تقواه ولا ينقص من رزق الفاجر لأجل فجوره وما كان فى لغة العرب على ميزان فعلان يراد به المبالغة في وصفه كما يقال شبعان من شبع وغضبان من غضب إذا امتلأ غضبا(1/37)
38
فلهذا سمى نفسه رحمانا لأن رحمته وسعت كل شيء فلا يجوز أن يقال لغير الله تعالى الرحمن لأن هذا الوصف لا يوجد لغيره
وأما " الرحيم " فالرفيق بالمؤمنين خاصة يستر عليهم ذنوبهم في الدنيا ويرحمهم في الآخرة ويدخلهم الجنة وقيل أيضا إنما سمى نفسه رحيما لأنه لا يكلف عباده جميع ما لا يطيقون وكل ملك يكلف عباده جميع ما لا يطيقون فليس برحيم
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في قوله " بسم الله " ( اسمه شفاء من كل دواء ) وعون على كل داء وأما " الرحمن " فهو عون لمن آمن به فهو اسم لم يسم به غيره وأما " الرحيم " فلمن تاب وآمن وعمل صالحا
وقد فسره بعضهم على الحروف وروى عبد الرحمن المدني عن عبد الله بن عمر أن عثمان بن عفان رضي الله عنهم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفسير " بسم الله الرحمن الرحيم " فقال أما ( الباء فبلاء الله وروحه ونضرته وبهاؤه وأما السين فسناء الله وأما الميم فملك الله وأما الله فلا إله غيره وأما الرحمن فالعاطف على البر والفاجر من خلقه وأما الرحيم فالرفيق بالمؤمنين خاصة )
وروي عن كعب الأحبار أنه قال ( الباء بهاؤه والسين سناؤه فلا شيء أعلى منه والميم ملكه وهو على كل شيء قدير فلا شيء يعازه ) وقد قيل إن كل حرف هو افتتاح اسم من أسمائه فالباء مفتاح اسمه بصير والسين مفتاح اسمه سميع والميم مفتاح اسمه مليك وقيل مجيد والألف مفتاح اسمه الله واللام مفتاح اسمه لطيف والهاء مفتاح اسمه هادي والراء مفتاح اسمه رزاق والحاء مفتاح اسمه حليم والنون مفتاح اسمه نور ومعنى هذا كله ودعاء الله تعالى عند الافتتاح(1/38)
39
سورة فاتحة الكتاب مدنية وهي سبع آيات
سورة الفاتحة الآيات 1 - 7
روي عن مجاهد أنه قال سورة فاتحة الكتاب مدنية وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال هي مكية ويقال نصفها نزل بمكة ونصفها نزل بالمدينة
قال الفقيه رحمه الله حدثنا الحاكم أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي قال حدثنا أبو حامد المروزي قال حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال حدثنا عمر بن يونس قال حدثنا جهضم بن عبد الله بن العلاء عن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن في كتاب الله لسورة ما أنزل الله على نبي مثلها فسأله أبي بن كعب عنها فقال ( إني لأرجو أن لا تخرج من الباب حتى تعلمها ) فجعلت أتبطأ ثم سأله أبي عنها فقال كيف تقرأ في صلاتك قال بأم الكتاب فقال والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته ) وقال بعضهم السبع المثاني هي السبع الطوال البقرة وآل عمران والخمس التي بعدها وقال أكثر أهل العلم هي سورة الفاتحة وإنما سميت السبع المثاني لأنها سبع آيات وإنما سميت المثاني لأنها تثنى بقراءتها في كل صلاة وقيل إنما سماها مثاني لذكر القصص فيها مرتين
قال الفقيه رحمه الله حدثنا أبي قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن حامد الخزعوني(1/39)
40
قال حدثنا علي بن إسحاق قال حدثنا محمد بن مروان عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح مولى أم هانئ عن ابن عباس في قوله عز وجل " الحمد لله " قال الشكر لله ومعنى قول ابن عباس الشكر لله يعني الشكر لله على نعمائه كلها وقد قيل " الحمد لله " يعني الوحدانية لله وقد قيل الألوهية لله وروي عن قتادة أنه قال معناه الحمد لله الذي لم يجعلنا من المغضوب عليهم ولا الضالين ثم معنى قوله " الحمد لله " قال بعضهم قل فيه مضمر يعني قل الحمد لله وقال بعضهم حمد الرب نفسه ليعلم عباده فيحمدونه
وقال أهل اللغة الحمد هو الثناء الجميل وحمد الله تعالى هو الثناء عليه بصفاته الحسنى وربما أنعم على عباده ويكون في الحمد معنى الشكر وفيه معنى المدح وهو أعم من الشكر لأن الحمد يوضع موضع الشكر ولا يوضع الشكر موضع الحمد وقال بعضهم الشكر أعم لأنه باللسان وبالجوارح وبالقلب والحمد يكون باللسان خاصة كما قال " اعملوا آل داود شكرا "
وروي عن ابن عباس أنه قال ( الحمد لله كلمة كل شاكر ) وذلك أن آدم عليه السلام قال حين عطس الحمد لله فقال الله تعالى يرحمك الله فسبقت رحمته غضبه وقال الله تعالى لنوح " فقل الحمد لله الذي نجنا من القوم الظلمين " المؤمنون 28وقال إبراهيم عليه السلام " الحمد لله الذي وهب لى على الكبر إسمعيل وإسحق " إبراهيم 39 وقال في قصة داود وسليمان " وقالا الحمد لله الذى فضلنا على كثير من عباده المؤمنين " النمل 15 وقال لمحمد
(1/40)
41
عليه السلام " وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا " الإسراء 111 وقال أهل الجنة " الحمد لله الذى أذهب عنا الحزن " فاطر 34 فهي كلمة كل شاكر
وقوله تعالى " رب العالمين " قال ابن عباس رضي الله عنهما سيد العالمين وهو رب كل ذي روح دب على وجه الأرض ويقال معنى قوله " رب العالمين " خالق الخلق ورازقهم ومربيهم ومحولهم من حال إلى حال من نطفة إلى علقة ثم إلى مضغة
والرب في اللغة هو السيد قال الله تعالى " ارجع إلى ربك " يوسف 50 يعني إلى سيدك والرب هو المالك يقال رب الدار ورب الدابة والرب هو المربي من قولك ربى يربي تربية وقوله " العالمي " كل ذي روح ويقال كل من كان له عقل يخاطب مثل بني آدم والملائكة والجن ولا يقع على البهائم ولا على غيرها وروي عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن لله تعالى ثمانية عشر ألف عالم وإن دنياكم منها عالم واحد ) ويقال كل صنف عالم على حدة
قوله " الرحمن الرحيم " قال فى رواية الكلبي هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر وقال بعض أهل اللغة هذا اللفظ شنيع فلو قال هما اسمان لطيفان لكان أحسن ولكن معناه عندنا والله أعلم أنه أراد بالرقة الرحمة يقال رق فلان فلانا إذا رحمه يقال رق يرق إذا رحمه وقوله أحدهما أرق من الآخر قال بعضهم الرحمن أرق لأنه أبلغ في الرحمة لأنه يقع على المؤمنين والكافرين وقال بعضهم الرحيم أرق لأنه في الدنيا وفي الآخرة وقال بعضهم كل واحد منهما أرق من الآخر من وجه فلهذا المعنى لم يبين وقال أحدهما أرق من الآخر يعني كل واحد منهما أرق من الآخر
قوله تعالى " مالك يوم الدين " قرأ نافع وابن كثير وحمزة وأبو عمرو بن العلاء وابن عامر " ملك " بغير الألف وقرأ عاصم والكسائي بالألف " مالك " فأما من قرأ " مالك " قال لأن المالك أبلغ فى الوصف لأنه يقال مالك الدار ومالك الدابة ولا يقال ملك إلا لملك من الملوك وأما الذي قرأ ملك قال إن ملك أبلغ في الوصف لأنك إذا قلت فلان ملك ( قال إن ملك أبلغ في الوصف لأنك إذا قلت فلان ملك ) هذه البلدة يكون ذلك كناية عن الولاية دون الملك وإذا قلت فلان مالك هذه البلدة كان ذلك عبارة عن ملك الحقيقة
وروى مالك بن دينار عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر
(1/41)
42
وعثمان وعلي يفتتحون الصلاة ب " الحمد لله رب العالمين " وكلهم يقرؤون " مالك يوم الدين " بالألف
قال الفقيه رحمه الله سمعت أبي يحكي عن أبي عبد الله محمد بن شجاع البلخي يقول كنت أقرأ بحرف الكسائي " مالك يوم الدين " بالألف فقال لي بعض أهل اللغة الملك أبلغ في الوصف فأخذت بقراءة حمزة " ملك يوم الدين " فرأيت في المنام كأنه أتاني آت فقال لي لم حذفت الألف من " مالك " أما بلغك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( اقرؤوا القرآن فخما مفخما ) فلم أترك القراءة ب ملك حتى أتاني بعد ذلك آت فقال لي لم حذفت الألف من " مالك " أما بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات ) فلم نقصت من حسناتك عشرا في كل قراءة فلما أصبحت أتيت قطربا وكان إماما في اللغة فقلت له ما الفرق بين ملك ومالك فقال بينهما فرق كثير فأما ملك فهو ملك الملوك وأما مالك فهو مالك الملوك فرجعت إلى قراءة الكسائي
ثم معنى قوله " مالك " يعني قاضي وحاكم " يوم الدين " يعني يوم الحساب كما قال الله تعالى " ذلك الدين القيم " التوبة 36 وغيرها وقيل أيضا معنى يوم الدين يعني يوم القضاء كما قال الله تعالى " ما كان ليأخذ أخاه فى دين الملك " يوسف 76 يعني في قضائه وقيل " يوم الدين " يعني يوم الجزاء كما يقال كما تدين تدان يعني كما تجازي تجازى به فإن قيل ما معنى تخصيص يوم الدين وهو مالك يوم الدين وغيره قيل له إن في الدنيا كانوا منازعين له في الملك مثل فرعون ونمرود وغيرهما وفي ذلك اليوم لا ينازعه أحد في ملكه وكلهم خضعوا له كما قال الله تعالى " لمن الملك اليوم " غافر 16 فأجاب جميع الخلق " لله الواحد القهار " الرعد 16 وغيرها فكذلك هاهنا قال " مالك يوم الدين " يعني
(1/42)
43
في ذلك اليوم لا يكون مالك ولا قاض ولا مجاز غيره
قوله تعالى ( إياك نعبد ) هو تعليم علم المؤمنين كيف يقولون إذا قاموا بين يديه في الصلاة فأمرهم بأن يذكروا عبوديتهم وضعفهم حتى يوفقهم ويعينهم فقال " إياك نعبد " أي نوحد ونطيع وقال بعضهم " إياك نعبد " يعني إياك نطيع طاعة نخضع فيها لك
قوله " وإياك تسعين " يقول بك نستوثق على عبادتك وقضاء الحقوق ففي هذا دليل على أن الكلام قد يكون بعضه على وجه المغايبة وبعضه على وجه المخاطبة لأنه افتتح السورة بلفظ المغايبة وهو قوله " الحمد لله " ثم ذكر بلفظ المخاطبة فقال ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وهذا كما قال في آية أخرى " هو الذى يسيركم فى البر والبحر حتى إذا كنتم فى الفلك " يونس 22 فذكر بلفظ المخاطبة ثم قال " وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها " يونس 22 على المغايبة ومثل هذا في القرآن كثير
قوله تعالى " اهدنا الصراط المستقيم " رويت القراءتان عن ابن كثير أنه قرأ " السراط " بالسين وروي عن حمزة أنه قرأ بالزاي وقرأ الباقون بالصاد وكل ذلك جائز لأن مخرج السين والصاد واحد وكذلك الزاي مخرجها منهما قريب والقراءة المعروفة بالصاد " أهدنا الصراط المستقيم " قال ابن عباس رضي الله عنهما " أهدنا الصراط المستقيم " يعني أرشدنا الطريق المستقيم وهو الإسلام فإن قيل أليس هذا الطريق المستقيم وهو الإسلام فما معنى السؤال قيل له الصراط المستقيم هو الذي ينتهي بصاحبه إلى المقصود فإنما يسأل العبد ربه أن يرشده الثبات على الطريق الذي ينتهي به إلى المقصود ويعصمه من السبل المتفرقة
وقد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال ( خط لي رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا مستقيما وخط بجنبه خطوطا ثم قال إن هذا الصراط المستقيم وهذه السبل المتفرقة وعلى رأس كل طريق شيطان يدعو إليه ويقول هلم إلى الطريق ) وفي هذا نزلت هذه الآية " وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " الأنعام 153 فلهذا قال " اهدنا الصراط المستقيم " واعصمنا من السبل المتفرقة قال الكلبي أمتنا على دين الإسلام
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال " هدنا الصراط المستقيم " يعني ثبتنا عليه ومعنى قول علي ثبتنا عليه يعني أحفظ قلوبنا على ذلك ولا تقلبها بمعصيتك وهذا موافق لقوله تعالى " ويهديك صراطا مستقيما " الفتح 2 فكذلك ههنا
وقوله تعالى " صراط الذين أنعمت عليهم " يعني طريق الذين مننت عليهم فحفظت قلوبهم على الإسلام حتى ماتوا عليه وهم أنبياؤه وأصفياؤه وأولياؤه فامنن علينا كما مننت عليهم
(1/43)
44
قال الفقيه أخبرنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن سهل القاضي قال حدثنا أحمد بن جرير قال حدثنا عمرو بن إسماعيل بن مجالد قال حدثنا هشام بن القاسم قال حدثنا حمزة بن المغيرة عن عاصم عن أبي العالية في قوله تعالى " أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم " قال هو النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قال عاصم فذكرت ذلك للحسن البصري فقال صدق والله أبو العالية ونصح
قوله تعالى " غير المغضوب عليهم " أي غير طريق اليهود يقول لا تخذلنا بمعصيتنا كما خذلت اليهود ولم تحفظ قلوبهم حتى تركوا الإسلام " ولا الضالين " يعني ولا النصارى يعني لم تحفظ قلوبهم وخذلتهم بمعصيتهم حتى تنصروا وقد اجمع المفسرون أن " غير المغضوب عليهم " أراد به اليهود ( والضالين ) أراد به النصارى فإن قيل أليس النصارى من المغضوب عليهم واليهود أيضا من الضالين فكيف صرف المغضوب عليهم إلى اليهود وصرف الضالين إلى النصارى قيل له إنما عرف ذلك بالخبر واستدلالا بالآية فأما الخبر فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا سأله وهو بوادي القرى من المغضوب عليهم قال اليهود قال ومن الضالين فقال النصارى وأما الآية فلأن الله تعالى قال في قصة اليهود " فباءو بغضب على غضب " البقرة 90 وقال تعالى في قصة النصارى " ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سوآء السبيل " المائدة 77
وقوله " آمين " ليس من السورة ولكن روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوله ويأمر به ومعناه ما قال ابن عباس يعني كذلك يكون وروي عن مجاهد أنه قال هو اسم من أسماء الله تعالى ويكون معناه يا الله استجب دعاءنا وقال بعضهم هي لغة بالسريانية وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما حسدتكم النصارى في شيء كحسدهم في آمين يعني أنهم يعرفون
45
ما فيها من الفضيلة وروي عن كعب الأحبار قال " آمين " خاتم رب العالمين يختم به دعاء عباده المؤمنين وقال مقاتل هو قوة للدعاء واستنزال للرحمة وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معنى " آمين " قال يا رب أفعل ويقال فيه لغتان " أمين " بغير مد و " آمين " بالمد ومعناهما واحد وقد جاء في أشعارهم كلا الوجهين قال القائل
( تباعد عني فطحل إذ دعوته % آمين فزاد الله ما بيننا بعدا )
وقال الآخر
( يا رب لا تسلبني حبها أبدا % ويرحم الله عبدا قال آمينا ) و صلى الله عليه وسلم
(1/44)
46
سورة البقرة مدنية وهي مائتان وسبع وثمانون آية
سورة البقرة الآيات 1 - 2
قال الفقيه رحمة الله عليه حدثنا أبي رحمه الله قال حدثني محمد بن حامد قال حدثنا علي بن إسحاق قال حدثنا محمد بن مروان عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس في قوله تعالى " الم " قال أنا الله أعلم ومعنى قول ابن عباس أنا الله أعلم يعني الألف أنا واللام الله والميم أعلم لأن القرآن نزل بلغة العرب والعرب قد كانت تذكر حرفا وتريد به تمام الكلمة ألا ترى إلى قول القائل
( قلنا لها قفي فقالت قاف % لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف )
يعني بالقاف قد وقفت
وقال الكلبي هذا قسم أقسم الله تعالى بالقرآن أن هذا الكتاب الذي أنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم هو الكتاب الذي نزل من عند الله تعالى لا ريب فيه وقال بعض أهل اللغة إن هذا الذي قال الكلبي لا يصح لأن جواب القسم معقود على حروف مثل إن وقد ولقد وما واللام وهنا لم نجد حرفا من هذه الحروف فلا يجوز أن يكون يمينا ولكن الجواب أن يقال موضع القسم قوله " لا ريب فيه " فلو أن إنسانا حلف فقال والله هذا الكتاب لا ريب فيه لكان الكلام سديدا وتكون " لا " جوابا للقسم فثبت أن قول الكلبي صحيح سديد فإن قيل إيش الحكمة في القسم من الله تعالى وكان القوم في ذلك الزمان على صنفين مصدق ومكذب فالمصدق يصدق بغير قسم والمكذب لا يصدق مع القسم قيل له القرآن نزل بلغة العرب والعرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه أقسم على كلامه فالله تعالى أراد أن يؤكد عليهم بالحجة فأقسم أن القرآن من عنده(1/45)
47
وقد قيل " الم " الألف الله واللام جبريل والميم محمد صلى الله عليه وسلم ويكون معناه الله الذي أنزل جبريل على محمد بهذا القرآن لا ريب فيه
وقال بعضهم كل حرف هو افتتاح اسم من أسماء الله تعالى فالألف مفتاح اسمه الله واللام مفتاح اسمه لطيف الميم مفتاح اسمه مجيد ويكون معناه الله اللطيف المجيد أنزل الكتاب
وروي عن محمد بن علي الترمذي الحكيم أنه قال إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة ولا يعرف ذلك إلا نبي أو ولي ثم بين ذلك في جميع السور ليفقه الناس وروي عن الشعبي أنه قال إن لله تعالى سرا خفيا جعله في كتبه وإن سره في القرآن هو الحروف المقطعة وروي عن عمر وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم قالوا الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر وعن علي رضي الله عنه أنه قال ( هو اسم من أسماء الله تعالى فرقت حروفه في السور ) يعني أن هاهنا قد ذكر " الم " وذكر " الر " في موضع آخر " حم " في موضع آخر " نون " في موضع آخر فإذا جمع يكون " الرحمن " كذلك سائر الحروف إذا جمع يصير اسما من أسماء الله
وذكر عن قطرب أنه قال المشركون كانوا لا يسمعون القرآن كما قال الله تعالى " والغوا فيه لعلكم تغلبون " فصلت 26 فأراد أن يسمعهم شيئا لم يكونوا سمعوه ليحملهم ذلك على الاستماع حتى يلزمهم الحجة وقال بعضهم إن المشركين كانوا يقولون لا نفقه هذا القرآن لأنهم قالوا " قلوبنا في أكنة " فصلت 5 فأراد الله أن يبين لهم أن القرآن مركب على الحروف التي ركبت عليها ألسنتكم فما لكم لا تفقهون وإنما أراد بذكر بعض الحروف تمام الحروف كما أن الرجل يقول علمت ولدي ألف باء تاء ثاء وإنما يريد جميع الحروف ولم يرد به الحروف الأربعة خاصة
وقال بعضهم هو شعار السور وكان اليهود أعداء الله فسروه على حروف الجمل لأنه ذكر أن جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأبو ياسر بن الأخطب ومالك بن الضيف وشعبة بن عمرو دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا بلغنا أنك قرأت " الم ذلك الكتاب " فإن كنت صادقا فيكون بقاء أمتك إحدى وسبعين سنة لأن
(1/46)
48
الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالوا له وهل غير هذا قال نعم " المص " فقالوا هذا أكثر لأن " ص " تسعون فقالوا هل غير هذا قال نعم " الر " فقالوا هذا أكثر لأن الراء مائتان ثم ذكر " المر " فقالوا خلطت علينا يا محمد لا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير وإنما أدركوا من القرآن مقدار عقولهم وكل إنسان يدرك العلم بمقدار عقله وكل ما ذكر في القرآن من الحروف المقطعة فتفسيره نحو ما ذكرنا ها هنا والله أعلم بالصواب
قوله تعالى " ذلك الكتاب " يعني هذا الكتاب " لا ريب فيه " أي لا شك فيه أنه مني لم يختلقه محمد من تلقاء نفسه وقد يوضع " ذلك " بمعنى هذا كما قال القائل
( أقول له والرمح يأطر متنه % تأمل خفافا أنني أنا ذلكا )
يعني هذا وقال بعضهم معناه ذلك الكتاب الذين كنت وعدتك يوم الميثاق أن أوحيه إليك وقال بعضهم معناه ذلك الكتاب الذي وعدت في التوراة والإنجيل أن أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم
وروي عن زيد بن أسلم أنه قال أراد بالكتاب اللوح المحفوظ يعني الكتاب الذي ثبت في اللوح المحفوظ
وقوله " لا ريب فيه " يعني أنه لا شك فيه أنه من الله تعالى ولم يختلقه محمد صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه فإن قيل كيف يجوز أن يقال " لا شك فيه " وقد شك فيه كثير من الناس وهم الكفار والمنافقون قيل معناه " لا شك فيه " عند المؤمنين وعند العقلاء وقيل " لا شك فيه " أي لا ينبغي أن يشك فيه لأن القرآن معجز فلا ينبغي أن يشك فيه أنه من الله تعالى
وقوله عز وجل " هدى للمتقين " يعني بيانا من الضلالة للمتقين الذين يتقون الشرك والكبائر والفواحش فهذا القرآن بيان لهم من الضلالة وبيان لهم من الشبهات وبيان الحلال من الحرام فإن قيل فيه بيان لجميع الناس فكيف أضاف إلى المتقين خاصة قيل له لأن المتقين هم الذين ينتفعون بالبيان ويعملون به فإذا كانوا هم الذين ينتفعون به صار في الحاصل البيان لهم روي عن أبي روق أنه قال " هدى للمتقين " أي كرامة لهم يعني إنما أضاف إليهم إجلالا لهم وكرامة لهم وبيانا لفضلهم
سورة البقرة آية 3(1/47)
49
قوله تعالى " الذين يؤمنون بالغيب " يعني يصدقون بالغيب والغيب هو ما غاب عن العين وهو محضر في القلب وإنما أراد به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن تابعهم إلى يوم القيامة أنهم يصدقون بغيب القرآن أنه من الله تعالى فيحلون حلاله ويحرمون حرامه ويقال يؤمنون بالغيب يعني بالله تعالى
قال حدثنا القاضي الخليل بن أحمد قال حدثنا الديبلي قال حدثنا أبو عبيد الله قال حدثنا سفيان الثوري قال حدثنا أصحابنا عن الحرث بن قيس أنه قال لعبد الله بن مسعود نحتسب لكم يا أصحاب محمد ما سبقتمونا إليه من رؤية محمد صلى الله عليه وسلم وصحبته فقال عبد الله بن مسعود ونحن نحتسب لكم إيمانكم به ولم تروه وأن أفضل الإيمان إيمان بالغيب ثم قرأ عبد الله " الذين يؤمنون بالغيب " وقد قيل " يؤمنون بالغيب " يعني يصدقون بالبعث بعد الموت
قوله " ويقيمون الصلاة " يعني يحافظون على الصلوات الخمس بمواقيتها وركوعها وسجودها والتضرع بعدها وقد قيل معناه يقيمون الصلاة أي يديمون الصلاة بمعنى المداومة وقد قيل إن العبد إذا صلى صلاة تقبل منه خلق الله تعالى منها ملكا يقوم ويصلي لله تعالى إلى يوم القيامة وثوابه لصاحب الصلاة فهذا معنى قوله " ويقيمون الصلاة "
وقوله تعالى " ومما رزقناهم ينفقون " أي يتصدقون قال الكلبي وهو زكاة المال وروى أسباط عن السدي عن أصحابه قال هي نفقة الرجل على أهله وهذا قبل نزول آية الزكاة ويقال يعني يتصدقون صدقة التطوع ويقال هي عليهما جميعا الفريضة والتطوع
سورة البقرة الآيات 4 - 5
قوله تعالى " والذين يؤمنون بما أنزل إليك " يعني بالقرآن قوله " وما أنزل من قبلك " يعني التوراة والإنجيل وسائر الكتب ويقال لما نزلت هذه الآية " الذين يؤمنون بالغيب " قالت اليهود والنصارى نحن آمنا بالغيب فلما قال " ويقيمون الصلاة " قالوا نقيم الصلاة فلما قال " ومما رزقناهم ينفقون " قالوا ننفق ونتصدق فلما قال " والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " نفروا من ذلك(1/48)
50
وقوله " وبالآخرة هم يوقنون " يعني يقرون بيوم القيامة والجنة والنار والبعث والحساب والميزان واليقين على ثلاثة أوجه يقين عيان ويقين خبر ويقين دلالة فأما يقين العيان إذا رأى شيئا زال الشك عنه في ذلك الشيء وأما يقين الدلالة فهو أن يرى دخانا يرتفع من موضع يعلم باليقين أن هناك نارا وإن لم يرها وأما يقين الخبر فإن الرجل يعلم باليقين أن في الدنيا مدينة يقال لها بغداد وإن لم يكن يعاينها فها هنا يقين خبر ويقين دلالة أن الآخرة حق ولكن تصير معاينة عند الرؤية
قوله تعالى " أولئك على هدى من ربهم " يعني أهل هذه الصفة الذين سبق ذكرهم على بيان من الله تعالى يعني أكرمهم الله تعالى في الدنيا حيث هداهم وبين لهم طريقهم
وقوله تعالى " وأولئك هم المفلحون " في الآخرة يعني هم الناجون يعني أن الله تعالى أكرمهم في الدنيا بالبيان وفي الآخرة بالنجاة وقد قيل الفلاح هو البقاء في النعمة وقد قيل الفلاح إذا بلغ الإنسان نهاية ما يأمل ويقال معناه قد وجدوا ما طلبوا ونجوا من شر ما هربوا منه وكل ما في القرآن " المفلحون " فتفسيره هكذا
سورة البقرة آية 6
قوله تعالى " إن الذين كفروا " " إن " هاهنا للتأكيد وهو حرف من حروف القسم والكفر في اللغة هو الستر يقال ليلة كافرة إذا كانت شديدة الظلمة وإنما سمي الكافر كافرا لأنه يستر نعمة الله تعالى
وقوله عز وجل " سواء عليهم أأنذرتهم " قرأ أهل الكوفة وعاصم وحمزة والكسائي بهمزتين " أأنذرتهم " وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر في رواية هشام بهمزة واحدة مع المد " آنذرتهم " وتفسير القراءتين لا يختلف قال مقاتل نزلت هذه الآية في مشركي قريش منهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل وغيرهم وقال الكلبي نزلت في رؤساء اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب قال الكلبي وليس هو بأخي حيي وقال بعضهم هو أخو حيي دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم حيث سألوه عن " الم " و " المص " خرجوا من عنده فنزل قوله " إن الذين كفروا " يعني جحدوا القرآن
" سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " يعني خوفتهم أو لم تخوفهم " لا يؤمنون " أي لا(1/49)
51
يصدقون فإن قيل إذا علم أنهم لا يؤمنون فما معنى دعوتهم إلى الإسلام قيل له لان في الدعوة زيادة الحجة عليهم كما أن الله تعالى بعث موسى إلى فرعون ليدعوه إلى الإسلام وعلم أنه لا يؤمن وجواب آخر أن الآية خاصة وليست بعامة وإنما أراد به بعض الكفار الذين ثبتوا على كفرهم كما روي عن صفية بنت حيي بن أخطب قالت رجع أبي وعمي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما لصاحبه ما ترى في هذا الرجل فقال إنه نبي فقال ما رأيك في اتباعه فقال رأيي أن لا أتبعه وأن أظهر له العداوة إلى الموت فأنزلت هذه الآية في شأن مثل هؤلاء الذين قد ظهر لهم الحق وكانوا لا يؤمنون فقال " أأنذرتهم أم لم تنذرهم " وأصل الإنذار هو الإعلام يعني خوفتهم بالنار وأعلمتهم بالعذاب أو لم تعلمهم فهو سواء ولا يصدقونك
سورة البقرة آية 7
قوله تعالى " ختم الله على قلوبهم " قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني طبع الله ومعنى الختم على القلوب ليس أنه يذهب بعقولهم ولكنهم لا يتفكرون فيعتبرون بعلامات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيؤمنون " وعلى سمعهم " يعني لا يسمعون الحق " وعلى أبصارهم غشاوة " يعني غطاء فلا يبصرون الهدى واتفقت الأئمة السبعة على رفع الهاء " غشاوة " وقرأ بعضهم بنصب الهاء " غشاوة " وهي قراءة شاذة فأما من قرأ برفع الهاء فهو على معنى الابتداء يعني ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ثم ابتدأ فقال " وعلى أبصارهم غشاوة " وأما من قرأ بالنصب فيكون الجعل فيه مضمرا يعني جعل على أبصارهم غشاوة فقد ذكر في شأن المؤمنين ثوابهم في الدنيا الهدى وفي الآخرة الفلاح وذكر في شأن الكفار عقوبتهم في الدنيا الختم وفي الآخرة كما قال تعالى " ولهم عذاب عظيم " يعني عذابا وجيعا يخلص وجعه إلى قلوبهم
قال الفقيه رحمه الله وفي الآية إشكال في موضعين أحدهما في اللفظ والآخر في المعنى فأما في اللفظ قال " ختم الله على قلوبهم " ذكر جماعة القلوب ثم قال " وعلى سمعهم " ذكر بلفظ الوحدان ثم قال " وعلى أبصارهم " ذكر بلفظ الجمع فجوابه أن السمع مصدر والمصدر لا يثنى ولا يجمع فلهذا ذكر بلفظ الوحدان والله أعلم وقد قيل " وعلى سمعهم " يعني موضع سمعهم لأن السمع لا يختم وإنما يختم موضعه وقد قيل إن الإضافة إلى الجماعة تغني عن لفظ الجماعة لأنه قال " وعلى سمعهم " فقد أضاف إلى الجماعة والشيء إذا أضيف إلى الجماعة مرة يذكر بلفظ الجماعة ومرة يذكر بلفظ الوحدان فلو ذكر القلوب والأبصار بلفظ الوحدان لكان سديدا في اللغة فذكر البعض بلفظ الوحدان وذكر البعض بلفظ الجماعة وهذه علامة الفصاحة لأن كتاب الله تعالى أفصح الكلام(1/50)
52
وأما الإشكال الذي في المعنى أن يقال إذا ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم فمنعهم عن الهدى فكيف يستحقون العقوبة والجواب عن هذا أن يقال إن ختم الله مجازاة لكفرهم كما قال فى آية أخرى " بل طبع الله عليها بكفرهم " النساء155 لأن الله تعالى قد يسر عليهم السبيل فلو جاهدوا لوفقهم كما قال في آية أخرى " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " العنكبوت 69 فلما لم يجاهدوا واختاروا الكفر عاقبهم الله تعالى في الدنيا بالختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم وفي الآخرة بالعذاب العظيم
وروي عن مجاهد أنه قال من أول سورة البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين وروي عن مقاتل أنه قال آيتان من أول السورة في نعت المؤمنين المهاجرين وآيتان في نعت مؤمني أهل الكتاب وآيتان في نعت الكفار وثلاث عشرة آية في نعت المؤمنين غير المهاجرين وآيتان في نعت المنافقين من قوله " ومن الناس " إلى قوله " إن الله على كل شيء قدير "
سورة البقرة آية 8
قوله تعالى " ومن الناس من يقول آمنا بالله " قوله " من " للتبعيض فإنه أراد به بعض الناس ولم يرد به جميع الناس فكأنه قال بعض الناس يقولون آمنا بالله وقد قيل معناه ومن الناس ناس يقولون آمنا بالله يعني صدقنا بالله وصدقنا " وباليوم الآخر وبالبعث بعد الموت " وما هم بمؤمنين " يعني ليسوا بمصدقين بل هم منافقون منهم عبد الله بن أبي بن سلول ومعتب بن قشير وجد بن قيس ومن تابعهم من المنافقين وفي هذه الآية دليل على أن القول بغير تصديق القلب لا يكون إيمانا لأن المنافقين كانوا يقولون بألسنتهم ولم يكن لهم تصديق القلب فنفى الله الإيمان عنهم فقال " وما هم بمؤمنين "
سورة البقرة آية 9 " قوله تعالى " يخادعون الله " وأصل الخداع في اللغة الستر يقال للبيت الذي يخزن فيه المال مخدع والعرب تقول انخدعت الضب في جحرها فكان المنافقون يظهرون الإيمان ويسترون نفاقهم وكفرهم فقال " يخادعون الله والذين آمنوا " يعني يكذبون ويخالفون الله والذين آمنوا ويقال يظنون أنهم يخادعون الله والذين آمنوا لأنه قد بين في سياق الآية حيث قال " وما يخدعون إلا أنفسهم " وروى عن الأخفش أنه قال اجترؤوا على الله حتى(1/51)
53
ظنوا أنهم يخادعون الله وقال بكر بن جريج يظهرون لا إله إلا الله يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم وأنفسهم ويقال يظهرون غير ما في أنفسهم وهذا موافق لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( علامة المنافق ثلاث إذا وعد أخلف وإذا أوتمن خان وإذا حدث كذب )
وقوله " وما يخدعون إلا أنفسهم " قرأ أهل الكوفة حمزة وعاصم والكسائي " وما يخدعون " بغير ألف وقرأ الباقون " وما يخادعون " بالألف وتفسير القراءتين واحد يعني وبال الخداع يرجع إليهم يضر بأنفسهم
وقوله " وما يشعرون " قال الكلبي يعني وما يعلمون أن الله يطلع نبيه على كذبهم وقال بعضهم معناه وما يشعرون أن وبال الخداع يرجع إليهم
سورة البقرة آية 10
قوله تعالى " في قلوبهم مرض " يعني شكا ونفاقا وظلمة وضعفا لأن المريض يكون فيه فترة ووهن والشاك أيضا في أمره فترة وضعف وعبر بالمرض عن الشك لأن المنافقين فيهم ضعف ووهن ألا ترى إلى قوله تعالى " يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو " المنافقون4 ويقال إن المريض يعرض للهلاك فسمي النفاق مرضا لأن النفاق يهلك صاحبه
ثم قال تعالى " فزادهم الله مرضا " وهذا اللفظ يحتمل معنين يحتمل الخبر عن الماضي ويحتمل الدعاء فإن كان المراد به الخبر فمعناه في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا إلى مرضهم كما قال آية أخرى " فزادتهم رجسا إلى رجسهم " التوبة 125 لأن كل سورة نزلت يشكون فيها فكان ذلك زيادة المرض لهم وللمؤمنين زيادة اليقين وإن كان المراد به الدعاء فمعناه فزادهم الله مرضا على مرضهم على وجه الذم والطرد لهم كما قال في آية أخرى " قتلهم الله " التوبة 30 فإن قيل كيف يجوز أن يحمل على وجه الدعاء وإنما يحتاج إلى الدعاء عند العجز قيل له هذا تعليم من الله تعالى أنه يجوز الدعاء على المنافقين والطرد لهم لأنهم شر خلق الله تعالى ولأنه وعد لهم يوم القيامة الدرك الأسفل من النار
ثم قال " ولهم عذاب أليم " يعني مؤلما أي عذاب وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم
قوله " بما كانوا يكذبون " يعني مجازاة لتكذيبهم(1/52)
54
قرأ حمزة وابن عامر " فزادهم الله " بكسر الزاي وهي لغة لبعض العرب وقرأ أبو عمرو وعاصم بالفتح وهي اللغة الظاهرة وقرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي " يكذبون " بتخفيف الذال وقرأ الباقون بتشديد الذال فمن قرأ بالتخفيف معناه بما كانوا يكذبون بقولهم إنهم مؤمنون وجحدوا في السر لأنهم كفروا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم في السر ومن قرأ بالتشديد فمعناه بما كانوا يكذبون يعني ينسبون محمدا إلى الكذب ويجحدون نبوته
سورة البقرة آية 11
قوله " وإذا قيل " قرأ الكسائي برفع القاف " قيل لهم " وكذلك كل ما ذكر في القرآن قيل وغيض وسيء وحيل وسيق وقرأ حمزة وعاصم وغيرهما بكسر القاف وأصله في اللغة قول مع الواو فحذفت الواو للتخفيف فجعل الكسائي الرفع مكان الواو وقرأ غيره بالكسر للتخفيف
والآية نزلت في شأن المنافقين " وإذا قيل لهم " يعني المنافقين " لا تفسدوا في الأرض " يعني لا تعملوا فيها بالمعاصي وهو الفساد لأن الأرض كانت قبل أن يبعث النبي فيها الفساد وكان يعمل فيها بالمعاصي فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع الفساد وصلحت الأرض فإذا عملوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها كما قال في آية أخرى " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها " الأعراف 56و85
" قالوا إنما نحن مصلحون " يعني نعمل بالطاعة ولا نعمل بالفساد وقد قيل معناه " لا تفسدوا في الأرض " يعني لا تداهنوا بين الناس ولا تعملوا بالمداهنة " قالوا إنما نحن مصلحون " يعني لا نعادي الكفار ولا المؤمنين حتى لو كانت الغلبة للمؤمنين أو للكفار لا يصيبنا من دائرتهم شيء
سورة البقرة آية 12
قال الله تعالى " ألا إنهم هم المفسدون " في الأرض وليسوا بمصلحين لأن عداوتهم مع الفريقين لأن كل فريق منهم يعلم أنهم ليسوا معهم وقد قيل معناه لا تفسدوا في الأرض بتفريق الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم يعني لا تصرفوا الناس عن دينه " قالوا إنما نحن مصلحون " بتفريقنا عن محمد صلى الله عليه وسلم " ألا إنهم هم المفسدون " ألا كلمة تنبيه فنبه المؤمنين وأعلمهم نفاقهم فكأنه قال ألا أيها المؤمنون اعلموا أنهم هم المفسدون العاصون ويكون تكرار كلمة " هم " على وجه التأكيد والعرب إذا كررت الكلام تريد به التأكيد ثم قال تعالى " ولكن لا يشعرون " أنهم مفسدون
سورة البقرة آية 13(1/53)
55
قوله تعالى " وإذا قيل لهم آمنوا كما ءامن الناس " قال في ورواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما إن هذه الآية نزلت في شأن اليهود " وإذا قيل لهم " يعني اليهود " آمنوا كما آمن الناس " يعني عبد الله بن سلام وأصحابه " قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء " يعني الجهال الخرقى قال الله تعالى " ألا إنهم هم السفهاء " يعني الجهال الخرقى بتركهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم " ولكن لا يعلمون " أنهم السفهاء
وقال مقاتل نزلت هذه الآية في شأن المنافقين وهكذا قال مجاهد ومعناه " وإذا قيل لهم " يعني للمنافقين " آمنوا " يعني صدقوا بقلوبكم كما صدق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم " قالوا : أنؤمن " يعني أنصدق كما صدق الجهال قال الله تعالى " ألا إنهم هم السفهاء " يعني الجهال بتركهم التصديق في السر ولكن لا يعلمون أنهم جهال
سورة البقرة آية 14
قوله تعالى " وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا " هذه الآية نزلت في ذكر المنافقين منهم عبد الله بن أبي بن سلول وجد بن قيس ومعتب بن قشير وغيرهم وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم مروا بقوم من المنافقين فقال عبد الله بن أبي لأصحابه انظروا كيف أرد هؤلاء الجهال عنكم فتعلموا مني كيف أكلمهم فأخذ بيد أبي بكر وقال مرحبا بسيد بني تميم وثاني اثنين وصاحبه في الغار وصفيه من أمته الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذ بيد عمر قال مرحبا بسيد بني عدي القوي في أمر الله تعالى الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذ بيد علي فقال مرحبا بسيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الباذل نفسه ودمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم والسابق إلى الهجرة فقال له علي ( اتق الله يا عبد الله ولا تنافق فإن المنافقين شر خليقة الله تعالى ) قال فلم تقول لي هكذا وإيماني كإيمانكم وتصديقي كتصديقكم ثم افترقوا فقال عبد الله لأصحابه كيف رأيتم ردي بهؤلاء عنكم فقالوا له لا نزال بخير ما عشت لنا فنزلت الآية " وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا " يعني إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم
وقوله تعالى " وإذا خلوا إلى شياطينهم " قال الكلبي يعني إلى كهنتهم وهم خمسة رهط من اليهود ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان منهم كعب بن الأشرف بالمدينة وأبو بردة الأسلمي في بني سليم وأبو السواد بالشام وعبد الدار من جهينة وعوف بن مالك من بني(1/54)
56
أسد ويقال " وإذا خلوا إلى شياطينهم " يعني إلى رؤسائهم في الضلالة وقال أبو عبيدة كل عات متمرد فهو شيطان ثم قال تعالى " قالوا إنا معكم " على دينكم " إنما نحن مستهزئون " بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم
سورة البقرة آية 15
قال الله تعالى " الله يستهزئ بهم " يعني يجازيهم جزاء الاستهزاء وفي رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ( أن الاستهزاء أن يفتح لهم وهم في جهنم باب من الجنة فيقبلون ويسبحون في النار والمؤمنون على الأرائك ينظرون إليهم فإذا انتهوا إلى الباب سد عليهم وفتح لهم باب آخر في مكان آخر والمؤمنون ينظرون إليهم ويضحكون ) كما قال في آية أخرى " فاليوم الذين ءامنوا من الكفار يضحكون " المطففين 34 الآية وقال مقاتل الاستهزاء ما ذكره الله تعالى في سورة الحديد " يوم يقول المنافقون والمنفقات للذين ءامنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا " الحديد13 فهذا استهزاء بهم
ثم قال تعالى " و يمدهم في طغيانهم يعمهون " يعني يتركهم في ضلالتهم يتحيرون ويترددون عقوبة لهم لاستهزائهم
سورة البقرة آية 16
وقوله تعالى " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى " يعني اختاروا الكفر على الإيمان وفي الآية دليل أن الشراء قد يكون بالمعنى دون اللفظ وهو المبادلة لأن الله تعالى سمى استبدالهم الضلالة بالهدى شراء ولم يكن هنالك لفظ شراء
وقوله " فما ربحت تجارتهم " فقد أضاف الربح إلى التجارة على وجه المجاز والعرب تقول ربحت تجارة فلان وخسرت تجارة فلان وإنما يريدون به أنه ربح في تجارته وخسر في تجارته والله تعالى أنزل القرآن بلغة العرب على ما يتعارفون فيما بينهم قال " فما ربحت تجارتهم " يعني فما ربحوا في تجارتهم
وقوله تعالى " وما كانوا مهتدين " قال بعضهم معناه وما هم بمهتدين في الحال كقوله تعالى " كيف نكلم من كان فى المهد صبيا " مريم 29 يعني من هو في المهد في الحال وقال بعضهم معناه " وما كانوا مهتدين " من قبل لأنهم لو كانوا مهتدين من قبل لوفقهم الله تعالى في الحال ولكن لما لم يكونوا مهتدين من قبل خذلهم الله تعالى مجازاة لأفعالهم الخبيثة(1/55)
57
سورة البقرة آية 17
قوله تعالى " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا " روى معاوية بن طلح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال نزلت هذه الآية في شأن اليهود الذين هم حوالي المدينة فقال " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت " يعني كمثل من كان في المفازة في الليلة المظلمة وهو يخاف السباع فأوقد نارا فأمن بالنار من السباع " فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم " طفئت ناره وبقي في ظلمة كذلك اليهود الذين كانوا حوالي المدينة كانوا يقرون بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج وكانوا إذا حاربوا أعداءهم من المشركين يستنصرون باسمه ويقولون بحق نبيك محمد أن تنصرنا فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقدم المدينة حسدوه وكذبوه وكفروا به فطفئت نارهم وبقوا في ظلمات الكفر
وقال مقاتل نزلت في المنافقين يقول مثل المنافق مع النبي صلى الله عليه وسلم كمثل رجل في مفازة فأوقد نارا ليأمن بها على نفسه وعياله وماله فكذلك المنافق يتكلم بلا إله إلا الله مراءاة للناس فيأمن بها على نفسه وعياله وماله ويناكح مع المسلمين فكان له نورا بمنزلة المستوقد النار يمشي في ضوئها ما دامت ناره تتقد فلما أضاءت النار أبصر ما حوله بنورها وذهب نورها فبقي في ظلمة
قوله تعالى " ذهب الله بنورهم " أي يذهب الله بنور الإيمان الذي يتكلم به " وتركهم في ظلمات لا يبصرون " الهدى فكذلك المنافق إذا بلغ آخر عمره بقي في ظلمة كفره وهكذا فسر قتادة والقتبي وغيرهما
سورة البقرة آية 18
ثم قال عز وجل " صم بكم عمي فهم لا يرجعون " وقي قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صما بكما عميا وإنما جعلها نصبا لوقوع الفعل عليها يعني وتركهم صما بكما عميا وقرأ غيره " صم بكم عمي " وتفسير الآية أنهم يتصاممون حيث لم يسمعوا الحق ولم يتكلموا بالحق ولم يبصروا العبرة والهدى فكأنهم صم بكم عمي ولأن الله تعالى خلق السمع والبصر واللسان لينتفعوا بهذه الأشياء فإذا لم ينتفعوا بالسمع والبصر صار كأن(1/56)
58
السمع والبصر لم يكن لهم كما أن الله تعالى سمى الكفرة موتى حيث قال تعالى " أو من كان ميتا فأحييناه " الأنعام 122 يعني كافرا فهديناه وإنما سماهم موتى والله أعلم لأنه لا منفعة لهم في حياتهم فكأن تلك الحياة لم تكن لهم فكذلك السمع والبصر واللسان إذا لم ينتفعوا بها فكأنها لم تكن لهم وكأنهم " صم بكم عمي فهم لا يرجعون " يعني لا يرجعون إلى الهدى
وقال القتبي معنى قوله " وتركهم في ظلمات " قال الظلمة الأولى كانت ظلمة الكفر واستيقادهم النار قول لا إله إلا الله وإذا خلوا إلى شياطينهم فنافقوا وقالوا " إنا معكم إنما نحن مستهزءون " البقرة 14 فسلبهم نور الإيمان وبقوا في ظلمة الكفر " وتركهم في ظلمات لا يبصرون "
سورة البقرة آية 19
قوله تعالى " أو كصيب من السماء فيه ظلمات " يعني كمطر نزل من السماء فضرب لهم الله تعالى مثلا آخر لأن العرب كانوا يوضحون الكلام بذكر الأمثال فالله تعالى ضرب لهم الأمثال ليوضح عليهم الحجة فضرب لهم مثلا بالمستوقد النار ثم ضرب لهم مثلا آخر بالمطر فإن قيل كلمة " أو " إنما تستعمل للشك فما معنى " أو " ها هنا فقيل له " أو " قد تكون للتخيير فكأنه قال إن شئتم فاضربوا لهم مثلا بالمستوقد النار وإن شئتم فاضربوا لهم المثل بالمطر فأنتم مصيبون في ضرب المثل في الوجهين جميعا وهذا كما قال في آية أخرى " أو كظلمات في بحر لجي " النور 40 فكذلك ها هنا " أو " للتخيير لا للشك وقد قيل " أو " بمعنى الواو يعني وكصيب من السماء معناه مثلهم كرجل في مفازة في ليلة مظلمة فنزل مطر من السماء وفي المطر ظلمات " ورعد وبرق " والمطر هو القرآن لأن في المطر حياة الخلق وإصلاح الأرض فكذلك القرآن فيه هدى للناس وبيان من الضلالة وإصلاح الأرض فلهذا المعنى شبه القرآن بالمطر والظلمات هي الشدائد والمحن التي تصيب المسلمين والشبهات التي في القرآن والرعد هو الوعيد الذي ذكر للكفار والمنافقين في القرآن والبرق ما ظهر من علامات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ودلائله
وقوله تعالى " ويجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق " يعني يتصاممون عن استماع الحق ( حذر الموت ) يعني لحذر الموت والكلام إنما ينصب لنزع الخافض مثل قوله " واختار موسى قومه " الأعراف 155 أي من قومه فكذلك هاهنا " حذر الموت " يعني لحذر الموت ومعناه مخافة أن ينزل في القرآن شيء يظهر حالهم كما قال في آية أخرى
(1/57)
59
" نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا " التوبة 127 قال بعضهم في الآية مضمر ومعناها يجعلون أصابعهم في آذانهم من الرعد ويغمضون أعينهم من الصواعق وقال أهل اللغة الصاعقة صوت ينزل من السماء فيه نار فمن قال بهذا القول لا يحتاج إلى الإضمار في الآية يجعلون أصابعهم في آذانهم من خوف الصاعقة
ثم قال " والله محيط بالكافرين " يعني عالم بأعمالهم والإحاطة هي إدراك الشيء بكماله والله أعلم
سورة البقرة آية 20
قوله تعالى " يكاد البرق يخطف أبصارهم " يعني ضوء البرق يذهب ويختلس بنوره أبصارهم من شدة ضوء البرق فكذلك نور الإيمان من المنافق يكاد يغشى على الناس كفره في سره حتى لا يعلموا كفره وقد قيل معناه يكاد أن يظهر عليهم نور الإسلام فيثبتون على ذلك
ثم قال " كلما أضاء لهم مشوا فيه " يعني كلما لمع البرق في الليلة المظلمة مضوا فيه " وإذا أظلم عليهم " يعني إذا ذهب ضوء البرق " قاموا " متحيرين فكذلك المنافق إذا تكلم بلا إله إلا الله يمضي مع المؤمنين ويمنع بها من السيف فإذا مات بقي متحيرا نادما ويقال معناه " كلما أضاء لهم مشوا فيه " البقرة 20 يعني كلما ظهر لهم دليل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وظهرت لهم علاماته مالوا إليه " وإذا أظلم عليهم " يعني أصابت المسلمين محنة كما أصابتهم يوم أحد وكما أصابتهم يوم بئر معونة " قاموا " أي ثبتوا على كفرهم
وروي أسباط عن السدي أنه قال كان رجلان من المنافقين هربا من المدينة إلى المشركين فأصابهما المطر الذي ذكر الله فيه ظلمات ورعد وبرق كلما أصابهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما فإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لمع يلمع لم يبصرا فقاما مكانهما فجعلا يقولان يا ليتنا لو أصبحنا فنأتي محمدا صلى الله عليه وسلم فنضع أيدينا في يده فأصبحا فأتياه فأسلما وحسن إسلامهما فضرب الله تعالى بشأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين كانوا بالمدينة
ثم قال تعالى " ولو شاء الله لذهب بسمعهم " قال بعضهم " بسمعهم " الظاهر الذي في الرأس " وأبصارهم " التي في العين كما ذهب بسمع قلوبهم وأبصار قلوبهم عقوبة لهم وقد قيل معناه ولو شاء لجعلهم صما وعميا في الحقيقة كما جعلهم صما وعميا في الحكم فقد قيل " ولو شاء الله " لجعلهم صما وعميا في الآخرة كما جعلهم في الدنيا وروي في إحدى
(1/58)
60
الروايتين عن ابن عباس أنه قال هذا من المكتوم الذي لا يفسر ثم قال تعالى " إن الله على كل شيء قدير " من العقوبة وغيرها
سورة البقرة آية 21
قوله تعالى " يأيها الناس اعبدوا ربكم " يعني أطيعوا ربكم ويقال وحدوا ربكم وهذه الآية عامة وقد تكون كلمة " يا أيها الناس " خاصة لأهل مكة وقد تكون عامة لجميع الخلق فهاهنا " يا أيها الناس " لجميع الخلق يقول للكفار وحدوا ربكم ويقول للعصاة أطيعوا ربكم ويقول للمنافقين أخلصوا دينكم معرفة ربكم ويقول للمطيعين اثبتوا على طاعة ربكم واللفظ يحتمل هذه الوجوه كلها وهو من جوامع الكلم واعلم أن النداء في القرآن على ستة مراتب نداء مدح ونداء ذم ونداء تنبيه ونداء إضافة ونداء نسبة ونداء تسمية فأما نداء المدح فمثل قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا " " يا أيها النبي " " يا أيها الرسل " ونداء الذم مثل قوله تعالى " يا أيها الذين كفروا " " يا أيها الذين هادوا " ونداء التنبيه مثل قوله تعالى " يا أيها الإنسان " " يا أيها الناس " ونداء الإضافة مثل قوله تعالى " يا عبادي " ونداء النسبة مثل قوله تعالى " يا بني آدم " " يا بني إسرائيل " ونداء التسمية مثل قوله تعالى " يا عبادي " ونداء النسبة مثل قوله تعالى " يا بني آدم " " يا بني إسرائيل " ونداء التسمية مثل قوله تعالى " يا داود " " يا إبراهيم " والنداء السابع نداء التعنيف مثل قوله تعالى " يا أهل الكتاب " فهاهنا ذكر نداء التنبيه فقال " يا أيها الناس " أخبر بالنداء أنه يريد أن يأمر أمرا أو ينهى عن شيء ثم بين الأمر فقال " اعبدوا ربكم " يعني وحدوا وأطيعوا ربكم " الذي خلقكم " معناه أطيعوا ربكم الذي هو خالقكم فخلقكم ولم تكونوا شيئا " والذين من قبلكم " يعني وخلق الذين من قبلكم " لعلكم تتقون " المعصية وتنجون من العقوبة
سورة البقرة آية 22
قوله تعالى " الذي جعل لكم الأرض فراشا " معناه اعبدوا ربكم الذي خلقكم و " جعل لكم الأرض فراشا " يعني مهادا وقرارا وقال أهل اللغة الأرض بساط العالم وروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال ( إنما سميت الأرض أرضا لأنها تأرض ما في بطنها ) يعني تأكل ما فيها وقال بعضهم لأنها تتأرض بالحوافر والأقدام " والسماء " في اللغة ما علاك وأظلك يعني اذكروا الله بهذه النعم واعبدوه واعرفوا شكر هذه النعم حيث جعل لكم الأرض فراشا والسماء " بناء " يعني سقفا قال ابن عباس رضي الله عنه في رواية الكلبي ( كل سماء مطبقة على الأخرى مثل القبة وسماء الدنيا ملتزقة أطرافها على الأرض ) ويقال " والسماء بناء " يعني مرتفعا
(1/59)
61
ثم قال " وأنزل من السماء ماء " يعني المطر " فأخرج به " يعني أنبت بالمطر " من الثمرات رزقا لكم " يعني من ألوان الثمار " رزقا " يعني طعاما لكم
وقوله تعالى " فلا تجعلوا لله أندادا " يعني لا تقولوا له شركاء " وأنتم تعلمون " وأنه خالق هذه الأشياء وغيره لا يستطيع أن يخلق شيئا من هذه الأشياء ويقال كل شيء في هذه الدنيا فيه دلالة على كونه الخالق من أربعة أوجه فوجود هذه الأشياء وكونها يدل على كون الصانع واستقامتها يدل على توحيده وهو استقامة الليل والنهار والشتاء والصيف وخروج الثمرات وحدوث كل شيء في وقته لأن المدبر لو كان اثنين لم تكن على الاستقامة كما قال في آية أخرى " لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا " الأنبياء 22 وتجانسها يدل على أن الخالق واحد عالم حيث خلق الأشياء أجناسا مختلفة وتمام الأشياء يدل على أن خالقها قديم قادر
سورة البقرة آية 23
قوله تعالى " وإن كنتم في ريب مما نزلنا " قال بعضهم هذا الخطاب لليهود يعني " وإن كنتم في ريب " يعني في شك " مما نزلنا " يعني من القرآن " على عبدنا " محمد صلى الله عليه وسلم أنه ليس من الله تعالى " فأتوا بسورة من مثله " يعني من مثل هذا القرآن من التوراة يعني فأتوا بسورة من التوراة وقابلوها بالقرآن فتجدوها موافقة لما في التوراة فتعلموا به أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يختلقه من تلقاء نفسه وأنه من الله تعالى " وادعوا شهداءكم من دون الله " يعني استعينوا بأحباركم ورهبانكم " إن كنتم صادقين " فيما تشكون فيه
وقال بعضهم نزلت في شأن المشركين فقال " وإن كنتم في ريب " أي في شك " مما نزلنا " من القرآن " على عبدنا " محمد صلى الله عليه وسلم وتقولون إنه اختلقه من تلقاء نفسه " فأتوا بسورة " أي فاختلقوا بسورة من مثل هذا القرآن لأنكم شعراء وفصحاء " وادعوا شهداءكم " يعني استعينوا بآلهتكم ويقال استعينوا بخطبائكم وشعرائكم " إن كنتم صادقين " أن محمدا يقوله من تلقاء نفسه
وقال قتادة معناه " فأتوا بسورة " فيها حق وصدق ولا باطل فيها وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول الهاء إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قال فأتوا بسورة من مثل محمد صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن قرأ الكتب فأتوا بسورة من رجل لم يقرأ الكتب كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويقال هذه الآيات أصل لجميع ما تكلم به المتكلمون في التوحيد والعلم والشريعة لأن في أول الآية إثبات الصانع ثم في الآية الأخرى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فالله تعالى أمرهم أولا بأن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا عنها ثم أمرهم بسورة من مثله فعجزوا عنها فنزلت هذه الآية " قل لئن اجتمعت
(1/60)
62
الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان ) الإسراء 88 الآية
سورة البقرة الآية 24
ثم قال عز وجل " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا " " لم " تستعمل للماضي " ولن " تستعمل للمستقبل فكأنه قال فإن لم تفعلوا أي لم تأتوا في الماضي ولن تفعلوا أي لن تأتوا في المستقبل وتجحدون بغير حجة " فاتقوا النار "
قال قتادة معناه " فإن لم تفعلوا " ولن تقدروا أن تفعلوا ولن تطيقوا " فاتقوا النار " يقول احذروا النار " التي وقودها الناس والحجارة " يعني حطبها الناس إذا صاروا إليها والحجارة قبل أن يصيروا إليها ويقال معناه إن مع كل إنسان من أهل النار حجرا معلقا في عنقه حتى إذا طفئت النار رسبه به الحجر إلى الأسفل ويقال " وقودها الناس والحجارة " أي حجارة الكبريت وإنما جعل حطبها من حجارة الكبريت لأن لها خمسة أشياء ليست لغيرها أحدها أنها أسرع وقودا والثاني أنها أبطأ خمودا والثالث أنها أنتن رائحة والرابع أنها أشد حرا والخامس أنا ألصق بالبدن ثم قال " أعدت للكافرين " يعني وهيئت وخلقت وقدرت لهم
سورة البقرة آية 25
ثم قال " وبشر الذين آمنوا " فقد ذكر في أول الآية إثبات الصانع وذكر حجته ثم ذكر إثبات الكتاب والنبوة ثم ذكر الوعيد للكافرين لمن لا يؤمن بالله ثم ذكر ثواب للمؤمنين وهكذا في جميع القرآن في كل موضع ذكر عقوبة الكفار ثم ذكر على أثره ثواب المؤمنين لتسكن قلوبهم إلى ذلك وتزول عنهم الوحشة لكي يثبتوا على إيمانهم ويرغبوا في ثوابه فقال " وبشر الذين آمنوا " يعني فرح قلوب الذين آمنوا يعني صدقوا بوحدانية الله تعالى وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به جبريل عليه السلام " وعملوا الصالحات " يعني الطاعات فيما بينهم وبين ربهم " أن لهم " يعني بأن لهم " جنات " وهي البساتين " تجري من تحتها الأنهار " أي من تحت شجرها ومساكنها وغرفها الأنهار " وكلما رزقوا منها " يعني أطعموا منها أي من الجنة " من ثمرة رزقا " يعني طعاما
" قالوا هذا الذي رزقنا " يعني أطعمنا من الجنة " من قبل " قال بعضهم معناه إذا أتي بطعام وثمار في أول النهار فأكلوا منها ثم إذا أتي بها في آخر النهار " قالوا هذا الذي رزقنا من
(1/61)
63
قبل ) يعني الذي أطعمنا في أول النهار لأن لونه يشبه لون ذلك فإذا أكلوا منه وجدوا لها طعما غير طعم الأول وقال بعضهم معناه " كلما رزقوا من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " يعني في الدنيا لأن لونها يشبه لون ثمار الدنيا فإذا أكلوا وجدوا طعمها غير ذلك
ثم قال " وأتوا به متشابها " قال بعضهم معناه " متشابها " يعني في المنظر مختلفا في الطعم وقيل " متشابها " يعني يشبه بعضها بعضا في الجودة ولا يكون فيها رديء
قال الفقيه رحمه الله حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء يعني أسماء الثمار
ثم قال تعالى " ولهم فيها أزواج مطهرة " يعني مهذبة في الخلق ويقال مطهرة في الخلق والخلق فأما الخلق فإنهن لا يحضن ولا يبلن ولا يتمخطن ولا يأتين الخلاء وأما الخلق فهن لا يحسدن ولا يغرن ولا ينظرن إلى غير أزواجهن
ثم قال تعالى " وهم فيها خالدون " يعني دائمين لا يموتون ولا يخرجون منها أبدا
سورة البقرة آية 26
قوله تعالى " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " وذلك أنه لما نزل قول الله تعالى " إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا " الحج 73 وقال في آية أخرى " مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت " العنكبوت 41 قالت اليهود والمشركون إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت فنزلت هذه الآية " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " يعني لا يمتنع من ضرب المثل وبيان الحق بذكر البعوضة وبما فوقها ويقال لا يمنعه الحياء أن يضرب المثل ويروي ويصف للحق شبها " ما بعوضة " يعني ببعوضة " فما فوقها " يعني بالذباب وبالعنكبوت وقال بعضهم " فما فوقها " يعني فما دونها فى الصغر وهذا من أسماء الأضداد يذكر الفوق ويراد به دونه كما يذكر الوراء ويراد الأمام به مثل قوله " ويذرون وراءهم يوما ثقيلا " الإنسان 27 يعني أمامهم فكذلك يذكر الفوق ويراد به ما دونه يعني يضرب المثل بالبعوضة وبما دون البعوضة بعد أن يكون فيه إظهار الحق وإرشاد إني وكيف الهوى وكيف يمتنع من ضرب المثل بالبعوضة ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يخلقوا بعوضة لا يقدرون عليه ويقال إنما ذكر المثل
(1/62)
64
بالبعوضة لأن خلقة البعوضة أعجب خلقة لأن خلقتها تشبه خلقة الفيل قيل إن البعوضة ما دامت جائعة عاشت فإذا شبعت ماتت فكذلك إذا الادمي استغنى فإنه يطغى فضرب الله المثل للآدمي
ثم قال تعالى " فأما الدين آمنوا " يعني صدقوا وأقروا بتوحيد الله تعالى " فيعلمون أنه الحق من ربهم " يعني المثل بالذباب والعنكبوت فيؤمنون به " وأما الذين كفروا " يعني اليهود والمشركين " فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا " بذكر البعوضة والذباب
قال الله تعالى " يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا " يعني إنما ضرب المثل ليضل به كثيرا من الناس يعني يخذلهم ولا يوفقهم للهدى " ويهدي به كثيرا " يعني يوفق به على معرفة ذلك المثل كثيرا من الناس وهم المؤمنون وقال بعضهم معناه " يضل به كثيرا " يعني يسميه ضالا كما يقال فسقت فلانا يعني سميته فاسقا لأن الله تعالى لا يضل أحدا وهذا طريق المعتزلة وهو خلاف جميع أقاويل المفسرين وهو غير محتمل في اللغة أيضا يقال ضلله إذا سماه ضالا ولا يقال أضله إذا سماه ضالا ولكن معناه ما ذكره المفسرون أنه يخذل به كثيرا من الناس مجازاة لكفرهم
قوله تعالى " وما يضل به إلا الفاسقين " يعني وما يهلك وأصل الضلالة الهلاك يقال ضل الماء في اللبن إذا صار مستهلكا وما يهلك وما يخذل به يعني بالمثل إلا الفاسقين يعني العاصين وأصل الفسق في اللغة هو الخروج من الطاعة والعرب تقول فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها ويقال للفأرة فويسقة لأنها تخرج من الحجر وقال الله تعالى " ففسق عن أمر ربه " الكهف 50 يعني خرج عن طاعة ربه
سورة البقرة آية 27
ثم نعت الفاسقين فقال عز وجل " الذين ينقضون عهد الله " يعني يتركون أمر الله ووصيته " من بعد ميثاقه " يعني من بعد تغليظه وتوكيده وذلك أن الله تعالى أمر موسى عليه السلام في التوراة بأن يأمر قومه فيقروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدقوه إذ خرج وكان موسى عليه السلام عاهدهم على ذلك فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم نقضوا العهد وكذبوه ولم يصدقوه ويقال إنما أراد به العهد الذي أخذه من بني آدم من ظهورهم حيث قال " ألست بربكم قالوا بلى " الأعراف 172 يقال إنه أراد به العهد فنقضوا ذلك العهد والميثاق وهم يقرون فإن قال قائل فكيف يجوز هذا واليهود كانوا مقرين بالله تعالى فكيف يكون نقض العهد وهم مقرون قيل له إذا لم يصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد أشركوا بالله لأنهم لم يصدقوا بأن القرآن من عند الله ومن
(1/63)
65
زعم أن القرآن قول البشر فقد أشرك الله تعالى وصار ناقضا للعهد ويقال الميثاق الذي يعرف كل واحد ربه إذا تفكر في نفسه فكان ذلك بمنزلة أخذ الميثاق عليه وجميع ما في القرآن من ذكر الميثاق فهو على هذه الأوجه الثلاثة
وقوله تعالى " ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل " روى الضحاك وعطاء عن ابن عباس أنه قال ( إنهم أمروا أن يؤمنوا بجميع الأنبياء فآمنوا ببعضهم ولم يؤمنوا ببعضهم ) فهذا معنى قوله " ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل " ويقال أمروا بصلة القرابات فقطعوا الأرحام فيما بينهم ويقال كان بين اليهود والعرب قرابة من وجه لأن العرب كانت من أولاد إسماعيل واليهود من أولاد إسحاق فإذا لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد قطعوا ذلك الرحم الذي كان بينهم
وقوله تعالى " ويفسدون في الأرض " لأنهم يكفرون ويأمرون غيرهم بالكفر فذلك فسادهم في الأرض " أولئك هم الخاسرون " أي المغبونون بالعقوبة وقال الكلبي ليس من مؤمن ولا كافر إلا وله منزل وأهل وخدم في الجنة فإن أطاع الله تعالى أتى أهله وخدمه ومنزله في الجنة وإن عصى الله تعالى ورثه الله تعالى المؤمنين فقد غبن عن أهله وخدمه كما قال في آية أخرى " قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة " الزمر 15 وقال بعضهم هذا التفسير لا يصح لأنه لا يجوز أن يقال للكافر منزل في الجنة وخدم ولكن يقال له هذا على وجه المثل أن الكافر لو آمن كان له منزل وخدم في الجنة إلا أن الكلبي لم يقل ذلك من ذات نفسه وإنما رواه عن أبي صالح عن ابن عباس
سورة البقرة آية 28
قوله تعالى " كيف تكفرون بالله وكنتم " قال ابن عباس هو على وجه التعجب وقال الفراء هو على وجه التوبيخ والتعجب لا على وجه الاستفهام فكأنه قال ويحكم كيف تكفرون وتجحدون بوحدانية الله تعالى فإن قيل كيف يجوز التعجب من الله تعالى والتعجب وإنما يكون ممن سمع شيئا لم يكن سمعه أو رأى شيئا لم يكن رآه فيتعجب لذلك والله تعالى قد علم الأشياء قبل كونها قيل له التعجب من الله تعالى يكون على وجه التعجيب والتعجب هو أن يدعو إلى التعجب فكأنه يقول ألا تتعجبون أنهم يكفرون بالله تعالى وهذا كما قال في آية أخرى " وإن تعجب فعجب قولهم " الرعد 5
(1/64)
66
ثم قال " وكنتم أمواتا فأحياكم " يعني كنتم نطفا في أصلاب آبائكم فأحياكم في أرحام أمهاتكم " ثم يميتكم " عند انقطاع آجالكم " ثم يحييكم " للبعث يوم القيامة " ثم إليه ترجعون " في الآخرة فتثابون بأعمالكم قال الكلبي فلما ذكر البعث عرف اليهود فسكتوا وأنكر ذلك المشركون قالوا ومن يستطيع أن يحيينا بعد الموت فنزل قوله تعالى " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا " البقرة 29 فإن قيل كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لليهود وهم لم يكفروا بالله تعالى فالجواب ما سبق ذكره أنهم لما أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقد أنكروا وحدانية الله تعالى لأنهم أخبروا أن القرآن قول البشر
سورة البقرة آية 29
قوله تعالى " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا " يعني قدر خلقها لأن الأشياء كلها لم تخلق في ذلك الوقت لأن الدواب والثمار وغيرها التي في الأرض تخلق وقتا فوقتا ولكن معناه قدر خلق الأشياء التي في الأرض
وقوله " ثم استوى إلى السماء " هذه الآية من المشكلات والناس في هذه الآية وما شالكها على ثلاثة أوجه قال بعضهم نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها وهذا كما روي عن مالك بن أنس أن رجلا سأله عن قوله " الرحمن على العرش استوى " طه 5فقال ( مالك الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا ضالا فأخرجوه ) فنظروا فإذا هو جهم بن صفوان وقال بعضهم نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة وهذا قول المشبهة وقال بعضهم نقرأها ونتأولها وللتأويل في هذه الآية وجهان أحدهما " ثم استوى إلى السماء " يعني صعد أمره إلى السماء وهو قوله " كن فكان " والثاني " ثم استوى إلى السماء " يعني أقبل إلى خلق السماء فإن قيل قد قال في آية أخرى " أم السماء بناها رفع سمكها فسواها " إلى قوله " والأرض بعد ذلك دحاها " النازعات 27 - 28 - 30 فذكر في تلك الآية أن الأرض خلقت بعد السماء وذكر في هذه الآية أن السماء خلقت بعد الأرض الجواب عن هذا أن يقال خلق الأرض قبل السماء وهي ربوة حمراء في موضع الكعبة فلما خلق السماء بسط الأرض بعد خلق السماء فذلك قوله " والأرض بعد ذلك دحاها يعني بسطها
ثم قال تعالى " فسواهن " يعني خلقهن " سبع سماوات " فهن أعظم من خلقكم " وهو بكل شيء عليم " يعني بكل خلق عليم معناه أن الذي خلق لكم الأرض جميعا وخلق السماوات قادر على أن يحييكم بعد الممات قرأ نافع والكسائي وأبو عمرو " وهو " بجزم
(1/65)
67
الهاء وقرأ الباقون بضم الهاء " وهو " في جميع القرآن وهم لغتان ومعناهما واحد
سورة البقرة آية 30
قوله تعالى " وإذ قال ربك للملائكة " روي عن أبي عبيدة أنه قال معناه وقال ربك و " إذا " زيادة وروي عن الفراء أنه قال معناه واذكر إذ قال ربك وقال مقاتل معناه وقد قال ربك للملائكة والملائكة جميع الملك وهذا اللفظ على غير القياس لأنه يقال ملائكة بالهمزة ويقال للواحد ملك بغير همز وإنما قيل ذلك لأنه في الأصل كان مالك بالهمز فأسقط الهمزة للتخفيف وأصله من لأك يألك والألوكة الرسالة كما قال القائل
( وغلام أرسلته أمه % بألوك فبذلنا ما سأل )
وإنما سميت الملائكة ملائكة لأنهم رسل الله تعالى وإنما أراد ها هنا بعض الملائكة وهم الملائكة الذين كانوا في الأرض وذلك أن الله تعالى لما خلق الأرض خلق الجان من مارج من نار أي من لهب من نار لا دخان لها فكثر نسله وهم الجن بنو الجان فعملوا في الأرض بالمعاصي وسفكوا الدماء فبعث الله تعالى ملائكة سماء الدنيا وأمر عليهم إبليس وكان اسمه عزازيل حتى هزموا الجن وأخرجوهم من الأرض إلى جزائر البحور فسكنوا الأرض فصار الأمر عليهم في العبادة أخف لأن كل صنف من الملائكة يكون أرفع في السماوات فيكون خوفهم أشد وملائكة سماء الدنيا يكون أمرهم أيسر من الذين فوقهم فلما سكنوا الأرض صار الأمر عليهم أخف مما كانوا وسكنوا الأرض واطمأنوا إليها وكل من اطمأن إلى الدنيا أمر بالتحول عنها فأخبرهم الله تعالى أنه يريد أن يخلق خليفة في الأرض سواكم فشق ذلك عليهم وكرهوا ذلك فذلك قوله تعالى " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " يعني أريد أن أخلق في الأرض خليفة سواكم فشق ذلك عليهم وكرهوا ذلك " فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها " يعني أتخلق فيها " من يفسد فيها " كما أفسدت الجن " ويسفك الدماء " كما سفكت الجن " ونحن نسبح بحمدك " يعني نصلي لك بأمرك ويقال معناه نحن نسبحك ونحمدك " ونقدس لك " قال بعضهم نقدس أنفسنا لك يعني نظهر أنفسنا بالعبادة عن المعصية وقال بعضهم " ونقدس لك أي ننسبك إلى الطهارة
قال الله تعالى " قال إني أعلم ما لا تعلمون " قال مجاهد علم من إبليس المعصية
(1/66)
68
وعلم من أدم الخدمة والطاعة ولم تعلم الملائكة بذلك وقال ابن عباس قد علم أنه سيكون من بني آدم من يسبح بحمده ويقدس له ويطيع أمره ويقال قد علم الله تعالى أنه سيكون في ولده من الأنبياء والصالحين والأبرار وذكر في الخبر أنه لما أراد الله تعالى أن يخلق آدم بعث جبريل ليجمع التراب من وجه الأرض فلما نزل جبريل وأراد أن يجمع التراب قالت له الأرض بحق الله عليك لا تفعل فإني أخشى أن يخلق من ذلك خلقا يعصي الله تعالى فأستحي من ربي فصعد جبريل وقال لو أمرني ربي بالرجوع إليها لفعلت فلما صعد بعث الله تعالى ميكائيل فتضرعت إليه الأرض بمثل ذلك فرجع ميكائيل فبعث الله تعالى عزرائيل فتضرعت إليه الأرض فقال عزرائيل أمر الله أولى من قولك فجمع التراب من وجه الأرض الطيبة والسبخة والأحمر والأصفر وغير ذلك ثم صعد إلى السماء فقال الله تعالى أما رحمت الأرض حين تضرعت إليك فقال رأيت أمرك أوجب من قولها فقال الله تعالى أن تصلح لقبض أرواح ولده فصار ذلك التراب طينا وكان طينا أربعين سنة ثم صار صلصالا كما قال في آية آخرى " خلق الإنسان من صلصال كالفخار " الرحمن 14 فكان إبليس إذا مر عليه مع الملائكة قال أرأيتم هذا الذي لم تروا شيئا من الخلائق يشبهه إن فضل عليكم وأمرتم بطاعته ما أنتم فاعلون فقالوا نطيع أمر ربنا فأسر إبليس في نفسه وقال لئن فضل علي لا أطيعه ولئن فضلت عليه لأهلكنه فلما سواه ونفخ فيه من روحه وعلمه أسماء الأشياء التي في الأرض يعني ألهمه
سورة البقرة آية 31
فذلك قوله تعالى " وعلم آدم الأسماء كلها " يعني ألهمه أسماء الدواب وغيرها " ثم عرضهم على الملائكة " هكذا مكتوب في مصحف الإمام عثمان رضي الله عنه وأما مصحف ابن مسعود وأبي بن كعب ففي أحدهما " ثم عرضها " وفي الآخر ( ثم عرضهن على الملائكة ) فأما من قرأها " ثم عرضهن " يعني به جماعة الدواب ومن قرأ " ثم عرضها " يعني به جميع الأسماء وأما من قرأ " ثم عرضهم " يعني به جماعة الأشخاص إذ الأشخاص تصلح أن تكون عبارة عن المذكر والمؤنث وإن اجتمع لفظ المذكر والمؤنث غلب المذكر على المؤنث
ثم قوله تعالى " فقال أنبؤوني بأسماء هؤلاء " يعني أخبروني عن أسماء هذه الأشياء التي في الأرض " إن كنتم صادقين " في قولكم " أتجعل فيها من يفسد فيها " وقال مقاتل معناه كيف تقولون فيما لم أخلق بعد أنهم يفسدون وأنتم لا تعرفون ما ترونه وتنظرون إليه
(1/67)
69
ويقال في هذه الآية دليل على أن أولى الأشياء بعد علم التوحيد ينبغي أن يتعلم علم اللغة لأنه أراهم فضل آدم بعلم اللغة وقال بعضهم إنما علمه الأسماء وما فيها من الحكمة ليظهر فضله بعلم الأسماء وما فيها من الحكمة
سورة البقرة آية 32
قوله " قالوا سبحانك لا علم لنا " نزهوه وتابوا إليه عن مقالتهم ومعناه سبحانك تبنا إليك من مقالتنا يعني ما ألهمتنا وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( سبحان الله تنزيه الله عن كل ما لا يليق به ) وقال بعض أهل اللغة اشتقاقه من السباحة لأن الذي يسبح يباعد ما بين طرفيه فيكون فيه معنى التبعيد وقال بعضهم هذه لفظة جمعت بين كلمتي تعجب لأن العرب إذا تعجبت من شيء قالت حان والعجم إذا تعجبت من شيء قالت سب فجمع بينهما فصار سبحان
وقوله تعالى " إنك أنت العليم الحكيم " يعني أنت عالم بما يكون في السموات والأرض " الحكيم " في أمرك إذا حكمت أن تجعل في الأرض خليفة غيرنا ويقال معنى " العليم الحكيم " على وجه الحكمة التي تدرك الأشياء بحقائقها وكان حكمه موافقا للعلم
سورة البقرة آية 33
قوله تعالى " قال يا آدم انبئهم " يعني أخبرهم " بأسمائهم " يعني أسماء الدواب وغيرهما وما فيها من الحكمة وما يحل أكله وما لا يحل أكله " فلما أنبأهم " يعني أخبرهم " بأسمائهم " قال الله تعالى لهم " ألم أقل لكم أني أعلم غيب السموات والأرض " يعني سر أهل السماوات وسر أهل الأرض وما يكون فيهما " وأعلم ما تبدون " أين تظهرون من الطاعة لآدم يعني الملائكة " وما كنتم تكتمون " يعني ما أسر إبليس في نفسه حين قال لئن فضل علي لا أطيعه ولئن فضلت عليه أهلكته وقيل إنهم كانوا يقولون حين أراد أن يخلق آدم إنه لا يخلق أحدا أفضل منهم فهذا الذي كانوا يكتمون وهذا القول ذكر عن قتادة ويقال أنه لما خلق آدم أشكل عليهم أن آدم أعلم أم هم فسألهم عن الأسماء فلم يعرفوها وسأل آدم عن الأسماء فأخبرهم بها فظهر لهم أن آدم أعلم منهم ثم أشكل عليهم أنه أفضل أم هم فلما أمرهم بالسجود له فظهر لهم فضله
سورة البقرة آية 34
(1/68)
70
وهو قوله تعالى " وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " وأصل السجود في اللغة هو الميلان والخضوع والعرب تقول سجدت النخلة إذا مالت وسجدت الناقة إذا طأطأت رأسها ومالت وإنما كانت سجدة التحية لا سجدة العبادة وكانت السجدة تحية لآدم وطاعة لله تعالى " فسجدوا " كلهم " إلا إبليس " يقال إبليس أسم أعجمي ولذلك لا ينصرف وهو قول أبي عبيدة وقال غيره هو أفعيل من أبلس يبلس إذا يئس وكذا قال ابن عباس في رواية أبي صالح أنه أيئسه من رحمته وكان اسمه عزازيل ويقال عزائيل وإنما لم ينصرف لأنه لا سمي له فاستثقل وقال ابن عباس إنما سمي آدم لأنه خلقه من أديم الأرض وروي عن قطرب أنه قال هذا الخبر لا يصح لأن العربية لا توافقه ويقال هو مأخوذ من الأدمة وهو الذي يكون في لونه سمرة " إلا إبليس أبى وأستكبر " يعني امتنع عن السجود تكبرا معناه أن كبره منعه من السجود
وقوله تعالى " وكان من الكافرين " قال بعضهم وصار من الكافرين كما قال في آية أخرى " فكان من المغرقين " هود 43 يعني صار من المغرقين ويقال " كان من الكافرين " في علم الله معناه كان في علم الله تعالى أنه يكفر وقال بعضهم بظاهر الآية وقال كان كافرا في الأصل وهو قول أهل الجبر وقالوا كل كافر أسلم فقد ظهر أنه كان مسلما في الأصل وكل مسلم كفر ظهر أنه كان كافرا في الأصل لأنه كان كافرا يوم الميثاق ألا ترى أن الله تعالى قال في قصة بلقيس " إنها كانت من قوم كافرين " النمل 43 ولم يقل إنها كانت كافرة وقال في قصة إبليس " وكان من الكافرين " وقال أهل السنة والجماعة الكافر إذا أسلم كان كافرا إلى وقت إسلامه وإنما صار مسلما بإسلامه إلا انه غفر له ما قد سلف والمسلم إذا كفر كان مسلما إلى ذلك الوقت إلا أنه حبط عمله
سورة البقرة آية 35
قوله تعالى " وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة " قال ابن عباس رضي الله عنه أنه قال أمر الله تعالى ملائكته أن يحملوا آدم على سرير من ذهب إلى السماء فأدخلوه الجنة ثم خلق منه زوجه حواء يعني من ضلعه الأيسر وكان آدم بين النائم واليقظان وقال ابن عباس رضي الله عنه سميت حواء لأنها خلقت من الحي ويقال إنما سميت حواء لأنه كان في
(1/69)
71
شفتيها حوة يعني حمرة فقال عز وجل " يا آدم اسكن أنت وزوجك " يعني حواء يقال للمرأة زوجة وزوج والزوج أفصح
وقوله تعالى " وكلا منها " يعني من الجنة " رغدا " يعني موسعا عليكما بلا فوت ولا هنداز بالزاي المعجمة هكذا قال في رواية الكلبي يعني بغير تقدير وقال بعض أهل اللغة الرغد هو السعة في الرزق من غير تقدير
وقوله تعالى " ولا تقربا هذه الشجرة " يعني ولا تأكلا من هذه الشجرة وروى السدي عمن حدثه عن ابن عباس أنه قال هي شجرة الكرم وروى الشعبي عن جعد بن هبيرة مثله وروي عن علي رضي الله عنه مثله وقال قتادة وذكر لنا أنها شجرة التين ويقال إنما كان النهي عن الأكل من الشجرة للمحنة لأن الدنيا دار محنة وقد خلق من الأرض ليسكن فيها فامتحن بذلك كما امتحن أولاده في الدنيا بالحلال والحرام فذلك قوله " ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين " يعني فتصيرا من الضارين بأنفسكما
سورة البقرة آية 36
وقوله تعالى " فأزلهما الشيطان عنها " قرأ حمزة " فأزالهما " بالألف وقرأ غيره " فأزلهما " بغير ألف وأصله في اللغة من أزل يزل معناه فأغراهما الشيطان واستزلهما وأما من قرأ " فأزالهما " بالألف فأصله من أزال يزيل إذا أزال الشيء عن موضعه
وقوله تعالى " فأخرجهما مما كانا فيه " يعني مما كانا فيه من النعمة وروي عن سعيد بن جبير أنه قال مكث آدم في الجنة كما بين الظهر والعصر يعني من أيام الآخرة لأن كل يوم من أيام الآخرة كألف سنة من أيام الدنيا
وروي عن ابن عباس أنه قال ( لما رأى إبليس آدم في النعمة حسده واحتال لإخراجه منها فعرض نفسه على كل دابة من دواب الجنة أن يدخل في صورتها فأبت عليه حتى أتى الحية وكانت هي أحسن دابة في الجنة خلقا وكانت لها أربع قوائم فلم يزل يستدرجها حتى أطاعته فدخل ما بين لحييها وأقام في رأسها ثم أتى باب الجنة وناداهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين يعني أن هذه الشجرة شجرة الخلد فمن أكل منها يبقى في الجنة أبدا فأكلا منها )
ويقال إن حواء قالت لآدم تعال حتى نأكل من هذه الشجرة فقال آدم قد نهانا ربنا عن أكل هذه الشجرة فأخذت بيده حتى جاءت به إلى الشجرة وكان آدم يحب حواء فكره أن يخالفها لحبه إياها وكان آدم يقول لها لا تفعلي فإني أخاف العقوبة وكانت حواء تقول إن
(1/70)
72
رحمة الله واسعة فأخذت من ثمرها فأكلت ثم قالت لآدم هل أصابني شيء بأكلها وإنما لم يصبها شيء بأكلها لأنها كانت تابعة وآدم متبوعا فما دام المتبوع على الصلاح يتجاوز عن التابع فإذا فسد المتبوع فسد التابع ثم أخذت ثمرة أخرى فدفعت إلى آدم فلما أكل آدم لم تصل إلى جوفه حتى أخذتهما الرعدة وسقط عنهما من الحلي والحلل وغيرهما وعريا عن الثياب حتى بدت عورتهما فاستحييا وهربا قال الله تعالى أمني تهرب يا آدم قال لا ولكن حياء من ذنبي فأخذا من أوراق التين وألصقا على عوراتهما ثم أمرهما الله تعالى بإن يهبطا منها إلى الأرض فوقع آدم بأرض الهند وحواء بجدة والحية بأصبهان وإبليس في جزائر البحر وروي عن ابن عباس أنه قال إنما سمي الإنسان إنسانا لأن الله تعالى عهد إليه فنسي ) يعني ترك
وقوله تعالى " وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو " يعني آدم وحواء والحية وإبليس فبقي بين إبليس وبين آدم عداوة إلى يوم القيامة وكذلك بين الحية وبين أولاد آدم عداوة ظاهرة
ثم قال " ولكم في الأرض مستقر " يعني موضع القرار وقوله " ومتاع إلى حين " يعني الحياة والعيش إلى حين يعني الموت
سورة البقرة آية 37
قوله تعالى " فتلقى آدم من ربه كلمات " قرأ ابن كثير " فتلقى آدم " فنصب آدم ورفع الكلمات وقرأ غيره برفع " آدم " وكسر الكلمات فأما من قرأ " فتلقى آدم " بالرفع فمعناه أخذ وقبل من ربه ويقال تلقى وتلقف بمعنى واحد في اللغة وأما من قرأ بنصب " فتلقى آدم " يعني استقبلته الكلمات من ربه يقال تلقيت فلانا بمعنى استقبلته ومعنى ذلك كله أن الله تعالى ألهمه بكلمات فاعتذر بتلك الكلمات وتضرع إليه فتاب الله عليه
وقال مجاهد تلك الكلمات هي قوله تعالى " قالا ربنا ظلمنا أنفسنا " الأعراف23 الآية وقال بعضهم قال بحق محمد أن تقبل توبتي قال الله تعالى له من أين عرفت محمدا قال رأيت في كل موضع من الجنة مكتوبا لا إله إلا الله محمدا رسول الله فعلمت أنه أكرم خلقك عليك فتاب الله عليه وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال تلك الكلمات هي قوله سبحانك اللهم وبحمدك اشهد أن لا إله إلا أنت رب عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم الثاني فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين الثالث فارحمني إنك أنت خير الراحمين
وقوله تعالى " فتاب عليه " يعني فقبل توبته يقال تاب العبد إلى ربه وتاب الله على عبده فهذا اللفظ مشترك إلا أنه إذا ذكر من العبد يقال تاب إلى الله وإذا ذكر من الله تعالى يقال على فيقال تاب العبد إلى ربه إذا رجع عن ذنبه وتاب الله على عبده إذا قبل
(1/71)
73
توبته قوله " إنه هو التواب الرحيم " يعني المتجاوز عن الذنوب الرحيم بعباده
سورة البقرة آية 38
قوله تعالى " قلنا أهبطوا منها جميعا " يعني آدم وحواء والحية وإبليس وفي الآية دليل على أن المعصية تزيل النعمة عن صاحبها لأن آدم قد أخرج من الجنة بمعصيته وهذا كما قال القائل
( إذا كنت في نعمة فارعها % فإن المعاصي تزيل النعم
( وداوم عليها بشكر الإله % فإن الإله شديد النقم )
وقال تعالى " إن الله لا يغير ما بقوم " الرعد 11الآية
وقوله تعالى " فإما يأتينكم مني هدى " وأصله فإن ما إلا ان النون أدغمت في الميم وإن لتأكيد الكلام وما للصلة ومعناه فإن يأتينكم مني هدى يعني البيان وهو الكتاب والرسل خاطب به آدم وعنى به ذريته " فمن تبع هداي " يعني من اتبع كتابي وأطاع رسلي " فلا خوف عليهم " فيما يستقبلهم من العذاب " ولا هم يحزنون " على ما خلفوا من أمر الدنيا
سورة البقرة آية 39
ثم قال عز وجل " والذين كفروا وكذبوا باياتنا " يعني جحدوا برسلي وكذبوا بآياتي " أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " يعني دائمين
سورة البقرة الآيات 40 - 43
قوله تعالى " يا بني إسرائيل " يعني أولاد يعقوب وإنما سمي إسرائيل لأن الأسر بلغتهم عبد وأيل هو الله فكأنه قال يا بني عبد الله وقيل إنما سمي إسرائيل لأنه أسره ملك يقال له إيل وذلك أنه كان في سفر مع أولاده وكان يسير خلف القافلة وكان له قوة فدخل في نفسه شيء من نفسه شيء من العجب فابتلاه الله تعالى أن جاءه ملك على هيئة اللص وأراد أن يضرب على القافلة فأراد يعقوب أن يضربه على الأرض فلم يقدر على ذلك وكانا في تلك
(1/72)
74
المنازعة إلى طلوع الفجر ثم إن الملك أخذ بعرق يعقوب أي بعرق من عروقه فمده فسقط في ذلك الموضع ثلاثة أيام ويقال لأنه أسره جني يقال له إيل وروي عن السدي أنه قال وقعت بينه وبين أخيه عيصوا عداوة فحلف عيصوا أن يقتله وكان يعقوب يختفي بالنهار ويخرج بالليل فسمي إسرائيل لسيره بالليل وأصله من إسراء الليل والله أعلم ويقال إنما سمي يعقوب لأنه ولد مع عيصوا في بطن واحد فخرج يعقوب على عقب عيصوا فسمي يعقوب فقال الله تعالى " يا بني إسرائيل " وإنما أراد بهم اليهود الذين كانوا حوالي المدينة من بني قريظة والنضير وغيرهم وكانوا من أولاد يعقوب
وقال تعالى " اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم " يعني احفظوا منتي التي مننت عليكم معناه في التيه من المن والسلوى يعني اذكروا تلك النعم التي أنعمت عليكم واشكروا لله تعالى
وقوله تعالى " وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم " قال ابن عباس في رواية أبي صالح قد كان الله تعالى عهد إلى بني إسرائيل في التوراة أني باعث من بني إسماعيل نبيا أميا فمن اتبعه وصدق به غفرت له ذنوبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين أجرا باتباعه ما جاء به موسى وأجرا باتباعه ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم وعرفوه كذبوه فذكرهم الله تعالى في هذه الآية فقال " وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم " قال الحسن البصري " أوفوا بعهدي " يعني أدوا ما افترضت عليكم " أوف بعهدكم " مما وعدت لكم وقال الضحاك أوفوا بطاعتي أوف لكم بالجنة وقال الصادق أوفوا بعهدي في دار محنتي على بساط خدمتي في حفظ حرمتي أوف بعهدكم في دار نعمتي على بساط قربتي بسني رؤيتي وقال قتادة العهد ما ذكر الله تعالى في سورة المائدة " ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل " إلى قوله " وءامنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا " المائدة 12 أوف بعهدكم وهو قوله " لأكفرن عنكم سيئاتكم " المائدة 12 الآية ويقال " أوفوا بعهدي " الذي قبلتم يوم الميثاق " أوف بعهدكم " يعني الذي قلت لكم يعني به الجنة
قوله تعالى " وإياي فارهبون " يعني فاخشون وأصله فارهبوني بالياء لكن حذفت الياء وأقيم الكسر مقامها
قوله تعالى " وآمنوا بما أنزلت مصدقا " يعني صدقوا بهذا القرآن الذي أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم مصدقا " لما معكم " يعني موافقا لما معكم في التوحيد وفي بعض الشرائع يعني التوراة والإنجيل
" ولا تكونوا أول كافر به " يعني أول من يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقال " به " يعني بالقرآن وإنما أراد بني قريظة والنضير فإن قيل ما معنى قوله تعالى " ولا تكونوا أول كافر به " وقد كفر به قبلهم مشركوا العرب قيل له معناه " ولا تكونوا أول كافر به "(1/73)
في وقت هذا
(1/74)
75
الخطاب ويقال إن أحبار اليهود كان لهم أتباع فلو أسلموا أسلم أتباعهم كلهم ولو كفروا كفر أتباعهم كلهم فهذا معنى قوله " ولا تكونوا أول كافر به " يعني من قومكم
" ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا " يعني بكتمان صفة محمد صلى الله عليه وسلم عرضا يسيرا لأنهم كانوا عرفوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكانت لهم مأكلة ووظائف من سفلة قومهم وكانت لهم رئاسة فكانوا يخافون أن تذهب وظائفهم ورئاستهم فقال " ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا " يعني عرض الدنيا وإنما سماه " قليلا " لأن الدنيا كلها قليل
ثم خوفهم فقال تعالى " وإياي فاتقون " في صفة محمد صلى الله عليه وسلم فمن جحد به أدخلته النار
قوله تعالى " ولا تلبسوا الحق بالباطل " يقال في اللغة لبس يلبس لبسا إذا لبس الثياب ومعناه لا تخلطوا الحق بالباطل فتكتمون صفته وذلك أنهم كانوا يخبرون عن بعض صفته ويكتمون البعض ليصدقوا بذلك فيلبسون عليهم بذلك وقال قتادة " ولا تلبسوا " اليهودية والنصرانية بالإسلام وقد علمتم أن دين الله الحق الذي لا يقبل غيره هو الإسلام ويقال معناه ولا تؤمنوا ببعض أمره وتكفروا ببعضه وتكتموا الحق
ثم قال تعالى " وتكتموا الحق وأنتم تعلمون " أنكم تكتمون الحق
وقوله تعالى " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " يعني أقيموا الصلوات الخمس بركوعها وسجودها ومواقيتها " وآتوا الزكاة " المفروضة " واركعوا مع الراكعين " أي صلوا مع المصلين يعني مع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الجماعات ويقال صلوا مع المصلين إلى الكعبة وقال قتادة وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وهما فريضتان واجبتان ليس لأحد فيهما رخصة فأدوهما إلى الله تعالى
سورة البقرة آية 44
قوله تعالى ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) نزلت هذه الآية في شأن اليهود الذين كانوا حوالي المدينة وهم بنو قريظة والنضير وكانوا ينتظرون خروج النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يدعون الأوس والخزرج إلى الإيمان به فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم آمن به الأوس والخزرج وكفر به اليهود وجحدوا فنزلت هذه الآية " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " وقال ابن عباس في رواية أبي صالح كانت اليهود إذا جاءهم حليف منهم الذي قد أسلم وسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السر فتقول له إنه نبي صادق فاتبعه وتكتم ذلك عن السفلة مخافة أن تذهب منافعه فنزلت هذه الآية " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " وقال قتادة في هذه الآية دليل أن من أمر بخير فليكن أشد الناس تسارعا إليه ومن نهى عن شر فليكن أشد الناس انتهاء عنه ويقال نزلت في شأن القصاص
قال الفقيه رحمه الله حدثنا القاضي الخليل بن أحمد قال حدثنا ابن أبي حاتم(1/75)
الرازي
76
قال حدثنا الحجاج بن يوسف عن سهل بن حماد عن أبي بن غياث عن هشام الدستوائي عن المغيرة وهو ختن مالك بن دينار عن مالك بن دينار عن أبي ثمامة عن أنس قال لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم مر على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من النار فقال ( يا جبريل من هؤلاء ) فقال هم خطباء من أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ثم قال " وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون " يعني أفلا تعقلون أن صفته في التوراة ويقال " وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون " أن ذلك حجة عليكم
سورة البقرة آية 45
قوله تعالى " واستعينوا بالصبر والصلاة " يعني استعينوا " بالصبر " على أداء الفرائض وبكثرة الصلاة على تمحيص الذنوب ويقال استعينوا بالصبر علىنصرة محمد صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد " استعينوا بالصبر والصلاة " يعني استعينوا بالصوم والصلاة وإنما سمي الصوم صبرا لأن في الصوم حبس النفس عن الطعام والشراب والرفث وقد قيل الصبر على ثلاثة أوجه صبر على الشدة والمصيبة وصبر على الطاعة وهو أشد من الأول وأجره أكثر وصبر عن المعصية وهو أشد من الأول والثاني وأجره أكثر منهما وفي هذا الموضع أراد الصبر على الطاعة
" وإنها لكبيرة " يعني الاستعانة ويقال الصلاة لكبيرة أي ثقيلة " إلا على الخاشعين " يعني المتواضعين ويقال الذليلة قلوبهم
سورة البقرة آية 46
قوله تعالى ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) يعني يستبقنون أنهم يبعثون يوم القيامة بعد الموت وإنما سمي اليقين ظنا لأن في الظن طرفا من اليقين فيعبر بالظن عن اليقين وقوله " وأنهم إليه راجعون " يعني في الآخرة بعد البعث للحساب
سورة البقرة آية 47
قوله تعالى " يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين " يعني عالمي زمانهم وقال بعضهم من آمن من أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم كانت له فضيلة علىغيره وكان له أجران أجر إيمانه بنبيه وأجر إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد روي عن رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاثة يعطيهم الله الأجر مرتين من اشترى جارية فأحسن تأديبها
(1/76)
77
فأعتقها وتزوجها وعبد أطاع سيده وأطاع الله تعالى ورجل من أهل الكتاب أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به ) وقيل معنى قوله " وأني فضلتكم على العالمين " بإنزال المن والسلوى وغير ذلك ولم يكن لأحد من العالمين غيرهم
سورة البقرة آية 48
قوله تعالى " واتقوا يوما " يعني أخشوا عذاب يوم " لا تجزي نفس عن نفس شيئا " يعني لا تغني في ذلك اليوم نفس مؤمنة عن نفس كافرة وذلك أنهم كانوا يقولون نحن من ولد إبراهيم خليل الرحمن ومن ولد إسحاق والله تعالى يقبل شفاعتهما فينا فنزلت هذه الآية " لا تجزي نفس عن نفس شيئا " يعني لا تغني نفس مؤمنة عن نفس كافرة " ولا يقبل منها شفاعة " يعني من نفس كافرة
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " ولا تقبل " بالتاء لأن الشفاعة مؤنثة وقرأ الباقون بالياء لأن تأنيثه ليس بحقيقي وما لم يكن تأنيثه حقيقيا جاز تذكيره كقوله تعالى " فمن جاءه موعظة " البقرة 275
قوله تعالى " ولا يؤخذ منها عدل " يعني لا يقبل الفداء من نفس كافرة كما قال موضع آخر " فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا " آل عمران 91 ويقال لو جاءت بعدل نفسها رجلا مكانها لا يقبل منها " ولا هم ينصرون " يقول ولا هم يمنعون من العذاب
سورة البقرة آية 49
قوله تعالى " وإذ نجيناكم من آل فرعون " إنما خاطبهم وأراد به آباءهم لأنهم كانوا يتولون آباءهم فأضاف إليهم ومعناه واذكروا إذ نجيناكم من قوم فرعون " يسومونكم سوء العذاب " أي يعذبونكم بأشد العذاب وأقبح العذاب ويقال في اللغة سامه الخسف إذا أولاه الهوان يعني يولونكم بأشد العذاب ثم بين العذاب فقال " يذبحون أبناءكم " الصغار " ويستحيون نساءكم " يعني يستخدمون نساءكم وأصله في اللغة من الحياة يقال(1/77)
78
استحيا يستحيي إذا تركه حيا وكانوا يذبحون الأولاد ويتركون النساء أحياء للخدمة وذلك أن فرعون قالت له كهنته يولد في بني إسرائيل مولود ينازعك في ملكك فأمر بأن يذبح كل ابن يولد في بني إسرائيل وتترك البنات
قال تعالى " وفي ذلكم بلاء " يعني في أي إنجاء الله تعالى من ذبح الأولاد واستخدام النساء نعمة لكم " من ربكم عظيم " فالبلاء يكون عبارة عن النعمة ويكون أيضا عبارة عن البلية والشدة وأصله من الابتلاء والاختبار يكون بهما جميعا فإن أراد به النعمة فمعناه " وفي ذلكم بلاء " يعني من انجاء الله تعالى من ذبح الأولاد واستخدام النساء نعمة لكم من ربكم عظيم وإن أراد به العذاب فمعناه " وفي ذلكم " يعني في ذبح الأبناء واستخدام النساء بلاء لكم من ربكم عظيم
سورة البقرة آية 50
قوله تعالى " وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم " يعني فرق الماء يمينا وشمالا حين خرج موسى مع بني إسرائيل من مصر فخرج فرعون وقومه في طلبهم فلما انتهوا إلى البحر ضرب موسى عصاه على البحر فانفلق فصار اثني عشر طريقا يابسا لكل سبط منهم طريق فلما جاوز موسى البحر ودخل فيه فرعون مع قومه غشيهم من اليم ما غشيهم يعني غشيهم الماء فغرقوا في اليم فذلك معنى قوله تعالى " وإذ فرقنا بكم البحر " يقول واذكروا إذا فلقنا بكم البحر فأنجيناكم من الغرق " وأغرقنا آل فرعون " يعني فرعون وآله قال بعض أهل اللغة آل الرجل أتباع الرجل قريبه كان أو غيره وأهله قريبة أتبعه أو لم يتبعه ويقال الآل والأهل بمعنى واحد إلا أن الآل يستعمل لاتباع رئيس من الرؤساء يقال آل فرعون وآل هارون ولا يقال آل زيد وآل عمرو روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قيل له من آلك قال ( آلي كل تقي إلى يوم القيامة )
قوله تعالى " وأنتم تنظرون " يعني تنظرون إليهم حين لفظهم البحر بعدما غرقوا يعني آباءهم وقال بعضهم معناه أنكم تعلمون ذلك كأنكم تنظرون إليهم قال الفقيه وكان في قصة فرعون وغيره علامة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعرف ذلك إلا بالوحي فلما أخبرهم بذلك من غير أن يقرأ كتابا كان ذلك دليلا أنه قاله بالوحي وفيه أيضا تهديد للكفار ليؤمنوا حتى لا يصيبهم مثل ما أصاب أولئك وفيه أيضا تنبيه للمؤمنين وعظة لهم ليزجرهم ذلك عن المعاصي
سورة البقرة الآيات 51 - 53
قوله تعالى " وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة " قرأ أبو عمرو بغير ألف " وإذا وعدنا
(1/78)
79
موسى ) وقرأ غيره " وإذ واعدنا " بالألف فمن قرأ بغير ألف فمعناه ظاهر يعني أن الله تعالى وعد موسى عليه السلام ومن قرأ بالألف فالمواعدة تجري بين اثنين وإنما كان الواعد من الله تعالى ومن موسى الوفاء ومن الله الأمر ومن موسى الائتمار فكأنما جرت المواعدة بين الله تعالى وبين موسى وقد يجوز أن تكون المفاعلة من واحد كما يقال سافر ونافق
ويقال أربعين ليلة كانت ثلاثين ليلة منها من ذي القعدة وعشرا من ذي الحجة وقال بعضهم ثلاثين كانت من ذي الحجة وعشرا من المحرم وكانت مناجاته يوم عاشوراء وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال لما وعدهم موسى أربعين ليلة عدت بنو إسرائيل عشرين يوما وعشرين ليلة وقالوا قد تمت أربعون ولم يرجع موسى فقد خلفنا
وذكر أن السامري قال لهم إنكم قد استعرتم من نساء آل فرعون حليهم ولم تردوه عليهن فلعل الله تعالى لم يرد علينا موسى لهذا المعنى فهاتوا ما معكم من حليهن حتى نحرقه فلعل الله يرد إلينا موسى فجمعوا تلك الحلي وكان السامري صائغا فاتخذ منها عجلا وقد كان قبل ذلك رأى جبريل عليه السلام على فرس الحياة فكلما وضع حافره اخضر ذلك الموضع فرفع من تحت سنبكه قبضة من التراب ونفخ ذلك التراب في العجل فصار ذلك عجلا جسدا له خوار وروي عن ابن عباس أنه قال صار عجلا له لحم ودم وفيه حياة له خوار وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال اتخذ عجلا جسدا مشبكا من ذهب له خوار فدخل الريح في جوفه وخرج من فيه كهيئة الخوار فقال للقوم هذا إلهكم وإله موسى فنسي يعني أن موسى أخطأ الطريق ويقال كان موسى وعدهم ثلاثين ليلة فتم ميقات ربه أربعين ليلة لأنه قد أفطر من الصيام في تلك العشرة فإنما ظهر لهم الخلاف في تلك العشرة وهذا الطريق أوضح
قوله تعالى " ثم أتخذتم العجل من بعده " يعني عبدتم العجل من بعد انطلاق موسى إلى الجبل " وأنتم ظالمون " يعني كافرين بعبادتكم العجل ويقال وأنتم ضارون بأنفسكم بعبادة العجل
قوله تعالى " ثم عفونا عنكم من بعد ذلك " يقول تركناكم من بعد عبادة العجل فلم نستأصلكم " لعلكم تشكرون " يعني لكي تشكروا الله تعالى على العفو والنعمة
قوله تعالى " وإذ آتينا موسى الكتاب " يعني أعطينا موسى التوراة " والفرقان " يعني الفارق بين الحلال والحرام ويقال " الفرقان " هو النصرة بدليل قوله تعالى " يوم الفرقان " الأنفال 41 يعني يوم النصرة ويقال الفرقان هو المخرج من الشبهات ويقال هو انفلاق البحر بدليل قوله " وإذ فرقنا بكم البحر " البقرة 50 وقال الفراء في الآية مضمر ومعناها وآتينا موسى الكتاب يعني التوراة وآتينا محمدا الفرقان يعني أعطينا موسى التوراة وأعطينا محمدا الفرقان كأنه(1/79)
خاطبهم فقال قد أعطيناكم علم موسى وعلم محمد صلى الله عليه وسلم
80
وهو سائر الأنبياء قوله " لعلكم تهتدون " لكي تهتدوا من الضلالة
سورة البقرة آية 54
قوله تعالى " وإذ قال موسى لقومه يا قوم " وأصله يا قومي بالياء ولكن حذف الياء وترك الكسرة بدلا عن الياء وتكون في الإضافة إلى نفسه معنى الشفقه " يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم " يعني أضررتم بأنفسكم " بأتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم " يعني إلى خالقكم يقول فارجعوا عن عبادة العجل إلى عبادة خالقكم وتوبوا إليه فقالوا له وكيف التوبة قال لهم موسى " فاقتلوا أنفسكم " يعني يقتل بعضكم بعضا يعني يقتل من لم يعبد العجل الذين عبدوا العجل وإنما ذكر قتل الأنفس وأراد به الإخوان وهذا كما قال في آية أخرى " ولا تلمزوا أنفسكم " الحجرات 11 يعني إخوانكم من المسلمين أي لا تغتابوا إخوانكم " ذلكم خير لكم عند بارئكم " خالقكم يعني التوبة خير لكم عند خالقكم ومعناه قتل أنفسكم مع رضا الله خير عند الله تعالى من ترككم على عذاب الله
وقوله تعالى " إنه هو التواب الرحيم " يعني المتجاوز عن الذنوب " الرحيم " حيث جعل القتل كفارة لذنوبكم وروي في الخبر أن الذين عبدوا العجل جلسوا على أبواب دورهم فأتاهم هارون والذين لم يعبدوا العجل شاهرين السيوف فكان موسى يقول فاتقوا الله واصبروا له فلعن الله رجلا حل حبوته أو قام من مجلسه أو مد طرفه إليهم أو اتقاهم بيد أو برجل فيقولون آمين وذكر في رواية أبي صالح أن هارون كان يتقدم ويقول ذلك فجعلوا يقتلونهم إلى المساء فقام موسى عليه السلام يدعو ربه لما شق عليه من كثرة الدماء حتى نزلت التوبة وقيل لموسى ارفع السيف عنهم فإني قبلت توبتهم جميعا من قتل ومن لم يقتل
سورة البقرة الآيات 55 - 56
قوله تعالى " وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك " يعني لن نصدقك " حتى نرى الله جهرة " يعني عيانا وذلك أن موسى عليه السلام حين انطلق إلى طور سيناء للمناجاة اختار موسى من قومه سبعين رجلا ولما انتهوا إلى الجبل أمرهم موسى بأن يمكثوا في أسفل الجبل وصعد موسى الجبل فناجى ربه فأعطاه الله تعالى الألواح فلما رجع إليهم قالوا له إنك قد رأيت الله فأرناه حتى ننظر إليه فقال لهم إني لم أره وقد سألته أن أنظر إليه فتجلى للجبل
(1/80)
81
فدك الجبل فلم يصدقوه وقالوا لن نصدقك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا كلهم فدعا موسى ربه فأحياهم الله تعالى فذلك قوله " فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون " إلى الصاعقة " ثم بعثناكم من بعد موتكم " يعني أحييناكم من بعد هلاككم " لعلكم تشكرون " للحياة بعد الموت
سورة البقرة آية 57
قوله تعالى " وظللنا عليكم الغمام " خاطبهم وأراد به آباءهم وهم قوم موسى حيث أمروا بأن يدخلوا مدينة الجبارين فأبوا ذلك وقالوا لموسى " أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " المائدة 24 فعاقبهم الله تعالى فبقوا في التيه أربعين سنة وكانت المفازة اثني عشر فرسخا وكان يؤذيهم حر الشمس فظلل عليهم الغمام ذلك قوله تعالى " وظللنا عليكم الغمام " وهو السحاب الأبيض يقيكم حر الشمس في التيه وكان لهم في التيه عمود من نور مدلى لهم من السماء فيسير معهم من الليل مكان القمر فأصابهم الجوع فسألوا موسى فدعا ربه فأنزل عليهم المن وهو الترنجبيل كان يتساقط عليهم كل غداة فيأخذ كل إنسان منهم ما يكفيه يومه وليلته فإن أخذ اكثر من ذلك دود ما زاد عليه وفسد وإذا كان يوم الجمعة أخذ كل إنسان منهم مقدار ما يكفيه ليومين لأنه لا يأتيهم يوم السبت وكان ذلك مثل الشهد المعجون بالسمن فأجموا من المن يعني ملوا من أكله فقالوا لموسى قتلنا هذا المن بحلاوته وأحرق بطوننا فادع لنا ربك أن يطعمنا لحما فدعا لهم موسى فبعث الله إليهم طيرا كثيرا وذلك قوله تعالى " وأنزلنا عليكم المن والسلوى " وهو السماني وهو طير يضرب إلى الحمرة قال بعضهم كان طيرا يأتيهم مشويا قال عامة المفسرين إنهم كانوا يأخذونها ويذبحونها
وقوله تعالى " كلوا من طيبات " يعني قيل لهم " كلوا من طيبات " وهذا من المضمرات وفي كلام العرب يضمر الشيء إذا كان فيه دليل يستغنى عن إظهاره كما قال في آية أخرى " فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم " آل عمران 106 يعني يقال لهم أكفرتم وكما قال في آية أخرى " والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله " الزمر 3 يعني قالوا ما نعبدهم ومثل هذا في القرآن كثير وكذلك قوله ها هنا " كلوا من طيبات ما رزقناكم " يعني من حلالات " ما رزقناكم " أي أعطيناكم من المن والسلوى ولا ترفعوا منها شيئا كما قال في آية أخرى " كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه " طه 81 يعني لا تعصوا فيه ولا ترفعوا إلى الغد فرفعوا وجعلوا اللحم قديدا مخافة أن ينفد فرفع ذلك عنهم ولو لم يرفعوا لدام ذلك عليهم(1/81)
82
قوله تعالى " وما ظلمونا " يعني وما أضرونا " ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " يعني أضروا بأنفسهم حيث رفعوا فمنع ذلك عنهم وروى خلاس عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم ولولا حواء لم تخن امرأة زوجها
سورة البقرة الآيات 58 - 60
قوله تعالى " وإذ قلنا ادخلو هذه القرية " قال الكلبي يعني أريحا وقال مقاتل إيليا ويقال هذا كان بعد موت موسى وهرون وبعد مضي أربعين سنة حيث أمر الله تعالى يوشع بن نون وكان خليفة موسى بأن يدخل مع قومه المدينة فقال لهم يوشع بن نون ادخلوا الباب سجدا يعني إذا دخلتم من باب المدينة فادخلوا ركعا منحنين ناكسين رؤوسكم متواضعين فيقوم ذلك منكم مقام السجود فذلك قوله تعالى " وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية " يعني أريحا أو إيليا
" فكلوا منها حيث شئتم رغدا " يعني موسعا عليكم " وادخلوا الباب سجدا " يعني ركعا منحنين
" وقولوا حطة " قرأ بعضهم بالرفع وبعضهم بالنصب وهي قراءة شاذة وإنما جعله نصبا لأنه مفعول من قرأ بالرفع معناه قولوا قولا فيه حطة وروي عن قتادة أنه قال تفسير " حطة " يعني حط عنا ذنوبنا وقال بعضهم بسم الله وقال بعضهم معناه لا إله إلا الله وقال بعضهم بسم الله وقال بعضهم أمروا بأن يقولوا بهذا اللفظ ولا ندري ما معناه
وقوله تعالى " نغفر لكم خطاياكم " قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام " تغفر " بالتاء والضمة لأن لفظ الخطايا مؤنث وقرأ نافع ومن تابعه من أهل المدينة " يغفر لكم خطاياكم " بالياء والضمة بلفظ التذكير لأن تأنيثه ليس بحقيقي ولأن الفعل مقدم وقرأ الباقون بالنون وكسر الفاء على معنى الإضافة إلى نفسه وذلك كله يرجع إلى معنى واحد ومعناه نغفر لكم خطايا الذين عبدوا العجل " وسنزيد المحسنين " أي في إحسان من لم يعبد
(1/82)
83
العجل ويقال نغفر خطايا من رفع المن والسلوى للغد وسنزيد في إحسان من لم يرفع إلى الغد ويقال نغفر خطايا من هو عاص وسنزيد في إحسان من هو محسن فلما دخلوا الباب خالفوا أمره وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنهم دخلوا الباب يزحفون ) وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال ( دخلوا على أستاههم ) ويقال دخلوا منحرفين على شق وجوههم وقالوا حنطا سمقانا يعني حنطة حمراء بلغة النبط استهزاء وتبديلا وإنما قال ذلك سفهاؤهم فذلك قوله تعالى " فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم " يعني فير ذلك القول وقالوا بخلاف ما قيل لهم
قال الله تعالى " فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا " أي عذابا " من السماء " وهو موت الفجاءة وقال أبو روق الرجز الطاعون ويقال مات منهم بالطاعون سبعون ألفا في وقت واحد ويقال نزلت بهم نار فاحترقوا ويقال وقع بينهم قتال فاقتتلوا فقتل بعضهم بعضا
وقوله تعالى " بما كانوا يفسقون " يعني جزاء لفسقهم وعصيانهم ثم رجع إلى قصة موسى عليه السلام حين كانوا في التيه وأصابهم العطش فاستغاثوا بموسى فدعا ربه فأوحى الله تعالى إلى موسى أن يضرب بعصاه الحجر فأخذ موسى حجرا مربعا مثل رأس الإنسان ووضعه في المخلاة بين يدي قومه ضرب بعصاه عليه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ماء عذبا وكانت بنو إسرائيل اثني عشر سبطا لكل سبط منهم عين على حدة
قال الفقيه حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مندوسة قال حدثنا أبو القاسم أحمد بن حمزة الصفار قال حدثنا عيسى بن أحمد قال حدثنا يزيد بن هارون عن الفضل بن مرزوق عن عطية العوفي قال تاه بنو إسرائيل في اثني عشر فرسخا أربعين عاما على غير ماء وجعل لهم حجرا مثل رأس الثور فإذا نزلوا منزلا وضعوه فضربه موسى بعصاه فذلك قوله " وإذا استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر "
" فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا " فإذا ساروا حملوه واستمسك وقال بعضهم كان يخرج عينا واحدةه ثم تتفرق على اثنتي عشرة فرقة وتصير اثني عشر نهرا وقال بعضهم كان للحجراثنا عشر ثقبا يخرج منها مشربهم وموردهم يعني موضع شربهم من العيون قال مقاتل كان الحجر مربعا وكان جبريل عليه السلام أمر موسى يوم جاوز البحر ببني إسرائيل وإنما انفجرت اثنتا عشرة عينا لأنه أخذ من مكان فيه اثنا عشر طريقا
(1/83)
84
ثم قال تعالى " قد علم كل أناس مشربهم " أي قد عرف كل سبط مشربهم أي موضع شربهم من العيون لا يخالطهم فيها غيرهم والحكمة في ذلك أن الأسباط كانت بينهم عصبية ومباهاة وكل سبط منهم لا يتزوج من سبط آخر وأراد كل سبط تكثير نفسه فجعل لكل سبط منهم نهرا على حدة يستقون منه ويسقون دوابهم لكيلا يقع بينهم جدال ومخاصمة ويقال كان الحجر من الجنة ويقال رفعه موسى من أسفل البحر حيث مر فيه مع قومه ويقال كان حجرا من أحجار الأرض
قوله تعالى " كلوا واشربوا من رزق الله " يعني قيل لهم كلوا من المن والسلوى واشربوا من ماء العيون
وقوله تعالى " ولا تعثوا في الأرض مفسدين " يعني لا تعملوا في الأرض بالمعاصي يقال عثا يعثو عثوا إذا أظهر الفساد وعثي يعثى عثيا وعاث يعيث عيوثا ومعاثا ثم أجمعوا من المن والسلوى
سورة البقرة آية 61
قوله تعالى " وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد " يعني من جنس واحد " فادع لنا ربك " يعني سل لنا ربك " يخرج لنا مما تنبت الأرض " يعني مما تخرج الأرض " من بقلها وقثائها " وقوله " بقلها " أراد به البقول كلها وقوله " وقثائها " أراد به جميع ما يخرج من الفاكهة نحو القثاء والبطيخ ونحو ذلك وقوله " وفومها " يعني طعامها وهي الحبوب كلها ويقال هي الحنطة خاصة وقال مجاهد الفوم الخبز وقال الفراء فومي لنا يا جارية يعني اخبزي لنا ويقال الفوم هو الثوم والعرب تبدل الفاء بالثاء لقرب مخرجيهما وفي قراءة عبد الله بن مسعود " وثومها وعدسها وبصلها "
فغضب عليهم موسى و " قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير " يعني أتستبدلون الردئ من الطعام بالذي هو خير يعني بالشريف الأعلى ويقال معناه تسألون الدنيء من الطعام وقد أعطاكم الله الشريف منه وهو المن والسلوى ويقال أتختارون الدنيء الخسيس وهو الثوم والبصل على الذي هو أعلى وأشرف وهو المن والسلوى فقال لهم " اهبطوا مصرا " قرأ أبي بن كعب وابن مسعود رضي الله عنهما بلا تنوين يعني مصر الذي خرجتم منه وهو مصر فرعون ومن قرأ " مصرا " بالتنوين يعني ادخلوا مصرا من الأمصار " فإن لكم " فيه " ما سألتم " تزرعون وتحصدون
(1/84)
85
قوله تعالى " وضربت عليهم الذلة " قال الحسن وقتادة جعلت عليهم الجزية يعني على ذريتهم ويقال جعل عليهم كد العمل يعني أولئك القوم حتى كانوا ينقلون السرقين
وقوله " والمسكنة " يعني زي الفقر قال الكلبي الرجل من اليهود وإن كان غنيا يكون عليه زي الفقر وقوله تعالى " وباؤوا بغضب " يعني استوجبوا الغضب " من الله " وقال بعضهم من الرجوع يعني رجعوا باللعنة في أثر اللعنة ويقال باؤوا أي احتملوا كما يقال بوئت بهذا الذنب أي احتملته
وقوله تعالى " ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله " يعني ما أصابهم من الذلة والمسكنة وهم اليهود بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله يعني كذبوا عيسى وزكريا ويحيى ومحمدا عليهم السلام " ويقتلون النبيين بغير الحق " يعني بغير جرم منهم وهم زكريا ويحيى قرأ نافع " النبيين " بالهمزة وكذلك جميع ما في القرآن " يا أيها النبي " وقرأ الباقون بغير همزة وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له يا نبئ الله فقال ( لست بنبيء الله ولكن نبي الله ) والنبيين جماعة النبي وأما من قرأ بالهمزة قال أصله من النبأ وهو الخبر لأنه أنبأ عن الله ومن قرأ بغير همزة فأصله مهموز ولكن قريشا لا تهمز وقال بعضهم هو مأخوذ من النبوة وهو الارتفاع لأنه مشرف على جميع الخلق ويقال النبيء هو الطريق الواضح سمي بذلك لأنه طريق الخلق إلى الله تعالى
وقوله " ذلك بما عصوا " يعني ذلك الغضب على اليهود بما عصوا يعني بعصيانهم أمر الله تعالى فخذلهم الله تعالى حين كفروا فلو أنهم لم يعصوا الله تعالى كانوا معصومين عن ذلك
" وكانوا يعتدون " يعني بقتلهم الأنبياء وركوبهم المعاصي
سورة البقرة آية 62
قوله تعالى " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين " قال ابن عباس في رواية أبي صالح إن الذين آمنوا وهم قوم كانوا مؤمنين بعيسى والتوراة ولم يتهودوا ولم يتنصروا والنصارى الذين تركوا دين عيسى وتسموا بالنصرانية واليهود الذين تركوا دين
(1/85)
86
موسى وتسموا باليهودية والصابئين هم قوم من النصارى ألين قولا منهم " من آمن " من هؤلاء " بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم " يعني ثوابهم وقال مقاتل " إن الذين آمنوا " يعني صدقوا بتوحيد الله " ومن آمن " من الذين هادوا ومن النصارى والصابئين فلهم وأجرهم وقال القتبي قوله " إن الذين آمنوا " هم قوم آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم فكأنه قال إن المنافقين والذين هادوا والنصارى والصابئين ويقال اليهود سموا يهودا بقول موسى عليه السلام حيث قال " إنا هدنا إليك " الأعراف 156اشتقاقه من الميل من هاد يهود وهو الميل عن الطريق وأما النصارى قال بعضهم سموا أنفسهم نصارى بقول عيسى عليه السلام حيث قال " من أنصارى إلى الله " آل عمران 152ويقال لأنهم نزلوا قرية يقال لها ناصرة فتوافقوا على دينهم فسموا نصارى وأما الصابيء فقد أخذ من صبا يصبو إذا مال ويقال من صبأ يصبأ إذا رفع رأسه إلى السماء لأنهم يعبدون الملائكة قرأ نافع و " الصابيين " بغير همز من صبا يصبو إذا خرج من دين إلى دين وقرأ الباقون بالهمزة من صبأ يصبأ إذا رفع رأسه إلى السماء واختلف العلماء في حكم الصابئين فقال بعضهم حكمهم حكم أهل الكتاب يجوز أكل ذبائحهم ويجوز مناكحة نسائهم وهو قول أبي حنيفة رحمه الله لأنهم قوم بين اليهودية والنصرانية يقرؤون الزبور وقال بعضهم هم بمنزلة المجوس لا يجوز أكل ذبائحهم ولا مناكحة نسائهم وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لأنهم يعبدون الملائكة فصار حكمهم حكم عبدة النيران
وقوله تعالى " من آمن بالله واليوم الآخر " ولم يذكر في الآية الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه لما ذكر الإيمان بالله تعالى فقد دخل فيه الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه لا يكون مؤمنا بالله تعالى ما لم يؤمن بجميع ما أنزل الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى جميع أنبيائه عليهم الصلاة والسلام فكأنه قال من آمن بالله وبما أنزل على جميع أنبيائه وصدق باليوم الآخر وعمل صالحا أي أدى الفرائض " فلهم أجرهم عند ربهم " يعني لهم ثواب أعمالهم في الآخرة " ولا خوف عليهم " فيما يستقبلهم من العذاب " ولا هم يحزنون " فيما خلفوا من الدنيا ويقال ليس عليهم خوف النار ولا حزن الفزع الأكبر فإن قيل فيه كيف ذكر من آمن بالله بلفظ الوحدان ثم قال " فلهم أجرهم " ولم يقل فله أجره قيل له لأنه انصرف إلى ما سبق ذكره وإنما سبق ذكر الجماعة فمرة يذكر بلفظ الوحدان لاعتبار اللفظ ومرة بلفظ الجمع لاعتبار المعنى
سورة البقرة الأيات 63 - 64
قوله تعالى " وإذا أخذنا ميثاقكم " قال ابن عباس هما ميثاقان الأول حين أخرجهم من صلب آدم عليه السلام(1/86)
والثاني الذي أخذ في التوراة وسائر الكتب " ورفعنا فوقكم
87
الطور ) وذلك أن موسى عليه السلام لما أتاهم بالتوراة فرأوا ما فيها من التغليظ والأمر والنهي فشق ذلك عليهم فأبوا أن يقبلوا وإن الله تعالى قد من على هذه الأمة حيث فرض عليهم الفرائض واحدا بعد واحد ولم يفرض عليهم جملة فإذا استقر الواحد في قلوبهم فرض الآخر وأما بنوا إسرائيل فقد فرض عليهم دفعة واحدة فشق ذلك عليهم ولم يقبلوا فأمر الله تعالى الملائكة فرفعوا جبلا من جبال فلسطين وكان عسكر موسى فرسخا في فرسخ والجبل مثل ذلك فلما رأوا أنه لا مهرب لهم قبلوا التوراة وسجدوا من المهابة والفزع وهم يلاحظون في سجودهم الجبل فمن ذلك يسجد بعض اليهود على أنصاف وجوههم فذلك قوله تعالى " ورفعنا فوقكم الطور " والطور اسم جبل بالسريانية ويقال هو جبل ذو أشجار
ثم قال تعالى " خذوا ما آتيناكم بقوة " يعني قيل لهم اعملوا بما آتيناكم بجد ومواظبة واعملوا في طاعة الله " واذكروا ما فيه " قال بعضهم اعملوا بما فيه وقال بعضهم اذكروا ما فيه من الثواب والعقاب لكي يسهل عليكم القبول " لعلكم تتقون " يعني لكي تتقوا عقوبته في المعصية فتمتنعوا عنها
قوله تعالى " ثم توليتم من بعد ذلك " أي أعرضتم من بعد ذلك الإقرار يعني من بعد ما رفع عنكم الجبل وقيل البرهان وهو أخذ الميثاق ورفع الجبل " فلولا فضل الله عليكم ورحمته " أي من الله عليكم ورحمته بتأخير العذاب وقيل من بعد البيان في كتابهم بتأخير العذاب " لكنتم من الخاسرين " والخسران النقصان " فلولا فضل الله عليكم ورحمته " بإرسال الرسل إليكم لكيلا تقيموا على الكفر " لكنتم من الخاسرين " في العقوبة وقيل فضله في قبول التوبة
سورة البقرة الآيات 65 - 66
ثم قال تعالى " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت " يعني اصطادوا ويقال استحلوا أخذ الحيتان يوم السبت والسبت في اللغة هو الراحة كما قال في آية أخرى " وجعلنا نومكم سباتا " النبأ 9 أي راحة فيوم السبت كان راحة لليهود عن أشغال الدنيا وهذه الآية على معنى التحذير والتهديد فكأنه قال إنكم تعلمون ما أصاب الذين استحلوا أخذ السمك في يوم السبت من العقوبة فاحذورا كيلا يصيبكم مثل ما أصابهم وذلك أن مدينة يقال لها آيلة على ساحل البحر كان يجتمع فيها السمك يوم السبت حتى يأخذ وجه الماء وفي سائر الأيام لا يأتيهم إلا قليل وقال بعض أهل القصص إنما كانت الحيتان تجتمع هناك لزيارة السمكة التي كان في بطنها يونس عليه السلام ففي كل سبت يجتمعن لزيارتها ويقال لم يكن لهذا المعنى
(1/87)
88
ولكن كانت لهم محنة أولئك فاحتالوا وحبسوا ذلك السمك في يوم السبت وأخذوه يوم الأحد فلما لم تصبهم العقوبة لفعلهم ذلك أمنوا واستحلوا أخذها فمسخهم الله قردة وقد بين قصتهم في سورة الأعراف في قوله تعالى " وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر " الأعراف 163
قوله تعالى " فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين " يعني مبعدين من رحمة الله وأصله في اللغة من البعد يقال خسأ الكلب إذا بعد ويقال " خاسئين " يعني صاغرين ذليلين
قوله تعالى " فجعلناها نكالا " يعني جعلنا تلك العقوبة نكالا " لما بين يديها " يعني لما سبق منهم من الذنب " وما خلفها " يعني عبرة لمن بعدهم ويقال " فجعلناها " يعني تلك القرية " نكالا لما بين يديها " من القرى " وما خلفها " من القرى ليعتبروا بها " وموعظة للمتقين " يعني نهيا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وعبرة لهم
قال الفقيه حدثنا أبو القاسم عمر بن محمد قال حدثنا أبو بكر الواسطي قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا كثير بن هشام عن المسعودي عن علقمة بن مرثد عن المسور بن الأحنف قال قيل لعبد الله بن مسعود أرأيت القردة والخنازير أمن نسل القرود والخنازير التي قد مسخت قال عبد الله بن مسعود أن الله تعالى لم يمسخ أمة فجعل لها نسلا ولكنها من نسل قرود وخنازير كانت قبل ذلك
سورة البقرة الآيات 67 - 71
قوله تعالى " وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " قال ابن عباس وذلك أن بني إسرائيل قيل لهم في التوراة أيما قتيل وجد بين قريتين لا يدرى قاتله فليقس إلى أيتهما أقرب فعمد رجلان أخوان من بني إسرائيل إلى ابن عم لهما واسمه عاميل فقتلاه لكي يرثاه وكانت ابنة عم لهما شابة جميلة حسناء فخشيا أن ينكحها ابن عمها عاميل ثم حملاه فألقياه إلى جانب قرية فأصبح أهل القرية والقتيل بين أظهرهم فأخذ أهل القرية بالقتيل وجاؤوا به إلى موسى
وروى ابن سيرين عن عبيدة السلماني أن رجلا كان له قرابة فقتله ليرثه ثم ألقاه على
(1/88)
89
باب رجل ثم جاء يطلب بدمه فهموا أن يقتتلوا ولبس الفريقان السلاح فقال رجل أتقتتلون وفيكم نبي الله فجاؤوا إلى موسى عليه الصلاة والسلام فأخبروه بذلك فدعا الله تعالى في ذلك أن يبين لهم المخرج من ذلك فأوحى الله تعالى إلى موسى فأخبروهم بذلك وقال إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فتضربوه ببعضها يعني ببعض أعضاء تلك البقرة فيحيا فيخبركم من قتله " قالوا " لموسى " أتتخذنا هزوا " قرأ عاصم في رواية حفص برفع الزاي بغير همزة وقرأ حمزة بسكون الزاي مع الهمزة وقرأ الباقون بالهمزة ورفع الزاي ومعناه أتتخذنا سخرية يعني يا موسى أتسخر بنا فإن قيل ألم يكن هذا القول منهم كفرا حيث نسبوه إلى السخرية قلنا لا لأنهم قد ظهر عندهم علامات نبوته وعلموا أن قوله حق ولكنهم أرادوا بهذا الكشف والبيان ولم يريدوا به الحقيقة ف " قال " لهم موسى " أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين " يعني أمتنع بالله ويقال معاذ الله أن أكون من المستهزئين
قال ابن عباس في رواية أبي صالح فلو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شددوا على أنفسهم بالمسألة فشدد الله عليهم بالمنع لما " قالوا " يا موسى " ادع لنا ربك " يقول سل لنا ربك أن " يبين لنا ما هي " يعني يبين لنا كيفية البقرة إنها صغيرة أو كبيرة " قال " لهم موسى " إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر " يعني لا كبيرة هرمة ولا صغيرة " عوان بين ذلك " يعني وسطا ونصفا بين ذلك يعني بين الصغيرة والكبيرة وقد قيل في المثل العوان لا تعلم الخمرة يعني أن المرأة البالغة ليست بمنزلة الصغيرة التي لا تحسن أن تختمر
ثم قال تعالى " فافعلوا ما تؤمرون " ولا تسألوا فسألوا وشددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم
قوله تعالى " قالوا " يا موسى " ادع لنا ربك " يعني سل ربك " يبين لنا ما لونها " قال لهم موسى " إنها بقرة صفراء فاقع لونها " يعني شديد الصفرة يقال أصفر فاقع إذا كان شديد الصفرة كما يقال أسود حالك وأبيض يقق وأحمر وأحمر قاني وأخضر ناضر إذا وصف بالشدة وقال بعضهم أراد به بقرة صفراء الظلف والقرن يعني شعرها وظلفها وقرنها وكل شيء فيها أصفر ويقال أراد به البقرة السوداء لأن السواد الشديد يضرب إلى الصفرة كما قال تعالى " كالقصر كأنه جملت صفر " المرسلات 33 يعني سود وكما قال القائل
( تلك خيلي منكم وتلك ركابي % هن صفر أولادها كالزبيب )
أراد بالصفر السود ولكن هذا خلاف أقاويل المفسرين وكلهم اتفقوا أنه أراد به اللون الأصفر إلا قولا روي عن الحسن البصري
قوله عز وجل " تسر الناظرين " يعني تعجب من نظر إليها لحسن لونها فشددوا على أنفسهم
(1/89)
90
قوله تعالى " قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي " يعني أنها من العوامل أو من غير العوامل " إن البقر تشابه علينا " يعني تشاكل علينا في أسنانها " وإنا إن شاء الله لمهتدون " يعني نهتدي للقاتل أو يقال لمهتدون إلى البقرة أي ندركها بمشيئة الله تعالى وروي عن ابن عباس أنه قال لولا أنهم استثنوا لم يدركوها ) وروى عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لو أن بني إسرائيل أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم ولولا أنهم قالوا " وإنا إن شاء الله لمهتدون " ما وجدوها
" قال " لهم موسى إن ربكم " يقول إنها بقرة ذلول " يعني لم يذللها العمل وقال أهل اللغة الذلول في الدواب مثل الذليل في الناس يقال رجل ذليل بين الذل ودابة ذلول بينة الذل " تثير الأرض " يعني تقلبها للزراعة ويقال للبقرة المثيرة " ولا تسقي الحرث " يعني لا يسقى عليها الحرث أي لا يستسقى عليها الماء لسقي الزرع ومعناه أن هذه البقرة لم تكن تعمل شيئا من هذه الأعمال " مسلمة " يعني مهذبة سليمة من العيوب ويقال مسلمة من الألوان " لا شية فيها " يعني لا عيب فيها ويقال لا وضح ولا سواد ولا بياض ولا لون سوى الصفرة وقال أهل اللغة أصله من وشى الثوب وأصله في اللغة لا وشية فيها ولكن حذفت الواو منها للخفة مثل عدة وزنة
فلما وصف لهم موسى تلك " قالوا الآن جئت بالحق " يعني الآن أتممت الصفة ويقال الآن جئت بالصفة التي كنا نطلب " فذبحوها " يعني البقرة " وما كادوا يفعلون " يعني كادوا أن لا يذبحوها وقد قيل إنما لم يريدوا أن يذبحوها لأن كل واحد منهم خشي أن يظهر القاتل من قبيلته وقال بعضهم " وما كادوا يفعلون " لغلاء ثمن البقرة لأنهم كانوا لا يدركون بقرة بتلك الصفة وروي عن وهب بن منبه أنه قال لم توجد تلك البقرة إلا عند فتى من بني إسرائيل كان بارا بوالديه وكان يصلي ثلث الليل وينام ثلث الليل ويجلس عند رأس أمه ويقول لها إن لم تقدري على القيام فسبحي الله وهللي وكان ورث من أبيه بقرة فلم يجد اهل تلك القرية بقرة على تلك الصفة إلا هذه البقرة فاشتروها بملئ مسكها دنانير وقال بعضهم كان رجل يبيع الجوهر فجاءه إبليس يوما من الأيام بجراب من اللؤلؤ فعرض عليه وأراد أن يبيع منه بمائة ألف وكان ذلك يساوي مائتي ألف فلما أراد أن يشتري فإذا مفتاح الصندوق كان تحت رأس أبيه وهو نائم فذهب ليوقظه ليرفع المفتاح فيدفع الثمن ثم قال في نفسه كيف أوقظ أبي لأجل ربح مائة ألف ولم يحتمل قلبه فرجع فقال أبي نائم فقال له إبليس اذهب فأيقظه فإني إبيع منك بخمسين ألفا فذهب ليوقظه فلم يحتمل قلبه فرجع فلا
(1/90)
91
يزال يحط من الثمن حتى بلغ إلى عشرة دراهم فلم يوقظه وترك ذلك الشراء فجعل الله في ماله البركة حتى اشتروا بقرته بملئ مسكها ذهبا
سورة البقرة الآيات 72 - 73
قوله تعالى " وإذ قتلتم نفسا فادار أتم فيها " أي تدافعتم أي ألقى بعضكم على بعض يقال ادارأ القوم إذا تدافعوا وقال القتبي أصله تدارأتم فأدغمت التاء في الدال وأدخل الألف ليسلم السكون للدال ويقال هذا ابتداء القصة ومعناه وإذ قتلتم نفسا فأتيتم موسى وسألتموه أن يدعو الله تعالى وقال موسى " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " وقوله تعالى " والله مخرج ما كنتم تكتمون " يعني مظهر ما كنتم تصمون من قتل عاميل
وقوله تعالى " فقلنا اضربوه ببعضها " يعني اضربوا الميت ببعض أعضاء البقرة قال بعضهم بفخذها الأيمن وقال بعضهم بلسانها وقال بعضهم بعجزها وهو عظم في أصل ذنبها ويقال عليها يتركب الخلق فأول قول شيء يخلق ذلك الموضع ثم يركب عليه سائر البدن وهو آخر الأعضاء فسادا بعد الموت فلما ضربوه جلس وأوداجه تشخب دما وقال قتلني ابنا عمي فأخذا وقتلا ولم يعط لهما من ميراثه شيئا وقال عبيدة السلماني لم يورث قاتل قط بعد صاحب البقرة
وقال تعالى " كذلك يحيى لله الموتى " كان في ذلك دليل لأولئك القوم أن البعث كائن لا محالة لأنهم رأوا الإحياء بعد الموت معاينة وكان في ذلك أيضا دليل لهذه الأمة ولمشركي العرب وغيرهم لأن الله تعالى لما أخبر محمد صلى الله عليه وسلم بذلك وأخبرهم فصدقه في ذلك أهل الكتاب ولم يكونوا على دينه فكان من أدل الدليل عليهم بالبعث
قوله تعالى " ويريكم آياته عجائبه مثل إحياء الموتى وغيره " لعلكم تعقلون " أي تفهمون أن الذي يخبركم به محمد صلى الله عليه وسلم حق
سورة البقرة الآيات 74 - 75
قوله تعالى " ثم قست قلوبكم من بعد ذلك " قال الزجاج تأويل " قست " في اللغة غلظت ويبست فتأويل القسوة في القلب ذهاب اللين والرحمة والخشوع وقوله " من بعد
(1/91)
92
ذلك ) قد قيل من بعد إحياء الميت ويحتمل بعد الآيات التي ذكرت نحو مسخ القردة والخنازير ورفع الجبل وتفجير الأنهار من الحجر وغير ذلك وقال بعض الحكماء يعني قوله " ثم قست قلوبكم " يعني يبست ويبس القلب ان ييبس عن ماءين أحدهما ماء خشية الله والثاني ماء شفقة الخلق
ثم قال تعالى " فهم كالحجارة " وكل قلب لا يكون فيه خشية الله تعالى ولا شفقة الخلق فهو كالحجارة
وقوله تعالى " أو أشد قسوة " قال بعضهم بل أشد قسوة مثل قوله " إلى مائة ألف أو يزيدون " الصافات 147 بمعنى بل يزيدون وكقوله " كلمح البصر أو هو أقرب " النحل 77 أي بل هو أقرب وكقوله " قاب قوسين أو أدنى " أي بل هو أدنى وقال بعضهم معناه وأشد قسوة والألف زائدة وقال الزجاج " أو " للتخيير يعني أن شئتم شبهتم قسوتها بالحجارة أو بما هو أشد قسوة فأنتم مصيبون كقوله عز وجل " أو كصيب من السماء " البقرة 19 ثم قال " وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار " يعني الحجر الذي تخرج منه العيون في الجبل فأعذر الحجارة وعاب قلوبهم بقساوتها حين لم تلن بذكر الله ولا بالمواعظ فقال " وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار " يعني الحجر الذي تخرج منه العيون في ا لجبل ويقال أراد به حجر موسى عليه السلام الذي كان يخرج منه العيون
قوله تعالى " وإن منها لما يشقق " يعني من الحجارة ما يتصدع " فيخرج منا الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله " ويقال كل حجر يتردى من رأس الجبل إلى الأرض فهو من خشية الله ويقال أراد به الجبل الذي صار دكا حين كلم الله موسى عليه السلام ويقال هو جميع الجبال مما زال الحجر من مكانه وقال بعضهم هو على وجه المثل يعني لو كان له عقل لهبط من خشية الله تعالى وهو قول المعتزلة وهو خلاف أقاويل أهل التفسير
قوله تعالى " وما الله بغافل عما تعملون " قرأ ابن كثير وابن عامر " يعملون " بالياء والباقون بالتاء واختلفوا في مواضع أخرى قرأ حمزة والكسائي في كل موضع " وما ربك بغافل عما يعملون " بالياء وفي كل موضع " وما ربك بغافل عما تعملون " هود123 بالتاء واختلفت الروايات عن غيرهما وهذا كلام التهديد يعني أن الله تعالى يجازيكم بما تعملون فيحذرهم بذلك
ثم ذكر التعزية للنبي صلى الله عليه وسلم لكيلا يحزن على تكذيبهم إياه وأخبره أنهم من أهل السوء الذين مضوا فقال تعالى " أفتطمعون أن يؤمنوا لكم " قال ابن عباس يعني به النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وقال بعضهم أراد به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أفتطمعون أن يصدقوكم " وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله " فإن أراد به النبي صلى الله عليه وسلم خاصة فمعناه أفتطمع أن يصدقوك وقد يذكر لفظ الجماعة ويراد به الواحد(1/92)
كما قال في آية أخرى " من فرعون وملإيهم " يونس 83
93
وقال " إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم " القصص 76 وقال تعالى " فإلم يستجيبوا لكم " هود 14 أراد به النبي صلى الله عليه وسلم خاصة كذلك هاهنا
ثم قال " وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله " قال في رواية الكلبي يعني السبعين الذين ساروا مع موسى عليه السلام إلى طور سيناء فسمعوا هناك كلام الله تعالى فلما رجعوا قال سفهاؤهم إن الله أمر بكذا وكذا بخلاف ما أمرهم فذلك قوله تعالى " وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون " يعني غيروه من بعد ما حفظوه وفهموه وقال بعضهم إنما أراد به الذين يغيرون التوراة وقال بعضهم يغيرون تأويله وهم يعلمون
سورة البقرة الآيات 76 - 78
قوله عز وجل " وإذا لقوا الذين آمنوا " يعني المنافقين منهم " قالوا " للمؤمنين " آمنا " يعني أمررنا أقررنا بالذي أقررتم به وهم منافقوا أهل الكتاب " وإذا خلا بعضهم إلى بعض " يعني إذا رجعوا إلى رؤسائهم " قالوا " بعضهم لبعض " أتحدثونهم بما فتح الله عليكم " يعني أتخبرونهم بأن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في كتابكم فيكون ذلك حجة لهم عليكم " أفلا تعقلون " أن ذلك حجة لهم عليكم " ليحاجوكم به " أي ليخاصموكم " عند ربكم " باعترافكم أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي لا تتبعوه " أفلا تعقلون " أي أفليس لكم ذهن الإنسانية لا ينبغي لكم هذا فيما بينكم
قال الله تعالى " أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون " قال بعضهم " ما يسرون " في قلوبهم " وما يعلنون " بالقول فيما بينهم وقال بعضهم " ما يسرون " فيما بينهم " وما يعلنون " مع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
قوله تعالى " ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب " يعني من أهل الكتاب وهم السفلة أميون لا يقرؤون الكتاب يقول لا يحسنون قراءة الكتاب ولا كتابته وقال الزجاج الأمي المنسوب إلى ما عليه جبلة الأمية يعني هو على الخلقة التي خلقت لأن الإنسان في الأصل لا يعلم شيئا ما لم يتعلم
وقوله عز وجل " إلا أماني " قال بعضهم إلا التلاوة وهذا كما قال في آية أخرى " إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " الحج 52 يعني في تلاوته يعني أن السفلة منهم لا يعرفون من التوراة شيئا سوى تلاوته وقال بعضهم " إلا أماني " إلا أباطيل وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال ما تغنيت ولا تمنيت أي ما تكلمت بالباطل منذ
(1/93)
94
أسلمت وروي في الخبر أن الإنسان إذا ركب دابته ولم يذكر الله تعالى صكه الشيطان في قفاه ويقول له تغن فإن لم يحسن الغناء يقول له تمن يعني تكلم بالباطل " وإن هم إلا يظنون " يعني السفلة لأنه قد ظهر لهم الكذب من رؤسائهم فكانوا يشكون في أحاديثهم وكانوا يظنون من غير يقين وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إياكم والظن فإنه من أكذب الحديث
سورة البقرة آية 79
قوله تعالى " فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم " الويل الشدة من العذاب ويقال الويل كلمة تستعمل عند الشدة ويقال يا ويلاه ويقال الويل واد في جهنم
قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر أنه قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا وكيع عن سفيان عن زياد عن ابن عباس قال الويل واد في أصل جهنم يسيل فيه صديدهم وإنما صار رفعا بالابتداء وقال الزجاج ولو كان هذا في غير القرآن لجاز فويلا على معنى فجعل ويلا للذين إلا أنه لم يقرأ وذلك أن رؤساء اليهود محوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم وكتبوا سوى نعته " ثم يقولون " للسفلة " هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا " يعني عرضا يسيرا من مال الدنيا وروي عن إبراهيم النخعي أنه كره أن يكتب المصحف بالأجرة وتأول هذه الآية " فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم " إلى قوله " ليشتروا به ثمنا قليلا " وغيره من العلماء أباحه
ثم قال " فويل لهم مما كتبت أيديهم " يعني مما يصيبهم من العذاب " وويل لهم مما يكسبون " يعني مما يصيبون فجعل لهم الويل ثلاث مرات
سورة البقرة آية 80
قوله تعالى " وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة " روي عن الضحاك أنه قال لم يكن احد من الكفار أجرأ على الله تعالى من اليهود حين قالوا " عزيز ابن الله " التوبة 30
(1/94)
95
وقالوا إن الله فقير وأيضا " وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة " أي مقدار الأيام التي عبد فيها آباؤنا العجل وهي أربعون يوما وقال مجاهد " لا أياما معدودة " أي مقدار عدد أيام الدنيا وهي سبعة أيام وهكذا روي عن عكرمة عن ابن عباس وقال بعضهم كان مذهبهم مذهب جهم في أنهم لا يرون الخلود في النار
قال الله تعالى " قل أتخذتم عند الله عهدا " قال الزجاج أعهد إليكم ألا يعذبكم إلا هذا المقدار إن كان لكم عهد " فلن يخلف الله عهده " أي وعده ويقال أعقدتم عند الله عقدا وهو عقد التوحيد " فلن يخلف الله عهده " أي وعده وقد قيل هل أنزل عليكم بذلك آية " أم تقولون على الله " أي بل تقولون على الله " ما لا تعلمون " وروي في الخبر أنه إذا مضت عليهم في النار تلك المدة قالت لهم الخزنة يا أعداء الله ذهب الأجل وبقي الأبد فأيقنوا بالخلود
سورة البقرة الآيات 81 - 82
قال الله تعالى " بلى " يعني بلى يخلد فيها " من كسب سيئة " يعني الشرك " وأحاطت به خطيئته " يعني مات على الشرك وقال بعضهم السيئة الشرك والخطيئة الكبائر وهو قول المعتزلة خذلهم الله تعالى إن أصحاب الكبائر مخلدون في النار وقال الربيع بن خثيم " وأحاطت به خطيئته " الذي يموت على الشرك قرأ نافع " خطاياه " وهو جمع خطيئة وقرأ والباقون " خطيئته " وهي خطيئة واحدة والمراد به الشرك " فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " يعني دائمين لا يخرجون منها أبدا
قوله تعالى " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " معناه والذين صدقوا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وعملوا الصالحات أي الطاعات فيما بينهم وبين ربهم يعني أدوا الفرائض وانتهوا عن المعاصي " اولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون " يعني دائمين لا يموتون ولا يخرجون
سورة البقرة آية 83
قوله تعالى " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل " يعني وقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل في التوراة يعني بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم ويقال الميثاق الأول حين أخرجهم من صلب آدم عليه السلام
وقوله " لا تعبدون إلا الله " قرأ حمزة والكسائي وابن كثير " لا يعبدون " بالياء وقرأ
(1/95)
96
الباقون بالتاء فمن قرأ بالياء فمعناه وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا يعبدوا إلا الله ومن قرأ بالتاء فمعناه وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل وقلنا لا تعبدوا إلا الله يعني أخذنا عليهم الميثاق بأن لا تعبدوا إلا الله يعني لا توحدوا إلا الله " وبالوالدين إحسانا " نصب إحسانا على معنى أحسنوا إحسانا فيكون إحسانا بدلا من اللفظ أي أحسنوا إلى الوالدين يعني برا بهما وعطفا عليهما وفي هذه الآية بيان حرمة الوالدين لأنه قرن حق الوالدين بعبادة نفسه ويقال ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لا يقبل إحداها بدون الأخرى إحداها قوله عز وجل " واطيعوا الله واطيعوا الرسول " المائدة 92 والثانية " أن اشكر لي ولوالديك " لقمان 14 والثالثة " وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة " البقرة 43 وغيرها
وقوله تعالى " وذي القربى " يعني أحسنوا إلى ذي القربى " واليتامى " يعني أحسنوا إلى اليتامى " و " إلى " المساكين " والإحسان إلى اليتامى والمساكين أن نحسن إليهم بالصدقة وحسن القول " وقولوا للناس حسنا " قرأ حمزة بنصب الحاء والسين وقرأ الباقون برفع الحاء وسكون السين فمن قرأ بالنصب يعني قولوا للناس حسنا يعني قولوا لهم قولا صدقا في نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته كما بين في كتابكم ونظيرها في سورة طه " إلم يعدكم ربكم وعدا حسنا " طه 86 أي وعدا صدقا ومن قرأ بالرفع فمعناه قولوا لجميع الناس حسنا يعني خالقوا الناس بالخلق الحسن فكأنه يأمر بحسن المعاشرة وحسن الخلق مع الناس " وأقيموا الصلاة " يعني أقروا بها وأدوها في مواقيتها " وآتوا الزكاة " المفروضة " ثم توليتم " يعني أعرضتم عن الإيمان والميثاق " إلا قليلا منكم " وهو عبد الله بن سلام وأصحابه " وأنتم معرضون " أي تاركون لما أخذ عليكم من المواثيق
سورة البقرة الآيات 84 - 86
ثم قال عز وجل " وإذ أخذنا ميثاقكم " إي إقراركم " لا تسفكون دمائكم " أي بأن لا تسفكوا دماءكم يعني لا يهريق بعضكم دماء بعض " ولا تخرجون أنفسكم " أي لا يخرج بعضكم بعضا " من دياركم " فجملة ما أخذ عليهم من الميثاق ألا يعبدوا إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ويقولوا للناس حسنا ويقيموا
(1/96)
97
الصلاة ويؤتوا الزكاة ولا يسفكوا دماءهم ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم وأن يفادوا أسراهم فذكر المفاداة بعد هذا حيث قال تعالى " وإن يأتوكم أسارى تفادوهم " تفدوهم على وجه التقديم والتأخير
قوله تعالى " ثم أقررتم وأنتم تشهدون " يعني بني قريظة والنضير يعني أقررتم بهذا كله وأنتم تشهدون ان هذا في التوراة فنقضوا العهد فعيرهم الله تعالى بذلك فقال تعالى " ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم " يعني أنتم يا هؤلاء ويقال معناه ثم أنتم هؤلاء يا معشر اليهود " تقتلون أنفسكم " أي يقتل بعضكم بعضا " وتخرجون فريقا منكم من ديارهم " يعني بعضكم بعضا لأنه كان بين الأوس والخزرج عداوة وكان قريظة وبنو النضير إحدى القبيلتين كانت معينة للأوس والأخرى كانت معينة للخزرج فإذا غلبت إحداهما على الأخرى كانت تقتلهم وتخرجهم من ديارهم وفي الآية دليل أن الإخراج من الدار ينزل منزلة القتل لأن الله تعالى قرن الإخراج من الديار بالقتل حيث قال تعالى " تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم "
وقوله " تظاهرون عليهم " قرأ أهل الكوفة وحمزة وعاصم والكسائي بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد " تظاهرون " لأن أصله تتظاهرون فأدغم إحدى التاءين في الظاء وأقيم التشديد مقامه معناه تتعاونون عليهم " بالإثم والعدوان " يعني بالمعصية والظلم قال الزجاج العدوان هو الإفراط في الظلم " وإن يأتوكم أسارى تفادوهم " قرأ عاصم والكسائي ونافع " أسارى تفادوهم " كلاهما بالألف وقرأ حمزة " أسرى تفدوهم " بغير ألف فيهما وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر " أسارى تفدوهم " الأول بالألف والثاني بغير ألف وهذا من الميثاق الذي أخذ عليهم بأن يفادوا الأسارى
وقوله تعالى " وهو محرم عليكم إخراجهم " هذا انصرف إلى ما سبق ذكره من الإخراج فكأنه يقول وتخرجون فريقا منكم من ديارهم وهو محرم عليكم يعني ذلك الإخراج كان محرما ثم بين الإخراج مرة أخرى لتراخي الكلام فقال " وهو محرم عليكم إخراجهم "
ثم قال " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض " لأنهم كانوا إذا أسروا من غيرهم قتلوا الأسرى ولا يفادوهم وإن أسر منهم أحد يأخذوهم بالفداء فهذا معنى قوله تعالى " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض "
ثم قال " فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا " يعني عقوبة من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا وهو إخراج بني النضير إلى الشام وقتل بني قريظة وقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم ثم أخبر أن الذي أصابهم في الدنيا من الخزي والعقوبة لم يكن كفارة لذنوبهم ولكنهم " ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب " ويقال الخزي في الدنيا الجزية
(1/97)
98
ثم قال " وما الله بغافل عما تعملون " أي لا يخفى على الله تعالى من أعمالهم شيء ويجازون بأعمالهم
ثم قال " أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة " يعني اختاروا الدنيا على الآخرة " فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون " ليس لهم مانع يمنعهم من العذاب
سورة البقرة آية 87
قوله تعالى " ولقد آتينا موسى الكتاب " يعني أعطينا " موسى الكتاب " يعني أعطينا موسى عليه السلام التوراة جملة واحدة ويقال الألواح " وقفينا من بعده بالرسل " يعني أتبعنا وأردفنا معناه أرسلنا رسولا على أثر رسول يقال قفوت الرجل إذا ذهبت في أثره " وآتينا " يعني أعطينا " عيسى ابن مريم البينات " يعني الآيات والعلامات مثل إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص " وأيدناه بروح القدس " قرأ ابن كثير " القدس " بسكون الدال وقرأ الباقون برفع الدال تفسيرهما واحد يعني أعانه بجبريل حين أرادوا قتله فرفعه إلى السماء وقال بعضهم " أيدناه " أي قويناه وأعناه باسم الله الأعظم الذي يحيي به الموتى
وقوله تعالى " أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم " يقول بما لا يوافق هواكم " استكبرتم " يعني تعظمتم من الإيمان قال الزجاج معناه أنفتم أن تكونوا اتباعا له لأنه كانت لهم رياسة وكانوا متبوعين فلم يؤمنوا مخافة أن تذهب عنهم الرياسة فقالوا " ففريقا كذبتم " مثل عيسى ابن مريم ومحمد صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء وسلم " وفريقا تقتلون " مثل يحيى وزكريا عليهما السلام
سورة البقرة الآيات 88 - 90
قوله تعالى " وقالوا قلوبنا غلف " قرأ ابن عباس رضي الله عنه " غلف " بضم اللام وهي قراءة شاذة وقرأ الجمهور بسكون اللام يعني ذو غلاف والواحد أغلف مثل أحمر وحمر ومعناه أنهم يقولون قلوبنا في غطاء من قولك ولا نفقه حديثك وهذا كما قال في آية أخرى
(1/98)
99
" وقالوا قلوبنا فى أكنة " فصلت5 وأما من قرأ " غلف " فهو جماعة الغلاف على ميزان حمار وحمر يعنون أن قلوبنا أوعية لكل علم ولا نفقه حديثك فلو كنت نبيا لفهمنا قولك
قال الله تعالى ردا لقولهم " بل لعنهم الله بكفرهم " يعني خذلهم الله وطردهم مجازاة لكفرهم " فقليلا ما يؤمنون " صار نصبا لأنه قدم المفعول وقال بعضهم معناه لا يؤمنون إلا القليل منهم مثل عبد الله بن سلام وأصحابه وقال بعضهم إيمانهم بالله قليل لأنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض وقال بعضهم معناه أنهم لا يؤمنون كما قال فلان قليل الخير يعني لا خير فيه
ثم قال تعالى " ولما جاءهم كتاب من عند الله " يعني القرآن " مصدق لما معهم " يعني موافقا للتوراة في التوحيد وفي بعض الشرائع ويقال " مصدق لما معهم " يعني يدعوهم إلى تصديق ما معهم لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بالتوراة " وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا " يعني من قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يستنصرون على المشركين لأن بني قريظة والنضير قد وجدوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم فخرجوا من الشام إلى المدينة ونزلوا بقربها ينتظرون خروجه وكانوا إذا قاتلوا من يليهم من مشركي العرب يستفتحون عليهم أي يستنصرون ويقولون اللهم ربنا انصرنا عليهم باسم نبيك وبكتابك الذي تنزل عليه الذي وعدتنا وكانوا يرجون أن يكون منهم فنصروا على عدوهم فذلك قوله تعالى " وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا " يعني باسم النبي صلى الله عليه وسلم " فلما جاءهم ما عرفوا " يعني عرفوا محمدا صلى الله عليه وسلم وعرفوه " كفروا به " وغيروا صفته مخافة أن تزول عنهم منفعة الدنيا
قال تعالى " فلعنة الله على الكافرين " يعني سخط الله وعذابه على الجاحدين بمحمد صلى الله عليه وسلم
ثم قال عز وجل " بئسما اشتروا به أنفسهم " قال الكلبي بئس ما باعوا به أنفسهم من الهدايا بكتمان صفة محمد صلى الله عليه وسلم ويقال بئس ما صنعوا بأنفسهم حيث كفروا بما أنزل الله عليهم بعد ما كانوا خرجوا من الشام على أن ينصروا محمدا صلى الله عليه وسلم وكفروا به حسدا منهم فذلك قوله " أن يكفروا بما أنزل الله بغيا بينهم " يعني حسدا منهم
ومعنى قوله تعالى " أن ينزل الله " يعني كفروا مما ينزل الله تعالى " من فضله " يعني لم يؤمنوا لأجل أن الله تعالى ينزل من فضله النبوة والكتاب " على من يشاء من عباده " من كان أهلا لذلك وهو محمد صلى الله عليه وسلم " فباؤوا بغضب على غضب " يعني استوجبوا اللعنة على إثر اللعنة قال مقاتل الغضب الأول حين كفروا بعيسى عليه السلام واستوجبوا الغضب الآخر حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقال الغضب الأول حين
عبدوا العجل والغضب الثاني حين استحلوا السمك في يوم السبت قرأ ابن كثير وأبو عمرو " أن ينزل الله " بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد وأنزل ينزل ونزل ينزل معناهما واحد(1/99)
100
قوله تعالى " وللكافرين عذاب مهين " أي يهانون فيه
سورة البقرة آية 91
ثم قال عز وجل " وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله " يعني صدقوا بالقرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهم يهود أهل المدينة ومن حولها " قالوا نؤمن بما أنزل علينا " في التوراة وبموسى عليه السلام " ويكفرون بما وراءه " يعني بما سواه وهو القرآن " وهو الحق مصدقا لما معهم " يعني القرآن هو المصدق وهو منزل من الله تعالى موافق لما معهم يعني أنهم إذا جحدوا بالقرآن صار جحودا بما معهم لأنهم جحدوا بما هو مصدق لما معهم فقالوا له إنك لم تأتنا بمثل الذي أتانا به أنبياؤنا ولم يكن لنا نبي إلا كان يأتينا بقربان تأكله النار
قال الله تعالى " قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل " وقد جاؤوا بالقربان والبينات أي بالعلامات " إن كنتم مؤمنين " أي إن كنتم مصدقين بالأنبياء فهذا اللفظ للمستأنف وهو قوله تعال " فلم تقتلون " ولكن المراد منه الماضي وإنما خاطبهم وأراد به آباءهم وفي الآية دليل أن من رضي بالمعصية فكأنه فاعل لها لأنهم كانوا راضين بقتل آباءهم الأنبياء فسماهم الله تعالى قاتلين وفي الآية دليل أن من ادعى أنه مؤمن ينبغي أن تكون أفعاله مصدقة لقوله لأنهم كانوا يدعون أنهم مؤمنون بما معهم قال الله تعالى " فلم تقتلون أنبياء الله " يعني أي كتاب جوز فيه قتل نبي من الأنبياء عليهم السلام وأي دين وإيمان جوز فيه ذلك يعني قتل الأنبياء
سورة البقرة آية 92
قوله تعالى " ولقد جاءكم موسى بالبينات " يعني بالآيات والعلامات ويقال بالحلال والحرام والحدود والفرائض " ثم اتخذتم العجل من بعده " يعني عبدتم العجل " من بعده " يعني بعد انطلاق موسى إلى الجبل " وأنتم ظالمون " أي كافرون بعبادتكم العجل
سورة البقرة آية 93
قوله تعالى " وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة " أي بجد ومواظبة في طاعة الله " واسمعوا " يعني قيل لهم اسمعوا " قالوا سمعنا وعصينا " قال في(1/100)
101
رواية الكلبي قالوا سمعنا قولك وعصينا أمرك ولولا مخافة الجبل ما قبلنا ويقال إنهم يقولون في الظاهر سمعنا ويضمرون في أنفسهم وعصينا أمرك
ثم قال " وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم " يعني جعل حلاوة عبادة العجل في قلوبهم مجازاة لكفرهم ويقال حب عبادة العجل فحذف الحب وأقيم العجل مقامه ومثل هذا يجري في كلام العرب كما قال في آية أخرى " وسئل القرية " يوسف 82 أي أهل القرية
ثم قال تعالى " قل بئسما يأمركم به إيمانكم " يعني بئس الإيمان الذي يأمركم بالكفر وقال مقاتل معناه إن كان حب عبادة العجل في قلوبكم يعدل حب عبادة خالقكم فبئس ما يأمركم به إيمانكم " إن كنتم مؤمنين " كما تزعمون
سورة البقرة الآيات 94 - 96
قوله تعالى " قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس " يعني الجنة وذلك أن اليهود كانوا يقولون إن الجنة لنا خاصة من دون سائر الناس قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم قل لهم إن كان الأمر كما تقولون إن الجنة لكم خاصة " فتمنوا الموت " يعني سلوا الله الموت يعني بما عملوا من المعاصي " إن كنتم صادقين " أن الجنة لكم فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم قولوا إن كنتم صادقين اللهم أمتنا فوالذي نفسي بيده لا يقولها رجل منكم إلا غص بريقه يعني يموت مكانه فأبوا أن يقولوا ذلك فنزل " ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم " يعني بما عملوا من المعاصي قال الزجاج في هذه الآية أعظم حجة وأظهر دلالة على صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قال لهم " فتمنوا الموت " وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبدا فلم يتمنه واحد منهم ويقال إن قوله " لن يتمنوه " إنما يقع على الحياة الدنيا خاصة ولا يقع على أمر الآخرة لأنهم يتمنون الموت في النار إذا كانوا في جهنم وفي هذه الآية دليل أن لفظه " لن " لا تدل على التأبيد لأنهم يتمنون الموت في الآخرة خلافا لقول المعتزلة في قوله " لن تراني " ويقال ولو أنهم سألوا الموت في الدنيا ولم يموتوا وكان في ذلك تكذيبا لقول النبي صلى الله عليه وسلم وكان في ذلك أيضا ذهاب معجزته فلما لم يتمنوا الموت ثبت بذلك عندهم أنه رسول الله وظهر عندهم معجزته وظهر أن الأمر كما عز وجل ثم قال " والله عليم بالظالمين " فهو عليم بهم وبغيرهم من الظالمين وإنما الفائدة هاهنا أنه بمجازاتهم عليم(1/101)
102
ثم قال عز وجل " ولتجدنهم أحرص الناس على حياة " يعني أن اليهود أحرص الناس على البقاء " ومن الذين أشركوا " يعني أحرص الناس على الحياة وأحرص من الذين أشركوا قال الكلبي " الذين أشركوا " يعني المجوس وقال مقاتل " أحرص الناس على حياة " وأحرص " من الذين أشركوا " يعني مشركي العرب فإن قيل كيف يصح تفسير الكلبي والمجوس لا يسمون مشركين قيل له المجوس مشركون في الحقيقة لأنهم قالوا بألهين اثنين النور والظلمة
قوله تعالى " يود أحدهم " يعني المجوس يقولون لملوكهم في تحيتهم عش عشرة آلاف سنة وكل ألف نيروز وقال مقاتل يود أحدهم يعني اليهود " لو يعمر ألف سنة " ثم قال " وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر " يعني طول حياته لا يبعده ولا يمنعه من العذاب وإن عاش ألف سنة كما تمنى " والله بصير بما يعملون " يعني عالم بمجازاتهم بأعمالهم
سورة البقرة الآيات 97 - 98
قوله تعالى " قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله " وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لليهود ما لكم لا تؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم قالوا لأن جبريل هو الذي ينزل عليه بالوحي فلو نزل عليه ميكائيل بالوحي لآمنا به لأن ميكائيل ملك الرحمة وجبريل ملك العذاب فنزلت هذه الآية ويقال إنهم كانوا يقولون إن النبوة كانت فينا فجبريل صرف النبوة عنا لعداوته معنا فنزلت هذه الآية " قل من كان عدوا لجبريل " قال بعضهم في الآية مضمر ومعناه قل من كان عدوا لجبريل فلا يبغضه فإن جبريل هو الذي ينزل بالقرآن فيقرأه عليك فتحفظه في قلبك " بإذن الله مصدقا لما بين يديه " من التوراة ويقال هذا على وجه الترغيم فكأنه يقول قل من كان عدوا لجبريل فإن جبريل هو الذي ينزل عليك رغما لهم بهذا القرآن ليقرأه عليك وليثبت به فؤادك وهذا القرآن " وهدى " هدى من الضلالة " وبشرى للمؤمنين " أي لمن آمن به من المؤمنين
ثم قال الله عز وجل " من كان عدوا لله " ومعناه من كان عدوا لجبريل فإنه عدو لله " وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين " يعني اليهود
ويقال إن عبد الله بن صوريا هو الذي قال لعمر إن جبريل عدونا لأنه ينزل بالشدة والخوف وميكائيل ينزل بالرخاء فنزلت هذه الآية " من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل فإن الله عدو للكافرين " الآية قرأ حمزة والكسائي وقرأ عاصم في رواية أبي بكر
(1/102)
103
" جبرئيل " بفتح الجيم والراء والهمزة " وميكائيل " بالياء مع الهمزة وقرأ نافع " جبريل " بكسر الجيم والراء بغير همزة " ومكال " بالهمزة بغير ياء وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية حفص بغير همزة بكسر الجيم والراء وميكال بغير همز وياء وقرأ ابن كثير جبريل بنصب الجيم " جبريل " بغير همزة و " ميكايل " بغير الهمزة والياء وقرأ ابن عامر جبريل بكسر الجيم مثل قراءة نافع وميكائيل بالياء مع المد والهمزة مثل حمزة وإنما لم ينصرف لأنه اسم أعجمي فوقع ذلك في لسان العرب فاختلفوا فيه لاختلاف ألفاظهم ولغاتهم ويقال جبريل وميكائيل بمنزلة عبد الله وعبد الرحمن يعني بلغتهم غير لغة العربية
سورة البقرة آية 99
قوله تعالى " ولقد أنزلنا إليك آيات بينات " يعني واضحات ويقال مبينات للحلال والحرام " وما يكفر بها إلا الفاسقون " يعني وما يجحد بالآيات " إلا الفاسقون " يعني الكافرين من اليهود ومشركي العرب
سورة البقرة الآيات 100 - 101
قال عز وجل " أو كلما عاهدوا عهدا " وهو العهد الذي بين لهم في التوراة ويوم الميثاق " نبذه فريق منهم " أي تركه ولم يعمل به فريق منهم أي طائفة منهم " بل أكثرهم لا يؤمنون " وقد ذكرناه
ثم قال عز وجل " ولما جاءهم رسول من عند الله " يعني محمد صلى الله عليه وسلم " مصدق لما معهم " يعني يدعوهم إلى تصديق ما معهم " نبذ فريق " يعني طرح فريق " من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم " ولم يؤمنوا به " كأنهم لا يعلمون " في كتابهم بأن محمدا رسول الله
سورة البقرة آية 102
قوله تعالى " واتبعوا ما تتلو الشياطين " يعني تقفو الشياطين ويقال ما كتبت
(1/103)
104
الشياطين ويقال ما ألقت الشياطين ويقال ما افتعلته الشياطين " على ملك سليمان " أي على عهد سليمان ويقال " على " بمعنى في أي في ملك سليمان ويقال في وقت ذهاب ملك سليمان ويقال هذا منسوب على الأول فكأنه قال نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا ما تتلو الشياطين يعني تركوا سنة أنبياء الله واتبعوا السحر ويقال تركوا شيئين واتبعوا شيئين تركوا اتباع الكتب واتباع الرسل والعمل بذلك واتبعوا ما تتلو الشياطين أي ما تدونه الشياطين " وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت "
واختلفوا في سبب ذلك قال بعضهم إن سليمان عليه السلام أمر بأن لا يتزوج إمرأة من غير بني إسرائيل فتزوج امرأة من غير بني إسرائيل يقال لها ضبنة بنت صابورا فعاقبه الله تعالى بأن اجلس مكانه الشيطان وكان الناس يظنون انه سليمان فأشكل عليهم أمره فجاؤوا إلى آصف بن برخيا وكان معلم سليمان بن داود في حال صغره وكان وزيره في حال كبره ملكه فقالوا له إن قضاياه لا تشبه قضايا سليمان فقال آصف ودخل على نساء سليمان فسألهن عن ذلك فقلن إن كان هذا سليمان فقد هلكنا وهلكتم والله ما يعتزل منا حائضا ولا يغتسل من جنابة هكذا ذكر في رواية الكلبي
وقال بعضهم هذا خطأ لأن نساء الأنبياء معافات معصومات عن الفواحش فلا يجوز أن يظن بهن أن الشيطان يقربهن وهو الأصح وقال بعضهم كان هذا على وجه الخيال لا على وجه الحقيقة لأن الشيطان روحاني وليس له جسم فلا يجوز أن تقع بينه وبين آدمي شهوة ولكن كان يريهن ذلك على وجه الخيال فلما عرف الشيطان أن الناس علموا بحاله كتب سحرا كثيرا وجعله تحت كرسيه وألقى خاتم سليمان في البحر وهرب وكان سليمان خرج إلى ساحل البحر وأجر نفسه من الملاحين كل يوم بسمكتين فلما أعطوه أجره باع إحداهما واشترى به الخبز وشق بطن الأخرى فوجد الخاتم في بطنها فرجع إلى ملكه فلما توفي سليمان جاء الشيطان على صورة آدمي وقال إن أردتم أن تعلموا علم سليمان بن داود عليهما السلام فانظروا تحت كرسيه فنظروا وحفروا ذلك الموضع وأخرجوا منه كتبا كثيرة فوجدوا فيها السحر والكفر فقال العلماء منهم لا يجوز أن يكون هذا من علم سليمان وقال السفهاء منهم بل هذا من علم سليمان فاتبعوه فنزلت هذه الآية على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء عذرا لسليمان عليه السلام
ثم قال تعالى " واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان " يعني ما كان ساحرا وفي الآية دليل أن الساحر كافر لأنه سمى السحر كفرا وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى جرير بن معاوية وهو عم الأحنف بن قيس أن اقتلوا كل ساحر وساحرة
ثم قال تعالى " ولكن الشياطين كفروا " يعني هم الذين
كتبوا السحر قرأ حمزة(1/104)
105
والكسائي " ولكن الشياطين " بكسر النون من غير تشديد ورفع النون في " الشياطين " وقرأ الباقون بتشديد النون مع النصب " ولكن الشياطين " بفتح النون في " الشياطين " وهذا هو الأصل في اللغة فإن كلمة أن لكن إذا كانت مشددة تنصب ما بعدها وإن لم تكن مشددة ترفع ما بعدها
وقال بعضهم لنزول هذه الآية سبب آخر وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ويعلمون الناس السحر وأبواب النيرنجايات فكان سليمان يأخذ ذلك منهم ويدفنه تحت الأرض فلما مات سليمان قالت الشياطين للناس إن علم سليمان مدفون في موضع كذا وكذا فحفروا ذلك الموضع وأخرجوا منه كتبا كثيرة وقال بعضهم معناه أن سليمان كان إذا أصبح كل يوم رأى نباتا بين يديه فيقول له لأي دواء أنت فيقول لكذا وكذا وإن اسمي كذا وكان سليمان يكتب ذلك فنبت يوما من الأيام نبات بين يديه فقال له سليمان ما اسمك فقال خرنوب فقال له لأي دواء أنت فقال لخراب المسجد فعلم سليمان أنه قد جاء أجله لأنه علم أن المسجد لا يخرب في حياته وكان له صحيفة فيها يكتب أسماء الأدوية ويضعها في الخزانة فكتبت الشياطين سحرا ووضعوه في ذلك الموضع فلما مات سليمان وجدوا ذلك في كتبه فاتبعه بعض الناس فذلك قوله " وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر "
ثم قال تعالى " وما أنزل على الملكين " يعني اتبعوا الذي أنزل على الملكين يعني وهما الملكان " ببابل هاروت وماروت " حدثنا القاضي الخليل بن أحمد قال حدثنا الماسرجسي فقال حدثنا إسحاق قال حدثنا حكام بن سليمان الرازي قال حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى " وما انزل على الملكين ببابل هاروت وماروت " قال إن الناس بعد آدم وقعوا في الشرك واتخذوا هذه الأصنام وعبدوا غير الله تعالى فجعلت الملائكة يدعون عليهم ويقولون ربنا خلقت عبادك فأحسنت خلقهم ورزقتهم فأحسنت رزقهم فعصوك وعبدوا غيرك فقال لهم الرب عز وجل إنهم في عذر وقيل في عيب فجعلوا لا يعذرونهم ويدعون فقال لهم الرب اختاروا منكم اثنين فأهبطهما إلى الأرض فأمرهما ونهاهما فاختاروا هاروت وماروت ) فأهبطهما الله تعالى إلى الأرض فأمرهما ونهاهما عن الزنى وقتل النفس وشرب الخمر فمكثا زمانا يحكمان في الأرض بالحق وكان في ذلك الزمان امرأة فضلت بالحسن على سائر النساء فأتيا عليها فخضعا لها بالقول وراوداها عن نفسها فقالت لا حتى تصليا لهذا الصنم فقالا هذا أمر عظيم هذا كفر بالله فأبيا ثم عبدا زمانا فأبيا عليها فخضعا لها بالقول فقالت لا حتى تصليا لهذا الصنم أو تقتلا هذه النفس أو تشربا هذا الخمر فقالا أهون الثلاثة شرب الخمر فشربا الخمر فلما شربا
الخمر وفعلا بالمرأة وقتلا النفس فكشف الغطاء(1/105)
106
فيما بينهما وبين الملائكة فنظروا إليهما وما يعملان فجعلت الملائكة بعد ذلك يعذرون أهل الأرض ويستغفرون لمن في الأرض فقيل لهاروت وماروت اختاروا إما عذاب الدنيا فهما يعذبان وإما عذاب الآخرة فقالا عذاب الدنيا يذهب وينقطع وعذاب الآخرة لا انقطاع له فاختارا عذاب الدنيا فهما يعذبان إلى يوم القيامة
وروي في الخبر أن المرأة تعلمت منهما اسم الله الأعظم فصعدت إلى السماء فمسخها الله تعالى كوكبا ويقال هو الكوكب الذي يقال له الزهرة وروي عن ابن عمر كان إذا نظر إلى الزهرة لعنها ويقول هي التي فتنت هاروت وماروت وروي عن علي رضي الله عنه هذا وقال بعضهم هذا لا يصح لأن هذا الكوكب قد كان في الأصل خلقه حين خلق النجوم وجعل مدار الأشياء على سبع من الكواكب وجعل لكل كوكب سلطانا وجعل سلطان الزهرة الرطوبة واسمها بالعبرانية ناهيذ وبالقبطية بيذخت وقال بعضهم إن كوكب الزهرة قد كان ولكن الله تعالى مسخ هذه المرأة على شبه الكوكب فهي تعذب هناك وقال بعضهم قد صارت إلى النار كما أن سائر الأشياء التي مسخت لم يبق منها أثر فذلك قوله " وما أنزل على الملكين " يعني اليهود اتبعوا " ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت "
قوله تعالى " وما يعلمان من أحد حتى " قال بعضهم هذا " ما " للنفي فكأنه يقول ولم ينزل على الملكين السحر وقال بعضهم إن إبليس قد جاء بالسحر ووضعه عند أقدامهما وهما معلقان بالسلسلة فيذهب اليهود ويتعلمون السحر من تلك الكتب والملكان يقولان " إنما نحن فتنة فلا تكفر " يعني لا تتعلم السحر لأنه لا يجوز للملكين أن يعلما الكفر وقال بعضهم ويبينان أن عمل السحر كفر وينهيان عن التعلم ويبينان كيفية السحر ويكون بمنزلة رجل قال لآخر علمني ما الزنى أو علمني ما السرقة فيقول له إن الزنى كذا وكذا وهو حرام فلا تفعل وإن السرقة كذا وكذا هي حرام فلا تفعل كذلك هاهنا الملكان يقولان السحر كذا وكذا وهو كفر فلا تكفر وقرأ بعضهم " وما أنزل على الملكين " بكسر اللام وهي قراءة شاذة يعني كانا ملكين في بني إسرائيل فمسخهما الله تعالى
وقوله تعالى " إنما نحن فتنة فلا تكفر " يعني اختبار أو ابتلاء وأصل الفتنة الاختبار
وقوله " فيتعلمون منهما " يعني من الملكين " ما يفرقون به بين المرء وزوجه " يعني فيتعلمون منهما من السحر ما يفرقون به بين الرجل وزوجته يؤخذ الرجل عن المرأة حتى لا يقدر على الجماع(1/106)
107
وقال تعالى " وما هم بضارين به من أحد " من الناس " إلا بإذن الله " أي بإرادة الله تعالى ويقال بتخلية الله تعالى " ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم " يعني ما يضرهم في الدنيا ولا ينفعهم في الآخرة ويقال ما يضرهم بعلم الله في الآخرة ولا ينفعهم في الدنيا يعني السحر
قوله تعالى " ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق " يعني اليهود علموا في التوراة أن من اختار السحر " ما له في الآخرة من خلاق " يعني نصيب والخلاق في اللغة هو النصيب الوافر
وقوله تعالى " ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون " يقول لبئس ما باعوا به أنفسهم ويقال بئس ما اختاروا لأنفسهم السحر على كتاب الله تعالى وسنن أنبيائه لو كانوا يعلمون ولكنهم لا يعلمون فإن قيل ذكر في الآية الأولى " ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق " وفي هذه الآية يقول " لو كانوا يعلمون " فمرة يقول يعلمون ومرة يقول لا يعلمون فالجواب أن يقال إنهم يعلمون ولكن لا منفعة لهم من علمهم وكل عالم لا يعمل بعلمه فليس بعالم لأنه يتعلم العلم لكي ينتفع به فإذا لم ينتفع به فكأنه لم يعلم فكذلك ها هنا " لو كانوا يعلمون " لو كانوا يوفون للعلم حقه
سورة البقرة الآيات 103 - 104
قال الله تعالى " ولو أنهم آمنوا واتقوا " يعني اليهود ولو صدقوا بثواب الله واتقوا السحر " لمثوبة من عند الله خير " يعني كان ثواب الله تعالى خيرا لهم من السحر والمثوبة والثواب بمعنى واحد وهو الجزاء على العمل وكذلك الأجر " لو كانوا يعلمون "
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا " فهذا نداء المدح يقول " يا أيها الذين آمنوا " صدقوا بتوحيد الله تعالى وبمحمد صلى الله عليه وسلم " لا تقولوا راعنا " وذلك أن المسلمين كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون له يا رسول الله " راعنا " وهو بلغة العرب أرعنا سمعك وأصله في اللغة من راعيت الرجل إذا تأملته وتعرفت أحواله وكان هذا اللفظ بلغة اليهود سبا بالرعونة فلما سمعت اليهود ذلك من المسلمين أعجبهم ذلك فقالوا فيما بينهم كنا نسب محمدا سرا فالآن نسبه علانية فكانوا يقولون حين يأتونه راعنا يا محمد ويريدون به السب
وقال بعضهم كان في لغتهم معناه اسمع لا سمعت فنزلت هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا " فنهى المسلمين أن لا يقولوا بهذا اللفظ وأمرهم أن يقولوا بلفظ أحسن منه
وقال الله تعالى " وقولوا انظرنا واسمعوا " أي أطيعوا ما تؤمرون به ثم ذكر الوعيد(1/107)
108
للكفار فقال " وللكافرين عذاب أليم " يعني اليهود وقرأ الحسن " راعنا " بالتنوين وقال القتبي من قرأ " راعنا " بالتنوين جعله اسما منه مثاله أن تقول لا تقولوا حمقا
سورة البقرة آية 105
قوله تعالى " ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب " يعني يهود أهل المدينة ونصارى أهل نجران " ولا المشركين " يعني مشركي العرب " أن ينزل عليكم من خير من ربكم " يعني أن ينزل على رسولكم من الوحي وشرائع الإسلام لأنهم كانوا كفارا فيحبون أن يكون الناس كلهم كفارا مثلهم وهذا كما قال في آية أخرى " ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء " النساء 89 فأخبر الله تعالى أن الأمر ليس على مرادهم حيث قال تعالى " والله يختص برحمته من يشاء " يعني يختار للنبوة من يشاء من كان أهلا لذلك ويكرم بدينه الإسلام من يشاء " والله ذو الفضل العظيم " يعني ذا المن العظيم لمن اختصه بالنبوة والإسلام وقال مقاتل كان قوم من الأنصار يدعون حلفاءهم ومواليهم من اليهود إلى الإسلام فقالوا للمسلمين أنكم الذي تدعوننا ما هو خير مما نحن فيه وددنا لو أنكم على هذا الدين فنزل قوله تعالى " والله يختص برحمته من يشاء " يعني بدينه الإسلام من يشاء ونظيرهما في سورة هل أتى " يدخل من يشاء في رحمته " الشورى 8 يعني في دينه الإسلام
سورة البقرة آية 106
قوله تعالى " ما ننسخ من آية " قرأ ابن عامر " ما ننسخ " برفع النون وكسر السين وقرأ الباقون " ما ننسخ " بالنصب ومعناهما واحد وقرأ أبو عمرو وابن كثير " أو ننسأها " بنصب النون والسين والهمز وقرأ الباقون " أو ننسها " برفع النون وكسر السين بغير همز فمن قرأ " ننسأها " أي نؤخرها ومنها النسيئة في البيع وهو التأخير ومن قرأ " ننسها " أي نتركها مثل قوله تعالى " نسوا الله فنسيهم " التوبة 67 أي تركهم في النار وقال ابن عباس في رواية أبي صالح في قوله تعالى " ما ننسخ من آية " فلا نعمل بها " أو ننسها " أي ندعها غير منسوخة ثم قال تعالى " نأت بخير منها أو مثلها " يعني ألين وأهون منها على الناس " أو مثلها " في المنفعة وقال الزجاج النسخ في اللغة هو إبطال شيء وإقامة شيء آخر مقامه والعرب تقول نسخت الشمس الظل إذا أزالته " أو ننسها " أي نتركها بمعنى أي نأمركم بتركها وقال أبو عبيد القاسم بن سلام النسخ له ثلاثة مواضع ولكل منها شواهد ودلائل فأحدها ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال " ما ننسخ من آية " يعني نبدلها ونوضحها وما روي عن(1/108)
109
مجاهد أنه قال نثبت خطها ونبدل حكمها فهذا هو المعروف عند الناس والنسخ الثاني أن ترفع الآية المنسوخة بعد نزولها ولهذا دلائل جاءت فيه من ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى ذات يوم صلاة الغداة فترك آية فلما فرغ من صلاته قال هل فيكم أبي قالوا نعم قال هل تركت من آية قالوا نعم تركت آية كذا أنسخت أم نسيت قال لا ولكن نسيت وجاءت الآثار في نحو هذا أن الآية قد تنسخ بعد نزولها وترفع والنسخ الثالث تحويله من كتاب إلى كتاب وهو ما نسخ من أم الكتاب فأنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " ننساها " أي نتركها في اللوح المحفوظ
وقال بعضهم لا يجوز النسخ فيما يرفع كله بعد نزوله لأن الله تعالى قال " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " الحجر 9 وقال " إن علينا جمعه وقرءانه " القيامة 17 ولكن أكثر أهل العلم قالوا يجوز ذلك والنسخ يجوز في الأمر والنهي والوعد والوعيد ولا يجوز في القصص والأخبار لأنه لو جاز ذلك يكون كذبا والكذب في القرآن لا يجوز ثم قال تعالى " ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير " يعني من الناسخ والمنسوخ
سورة البقرة آية 107
قوله تعالى " ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض " يحكم فيهما ما يشاء بالأمر ثم يأمر غيره قال الزجاج الملك في اللغة هو تمام القدرة وأصل هذا من قولهم ملكت العجين إذا بالغت في عجنه ومعنى الآية أن الله يملك السموات والأرض وما فيهما فهو أعرف بما يصلحهم فيما يتعبدهم به من ناسخ ومنسوخ ومتروك وغير متروك وكان اليهود أعداء الله ينكرون النسخ وكانوا يقولون حين تحولت القبلة إلى الكعبة لو كنتم على الحق فلم رجعتم ولو كان هذا الثاني حقا فقد كنتم على الباطل وكانوا لا يرون النسخ في الشرائع لأن ذلك حال البداء ولا يجوز ذلك على الله ولكن الجواب أن يقال إن الله تعالى يدبر في أمره ما يشاء كما أنه يخلق الخلق ولم يكونوا ثم يميتهم بعد ذلك ثم يحييهم كذلك يجوز أن يأمر ثم بأمر بغير ذلك كما أن شريعة موسى لم تكن من قبل فأمره بذلك والمعنى في ذلك أنه حين أمرهم بالأمر الأول كان الصلاح في ذلك الأمر ثم إذا أمر بأمر آخر كان الصلاح في ذلك الوقت في الأمر الثاني وهذا هو معنى قوله " ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض " يعني هو أعلم بأمر الخلق وما يصلحهم في كل وقت
ثم بين الوعيد لمن لم يؤمن بالناسخ والمنسوخ فقال " وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير " يعني عذاب الله من " ولي " أي من قريب ينفعكم " ولا نصير " أي مانع يمنعكم من عذاب الله تعالى(1/109)
110
سورة البقرة آية 108
قوله تعالى " أم تريدون أن تسألوا رسولكم " قال مقاتل معناه أتريدون أن تسألوا رسولكم " كما سئل موسى من قبل " يعني كما سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام حيث قالوا " أرنا الله جهرة " النساء 153 ويقال إن اليهود سألوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يطلبوا القربان كما كان لموسى وروي عن الضحاك أنه قال دخل جماعة من كفار قريش منهم أبو جهل وغيره فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت نبيا فاكشف عنا الغطاء حتى نرى الله جهرة فنزلت هذه الآية " أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل " حيث قالوا " أرنا الله جهرة " ثم قال " ومن يتبدل الكفر بالإيمان " أي يختار الكفر على الإيمان " فقد ضل سواء السبيل " يعني أخطأ قصد السبيل وهو طريق الهدى
سورة البقرة آية 109
قوله تعالى " ود كثير من أهل الكتاب " وذلك أن المسلمين لما أصابتهم المحنة يوم أحد قالت اليهود لعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان قد أصابكم ما أصابكم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم فنزلت هذه الآية " ود كثير من أهل الكتاب " يعني يريد ويتمنى كثير من أهل الكتاب " لو يردونكم " يعني يصدونكم ويردونكم عن التوحيد " من بعد إيمانكم كفارا " إلى الكفر
ثم أخبر أن هذا القول لم يكن منهم على وجه النصيحة ولكن هذا القول كان " حسدا " منهم " من بعد ما تبين لهم " ما في التوراة أنه " الحق " يعني أن دين محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق " فاعفوا واصفحوا " يقول اتركوهم وأعرضوا عنهم " حتى يأتي الله بأمره " يعني الأمر بالقتال وكان ذلك قبل أن يؤمر بقتال أهل الكتاب ثم أمرهم بعد ذلك بقتالهم وهو قوله تعالى " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله " إلى قوله " حتى يعطوا الجزية " التوبة29 " إن الله على كل شيء قدير " من النصرة للمسلمين على الكفار ويقال هو قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير
سورة البقرة آية 110(1/110)
111
قوله تعالى " وأقيموا الصلاة " يعني أقروا بالصلاة وأدوها في مواقتيها بركوعها وسجودها وخشوعها " وآتوا الزكاة " يعني أعطوا الزكاة المفروضة
ثم قال " وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله " يعني ما تصدقتم من الصدقة وتعملون من العمل الصالح تجدوه عند الله محفوظا يجزيكم به ونظير هذا ما قال في آية أخرى " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا " آل عمران 30 وقال " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره " الزلزلة 7 وذكر أنه مكتوب في بعض الكتب يا ابن آدم ضع كنزك عندي لا سرق ولا حرق ولا فساد تجده حين تكون أحوج إليه
ثم قال تعالى " إن الله بما تعملون بصير " يعني عالما بأعمالكم يجازيكم بالخير خيرا وبالشر شرا
سورة البقرة الآيات 111 - 112
قوله تعالى " وقالوا " يعني اليهود والنصارى وهم يهود أهل المدينة ونصارى أهل نجران " لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى " فاليهود جماعة الهائد وإنما أراد به اليهود وهذا من جوامع الكلم وهذا كلام على وجه الاختصار فكأنه يقول وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا قال الله تعالى ردا لقولهم " تلك أمانيهم " أي ظنهم وأباطيلهم وهذا كما يقال للذي يدعي ما لا يبرهن عليه إنما أنت متمن وإنما يراد به إنك مبطل في قولك
ثم قال تعالى " قل هاتوا برهانكم " يعني حجتكم من التوراة والإنجيل " أن كنتم صادقين " يعني بأن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهوديا أو نصرانيا
قوله تعالى " بلى من أسلم وجهه لله " معناه بل يدخل الجنة غيركم من أسلم وجهه لله يعني من أخلص دينه لله وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم " وهو محسن " في عمله " فله أجره عند ربه " يعني ثوابه في الآخرة " ولا خوف عليهم " من العذاب حين يخاف أهل النار " ولا هم يحزنون " ولا هم يحزنون على ما فاتهم من أمر الدنيا ويقال الخوف إنما يستعمل في المستأنف والحزن في الماضي كما قال الله تعالى " لكيلا تأسوا على ما فاتكم " الحديد 23 ويقال الخوف ثلاثة خوف الأبد وخوف الانقطاع وخوف الحشر والحساب فأما خوف الأبد فيكون أمنا للمسلمين وخوف العذاب على الانقطاع يكون أمنا للتائبين وخوف الحشر والحساب يكون أمنا للمحسنين والمحسنون يكونون آمنين من ذلك(1/111)
112
سورة البقرة آية 113
قوله تعالى " وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء " يعني من أمر الدين وروي عن ابن عباس أنه قال صدقوا ولو حلفوا على ذلك ما حنثوا لأن كل فريق منهم ليس على شيء " وهم يتلون الكتاب " يعني عندهم ما يخرجهم من ذلك الاختلاف أن لو نظروا فيه وقال الزجاج معناه كلا الفريقين يتلون الكتاب وبينهم هذا الاختلاف فدل ذلك على ضلالتهم " كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم " يعني الذين ليسوا من أهل الكتاب قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا " فالله يحكم بينهم يوم القيامة " يعني أنه يريهم من يدخل الجنة عيانا يدخل النار عيانا ويبين لهم الصواب " فيما كانوا فيه يختلفون " في الدنيا
سورة البقرة آية 114
قوله تعالى " ومن أظلم " قال في رواية الكلبي ومن أكفر وقال بعضهم هذا التفسير غير سديد لأن الكفر كله سواء ولكن معنى قول الكلبي ومن أكفر يعني من أشد في كفره لأن الكفار وإن كانوا كلهم في الكفر سواء فربما يكون بعضهم في كفره أشد شرا من غيره قال الكلبي نزلت هذه الآية في شأن ططوس بن أسفيانوس الرومي حيث خرب بيت المقدس وألقى فيه الجيفة وكان خرابا إلى زمن عمر رضي الله عنه فذلك قوله تعالى " ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها " ثم قال " أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين " فلم يدخلها بعد عمارتها رومي إلا خائفا ومستخفيا لو علم به قتل قال قتادة هم النصارى وقال مجاهد هم اليهود والنصارى ويقال من أراد أن يكون ملكا عليهم لا يمكنه ذلك ما لم يكن دخل مسجد بيت المقدس فيجيء ويدخله مستخفيا
ثم قال الله تعالى " لهم في الدنيا خزي " يعني بفتح مدائنهم الثلاثة قسطنطينة وعمورية وأرمينية وقال بعضهم لنزول الآية سبب آخر وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج عام الحديبية إلى مكة ومنعه أهل مكة فرجع ولم يدخلها منها تلك السنة فنزلت هذه الآية " ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها " يعني سعى في منع المسلمين عن الصلاة وذكر الله فيها لأن عمارة المسجد بالصلاة وذكر الله فيها وخرابها في ترك ذلك " أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين " يعني بعد فتح مكة فلا يقربون المسجد الحرام بعد عامهم هذا إلا خائفين(1/112)
113
قوله تعالى " لهم في الدنيا خزي " وهو فتح مكة " ولهم في الآخرة عذاب عظيم " لمن مات على كفره أو قتل وروى الزجاج عن بعض أهل العلم قال نزلت في شأن جميع الكفار لأن الكفار كانوا يقاتلون المسلمين ويمنعونهم من الصلاة فقد منعوا المسلمين عن جميع المساجد لأن الأرض كلها جعلت مسجدا وطهورا فمعناه ومن أظلم ممن خالف ملة الإسلام قال ومعنى قوله " أولئك ما كان لهم أن يدخلوها " يعني دار الإسلام يعني يظهر الإسلام على سائر الأديان كقوله تعالى " ليظهره على الدين كله " التوبة 23 وغيرها
سورة البقرة آية 115
قوله تعالى " ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله " قد اختلفوا في سبب نزول هذه الآية روي عن ابن عباس أنه قال خرج رهط من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصابهم الضباب فمنهم من صلى إلى المشرق ومنهم من صلى إلى المغرب فلما طلعت الشمس وذهب الضباب استبان لهم ذلك فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك فنزلت هذه الآية " ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله " يعني " فأينما تولوا " وجوهكم في الصلاة " فثم وجه الله " قال بعضهم فثم قبلة الله وقال بعضهم فثم رضا لله وقال بعضهم فثم ملك الله وروى عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه أن قوما خرجوا إلى السفر وذكر القصة نحو هذا وقال بعضهم المراد به الصلاة على الدابة
قال الفقيه حدثنا محمد بن سعيد الترمذي قال حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال حدثنا علي بن شيبة قال حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته تطوعا حيث ما توجهت به وهو جاء من مكة ثم تلا ابن عمر " ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله " قال ابن عمر في هذا نزلت هذه الآية
وقال بعضهم لنزول هذه الآية سبب آخر وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس فلما أمر بالتحويل إلى الكعبة قالت اليهود مرة يصلون هكذا ومرة يصلون هكذا فنزلت هذه الآية " ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله "
ثم قال " إن الله واسع عليم " يعني الواسع الجواد المحسن يقبل اليسير ويعطي الجزيل عليم بصلواتكم ويقال " واسع " يعني يوسع عليكم أمر الشرائع ولم يضيق عليكم الأمر ويقال " واسع " يعني واسع الفضل ويقال " واسع " الغني عن صلاة الخلق وإنما(1/113)
114
يطلب منهم النية الخالصة " عليم " بنياتكم وقال الزجاج معنى قوله " فثم وجه الله " يعني اقصدوا وجه الله بنيتكم القبلة كقوله " وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره " البقرة 144و150
سورة البقرة الآيات 116 - 117
قال عز وجل " وقالوا اتخذ الله ولدا " قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام " قالوا " بغير واو وقرأ الباقون بالواو ومعناهما واحد لأن الواو للعطف وذلك أن اليهود قالوا عزيز ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقال بعض المشركين الملائكة بنات الله فالله " سبحانه " نزه نفسه عن الولد " بل له ما في السموات والأرض " كلهم عبيده " كل له قانتون " يعني مطيعون ومقرون بالعبودية مجيبون للطاعة وقد قيل إن لفظ الآية عام والمراد به الخاص
وقوله " كل له قانتون " يعني به المؤمنين خاصة ويقال معناه أثر صنعه وشواهد توحيده ودلائل ربوبيته في جميع ما في السموات والأرض ويقال " كل له قانتون " يعني كل خلق لا يستطيع أن يغير نفسه عن خلقته فأخبر الله تعالى أن جميع ما في السموات والأرض له خالق الأشياء والمستغني عن الولد سبحانه وتعالى
ثم قال عز وجل " بديع السموات والأرض " يعني خالقهما والإبداع في اللغة إنشاء شيء لم يسبق إليه على غير مثال ولا مشورة وإنما قيل لمن خالف السنة مبتدع لأنه أتى بشيء لم يسبقه إليه الصحابة ولا التابعون ومعناه هو خالق السموات والأرض " وإذا قضى أمرا " يعني إذا أراد أن يخلق خلقا " فإنما يقول له كن فيكون " ويقال هذه الآية نزلت في شأن وفد نجران السيد والعاقب وغيرهما وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت خلقا من غير أب فنزلت هذه الآية " وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " كما كان عيسى بن مريم عليه السلام خلقه من غير أب فإن قيل قوله " كن " هذا خطاب للموجود أو للمعدوم فإن قال الخطاب للمعدوم قيل له كيف يصح الخطاب لشيء معدوم وكيف يصح الإشارة إليه بقوله " كن " فإن قال الخطاب للموجود قيل له كيف يأمر الشيء الكائن بالكون فالجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن الأشياء كلها كانت موجودة في علم الله تعالى قبل كونها فكان الخطاب للموجود في علمه وجواب آخر أن معناه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون يعني إذا أراد أن يخلق خلقا يخلقه والقول فيه على وجه المجاز قرأ ابن عامر " فيكون " بالنصب لأن جواب الأمر بالفاء وقرأ الباقون بالرفع على معنى الإستئناف يعني فهو يكون(1/114)
115
سورة البقرة آية 118
قوله تعالى " وقال الذين لا يعلمون " أي لا يعلمون توحيد الله تعالى ومعناه وقال الجهال من الناس وهم الكفار " لولا يكلمنا الله " يعني هلا يعلمنا الله فيخبرنا بأنك رسوله " أو تأتينا آية " يعني علامة لنبوتك
قال الله تعالى " كذلك قال الذين من قبلهم " يعني اليهود لموسى عليه السلام " أرنا الله جهرة " النساء 153 " تشابهت قلوبهم " يعني في القسوة والكفر ويقال تشابهت كلمتهم كما تشابهت قلوبهم في القسوة والكفر
قال تعالى " قد بينا الآيات " يعني في التوراة أي العلامات إنك نبي مرسل في الصفة والنعت ويقال قد بينا العلامات لنبوتك ويقال لم يكن لنبي من الأنبياء معجزة وعلامة إلا وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم مثلها " لقوم يوقنون " يعني مؤمني أهل التوراة ويقال من كان له عقل وتمييز
سورة البقرة الآيات 119 - 120
قوله تعالى " إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا " يعني بالقرآن ويقال " بالحق " أي لأجل الحق ويقال أي بالدعوة إلى الحق ويقال ببيان الحق " بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم " قرأ نافع " ولا تسأل " بنصب التاء وجزم اللام والباقون برفع التاء واللام فمن قرأ بالرفع فمعناه أنك إذا بلغت الرسالة فإنك قد فعلت ما عليك " ولا تسأل عن أصحاب الجحيم " عما فعلوا وهذا كما قال في آية أخرى " فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب " الرعد 4 ومن قرأ بالنصب فهو في معنى النهي أي " لا تسأل عن أصحاب الجحيم " أي عما فعلوا
قال الفقيه حدثنا القاضي الخليل بن أحمد أخبرنا الدبيلي قال أخبرنا أبو عبيد الله قال حدثنا سفيان عن موسى بن عبيدة الربذي عن محمد بن كعب القرظي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليت شعري ما فعل بأبوي فنزلت هذه الآية " إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا " " ولا تسأل عن أصحاب الجحيم "(1/115)
116
قوله تعالى " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى " يعني يهود أهل المدينة ونصارى أهل نجران " حتى تتبع ملتهم " يعني تصلي إلى قبلتهم " قل إن هدى الله هو الهدى " يعني إن قبلة الله هي الكعبة " ولئن اتبعت أهواءهم " يعني صليت إلى قبلتهم " بعد الذي جاءك من العلم " يعني من بعد ما ظهر لك أن القبلة هي الكعبة " ما لك من الله من ولي " ينفعك " ولا نصير " يعني مانع يمنعك ويقال معناه " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " يعني حتى تدخل في دينهم وذلك أن الكفار كانوا يطلبون الصلح وكان يرى أنهم يسلمون فأخبره الله تعالى أنهم لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم فنهاه الله عن الركون إلى شيء مما يدعون إليه فقال تعالى " قل إن هدى الله هو الهدى " يعني دين الله هو دين الإسلام " ولئن اتبعت أهواءهم " وهذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه أمته يعني لئن اتبعت دينهم بعد ما جاءك من العلم يعني ما ظهر أن دين الإسلام هو الحق " ما لك من الله " أي من عذاب الله " من ولي " ينفعك " ولا نصير " أي مانع يمنعك عنه
" الذين ءاتينهم الكتب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون "
قوله تعالى " الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته " يعني مؤمني أهل الكتاب يصفونه في كتبهم حق صفته لمن سألتهم قال مجاهد يتبعونه حق اتباعه وقال قتادة ذكر لنا أن ابن مسعود قال والله إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأ حق قراءته كما أنزل الله تعالى ولا يحرف عن مواضعه ويقال يقرؤونه حق قراءته " أولئك يؤمنون به " يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدقونه " ومن يكفر به " يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقال بالقرآن " فأولئك هم الخاسرون " وهو كعب بن الأشرف وأصحابه ويقال نزلت هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب وهم اثنان وثلاثون رجلا قدموا مع جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة وكانوا يتبعون القرآن حق اتباعه
سورة البقرة الآيات 122 - 123
قوله تعالى " يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم " إلى قوله " ولا هم ينصرون " قد ذكرناها من قبل(1/116)
117
سورة البقرة آية 124
قوله تعالى " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " قرأ ابن عامر " أبرهام " وروي عنه أنه قرأ " أبراهم " وهي لغة بعض العرب وقرا غيره " إبراهيم " في جميع القرآن وهو اسم أعجمي ولهذا لا ينصرف وروي عن ابن عباس أنه قال أمر الله تعالى إبراهيم بعشر خصال من السنن خمس في الرأس وخمس في الجسد وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا
حدثنا أبي قال حدثنا محمد بن الفضل البلخي قال حدثنا أبو بشر محمود بن مهدي قال حدثنا يزيد بن هارون عن الحجاج بن أرطأة عن عطاء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر مما علمهن وعمل بهن أبوكم إبراهيم عليه السلام خمس في الرأس وخمس في الجسد فأما التي في الرأس فالسواك والمضمضة والاستنشاق وقص الشارب وإعفاء اللحية وأما التي في الجسد فالختان والاستحداد والاستنجاء ونتف الإبط وقص الأظفار ويقال " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " يعني اختبره والاختبار من الله تعالى أن يظهر حاله ليستوجب الثواب أو العقاب لأن الله تبارك وتعالى لا يعطي الثواب والعقاب ما لم يظهر منه ما يستوجب به الثواب أو العقاب بما يعلم كما علم من إبليس الكفر ولم يلعنه بما لم يختبره وأظهر منه ما يستوجب به اللعنة والعقوبة
وقوله عز وجل " فأتمهن " يعني عمل بهن ويقال كان إبراهيم أفضل الناس في زمانه وأكرم على الله تعالى فابتلاه الله عز وجل بخصال لم يبتل بذلك غيره فكان من الابتلاء أن أمه ولدته في غار ومن الابتلاء حيث نظر إلى الكوكب فقال هذا ربي وروي عن الحسن أنه قال الإبتلاء كان ثلاثة أشياء أوله الابتلاء بالكوكب والقمر والشمس والثاني بالنار والثالث بأمر سارة ويقال كل من كان أكرم على الله كان ابتلاؤه أشر لكي يتبين فضله ويستوجب الثواب كما روي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه يا بني الذهب والفضة(1/117)
118
يختبران بالنار والمؤمن يختبر بالبلايا " فأتمهن " يعني عمل بهن ويقال " فأتمهن " فوفى بهن فلما وفى الأمر جعله الله تعالى إماما للناس ليقتدى به وفي هذا دليل أن الإنسان لا يبلغ درجة الأخيار إلا بالتعب وجهد النفس فلما جعله الله تعالى إماما " قال " له " إني جاعلك للناس إماما " و الإمام الذي يؤتم به فأعجبه ذلك وتمنى أن يكون ذلك لذريته مثل ذلك " قال ومن ذريتي " يعني اجعلهم أئمة يقتدى بهم
قال الله تعالى " لا ينال عهدي الظالمين " يعني الكافرين يعني لا يصلح أن يكون الكافر إماما للناس ويقال لا تصيب رحمتي الكافرين فالله تعالى أخبره أنه يكون في ذريته كفار وأخبره أنه لا ينال مثل ما عهده إليه من كان كافرا
قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص " لا ينال عهدي الظالمين " بسكون الياء والباقون بنصب الياء " عهدي الظالمين " وهما لغتان ومعناهما واحد
سورة البقرة آية 125
قوله تعالى عز وجل " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا " يقول وضعنا البيت يعني الكعبة معادا لهم يعودون إليه مرة بعد مرة وقال قتادة مجمعا للناس يثوبون إليه من كل جهة وفي كل سنة فلا يقضون منها وطرا " وأمنا " يعني جعلناه أمنا لمن التجأ إليه يعني من وجب عليه القصاص ولهذا قالوا لو أن رجلا وجب عليه القصاص فدخل الحرم لا يقتص منه في الحرم وهكذا روي عن ابن عمر أنه قال لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هيجته يعني ما أزعجته ولكن يمنع منه المنافع حتى يضجر فيخرج فيقتص منه ويقال " آمنا " لغير الممتحنين وهي الصيود إذا دخلت الحرم صارت أمنة ويقال آمنا من الجذام
ثم قال تعالى " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " قرأ نافع وابن عامر " واتخذوا " بنصب الخاء على وجه الخبر معناه جعلناه مثابة فاتخذوه مصلى وقرأ الباقون بكسر الخاء على معنى الأمر
حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الدبيلي قال حدثنا أبو عبد الله قال حدثنا سفيان عن زكريا بن أبي زائدة عمن حدثه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت يوم الفتح فلما فرغ من طوافه أتى المقام فقال هذا مقام أبينا إبراهيم الخليل فقال عمر أفلا تتخذه مصلى يا رسول الله فأنزل الله تعالى " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " ويقال المسجد الحرام كله مقام إبراهيم هكذا روي عن مجاهد وعطاء
قوله تعالى " وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل " أي أمرنا إبراهيم وإسماعيل " أن طهرا بيتي " يعني مسجدي من الأوثان ويقال من جميع النجاسات ثم قال " للطائفين " أي(1/118)
119
طهرا المسجد من الأوثان والنجاسات لأجل الطائفين الذين يطوفون بالبيت وهم الغرباء " والعاكفين " وهم أهل الحرم المقيمون بمكة من مكة وغيرهم " والركع السجود " يعني أهل الصلاة من كل وجه من الآفاق قرأ نافع وعاصم في رواية حفص " طهرا بيتي " بنصب الياء وقرأ الباقون بسكون الياء
سورة البقرة آية 126
قوله تعالى " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا " يعني الحرم " وارزق أهله من الثمرات " فاستجاب الله تعالى دعاءه فتحمل الثمار إلى مكة من كل جهة فيوجد فيها في كل وقت من أنواع الثمار فاشترط إبراهيم في دعائه فقال " من آمن منهم بالله واليوم الآخر " وإنما اشترط هذا الشرط لأنه قد سأل الإمامة لذريته فلم يستجب له في الظالمين فخشي إبراهيم أن يكون أمر الرزق هكذا فسأل الرزق للمؤمنين خاصة فأخبره الله تعالى أنه يرزق الكافر والمؤمن وأن أمر الرزق ليس كأمر الإمامة قالوا لأن الأمامة فضل والرزق عدل فالله تعالى يعطي بفضله من يشاء من عباده من كان أهلا لذلك وعدله لجميع الناس لأنهم عباده وإن كانوا كافرين فذلك قوله تعالى " قال ومن كفر فأمتعه قليلا " قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام " فأمتعه " بالتخفيف من أمتعت وقرأ الباقون بالتشديد من متعت يعني سأرزقه في الدنيا يسيرا " ثم أضطره " يعني مصيره ويقال ملجأه " إلى عذاب النار وبئس المصير " إذا صاروا إليه
سورة البقرة الآيات 127 - 129
قوله تعالى " وإذ يرفع إبراهيم " يعني يبني إبراهيم " القواعد " يعني أساس البيت يعني الكعبة والقواعد جماعة الأساس واحدها قاعدة " وإسماعيل " يعني إسماعيل يعينه قال مقاتل وفي الآية تقديم وتأخير معناه وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت ويقال إن إبراهيم كان يبني البيت وإسماعيل يعينه والملائكة يناولون الحجر من إسماعيل وكانوا ينقلون الحجر من خمسة أجبل طور سيناء وطور زيتاء والجودي ولبنان وحراء فلما فرغا من البناء قالا " ربنا تقبل منا " يعني أعمالنا " إنك أنت السميع " السميع لدعائنا " العليم " بنياتنا(1/119)
120
وفي الآية دليل أن الإنسان إذا عمل خيرا ينبغي أن يدعو الله بالقبول ويقال ينبغي أن يكون خوف الإنسان على قبول العمل بعد الفراغ أشد من شغله لأن الله تعالى قال " إنما يتقبل الله من المتقين " المائدة 27 وروي في الخبر أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لما فرغا من البناء جثيا على الركب وتضرعا وسألا القبول فقال جبريل لإبراهيم قد أجيب لك فاسأل شيئا آخر قالا " ربنا واجعلنا مسلمين لك " يعني مخلصين لك ويقال واجعلنا مثبتين على الإسلام ويقال مطيعين لك ويقال وأمتنا على الإسلام
ثم قال " ومن ذريتنا أمة مسلمة لك " يعني اجعل بعض ذريتنا من يخلص لك ويثبت على الإسلام ثم قال " وأرنا مناسكنا " يعني علمنا أمور مناسكنا وقال القتبي الرؤية المعاينة في اللغة كقوله عز وجل " ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة " الزمر60 وقوله تعالى " وإذا رأيت ثم رأيت نعيما " الإنسان20 ويقال يذكر الرؤية ويراد بها العلم كقوله تعالى " ألم تر الذين كفروا " وكقوله تعالى " أرنا مناسكنا " أي عملنا وكقوله " لتحكم بين الناس بما أراك الله " قرأ ابن كثير ومن تابعه من أهل مكة " وأرنا " بسكون الراء في جميع القرآن والباقون بكسر الراء وهما لغتان والكسر أظهر وأفصح
وقال ابن عباس في رواية أبي صالح " ربنا واجعلنا مسلمين لك " يعني مطيعين وموحدين لك واجعل " من ذريتنا " جماعة موحدة مطيعة لك ويقال أشكل عليهما موضع البيت فبعث الله تعالى سحابة فقالت له ابن بخيالي فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت بخيال السحابة ثم قال تعالى " وأرنا مناسكنا " أي " وتب " يعني تجاوز عنا الزلة " إنك أنت التواب " المتجاوز " الرحيم " بعبادك
ثم قال " ربنا وابعث فيهم رسولا " قال مقاتل لأن إبراهيم علم أن في ذريته من يكون كفارا فسأل الله تعالى أن يبعث فيهم رسولا فقال " ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك " يعني القرآن " ويعلمهم الكتاب " أي القرآن " والحكمة " يعني الموعظة التي في القرآن من الحلال والحرام ويقال علم التفسير " ويزكيهم " أي يطهرهم من الكفر والشرك ويقال يأمرهم بالزكاة لتطهر أموالهم قال مقاتل استجاب الله دعاءه في سورة الجمعة وهو قوله تعالى " هو الذي بعث في الأمين رسولا منهم يتلوا عليهم ءايته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة " الجمعة 2 وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أنا دعوة إبراهيم وبشرى عيسى يعني قوله " ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " الصف 6
وقوله عز وجل " إنك أنت العزيز الحكيم " المنيع الذي لا يغلبه شيء ويقال(1/120)
121
" العزيز " الذي لا يوجد مثله ويقال الذي لا يعجزه شيء عما أراد ويقال " العزيز " بالنقمة ينتقم ممن شاء ممن عصاه " الحكيم " في أمره الذي يكون عمله موافقا للعلم
سورة البقرة آية 130
قوله تعالى " ومن يرغب عن ملة إبراهيم " يقول عن سنته ودينه وهو الإسلام ويقال لفظه لفظ الإستفهام ومعناه التقريع والتوبيخ ويقال " ومن " ها هنا بمعنى ما فكأنه يقول ومن يرغب عن دين إبراهيم " إلا من سفه نفسه " قال أبو عبيدة إلا من أهلك نفسه وقال الأخفش معناه إلا من سفه من نفسه وهذا كما قال في آية أخرى " ولا تعزموا عقدة النكاح " البقرة 235 يعني على عقدة النكاح ويقال إلا من جهل أمر نفسه فلا يتفكر فيه كما قال في آية أخرى " وفي أنفسكم أفلا تبصرون " الذاريات 21 قال الكلبي ومن يرغب عن دين إبراهيم الإسلام والحج والطواف إلا من خسر نفسه
ثم قال " ولقد اصطفيناه في الدنيا " يقول اخترناه في الدنيا للنبوة والرسالة والإسلام والخلة " وإنه في الآخرة لمن الصالحين " يعني في الجنة ويقال مع الصالحين في الجنة وهو أفضل الصالحين ما خلا محمدا صلى الله عليه وسلم
سورة البقرة الآيات 131 - 132
قوله تعالى " إذ قال له ربه أسلم " قال ابن عباس يعني أخلص ويقال معناه قل لا إله إلا الله ويقال معناه استقم على ما أنت عليه ويقال حين خرج من السرب نظر إلى الكوكب والقمر والشمس فابتلي بذلك فألهمه الله تعالى الإخلاص فقال " إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض " الأنعام 79 الآية فهذا معنى قوله " أسلم " يعني أخلص دينك لله فقال إبراهيم " أسلمت لرب العالمين " يعني أخلصت ديني لرب العالمين ويقال معناه فوض أمرك إلى الله فقال فوضت أمري إلى الله
ثم قال عز وجل " ووصى بها إبراهيم بنيه " يعني بشهادة أن لا إله إلا الله قرأ نافع وابن عامر " وأوصى " وقرأ الباقون " ووصى " ووصى وهو أبلغ من أوصى لأنه لا يكون إلا لمرات كثيرة وقوله " بها " يرجع إلى الملة والملة هي السنة والمذهب ويقال إنه جمع بنيه عند موته لأنه خشي عليهم كيد إبليس فجمعهم وأوصاهم بأن يثبتوا على الإسلام قال مقاتل " ووصى بها إبراهيم بنيه " الأربعة إسماعيل وإسحاق ومدين ومداين ثم أوصى بها " يعقوب " بنيه وهم اثنا عشر ابنا وذلك حين دخل مصر فرآهم يعبدون الأصنام فأوصى(1/121)
122
بنيه بأن يثبتوا على الإسلام وكان له اثنا عشر ابنا روبيل وشمعون ويهوذا نفتالي ولاوي وزيالون ويشجر ودان واسترقفا وجادو ويوسف وبنيامين
وقال الله تعالى " إن الله اصطفى لكم الدين " يعني اختار لكم دين الإسلام " فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون " يعني اثبتوا على الإسلام وكونوا بحال لو أدرككم الموت يدرككم على الإسلام وأنتم مخلصون بالتوحيد فقالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه بدين اليهودية
سورة البقرة آية 133
فأنزل الله تعالى " أم كنتم شهداء " يعني أكنتم حضورا حين " حضر يعقوب الموت " وإنما لم ينصرف " شهداء " لمكان ألف التأنيث في آخره وإذا دخلت ألف التأنيث أو هاء التأنيث في آخر الكلام فإنه لا ينصرف معناه إنكم تدعون ذلك كأنكم كنتم حضورا في ذلك الوقت يعني أنكم تقولون ما لا علم لكم بذلك والله تعالى يخبر ويبين أن وصيته كانت بخلاف ما قالت اليهود
ثم قال تعالى " إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي " يعني من بعد موتي " قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم " روي عن الحسن البصري أنه قرأ " قالوا نعبد إلهك وإله أبيك إبراهيم " وقرأ غيره " قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق " وإسماعيل كان عم يعقوب ولكن العم بمنزلة الأب بدليل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عم الرجل صنو أبيه ثم قال " إلها واحدا " يعني نعبد إلها واحدا " ونحن له مسلمون " يعني مخلصون له بالتوحيد
سورة البقرة آية 134
قال تعالى " تلك أمة قد خلت " يعني جماعة قد مضت " لها ما كسبت " يعني جزاء ما عملت " ولكم ما كسبتم " يعني جزاء ما عملتم من خير أو شر " ولا تسألون عما كانوا يعملون " وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يقولون نحن على دينهم فقال لهم " تلك أمة قد خلت " لا تقدرون عليهم يشهدوا لكم فلهم ما عملوا وإنما لكم ما تعملون وإنما ينظر اليوم إلى أعمالكم ولا ينفعكم من أعمالهم شيء(1/122)
123
سورة البقرة آية 135
قوله تعالى " وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " وذلك أن يهود المدينة ونصارى أهل نجران اختصموا فقال كل فريق ديننا أصوب ونبينا أفضل فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أينا أفضل فقال لهم كلكم على الباطل فأعرضوا عنه فنزلت هذه الآية " وقالوا كونوا هودا أو نصارى " يعني اليهود قالوا كونوا على دين اليهودية والنصارى قالوا كونوا على دين النصرانية تهتدوا من الضلالة
قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم " قل بل ملة إبراهيم حنيفا " وإنما نصب الملة على معنى بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا ويقال معناه واتبعوا ملة إبراهيم وقال مقاتل بل الدين ملة إبراهيم حنيفا يعني مخلصا وقال القتتبي " حنيفا " يعني مستقيما ويقال للأعرج حنيف نظرا إلى السلامة كما يقال للديغ سليم وللجبانة مفازة وإن كانت مهلكة وقال الزجاج أصل الحنيف إذا كان أصابع الرجل مقبلا بعضها إلى بعض إقبالا لا تنصرف عن ذلك أبدا فكذلك كان إبراهيم عليه السلام مقبلا على دين الإسلام مائلا عن الأديان كلها " وما كان من المشركين " ولكنه كان على دين الإسلام فقال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كيف نقول حتى لا نكذب أحدا من الأنبياء فعلمهم الله تعالى فقال عز وجل
سورة البقرة الآيات 136 - 137
قال عز وجل " قولوا آمنا بالله " يعني صدقنا بالله بأنه واحد لا شريك له " وما أنزل إلينا " يعني صدقنا بما أنزل إلينا يعني بما أنزل على نبينا " ومآ أنزل إلى إبراهيم " يعني صدقنا بما أنزل على إبراهيم من الصحف " و " ما أنزل إلى " إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط " وهم ولد يعقوب كان له اثنا عشر ابنا فصار أولاد كل واحد منهم سبطا والسبط بلغتهم بمنزلة القبيلة للعرب وإنما أنزل على أنبيائهم وكانوا يعملون به فأضاف إليهم كما أنه أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فأضاف إلى أمته فقال " وما أنزل إلينا " فكذلك الأسباط أنزل على أنبيائهم فأضاف إليهم لأنهم كانوا يعملون به
ثم قال تعالى " ومآ أوتي موسى وعيسى " يعني التوراة والإنجيل " ومآ أوتي النبيون من ربهم " يعني وما أنزل على الأنبياء من الله تعالى وقد آمنا بجميع الأنبياء وبجميع الكتب(1/123)
124
" لا نفرق بين أحد منهم " كما فرقت اليهود والنصارى " ونحن مسلمون " يعني مخلصون له بالتوحيد
ثم قال عز وجل للمؤمنين " فإن آمنوا " يعني اليهود والنصارى " بمثل مآ آمنتم به " يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم " فقد اهتدوا " من الضلالة " وإن تولوا " يقول اعرضوا عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبجميع الأنبياء " فإنما هم في شقاق " يعني في خلاف من الدين ويقال في ضلال والشقاق في اللغة له ثلاثة معان أحدها العداوة مثل قوله تعالى و " لا يجرمنكم شقاقي " هود 89 والثاني الخلاف مثل قوله " وإن خفتم شقاق بينهما " النساء 35والثالث الضلالة مثل قوله " وإن الظالمين لفي شقاق بعيد " الحج 53
وقوله تعالى " فسيكفيكهم الله " يعني يدفع الله عنكم مؤنتهم وقال الزجاج هذا ضمان من الله تعالى النصر لنبيه أنه سيكفيه إياهم بإظهاره على كل دين سواه كقوله تعالى " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي " المجادلة 21 يعني أن عاقبة الأمر كان لهم قال مقاتل يعني قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير " وهو السميع " بقولهم للمؤمنين حيث قالوا كونوا هودا أو نصارى " العليم " بعقوبتهم
سورة البقرة آية 138
ثم فضل دين محمد صلى الله عليه وسلم على كل دين فقال عز وجل " صبغة الله " يقول اتبعوا دين الله والزموه لا دين اليهود والنصارى " ومن أحسن من الله صبغة " يعني أي دين أحسن من دين الله تعالى وهو دين الإسلام " ونحن له عابدون " يقول اثبتوا على ذلك
وقوله تعالى " ونحن له عابدون " أي موحدون مقرون وذلك أن النصارى إذا ولد لأحدهم ولد غمروه في اليوم السابع في ماء لهم ليطهروه بذلك ويقولون هذا طهور مكان الختان وهم صنف من النصارى يقال لهم المعمودية
قال الله تعالى " ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون " أي مطيعون ولنا الختان طهور طهر الله تعالى به إبراهيم عليه السلام وروى عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال " أختتن إبراهيم عليه السلام بالقدوم وهو ابن مائة وعشرين سنة " والقدوم موضع بالشام ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة وقال القتبي هذا من الاستعارة حيث سمى الختان صبغة لأنهم كانوا يصبغون أولادهم في ماء قال الله تعالى " صبغة الله " لا صبغة النصارى يعني اتبعوا دين الله والزموا دين الله(1/124)
125
سورة البقرة آية 139
ثم قال الله عز وجل " قل " يا محمد ليهود أهل المدينة ونصارى أهل نجران " اتحاجوننا في الله " يعني أتخاصمونا في دين الله وقال الزجاج نزلت هذه الآية في اليهود الذين يظاهرون المشركين فقال انتم تقولون أنكم توحدن الله ونحن نوحد الله تعالى فلم تظاهرون علينا من لا يوحد الله تعالى والله " ربنا وربكم ولنا أعمالنا " إي ثواب أعمالنا " ولكم " ثواب " أعمالكم ونحن له مخلصون " مقرون له بالوحدانية مخلصون له بالعبادة
سورة البقرة آية 140
قوله تعالى " أم تقولون " قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " أم تقولون " بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ الباقون بالياء " أم يقولون " " إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى " يعني إن تعلقتم أيضا بدين الأنبياء فنحن على دينهم وقد آمنا بجميع الأنبياء فإن ادعيتم أن الأنبياء كانوا على دين اليهودية أو النصرانية " قل أنتم أعلم " بذلك " أم الله " والله تعالى أخبر أنهم كانوا على دين الإسلام وقد بين ذلك في كتبهم ثم قال " ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله " لأن الله تعالى قد أخذ عليهم الميثاق بأن يبينوه فكتموه
قال الله تعالى " وما الله بغافل عما تعملون " يعني لا يخفى على الله من عملهم شيء فيجازيهم بذلك ويقال هذا القول وعيد للظالم وتعزية للمظلوم
سورة البقرة الآية 141
ثم قال عز وجل " تلك أمة قد خلت " الآية وقد ذكرناها
سورة البقرة الآية 142
قوله تعالى " سيقول السفهاء من الناس " يعني الجهال من الناس وهم اليهود والمنافقون ويقال هم أهل مكة " ما ولاهم " يقول ما الذي صرفهم " عن قبلتهم التي كانوا عليها " يعني التي صلوا إليها من قبل وذلك أن الأنصار قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين كانوا يصلون إلى بيت المقدس فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صلى إلى بيت المقدس ثمانية عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا فلما صرفت قبلته إلى الكعبة فقال أهل مكة إذا حركت القبلة إلى الكعبة رجع محمد إلى قبلتنا فعن قريب يرجع إلى ديننا فأنزل الله تعالى " قل لله المشرق(1/125)
126
والمغرب ) يقول الصلاة إلى بيت المقدس والصلاة إلى الكعبة لله إذا كان بأمر الله " يهدي من يشاء " إلى قبلة الكعبة " يهدي من يشاء " أي يرشد من يشاء " إلى صراط مستقيم " يعني دينا يرضاه روي عن أبي العالية الرياحي أنه قال رأيت مسجد صالح عليه السلام وقبلته إلى الكعبة وقال وكان موسى عليه السلام يصلي من الصخرة نحو الكعبة وهي قبلة الأنبياء كلهم صلوت الله عليهم
سورة البقرة آية 143
قوله تعالى " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " والوسط هو العدل كما قال آية أخرى " قال أوسطهم " القلم 28 أي أخيرهم وأعدلهم والعرب تقول فلان من أوسط قومه أي خيارهم وأعدلهم ومنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم هو أوسط قريش حسبا أي جعلناكم عدلا للخلائق " لتكونوا شهداء على الناس " للنبيين " ويكون الرسول عليكم شهيدا " بالتصديق لكم وذلك أن الله تعالى إذا جمع الخلق يوم القيامة فيسأل الأنبياء عن تبليغ الرسالة لقوله تعالى " ليسئل الصادقين عن صدقهم " الأحزاب 8 فيقولون قد بلغنا الرسالة فتنكر أممهم تبليغ الرسالة فتشهد لهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم بتبليغ الرسالة فتطعن الأمم في شهادتهم فيزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم فذلك معنى قوله تعالى " لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " ومعنى قوله " وكذلك " أي وكما هديتكم للإسلام ولقبلة الكعبة فكذلك " جعلناكم أمة " عدلا لتكونوا شهداء على الناس وللآية تأويل آخر " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " أي عدلا " لتكونوا شهداء على الناس " يقول إنكم حجة على جميع من خلقنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم حجة عليكم والشهادة في اللغة هي البيان فلهذا يسمى الشاهد بينة لأنه يبين حق المدعي يعني أنكم تبينون لمن بعدكم والنبي صلى الله عليه وسلم يبين لكم
قوله تعالى " وما جعلنا القبلة التي كنت عليها " يعني ما أمرناك بالصلاة إلى القبلة الأولى ويقال ما حولنا القبلة التي كنت عليها " إلا لنعلم " يقول إلا لنميز ونبين " من يتبع الرسول " يعني من يطيع الرسول في تحويل القبلة " ممن ينقلب على عقبيه " أي يرجع إلى دينه بعد تحويل القبلة " وإن كانت لكبيرة " أي وقد كانت لثقيلة وهو صرف القبلة " إلا على الذين هدى الله " يعني حفظ الله قلوبهم على الإسلام وأكرمهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم في تحويل القبلة وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا يا رسول الله فإخواننا الذين ماتوا ما صنع الله بصلاتهم التي صلوا إلى بيت المقدس فأنزل الله تعالى " وما كان الله ليضيع إيمانكم " يعني صلاتهم إلى بيت المقدس التي صلوا إليها وماتوا عليها ويقال إن اليهود(1/126)
127
قالوا قد بطل إيمانكم حيث تركتم القبلة فنزل " وما كان الله ليضيع إيمانكم " يعني يبطل إيمانكم وإنما تحولت قبلتكم قال الضحاك يعني لم يبطل تصديقكم بالقبلتين
ثم قال تعالى " إن الله بالناس لرؤوف رحيم " يعني بالمؤمنين رحيم حين قبلها منهم ولم يضيع إيمانهم قرأ أبو عمرو حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " لرؤف " بالهمزة على وزن رعف وقرأ الباقون " رؤوف " على وزن رؤف في جميع القرآن وهما لغتان ومعناهما واحد
سورة البقرة الآيات 144 - 145
قوله تعالى " قد نرى تقلب وجهك في السماء " يعني رفع بصرك إلى السماء وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل وددت لو أن الله تعالى صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها وإنما أراد الكعبة لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام وقبلة الأنبياء عليهم السلام ولأنها كانت أدعى للعرب إلى الإسلام فقال جبريل إنما أنا عبد مثلك لا أملك شيئا فاسأل ربك فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء فأنزل الله تعالى " قد نرى تقلب وجهك في السماء " يعني رفع بصرك إلى السماء " فلنولينك " يعني فلنحولنك ولنوجهنك في الصلاة " قبلة ترضاها " يقول تهواها إلى الكعبة فأمره الله تعالى بالتوجه فقال " فول وجهك شطر المسجد الحرام " يعني نحوه وتلقاءه " وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره "
ثم قال تعالى " وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم " يعني أن القبلة إلى الكعبة هو الحق وهي قبلة إبراهيم عليه السلام وقوله تعالى " وما الله بغافل عما يعملون " يعني جحودهم القبلة إلى الكعبة فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ائتنا بعلامة على تصديق مقالتك وهم اليهود والنصارى فنزل قوله تعالى " ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب " وهم اليهود والنصارى " بكل آية " يعني بكل علامة " ما تبعوا قبلتك " أي ما صلوا إلى قبلتك " وما أنت بتابع قبلتهم " أي ما أنت بمصل إلى قبلتهم " وما بعضهم بتابع قبلة بعض " ويقال معناه كيف ترجو ان يتبعوك ويصلوا إلى قبلتك وهم لا يتبعون بعضهم بعضا
ثم قال تعالى " ولئن اتبعت أهواءهم " هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه أمته يعني لئن صليت إلى قبلتهم واتبعت مذهبهم " من بعد ما جاءك من العلم " أي البيان أن دين الإسلام(1/127)
128
هو الحق والكعبة هي القبلة " إنك إذا لمن الظالمين " أي الضارين بنفسك
سورة البقرة الآيات 146 - 147
قوله تعالى " الذين آتيناهم الكتاب " وهم مؤمنو أهل الكتاب " يعرفونه " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته " كما يعرفون أبناءهم " بين الغلمان قال عبد الله بن سلام والله لأنا كنت أشد معرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم مني بابني فقال له عمر وكيف ذلك يا ابن سلام فقال لأني أشهد أنه رسول الله حقا وصدقا يقينا وأنا لا أشهد بذلك على ابني لأني لا أدري ما أحدثت النساء بعدي فقال له والله يا ابن سلام لقد صدقت أو أصبت
ثم قال تعالى " وإن فريقا منهم " يعني طائفة من اليهود " ليكتمون الحق " في كتابهم " وهم يعلمون " أنه نبي مرسل قال مقاتل إن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لم تطوفون بالبيت المبني بالحجارة فقال لهم إنكم تعلمون أن الطواف بالبيت حق وإنه هو القبلة مكتوب في التوراة فجحدوا فنزل " الذين آتيناهم الكتاب " يعني التوراة يعرفون أن البيت قبلة كما يعرفون أبناءهم " وإن فريقا منهم ليكتمون الحق " في أمر القبلة و " هم يعلمون " ذلك
ثم قال تعالى " الحق من ربك " يا محمد قبلة إبراهيم " فلا تكونن من الممترين " يعني من الشاكين إنهم يعرفون أنها قبلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام
سورة البقرة الآية 148
قوله تعالى " ولكل وجهة " أي قبلة والوجهة والجهة والوجه بمعنى واحد أي لكل ذي ملة قبلة " هو موليها " أي مستقبلها وقيل لكل دين وملة قبلة " هو موليها " قرأ ابن عامر وهو مولاها يعني إليه موليها وقرأ الباقون بالكسر يعني هو بنفسه موليها وقال مقاتل لكل أهل ملة قبلة هم مستقبلوها يريدون بها الله تعالى " فاستبقوا الخيرات " يعني قال لهذا الأمة فاستبقوا بالطاعات وهذا كما قال في آية أخرى " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " المائدة48 يعني لكل قوم شريعة وسبيلا فإذا أخذوا بالسنة والمنهاج رضي عنهم فأمر الله تعالى أهل هذه الشرائع أن يستبقوا الخيرات في الأعمال الصالحة
ثم قال تعالى " أينما تكونوا " في الأرض " يأت بكم الله جميعا " يعني يقبض أرواحكم يعني يجمعكم يوم القيامة
وقال مجاهد " ولكل وجهة هو موليها " أمر كل قوم بأن يحولوا وجوههم إلى الكعبة(1/128)
129
ويقال ولكل أمة قبلكم قبلة أمرتهم بأن يستقبلوها " فاستبقوا الخيرات " يقول بادروا الأمم بالطاعات
ثم قال تعالى " أينما تكونوا يأت بكم الله " يعني يقبض أرواحكم ويجمعكم يوم القيامة " إن الله على كل شيء قدير " أي هو قادر على جمعكم يوم القيامة
سورة البقرة الآيات 149 - 150
ثم قال عز وجل " ومن حيث خرجت " يقول حيث صليت " فول وجهك " بالصلاة " شطر المسجد الحرام " يعني نحوه وتلقاءه " وإنه للحق من ربك " أي التوجه إلى الكعبة بالصلاة هو الحق من ربكم " وما الله بغافل عما تعملون " يعني يجازيكم بأعمالكم " ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس " أي لكي لا يكون لليهود " عليكم حجة " لأنهم يعلمون أن الكعبة هي القبلة فلا حجة لهم عليكم " إلا الذين ظلموا منهم " يعني إلا من ظلم باحتجاجه فيما وضح له كما يقول الرجل لصاحبه مالك علي حجة إلا أن تظلمني وقال بعضهم " إلا الذين ظلموا " يعني ولا الذين ظلموا لا حجة لهم عليكم وذكر عن أبي عبيدة أنه قال " إلا الذين ظلموا " أي ولا الذين ظلموا فهذا موضع واو العطف فكأنه قال ليس للناس عليكم حجة ولا الذين ظلموا منهم
قوله تعالى " فلا تخشوهم " بانصرافكم إلى الكعبة " واخشوني " في تركها قرأ نافع في رواية ورش " ليلا " بغير همز والباقون " لئلا " بالهمز لأن أصله لأن لا وإنما أسقط نافع الهمزة للتخفيف ثم قال تعالى " ولأتم نعمتي عليكم " بتحويل القبلة وبإرسال الرسول " ولعلكم تهتدون " أي لكي تهتدوا من الضلالة
سورة البقرة الآية 151
قوله تعالى " كما أرسلنا فيكم رسولا منكم " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " يتلو عليكم آياتنا " يعني القرآن وقوله " منكم " يعني من العرب ويقال آدمي مثلكم لأنه لو كان من الملائكة لا تستطيعون النظر إليه فأرسل آدميا مثلكم يتلو عليكم القرآن " ويزكيكم " قال(1/129)
130
الكلبي يقول ويصلحكم بالزكاة وقال مقاتل يعني يطهركم من الشرك والكفر " ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون " وقال الزجاج خاطب به العرب أنه بعث رسولا منكم وأنتم كنتم أهل الجاهلية لا تعلمون الكتاب والحكمة فكما أنعمت عليكم بالرسالة فاذكروني بالتوحيد ويقال قوله " كما " وصل بما قبله ومعناه ولأتم نعمتي كما أرسلنا فيكم رسولا منكم ويقال وصل بما بعده ومعناه " كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم " " ويعلمكم الكتاب والحكمة " فاعرفوا هذه النعمة واذكروني بالتوحيد )
سورة البقرة الآية 152
قوله تعالى " فاذكروني " بالتوحيد " أذكركم " يقول اذكروني بالطاعة أذكركم بالمغفرة فحق على الله أن يذكر من ذكره فمن ذكره في طاعته ذكره الله تعالى بخير ومن ذكره من أهل المعصية في معصية ذكره الله باللعنة وسوء الدار ويقال " فاذكروني " في الرخاء " أذكركم " عند البلاء ويقال " فاذكروني " في الضر " أذكركم " بالمخرج ويقال " فاذكروني " في الخلاء " أذكركم " في الملأ ويقال " اذكروني " في ملأ من الناس " أذكركم " في ملأ من الملائكة
قال الفقيه حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا محمد بن الفضيل الضبي عن الحصين عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال ما اجتمع قوم يذكرون الله تعالى إلا ذكرهم الله في ملأ أعز منهم وأكرم وما تفرق قوم من مجلس لا يذكرون الله في مجلسهم إلا كانت حسرة عليهم يوم القيامة ويقال اذكروني في الدنيا بالإخلاص أذكركم في الآخرة بالإخلاص ويقال اذكروني بالشكر أذكركم بالزيادة ويقال اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة
ثم قال تعالى " واشكروا لي ولا تكفرون " يعني اشكروا نعمتي التي أرسلت فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ولا تجحدوا هذه النعمة ويقال النعمة في الحقيقة هي العلم وما سوى ذلك فهو تحويل من راحة إلى راحة وليس الطعام بنعمة لأن الطعام إذا أكله الإنسان فبعد ساعة يطلب منه الفرج والثوب الحسن ربما يمل منه إذا كان يؤذيه الحر أو البرد والعلم لا يمل منه صاحبه بل ربما يطلب له الزيادة فأمر الله تعالى بشكر هذه النعمة التي بعث رسولا ليعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون(1/130)
131
سورة البقرة الآيات 153 - 154
ثم قال عز وجل " يا أيها الذين آمنوا " يعني صدقوا بتوحيد الله تعالى وهذا نداء المدح وقد ذكرنا قبل هذا أن النداء على ست مراتب وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال إذا سمعت الله يقول " يا أيها الذين آمنوا " فارع له سمعك فإنه أمر تؤمر به أو نهي تنهى عنه
" استعينوا بالصبر والصلاة " يقول استعينوا بالصبر على أداء الفرائض وبالصلاة خاصة قال الزجاج استعينوا بالصبر على ما أنتم عليه وإن أصابكم مكروه وقال مجاهد " استعينوا بالصبر " أي بالصوم والصلاة وقال الضحاك " استعينوا بالصبر " على صوم شهر رمضان وعلى الصلوات الخمس ويقال الصبر هو الصبر بعينه ذكر في هذه الآية الطاعة الظاهرة والطاعة الباطنة فأمر بالصبر والصلاة لأنه ليس شيء من الطاعة الظاهرة أشد على البدن من الصلاة لأنه يجتمع فيها أنواع الطاعات الخضوع والإقبال والسكون والتسبيح والقراءة فإذا تيسر عليه الصلاة تيسر عليه ما سوى ذلك وليس بشيء من الطاعات الباطنة أشد على البدن من الصبر فأمر بالصبر والصلاة لأنه حسن
ثم قال " إن الله مع الصابرين " فالله تعالى مع كل واحد ولكن خص الصابرين لكي يعلموا أن الله سبحانه وتعالى يفرج عنهم
قوله تعالى " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " قال الضحاك هم النفر الذين قتلوا عند بئر معونة وقال الكلبي هم الذين قتلوا ببدر قتل يومئذ من المسلمين أربعة عشر رجلا وكان الناس يقولون مات فلان ومات فلان فأنزل الله تعالى " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " يعني هم في الحكم كالأحياء لأنه يجري ثوابهم إلى يوم القيامة ولأنهم يسرحون في الجنة حيث شاؤوا كما قال في آية أخرى " عند ربهم يرزقون فرحين " آل عمران 169 " ولكن لا تشعرون " البقرة 154
سورة البقرة الآيات 155 - 157
قوله تعالى " ولنبلونكم " يعني المؤمنين " بشيء من الخوف " يقول لنختبرنكم بخوف العدو وهو الخوف الذي أصابهم يوم الخندق حتى بلغت القلوب الحناجر " والجوع " وهو القحط الذي أصابهم فكان يمضي على أحدهم أيام لا يجد طعاما " ونقص من(1/131)
132
الأموال ) يعني ذهاب أموالهم ويقال موت الماشية " والأنفس " يعني الموت والقتل والأمراض " والثمرات " أي نقص الثمار فلا تخرج الثمرة كما كانت تخرج أو تصيبها الآفة ويقال الثمرات هي موت الولد وهو ثمرة القلب
ثم قال تعالى " وبشر الصابرين " يعني الذين يصبرون على هذه المصائب والشدائد التي ذكر في هذه الآية
ثم وصفهم فقال عز وجل " الذين إذا أصابتهم مصيبة " صبروا ولم يجزعوا و " قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون " يعني يقولون نحن عبيد الله وفي ملكه إن عشنا فعليه أرزاقنا وإن متنا فإليه مردنا وإليه راجعون بعد الموت ونحن راضون بحكمه
قوله تعالى " أولئك " يعني أهل هذه الصفة " عليهم صلوات من ربهم ورحمة " والصلاة من الله تعالى على ثلاثة أشياء توفيق الطاعة والعصمة عن المعصية ومغفرة الذنوب فبالصلاة الواحدة يكون لهم هذه الأشياء الثلاثة فقد وعد لهم الصلوات الكثيرة ومقدار ذلك لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى
ثم قال تعالى " وأولئك هم المهتدون " أي الموفقون للاسترجاع وروي عن سعيد بن جبير أنه قال لم يكن الاسترجاع إلا لهذه الأمة ألا ترى أن يعقوب عليه الصلاة والسلام قال " يا أسفى على يوسف " يوسف 84 فلو كان له الاسترجاع لقال ذلك وروي عن عثمان بن عطاء عن أبيه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكر مصيبة أو ذكرت عنده فاسترجع جدد الله ثوابه كيوم أصيب بها ) وعن عطاء بن أبي رباح قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصابته مصيبة فليذكر مصيبتي فإنها من أعظم المصائب وروي هذان الحديثان عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال نعم العلاوة ونعم العدلان فالعدلان قوله تعالى " أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة " والعلاوة قوله تعالى " وأولئك هم المهتدون "
سورة البقرة الآية 158(1/132)
133
قوله تعالى " إن الصفا والمروة من شعائر الله " قال أهل اللغة الصفا الحجارة الصلبة التي لا تنبت بها شيء والواحدة صفاة يقال حصى وحصاة والمروة الحجارة اللينة والشعائر علامة متعبداته واحدها شعيرة يعني أن الطواف بالصفا والمروة من أمور المناسك " فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " روي عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ " فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " وروي عن ابن عباس وأنس بن مالك أنهما كانا يقرآن كذلك ومعنى ذلك أن من حج البيت أو اعتمر فترك السعي لا يفسد حجه ولا عمرته ولكن يجب عليه جبر النقصان وهو إراقة الدم وفي مصحف الإمام " فلا جناح عليه أن يطوف بهما " بحذف كلمة لا وذلك أن في الجاهلية كان لهم صنمان على الصفا والمروة أحدهما يقال له إساف والآخر نائلة وكان المشركون يطوفون بين الصفا والمروة ويستلمون الصنمين فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء وكان الأنصار لا يسعون فيما بين الصفا والمروة ويقولون السعي فيما بينهما من أمر المشركين فنزلت هذه الآية ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة طاف بالبيت والمسلمون معه فلما سعى بين الصفا والمروة رفع المسلمون أزرهم وشمروا قمصهم كيلا يصيب ثيابهم ذلك الصنمان فنزل قوله تعالى " إن الصفا والمروة من شعائر الله " يعني من أمور المناسك " فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " يعني لو أصاب ثياب ذلك لا يضره ولا إثم عليه فخرج عمر فتناول المعول وكسر الصنمين
قال الفقيه حدثنا أبو جعفر قال حدثنا علي بن أحمد قال حدثنا محمد بن الفضل عن يعلى بن منبه عن صالح بن حيان عن أبي بريدة عن أبيه قال دخل جبريل المسجد فبصر بالنبي صلى الله عليه وسلم نائما في ظل الكعبة فأيقظه فقام وهو ينفض رأسه ولحيته من التراب فانطلق به نحو باب بني شيبة فلقيهما ميكائيل فقال جبريل لميكائيل ما يمنعك ان تصافح النبي صلى الله عليه وسلم فقال أجد من يده ريح نحاس فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم أفعلت ذلك وكان النبي صلى الله عليه وسلم نسي ذلك ثم ذكر فقال صدق أخي مررت أول أمس على إساف ونائلة فوضعت يدي على أحدهما وقلت إن قوما رضوا بكما آلهة مع الله تعالى لقوم سوء
قال صالح قلت لأبي بريدة وما أساف ونائله قال كانا إنسانين من قريش يطوفان بالكعبة فوجدوا منها خلوة فراود أحدهما صاحبه فمسخهما الله تعالى نحاسا فجاءتهما بهما قريش وقالوا لولا أن الله رضي بأن نعبد هذين الإنسانين ما مسخهما نحاسا وأساف كان رجلا ونائلة كانت امرأة قال الزجاج الجناح في اللغة أخذ من جنح إذا مال وعدل عن المقصد وأصل ذلك من جناح الطير
قوله تعالى " ومن تطوع خيرا " قرأ حمزة
والكسائي بالياء وجزم العين " يطوع " لأن الأصل يتطوع أدغمت التاء في الطاء وشددت وقرأ الباقون " تطوع " على معنى الماضي(1/133)
134
والمراد به الاستقبال يعني إذا زاد في الطواف حول البيت على ما هو واجب عليه " فإن الله شاكر " يقبله منهم " عليم " بما نووا وقال القتبي يطوف أصله يتطوف فأدغمت التاء في الطاء الجناح الإثم ويقال إن الله شاكر يقبل اليسير ويعطي الجزيل ويقال إن الله شاكر بقبول أعمالكم " عليم " بالثواب ويقال الطواف للغرباء أفضل من الصلاة لأنهم يقدرون على الصلاة إذا رجعوا إلى منازلهم ولا يمكنهم الطواف إلا في ذلك الوقت والله تعالى قد حث على الطواف بقوله " ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم "
سورة البقرة الايات 159 - 160
قوله تعالى " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات " نزلت في شأن رؤساء اليهود منهم كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف وابن صوريا يقول يكتمون ما أنزلنا في التوراة من البينات الحلال والحرام وآية الرجم " والهدى " يعني أمر محمد صلى الله عليه وسلم " من بعد ما بيناه للناس في الكتاب " يعني في التوراة ويقال في القرآن " أولئك يلعنهم الله " يعني يخذلهم " ويلعنهم اللاعنون " قال ابن عباس وذلك أن الكافر إذا وضع في قبره سئل من ربك وما دينك فيقول لا أدري فيقال له ما دريت فهكذا كنت في الدنيا ثم يضربه ضربة يسمعها كل شيء إلا الثقلين فلا يسمع صوته شيء إلا لعنه فذلك قوله تعالى " ويلعنهم اللاعنون " وروي عن ابن مسعود أنه قال إذا تلاعن اثنان فإن كان أحدهما مستحقا للعنة رجعت اللعنة إليه وإن لم يكن يستحق أحدهما اللعنة ارتفعت اللعنة إلى السماء فلم تجد هناك موضعا فتنحدر فترجع إلى الذي تكلم بها إن كان أهلا لذلك وإن لم يكن أهلا لذلك رجعت إلى الكفار وفي بعض الروايات إلى اليهود فذلك قوله تعالى " ويلعنهم اللاعنون "
ثم استثنى التائبين من اللعنة فقال عز وجل " إلا الذين تابوا " من الكفر واليهودية " وأصلحوا " أعمالهم فيما بينهم وبين ربهم ويقال معناه وأصلحوا لمن أفسدوا من السفلة وبينوا صفته في كتبهم " فأولئك أتوب عليهم " يعني أتجاوز عنهم " وأنا التواب الرحيم " المتجاوز لمن تاب ورجع فيقبل توبته
سورة البقرة الآيات 161 - 162
قوله تعالى " إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار " يعني ثبتوا على كفرهم حتى ماتوا على ذلك " أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " قال الكلبي لعنة المؤمنين(1/134)
135
خاصة وقال بعضهم يلعنهم جميع الناس لأن من يخالف دينهم يلعنهم في الدنيا وأهل دينهم يلعنونهم في الآخرة كما قال في آية أخرى " ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا " العنكبوت 25 ثم قال " خالدين فيها " يعني في اللعنة ولعنته عذاب النار يعني ما توجبه اللعنة " لا يخفف عنهم العذاب " يعني لا يهون عليهم طرفة عين " ولا هم ينظرون " يعني لا يؤجلون
سورة البقرة الآية 163
قوله تعالى " وإلهكم إله واحد " قال مقاتل يعني ربكم رب واحد وقال الضحاك كان لمشركي مكة ثلاثمائة وستون صنما يعبدونها من دون الله تعالى فدعاهم الله تعالى إلى توحيده والإخلاص لعبادته فقال " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو " ويقال نزلت هذه الآية في صنف من المجوس يقال لهم المانوية فكان رئيسهم يقال له ماني فقال لهم أرى الأشياء زوجين وضدين مثل الليل والنهار والنور والظلمة والحر والبرد والخير والشر والسرور والحزن والذي يصلح للشيء لا يصلح لضده فمن كان خالق النور والخيرات لا يكون خالق الشر والظلمات فهما اثنان أحدهما يخلق الشر والآخر يخلق الخير فنزلت هذه الآية " وإلهكم إله واحد " أي خالقكم خالق واحد هو خالق الأشياء كلها
وقوله تعالى " لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " وقوله " لا إله إلا الله " قال بعض الناس هذا الكلام نصفه كفر وهو قوله " لا إله " ونصفه إيمان وهو قوله " إلا هو " ولكن هذا الكلام غير سديد لأن الله تعالى أمر رسوله بأن يقولوا لا إله إلا الله فلا يجوز أن يأمرهم بالكفر وقال بعضهم النصف الأول منسوخ والنصف الثاني ناسخ وهذا أيضا لا يصح لأن المنسوخ هو الذي كان مباحا قبل النسخ والكفر لم يكن مباحا أبدا وأحسن ما قيل فيه إن قوله " لا إله " نفي معبود الكفار وقوله " إلا هو " إثبات معبود المؤمنين أو نقول " لا إله " نفي الألوهية عمن لا يستحق الألوهية وقوله " إلا الله " إثبات الألوهية لمن يستحق الألوهية لما نزلت هذه الآية أنكر المشركون توحيد الله تعالى وطلبوا منه دليلا على إثبات وحدانيته فنزلت هذه الآية
سورة البقرة آية 164
قوله تعالى " إن في خلق السموات والأرض " يعني في خلق السموات والأرض دليل على وحدانيته في أنه خلقها بغير عمد ترونها وزينها بمصابيح والأرض أيضا بسطها وجعل لها(1/135)
136
أوتادا وهي الجبال وفجر فيها الأنهار وجعل فيها البحار " واختلاف الليل والنهار " يعني مجيء النهار وذهاب الليل ومجيء الليل وذهاب النهار ويقال نقصان الليل في تمام النهار ونقصان النهار في تمام الليل ويقال اختلافهما في اللون " والفلك التي تجري في البحر " يعني السفن ويقال للسفينة الواحدة الفلك ولجماعة السفن الفلك يعني السفن التي تسير في البحر فتقبل مرة وتدبر مرة بريح واحدة فتسير في البحر " بما ينفع الناس " من الكسب والتجارة وغير ذلك
وقوله تعالى " وما أنزل الله من السماء من ماء " يعني المطر الذي ينزل من السماء " فأحيا به الأرض بعد موتها " يعني اخضرت الأرض بعد يبسها " وبث فيها " يقول خلق في الأرض " من كل دابة وتصريف الرياح " قرأ حمزة والكسائي " الريح " بغير ألف وقرأ الباقون بألف واختار أبو عبيدة في قراءته أن كل ما في القرآن من ذكر العذاب الريح بغير ألف وكل ما في القرآن من ذكر الرحمة الرياح بالألف واحتج بما روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا هاجت الريح قال اللهم أجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا
ومعنى قول تعالى " وتصريف الرياح يعني هبوب الرياح مرة جنوبا ومرة شمالا ومرة صبا ومرة دبورا
وقوله تعالى " والسحاب المسخر " يعني المذلل والمطوع " بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون " يعني في هذه الأشياء التي ذكرت في هذه الآية آيات لوحدانيته لمن كان له عقل وتمييز ويقال هذه الآية تجمع أصول التوحيد وقد بين فيها دلائل وحدانيته لأن الأمر لو كان بتدبير اثنين يختلفان في التدبير لفسد الأمر باختلافهما كما قال تعالى " لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا " الأنبياء 22
سورة البقرة الآيات 165 - 167
قوله تعالى " ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا " يعني بعض الناس وصفوا لله شركاء وأعدالا وهي الأوثان
وقوله تعالى " يحبونهم كحب الله " قال بعضهم يحبون الأوثان كحبهم لله تعالى لأنهم كانوا يقرون بالله تعالى وقال بعضهم معناه يحبون الأوثان كحب المؤمنين لله تعالى(1/136)
137
ثم قال عز وجل " والذين آمنوا أشد حبا لله " لأن الكفار يعبدون أوثانهم في حال الرخاء فإذا أصابتهم شدة تركوا عبادتها والمؤمنون يعبدون الله تعالى في حال الرخاء والشدة فهذا معنى قوله " والذين آمنوا أشد حبا لله " فإن قيل إذا كان المؤمنون أشد حبا لله فما معنى قوله " يحبونهم كحب الله " قيل له يحتمل أن بعض المؤمنين حبهم مثل حبهم وبعضهم أشد حبا لله وفي أول الآية ذكر بعض المؤمنين الذين حبهم مثل حب الكفار وفي آخر الآية ذكر المؤمنين الذين هم أشد حبا لله والحب لله أن يطيعوه في أمره وينتهوا عن نهيه فكل من كان أطوع لله فهو أشد حبا له كما قال القائل
" لو كان حبك صادقا لأطعته % إن المحب لمن يحب مطيع "
ثم قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم " ولو يرى " يا محمد " الذين ظلموا إذ يرون العذاب " يعني حين يرون العذاب " أن القوة لله جميعا " وفي الآية مضمر ومعناها لو رأيت يا محمد الذين ظلموا في العذاب لرأيت أمرا عظيما كما تقول لو رأيت فلانا تحت السياط فتستغني عن الجواب لأن المعنى مفهوم فكذلك هاهنا لم يذكر الجواب لأن المعنى معلوم قرأ نافع وابن عامر " ولو ترى " بالتاء عبدة الأوثان اليوم ما يرون يوم القيامة أن الأوثان لا تنفعهم شيئا وأن القوة لله جميعا تركوا عبادتها وقرأ ابن عامر " إذ يرون العذاب " بضم الياء على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون بنصب الباء على معنى الخبر عنهم وقرأ الحسن وقتادة " أن القوة لله " على معنى الابتداء وقرأ العامة " أن القوة " بالنصب على معنى البناء يعني بأن القوة لله
وقوله عز وجل " وأن الله شديد العذاب " يعني للرؤساء والاتباع من أهل الأوثان
قوله تعالى " إذ تبرأ الذين اتبعوا " يعني القادة " من الذين اتبعوا " وهم السفلة " ورأوا العذاب " أي حين رأوا العذاب " وتقطعت بهم الاسباب " يعني العهود والحلف التي كانت في الدنيا بينهم وقال القتبي " الأسباب " يعني الأسباب التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا وقال بعضهم " وتقطعت بهم الأسباب " أي الخلة والمواصلة كما قال في آية أخرى " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " الزخرف67 ويقال الأرحام والمودة التي كانوا يتواصلون بها فيما بينهم
وقوله تعالى " وقال الذين اتبعوا " أي السفلة " لو أن لنا كرة " يعني رجعة إلى الدنيا وذلك أن الرؤساء لما تبرؤوا منهم ولا ينفعونهم شيئا ندمت السفلة على اتباعهم في الدنيا ويقولون في أنفسهم " لو أن لنا كرة " أي رجعة إلى الدنيا " فنتبرأ " من القادة " كما تبرؤوا منا "
قال الله تعالى " كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم " لأنهم يرون أعمالهم غير مقبولة لأنها كانت لغير وجه الله
تعالى فيكون ذلك حسرة عليهم(1/137)
138
وقوله تعالى " وما هم بخارجين من النار " يعني التابع والمتبوع والعابد والمعبود
سورة البقرة الآيات 168 169
قوله تعالى " يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا " وذلك أن قوما من العرب مثل بني عامر وبني مدلج وخزاعة وغيرهم حرموا على أنفسهم أشياء مما أحل الله عليهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة وغير ذلك فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال " يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا " من الحرث والأنعام و " حلالا " نصب على الحال " ولا تتبعوا خطوات الشيطان " يعني طاعات الشيطان وقال مقاتل يعني تزيين الشيطان ويقال وساوس الشيطان وقال القتبي الخطوات جمع الخطوة وقال الزجاج خطواته أي طرقه ومعناه لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه الشيطان " إنه لكم عدو مبين " يعني ظاهر العداوة
قوله تعالى " إنما يأمركم بالسوء والفحشاء " يعني بالإثم والقبيح من العمل ويقال السوء الذي يجب به الحبس والحساب " والفحشاء " الذي يستوجب بها العقوبة في النار ويقال " بالسوء " الذي يجب به التعزيز في الدنيا " والفحشاء " الذي يجب به الحد ( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) يعني الشيطان يأمركم بأن تكذبوا على الله لأنهم كانوا يقولون هذه الأشياء حرمها الله تعالى علينا
سورة البقرة الآية 170
ثم قال تعالى " وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله " يعني اعملوا بما أنزل الله في القرآن وهو من تحليل ما أحل الله وتحريم ما حرم الله " قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا " يعني ما وجدنا عليه آباءنا قال الله تعالى " أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون " معناه اتبعوا آباءهم وإن كانوا جهالا فيتابعونهم بغير حجة فكأنه نهاهم عن التقليد وأمرهم بالتمسك بالحجة وهذه الواو مفتوحة وهي واو " أولو " لأنها واو العطف أدخلت عليها ألف التوبيخ وهي ألف الاستفهام
قرأ أبو عمرو ومن تابعه من أهل البصرة " كذلك يريهم الله " البقرة167 بكسر الهاء والميم وكذلك في كل موضع تكون الهاء والميم بعدهما الألف واللام مثل قوله " وضربت عليهم الذلة " البقرة 61 " ويلههم الأمل " الحجر 3 وكان عاصم وابن عامر ونافع وابن كثير يقرؤون بكسر الهاء وضم الميم وكان حمزة والكسائي يقرآن بضم الهاء والميم وكان ابن كثير يقرأ " إنه لكم عدو مبين " بضم الميم وكذلك " إنما يأمركم " وكذلك كل ميم(1/138)
139
ونحو هذا مثل " أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم " الفاتحة 7 " على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم " البقرة 7 وكان نافع في رواية ورش عنه يقرأ سكون الميم إلا أن يستقبله ألف أصلية فيضم الميم مثل قوله " سواء عليهم ءأنذرتهم " البقرة 6 ويس10 " إذ يتنازعون بينهم أمرهم " الكهف 21 " وقد خلقكم أطوارا " نوح 14 وكان حمزة والكسائي يقرآن بسكون الميم إلا أن يستقبله ألف ولام مثل قوله " وضربت عليهم الذلة " البقرة 61
وأما قوله " خطوات الشيطان " البقرة 168 وغيرها قرأ نافع وأبو عمرو وحمزة وعاصم في رواية أبي بكر " خطوات " بجزم الطاء وقرأ الكسائي وابن كثير وعاصم في رواية حفص " خطوات " بضم الطاء وهما لغتان ومعناهما واحد
سورة البقرة الآية 171
ثم قال تعالى " ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء " فهذا مثل ضرب الله تعالى لأهل الكفر إنهم مثل البهائم لا يعقلون شيئا سوى ما يسمعون من النداء وفي الآية إضمار ومعناه مثلك يا محمد مع الكفار " كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء " وهذا قول الزجاج وقال القتبي قال الفراء ومثل واعظ الذين كفروا فحذف ذكر الواعظ كما قال تعالى " وسئل القرية " يوسف 82 وقال القتبي أيضا " مثل الذين كفروا " يعني ومثلنا في وعظهم فحذف اختصارا إذ كان في الكلام ما يدل عليه " كمثل الذي ينعق " يعني الراعي إذا صاح بالغنم لا يسمع إلا دعاء ونداء فحسب ولا تفهم قولا ولا يحسن جوابا فكذلك الكافر لا يعقل المواعظ " صم " عن الخير فهم لا يسمعون " بكم " يعني خرسا لا يتكلمون بالحق " عمي " لا يبصرون الهدى ويقال كأنهم صم لأنهم يتصاممون عن سماع الحق " فهم لا يعقلون " الهدى
سورة البقرة الآيات 172 - 173
قوله تعالى " يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم " يعني من الحلال من الحرث والأنعام " واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون " يعني إن كنتم تريدون بترك أكله رضى الله تعالى فكلوه فإن رضى الله تعالى أن تحلوا حلاله وتحرموا حرامه ويقال إن محرم ما أحل الله مثل محل ما حرم الله ويقال في الآيتين بيان فضل هذه الأمة لأنه تعالى خاطبهم بما خاطب به أنبياءه عليهم الصلاة والسلام لأنه قال لأنبيائه " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات "(1/139)
140
المؤمنون 51وقال لهذه الأمة " كلوا من طيبات ما رزقناكم " وقال في الآية الأولى " كلوا مما في الأرض حلال طيبا " البقرة 168فلما أمر الله تعالى بأكل هذه الأشياء التي كانوا يحرمونها على أنفسهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن لم يكن هذه الأشياء محرمة فالمحرمات ما هي فبين الله تعالى المحرمات فقال " إنما حرم عليكم الميتة " وهي الدابة التي تموت من غير ذكاة سوى السمك والجراد " والدم " يعني الدم المسفوح أي الجاري كما قال في آية أخرى " أو دما مسفوحا " الأنعام 145 " ولحم الخنزير " يعني حرم عليكم لحم الخنزير فذكر اللحم خاصة والمراد به اللحم والشحم وجميع أجزائه وهذا شيء قد أجمع المسلمون عليه فقد ذكر الميتة وإنما انصرف إلى بعض منها وأحل البعض منها وهو السمك والجراد وذكر الدم وإنما المراد به بعض الدم لأنه لم يدخل فيه الطحال والكبد وذكر لحم الخنزير فانصرف النهي إلى اللحم وغيره " وما أهل به لغير الله " يعني ما ذبح لغير اسم الله تعالى والإهلال في اللغة هو رفع الصوت فكان أهل الجاهلية إذا ذبحوا رفعوا الصوت بذكر آلهتهم فحرم الله تعالى على المؤمنين أكل ما ذبح لغير اسم الله تعالى وفي الآية دليل انه إذا ترك التسمية عمدا لا يؤكل لأنه قد ذبح بغير اسم الله تعالى
ثم إن الله تعالى علم أن بعض الناس يبتلون بأكل الميتة عند الضرورة فرخص لهم في ذلك بقوله تعالى " فمن اضطر " قرأ حمزة وعاصم وأبو عمرو " فمن اضطر " بكسر النون وقرا الباقون بالضم وهما لغتان ومعناهما واحد يقول فمن أجهد إلى شيء مما حرم الله من أكل الميتة " غير باغ ولا عاد " وقال بعضهم يعني غير مفارق الجماعة " ولا عاد " على المسلمين بالسيف فمن خرج لقطع الطريق أو خرج على إمام المسلمين بالسيف لا رخصة له عند بعضهم وقال الشافعي من خرج في معصية فلا رخصة له وقال بعضهم كل من اضطر إلى أكل الميتة رخص له أن يأكل سواء خرج للمعصية أو غيرها وهذا قول أصحابنا ومعنى قوله " غير باغ " يعني غير طالب للحرام ولا راض بأكله " ولا عاد " يعني لا يعود إلى أكله بعدما أكل مقدار ما يسد به رمقه
وروي عن ابن عباس نحو هذا قال حدثنا إبراهيم بن محمد بن سعيد الترمذي قال حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال حدثنا محمد بن الحجاج الحضرمي قال حدثنا عبد الله بن أبي صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى " فمن اضطر غير باغ ولا عاد " قال من أكل شيئا من هذه الأشياء وهو مضطر فلا حرج عليه ومن أكله وهو غير مضطر فقد بغى واعتدى
وقوله تعالى " فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم " ثم اختلفوا(1/140)
141
في حد الاضطرار الذي يحل له الميتة قال بعضهم إذا كان بحال يخاف على نفسه التلف وهو قول الشافعي وروي عن ابن المبارك أنه قال إذا كان بحال لو دخل السوق لا ينظر إلى شيء سوى الخبز وقال بعضهم إذا كان بحال يضعفه عن أداء الفرائض
وقد اختلفوا أيضا في أكله قال بعضهم أكله حرام ألا أنه كما قال تعالى " فلا إثم عليه " ألا ترى أنه قال في سياق الآية " إن الله غفور رحيم " وقال بعضهم هو حلال ولا يسعه تركه لأنه قال في آية أخرى " وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه " الأنعام 119 فلما استثنى منه ثبت أنه حلال وروي عن مسروق أنه قال من اضطر إلى ميتة فلم يأكل حتى مات دخل من النار
سورة البقرة الآيات 174 - 176
قوله تعالى " إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب " نزلت في رؤساء اليهود كانوا يرجون أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم منهم فلما كان من غيرهم خشوا بأن تذهب منافعهم من السفلة فعمدوا إلى صفة النبي صلى الله عليه وسلم فغيروها وقال بعضهم غيروا تأويلها فنزلت هذه الآية " إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب " يعني في التوراة بكتمان نعت محمد صلى الله عليه وسلم " ويشترون به ثمنا قليلا " يعني يختارون به عرضا يسيرا من منافع الدنيا " أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار " يعني يأكلون الحرام وإنما سمي الحرام نارا لأنه يستوجب به النار كما قال في آية أخرى " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا " النساء 10
" ولا يكلمهم الله يوم القيامة " أي لا يكلمهم بكلام الخير لأنه يكلمهم بكلام العذاب حيث قال " احسنوا فيها ولا تكلمون " المؤمنون 108 " ولا يزكيهم " يعني ولا يطهرهم من الأعمال الخبيثة السيئة وقال الزجاج " ولا يزكيهم " أي لا يثني عليهم خيرا ومن لا يثني عليه الخير فهو يعذبه " ولهم عذاب أليم " أي وجيع يعني الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب وكذلك كل من كان عنده علم فاحتاج الناس إلى ذلك فكتمه فهو من أهل هذه الآية وهذا كما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من كتم علما أعطاه الله تعالى ألجم بلجام من نار(1/141)
142
ثم قال عز وجل " أولئك الذين " يعني رؤساء اليهود " الذين اشتروا الضلالة بالهدى " يعني اختاروا الكفر على الإيمان " والعذاب بالمغفرة " يعني اختاروا النار على الجنة " فما أصبرهم على النار " يقول فما الذي أجرأهم على فعل أهل النار ويقال معناه فما أبقاهم في النار كما يقال فما أصبر فلانا على الحبس أي أبقاه " ذلك " أي ذلك العذاب " بأن الله نزل الكتاب بالحق " أي القرآن بالحق يعني بالعدل " وإن الذين اختلفوا في الكتاب " أي في القرآن " لفي شقاق بعيد " أي في ضلال بين ويقال معناه أن الله تعالى أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بالعدل فتركوا اتباعه وخالفوه فاستوجبوا بذلك العذاب ويقال " لفي شقاق بعيد " يعنس في خلاف بعيد من الحق وذكر عن قتادة أنه قال " فما أصبرهم على النار " أي فما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار وروي عن مجاهد أنه قال ما أعملهم بعمل أهل النار ويريد ما أدومهم على أعمال أهل النار وقال أبو عبيدة ما الذي صيرهم ودعاهم إلى النار
سورة البقرة الآية 177
قوله تعالى " ليس البر أن تولوا وجوهكم " قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص " ليس البر " بنصب الراء على معنى خبر ليس وقرأ الباقون بالرفع على معنى اسم ليس من قرأ بالرفع فهو الظاهر في العربية لأن ليس يرفع الاسم الذي بعده بمنزلة كان وأما من قرأ بالنصب فإنه يجعل الاسم ما بعده ويجعل " البر " خبره وقرأ نافع وابن عامر " ولكن البر " بكسر النون وضم الراء وقرأ الباقون " ولكن البر " بنصب النون مشددة وبنصب الراء قال مقاتل في قوله " ليس البر أن تولوا وجوهكم " يعني ليس البر أن تحولوا وجوهكم في الصلاة " قبل المشرق والمغرب " فلا تعملوا غير ذلك " ولكن البر من آمن بالله " يعني صدق بالله بأنه واحد لا شريك له ويقال معناه ليس البر كله في الصلاة ولكن البر ما ذكر في هذه الآية من العبادات ثم اختلفوا في معنى قوله " ولكن البر من آمن بالله " قال بعضهم معناه ولكن ذو البر من آمن بالله وقال بعضهم معناه ولكن البر بر من آمن بالله وكلا المعنيين(1/142)
143
ذكرهما الزجاج في كتابه وقال بعضهم " ليس البر " أي ليس البار من يولي وجهه إلى المشرق والمغرب ولكن البار من آمن بالله
ثم ذكر في هذه الآية خمسة أشياء وهي من الإيمان فمن لم يقر بواحدة منها فقد كفر أحدها الإيمان بالله تعالى أنه واحد لا شريك له وصدق باليوم الآخر وبالبعث الذي فيه جزاء الأعمال وأنه كائن وأن أهل الثواب يصلون إلى الثواب وأهل العقاب يصلون إلى العقاب وصدق بالكتاب أنه منزل من الله تعالى يعني القرآن وسائر الكتب التوراة والإنجيل والزبور ويقر بالملائكة أنهم عباده ويقر بالنبيين أنهم رسله وأنبياؤه فهذه الخمسة من الإيمان فمن جحد واحدة منها فقد كفر
ثم ذكر الفضائل فقال " وءاتى المال على حبه " يعني يعطي المال على شهوته وجوعه وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويؤمل العيش ويقال " على حبه " الإعطاء بطيبة من نفسه يعطي " ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " يعني الضيف النازل " والسائلين " الذين يسألون الناس " وفي الرقاب " يعني المكاتبين وقد قيل " وابن السبيل " هو المنقطع من ماله
ثم ذكر الفرائض فقال " وأقام الصلاة " المكتوبة " وآتى الزكاة " المفروضة " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا " فيما بينهم وبين الله تعالى وفيما بينهم وبين الناس " والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس " قال القتبي " البأساء " الفقر وهو من البؤس " والضراء " المرض والزمانة " وحين البأس " يعني يصبرون عند الحرب وقال القتبي " البأس " الشدة ومنه يقال لا بأس عليك يعني لا شدة عليك يقال فلهذا سمي الحرب البأس لأن فيه شدة
ثم قال تعالى " أولئك الذين صدقوا " يعني صدقوا في إيمانهم " وأولئك هم المتقون " عن نقض العهد
فإن قيل أيش معنى قوله " والصابرين في البأساء والضراء " وموضعه موضع رفع ولم يقل والصابرون قيل له قد قال بعض من تعسف في كلامه إن هذا غلط الكاتب حين كتبوا مصحف الإمام والدليل على ذلك ما روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه نظر في المصحف فقال أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها وهكذا قال في سورة النساء " والمقيمين الصلوة " النساء 162 وفي سورة المائدة " والصابئون " ) لكن الجواب عند أهل العلم أن يقال إنما صار نصبا للمدح والكلام يصير نصبا على المدح أو الذم ألا ترى إلى قول القائل
( نحن بني ضبة أصحاب الجمل % )
( ننازل الموت إذ الموت نزل % )(1/143)
144
( والموت أشهى عندنا من العسل % )
وإنما جعله نصبا للمدح وكان سبيله نحن بنو ضبة إلا أنه لما جاء الكلام على سبيل المدح نصبه وأراد بالجمل حرب الجمل والضبة اسم قبيلة وهم الذين شهدوا معركة الجمل وروي عن قتادة أنه قال ذكر لنا أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن البر فنزلت هذه الآية " ليس البر أن تولوا وجوهكم " إلى آخر الآية وقال الضحاك " أولئك الذين صدقوا " يعني صدقت نياتهم فاستقامت قلوبهم بأعمالهم " وأولئك هم المتقون " يعني المطيعين لله تعالى
سورة البقرة الآيات 178 179
قوله تعالى " يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى " يعني فرض عليكم وأوجب عليكم القصاص فإن قيل الفرض على من يكون على الولي أو على غيره قيل له الفرض على القاضي إذا اختصموا إليه بأن يقضي على القاتل بالقصاص إذا طلب الولي لأن الله تعالى قد خاطب جميع المؤمنين بالقصاص ثم لا يتهيأ للمؤمنين ولا يمكنهم جميعا أن يجتمعوا على القصاص فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص فخاطب الولي بالقصاص وخاطب غيره بأن يعين الولي على ذلك وهو قوله " كتب عليكم القصاص " أي فرض عليكم إذا كان القتل عمدا
" الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " قال بعضهم كان في أول الشريعة أن الحر يقتل بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ولا يقتل الحر بالعبد ولا العبد بالحر ولا الذكر بالأنثى ثم نسخ بقوله تعالى " النفس بالنفس " المائدة 45 وقال بعضهم هي غير منسوخة لأنه قد ذكر هذه الآية " الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " ولم يذكر في هذه الآية أن العبد لو قتل حرا ما حكمه فبين في آية أخرى وهو قوله " النفس بالنفس " وقال ابن عباس نزلت هذه الآية في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية فكانت بينهم قتلى وجراحات وكان لأحدهما طول على الآخر فقالوا لنقتلن بالعبد منا الحر منكم وبالمرأة الرجل منكم وبالرجل منا الرجلين منكم فلما جاء الإسلام طلب بعضهم من بعض ذلك فنزلت هذه الآية " الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى "
وقال تعالى " فمن عفي له من أخيه شيء " يعني ترك ولي المقتول من أخيه يعني القاتل ولم يقتله وأخذ الدية " فاتباع بالمعروف " يعني يطلب الدية بالرفق ولا يعسر عليه(1/144)
145
وأمر المطلوب بأن يؤدي الدية إلى الطالب لقوله " وأداء إليه بإحسان " وقال القتبي " فمن عفي له من أخيه شيء " قال قبول الدية في العمد والعفو عن الدم وقوله " فاتباع بالمعروف " أي مطالبة جميلة " وأداء إليه بإحسان " لا يبخسه ولا يماطله ولا يدفعه ويقال معناه إذا عفا أحد ولي القصاص صار نصيب الآخر مالا فيتبعه بالمعروف والقاتل يؤدي إليه نصيبه بإحسان
" ذلك تخفيف من ربكم ورحمة " لأن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك وأهل الإنجيل كان لهم العفو وليس لهم قود ولا دية فجعل الله تعالى القصاص والدية والعفو تخفيفا لهذه الأمة فمن شاء قتل ومن شاء أخذ الدية ومن شاء عفا وقد قال بعض الناس إن الولي إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل وهو قول الشافعي رحمه الله وقال أصحابنا ليس له أن يأخذ الدية إلا برضا القاتل وليس في هذه الآية دليل أن له أن يأخذ الدية بكره منه وفيه دليل أن له أن يقبل الدية ومعناه عند أصحابنا أن له الدية إذا رضي القاتل وأصطلحا على ذلك
ثم قال تعالى " فمن اعتدى من بعد ذلك " يعني أن يقتل بعد ما أخذ الدية " فله عذاب أليم " أي وجيع وقال قتادة يقتل ولا يقبل منه الدية إذا اعتدى واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا أعفي عن أحد قتل بعد أخذ الدية ولكن معناه عندنا أنه إذا طلب الولي القتل فأما إذا عفا عنه الثاني وتركه جاز عفوه لأنه قتل بغير حق فصار حكمه حكم القاتل الأول لأنه لو عفي عنه لجاز ذلك فكذلك الثاني
ثم قال عز وجل " ولكم في القصاص حياة " أي بقاء لأن الناس يعتبرون بالقصاص فيمتنعون عن القتل وهذا كما قال القائل
( أبلغ أبا مالك عني مغلغلة % وفي العقاب حياة بين أقوام )
وهذا معنى قوله " ولكم في القصاص حياة " " يا أولي الألباب " يعني يا ذوي العقول " لعلكم تتقون " أي القتل مخافة القصاص
سورة البقرة الآيات 180 - 182
قوله تعالى " كتب عليكم " أي فرض عليكم " إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا " يقول أي ترك مالا والخير في القرآن على وجوه أحدها المال كقوله " إن ترك(1/145)
146
خيرا ) البقرة 215 " ما أنفقتم من خير " البقرة 272 أي المال والثاني الإيمان كقوله تعالى " ولو علم الله فيهم خيرا " الأنفال 23 يعني إيمانا وقوله " ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا " هود 31 والثالث الفضل كقوله تعالى " وأنت خير الراحمين " " وأنت خير الحاكمين " المؤمنون 109 و 118 والرابع العافية كقوله تعالى " وإن يمس سك بخير " الأنعام 17 " وإن يردك بخير " يونس 107 والخامس الأجر كقوله تعالى " لكم فيها خير " الحج 36 أي أجر
وقال بعضهم الوصية واجبة على كل مسلم لأن الله تعالى قال " كتب عليكم " أي فرض عليكم الوصية وروي عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ما حق امرئ مسلم يبيت ليلة وعنده مال يوصي به إلا ووصيته مكتوبة عنده وقال بعضهم هي مباحة وليست بواجبة وقد روي عن الشعبي أنه قال الوصية ليست بواجبة فمن شاء أوصى ومن شاء لم يوص وقال إبراهيم النخعي مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص وقد أوصى أبو بكر رضي الله عنه فإن أوصى فحسن وإن لم يوص فليس عليه شيء وقال بعضهم إن كان عليه حج أو كفارة أو شيء من الكفارات فالوصية واجبة وإن ل يكن عليه شيء من الواجبات فهو بالخيار إن شاء أوصى وإن شاء لم يوص وبهذا القول نأخذ
ثم بين موضع الوصية فقال تعالى " الوصية للوالدين والأقربين " وقال مجاهد كان الميراث للولد والوصية للوالدين والأقربين فصارت الوصية للوالدين منسوخة وروى جويب ر عن الضحاك أنه قال نسخت الوصية للوالدين والأقربين ممن يرث وبقيت الوصية لمن لا يرث من القرابة ويقال في الآية تقديم وتأخير ومعناه كتب عليكم الوصية للوالدين والأقربين إذا حضر أحدكم الموت وكانوا يوصون للأجنبيين ولم يوصوا للقرابة شيئا فأمرهم الله تعالى بالوصية للوالدين والأقربين ثم نسخت الوصية للوالدين بآية الميراث في قوله " حقا على المتقين " يعني واجبا على المتقين
قوله تعالى " فمن بدله بعد ما سمعه " يعني غيره بعدما سمع الوصية " فإنما إثمه على الذين يبدلونه " يعني وزره على الذين يغيرونه لا على الموصي لأن الموصي قد فعل ما عليه " إن الله سميع " بالوصية " عليم " بثوابها وبجزاء من غير الوصية
قوله تعالى " فمن خاف من موص جنفا أو إثما " أي علم من الموصي الجنف وهو الميل عن الحق " فلا إثم عليه " إذا غير وصيته فردها إلى الحق لأن تبديله كان للإصلاح ولم(1/146)
147
يكن للجور وقال الكلبي " فمن خاف من موص جنفا " يعني علم من الميت الخطأ في الوصية " أو إثما " يعني تعمدا للجور في وصيته فزاد على الثلث " فأصلح بينهم " يعني رد ما زاد على الثلث " فلا إثم عليه " هكذا قال مقاتل وروي عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال ( الإضرار في الوصية من الكبائر )
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " فمن خاف من موص جنفا " بنصب الواو وتشديد الصاد وقرأ الباقون بسكون الواو وتخفيف الصاد فمن قرا بالنصب والتشديد فهو من وصى يوصي ومن قرأ بالتخفيف فهو من أوصى يوصي وهما لغتان ومعناهما واحد " فإن الله غفور رحيم " معناه " غفور " لمن جنف " رحيم " لمن أصلح
سورة البقرة الآيات 183 - 185
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام " يعني فرض عليكم صيام شهر رمضان " كما كتب على الذين من قبلكم " يعني فرض على الذين من قبلكم من أهل الملل " لعلكم تتقون " الأكل والشرب والجماع بعد صلاة العشاء الأخيرة وبعد النوم ويقال كما كتب في الذين من قبلكم في الفرض ويقال كما كتب على الذين من قبلكم في العدد " أياما معدودات " أي معلومات وإنما صارت الأيام نصبا لنزع الخافض ومعناه في أيام معدودات وقال مقاتل كل شيء في القرآن معدودة أو معدودات فهو دون الأربعين وما زاد على ذلك لا يقال معدودة
ثم قال تعالى " فمن كان منكم مريضا " فلم يقدر على الصوم " أو على سفر " فلم يصم في سفره " فعدة من أيام أخر " أي فعليه أن يقضيها بعد مضي الشهر مثل عدد الأيام التي فاتته " وعلى الذين يطيقونه " يعني يطيقون الصوم " فدية طعام مسكين " يعني يدفع لكل مسكين مقدار نصف صاع من حنطة ويفطر ذلك اليوم " فمن تطوع خيرا " فتصدق على مسكينين مكان كل يوم يفطره " فهو خير له " من أن يطعم مسكينا واحدا والصيام خير له من الإفطار وهو قوله " وأن تصوموا خير لكم " من أن وتطعموا وتفطروا قال الكلبي ثم نسخت(1/147)
148
هذه الآية بالآية التي بعدها وهكذا قال القتبي وهكذا روي عن سلمة بن الأكوع أنه قال لما نزلت هذه الآية " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين " من أراد أن يفطر ويفدي فعل حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " وقال الشعبي لما نزلت هذه الآية " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين " كان الأغنياء يطعمون ويفطرون ولا يصومون وصار الصوم على الفقراء فنسختها هذه الآية " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " فوجب الصوم على الغني والفقير وقال بعضهم ليست بمنسوخة وإنما نزلت في الشيخ الكبير وروي عن عائشة أنها كانت تقرأ وعلى الذين يطوقونه يعني يكلفون فلا يطيقونه وروي عطاء عن ابن عباس أنه قال ليست بمنسوخة وإنما هي الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة اللذان لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان كل يوم مسكينا
قرأ نافع وابن عامر " فدية طعام مسكين " بضم الهاء وكسر الميم بألف على الإضافة وقرأ الباقون بتنوين الهاء " فدية طعام " بضم الميم " مسكين " بغير ألف
قوله تعالى " شهر رمضان " قرأ بعضهم " شهر رمضان " قرأ عاصم في رواية حفص " شهر " بفتح الراء وقرأ الباقون " شهر " بالضم وإنما صار رفعا لمعنيين أحدهما أنه مفعول ما لم يسم فاعله يقول كتب عليكم شهر رمضان ومعنى آخر أنه خبر الابتداء يعني هذا شهر رمضان ويقال إنه لنزع الخافض أي في شهر رمضان ومن قرأ بالنصب احتمل أنه صار نصبا لوقوع الفعل عليه أي صوموا شهر رمضان ويقال إنه لنزع الخافض أي في شهر رمضان ويحتمل عليكم شهر رمضان كقوله " صبغة الله " البقرة 138
وقوله تعالى " الذي أنزل فيه القرآن " قرأ ابن كثير " القران " بالتخفيف وقرأ الباقون بالهمزة وقال ابن عباس في معنى قوله " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " يعني أنزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى الكتبة في سماء الدنيا ثم أنزل به جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما نجوما أي الآية والآيتين في أوقات مختلفة أنزل عليه في إحدى وعشرين سنة وقال مقاتل أنزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ كل عام في ليلة القدر إلى سماء الدنيا نزل إلى السفرة من اللوح المحفوظ في عشرين شهرا ونزل فيه جبريل في عشرين سنة
حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا فارس بن مردويه قال حدثنا الفضل بن دكين عن سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن أبي قلابة قال ( أنزلت التوراة في ثنتي عشرة ليلة مضت من رمضان والإنجيل في ثمانية عشرة والقرآن في أربعة وعشرين
قال الفقيه حدثنا إسحاق بن إبراهيم القطان قال حدثنا محمد بن صالح الترمذي قال(1/148)
149
حدثنا سويد بن نصر قال حدثنا عبد الله بن المبارك عن ابن جريج قال قال ابن عباس في قوله عز وجل " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " قال أنزل القرآن جملة واحدة على جبريل في ليلة القدر قال ابن جريج كان ينزل من القرآن في ليلة القدر كل شيء ينزل في تلك السنة فينزل ذلك من السماء السابعة على جبريل في سماء الدنيا ولا ينزل جبريل من ذلك على محمد صلى الله عليه وسلم إلا كلما أمر به ربه عز وجل
قوله تعالى " هدى للناس " يعني القرآن هدى للناس من الضلالة وبيانا لهم " وبينات من الهدى " يعني بيان الحلال والحرام " والفرقان " يعني المخرج من الشبهات " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " يعني من كان منكم شاهدا ولم يكن مريضا ولا مسافرا فليصم الشهر " ومن كان مريضا أو على سفر " فأفطر " فعدة من أيام أخر " يقضيه بعد ذلك روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يكره قضاء رمضان متفرقا وعن علي بن أبي طالب مثله وقال معاذ بن جبل وأبو عبيدة بن الجراح وجماعة من الصحابة أحص العدد وصم كيف شئت واختلفوا في حد المريض الذي يجوز له الإفطار قال بعضهم إذا كان بحال يخاف على نفسه التلف وقال بعضهم إذا استحق اسم المريض جاز له الإفطار وقال بعضهم إذا كان بحال يخاف أن يزيد الصوم في مرضه جاز له أن يفطر وهذا قول أصحابنا
ثم قال تعالى " يريد الله بكم اليسر " يعني في الإفطار في حال المرض والسفر " ولا يريد بكم العسر " يعني بالصوم في المرض والسفر " ولتكملوا العدة " قال الكلبي يعني لتتموا عدة ما أفطرتم من الصوم في السفر أو في المرض وقال الضحاك " ولتكملوا العدة " يعني إذا غم عليكم هلال شوال فأكملوا الشهر ثلاثين يوما قرأ عاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو في رواية هارون " ولتكملوا " بنصب الكاف وتشديد الميم وقرأ الباقون بالتخفيف وسكون الكاف وهما لغتان يقال كملت الشيء وأكملته مثل وصيت وأوصيت ثم قال " ولتكبروا الله على ما هداكم " يعني لتعظموا الله على ما هداكم الشريعة وسننه وأمر دينه وقيل تعظيم الله والثناء عليه وقيل هو تكبير يوم الفطر وقيل هذا التكبير للإهلال " ولعلكم تشكرون " أي لتشكروا الله تعالى على هذه النعمة حيث رخص لكم الفطر في المرض والسفر وقال مقاتل " ولعلكم تشكرون " هذه النعم أن هداكم لأمر دينه
سورة البقرة الآيات 186 -(1/149)
150
187
" وإذا سألك عبادي عني " وذلك أنه لما نزلت هذه الآية " ادعوني استجب لكم " غافر 60 قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله في أي وقت ندعو الله حتى يستجاب دعاؤنا فنزلت هذه الآية " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان " يعني أجيبكم في أي وقت تدعونني وقال بعضهم سأله بعض أصحابه فقالوا يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزل قوله تعالى " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب " وقال مقاتل إن عمر واقع امرأته بعدما صلى العشاء فندم على ذلك فبكى وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ورجع من عنده مغتما وكان ذلك قبل الرخصة فنزلت هذه الآية " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب "
قرأ أبو عمرو ونافع وعاصم في إحدى الروايتين " دعوة الداعي إذا دعاني " بالياء كليهما وقرأ الباقون كليهما بحذف الياء وأصله بالياء إلا أن الكسر يقوم مقام الياء ويقال فإني قريب في الإجابة أجيب دعوة الداعي إذا دعاني
ثم قال " فليستجيبوا لي " الاستجابة بالطاعة " وليؤمنوا بي " وليصدقوا بوعدي وقال ابن عباس في رواية الكلبي " فليستجيبوا لي " الاستجابة أن تقولوا بعد صلاتكم لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " وليؤمنوا بي " والإيمان إن تقول آمنت بالله وكفرت بالطاغوت وأن وعدك حق لقاءك حق وأشهد أنك أحد فرد لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفوا أحد وأشهد أن الساعة آتية لا ريب فيها وأنك باعث من في القبور وروي عن ابن عباس أنه قال ما تركت هذه الكلمات دبر كل صلاة منذ نزلت هذه الآية وروي عن الكلبي أنه قال ما تركتها منذ أربعين سنة ويقال معناه أجيبوا لي بالطاعة إذا دعاكم محمد صلى الله عليه وسلم " وليؤمنوا بي " أي صدقوا بتوحيدي " لعلهم يرشدون " أي يهتدون من الضلالة
قوله تعالى " أحل لكم ليلة الصيام الرفث " يعني الجماع كان في ابتداء الإسلام لا تحل المجامعة في ليالي الصوم ولا الأكل ولا الشرب بعد العشاء الآخرة فأحل الله تعالى ذلك كله إلى طلوع الفجر وروى بكر بن عبد الله عن ابن عباس أنه قال الغشيان واللمس والإفضاء والمباشرة والرفث هو الجماع ولكن الله حيي كريم يكني بما شاء وسبب نزول هذه الآية أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه واقع امرأته بعد صلاة العشاء في شهر رمضان بعد النوم فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنت جديرا بذلك فرجع(1/150)
151
مغتما فنزلت هذه الآية " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " يعني رخص لكم الجماع مع نسائكم " هن لباس لكم وأنتم لباس لهن " يعني هن سكن لكم وأنتم سكن لهن ويقال هن ستر لكم من النار وأنتم ستر لهن من النار " علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم " يعني تظلمون أنفسكم قال القتبي أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه وقد سمى الله تعالى هذا الفعل خيانة لأن الإنسان قد اؤتمن على دينه فإذا فعل بخلاف ما أمر الله به ولم يؤد الأمانه فيه فقد خانه بمعصيته
ثم قال " فتاب عليكم " يعني فتجاوز عنكم " وعفا عنكم " فلم يعاقبكم بما فعلتم " فالآن باشروهن " أي جامعوهن " وابتغوا ما كتب الله لكم " يعني اطلبوا ما قضى الله لكم من الولد الصالح وقال الزجاج " وابتغوا ما كتب الله لكم " أي اتبعوا القرآن فيما أبيح لكم فيه وأمرتم به
" وكلوا واشربوا " نزلت في شأن صرمة بن قيس عمل في النخيل بالنهار فلما رجع منزله غلب عليه النوم قبل أن يأكل شيئا فأصبح صائما فأجهده الصوم فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر النهار فقال له ما لك يا ابن قيس أمسيت طليحا فقال ظللت أمس في النخيل نهاري كله أجز بالجرين حتى أمسيت فأتيت أهلي فأرادت أن تطعمني شيئا سخنا فأبطات علي فنمت فأيقظوني وقد حرم علي الطعام والشراب فلم آكل فأصبحت صائما فأمسيت وقد أجهدني الصوم فنزلت هذه الآية " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض " وهذا أمر إباحة لله تعالى وليس بأمر حتم هذا مثل قوله " وإذا حللتم فاصطادوا " المائدة ومثل قوله " فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله " الجمعة 10 اللفظ لفظ الأمر والمراد به الإباحة وقد اباح الأكل والشرب إلى وقت طلوع الفجر بقوله " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " يعني يستبين لكم بياض النهار من سواد الليل
ويقال في الابتداء حين نزل " حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود " كان بعضهم يأخذ خيطين أحدهما أبيض والآخر أسود ويجعل ينظر إليهما ويأكل ويشرب حتى يستبين له الأسود من الأبيض وذكر عن عدي بن حاتم الطائي أنه قال أخذت خيطين فجعلت أنظر إليهما فلم يتبين الأسود من الأبيض ما لم يسفر الفجر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فتبسم وقال إنك لعريض القفا إنما هو سواد الليل وبياض النهار فنزل قوله " من الفجر " فارتفع الاشتباه(1/151)
152
ثم قال تعالى " ثم أتموا الصيام إلى الليل " يعني إلى أول الليل وبعد غروب الشمس
وقوله تعالى " ولا تباشروهن " يقول ولا تجامعوهن " وأنتم عاكفون في المساجد " أي وأنتم معتكفون فيها وذلك أنه لما رخص لهم الجماع في ليلة الصيام فكان الرجل إذا كان معتكفا فإذا بدا له خرج بالليل إلى أهله فيغشاها ثم يغتسل فيرجع إلى المسجد فنزلت هذه الآية " ولا تباشروهن " ليلا ولا نهارا " وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله " قال الكلبي يعني المباشرة في الاعتكاف معصية الله " فلا تقربوها " في الاعتكاف وقال الزجاج الحد في اللغة هو المنع فكل من منع فهو حداد ولهذا سمي حد الدار حدا لأنه يمنع الغير عن دخولها " كذلك يبين الله آياته للناس " يعني النهي عن الجماع " لعلهم يتقون " الجماع حتى يفرغوا من الاعتكاف ويقال " تلك حدود الله " يعني جميع ما ذكر من أول الآية إلى آخرها في أمر الصيام وغيره ويبين لهم الآيات " لعلهم يتقون " فينتهون عما نهى الله ويتبعون ما الله به
سورة البقرة الآية 188
قوله تعالى " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " يعني بالظلم وشهادة الزور " وتدلوا بها إلى الحكام " يعني تلجؤوا بالخصومة إلى الحكام وقال الزجاج معناه تعملون بما يوجبه ظاهر الحكم وتتركون ما علمتم أنه الحق " لتأكلوا فريقا " يعني طائفة " من أموال الناس بالإثم " يعني باليمين الكاذبة وشهادة الزور ويقال " بإلاثم " يعني بالجور " وأنتم تعلمون " أنه جور ويقال إنكم تعلمون أنكم تأخذون بالباطل
وهذه الآية نزلت في شأن امرئ القيس بن عابس الكندي وعبدان بن أشوع الحضرمي اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فادعى أحدهما على صاحبه شيئا فأراد الآخر أن يحلف بالكذب فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بحق أخيه وأرى أنه من حقه فإنما أقضي له بقطعة من النار فنزلت هذه الآية فيهما وصارت عامة لجميع الناس وروى سعيد بن المسيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال شاهد الزور إذا شهد لا يرفع قدميه من مكانهما حتى يلعنه الله من فوق العرش(1/152)
153
سورة البقرة الآية 189
قوله تعالى " يسألونك عن الأهلة " الأهلة جمع هلال واشتقاقه من قولهم استهل الصبي إذا صاح وأهل بالحج إذا رفع صوته بالتلبية وكذلك الهلال سمى هلالا لأنه يهل الناس بذكره يعني يرفعون الصوت عند رؤيته وإنما سمي الشهر شهرا لشهرته وقال الضحاك في معنى الآية وذلك إن المسلمين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خرص النخيل والتصرف في زيادة الشهر ونقصانه فنزلت هذه الآية " يسألونك عن الأهلة "
وقوله تعالى " قل هي مواقيت للناس والحج " يعني التصرف في زيادته ونقصانه سواء قال ابن عباس في رواية أبي صالح نزلت هذه الآية في شأن معاذ بن جبل وثعلبة الأنصاري أنهما قالا يا رسول الله ما بال الهلال يبدو فيطلع دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير ثم ينقص فنزل " يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج " يقول هي علامات للناس في حل ديونهم وصومهم وفطرهم وعدة نسائهم ووقت الحج
ثم قال تعالى " وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها " قال الضحاك وذلك أن الكفار كانوا لا يدخلون البيت في أشهر الحج من بابه وكانوا يدخلونه من أعلاه فنزلت هذه الآية وقال ابن عباس في رواية أبي صالح وذلك ان الناس كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم رجل منهم قبل الحج فإن كان من أهل المدر يعني من أهل البيوت ثقب في ظهر بيته فمنه يدخل ومنه يخرج أو يضع سلما فيصعد منه وينحدر عليه وإن كان من أهل الوبر يعني من أهل الخيام يدخل من خلف الخيمة إلا من مكان من أهل الحمس أي نجران وإنما سموا الحمس لأنهم يحمسون في دينهم أي شددوا على أنفسهم فحرموا على أنفسهم أشياء أحل الله عليهم وأحل لهم أشياء كانت حراما على غيرهم وهو الدخول من الباب فنزلت هذه الآية " وليس البر ان تأتوا البيوت من ظهورها " يعني ليس التقوى بأن تأتوا البيوت من خلفها إذا أحرمتم " ولكن البر " يعني التقوى " من اتقى " يعني أطاع الله واتبع أمره ويقال ولكن ذو البر من اتقى الشرك والمعاصي
ثم قال تعالى " واتوا البيوت من أبوابها " يعني ادخلوها محلين ومحرمين " واتقوا الله " ولا تقتلوا الصيد في إحرامكم وهذا قول الكلبي وقال مقاتل " واتقوا الله " ولا تعصوه " لعلكم تفلحون " أي تنجون من العقوبة
سورة البقرة الآيات 190(1/153)
154
194
قوله تعالى " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا " وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه إلى مكة للعمرة فنزل بالحديبية بقرب مكة والحديبية اسم بئر فسمي ذلك الموضع باسم تلك البئر فصده المشركون عن البيت فأقام بالحديبية شهرا وصالحه المشركون على أن يرجع من عامه كما جاء وعلى أن تخلى له مكة في العام المقبل ثلاثة أيام وصالحه المشركون على أن لا يكون بينهم قتال إلى عشر سنين فرجع إلى المدينة فخرج في العام الثاني للقضاء فخاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتلهم المشركون وكرهوا القتال في الشهر الحرام فنزلت هذه الآية " وقاتلوا في سبيل الله " يعني في طاعة الله " الذين يقاتلونكم " يعني في الحرم أو في الشهر الحرام " ولا تعتدوا " بأن تنقضوا العهد وتبدؤوهم بالقتال في الشهر الحرام أو في الحرم " ان الله لا يحب المعتدين " يعني من بدأ بالظلم
قوله تعالى " واقتلوهم حيث ثقفتموهم " أي حيث وجدتموهم في الحل والحرم والشهر الحرام فأمر الله تعالى بقتل المشركين الذين ينقضون العهد
وقوله " وأخرجوهم من حيث أخرجوكم " يعني من مكة " والفتنة " يعني الشرك بالله " أشد " يعني أعظم عند الله " من القتل " في الشهر الحرام
ثم قال تعالى " ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام " يعني في الحرم " حتى يقاتلوكم فيه " يعني يبدؤوكم بالقتال " فإن قاتلوكم " يعني بدؤوكم بالقتال " فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين " يعني هكذا جزاؤهم القتل في الحرم وغيره قرأ حمزة والكسائي " ولا تقتلوهم " بغير ألف " حتى يقتلوكم " " فإن قتلوكم " وقرأ الباقون في هذه المواضع الثلاثة بالألف فمن قرأ بالألف فهو من المقاتلة ومن قرأ بغير ألف فمعناه لا تقتلوهم حتى يقتلوا منكم
ثم قال تعالى " فإن انتهوا " يعني عن قتالكم " فإن الله غفور رحيم " يعني إذا أسلموا وهذا كقوله تعالى " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " الأنفال 38 " وقاتلوهم " يعني أهل مكة " حتى لا تكون فتنة " يعني الشرك بالله تعالى " ويكون الدين لله " يعني الإسلام " فإن انتهوا " عن قتالكم وتركوا الشرك " فلا عدوان "(1/154)
155
يقول لا سبيل ولا حجة عليكم في القتل " إلا على الظالمين " الذين يبدؤونكم بالقتال وقال القتبي أصل العدوان الظلم يعني لا جزاء للظلم إلا على الظالمين
فساق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الهدايا فدخلوا مكة وطافوا بالبيت ونحروا الهدي وأقاموا بمكة ثلاثة أيام ثم انصرفوا فنزل قوله تعالى " الشهر الحرام بالشهر الحرام " يعني الشهر الحرام الذي دخلت فيه الحرم بالشهر الحرام الذي صدوكم عنه يعني العام الأول وهو ذو القعدة " والحرمات قصاص " أي ما اقتصصت لكم في ذي القعدة كما صدوكم ويقال إذا قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام " والحرمات قصاص " يعني قتالكم يكون بقتالهم قصاصا فكما تركوا الحرمة فأنتم تتركون أيضا ذلك
ويقال إن سبب نزول هذه الآية أن المشركين سألوا المسلمين فقالوا في أي شهر يحرم عليكم القتال وأرادوا أن يقفوا على ذلك حتى يقاتلوهم في الشهر الذي حرم القتال على المؤمنين فنزل قوله " ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه " يعني في أي وقت قاتلكم المشركون حل لكم قتالهم
ثم قال تعالى " فمن اعتدى عليكم " يعني قاتلكم في الشهر الحرام " فاعتدوا عليه " أي قاتلوهم فيه وإنما سمي الثاني اعتداء لأنه مجازاة الاعتداء فسمي بمثل اسمه وهذا كقوله عز وجل " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " النحل 126 ثم صارت هذه الآية حكما في جميع الجنايات أن من جنى على إنسان أو في ماله فله أن يجازيه بمثل ذلك بظاهر هذه الآية " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم "
ثم قال " واتقوا الله " عن الاعتداء قبل إن يعتدوا عليكم " واعلموا أن الله مع المتقين " يعني يعين من اتقى الاعتداء
سورة البقرة آية 195
قوله تعالى " وأنفقوا في سبيل الله " يعني في طاعة الله قال ابن عباس وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر الناس بالخروج إلى الجهاد قام إليه ناس من الأعراب حاضري المدينة فقالوا بماذا نتجهز فو الله ما لنا زاد ولا يطعمنا أحد فنزل في قوله تعالى ( وانفقوا في سبيل الله ) يعني تصدقوا يا أهل الميسرة في سبيل الله يعني في طاعة الله " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " يعني ولا تمسكوا بأيديكم عن الصدقة فتهلكوا وهكذا قال مقاتل ومعنى قول ابن عباس ولا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا أي لا تمسكوا عن النفقة والعون للضعفاء فإنهم إذا تخلفوا عنكم غلب عليكم العدو فتهلكوا ومعنى آخر ولا تمسكوا فيرث منكم غيركم فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم معنى آخر ولا تمسكوا فيذهب عنكم الخلف في الدنيا والثواب في الآخرة(1/155)
156
ويقال " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " يعني لا تنفقوا من حرام فيرد عليكم فتهلكوا وقال الزجاج " التهلكة " معناه الهلاك يقال هلك يهلك هلاكا وتهلكة يعني إن لم تنفقوا عصيتم الله تعالى فهلكتم وروي وروي عن البراء بن عازب أن رجلا سأله عن التهلكة فقال أهو الرجل إذا التقى الجمعان فحمل فيقاتل حتى يقتل قال لا ولكن الرجل يذنب ثم لا يتوب وقال قتادة قيل لأبي هريرة ألم تر سعد بن هشام لما التقى الصفان حمل فقاتل حتى قتل ألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو هريرة كلا والله ولكنه تأول آية من كتاب الله " ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله " البقرة 207
وقال أبو عبيدة السلماني " التهلكة " أن يذنب الرجل فيقنط من رحمة الله فيهلك
وروي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار إنا لما أعز الله دينه الإسلام وكثرنا قلنا فيما بيننا إن أموالنا قد ضاعت فلو أقمنا فيها وأصلحنا منها ما ضاع فأنزل الله تعالى " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " فكانت التهلكة في الإقامة التي أردنا أن نقيم في أموالنا ونصلحها فأمرنا بالغزو
ثم قال تعالى " وأحسنوا " يعني أحسنوا النفقة من الصدقة " إن الله يحب المحسنين " في النفقة ويقال " وأحسنوا " يعني النفقة أي أخلصوا النية في النفقة ويقال " وأحسنوا " الظن بالله تعالى فيما أنفقتم إنه يخلفكم في الدنيا ويثيبكم في الآخرة
سورة البقرة آية 196
قوله تعالى " وأتموا الحج والعمرة لله " قرأ الشعبي " والعمرة لله " بالضم على معنى الابتداء وقرأ العامة " والعمرة " بالنصب على معنى البناء قال ابن عباس تمام العمرة إلى البيت وتمام الحج إلى آخر الحج كله وقال مقاتل " وأتموا الحج والعمرة لله " من المواقيت ولا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم وذلك أنهم كانوا يشركون في إحرامهم ومعنى قول مقاتل أنهم كانوا يشركون فيقولون لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك فقال فأتموهما ولا تخلطوا بهما شيئا آخر ثم خوفهم بقوله تعالى " واعلموا أن الله شديد العقاب " فيما تعديتم
ثم قال تعالى " فإن أحصرتم " يعني حبستم عن البيت بعدما أحرمتم وقال القتبي الإحصار هو أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين الحج من مرض أو كسر أو عدو وقال(1/156)
157
الفراء الإحصار ما ابتلي به الرجل في إحرامه من المرض أو العدو وغيره وقال بعضهم لا يكون الإحصار إلا من العدو وهو قول الشافعي وقال بعضهم يكون من العدو ومن المرض وبه قال علماؤنا رحمهم الله
ثم قال " فما استيسر من الهدي " يعني ابعثوا إلى البيت ما استيسر من الهدي فالله تعالى رخص لمن عجز عن الوصول إلى البيت بالعذر أن يبعث الهدي فيذبح عنه بمكة ويحل الرجل من إحرامه إذا ذبح هديه ويرجع إلى أهله ثم يقضي حجه وعمرته بعد ذلك
ثم قال تعالى " ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله " يعني المحصر إذا بعث بالهدي لا يجوز له أن يحل من إحرامه ما لم يذبح هديه يقول لا يحلق رأسه حتى يكون اليوم الذي واعده فيه ويعلم أن هديه قد ذبح ثم صار هذا أصلا لجميع الحاج من كان مفردا أو متمتعا أو قارنا لا يجوز له أن يحلق رأسه إلا بعد أن يذبح هديه إن لم يكن محصرا
ثم قال تعالى " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام " يعني إذا حلق رأسه على وجه الإضمار مثل قوله تعالى " فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم " البقرة 184يعني إذا كان أفطر وروي عن كعب بن عجرة أنه قال في نزلت هذه الآية وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بي والقمل يتناثر على وجهي فقال أيؤذيك هوام رأسك فقلت نعم فأمرني بأن أحلق وأطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من حنطة أو صم ثلاثة أيام أو أنسك نسيكة يعني اذبح شاة فنزلت هذه الآية " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " أي شاة يذبحها قرأ حمزة " حتى يبلغ الهدي محله " وروي عن عبد الرحمن الأعرج أنه قرأها بتشديد الياء وواحدها هدية وقرأ الباقون بالتخفيف يقال هدي وهدية للواحدة
ثم قال " فإذا أمنتم " وهذا على سبيل الاختصار والإضمار ومعناه فإذا أمنتم من العدو فاقضوا ما وجب عليكم من الحج والعمرة ويقال إذا امنتم من العدو وبرأتم من المرض فحجوا واعتمروا
ثم قال " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي " يعني فعليه ما تيسر من الهدي وللمتمتع أن يعتمر ويحج في سفرة واحدة من أشهر الحج والمحرمون أربعة مفرد بالحج ومفرد بالعمرة والمتمتع والقارن فأما المفرد بالحج أن يحج ويعتمر والمفرد(1/157)
158
بالعمرة أن يعتمر ولا يحج وأما المتمتع أن يعتمر في أشهر الحج ويمكث بمكة حتى يحج بعدما فرغ من عمرته وأما القارن فهو الذي يحرم بالحج والعمرة جميعا فمن كان مفردا بالحج أو بالعمرة فلا يجب عليه الهدي ومن كان متمتعا أو قارنا فعليه الهدي وقال عبد الله بن عمر الهدي الجزور وقال ابن عباس أقله شاة وبه أخذ علماؤنا
" فمن لم يجد " يعني إن لم يجد الهدي " فصيام ثلاثة أيام في الحج " قال ابن عباس آخرها يوم عرفة " وسبعة إذا رجعتم " قال بعضهم " إذا رجعتم " يعني إلى أهاليكم وقال بعضهم إذا رجعتم من منى وقال بعضهم إذا رجعتم إلى الأمر الأول يعني إذا فرغتم من أمر الحج وبهذا القول نقول
ثم قال " تلك عشرة كاملة " البدل من الهدي يعني العشرة الكاملة كلها بدل عن الهدي " ذلك " الفداء " لمن لم يكن أهله " ومنزله في الحرم وقال قتادة ومقاتل ذلك يعني التمتع لمن لم يكن أهله " حاضرو المسجد الحرام " يعني الحرم " واتقوا الله " فيما أمركم به ونهاكم عنه " واعلموا أن الله شديد العقاب " إن خالفتم أمره
سورة البقرة آية 197
ثم قال عز وجل " الحج أشهر معلومات " أي وقت الحج أشهر معلومات وهو شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة " فمن فرض فيهن الحج " قال القتبي الفرض هو إيجاب وجوب الشيء يقال فرضت عليك كذا أي أوجبته قال الله تعالى " فنصف ما فرضتم " أي ما ألزمتم أنفسكم وقال " وقد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم " الأحزاب 50 وقال " فمن فرض فيهن الحج " يعني فمن أحرم في هذه الأشهر بالحج " فلا رفث ولا فسوق ولا جدال " قرأ ابن كثير وأبو عمرو " فلا رفث ولا فسوق " بالرفع مع التنوين وقرأ الباقون بالنصب بغير تنوين واتفقوا في قوله " ولا جدال " بالنصب غير أبي جعفر المدني فإنه قرأ بالرفع وهذا يقال له لا التبرية فكل موضع يدخل فيه لا التبرية فصاحبه بالخيار إن شاء نصبه بغير تنوين وإن شاء ضمه بالتنوين مثل قوله " ولا خلة ولا شفاعة " البقرة 254
وتفسير الرفث هو الجماع كقوله عز وجل " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " البقرة 187 وقال بعضهم الرفث التعرض بذكر النساء والفسوق هو السباب والجدال أن يماري صاحبه حتى يغيظه يعني من كان محرما لا يجامع في إحرامه ولا يسب ولا يماري ويقال الفسوق الذبح للأصنام كقوله " أو فسقا أهل لغير الله به " الأنعام 145 والجدال هو أن قريشا كانت تقف بالمزدلفة وكانوا يجادلون كل فريق يقولون نحن أصوب سبيلا وروي عن مجاهد أنه قال قد استقر الحج في ذي الحجة فلا جدال فيه وذلك أن(1/158)
159
المشركين كانوا يحجون عامين في ذي القعدة وعامين في ذي الحجة فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث أبا بكر ليحج بالناس فوافق ذلك آخر عام ذي القعدة فلما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وافق ذلك أول عامي ذي الحجة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا إن الزمان قد استدار كهيئتة يوم خلق الله السموات والأرض يعني رجع أمر الحج إلى ذي الحجة كما كان فنزل قوله " ذو لا جدال في الحج "
ثم قال تعالى " وما تفعلوا من خير " يعني من ترك الفسوق والمرأة والجدال " يعلمه الله " يعني يقبله الله فيجازيكم به
ثم قال عز وجل " وتزودوا " في سفركم للحج والعمرة ما تكفون به وجوهكم عن المسألة " فإن خير الزاد التقوى " وقال مقاتل وذلك أن أناسا من أهل اليمن كانوا يخرجون بغير زاد ويصيبون من أهل الطريق ظلما فنزلت في شأنهم " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " وقال بعضهم معناه تزودوا لسفر الدنيا بالطعام وتزودوا لسفر الآخرة بالتقوى " فإن خير الزاد التقوى " ويقال " خير الزاد " هو التوكل على الله وأن لا يؤذي أحد لأجل الزاد والطعام ثم قال تعالى " واتقون يا أولي الألباب " يعني اطيعوني يا ذوي العقول فيما أمرتكم به
سورة البقرة الآيات 198 - 200
ثم قال تعالى " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " وذلك أنهم كانوا إذا حجوا كفوا عن التجارة وطلب المعيشة في الحج فلم يشتروا ولم يبيعوا حتى تمضي أيام حجهم فجعل الله تعالى لهم رخصة في ذلك فقال " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " أي لا مانع عليكم أن تطلبوا رزقا من ربكم من التجارة في أيام الحج وقال مقاتل سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سوق عكاظ وسوق منى وذي المجاز في الجاهلية كنا نقوم في التجارة قبل الحج وبعد الحج فهل يصلح لنا البيع والشراء في أيام حجنا فنزلت هذه الآية ومعنى آخر ما روي عن عبد الله بن عمر أن رجلا سأله فقال إني رجل أكري الإبل إلى مكة(1/159)
160
أفيجزئ عني من حجي فقال أولست تلبي وتقف بعرفات وترمي الجمار فقال نعم فقال سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل ما سألتني فلم يجبه حتى نزلت هذه الآية " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " وروي عن ابن عباس نحوه
ثم قال تعالى " فإذا أفضتم من عرفات " يعني إذا رجعتم من عرفات بعد غروب الشمس " فاذكروا الله عند المشعر الحرام " يعني بالمزدلفة وقال عطاء إنما سميت عرفات لأن جبريل عليه السلام كان يعلم إبراهيم عليه السلام أمور المناسك فكان يقول له عرفت فيقول عرفت فسميت عرفات وقال ابن عباس إنما سميت منى لأن جبريل قال لآدم تمن قال أتمنى الجنة فسميت منى قال وإنما سميت جمع لأنه اجتمع فيه آدم وحواء والجمع أيضا هو المزدلفة وهو المشعر الحرام
ثم قال تعالى " واذكروه كما هداكم " يقول اشكروا الله كما هداكم لدين الإسلام " وإن كنتم من قبله " يعني وقد كنتم " من قبله لمن الضالين " عن الهدى وكانت قريش لا تخرج من الحرم إلى عرفات وكان الناس يقفون خارج الحرم من كان من أهل اليمن وغيرهم بعرفات ويفيضون منها فأمر الله تعالى قريشا أن يقفوا من حيث وقف الناس ويفيضوا من حيث أفاض الناس فقال تعالى " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله " لذنوبكم في الموقف " إن الله غفور رحيم " يعني متجاوز عن ذنوبكم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يخرج بالناس جميعا إلى عرفات فيقف بها وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله تعالى يباهي ملائكته بأهل عرفات ويقول انظروا إلى عبادي جاؤوا من كل فج عميق شعثا غبرا إشهدوا أني قد غفرت لهم
ثم قال عز وجل " فإذا قضيتم مناسككم " يعني فرغتم من أمر حجكم " فاذكروا الله " باللسان " كذكركم آباءكم " في ذلك الموقف " أو أشد ذكرا " يقول أو أكثر ذكرا وذلك أن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم وقفوا بين المسجد الذي بمنى وبين الجبل ثم ذكر كل واحد منهم أباه بما كان يعلم منه من الخير ثم يتفرقون قال الله تعالى فاذكروني بالخير " كذكركم آباءكم " بالخير فإن ذلك الخير مني وقال عطاء بن أبي رباح قوله في " كذكركم آباءكم " هو كقوله الصبي أبه أبه يعني أن الصبي إذا كان أول ما يتكلم فإن أكثر قوله أب أب ويقال " فاذكروا الله كذكركم " آبائكم لأبيكم آدم لأنه لا أب له بل " أشد ذكرا " لأني خلقته من غير أب ولا أم وخلقتكم من الآباء والأمهات
ثم قال تعالى " فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا " وهم المشركون أي كانوا(1/160)
161
يقولون إذا وقفوا اللهم ارزقنا إبلا وبقرا وغنما وعبيدا وإماء وأموالا ولم يكونوا يسألون لأنفسهم التوبة ولا المغفرة فأنزل الله تعالى " فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا " " وما له في الآخرة من خلاق " أي نصيب
سورة البقرة الآيات 201 - 202
قوله تعالى " ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة " قال ابن عباس يعني المغفرة والشهادة والغنيمة " وفي الآخرة حسنة " أي الجنة وقال القتبي الحسنة النعمة كقوله " إن تصبك حسنة تسؤهم " التوبة 50 أي نعمة وقال الحسن البصري " آتنا في الدنيا حسنة " أي العلم والعبادة " وفي الآخرة حسنة " أي الجنة قال الإمام حسنة الدنيا ذكر ثوابك وقوت من الحلال يكفيك وزوجة صالحة ترضيك وعلم إلى الحق يهديك وعمل صالح ينجيك وأما حسنة الآخرة أرض الخصومات وعفو السيئات وقبول الطاعات والنجاة من الدركات والفوز بالدرجات " وقنا عذاب النار " يعني ادفع عنا عذاب النار
" أولئك " الذين يدعون بهذا الدعاء " لهم نصيب " أي حظ " مما كسبوا " من حجهم ويقال لهم ثواب مما عملوا وقال قتادة ذكر لنا أن رجلا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول اللهم ما كنت معاقبني به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فأضني الرجل في مرضه حتى نحل جسمه فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فأخبره بأنه كان يدعو بكذا وكذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا ابن آدم إنك لا تستطيع أن تقوم بعقوبة الله تعالى ولكن قل " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " فدعا بها الرجل فبرأ
ثم قال عز وجل " والله سريع الحساب " قال الكلبي إذا حاسب فحسابه سريع ويقال والله سريع الحفظ وقال الضحاك يعني لا يغالط العباد في الحساب يوم القيامة ولا يشغله ذلك ويقال يحاسب كل إنسان فيظن كل واحد منهم أنه يحاسبه خاصة
سورة البقرة الآية 203
وقوله تعالى " واذكروا الله في أيام معدودات " أي معروفات وهي أيام التشريق وقال القتبي المعدودات أيام التشريق والمعلومات أيام النحر بدليل قوله " في أيام معلومات على ما(1/161)
162
رزقهم من بهيمة الأنعام ) فذكر النحر في تلك الأيام وقال يحيى بن سعيد سألت عطاء عن الأيام المعدودات وعن المعلومات قال الأيام المعدودة أيام النحر والمعلومات أيام العشر وقال بعضهم الأيام المعدودات أيام التشريق بدليل ما سبق في سياق الآية " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه " والمعلومات أيام النحر بدليل قوله تعالى " في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الانعام " فذكر النحر في تلك الأيام وقال الضحاك معنى قوله " واذكروا الله في أيام معدودات " أي معروفات وهي أيام التشريق يعني كبروا دبر كل صلاة من يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق ويقال " واذكروا الله في أيام معدودات " يعني التكبير عند رمي الجمار
ثم قال تعالى " فمن تعجل في يومين " يعني رجع إلى أهله بعدما رمى في يومين وترك الرمي في اليوم الثالث " فلا إثم عليه " في تعجيله " ومن تأخر " إلى آخر النفر " فلا إثم عليه " في تأخيره " لمن اتقى " يعني قتل الصيد في الإحرام وفي الحرم وقال قتادة ذكر لنا أن ابن مسعود قال إنما جعلت المغفرة لمن اتقى في حجه ويقال لمن اتقى بعد انصرافه من الحج عن جميع المعاصي وإنما حذرهم الله تعالى لأنهم إذا رجعوا من حجهم يجترئون على الله تعالى بالمعاصي فحذرهم عن ذلك فقال " واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون " فيجازيكم بأعمالكم
سورة البقرة الآيات 204 - 206
قوله تعالى " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا " يعني كلامه وحديثه وهو أخنس بن شريق كان حلو الكلام حلو المنظر فاجر السريرة وروى أسباط عن السدي قال أقبل اخنس بن شريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وقال إنما جئت أريد الإسلام وقال الله تعالى يعلم أني صادق فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ثم خرج من عنده فمر بزرع للمسلمين فأحرقه ومر بحمار للمسلمين فعقره فنزلت هذه الآية " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا " يعني يعجبك كلامه وحديثه " ويشهد الله على ما في قلبه " من الضمير أنه يحبه ويريد الإسلام " وهو ألد الخصام " يعني شديد الخصومة قال القتبي يعني أشدهم خصومة يقال رجل ألد بين اللدد وقوم لد كما قال في آية أخرى " وتنذر به قوما لدا " مريم97(1/162)
163
ثم قال " وإذا تولى " يعني إذا فارقك رجع عنك " سعى في الأرض " أي مضى في الأرض بالمعاصي " ليفسد فيها " يعني يعصي الله في الأرض " ويهلك الحرث والنسل " يعني يحرق الكدس ويعقر الدواب " والله لا يحب الفساد " أي لا يرضى بعمل المعاصي
قوله تعالى " وإذا قيل له اتق الله " في صنعك " أخذته العزة بإلاثم " يعني الحمية في الإثم يعني تكبرا يقول الله تعالى " فحسبه جهنم ولبئس المهاد " يعني ولبئس الفراش ولبئس القرار وهذه الآية نزلت في شأن أخنس بن شريق ولكنها صارت عامة لجميع الناس فمن عمل مثل عمله استوجب تلك العقوبة وقال بعض الحكماء إن من يقتل حمارا ويحرق كدسا استوجب الملامة ولحقه الشين إلى يوم القيامة فالذي يسعى بقتل مسلم كيف يكون حاله وذكر أن يهوديا كانت له حاجة إلى هارون الرشيد فاختلف إلى بابه سنة فلم يقض حاجته فوقف يوما على الباب فلما خرج هارون سعى ووقف بين يديه وقال اتق الله يا أمير المؤمنين فنزل هارون عن دابته وخر ساجدا لله فلما رفع رأسه أمر بحاجته فقضيت له فلما رجع قيل يا أمير المؤمنين نزلت عن دابتك بقول يهودي قال لا ولكن تذكرت قول الله تعالى " وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم وبئس المهاد " وقال قتادة ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعيتم إلى الله فأجيبوا وإذا سئلتم بالله فأعطوا فإن المؤمنين كانوا كذلك
سورة البقرة الآية 207
قوله تعالى " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله " قال ابن عباس نزلت هذه الآية في شأن صهيب بن سنان الرومي مولى عبد الله بن جدعان وفي نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عمار بن ياسر وسمية أم عمار وخباب بن الأرت وغيرهم أخذهم المشركون فعذبوهم فأما صهيب فإنه كان شيخا كبيرا وله مال ومتاع فقال لأهل مكة إني شيخ كبير لا أضركم إن كنت معكم أو مع عدوكم فأنا أعطيكم مالي ومتاعي وذروني وديني اشتريه منكم بمالي ففعلوا ذلك وأعطاهم ماله إلا مقدار راحلته وتوجه إلى المدينة فلما دخل المدينة لقيه أبو بكر فقال له ربح البيع يا صهيب فقال له وبيعك لا يخسر فقال وما ذلك يا أبا بكر فأخبره بما نزل فيه ففرح بذلك صهيب وقتل ياسر أبو عمار وأمه سميه فنزلت هذه الآية في شأن صهيب " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " يعنس يشري نفسه ودينه وهذا من أسماء الأضداد يقال شرى واشترى وباع وابتاع " ابتغاء مرضاة الله " يعني يشتري نفسه ودينه يطلب رضاء الله " والله رؤوف بالعباد " يعني رحيم بهم ثم هذه الآية صارت عامة لجميع الناس من بذل ماله ليصون به نفسه ودينه فهو من أهل هذه الآية(1/163)
164
سورة البقرة الآيات 208 - 209
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة " قرأ نافع وابن كثير والكسائي " السلم " بنصب السين وقرأ الباقون بالكسر " والسلم " بالكسر هو الإسلام والسلم بالنصب هو المسالمة والصلح ويقال السلم والسلم في اللغة هو الصلح قال ابن عباس نزلت هذه الآية فيمن أسلم من أهل الكتاب كانوا يتقون السبت ويحرمون أكل لحم الجمال فنزل " يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة " يعني في شرائع دين محمد صلى الله عليه وسلم " ولا تتبعوا خطوات الشيطان " يعني طاعات الشيطان
وقال مقاتل استأذن عبد الله بن سلام وأصحابه بأن يقرؤوا التوراة في الصلاة وأن يعملوا ببعض ما في التوراة فنزل " ولا تتبعوا خطوات الشيطان " فإن اتباع السنة أولى بعدما بعث محمد صلى الله عليه وسلم " من خطوات الشيطان " وقال بعضهم " ادخلو في السلم كافة " يعني اثبتوا على شرائع محمد صلى الله عليه وسلم ولا تخرجوا منها
وقوله تعالى " كافة " يعني عبارة عن الجميع فيجوز أن يكون معناه ادخلوا جميعا ويجوز أن يكون معناه ادخلوا في جميع شرائعه " ولا تتبعوا خطوات الشيطان " أي لا تسلكوا الطرق التي يدعوكم إليها الشيطان " إنه لكم عدو مبين " ظاهر العداوة
ثم قال عز وجل " فإن زللتم " يعني ملتم عن شرائع محمد صلى الله عليه وسلم " من بعد ما جاءتكم البينات " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وشرائعه " فاعلموا أن الله عزيز " عزيز بالنقمة " حكيم " في أمره وقال مقاتل " حكيم " أي يحكم حكم عليهم بالعذاب الشديد
سورة البقرة الآية 210
قوله تعالى " هل ينظرون " هل في القرآن على سبعة أوجه في موضع يراد بها قد كقوله " وهل آتاك " الغاشية 1 أي قد أتاك ومرة يراد بها الاستفهام كقوله " هل إلى مرد من سبيل " الشورى 44 ومرة يراد بها السؤال كقوله " فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا " الأعراف 44 ومرة يراد به التفهيم كقوله " هل أدلكم على تجارة " الصف 10 ومرة يراد به التوبيخ كقوله " هل انبئكم على من تنزل الشياطين " الشعراء 221 وقد يذكر ويراد به الأمر كقوله " فهل أنتم منتهون " المائدة 91 أي انتهوا ومرة يراد به الجحد كقوله في هذا الموضع " هل ينظرون " " إلا أن يأتيهم الله " يعني ما ينظرون وقال ابن عباس في(1/164)
165
رواية أبي صالح هذا من المكتوم الذي لا يفسر وروى عبد الرزاق عن سفيان الثوري قال ابن عباس تفسير القرآن على أربعة أوجه تفسير يعلمه العلماء وتفسير تعرفه العرب وتفسير لا يقدر أحد لجهالته وتفسير لا يعلم تأويله إلا الله عز وجل ومن ادعى علمه فهو كاذب وهذا موافق لقوله تعالى " وما يعلم تأويله إلا الله " آل عمران 7 وكذلك هذه الآية سكت بعضهم عن تأويلها وقالوا لا يعلم تأويلها إلا الله وبعضهم تأولها فقال هذا وعيد للكفار فقال " هل ينظرون " أي ماذا ينتظرون ولا يؤمنون ما ينظرون " إلا أن يأتيهم الله " يعني أمر الله تعالى كما قال في موضع آخر " فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا " الحشر2 يعني أمر الله تعالى وقال بعضهم " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله " معناه بما وعد لهم من العذاب " في ظلل من الغمام " يعني في غمام فيه ظلمة ويقال على غمام فيه ظلمة
" والملائكة " قرأ أبو جعفر بكسر الهاء يعني في ظلل من الغمام وفي الملائكة وهي قراءة شاذة والقراءة المعروفة بالضم يعني تأتيهم الملائكة وقال قتادة " والملائكة " يعني تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم ويقال يوم القيامة " وقضي الأمر " يعني فرغ مما يوعدون يعني دخول أهل الجنة في الجنة ودخول أهل النار في النار " وإلى الله ترجع الأمور " يعني عواقب الأمور قرأ حمزة والكسائي وابن عامر " ترجع " بنصب التاء ويكون الفعل للأمور وقرأ الباقون بضم التاء على فعل ما لم يسم فاعله
سورة البقرة آية 211
قوله تعالى " سل بني إسرائيل كم آتيناهم " ومعناه سل علماء بني إسرائيل كم أعطيناهم " من آية بينة " حين فرق لهم البحر وأهلك عدوهم وأنزل عليهم المن والسلوى ويقال " كم آتيناهم من آية بينة " يعني نعت محمد صلى الله عليه وسلم
ثم قال " ومن يبدل نعمة الله " يعني يغير نعمة الله تعالى " من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب " يعني يقول إذا لم يشكروا نعمة الله تزول عنهم النعم ويستوجبوا العقوبة
سورة البقرة الآية 212
قوله تعالى " زين للذين كفروا الحياة الدنيا " قال الكلبي نزلت في شان رؤساء قريش زين لهم ما بسط لهم في الدنيا من الخير " ويسخرون من الذين آمنوا " في أمر المعيشة لأنهم كانوا فقراء
" والذين اتقوا " يعني أطاعوا الله وهم فقراء المؤمنين " فوقهم يوم القيامة " يعني(1/165)
166
فوق المشركين في الجنة والحجة في الدنيا وقد اختلفوا في قوله " زين للذين كفروا " قال بعضهم يعني زينها لهم إبليس لأن الله تعالى قد زهدهم فيها وأعلم أنها متاع الغرور ولكن الشيطان زين لهم الأشياء كما قال في آية أخرى " وزين لهم الشيطان أعمالهم " النمل 24 وقال بعضهم معناه أن الله تعالى زين لهم لأن خلق فيها الأشياء المعجبة فنظر إليها الذين كفروا فاغتروا بذلك كما قال في آية أخرى " زينا لهم أعمالهم " النمل4 وكان ذلك مجازاة لكفرهم
وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى لملائكته لولا أن يجزع عبدي المؤمن لعصبت الكافر بعصابة من ذهب ولصببت عليه الدنيا صبا ومصداق ذلك في القرآن " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة " الزخرف 33 الآية وقال صلى الله عليه وسلم لو أن الدنيا تزن عند الله قدر جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء
ثم قال تعالى " والله يرزق من يشاء بغير حساب " يعني يرزق من يشاء رزقا كثيرا لا يعرف حسابه ويقال معناه " يرزق من يشاء بغير حساب " يعني ليس له أحد يحاسبه منه بما يرزقه ويقال " بغير حساب " يعني بغير احتساب كما قال في آية أخرى " ويرزقه من حيث لا يحتسب " الطلاق 3 وكل ما في القرآن " يرزق من يشاء بغير حساب " فهو على هذه الوجوه الأربعة
سورة البقرة آية 213
قوله تعالى " كان الناس أمة واحدة " قال الزجاج الأمة على وجوه منها القرن من الناس كما يقال مضت أمم أي قرون والأمة الرجل الذي لا نظير له ومنه قوله " إن إبراهيم كان أمة " النحل 120 والأمة الدين وهو الذي قال هاهنا " كان الناس أمة واحدة " يعني على دين واحد وعلى ملة واحدة وقال بعضهم كان الناس كلهم على دين الإسلام جميع من كان مع نوح في السفينة ثم تفرقوا " فبعث الله النبيين " وقال بعضهم كان الناس كلهم كفارا في عهد نوح وعهد إبراهيم فبعث الله للناس إبراهيم وإسماعيل ولوطا(1/166)
167
وموسى ومن بعدهم " مبشرين " بالجنة لمن أطاع الله " ومنذرين " بالنار لمن عصى الله " وأنزل معهم الكتاب بالحق " يقول بالعدل " ليحكم بين الناس " يعني يقضي بينهم " فيما اختلفوا فيه " من أمور الدين " وما اختلف فيه " أي الدين " إلا الذين أوتوه " يعني أعطوا الكتاب " من بعد ما جاءتهم البينات " يعني جاءهم البيان من الله تعالى " بغيا بينهم " يعني اختلفوا فيه حسدا بينهم " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه " يعني هداهم ووفقهم حتى أبصروا الحق من الباطل " بإذنه " بتوفيقه ويقال برحمته " والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " يعني الإسلام ويقال فعصم الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بعصمته " والله يهدي " من يشاء إلى دين الإسلام ويقال يوفق الله بتوفيقه إذا جهدوا في طلب الحق " والله يهدي " يعني يوفق من يشاء إلى صراط مستقيم
سورة البقرة الآية 214
قوله تعالى " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة " يقول أظننتم أن تدخلوا الجنة " ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم " أي لم يأتكم صفة الذين مضوا من قبلكم يعني لم يصبكم مثل الذي أصاب من قبلكم ويقال لم تبتلوا بمثل الذي ابتلي من قبلكم " مستهم البأساء والضراء " " البأساء " الشدة والبؤس " والضراء " البلاء والأمراض " وزلزلوا " أي حركوا وأجهدوا " حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه " قال مقاتل يعني شعيبا النبي صلى الله عليه وسلم وهو اليسع وقال الكلبي هذا في كل رسول بعث إلى أمته واجتهد في ذلك حتى قال " متى نصر الله " قال الله تعالى " ألا إن نصر الله قريب "
روي عن الضحاك أنه قال يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ومعنى ذلك أظننتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا كما ابتلي الذين من قبلكم " مستهم البأساء والضراء " فيصيبكم مثل ذلك حتى يقول محمد صلى الله عليه وسلم " متى نصر الله " قال الله تعالى " ألا إن نصر الله قريب " يعني فتح الله تعالى عاجل وإنما ظهر لهم ذلك في يوم الأحزاب فأصابهم خوف شديد وكانوا كما قال الله تعالى " وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا " الأحزاب10 فصدق الله وعده وأرسل عليهم ريحا وجنودا لم تروها وهزموا الكفار فذلك قوله تعالى " ألا إن نصر الله قريب " قرأ نافع " حتى يقول الرسول " بالرفع على معنى الاستئناف وقرأ الباقون بالنصب على معنى الماضي
سورة البقرة الآية 215
قوله تعالى " يسألونك ماذا ينفقون " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حثهم على الصدقة قال(1/167)
168
عمرو بن الجموح يا رسول الله كم ننفق وعلى من ننفق فنزلت هذه الآية " يسألونك ماذا ينفقون " أي ماذا يتصدقون من أموالهم " قل ما أنفقتم من خير " يعني من مال " فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل " يعني أنفقوا على الوالدين والقرابة وعلى جميع المساكين فهذا جواب قولهم على من ننفق ونزل جواب قولهم " ماذا ينفقون " قوله تعالى " قل العفو " البقرة 219 يعني الفضل من المال ثم نسخ ذلك بآية الزكاة وقال بعضهم آية الزكاة نسخت كل صدقة كانت قبلها وقال بعضهم هذه الآية ليست بمنسوخة وإنما فيها بر الوالدين وصلة الأرحام ثم قال تعالى " وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم " يعني يجازيكم به
سورة البقرة الآيات 216 - 217
قوله تعالى " كتب عليكم القتال " أي فرض عليكم القتال " وهو كره لكم " أي شاق عليكم وذلك أن الله تعالى لما أمرهم بالجهاد كرهوا الخروج وإنما كانت كراهتهم له لأنه كان في الخروج عليهم مشقة لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى
ثم قال " وعسى أن تكرهوا شيئا " يعني الجهاد " وهو خير لكم " لأن فيه فتحا وغنيمة وشهادة وفيه إظهار الإسلام " وعسى أن تحبوا شيئا " وهو الجلوس عن الجهاد " وهو شر لكم " لأنه يسلط عليكم عدوكم " والله يعلم " أن الجهاد خير لكم " وأنتم لا تعلمون " ذلك حين أحببتم القعود عن الجهاد ويقال " والله يعلم " ما كان فيه صلاحكم وأنتم لا تعلمون ذلك خيرا حين أحببتم القعود عن الجهاد
قوله تعالى " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش مع تسعة رهط في جمادى الآخرة قبل بدر بشهرين إلى عير لقريش فلقوا العير وكان ذلك آخر الشهر فأمر عبد الله بن جحش بعض أصحابه فحلق رأسه فلما رآهم المشركون أمنوا وظنوا أنه دخل رجب فقاتلهم المسلمون وأخذوا أموالهم فعيرهم المشركون بذلك فنزلت هذه الآية " يسألونك عن الشهر الحرام " قال الزجاج معناه يسألونك عن(1/168)
169
القتال في الشهر الحرام وقال القتبي يسألونك عن القتال في الشهر الحرام هل يجوز فأبدل قتالا من الشهر الحرام
ثم قال تعالى " قل قتال فيه كبير " أي عظيم عند الله وتم الكلام ثم قال " وصد عن سبيل الله " يقول منع الناس عن دين الله وعن الكعبة أن يطاف بها " وكفر به " أي بالله تعالى ويقال " وكفر به " أي بالحج
وقوله " المسجد الحرام " وإنما صار خفضا لأنه عطف على سبيل الله كأنه قال وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام وكفر بالله تعالى " وإخراج أهله منه " أي من المسجد " أكبر عند الله من القتل " أي أعظم عقوبة عند الله من القتل في الشهر الحرام " والفتنة " يعني الشرك " أكبر من القتل " أعظم عقوبة من القتل في الشهر الحرام
ثم قال تعالى " ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم " الإسلام إلى دينهم الكفر " إن استطاعوا " أي إن قدروا على ذلك ولكنهم لا يقدرون عليه
ثم هدد المسلمين ليثبتوا على دينهم الإسلام فقال " ومن يرتدد منكم عن دينه " يعني الإسلام " فيمت وهو كافر " بالله تعالى " فأولئك حبطت أعمالهم " أي بطلت حسناتهم " في الدنيا والآخرة " يعني لا يكون لأعمالهم التي عملوا ثواب كما قال تعالى في آية أخرى " فجعلناه هباء منثورا " الفرقان 23 وقال في آية أخرى " فلا نقيم لهم يوما القيامة وزنا " الكهف 105 " وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " أي دائمون
قال الفقيه حدثنا إبراهيم محمد بن سعيد قال حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال حدثنا إبراهيم بن داود قال حدثنا المقدمي عن المعتمر بن سليمان عن أبيه قال حدثنا الحضرمي عن أبي السوار عن جندب بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رهطا وبعث عبد الله بن جحش وكتب له كتابا وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا وقال لا تكره أحدا من أصحابك على المسير فلما بلغ المكان قرأ الكتاب فاسترجع ثم قال السمع والطاعة لله ولرسوله فرجع رجلان ومضى بقيتهم فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب فقال المشركون قتلهم محمد في الشهر الحرام فأنزل الله تعالى الآية " يسألونك عن الشهر الحرام " إلى آخر الآية فقال المشركون لو لم يكن عليهم وزر فليس لهم أجر فنزل قوله تعالى
سورة البقرة الآية 218
قوله تعالى " إن الذين آمنوا والذين هاجروا " من مكة " وجاهدوا في سبيل الله " يعني في طاعة الله بقتل ابن الحضرمي " أولئك يرجون رحمة الله " أي ينالون جنة الله " والله غفور(1/169)
170
رحيم ) بقتالهم في الشهر الحرام ثم نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام وصار مباحا بقوله تعالى " فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة " التوبة 136 فنهاهم الله عن ظلم أنفسهم بالسيئات والخطايا وأمرهم بالقتال عاما وروى أبو يوسف عن الكلبي أن القتال في الشهر الحرام لا يجوز وقال أبو جعفر الطحاوي لا نعلم أن أهل العلم اختلفوا أن قتال المشركين في الشهر الحرام غير جائز وروي عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن قتال الكفار في الشهر الحرام فقال لا بأس به وكذلك قال سليمان بن يسار وغيره
سورة البقرة الآيات 219 - 220
قوله تعالى " يسألونك عن الخمر والميسر " قال بعض المفسرين إن الله لم يدع شيئا من الكرامة والبر إلا وقد أعطى هذه الأمة ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب عليهم الشرائع دفعة واحدة ولكن أوجب عليهم مرة بعد مرة فكذلك في تحريم الخمر كانوا مولعين بشربها فنزلت هذه الآية " يسألونك عن الخمر والميسر " أي عن شرب الخمر والميسر وهو القمار " قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس " في تجارتهم " وإثمهما أكبر من نفعهما " فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير ولم يتركها بعض الناس وقالوا إنما نأخذ منفعتها ونترك إثمها ثم نزلت هذه الآية " وا تقربوا الصلوة وأنتم سكارى " النساء 43فتركها بعض الناس وقالوا لا حاجة لنا فيما يمنعنا من الصلاة وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة حتى نزلت هذه الآية " يأيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب " ( المائدة 90 ) إلى آخر الآية فصارت حراما عليهم حتى كان يقول بعضهم ما حرم علينا من شيء أشد من الخمر وقيل " إثم كبير " في أخذها ومنافع في تركها
وروي أن الأعشى توجه إلى المدينة ليسلم فلقيه بعض المشركين في الطريق فقالوا له أين تذهب فأخبرهم أنه يريد محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا لا تقصد إليه فإنه يأمرك بالصلاة فقال إن خدمة الرب واجبة فقالوا له إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء فقال اصنطاع المعروف واجب فقيل له إنه ينهى عن الزنى فقال إن الزنى فحش قبيح في العقل وقد صرت شيخا فلا أحتاج إليه فقيل له إنه ينهى عن شرب الخمر قال أما هذا فإني لا أصبر عنها فرجع وقال أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه فلم يصل إلى منزله حتى سقط عن البعير فانكسر عنقه فمات وقال بعضهم في هذه الآية ما دل على تحريمه لأنه سماها إثما وقد(1/170)
171
حرم الإثم في آية أخرى وهو قوله تعالى " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغى " الأعراف 33 وقال بعضهم أراد بالإثم الخمر بدليل قول الشاعر
( شربت الإثم حتى ضل عقلي % كذاك الإثم يذهب بالعقول )
وروي عن جعفر الطيار أنه كان لا يشرب الخمر في الجاهلية وكان يقول الناس يطلبون زيادة العقل فأنا لا أنقص عقلي وأما الميسر فكانوا يشترون جزورا ويضربون سهامهم فمن خرج سهمه أولا يأخذ نصيبه من اللحم ولا يكون عليه من الثمن شيء ومن بقي سهمه آخرا فكان عليه ثمن الجزور كله ولم يكن له من اللحم شيئا وقال عطاء ومجاهد الميسر هو القمار كله حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب قرا حمزة والكسائي " قل فيهما إثم كبير " بالثاء من الكثرة وقرأ الباقون " كبير " يعني ذنب عظيم ومعنى قوله " إثمهما " بعد التحريم لأكبر من نفعهما قبل التحريم
قوله تعالى " ويسألونك ماذا ينفقون " أي ماذا يتصدقون " قل العفو " يعني الفضل من المال يريد أن يعطي ما فضل من قوته وقوت عياله ثم نسخ بآية الزكاة وقرأ أبو عمرو " قل العفو " بالرفع يعني الإنفاق وهو الزكاة وقرأ الباقون بالنصب يعني أنفقوا الفضل " كذلك يبين الله لكم الآيات " يعني أمره ونهيه كما يبين لكم أمر الصدقة " لعلكم تتفكرون " " في الدنيا والآخرة " يعني في الدنيا أنها لا تبقى ولا تدوم ولا يدوم إلا العمل الصالح وفي الآخرة إنها تدوم وتبقى ولا تزول وقال بعضهم معناه " كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا " لعلكم تتفكرون في الآخرة
قوله تعالى " ويسألونك عن اليتامى " يقول عن مخالطة اليتامى وذلك أنه لما نزل قوله " إن الذين يأكلون أموال اليتامي ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا " النساء 10 تركوا مخالطتهم فشق ذلك عليهم وكان عند رجل منهم يتيم فجعل له بيتا على حدة وطعاما على حدة ولا يخالطه بشيء من ماله فقال عبد الله بن رواحة يا رسول الله قد أنزل الله آية في أموال اليتامى ما أنزل من الشدة فعزلناهم على حدة أفيصلح لنا أن نخالطهم فنزلت هذه الآية " يسألونك عن اليتامى " أي عن مخالطة اليتامى " قل إصلاح لهم خير " من ترك خلطتهم " وإن تخالطولهم " يعني تشاركوهم في النفقة والخدمة والدابة ( فإخوانكم ) أي في الدين ويقال الامتناع منه خير وإن تخالطوهم فهم إخوانكم " والله يعلم المفسد " لمال اليتيم " من المصلح " لماله يعني لا بأس بالخلطة إذا قصدت به الإصلاح ولم تقصد به الإضرار به
ثم قال تعالى " ولو شاء الله لأعنتكم " قال القتبي ولو شاء الله لضيق عليكم ولشدد عليكم ولكنه لم يشأ إلا التسهيل عليكم وقال الزجاج " لأعنتكم " معناه لأهلككم وأصل العنت في اللغة من قول العرب عنت
البعير إذا انكسرت رجله وحقيقته ولو شاء الله(1/171)
172
لكلفكم ما يشتد عليكم وقال الكلبي " ولو شاء الله لأثمكم " في مخالطتهم فجعلها حراما " إن الله عزيز حكيم " وقد ذكرناه
سورة البقرة الآية 221
قوله تعالى " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي وكان يأتي مكة ويخرج منها ناسا من المسلمين كانوا بها سرا من أهل مكة فلما قدم مكة جاءته امرأة يقال لها عناق كانت بينهما خلة في الجاهلية فقالت له ألا تخلو بي يا مرثد فقال لها يا عناق إن الإسلام قد حال بيننا وبين ذلك قد حرمت علينا ولكني أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتزوجك إن شئت فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله عن ذلك فنزلت هذه الآية " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة " يقول نكاح أمة مؤمنة " خير من " نكاح حرة " مشركة ولو أعجبتكم " نكاحها
وقوله تعالى " ولا تنكحوا المشركين " يقول ولا تنكحوا نساءكم المشركين " حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من " تزويج " مشرك " حر " ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار " يعني إلى عمل أهل النار " والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه " يعني إلى التوحيد والتوبة " بإذنه " يعني بأمره ويقال يدعوكم إلى مخالطة المؤمنين لأن ذلك أوصل إلى الجنة والمغفرة بإذنه يعني بعلمه الذي يعلم أنه أوصل لكم إليها " ويبين آياته للناس " يعني أمره ونهيه في أمر التزويج " لعلهم يتذكرون " أي ينتهون عن المعاصي والنكاح الحرام ويقال إن رجلا من الأنصار أعتق جارية له فأراد رجل من قريش أن يتزوجها فعيروه بذلك فنزلت هذه الآية " ولأمة مؤمنة خير من مشركة "
سورة البقرة الآيات 222 - 223
قوله تعالى " ويسألونك عن المحيض " قال ابن عباس نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له عمرو بن الدحداح سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف نصنع(1/172)
173
بالنساء إذا حضن أنقربهن أم لا فنزلت " ويسألونك عن المحيض " يقول عن النساء إذا حضن ويقال " يسألونك " عن مجامعة النساء في المحيض " قل هو أذى " يعني الدم هو قذر نجس " فاعتزلوا النساء في المحيض " يقول لا تجامعوهن في حال الحيض " ولا تقربوهن " يعني لا تجامعوهن وهن حيض " حتى يطهرن " قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " حتى يطهرن " بتشديد الطاء والهاء والنصب وقرأ الباقون بالتخفيف وأصله يتطهرن فأدغمت التاء في الطاء فمن قرأ " يطهرن " أي يغتسلن ومن قرأ " يطهرن " أي حتى يطهرن من الحيض
قال الفقيه الزاهد نعمل بالقراءتين جميعا فإن كانت المرأة أيام حيضها أقل من عشرة أيام فلا يجوز أن يقربها ما لم تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة وإن كانت أيام حيضها عشرة فإذا انقطع عنها الدم وتمت العشر جاز أن يقربها
ثم قال " فإذا تطهرن " يعني أي اغتسلن من الحيض " فأتوهن من حيث أمركم الله " يعني جامعوهن " من حيث أمركم الله " يعني من حيث رخص الله في موضع الجماع
ويقال لما نزلت هذه الآية " فاعتزلوا النساء في المحيض " اعتزلوا النساء في أيام الحيض وأخرجوهن من البيوت فقدم أناس من الأعراب وقالوا يا رسول الله البرد شديد وقد اعتزلنا النساء وليس كلنا يجد سعة لذلك فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن ولم يأمركم أن تخرجوهن من البيوت كما يفعل الأعاجم
ثم قال تعالى " إن الله يحب التوابين " يعني من الذنوب والشرك " ويحب المتطهرين " يعني من الجنابة والأحداث ويقال " ويحب المتطهرين " من إتيانهن في الحيض وفي أدبارهن يتنزهون عن ذلك ويقال و " يحب التوابين " من الذنوب و " المتطهرين " الذين لم يذنبوا فإن قيل كيف قدم بالذكر الذين تابوا من الذنوب على الذي لم يذنب قيل له إنما قدمهم لكيلا يقنط التائب من الرحمة ولا يعجب المتطهر بنفسه كما ذكر في آية أخرى " فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات " فاطر 32
ثم قال عز وجل " نساؤكم حرث لكم " يقول مزرعة لكم للولد " فأتوا حرثكم " والحرث في اللغة هو الزرع فسمى النساء حرثا على وجه الكناية أي هن للولد كالأرض للزرع وقوله " أنى شئتم " أي وكيف شئتم إن شئتم مستقبلين وإن شئتم مستدبرين إذا كان في صمام واحد وذلك أن اليهود كانوا يقولون إذا أتاها من خلفها يكون الولد أحول فنزل قوله تعالى " فأتوا حرثكم أنى شئتم " قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا ينظر الله عز وجل إلى رجل(1/173)
174
أتى رجلا أو إمرأة في دبرها ) وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ملعون من أتى إمرأة في دبرها
ثم قال تعالى " وقدموا لأنفسكم من الولد الصالح ويقال " قدموا لأنفسكم " من العمل الصالح ويقال سموا الله تعالى عند ذلك
ثم قال " واتقوا الله " يقول اخشوا الله ولا تقربوهن في حال الحيض ولا في أدبارهن " واعلموا أنكم ملاقوه " يعني تصيرون إليه يوم القيامة فيجزيكم بأعمالكم " وبشر المؤمنين " الذين يحافظون حدود الله ويصدقون بوعده
سورة البقرة الآيات 224 - 227
قال عز وجل " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " أي علة وأصل العرضة في اللغة هو الاعتراض فكأنه يعترض باليمين في كل وقت فيكون كناية عن العلة وقيل العرضة أن يحلف الرجل في كل شيء فمنعوا من ذلك " أن تبروا وتتقوا " يعني لكي تبروا وتتقوا لأنهم إذا أكثروا اليمين لم يبروا وبهذا أمر أهل الأيمان وقال الفراء " ولا تجعلوا الله عرضة " الحلف بالله مانعا لكم متعرضا أي مانعا لكم دون البر والتعرض بين الشين المانع وقال القتبي لا تجعلوا الله بالحلف مانعا لكم " أن تبروا وتتقوا " ولكن إذا حلفتم على أن لا تصلوا رحما ولا تتصدقوا ولا تصلحوا أو على أشباه ذلك من أبواب البر فكفروا اليمين وقال الكلبي نزلت في عبد الله بن رواحة الأنصاري حين حلف أن لا يدخل على ختنه بشير بن النعمان ولا يكلمه فجعل يقول قد حلفت بالله أن لا أفعل ولا يحل لي أن لا أبر في يميني فنزل قوله تعالى " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " يقول علة لأيمانكم " أن تبروا " يعني تصلوا قرابتكم وتتقوا اليمين في المعصية وترجعوا إلى ما هو خير لكم منها " وتصلحوا بين الناس " أي بين إخوانكم وروى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقول لا تحلفوا أن لا تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس " والله سميع عليم " فمن حلف على ذلك فعلى(1/174)
175
الذي حلف عليه أن لا يفعل ويكفر عن يمينه وقال الزجاج معنى الآية بأنهم كانوا يقبلون في البر بأنهم قد حلفوا فأعلم الله تعالى إن الإثم إنما هو في الإقامة في ترك البر واليمين إذا كفرتها فالذنب فيها مغفور
ثم قال تعالى " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " أي بالإثم في الحلف إذا كفرتم " ولكن يؤاخذكم " بعزمكم على أن لا تبروا ولا تتقوا قال ابن عباس " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " هو الرجل يحلف بالله في شيء يرى أنه فيه صادق ويرى أنه كذلك وليس كذلك فيكذب فيها " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " يعني هو أن يحلف على شيء ويعلم أنه كاذب ويقال " لا يؤاخذكم الله باللغو " باليمين إذا حلفتم وكفرتم إذا كان في الحنث خير " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " يعني أثمتم بغير كفارة
" والله غفور " لمن حنث وكفر يمينه " حليم " حيث رخص لكم في ذلك ولم يعاقبكم
قوله تعالى " للذين يؤلون من نسائهم " يعني الذين يحلفون أن لا يجامعوا نساءهم " تربص أربعة أشهر " يعني لهم أجل أربعة أشهر بعد اليمين " فإن فاءوا " قال القتبي آليت من امرأتي أولى إيلاء والإسم الألية يعني إن رجعوا عن اليمين وجامعوا نساءهم من قبل أن تمضي أربعة أشهر وكفروا عن أيمانهم ولا تبين المرأة عن الزوج " فإن الله غفور رحيم "
قوله تعالى " وإن عزموا الطلاق " يعني أوجبوا الطلاق بترك الجماع حتى مضت أربعة أشهر وقعت عليها تطليقة واحدة بمضي أربعة أشهر وقال بعضهم لا يقع الطلاق ولكن يؤمر الزوج بعد مضي أربعة أشهر أن يجامعها أو يطلقها وقال بعضهم وقع الطلاق بمضي أربعة أشهر وهو قول علمائنا وروي عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود أنهما قالا عزيمة الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر وذلك قوله تعالى " وإن عزموا الطلاق " يعني أوجبوا الطلاق بترك الجماع " فإن الله سميع " لمقالتهم بكلمة الإيلاء " عليم " بهم
سورة البقرة الآيات 228 - 230
قوله تعالى " والمطلقات يتربصن بأنفسهن " يعني وجب عليهن العدة " ثلاثة قروء "(1/175)
176
أي ثلاث حيض وقال بعضهم ثلاثة أطهار وقال أكثر أهل العلم المراد به الحيض وأصل القرء الوقت وظاهر الآية عام في إيجاب العدة على جميع المطلقات ولكن المراد بها الخصوص لأنه لم يدخل في الآية خمس من المطلقات الأمة والصغيرة والآيسة والحامل وغير المدخول بها
ثم قال " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " يعني الحمل والحيض لا يحل لها أن تقول أنا حائض ولم تكن حائضا أو تقول أنا حامل وليست بحامل " إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر " يعني إن كن يصدقن بالله واليوم الآخر
قوله تعالى " وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا " يعني في حال التربص إذا كان الطلاق رجعيا ثم قال " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف " يعني للنساء على الأزواج من الحقوق مثل ما للرجال على النساء في حال التربص بالطلاق رجعيا " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف " يقول بما عرف شرعا " وللرجال عليهن درجة " يعني فضيلة في النفقة والمهر " والله عزيز حكيم " فيما حكم من الرجعة في الطلاق الذي يملك فيه الرجعة
ثم بين الطلاق الذي يملك فيه الرجعة فقال تعالى " الطلاق مرتان " يعني يقول الطلاق الذي يملك فيه الرجعة تطليقتان " فإمساك بمعروف " يعني إذا راجعها يمسكها بمعروف ينفق عليها ويكسوها ولا يؤذيها ويحسن معاشرتها " أو تسريح بإحسان " يعني يؤدي حقها ويخلي سبيلها ويقال " أو تسريح بإحسان " يعني يطلقها التطليقة الثالثة ويعطي مهرها ويقال يتركها حتى تنقضي عدتها ويقال يؤدي حقها ويخلي سبيلها ويقال " أو تسريح بإحسان " وقال ابن عباس كان الرجل في الجاهلية إذا طلق امرأته تطليقة أو تطليقتين كان الرجل أحق بها وإذا طلقها الثالثة كانت المرأة أحق بنفسها واحتج بقول الأعشى كانت لديه امرأة من بني هوزان
( يا رب ذي ضغن وضب فارض % ماله قرء كقرء الحائض )
فأخذه بنو هوزان حتى يطلق امرأته فلما طلقها واحدة قالوا له عد فطلقها الثانية فلما طلقها الثانية قالوا له عد فطلقها الثالثة فعرف أنها بانت منه ولا تحل له فقال عند ذلك
( أجارتي بيني فإنك طالقه % كذا أمور الناس غاد وطارقه )
( وبيني فإن البين خير من العصا % وأن لا تزال فوق رأسك بارقه )
( وذوقي قنى الحي إني ذائق % قناة أناس مثل ما أنت ذائقة )
( لقد كان في شبان قومك منكح % وفتيان هوزان الطوال العرايقة )
قوله تعالى " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سول وزوجها ثابت بن قيس وكانت تبغضه فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/176)
177
فقالت لا أنا ولا ثابت فقال لها أتردين عليه حديقته فقالت نعم وزيادة فقال أما الزيادة فلا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها وخلعها من زوجها فذلك قوله تعالى " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن " من المهر " شيئا " " إلا إن يخافا " يعني يعلما " ألا يقيما حدود الله " أي فيما أمروا بها قرأ حمزة " يخافا " بضم الياء على فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون بالنصب وقرأ ابن مسعود " إلا أن يخافوا "
ثم قال تعالى " فإن خفتم ألا يقيما حدود الله " يقول إن علمتم أن لا يكون بينهما إصلاح في المقام " فلا جناح عليهما فيما افتدت به " أي لا حرج على الزوج ان يأخذ مما افتدت به المرأة إن كان النشوز من قبل المرأة فأما إذا كان النشوز من قبل الزوج فلا يحل له أن يأخذ بدليل ما قال في آية أخرى " وءاتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا " النساء 20
ثم قال تعالى " تلك حدود الله " يعني أحكامه وفرائضه " فلا تعتدوها " يقول لا تجاوزوها " ومن يتعد حدود الله " أي يتجاوز أحكام الله وفرائضه ويترك ما أمره الله تعالى أو يعمل بما نهى عنه " فأولئك هم الظالمون " يقول الضارون بأنفسهم ويقال " تلك حدود الله " يعني الطلاق مرتان فلا تجاوزوهما إلى الثالثة " ومن يتعد حدود الله " بالتطليقة الثالثة " فأولئك هم الظالمون " " فإن طلقها " أي الثالثة " فلا تحل له من بعد " الثالثة " حتى تنكح زوجا غيره " يعني تتزوج بزوج آخر ويدخل بها وإنما عرف الدخول بالسنة وهو ما روي عن ابن عباس أن رفاعة القرظي طلق امرأته ثلاثا وكانت تدعى أميمة بنت وهب فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير ولم تكن عنده إلا كهدبة الثوب فأتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت إن رفاعة طلقني فبت طلاقي فتزوجني عبد الرحمن ولم أكن عنده إلا كهدبة الثوب فقال لها أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة فقالت نعم قال ليس ذلك ما لم تذوقي من عسيلته ويذوق من عسيلتك ) فذلك قوله تعالى " فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " يعني إذا طلقها الثالثة
ثم قال تعالى " فإن طلقها " يعني واحدة أو اثنتين " فلا جناح عليهما " يعني المرأة والزوج " أن يتراجعا " ويقال فإن طلقها الزوج الثاني بعدما دخل بها " فلا جناح عليهما " يعني المرأة والزوج الأول أن يتراجعا يعني أن يتزوجها مرة أخرى " إن ظنا " يعني إن علما " أن يقيما حدود الله " يعني فرائض الله يعني إذا علما أنه يكون بينهما الصلاح بالنكاح الثاني(1/177)
178
ثم قال تعالى " وتلك حدود الله " يعني فرائض الله وأمره ونهيه وأحكامه " يبينها لقوم يعلمون " ويقال إنما قال " لقوم يعلمون " لأن الجاهل إذا بين له فإنه لا يحفظ ولا يتعاهد والعالم يحفظ ويتعاهد فلهذا المعنى خاطب العلماء ولم يخاطب الجهال
سورة البقرة الآيات 231 - 232
ثم قال عز وجل " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن " أي مضى عليهن ثلاث حيض قبل أن يغتسلن وقبل أن يخرجن من العدة " فأمسكوهن بمعروف " يعني يراجعها ويمسكها بالإحسان قوله " أو سرحوهن بمعروف " أي لا يراجعها ويتركها حتى تخرج من العدة " ولا تمسكوهن ضرارا " والضرار في ذلك أن يدعها حتى إذا حاضت ثلاث حيض وأرادت أن تغتسل راجعها ثم يطلقها يريد بذلك أن يطول عليها العدة فنهى الله تعالى عن ذلك وقال " ولا تمسكوهن ضرارا " " لتعتدوا " يعني لتظلموهن " ومن يفعل ذلك " يعني الإضرار " فقد ظلم بنفسه " يقول أضر نفسه بمعصيته في الإضرار وقال الزجاج " فقد ظلم نفسه " يعني عرض نفسه للعذاب لأن إتيان ما نهى الله عنه تعريض لعذاب الله لأن أصل الظلم وضع الشيء في غير محله
ثم قال تعالى " ولا تتخذوا آيات الله هزوا " يعني القرآن لعبا ويقال إنهم كانوا يطلقون ولا يعدون ذلك طلاقا ويجعلونه لعبا فنزل " ولا تتخذوا آيات الله هزوا " قرأ عاصم في رواية حفص " هزوا " بغير همز وكذلك قوله " كفوا أحد " الصمد 4 وقرأ الباقون بالهمز وهما لغتان ومعناهما واحد
ثم قال تعالى " واذكروا نعمة الله عليكم " يقول احفظوا نعمة الله عليكم بالإسلام يقول " وما أنزل عليكم " في القرآن من المواعظ " والحكمة " يعني الفقه في القرآن " يعظكم به " يقول ينهاكم عن الضرار " واتقوا الله " في الضرار " واعلموا أن الله بكل شيء عليم " من أعمالكم فيجازيكم به
قوله تعالى " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن " يقول انقضت عدتهن " فلا تعضلوهن " يقول لا تحبسوهن ولا تمنعوهن " أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف " بمهر ونكاح جديد وذلك أن معقل بن يسار كانت أخته تحت أبي الدحداح(1/178)
179
فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها ثم ندم فخطبها فرضيت وأبى أخوها أن يزوجها له وقال لها وجهي من وجهك حرام أن تتزوجيه فنزلت هذه الآية " فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف " " ذلك يوعظ به " يعني يؤمر به " من كان منكم يؤمن بالله واليوم لآخر " يعني يصدق بالله واليوم الآخر " ذلكم أزكى لكم " يعني خير لكم ويقال أصلح لكم " وأطهر " من الريبة أي الزنا " والله يعلم " من حب كل واحد منهما لصاحبه " وأنتم لا تعلمون " ذلك ويقال ذلكم أطهر لقلوبكم من العداوة لأن المرأة تأتي الحاكم فيزوجها فتدخل في قلوبهم العداوة والبغضاء وقال الضحاك " والله يعلم " أن الخير في الوفاء والعدل " وأنتم لا تعلمون " ما عليكم في التفريق من العقوبة والعذاب وقال مقاتل فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم معقلا فقال إن كنت مؤمنا فلا تمنع أختك عن أبي الدحداح فقال آمنت بالله وزوجتها منه وفي هذه الآية دليل أن الولي إذا منع المرأة عن النكاح كان للحاكم أن يزوجها
سورة البقرة الآية 233
قوله تعالى " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " يعني سنتين كاملتين " لمن أراد أن يتم الرضاعة " أي يكمل الرضاعة فإن قيل لما ذكر الحولين إيش معنى الكاملين قيل له هذا للتأكيد لأن بعض الحولين يسمى حولين كما قال في آية أخرى " الحج أشهر معلومات " البقرة 197 وإنما هي شهران وعشرة أيام فهاهنا لما ذكر الكاملين علم أنه أراد الحولين بغير نقصان
ثم قال تعالى " وعلى المولود له رزقهن " يعني على الأب أجر الرضاع ونفقة الأم " وكسوتهن بالمعروف " يعني على قدر طاقتة " لا تكلف نفس إلا وسعها " يعني لا يجب على الأب من النفقة والكسوة إلا مقدار طاقته
ثم قال " لا تضار والدة بولدها " يقول لا ينزع الولد من الأم لأنها أحق بولدها من غيرها قرأ ابن كثير وأبو عمرو " ولا تضار " بضم الراء على معنى الخبر تبعا لقوله " لا تكلف نفس إلا وسعها " فلفظه لفظ الخبر والمراد به النهي وقرأ الباقون بالنصب على صريح النهي ثم قال " ولا مولود له بولده " يعني الأب لا يضار بالولد فتطرح الأم الولد على الأب بعدما عرفت أنه لا يقبل ثدي غيرها فلا يجوز لها أن تفعل ذلك فقال " ولا مولود(1/179)
180
له بولده ) يعني إذا كان الأب يجد ظئرا أرخص من الأم والأم أبت أن ترضع إلا بأجر كثير فإن الأب لا يجبر على ذلك وله أن يدفع إلى ظئر أخرى
ثم قال تعالى " وعلى الوارث مثل ذلك " يعني إذا لم يكن للصبي أب وله ورثة سوى الأب فعلى وراث الصبي مثل ما على الأب ويقال على وارث الأب لا يضارها ولا تضاره ويقال " على الوارث مثل ذلك " يعني الرزق والكسوة في رضاع الأم الصبي ونفقته " فإن أرادا فصالا " يعني فطاما " عن تراض منهما وتشاور " يعني الأب والأم دون الحولين ويقال بعد الحولين " فلا جناح عليهما " أي لا حرج عليهما إن لم يرضعاه سنتين " وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم " يعني أن تأخذوا ظئرا لأولادكم إذا أرادت الأم النكاح " فلا جناح عليكم إذا سلمتم " يعني لا إثم عليكم إذا أعطيتم الظئر " ما آتيتم بالمعروف " بما تعرفونه ويقال أعطيتم ما شرطتم لهن
ثم خوفهما في الإضرار فقال تعالى " واتقوا الله " يعني الأبوين فلا يضار واحد منهما لصاحبه " واعلموا أن الله بما تعملون بصير " من الإضرار فيجازيكم به قرا ابن كثير " ما أتيتم " بغير مد يعني ما جئتم وفعلتم وقرأ الباقون بالمد يعني ما أعطيتم
سورة البقرة الآية 234
قوله تعالى " والذين يتوفون منكم " يعني يموتون منكم " ويذرون أزواجا " يعني يتركون نساء من بعدهم " يتربصن بأنفسهن " يعني ينتظرن بأنفسهن " أربعة أشهر وعشرا " لا يتزوجن ولا يتزين ولا يخرجن " فإذا بلغن أجلهن " يعني انقضت عدتهن " فلا جناح عليكم " أي فلا أثم عليكم " فيما فعلن في أنفسهن " من الزينة والكحل والخضاب وذلك أن المرأة إذا انقضت عدتها فكان أولياؤها يمنعونها من الزينة فأباح الله تعالى لهن الزينة بعد العدة ويقال فلا جناح عليكم " فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف " يعني إذا تزوجن بزوج آخر إذا كان الزوج كفوا فلا يمنع من نكاحها " والله بما تعملون خبير " من الزينة والمنع من نكاحها وغير ذلك وهذه الآية عامة يستوي فيها المدخولة وغير المدخولة والصغيرة والكبيرة في وجوب العدة من الزينة والمنع وغير ذلك
سورة البقرة الآية 235(1/180)
181
قوله تعالى " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " فقد أباح للخاطب أن يتعرض بالنكاح ونهاه عن العقدة والخطبة فقال " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به " يقول لا بأس بأن يأتي الرجل المرأة المتوفى عنها زوجها فيعرض لها ويقول إنك لتعجبيني وإنك لموافقة لي فأرجو أن يكون بيننا اجتماع ونحو ذلك من الكلام فهذا هو التعريض " أو أكننتم في أنفسكم " يعني أضمرتم في أنفسكم قال الزجاج كل شيء سترته فقد أكننته وكننته وهو مكنون فذلك أباح الله تعالى التعريض
ثم قال تعالى " علم الله أنكم ستذكرونهن " يعني خافوا الله في العدة من تزويجهن " ولكن لا تواعدوهن سرا " يعني نكاحا ويقال جماعا وقال القتبي سمي الجماع سرا لأنه يكون في السر فيكنى عنه " إلا أن تقولوا قولا معروفا " يعني عدة حسنة نحو إنك لجميلة وإني فيك لراغب
قوله تعالى " ولا تعزموا عقدة النكاح " يقول ولا تحققوا عقدة النكاح يعني لا تتزوجوهن في العدة " حتى يبلغ الكتاب أجله " يعني حتى تنقضي عدتها " واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم " يعني ما في قلوبكم من الوفاء وغيره " فاحذروه " أن تخالفوه فيما أمركم ونهاكم " واعلموا أن الله غفور " ذو تجاوز " حليم " حيث لم يعجل عليكم بالعقوبة
سورة البقرة الآيات 236 - 237
ثم قال تعالى " لا جناح عليكم " أي لا حرج عليكم " إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن " قرأ حمزة والكسائي " تماسوهن " بالألف من المفاعلة وهو فعل بين اثنين وقرأ الباقون بغير ألف لأن الفعل للرجال خاصة وقال بعضهم المس هو الجماع خاصة فما لم يجامعها لم يجب عليه تمام الصداق وقال بعضهم إذا جامعها أو خلا بها وجب عليه جميع الصداق إذا كان سمى لها مهرا وإن لم يكن سمى لها مهرا فلها مهر مثلها إن دخل بها وإن لم يدخل بها فلها المتعة فذلك قوله تعالى " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن " يعني إذا تزوج الرجل امرأة ثم لم يعجبه المقام معها فلا بأس بأن يطلقها قبل أن يمسها
وقوله تعالى " أو تفرضوا لهن فريضة " يعني لا حرج عليكم أن تتزوجوا النساء ولا تسموا لهن مهرا " ومتعوهن " يعني إذا طلقها قبل أن يدخل بها فعلى الزوج أن يمتعها(1/181)
182
" على الموسع قدره " قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " قدره " بنصب الدال وقرأ الباقون بالجزم ومعناهما واحد
قوله تعالى " وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف " قال ابن عباس في رواية الكلبي أدنى ما يكون من المتعة ثلاثة أثواب درع وخمار وملحفة وهكذا قال في رواية الضحاك " حقا على المحسنين " أن يمتعوا النساء على قدر طاقتهم
ثم قال عز وجل " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن " يعني من قبل أن تجامعوهن وقبل أن تخلوا بهن هكذا قال في رواية الضحاك " وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " يعني على الزوج نصف ما فرض لها من المهر " إلا أن يعفون " يعني إلا أن تترك المرأة فلا تأخذ شيئا " أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح " يعني الزوج يكمل لها جميع الصداق " وأن تعفوا أقرب للتقوى " يقول أن يعفو بعضكم بعضا كان أقرب إلى البر فأيهما ترك لصاحبه فقد أخذ بالفضل ويقال إن الله تعالى ندب إلى الإنسانية فأمر كل واحد منهما بالعفو
ثم قال تعالى " ولا تنسوا الفضل بينكم " يعني لا تتركوا الفضل والإنسانية فيما بينكم في إتمام المهر أو في الترك " إن الله بما تعملون بصير " فيجازيكم بذلك
سورة البقرة الآيات 238 - 239
قوله تعالى " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " قال ابن عباس في قوله عز وجل " حافظوا على الصلوات " حافظوا على الصلوات المكتوبات الخمس في مواقيتها بوضوئها وركوعها وسجودها يقول " والصلاة الوسطى " خاصة حافظوا عليها ويقال هي صلاة العصر ويقال هي صلاة الصبح ويقال هي صلاة الظهر
حدثنا القاسم بن محمد بن روزية قال حدثنا عيسى بن خشنام قال حدثنا سويد بن سعيد عن مالك بن أنس أنه بلغه عن علي وابن عباس رضي الله عنهما كانا يقولان صلاة الوسطى صلاة الصبح قال مالك وذلك رأيي أخبرنا القاسم بن محمد قال حدثنا عيسى بن خنشام قال حدثنا سويد بن سعيد عن مالك عن داود بن الحصين عن رجل عن زيد بن ثابت قال صلاة الوسطى صلاة الظهر
وبهذا الإسناد عن مالك عن زيد بن أسلم عن القعقاع بن الحكم عن أبي يونس(1/182)
183
مولى عائشة رضي الله عنها أنه قال أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت إذا بلغت هذه الآية فآذني فلما بلغتها آذنتها فأملت علي " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " صلاة العصر
قال الفقية حدثنا أبو إبراهيم الترمذي عن أبي إسحق عن أبي جعفر محمد بن علي عن نافع مولى ابن عمر قال حدثنا علي بن معبد قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم عن أبي إسحاق عن أبي جعفر محمد بن علي عن نافع مولى ابن عمر وكان يكتب المصاحف أنه قال استكتبتني حفصة ابنة عمر مصحفا وقالت إذا بلغت هذه الآية فلا تكتبها حتى تأتيني فأمليها عليك كما حفظتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغتها أتيتها بالورقة فقالت اكتب " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " صلاة العصر ويقال هي قراءة عبد الله بن مسعود
وروي عن أبي هريرة وابن عمر أنهما قالا صلاة الوسطى العصر وروي عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن علي رضي الله عنه أنه قال كنت ظننت أنها صلاة الفجر حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الخندق وقد شغلوه عن صلاة العصر قال ملأ الله بطونهم وقبورهم نارا شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر وإنما كان فائدة التخصيص بصلاة العصر لأن ذلك وقت الشغل فيخاف فوتها ما لا يخاف لسائر الصلوات وقد أكد بالذكر وبطريق المعقول لأن قبلها صلاتي النهار وبعدها صلاتي الليل
وقوله تعالى " وقوموا لله قانتين " يعني قوموا لله طائعين في الصلاة مطيعين ويقال صلوا لله قائمين فكأنه أمر بطول القيام في الصلاة كما قال في آية أخرى " يا مريم اقنتي لربك " آل عمران 43 وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أفضل الصلاة فقال التي يطيل القنوت فيها يعني القيام ويقال قانتين يعني ساكتين كما روي عن زيد بن أرقم أنه قال كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت هذه الآية " وقوموا لله قانتين " فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وقال الزجاج القنوت المشهور في اللغة الدعاء في القيام وحقيقة القانت القائم بأمر الله تعالى(1/183)
184
ثم قال تعالى " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " يعني إذا خفتم العدو فصلوا قياما فإن لم تستطيعوا فصلوا ركبانا على الدواب حيث ما توجهت بكم بالإيماء وهذا موافق لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر صلاة الخوف ثم قال في آخره فإن كان الخوف أشد من ذلك صلوا على أقدامكم أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها " فإذا أمنتم " يعني من العدو والخوف " فاذكروا الله كما علمكم " يعني صلوا كما علمكم أربعا وعلمكم " ما لم تكونوا تعلمون " يعني علمكم الصلاة ولم تكونوا تعلمون من قبل
سورة البقرة الآيات 240 - 242
ثم قال عز وجل " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا " يعني يموتون ويتركون نساءهم من بعدهم " وصية لأزواجهم " يعني يوصون لنسائهم قرأ ابن كثير ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وصية بالضم يعني عليهم وصية وقرأ الباقون بالنصب يعني يوصون وصية لأزواجهم " متاعا " أي نفقة وكسوة " إلى الحول غير إخراج " يقول لا يخرجن من بيت أزواجهن وهذا في أول الشريعة كانت العدة حولا وهكذا كان في الجاهلية ألا ترى إلى قول لبيد
( وهم ربيع للمجاور فيهم % والمرملات إذا تطاول عامها )
ثم نسخ ما زاد على الأربعة أشهر وعشرا ونسخت الوصية للأزواج بقول النبي صلى الله عليه وسلم لا وصية لوارث ويقال نسخ بآية الميراث
ثم قال تعالى " فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف " يعني من الزينة يحتمل أنه أراد به الخروج بعد مضي سنة ويحتمل الخروج في السنة إذا خرجت بعذر في أمر لا بد لها منه " والله عزيز حكيم " وقد ذكرناه
قوله تعالى " وللمطلقات متاع بالمعروف " والمطلقات أربع مطلقة سمى لها مهرا ومطلقة لم يسم لها مهرا ومطلقة دخل بها ومطلقة لم يدخل بها فالمتعة لا تكون واجبة إلا لمطلقة واحدة وهي التي لم يسم لها مهرا وطلقها قبل الدخول كما ذكر في الآية التي سبق(1/184)
185
ذكرها وفي سائر المطلقات المتعة مستحبة وليست بواجبة " حقا على المتقين " يعني واجبا على المتقين وذلك فيما بينه وبين الله تعالى فلا يجبر عليه إلا في المطلقة التي ذكرناها " كذلك يبين الله لكم آياته " يعني أمره ونهيه " لعلكم تعقلون " ما أمرتم به ويقال آياته يعني دلائله ويقال " آياته " يعني القرآن
سورة البقرة الآية 243
قوله تعالى " ألم تر إلى الذين خرجوا " يقول ألم تخبر وهذا على سبيل التعجب كما يقال ألا ترى إلى ما صنع فلان ويعنى " ألم تر " ويقال ألم تعلم ويقال ألم ينته إليك خبرهم أي الآن نخبرك عنهم قال ابن عباس رضي الله عنه وذلك أن ملكا من ملوك بني إسرائيل أمر الناس بالخروج إلى الغزو فخرجوا فبلغهم أن في ذلك الموضع طاعونا فامتنعوا عن الخروج إلى هناك ونزلوا في موضعهم فهلكوا كلهم فبلغ خبرهم إلى بني إسرائيل فخرجوا ليدفنوهم فعجزوا عن ذلك لكثرتهم فحظروا عليهم الحظائر ثم أحياهم الله تعالى بعد ثمانية أيام وبقيت منهم بقايا لم تحيى وقال بعضهم بلغهم أن هناك للعدو شوكة وقوة فامتنعوا عن الخروج إليهم فأهلكهم الله تعالى
وقال بعضهم أن أرضا كان وقع بها الوباء فخرج الناس منها هاربين فنزلوا منزلا فماتوا كلهم فمر بهم نبي يقال له حزقيل عليه السلام فقال الحمد لله القادر الذي يحيي هذه النفوس البالية ليعبدوه فدعا لهم فأحياهم الله تعالى فذلك قوله تعالى " إلم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " قال ابن عباس في رواية الكلبي وفي رواية الضحاك ثمانية آلاف ويقال سبعون ألفا ويقال ثمانية عشر ألفا وقال بعضهم " وهم ألوف " كما قال الله تعالى ولا يعرف كم عددهم إلا الله " حذر الموت " يعني خرجوا من ديارهم مخافة الموت
" فقال لهم الله موتوا " يعني أماتهم الله " ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس " يعني على أولئك الكفار حين أحياهم يقال هو ذو من على جميع الناس ويقال على الذين أحياهم " ولكن أكثر الناس لا يشكرون " رب هذه النعمة يعني الكفار ويقال على الذين أحياهم
وفي هذه الآية دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر عمن قبله ولم يكن قرا الكتب فظهر ذلك عند اليهود والنصارى وعرفوا أنه حق وفي هذه الآية إبطال قول من يقول إن الإحياء بعد الموت لا يجوز وينكر عذاب القبر لأن الله تعالى يخبر أنه قد أماتهم ثم أحياهم
سورة البقرة الآية 244(1/185)
186
ثم قال عز وجل " وقاتلوا في سبيل الله " قال ابن عباس في رواية أبي صالح لما أحياهم الله قال لهم " قاتلوا في سبيل الله " ويقال هذا أمر بالجهاد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم قال لهم " وقاتلوا في سبيل الله " " واعلموا أن الله سميع عليم " أي " سميع " لمقالتهم " عليم " بالأرض التي وقع فيها الوباء
سورة البقرة الآية 254
قوله تعالى " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " نزلت في شأن أبي الدحداح قال يا رسول الله إن لي حديقتين لو تصدقت بواحدة منهما أيكون لي مثلها في الجنة قال نعم قال وأم الدحداح معي يعني امرأته قال نعم قال والدحداح معي يعني ابنه فقال نعم قال أشهدك أني قد جعلت حديقتي لله تعالى ثم جاء إلى الحديقة وقام على الباب وتحرج الدخول فيها بعدما جعلها لله تعالى ونادى يا أم الدحداح اخرجي فإني جعلت حديقتي لله تعالى فخرجت وتحولت إلى حديقة أخرى وقالت له هنيئا لك بما فعلت أو كما فعلت فنزل قوله تعالى " فيضاعفه له أضعافا كثيرة " يعني ألفي ألف ضعف
قال الفقيه حدثنا عبد الرحمن بن محمد قال حدثنا فارس بن مردويه قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا المعلى بن منصور قال حدثنا جعفر قال حدثنا علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي قال بلغني عن أبي هريرة حديث أنه قال إن الله تعالى يكتب للعبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة فحججت ذلك العام لألقى أبا هريرة فأكلمه في هذا الحديث فلقيته فأخبرته فقال ليس كذا قلت ولم يحفظ الذي حدثك عني وإنما قلت ألفي ألف حسنة ثم قال أبو هريرة أو لستم تجدون في كتاب الله تعالى قوله " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " قوله " كثيرة " أكثر من ألف ألف ومن ألفي ألف
ثم قال عز وجل " والله يقبض " أي يقتر الرزق على من يشاء " ويبسط " يعني يوسع على من يشاء من عباده ويقال يقبض الصدقات ويخلفها الثواب في الدنيا وفي الآخرة وقال بعضهم يسلب قوما ما أنعم عليهم ويوسع على آخرين " وإليه ترجعون " في الآخرة قرأ حمزة والكسائي ونافع وأبو عمرو " فيضاعفه " بالألف وبضم الفاء وقرأ عاصم " فيضاعفه " بالألف وبنصب الفاء وقرأ ابن كثير " فيضعفه " بغير ألف بنصب الفاء فأما من قرأ " فيضاعفه " بالألف والضم " يضعفه " فهما لغتان بمعنى واحد يقال ضاعفت الشيء وضعفته ومن قرا بضم الفاء عطفه على قوله " يقرض الله " ومن نصبه فعلى جواب(1/186)
187
الاستفهام وقرأ نافع " يبصط " بالصاد وقرأ الباقون بالسين وهو أظهر عند أهل اللغة وفي كل موضع يكون الصاد قريبا من الطاء جاز أن يقرأ بالسين وبالصاد مثل المصيطرون ومثل الصراط لأنه يشتد فرق الصاد عند ذلك فيجوز القراءة بالسين
سورة البقرة الآيات 246 - 248
وقوله تعالى " ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل " يعني الرؤساء والقادة وقال بعضهم اشتقاق الملأ في اللغة من الملأ هو الجماعة التي تملأ باديتهم وقال بعضهم الناظر إذا نظر إليهم امتلأ عينه هيبة منهم وذلك ان كفار بني إسرائيل قهروا مؤمنيهم فقتلوهم وسبوهم وأخرجوهم من ديارهم وكان رئيسهم جالوت فلما اضطر المسلمون في ذلك جاؤوا إلى نبي لهم يقال له أشمويل بن هلقانا عليه السلام بلغة العبرانية وبالعربية إسماعيل بن هلقان " إذ قالوا لنبي لهم " يعني أشمويل " ابعث لنا ملكا " يعني ادع الله تعالى لنا أن يجعل لنا ملكا " نقاتل في سبيل الله " " قال " لهم أشمويل " هل عسيتم " قرأ نافع " هل عسيتم " بكسر السين وقرأ الباقون بالنصب وهي اللغة المعروفة والأول لغة لبعض العرب " هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا " يعني إذا بعث الله لكم ملكا وفرض عليكم القتال لعلكم لا تقاتلون وتجبنون عن القتال " قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله " يقول كيف لا نقاتل في سبيل الله " وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا " يعني أخذوا ديارنا وسبوا أبنائنا
" فلما كتب عليهم القتال " يعني فرض عليهم القتال " تولوا " وتركوا القتال ولم يثبتوا " إلا قليلا منهم " وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا " والله عليم بالظالمين " يعني أن الله تعالى يعلم جزاء من تولى عن القتال(1/187)
188
ثم بين لهم القصة بقوله تعالى " وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم " يعني قد أجابكم ربكم إلى ما سألتم من بعث ملك تقاتلون في سبيل الله معه وقد جعل لكم " طالوت ملكا " وكان طالوت فيهم حقير الشأن وكانت النبوة في بني لاوي بن يعقوب والملك في سبط يهوذا ولم يكن طالوت من أهل بيت الملك ولا من أهل بيت النبوة ويقال كان رجلا يبيع الخمر ويقال كان دباغا ولكنه كان عالما فرفعه الله بعلمه " قالوا أنى يكون له الملك علينا " يعني المسلمون قالوا لنبيهم من أين يكون له الملك علينا " ونحن أحق بالملك منه " لأن منا الملوك " ولم يؤت " طالوت " سعة من المال " ينفق علينا والملك يحتاج إلى مال ينفق على جنوده وأعوانه
" قال " لهم نبيهم عليه السلام " إن الله اصطفاه عليكم " يعني اختاره عليكم " وزاده بسطة " أي فضيلة " في العلم والجسم " وكان رجلا جسيما وكان عالما بأمر الحرب " والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم " والواسع في اللغة هو الغني ويقال " واسع " بعطية الملك " عالم " لمن يعطيه ويقال " واسع " يعني باسط الرزق " عليم " بمن يصلح له الملك فظنوا أنه يقول لهم من ذات نفسه وقالوا له إن كان الله تعالى أمرك بذلك فأتنا بآية " وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت " وذلك أن الكفار كانوا أخذوا التابوت وكان التابوت للمسلمين فإذا خرجوا للغزو والتابوت معهم كانوا يرجون الظفر فأخذ الكفار التابوت ووضعوه في مخرأة لهم فابتلاهم الله تعالى بالباسور ويقال أن أصل الباسور من ذلك الوقت وأصل الجذام من وقت أيوب عليه السلام وتغير الطعام من قبل بني إسرائيل فجعل الله تعالى آية ملك طالوت رد التابوت إليهم فذلك قوله تعالى " إن آية ملكه " يعني علامة ملكه " أن يأتيكم التابوت " " فيه سكينة من ربكم " قال الكلبي طمأنينة من ربكم إذا كان التابوت في مكان اطمأنت قلوبهم بالظفر وقال مقاتل السكينة كانت دابة ورأسها كرأس الهرة ولها جناحان فإذا صوتت عرفوا أن النصرة لهم ويقال كانت جوهرا أحمر يسمع منه الصوت ويقال كانت ريحا تهب فيها لها صوت يعرفون أن النصرة لهم عند الصوت
وقوله تعالى " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " يعني الرضراض من من في الألواح وقفيزا من طست من ذهب وعصا موسى وعمامة هارون قال الكلبي وكان التابوت من عود الشمشاذ الذي يتخذ منه الأمشاط فلما ابتلاهم الله تعالى بالباسور عرفوا أن ذلك من التابوت فقالوا لعل إله بني إسرائيل الذي فينا يعنون التابوت هو الذي يفعل بنا هذا الفعل فأخرجوا بقرتين من المدينة وتركوا أولادهما في المدينة وربطوا التابوت على عجلة ثم ربطوا العجلة بالبقرتين ثم وجهوهما نحو بني إسرائيل فضربت
الملائكة جنوبهما فساقوهما حتى هجموا بهما على أرض بني إسرائيل فأصبحوا والتابوت بين أظهرهم فذلك قوله تعالى " تحمله الملائكة " يعني الملائكة ساقوا العجلة " إن في ذلك لآية لكم " يعني إن في رد التابوت(1/188)
189
علامة لملك طالوت " إن كنتم مؤمنين " أي مصدقين بأن ملكه من الله تعالى فعرفوا وأطاعوه
سورة البقرة الآيات 249 - 252
وقوله تعالى " فلما فصل طالوت بالجنود " يعني فتجهز طالوت وخرج بالجنود وهم سبعون ألفا فساروا في حر شديد فأصابهم عطش شديد فسألوا طالوت الماء ف " قال " لهم طالوت " إن الله مبتليكم بنهر " وهو بين الأردن وفلسطين وإنما كان الابتلاء ليظهر عند طالوت من كان مخلصا في نيته من غيره وأراد أن يميز عنهم من لا يريد القتال لأي من لا يريد القتال إذا خالط العسكر يدخل الضعف والوهن في العسكر لأنه إذا انهزم وهرب ضعف الباقون ويقال إن أشمويل هو الذي اخبر طالوت بالوحي حتى اخبر طالوت قومه حيث قال " إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني " يعني ليس معي على عدوي إذا شرب بغير غرفة " ومن لم يطعمه فإنه مني " يعني لم يشرب منه بغير غرفة " فإنه مني " أي معي على عدوي " إلا من اغترف غرفة بيده " قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " غرفة " بنصب الغين وقرأ الباقون برفع الغين فمن قرأ بالنصب يكون مصدر غرفة أي مرة واحدة باليد ومن قرأ بالضم هو ملء الكف وهو اسم الماء مثل الخطوة والخطوة قال بعض المفسرين الغرفة بكف واحدة والغرفة بالكفين وقال بعضهم كلاهما لغتان ومعناها واحد
فلما خرجوا من المفازة وقد أصابهم العطش وقفوا في النهر " فشربوا منه " بغير غرفة " إلا قليلا منهم " وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوم بدر أنتم على عدد المرسلين وعدد قوم طالوت ثلاثمائة وثلاثة عشر فأمر من شرب(1/189)
190
بغير غرفة أن يرجعوا ويقال قد ظهر على شفاههم علامة عرف بها من شرب من الذي لم يشرب فردهم وأمسك المخلصين منهم
" فلما جاوزه " أي النهر " هو " يعني طالوت " والذين آمنوا معه " أي المؤمنون ودنوا إلى عسكر جالوت وكان معه مائة ألف فارس كلهم شاكون في السلاح " قالوا " المؤمنون " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " لما رأوا من كثرتهم " قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله " يعني أيقنوا بالموت لما رأوا من كثرة العدو فأيقنوا بهلاك أنفسهم ويقال أيقنوا بالبعث بعد الموت وهو قوله تعالى " قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله " وهم أهل العلم منهم " كم من فئة قليلة " يعني كم من جند قليل " غلبت فئة كثيرة " عدتهم " بإذن الله " أي بنصر الله وأمره إذا خلصت نيتهم وطابت أنفسهم بالموت في طاعة الله " والله مع الصابرين " بالنصر على عدوهم يعني معينهم
قوله تعالى " ولما برزوا لجالوت وجنوده " يقول خرجوا واصطفوا لجالوت دعوا الله تعالى " قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا " يقول أصبب علينا صبرا معناه ارزقنا الصبر على القتال " وثبت أقدامنا " عند القتال " وانصرنا على القوم الكافرين "
قال وكان داود عليه السلام راعيا وكان له سبعة أخوة مع طالوت فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم وكان اسمه إيشا أرسل إليهم ابنه داود ينظر إليهم ما أمرهم ويأتيه بخبرهم فلما خرج مر على حجر فقال له الحجر خذني فإني حجر إبراهيم الذي قتل بي عدوه فأخذه وجعله في مخلاته ثم مر بآخر فقال له خذني فإني حجر موسى الذي قتل بي كذا كذا ثم مر بثالث فقال له خذني فأنا الذي أقتل جالوت فأخذه وجعله في مخلاته فأتاهم وهم بالصفوف وقد برز جالوت فقال من يبارزني فلم يخرج إليه أحد ثم قال يا بني إسرائيل لو كنتم على حق لخرج إلي بعضكم فقال داود لإخوته أما فيكم أحد يخرج إلى هذا الأقلف فقالوا له اسكت فذهب داود إلى ناحية من الصف ليس فيها أحد من إخوته فمر طالوت به وهو يحرض الناس فقال له داود وما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف قال طالوت انكحه ابنتي واجعل له نصف ملكي قال داود فأنا أخرج إليه فأعطاه طالوت درعه وسيفه فلما خرج في الدرع جرها لأن طالوت كان أطول الناس فرجع داود إلى طالوت وقال إني لم أتعود القتال في الدرع فرد الدرع إليه فقال له طالوت فهل جربت نفسك قال نعم وقع ذئب في غنمي فضربته بالسيف فقطعته نصفين فقال له طالوت إن الذئب ضعيف فهل جربت نفسك في غير هذا قال نعم دخل أسد في غنمي فضربته ثم أخذت بلحييه فشققتها فقال له هذا أشد ثم قال له ما اسمك قال داود بن إيشا فعرفه فرأى أنه أجلد إخوته فأخذ قذافته وخرج فلما رآه جالوت قال خرجت إلي لتقتلني بالقلاعة كما يقتل الكلاب فقال له داود
وهل أنت إلا مثل الكلب قال الكلبي وكان على رأس جالوت بيضة ثلاثمائة رطل فقال له جالوت إما(1/190)
191
أن ترميني وإما أن أرميك فقال له داود بل أنا أرميك ثم أخذ واحدا من الأحجار فرماه فوقع في صدره ونفذ من صدره وقتل خلفه خلقا كثيرا وقال بعضهم صارت الأحجار كلها واحدة فلما رماها تفرقت في عسكره فقتلت خلقا كثيرا وقال بعضهم رمى واحدا بعد واحد فقتل جالوت وخلقا كثيرا وهزمهم بإذن الله فذلك قوله عز وجل " فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت "
ثم إن طالوت زوج داود ابنته وأراد أن يدفع إليه نصف ملكه فقال له وزراؤه لو دفعت إليه نصف ملكك فيصير منازعا لك في ملكك ويفسد عليك الملك فامتنع من ذلك وأراد قتل داود عليه السلام وكان في ذلك ما شاء الله حتى دفع إليه النصف ثم خرج طالوت إلى بعض المغازي فقتل هناك فتحول الملك كله إلى داود ولم يجتمع بنو إسرائيل كلهم على ملك واحد إلا على داود فذلك قول عز وجل " وآتاه الله الملك " يعني ملك اثني عشر سبطا " والحكمة " يعني النبوة وأنزل عليه الزبور أربعمائة وعشرين سورة " وعلمه مما يشاء " يعني ما يشاء داود من صنع الدروع وكلام الطيور وتسبيح الجبال معه ويقال ما شاء الله من الزبور وكلام الطيور وتسبيح الطيور معه
ثم قال تعالى " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض " أي يدفع البلاء عن المؤمنين بالنبيين عليهم السلام ويدفع بالمؤمنين عن الكفار " لفسدت الأرض " يعني هلك أهلها ويقال " ولولا دفع الله " جالوت بطالوت لهلكت بني إسرائيل كلهم ويقال " ولولا دفع الله " البلايا بسبب المطيعين لهلك الناس كما جاء في الأثر لولا رجال خشع وصبيان رضع وبهائم رتع لصببت عليكم العذاب صبا وروي عن الحسن أنه قال لولا الصالحون لهلك الطالحون ويقال لولا أمر الله تعالى المسلمين بحرب الكفار لفسدت الأرض بغلبة الكفار ويقال لولا ما ينتفع بعض الناس ببعض لأن في كل أرض بلدة يتولد منها شيء لا يوجد ذلك في سائر البلدان فينتفع به أهل سائر البلدان وينتفع بعضهم ببعض فيكون في ذلك صلاح أهل الأرض
قرأ نافع هاهنا " ولولا دفاع الله " وفي الحج " يدافع " وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بغير ألف في كلا الموضعين وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر " ولولا دفع الله " بغير ألف " إن الله يدافع " الحج38 بالألف وتفسير القراءتين واحد وهما لغتان معروفتان
ثم قال تعالى " ولكن الله ذو فضل " أي ذو من " على العالمين " برفع البلايا عنهم
ثم قال عز وجل " تلك آيات الله نتلوها " وهو ما قص عليه من أخبار الأمم " عليك " يعني ننزلها بقراءة جبريل عليك " بالحق " يعني بالصدق " وإنك لمن المرسلين " يعني إنك من جملة المرسلين الذين ذكرناهم وقال الزجاج " تلك آيات الله " أي هذه الآيات(1/191)
192
التي أبنأت أي العلامات التي تدل على توحيد وتثبيت رسالاته إذ كان يعجز عن إتيان مثلها المخلوقون وإنك من هؤلاء المرسلين لأنك قد أتيتهم بالعلامات
سورة البقرة الآية 253
ثم قال عز وجل " تلك الرسل " الذين أنزلنا عليك في القرآن خبرهم " فضلنا بعضهم على بعض " في الدنيا ويقال التفضيل يكون على ثلاثة أوجه أحدها أن يكون دلالة نبوته أكثر والثاني أن تكون أمته أكثر والثالث أن يكون بنفسه أفضل ثم بين تفضيلهم فقال " منهم من كلم الله " يعني مثل موسى عليه السلام " ورفع بعضهم درجات " يعني إدريس عليه السلام حيث قال " ورفعناه مكانا عليا " مريم 57 وقال الزجاج جاء في التفسير يعني أنه أراد به محمدا صلى الله عليه وسلم لأنه أرسله إلى الناس كافة وليس شيء من الآيات التي أعطاها الله الأنبياء إلا وقد أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم أكثر لأنه قد كلمته الشجرة وأطعم من كف من التمر خلقا كثيرا وأمر يده على شاة أم معبد فدرت لبنا كثيرا بعد الجفاف ومنها انشقاق القمر فذلك قوله " ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات " الزخرف 32 يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " وآتينا عيسى ابن مريم البينات " يعني العجائب والدلائل وهو أن يحيي الموتى بإذنه ويبرئ الأكمة والأبرص " وأيدناه بروح القدس " يعني أعناه بجبريل حين أرادوا قتله
ثم قال تعالى " ولو شاء الله ما أقتتل الذين " يعني ما اختلف الذين " من بعد ما جاءتهم البينات " التي أتاهم بها مثل موسى وعيسى عليهما السلام وقال الزجاج يحتمل وجهين يحتمل ولو شاء الله ما أمر بالقتال بعد وضوح الحجة ويحتمل ولو شاء الله أضطرهم إلى أن يكونوا مؤمنين كما قال تعالى " ولو شاء الله لجمعهم على الهدى " الأنعام 35 ولكن اختلفوا في الدين فصاروا فريقين " فمنهم من آمن ومنهم من كفر " بالكتاب والرسل " ولو شاء الله ما اقتتلوا " فجعلهم على أمر واحد " ولكن الله يفعل ما يريد " يعني يعصم من يشاء من الاختلاف ويخذل من يشاء ولا مرد لأمره ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون
سورة البقرة الآية 254
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم " يعني تصدقوا قال بعضهم(1/192)
193
أراد به الزكاة المفروضة وقال بعضهم صدقة التطوع ثم بين لهم أن الدنيا فانية وأنه في الآخرة لا ينفعهم شيء إلا ما قدموه فقال " من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه " يقول لا فداء فيه " ولا خلة " يعني لا صداقة وهذا كما قال في آية أخرى " مستكبرين به سامرا تهجرون " الزخرف 67 " ولا شفاعة " للكافرين كما تكون في الدنيا
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " بالنصب وكذلك في سورة إبراهيم " لا بيع فيه ولا خلال " وقرأ الباقون بالضم مع التنوين
ثم قال عز وجل " والكافرون هم الظالمون " يظلمون أنفسهم والظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه وكان المشركون يقولون الأصنام شركاؤه وهم شفعاؤنا عند الله فوحد الله نفسه فقال
سورة البقرة الآية 255
قال عز وجل " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " يقول لا خالق ولا رازق ولا معبود إلا هو ويقال الإثبات إذا كان بعد النفي فإنه يكون أبلغ في الإثبات فلهذا قيل لا إله إلا الله فبدأ بالنفي ثم استثنى الإثبات فيكون ذلك أبلغ في الإثبات " الحي القيوم " يقول " الحي " الذي لا يموت ويقال " الحي " الذي لا بدئ له يعني لا ابتداء له " القيوم " يعني القائم على كل نفس بما كسبت ويقال القائم بتدبير أمر الخلق في إنشائهم ورزقهم ومعنى القائم هو الدائم
قوله تعالى " لا تأخذه سنة ولا نوم " روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال السنة والنوم كلاهما واحد ولكنه أول ما يدخل في الرأس يقال له سنة ويكون بين النائم واليقظان فإذا وصل إلى القلب صار نوما ويقال معناه أنه ليس بغافل عن أمور الخلق فيكون النوم على وجه الكناية وقال بعضهم هو على ظاهره أنه مستغن عن النوم
وروي في بعض الأخبار أن موسى بن عمران عليه السلام حين رفع إلى السماء سأل بعض الملائكة أينام ربنا وقال بعضهم خطر ذلك بقلبه ولم يتكلم به فأمره الله تعالى أن يأخذ زجاجتين في يده وأمره بأن يحفظهما ثم ألقى عليه النوم فلم يملك نفسه حتى نام فانكسرت الزجاجتان في يده فقال له يا موسى لو كان لي نوم لهلكت السموات والأرض أسرع من كسر الزجاجتين في يدك فذلك قوله تعالى " لا تأخذه سنة ولا نوم "
ثم قال تعالى " له ما في السموات وما في الأرض " كلهم عبيده وإماؤه وهو مستغن عن الشريك ويقال معناه أن كل ما في السموات والأرض يدل على وحدانيته(1/193)
194
ثم قال " من ذا الذي يشفع عنده " يقول من ذا الذي يجترئ أن يشفع عنده " إلا بإذنه " أي دون أمره ردا لقولهم حيث قالوا هم شفعاؤنا عند الله وفي الآية دليل على إثبات الشفاعة لأنه قال " إلا بإذنه " ففيه دليل على أن الشفاعة قد تكون بإذنه للأنبياء والصالحين
ثم قال تعالى " يعلم ما بين أيديهم " يعني الله لا إله إلا هو الحي القيوم هو الذي يعلم ما بين أيديهم من أمور الدنيا يعني يعلم أنهم لا يدعون الألوهية " وما خلفهم " يعني يعلم أنه لا شفاعة لهم وقال مقاتل " يعلم ما بين أيديهم " يعني ما كان قبل خلق الملائكة " وما خلفهم " أي ما يكون بعد خلقهم قال الزجاج يعني يعلم الغيب الذي تقدمهم والغيب الذي يأتي من بعدهم وقال الكلبي " يعلم ما بين أيديهم " من أمر الآخرة " وما خلفهم " من أمر الدنيا
ثم قال تعالى " ولا يحيطون بشيء من علمه " يعني الملائكة لا يعلمون الغيب لأن بعض الناس يعبدون الملائكة ويرجون شفاعتهم فأخبر أنهم لا يملكون شيئا ولا يعلمون مما تقدمهم ولا مما بعدهم إلا بما أنبأهم الله تعالى ويقال لا يدركون جميع علمه والإحاطة في اللغة إدراك الشيء بكماله " إلا بما شاء " فيعلمهم
ثم أخبر عن عظمته فقال تعالى " وسع كرسيه السموات والأرض " يعني ملأ كرسيه السموات والأرض
وروي عن عطاء بن أبي رباح أنه قال السموات السبع والأرضون السبع تحت الكرسي كحلقة بأرض فلاة وهكذا قال الكلبي ومقاتل وقال بعضهم الكرسي المكان الذي خلق الله فيه السموات والأرض وقال بعضهم الكرسي والعرش واحد ولكنه مرة ذكر بلفظ العرش ومرة ذكر بلفظ الكرسي وقال بعضهم الكرسي غير العرش
قال الفقيه حدثنا عبد الرحمن بن محمد قال حدثنا فارس بن مردويه قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا أبو مطيع عن حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة وهو عاصم بن أبي النجود صاحب الفراء عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام وبين الكرسي وبين السماء السابعة مسيرة خمسمائة عام وبين الكرسي وبين الماء مسيرة خمسمائة عام والعرش فوق الماء والله فوق العرش أي بالعلو والقدرة يعلم ما أنتم عليه
وقال الزجاج قال ابن عباس " وسع كرسيه " يعني علمه وقال قوم " كرسيه " قدرته التي يمسك بها السموات والأرض وهذا قريب من قول ابن عباس ثم أخبر عن قدرته " ولا يؤوده حفظهما " يقول ولا يثقله حفظهما يعني حفظ السموات والأرض
" وهو العلي " أي الرفيع تعالى فوق خلقه " العظيم " يعني أعلى وأعظم من أن يتخذ شريكا ويقال يحمل الكرسي أربعة أملاك لكل ملك أربعة أوجه وجه إنسان ووجه(1/194)
195
ثور ووجه أسد ووجه نسر أقدامهم في الصخرة التي تحت الأرضين هكذا قال الكلبي ومقاتل ويقال يدعو بالوجه بالذي كوجه الإنسان لبني آدم ويسأل الله تعالى لهم الرزق والرحمة والمغفرة وبالوجه الذي كوجه الثورة يدعو للأنعام بالرزق وبالوجه الذي كوجه الأسد يدعو للوحوش وبالوجه الذي كوجه النسر يدعو للطير
وروي عن محمد بن الحنفية أنه قال لما نزلت آية الكرسي خر كل صنم في دار الدنيا وخر كل ملك في الدنيا على وجهه وسقطت التيجان عن رؤوسهم وهربت الشياطين يضرب بعضهم بعضا فاجتمعوا إلى إبليس وأخبروه بذلك فأمرهم أن يبحثوا عن ذلك فجاؤوا إلى المدينة فبلغهم أن آية الكرسي قد نزلت وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من قرأ آية الكرسي خلف كل صلاة أعطاه الله تعالى صلاة الشاكرين وصلاة المطيعين وصلاة الصابرين ولا يمنعهم دخول الجنة إلا الموت
سورة البقرة الآية 256
قوله تعالى " لا إكراه في الدين " يعني لا تكرهوا في الدين أحدا بعد فتح مكة وبعد إسلام العرب " قد تبين الرشد من الغي " يعني قد تبين الهدى من الضلالة ويقال قد تبين الإسلام من الكفر فمن أسلم وإلا وضعت عليه الجزية ولا يكره على الإسلام
" فمن يكفر بالطاغوت " يعني بالشيطان ويقال الصنم ويقال هو كعب بن الأشرف " ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها " يعني لا انقطاع لها ولا زوال لها ولا هلاك لها ويقال قد استمسك بالدين الذي لا انقطاع له من الجنة " والله سميع " لقولهم " عليم " بهم
سورة البقرة الآية 257
ثم قال عز وجل " الله ولي الذين آمنوا " يعني حافظهم ومعينهم وناصرهم " يخرجهم من الظلمات إلى النور " يعني من الكفر إلى الإيمان واللفظ للمستقبل والمراد به الماضي أي أخرجهم ويقال يثبتهم على الاستقامة كما أخرجهم من الظلمات أي من ظلمة الدنيا ومن ظلمة القبر ومن ظلمة الصراط إلى الجنة
" والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت " يعني اليهود أولياؤهم كعب بن الأشرف(1/195)
196
وأصحابه ويقال المشركون أولياؤهم الشياطين " يخرجونهم من النور إلى الظلمات " يعني يدعونهم إلى الكفر كما قال في آية أخرى " أن أخرج قومك " إبراهيم 5 يعني ادع قومك " أولئك أصحاب النار " يعني أهل النار " هم فيها خالدون " أي دائمون
سورة البقرة الآية 258
ثم قال عز وجل " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " يقول ألم تخبر قصة الذي خاصم إبراهيم في توحيد ربه " أن آتاه الله الملك " وهو نمروذ بن كنعان وهو أول من ملك الدنيا كلها وكانوا خرجوا إلى عيد لهم فدخل إبراهيم عليه السلام على أصنامهم فكسرها فلما رجعوا قال لهم أتعبدون ما تنحتون فقالوا له من تعبد أنت قال أعبد ربي الذي يحيي ويميت وقال بعضهم كان نمروذ يحتكر الطعام وكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام كانوا يشترون منه فإذا دخلوا عليه سجدوا له فدخل عليه إبراهيم فلم يسجد له فقال له نمروذ ما لك لم تسجد لي فقال أنا لا أسجد إلا لربي فقال له نمروذ من ربك فقال له إبراهيم ( ربي الذي يحيي ويميت قال ) له نمروذ " أنا أحيي وأميت " قال إبراهيم كيف تحيي وتميت فجاءه برجلين فقتل أحدهما وخلى سبيل الآخر ثم قال قد أمت أحدهما وأحييت الآخر " قال " له " إبراهيم " إنك أحييت الحي ولم تحيي الميت وإن ربي يحيي الميت فخشي إبراهيم أن يلبس نمروذ على قومه فيظنون أنه أحيا الميت كما وصف لهم نمروذ فجاءه بحجة أظهر من ذلك قال إبراهيم " فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب " فإن قيل لم يثبت إبراهيم على الحجة الأولى وانتقل إلى حجة أخرى والانتقال في المناظرة من حجة إلى حجة غير محمود قيل له الانتقال على ضربين انتقال محمود إذا كان بعد الإلزام وانتقال مذموم إذا كان قبل الإلزام وإبراهيم عليه السلام انتقل بعد الإلزام لأنه قد بين له فساد قوله حيث قال إنك قد أحييت الحي ولم تحيي الميت وجواب آخر إن قصد إبراهيم عليه السلام لم يكن للمناظرة وإنما كان قصده إظهار الحجة فترك مناظرته في الإحياء والإماتة على ترك الإطالة وأخذ بالاحتجاج بالحجة المسكتة ولأن الكافر هو الذي ترك حد النظر حيث لم يسأل عما قال له إبراهيم ولكنه اشتغل بالجواب عن ذات نفسه حيث قال أنا أحيي وأميت
وقوله عز وجل " فبهت الذي كفر " يعني انقطع وسكت متحيرا يقال بهت الرجل إذا تحير " والله لا يهدي القوم الظالمين " يعني لا يرشدهم إلى الحجة والبيان وروي في الخبر أن الله عز وجل قال وعزتي وجلالي لا تقوم الساعة حتى آتي بالشمس من المغرب(1/196)
197
ليعلم أني أنا القادر على ذلك ثم أمر نمروذ بإبراهيم فألقي في النار وهكذا عادة الجبابرة أنهم إذا عورضوا بشيء وعجزوا عن الحجة اشتغلوا بالعقوبة فأنجاه الله من النار وسنذكر قصة ذلك في موضعها إن شاء الله تعالى
سورة البقرة الآية 259
ثم قال عز وجل " أو كالذي مر على قرية " قال بعضهم معناه إحيائي ليس كإحياء نمروذ ولكن إحيائي كإحياء عزير عليه السلام أحييته بعد مائة عام وقال بعضهم هو معطوف على ما سبق من قوله " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم " البقرة 243 و " إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " البقرة 258 " أو كالذي مر على قرية " " أو " زيادة في الكلام قال مقاتل والذي مر على قرية هو عزيز بن شرخيا ويروى سرحبا وكان من علماء بني إسرائيل فمر بدير هرقل بين واسط والمدائن ويروى أن شرخيا كان على حمار فمر بها " وهي خاوية على عروشها " وقال الضحاك بن مزاحم هو عزيز النبي عليه السلام مر ببيت المقدس وقد خربها بخت نصر وقتل منهم سبعين ألفا وأسر منهم سبعين ألفا أي من بني إسرائيل فمر عزيز فقال " أنى يحيي هذه الله بعد موتها "
وقال ابن عباس في رواية أبي صالح إن بخت نصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم ناسا كثيرا فجاء بهم وفيهم عزير بن شرخيا كان من علماء بني إسرائيل فجاء بهم إلى بابل فخرج ذات يوم لحاجة له إلى دير هرقل على شاطئ دجلة فنزل تحت ظل شجرة وهو على حمار له فربط حماره تحت ظل الشجرة ثم طاف بالقرية فلم ير بها ساكنا " وهي خاوية على عروشها " يقول ساقط عروشها يقول ساقطة على سقوفها وذلك أن السقف يقع قبل الحيطان ثم الحيطان على السقف فهي خاوية على عروشها قال بعض أهل اللغة الخاوية الخالية وقال بعضهم بقيت حيطانها لا سقوف عليها فتناول من الفاكهة والتين والعنب ثم رجع إلى حماره فجلس يأكل من تلك الفاكهة ثم عصر من العنب فشربه ثم جعل فضل التين في سلة وفضل العصير في زق ثم نظر إلى القرى فتعجب من كثرة حملها وفناء أهلها ف " قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها " فلم يشك في البعث ولكن أحب أن يريه الله كيف يحيي الموتى فلما تكلم عزير بذلك نام في ذلك الموضع(1/197)
198
" فأماته الله " في منامه " مائة عام " وأمات حماره " ثم بعثه " الله تعالى في آخر النهار ومنعه الله تعالى حال موته عن أبصار الناس والسباع والطير فلما بعثه الله تعالى سمع صوتا " قال " له " كم لبثت " أي كم مكثت في نومك يا عزيز " قال لبثت يوما " ثم نظر إلى الشمس وقد بقي منها شيء لم تغرب فقال " أو بعض يوم " " قال " له " بل لبثت مائة عام " يعني لبثت ميتا مائة عام ثم اخبره ليعتبر فقال " فانظر إلى طعامك " يعني الفاكهة " وشرابك " يعني العصير " لم يتسنه " يعني لم يتغير كقوله " من ماء غير ءاسن " محمد15 أي غير متغير ويقال " لم يتسنه " كأنه لم تأت عليه السنون
قرأ حمزة وابن عامر وأبو عمرو " كم لبثت " بإدغام التاء وقرأ الباقون بإظهارها وقرأ الكسائي " لم يتسن " بغير هاء عند الوصل وأثبتت عن القطع وقرأ حمزة بحذف الهاء عند الوصل والقطع جميعا وقرأ الباقون بإثبات الهاء عند الوصل والقطع وقرأ نافع " أنا أحيي " بمد الألف وكذلك في جميع القرآن نحو هذا إلا في قوله " إن أنا إلا نذير " الأعراف188 وقرأ الباقون بغير مد ومعنى القراءتين في هذا كله واحد
ثم نظر عزيز عليه السلام إلى حماره وقد بلي فنودي أن " أنظر إلى حمارك " فإذا هو عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله ثم سمع صوتا قال أيتها العظام البالية إني جاعل فيكن روحا فاجتمعن فسعى بعضها إلى بعض حتى استقر كل شيء في موضعه ثم بسط عليه الجلد ونفخ فيه الروح فإذا هو قائم ينهق فخر عزيز ساجدا لله تعالى وقال عند ذلك أعلم أن الله على كل شيء قدير فذلك قوله تعالى " وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس " يعني عبرة للناس لأن أولاده قد صاروا شيوخا وهو قد كان شابا " وانظر إلى العظام كيف ننشزها " قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بالراء وقرأ الباقون بالزاي فمن قرأ بالراء فمعناه كيف نحييها ونظيرها " أم اتخذوا ءالهة من الأرض هم ينشرون " الأنبياء21 يعني يبعثون الموتى ومن قرأ بالزاي يعني كيف يضم بعضها إلى بعض النشز ما ارتفع من الأرض وهذا كما جاء في الأثر الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم وقال أهل اللغة النشز الحركة يقال نشز الشيء إذا تحرك ونشزت المرأة عن زوجها والمراد ها هنا نضمها " ثم نكسوها لحما "
" فلما تبين له قال أعلم أن الله " قرأ حمزة والكسائي " أعلم " بالجزم على معنى الأمر وقرأ الباقون " قال اعلم " على معنى الخبر عن نفسه علمت بالمعاينة ما كنت أعلمه قبل ذلك غيبا " أن الله على كل شيء قدير " من الإحياء وغيره وقال بعضهم أن عزيزا لما أحياه الله تعالى قال في نفسه كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم فلما رجع إلى منزله ولقيه أقرباؤه وحاسبوا غيبته فقالوا له بل لبثت
مائة عام وهذا قول من قال إن هذا لم يكن عزيرا النبي عليه السلام بل رجل آخر سوى عزيز النبي عليه السلام(1/198)
199
سورة البقرة الآية 260
قوله تعالى " وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى " وذلك ان نمروذ لما قال له أنا أحيي وأميت ووصف لهم ذلك فسألوا إبراهيم فقالوا له كيف يحيي ربك الموتى فأراد إبراهيم أن يرى ذلك بالمعاينة حتى يخبرهم بما يرى من المعاينة فسأل ربه فقال " رب أرني كيف تحيي الموتى "
وقال مقاتل مر إبراهيم فرأى جيفة على ساحل البحر يأكل منها دواب البحر والطيور وبعضها يصير مستهلكا في الأرض فوقع في قلبه أن الذي تفرق في البحر وفي بطون الطير كيف يجمعها الله تعالى فأراد أن يعاين ذلك فقال " رب أرني كيف تحيي الموتى " ف " قال " له ربه " أو لم تؤمن " يعني أو لم تصدق بأني أحيي الموتى " قال بلى " قد صدقت " ولكن ليطمئن قلبي " يعني ليسكن قلبي ويقال إنما قال له " أو لم تؤمن " لكي يظهر إقراره ولكي لا يظن أحد بعده أنه لم يكن مقرا بذلك في ذلك الوقت فظهر إقراره بقوله بلى وقال سعيد بن جبير ليسكن قلبي أنك اتخذتني خليلا
" قال فخذ أربعة من الطير " فأخذ ديكا وحمامة وطاووسا وغرابا وفي بعض الروايات أخذ طاووسا وثلاثة من الطيور مختلفة ألوانها وأسماؤها وريشها " فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا " يعني قطعهن وقال السدي يعني دقهن وقال الأخفش يعني ضمهن إليك وذكر مقاتل بإسناده عن الأعمش قال فيه تقديم وتأخير يعني فخذ إليك أربعة من الطيور فقطعهن واخلط بعضهن ببعض ثم فرقهن في أربعة أجبل " ثم ادعهن يأتينك سعيا " يعني ففعل ذلك ودعاهن فسعين على أرجلهن
ويقال إنه لما وضعهن على الأجبل هبت الرياح الأربعة التي تقوم يوم القيامة واحدة من قبل المشرق والأخرى من قبل المغرب والأخرى من قبل اليمين والأخرى م قبل الشمال فرفعت الأعضاء المتفرقة عن مواضعها وحملتها إلى المواضع الأخرى حتى اجتمع أعضاء كل طير في موضعها فجعل إبراهيم ينظر ويتعجب حيث ينضم بعضها إلى بعض فقال عند ذلك قوله " وأعلم أن الله عزيز " في ملكه " حكيم " حكم بالبعث ولم أسأله لريب كان في قلبي ولكن سألته ليسكن قلبي في الخلة قرأ ابن كثير " أرني " بجزم الراء وقرأ الباقون بالكسر وقرأ حمزة " فصرهن " بكسر الصاد وقرأ الباقون بالضم فمن قرأ بالكسر يعني قطعهن ومن قرأ بالضم يعني فضمهن إليك ويقال هما لغتان ومعناهما واحد وتفسيرهما واحد(1/199)
200
سورة البقرة الآيات 261 - 262
قوله تعالى " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله " نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حث الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم فقال يا رسول الله كانت لي ثمانية آلاف فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف وأربعة آلاف أقرضتها لربي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت وقال عثمان بن عفان يا رسول الله علي جهاز من لا جهاز له فنزلت هذه الآية " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله " وفي الآية مضمر ومعناها مثل النفقة التي تنفق في سبيل الله " كمثل حبة " وطريق آخر مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل زارع زرع في الأرض حبة ف " أنبتت " الحبة " سبع سنابل " يعني أخرجت سبع سنابل " في كل سنبلة مائة حبة " فيكون جملتها سبعمائة حبة فشبه المتصدق بالزارع وشبه الصدقة بالبذر فيعطيه الله تعالى بكل صدقة سبعمائة حسنة
ثم قال تعالى " والله يضاعف لمن يشاء " يعني يزيد على سبع مائة لمن يشاء فيكون مثل المتصدق كمثل الزارع إن كان الزارع حاذقا في عمله ويكون البذر جيدا أو تكون الأرض عامرة يكون الزرع مخصبا طيبا فكذلك المتصدق إذا كان صالحا والمال طيبا ويوضع في موضعه فيصير الثواب اكثر
" والله واسع " يعني واسع الفضل لتلك الأضعاف " عليم " بما ينفقون وبما نووا فيها قرأ ابن كثير وابن عامر " والله يضعف " بتشديد العين وحذف الألف وقرأ الباقون " يضاعف " بالألف ومعناهما واحد فأما الذي قرأ " يضعف " من التضعيف والذي قرأ " يضاعف " من المضاعفة
ثم قال تعالى " الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله " يعني يتصدقون بأموالهم " ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى " يعني لا يمنون عليهم بما تصدقوا عليهم ولا يؤذونهم ولا يعيرونهم بذلك ومعنى الأذى والتعيير هو أن يقع بينه وبين الفقير خصومة فيقول له إني أعطيتك كذا وكذا وقال بعضهم المن يشبه بالنفاق والأذى يشبه بالرياء ثم تكلم الناس في ذلك فقال بعضهم إذا فعل ذلك لا أجر له في صدقته وعليه وزر فيما من على الفقير وقال بعضهم ذهب أجره فلا أجر له ولا وزر عليه وقال بعضهم له أجر الصدقة ولكن ذهبت مضاعفته وعليه الوزر بالمن
ثم قال تعالى " لهم أجرهم عند ربهم " يعني ثوابهم في الآخرة " ولا خوف عليهم "(1/200)
201
فيما يستقبلهم من العذاب " ولا هم يحزنون " على ما خلفوا من أمر الدنيا ويقال الآية نزلت في شأن عثمان بن عفان حين اشترى بئر رومة ثم جعلها سبيلا على المسلمين
سورة البقرة الآية 263
ثم قال تعالى " قول معروف " يعني دعاء الرجل لأخيه بظهر الغيب " ومغفرة " يعني يعفو ويتجاوز عمن مظلمته " خير من صدقة " يعطيها ثم يمن على من تصدق عليه ويقال " قول معروف " للفقير يعني إذا أتاه سائل سأله ولم يكن عنده شيء يعطيه فيدعو له بالجنة والمغفرة فهو " خير من صدقة " يعطيها له و " يتبعها أذى " ويقال وعد المعطي خير من صدقة يتبعها أذى ويقال وعد الكريم خير من نقد اللئيم ويقال دعاء الفقير إذا دعا لصاحب الصدقة ومغفرة الله خير من الصدقة التي يتبعها أذى ويقال قول معروف أي يتجاوز عمن أساء إليه ويحسن له القول خير من صدقة يتبعها أذى ويقال الأمر بالمعروف والصبر على ما أصابه والتجاوز عن الذي ضره خير من صدقة يتبعها أذى
ثم قال تعالى " والله غني حليم " يعني " غني " عما عندكم من الصدقة " حليم " حيث لا يعجل بالعقوبة على من يمن بصدقته
سورة البقرة الآية 264
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى " فالله تعالى أمر عباده برأفته أن لا يمنوا بصدقاتهم لكي لا يذهب أجرهم ثم ضرب لذلك مثلا فقال تعالى " كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر " يعني المشرك إذا تصدق فأبطل الشرك صدقته كما أبطل المن والأذى صدقة المؤمن ثم ضرب لهما مثلا جميعا لصدقة المؤمن الذي يمن وبصدقة المشرك فقال تعالى " فمثله كمثل صفوان عليه تراب " قال القتبي الصفوان الحجر الذي لا ينبت عليه شيء يعني كمثل حجر صلب عليه تراب " فأصابه وابل " يعني المطر الشديد " فتركه صلدا " يعني ترك الصفا نقيا أجرد أملس ليس عليه شيء من تراب فكذلك نفقة صاحب الرياء ونفقة المشرك لم يبق لهما ثواب
ثم قال تعالى " لا يقدرون على شيء مما كسبوا " يعني لا يجدون للصدقة ثوابا في الآخرة وهذا كما قال في آية أخرى و " مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح " إبراهيم 18 " والله لا يهدي القوم الكافرين " يعني لا يرشدهم إلى الإسلام والإخلاص ولا يوفقهم الله بل يخذلهم مجازاة لكفرهم(1/201)
202
سورة الآية 265
ثم ضرب مثلا لنفقة المؤمن الذي يريد بنفقته وجه الله تعالى ولا يمن بها فقال عز وجل " ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله " يعني يتصدقون طلبا لرضى الله تعالى بصدقاتهم " وتثبيتا من أنفسهم " يعني وتصديقا من قلوبهم يعني يصدقون الله تعالى من الثواب في الآخرة والخلف في الدنيا ويقال وتثبيتا من أنفسهم يعني وتحقيقا من قلوبهم يقصدون بها وجه الله " كمثل جنة بربوة " يعني بستانا في مكان مستو " أصابها وابل " يعني البستان أصابه المطر الشديد " فآتت أكلها ضعفين "
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " أكلها " بجزم الكاف ونصب اللام وقرأ الباقون بالضم " أكلها " وتفسير القراءتين واحد وقرأ عاصم وأبو عمرو " بربوة " بنصب الراء وقرأ الباقون بالضم وقرأ ابن سيرين بكسر الراء وفيه ثلاث لغات ربوة وربوة وربوة وتفسير القراءات واحد
وفي الآية تقديم وتأخير ومعناه كمثل جنة بربوة أصابها وابل " فإن لم يصيبها وابل فطل " فأتت أكلها ضعفين يعني البستان إذا أصابه المطر أو الطل والطل البطيء من المطر وهو مثل الندى " فأتت أكلها ضعفين " يعني اخضرت أوراق البستان وأخرجت ثمرها ضعفين فكذلك الذي يتصدق به لوجه الله تعالى يكون له الثواب ضعفين يعني بالواحد عشرة إلى سبعمائة ضعف وإلى ما لا نهاية له " والله بما تعملون بصير "
سورة البقرة الآية 266
ثم ضرب مثلا آخر لعمل الكافر والمنافق فقال عز وجل " أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب " يقول مثل الكافر كمثل شيخ كبير له بستان وله أولاد صغار ضعفاء عجزة لا حيله لهم ومعيشته ومعيشة ذريته من بستانه " فأصابها إعصار فيه نار " يعني ريحا بها نار يعني تأتيه السموم الحارة " فاحترقت " فأحرقت بستانه ولم يكن له قوة أن يغرس مثل بستانه ولم يكن عند ذريته خيرا يعينونه فيبقى متحيرا فكذلك الكافر إذا لقي ربه أحوج ما كان فلا يجد خيرا ولا يدفع عن نفسه شرا ولا يكون له معين ولا يعود إلى الدنيا كما لا يعود الشيخ الكبير شابا وكان أحوج إليه(1/202)
203
قوله تعالى " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون " في أمثاله فتعتبرون
سورة البقرة الآية 267
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم " يقول من حلالات " ما كسبتم " في الآية أمر بالصدقة من الحلال وفيها دليل أن من تصدق من الحرام لا يقبل لأن الواجب عليه أن يردها إلى موضعها ويقال " أنفقوا من طيبات " يعني من المال اللذيذ والشهي عندكم مما كسبتم يقول مما جمعتم من الذهب والفضة
قوله تعالى " ومما أخرجنا لكم من الأرض " يعني من الثمار والحبوب " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " يعني لا تعمدوا إلى رديء المال فتصدقوا منه وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حث الناس على الصدقة فجعل الناس يأتون بالصدقة ويجمعون في المسجد فجاء رجل بعذق من تمر عامته حشف فنزلت هذه الآية " ولا تيمموا الخبيث " يعني لا تعمدوا إلى الخشف فتتصدقوا به " ولستم بآخذيه " بدل الطيب " إلا أن تغمضوا فيه " يعني إلا أن يهضم أحدكم فيأخذ دون حقه مخافة أن يذهب جميع حقه فيأخذ ذلك للضرورة مخافة فوت حقه والله تعالى غني عن ذلك فلا يقبل إلا الطيب ويقال " إلا أن تغمضوا " يعني إلا أن يضطر أحدكم فمسته الحاجة فرضي بذلك
قوله تعالى " واعلموا أن الله غني حميد " أي " غني " عما عندكم من الصدقات " حميد " في أفعاله عند خلقه وقال " حميد " بمعنى محمود ويقال " حميد " يعني من أهل أن يحمد ويقال " حميد " يقبل القليل ويعطي الجزيل
سورة البقرة الآية 268
قوله تعالى " الشيطان يعدكم الفقر " يقول الشيطان يأمركم بشيئين والله تعالى يأمركم بشيئين أما الشيطان فإنه " يعدكم الفقر " ويقول لا تنفق ولا تتصدق كأنك تحتاج إلى ذلك " ويأمركم بالفحشاء " قال الكلبي يمنع الزكاة ويقال جميع الفواحش مثل الزنى وقول الزور وغير ذلك " والله يعدكم مغفرة منه " لذنوبكم يعني المغفرة من الله " وفضلا " يعني خلفا في الدنيا " والله واسع " الفضل " عليم " بما تنفقون ويقال عليم بمواضع الصدقات
سورة البقرة الآية 269(1/203)
204
ثم قال تعالى " يؤتي الحكمة من يشاء " قال ابن عباس يعني النبوة وقال الكلبي يعني الفقه وقال مقاتل يعني علم القرآن ويقال الإصابة في القول ويقال المعرفة بمكائد الشيطان ووساوسه وقال مجاهد الإصابة في القول والفهم والفقه " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا " يقول من يعط علم القرآن فقد أعطي خيرا كثيرا " وما يذكر " يعني لا يتفكر في ذلك " إلا أولو الألباب " يعني إلا ذوي العقول ويقال إن من أعطي الحكمة والقرآن فقد أعطي أفضل مما أعطي من جميع كتب الأولين من الصحف وغيرها لأنه تعالى قال لأولئك " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " سورة الإسراء 85 وسمي هذا " خيرا كثيرا " لأن هذا جوامع الكلم
وقال بعض الحكماء من أعطي من العلم والقرآن ينبغي أن يعرف نفسه ولا يتواضع لأصحاب الدنيا لأجل دنياهم لأن ما أعطي أفضل مما أعطي أصحاب الدنيا لأن الله تعالى سمى الدنيا متاعا قليلا وقال " قل متاع الدنيا قليل " النساء 77 وسمى العلم " خيرا كثيرا " البقرة 269
سورة البقرة الآيات 270 - 271
قوله تعالى " وما أنفقتم من نفقة " يقول ما تصدقتم من صدقة " أو نذرتم من نذر " فوفيتم بنذوركم " فإن الله يعلمه " يعني يحصيه ويقبله منكم وهذا وعد من الله تعالى فكأنه يقول إنه لا ينسى بل يعطي ثوابكم " وما للظالمين من أنصار " يعني ليس للمشركين من مانع في الآخرة يمنعهم من العذاب
ثم قال تعالى " إن تبدوا الصدقات " وذلك أن الله تعالى لما حثهم على الصدقة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية فنزل قوله " إن تبدوا الصدقات " يعني إن تعلنوا الصدقات المفروضة " فنعما هي " قرأ حمزة والكسائي وابن عامر " فنعما هي " بنصب النون وكسر العين وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية حفص ونافع في رواية ورش وابن كثير بكسر النون وكسر العين وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر " فنعما " بكسر النون وجزم العين وكل ذلك جائز وفيه ثلاث لغات نعم نعم ونعم وما زيدت فيها للصلة
قوله تعالى " ويكفر عنكم سيئاتكم " وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص " ويكفر " بالياء وضم الراء وقرأ حمزة ونافع والكسائي " ونكفر " بالنون وجزم الراء وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر " ونكفر " بالنون وضم الراء فمن قرأ بالجزم فهو جزاء(1/204)
205
للصدقة ومن قرأ بالضم فهو على المستقبل يعني إن تعلنوا الصدقات فحسن " وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم " من صدقة العلانية
فأما صدقة التطوع فقد اتفقوا أن الصدقة في السر أفضل وأما الزكاة المفروضة قال بعضهم السر أفضل لأنه أبعد من الرياء وقال بعضهم العلانية أفضل لأن الزكاة من شعائر الدين فكل ما كان أظهر كان أفضل كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين ولأن في ذلك زيادة رغبة لغيره في أداء الزكاة
ثم قال تعالى " والله بما تعملون خبير " يعني فيما تصدقتم في السر والعلانية يعلمه ويتقبل منكم ويكون في ذلك كفارة سيئاتكم ويعطي ثوابكم في الآخرة
سورة البقرة الآيات 272 - 274
قوله تعالى " ليس عليك هداهم " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة لعمرة القضاء وخرجت معه أسماء بنت أبي بكر فجاءتها أمها قتيلة وجدها أبو قحافة فسألا منها حاجة فقالت لا أعطيكما شيئا حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنكما لستما على ديني فاستأمرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " يعني يوفق من يشاء لدينه فإن قيل قد قال في آية أخرى " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " الشورى 52 وقال هاهنا " ليس عليك هداهم " قيل له إنما أراد به هناك الدعوة وهاهنا أراد به الهدى خاصة وهو التوفيق إلى الهدى
ثم قال تعالى " وما تنفقوا من خير فلأنفسكم " يعني ما تنفقوا من مال فثوابه لأنفسكم إذا تصدقتم على الكفار أو على المسلمين
وروي عن عمر بن الخطاب أنه رأى رجلا من أهل الذمة يسأل على أبواب المسلمين فقال ما أنصفناك أخذنا منك الجزية ما دمت شابا ثم ضيعناك بعدما كبرت وضعفت فأمر بأن يجري عليه قوته من بيت المال
ثم قال تعالى " وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله " يعني لا تنفقوا إلا ابتغاء ثواب الله ثم قال تعالى " وما تنفقوا من خير يوف إليكم " يعني يوف ثوابكم " وأنتم لا تظلمون " يعني(1/205)
206
لا تنقصون من ثواب أعمالكم وصدقاتكم فتكون " ما " الأولى بمعنى الشرط و " ما " الثانية للجحود و " ما " الثالثة للخبر
ثم بين موضع الصدقة فقال عز وجل " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله " يعني النفقة والصدقة للفقراء الذين حبسوا أنفسهم في طاعة الله وهم أصحاب الصفة كانوا نحوا من أربعمائة رجل جعلوا أنفسهم للطاعة وتركوا الكسب والتجارة
قوله " لا يستطيعون ضربا في الأرض " يعني لا يستطيعون الخروج إلى السفر في التجارة " يحسبهم الجاهل " قرأ حمزة وعاصم وابن عامر " يحسبهم " بنصب السين في جميع القرآن وقرأ الباقون بالكسر وتفسير القراءتين واحد يعني يظن الجاهل بأمرهم وشأنهم أنهم " أغنياء من التعفف " لأنهم يظهرون أنفسهم للناس باللباس وغيره كأنهم أغنياء ويتعففون عن المسألة " تعرفهم بسيماهم " أي بصفرة الوجوه من قيام الليل وصوم النهار " لا يسألون الناس إلحافا " يعني إلحاحا قال ابن عباس رضي الله عنه لا يسألون الناس إلحافا ولا غير إلحاح ويقال أصله من اللحاف لأن السائل إذا كان ملحا فكأنه يلصق بالمسؤول فيصير كاللحاف وجعل ذلك كناية عنه
ثم قال تعالى " وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم " بما أنفقتم ويقال هذا على معنى التحريض فكأنه يقول عليكم بالفقراء الذين أحصروا في سبيل الله وقال بعضهم هذا على معنى التعجب فكأنه يقول عجبا للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ويقال إنه رد إلى أول الآية " وما أنفقتم من نفقة " " للفقراء الذين أحصروا "
ثم قال تعالى " الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار " قال مقاتل والكلبي نزلت هذه الآية في شأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت له أربعة دراهم لم يملك غيرها فلما نزل التحريض على الصدقة تصدق بدرهم بالليل وبدرهم بالنهار وبدرهم في السر وبدرهم في العلانية فنزلت هذه الآية " الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار " " سرا وعلانية " يعني خفية وظاهرا ويقال هذا حث لجميع الناس على الصدقة يتصدقون في الأحوال كلها وفي الأوقات كلها " فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " الآية
سورة البقرة الآيات 275 - 276
قوله تعالى " الذين يأكلون الربا " يعني يأكلون الربا استحلالا " لا يقومون " يوم القيامة(1/206)
207
من قبورهم " إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان " يعني يتخبله الشيطان " من المس " أي من الجنون ويقال إنهم يبعثون يوم القيامة وقد انتفخت بطونهم كالجبال وكلما قاموا سقطوا والناس يمشون عليهم فيكون ذلك علامة آكل الربا ويقال يكون بمنزلة المجنون " ذلك بأنهم " يعني الذي نزل بهم لأنهم " قالوا إنما البيع مثل الربا " معناه استحلوا الربا وكان الرجل إذا حل أجل ماله طالبه فيقول له المطلوب زدني في الأجل وأزيدك في مالك فيفعلان ذلك فإذا قيل لهما إن هذا ربا قالا الزيادة في أول البيع والزيادة عند حلول المال سواء فذلك قوله تعالى " ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا " الزيادة في أول البيع كالزيادة في آخر البيع ويقال إنهم استحلوا الربا وقالوا الربا والبيع سواء في الحل فالله سبحانه وتعالى أبطل قولهم فقال " وأحل الله البيع وحرم الربا "
ثم قال " فمن جاءه موعظة " ولم يقل جاءته لأن التأنيث ليس بحقيقي ويجوز ان يذكر ويؤنث لأنه أنصرف إلى المعنى يعني فمن جاءه نهي " من ربه " في القرآن في بيان تحريم الربا " فانتهى " عن أكل الربا " فله ما سلف " يعني ليس عليه إثم فيما مضى قبل النهي لأن الحجة لم تقم عليهم ولم يعلموا بحرمته وأما اليوم فمن تاب عن الربا فلا بد له من أن يرد الفضل ولا يكون له ما سلف لأن حرمة الربا ظاهرة بين المسلمين لأن كتاب الله تعالى فيهم
ثم قال عز وجل " وأمره إلى الله " في المستأنف إن شاء عصمه وإن شاء لم يعصمه " ومن عاد " إلى استحلال الربا " فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " قال ابن مسعود آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهداه ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم
وقال صلى الله عليه وسلم سيأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا ومن لم يأكل الربا أصابه من غباره وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الربا بضع وسبعون بابا أدناها كإتيان الرجل أمه ) يعني كالزاني بأمه
ثم قال تعالى " يمحق الله الربا " يعني يبطله ويذهب ببركته " ويربي الصدقات " يقول يقبلها ويضاعفها ويقال إن مال آكل الربا لا يخلو من أحد أوجه ثلاثة إما أن يذهب عنه أو عن ولده أو ينفقه فيما لا يصلح
ثم قال عز وجل " والله لا يحب كل كفار " يعني جاحدا بتحريم الربا " أثيم " يعني عاص بأكله(1/207)
208
سورة البقرة الآيات 277 - 281
قوله تعالى " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني الطاعات فيما بينهم وبين ربهم " وأقاموا الصلاة " يعني الصلوات الخمس " وآتوا الزكاة " يعني وأعطوا الزكاة المفروضة " لهم أجرهم عن ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " وقد ذكرناه
ثم قال تعالى ( يآ أيها الذين آمنوا اتقوا الله ) ولا تعصوه فيما نهاكم من أمر الربا " إن كنتم مؤمنين " يعني مصدقين بتحريمه وقال أهل اللغة " إن " الخفيفة على ثلاثة اوجه إن بمعنى ما كقوله " إن الكافرون " " إن كانت إلا صيحة واحدة " يس 29 وإن بمعنى لقد كقوله " إن كان وعد ربنا لمفعولا " الإسراء 108 " وتالله إن كنا " " قال تالله إن كدت لتردين " الصافات 56 " إن كنا عن عبادتكم لغافلين " يونس 29وإن بمعنى إذ كقوله " وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " آل عمران 139 " ما بقى من الربوا إن كنتم مؤمنين " البقرة 278يعني إذ كنتم مؤمنين نزلت هذه الآية في نفر من بني ثقيف وفي بني المغيرة من قريش وكانت ثقيف يربون لبني المغيرة في الجاهلية وكانوا أربعة أخوة منهم مسعود وعبد ياليل وأخواهما يربون لبني المغيرة فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة وضع الربا كله وكان أهل الطائف قد صالحوا على أن لهم رباهم على للناس يأخذونه وما كان عليهم من ربا الناس فهو موضوع عنهم لا يؤخذ منهم وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لهم كتابا وكتب في أسفل كتابهم إن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم فلما حل الأجل طلب ثقيف رباهم فاختصموا إلى أمير مكة وهو عتاب بن أسيد فكتب بذلك بالمدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولا تستحلوا الربا وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين " يعني مصدقين بتحريم الربا
ثم خوفهم فقال عز وجل " فإن لم تفعلوا " يعني لم تقروا بتحريم الربا ولم تتركوه " فأذنوا بحرب من الله ورسوله "
قرا حمزة وعاصم في رواية أبي بكر " فآذنوا " بمد الألف وكسر الذال وقرأ أبو عمرو وورش عن نافع " فأذنوا " بترك الهمزة ونصب الذال وقرأ الباقون بجزم الألف ونصب الذال(1/208)
209
فمن قرأ " فأذنوا " بلجزم معناه فاعلموا بحرب من الله يعني بإهلاك من الله ويقال معناه فاعلموا أنكم كفار بالله ورسوله ومن قرأ " فآذنوا " يعني اعلموا بعضكم بعضا بحرب من الله أي بإهلاك من الله تعالى ورسوله فقالوا وما لنا بحرب من الله ورسوله طاقة فما توبتنا
فقال تعالى لهم " فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم " التي أسلفتم وقال النبي صلى الله عليه وسلم كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع وأول ربا وضع ربا العباس بن عبد المطلب وكل دم كان في الجاهلية فهو موضوع وأول دم وضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ثم قال " لا تظلمون ولا تظلمون " يعني الطالب لا يظلم بطلب الزيادة ويرضى برأس ماله ولا يظلم المطلوب فينتقص عن رأس المال وذلك أنهم طلبوا رؤوس أموالهم من بني المغيرة فشكوا العسرة يعني بني المغيرة وقالوا ليس لنا شيء وطلبوا الأجل إلى وقت إدراك ثمارهم فنزلت هذه الآية " وإن كان ذو عسرة " يعني إن كان المطلوب ذو شدة " فنظرة إلى ميسرة " يقول أجله أن يتيسر عليه بإدراك ثمارهم " وأن تصدقوا " يقول لو تصدقتم ولا تأخذونه فهو " خير لكم " ويقال لئن تصدقتم بالتأخير فهو خير لكم " وإن كنتم تعلمون " أن الصدقة خير لكم
قرأ نافع إلى " ميسرة " بضم السين وقرأ الباقون والنصب وهما لغتان ومعناهما واحد وقرأ عطاء " فناظرة " بالألف وقرأ العامة بغير ألف ومعناها واحد
قوله تعالى " واتقوا يوما ترجعون " يعني اجتنبوا عذاب يوم ترجعون " فيه إلى الله " يعني في يوم القيامة " ثم توفى كل نفس ما كسبت " من خير أو شر " وهم لا يظلمون " يعني لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئا
وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال آخر آية نزلت من القرآن " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى " قرأ أبو عمرو " ترجعون " بنصب التاء وكسر الجيم وقرأ الباقون " ترجعون " بضم التاء ونصب الجيم وقرأ عاصم " وأن تصدقوا " بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد لأن التاء أدغمت في الصاد وأصله وإن تصدقوا
سورة البقرة(1/209)
210
الآيات 282 - 283
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين " روي عن ابن عباس أنه قال الآية نزلت في السلم ويقال كل دين إلى أجل سلما كان أو غيره " إلى أجل مسمى " يعني إلى أجل معلوم وفي الآية دليل أن المداينة لا تجوز إلا بأجل معلوم " فاكتبوه " يعني الدين والأجل ويقال أمر بالكتابة ولكن المراد به الكتابة والإشهاد لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة ويقال أمر بالكتابة لكي لا ينسى ويقال من أدان دينا ولم يكتب فإذا نسي ودعا الله تعالى بأن يظهره يقول الله تعالى أمرتك بالكتابة فعصيت أمري وإذا دعى بالنجاة من الزوجة يقول الله تعالى جعلت الطلاق بيدك إن شئت طلقها وإن شئت فأمسكها
ثم قال تعالى " وليكتب بينكم كاتب بالعدل " يعني يكتب الكاتب بين البائع والمشتري يعدل بينهما في كتابته ولا يزداد على المطلوب على حقه ولا ينقص من حق الطالب
ويقال إن هذا أمر للكاتب بالكتابة وكانت الكتابة واجبة في ذلك الوقت على الكاتب لأن الكتبة كانوا قليلا ثم نسخ بقوله " ولا يضار كاتب ولا شهيد " البقرة 282 وقال بعضهم الكتابة لم تكن واجبة ولكن الأمر على معنى الاستحباب
ثم قال تعالى " ولا يأب كاتب أن يكتب " يقول ولا يمتنع الكاتب عن الكتابة أن يكتب " كما علمه الله " يعني يكتب شكرا لما أنعم الله عليه حيث علمه الكتابة واحتاج غيره إليه فكما أكرمه الله تعالى بالكتابة وفضله بذلك فيعرف شكره ولا يمتنع عن الكتابة لمن طلب منه
ثم قال تعالى " وليملل الذي عليه الحق " يعني المطلوب هو الذي يملي على الكاتب حتى يكتب الكاتب لأن قول المطلوب حجة على نفسه فإذا أملى على الكاتب يكون ذلك إقرارا منه بوجوب الحق عليه
ثم خوف المطلوب لكيلا ينقص شيئا من حق الطالب فقال تعالى " وليتق الله ربه " يعني المطلوب " ولا يبخس منه شيئا " يقول لا ينقص من الحق شيئا ويقال معنى الكاتب ولا يبخس في الكتابة شيئا(1/210)
211
ثم قال تعالى " فإن كان الذي عليه الحق " يعني المطلوب " سفيها " يعني جاهلا بالإملاء ويقال أحمق ) " أو ضعيفا " يعني صبيا عاجزا عن الإملاء ويقال أخرس أو مجنونا " أو لا يستطيع " يعني لا يحسن " أن يمل هو " على الكاتب فيرجع الإملاء على الطالب " فليملل وليه " يعني ولي الحق يعني الطالب هكذا قال في رواية الكلبي وقال في رواية الضحاك ولي المديون يعني إذا كان للصبي وصي أو ولي رجع الإملاء عليه فيلملل وليه " بالعدل " يعني بالحق
ثم أمر بإلاشهاد فقال تعالى " واستشهدوا " يعني على حقكم " شهيدين من رجالكم " يعني من أهل دينكم من الأحرار البالغين " فإن لم يكونا رجلين فرجل " فليكن رجلا " وامرأتان ممن ترضون من الشهداء " يعني من العدول " أن تضل إحداهما " يعني إذا نسيت إحدى المرأتين " فتذكر إحداهما الأخرى " يعني الشهادة إذا حفظت إحداهما تذكر صاحبتها ويقال إن امتنعت إحداهما عن أداء الشهادة فتعظها الأخرى حتى تشهد قرأ حمزة " أن تضل " بكسر الألف ونصب التاء وضم اللام " فتذكر " بضم الراء وإنما كسر الألف على معنى الابتداء وضم اللام بحرف الشرط وقرأ الباقون بنصب الألف ومعناه لأن تضل وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " فتذكر " بالتخفيف وقرأ الباقون بنصب الذل وتشديد الكاف وهما لغتان اذكرته وذكرته
ثم قال تعالى " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " يعني الشاهد إذا دعي إلى الحاكم ليشهد فلا يمتنع عن أداء الشهادة والإباء عن الشهادة حرام لأن الله تعالى نهى عن الإباء عن الشهادة ويقال إباء الشهادة على ثلاثة أوجه أحدهما أن يمتنع عن أدائه والثاني أن يشهد ويقصر في أدائه لكيلا تقبل شهادته والثالث بأن لا يصون نفسه عن المعاصي فيصير متهما لا تقبل شهادته فكأنه هو الذي أبطل حق المدعي وخانه حيث عصى الله تعالى حتى ردت شهادته بمعصيته
ثم قال تعالى " ولا تسأموا " يقول ولا تملوا " أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا " يقول قليل الحق أو كثيره " إلى أجله " لأن الكتابة أحصى للأجل وأحفظ للمال " ذلكم أقسط عند الله " يعني أعدل " وأقوم " وأصوب " للشهادة وأدنى " يقول أحرى وأجدر " ألا ترتابوا " يعني لا تشكوا في شيء من حقوقكم
ثم استثنى الله تعالى فقال " إلا أن تكون تجارة حاضرة " قرأ عاصم " تجارة حاضرة " بالنصب وقرأ الباقون بالرفع فمن قرأ بالنصب جعله خبر تكون والاسم مضمر معناه إلا أن تكون المداينة تجارة حاضرة ومن قرأ بالرفع جعله اسمه يعني إذا كان البيع بالنقد " تديرونها بينكم " يعني تداولونها أيديكم ولم يكن المال مؤجلا " فليس عليكم جناح " أي حرج " ألا تكتبوها " يعني التجارة ثم قال " واشهدوا " على حقكم " إذا تبايعتم " على كل حال نقدا(1/211)
212
كان أو مؤجلا وهذا أمر استحباب ولو ترك الإشهاد جاز البيع
ثم قال تعالى " ولا يضار كاتب ولا شهيد " يقال لا يعمد أحدكم إلى الكاتب والشاهد فيدعوهما إلى الكتابة والشهادة ولهما حاجة مهمة فتمنعهما عن حاجتهما وليتركهما حتى يفرغا من حاجتهما أو يطلب غيرهما " وإن تفعلوا " يقول إن تضاروا الكاتب والشاهد " فإنه فسوق بكم " يقول معصية منكم وترك الأدب قوله " واتقوا الله " في الضرار ويقال واتقوا الله ولا تعصوه فيما أمركم من أمر الكتابة والإشهاد " ويعلمكم الله " في أمر الكتابة ويقال ويؤدبكم الله " والله بكل شيء عليم " من أعمالكم
ثم قال عز وجل " وإن كنتم على سفر " يعني كنتم مسافرين " ولم تجدوا كاتبا " يعني لم تجدوا من يكتب الكتاب وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ " ولم تجدوا كاتبا " يعني الكاتب والصحيفة " فرهان مقبوضة " قرأ ابن كثير وأبو عمرو " فرهن " والباقون " فرهان " والرهان هو جمع الرهن والرهن فهو جمع الرهان وهو جمع الجمع يعني إذا كنتم في السفر ولم تجدوا من يكتب ولم تجدوا الصحيفة والدواة فاقبضوا الرهن وفي الآية دليل أن الرهن لا يصح إلا بالقبض لأنه جعل الرهن بالقبض
ثم قال تعالى " فإن أمن بعضكم بعضا " يعني إذا كان الذي عليه الحق أمينا عند الطلب فلم يطلب منه الرهن ورضي بدينه بغير رهن قوله " فليؤد الذي اؤتمن أمانته " يعني المطلوب يقضي دينه حيث ائتمنه الطالب ولم يرتهن منه " وليتق الله ربه " ولا يمنع حقه
ثم رجع إلى الشهود فقال " ولا تكتموا الشهادة " عند الحاكم يقول من كانت عنده شهادة فليؤدها على وجهها ولا يكتمها " ومن يكتمها " يعني الشهادة " فإنه آثم قلبه " يعني فاجر قلبه " والله بما تعملون " من كتمان الشهادة وإقامتها " عليم " فهذا وعيد للشاهد على كتمان شهادته لكيلا يكتمها
قرأ حمزة وعاصم " فليؤد الذي أوتمن " بضم الألف والباقون يقرؤون بسكون الألف وكلاهما واحد وقرأ نافع " فليود " بغير همز وقرأ أبو عمرو بالهمزة وتفسير القراءتين واحد
سورة البقرة الآية 284
قوله تعالى " لله ما في السموات وما في الأرض " من الخلق كلهم عبيده وإماؤه وهو خالقهم ورازقهم وحكمه نافذ فيهم معناه لا تعبدوا أحدا سواه لأنه هو الذي خلق المسيح والملائكة والأصنام ويقال " لله ما في السموات وما في الأرض " يعني في كل شيء دلالة ربوبيته ووحدانيته
ثم قال تعالى " وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه " يعني أن تظهروا ما في قلوبكم أو(1/212)
213
تضمروه " يحاسبكم به الله " أن يجازيكم به الله وقال بعضهم يعني في كتمان الشهادة أن تعلنوا الشهادة أو تخفوها " يحاسبكم به الله " أي يجازيكم به الله
وقال الكلبي وإن تعلنوا ما في أنفسكم من المعصية أو تسروها ولا تظهروها يجازيكم به الله ويقال لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين وقالوا يا رسول الله إنا لنحدث أنفسنا بالأمر من المعصية ثم لا نعملها أو نعمل بها فهو سواء فشق ذلك على المؤمنين مشقة شديدة فلما عرف الله مشقة ذلك على المسلمين أنزل على نبيه ما هو أهون عليه منه فقال " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " البقرة 286
قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الدبيلي قال حدثنا أبو عبيد الله عن سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى سبقت رحمتي غضبي
قال سفيان بلغني أن الأنبياء كانوا يأتون قومهم بهذه الآية " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " فيقولون لا نطيق هذا ولا نحتمله فأعقبهم الله بالمؤاخذة فلما عرض على هذه الأمة قبلوا فأعقبهم الله تعالى أن وضعها عنهم فأنزل الله تعالى " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " البقرة 286الآية
ثم قال عز وجل " فيغفر لمن يشاء " أي لمن تاب عن الذنوب " ويعذب من يشاء " أي لمن أقام على ذلك وأصر عليه ويقال " فيغفر لمن يشاء " الذنب العظيم لمن انتزع عنه " ويعذب من يشاء " بالذنب الصغير إذا أصر عليه ويقال لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار قرأ عاصم وابن عامر " فيغفر " بضم الراء على معنى الابتداء وقرأ الباقون بالجزم على جواب الشرط وكذلك في قوله " ويعذب من يشاء "
ثم قال تعالى " والله على كل شيء قدير " من العقوبة والمغفرة
سورة البقرة الآيات 285 - 286(1/213)
214
قوله تعالى ( آمن الرسول بما أنزل إليه ) روي عن الحسن وعن مجاهد وعن الضحاك أنهم قالوا إن هذه الآية نزلت في قصة المعراج وهكذا روي في بعض الروايات عن عبد الله بن عباس
وقال بعضهم جميع القرآن نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم إلا هذه الآية فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمعها ليلة المعراج وقال بعضهم لم يكن ذلك في قصة المعراج لأن ليلة المعراج كانت بمكة وهذه السورة كلها مدنية فأما من قال إنها كانت في صعد النبي صلى الله عليه وسلم وبلغ فوق السموات في مكان مرتفع ومعه جبريل حتى جاوز سدرة المنتهى فقال له جبريل إني لم أجاوز هذا الموضع ولم يؤمر أحد بالمجاوزة عن هذا الموضع غيرك فجاوز النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الموضع الذي شاء الله فأشار إليه جبريل بأن يسلم على ربه فقال النبي صلى الله عليه وسلم التحيات لله والصلوات والطيبات قال الله تعالى السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون لأمته حظ في السلام فقال السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فقال جبريل وأهل السموات كلهم أشهد إن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله قال الله تعالى على معنى الشكر " آمن الرسول بما أنزل إليه " أي صدق النبي صلى الله عليه وسلم بما أنزل إليه من ربه فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يشارك أمته في الفضيلة فقال " والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله " يقولون آمنا بجميع الرسل ولا نكفر بواحد منهم ولا نفرق بينهم كما فرقت اليهود والنصارى
فقال له ربه عز وجل كيف قبولهم بالآية التي أنزلتها وهي قوله " وإن تبدوا ما في أنفسكم " البقرة 284 فقال رسول الله " وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا " أي أعطنا مغفرتك يا ربنا " وإليك المصير " أي المرجع قال الله تعالى عند ذلك " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " يعني طاقتها
ويقال إلا دون طاقتها ويقال لا يكلف الصلاة قائما لمن لا يقدر عليها " لها ما كسبت " من الخير " وعليها ما اكتسبت " من الشر فقال له جبريل عند ذلك سل تعط فقال النبي صلى الله عليه وسلم ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا يعني إن جهلنا " أو أخطأنا " يعني إن تعمدنا ويقال إن عملنا بالنسيان " أو أخطأنا " يعني عملنا بالخطأ فقال له جبريل قد أعطيت ذلك قد رفع عن أمتك الخطأ والنسيان فسل شيئا آخر فقال عند ذلك " ربنا ولا تحمل علينا إصرا " يعني ثقلا " كما حملته على الذين من قبلنا " وهو أنه حرم عليهم الطيبات بظلمهم وكانوا إذا أذنبوا بالليل وجدوه مكتوبا على بابهم وكانت الصلوات عليهم خمسين فخفف عن هذه الأمة وحط عنهم بعدما فرض عليهم إلى خمس صلوات
ثم قال " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " يقول لا تكلفنا من العمل ما لا نطيق فتعذبنا ويقال ما يشق ذلك علينا لأنه لو أمر(1/214)
215
بخمسين صلاة لكانوا يطيقون ذلك ولكنه يشق عليهم ولا يطيقون الإدامة على ذلك " وأعف عنا " من ذلك كله " واغفر لنا وارحمنا " يعني تجاوز عنا ويقال " واعف عنا " من المسخ والخسف " وارحمنا " من القذف لأن الأمم الماضية بعضهم أصابهم المسخ وبعضهم الخسف وبعضهم القذف
ثم قال تعالى " أنت مولانا " يعني أنت ولينا وحافظنا " فانصرنا على القوم الكافرين " فاستجيب دعاؤه
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال نصرت بالرعب مسيرة شهر ويقال إن الغزاة إذا خرجوا من بلادهم بالنية الخالصة وضربوا الطبل وقع الرعب والهيبة في قلوب الكفار مسيرة شهر علموا بخروجهم أو لم يعلموا ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع أوحى الله تعالى إليه هذه الآية ليعلم أمته بذلك
ولهذه الآية تفسير آخر قال الزجاج لما ذكر الله تعالى فرض الصلاة والزكاة في هذه السورة وبين أحكام الحج وحكم الحيض والطلاق والإيلاء وأقاصيص الأنبياء وبين حكم الربا والدين ثم ذكر تعظيمه بقوله عز وجل " لله ما في السموات وما في الأرض " الآية ثم ذكر تصديق نبيه صلى الله عليه وسلم ثم ذكر تصديق المؤمنين جميع ذلك قال " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه " أي صدق الرسول بجميع هذه الاشياء التي جرى ذكرها وكذلك المؤمنون كلهم صدقوا بالله وملائكته وكتبه ورسله
قرأ حمزة والكسائي " وكتابه " على معنى الوحدان وقرأ الباقون " وكتبه " على معنى الجمع ثم قال " لا نفرق بين أحد من رسله " فأخبر عن المؤمنين بأنهم يقولون " لا نفرق بين أحد من رسله "
وقرأ الحضرمي " لا يفرق " بالياء ومعناه كل آمن بالله وكل لا يفرق وقرأ ابن مسعود " لا يفرقون " بين أحد من رسله " وقالوا سمعنا وأطعنا " أي قبلنا ما سمعنا لأن من سمع ولم يقبل قيل له أصم أنت لأنه لم ينتفع بسماعه
وقرأ أبو عمرو " من رسله " بثقل السين وكذلك جميع ما في القرآن فإذا جاوز عن هذه الحروف الأربعة مثل رسلنا ورسلهم يقرأ بالسكون وقرأ الباقون برفع السين في جميع القرآن ومعنى قوله " غفرانك ربنا " يعني اغفر غفرانك وهو من أسماء المصادر كالكفران والسكران " وإليك المصير " يعني نحن المقرون بالبعث
ثم قال عز وجل " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " يعني طاقتها قال الفقيه حدثنا أبو الحسين قال حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا محمد بن عبد الله قال حدثنا مروان عن عطاء بن عجلان عن زرارة بن أبي أوفى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله تجاوز(1/215)
216
عن هذه الأمة ما حدثت به أنفسها أو همت به ما لم تعمل به أو تتكلم به
ثم قال " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " أي لا تأخذ أحدا بذنوب غيره كما قال في آية أخرى " ولا تزر وازرة وزر أخرى " الأنعام 164
وقوله تعالى " إن نسينا " أي إن تركنا أو أخطأنا يعني إن كسبنا خطيئة فأخبر الله تعالى بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن المؤمنين وجعله في كتابه ليكون دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم دعوة يدعون بها من بعده لأن هذا الدعاء قد استجيب له فينبغي أن يحفظ ويدعى به كثيرا
قال الفقيه حدثنا القاضي الخليل قال حدثنا السراج قال حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي قال حدثنا سهل بن بكار قال حدثنا أبو عوانة عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلنا على الناس بثلاث خصال جعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وأوتيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز من تحت العرش لم يعط أحد قبلي ولا يعطى أحدا بعدي
وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال تعلموا البقرة وآل عمران فإنهما تجيئان يوم القيامة كالغمامتين أو كغيايتين أو كفرقتين من طير صواف وتحاجان عن صاحبهما ثم قال تعلموا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة يعني السحرة
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نزل عليه ملك فقال له إن الله يبشرك بنورين لم يعطهما نبيا قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لا يقرأ بحرف منهما منها إلا أعطيته ما وعد له
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو بلغت سورة البقرة ثلاثمائة آية لتكلمت يعني لصارت بحال تتكلم لأنه لا يبقى شيء إلا اجتمع فيها من كثرة ما فيها من العجائب والله سبحانه وتعالى أعلم صلى الله عليه وسلم وسيدنا محمد(1/216)
217
سورة آل عمران مدنية وهي مائتا آية
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة آل عمران الآيات 1 - 2
" الم " قال ابن عباس رضي الله عنهما أنا الله أعلم يعني هو " الله " الذي " لا إله إلا هو الحي " الذي لا يموت ولا يزول أبدا ويقال " الحي " الذي لا بدئ له أما " القيوم " يعني القائم على كل نفس بما كسبت ويقال القائم بتدبير الخلق
وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال الحي قبل كل حي والحي بعد كل حي الدائم الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه والقائم على العباد بأرزاقهم وآجالهم ويقال " الحي القيوم " وهو اسم الله الأعظم ويقال إن عيسى ابن مريم عليهما السلام كان إذا أراد أن يحيي الموتى يدعو بهذا الاسم يا حي يا قيوم ويقال إن آصف بن برخيا لما أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان دعا بقوله يا حي يا قيوم ويقال إن بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام عن اسم الله الأعظم فقال لهم قولوا بآهيا يعني يا حي شراهيا يعني يا قيوم ويقال هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يدعون به
سورة آل عمران الآيات 3 - 5
قوله تعالى " نزل عليك الكتاب " يعني أنزل عليك جبريل بالقرآن " بالحق " يعني بالعدل ويقال لبيان الحق " مصدقا لما بين يديه " يعني موافقا للكتب المتقدمة في التوحيد وفي بعض الشرائع " وأنزل التوراة والإنجيل من قبل " يعني أنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى من قبل نزول هذا الكتاب
وروي عن الفراء أنه قال اشتقاق التوراة من ورى الزند وهو ما يظهر من النور والضياء فسمي التوراة بها لأنه ظهر بها النور والضياء لبني إسرائيل ومن تابعهم وإنما سمي الإنجيل إنجيلا لأنه أظهر الدين بعدما درس وقد سمي القرآن إنجيلا أيضا لما روي في قصة مناجاة موسى عليه السلام أنه قال يا رب أرى في الألواح أقواما أناجيلهم في صدورهم فاجعلهم أمتي قال الله تعالى هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وإنما أراد بالأناجيل القرآن(1/217)
218
قرأ حمزة والكسائي وابن عامر " التوراة " بكسر الراء والباقون بالفتح
وقوله تعالى " هدى للناس " معناه وأنزل أيضا التوراة على موسى والإنجيل على عيسى عليهما السلام بيانا لبني إسرائيل من الضلالة " وأنزل الفرقان " على محمد صلى الله عليه وسلم بعد التوراة والإنجيل وقال الكلبي " الفرقان " هو الحلال والحرام يعني بيان الحلال والحرام ويقال المخرج من الشبهات
ثم قال تعالى " إن الذين كفروا بآيات الله " يعني جحدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أوتي به من آيات نبوته والقرآن " لهم عذاب شديد " في الآخرة
قال الكلبي نزلت في وفد نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجادلوه بالباطل ويقال نزلت في شأن اليهود ويقال نزلت في شأن مشركي العرب " والله عزيز ذو انتقام " يعني منيع بالنقمة يعني ينتقم ممن عصاه
" إن الله لا يخفى عليه شيء " يعني لا يذهب ولا يغيب عنه شيء " في الأرض ولا في السماء " معناه أنه لا يخفى عليه قول الكفار وعملهم فيجازيهم يوم القيامة وهم وفد نجران وسائر المشركين
سورة آل عمران الآية 6
ثم أخبر عن صنعه ليعتبروا بذلك فقال تعالى " هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء " يعني يخلقكم كيف يشاء قصيرا أو طويلا حسنا أو ذميما ذكرا أو أنثى ويقال شقيا أو سعيدا وهذا كما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الولد في بطن الأم يكون نطفة أربعين يوما ثم يصير علقة أربعين يوما ثم يصير مضغة أربعين يوما ثم ينفخ فيه الروح ثم يكتب شقي أم سعيد
وذكر عن إبراهيم بن أدهم أن القراء اجتمعوا إليه ليسألوا ما عنده من الحديث فقال لهم إني مشغول بأربعة أشياء فلا أتفرغ لرواية الحديث فقيل له وما ذاك الشغل فقال أحدها إني أتفكر في يوم الميثاف حيث قال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي فلا أدري من أي الفريقين كنت في ذلك الوقت والثاني حيث صورني في رحم أمي فقال الملك الموكل على الأرحام يا رب شقي هو أم سعيد فلا أدري كيف كان الجواب(1/218)
219
في ذلك الوقت والثالث حيث يقبض روحي ملك الموت فيقول يا رب أمع الكفر أم مع الإيمان فلا أدري كيف يخرج الجواب والرابع حيث يقول " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " يس59 فلا أدري من أي الفريقين أكون وإلى هذا ذهب أهل الخبر
ثم قال تعالى " لا إله إلا هو " يعني لا خالق ولا مصور إلا هو " العزيز الحكيم " يعني المنيع بالنقمة لمن جحده " الحكيم " يحكم تصوير الخلق على ما يشاء
سورة آل عمران الآيات 7 - 9
قوله تعالى " هو الذي أنزل عليك الكتاب " يعني جبريل أنزل بالقرآن " منه آيات محكمات " يعني من القرآن آيات واضحات ويقال مبينات بالحلال والحرام ويقال ناسخات لم تنسخ قط " هن أم الكتاب " يعني أصل كل كتاب وهي ثلاث آيات من سورة الأنعام وهو قوله تعالى " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " الأنعام 151 إلى آخر الآيات وروي عن ابن عباس أنه سمع رجلا يقول فاتحة الكتاب أم الكتاب فقال له ابن عباس بل أم الكتاب قوله تعالى " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " الأنعام 151 إلى آخر ثلاث آيات
ثم قال تعالى " وأخر متشابهات " قال الضحاك يعني منسوخات وقال الكلبي يعني ما اشتبه على اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه " الألم " و " المر " ويقال المحكم ما كان واضحا لا يحتمل التأويل والمتشابه الذي يكون اللفظ يشبه اللفظ والمعنى مختلف
ويقال المحكم الذي هو حقيقة اللغة والمتشابه ما كان مجازا ويقال المحكمات التي فيها دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والمتشابه الذي اشتبهت الدلالة فيه فإن قيل إذا أنزل القرآن للبيان فكيف لم يجعل كله واضحا قيل له الحكمة في ذلك والله أعلم أن يظهر فضل العلماء لأنه لو كان الكل واضحا لم يظهر فضل العلماء بعضهم على بعض وهكذا يفعل كل من يصنف تصنيفا يجعل بعضه واضحا وبعضه مشكلا ويترك للحيرة موضعا لأن ما هان وجوده قل بهاؤه
ثم قال تعالى " فأما الذين في قلوبهم زيغ " يعني ميل عن الحق وهم اليهود " فيتبعون ما تشابه منه " قال الضحاك يعني ما نسخ منه " ابتغاء الفتنة " يعني طلب الشرك واستبقاؤه ما(1/219)
220
هم عليه " وابتغاء تأويله " يعني طلب بقاء هذه الأمة إلى أدنى زمن ويقال طلب وقت قيام الساعة
قال الله تعالى " وما يعلم تأويله إلا الله " يعني منتهى ملك هذه الأمة وذلك أن جماعة من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم حيي بن أخطب وغيره فقالوا بلغنا أنه نزل عليك " ألم " فإن كنت صادقا في مقالتك فإن ملك أمتك يكون إحدى وسبعين سنة لأن الألف في حساب الجمل واحد واللام ثلاثون والميم أربعون فنزل " وما يعلم تأويله إلا الله " يعني منتهى ملك هذه الأمة
ثم قال تعالى " والراسخون في العلم " قال الكلبي ومقاتل استأنف الكلام يعني لما قال " وما يعلم تأويله إلا الله " فقد تم الكلام واستأنف فقال " والراسخون في العلم " يعني المبالغون في علم الكتاب كتابهم التوراة والإنجيل " يقولون آمنا به " يعني بالقرآن " كل من عند ربنا " ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه وهو عبد الله بن سلام وأصحابه وقال بعضهم هو معطوف على قوله " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " يعني يعلمون تأويله ويقولون " آمنا به كل من عند ربنا " وروى ابن طاوس عن ابيه عن ابن عباس أنه كان يقرأ " وما يعلم تأويله إلا الله " ويقول الراسخون في العلم آمنا به وهذا يوافق قول الكلبي ومقاتل وقال عامر الشعبي لو كان ابن عباس بين أظهرنا ما سألته عن آية من التفسير لأني أحل حلاله وأحرم حرامه وأومن بمتشابهه وأكل ما لم أعلم منه إلى عالمه
ثم قال تعالى " وما يذكر إلا أولو الألباب " يعني ما يتعظ بما أنزل من القرآن إلا ذوو العقول من الناس
ثم قال عبد الله بن سلام وأصحابه حين سمعوا قول اليهود وتكذيبهم " ربنا لا تزع قلوبنا " يعني لا تحول قلوبنا عن الهدى " بعد إذ هديتنا " أي ما أكرمتنا بالإسلام وهديتنا لدينك " وهب لنا من لدنك رحمة " يعني ثبتنا على الهدى " إنك أنت الوهاب " يعني المعطي المثيب للمؤمنين
قوله تعالى " ربنا إنك جامع الناس " بعد الموت " ليوم لا ريب فيه " يعني في يوم لا شك فيه عند المؤمنين أنه كائن لا محالة " إن الله لا يخلف الميعاد " في البعث ويقال معناه إن الله " إن الله لا يخلف الميعاد " في إجابة الدعاء يعني يوم يجمع الناس في الآخرة
سورة آل عمران الآيات 10 - 11(1/220)
221
ثم قال تعالى " إن الذين كفروا " يعني اليهود ويقال جميع الكفار " لن تغني عنهم " كثرة " أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا " يعني لا ينفعهم من عذاب الله " شيئا " في الدنيا إذا نزل بهم شدة أو مرض ولا في الآخرة عند نزول العذاب ويقال كل ما لم ينفق في طاعة الله فهو حسرة له يوم القيامة ويقال إنما ذكر الأموال والأولاد لأن أكثر الناس يدخلون النار لأجل الأموال والأولاد فأخبر الله تعالى أنهما لا ينفعانهما في الآخرة لكيلا يفني الناس أعمارهم لأجل المال والولد وإنما ذكر الله تعالى الكفار لكي يعتبر بذلك المؤمنون
ثم قال تعالى " وأولئك هم وقود النار " يعني حطب النار وقرأ بعضهم " وقود النار " بضم الواو يعني إيقاد النار كما قال في آية أخرى " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها " النساء 56 قالوا معناه إذا أرادت النار أن تنطفئ بدلهم الله جلودا غيرها لتتقد النار
ثم قال عز وجل " كدأب آل فرعون " يعني صنيع الكفار معك كصنيع آل فرعون مع موسى وقال مقاتل كأشباه آل فرعون بالتكذيب بالعذاب في الدنيا ويقال إهلاك الله إياهم بالقتل كإهلاك آل فرعون بالغرق ويقال تعاونهم وتظاهرهم فيما بينهم عليك كتظاهر آل فرعون على موسى " والذين من قبلهم " يعني قبل آل فرعون مثل قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط " كذبوا بآياتنا " بدلائلنا وعجائبنا ويقال بكتبي ورسلي كما كذبك قومك يا محمد " فأخذهم الله بذنوبهم " يعني أهلكهم وعاقبهم بشركهم " والله شديد العقاب " للكفار
سورة آل عمران الآية 12
قوله تعالى " قل للذين كفروا " قال الضحاك يعني كفار مكة لما ظهروا يوم أحد فرحوا بذلك فنزل قوله تعالى " قل للذين كفروا " من أهل مكة " ستغلبون " بعد هذا " وتحشرون إلى نار جهنم " وقال الكلبي نزلت في شأن بني قريظة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هزم المشركين يوم بدر وقالت اليهود هذا النبي الأمي الذي بشرنا به موسى الذي نجده في التوراة فأرادوا تصديقه واتباعه ثم قال بعضهم لبعض لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة أخرى فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا والله ما هو إياه فقد تغيرت صفته وحاله فشكوا فيه ولم يسلموا وقد كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد فأنزل الله تعالى " قل للذين كفروا ستغلبون " وقال عكرمة عن عبد الله بن عباس أنه قال لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا يوم بدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع فقال يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بمثل ما أصاب قريشا قالوا يا محمد لا تغرنك نفسك إنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال
فإنك لو قاتلنا لعرفت أنا نحن(1/221)
222
أولو البأس وأنك لم تلق مثلنا فأنزل الله تعالى " قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون " يعني اليهود تهزمون وتقهرون وتحشرون بعد القتل إلى جهنم " وبئس المهاد " يعني لبئس موضع القرار جهنم قرأ حمزة والكسائي " سيغلبون ويحشرون " بالياء على معنى الخبر والباقون بالتاء على معنى المخاطبة
سورة آل عمران الآية 13
ثم قال عز وجل " قد كان لكم آية " يعني عبرة " في فئتين " أي جمعين يعني جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وجمع كفار أهل مكة " التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم " قرأ نافع " ترونهم " على معنى المخاطبة والباقون بالياء على معنى الخبر وذكر عن الفراء أنه قال كان الكفار ثلاثة أمثال المسلمين لأن المسلمين كانوا ثلاثمائة ونيفا وكان الكفار تسعمائة ونيفا وقوله " مثليهم " يعني ثلاثة أمثالهم والمعنى في ذلك عن طريق اللغة أن الإنسان إذا كان عنده ألف درهم يقول احتاج إلى مثليها فإنه يحتاج إلى ثلاثة آلاف درهم وقال الزجاج هذا القول لا يصح في اللغة ولا في المعنى ولكن المسلمين يرونهم مثليهم في العدد لكي لا يجبنوا لأنه أعلمهم أن المائة تغلب المائتين فأراهم في " رأي العين " أن المشركين مثلهم في العدد لكي لا يجبنوا وهذا كما قال في آية أخرى " وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم " الأنفال 44 وذلك أن المشركين كانوا تسعمائة فأرى المسلمين أنهم ستمائة لكي لا يجبنوا وأرى الكفار أن المسلمين أقل من ثلاثمائة ثم ألقى مع ذلك في قلوبهم الرعب حتى انهزموا فكان في ذلك دلالة من الدلالات فمن قرأ بالياء فمعناه خطاب لليهود إن لكم آية وعلامة حيث رأيتم غلبة المسلمين على الكفار مع قلة المسلمين وكثرة الكفار فإن قيل اليهود لم يكونوا حضورا في ذلك الوقت فكيف يرون ذلك قيل له إذا انتشر الخبر فيهم وعلموا ذلك صار كالمعاينة ولأن لهم جواسيس عند المسلمين فيخبرون اليهود فصار كأنهم رأوا ذلك ومن قرأ بالتاء فمعناه أن المسلمين يرون الكفار مثليهم
ويقال إن المشركين حين خرجوا من مكة كانوا ألفا وثلاثمائة رجل فلما وجدوا العير سالمة رجع مع العير ثلاثمائة وخمسون وتخلف تسعمائة وخمسون للحرب وكان أبو(1/222)
223
سفيان بن حرب مع ذلك العير فرجع إلى مكة وحثهم على الخروج ولم يكن حاضرا وقت الحرب وإنما قال الكلبي في كتابه نزلت في جمع أبي سفيان وأصحابه لأن أبا سفيان هو الذي حثهم على الخروج ولم يخرج معهم
ثم قال تعالى " والله يؤيد بنصره من يشاء " يعني يقوي بنصرته وهم أهل بدر فأرسل إليهم الملائكة وهزم المشركين " إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار " يعني لمن ينصر الحق
سورة آل عمران الآيات 14 - 17
قوله تعالى " زين للناس حب الشهوات " أي حسن وحبب إليهم وقد يكون التزيين من الله تعالى كما قال في آية أخرى " زينا لهم أعمالهم " النمل 4 وقد يكون من الشيطان كما قال في آية أخرى " وزين لهم الشيطان أعمالهم " النمل 24 فأما التزيين من الله تعالى فهو على وجهين يكون على جهة الامتحان للمؤمنين مع العصمة وقد يكون للكفار على جهة العقوبة مع الخذلان وأما التزيين من الشيطان فهو على جهة الوسوسة فقال " زين للناس حب الشهوات مع النساء والبنين " بدأ بالنساء لأن النساء أشد من فتنة جميع الأشياء كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما تركت لأمتي فتنة أشد من فتنة النساء ولأن النساء فتنتهن ظاهرة من وقت آدم عليه السلام إلى يومنا هذا
ويقال في النساء فتنتان وفي الأولاد فتنة واحدة إحداهما أنها تؤدي إلى قطيعة الرحم لأن المرأة تأمر زوجها بقطيعة الرحم عن الأمهات والأخوات والثانية يبتلي لجمع المال من الحلال والحرام وأما البنون فإن الفتنة فيهم واحدة وهي ما ابتلي به من جمع المال لأجلهم فذكر البنين وأراد به الذكور والإناث
وقال بعض الحكماء أولادنا فتنة إن عاشوا فتنونا وإن ماتوا أحزنونا
ثم قال عز وجل " والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة " عن الفراء أنه قال القناطير جمع قنطار والمقنطرة جمع الجمع فيكون تسع قناطير(1/223)
224
وروي عن أبي عبيدة أنه قال " المقنطرة " مفعلة من الورق كما يقال ألوف مؤلفة وبدار مبدرة ويقال " المقنطرة " هي المكيلة ثم اختلفوا في مقدار القنطار فروي عن مجاهد أنه قال القنطار سبعون ألف دينار وقال أبو هريرة القنطار اثني عشر ألف أوقية وقال معاذ بن جبل ألف ومائتا أوقية وقال بعضهم ملء مسك ثور من ذهب حكاه الكلبي وقال هو لغة رومية وروي عن الحسن البصري أنه سئل عن القنطار فقال هو مثل دية أحدكم
ثم قال تعالى " والخيل المسومة " يعني الراعية كما قال في آية أخرى " فيه تسيمون " أي ترعون وهو قول سعيد بن جبير ومقاتل وقال يحيى بن كثير هي السمينة المصورة وقال أبو عبيدة المعلمة
ثم قال تعالى " والأنعام " يعني الإبل والبقر والغنم ثم قال " والحرث " يعني الزرع ذكر أربعة أصناف كل نوع من الأموال كل نوع من الأموال يتمول به صنف من الناس أما الذهب والفضة فيتمول به التجار وأما الخيل المسومة فيتمول به الملوك وأما الأنعام فيتمول بها أهل البوادي وأما الحرث فيتمول به أهل الرساتيق فتكون فتنة كل النوع الذي يتمول به وأما النساء والبنين فهي فتنة للجميع
ثم زهد في الدنيا ورغب في الآخرة فقال " ذلك متاع الحياة الدنيا " يعني منفعة الحياة الدنيا تذهب ولا تبقى " والله عنده حسن المآب " يعني المرجع في الآخرة الجنة لا تزول ولا تفنى ثم بين أن الذي وعد المؤمنين في الآخرة خير مما زين فقال عز وجل " قل أؤنبئكم بخير من ذلك " يعني من الذي زين للناس " للذين اتقوا " الشرك والفواحش والكبائر ويقال للذين اتقوا الزينة فلا تشغلهم عن طاعة الله " جنات تجري من تحتها الأنهار " يعني البساتين تجري من تحت شجرها ومساكنها الأنهار فهو خير من زينة الدنيا
وروي أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لشبر في الجنة خير من الدنيا وما فيها وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها
ثم قال " خالدين فيها " يعني مقيمين فيها أبدا " وأزواج مطهرة " معناه في الخلق والخلق فأما الخلق فإنهن لا يحضن ولا يتمخطن ولا يأتين الخلاء وأما الخلق فإنهن لا(1/224)
225
يغرن ولا يحسدن ولا ينظرن إلى غير أزواجهن " ورضوان من الله " يعني مع هذه النعم لهم رضوان من الله وهو من أعظم النعم كما قال في آية أخرى " ورضوان من الله أكبر " التوبة 72 قرأ عاصم في رواية أبي بكر " ورضوان " بضم الراء والباقون بالكسر وهما لغتان وتفسيرهما واحد
ثم قال تعالى " والله بصير بالعباد " يعني عالم بأعمالهم وثوابهم
ثم وصفهم فقال تعالى " الذين يقولون ربنا إننا آمنا " يعني صدقنا " فاغفر لنا ذنوبنا " يعني خطايانا التي كانت في الشرك وفي الإسلام " وقنا عذاب النار " يعني ادفع عنا عذاب النار
ثم قال عز وجل " الصابرين " الذين يصبرون على طاعة الله ويصبرون على المعاصي ويصبرون على ما أصابهم من الشدة والمصيبة
ثم قال تعالى " والصادقين " في إيمانهم وفي قلوبهم وفي وعدهم بينهم وبين الناس وبينهم وبين الله تعالى
ثم قال تعالى " والقانتين " يعني المطيعين لله تعالى " والمنفقين " الذي يتصدقون من أموالهم في سبيل الله " والمستغفرين بالأسحار " يعني يصلون لله عند الأسحار ويقال يصلون لله بالليل ويستغفرون عن السحر
سورة آل عمران الآية 18
قوله تعالى " شهد الله أنه لا إله إلا الله " يعني أن الله تعالى قبل أن يخلق الخلق شهد أن لا إله إلا هو " والملائكة " ولما خلق الملائكة شهدوا بذلك ثم لما خلق الله المؤمنين شهدوا بمثل ذلك وهم " أولو العلم " يعني المؤمنين شهدوا بذلك " قائما بالقسط " يعني الله قائما بالعدل على كل نفس ويقال من أقر بهذه الشهادة على عقد قلبه فقد قام بالعدل وقال مقاتل سبب نزول هذه الآية أن عبد الله بن سلام وأصحابه قالوا لرؤساء اليهود اتبعوا دين محمد صلى الله عليه وسلم فقالت اليهود ديننا أفضل من دينكم فقال الله تعالى " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم " يشهدون بذلك وأولوا العلم بالتوراة يشهدون بذلك ويشهدون أن الله قائم بالقسط يعني بالعدل وأن الدين عند الله الإسلام
قال الكلبي وفيه وجه آخر وذلك أنه لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار الشام فلما نظرا إلى المدينة قال أحدهما لصاحبه ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة(1/225)
226
النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخرج في آخر الزمان فلما دخلا عليه قالا له أنت محمد قال نعم قالا وأنت أحمد قال أنا محمد وأحمد قالا أخبرنا عن أعظم الشهادة في كتاب الله تعالى فنزلت هذه الآية " شهد الله أن لا إله إلا هو " إلى آخرها فأسلم الرجلان وصدقا أن الدين عند الله الإسلام
وروي عن أبي عبيدة أنه قال " شهد الله " يعني علم الله وبين الله فالله عز وجل دل على توحيده لجميع ما خلق فبين أنه لا يقدر أحد أن يننشىء شيئا واحدا مما أنشأ الله تعالى وشهدت " الملائكة " لما علمت من عظيم قدرته وشهد " أولو العلم " بما ثبت عندهم وتبين عندهم وتبين من خلقه الذي لا يقدر غيره عليه وفي هذا الآية بيان فضل أهل العلم لأنه ذكر شهادة نفسه ثم ذكر شهادة الملائكة ثم ذكر شهادة أهل العلم
ثم قال تعالى " لا إله إلا هو العزيز الحكيم " فشهد بمثل ما شهد من قبل لتأكيد الكلام وروي عن سعيد بن جبير أنه قال كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما لكل حي من العرب صنم أو صنمان فلما نزلت هذه الآية أصبحت تلك الأصنام كلها قد خرت ساجدة
سورة آل عمران الآية 19
ثم قال عز وجل " إن الدين عن الله الإسلام " قرأ الكسائي إن " الدين " بالنصب على معنى البناء يعني شهدوا أنه لا إله إلا هو وأن الدين عند الله الإسلام وقرأ الباقون بالكسر على معنى الابتداء ومعناه أن الدين المرضي عند الله الإسلام " وما اختلف الذين أوتوا الكتاب " في هذا الدين " إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " يعني بيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم وهم اليهود والنصارى فلما بعث الله تعالى محمدا كفروا حسدا منهم هكذا قال مقاتل ويقال إنهم كانوا مسلمين وكانوا يسمون بذلك وكان عيسى عليه السلام سمى أصحابه مسلمين فحسدتهم اليهود لمشاركتهم في الاسم فغيروا ذلك الاسم وسموا يهودا وأما النصارى فغيرهم عن ذلك الاسم بولس وسماهم نصارى فذلك قوله تعالى " وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " يعني غيروا الاسم حسدا منهم
ثم قال تعالى " ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب " لأنه قد جاء في آية أخرى " وما أمر الساعة إلا كلمح البصر " يعني سريع المجازاة ويقال " سريع الحساب " يعني سريع المجازاة ويقال سريع التعريف للعامل عمله لأنه عالم بجميع ما عملوا لا(1/226)
227
يحتاج إلى إثبات شيء وتذكر شيء ويقال إذا حاسب فحسابه سريع يحاسب جميع الخلق في وقت واحد كل واحد منهم يظن أنه يحاسبه خاصة
سورة آل عمران الآية 20
قوله تعالى " فإن حاجوك " أي خاصموك وجادلوك في الدين " فقل أسلمت وجهي لله " يعني أخلصت ديني لله وقال الزجاج إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحتج على أهل الكتاب والمشركين بأنه اتبع أمر الله الذي هم أجمعون مقرون بأنه خالقهم فأراهم الدلالات والآيات بأنه رسوله
وقوله تعالى " أسلمت وجهي لله " يعني قصدت بعبادتي الله وأقررت بأنه لا إله غيره وقال القتبي معنى " أسلمت وجهي لله " أي أسلمت لله والوجه زيادة كما قال الله تعالى " كل شيء هالك إلا وجهه " يعني إلا هو
ثم قال تعالى " وقل للذين أوتوا الكتاب " يعني أعطوا التوراة والإنجيل " والأميين " يعني مشركي العرب ( أأسلمتم ) يعني أخلصتم بالتوحيد ويقال اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الأمر فكأنه يقول أسلموا كما قال في آية أخرى " فهل أنتم منتهون " يعني انتهوا وقال الزجاج " أفلا يتوبون إلى الله " المائدة 74 يعني توبوا
ثم قال تعالى " فإن أسلموا فقد اهتدوا " يعني إن أخلصوا بالتوحيد وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالكتاب فقد اهتدوا من الضلالة " وإن تولوا " يقول إن أبوا أن يسلموا " فإنما عليك البلاغ " بالرسالة " والله بصير بالعباد " يعني بأعمالهم ومعناه ليس عليك من عملهم شيء وإنما عليك التبليغ وقد فعلت ما أمرت به
سورة آل عمران الآيات 21 - 22
قوله تعالى " إن الذين يكفرون بآيات الله " يعني يجحدون بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم " ويقتلون النبيين بغير حق " يعني يتولون آباءهم بالقتل ويرضون بذلك
قرأ حمزة " يقاتلون " بألف من المقاتلة وقرأ الباقون بغير ألف وقرأ نافع " النبيئين " بالهمزة وقرأ الباقون بغير همز " ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس " يعني بالعدل وهم(1/227)
228
مؤمنو بني إسرائيل يأمرونهم بالمعروف فكانوا يقتلونهم فعيرهم الله بذلك وأوعدهم النار فقال " فبشرهم بعذاب أليم " يعني وجيع ويقال " أليم " يعني يؤلم
ثم قال تعالى " أولئك الذين حبطت أعمالهم " يعني بطل ثواب حسناتهم فلا ثواب لهم " في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين " يعني مانعين يمنعونهم من النار
سورة آل عمران الآيات 23 - 24
ثم قال عز وجل " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب " يعني أعطوا حظا من علم التوراة قال مقاتل نزلت في كعب بن الأشراف وجماعة منهم حين قالوا نحن أهدى سبيلا وما بعث الله رسولا بعد موسى فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنتم تعلمون أن الذي أقول لكم حق فأخرجوا التوراة فأبوا فأنزل الله تعالى هذه الآية " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب " " يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون " وقال الكلبي نزلت في يهوديين من أهل خيبر زنيا وكان الحكم في كتابهم الرجم فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى عليهما بالرجم فقالوا ليس هذا بحكم الله فدعا بالتوراة ودعا بابن صوريا وكان أعور فحلفه بالله فأقر بالقصة فأنزل الله تعالى " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله " الآية
ثم قال عز وجل " ذلك " يعني ذلك الجزاء قال مقاتل فيها تقديم وتأخير ومعناه فبشرهم بعذاب أليم " ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار " ويقال إنما جزاؤهم على خلاف الكتاب لأنهم قالوا لن تمسنا النار " إلا أياما معدودات " يعنون أربعين يوما على عدد أيام عبادة العجل ويقال على عدد أيام الدنيا ويقال مذهبهم كان مذهب جهم لأنهم لا يرون الخلود في النار
ثم قال تعالى " وغرهم في دينهم " عفو الله عنهم بتأخير العذاب " ما كانوا يفترون " يكذبون على الله وهو قولهم " نحن ابنؤا الله وأحبؤه " المائدة 18 فذلك قولهم الذي غرهم
سورة آل عمران الآية 25
ثم خوفهم فقال تعالى " فكيف إذا جمعناهم " فقال فكيف يصنعون وكيف يحتالون إذا جمعناهم " ليوم لا ريب فيه " يعني يوم القيامة لا شك فيه عند المؤمنين بأنه كائن " ووفيت كل نفس ما كسبت " يعني وفيت وأعطيت كل نفسا عملت " وهم لا يظلمون " يعني لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيء(1/228)
229
سورة آل عمران 26 - 27
قوله تعالى " قل اللهم مالك الملك " قال ابن عباس في رواية أبي صالح نزلت في شأن المنافقين وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قال عبد الله بن أبي رأس المنافقين إن محمدا يتمنى أن ينال ملك فارس والروم وأنى له ذلك فنزلت هذه الآية
وقال بعضهم سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يجعل له ملك الروم وفارس في أمته فعلمه الله بأن يدعو بهذا الدعاء وهو قول مقاتل وقال بعضهم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر الله بحفر الخندق ظهرت في الخندق صخرة عجزوا عن حفرها فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول وضرب ضربة فظهر من تلك الصخرة نور فقال له سلمان رأيت شيئا عجيبا فقال له النبي هل رأيت ذلك قال نعم فقال رأيت في ذلك النور قصور أهل الشام ثم ضرب ضربة أخرى فكذلك ظهر أيضا فقال رأيت قصور أهل فارس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيظهر لأمتي ملك الشام وملك فارس فقال المنافقون إن محمدا لا يأمن على نفسه واضطر إلى حفر الخندق فكيف يتمنى ملك الشام وفارس فنزلت هذه الآية
وقال بعضهم إن مشركي مكة قالوا إن ملك فارس والروم يبيتان في الحرير والديباج فلو كان هو نبيا كيف ينام على الحصير فنزلت هذه الآية " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء " وأصل " اللهم " في اللغة يا الله أمنا بخير أي اقصدنا بالرحمة ولكن لما كثر استعمال هذا اللفظ في الناس صارت الكلمتان كلمة واحدة فقال " اللهم " يعني اللهم يا مالك الملك " تؤتي الملك من تشاء " يعني تعطي الملك من تشاء يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه " وتنزع الملك ممن تشاء " يعني من فارس والروم " وتعز من تشاء " يعني أهل الإسلام " وتذل من تشاء " يعني أهل الشرك والطغيان " بيدك الخير " يعني النصرة والغنيمة والعز " إنك على كل شيء قدير " من العز والذل وقال الضحاك ( تؤتي الملك من تشاء ) يعني الإسلام " وتعز من تشاء " بالإسلام " وتذل من تشاء " بالشرك " بيدك الخير " يعني الهداية والسعادة " إنك على كل شيء قدير " من الهداية والسعادة
وقال الزجاج " تؤتي الملك من تشاء " معناه أن تؤتيه " وتنزع الملك ممن تشاء " أن تنزعه إلا إنه حذف الهاء لأن في الكلام ما يدل عليه قال مقاتل وقد قيل في الملك قولان أحدهما هو المال والعبيد والآخر من جهة الغلبة بالدين
ثم قال عز وجل " تولج الليل في النهار " يعني ما نقص من الليل دخل في النهار حتى يبلغ خمس عشرة ساعة وهو أطول ما يكون والليل حتى يصير الليل تسع ساعات يعني(1/229)
230
أقصر ما يكون وهو قول الكلبي ويقال " تولج الليل في النهار " يعني تذهب بالليل وتجيء بالنهار وتذهب بالنهار وتجيء بالليل هكذا إلى أن تقوم الساعة
ثم قال " وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي " فقرأ نافع وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " الميت " ) بالتشديد وقرأ الباقون " الميت " بالتخفيف وهما لغتان ومعناهما واحد
قال الكلبي يعني تخرج البيضة وهي ميتة من الطير وهو حي وتخرج النطفة وهي ميتة من الإنسان الحي وتخرج الطير الحي من البيضة الميتة وتخرج الإنسان الحي من النطفة الميتة وتخرج الحبة من السنبلة وقال الحسن البصري يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن ويقال يخرج الجاهل من العالم ويخرج العالم من الجاهل وروى معمر عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه فإذا بامرأة حسنة الهيئة فقال من هذه قالوا إحدى خالاتك قال ومن هي قالوا هي خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحان الله الذي يخرج الحي من الميت وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافرا
ثم قال تعالى " وترزق من تشاء يغير حساب " يعني من غير أن تحاسب في الإعطاء فكأنه يقول ليس فوقه من يحاسبه في الإعطاء كما قال تعالى " لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون " الأنبياء 23 ويقال بغير تقتير ويقال بغير حسبان كما قال وترزقه من حيث لا يحتسب
سورة آل عمران 28
وقوله تعالى " لا يتخذ المؤمنون الكافري أولياء " قال ابن عباس في رواية أبي صالح نزلت في شأن المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه من أهل النفاق وقد أظهروا الإسلام والإيمان فكانوا يتولون اليهود في العون والنصرة ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم ظفر على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال مقاتل نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة وغيره ممن كانوا يظهرون المودة لكفار مكة فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء " فهذا نهي بلفظ المغايبة يعني لا يتخذونهم أولياء في النصرة والعون " من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء " يعني ليس في ولاية الله ويقال ليس في دين الله من شيء لأن ولي الكافر يكون راضيا بكفره ومن كان راضيا بكفره(1/230)
231
فهو كافر مثله كقوله تعالى " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " المائدة 51
ثم استثنى لما علم أن بعض المسلمين ربما يبتلون في أيدي الكفار فقال تعالى " إلا إن تتقوا منهم تقاه " قرأ يعقوب الحضرمي " تقية " وقراءة العامة " تقاه " ومعناهما واحد يعني يرضيهم بلسانه وقلبه مطمئن الإيمان فلا إثم عليه كما قال تعالى في آية أخرى " إلا من أكره وقبله مطمئن بالإيمان " النحل 106 وقراءة حمزة والكسائي " تقاه " بالإمالة وقرأ الباقون بتفخيم الألف
ثم قال " ويحذركم الله نفسه " يعني يخوفكم الله بعقوبته يعني الذي يتخذ الكافر وليا بغير ضرورة وهذا وعيد لهم ويقال إذا كان الوعيد مبهما فهو أشد
ثم قال تعالى " وإلى الله المصير " يعني مرجعكم في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم
سورة آل عمران 29 - 30
قوله تعالى " قل إن تخفوا ما في صدوركم " يقول إن تسروا ما في قلوبك من النكوث وولاية الكفار " أو تبدوه " يعني تعلنوه للمؤمنين " يعلمه الله " لأن الله " ويعلم ما في السموات وما في الأرض " من عمل فليس يخفى عليه شيء " والله على كل شيء قدير " من السر والعلانية والعذاب والمغفرة قدير
ثم قال عز وجل " يوم تجد كل نفس ما عملت " في الدنيا " من خير محضرا " يعني تجد ثوابه حاضرا ولا ينقص من ثواب عمله شيء " وما عملت من سوء " يعني من شر في الدنيا " تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا " ) يعني تتمنى النفس أن تكون بينها وبين ذلك العمل أجلا بعيدا كما بين المشرق والمغرب ولم تعمل ذلك العمل قط
ثم قال تعالى " ويحذركم الله نفسه " يعني عقوبته في عمل السوء " والله رؤوف بالعباد " قال ابن عباس يعني بالمؤمنين خاصة وهو رحيم بهم
ويقال ( رؤوف ) بالذين يعملون السوء حيث لم يعجل بعقوبتهم ويقال في أول هذه الآية ذكر عدله عز وجل " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا " وفي أوسطها تخويفا وتهديدا وهو قوله " ويحذركم الله نفسه " وفي آخرها ذكر رأفته ورحمته وهو قوله " والله رؤوف بالعباد "
سورة آل عمران 31 - 32(1/231)
232
قوله تعالى " قل إن كنتم تحبون الله " وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا كعب بن الأشرف وأصحابه إلى الإسلام قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه يعني نحن في المنزلة بمنزلة الأنباء ولنحن أشد حبا لله فقال الله لنبيه " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني " على ديني فإني رسول الله أؤدي رسالته
قوله تعالى " يحببكم الله " قال الزجاج يعني " تحبون الله " أي تقصدون طاعته فافعلوا ما أمركم الله عز وجل لأن محبة الإنسان لله وللرسول طاعته له ورضاه بما أمر والمحبة من الله عفوه عنهم وإنعامه عليهم برحمته ويقال الحب من الله عصمته وتوفيقه والحب من العباد طاعته كما قال القائل
( تعصي الإله وأنت تظهر حبه % هذا لعمري في القياس بديع )
( لو كان حبك صادقا لأطعته % إن المحب لمن يحب مطيع )
فلما نزلت هذه الآية قالوا أن محمدا يريد أن نتخذه حنانا كما اتخذت النصارى عيسى حنانا فنزلت هذه الآية " قل أطيعوا الله والرسول " فقرن طاعته بطاعة رسوله رغما لهم ويقال " أطيعوا الله " فيما أنزل " والرسول " فيما بين " فان تولوا " يعني أعرضوا عن طاعتهما " فإن الله لا يحب الكافرين " يعني لا يغفر لهم
سورة آل عمران 33
قوله تعالى " إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم " يعني اختاره ويقال اختار دينه وهو دين الإسلام ويقال قد اختاره لخمسة أشياء أولها أنه خلقه بأحسن صورة بقدرته والثاني أنه علمه الأسماء كلها والثالث أنه أمر الملائكة أن يسجدوا له والرابع أسكنه الجنة والخامس جعله أبا للبشر واختار نوحا عليه السلام بخمسة أشياء أولها أنه جعله أبا البشر لأن الناس كلهم غرقوا وصارت ذريته هم الباقون والثاني أنه أطال عمره ويقال طوبى لمن طال عمره وحسن عمله والثالث أنه استجاب دعاءه على الكفار والمؤمنين والرابع أنه حمله على السفينة والخامس أنه كان أول من نسخ به الشرائع وكان قبل ذلك لم يحرم تزوج الخالات والأخوات والعمات واختار آل إبراهيم عليه السلام بخمسة أشياء أولها أنه جعله أبا الأنبياء لأنه روي أنه خرج من صلبه ألف نبي من زمانه إلى زمان النبي صلى الله عليه وسلم والثاني أنه أتخذه خليلا والثالث أنه أنجاه من النار والرابع أنه جعله للناس إماما والخامس أنه ابتلاه الله بكلمات فوفقه حتى أتمهن
ثم قال تعالى " وآل عمران " قال مقاتل يعني به أبا موسى وهارون وقال الكلبي هو عمران أبو مريم وهو من ولد سليمان النبي عليه السلام فإنه أراد به آل موسى وهارون إنما كان اختارهما على العالمين حيث بعثهما على قومه المن والسلوى ولم يكن لأحد من(1/232)
233
الأنبياء في العالم وإن أراد به أبا مريم فإنه اصطفى آله يعني مريم بولادة عيسى عليه السلام بغير أب ولم يكن ذلك لأحد في العالم وقال الكلبي يعني اختار هؤلاء الذين ذكروا في هذه الآية " على العالمين " يعني عالمي زمانهم
سورة آل عمران الآيات 34 - 37
ثم قال تعالى ( ذرية بعضها من بعض ) يعني بعضهم على إثر بعض وقال بعضهم على دين بعض " والله سميع " لقولهم " عليم " بهم وبذنوبهم ويقال " والله سميع عليم " انصرف إلى ما بعده يعني سميع لقول امرأة عمران " إذا قالت امرأة عمران " وهي حنة أم مريم امرأة عمران بن ماثان وذلك أنها لما حبلت قالت لئن نجاني الله ووضعت ما في بطني لأجعلنه محررا والمحرر من لا يعمل للدنيا ولا يتزوج ويتفرغ لعمل الآخرة ويلزم المحراب فيعبد الله تعالى فيه وهذا قول مقاتل
وقال الكلبي " محررا " أي خادما لبيت المقدس ولم يكن محررا إلا الغلمان وقال أهل اللغة المحرر والعتيق في اللغة بمعنى واحد فقال لها زوجها إن كان الذي في بطنك أنثى والأنثى عورة فكيف تصنعين فاهتمت بذلك وقالت يا " رب إني نذرت لك " وأنت تعلم " ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع " ) لدعائي " العليم " بنيتي وما في بطني " فلما وضعتها " يعني ولدت فإذا هي أنثى " قالت رب إني وضعتها أنثى " يعني ولدتها جارية " والله أعلم بما وضعت " قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر " والله أعلم بما وضعت " بجزم العين وضم التاء يعني أن المرأة قالت والله أعلم بما وضعت والباقون بنصب العين وجزم التاء فيكون هذا قول الله إنه يعلم بما وضعت تلك المرأة
ثم قال تعالى " وليس الذكر كالأنثى " قال بعضهم هذا قول الله لمحمد صلى الله عليه وسلم " وليس الذكر كالأنثى " يا محمد في الخدمة وقال بعضهم هي كلمة المرأة أنها قالت " وليس الذكر كالأنثى " في الخدمة وقال مقاتل فيها تقديم فكأنه يقول قالت رب أبي وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى " والله أعلم بما وضعت " ثم قالت حنة " وإني سميتها مريم " يعني خادم الرب بلغتهم " وإني أعيذها بك " يعني أعصمها وأمنعها بك " وذريتها " إن كان لها(1/233)
234
ذرية " من الشيطان الرجيم " يعني الملعون ويقال المطرود من رحمة الله ويقال " الرجيم " بمعنى المرجوم كما قال " وجعلنها رجوما للشيطين " الملك 5 قال حدثنا أبو الليث قال حدثنا الخليل بن أحمد القاضي قال حدثنا أبو العباس قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من مولود يولد إلا والشيطان ينخسه حين يولد فيستهل صارخا من الشيطان إلا مريم وابنها قال أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " وقال الزجاج معنى قوله " إذ " يعني إن الله اختار آل عمران " إذ قالت امرأة عمران " واصطفاهم إذ قالت الملائكة
وقال أبو عبيدة معناه قالت امرأة عمران وقالت الملائكة و " إذ " زيادة وقال الأخفش معناه واذكر إذ قالت امرأة عمران واذكر إذ قالت الملائكة ثم إن حنة لفتها في خرق ثم ضعتها في بيت المقدس عند المحراب واجتمعت القراء أي الزهاد فقال زكريا أنا أحق بها لأن خالتها عندي فقال القراء إن هذه محررة فلو تركت لخالتها لكانت أمها أحق بها ولكن نتساهم فخرجوا إلى عين سلوان فألقوا أقلامهم في النهر قال بعضهم كانت أقلامهم من الشبه فغابت أقلامهم في الماء وبقي قلم زكريا على وجه الماء وقال بعضهم كانت أقلامهم من قصب فبقيت أقلامهم على وجه الماء وغاب قلم زكريا في الماء وقال بعضهم ألقوا أقلامهم في النهر فسال الماء بأقلامهم إلا قلم زكريا فإنه جرى من الجانب الأعلى فعلموا أن الحق له فضمها إلى نفسه فذلك قوله تعالى " فتقبلها ربها بقبول حسن " يعني تقبل منها نذرها " وأنبتها نباتا حسنا " وقال مجاهد غذاها غذاء حسنا ورباها تربية حسنة " وكفلها زكريا " قرأ حمزة والكسائي وعاصم بالتشديد يعني ضمها الله إلى زكريا وقرأ الباقون بالتخفيف يعني ضمها زكريا إلى نفسه وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " زكريا " بغير مد وإعراب وجزم الألف وقرأ الباقون بالإعراب والمد وهما لغتان معروفتان عند العرب فمن قرأ " كفلها " بالتشديد قرأ زكريا بنصب الألف لأنه يصير مفعولا ومن قرأ " كفلها " بالتخفيف قرأ زكريا برفع الألف على معنى الفاعل
وذكر في الخبر أن زكريا بنى لها محرابا في غرفة وجعل باب الغرفة في وسط الحائط لا يصعد إليها إلا بسلم واستأجر ظئرا فكان يغلق عليها الباب وكان لا يدخل عليها أحد إلا زكريا حتى كبرت وكانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله فتكون عند خالتها وكانت خالتها امرأة زكريا وهذا قول الكلبي(1/234)
235
وقال مقاتل كانت أختها امرأة زكريا وكانت إذا طهرت من حيضها واغتسلت ردها إلى المحراب وقال بعضهم كانت لا تحيض وكانت مطهرة من الحيض وكان زكريا إذا دخل عليها في أيام الشتاء رأى عندها فاكهة الصيف وإذا دخل عليها في أيام الصيف رأى عندها فاكهة الشتاء وكانت الحكمة في ذلك أن لا يدخل في قلب زكريا شيء من الريبة إذا رأى الفاكهة في غير أوانها وعلم أنه لم يدخل عليها أحد من الآدميين فذلك قوله تعالى " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا " ويقال " المحراب " في اللغة أشرف المجالس وهو المكان العالي وقد قيل إن مساجدهم كانت تسمى المحاريب ف " قال " لها زكريا " يا مريم أنى لك هذا " يعني من أين لك هذا فإنه لا يدخل عليك أحد غيري " فقالت " مريم " هو " أي هذا الرزق " من عند الله " يعني من فضل الله " إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " في غير حينه ويقال من حيث لا يحتسب
سورة آل عمران 38
قوله تعالى " هنالك دعا زكريا ربه " يقول عند ذلك طمع في الولد وكان آيسا من ذلك وكان مفاتيح بيت القربان عند آبائه وقد صار ذلك بيده وكان يخشى أن يخرج من أهل بيته إذا مات فقال عند ذلك إن الله قادر على أن يأتيها برزق الشتاء في الصيف وبرزق الصيف في الشتاء فهو قادر أن يرزق لي الولد بعد الكبر فذلك قوله تعالى " هنالك دعا زكريا ربه " " قال رب هب لي من لدنك " يعني من عندك " ذرية طيبة " يعني نقيه مهذبه ويقال مستوي الخلق ويقال مسلمة مطيعة ويقال تقيه " أنك سميع الدعاء " أي مجيبا له
سورة آل عمران 39 - 40
قوله تعالى " فنادته الملائكة " قرأ حمزة والكسائي بالياء يعني ناداه جبريل عليه السلام وإنما صار مذكرا على معنى الجنس كما يقال فلان ركب السفن وإنما ركب سفينة واحدة وقرأ الباقون " فنادته " على معنى التأنيث لأن اللفظ لفظ الجماعة والمراد به أيضا جبريل " إن الله يبشرك بيحييى " قرأ حمزة وابن عامر " إن الله يبشرك " بكسر الألف ومعناه فنادته الملائكة وقالوا له إن الله يبشرك وقرأ الباقون بالنصب ومعناه فنادته الملائكة بأن الله يبشرك " بيحيى " قال مقاتل اشتق اسمه من اسم الله تعالى حي والله تعالى حي فسماه الله تعالى يحيى ويقال لأنه حيي به رحم أمه ويقال لأنه حي به المجالس
ثم قال تعالى " مصدقا بكلمة من الله " يعني بعيسى عليه السلام وكان يحيى أول من(1/235)
236
صدق بعيسى عليهما السلام وهو ابن ثلاث سنين فشهد له أنه كلمة الله وروحه فلما شهد بذلك يحيى عجبت بنو إسرائيل لصغره فلما سمع زكريا شهادته فقام إلى عيسى فضمه إليه وهو في خرقة وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين وقال بعضهم صدقة وهو في بطن أمه كانت أم يحيى عند مريم إذ سجد يحيى بالتحية لعيسى وكل واحد منهما كان في بطن أمه وذلك قوله " مصدقا بكلمة من الله " " وسيدا " يعني حكيما " وحصورا " يعني لا يأتي النساء وهو قول الكلبي وقال سعيد بن جبير السيد الذي يملك غضبه والحصور الذي لا يأتي النساء
وقال مقاتل يعني لا ماء له يعني لم يكن له ماء في الصلب وقال بعضهم هذا لا يصح لأن العنة عيب بالرجال والنبي لا يكن معيبا ولكن معناه أنه كان مانعا نفسه من الشهوات لأن الذي يمنع نفسه من الشهوات مع قدرته كانت فضيلته أكثر من الذي لا قدرة له
ثم قال تعالى " ونبيا من الصالحين " يعني أن يحيى كان نبيا من الصالحين فلما بشره جيريل بذلك " قال رب أنى يكون لي غلام " قال ذلك على وجه التعجب لا على وجه الشك قال لجبريل " رب " أي يا سيدي من أين يكون لي غلام يعني ولد وهذا قول الكلبي وقال بعضهم قوله " رب " يعني يا الله على وجه الدعاء يا رب من أين يكون لي ولد
" وقد بلغني الكبر " قال القتبي هذا من المقلوب يعني بلغت الكبر وقال الكلبي كان يوم بشر ابن تسعين سنة وامرأته قريبة في السن منه وقال الضحاك كان ابن مائة وعشرين سنة فذلك قوله " وقد بلغني الكبر " يعني الهرم " وامرأتي عاقر " لا تلد " قال كذلك " قال بعضهم تم الكلام عند قوله ( كذلك ) يعني هكذا كما قلت إنه قد بلغك الكبر وامرأتك عاقر ثم قال تعالى " الله يفعل ما يشاء " وقال بعضهم معناه " قال كذلك " يعني الله تعالى هكذا قال إنه يكون لك ولد " والله يفعل ما يشاء " إن شاء أعطاك الولد في حال الصغر وإن شاء في حال الكبر
سورة آل عمران 41
قوله تعالى " قال رب اجعل لي آية " يعني اجعل لي علامة حين حملت امرأتي أعرف " قال آيتك " يعني علامة الحبل " ألا تكلم الناس ثلاثة أيام " يعني أنك تصبح فلا تطيق(1/236)
237
الكلام ثلاثة أيام " إلا رمزا " أي كلاما خفيا ويقال الرمز بالشفتين والحاجبين والإيماء باليد والرأس
قال بعضهم كان منع الكلام عقوبه له لأنه بشر بالولد فسأل آية فحبس الله لسانه ثلاثة أيام عن الناس ولم يحبسه عن ذكر الله وعن الصلاة وقال بعضهم لم يكن عقوبة لكن كرامة له حين جعلت له علامة لظهور الحبل ومعجزة له وروى أسباط عن السدي أنه قال لما بشر بيحيى قال له الشيطان إن النداء الذي سمعت بالبشارة كان من الشيطان ولو كان من الله لأوحى إليك كما أوحى إليك وإلى سائر الأنبياء وكما أوحى إليك بسائر الأشياء فقال عند ذلك " اجعل لي آية " حتى أعلم أن هذه البشارة منك قال " آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام "
وقال في موضع آخر " ألا تكلم الناس ثلث ليال سويا " مريم 10 يعني أنك مستوي الخلق ولا علة بك ثم أمره بذكر ربه لأن لسانه لم يمنع عن ذكر الله تعالى فقال " واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار " يعني بالغداة والعشي ويقال بالليل والنهار
سورة آل عمران 42 - 43
قوله تعالى " وإذ قالت الملائكة " يعني جبريل " يا مريم إن الله اصطفاك " يعني اختارك بالإسلام " وطهرك " من الذنوب والفواحش ويقال من دم الحيض والنفاس " واصطفاك على نساء العالمين " يعني بولادة عيسى بغير أب
وقال بعضهم " اصطفاك " يعني فضلك على نساء العالمين يعني عالمي زمانها " يا مريم اقنتي لربك " يعني أطيعي ويقال أطيلي القيام في الصلاة وقال مجاهد قامت في الصلاة حتى تورمت قدماها ونحل جسمها ثم قال تعالى " واسجدي واركعي مع الراكعين " يعني مع المصلين يعني مع قراء بيت المقدس
سورة آل عمران 44 - 46
قوله تعالى " ذلك من أنباء الغيب " يعني الذي ذكر في هذه الآية من قصة زكريا ومريم من أخبار الغيب مما غاب عنك خبره ولم تكن حاضرا وفي الآية دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر عن قصة زكريا ومريم ولم يكن قرأ الكتب وأخبر عن ذلك وصدقة أهل الكتاب(1/237)
238
بذلك ولم يكن قرأ الكتاب فذلك قوله تعالى " ذلك في أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم " يعني لم تكن عندهم وإنما تخبر عن الوحي فقال " وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم " يعني يطرحون أقلامهم في النهر بالقرعة " وما كنت لديهم إذ يختصمون " في أمر مريم
قوله تعالى " إذ قالت الملائكة يا مريم " يعني جبريل عليه السلام وحده " إن الله يبشرك بكلمة منه " قرأ نافع وعاصم وابن عامر " يبشرك " بالتخفيف في جميع القرآن وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد في جميع القرآن إلا في " حم ، عسق " " ذلك الذي يبشر الله عباده " الشورى 23 بالتخفيف وقرأ حمزة بالتخفيف إلا في قوله ( فبم تبشرون ) الحجر 54 ووافقه الكسائي في بعضها فمن قرأ بالتشديد فهو من البشارة ومن قرأ بالتخفيف فمعناه يفرحك وكانت قصة البشارة أن مريم لما طهرت من الحيض ودخلت المغتسل كما قال في سورة مريم " إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا " مريم 16يعني أرادت أن تغتسل في جانب المشرفة فلما دخلت المغتسل رأت بشرا كهيئة الإنسان كما قال " فتمثل لها بشرا سويا " مريم 17فخافت مريم ثم قالت " إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا " مريم 18 لأن التقي يخاف الرحمن فقال لها جبريل " إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا " مريم 19 وذكرها هنا بلفظ آخر ومعناهما واحد قال " إن الله يبشرك بكلمة منه " آل عمران 45 بمعنى بولد بغير أب يصير مخلوقا بكلمة من الله وهو قوله كن فكان " اسمه المسيح عيسى ابن مريم " ويقال إنما سمي المسيح لأنه يسيح في الأرض ويقال الماسح كان يمسح وجه الأعمى فيبصر وقال الكلبي المسيح الملك
ثم قال تعالى " وجيها " يعني ذا جاه " في الدنيا و " وله منزلة " في الآخرة " وقال مقاتل فيها تقديم وتأخير يعني وجيها في الدنيا " ومن المقربين " في الآخرة عند ربه وقال الكلبي " وجيها في الدنيا " يعني في أهل الدنيا بالمنزلة " وفي الآخرة " عند ربه " من المقربين " في جنة عدن
قال عز وجل " ويكلم الناس في المهد وكهلا " يعني في حال صغره وهو في حجر أمه طفلا " وكهلا يعني إذا اجتمع عقله وكبر فإن قيل ما معنى قوله كهلا والكلام من الكهل لا يكون عجبا قيل له المراد منه كلام الحكمة والعبرة ويقال " كهلا " بعد نزوله من السماء وهو قول الكلبي " ومن الصالحين " مع آبائه في الجنة
سورة آل عمران 47(1/238)
239
51
ثم قال " قالت " مريم ( رب أنى يكون لي ولد ) يعني من أين يكون لي ولد " ولم يمسسني بشر " وهو كناية عن الجماع ف " قال " جبريل " كذلك " يعني هكذا كما قلت أنه لم يمسسك بشر ولكن " الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا " يعني إذا أراد أن يخلق خلقا " فإنما يقول له كن فيكون " فنفخ جبريل في جيبها يعني في نفسها قال بعضهم وقع نفخ جبريل في رحمها فعلقت بذلك وقال بعضهم لا يجوز أن يكون الخلق من نفخ جبريل لأنه يصير الولد بعضه من الملائكة وبعضه من الإنس ولكن سبب ذلك إن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام وأخذ الميثاق من ذريته فجعل بعضهم في أصلاب الآباء وبعضهم في أرحام الأمهات فإذا اجتمع الماءان صار ولدا وأن الله تعالى جعل الماءين جميعا في مريم بعضه في رحمها وبعضه في صلبها فنفخ فيها جبريل لتهيج شهوتها لأن المرأة ما لم تهج شهوتها لا تحبل فلما هاجت شهوتها بنفخة جبريل وقع الماء الذي كان في صلبها في رحمها فاختلط الماءان فعلقت بذلك فذلك قوله " إذا قضى أمرا " يعني إذا أراد أن يخلق خلقا " فإنما يقول له كن فيكون " بغير أب
ثم قال تعالى " ويعلمه الكتاب " قرأ نافع وعاصم " ويعلمه " بالياء يعني أن الله يعلمه وقرأ الباقون بالنون ومعناه أن الله يقول ونعلمه " الكتاب " يعني كتب الأنبياء وهذا قول الكلبي
وقال مقاتل يعني الخط والكتابه فعلمه الله بالوحي والإلهام " والحكمة " يعني الفقه " والتوراة والإنجيل " يعني يحفظ التوراة عن ظهر قلبه وقال بعضهم وهو عالم بالتوراة وقال بعضهم ألهمه الله بعدما كبر حتى تعلم في مدة يسيرة
ثم قال تعالى " ورسولا إلى بني إسرائيل " نصب " رسولا " لمعنيين أحدهما يجعله رسولا إلى بني إسرائيل والثاني ويكلم الناس وعطف رسولا أي في حال رسالته إلى بني إسرائيل دليله أنه قال " أني قد جئتكم بآية من ربكم " ثم أخبر عن أداء رسالته بعدما أوحى إليه في حال الكبر حيث قال لقومه " قد جئتكم بآية من ربكم " يعني علامة لنبوتي ثم بين العلامة فقال " إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله " ويقال إن الناس سألوه عنه على وجه التعنت فقالوا له اخلق لنا خفاشا واجعل فيه روحا إن(1/239)
240
كنت صادقا في مقالتك فأخذ طينا وجعل منه خفاشا ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض وكان تسوية الطين والنفخ من عيسى عليه السلام والخلق من الله تعالى كما أن النفخ في مريم من جبريل عليه السلام والخلق من الله تعالى ويقال إنما طلبوا منه خلق خفاش لأنه أعجب من سائر الخلق ومن عجائبه أنه لحم ودم يطير بغير ريش ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما تبيض سائر الطيور ويكون له الضرع يخرج منه اللبن ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل وإنما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدا ويضحك كما يضحك الإنسان ويحيض كما تحيض المرأة فلما أن رأوا ذلك منه ضحكوا وقالوا هذا سحر
ثم قال تعالى " وأبرىء الأكمه والأبرص " " الأكمه " الذي ولد أعمى فقالوا إن لنا أطباء يفعلون مثل هذا فذهبوا إلى جالينوس وأخبروه بذلك فقال جالينوس إذا ولد أعمى لا يبصر بالعلاج والأبرص إذا كان بحال إذا غرزت الإبرة لا يخرج الدم منه لا يبرأ بالعلاج فرجعوا إلى عيسى عليه السلام وجاؤوا بالأكمه والأبرص فمسح يده عليهما فأبصر الأعمى وبرئ الأبرص فآمن به بعضهم وجحد بعضهم وقالوا هذا سحر
ثم قال تعالى " وأحيي الموتى بإذن الله " فأخبروا بذلك جالينوس فقال الميت لا يعيش ولا يحيي بالعلاج فإن كان هو يحيي الموتى فهو نبي وليس بطبيب وطلبوا منه أن يحيي الموتى فأحيا أربعة نفر أحدهم عازر وكان صديقا له فبلغه أنه مات فذهب مع أصحابه وقد دفن وأتى عليه أيام فدعا الله فقام بإذن الله تعالى وودكه يقطر فعاش وولد له والثاني ابن العجوز مر به وهو يحمل على سرير فدعا الله فقام بإذن الله تعالى ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله والثالث بنت من بنات العاشر ماتت وأتى عليها ليلة فدعا الله تعالى فعاشت بعد ذلك وولد لها والرابع سام بن نوح لأن القوم قالوا له أنك تحيي من كان موته قريبا فلعلهم لم يموتوا وأصابتهم سكته فأحيي لنا سام بن نوح فقال دلوني على قبره فخرج وخرج القوم معه حتى انتهوا إلى قبره فدعا الله تعالى فخرج من قبره قد شاب رأسه فقال له عيسى عليه السلام كيف شاب رأسك ولم يكن في زمانكم شيب فقال يا نبي الله إنك لما دعوتني سمعت صوتا يقول أجب روح الله فظننت أن القيامه قد قامت فمن هول ذلك شاب رأسي فسأله عن النزع فقال له يا نبي الله إن مرارة النزع لم تذهب عن حنجرتي وقد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة ثم قال للقوم صدقوه فإنه نبي فآمن به بعضهم وكذبه بعضهم وقالوا هذا ساحر فأرنا آية أخرى نعلم أنك صادق فأخبرنا بما نأكل في بيوتنا وما ندخر للغد فأخبرهم فقال يا فلان أنت أكلت كذا وكذا وأنت أكلت كذا وكذا وادخرت
كذا وكذا فذلك قوله " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " للغد فمنهم من آمن به ومنهم من كفر(1/240)
241
ويقال إن الله بعث كل نبي إلى قومه وأظهر لهم نوع ما كانوا يعرفونه فكان في زمن موسى عليه السلام الغالب عليهم السحر فبين لهم من جنس ذلك ليعرفوا أن ذلك ليس بسحر وأنه من الله تعالى وكان الغالب في زمن عيسى عليه السلام علم الطب فجاءهم عيسى بما عجز الأطباء عنه فعرف الأطباء أن ذلك ليس من الطب وكان في زمن نبينا عليه السلام الفصاحة والشعر فجاءهم بقرآن عجز الفصحاء والشعراء عن إتيان مثله
قوله تعالى " إن في ذلك لآية لكم " يعني فيما صنع عيسى عليه السلام علامة لنبوته " إن كنتم مؤمنين " أي مصدقين أنه نبي قرأ نافع " فيكون طائرا " وكذلك في سورة المائدة وقرأ الباقون بغير ألف ومعناهما واحد ويقال الطائر واحد والطير جماعة
ثم قال تعالى " ومصدقا لما بين يدي من التوراة " معناه جئتكم مصدقا يعني للكتاب الذي أنزل علي وهو الإنجيل " مصدقا " قال أي موافقا لما بين يدي من التوراة " ولأحل لكم " يعني أرخص لكم " بعض الذي حرم عليكم " مثل الشحوم ولحوم الإبل ولحم كل ذي ظفر وأما الميت ولحم الخنزير فهو حرام أبدا قوله " وجئتكم بآية من ربكم " يعني أني لم أحل لكم شيئا بغير برهان فحقيق عليكم اتباعي لأني أتيتكم ببرهان وأتيتكم بتحليل الطيبات " فاتقوا الله وأطيعون " فيما أمركم ونهاكم وأنصح لكم
ثم قال تعالى " إن الله ربي وربكم " هذا تكذيب لقول النصارى حيث قالوا إن الله هو المسيح وقالوا إن الله ثالث ثلاثة فاعترف عيسى أنه عبد الله وهو قوله تعالى " إن الله ربي وربكم " يعني خالقي وخالقكم ورازقي ورازقكم " فاعبدوه " يعني وحدوه ولا تشركوا به شيئا " هذا صراط مستقيم " يعني التوحيد الذي أدعوكم إليه طريق مستقيم لا عوج فيه وهو طريق الجنة
سورة آل عمران 52 - 53
قوله تعالى " فلما أحس عيسى منهم الكفر " قال الكلبي فلما عرف منهم الكفر بالله ويقال فلما سمع منهم كلمة الكفر وقال الزجاج أحس في اللغة علم ووجد يقال هل أحسست الخبر أي هل عرفته وعلمته
وقال مقاتل فلما رأى من بني إسرائيل الكفر كقوله عز وجل " هل تحس منهم من أحد " مريم 98يعني هل ترى ويقال إنه لما علم عيسى أنهم أرادوا قتله " قال من أنصاري إلى الله " يقول من أعواني مع الله قال القتبي " إلى " هاهنا بمعنى مع مثل قوله " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " النساء 2 أي مع أموالكم كما يقال الذود إلى الذود إبل أي مع(1/241)
242
الذود فقال " من أنصاري إلى الله " أي مع الله " قال الحواريون نحن أنصار الله " قال الكلبي الحواريون هم أصفياء عيسى عليه السلام وكانوا اثني عشر رجلا وقال مقاتل كانوا قصارين فمر بهم عيسى عليه السلام وقال من أنصاري إلى الله أي مع الله " قالوا نحن أنصار الله " ويقال إنه مر بهم وهم يغسلون الثياب فقال لهم إيش تصنعون قالوا نطهر الثياب فقال ألا أدلكم بقصارة أنفع من هذا قالوا نعم فقال تعالوا حتى نطهر أنفسنا من هذه الذنوب فبايعوه ويقال إنهم كانوا صيادين فمر بهم وقال ألا أدلكم على اصطياد أنفع لكم من هذا قالوا نعم فقال تعالوا حتى نصطاد أنفسنا من شر إبليس فبايعوه وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال إنما سموا حواريين لبياض ثيابهم وكانوا صيادين
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال الزبير ابن عمتي وحواري من أمتي يعني به الخالص فهذا يكون دليلا لقول الكلبي إنهم خواصه وأصفياؤه ومعنى آخر " نحن أنصار الله " يعني أنصار دين الله ( آمنا بالله ) يعني صدقنا بتوحيد الله " واشهد بأنا مسلمون " يعني أشهدناك على ذلك فاشهد يا عيسى بأنا مسلمون
ثم قالوا " ربنا آمنا بما أنزلت " من الإنجيل على عيسى " واتبعنا الرسول " يعني عيسى عليه السلام على دينه " فاكتبنا مع الشاهدين " يعني اجعلنا مع من أسلم قبلنا وشهدوا بوحدانيتك
سورة آل عمران 54
ثم قال تعالى حكاية عن كفار قومه فقال " ومكروا " يعني أرادوا قتل عيسى عليه السلام " ومكر الله " يعني جازاهم جزاء المكر " والله خير الماكرين " لأن مكرهم جور ومكر الله عدل قال الكلبي وذلك ان اليهود اجتمعوا على قتل عيسى فدخل عيسى عليه السلام البيت هاربا منهم فرفعه جبريل عليه السلام من الكوة إلى السماء كما قال في آية أخرى " وأيدنه بروح القدس " البقرة 87 - 253 فقال ملكهم لرجل خبيث يقال له يهوذا ادخل عليه فاقتله فدخل الرجل الخوخة فلم يجد هناك عيسى وألقى الله عليه شبه عيسى فلما خرج رأوه على شبه عيسى فأخذوه وقتلوه وصلبوه ثم قالوا وجهه يشبه وجه عيسى وبدنه يشبه بدن صاحبنا فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى فوقع بينهم قتال فقتل بعضهم بعضا فذلك قوله " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين " قال الضحاك وكانت القصة أن اليهود لما أرادوا قتل عيسى عليه السلام اجتمع الحواريون في غرفة وهم أثنا(1/242)
243
عشر رجلا فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فأخبر إبليس جميع اليهود فركب منهم أربعة آلاف رجل فأحدقوا أي تحلقوا بالغرفة فقال المسيح للحواريين أيكم يخرج فيقتل وهو معي في الجنة فقال رجل منهم انا يا نبي الله فألقى إليه مدرعة من صوف وعمامة من صوف وناوله عكازه فألقي عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج عليه اليهود فقتلوه وصلبوه وأما المسيح فكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار في الملائكة
سورة آل عمران من الآية 55 - 57
قوله تعالى " إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي " ففي الآية تقديم وتأخير ومعناه إني رافعك من الدنيا إلى السماء ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء على عهد الدجال ويقال إنه ينزل ويتزوج امرأة من العرب بعدما يقتل الدجال وتلد له أبنة فتموت ابنته ثم يموت هو بعدما يعيش سنتين لأنه قد سأل ربه أن يجعله من هذه الأمة فاستجاب الله دعاه وروي عن أبي هريرة أنه قال جاء إلى الكتاب وقال للمعلم قل للصبيان حتى يسكتوا فلما سكتوا قال لهم أيها الصبيان من عاش منكم إلى وقت نزول عيسى عليه السلام فليقرئه مني السلام وإني كنت أرجو أن لا أخرج من الدنيا حتى أراه وهذا كناية عن قرب الساعة
قوله تعالى " ومطهرك " يعني منجيك " من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك " على دينك " فوق الذين كفروا " بالحجة والغلبة " إلى يوم القيامة " وروي عن عبد الله بن عباس أنه قال الذين اتبعوه هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم هم الذين صدقوه
ثم قال تعالى " ثم إلي مرجعكم " يعني الذين اتبعوك والذين كفروا كلهم مرجعهم إلي " فأحكم بينكم " يعني بين المؤمنين والكفار " فيما كنتم فيه تختلفون " من الدين
ثم أخبر الله تعالى عن حال الفريقين في الآخرة فقال " فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة " في الدنيا بالقتل والجزية وفي الآخرة بالنار " وما لهم من ناصرين " يعني مانع يمنعهم من عذاب الله " وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات " قال مقاتل هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيوفيهم أجورهم
قرأ عاصم في رواية حفص " فيوفيهم " بالياء يعني الله يوفيهم أجورهم وأما الباقون بالنون يعني أن الله قال " فنوفيهم أجورهم " وهذا اللفظ لفظ الملوك إنهم يتكلمون بلفظ(1/243)
244
الجماعة ويقولون نحن نفعل كذا وكذا ونكتب إلى فلان ونأمر بكذا فالله تعالى خاطب العرب بما يفهمون فيما بينهم كما قال في سائر المواضع " إنا أرسلنا " القمر 19 " إنا أنزلنه " النساء105 وكذلك ها هنا " فيوفيهم أجورهم " يعني نعطيهم ثواب عملهم " والله لا يحب الظالمين " يعني لا يرضى دين الكافرين
سورة آل عمران الآية 58
قوله تعالى " ذلك نتلوه عليك من الآيات " يقول هذه الآيات وهذه القصص بينات في القرآن وأنزلنا عليك جبريل ليقرأ عليك " من الآيات يعني من البيان " والذكر الحكيم " يعني القرآن كله وقال الكلبي " الذكر الحكيم " الذي عند رب العالمين في درة بيضاء وهو اللوح المحفوظ ويقال هو القرآن لأنه محكم ليس فيه تناقض ولا يقدر أحد أن يأتي بمثله ويقال هو الشرف كقوله " وإنه لذكر لك ولقومك " الزخرف 44
سورة آل عمران الآية 59
قوله تعالى " إن مثل عيسى عند الله " نزلت في وفد نجران السيد والعاقب والأسقف وجماعة من علمائهم وأحبارهم قدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فناظروه في أمر عيسى عليه السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عبد الله ورسوله فقالوا أرنا خلقا من خلق الله تعالى من غير أب وكان يحيي الموتى وكان فيه دليل على ما قلنا وكانوا يقولون إنه اتخذه ابنا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلموا فقالوا قد أسلمنا قبلك فقال لهم كذبتم إنما يمنعكم من الإسلام ثلاث أكل لحم الخنزير وعبادة الصليب وقولكم لله ولد فقالوا له من أبو عيسى فنزل قوله تعالى " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم " يعني شبه خلق عيسى عند الله كشبه خلق آدم " خلقه من تراب " يعني صورة من غير أب ولا أم " ثم قال له كن فيكون " فكان بشرا بغير أب كذلك عيسى كان بشرا بغير أب وفي هذه الآية دليل على أن الشيء يشبه بالشيء وإن كان بينهما فرق كبير بعد أن يجتمعا في وصف واحد كما أن ها هنا خلق آدم من تراب ولم يخلق عيسى من تراب وكان بينهما فرق من هذا الوجه ولكن الشبه بينهما أنه خلقهما من غير أب ولأن أصل خلقهما جميعا من تراب لأن آدم لم يخلق من نفس التراب ولكنه جعل التراب طينا ثم جعله صلصالا ثم جعله ثم خلقه منه فكذلك عيسى عليه السلام حوله من حال إلى حال ثم خلقه بشرا من غير أب
سورة آل عمران الآية 60(1/244)
245
61
قوله تعالى " الحق من ربك " يعني جبريل عليه السلام كما اخبرتك وأنبأتك في القرآن " فلا تكن من الممترين " أي من الشاكين ويقال المثل الذي ذكر في عيسى هو الحق من ربك وهذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه جميع من اتبعه ومعناه فلا تكونوا من الممترين أي من الشاكين أن مثله كمثل آدم عليهما السلام
قوله تعالى " فمن حاجك فيه " وذلك أن النصارى لما أخبرهم بالمثل في حق عيسى قالوا ليس كما تقول وهذا ليس بمثل فنزلت هذه الآية " فمن حاجك فيه " يعني خاصمك في أمر عيسى عليه السلام " من بعد ما جاءك من العلم " أي من البيان في أمره " فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم " يعني نخرج أبناءنا وابناءكم " و " نخرج " نساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم " ونجتمع في موضع " ثم نبتهل " أي نلتعن وقال مقاتل يعني نخلص في الدعاء ويقال هي المبالغة في التضرع " فنجعل لعنة الله على الكاذبين " فوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخرجوا للملاعنة فجعلوا وقتا للخروج وتفرقوا على ذلك ثم ندموا فلما كان ذلك اليوم خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ بيد الحسن والحسين وخرج معه علي بن أبي طالب وفاطمة فلما اجتمعوا في الموضع الذي واعدهم طلب منهم الملاعنة فقالوا نعوذ بالله فقال لهم إما أن تلتعنوا وإما أن تسلموا وإما أن تقبلوا الجزية فقبلوا الجزية وصالحوه بأن يؤدوا كل سنة ألفي حلة ألف حلة في المحرم وألف حلة في رجب وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح ورجعوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو أنهم التعنوا لهلكوا كلهم حتى العصافير في سقوف الحيطان
سورة آل عمران الآيات 62 - 63
ثم قال تعالى " إن هذا لهو القصص الحق " يعني ما أخبرهم من أمر عيسى عليه السلام هو الخبر الحق أنه كان عبد الله ورسوله ويقال هذا القرآن هو الخبر الحق " وما من إله إلا الله " لا شريك له " وإن الله لهو العزيز " في ملكه " الحكيم " في أمره حكم بخلق عيسى في بطن أمه من غير أب
قوله تعالى " فإن تولوا " يقول أبوا ولم يسلموا " فإن الله عليم بالمفسدين " يجازيهم بذلك وهذه كلمة تهديد
سورة آل عمران الآية 64(1/245)
246
66
قوله تعالى " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " يعني كلمة عدل بيننا وبينكم ويقال في قراءة عبد الله بن مسعود إلى كلمة عدل بيننا وبينكم يعني لا إله إلا الله وهي كلمة الأخلاص ويقال إلى كلمة تسوي بيننا وبينكم فتصير دماؤكم كدمائنا وأموالكم كأموالنا " ألا نعبد إلا الله " يعني ألا نوحد إلا الله " ولا نشرك به شيئا " من خلقه " ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله " لأنهم اتخذوا عيسى ربا ويقال لا يطيع بعضنا بعضا في المعصية كما قال " اتخذوا أحبارهم ورهبنهم أربابا من دون الله " سورة التوبة 3 أي أطاعوهم في المعصية ويقال لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا كما قالت النصارى إن الله ثالث ثلاثة " فإن تولوا " يعني أبوا عن التوحيد " فقولوا " لهم يا معشر المسلمين " اشهدوا بأنا مسلمون " يعني مخلصون لله بالعبادة والتوحيد
ثم قال عز وجل " يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم " وذلك أن اليهود والنصارى كانوا اجتمعوا في بيت مدرسة لليهود وكل فريق كان يقول إبراهيم منا وكان على ديننا فنزل " يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم " أي لم تخاصمون في دين إبراهيم " وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده " يعني من بعد إبراهيم وأن اليهودية والنصرانية إنما سميت بهذا الاسم بعد نزول التوراة والإنجيل وقال الكلبي نزلت في شأن النفر الذين كانوا بالحبشة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم جعفر الطيار وغيره كما قال الله تعالى " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا " أي أطاعوهم في المعصية وكانت بينهم وبين أحبار الحبشة مناظرة في ذلك فنزلت هذه الآية
وقال الزجاج هذه الآية أبين الحجج على اليهود والنصارى بأن التوراة والإنجيل أنزلا من بعده وليس فيهما اسم لواحد من الأديان واسم الإسلام في كل كتاب وهو قوله " لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده "
ثم قال تعالى " أفلا تعقلون " يقول أليس لكم ذهن الإنسانية أن تنظروا فيما تقولون
ثم قال عز وجل " ها أنتم هؤلاء حاججتم " أنتم يا هؤلاء خاصمتم " فيما ليس لكم به علم " في صفة محمد صلى الله عليه وسلم فتجدونه في كتبكم " فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم " يقول ما ليس في كتابكم وهو أمر إبراهيم عليه السلام و " الله يعلم " أن إبراهيم كان على دين الإسلام " وأنتم لا تعلمون " ذلك(1/246)
247
سورة آل عمران الآية 67
ثم قال عز وجل " وما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا " يقول لم يكن إبراهيم عليه السلام على دين اليهودية ولا النصرانية " ولكن كان حنيفا مسلما " يعني مخلصا " وما كان من المشركين " يعني ما كان على دينهم وقال الزجاج الحنيف في اللغة إقبال صدور القدمين إقبالا لا رجوع فيه أبدا فمعنى الحنيفية في الإسلام الإقبال والميل إليه والإقامة على ذلك
سورة آل عمران الآية 68
ثم قال تعالى " إن أولى الناس بإبراهيم " يقول أحق الناس بدين إبراهيم " للذين اتبعوه " واقتدوا به وآمنوا به " وهذا النبي " يعني محمد صلى الله عليه وسلم على دينه ومنهاجه " والذين آمنوا " هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على دينه ثم قال " والله ولي المؤمنين " في العون والنصرة
سورة آل عمران الآية 69
قوله تعالى " ودت طائفة من أهل الكتاب " يعني أرادت وتمنت جماعة من أهل الكتاب " لو يضلونكم " أي يصرفونكم عن دين الإسلام " وما يضلون إلا أنفسهم " أي وبال ذلك يرجع إلى أنفسهم ويقال وما يضلون إلا أمثالهم أمثالهم كقوله عز وجل " فاقتلوا أنفسكم " سورة البقرة 54 يعني بعضكم بعضا " وما يشعرون " قال مقاتل " وما يشعرون " أنهم يضلون بأنفسهم وقال الكلبي " وما يشعرون " أن الله يدل نبيه عليه السلام على ضلالتهم أي يطلعه
سورة آل عمران الآيات 70 - 71
ثم قال عز وجل " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله " يقول لم تجحدون بالقرآن " وأنتم تشهدون " أنه نبي الله لأنهم كانوا يخبرون بأمره قبل مبعثه ويقال " بآيات الله " يعني عجائبه ودلائله ويقال بآية الرجم
ثم قال عز وجل " يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل " يعني تخلطون الكفر بالإيمان لأنهم آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه " وتكتمون الحق " يعني نعت محمد صلى الله عليه وسلم " وانتم تعلمون " أنه حق وأنه في التوراة
سورة آل عمران الآية 72(1/247)
248
74
قوله تعالى ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار ) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صلى نحو بيت المقدس سبعة عشر شهرا أو ثمانية عشر شهرا فلما صرف الله نبيه عليه السلام إلى الكعبة عند صلاة الظهر وقد كان قد صلى صلاة الصبح إلى بيت المقدس وصلى صلاة الظهر والعصر إلى الكعبة فقال رؤساء اليهود منهم كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف وغيرهما للسفلة منهم " آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار " يقول صدقوه بالقبلة التي صلى صلاة الصبح في أول النهار وآمنوا به فإنه الحق " واكفروا آخره " يعني اكفروا بالقبلة التي صلى إليها آخر النهار " لعلهم يرجعون " إلى قبلتكم ودينكم وقال مقاتل معناه أنهم جاؤوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم أول النهار ورجعوا من عنده وقالوا للسفلة هو حق فاتبعوه ثم قالوا حتى ننظر في التوراة ثم رجعوا في آخر النهار فقالوا قد نظرنا في التوراة فليس هو إياه يعنون أنه ليس بحق وإنما أرادوا أن يلبسوا على السفلة وأن يشككوا فيه فذلك قوله " آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار " يعني قالوا لهم في أول النهار آمنوا به " واكفروا آخره " يعني قالوا في آخر النهار اكفروا به " لعلهم يرجعون " يعني يشكون فيه فيرجعون
ثم قالوا للسفلة " ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم " قال بعضهم في الآية تقديم وتأخير ومعناه " ولا تؤمنوا " أي لا تصدقوا " إلى لمن تبع دينكم " فإنه لن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم من التوراة والمن والسلوى ولا تخبروهم بأمر محمد صلى الله عليه وسلم فيحاجوكم عند ربكم أي يخاصموكم ويجعلونه حجة عليكم فقالوا ذلك حسدا حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم من غيرهم قال الله تعالى " قل إن الهدى هدى الله " وإن الفضل بيد الله وهو قول مقاتل
وقال الكلبي فيه تقديم وتأخير يقول " ولا تؤمنوا " أي ولا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم اليهودية وصلى إلى قبلتكم " قل إن الهدى هدى الله " يقول دين الإسلام " أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " يقول لن يعطى أحد مثل ما أوتيتم من دين الإسلام والقرآن الذي فيه الحلال والحرام " أو يحاجوكم عند ربكم " يقول لن يخاصمكم اليهود عند ربكم يوم القيامة
ثم قال " قل " يا محمد " إن الفضل بيد الله " يعني النبوة والكتاب والهدى " بيد الله " أي بتوفيق الله " يؤتيه من يشاء " يعني يوفق من يشاء " والله واسع عليم " يقول واسع الفضل " عليم " بمن يؤتيه الفضل " يختص برحمته من يشاء " يعني بدينه يعطيه من يشاء ن عباده " والله ذو الفضل العظيم " لمن اختصه بالإسلام(1/248)
249
سورة آل عمران 75 - 76
قوله تعالى " ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك " قرأ أبو عمرو وحمزة " يؤده " بجزم الهاء وهي لغة بعض العرب واللغة المعروفة هي بإظهار الكسرة قال مقاتل يعني عبد الله بن سلام وأصحابه وقال ابن عباس في رواية أبي صالح أن الله تعالى ذكر أن أهل الكتاب فيهم أمانة وفيهم خيانة وقال الضحاك " ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار " يعني عبد الله بن سلام أودعه رجل ألفا ومائتي أوقية من الذهب فأداها إليه فمدحه الله تعالى ويقال إن نعت محمد صلى الله عليه وسلم أمانة فمن كتمه دخل تحت قوله " لا يؤده إليك " ومن لم يكتمه دخل تحت قوله " يؤده "
ثم قال تعالى " ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك " وهو فنخاص بن عازورا اليهودي أودعه رجل دينارا فخانه ويقال " يؤده إليك " يعني النصارى كانوا ألين قلوبا يؤدون الأمانة واليهود لا يؤدون الأمانة وكانوا إذا أخذوا أمانات الناس وأو مال اليتامى فكانوا يغتنمون ذلك كما يفعل بعض أهل الإسلام إذا وقع في يده شيء من أموال المسلمين جعله كالغنيمة
ثم قال تعالى " إلا ما دمت عليه قائما " يعني ملحا متقاضيا و " ذلك " يعني الاستحلال " بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل " يعني يقولون ليس علينا في مال العرب مأثم ويقال من لم يكن على ديننا فماله لنا حلال بمنزلة مذهب الخوارج أنهم يستحلون مال من كان على خلاف مذهبهم " ويقولون على الله الكذب " لأنهم كانوا يقولون إن ذلك حلال في التوراة فأخبر الله تعالى أنهم كاذبون على الله " وهم يعلمون " أن الله أمرهم بأداء الأمانة وأخذ على ذلك ميثاقهم فهذا قوله تعالى " بلى من أوفى بعهده " الذي أخذ عليهم بأداء الأمانة وأخذ على ذلك ميثاقهم وذلك قوله تعالى " بلى من أوفى بعهده واتقى " يعني محارمه وهذا قول مقاتل وقال الكلبي " واتقى " ظلم الناس " فإن الله يحب المتقين " عن نقض العهد
سورة آل عمران 77(1/249)
250
78
قوله تعالى " إن الذين يشترون بعهد الله " قال ابن عباس في رواية أبي صالح نزلت في شأن عبدان بن الأشوع وامرئ القيس بن عابس ادعى أحدهما على صاحبه حقا فأراد المدعى عليه أن يحلف بالكذب فنزلت هذه الآية وقال مقاتل نزلت في شأن رؤساء اليهود كتموا نعت محمدا صلى الله عليه وسلم لأجل منافع الدنيا ويقال إن جماعة من علماء اليهود قدموا المدينة من الشام ليسلموا فلقيهم كعب بن الأشرف فقال لهم تعلمون أنه نبي قالوا نعم فقال لهم كعب حرمتم على أنفسكم خيرا كثيرا لأني كنت أردت أن أبعث لكم الهدايا فقالوا حتى ننظر في ذلك فنظروا ثم رجعوا فقالوا ليس هو الذي وجدنا صفته فأخذ منهم إقرارهم وخطوطهم وأيمانهم على ذلك ثم بعث إلى كل واحد منهم ثمانية أذرع من الكرباس وخمسة أصوع من الشعير فنزل في شأنهم " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " يعني عرضا يسيرا " أولئك لا خلاق لهم في الآخرة " أي لا نصيب لهم في الآخرة " ولا يكلمهم الله " وقال الزجاج قوله تعالى " ولا يكلمهم الله " يحتمل معنيين أحدهما إسماع كلام الله تعالى أولياءه خصوصا لهم كما كلم موسى خصوصية له دون البشر ويجوز أن يكون تأويله الغضب عليهم كما يقال فلان لا يكلم فلانا ولا ينظر إليه أي هو غضبان عليه وإن كان يكلمه بكلام السوء فذلك معنى قوله " لا يكلمهم الله " يعني بكلام الرحمة " ولا ينظر إليهم يوم القيامة " بالرحمة " ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم "
قوله تعالى " وإن منهم لفريقا " يعني طائفة من اليهود وهذه اللام لزيادة تأكيد على تأكيد " يلوون ألسنتهم بالكتاب " يعني يحرفون ألسنتهم بالكتاب يعني بنعت محمد صلى الله عليه وسلم ويغيرونه ويقال يغيرونه في التلاوة فيقرؤونه على خلاف ما في التوراة ويقال يحرفون تأويله على خلاف ما فيه " لتحسبوه من الكتاب " أي من التوراة " وما هو من الكتاب " أي من التوراة بل هم كتبوا وهم تأولوا " ويقولون من عند الله وما هو من عند الله " أي ليس هو من عند الله " ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون " أنه كذب
سورة آل عمران 79 - 80(1/250)
251
قوله تعالى " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب " يعني التوراة والإنجيل ثم قال " والحكم " يعني الفهم " والنبوة " وهو عيسى ابن مريم عليهما السلام " ثم يقول للناس " ما جاز له أن يقول للناس " كونوا عبادا لي من دون الله " ويقال إن اليهود والنصارى اختلفوا فيما بينهم فجاء الفريقان جميعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال كل فريق نحن أولى بإبراهيم عليه السلام فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلكم على الخطأ فغضبوا وقالوا والله ما تريد إلا أن نتخذك حنانا فأنزل الله تعالى " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب " يعني القرآن " والحكم " يعني الحلال والحرام والنبوة " ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله " " ولكن " يقول لهم " كونوا ربانيين " يعني متعبدين ويقال كونوا علماء فقهاء
قال الزجاج الربانيون أرباب العلم والبيان أي كونوا علماء " بما كنتم تعلمون الكتاب " يعني كونوا عاملين بما كنتم تعلمون لأن العالم إنما يقال له عالم إذا عمل بعلمه وإن لم يعمل بعلمه فليس بعالم لأن من ليس له من علمه منفعة فهو والجاهل سواء
ثم قال تعالى " وبما كنتم تدرسون " يقول بما كنتم تقرؤون يعني كونوا علماء بذلك عاملين به قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " بما كنتم تعلمون " بنصب التاء والتخفيف يعني يعلمكم الكتاب ودرسكم والباقون بضم التاء والتشديد يعني تعلمون غيركم فإنما يأمركم بذلك " ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا " يعني عيسى وعزيرا والملائكة صلوات الله عليهم ولو أمركم بذلك لكفر وتنزع منه النبوة " أيأمركم بالكفر " يعني بعبادة الملائكة " بعد إذ أنتم مسلمون " يعني مخلصون بالتوحيد لله قرأ عاصم وحمزة وابن عامر " ولا يأمركم " بنصب الراء انصرف إلى قوله " ما كان لبشر أن يؤتيه الله " فيصير نصبا بأن والباقون " ولا يأمركم " بضم الراء على معنى الابتداء
سورة آل عمران 81
قوله تعالى " وإذ اخذ الله ميثاق النبيين " يعني الميثاق حيث أخرجهم من صلب آدم عليه السلام وأخذ عليهم العهد والميثاق أن يبلغ الأول الآخر وأن يصدق الآخر الأول فذلك قوله تعالى " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين " يعني إقرار النبيين " لما آتيتكم " قرأ حمزة " لما آتيتكم " بكسر اللام والتخفيف يعني بما آتيتكم والباقون بنصب اللام ومعناه فما آتيتكم يعني أي كتاب آتيتكم لتؤمنوا به وقرأ بعضهم بنصب اللام والتشديد يعني حين آتيتكم " من كتاب وحكمه " يعني بيان الحلال والحرام وقرأ نافع " آتيناكم " بلفظ الجماعة وهو لفظ الملوك والباقون ( آتيتكم ) بلفظ الوحدان ويقال أخذ الميثاق بالوحي فلم يبعث نبيا(1/251)
252
إلا ذكر له محمدا صلى الله عليه وسلم ونعته وأخذ عليه ميثاقه أن يبينه لقومه وأن يأخذ منهم ميثاقهم أن يبينوه لمن بعدهم ولا يكتمونه " ثم جاءكم رسول " يعني أهل الكتاب الذين كانوا في زمان محمد صلى الله عليه وسلم " مصدق لما معكم " في التوحيد وبعض الشرائع وذلك أن الله تعالى لما أخذ ميثاق الأنبياء وأخذ الأنبياء الميثاق من قومهم بأن يبينوه فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فكذبوه فذكرهم الله تعالى ما أتاهم به أنبياؤهم وقال " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم مصدق لما معكم من التوراة " لتؤمنن به " يعني قال لهم في الميثاق " لتؤمنن به " أي لتصدقنه إذا بعث " ولتنصرنه " إذا خرج " قال " لهم ( أأقررتم ) بتصديقه يعني هل أقررتم بما أخذ عليكم من الميثاق بتصديقه ونصره " وأخذتم على ذلكم إصري " يعني هل قبلتم على ذلك عهدي الذي أخذت عليكم على إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم " قالوا أقررنا قال " يعني الله تعالى " فاشهدوا " بعضكم على بعض بأني قد أخذت عليكم العهد " وأنا معكم من الشاهدين " على إقراركم
قال الزجاج قوله " فاشهدوا " أي فبينوا لأن الشاهد هو الذي يصحح دعوى المدعي " وأنا معكم من الشاهدين " وشهادة الله للنبيين تبيينه أمر نبوتهم بالآيات المعجزات وقال القتبي أصل الإصر الثقل فسمي العهد إصرا لأنه يمنع صاحبه عن مخالفة الأمر الذي أخذ عليه فثقل
سورة آل عمران الآيات 82 - 83
قوله تعالى " فمن تولى بعد ذلك " يعني أعرض عن الإيمان وعن البيان بعد ذلك الإقرار والعهد قوله " فأولئك هم الفاسقون " يعني الناقضون للعهد ويقال هم العاصون وأصل الفسق الخروج من الطاعة كقوله " ففسق عن أمر ربه " سورة الكهف 50 أي خرج عن طاعة ربه
وقوله تعالى " أفغير دين الله يبغون " قال الكلبي وذلك أن كعب بن الأشرف اختصم مع النصارى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا أينا أحق بدين إبراهيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم كلا الفريقين برئ من دينه فقالوا ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فنزل قوله تعالى " أفغير دين الله يبغون " يعني يطلبون قرأ عاصم في رواية حفص " يبغون " " وإليه يرجعون " كلاهما بالياء وقرأ أبو عمرو " يبغون " بالياء وإليه " ترجعون " بالتاء وقرأ الباقون كلاهما بالتاء على معنى المخاطبة فمن قرأ بالياء يعني أفغير دين الله يطلبون عندك ومن قرأ " تبغون " يعني قل لهم أفغير دين الله تطلبون " وله أسلم " يعني أخلص وخضع " من في السموات والأرض طوعا وكرها " قال الكلبي أما أهل السموات فأسلموا لله طائعين وأما أهل الأرض فمن(1/252)
253
ولد في الإسلام أسلم طوعا ومن أبى قوتل حتى دخل في الإسلام كرها وأما أفاء الله عليهم مما يسبون فيجاء بهم في السلاسل فيكرهون على الإسلام وقال مجاهد يسجد ظل المسلم ووجهه طائع ويسجد ظل الكافر وهو كاره وقال مقاتل " وله أسلم من في السموات " يعني الملائكة والأرض يعني المؤمنين طوعا وكرها يعني أهل الأديان يقولون الله ربهم وخالقهم فذلك إسلامهم وهم مشركون ومعنى قوله " وله أسلم من في السموات والأرض " قال الزجاج وله أسلم من في السموات والأرض أي خضعوا من جهة ما فطرهم عليه ودبرهم لا يمتنع ممتنع من جبلة ما جبل عليها ولا يقدر على تغيير ما خلق عليه
ثم قال " وإليه ترجعون " كما خلقكم أي كما بدأكم فلا تقدرون على الامتناع كذلك يبعثكم كما بدأكم قرأ عاصم في رواية حفص " يرجعون " وقرأ الباقون بالتاء
سورة آل عمران 84
ثم قال " قل آمنا بالله " خاطب النبي صلى الله عليه وسلم وأراد به أمته فقال قل للمؤمنين إن لم يؤمن أهل الكتاب فقولوا أنتم آمنا بالله " وما أنزل علينا " أي آخر الآية وقد ذكرناه في سورة البقرة
سورة آل عمران 85
قوله تعالى " ومن يبتغ غير الإسلام دينا " قال الكلبي نزلت في شأن وطعمه بن أبيرق ومقيس بن ضبابة والحارث بن سويد ومرثد وكانوا عشرة وقال الكلبي كانوا اثني عشر وقال الضحاك يعني لا يقبل الله من جميع الخلق من أهل الأديان دينا غير الإسلام ومن تدين بدين غير دين الإسلام " فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " أي من المغبونين لأنه ترك منزله في الجنة واختار منزله في النار
سورة آل عمران 86 - 90
ثم قال تعالى " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق " يعني(1/253)
254
كفروا بعدما شهدوا أن الرسول حق " وجاءهم البينات " يعني بعدما ظهر لهم العلامات " والله لا يهدي القوم الظالمين " فإن قيل في ظاهر الآية أن من كفر بعد إسلامه لا يهديه الله ومن كان ظالما لا يهديه الله وقد رأينا كثيرا من المرتدين قد أسلموا وهداهم الله وكثيرا من الظالمين تابوا عن الظلم قيل له معناه لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم ولا يقبلون إلى الإسلام فأما إذا جاهدوا وقصدوا الرجوع وفقهم الله لذلك لقوله تعالى " والذين جهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " سورة العنكبوت 69وتأويل آخر قوله " كيف يهدي الله " يقول كيف يرشدهم إلى الجنة كما قال في آية " إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا ، إلا طريق جهنم " سورة النساء 168 ويقال كيف يرحمهم الله وينجيهم من العقوبة ويقال كيف يغفر الله لهم وقالت المعتزلة كيف يهدي الله معناه كيف يكونون مهتدين لأنهم لا يرون الهداية والاهتداء في الابتداء إلا على سبيل الجزاء ويرون ذلك من كسب العبد
ثم قال تعالى " أولئك جزاؤهم " يعني أهل الصفة التي ذكرها " أن عليهم لعنة الله " يعني سخط الله ويقال الطرد والتبعيد من رحمة الله والخذلان ويقال يلعنهم بالقول " والملائكة " يعني عليهم لعنة الله والملائكة " والناس أجمعين " إذا لعن رجل رجلا فإن لم يكن أهلا لذلك رجعت اللعنة إلى الكفار ويقال من لم يكن على دينهم يلعنهم في الدنيا ومن كان على دينهم يلعنهم في الآخرة لقوله تعالى " ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا " سورة العنكبوت 25 فذلك قوله تعالى " والناس أجمعين "
ثم قال تعالى " خالدين فيها " يعني في اللعنة فيما يوجبه الله تعالى وهو عذاب النار خالدين فيها " لا يخفف عنهم العذاب " يعني لا يهون عليهم العذاب " ولا هم ينظرون " أي لا يؤجلون فيها " لا يخفف عنهم العذاب " يعني لا يهون عليهم العذاب " ولا هم ينظرون " أي لا يؤجلون ثم استثنى التوبة فقال تعالى " إلا الذين تابوا من ذلك وأصلحوا " يقول من بعد الكفر وأصلحوا أعمالهم بالتوبة ويقال أصلحوا لمن أفسدوا من الناس " فإن الله غفور " لما كان منهم في الكفر " رحيم " بهم بعد التوبة قال الكلبي ومقاتل لما نزلت هذه الآية أي الرخصة بالتوبة كتب أخوة الحارث بن سويد إلى الحارث إن الله قد عرض عليكم التوبة فرجع وتاب وبلغ ذلك إلى أصحابه الذين بمكة فقالوا إن محمدا تتربص به ريب المنون فقالوا نقيم بمكة على الكفر متى بدا لنا الرجعة رجعنا فينزل فينا ما نزل في الحارث فيقبل توبتنا فأنزل الله تعالى " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا " يعني ثبتوا على كفرهم بقولهم نقيم بمكة ما بدا
لنا " لن تقبل توبتهم " ما أقاموا على الكفر
قال الزجاج كانوا كلما نزلت آية كفروا بها فكان ذلك زيادة كفرهم وقوله " لن تقبل توبتهم " أي توبتهم الأولى وحبط أجر عملهم ويقال " لن تقبل توبتهم " معناه أنهم لم يتوبوا كما قال " ولا يقبل منها شفعة " سورة البقرة 48 أي لا يشفع لها أحد(1/254)
255
ثم قال تعالى " وأولئك هم الضالون " عن الإسلام وهم الذين لم يتوبوا
سورة آل عمران 91
قوله تعالى " إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا " قال الكلبي يعني وزن الأرض ذهبا وقال مقاتل إن الكافر إذا عاين النار في الآخرة تمنى أن يكون له الأرض ذهبا فيقدر على أن يفتدي به نفسه من العذاب ما تقبل منه ونظيرها في سورة المائدة " إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض " المائدة 36
سورة آل عمران 92
قوله تعالى " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " قال ابن عباس في رواية أبي صالح أنه قال لن تنالوا ما عند الله من ثوابه في الجنة حتى تنفقوا مما تحبون أي حتى تخرجوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم وقال مقاتل يعني لن تنالوا التقوى حتى تنفقوا مما تحبون من الأموال وقيل هي منسوخة نسختها أية الزكاة " وما تنفقوا من شيء " يعني الصدقة وصلة الرحم " فإن الله به عليم " أي لا يخفى عليه فيثيبكم عليه ويقال " لن تنالوا البر " حتى تستكملوا التقوى ويقال لا تكونوا بارين حتى تنفقوا مما تحبون أي من الصدقة أي بعض ما تحبون من الأموال
وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يشتري أعدالا من السكر ويتصدق بها فقيل له هلا تصدقت بثمنه فقال لأن السكر أحب إلي فأردت أن أتصدق مما أحب
وروي عن عبد الله بن عمر أنه اشترى جارية جميلة وكان يحبها فمكثت عنده أياما فأعتقها وزوجها من رجل فولد لها ولد فكان يأخذ ولدها ويضمه إلى نفسه ويقول أشم منك ريح أمك فقيل له قد رزقك الله من حلال وأنت تحبها فلم تركتها فقال ألم تسمع هذه الآية " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ في مصحف مذهب فلما انتهت إلى هذا الآية باعته وتصدقت بثمنه
سورة آل عمران 93
قوله تعالى " كل الطعام كل حلا لبني إسرائيل " قال في رواية الكلبي خرج يعقوب إلى بيت المقدس فلقيه ملك في الطريق فظن يعقوب عليه السلام أنه لص فعالجه فغمز الملك(1/255)
256
رجل يعقوب فهاج به عرق النساء فنذر أن يحرم أحب الطعام إليه أن برئ من ذلك لما رأى فيه من الجهد فلما برئ كان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وألبانها فحرمها على نفسه فقالت اليهود هذا التحريم من الله تعالى في التوراة فنزل قوله تعالى " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل " يعني كان حلالا إلا الميتة والدم ولحم الخنزير
ثم قال " إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة " وليس تحريمها في التوراة
ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم " قل " لليهود " فأتوا بالتوراة فاتلوها " يعني أقرؤوها " إن كنتم صادقين " بأن تحريهما في التوراة لأنهم كانوا يقولون كان ذلك حراما من وقت نوح وأنت وأصحابك تستحلونها
وقال الضحاك إن يعقوب لما أصابه عرق النساء وصف له الأطباء أن يتجنب لحوم الإبل فحرم على نفسه لحوم الإبل فقالت اليهود حرمناها على أنفسنا لأن يعقوب حرمها على نفسه ونزل تحريمها في التوراة ونزلت الآية ويقال معناه كل طعام هو حلال لأمتك مثل ما كان حلالا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه وبعضها حرم عليهم بذنوبهم
وقال الزجاج هذه الآية أعظم دليل لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه حين أخبرهم بأنه ليس في كتابهم وأمرهم بأن يأتوا بالتوراة فأبوا وعرفوا أنه قال ذلك بالوحي
سورة آل عمران 94 - 95
ثم قال تعالى " فمن افترى على الله الكذب " يعني اختلق على الله الكذب " من بعد ذلك " البيان في كتابهم " فأولئك هم الظالمون " يعني يظلمون أنفسهم
قوله تعالى " قل صدق الله " أن تحريمه ليس في التوراة ويقال " قل صدق الله " حين قال " ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا " آل عمران 67 " فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا " أي مخلصا مستقيما وكلوا لحوم الإبل وألبانها كما أكلها إبراهيم عليه السلام ولا تحرموا على أنفسكم شيئا بأهوائكم " وما كان " إبراهيم " من المشركين " يعني على دينهم
سورة آل عمران 96 - 97
قوله تعالى " إن أول بيت وضع للناس " قال مقاتل يعني أول مسجد وضع للناس أي للمؤمنين ويقال أول موضع خلق هو موضع الكعبة للناس أي قبلة للناس " للذي ببكة "(1/256)
257
قال الكلبي إنما بكة لأن الناس يبك بعضهم بعضا أي يزدحم
وقال الزجاج بكة موضع البيت وسائر ما حواليه مكة وقال القتبي بكة ومكة شيء واحد والباء تبدل من الميم كما يقال سمد رأسه وسبده إذا استأصله ويقال بكة موضع المسجد ومكة البلد حوله ثم قال تعالى " مباركا " أي فيها بركة ومغفرة للذنوب " وهدى للعالمين " يعني قبلة لمن صلى إليها وذلك أن اليهود قالوا للمؤمنين لم عمدتم إلى الحجارة تطوفون بها وتصلون إليها وجعلوا يعظمون بيت المقدس فنزلت هذه الآية
وروى الكلبي أن آدم عليه السلام بنى البيت فلما كان زمان الطوفان رفع إلى السماء السادسة بحيال الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لم يدخلوه قط قبله ويقال أنزل من السماء وهو من ياقوته حمراء فلما كان زمان الطوفان رفع إلى السماء الرابعة
ثم قال تعالى " فيه آيات بينات " يعني علامات واضحات كالحجر الأسود والحطيم و " مقام إبراهيم " وروي عن عبد الله بن عباس أنه كان يقرأ " فيه آية بينة مقام إبراهيم " وقرأ غيره " آيات بينات " ومعناه من تلك الآيات مقام إبراهيم
" ومن دخله " يعني الحرم " كان آمنا " يعني أن من دخله فإنه لا يهاج منه إذا وجب عليه القتل خارج الحرم
ثم قال تعالى " ولله على الناس حج البيت " قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " حج البيت " بكسر الحاء والباقون بالنصب وهما لغتان ومعناهما واحد " من استطاع إليه سبيلا " يعني بلاغا والاستطاعة هي الزاد والراحلة وتخلية الطريق ويقال ولله على الناس فريضة حج البيت
ثم قال تعالى " ومن كفر " يعني من لم ير الحج واجبا فقد كفر فذلك قوله " ومن كفر " " فإن الله غني عن العالمين " يعني عمن حج وعمن لم يحج
قال الفقيه حدثني أبي قال حدثني أبو بكر المعلم قال حدثنا أبو عمران الفاريابي قال حدثنا عبد الرحمن بن حبيب قال حدثنا داود بن المحبر قال حدثنا عباد بن كثير عن عبد خير عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته أيها الناس إن الله تعالى فرض الحج على من استطاع إليه سبيلا ومن لم يفعل فليمت على أي حال شاء يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا إلا أن يكون به مرض أو منع من سلطان جائر ألا لا نصيب له في شفاعتي ولا يرد حوضي )
وروي عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال السبيل الزاد والراحلة وكذلك(1/257)
258
روي عن ابن عباس وقال مجاهد " مقام إبراهيم " أثر قدميه
سورة آل عمران 98 - 99
قوله تعالى " قل يا أهل الكتاب " يعني اليهود والنصارى " لم تكفرون بآيات الله " يعني لم تجحدون بالحج والقرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم " والله شهيد على ما تعملون " من الجحود والكفر
ثم قال تعالى " قل يا أهل الكتاب لم تصدون " يقول لم تصرفون الناس " عن سبيل الله " أي عن دين الإسلام والحج " تبغونها عوجا " يعني تطلبونها تغيرا وزيغا " وأنتم شهداء " أن ذلك في التوراة " وما الله بغافل عما تعملون " من كتمان صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ويقال في اللغة ما كان ينتصب انتصاب العود والحائط يقال عوج بالنصب وما لم ينتصب مثل الأرض والكلام يقال عوج كما قال تعالى " لا ترى فيها عوجا ولا أمتا " طه 107 وقال " ولم يجعل له عوجا قيما " الكهف 1 - 2
سورة آل عمران 100 - 101
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا " يقول طائفة " من الذين أوتوا الكتاب " وهم رؤساء اليهود " يردوكم بعد إيمانكم " بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن " كافرين " لأنهم كانوا يدعون إلى الكفر واتباع مذهبهم وكان يتبعهم بعض المنافقين فنهى الله تعالى المؤمنين عن متابعتهم
ثم قال تعالى على وجه التعجب " وكيف تكفرون " يقول كيف تجحدون بوحدانية الله وبمحمد والقرآن " وأنتم تتلى عليكم آيات الله " يقول يقرا عليكم القرآن وفيه دلائله وعجائبه " وفيكم رسوله " يعني معكم محمد صلى الله عليه وسلم
قال الزجاج يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيهم وهم يشاهدونه ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الأمة لأن آثاره وعلاماته والقرآن الذي أتى به فينا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا وإن لم نشاهده(1/258)
259
ثم قال تعالى " ومن يعتصم بالله " يقول يتمسك بدين الله " فقد هدي " يقول وفق وأرشد من الضلالة " إلى صراط مستقيم " يعني الطريق الذي يسلك به إلى الجنة وهو دين الإسلام
سورة آل عمران 102 - 105
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته " يقول أطيعوا الله حق طاعته وحق طاعته أن يطاع فلا يعصى طرفه عين وأن يشكر فلا يكفر طرفة عين وأن يذكر فلا ينسى طرفة عين فشق ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى " فاتقوا الله ما استطعتم " التغابن 16 فنسخت هذه الآية هكذا قال الكلبي والضحاك ومقاتل وغيرهم من المفسرين إن هذه الآية منسوخة وقال بعضهم لا يجوز أن يقال هذه الآية منسوخة لأنه لا يجوز أن يأمرهم بشيء لا يطيقونه بل إنهم يطيقونه ولكن تلحقهم مشقة شديدة وكان ذلك مجهود الطاقة ولا يستطيعون الدوام عليه والله تعالى لا يكلف عباده إلا دون ما يطيقونه فخفف عنهم بقوله تعالى " فاتقوا الله ما استطعتم " التغابن 16 ولم ينسخ آخر الآية وهو قوله تعالى " ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " يعني اثبتوا على الإسلام وكونوا بحال يلحقكم الموت وأنتم على الإسلام
قوله تعالى " واعتصموا بحبل الله جميعا " يقول تمسكوا بدين الله وبالقرآن ويقال تمسكوا بسبيل السنة والهدى " ولا تفرقوا " يقول ولا تختلفوا في الدين كاختلاف اليهود والنصارى ويقال لا تختلفوا فيما بينكم بالعداوة والبغضاء ويقال " واعتصموا بحبل الله جميعا " يعني اطلبوا النصرة من الله لا من القبائل والعشيرة ويقال " واعتصموا بحبل الله والرسول " يعني ما اشتبه عليكم فردوه إلى كتاب الله كقوله تعالى " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله " النساء 59 وقال بعض الحكماء إن مثل من في الدنيا كمثل من وقع في بئر فيها من كل نوع من الآفات فلا سبيل إلى النجاة منها إلا بالتمسك بحبل وثيق وهو كتاب الله تعالى
ثم ذكر لهم نعمته فقال " واذكروا نعمة الله عليكم " يعني احفظوا نعمة الله عليكم بالإسلام " إذ كنتم أعداء " في لجاهلية " فألف بين قلوبكم " يقول جمع بين قلوبكم بالإسلام(1/259)
260
توددا " فأصبحتم بنعمته إخوانا " يقول فصرتم بنعمة الإسلام " إخوانا " في الدين وكل ما ذكر في القرآن " أصبحتم " معناه صرتم كقوله " إن أصبح ماؤكم غورا " الملك 30 أي صار ماؤكم غورا وهذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج كان بينهم قتال قبل الإسلام بأربعين عاما حتى كادوا أن يتفانوا فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة آمن به الأوس والخزرج وهم بالمدينة ثم خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر منهم سبعون رجلا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس إلى العقبة فرأى سبعين رجلا من الأنصار فعاهدوه ثم رجعوا إلى المدينة وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إليهم بعد الحولين فوقعت بين الأوس والخزرج ألفة وزالت عنهم العداوة التي كانت عنهم في الجاهلية بالإسلام وهذا كما ذكر في آية أخرى " لو أنفقت ما فى الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم " الأنفال63
وروي عن جابر بن عبد الله أن رجلين من الأنصار أحدهما من الأوس والآخر من الخزرج تفاخرا فيما بينهما واقتتلا فاستعان كل واحد منهما بقومه فاجتمعت الأوس والخزرج وأخذوا السلاح وخرجوا للحرب فبلغ الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم في ثلاثين من المهاجرين وهو راكب على حمار له قال جابر فما كان من طالع يومئذ أكرم إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا فأومأ إلينا بيده فكففنا ووقف بيننا على حمار له فقال " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته " إلى قوله " عذاب عظيم " فألقوا السلاح وأطفؤوا الحروب التي كانت بينهم وعانق بعضهم بعضا يبكون فما رأيت الناس أكثر باكيا من يؤمئذ فلم يكن في الأرض شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية
قوله تعالى " وكنتم على شفا حفرة من النار " قال القتبي شفى على كذا إذا أشرف عليه " شفا حفرة " أي حرف حفرة ومعناه وكنتم في الجاهلية على شر هلاك بالشرك من مات في الجاهلية كان في النار " فأنقذكم " الله " منها " بعدما كنتم على حرف من النار " كذلك يبين الله لكم آياته " يعني علاماته أي كنتم أعداء في الجاهلية فصرتم إخوانا في الإسلام " لعلكم تهتدون " أي لكي تهتدوا من الضلالة وتعرفوا علامته بهذه النعمة
ثم قال تعالى " ولتكن منكم أمة " فهذه لام الأمر كقوله " فليعمل عملا صلحا " الكهف 110يعني لتكن منكم أمة
قال الكلبي يعني جماعة وقال مقاتل يعني عصبة وقال الزجاج معناه ولتكونوا كلكم أمة واحدة تدعون إلى الخير و " من " هاهنا لتخص المخاطبين من بين سائر الأجناس وهي مؤكدة كقوله تعالى " فاجتنبوا الرجس من الأوثن " الحج 30 وقوله " يدعون إلى الخير " يعني
إلى الإسلام ويقال إلى جميع الخيرات " ويأمرون بالمعروف " قال الكلبي يعني باتباع محمد صلى الله عليه وسلم " وينهون عن المنكر " يعني الجبت والطاغوت ويقال " المنكر " العمل الذي بخلاف الكتاب والسنة ويقال ما لا يصلح في العقل(1/260)
261
وروي عن سفيان الثوري أنه قال إنما يجب النهي عن المنكر إذا فعل فعلا يخرج عن الاختلاف ويقال إنما أمر بعض الناس بقوله " ولتكن منكم أمة " ولم يأمر جميع الناس لأن كل واحد من الناس لا يحسن الأمر بالمعروف وإنما يجب على من يعلم ويقال إن الأمراء يجب عليهم الأمر والنهي باليد والعلماء باللسان والعوام بالقلب وهنا كما قال صلى الله عليه وسلم إذا رأى أحدكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال بحسب امرئ إذا رأى منكرا لا يستطيع النكير أن يعلم الله من قبله أنه كان وروي عن بعض الصحابة أنه قال إن الرجل إذا رأى منكرا لا يستطيع النكير عليه فليقل ثلاث مرات اللهم إن هذا منكر فإذا قال ذلك فقد فعل ما عليه
ثم قال تعالى " وأولئك هم المفلحون " يعني الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر هم الناجون ويقال فازوا بالنعيم
ثم قال تعالى " ولا تكونوا " في الاختلاف " كالذين تفرقوا " وهم اليهود والنصارى " واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " فافترقت اليهود فرقا والنصارى فرقا فنهى الله المؤمنين عن ذلك
ثم خوفهم فقال " وأولئك لهم عذاب عظيم " يعني دائم لا يرفع عنهم أبدا يعني الذين اختلفوا " من بعد ما جاءتهم البينات " يعني العلامات في أمر محمد صلى الله عليه وسلم أو بيان الطريق
سورة آل عمران 106 - 107
ثم بين منازل الذين تفرقوا والذين لم يتفرقوا فقال عز وجل " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة ووجوه الكفار مسودة ويقال إن ذلك عند قراءة الكتاب إذا قرأ المؤمن كتابه فرأى في كتابه حسنات استبشر وابيض وجهه وإذا قرأ الكافر والمنافق كتابه فرأى في كتابه سيئات اسود وجهه ويقال إن ذلك عند الميزان إذا رجحت حسناته ابيض وجهه وإذا رجحت سيئاته اسود وجهه ويقال عند قوله " وامتزوا اليوم أيها المجرمون " يس 59 ويقال إذا كان يوم القيامة(1/261)
262
يؤمر كل قوم بأن يجتمعوا إلى معبودهم فإذا انتهوا إليه حزنوا واسودت وجوههم فيبقى المؤمنون وأهل الكتاب والمنافقون فيقول الله تعالى للمؤمنين من ربكم فيقولون ربنا الله عز وجل فيقول لهم أتعرفونه إذا رأيتموه فيقولون سبحانه إذا عرفنا عرفناه فيرونه كما شاء الله تعالى فيخر المؤمنون سجدا لله تعالى فتصير وجوههم مثل الثلج بياضا وبقي المنافقون وأهل الكتاب لا يقدرون على السجود فحزنوا واسودت وجوههم فذلك قوله تعالى " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " " فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم " يعني يقال لهم أكفرتم ولكن حذف القول لأن في الكلام دليلا عليه " بعد إيمانكم " يعني يوم الميثاق قالوا بلى يعني المرتدين والمنافقين ويقال هذا لليهود وكانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به وقال أبو العالية هذا للمنافقين خاصة يقول أكفرتم في السر بعد إيمانكم مع إقراركم في العلانية " فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن
حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا محم بن صاعد حدثنا عباد بن الوليد قال حدثنا محمد بن عباد الهنائي قال حدثنا حميد بن الخياط قال سألت أبا العالية عن هذه الآية " فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم " فقال حدثنا أبو أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إنهم الخوارج وسألته عن قوله " لا تتخذوا بطانة من دونكم " آل عمران 118 قال سمعته قال إنهم الخوارج
ثم قال تعالى " وأما الذين أبيضت وجوههم ففي رحمة الله " أي في جنة الله قال الزجاج يعني في الجنة التي صاروا إليها برحمة الله تعالى لأن الجنة تنال برحمة الله ولا تنال بالجهد وإن اجتهد المجتهد لأن نعمة الله تعالى لا يكافئها عمل ففي رحمة الله أي في ثواب الله " وهم فيها خالدون " يعني دائمين
سورة آل عمران 108 - 109
قوله تعالى " تلك آيات الله " يعني القرآن " نتلوها عليك " يعني ننزل عليك جبريل فيقرأ عليك " بالحق " أي بالصدق وقال الزجاج " تلك آيات الله " أي تلك التي جرى ذكرها حجج الله وعلاماته " نتلوها عليك " أي نعرفك إياها " وما الله يريد ظلما للعالمين " يعني لا يعذبهم بغير ذنب
ثم قال تعالى " ولله ما في السموات وما في الأرض " قال بعضهم هذا معطوف على(1/262)
263
الأول كأنه يقول وما الله يريد ظلما للعالمين لأنهم كلهم عبيده ومخلوقه ومرزوقه فلا يريد ظلمهم وقال بعضهم هذا ابتداء الكلام بين لعباده أن جميع ما في السموات وما في الأرض له حتى يسألوه ويعبدوه ولا يعبدوا غيره
ثم قال تعالى " وإلى الله ترجع الأمور " يقول تصير أمور العباد إلى الله في الآخرة
سورة آل عمران 110 - 111
قوله تعالى " كنتم خير أمة أخرجت للناس " قال الكلبي أخبر الله تعالى أن خير الدين عند الله دين أهل الإسلام ووصفهم بالوفاء فقال " كنتم خير أمة " يقول أنتم خير أهل دين كان للناس لأنهم لا يظلمون من خالطهم منهم أو من غيرهم فجعلهم الله خير الناس للناس " تأمرون بالمعروف " ويقال خير أمة أخرجت للناس لأنهم يأمرون بالمعروف فيقاتلون الكفار ليسلموا فترجع منفعتهم إلى غيرهم كما قال صلى الله عليه وسلم خير الناس من ينفع الناس ويقال " كنتم خير أمة " عند الله في اللوح المحفوظ ويقال كنتم مذ أنتم خير أمة ويقال هذا الخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعني أنتم خير الأمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم خير القرون أصحابي ثم الذين يلونهم
ثم وصفهم فقال " تأمرون بالمعروف " أي بالتوحيد والإسلام " وتنهون عن المنكر " أي عن الشرك " وتؤمنون بالله " أي تصدقون بتوحيد الله وتثبتون على ذلك وقال الزجاج " تؤمنون بالله " معناه تقرون بأن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي الله لأن من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم لم يوحد الله لأنه يزعم أن الآيات المعجزات التي أتى بها من ذات نفسه
ثم قال تعالى " ولو آمن أهل الكتاب " وهم اليهود والنصارى " لكان خيرا لهم " من الإقامة على دينهم
ثم قال تعالى " منهم المؤمنون " وهم مؤمنو أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه ومن آمن من اليهود والنصارى " وأكثرهم الفاسقون " وهم كعب بن الأشرف وأصحابه والذين لم يؤمنوا منهم
قوله تعالى " لن يضروكم إلا أذى " يعني باللسان بالسب وغيره وليس لهم قوة القتال " وإن يقاتلوكم " يعني إن أعانوكم في القتال فلا منفعة لكم منهم لأنهم " يولوكم الأدبار " وينهزمون " ثم لا ينصرون " يقول لا يمنعون من الهزيمة فكأنه يحكي ضعفهم عن القتال يقول لو كانوا عليكم لا يضرونكم ولو كانوا معكم لا ينفعونكم وهذا حالهم إلى اليوم وهم اليهود ليس لهم شوكة ولا قوة القتال في موضع من المواضع ويقال " وإن يقاتلوكم(1/263)
264
يولوكم الأدبار ) يعني إن خرجوا إلى قتالكم وأرادوا قتالكم " يولون الأدبار " يعني يهربون منكم ويقال " يولوكم الأدبار " يعني منهزمين " ثم لا ينصرون " يقول لا يمنعون منكم وهو قول الكلبي
سورة آل عمران 112
قوله تعالى " ضربت عليهم الذلة " يقول جعلت عليهم الجزية ويقال الذم عليهم القتال " أينما ثقفوا " أي وجدوا " إلا بحبل من الله " يعني بعهد من الله " وحبل من الناس " أي بعهد من الناس يعني تحت قوم يؤدون إليهم الجزية فإن لم يكن لهم عهد قتلوا " وباؤوا بغضب من الله " يقول استوجبوا الغضب من الله تعالى ويقال رجعوا بغضب من الله " وضربت عليهم المسكنة " يعني جعل عليهم زي الفقر فترى الرجل منهم غنيا وعليه من البؤس والفقر والمسكنة ويقال إنهم يظهرون من أنفسهم الفقر ويقال إنهم يظهرون من أنفسهم الفقر لكيلا تضاعف عليهم الجزية " ذلك " الذي يصيبهم " بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله " ومحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن " ويقتلون الأنبياء بغير حق " يعني رضوا بما فعل آباؤهم فكأنهم قتلوهم " ذلك " الغضب " بما عصوا " الله " وكانوا يعتدون " بأفعالهم فكلما ذكر الله عقوبة قوم في كتابه فبين المعنى الذي يعاقبهم لذلك لكيلا يظن أحد أنه عذبهم بغير جرم
سورة آل عمران 113 - 115
ثم بين فضيلة من آمن من أهل الكتاب على من لم يؤمن فقال تعالى " ليسوا سواء " قال بعضهم هذا معطوف على الأول " منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون " " ليسوا سواء " في الثواب فيكون هاهنا وقف وقال بعضهم هذا ابتداء ويكون فيه مضمر فكأنه يقول ليس من آمن منهم ويتلون آيات الله كمن هو كافر كقوله تعالى " أمن هو قانت ءانآء الليل ساجدا وقائما يحذر " الزمر 9 معناه ليس كالذي هو من أهل النار فكذلك هاهنا قال ليس من آمن " من أهل الكتاب " كمن لم يؤمن فبين الذين آمنوا فقال " من أهل الكتاب أمة قائمة " يعني مهدية عاملة بكتاب الله تعالى ويقال مستقيمة
وروى الزجاج عن الأخفش قال يعني ذا أمة قائمة يعني ذو طريقة قائمة " يتلون آيات الله " يعني القرآن في الصلاة " آناء الليل " يعني ساعات الليل " وهم يسجدون " أي يصلون لله تعالى(1/264)
265
قوله تعالى " يؤمنون بالله واليوم الآخر " يعني يقرون بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم " ويأمرون بالمعروف " يعني باتباعه " وينهون عن المنكر " يعني الشرك " ويسارعون في الخيرات " يعني يبادرون إلى الطاعات والأعمال الصالحة " وأولئك من الصالحين " أي مع الصالحين وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة
وقال تعالى " وما يفعلوا من خير فلن يكفروه " يعني لن تجحدوه ولن تنسوه يقول تجزون به وتثابون عليه في الآخرة وهذا كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال البر لا يبلى والإثم لا ينسى
ثم قال تعالى " والله عليم بالمتقين " يعني عليم بثوابهم وهم مؤمنو أهل الكتاب ومن كان بمثل حالهم قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " وما يفعلوا من خير فلن يكفروه " كلاهما بالياء والباقون كلاهما بالتاء على معنى المخاطبة
سورة آل عمران 116 - 117
قوله تعالى " إن الذين كفروا لن تغني عنهم " قال مقاتل ذكر قبل هذا مؤمني أهل الكتاب ثم ذكر كفار أهل الكتاب وهو قوله " إن الذين كفروا "
وأما الكلبي فقال هذا ابتداء " إن الذين كفروا لن تغني عنهم " كثرة " أموالهم ولا أولادهم من " عذاب " الله شيئا " وقال الضحاك يعني اليهود والنصارى وجميع الكفار وكل من خالف دين الإسلام وذلك أنهم تفاخروا بالأموال والأولاد وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين فأخبر الله تعالى أن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم من عذاب الله شيئا ثم قال " وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون "
ثم قال " كمثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا " قال الكلبي يعني ما ينفقون في غير طاعة الله " مثل ريح فيها صر " يعني برد شديد " أصابت " الريح الباردة " حرث قوم ظلموا أنفسهم " بمنع حق الله تعالى فيه " فأهلكته " يقول أحرقته فلم ينتفعوا منه بشيء فكذلك نفقة من أنفق في غير طاعة الله لا ينفعه في الآخرة كما لا ينفع هذا الزرع في الدنيا وقال مقاتل يعني نفقة السفلة على رؤساء اليهود وقال الضحاك مثل نفقة الكفار من أموالهم في أعيادهم وعلى أضيافهم وما يعطي بعضهم بعضا على الضلالة " كمثل ريح " الآية
ثم قال تعالى " وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون " يعني أصحاب الزرع هم ظلموا أنفسهم بمنع حق الله تعالى فكذلك الكفار أبطلوا ثواب أعمالهم بالشرك بالله تعالى(1/265)
266
سورة آل عمران 118 - 119
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " يعني خلة وصداقة من غير أهل دينكم وإنما سميت بطانة الثوب بطانة لقربها من البدن " من دونكم " يعني من دون المؤمنين
نزلت الآية في شأن جماعة الأنصار كانت بينهم وبين اليهود مواصلة وخاصية وكانوا على ذلك بعد الإسلام فنهاهم الله تعالى عن ذلك ويقال كل من كان على خلاف مذهبهم ودينهم لا ينبغي له أن يخادنه لأنه يقال في المثل
( عن المرء لا تسأل وأبصر قرينة % فإن القرين بالمقارن يقتدي )
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل وروي عن ابن عباس أنه قال اعتبروا الناس بأخدانهم
ثم بين الله المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال " لا يألونكم خبالا " يقول فسادا يعني لا يتركون الجهد في فسادكم يعني أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنهم لا يتركون جهدهم في المكر والخديعة " ودوا ما عنتم " يعني ما أثمتم بربكم وقال الزجاج الخبال في اللغة ذهاب الشيء والعنت في الأصل المشقة وقال القتبي الخبال الفساد وقال القتبي أيضا " ودوا ما عنتم " يعني ما أعنفتم وما نزل بكم من مكروه
ثم قال تعالى " قد بدت البغضاء " يعني ظهرت العداوة والتكذيب لكم
ثم قال " من أفواههم وما تخفي صدورهم " والذي في صدورهم من العداوة " أكبر " مما أظهروا بأفواهم ويقال " وما تخفي صدورهم أكبر " يعني قصدهم قتل محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا يضمرون ذلك " قد بينا لكم الآيات " يقول أخبرناكم بما أخفوا وبما أبدوا بالدلالات والعلامات " إن كنتم تعقلون " وتصدقون
ثم قال تعالى " ها أنتم أولاء " يعني ها أنتم يا هؤلاء " تحبونهم " لمظاهرتكم إياهم " ولا يحبونكم " لأنهم ليسوا على دينكم
وقال الضحاك معناه كيف تحبون الكفار وهم لا يحبونكم " وتؤمنون بالكتاب كله "(1/266)
267
يعني بالتوراة والإنجيل وسائر الكتب ولا يؤمنون بذلك كله وقد فضلكم الله عليهم بذلك لأنهم لا يؤمنون إلا بكتابهم
قوله تعالى " وإذا لقوكم " يعني المنافقين منهم " قالوا آمنا " بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول الله " وإذا خلوا " فيما بينهم " عضوا عليكم الأنامل " يعني أطراف الأصابع " من الغيظ " والحنق عليكم فيقول بعضهم لبعض ألا ترون إلى هؤلاء قد ظهروا وكثروا قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم " قل " لهم " موتوا بغيظكم " يقول موتوا بحنقكم يعني على وجه الدعاء والطرد واللعن لا على وجه الأمر والإيجاب لأنه لو كان على وجه الإيجاب لماتوا من ساعتهم كما قال في موضع آخر " فقال لهم الله موتوا " البقرة 243 فماتوا من ساعتهم فهاهنا لم يرد به الإيجاب
وقال الضحاك " قل موتوا بغيظكم " يعني أنكم تخرجون من الدنيا بهذه الحسرة والغيظ يعني اللفظ لفظ الأمر والمراد به الخبر يعني أنكم تموتون بغيظكم
ثم قال تعالى " إن الله عليم بذات الصدور " يعني بما في قلوبكم من العداوة للمؤمنين يعني إن الله يجازيكم بذلك
سورة آل عمران 120
ثم قال تعالى للمؤمنين " إن تمسسكم حسنة " يعني الظفر والغنيمة كما أصابكم يوم بدر " تسؤهم " يعني ساءهم ذلك " وإن تصبكم سيئة " يعني الهزيمة كما أصابكم يوم أحد ويقال الشدة في العيش والقحط " يفرحوا بها وإن تصبروا " على أذى المنافقين واليهود " وتتقوا " المعصية والشرك وهذا قول الكلبي
وقال مقاتل " وإن تصبروا " على أمر الله " وتتقوا " معاصية " ولا يضركم كيدهم شيئا " يقول عداوتهم شيئا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " لا يضركم " بكسر الضاد وجزم الراء وقرأ الباقون بضم الضاد وتشديد الراء ومعناهما قريب في التفسير يعني لا ضير عليكم من كيدهم
ثم قال تعالى " إن الله بما يعملون محيط " يعني أحاط علمه بأعمالهم والإحاطة هي إدراك الشيء بكماله
سورة آل عمران 121 - 122
قوله تعالى " وإذ غدوت من أهلك " يعني خرجت من منزلك بالصباح ويقال من(1/267)
268
عند أهلك وهي عائشة رضي الله عنها " تبوئ المؤمنين " يعني تهيئ للمؤمنين " مقاعد للقتال " يعني مواضع للحرب قال الكلبي يعني يوم أحد وقال مقاتل يعني يوم الخندق " والله سميع " لدعائك " عليم " بأمر الكفار
ثم قال تعالى " إذا همت طائفتان منكم " يعني أرادت وأضمرت طائفتان من المسلمين وهما حيان بني حارثة وبني مسلمة من الأنصار " أن تفشلا " يعني أن تجبنا عن القتال مع النبي صلى الله عليه وسلم وترجعا " والله وليهما " يعني ناصرهما " وحافظهما " يعني وحافظ قلوبهما حيث لم يرجعا لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم أحد من المدينة ومعه ألف رجل فرجع عبد الله بن أبي ابن سلول مع ثلاثمائة من المنافقين ومن تابعهم فدخل الفشل في قبيلتين من الأنصار وهم المؤمنون فأرادوا أن يرجعوا فحفظ الله قلوبهم فلم يرجعوا فذلك قوله " والله وليهما " يعني حافظ قلوبهما " وعلى الله فليتوكل كل المؤمنون " يعني على المؤمنين أن يتوكلوا على الله وهذه كلها منن ذكرها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ليعرف ويشكر الله تعالى ويصبر على ما يصيبه من الأذى
سورة آل عمران 123 - 125
ثم ذكرهم الله ببدر فقال تعالى " ولقد نصركم الله ببدر " يعني أعانكم الله يوم بدر " وأنتم أذلة " يعني قليلة " فاتقوا الله " يعني أعرفوا هذه النعمة واتقوا الله ولا تعصوه " لعلكم تشكرون " أي لكي تشكروا الله
قوله تعالى " إذ تقول للمؤمنين " يعني يوم أحد " ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين " من السماء يقول الله " بلى إن تصبروا " مع نبيكم " وتتقوا " معصيته بالهزيمة " ويأتوكم من فورهم هذا " يعني العدو يأتوكم من وجوههم و " يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " يعني معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الخيل وفي أذنابها عليهم البياض قد أرخوا أطراف العمائم بين أكتافهم فأنزل الله تعالى عليهم يوم بدر ثلاثة آلاف ووعدهم ليوم أحد بخمسة آلاف ولكنهم لما عصوا وتركوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعوا عنهم ولو أنهم صبروا لنزلت عليهم
قرأ عاصم وابن كثير وأبو عمرو " مسومين " بكسر الواو والباقون بالنصب ومعناهم قريب وهو إرخاء أطراف العمائم بين الأكتاف وهذا كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم بدر(1/268)
269
تسوموا فإن الملائكة قد تسومت
سورة آل عمران 126
ثم قال تعالى " وما جعله الله إلا بشرى لكم " يعني المدد من الملائكة قال بعضهم إن الملائكة لم تقاتل ولكن إنما بعثهم للبشارة ولتسكين قلوب المؤمنين لأن في قتال الملائكة لم يكن للمؤمنين فضيلة وإنما كانت الفضيلة للمؤمنين إذ كانوا هم الذين يقاتلون ويهزمون الكفار ولو كان ذلك لأجل الإعانة لكان ملك واحد يكفيهم كما فعل بقوم لوط ألا ترى أنه قال " ويقللكم في أعينهم " الأنفال 44 فجعل الفضيلة في قلتهم في أعين الكفار ونصرتهم بالغلبة وهذا معنى قوله " وما جعله الله إلا بشرى لكم "
" ولتطمئن قلوبكم به " يعني لتسكن به قلوبكم وقال بعضهم الملائكة كانوا يقاتلون وكانت علامة ضربهم في الكفار ظاهرة لأن كل موضع أصابت ضربتهم اشتعلت النار في ذلك الموضع حتى إن أبا جهل قال لابن مسعود أنت ما قتلتني إنما قتلني الذي لم يصل سناني إلى سنبك فرسه وإن اجتهدت وإنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة لتسكن قلوب المؤمنين ولأن الله تعالى جعل أولئك الملائكة مجاهدين إلى يوم القيامة وكل عسكر من المسلمين صبروا واحتسبوا تأتيهم تلك الملائكة ويقاتلون معهم ويقال الفائدة في كثرة الملائكة أنهم كانوا يدعون ويسبحون وثواب ذلك للذين يقاتلون يومئذ وسنذكر قصة بدر في سورة الأنفال إن شاء الله تعالى
ثم قال " وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم " يعني ليس بكثرة العدد ولا بقلته ولكن النصر من الله تعالى كما قال في آية أخرى " إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا " التوبة 25
سورة آل عمران 127
ثم قال تعالى " ليقطع طرفا من الذين كفروا " يعني أرسل الملائكة ونصر المؤمنين لكي يقطع طرفا أي يستأصل جماعة من الذين كفروا " أو يكبتهم " قال الكلبي أي يهزمهم وقال مقاتل يعني يخزيهم كقوله " كبتوا كما كبت الذين من قبلهم " المجادلة 5 ويقال يغيظهم " فينقلبوا " إلى مكة " خائبين " لم يصيبوا ظفرا ولا خيرا وقد قتل منهم سبعون وأسر سبعون ويقال معناه وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وليقطع طرفا من الذين كفروا(1/269)
270
سورة آل عمران 128
قوله تعالى " ليس لك من الأمر شيء " روى جويبر عن الضحاك قال لما كان يوم أحد كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم وأدمي ساقه وقتل سبعون رجلا من الصحابة فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو على المشركين فأنزل الله تعالى " ليس لك من الأمر شيء " يعني ليس لك من الحكم شيء " أو يتوب عليهم " يعني كفار قريش يهديهم إلى الإسلام وقال الكلبي فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلعن الذين انهزموا من الصحابة يوم أحد فنزل " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم " يعني الذين انهزموا " أو يعذبهم فإنهم ظالمون " قال فلما نزلت هذه الآية كف ولم يلعن المشركين لأنه سيؤمن كثير منهم وقد آمن كثير منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم
قال مقاتل كان سبعون رجلا من أصحاب الصفة خرجوا إلى الغزو محتسبين فقتل السبعون جميعا فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فدعا الله تعالى عليهم أربعين يوما في صلاة الغداة فأنزل الله قوله تعالى " ليس لك من الأمر شيء " ويقال معنى قوله " أو يتوب عليهم " حتى يتوب عليهم " أو يعذبهم " إن لم يكونوا من أهل التوبة
سورة آل عمران 129
ثم عظم نفسه فقال " ولله ما في السموات وما في الأرض " يعني جميع الخلق في ملكه وعبيدة " يغفر لمن يشاء " وقال الضحاك يغفر لمن يشاء الذنب العظيم " ويعذب من يشاء " على الذنب الصغير يعني إذا أصر على ذلك " والله غفور رحيم " في تأخير العذاب عنهم حيث لم يعاقبهم قبل توبتهم
سورة آل عمران 130 - 131
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة " قال الزجاج يعني لا تضاعفوا أموالكم بالربا وقال القتبي هو ما يضاعف منها شيء بعد شيء ويقال " أضعافا " عند البيع يبيعه بأكثر من قيمته مضاعفة بعد العقد أن يزيده في الأجل ويزيد في المال ويقال المضاعفة هي نعت الأضعاف كما قال تعالى " حلالا طيبا " البقرة 168 وغيرها والطيب هو نعت الحلال
ثم قال تعالى " واتقوا الله " أي في الربا فلا تستحلوه " لعلكم تفلحون " لكي تنجوا من العذاب ثم خوفهم فقال " واتقوا النار التي أعدت للكافرين " يعني خلقت وهيئت للكافرين وقالت المعتزلة من أتى بالكبيرة ومات عليها فإنه يخلد في النار كالكفار لأنه وعد لأكل الربا(1/270)
271
النار كما وعد الكفار وقال أكثر أهل العلم والتفسير هذا الوعيد لمن استحل الربا ومن استحل الربا فإنه يكفر ويصير إلى النار ويقال معناه اتقوا العمل الذي ينزع منكم الإيمان فتستوجبون النار لأن من الذنوب ما يستوجب به نزع الإيمان ويخاف عليه فمن ذلك عقوق الوالدين وقد جاء في ذلك أثر أن رجلا كان عاقا لوالدته يقال له علقمة فقيل له عند الموت قل لا إله إلا الله فلم يقدر على ذلك حتى جاءت أمه فرضيت عنه ومن ذلك قطيعة الرحم وأكل الربا والخيانة في الأمانة وذكر أبو بكر الوراق عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال أكبر ما في الذنوب التي ينزع الإيمان من العبد عند الموت ثم قال أبو بكر فنظرنا في الذنب الذي ينزع الإيمان فلم نجد شيئا أسرع نزعا للإيمان من ظلم العباد
سورة آل عمران 132 - 133
ثم قال تعالى " وأطيعوا الله والرسول " يعني أطيعوا الله في الفرائض والرسول في السنن ويقال " وأطيعوا الله " في تحريم الربا " والرسول " فيما بلغكم من تحريم الربا " لعلكم ترحمون " ولا تعذبون
قوله تعالى " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم " قرأ نافع ومن تابعه من أهل المدينة وابن عامر ومن تابعه من أهل الشام " سارعوا " بغير الواو على معنى الابتداء وقرأ الباقون " وسارعوا " بالواو على معنى العطف قال الكلبي معناه وسارعوا إلى التوبة من الربا وقال مقاتل وسارعوا إلى الأعمال الصالحة التي هي مغفرة لذنوبكم وإلى الجنة وقال الضحاك يعني سارعوا إلى النجاء الأكبر إلى الصف المقدم في الصلاة وإلى الصف المقدم في القتال ويقال " وسارعوا " حتى لا تفوتكم تكبيرة الافتتاح
ثم قال تعالى " وجنة عرضها السموات والأرض " قال القتبي يعني سعتها ولم يرد به العرض الذي هو خلاف الطول والعرب تقول بلاد عريضة أي واسعة ويقال عرض الجنة كعرض سبع سموات وكعرض سبع أرضين لو ألزق بعضها إلى بعض وإنما ذكر العرض ولم يذكر الطول لأن طولها لا يعرف ولا يدرك وقال الكلبي الجنان أربع جنة عدن وهي الدرجة العليا وجنة المأوى وجنة الفردوس وجنة النعيم كل جنة منها كعرض السموات والأرض لو وصل بعضها إلى بعض ويقال لم يرد بهذا التقدير ولكنه أراد بذلك أنها أوسع شيء رأيتموه وقال السدي لو كسرت السموات والأرض وصرن خردلا فبكل خردلة لله جنة عرضها كعرض السموات والأرض
حدثنا محمد بن داود قال حدثنا أحمد بن يحيى قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال(1/271)
272
حدثنا يعقوب عن أبي حازم قال أخبرني سهل بن سعد قال إن أدنى أهل الجنة يقال له تمن فيقول أعطني كذا وأعطني كذا حتى إذا لم يجد شيئا يتمنى لقن فيقال له قل كذا قل كذا فيقول له لك ذلك ومثله وفي رواية أبي سعيد الخدري لك هذه وعشرة أمثالها معها
ثم قال تعالى " أعدت للمتقين " يعني الجنة
سورة آل عمران 134
ثم نعت المتقين فقال " الذين ينفقون في السراء والضراء " إلى آخر الآية نعت للمتقين ويقال إن كل نعت من ذلك هو نعت على حدة فكأنه يقول أعدت للمتقين للذين " ينفقون من السراء " إلى آخر الآية
قوله " في السراء والضراء " يعني ينفقون أموالهم في حال اليسر وفي حال العسر وهذا قول الكلبي وقال مقاتل والضحاك في حال السعة والشدة ويقال في الصحة والمرض ويقال " في السراء " يعني في حال الحياة وفي " الضراء " يعني بعد الموت ويقال في سراء المسلمين في عرسهم وولائمهم والضراء في نوائبهم ومآتمهم ويقال " في السراء " يعني النفقة التي تسركم مثل النفقة على الأولاد والأقربين " والضراء " النفقة على الأعداء والكاشحين ويقال " في السراء " يعني على الأغنياء يضيفهم ويهدي إليهم " والضراء " يعني على أهل الضر يتصدق عليهم
وقال " والكاظمين الغيظ " يعني المرددين الغيظ في أجوافهم وأصله في اللغة كظم البعير إذا ردد جرته ومعناه الذين إذا أصابهم الغيظ تجاوزوا ولم يعاقبوا
ثم قال تعالى " والعافين عن الناس " قال الكلبي يعني عن المملوكين ويقال " والعافين عن الناس " بعد قدرتهم عليهم فيعفو عنهم " والله يحب المحسنين " من الأحرار والمملوكين ويقال الذين يحسنون بعد العفو ويزيدون عليه إحسانا وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من كظم غيظا وهو يقدر على أن ينفذه ثم لم ينفذه زوجه الله من الحور العين حيث يشاء وفي خبر آخر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ما عفا رجل عن مظلمة قط إلا زاده الله بها عزا(1/272)
273
سورة آل عمران 135 - 136
قوله تعالى " والذين إذا فعلوا فاحشة " نزلت في شأن رجل تمار جاءت امرأة تشتري منه تمرا فأدخلها في حانوته وقبلها ثم ندم على ذلك فنزلت هذه الآية ويقال نزلت هذه الآية في رجل مس امرأة أخيه في الله وكان أخوه خرج غازيا ثم ندم وتاب ويقال إنها نزلت في شأن بهلول النباش تاب عن صنيعه فنزلت هذه الآية فقال تعالى " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم " يعني القبلة واللمس ويقال الفاحشة كل فعل يستوجب به الحد في الدنيا " أو ظلموا أنفسهم " ما دون ذلك ويقال الفاحشة ما استوجب به النار " أو ظلموا أنفسهم " ما استوجب به الحساب والحبس وقال إبراهيم النخعي الظلم هاهنا تفسير الفاحشة فكأنه يقول " والذين إذا فعلوا فاحشة وظلموا أنفسهم " ثم قال " ذكروا الله " يعني خافوا الله ويقال ذكروا مقامهم بين يدي الله ويقال ذكروا عذاب الله " فاستغفروا لذنوبهم " يعني الاستغفار باللسان والندامة بالقلب ويقال الاستغفار باللسان بغير ندامة للقلب توبة الكذابين وروي عن الحسن البصري أنه قال استغفارنا يحتاج إلى الاستغفار الكثير
ثم قال تعالى " ومن يغفر الذنوب إلا الله " يعني لا يغفر الذنوب إلا الله " ولم يصروا على ما فعلوا " يعني لم يقيموا على ما فعلوا من المعصية " وهم يعلمون " أنها معصية فلا يرجعون ويقال في الآية تقديم وتأخير فكأنه يقول والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله " أولئك " يعني أهل هذه الصفة " جزاؤهم " يعني ثوابهم " مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين " يعني نعم ثواب العاملين الجنة وهو قول الكلبي وقال مقاتل نعم ثواب التائبين من الذنوب الجنة
سورة آل عمران 137
قوله تعالى " وقد خلت من قبلكم سنن " يعني قد مضت لكل أمة سنة ومنهاج فإذا اتبعوها رضي الله عنهم قال الكلبي قد مضت لكل أمة سننه بالهلاك فيمن كان قبلكم " فانظروا " أي فاعتبروا " كيف كان جزاء المكذبين " أي جزاء المكذبين وقال مقاتل نحو هذا وقال يخوف الله هذه الأمة بمثل عذاب الأمم الخالية وقال السدي " فسيروا في الأرض " يعني أقرؤوا القرآن " فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين " لأن من لم يسافر فإنه لا(1/273)
274
يعرف ذلك وأما من قرأ القرآن فإنه يعرف ذلك وقال الحسن اقرؤوا القرآن وتدبروا فيه فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين
سورة آل عمران 138 - 140
ثم قال تعالى " هذا بيان للناس " يعني القرآن بيان للناس من الضلالة " وهدى " من العمى " وموعظة " من الجهل ويقال " هدى وموعظة " أي كرامة ورحمة للمتقين " ولا تهنوا " يعني ولا تضعفوا وقيل ولا تجبنوا ويقال ولا تعجزوا عن عدوكم
ثم قال " ولا تحزنوا " وقيل يعني على ما أصابكم يوم أحد من القتل والهزيمة " وأنتم الأعلون " يعني الغالبون يقول آخر الأمر لكم ويقال " وأنتم الأعلون " في الحجة ويقال هذا وعد لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في المستأنف " وأنتم الأعلون " يعني الغالبون على الأعداء بعد أحد فلم يخرجوا بعد ذلك في عسكر إلا ظفروا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كل عسكر كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان فيه واحد من الصحابة كان الظفر لهم فهذه البلدان كلها إنما فتحت في عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعد انقراضهم ما فتحت بلدة على الوجه كما كانوا يفتحون في ذلك الوقت ويقال في هذه الآية بيان فضل هذه الأمة لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه لأنه قال لموسى عليه الصلاة والسلام " إنك أنت الأعلى " طه 68 وقال لهذه الأمة " وأنتم الأعلون " ويقال أشتقت هذه اللفظة من اسم الله تعالى لأن اسمه العلي الأعلى وقال للمؤمنين " وأنتم الأعلون "
ثم قال تعالى " إن كنتم مؤمنين " يعني إن كنتم مصدقين بوعد الله ويقال معناه إذ كنتم مؤمنين ويقال في الآية تقديم وتأخير فكأنه قال ولا تهنوا ولا تحزنوا إن كنتم مؤمنين وأنتم الأعلون
ويقال هذا وعد لهم بأنهم غالبون إن ثبتوا وصدقوا فلو أنهم ثبتوا وصدقوا لغلبوا كما غلبوا يوم بدر ولكنهم تركوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع الأمر عليهم وكانت القصة في ذلك أنهم لما غلبوا المشركين يوم بدر وأصابوا منهم ما أصابوا وسنذكر في سورة الأنفال قصة بدر إن شاء الله تعالى فرجع أبو سفيان بن حرب بالعير إلى مكة وانهزم المشركون وذهب عكرمة بن أبي جهل ورجال أصيب أبناؤهم وآباؤهم وإخوانهم ببدر إلى أبي سفيان بن حرب وهو رئيس مكة فكلموه وأتاه كل من كان له في ذلك العير مال فقالوا إن محمدا قد قتل خياركم فاستعينوا بهذا المال على حربه ففعلوا قال الضحاك قد أعانهم أبو سفيان بمائة(1/274)
275
راحلة وما يصلحها من السلاح والزاد فسارت قريش وهم ثلاثة آلاف رجل وعليهم أبو سفيان بن حرب وكان في القوم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وذلك قبل دخولهم في الإسلام فلم يبق أحد من قريش إلا وقد خرج أهله معه وولده يجعلهم خلف ظهره ليقاتل عنهم فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال إني رأيت فيما يرى النائم كأن في سيفي ثلمة فأولتها مصيبة في نفسي ورأيت بقورا قد ذبحت فأولتها قتلى في أصحابي ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فأشيروا علي ما ترون وكره الخروج إليهم وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لا يخرج ولكنه كان منافقا فقال يا رسول الله لا تخرج إليهم فإنا ما خرجنا إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخل علينا إلا أصبنا منه فقال رجال من المسلمين ممن أكرمهم الله بالشهادة وغيرهم ممن فاتته بدر اخرج يا رسول الله لكي لا يرى أعداء الله أنا قد جبنا لهم أو ضعفنا عنهم فلم يزالوا به حتى دخل ولبس لأمته ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وقد خرج الناس فقالوا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله قد استكرهناك وما كان لنا ذلك فإن شئت فاخرج وإن شئت فاقعد فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما ينبغي لنبي أن يضع سلاحه إذا لبسه حتى يقاتل فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار إلى أحد فانخذل عبد الله بن أبي ابن سلول قال في رواية الكلبي فرجع معه ثلث الناس وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو سبعمائة رجل وقال في رواية الضحاك فانخذل في ستمائة رجل من اليهود وبقي مع النبي صلى الله عليه وسلم ألف رجل من المؤمنين الطيبين ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالشعب من أحد وأمر عبد الله بن جبير على الرماة وقال لهم لا تبرحوا عن هذا الموضع واثبتوا هاهنا إن كان الأمر علينا أو لنا وقال في رواية الكلبي كان الرماة خمسين رجلا وقال في رواية الضحاك كانوا سبعين رجلا فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره إلى أحد ودنا المشركون وأخذوا في الحرب وقامت هند امرأة أبي سفيان وصواحبتها حين حميت الحرب يضربن بالدفوف خلف قريش ويقلن
( نحن بنات طارق % نمشي على النمارق )
( إن تقبلوا نعانق % أو تدبروا نفارق )
( المسك في المفارق % والدر في المخانق )
( فراق غير وامق % )
فقاتل أبو دجانة في نفر من المسلمين قتالا شديدا وقاتل علي بن أبي طالب حتى التوى سيفه وقاتل سعد بن أبي وقاص وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لسعد ارم فداك أبي وأمي فقتلوا(1/275)
276
جماعة من المشركين وصدقهم الله وعده وأنزل نصره حتى كانت هزيمة القوم لا شك فيها وكشفوهم عن معسكرهم قال الزبير رأيت هندا وصواحبتها هوارب فلما نظر الرماة إلى القوم قد انهزموا أقبلوا على النهب فقال لهم عبد الله بن جبير لا تبرحوا عن هذا الموضع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إليكم فلم يلتفتوا إلى قوله وظنوا أن المشركين قد انهزموا فبقي عبد الله بن جبير مع ثمانية نفر فخرج خالد بن الوليد مع خمسين ومائتي فارس من قبل الشعب وقتلوا من بقي من الرماة ودخلوا خلف أقفية المسلمين وتفرق المسلمون ورجع المشركون وحملوا حملة واحدة فصار المسلمون ثلاثة أنواع بعضهم جريح وبعضهم قتيل وبعضهم منهزم
وكان مصعب بن عمير يذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل دونه ثم قام زياد بن السكن فقاتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل وخلص الحرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقذف بالحجارة حتى وقع بشفتيه وأصيبت رباعيته وكلمت شفته وأدمي ساقه فقال سفيان بن عيينة لقد أصيب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثلاثين رجلا كلهم جثوا بين يدي رسول الله أو قال يتقدم بين يديه ثم يقول وجهي لوجهك الوقاء ونفسي لنفسك الفداء وعليك سلام الله غير مودع فرجع الذي قتل مصعب بن عمير فظن أنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للمشركين قتلت محمدا فصرخ صارخ ألا إن محمدا قد قتل ويقال كان ذلك إبليس لعنه الله فولى المسلمون هاربين متحيرين وجاء إبليس لعنه الله ونادى في المدينة ألا إن محمدا قد قتل وأخذت النسوة في البكاء في البيوت فأقبل أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من الم هاجرين والأنصار فقال لهم ما يحبسكم قالوا قتل محمد فقال ما تصنعون بالحياة بعده موتوا كراما على ما مات عليه نبيكم صلى الله عليه وسلم ثم أقبل نحو العدو فقاتل حتى قتل
قال كعب بن مالك فأول من كنت عرفت من المسلمين عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت عينية من تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إلي بأن أسكت وقال أنس بن مالك قد شج وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل الدم يسيل على وجهه وهو يمسح الدم ويقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم ويقال إن أصحابه لما اجتمعوا قالوا يا رسول الله لو دعوت الله على هؤلاء الذين صنعوا بك فقال صلى الله عليه وسلم لم أبعث طعانا ولا لعانا ولكن بعثت داعيا ورحمة اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون فجاءه أبيبن خلف الجمحي وهو يقول يا محمد لا نجوت إن نجوت مني فهم
المسلمون به فقال لهم دعوه حتى دنا منه فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربه من الحارث بن الصمة ورماه به فخدشه في عنقه خدشا غير كبير وقد كان قبل ذلك لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وقال عندي فرس أعلفه كل يوم فرق ذرة أقتلك عليه فقال له رسول(1/276)
277
الله صلى الله عليه وسلم بل أنا أقتلك عليه إن شاء الله فلما خدشه رسول الله صلى الله عليه وسلم في عنقه رجع إلى قريش وهو يقول قتلني محمد فقالوا له ما بك من طعن فقال بلى لقد قال لي أنا أقتلك والله لو بصق علي بعد تلك المقالة لقتلني فمات قبل إن يصل إلى مكة في الطريق
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا عند أحد وقد اجتمع إليه بعض أصحابه فعلت عليه من قريش في الجبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينبغي لهم أن يعلونا فأقبل عمر ورهط من المهاجرين فقاتلوهم حتى أهبطوهم من الجبل وقد كان جبير بن مطعم قال لمملوك له يقال له وحشي إن أنت قتلت محمدا جعلت لك أعنة الخيل وإن أنت قتلت علي بن أبي طالب جعلت لك مائة ناقة كلها سود الحدقة وإن أنت قتلت حمزة فأنت حر فقال وحشي أما محمد فعليه حافظ من الله لا يخلص إليه أحد وأما علي فما برز إليه رجل إلا قتله وأما حمزة فرجل شجاع فعسى أن أصادفه في غرته فاقتله مكانه وكانت هند كلما مر بها وحشي أو مرت به قالت له أيها أبا دسمه اشف واستشف فكمن وحشي خلف صخرة وكان حمزة قد حمل على قوة من المشركين فلما رجع من حملته مر بوحشي وهو خلف الصخرة فزرقه بالمزراق فأصابه فسقط فذهبت هند ابنة عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى يجدعن الآذان والأنوف وشقت هند بطن حمزة وأخذت كبده ومضغته ثم صعدت هند على صخرة وهي تنادي بأعلى صوتها نحن جزيناكم بيوم بدر وأقبل أبو سفيان وهو يصرخ بأعلى صوته اعل هبل يوما بيوم بدر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر أجبه يا عمر فأجابه عمر الله أعلى وأجل لا سواه قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار
ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم بغلته وظاهر بين درعيه وأخرج يده من جيب الدرع وسل سيفه ذا الفقار وباشر القتال بنفسه وحمل على المشركين والتأم إليه المسلمون فاعانوه وهزم الله جمع المشركين وقتل يومئذ من المسلمين سبعون رجلا أربعة نفر من المهاجرين وستة وستون من الأنصار وقتل يومئذ من المشركين تسعة عشر رجلا أو أكثر وكثرت القروح في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعزاهم الله تعالى في ذلك بقوله تعالى " إن يمسسكم قرح " قرأ عاصم في رواية أبي بكر والكسائي وحمزة " قرح " بضم القاف والباقون بالنصب قال الفراء القرح والقرح واحد ويقال " القرح " بالنصب مصدر و " القرح " بالضم اسم ويقال القرح بالنصب الجراحة بعينها والقرح بالضم ألم الجراحة يعني أصابتكم الجراحات يوم أحد " فقد مس القوم قرح مثله " يقول قد أصاب المشركين جراحات مثلها يوم بدر " وتلك الأيام نداولها بين الناس " يقول يوم لكم ويوم عليكم وهذا كما يقال في الأمثال الأيام دول والحرب سجال
ثم بين المعنى
الذي يداول مرة لهم ومرة عليهم فقال تعالى " وليعلم الله الذين آمنوا " يعني يبين المؤمن من المنافق أنهم يشكون في دينهم أم لا لأن المؤمن المخلص يتبين حاله(1/277)
278
عند الشدة والبلايا وهذا كما روي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه الذهب والفضة يختبران بالنار والمؤمن يختبر بالبلايا والاختبار من الله تعالى إظهار ما علم منه من قبل فذلك قوله تعالى " وليعلم الله الذين آمنوا " يعني ليبين الله الذين يعلم إيمانهم لأنه يعطى الثواب بما يظهر منه لا بما يعلم منه وكذلك العقوبة ألا ترى أنه علم من إبليس المعصية في المستأنف ثم لم يلعنه ما لم يظهر منه
ثم قال تعالى " ويتخذ منكم شهداء " يعني لكي يتخذ منكم شهداء وإنما كان لأجل ذلك لا لأجل حب الكفار " والله لا يحب الظالمين " أي الجاحدين
سورة آل عمران 141
قوله تعالى " وليمحص الله الذين آمنوا " يعني لكي يطهر المؤمنين ويكفر ذنوبهم والتمحيص في اللغة الاختبار والتطهير والله بين أنه يداول الأيام بين الناس لكي يظهر المؤمن من المنافق ويكرم بعض المؤمنين بالشهادة لينالوا ثواب الشهداء وقد ذكر ثوابهم بعد هذا في هذه السورة وليكفر ذنوبهم
ثم قال " ويمحق الكافرين " يعني يهلكهم ويستأصلهم لأنهم يجترئون فيخرجون مرة أخرى فيستأصلهم
سورة آل عمران 142 - 143
قوله تعالى " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة " قال مقاتل بين للمؤمنين أنه نازل بهم الشدة والبلاء في ذات الله لكي يصبروا ويحتسبوا فقال " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة " يقول أظننتم أن تدخلوا الجنة بغير شيء قبل أن تصيبكم الشدة في ذات الله فذلك قوله تعالى " ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم " قال مقاتل أي ولما يرى الله الذين جاهدوا منكم ويقال ولما يظهر جهاد الذين جاهدوا منكم " ويعلم الصابرين " الذين يصبرون عند البلاء ويقال ويعلم الصابرين الكارين أي غير الفارين عن القتال
ثم قال تعالى " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه " وذلك أنه لما وصف لهم الله تعالى بما نزل بشهداء بدر من الكرامة فقالوا ليتنا نجد قتالا فنقتل في ذلك لكي نصيب مثل ما أصابوا فلما لقوا القتال يوم أحد هربوا فعاتبهم الله بقوله " ولقد كنتم تمنون الموت " يعني القتال والشهادة من قبل أن تلقوه " فقد رأيتموه " يوم أحد " وأنتم تنظرون " إلى السيوف فيها الموت وقال الزجاج معناه " ولقد كنتم تمنون " القتال لأن القتال سبب الموت " فقد رأيتموه " يعني وأنتم بصراء كقولك رأيت كذا وكذا ولم يكن في عينيك علة ويقال(1/278)
287
" وأنتم تنظرون " إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقال القتبي " قد رأيتموه " يعني أسبابه وهو السيف
سورة آل عمران 144
ثم قال تعالى " وما محمد إلا رسول " لأنهم هربوا حين سمعوا بقتله فقال تعالى " وما محمد إلا رسول " كسائر الرسل " قد خلت من قبله الرسل " يعني مثله " أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " يعني رجعتم إلى دينكم الشرك " ومن ينقلب على عقبيه " يعني يرجع إلى الشرك بعد الإسلام " فلن يضر الله شيئا " يقول لن ينتقص من ملكه وسلطانه شيء وإنما يضر نفسه " وسيجزي الله الشاكرين " يعني الموحدين الله في الآخرة الجنة ويقال " وسيجزي الله " المؤمنين المجاهدين الجنة
سورة آل عمران 145 - 148
ثم قال تعالى " وما كان لنفس أن تموت " يعني قبل أجلها " إلا بإذن الله كتابا مؤجلا " يقول في موتها كتابا مؤجلا في اللوح المحفوظ فلا يسبق أجله وقال الزجاج قوله " كتابا مؤجلا " أي كتب كتابا ذا أجل وهو الوقت المعلوم وذكر الكتاب على معنى التأكيد وفي هذه الآية إبطال قول المعتزلة لأنهم يقولون إن من قتل فإنما يهلك قبل أجله وكل ما ذبح من الحيوان كان هالكا قبل أجله لا يجب على القاتل القصاص والدية في الأدمي والضمان في الحيوان ولو كان بأجل لما وجب شيء بقتله وقلنا قد بين الله تعالى في هذه الآية أنه لا تهلك نفس قبل أجلها
ثم قال تعالى " ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها " قال الكلبي يعني يريد ثواب الدنيا بالعمل الذي افترض الله عليه " نؤته منها " يعني نعطه ما أحب فيها وما له في الآخرة من نصيب " ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين " في الآخرة ومعناه أن عمله للرياء لا يكون له في الآخرة ثواب ومن الناس من قال إن الرياء يدخل في النوافل ولا يدخل في الفرائض لأن الفرائض واجبة على جميع الناس وقال بعضهم يدخل في الفرائض ولا يدخل في النوافل لأنه لو لم يأت بها لا يؤاخذ بها فإذا أتى بهذا القدر ليس عليه غير(1/279)
280
ذلك وقال بعضهم كلاهما سواء فالرياء يدخل في الفرائض والنوافل جميعا وهذا القول أصح لقوله تعالى " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس " النساء142
ثم إن الله تعالى أخبرهم بما لقيت الأنبياء والمؤمنون قبلهم فيعيزيهم ليصبروا فقال تعالى سبحانه " وكأين من نبي قاتل معه " قرأ ابن كثير " وكأين " بمد الألف والهمزة وقرأ الباقون " كأين " بغير مد وفتح الهمزة وباء مكسورة مشددة ومعناهما واحد " كأين " للتكثير وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو " وكأين من نبي قتل " بضم القاف وكسر التاء وقرأ الباقون " قاتل " فمن قرأ " قاتل " فمعناه كم من نبي قاتل معه جموع كثيرة ومن قرأ " قتل " معناه وكم من نبي قتل وقتل " معه " جماعة كثيرة
وقوله تعالى " ربيون كثير " قال الكلبي الربية الواحد عشرة آلاف وقال الزجاج هاهنا قراءتان " ربيون " بضم الراء " وربيون " بالكسر أما بالضم الجماعة الكثيرة ويقال عشرة آلاف وأما الربيون بالكسر العلماء الأتقياء الصبراء على ما يصيبهم في الله ويقال وكأين من نبي قتل يعني كم من نبي قتل وكان معه ربيون كثير " فما وهنوا " بعد قتله عن القتال وما عجزوا بما نزل بهم من قتل أنبيائهم وأنفسهم " لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا " لعدوهم ويقال وما جبنوا
ثم قال تعالى " وما استكانوا " يقول وما خضعوا لعدوهم ولكنهم صبروا " والله يحب الصابرين " فكأنه يقول للمؤمنين فهلا قاتلتم مع نبيكم صلى الله عليه وسلم وبعد قتله وإن قتل كما قاتلت القرون الماضية من قبلكم إذا أصيبت أنبياؤهم
ثم أخبر عن قول الذين قاتلوا مع النبيين فقال تعالى " وما كان قولهم " عند قتل أنبيائهم " إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا " أي دون الكبائر " وإسرافنا في أمرنا " العظام من الذنوب " وثبت أقدامنا " عند القتال " وانصرنا على القوم الكافرين " معناه هلا قلتم كما قالوا وقاتلتم كما قاتلوا وقرأ بعضهم " وما كان قولهم " بالضم والمعنى في ذلك أنه جعل القول اسم كان فيكون معناه وما كان قولهم إلا قولهم ربنا اغفر لنا ومن قرأ بالنصب جعل القول خبر كان وجعل الاسم ما بعده
قوله تعالى " فآتاهم " بما قالوا يقول أعطاهم الله " ثواب الدنيا " بالغنيمة والنصرة " وحسن ثواب الآخرة " أي الجنة " والله يحب المحسنين " المؤمنين المجاهدين
سورة آل عمران 149 - 150
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا " يعني المنافقين " يردوكم على أعقابكم " كفارا بعد الإيمان " فتنقلبوا خاسرين " إلى دينكم الأول " بل الله مولاكم " يقول(1/280)
281
أطيعوا الله فيما يأمركم هو مولاكم يعني وليكم وناصركم " وهو خير الناصرين " أي المانعين من كفار مكة
سورة آل عمران 151
قوله تعالى " سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب " قرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع وعاصم وحمزة " الرعب " بتسكين العين وقرا ابن عامر والكسائي " الرعب " بضم العين وأصله الضم إلا أنه إذا اجتمع ضمتان حذفت إحداهما عند من قرأ بالجزم ومعنى الآية سنلقي الهيبة في قلوب المشركين وذلك بعد هزيمة المؤمنين قذف الله تعالى في قلوب الذين كفروا الرعب فانهزموا إلى مكة ويقال حين صعد خالد بن الوليد الجبل قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد منهزما ويقال عنى به يوم الأحزاب ألقي في قلوبهم الرعب فانهزموا " بما اشركوا بالله " يعني بأنهم اشركوا بالله " ما لم ينزل به سلطانا " يعني كتابا فيه عذر وحجة لهم بالشرك " ومأواهم النار " يعني مصيرهم إلى النار في الآخرة " وبئس مثوى الظالمين " يعني وبئس مثوى المشركين النار
سورة آل عمران 152 - 154
قوله تعالى " ولقد صدقكم الله وعده " وذلك أنهم لما أخذوا في الحرب انهزم المشركون فلما أخذ بعض المسلمين في النهب والغارة رجع الأمر عليهم وانهزم المسلمون فذلك قوله " ولقد صدقكم الله وعده " " إذ تحسونهم بإذنه " يقول تقتلونهم بأمره وقال(1/281)
282
القتبي " تحسونهم " يعني تستأصلونهم بالقتل يقال جراد محسوس إذا قتله البرد
قوله تعالى " حتى إذا فشلتم وتنازعتم " يعني جبنتم من عدوكم واختلفتم في الأمر " وعصيتم " أمر الرسول " من بعد ما أراكم ما تحبون " يعني أراكم الله " ما تحبون " من النصرة على عدوكم وهزيمة الكفار والغنيمة
ثم قال تعالى " منكم من يريد الدنيا " يعني يطلب الغنيمة " ومنكم من يريد الآخرة " وهم الذين ثبتوا عند المشركين حتى قتلوا وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال كنا لا نعرف أن أحدا يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية فعلمنا أن فينا من يريد الدنيا " ثم صرفكم عنهم " بالهزيمة من بعد أن أظفركم عليهم " ليبتليكم " بمعصية الرسول بالقتل والهزيمة " ولقد عفا " الله " عنكم " ولم يعاقبكم عند ذلك فلم تقتلوا جميعا " والله ذو فضل " في عفوه وإنعامه " على المؤمنين " بالعفو والإنعام
قوله تعالى " إذ تصعدون " يعني إلى الجبل هاربين حيث صعدوا الجبل منهزمين من العدو وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم يا معشر المسلمين أنا رسول الله فلم يلتفت إليه أحد حتى أتوا على الجبل فذلك قوله تعالى " إذ تصعدون " يعني الجبل وهذا قول الكلبي وقال الضحاك " إذ تصعدون " في الوادي منهزمين وقال القتبي يعني تبعدون في الهزيمة في الوادي يقال أصعد في الجبل إذا أمرع في الهزيمة وقرأ الحسن " تصعدون " بنصب التاء أي تصعدون الجبل وقرأ العامة بضم التاء
ثم قال تعالى " ولا تلوون على أحد " يقول ولا تقيمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال لا يقيم بعضكم على بعض " والرسول يدعوكم في أخراكم " يقول من خلفكم " فأثابكم غما بغم " يقول جعل ثوابكم غما على غم ويقال غما متصلا بالغم فأما الغم الأول فإشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين وهم في ذلك الجبل وهذا قول الكلبي وقال مقاتل الغم الأول ما فاتهم من الفتح والغنيمة فاجتمعوا وكانوا يذكرون فيما بينهم ما أصابهم في ذلك اليوم والغم الثاني إذ صعد خالد بن الوليد فلما عاينوه أذعرهم ذلك أي خوفهم ذلك فأنساهم ما كانوا فيه من الحزن فذلك قوله تعالى " لكيلا تحزنوا على ما فاتكم " من الغنيمة والفتح " ولا ما أصابكم " من القتل والهزيمة ويقال الغم الأول الجرح والقتل والغم الثاني أنهم سمعوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل فأنساهم الغم الأول
ثم قال " والله خبير بما تعملون " يعني لا يخفى عليه شيء من أعمالكم فيجازيكم بها
قوله تعالى " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا " الأمنة في اللغة الأمن قال الكلبي إذا أمن القوم نعسوا وقال الضحاك النعاس عند القتال أمنة من الله تعالى ويقال الذي يصيبه الغم والهمزيمة لا يكون له شيء
أحسن من النعاس فيذهب عنه همه فأصاب القوم النعاس فذهب عنهم الغم وأمنوا(1/282)
283
قوله تعالى " يغشى طائفة منكم " يعني النعاس يغشى ويعلو " طائفة منكم " من كان من أهل الصدق واليقين قرأ حمزة والكسائي " تغشى " بالتاء وقرأ الباقون بالياء فمن قرأ بالتاء انصرف إلى قوله " أمنة " ومن قرأ بالياء يكون نعتا للنعاس
ثم قال تعالى " وطائفة قد أهمتهم أنفسهم " يعني أهل النفاق وقال الكلبي هو معتب بن قشير وأصحابه " يظنون بالله غير الحق " يعني أنهم يظنون أن لا ينصر الله محمدا وأصحابه " ظن الجاهلية " قال الكلبي يعني كظنهم في الجاهلية وقال مقاتل ظن الجاهلية كظن جهال المشركين مثل أبي سفيان وأصحابه " يقولون هل لنا من الأمر من شيء " يعني النصرة والفتح " قل إن الأمر كله لله " يعني النصرة والغنيمة كله من الله " يخفون في أنفسهم " يعني يسرون في أنفسهم " ما لا يبدون لك " يعني يقولون ما لا يظهرون لك " يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا " يقولون لو كان ديننا ما قتلنا " ها هنا " قال الكلبي وفي الآية تقديم وتأخير ومعناه يقولون هل لنا من الأمر من شيء يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا " قل إن الأمر كله لله " وقال الضحاك " قل إن الأمر كله " خيره وشره من الله قرأ أبو عمرو " قل إن الأمر كله لله " بضم اللام والباقون بالنصب فمن رفع جعله اسما مستأنفا ومن نصب جعله نعتا للأمر
ثم قال تعالى " قل لو كنتم في بيوتكم لبرز " يقول لظهر ويقال لخرج " الذين كتب عليهم القتل " أي قضي عليهم القتل " إلى مضاجعهم " أي إلى مواضع مصارعهم معناه أنهم وإن لم يخرجوا إلى العدو وقد قضى الله عليهم بالقتل لخرجوا إلى مواضع قتلهم لا محالة حتى ينفذ فيهم القضاء
ثم قال تعالى " وليبتلي الله ما في صدوركم " يعني ليختبر ويظهر ما في صدوركم " وليمحص " يعني ليظهر ويكفر " ما في قلوبكم " من الذنوب " والله عليم بذات الصدور " يعني بما في القلوب من الخير والشر
سورة آل عمران 155
ثم نزل في المنهزمين فقال " إن الذين تولوا منكم " يقول انهزموا منكم " يوم التقى الجمعان " جمع المسلمين وجمع المشركين " إنما استزلهم الشيطان " قال القتبي " استزلهم " يعني طلب زلتهم كما يقال استعجلت فلانا أي طلبت عجلته واستعملته أي طلبت عمله ويقال زين لهم الشيطان " ببعض ما كسبوا " يعني الذي أصابهم كان بأعمالهم كما قال في آية أخرى " وما أصبكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " الشورى 30 " ولقد عفا الله عنهم " حيث لم يستأصلهم " إن الله غفور " لذنوبهم " حليم " إذ لم يعجل عليهم بالعقوبة(1/283)
284
قال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا السراج قال حدثنا قتيبة قال حدثنا أبو بكر بن غيلان عن جرير أن عثمان بن عفان كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف كلام فقال له عبد الرحمن أتسبني وقد شهدت بدرا ولم تشهدها وبايعت تحت الشجرة ولم تبايع وقد كنت توليت فيمن تولى يوم الجمع أي يوم أحد فرد عليه عثمان وقال أما قولك إنك شهدت بدرا ولم أشهد فإني لم أغب عن شيء شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مريضة فكنت معها أمرضها وضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم في سهام المسلمين وأما بيعة الشجرة فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ردا على المشركين بمكة فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه على شماله فقال هذه لعثمان فيمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وشماله إلي خير من يميني وشمالي وأما يوم الجمع فقال الله تعالى " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم " فكنت فيمن عفى الله عنهم فخصم عثمان عبد الرحمن بن عوف
سورة آل عمران 156
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا " يقول كمنافقي أهل الكتاب " وقالوا لإخوانهم " من المنافقين " إذا ضربوا في الأرض " يقول ساروا في الأرض تجارا مسافرين فماتوا في سفرهم " أو كانوا غزى " يعني خرجوا في الغزو فقتلوا قال القتبي " غزى " جمع غاز مثل صائم وصوم ونائم ونوم وعافي وعفى " لو كانوا عندنا " بالمدينة " ما ماتوا " في سفرهم " وما قتلوا " في الغزو " ليجعل الله ذلك " الظن " حسرة في قلوبهم " ويقال جعل الله ذلك القول " حسرة في قلوبهم " لأنه ظهر نفاقهم وقال الضحاك " ليجعل الله ذلك حسرة " في قلوب المنافقين لأن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في أشجار الجنان حيث شاءت وأرواح قتلى المنافقين في حواصل طير سود تسرح في الجحيم
ثم قال تعالى " والله يحيي ويميت " يعني يحيي في السفر ويميت في الحضر ويحيي في الحضر ويميت في السفر ويقال والله يحيى قلوب المؤمنين ويميت قلوب الكافرين وقيل يحيي قلوب المؤمنين بالنصر والخروج إلى الغزو ويميت قلوب المنافقين بالتخلف وسوء ظن وقال الضحاك يعني يحيي من أحيا من نطفة بقدرته ويميت من أمات بعزته وسلطانه " والله بما تعملون بصير " قرأ عبد الله بن كثير وحمزة والكسائي " يعملون " بالياء على معنى المغايبة وقرأ الباقون بالتاء ومعناه قل لهم والله بما تعملون بصير(1/284)
285
سورة آل عمران 157 - 159
قوله تعالى " ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم " يعني إن متم في إقامتكم أو قتلتم في سبيل الله وأنتم مؤمنون " لمغفرة من الله " لذنوبكم " ورحمة " يعني ونعمة وجنة " خير مما تجمعون " يا معشر المنافقين في الدنيا من الأموال قرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وعاصم " متم " بضم الميم في جميع القرآن والباقون بكسرها وهما لغتان ومعناهما واحد
ثم قال " ولئن متم أو قتلتم " في الغزو " لإلى الله تحشرون " بعد الموت قرأ عاصم في رواية حفص " خير مما يجمعون " بالياء على معنى المغايبة وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة
قوله تعالى " فبما رحمة من الله لنت لهم " يقول فبرحمة من الله وما صلة فالله تعالى ذكر منته أن جعل رسوله رحيما رؤوفا بالمؤمنين فقال " فبما رحمة من الله " يا محمد " لنت لهم " جانبك وكنت رؤوفا رحيما بالمؤمنين " ولو كنت فظا غليظ القلب " يعني خشنا في القول غليظ القلب " لانفضوا من حولك " أي لتفرقوا من عندك والله جعلك سهلا سمحا طلقا لينا لطيفا بارا رحيما هكذا قال الضحاك
ثم قال " فاعف عنهم " أي تجاوز عنهم ولا تعاقبهم بما يكون منهم من الزلة والذنب " واستغفر لهم " من ذلك الذنب " وشاورهم في الأمر " يقول إذا أردت أن تعمل عملا فاعمل بتدبيرهم ومشاورتهم ويقال ناظرهم في الأمر ويقال ناظرهم عند القتال وروي عن عبد الله بن عباس أنه كان يقرأ " وشاورهم في بعض الأمر " لأنه كان يشاورهم فيما لم ينزل عليه الوحي فيه وكان النبي صلى الله عليه وسلم عاقلا ذا رأي ولكنه أمر بالمشورة ليقتدي به غيره ولأن في المشاورة يتودد لأصحابه لأنه إذا شاورهم يتودد قلوبهم وفي المشورة أيضا ترك الملامة لأنه يقول فعلت كذا بمشاورتكم وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ما شقي عبد قط بمشورة وما سعد عبد باستغناء رأي )
ثم قال تعالى " فإذا عزمت فتوكل على الله " يعني لا تتكل على المشورة ولكن توكل على الله بعد المشورة لا على الأصحاب " إن الله يحب المتوكلين " الذين يتوكلون على الله
سورة آل عمران 160(1/285)
286
ثم أخبر عز وجل أن النصرة كلها من الله فقال " إن ينصركم الله " يقول إن يمنعكم الله " فلا غالب لكم " من العدو يعني يوم بدر " وإن يخذلكم " يعني يوم أحد " فمن ذا الذي ينصركم من بعده " يعني من يمنعكم من عدوكم " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " يعني فليتق الواثقون في النصرة ويقال على المؤمنين أن يتوكلوا على الله لأنهم عرفوا أنه لا ناصر لهم غيره قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر " متم " بضم الميم في جميع القرآن وقرأ الباقون بالكسر وهما لغتان ومعناها واحد
سورة آل عمران الآيات 161 - 163
قوله تعالى " وما كان لنبي أن يغل " قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم " يغل " بنصب الياء قرأ وقرأ الباقون " يغل " بضم الياء ونصب الغين فمن قرأ بالنصب معناه وما كان لنبي أن يخون في الغنيمة ومن قرأ بالضم فمعناه لا ينبغي لنبي أن ينسب إلى الغلول وذلك أنه لما كان يوم أحد أخذوا في النهب والغارة وتركوا القتال وخافوا أن تفوتهم الغنيمة وظنوا أن من أخذ شيئا يكون له وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقسم لهم فنزلت هذه الآية " وما كان لنبي أن يغل " يقول ما جاز لنبي أن يخون في الغنيمة وما جاز لأصحابه أن ينسبوه إلى الخيانة
ثم قال " ومن يغلل " يعني يخن في الغنيمة " يأت بم غل يوم القيامة " يعني يحمله على ظهره وهذا كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأعرفن أحدكم يوم القيامة يأتي على عنقه شاة لها ثغاء فيقول يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا يريد أن من غل شاة أو بقرة أتى بها يوم القيامة يحملها ويقال من غل شيئا في الدنيا يمثل له يوم القيامة في النار ثم يقال له أنزل إليه فخذه فيهبط إليه فإذا انتهى إليه حمله فكلما انتهى به إلى الباب سقط منه إلى أسفل جهنم فيرجع فيأخذه فلا يزال هكذا ما شاء الله ويقال " يأت بما غل " يعني تشهد عليه يوم القيامة تلك الخيانة والغلول ويقال هذا على سبيل التمثيل " يأت بما غل " يعني يأتي بوباله فيكون وباله على عنقه كما قال في آية أخرى " وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم " الأنعام31(1/286)
287
قوله تعالى " ثم توفى كل نفس " يعني توفى وتجازى كل نفس ما عملت من خير أو شر " وهم لا يظلمون " يعني لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئا
ثم قال " أفمن اتبع رضوان الله " قال الكلبي يعني أفمن أخذ الحلال من الغنيمة " كمن باء بسخط من الله " يعني كمن استوجب سخطا من الله بأخذ الغلول من الغنائم ثم بين مستقر من غل من الغنيمة ومن أخذ من الحلال فقال لمن غل " ومأواه جهنم وبئس المصير " الذي صاروا إليه يعني النار وقال لمن أخذ من الحلال " هم درجات عند الله " يعني لهم درجات عند الله في الجنة ويقال هم ذوو درجات عند الله " والله بصير بما يعملون " يعني بمن غل وبمن لم يغل وقال القتبي هم طبقات عند الله في الفضل فبعضهم أرفع من بعض وقال أبو عبيدة والكسائي لهم درجات عند الله ويقال لمن لم يغل درجات في الجنة ولمن غل دركات في النار
سورة آل عمران الآية 164
قوله تعالى " لقد من الله على المؤمنين " يعني أنعم الله على المؤمنين " إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم " يعني من أصلهم ونسبهم من العرب يعرفون نسبه ويقال " من أنفسهم " يعني من جنسهم من بني آدم ولم يجعله من الملائكة وإنما خاطب بذلك المؤمنين خاصة لأن المؤمنين هم الذين صدقوه فكأنه منهم وقرئ في الشاذ " من أنفسكم " بنصب الفاء يعني من أشرفهم وقد كانت له فضيلة في ثلاثة أشياء أحدها أنه كان من نسب شريف لأنهم اتفقوا أن العرب أفضل ثم من العرب قريش ثم من قريش بنو هاشم فجعله من بني هاشم والثاني أنه كان أمينا فيهم قبل الوحي والثالث أنه كان أميا لكي لا يرتاب فيه الافتعال
ثم قال " يتلو عليهم آياته " يعني يعرض عليهم القرآن " ويزكيهم " يعني يأخذ منهم الزكاة ليطهر أموالهم ويقال يعني يطهرهم من الذنوب والشرك ويقال " ويزكيهم " يعني يأمرهم بكلمة الإخلاص وهي قول لا إله إلا الله
ثم قال " ويعلمهم الكتاب " يعني القرآن " والحكمة " يعني الفقه وبيان الحلال والحرام " وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين " يعني وقد كانوا من قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم لفي خطأ بين
سورة آل عمران الآية 165(1/287)
288
ثم رجع إلى قصة أحد وذكر التعزية للمؤمنين بما أصابهم من الجراحات فقال " أو لما أصابتكم مصيبة " يوم أحد " قد أصبتم مثليها " يوم بدر لأن المسلمين يوم بدر قتلوا سبعين نفسا من صناديد قريش وأسروا سبعين وقتل من المسلمين يوم أحد سبعين ولم يؤسر منهم أحد فذلك قوله " قد أصبتم مثليها " وقوله " اولما " فالألف للاستفهام والواو للعطف وما صلة فكأنه يقول ولئن متم أو قتلتم أو أصابتكم مصيبة يوم أحد قد أصبتم مثليها يوم بدر " قلتم آنى هذا " يعني قلتم فمن أين لنا هذا وكيف أصابنا هذا ونحن مسلمون " قل هو من عند أنفسكم " يعني من عند قومكم بمعصية الرماة بتركهم ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الضحاك " قل هو من عند أنفسكم " يعني بذنوبكم التي سلفت منكم فبل القتال يعني أن في ذلك تطهيرا لما سلف من ذنوبكم وهذا كقوله تعالى " وما اصبكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " الشورى30 " إن الله على كل شيء قدير " من النصرة والهزيمة
سورة آل عمران الآيات 166 - 168
قوله تعالى " وما أصابكم يوم التقى الجمعان " جمع المسلمين وجمع المشركين " فبإذن الله " أي فبإرادة الله أصابكم " وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا " يعني أصابتكم المصيبة لكي يظهر المؤمن من المنافق
ثم بين أمر المنافقين وصنيعهم وقلة حسبتهم في أمر الجهاد فقال " وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا " يعني إن لم تقاتلوا لوجه الله فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وحريمكم قال الكلبي ويقال " ادفعوا " يعني كثروا وقال القتبي " ادفعوا " أي كثروا لأنكم إذا كثرتم دفعتم القوم بكثرتكم " قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم " يعني لجئنا معكم قال الضحاك وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج يوم أحد أبصر كتيبة خثناء وفيها كبكبة من الناس فقال من هؤلاء فقيل يا نبي الله هؤلاء حلفاء عبد الله بن أبي فقال إنا لا نستعين بالكفار فرجع عبد الله مع حلفائه من اليهود فقال له عمر أقم مع المؤمنين فقال " لو نعلم قتالا لاتبعناكم "
قال الله تعالى " هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان " يعني ميلهم إلى الكفر أقرب من ميلهم إلى الإيمان ويقال عونهم للكفار أكثر من عونهم للمؤمنين " يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم " ذكر الأفواه على معنى التأكيد لأن الرجل قد يقول بالمجاز بالإشارة وهذا كما(1/288)
289
قال " يكتبون الكتب بأيديهم " البقرة 79 و " يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم " الفتح 11
قال الله تعالى " والله أعلم بما يكتمون " من النفاق والكفر
ونزل فيهم أيضا " الذين قالوا لإخوانهم " من المنافقين " وقعدوا " عن الجهاد " لو أطاعونا " في القعود عن الجهاد " ما قتلوا " أي في الغزو " قل " لهم يا محمد " فادرؤوا عن أنفسكم " في حال حضر " الموت إن كنتم صادقين " في مقالتكم قال الفقيه سمعت بعض المفسرين بسمرقند يقول لما نزلت هذه الآية " فادرؤوا عن أنفسكم الموت " مات يؤمئذ سبعون نفسا من المنافقين
سورة آل عمران 169 - 171
ثم نزل في شأن الشهداء " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله " يعني في طاعة الله " أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " من التحف وذلك أن المسلمين كانوا يقولون مات فلان ومات فلان فنزلت هذه الآية " بل أحياء عند ربهم يرزقون " وهذا قول الكلبي ويقال ولا تظنن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا كسائر الأموات " بل أحياء " يعني هم كالأحياء عند ربهم لأنه يكتب لهم أجورهم إلى يوم القيامة فكأنهم أحياء في الآخرة ويقال لا يظن بهم كما يظن الكفار بهم أنهم لا يبعثون بل يبعثهم الله ويقال ارواحهم في المنزلة والكرامة بمنزلة الأحياء وروى عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش فلما وجدوا طيب منقلبهم ومطعمهم ومشربهم ورأوا ما أعد الله لهم من الكرامة وما هم فيه من النعيم قالوا يا ليت إخواننا علموا ما أعد الله لنا من الكرامة وما نحن فيه من النعيم فلم ينكلوا عند اللقاء ولم يجبنوا عند القتال فقال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله تعالى " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " " فرحين " يعني معجبين " بما آتاهم الله من فضله " أي من رزقه في الجنة " ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم " من إخوانهم من بعدهم أن يأتوهم
ثم رجع إلى الشهداء فقال تعالى " ألا خوف عليهم " فيما يستقبلهم " ولا هم يحزنون " على ما خلفوا من الدنيا قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة " ولا تحسبن " بنصب السين في جميع القرآن وقرأ الباقون بالكسر وقرأ ابن عامر " قتلوا " بتشديد التاء على معنى التكثير أنهم يقتلون واحدا فواحدا وقرأ الباقون بالتخفيف(1/289)
290
قوله تعالى " ويستبشرون بنعمة من الله " يقول بجنة من الله ويقال بمغفرة من الله " وفضل " يعني الكرامات في الجنة وروي عن مجاهد أنه قال السيوف مفاتيح الجنة وروت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الشهيد يشفع في سبعين من أهله
قال الفقيه أروي هذا الحديث بمعناه لا بلفظه إن الله تعالى أكرم الشهداء بخمس كرامات لم يكرم بها أحد من الأنبياء ولا أنا إحداها أن جميع الأنبياء قبض أرواحهم ملك الموت وهو الذي سيقبض روحي وأما الشهداء فالله تعالى هو الذي يقبض أرواحهم بقدرته كيف يشاء ولا يسلط على أرواحهم ملك الموت والثانية أن جميع الأنبياء قد غسلوا بعد الموت وأنا أغسل بعد الموت وأما الشهداء فلا يغسلون ولا حاجة لهم إلى ماء الدنيا والثالثه أن جميع الأنبياء قد كفنوا وأنا أكفن أيضا والشهداء لا يكفنون بل يدفنون في ثيابهم والرابعة أن الأنبياء لما ماتوا فقد سموا أمواتا وإذا مت أنا يقال قد مات والشهداء لا يسمون موتى والخامسة أن الأنبياء تعطى لهم الشفاعة يوم القيامة وشفاعتي أيضا يوم القيامة وأما الشهداء فيشفع لهم كل يوم من يستشفعون
ثم قال تعالى " وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين " قرأ الكسائي " وإن الله " بكسر الألف والباقون بالنصب فمن قرأ بالنصب فمعناه يستبشرون بنعمة من الله ويستبشرون بأن الله لا يضيع ثواب المؤمنين الموحدين ومن قرأ بالكسر على معنى الابتداء إن الله لا يبطل ثواب عمل الموحدين وهذا الخبر للترغيب في الشهداء وأما الشهداء والأولياء فيشفع لهم لا يبلغون درجة الأنبياء ومن قال إنهم يبلغون درجة الإباحة ومن أنكر كرامات الأولياء فهو معتزلي
سورة آل عمران 172 - 175
قوله تعالى " الذين استجابوا لله والرسول " قال في رواية الكلبي وذلك أن أبا سفيان حين رجع من أحد نادى فقال يا محمد إن الموعد بيننا وبينك بدر الصغرى فقال صلى الله عليه وسلم لغمر قل له ذلك بيننا وبينك إن شاء الله ثم ندم أبو سفيان فقال لنعيم بن مسعود وكان يخرج إلى المدينة للتجارة إذا أتيت المدينة فخوفهم لكيلا يخرجوا فلما قدم نعيم المدينة قال إن أبا سفيان قد جمع خلقا كثيرا فكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إليهم وتثاقلوا(1/290)
291
فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم قال والذي نفسي بيده لأخرجن إليهم وإن لم يخرج معي منكم أحد قال فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للميعاد ومعه نحوا من سبعين رجلا حتى انتهوا إلى ذلك الموضع وكان هنالك سوق فلم يخرج أحد من أهل مكة فتسوقوا من السوق حاجتهم وانصرفوا فنزل قوله تعالى " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " يعني بعدما أصابتهم الجراحات يوم أحد " للذين أحسنوا منهم " أي الذين أوفوا الميعاد " واتقوا " السخط في معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم " أجر عظيم " أي ثواب كثير
قوله تعالى " الذين قال لهم الناس " يعني نعيم بن مسعود وإنما أراد به جنس الناس وكان رجلا واحدا " إن الناس قد جمعوا لكم " يعني أبا سفيان وأصحابه " فاخشوهم " يعني ولا تخرجوا إليهم " فزادهم إيمانا " يعني تصديقا ويقينا وجرأة على القتال " وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " يعني ثقتنا بالله وأيقنوا أن الله لا يخذل محمدا صلى الله عليه وسلم " ونعم الوكيل " أي ونعم الثقة لنا " فانقلبوا " أي انصرفوا " بنعمة من الله " يعني بأجر من الله " وفضل " يعني ما تسوقوا به من السوق واشتروا الأشياء بسعر رخيص " لمن يمسسهم سوء " يعني قتال " وابتعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم " يعني ذو من عظيم وقال في رواية الضحاك كان ذلك يوم أحد لما انهزمت قريش ونزلت في مواضع وكثرت الجراحات في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج إليهم فأجابه سبعون رجلا فنزلت هذه الآية
قوله تعالى " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه " يعني نعيم بن مسعود لأن كل عات متمرد شيطان يخوف أولياءه يعني بأوليائه الكفار ويقال يخوف أشكاله وقال الزجاج " إنما ذلكم الشيطان " يعني ذلك التخويف عمل الشيطان يخوفكم بأوليائه وقال القتبي " يخوف أولياءه " يعني بأوليائه كما قال " لينذر بأسا شديدا " الكهف 2 أي لينذركم ببأس شديد
ثم قال تعالى " فلا تخافوهم " في الخروج " وخافون " في القعود " إن كنتم مؤمنين " أي مصدقين قال الزجاج معناه إن كنتم مصدقين فقد أعلمتكم أني أنصركم عليهم
سورة آل عمران 176
قوله تعالى " ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " قال الكلبي يعني به المنافقين ورؤساء اليهود كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب فنزل " ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " ويقال إن أهل الكتاب لما لم يؤمنوا شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الناس ينظرون إليهم ويقولون إنهم أهل الكتاب فلو كان قوله حقا لاتبعوه فنزلت هذه الآية ويقال نزلت في مشركي قريش لأنهم كانوا أقرباءه والناس يقولون لو كان قوله
حقا لاتبعه أقرباؤه فشق ذلك عليه فنزلت " ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " يعني يبادرون في(1/291)
292
الكفر ولا يصدقونك " إنهم لن يضروا الله شيئا " يعني لن ينقصوا من ملك الله وسلطانه شيئا بكفرهم وهذا كما روى أبو ذر الغفاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال قال الله لو أن أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملك الله شيئا ولو كان أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص من ملك الله جناح بعوضة
ثم قال تعالى " يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة " يعني نصيبا في الجنة " ولهم عذاب عظيم " في الآخرة وقرأ نافع " ولا يحزنك " بضم الياء وكسر الزاي وكذلك ما كان نحو هذا في جميع القرآن إلا في قوله " لا يحزنهم الفزع الأكبر " الأنبياء 103 وقرأ الباقون بنصب الياء وضم الزاي وهما لغتان وتفسيرهما واحد
سورة آل عمران 177
ثم قال تعالى " إن الذين اشتروا " يعني اختاروا " الكفر " على الإيمان " لن يضروا الله شيئا " يقول لن ينقصوا من ملك الله شيئا وإنما أضروا بأنفسهم حيث استوجبوا لأنفسهم العذاب " ولهم عذاب إليم " في الآخرة
سورة آل عمران 178
قوله تعالى " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم " يعني لا يظنن الكفار أن الذي نملي لهم ونمهلهم خير لهم ويقال ما نعطيهم من المال والولد لا يظنن أن ذلك خير لهم في الآخرة يعني إنما نعطيهم المال والولد لأجل ذلك استدراجا بل هو شر لهم في الآخرة " إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين " أي يهانون فيه ويقال " إنما نملي لهم " أي ونؤخر العذاب عنهم ليزدادوا إثما أي جرأة على المعاصي وإنما كان ذلك مجازاة لكفرهم وخبث نياتهم ويقال إنما نملي لهم ما أصابوا من الظفر يوم أحد لم يكن ذلك خيرا لأنفسهم وإنما كان ذلك ليزدادوا عقوبة وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال ما من أحد بر ولا فاجر إلا والموت خير له لأنه إن كان برا فقد قال الله تعالى " وما عند الله خير للأبرار " آل عمران 198 وإن كان فاجرا فقد قال الله تعالى " إنما نملي لهم ليزدادوا إثما " قرأ حمزة بن عامر " ولا تحسبن " بالتاء وقرأ الباقون بالياء كذلك الذي بعد هذا
سورة آل عمران 179(1/292)
293
قوله تعالى " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه " قال الكلبي وذلك ان قريشا من أهل مكة من المشركين قالوا يا رسول الله إنك تزعم أن الرجل منا في النار وإذا ترك ديننا واتبع دينك قلت هو من أهل الجنة فأخبرنا عن هذا من أين هو وأخبرنا من يأتيك منا ومن لا يأتيك منا فأنزل الله تعالى " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه " من الكفر والنفاق " حتى يميز الخبيث من الطيب " يقول حتى يخلص الكافر من المؤمنين " وما كان الله ليطلعكم على الغيب " يعني ليبين لكم المؤمن من الكافر قبل أن يؤمن قال الفراء لم يكن الله ليعلم أو يطلع على غيبه " ولكن الله يجتبي " يقول يصطفي " ومن رسله من يشاء " للنبوة والرسالة من خلقه فيوحي إليه بإذنه قال في رواية الضحاك إن المنافقين أعلنوا الإسلام وأسروا الكفر وصلوا وجاهدوا مع المؤمنين فأحب الله أن يميز بين الفريقين وأن يدل رسوله على سرائر المنافقين فقال تعالى " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب " يعني المنافق من المؤمن " وما كان الله ليطلعكم على الغيب " ولكن الله يطلع أنبياءه ورسله يعني أن المؤمنين لا يعلمون سر المنافقين ولكن الله يبين ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ويقال " ما كان الله ليذر " يعني ليترك من علم أنه من أهل الإيمان على ما أنتم عليه من الكفر حتى يوفقه للإيمان " وما كان الله ليطلعكم على الغيب " ولكن الله يطلع أنبياءه ورسله بالوحي حتى يكون ذلك علامة لنبوتهم
ثم قال تعالى " فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا " بالله ورسله " وتتقوا " الشرك والمعصية " فلكم أجر عظيم " يعني ثواب في الجنة ويقال إن الكفار لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم من يؤمن منهم فنزل " فآمنوا بالله ورسوله " يعني لا تشتغلوا بما لا يعنيكم واشتغلوا بما يعنيكم وهو الإيمان بالله ورسله فإنكم إن فعلتم ذلك فلكم أجر عظيم قرأ حمزة والكسائي " حتى يميز " بضم الياء ونصب الميم وكسر الياء مع التشديد وقرأ الباقون بنصب الياء وكسر الميم بغير تشديد وتفسيرهما واحد إلا أنك إذا قرأت بالتشديد قد يكون عبارة عن الكثرة وبالمبالغة
سورة آل عمران 180 - 181
قوله تعالى " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله " يعني بما أعطاهم الله من المال يبخلون ويمنعون الزكاة والصدقة وصلة الأرحام فلا تظنوا ان ذلك " هو خير لهم(1/293)
294
بل هو شر لهم ) يعني البخل شر لهم ويقال الفضل شر لهم " سيطوقون " يقول سيوثقون " ما بخلوا به " من الزكاة كهيئة الطوق وروي عن ابن عباس أنه قال يأتي كنز أحدهم شجاعا أقرع له زبيبتان طوقا في عنقه تلدغ خديه ويقول أنا الزكاة التي بخلت بي في الدنيا وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذا فذلك قوله تعالى " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ويقال هو طوق من نار في عنقه ويقال هو على وجه المثل يعني وبال ذلك في عنقهم كما قال في آية أخرى " وكل إنسن ألزمنه طيره فى عنقه " الأسراء13
ثم قال " ولله ميراث السموات والأرض " يعني إذا هلك الخلق كلهم أهل السموات من الملائكة وأهل الأرض من الإنس والجن وسائر الخلق ويبقى رب العالمين ثم يقول " لمن الملك اليوم " غافر16 فلا يجيبه أحد فيرد على نفسه فيقول " لله الوحد القهار " يوسف39 وغيرها فذلك قوله " ولله ميراث السموات " يعني يهلك أهل السموات والأرض ولم يبق لأحد ملك وإنما سمي ميراثا على وجه المجاز لأن القرآن بلغة العرب وكانوا يعرفون أن من رجع الملك إليه يكون ميراثا على وجه المجاز وأما في الحقيقة فليس بميراث لأن الوراث في الحقيقة هو الذي يرث شيئا لم يكن يملكه من قبل والله عز وجل مالكهما وكانت السموات وما فيها والأرض وما فيها له وإنما كانت الأموال عارية عند أربابها فإذا ماتوا رجعت العارية إلى صاحبها الذي كانت له في الأصل ومعنى الآية أن الله تعالى أمر عباده أن ينفقوا ولا يبخلوا قبل أن يموتوا ويتركوا المال ميراثا لله تعالى ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا
ثم قال تعالى " والله بما تعملون خبير " يعني عالم بمن يؤدي الزكاة وبمن يمنعها فيجازي كل نفس بما عملت قرأ ابن كثير وأبو عمرو " يعملون " بالياء والباقون بالتاء على وجه المخاطبة
قوله تعالى " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء " وقال في رواية الضحاك لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " ( البقرة 245 ) ( والحديد 11 ) قالت الفجرة من كفرة اليهود أفقير ربنا فيستقرضنا قالوا ذلك على وجه الاستهزاء فنزلت هذه الآية ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إلى اليهود ليأمرهم بالإسلام وأن يعطوا الصدقة ويؤمنوا فلما انتهى إليهم أبو بكر قال فنحاص بن عازورا أيسأل الله منا الصدقة فهو فقير ونحن أغنياء فنزلت هذه الآية " سنكتب ما قالوا " يعني نحفظ قولهم ونجازيهم ويقال " سنكتب ما قالوا " يعني يكتب عليهم الكرام الكاتبون ويؤاخذون به في الآخرة " وقتلهم " يعني نكتب قتلهم " الأنبياء بغير حق " بلا جرم " ونقول ذوقوا عذاب الحريق "(1/294)
295
يعني تقول لهم خزنة جهنم في الآخرة ذلك قرأ حمزة " سيكتب " بضم الياء ونصب التاء " وقتلهم الأنبياء " بضم اللام على معنى فعل ما لم يسم فاعله يعني يكتب قتلهم الأنبياء ويقول بالياء والباقون " سنكتب " بالنون مع فتحها وضم التاء " وقتلهم " بنصب اللام ونقول بالنون وقوله " ذوقوا عذاب الحريق " روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لو أن شرارة وقعت بالمشرق لغلت منها جماجم قوم بالمغرب ولو أن حلقة من سلاسل أهل النار وضعت على رأس جبل لأحرقت إلى سبع أرضين فهذا معنى قوله " عذاب الحريق "
سورة آل عمران الآية182
ثم قال تعالى " ذلك بما قدمت " يعني يقال لهم ذلك العذاب بما قدمت " أيديكم " من الكفر والتكذيب يعني بما قدمتم وذكر الأيدي على معنى الكناية
ثم قال تعالى " وأن الله ليس بظلام للعبيد " يعني لا يعذب أحدا بغير ذنب
سورة آل عمران الآية 183
قوله تعالى " الذين قالوا " يعني كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف وغيرهما من رؤساء اليهود قالوا " إن الله عهد إلينا " يعني أمرنا في التوراة " أن لا نؤمن " يعني أن لا نصدق " لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار " تجيء نار من السماء فتأكل القربان فإن جئتنا بها صدقناك
قال الله تعالى " قل " يا محمد " قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم " يعني بالآيات والعلامات " وبالذي قلتم " يعني قد جاءكم الرسول بالذي قلتم من أمر القربان " فلم قتلتموهم " يعني زكريا ويحيى وغيرهما " إن كنتم صادقين " فيما تقولون
سورة آل عمران 184
قوله تعالى " فإن كذبوك " بما تقول لهم " فقد كذب رسل من قبلك " فالله تعالى يعزي نبيه ليصبر على تكذيبهم " جاؤوا بالبينات " بالآيات والعلامات " والزبر " قال الكلبي يعني بأحاديث الأنبياء من قبلهم بالنبوة على ما يكون " والكتاب المنير " يعني الحلال والحرام وقال الزجاج " الزبر " جماعة الزبور وهو الكتاب يقال زبرت أي كتبت ويقال زبرت أي قرأت " والكتاب المنير " يعني المضيء بالحلال والحرام قرأ ابن عامر " بالزبر " بالباء وقرأ الباقون " والزبر " بغير الباء
سورة آل عمران(1/295)
296
الآية 185
ثم قال تعالى " كل نفس ذائقة الموت " قال الكلبي لما نزل قوله تعالى " كل من عليها فان " الرحمن 26 قالت الملائكة هلك أهل الأرض فلما نزل " كل نفس ذائقة الموت " أيقنت الملائكة أنها تهلك معهم
ثم قال " وإنما توفون أجوركم " يعني توفون ثواب أعمالكم " يوم القيامة فمن زحزح عن النار " يعني بعد ونحي عنها " وأدخل الجنة فقد فاز " يعني نجا وسعد في الجنة
حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا المسيب عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن عن عبد رب الكعبة عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه
قوله تعالى " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " قال ابن عباس " متاع الغرور " مثل الكوز والقارورة والسكرجة ونحو ذلك لأن ذلك لا يدوم وكذلك الدنيا تزول وتفنى ولا تبقى ويقال هو مثل الزجاج الذي يسرع الكسر إليه ولا يصلحه الجبر ويقال كزاد المسافر يسرع إليه الفناء فكذلك الدنيا
سورة آل عمران الآية 186
قوله تعالى " لتبلون في أموالكم وأنفسكم " يقول لتختبرن في أموالكم بالنقصان والذهاب ويقال بوجوب الحقوق فيها وفي " أنفسكم " بالأمراض والأوجاع والقتل " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " حين قالوا " إن الله فقير ونحن أغنياء " آل عمران 181 " ومن الذين أشركوا " يعني مشركي العرب " أذى كثيرا " باللسان والفعل ويقال نزلت الآية في شأن أبي بكر رضي الله عنه فكانوا يهددونه ويشتمونه ويقولون ما يفعله محمد صلى الله عليه وسلم إنما يفعله بمشاورته فأمره الله تعالى بأن يصبر على أذاهم ثم قال " وإن تصبروا " على أذاهم " وتتقوا " المكافأة ويقال وتتقوا معاصيه " فإن ذلك من عزم الأمور " يعني من حقائق الأمور ويقال إن ذلك الصبر من خير الأمور(1/296)
297
سورة آل عمران الآية 187
قوله تعالى " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " يعني أخذ عليهم الميثاق حين أخرج ذرية آدم من ظهورهم ويقال أخذ عليهم الميثاق بالوحي في كتب الأنبياء " لتبيننه للناس " يعني نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته " ولا تكتمونه " عنهم قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر " ليبيننه للناس ولا يكتمونه " كلاهما بالياء وقرأ الباقون بالتاء فمن قرأ بالياء فمعناه أخذ عليهم الميثاق لكي يبينوه ولا يكتموه وأما من قرأ بالتاء فمعناه أخذ عليهم الميثاق وقال لهم لتبيننه للناس ولا تكتمونه
ثم أخبر عن سوء معاملتهم ونقضهم الميثاق فقال " فنبذوه وراء ظهورهم " يعني طرحوه خلف ظهورهم يعني تركوا الميثاق ولم يعملوا به " اشتروا به " بكتمان نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته " ثمنا قليلا " يعني عرضا يسيرا من متاع الدنيا " فبئس ما يشترون " يعني بئس ما يختارون لأنفسهم الدنيا على الآخرة
سورة آل عمران 188
ثم قال تعالى " لا تحسبن " يقول لا تظنن يا محمد " الذين يفرحون بما أوتوا " يقول يعجبون بما أوتوا يعني بما غيروا من نعته وصفته وهذا قول الكلبي وقال الضحاك إن اليهود كانوا يقولون للملوك إنا نجد في كتابنا أن الله يبعث نبيا في آخر الزمان يختم به النبوة فلما بعثه الله سألهم الملوك أهو هذا الذي تجدونه في كتابكم فقالت اليهود طعما في أموال الملوك هو غير هذا فأعطاهم الملوك مالا فقال الله تعالى " لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا " يعني بما أعطاهم الملوك
ثم قال تعالى " ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " لأنهم كانوا يقولون نحن على دين إبراهيم عليه السلام ولم يكونوا على دينه ويقال كانوا يقولون نحن أهل الصلاة والصوم والكتاب ويريدون أن يحمدوا بذلك يقول الله تعالى " فلا تحسبنهم " يقول فلا تظنهم " بمفازة من العذاب " معناه لا تظنن أنهم ينجون من العذاب بذلك " ولهم عذاب أليم " يعني عذاب دائم لا يخرجون منه أبدا
سورة آل عمران 189
ثم قال تعالى " ولله ملك السموات والأرض " يعني خزائن السموات المطر وخزائن(1/297)
298
الأرض النبات ويقال جميع من في السموات والأرض عبيده وفي ملكه " والله على كل شيء قدير " من النبات وغيره ويقال هذا معطوف على أول الكلام أنهم لا ينجون من عذابه يأخذهم متى شاء لأنه على كل شيء قدير
سورة آل عمران 190 - 191
قوله تعالى " إن في خلق السموات والأرض " وذلك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية لصحة دعواه لأنه كان يدعوهم إلى عبادة الله وحده فنزل " إن في خلق السموات والأرض " أي خلقين عظيمين ويقال فيما خلق في السموات من الشمس والقمر والنجوم وما خلق في الأرض من الجبال والبحار والأشجار " واختلاف الليل والنهار " يعني ذهاب الليل ومجيء النهار ويقال اختلاف لونيهما " لآيات " لعبرات " لأولي الألباب " لذوي العقول
قوله تعالى " الذين يذكرون الله قياما وقعودا " يعني يصلون لله قياما إن استطاعوا على القيام وقعودا إن لم يستطيعوا القيام " وعلى جنوبهم " إن لم يستطيعوا القعود لزمانه بهم ويقال معناه الذين يذكرون الله في الأحوال كلها في حال القيام والقعود والاضطجاع كما قال في آية أخرى " اذكروا الله ذكرا كثيرا " الأحزاب 41
ثم قال تعالى " ويتفكرون في خلق السموات والأرض " يعني يعتبرون في خلقهما قال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا السراج قال حدثنا قتيبة قال حدثنا ابن زرارة الحلبي عن أبي حباب عن عطاء بن أبي رباح قال دخلت مع ابن عمر وعبيد بن عمير على عائشة فسلمنا عليها فقالت من هؤلاء فقلت عبد الله بن عمر وعبيد الله بن عمير فقالت مرحبا بك يا عبيد بن عمير ما لك لا تزورنا فقال عبيد زر غبا تزدد حبا فقال ابن عمر دعونا من هذا حدثينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت بكاء شديدا ثم قالت كل أمره عجب أتاني في ليلتي فدخل في فراشي حتى ألصق جلده بجلدي فقال يا عائشة أتأذنين لي أن أعبد لربي فقلت والله إني أحب قربك وإني لأحب هواك فقام إلى قربة ماء فتوضأ منها ثم قام فبكى وهو قائم حتى روت الدموع حجره ثم اتكأ على شقه الأيمن ووضع يده اليمنى تحت خده الأيمن فبكى حتى روت الدموع الأرض ثم أتاه بلال بعدما أذن للفجر فلما رآه يبكي قال أتبكي يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا وما لي لا أبكي وقد أنزلت علي الليلة " وأن(1/298)
299
في خلق السموات والأرض ) إلى قوله " فقنا عذاب النار " ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق وقال صلى الله عليه وسلم تفكر ساعة خير من عبادة سنة
ثم قال تعالى " ربنا ما خلقت هذا باطلا " يعني يتفكرون ويقولون " ربنا ما خلقت هذا باطلا " عبثا بغير شيء ولكن خلقتهما لأمر هو كائن " سبحانك فقنا عذاب النار " يعني ادفع عنا عذاب النار وقال الزجاج معنى " سبحانك " أي تنزيها لك من أن تكون خلقتهما باطلا " فقنا عذاب النار " أي صدقنا رسلك وسلمنا أن لك جنة ونارا " فقنا عذاب النار "
سورة آل عمران 192 - 195
قوله تعالى " ربنا إنك من تدخل النار " يعني ويقولون " ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته " يعني أهنته وفضحته " وما للظالمين من أنصار " يعني ما للمشركين من مانع يمنعهم من العذاب إذ أنزل بهم ويقولون أيضا " ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التصديق " أن آمنوا بربكم " يعني صدقوا بتوحيد ربكم " فآمنا " يعني صدقنا وقال محمد بن كعب القرظي ليس كل الناس لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن المنادي هو كتاب الله يدعو إلى الإيمان بشهادة أن لا إله إلا الله وأن آمنوا بربكم فآمنا " ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا " وقال الكلبي الذنوب الكبائر دون الصغاير والسيئات الشرك وقال الضحاك " ذنوبنا " يعني ما عملوا في حال الجاهلية " وكفر عنا سيئاتنا " يعني ما عملوا في حال الإسلام ويقال الذنوب والسيئات بمعنى واحد ويقال الذنوب هي الكبائر والسيئات ما دون الكبائر التي تكفر من الصلاة إلى الصلاة(1/299)
300
ثم قال تعالى " وتوفنا مع الأبرار " يعني مع المطيعين والصالحين ويقال اجعل أرواحنا مع أرواح المطيعين والصالحين ويقولون أيضا " ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك " يعني أعطنا ما وعدتنا من الخير والجنة على لسان رسلك ويقال هو ما ذكر من استغفار الأنبياء والملائكة للمؤمنين وهو قول تعالى " والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض " الشورى 5 وما ذكر من دعاء نوح وإبراهيم عليهما السلام للمؤمنين
ثم قال تعالى " ولا تخزنا يوم القيامة " يعني لا تعذبنا ويقال لا تخذلنا يوم القيامة " إنك لا تخلف الميعاد " يعني ما وعدت من الخير والثواب للمؤمنين
قوله تعالى " فاستجاب لهم ربهم " فأخبر الله عن فعلهم وذكر ما أجابهم به وأنجز لهم موعده وبين لهم ثوابه وهو قوله " فاستجاب لهم ربهم " روي عن جعفر بن محمد الصادق أنه قال من دعا الله تعالى بهذه الدعوات فإنه يستجاب له لأنه قال لهم " إني لا أضيع عمل عامل منكم " يعني لا أبطل ثواب عمل عامل في طاعتي " من ذكر أو أنثى " يعني رجلا أو امرأة
قال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الديبلي قال حدثنا أبو عبيد الله قال حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن رجل من ولد أم سلمة يقال له سلمة بن الأكوع عن أم سلمة أنها قالت يا رسول الله إني أسمع الله ذكر الهجرة فذكر فيها الرجال ولم يذكر فيها النساء فأنزل الله تعالى " إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى " ويقال إن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن الله خلق الرجال والنساء وقد آمن به النساء كما آمن به الرجال فما بالهن لم يذكرن كما يذكر الرجال فنزل قوله تعالى " إن المسلمين والمسلمات " الآية ونزل " إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى "
ثم قال تعالى " بعضكم من بعض " قال الكلبي يعني بعضكم أولياء بعض في الدين وقال الضحاك يعني يشبه بعضكم بعضا في الطاعة ويقال بعضكم على أثر بعض ويقال بعضكم على دين بعض
ثم قال تعالى " فالذين هاجروا " من مكة إلى المدينة " وأخرجوا من ديارهم " يعني أن أهل مكة أخرجوا مؤمنيهم من مكة " وأوذوا في سبيلي " يعني عذبوا في طاعتي " وقاتلوا " مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين " وقتلوا " يعني قتلهم المشركون قرأ حمزة والكسائي وقتلوا وقاتلوا على معنى التقديم والتأخير كقوله تعالى " إنى متوفيك ورافعك " آل عمران 55 وقرأ الباقون وقاتلوا وقتلوا إلا ابن كثير وابن عامر قرآ وقتلوا بالتشديد على معنى التكثير والمبالغة فذكر الله فعلهم ثم ذكر ثوابهم فقال ( لأكفرن عنهم سيئاتهم ) يعني لأمحون عنهم ذنوبهم " ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار " يعني من تحت
أشجارها وقصورها الأنهار " ثوابا من عند الله " يعني الجنات جزاء لأعمالهم من عند الله تعالى وقال الزجاج إنما صار نصبا(1/300)
301
لأنه مصدر مؤكد معناه لأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ولأثيبنهم ثوابا وروي عن الفراء أنه قال إنما صار نصبا على التفسير
ثم قال تعالى " والله عنده حسن الثواب " يعني حسن الجزاء وهو الجنة ويقال حسن المرجع في الآخرة خير من الدنيا
سورة آل عمران 196 - 197
قوله تعالى " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد " يقول لا يحزنك يا محمد ذهابهم ومجيئهم في تجاراتهم ومكاسبهم في الأرض ويقال هذا الخطاب للمؤمنين ومعناه لا يغرنكم تجارات الكفار وتصرفهم في أموالهم لأن ذلك " متاع قليل " لأن الكفار كانوا في رخاء وعيش وكانت لهم رحلة الشتاء والصيف وكان المؤمنون في ضيق وشدة فأخبر الله تعالى بمرجع الكفار في الآخرة وبمرجع المؤمنين فقال " لا يغرنك " ما هم فيه من العيش والسعة فإنما هو " متاع قليل " يعني بعد وقت قريب
ثم قال تعالى " ثم مأواهم جهنم " يعني مصيرهم إلى جهنم " وبئس المهاد " يعني بئس موضع القرار في النار وبئس المصير إليها فما ينفعهم تجاراتهم وأموالهم
سورة آل عمران 198
ثم ذكر مرجع المؤمنين ومصيرهم فقال " لكن الذين اتقوا " اتقوا الشرك والفواحش ووحدوا " ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها " أبدا لا يموتون فيها ولا يخرجون منها أبدا " نزلا من عند الله " يقول ثوابا من عند الله للمؤمنين الموحدين خاصة " وما عند الله " أي الجنة " خير " من الدنيا " للأبرار " يعني للمؤمنين المطيعين
سورة آل عمران 199
ثم قال تعالى " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله " يعني مؤمني أهل الكتاب معناه من أهل الكتاب من آمن بالله فصدق " وما أنزل إليكم " من القرآن وصدق بما " وما أنزل إليهم " من التوراة والإنجيل يعني على أنبيائهم فذكر حالهم وبين ثوابهم لكي يرغب غيرهم من أهل الكتاب ليؤمنوا إذا علموا بثوابهم
ثم نعتهم فقال " خاشعين لله " يعني متواضعين لله والخشوع أصله التذلل وكذلك الخضوع وقد فرق بعض أهل اللغة بين الخشوع والخضوع فقال الخضوع في البدن خاصة(1/301)
302
والخشوع يكون في البدن والبصر والصوت والقلب قال الله تعالى " وخشعت الأصوات للرحمن " طه 108 وقال " خاشعة أبصارهم " القلم 43 المعارج 44
ثم قال تعالى " ولا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا " يعني عرضا يسيرا كفعل اليهود " أولئك لهم أجرهم " يعني ثوابهم " عند ربهم " الجنة " إن الله سريع الحساب " يعني شديد العقوبة ويقال سريع الحفظ والتعريف
سورة آل عمران 200
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اصبروا " على البلاء والجهاد وأداء الفرائض وعن المعاصي " وصابروا " مع نبيكم صلى الله عليه وسلم على عدوكم حتى يدعوا دينهم إلى دينكم يعني يتركوا الشرك ويدخلوا في الإيمان " ورابطوا " مع عدوكم ما أقاموا وهذا قول الكلبي وقال عكرمة " اصبروا " على البلاء وعلى طاعة الله " وصابروا " أهل الضلالة " ورابطوا " الخيول وقال الزجاج " اصبروا " على دينكم " وصابروا " على عدوكم " ورابطوا " أي أقيموا على جهادكم بالحرب وقيل " اصبروا " بأبدانكم " وصابروا " بقلوبكم " و رابطوا " بأرواحكم " واتقوا الله " في جميع ما أمركم ونهاكم وقال القتبي أصل المرابطة أن يربطوا خيولهم في الثغر
ثم قال تعالى " لعلكم تفلحون " يقول تفوزون وتأمنون النار وتنجون منها ويقال أصل الفلاح البقاء في النعمة ويقال الفلاح أن يبلغ الإنسان نهاية ما يأمله والله سبحانه وتعالى أعلم وصلي الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله صحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين آمين(1/302)
303
سورة النساء مدنية وهي مائة وست وسبعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النساء 1
قوله تعالى " يا أيها الناس " قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى " يا أيها الناس " يعني الناس عامة وقد يكون " يا أيها الناس " خاصا لأهل مكة وفي هذا الموضع عام لجميع الناس " اتقوا ربكم " يعني اخشوا ربكم ويقال أطيعوا ربكم ويقال احذروا المعاصي لكي تنجوا من عقوبة ربكم ويقال وحدوا ربكم ولا تشركوا به شيئا
ثم دل على وحدانيته ونفسه بصنعه فقال " الذي خلقكم من نفس واحدة " يعني آدم " وخلق منها زوجها " يعني من نفس آدم زوجها حواء وذلك أن الله تعالى لما خلق آدم وأسكنه الجنة ألقى عليه النوم فكان آدم بين النائم واليقظان فخلق من ضلع من أضلاعه اليسرى حواء فلما استيقظ قيل له من هذه يا آدم قال إمرأة لأنها خلقت من المرء فقيل ما اسمها قال حواء لأنها خلقت من حي وقد قيل إنما سميت حواء لأنه كان على شفتيها حوة وقيل لأن لونها كان يضرب إلى السمرة فسميت حواء من قولك أحوى كقوله تعالى " فجعله غثاء أحوى " الأعلى 5
ثم قال تعالى " وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " يعني خلق منهما أي من آدم وحواء رجالا كثيرا ونساء كثيرة قال مقاتل يعني خلق منهما ألف ذرية من الناس يعني من صلبه
ثم قال " واتقوا الله " يعني أطيعوا الله " الذين تساءلون به " قرأ حمزة والكسائي وعاصم وأبو عمرو في رواية هارون " تسألون " بغير تشديد وقرأ الباقون بالتشديد فمن قرأ بالتشديد لأن أصله تتساءلون فأدغم إحدى التاءين في السين وأقيم التشديد مقامه ومن قرأ بالتخفيف فالأصل أيضا تتساءلون فحذف إحدى التاءين لاجتماع الحرفين من جنس واحد للتخفيف
ثم قال تعالى " والأرحام " قرأ حمزة بكسر الميم والباقون بنصب الميم ومعناه واتقوا الله الذي تسألون به الحاجات يعني الذي يسأل الناس بعضهم بعضا فيقول الرجل للرجل أسألك بالله وأنشدك بالله " والأرحام " يقول واتقوه في ذوي الأرحام فصلوها ولا(1/303)
304
تقطعوها وأما من قرأ بالكسر معناه أسألك بالله وبالرحم أن تعطيني شيئا وقال الزجاج من قرأ بالخفض فخطأ في العربية وفي أمر الدين أما الخطأ في العربية لأن الاسم يعطف على الاسم المفصح به ولا يعطف على المكنى به إلا في اضطرار الشعر كقول القائل
( قد كنت من قبل تهجونا وتفضحنا % فما لنا بك والأيام من عجب )
وأما في غير الشعر فلا يستعمل وأما الخطأ الذي في الدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تحلفوا بآبائكم فمن حلف فليحلف بالله أو ليذر فالسؤال بالأرحام أمر عظيم لأنه تحليف بها ولكن روي عن إبراهيم النخعي أنه كان يقرأ أيضا بالخفض أيضا
ثم قال " إن الله كان عليكم رقيبا " يعني حفيظا لأعمالكم يسألكم عنها فيما أمركم به وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من عمل حسنة أسرع ثوابا من صلة الرحم وما من عمل سيئة أسرع عقوبة من البغي واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله لما خلق الرحم قال له صل من وصلك واقطع من قطعك ويقال الرحم مشتق من الرحمة فمن قطعها فليس له من رحمة الله تعالى نصيب وقال صلى الله عليه وسلم الرحم معلق بالعرش فمن قطعها قطعني ومن وصلها وصلني
سورة النساء 2
قوله تعالى " وآتوا اليتامى أموالهم " يقول للأولياء أعطوا اليتامى أموالهم التي عندكم إذا بلغوا النكاح يعني الحلم " ولا تتبدلوا الخبيث " يعني الحرام " بالطيب " يعني بالحلال من أموالكم يقول لا تذروا أموالكم الحلال وتأكلوا الحرام من أموال اليتامى ويقال لا تخلطوا الخبيث بالطيب ويقال لا تخلطوا من مالكم الرديء وتأخذوا الجيد من مال اليتيم يعني أن يرسل شاة عجفاء في غنمه ويأخذ مكانها شاة سمينة وفي الحبوب كذلك ويقال لا تجعلوا أموالهم وقاية لأموالكم
ثم قال تعالى " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " يعني مع أموالكم " إنه كان حوبا كبيرا " يعني إثما عظيما قرأ الحسن " حوبا " بنصب الحاء قال مقاتل هو بلغة الحبش(1/304)
305
قال القتبي الحوب والحوب واحد وهو الإثم وقال مقاتل نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخيه فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه العم فنزلت الآية فقرأها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الرجل أطعنا الله ورسوله ونعوذ بالله من الحوب الكبير فدفع إليه ماله فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد أصاب الأجر وبقي الوزر فقالوا كيف بقي الوزر وقد أنفقه في سبيل الله فقال " أصاب الغلام الأجر وبقي الوزر على والده
سورة النساء 3
قوله تعالى " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " يعني ألا تعدلوا في أموال اليتامى يقال في اللغة أقسط الرجل إذا عدل وقسط إذا جار وقال صلى الله عليه وسلم المقسطون في الدنيا على منابر من نور يوم القيامة يعني العادلون قال الله تعالى " وأما القسطون فكانوا لجهنم حطبا " الجن 15 يعني الجائرون
ثم قال تعالى " فانكحوا ما طاب لكم " وذلك أنهم كانوا يسألون عن أمر اليتامى ويخافون إلا يعدلوا وكانوا يتزوجون من النساء ما شاؤوا فنزلت هذه الآية " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم " " من النساء مثنى ثلاث ورباع فإن خفتم إلا تعدلوا " يعني فكما خفتم ألا تعدلوا في اليتامى فخافوا في النساء إذا اجتمعن عندكم ألا تعدلوا بينهن وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان الناس يتزوجون اليتامى ولا يعدلون بينهن ولم يكن لهن أحد يخاصم عنهن فنهاهم الله عن ذلك فقال " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " الآية ويقال إنهم كانوا يتزوجون امرأة لها أولاد أيتام وكانوا لا يحسنون النظر إليهم فنزل " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم " يعني بغير ولد " مثنى وثلاث ورباع "
ثم قال تعالى " فإن خفتم ألا تعدلوا " في القسم بين النساء والنفقة " فواحدة " يقول تزوجوا امرأة واحدة وإن خفتم ألا تعدلوا في الواحدة " أو ما ملكت أيمانكم " يعني الإماء ويقال إن خفتم ألا تعدلوا في القسم بين النساء فواحدة أي واشتروا الإماء لأن الواحدة لا تحتاج إلى القسمة والإماء لا يحتاج فيهن إلى القسمة وقال بعض الروافض بظاهر هذا الآية(1/305)
306
أنه يحوز نكاح تسع نسوة لأنه قال " مثنى وثلاث ورباع " فيكون ذلك تسعا ولكن أجمع المفسرون أن المراد به التفصيل لا الاجتماع لان الواو للبدل الجمع ومعناه مثنى أو ثلاث أو رباع وبذلك جاءت الآثار وهو حديث غيلان بن سلمة أنه اسلم ومعه عشر نسوة فخيره النبي صلى الله عليه وسلم فاختار أربعا وفارق البواقي وروي الكلبي ومقاتل أن قيس بن الحارث كان عنده ثمان نسوة حرائر فلما نزلت هذه الآية أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق أربعا ويمسك أربعا وروى محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير أن في ذلك كان الحارث بن قيس الأسدي وهذا هو المعروف عند الفقهاء
ثم قال تعالى " ذلك أدنى ألا تعولوا " يعني واحدة أحرى ألا تميلوا ولا تجوروا ولا تظلموا
سورة النساء 4 - 5
قوله تعالى " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " يعني أعطوا النساء مهورهن فريضة ويقال ديانة كما يقال فلان ينتحل مذهب كذا أي يدين بكذا ويقال نحلة أي صدقة وهبة لأن المهر نحلة من الله تعالى للنساء حيث لم يوجب عليهن وأوجب لهن وقال في رواية الكلبي إن أهل الجاهلية كان الولي إذا زوجها فإن كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها قليلا ولا كثيرا وإن كانت غريبة حملوها على بعير إلى زوجها ولا يعطونها من مهرها غير ذلك البعير شيئا فنزل قوله تعالى " وآتوا النساء صدقاتهن " يعني به الأولياء يعني أعطوهن مهورهن نحلة يقول عطية لهن وقال في رواية مقاتل كان الرجل يتزوج بغير مهر ويقول أرثك وترثيني فنزلت الآية " وآتوا النساء " يعني الأزواج " صدقاتهن نحلة " يعني مهور النساء " نحلة " يعني فريضة " فإن طبن لكم " يا معشر الأزواج أي إن أحللن لكم ووهبن لكم وقال في رواية الكلبي يعني إذا وهبت المرأة المهر للولي فذلك قوله " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " أي طيبا لا إثم منه " مريئا " أي لا أذى فيه " مريئا " لا داء فيه ويقال " هنيئا مريئا " يعني حلالا طيبا وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال إذا كان أحدكم مريضا فليسأل من امرأته درهمين من مهرها حتى تهب له بطيبة نفسها(1/306)
307
فيشتري بذلك عسلا فيشربه مع ماء المطر وقد اجتمع الهنيء والمريء والشفاء والماء المبارك يعني أن الله تعالى سمى المهر هنيئا مريئا إذا وهبت وسمى العسل شفاء وسمى ماء المطر مباركا فإذا اجتمعت هذه الأشياء يرجى له الشفاء
قوله تعالى " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " يعني النساء والأولاد الصغار يعني لا يجعل الرجل ماله في يدي امرأته وأولاده ثم يدع نفسه محتاجا إليهم فلا يدفعون إليه عند حاجته ويقال لا تدفعوا أموالكم مضاربة ولا إلى وكيل لا يحسن التجارة وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا فذلك قوله تعالى " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " يعني الجهال بالأحكام ويقال لا تدفعوا إلى الكفار ولهذا كره علماؤنا أن يوكل المسلم ذميا بالبيع والشراء أو يدفع إليه مضاربه
ثم قال تعالى " التي جعل الله لكم قياما " يعني الأموال التي جعل الله قواما لمعاشكم ثم قال " وارزقوهم فيها " يعني الأولاد الصغار أطعموهم " وأكسوهم " من أموالكم وكونوا أنتم القوام على أموالكم " وقولوا لهم قولا معروفا " يعني إذا طلبوا منكم النفقة ولم يكن عندكم في ذلك الوقت شيء فعدوا لهم عدة حسنة يقول سأفعل ذلك
سورة النساء الآية 6
ثم قال " وابتلوا اليتامى " يقول اختبروا اليتامى وجربوا عقولهم " حتى إذا بلغوا النكاح " يعني الحلم ويقال مبلغ الرجال " فإن آنستم منهم رشدا " يقول إذا رأيتم منهم رشدا وصلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم " فادفعوا إليهم أموالهم " التي معكم " ولا تأكلوها إسرافا " في غير حق " وبدارا " يعني مبادرة في آكلة " أن يكبروا " يعني مخافة أن يكبروا فيأخذوا أموالهم منكم
ثم قال " ومن كان غنيا فليستعفف " يعني ليحفظ نفسه عن مال اليتيم " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " وقد اختلف الناس في تأويل هذه الآية وقالوا فيها ثلاثة أقوال قال بعضهم يجوز للمعسر أن يأكل على قدر قيامه عليه وقال بعضهم لا يجوز أن يأكل إلا على وجه القرض فيرد عليه إذا كبر وقال بعضهم لا يجوز في الأحوال كلها
فأما من قال إنه يجوز أكله على قدر قيامه عليه فإنه احتج بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال إني أنزلت مال الله مني بمنزلة مال اليتيم " فمن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا سأله فقال يا ابن عباس إن عندي مواشي أيتام فهل علي جناح إن أصبت من رسل مواشيهم قال ابن(1/307)
308
عباس إن كنت تبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حياضها ولا تفرط لها يوم وردها فلا جناح عليك إن أصبت من رسلها وقال مجاهد كانوا يقول من أدركت من أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم أن للوصي أن يأكل بالمعروف مع اليتيم فإنه يحلب غنمه ويقوم على ماله ويحفظه
وأما من قال إنه يجوز أكله على وجه القرض احتج بما روي عن محمد بن سرين أنه قال سألت عبيدة السلماني عن قوله تعالى " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " قال هو قرض ثم يرد عليه إذا كبر فقال ألا ترى أنه قال في سياق الآية " فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم " وقال أبو العالية ما أكل فهو دين عليه وقال الشعبي مثله
وأما من قال إنه لا يجوز أكله لأن الله تعالى قال " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا " النساء 10 وتلك الآية محكمة وهذه من المتشابهة لأنه يحتمل التأويل أنهم يأكلون على وجه القرض أو على وجه الإباحة فيرد حكم المتشابه إلى المحكم وقد قيل إن هذه الآية منسوخة بتلك الآية قال الفقيه رحمه الله إذا كان الوصي فقيرا فأكل من مال اليتيم مقدار قيامه عليه أرجو أن لا بأس به لأن كثيرا من العلماء أجازوا ذلك والاحتراز عنه أفضل
قرأ نافع وابن عامر " التي جعل الله لكم قيما " بكسر القاف ونصب الياء بغير ألف والباقون بالألف ومعناهما قريب وقال أهل اللغة قياما وقواما وقيما بمعنى واحد
وقال تعالى " فإذا دفعتم إليهم أموالهم " يعني إذا أدرك اليتامى ودفعتم إليهم أموالهم " فأشهدوا عليهم " ذلك وإنما الإشهاد على معنى الاستحباب لنفي التهمة عن نفسه ولو لم يشهد على ذلك لجاز كقوله تعالى " واشهدوا إذا تبايعتم " ثم قال " وكفى بالله حسيبا " يعني شهيدا في أمر الآخرة وأما في أمر الدنيا فينبغي أن يشهد العدول على ذلك ليدفع القالة عن نفسه لأن الله تعالى لا يشهد له في الدنيا
سورة النساء 7 - 9
قوله تعالى " للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون " وذلك أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون النساء وإنما يورثون الرجال من كان يقاتل ويحوز الغنيمة حتى مات أوس بن ثابت الأنصاري وترك ثلاث بنات وترك امرأة يقال لها أم كجة فقام ابن عمه وأخذ ماله فجاءت المرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكرت له القصة ويقال مات رفاعة وترك ابنة وابنته فأخذ الابن ميراثه(1/308)
309
كله فجاءت المرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فنزل قوله " للرجال نصيب " يقول حظ " مما ترك الوالدان والأقربون " " وللنساء نصيب " يعني حظ " مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه " يعني قل المال " أو كثر نصيبا مفروضا " يعني حظا معلوما لكل واحد منهم من الميراث فبين في هذه الآية أن للرجال نصيبا وللنساء نصيبا ولكن لم يبين مقدار نصيب كل واحد منهم ثم بين في الآية التي بعدها فقال " وإذا حضر القسمة أولو القربى " قال مقاتل فيها تقديم وتأخير معناه إذا حضر أولو القربى قسمة الميراث " فارزقوهم منه " يعني أعطوهم من الميراث قال مقاتل وهذا كان قبل قسمة الميراث
وقال تعالى " وقولوا لهم قولا معروفا " يعني إذا كانت الورثة كبارا يعطون من الميراث لذوي القربى وإن كانت الورثة صغارا فقولوا لهم " قولا معروفا " يعني عدوا لهم عدة حسنة تقول لهم الأولياء إذا أدرك الصغار أمرناهم حتى يعطوكم شيئا ويعرفوا حقكم وقال القتبي " إذا حضر القسمة " فيه قولان أحدهما أن تكون قسمة الوصية إذا حضرها أقرباؤكم فاجعلوا لهم حظا من الثلث ووجه آخر أن تكون قسمة الميراث فارضخوا لهم منها
قوله تعالى " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم " يقول وليخش على أولاد الميت الضياع كما أنكم لو تركتم أولادا " ذرية ضعافا خافوا عليهم " يقول عجزة صغارا يعني الذي يحضره الموت لا يقال له قدم لنفسك وأوص بكذا وكذا حتى يوصي بعامة ماله فليخش على ذرية الميت كما يخشى على ذرية نفسه وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال إذا حضر الرجل الوصية فلا ينبغي أن يقول له أوص بمالك فإن الله تعالى رازق أولادك ولكن يقول له قدم لنفسك واترك لولدك فذلك قوله تعالى " فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا " يعني يقولوا للميت قولا عدلا ويقال وليقولوا قولا سديدا وهو أن يلقنه لا إله إلا الله ولا يأمره بذلك ولكن يقول ذلك في نفسه حتى يسمعه منه ويتلقن وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ولم يقل مروهم بذلك لأنه لو أمر بذلك فلعله يغضب ويجحد
سورة النساء 10
قوله تعالى " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما " يعني بغير حق " إنما يأكلون في بطونهم نارا " يعني حراما لأن الحرام يوجب النار فسماه الله باسمها ويقال إنه يلقم من النار إذا صار إلى جهنم فذلك قوله تعالى " إنما يأكلون في بطونهم نارا " وروي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في بعض قصة المعراج أنه قال رأيت أقواما بطونهم كالجبال فيها(1/309)
310
الحيات والعقارب فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا " وسيصلون سعيرا " يعني سيدخلونها في الآخرة
قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وسيصلون بضم الياء على فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون بنصب الياء وهذا كقوله " سيدخلون جهنم " وسيدخلون وقال القتبي في قوله " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم " معناه وليخش الذين يكفلون اليتامى وليفعل بهم ما يحب أن يفعله بولده من بعده
سورة النساء الآية 11
قوله تعالى " يوصيكم الله في أولادكم " يعني يبين الله لكم ميراث أولادكم كما بين قسمة المواريث يعني إذا مات الرجل أو المرأة وترك أولادا ذكورا وإناثا ف " للذكر مثل حظ الأنثيين " يعني لكل ابن سهمان ولكل بنت سهم وروى ابن أبي نجيح عن عطاء قال كان ابن عباس يقول كان الميراث للولد وكانت الوصية للوالدين والأقربين فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للوالدين لكل واحد منهما السدس وللمرأة الثمن أو الربع وللزوج النصف أو الربع
ثم قال تعالى " فإن كن نساء فوق اثنتين " يعني إذا ترك الميت بناتا ولم يترك أبناء فللبنات إن كن اثنتين فصاعدا " فلهن ثلثا ما ترك " من الميراث ولم يذكر في الآية حكم البنتين ولكن أجمع المسلمون ما خلا رواية عن عبد الله بن عباس أنه قال للاثنتين النصف كما كان يكون للإبنة الواحدة وللثلاث بنات الثلثان وأما سائر الصحابة فقد قالوا إن للاثنتين الثلثين وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم روى جابر بن عبد الله قال جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هاتان ابنتا سعد قد قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا وإن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالا ولا تنكحان إلا ولهما مال فقال النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي الله في ذلك فأنزل الله آية الميراث فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمهما وقال أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أمهما الثمن والباقي لك(1/310)
311
ثم قال تعالى " وإن كانت واحدة فلها النصف " يعني إن ترك الميت بنتا واحدة فلها النصف من الميراث والباقي للعصبة بالخبر قرأ نافع " وإن كانت واحدة " بالرفع على اسم كانت وقرأ الباقون بالنصب على معنى الخبر ويكون الاسم فيه مضمرا
ثم قال تعالى " ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك " الميت من المال " إن كان له ولد " يعني إن كان له ولد ذكر أو أنثى أو ولد الابن " فإن لم يكن له " للميت " ولد " ولا ولد ابن " وورثه أبواه " يعني إن لم يكن للميت وارث سوى الأبوين " فلأمه الثلث " يعني للأم ثلث المال والباقي للأب قرأ حمزة والكسائي " فلإمه " بكسر الألف لكسر ما قبله وقرأ الباقون " فلأمه " بضم الألف
ثم قال تعالى " وإن كان له إخوة فلأمه السدس " يعني إذا كان للميت إخوة وقد اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اسم الإخوة يقع على الاثنين فصاعدا إلا في قول ابن عباس ثلاثة فصاعدا واتفقوا أن الذكور والإناث فيه سواء فيكون للأم السدس والباقي للأب
ثم قال تعالى " من بعد وصية " يعني قسمة الميراث من بعد وصية " يوصي بها " الميت " أو دين " يعني بعد قضاء الدين وإنفاذ الوصية وروى الحارث عن علي رضي الله عنه قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين قبل الوصية وأنتم تقرؤون " من بعد وصية يوصي بها أو دين " يعني في الآية تقديم وتأخير وروي عن ابن عباس هكذا قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم " يوصى بها " على فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون " يوصي بها " يعني الميت إن كان يوصي بها أو عليه دين
ثم قال تعالى " آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا " يعني في الآخرة إذا كان أحدهما أرفع درجة من الآخر يسأل الله تعالى حتى يرفع إليه الآخر لتقر عينه به فقال " لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا " يعني أيهم أرفع درجة فيلحق به صاحبه ويقال معناه أن الله علمكم قسمة المواريث وأنكم لا تدرون " إيهم أقرب لكم نفعا " يعني حيا حتى تعطوه حصته ويقال " لا تدرون أيهم أقرب " موتا فيرث منه الآخر
ثم قال تعالى " فريضة من الله " يعني بيان قسمة المواريث من الله تعالى ويقال القسمة فريضة من الله تعالى لا يجوز تغييرها عما أمر الله بذلك
ثم قال تعالى " إن الله كان عليما " بقسمة المواريث " حكيما " حكم قسمتها وبينها لأهلها وقال الزجاج معناه كان الله " عليما " بالأشياء قبل خلقها " حكيما " فيما يقدر ويدبر منها وقال بعضهم لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال فالخبر منه بالماضي كالخبر(1/311)
312
بالاستقبال وقال سيبويه كأن القوم شاهدوا علما وحكما فقيل لهم إن الله تعالى كان كذلك أي لم يزل على ما شاهدتم
سورة النساء12 - 14
ثم قال تعالى " ولكن نصف ما ترك أزواجكم " يعني إذا ماتت المرأة وتركت زوجا فللزوج النصف " إن لم يكن لهن ولد " ذكر أو أنثى أو ولد ابن " فإن كان لهن ولد " أو ولد ابن " فلكم الربع " أي للزوج الربع " مما تركن " يعني مما تركت المرأة " من بعد وصية يوصين بها أو دين "
ثم قال تعالى " ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية يوصون بها أو دين " يعني إذا مات الزوج وترك امرأة فللمرأة الربع " إن لم يكن لكم ولد " ولا ولد ابن " فإن كان لكم ولد " فإن كان للميت أي الزوج ولد أو ولد ابن " فلهن الثمن " سواء كان له امرأة واحدة أو أربع نسوة فلهن الربع بغير الولد والثمن مع الولد لأنه قال " ولهن الربع " فجعل حصتهن الربع أو الثمن ثم قال " من بعد وصية توصون بها أو دين "
ثم قال تعالى " وإن كان رجل يورث كلالة " والكلالة ما خلا الوالد والولد ويقال هو اسم الميت الذي ليس له ولد ولا والد قال أبو عبيدة هو مصدر من تكلله النسب أي أحاط به والأب والابن طرفا الرجل فسمي لذهاب طرفيه كلالة وقرأ بعضهم " يورث " بكسر الراء قال أبو عبيدة من قرأ " يورث " بكسر الراء جعل الكلالة الورثة ومن قرأ بنصب الراء جعل الكلالة الميت
وروى الشعبي عن أبي بكر وعمر أنهما قالا الكلالة من لا ولد ولا والد وروي عنهما(1/312)
313
أيضا أنهما قالا الكلالة ما سوى الولد والوالد وقال " أو امرأة " يعني إن كانت الكلالة هي امرأة
ثم قال تعالى " وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس " من الميراث " فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث " يعني الإخوة من الأم وقد أجمع المسلمون أن المراد هاهنا الإخوة من الأم لأنه ذكر في آخر السورة أن للأختين الثلث ففهموا أن المراد ههنا الإخوة من الأم " من بعد وصية يوصي بها أو دين " قد ذكرناه
ثم قال تعالى " غير مضار وصية من الله " يعني غير مضار للورثة فيوصي بأكثر من الثلث " وصية من الله " يعني تلك القسمة فريضة من الله " والله عليم حليم " يعني " عليم " بأمر الميراث " حليم " على أهل الجهل منكم قال عليه صلى الله عليه وسلم من قطع ميراثا فرضه الله قطع الله ميراثه في الجنة وقرأ بعض المتقدمين " والله عليم حكيم " يعني حكم بقسمة الميراث والوصية وقضاء الدين
ثم قال تعالى " تلك حدود الله " يعني هذه فرائض الله فيما أمركم به من قسمة المواريث ويقال تلك أحكام الله ويقال " تلك " بمعنى هذه يعني هذه أحكام الله قد بينها لكم لتعرفوها وتعملوا بها
قوله " ومن يطع الله ورسوله " في قسمة المواريث فيقر بها ويعمل بها كما أمره الله " يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم " يعني ذلك الثواب هو النجاة الوافرة
قال تعالى " ومن يعص الله ورسوله " في قسمة المواريث فلم يقسمها ولم يعمل بها كما أمر الله " ويتعد حدوده " يعني يخالف أمره " يدخله نارا خالدا فيها " لأنه إذا جحد صار كافرا " وله عذاب مهين " يهان فيه قرأ نافع وابن عامر " ندخله جنات " " ندخله نارا " كلاهما بالنون على معنى الإضافة إلى نفسه وقرأ الباقون كلاهما بالياء لأنه سبق ذكر اسم الله تعالى
سورة النساء 15 - 16
قوله تعالى " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم " يعني الزنى وهي المرأة الثيب إذا زنت " فاستشهدوا عليهن " يعني اطلبوا عليهن " أربعة " من الشهود " منكم " يعني من أحرار(1/313)
314
المسلمين عدولا " فإن شهدوا " عليهن بالزنى " فأمسكوهن في البيوت " يعني احبسوهن في السجن " حتى يتوفاهن الموت " يعني يمتن في السجن " أو يجعل الله لهن سبيلا " يعني محيصا ومخرجا من الحبس ثم نسخ فصار حدهن الرجم لما روي عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم بالحجارة
ثم ذكر في الآية حد البكرين فقال " واللذان " لم يحصنا " يأتيانها " الفاحشة " منكم " يعني الأحرار المسلمين " فآذوهما " باللسان يعني بالتعيير بما فعلا ليندما على ما فعلا " فإن تابا " من بعد الزنى " وأصلحا " العمل " فأعرضوا عنهما " يعني فلا تسمعوهما الأذى بعد التوبة " إن الله كان توابا " يعني متجاوزا " رحيما " بهما ثم نسخ الحبس والأذى بالرجم والجلد وإنما كان التعيير في ذلك الزمان لأن التعيير حل محل الجلد وأما اليوم فلا ينفعهم التعيير وروي ابن أبي نجيح عن مجاهد قال " واللاتي يأتين الفاحشة " " واللذان يأتيانها منكم " كان ذلك في أول الأمر ثم فنسختها الآية التي في سورة النور قرأ ابن كثير " واللذان " بتشديد النون لأن الأصل واللذيان فحذف الياء وأقيم التشديد مقامه وقرأ الباقون بالتخفيف
سورة النساء 17 - 18
قوله تعالى " إنما التوبة على الله " يعني قبول التوبة على الله ويقال توفيقه على الله ويقال إنما التجاوز من الله " للذين يعملون السوء بجهالة " قال ابن عباس كل مؤمن يذنب فهو جاهل في فعله ويقال إنما الجهالة إنهم يختارون اللذة الفانية على اللذة الباقية وذلك الجهل لا يسقط عنهم العذاب إلا أن يتوبوا
ثم قال تعالى " ثم يتوبون من قريب " قال ابن عباس كل من تاب قبل موته فهو قريب " فأولئك يتوب الله عليهم " يعني يقبل توبتهم " وكان الله عليما حكيما " يعني " عليما " بأهل التوبة " حكيما " حكم بالتوبة وقال مقاتل نزلت الآية في رجل من قريش سكر وذكر فيه شعرا وذكر اللات والعزى وأنكر البعث فلما أصبح أخبر بذلك فندم على ذلك ثم استرجع فنزلت الآية " ثم يتوبون من قريب " يعني قبل الموت(1/314)
315
قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا أبو حفص عن صالح المري عن الحسن قال من عير أخاه بذنب قد تاب إلى الله فيه ابتلاه الله به وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر وقال الحسن إن إبليس لما أهبط من الجنة قال بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح في جسده قال الله تعالى فبعزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم يغرغر بنفسه قال أبو العالية الرياحي نزلت أول الآية في المؤمنين والوسطى في المنافقين والأخرى في الكافرين فأما توبة المؤمنين فذكرها قد مضى وأما ذكر توبة المنافقين فقوله تعالى " وليست التوبة للذين يعملون السيئات " الآية يعني ليس قبول التوبة للذين أصروا على فعلهم " حتى إذا حضر أحدهم الموت " يعني الشرق والنزع ومعاينة ملك الموت " قال إني تبت الآن " فليس لهذا توبة ثم ذكر توبة الكفار فقال " ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما " يعني وجيعا دائما
سورة النساء 19
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها " قال ابن عباس كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة وله ولد من غيرها أو وارث غير الابن فألقى ثوبه عليها وورث نكاحها بالصداق الأول ويقول أنا ولي زوجك فورثتك فإن كانت جميلة أمسكها وإن لم تكن جميلة طول عليها لتفتدي منه فنزلت هذه الآية وقال في رواية الضحاك كان الرجل عنده عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة فيكره فراق العجوز لمالها فيمسكها ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها أو تموت فيرث مالها فنزلت هذه الآية وأمر الزوج بأن يطلقها إن كره صحبتها فلا يمسكها كرها فذلك قوله تعالى " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها " قرأ عاصم وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ونافع " كرها " بنصب الكاف وقرأ حمزة والكسائي " كرها " بالضم قال القتبي الكره بالنصب بمعنى الإكراه والكره المشقة ويقال ليفعل ذلك طوعا أو كرها يعني طائعا أو مكرها
ثم قال تعالى " ولا تعضلوهن " يعني لا تمنعوهن من الأزواج " لتذهبوا ببعض ما(1/315)
316
آتيتموهن ) من المهر " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " وهي المعصية في النشوز على زوجها فيحل له ما أخذ منها ويقال إلا أن تزني فيحل له أن يفتدي منه يعني إذا كانت بطيبة نفسها قرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر " بفاحشة مبينة " بنصب الياء وقرأ الباقون بكسر الياء فمن قرأ بالكسر يكون الفعل للفاحشة يعني فاحشة ظاهرة تبين منها نفسها ومن قرأ بالنصب يكون بمعنى المفعول قال مقاتل نزلت هذه الآية في محصن بن قيس وامرأته هند بنت المغيرة وفي جماعة وقال الكلبي نزلت في حصين بن أبي قيس وامرأته كبشة بنت معن
ثم قال تعالى " وعاشروهن بالمعروف " يقول صاحبوهن بالجميل " فإن كرهتموهن " يعني كرهتم صحبتهن " فعسى " يقول فلعل " أن تكرهوا شيئا " من صحبتكم إياهن " ويجعل الله فيه خيرا كثيرا " يعني في صحبتهن يرزق لكم ولدا صالحا وهذا كقوله عز وجل " وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم " ويقال " ويجعل الله فيه خيرا كثيرا " يعني لعله إن أمسكها فيعطفه الله عليها من بعد ذلك وأما أن يخلي سبيلها فيزوجها الله زوجا غيره فيرزقها الله منه الولد
سورة النساء 20 - 21
قوله تعالى " وإن أردتم استبدال زوج " يعني تغيير زوج " مكان زوج " يعني إذا أراد أن يطلق امرأته ولم يكن منها نشوز وأراد أن يتزوج غيرها " وآتيتم إحداهن قنطار " من المهر من ذهب قال مجاهد القنطار سبعون ألف دينار وقال عطاء سبعة آلاف دينار وقال الحسن ألف دينار أو إثنا عشر ألف درهم وقال قتادة يقال القنطار مائة رطل من ذهب أو ثمانون ألفا من ورق وروي عن عبد الوهاب بن عطاء عن الكلبي قال كل ما لم أسنده لكم فهو كله عن أبي صالح عن ابن عباس قال القنطار ألف مثقال مما كان من ذهب أو فضة
ثم قال تعالى " فلا تأخذوا منه شيئا " يقول فلا تستحلوا أن تأخذوا مما أعطيتم شيئا إذا لم يكن النشوز من قبلها ثم قال " أتأخذونه بهتانا " يقول أتستحلون أخذه ظلما " وإثما مبينا " يعني ذنبا ظاهرا
ثم قال تعالى " وكيف تأخذونه " يقول كيف تستحلون أخذه يعني أخذ مهورهن " وقد أفضى بعضكم إلى بعض " يقول قد اجتمعا في لحاف واحد قال الفراء الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة وجامعها أو لم يجامعها إذا كان معها في لحاف واحد جامعها أو لم يجامعها فقد وجب المهر وروى عوف الأعرابي عن زرارة بن أبي أوفى قال قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن من أغلق بابا وأرخى سترا فقد وجب المهر والعدة وقال مقاتل(1/316)
317
الأفضاء الجماع وبهذا القول قال بعض الناس وأما علماؤنا رحمهم الله قالوا إذا خلا بها خلوة صحيحة يجب كمال المهر والعدة دخل بها أو لم يدخل بها
ثم قال " وأخذن منكم ميثاقا غليظا " يقول أوجبن عليكم عهدا وثيقا بالنكاح وهو قوله " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسن " البقرة 229 فصار ذلك على الرجال ميثاقا غليظا من النساء ثم بين ما يحل للرجال من النساء وما لا يحل فقال
سورة النساء الآيات 22 - 23
فقال تعالى " ولا تنكحوا ما نكح آباؤهم من النساء " يعني لا تتزوجوا من قد تزوج آباؤكم من النساء ويقال اسم النكاح يقع على الجماع والتزوج فإن كان الأب تزوج امرأة أو وطئها بغير نكاح حرمت على ابنه ثم قال " إلا ما قد سلف " يقول لا تفعلوا سوى قد فعلتم في الجاهلية وكان الناس يتزوج الرجل منهم امرأة الأب برضاها بعد نزول قوله " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها " حتى نزلت الآية " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم " الآية فصار حراما في الأحوال كلها ويقال " إلا ما قد سلف " يعني ولا ما قد سلف كقوله تعالى " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا " النساء 92 يعني ولا خطأ وقد قيل إن في الآية تقديما وتأخيرا ومعناه ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء " إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا " إلا ما قد سلف وقد قيل إن في الآية إضمارا يقول " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء " فإنكم إن فعلتم تعاقبون وتؤاخذون " إلا ما قد سلف " ثم قال " إنه كان فاحشة " أي معصية " ومقتا " أي بعضا " وساء سبيلا " أي بئس المسلك
ثم قال تعالى " حرمت عليكم أمهاتكم " يعني نكاح أمهاتكم فذكر الأمهات والمراد منه الأمهات والجدات
ثم قال تعالى " وبناتكم " ذكر البنات والمراد به البنات والحفيدات أي بنات الأولاد
ثم قال تعالى " وأخواتكم " يعني من النسب إلى قوله " وأخواتكم من الرضاعة " " وعماتكم " يعني أخوات أبيكم " وخالاتكم " يعني أخوات أمكم " وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة "(1/317)
318
ثم قال تعالى " وأمهات نسائكم " يعني نكاح أمهات نسائكم حرام عليكم سواء دخل بالابنة أو لم يدخل بها هكذا روي عن ابن عباس وعن جماعة من الصحابة أنهم قالوا ذلك
ثم قال " وربائبكم اللاتي في حجوركم " يعني حرام عليكم نكاح بنات نسائكم " اللاتي في حجوركم " يعني التي يربيها في حجره إذا دخل بأمها " فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم " يعني إن لم يكن دخل بأمها فهي حلال له أن يتزوجها وقد اتفقوا على أن كونها في الحجر ليس بشرط غير قول روي عن بعض المتقدمين وإنما ذكر الحجر لتعارفهم فيما بينهم وتسميتهم بذلك الاسم
ثم قال تعالى " وحلائل أبنائكم " يعني حرام عليكم نساء أبنائكم " الذين من أصلابكم " يقال إنما اشترط كون الأبناء الأصلاب لزوال الاشتباه لأن القوم كانوا يتبنون في ذلك الوقت ويجعلون الابن المتبنى بمنزلة ابن الصلب في الميراث والحرمة وتبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة فتزوج زيد بن حارثة امرأة ثم طلقها فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيره المشركون بذلك وقالوا تزوج امرأة ابنه فنزل قوله تعالى " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم " الأحزاب 40 وذكر في هذه الآية فقال " وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم " لكي لا يظن أحد أن امرأة الابن المتبنى تحرم عليه
ثم قال تعالى " وأن تجمعوا بين الأختين " يعني حرام عليكم أن تجمعوا بين الأختين في النكاح في حالة واحدة ثم قال " إلا ما قد سلف " يقول إلا ما قد مضى في الجاهلية وروى هشام بن عبيد الله عن محمد بن الحسن أنه قال كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات كلها التي ذكر في هذه الآية إلا اثنتين أحدهما نكاح امرأة الأب والثانية الجمع بين الأختين ألا ترى أنه قال " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " " وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف " ويقال " إلا ما قد سلف " يعني دع ما قد مضى " إن الله كان غفورا " لما كان في الجاهلية " رحيما " بما كان في الإسلام لمن تاب من ذلك
سورة النساء 24
ثم قال تعالى " والمحصنات من النساء " قال في رواية الكلبي وفي رواية الضحاك يعني ذوات الأزواج حرام عليكم " إلا ما ملكت أيمانكم " من السبايا فإذا ملك الرجل امرأة لها زوج في دار الحرب واستبرأ رحمها بحيضة فهي حلال له وهذا موافق لما روي عن أبي سعيد الخدري أن المسلمين أصابوا يوم أوطاس سبايا لهن أزواج من المشركين فتأثم المسلمون منهن وقالوا لهن أزواج فأنزل الله تعالى " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت إيمانكم "(1/318)
319
يقول ما أفاء الله عليكم من ذلك وإن كان لهن أزواج من المشركين فلا بأس بأن يأتيها الرجل إذا استبرأ رحمها وقال في رواية مقاتل " والمحصنات من النساء " يعني كل امرأة ليست تحتكم فهي حرام عليكم ثم استثنى من المحصنات فقال " إلا ما ملكت أيمانكم " يعني إلا ما قد تزوجتم من النساء مثنى وثلاث ورباع
ثم قال تعالى " كتاب الله عليكم " يقول هذا ما حرم عليكم في الكتاب ويقال " كتاب الله عليكم " معناه هذا الذي يقرأ عليكم هو كتاب الله تعالى فاتبعوه ولا تخالفوه وقال الزجاج " كتاب الله عليكم " منصوب على التأكيد محمول على المعنى لأن معناه " حرمت عليكم أمهاتكم " كتب الله عليكم هذا كتابا ويجوز أن يكون منصوبا على جهة الأمر كأنه قال الزموا كتاب الله ويكون " عليكم " تفيسرا له
ثم قال تعالى " وأحل لكم ما رواء ذلكم " يقول رخص لكم ما سوى ذلكم فالله تعالى قد ذكر ما حرم في هذه الآية من قوله " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم " أربع عشرة من المحرمات سبع بالنسب وسبع بالسبب ثم بين المحللات فقال " وأحل لكم ما وراء ذلكم " يعني ما سوى هذه الأربع عشرة التي ذكر في هذه الآية فلو كان الأمر على ظاهر هذه الآية لكان يجوز ما سوى ذلك إلا أنه قد جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وقال لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا تنكح الأمة على الحرة فوجب اتباعه لأن الله تعالى قال " وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهكم عنه فانتهوا " الحشر 7 قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " وأحل لكم " بضم الألف وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالضم لأنه عطف على قوله " حرمت عليكم " ومن قرأ بالنصب لأنه نسق على قوله " كتاب الله عليكم "
ثم قال تعالى " أن تبتغوا بأموالكم " يعني أن تتزوجوا بأموالكم ويقال تشتروا بأموالكم الجواري ثم قال " محصنين غير مسافحين " يقول كونوا متعففين من الزنى غير زانين
ثم قال " فما استمتعتم به منهن " قال مقاتل يعني به المتعة أي فما استمتعتم منهن إلى أجل مسمى " فآتوهن أجورهن " يعني أعطوهن ما شرطتم لهن من المال وإنما كانت إباحة المتعة في بعض المغازي ثم نهي عن ذلك وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ " فما استمتعتم(1/319)
320
به منهن ) إلى أجل مسمى وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال ما كانت المتعة إلا رحمة رحم الله بها هذه الأمة ولولا نهي عمر عنها ما زنى إلا شقي وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال إنما رخص في المتعة في بعض المغازي ثم نسختها آية الطلاق والميراث والعدة
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال " فما استمتعتم به منهن " قال النكاح يعني إن تمتعتم " فآتوهن أجورهن " يعني مهورهن وقال في رواية الكلبي " فما استمتعتم به منهن " بعد النكاح فآتوهن أجورهن يعني مهورهن " فريضة " لهن عليكم وقال الضحاك " فما استمتعتم به منهن " يعني فما تزوجتم بهن فأعطوهن مهورهن
ثم قال تعالى " ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة " قال بعضهم يعني المتعة قبل أن تنسخ أجاز لهما أن يتراضيا على زيادة الأجل والمال وقال بعضهم يعني المهر لا جناح على الزوجين أن يتراضيا بعد النكاح على زيادة المهر " إن الله كان عليما " فيما رخص لكم من نكاح الأجانب " حكيما " فيما حرم عليكم من ذوات المحارم
سورة النساء 25
ثم قال تعالى " ومن لم يستطع منكم طولا " أي غنى يقول من لم يجد منكم سعة في المال " إن ينكح المحصنات المؤمنات " يعني الحرائر فليتزوج " فمن ما ملكت أيمانكم " من الإماء ويقال " من لم يستطع منكم طولا " يعني من لم تكن له مقدرة على الحرة فليتزوج الأمة يعني إذا لم يكن له امرأة حرة وقد قال بعض الناس إذا كان للرجل من المال مقدار ما يمكنه أن يتزوج بالحرة لا يجوز له أن يتزوج الأمة وفي قول علمائنا يجوز إذا لم يكن عنده امرأة حرة لأنه لو صرف إلى ذلك الوجه لا يضر لأن كل مال يمكن أن يتزوج به الأمة يمكن أن يتزوج به الحرة ولكن معناه كون الحرة عنده أفضل
ثم قال تعالى " من فتياتكم المؤمنات " يعني يتزوج الأمة المسلمة وقال بعض الناس لا يجوز أن يتزوج أمة يهودية أو نصرانية لأن الله تعالى قال " من فتياتكم المؤمنات " وفي(1/320)
321
قول علمائنا يجوز نكاح الأمة اليهودية والنصرانية وذكر المؤمنات ليس بشرط أنه لا يجوز غيرها وهذا بمنزلة قوله " فإن خفتم ألا تعدلوا فوحدة " النساء 3 فإن خاف ألا يعدل فيتزوج أكثر من واحدة جاز ولكن الأفضل أن لا يتزوج فكذلك هاهنا الأفضل أن لا يتزوج الأمة إلا المؤمنة ولو تزوج غير المؤمنة جاز
ثم قال تعالى " والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض " في الحقيقة وأنتم تعرفون الظاهر وليس عليكم أن تبحثوا عن الباطن وقال مقاتل في الآية تقديم وتأخير ومعناه فما ملكت أيمانكم " بعضكم من بعض " يعني يتزوج هذا وليدة هذا وهذا وليدة هذا ثم قال " والله أعلم بإيمانكم " يعني بعضكم من بعض في النسب يعني كلكم ولد آدم ولا فخر فيما بينكم ويقال دينكم واحد يعني بعضكم على دين بعض
ثم قال تعالى " فانكحوهن بإذن أهلهن " يعني الولائد بإذن أربابهن " وآتوهن أجورهن بالمعروف " يقول أعطوهن مهورهن " بالمعروف " يقول مهرا غير مهر البغي بعدما أطلق ذلك
ثم قال " محصنات " يقول عفائف " غير مسافحات " يقول غير زواني ويقال غير معلنات بالزنى " ولا متخذات أخدان " يعني أخلاء في السر لأن أهل الجاهلية كان فيهن زواني في العلانية ولهن رايات منصوبة وبعضهن اتخذن أخذانا يعني أخلاء في السر ولا يفعلن بالعلانية فنهى الله عن نكاح الفريقين جميعا فقال تزوجوا محصنات غير معلنات بالزنى ولا في السر قرأ الكسائي " محصنات " بكسر الصاد في جميع القرآن إلا في قوله " والمحصنات من النساء " وقرأ الباقون في جميع القرآن بالنصب
وقوله عز وجل " فإذا أحصن " يعني أسلمن ويقال إذا أعففن قرأ عاصم وحمزة والكسائي " فإذا أحصن " بالنصب وقرأ الباقون " فإذا أحصن " بضم الألف وروي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ بالنصب ومعناه إذا أسلمن وقرأ ابن عباس بالضم يعني أحصن بالأزواج " فإن أتين بفاحشة " يعني الزنى " فعليهن " يعني وجب عليهن " نصف ما على المحصنات من العذاب " يعني إذا زنت الأمة فحدها نصف حد الحرة خمسون جلدة والفائدة في نقصان حدهن والله أعلم أنهن أضعف من الحرائر فجعل عقوبتهن أقل ويقال لأنهن لا يصلن إلى مرادهن كما تصل الحرائر إلى مرادهن ويقال لأن العقوبة تجب على قدر النعمة ألا ترى أن الله تعالى قال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم " يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضعف لها العذاب ضعفين " سورة الأحزاب 30 فلما كانت نعمتهن أكثر جعل عقوبتهن أشد فكذلك الأمة لما كانت نعمتها أقل كانت عقوبتها أدنى وذكر في الآية حد الإماء خاصة ولم يذكر حد العبيد ولكن حد العبيد والإماء سواء خمسون جلدة في الزنى وفي حد القذف وشرب الخمر أربعون جلدة لأن حد الأمة إنما نقص لنقصان الرق
وذلك في العبد موجود(1/321)
322
ألا ترى أنه روي وروي عن عمر بن الخطاب وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا حد العبد نصف حد الحر
ثم قال تعالى " ذلك " أي هذا الذي ذكر في الآية وهو رخصة نكاح الأمة " لمن خشي العنت منكم " يعني الإثم في دينه ويقال الزنى والفجور قال القتبي أصله الضر والإفساد
ثم قال تعالى " وأن تصبروا " يعني عن نكاح الإماء " خير لكم من تزوجهن لأنه لو تزوج الأمة يصير ولده عبدا وروي عن عمر أنه قال أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه يعني يصير ولده رقيقا فالصبر عن ذلك أفضل لكيلا يرق ولده وقال مجاهد " وأن تصبروا " على نكاح الأمة " خير لكم " من أن تقعوا في الفجور " والله غفور " لما أصبتم منهن قبل تحليله " رحيم " حين رخص في نكاح الأمة ويقال " رحيم " إذا لم يعجل العقوبة
سورة النساء 26 - 28
قوله تعالى " يريد الله ليبين لكم " يعني بين لكم أن الصبر خير لكم من نكاح الإماء ويقال يبين لكم إباحة نكاح الأمة عند العذر ثم قال " ويهديكم سنن الذين من قبلكم " يعني شرائع الذين من قبلكم بأنه لم يحل لهم تزوج الإماء وقد أحل لكم ذلك وقال مقاتل " يريد الله ليبين لكم " حلاله وحرامه من النساء " ويهديكم " أي يبين لكم شرائع من كان قبلكم " ويتوب عليكم " يعني يتجاوز عنكم ما فعلتم قبل التحريم " والله عليم " بمن فعله منكم بعد التحريم " حكيم " فيما نهاكم عن نكاح الإماء يعني لمن لم يجد طولا والنهي نهي استحباب لا نهي الوجوب ويقال إن هذا ابتداء القصة " يريد الله أن يبين لكم " كيفية طاعته " ويهديكم " يعني يعرفكم " سنن الذين من قبلكم " أي أنهم لما تركوا أمري فكيف عاقبتهم وأنتم إذا فعلتم ذلك لا أعاقبكم ولكني أتوب عليكم " والله عليم " بمن تاب " حكيم " حكم بقبول التوبة
ثم قال تعالى " والله يريد أن يتوب عليكم " يعني يتجاوز عنكم ما كان منكم قبل التحريم ويقال ويتجاوز عنكم الزلل والخطايا " ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما " يعني أن تخطئوا خطأ عظيما لأن بعض الكفار كانوا يجيزون نكاح الأخت من الأب ويقال اليهود يريدون أن يقفوا منكم على الزلل والخطايا يعني أن الله قد بين لكم لكي لا يقفوا منكم على الزنا والخطايا
ثم قال " يريد الله أن يخفف عنكم " يقول يهون عليكم الأمر إذ رخص لكم في نكاح(1/322)
323
الأمة " وخلق الإنسان ضعيفا " يعني لا يصبر على النكاح وقال الضحاك " يريد الله ان يخفف عنكم " يريد أن يضع عنكم أوزاركم ويضع عنكم آثامكم
سورة النساء 29 - 31
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " يعني بالظلم باليمين الكاذبة ليقطع بها مال أخيه في تجارته ثم استثنى ما استفضل الرجل من مال أخيه في تجارته أنه لا بأس به فقال " إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم " ويقال إلا ما كان بينهما تجارة وهو أن يكون مضاربا فله أن يأكل من مال المضاربة إذا خرج إلى السفر ويقال إلا ما يأكل الرجل شيئا عند الشراء ليذوقه وقد قرأ حمزة والكسائي وعاصم " تجارة " بنصب الهاء على معنى خبر تكون وقرأ الباقون بالضم على معنى الاسم
ثم قال تعالى " ولا تقتلوا أنفسكم " يعني لا يقتل بعضكم بعضا فإنكم أهل دين واحد وقيل " ولا تقتلوا أنفسكم " يعني أن يوجب الرجل على نفسه قتل نفسه فإيجابه باطل وقال القتبي " ولا تأكلوا أموالكم " يعني لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل ولا يقتل بعضكم بعضا كقوله " ولا تلمزوا أنفسكم " ( سورة الحجرات 11 ) أي لا تعيبوا إخوانكم ويقال " ولا تقتلوا أنفسكم " يعني لا تقتلوها بالكسل والبخل " إن الله كان بكم رحيما " إذ نهى عن القتل وعن أخذ الأموال بالباطل
قوله تعالى " ومن يفعل ذلك عدوانا " يعني اعتداء ويقال مستحلا " وظلما " وجورا " فسوف نصليه نارا " هذا وعيد لهم من الله تعالى يعني يدخله في الآخرة النار " وكان ذلك على الله يسيرا " يعني عذابه هين على الله
قول تعالى " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " قال مقاتل يعني ما نهي عنه أول هذه السورة إلى هذه الآية وقال في رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنه " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " الكبائر كل شيء سمى الله فيه النار لمن عمل بها أو شيء نزل فيه حد في الدنيا فمن اجتنب من هذا وهو مؤمن كفر الله عنه ما سواه من الصلاة إلى الصلاة والجمعة إلى الجمعة وشهر رمضان إلى شهر رمضان إن شاء الله تعالى
قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي الضحاك عن مسروق عن ابن مسعود(1/323)
324
قال الكبائر من أول السورة إلى قوله " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " وروي عن ابن مسعود أنه قال الكبائر أربعة الإياس من روح الله والقنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله والشرك بالله وروى عامر الشعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين واستحلاله حرمة بيت الله الحرام واليمين الغموس وقال ابن عمر الكبائر تسعة الشرك بالله وقتل المؤمن متعمدا والفرار من الزحف وقذف المحصنة وأكل مال اليتيم وأكل الربا والسحر وعقوق الوالدين واستحلال حرمة البيت الحرام ويقال الكبائر ما أصر عليها صاحبها ويقال لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار
ثم قال تعالى " نكفر عنكم سيئاتكم " يقول نمحو عنكم ذنوبكم ما دون الكبائر " وندخلكم مدخلا كريما " في الآخرة وهي الجنة قرأ نافع " مدخلا " بنصب الميم والباقون بالضم فمن قرأ بالنصب فهو اسم الموضع وهو الجنة ومن قرأ بالضم فهو المصدر والموضع جميعا
سورة النساء 32 - 33
قوله تعالى " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض " قال ابن عباس يعني لا يتمنى الرجل مال أخيه ولا امرأته ولا دابته ولكن ليقل اللهم ارزقني مثله وقال الكلبي مثله وفيها وجه آخر وهو أن الرجال قالوا إن الله فضلنا على النساء فلنا سهمان ولهن سهم ونرجو أن يكون لنا أجران في الأعمال وقالت أم سلمة ليت الجهاد كتب على النساء فنزلت هذه الآية " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض " " للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن " ويقال إن النساء قلن كما نقص سهمنا في الميراث كذلك ينقص من أوزارنا ويكون الإثم علينا أقل من الرجال فنزلت الآية " للرجال نصيب مما اكتسبوا " ولا يتمنى أحدكم أكثر مما عمل " وللنساء نصيب مما اكتسبن " من الشر ولا ينقص منهن شيء مما عملن من الإثم
قوله تعالى " واسألوا الله " جميعا الرجال والنساء " من فضله " أي من رزقه " إن الله كان بكل شيء عليما " فيما يصلح لكل واحد منهم من السهام وبمن يصلح للجهاد قرأ ابن كثير(1/324)
325
والكسائي " وسلوا الله " بغير همز في جميع القرآن وقرأ الباقون " واسألوا الله " بالهمز وأصله الهمز إلا أنه حذف الهمز للتخفيف
قوله تعالى " ولكل جعلنا موالي " يعني بينا موالي يعني الورثة من الولد والإخوة وابن العم ويقال الموالي العصبة العم وابن العم وذوو القربى كقوله " وإنى خفت المولى " سورة مريم 5 معناه ولكل واحد منكم جعلنا الورثة لكي يرث " مما ترك " وهم " الوالدان والأقربون "
ثم قال " والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " قال الكلبي ومقاتل كان الرجل يرغب في الرجل فيحالفه ويعاقده على أن يكون في ميراثه كبعض ولده ثم قال " فآتوهم نصيبهم " يعني أعطوهم حظهم الذي سميتم لهم من الميراث هكذا قال مجاهد ثم نسخ بقول تعالى " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض " سورة الأنفال 75 ويقال إنهم كانوا يوصون لهم بشيء من المال فأمرهم بأن يؤتوا نصيبهم من الثلث ويقال أراد به مولى الموالاة كانوا يورثون السدس
ثم قال تعالى " إن الله كان على كل شيء شهيدا " يعني شاهدا إن اعطيتم أو لم تعطوهم قرا أهل الكوفة حمزة والكسائي وعاصم " والذين عقدت أيمانكم " بغير ألف والباقون بالألف قال أبو عبيدة والاختيار " عاقدت " بالألف لأنه من معاقدة الحلف فلا يكون إلا بين اثنين ومن قرأ " عقدت " معناه بالألف لأنه من معاقدة الحلف فلا يكون إلا بين اثنين ومن قرأ " عقدت " معناه عقدت لهم أيمانكم فأضمر فيها لهم
سورة النساء 34
قوله تعالى " الرجال قوامون على النساء " نزل في سعد بن الربيع لطم امرأته بنت محمد بن مسلمة فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فنزل عليه جبريل عليه السلام من ساعته بهذه الآية " الرجال قوامون على النساء " يعني مسلطون في أمور النساء وتأديبهن " بما فضل الله بعضهم على بعض " وذلك ان الرجل له الفضل على امرأته في إنفاقه عليها ودفع الحق إليها ويقال إن الرجال لهم فضيلة في زيادة العقل والتدبير فجعل لهم حق القيام عليهن بما لهم من زيادة عقل ليس ذلك للنساء ويقال للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء لأن طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة فيكون فيه قوة وشدة وطبع النساء غلبت عليهن الرطوبة والبرودة فيكون فيها معنى اللين والضعف فجعل لهم حق القيام عليهن بذلك(1/325)
326
ثم قال تعالى " وبما أنفقوا من أموالهم " يعني فضلوا على النساء بما أنفقوا من أموالهم عليهن من المهر والنفقة ثم قال " فالصالحات قانتات " يعني المحصنات من النساء في الدين " قانتات " أي مطيعات لله تعالى ولأزواجهن ويقال " الصالحات " يعني المحسنات إلى أزواجهن " قانتات " يعني مطيعات لله عز وجل ولأزواجهن ويقال الصالحات يعني الموحدات " قانتات " يعني قائمات بأمور أزواجهن " حافظات للغيب " يعني لغيب أزواجهن في فروجهن وفي أموال الأزواج " بما حفظ الله " يقول يحفظ الله إياهن قال مقاتل وما صلة يعني يحفظ الله لهن
ثم قال عز وجل " واللاتي تخافون نشوزهن " يعني تعلمون عصيانهن " فعظوهن " بالله يعني يقول لها اتقي الله فإن حق الزوج عليك واجب فإن لم تقبل ذلك فقوله تعالى " واهجروهن في المضاجع " قال الكلبي يعني يسبها وذلك هو الهجر ويقال لا يقرب فراشها لأن الزوج إذا أعرض عن فراشها فإن كانت محبة للزوج يشق عليها فترجع إلى الصلاح وإن كانت مبغضة فتظهر السرور فيتبين أن النشوز من قبلها وقال الضحاك " واهجروهن في المضاجع " يعني يعرض عنها فإن ذلك يغيظها فإن لم ينفعها ذلك " واضربوهن " يعني ضربا غير مبرح " فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا " يقول لا تطلبوا عليهن عللا ولا تكلفوهن من الحب لكم فإن الحب أمر القلب وليس ذلك بيدها " إن الله كان عليا كبيرا " يعني رفيعا علا فوق كل كبير فلا يطلب من عباده الحب ولا يكلفهم ما لا يطيقون ويطلب منهم الطاعة فأنتم أيضا لا تكلفوهن ويقال إن الله مع علوه يتجاوز عن عبادة فأنتم أيضا تجاوزوا ولا تطلبوا العلل
سورة النساء 35
ثم قال تعالى للأولياء " وإن خفتم شقاق بينهما " يقول إن علمتم خلافا بين الزوجين ويقال إن خفتم الفراق بينهما ولا تدرون من قبل أيهما يقع النشوز " فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها " يعني رجلا عدلا من أهل الزوج له عقل وتمييز يذهب إلى الرجل ويخلو به ويقول له أخبرني ما في نفسك أتهواها أم لا حتى أعلم بمرادك فإن قال لا حاجة لي بها خذ مني لها ما استطعت وفرق بيني وبينها فيعرف أن من قبله جاء النشوز وإن قال فإني أهواها فأرضيها من مالي بما شئت ولا تفرق بيني وبينها فيعرف أنه ليس بناشز ويخلو ولي المرأة بها ويقول أتهوين زوجك أم لا فإن قالت فرق بيني وبينه وأعطه من مالي ما أراد علم أن النشوز من قبلها وإن قالت لا تفرق بيننا ولكن حثه حتى يزيد في نفقتي ويحسن إلي(1/326)
327
علم أن النشوز ليس من قبلها فإذا ظهر لهما الذي كان النشوز من قبله يقبلان عليه بالغلظة والزجر والنهي وذلك قوله تعالى " فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها " " إن يريدا إصلاحا " يعني عدلا فينظران في أمرهما بالنصيحة والموعظة " يوفق الله بينهما " بالصلاح ويقال كل أثنين يقومان في الإصلاح بين اثنين بالنصيحة يقع الصلح بينهما لقوله تعالى " أن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما "
ثم قال " إن الله كان عليما خبيرا " يعني " عليما " بهما " خبيرا " بنصيحتهما وفي هذه الآية دليل على إثبات التحكيم وليس كما يقول الخوارج إنه ليس الحكم لأحد سوى الله تعالى فهذه كلمة حق ولكن يريدون بها الباطل
سورة النساء الآية 36
قوله تعالى " واعبدوا الله " قال بعضهم هذا الخطاب للكفار " واعبدوا الله " يعني وحدوا الله " ولا تشركوا به شيئا " يعني لا تثبتوا على الشرك ويقال الخطاب للمؤمنين " اعبدوا الله " يعني اثبتوا على التوحيد ولا تشركوا به ويقال " اعبدوا الله " يعني أطيعوا الله فيما أمركم به وأخلصوا له الأعمال " ولا تشركوا به شيئا " ويقال هذا الخطاب للمؤمنين وللمنافقين وللكفار فأمر المؤمنين بالطاعة والمنافقين بالإخلاص والكفار بالتوحيد وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال كل عبادة في القرآن إنما يعني بها التوحيد ويقال هذه الآيات محكمات في جميع الكتب وذكر فيها أحكاما كانت تعرف عن طريق العقل وإن لم ينزل به القرآن وهو قوله تعالى " واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا " " وبالوالدين إحسانا " يعني احسنوا إلى الوالدين " وبذى القربى " يعني صلوا القرابات " واليتامى " يعني أحسنوا إلى اليتامى ويقال هذا للأوصياء بالقيام على أموالهم ثم قال " والمساكين " يعني عليكم بإطعام المساكين ثم قال " والجار ذي القربى " أي عليكم بالإحسان إلى الجار الذي بينك وبينه قرابه فله ثلاثة حقوق هكذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال الجيران ثلاثة جار له ثلاثة حقوق وجار له حقان وجار له حق واحد فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فلجار القريب المسلم فله حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام والجار الذي له حقان وهو الجار المسلم الأجنبي فله حق الإسلام وحق الجوار والجار الذي له حق واحد هو الجار الكافر له حق الجوار
ثم قال تعالى " والجار الجنب " يعني الجار الذي لا قرابة بينهما وهو من قوم آخرين(1/327)
328
" والصاحب بالجنب " يعني الرفيق في السفر وروي عن معاذ بن جبل أنه قال الصاحب بالجنب يعني المرأة ثم قال " وابن السبيل " يعني الضيف ينزل عليكم فأحسنوا إليه وحقه ثلاثة أيام وما زاد على ذلك فهو صدقة ثم قال " وما ملكت أيمانكم " من الخدم أحسنوا إليهم وقد روي في الخبر أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم ما لا يطيقون فإنهم لحم ودم وخلق أمثالكم رواه علي عن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال الله الله فيما ملكت أيمانكم وذكر الحديث
وروي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه وما زال يوصيني بالنساء حتى ظننت أنه سيحرم طلاقهن وما زال يوصيني بالمماليك حتى ظننت أنه سيجعل لهم مدة إذا انتهوا إليها أعتقوا وما زال يوصيني بالسواك حتى خشيت أن يخفي فمي عن الأسنان وما زال يوصيني بقيام الليل حتى ظننت أن خيار أمتي لا ينامون ليلا
ثم قال تعالى " إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا " يعني من كان " مختالا " في مشيه " فخورا " على الناس وهذا قول الكلبي وقال القتبي المختال ذو الخيلاء والكبر وهذا قريب من الأول ويقال " فخورا " في نعم الله لا يشكره ويتكبر على الناس
سورة النساء الآيات 37 _ 38
ثم قال تعالى " الذين يبخلون " وقال مجاهد ومقاتل نزلت في اليهود يبخلون بكتمان صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم " ويأمرون الناس بالبخل " يعني أمروا قومهم أن يكتموا صفته صلى الله عليه وسلم " ويكتمون ما آتاهم من فضله " في التوراة ويقال أبخل الناس الذي يبخل بعلمه ويقال " الذين يبخلون " يعني في المال لأن رؤساءهم كانوا لا يعطون أحدا من أموالهم شيئا لأن عادتهم كان الأخذ والمنع وكانوا أيضا يأمرون بالبخل لأن من كان في معصية فإنه يأمر غيره(1/328)
329
بذلك لكي لا يظهر عيبه " ويكتمون ما آتاهم الله من فضله " يعني لا يشكرون على ما أعطاهم الله من نعمته ولا يخرجون الزكاة
ثم قال تعالى " وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا " يعني شديدا قرأ حمزة والكسائي " بالبخل " بنصب الباء والخاء وهي لغة الأنصار وقرأ الباقون " بالبخل " بضم الباء وجزم الخاء وقال بعض أهل اللغة هاهنا أربع لغات بخل وبخل وبخل وبخل إلا أنه قرئ بحرفين ولا يقرأ بالحرفين الآخرين
قوله تعالى " والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس " قال مقاتل يعني اليهود وقال الضحاك يعني المنافقين ينفقون أموالهم مراءاة للناس " ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " يعني ولا يصدقون في السر ويقال نزلت في مطعمي يوم بدر وهم رؤساء مكة أنفقوا على الناس ليخرجوا إلى بدر
ثم قال " ومن يكن الشيطان له قرينا " ففي الآية مضمر فكأنه قال ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر فقرينهم الشيطان " ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا " يعني قرينهم الشيطان في الدنيا والشيطان يأمرهم بالبخل ويقال قرينه في النار في السلسلة
سورة النساء الآيات 39 - 42
ثم قال تعالى " وماذا عليهم " يعني وما كان عليهم " لو أمنوا بالله " مكان الكفر " وأنفقوا مما رزقهم الله " مكان البخل في غير رياء ويقال " وماذا عليهم " يعني لم يكن عليهم شيء من العذاب " لو آمنوا بالله واليوم الآخر " وأنفقوا مما رزقهم الله من الأموال وهي الصدقة " وكان الله بهم عليما " أنهم لم يؤمنوا ويقال إن الله عليم بثواب أعمالهم ولا يظلمهم شيئا من ثواب أعمالهم
قوله تعالى " إن الله لا يظلم مثقال ذرة " يعني لا ينقص من ثواب أعمالهم وزن الذرة قال الكلبي وهي النملة الحمراء الصغيرة ويقال هو الذي يظهر في شعاع الشمس ويقال " لا يظلم مثقال ذرة " أي لا يزيد عقوبة الكافر مثقال ذرة ولا ينقص من ثواب المؤمن مثقال ذرة
ثم قال تعالى " وإن تك حسنة يضاعفها " قرأ نافع وابن كثير " وإن تك حسنة " بضم الهاء لأنه اسم تك بمنزلة اسم كان قرأ الباقون " حسنة " بالنصب وجعلوه خبر تك والاسم فيه مضمر ومعناه وإن يكن الفعل حسنة يضاعفها يعني إذا زاد على حسناته مثقال ذرة من(1/329)
330
حسنة يضاعفها الله تعالى حتى يجعلها مثل أحد ويوجب له الجنة فذلك قوله تعالى " ويؤت من لدنه أجرا عظيما " يعني الجنة وروى عبد الله بن مسعود أنه قال خمس آيات في سورة النساء أحب إلي من الدنيا وما فيها قوله " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " سورة النساء 31 الآية وقوله " إن الله لا يظلم مثقال ذرة " الآية وقوله " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " سورة النساء 48الآية وقوله " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم " سورة النساء64 الآية وقوله " ومن يعمل سوءا يجز به " سورة النساء 123 الآية
وقوله تعالى " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد " يعني فكيف يصنعون وكيف يكون حالهم إذا جئنا من كل أمة بشهيد يعني بنبيها هو شهيدها شاهد بتبليغ الرسالة من ربهم " وجئنا بك " يا محمد " على هؤلاء شهيدا " يعني على أمتك شهيدا بالتصديق لهم لأن أمته يشهدون على الأمم المكذبة للرسالة وذلك أنه إذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى للأمم الخالية هل بلغكم الرسل رسالاتي فيقولون لا فتقول الرسل قد بلغنا ولنا شهود فيقول عز وجل ومن شهودكم فيقولون أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيؤتى بأمة محمد فيشهدون بتبليغ الرسالة بما أوحي إليهم من ربهم في كتابهم في قصة الأمم الخالية فتقول الأمم الخالية إن فيهم زواني وسراقا فلا تقبل شهادتهم فيزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول المشركون " والله ربنا ما كنا مشركين " سورة الأنعام 23 فيختم على أفواهم وتشهد أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون فذلك قوله تعالى " يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض " يعني تخسف بهم الأرض ويقال " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد " الرسل يشهدون على قومهم بتبليغ الرسالة ويشهد النبي صلى الله عليه وسلم على أمته بتبليغ الرسالة لمن قبل ولمن لم يقبل
قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا أبو منيع قال حدثنا أبو كامل قال حدثنا فضيل عن يونس بن محمد بن فضالة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظفر فجلس على الصخرة التي في بني ظفر ومعه ابن مسعود ومعاذ وأناس من الصحابة فأمر قارئا فقرأ حتى إذا أتى على هذه الآية " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخضلت وجنتاه فقال يا رب هذا علمي بمن أنا بين ظهرانيهم فكيف بمن لم أرهم
ثم قال تعالى " يومئذ يود الذين كفروا " يعني الكفار " وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض " يعني يكونون ترابا يمشي عليهم أهل الجمع " ولا يكتمون الله حديثا " وهو قولهم " والله ربنا ما كنا مشركين " قال الزجاج قال بعضهم " ولا يكتمون الله حديثا " مستأنف لأن ما عملوا ظاهر عند الله تعالى
لا يقدرون على كتمانه وقال بعضهم هو كلام بناء يعني يودون أن الأرض سويت بهم وأنهم لم يكتموا الله حديثا لأنه أظهر كذبهم قرأ حمزة والكسائي " تسوى " بنصب التاء وتخفيف السين وتشديد الواو يعني تخسف بهم الأرض وقرأ(1/330)
331
عاصم وابن كثير وأبو عمرو " تسوى " بضم التاء على فعل سالم يسمى فاعله يعني فتسوى أي يصيرون ترابا فتسوى بهم الأرض وقرأ نافع وابن عامر " تسوى " بنصب التاء وتشديد السين والواو لأن أصله تتسوى فأدغم إحدى التاءين في السين
سورة النساء 43
قوله تعالى " يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " قال مقاتل وذلك أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما فدعا أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وسعدا رضي الله عنهم فأكلوا وسقاهم خمرا فحضرت صلاة المغرب فأمهم علي فقرأ " قل يأيها الكافرون " سورة الكافرون 1 على غير الوجه فنزل " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " يعني موضع الصلاة وهو المسجد " حتى تعلموا ما تقولون " ويقال حتى تصيروا بحال تعلمون ما تقولون فحينئذ تقربوا المسجد لأنهم إذا لم يعلموا ما يقولون فلا يعرفون الحرمة
ثم قال " ولا جنبا إلا عابري سبيل " يقول ولا تقربوا الصلاة جنبا " إلا عابري سبيل " يعني إلا أن يكون مسافرا فلا يجد الماء فيتيمم ويصلي وإن كان جنبا وقال الزجاج وحقيقته ألا تصلوا إذا كنتم جنبا " حتى تغتسلوا " إلا أن لا تقدروا على الماء وقال القتبي " لا تقربوا الصلاة " يعني لا تقربوا المساجد وأنتم جنبا إلا مجتازين وقال بعضهم " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " من النوم وروى السدي عمن حدثه عن ابن عباس في قوله " ولا جنبا إلا عابري سبيل " قال في السفر يتيمم ويصلي ويقال إلا أن تكون في المسجد عين فيدخل ليغترف الماء
ثم قال تعالى " وإن كنتم مرضى " نزلت في عبد الرحمن بن عوف أصابته جنابة وهو جريح فرخص له بأن يتيمم ثم صارت الآية في جميع الناس وروي عن عبد الله بن عباس وجابر بن سمرة وغيرهما من الصحابة أن رجلا كان به جدري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابته جنابة فغسلوه فمات من ذلك فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قتلوه قتلهم الله فهلا يمموه وروي عن ابن عباس أنه قال " وإن كنتم مرضى " قال فإنما هو للمجذوم والمجدور والمقروح(1/331)
332
ثم قال " أو على سفر " يعني إذا كنتم مسافرين " أو جاء أحد منكم من الغائط " والغائط في اللغة اسم المكان المطمئن من الأرض وإنما هو كناية عن قضاء الحاجة ثم قال " أو لامستم النساء " قرأ حمزة والكسائي " أو لمستم " وقرأ الباقون " لامستم " من الملامسة قال ابن عباس يعني الجماع وقال بعضهم هو المس باليد " فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا " يعني إذا أصابكم الحدث أو الجنابة ولم تجدوا ماء " فتيمموا صعيدا طيبا " يعني ترابا نظيفا ويقال الصعيد هو ما علا وجه الأرض " فامسحوا بوجوهكم وأيديكم " قال بعضهم الوجه والكفين وهو قول الأعمش والأوزاعي وقال بعضهم إلى المنكبين وهو قول الزهري وقال عامة أهل العلم الوجه واليدين إلى المرفقين وبذلك جاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن عامة الصحابة رضوان الله عليهم اعتبارا بالوضوء
ثم قال تعالى " إن الله كان عفوا " يعني ذو الفضل والعفو حين أجاز لكم التراب مكان الماء " غفورا " لتقصيركم
سورة النساء الآيات 44 - 46
قوله تعالى " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب " يعني أعطوا حظا من علم التوراة " يشترون الضلالة " يعني يختارون الكفر على الإسلام قال القتبي وهذا من الاختصار ومعناه " يشترون الضلالة " بالهدى يعني يستبدلون هذا بهذا كقوله " إن العهد كان مسئولا " سورة الإسراء 34 مسؤولا عنه
ثم قال " ويريدون أن تضلوا السبيل " يعني تتركوا طريق الهدى وهو طريق الإسلام " والله أعلم بأعدائكم " يعني يعلم بعداوتهم إياكم يعني هو يعلم بالحقيقة وأنتم تعلمون الظاهر ويقال هذا وعيد لهم فكأنه يقول هو أعلم بعذابهم كما قال في آية أخرى " والله أعلم بالظلمين " سورة الأنعام 58 يعني بعقوبتهم ومجازاتهم
ثم قال " وكفى بالله وليا " يعني ناصرا لكم ومعينا لكم " وكفى بالله نصيرا " يعني مانعا لكم
قوله تعالى " من الذين هادوا " يعني مالوا عن الهدى قال الزجاج " من الذين هادوا " فيه قولان فجائز أن يكون " من " صلة والمعنى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب الذين هادوا ويجوز أن يكون معناه من الذين هادوا قوم " يحرفون الكلم عن مواضعه " يعني(1/332)
333
يحرفون نعته عن مواضعه وهو نعت محمد صلى الله عليه وسلم " ويقولون سمعنا " قولك " وعصينا " أمرك " واسمع غير مسمع " يعني غير مسمع منك " وراعنا ليا بألسنتهم " يعني يلوون ألسنتهم بالسب " وطعنا في الدين " يعني في دين الإسلام وقال القتبي كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم إذا حدثهم وأمرهم يقولون سمعنا ويقولون في أنفسهم وعصينا أمرك وإذا أرادوا أن يكلموه بشيء قالوا اسمع يا أبا القاسم ويقولون في أنفسهم لا سمعت ويقولون " راعنا " يوهمونه في ظاهر اللفظ أنهم يريدون انظرنا حتى نكلمك بما تريد ويريدون به السب بالرعونة " ليا بألسنتهم " أي قلبا للكلام بها " ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا " مكان سمعنا وعصينا " واسمع " مكان اسمع لا سمعت " وانظرنا " مكان قولهم راعنا " لكان خيرا لهم وأقوم " يعني وأصوب من التحريف والطعن
ثم قال تعالى " ولكن لعنهم الله بكفرهم " يعني خذلهم الله وطردهم مجازاة لهم بكفرهم " فلا يؤمنون إلا قليلا " يعني لا يؤمنون إلا بالقليل لأنهم لا يؤمنون بالقرآن ولا يؤمنون بجميع ما عندهم ولا بسائر الكتب وإنما يصدقون ببعض ما عندهم ويقال لا يؤمنون إلا القليل منهم وهم مؤمنو أهل الكتاب ويقال أنهم لا يؤمنون وهم بمنزلة رجل يقول فلان قليل الخير يعني إنه لا خير فيه
سورة النساء 47 - 48
ثم خوفهم فقال " يا أيها الذين آتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا " يعني صدقوا بالقرآن " مصدقا لما معكم " يعني موافقا للتوراة في التوحيد وبعض الشرائع " من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها " وطمسها أن يردها على بصائر الهدى ويقال طمسها أن يحول الوجوه إلى الأقفية ويقال يخسف الأنف والعين فيجعلها طمسا ويقال من قبل أن يسود الوجوه قال بعضهم يعني به في الآخرة ويقال هذا تهديد لهم في الدنيا وذكر أن عبد الله بن سلام قدم من الشام فلم يأت أهله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي ويقال " من قبل أن نطمس وجوها " يعني وجه القلب وهو كناية عن القسوة وقال مقاتل يعني من قبل أن تحول القبلة كقوله " ولكل وجهة هو موليها " سورة البقرة 148ثم قال " أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت " يعني(1/333)
334
نمسخهم كما مسخنا أصحاب السبت القردة ثم قال " وكان أمر الله مفعولا " يعني كائنا وهذا وعيد من الله تعالى لهم ليعتبروا ويرجعوا
قوله تعالى " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك " يعني دون الشرك " لمن يشاء " يعني لمن مات موحدا نزلت الآية في شأن الوحشي قاتل حمزة وذلك أن الناس لما التقوا يوم أحد وقد جعل الوحشي حرا إن قتل حمزة فقتله لم يوف له فلما قدم مكة ندم على صنيعه الذي صنع هو وأصحابه معه فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا إنا قد ندمنا على صنيعنا وإنه ليس يمنعنا من الدخول في الإسلام معك إلا أنا سمعناك تقول إذ كنت عندنا بمكة " والذين لا يدعون مع الله إلها أخر " سورة الفرقان 68 إلى قوله " يضعف له العذاب يوم القيامة " سورة الفرقان 69 وقد دعونا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس وزنينا فلولا هذه الآيات لاتبعناك فنزل " إلا من تاب وءامن وعمل صلحا " سورة مريم 60 الآية فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الى الوحشي وأصحابه فلما قرؤوا كتبوا إليه أن هذا شرط شديد نخاف ألا نعمل عملا صالحا فلا نكون من أهل هذه الآية فنزل " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " فبعث إليهم فقرؤوها فبعثوا إليه إن في هذه الآية شرطا أيضا نخاف ألا نكون من أهل مشيئته فنزل قوله " قل يعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم " سورة الزمر 53الآية فبعثها إليهم فلما قرؤوها وجدوها أوسع مما كان قبلها فدخل هو وأصحابه في الإسلام وروي عن ابن عمر أنه قال كنا إذا مات الرجل منا على كبيرة شهدنا أنه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " فأمسكنا عن الشهادة وهذه الآية رد على من يقول إن من مات على كبيرة يخلد في النار لأن الله تعالى قد ذكر في آية أخرى " إن الحسنات يذهبن السيئات " سورة هود 114يعني ما دون الكبائر فلم يبق لهذه المشيئة موضع سوى الكبائر ثم قال تعالى " ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما " يعني اختلق على الله كذبا عظيما ويقال فقد أذنب ذنبا عظيما
سورة النساء 49 - 50
قوله تعالى " ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم " يقول يبرئون أنفسهم من الذنوب وذلك أن رؤساء اليهود كانوا يقولون هل على أولادنا من ذنب فما نحن إلا كهيئتهم فهذا الذي زكوا به أنفسهم قال الله تعالى " بل الله يزكي من يشاء " يعني يصلح ويبرئ من يشاء من الذنوب ويقال يكرم من يشاء بالإسلام " ولا يظلمون فتيلا " قال الكلبي ومقاتل الفتيل الذي يكون في شق النواة وهو الأبيض ويقال هو ما فتلته بين أصبعيك من الوسخ إذا مسحت إحداهما بالأخرى يعني لا ينقصون من ثواب أعمالهم بذلك
المقدار(1/334)
335
ثم قال تعالى " انظر كيف يفترون على الله الكذب " يعني يختلفون على الله الكذب " وكفى به إثما مبينا " يعني ذنبا مبينا روى مقاتل عن الضحاك قال الفتيل والنقير والقطمير كلها في النواة
سورة النساء 51 - 55
ثم قال تعالى " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب " يعني أعطوا حظا من علم التوراة " يؤمنون بالجبت والطاغوت " الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف وقال القتبي كل معبود من حجر أو صورة أو شيطان فهو جبت وطاغوت ويقال الجبت السحر والسحرة والطاغوت الكهنة وقيل الجبت في هذه السورة رجلان من اليهود وإيمانهم بهما تصديقهم إياهما وطاعتهم إياهما
ثم قال تعالى " ويقولون للذين كفروا " يعني لمشركي مكة " هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا " وذلك أن رؤساء اليهود قدموا مكة بعد قتال أحد ونقضوا العهد وبايعوا المشركين وقالوا أنتم أهدى سبيلا من المسلمين
حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الدبيلي قال حدثنا أبو عبيد الله قال حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال جاء كعب بن الأشرف وفي رواية أخرى عن عكرمة عن ابن عباس قال جاء كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب إلى مكة فأتيا قريشا فقالت لهما قريش أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنا وعن ديننا القديم ودين محمد الحديث ونحن نصل الرحم ونسقي الحجيج ونفك العاني ومحمد صلى الله عليه وسلم صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج بنو غفار فنحن أهدى أم هو قالا بل أنتم أهدى سبيلا منهم فأنزل الله تعالى " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب " إلى قوله " ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا " يعني أهدى دينا منهم أي من المهاجرين والأنصار
قوله تعالى " أولئك الذين لعنهم الله " يعني خذلهم وطردهم الله من رحمته ويقال عذبهم بالجزية " ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا " يعني مانعا
قوله تعالى " أم لهم نصيب من الملك " يقول لو كان لهم يعني لليهود حظ من الملك " فإذا لا يؤتون الناس نقيرا " يعني لا يعطون أحدا من بخلهم وحسدهم نقيرا والنقير النقطة(1/335)
336
التي على ظهر النواة " أم يحسدون الناس " يعني أيحسدون الناس ويقال بل يحسدون الناس يعني به محمد صلى الله عليه وسلم " على ما آتاهم الله من فضله " من النبوة والرسالة وكثرة تزوجه النساء ويقولون لو كان نبيا لشغلته النبوة عن كثرة النساء فيحسدونه بذلك
قال الله تعالى " فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة " يعني النبوة والعلم والفهم " وآتيناهم ملكا عظيما " فكان يوسف عليه السلام ملكا على مصر وكان سليمان بن داود عليهما السلام ملكا وكانت له ثلاثمائة امرأة حرة سوى السرية هكذا قال مقاتل وقال الكلبي كانت له سبعمائة امرأة سوى ثلاثمائة سرية وكان لداود عليه السلام مائة امرأة فلم يكن تمنعهم النبوة عن ذلك ويقال الفائدة في كثرة تزوجه أنه كانت له قوة أربعين نبيا وكل من كان أقوى فهو أكثر نكاحا ويقال إنه أراد بالنكاح كثرة العشيرة لأن لكل امرأة قبيلتين قبيلة من قبل الأب وقبيلة من قبل الأم فكلما تزوج امرأة صرف وجوه القبيلتين إلى نفسه فيكونون عونا له على أعدائه ويقال إن كل من كان أتقى كانت شهوته أشهد لأن الذي لا يكون تقيا إنما يتفرج بالنظر والمس ألا ترى إلى ما روي في الخبر العينان تزنيان واليدان تزنيان فإذا كان في النظر وفي المس نوع من قضاء الشهوة فلا ينظر التقي ولا يمس فتكون الشهوة مجتمعة في نفسه فيكون أكثر جماعا وقال أبو بكر الوراق كل شهوة تقسي القلب إلا الجماع فإنه يصفي القلب ولهذا كان الأنبياء عليهم السلام يفعلون ذلك
قوله تعالى " فمنهم من آمن به " يعني من اليهود من آمن بالكتاب الذي أنزل على إبراهيم وآمن بالكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " ومنهم من صد عنه " يعني أعرض عنه مكذبا وهذا قول الكلبي وقال مقاتل " فمنهم من آمن به " يعني من آل إبراهيم " من آمن به " يعني بالكتاب الذي جاء به " ومنهم من صد عنه " يعني لم يؤمن به وقال الضحاك " أم يحسدون الناس " يعني اليهود يحسدون قريشا لأن النبوة كانت فيهم " فقد آتينا إبراهيم الكتاب " يعني إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط " الكتاب " يعني التنزيل " والحكمة " يعني السنة " وآتيناهم ملكا عظيما " يعني قريشا وبني هاشم " ملكا عظيما " يعني الخلافة لا تصلح إلا بقريش " فمنهم من آمن به " يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم " ومنهم من صد عنه " أي كفر به ثم قال تعالى " وكفى بجهنم سعيرا " يعني وقودا لمن كفر به
سورة النساء 56 - 57
ثم بين مصير من كذب به وموضع من آمن به فقال عز وجل " إن الذين كفروا بآياتنا " يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن " سوف نصليهم نارا " يعني ندخلهم نارا في الآخرة ويقال(1/336)
337
صلي إذا دخل النار لأجل شيء وأصلاه إذا أدخله للاحتراق والاصطلاء بالنار الاستدفاء ثم قال " كلما نضجت جلودهم " يقول كلما احترقت جلودهم " بدلناهم " يعني جددنا لهم " جلودا غيرها " لأنهم إذا احترقوا خبت عنهم النار ساعة فبدلوا خلقا جديدا ثم عادت تحرقهم فهذا دأبهم فيها وقال مقاتل تجدد في كل يوم سبع مرات وقال الحسن بلغني أنه ينضج كل يوم سبعين ألف مرة وقال الضحاك سبعين جلدا في كل يوم وقد طعنت الزنادقة في هذا وقالوا إن الذي يبدل الجلد لم يذنب فكيف يستحق العقوبة والعذاب قيل لهم إن ذلك الجلد هو الجلد الأول ولكنه إذا أحرق أعيد إلى الحال الأول كالنفس إذا صارت ترابا وصارت لا شيء ثم أحياها الله تعالى فكذلك هاهنا وقوله تعالى " جلودا غيرها " على وجه المجاز كما قال في آية أخرى " يوم تبدل الأرض غير الأرض " سورة إبراهيم 48 قال ابن عباس يعني يزاد في سعتها وتسوى جبالها وأوديتها
وقوله تعالى " ليذوقوا العذاب " يعني لكي يجدوا مس العذاب " إن الله كان عزيزا " في نقمته " حكيما " في أمره حكم عليهم بالنار ثم بين مصير الذين صدقوا به فقال عز وجل " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن " وعملوا الصالحات " يعني الطاعات التي أمرهم الله تعالى " سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها " يعني مقيمين فيها " أبدا لهم فيها أزواج مطهرة " في الخلق والخلق " وندخلهم ظلا ظليلا " قال الضحاك يعني ظلال أشجار الجنة وظلال قصورها وقال الكلبي " ظلا ظليلا " يعني دائما وقال مقاتل " ظلا " يعني أكناف القصور " ظليلا " يعني لا خلل فيها
سورة النساء 58
قوله تعالى " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " وذلك أن مفتاح الكعبة كان في يد بني شيبة وكانت السقاية في يد بني هاشم فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة وقال له هات المفتاح فخشي عثمان أن يعطيه إلى عمه العباس فجاء بالمفتاح وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم خذه بأمانة الله فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فإذا فيه تمثال إبراهيم عليه السلام مصور على الحائط وفي يده قداح وعنده إسماعيل عليه السلام والكبش مصوران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل الله الكفار ما لإبراهيم والقداح فأمر بالصور فمحيت فقضى حاجته من البيت ثم خرج فطلب منه عمه العباس بأن يدفع إليه المفتاح فنزلت هذه الآية " أن الله يأمركم إن تؤدوا الإمانات إلى أهلها " ودفع المفتاح إلى عثمان بن طلحة ثم صارت الآية عامة(1/337)
338
لجميع الناس برد الأمانات إلى أهلها ويقال نزلت في شأن اليهود حيث كتموا نعت محمد صلى الله عليه وسلم وكانت أمانة عندهم فمنعوها ويقال هذا أمر لجميع المسلمين بأداء الفرائض وجميع الطاعات لأنها أمانة عندهم كقوله تعالى " إنا عرضنا الأمانة على السموات " إلى قوله " وحملها الإنسان "
ثم قال تعالى " وإذا حكمتم بين الناس " يعني بين القوم " أن تحكموا بالعدل " يقول بالحق وقال الضحاك " بين الناس " يعني بين الخصوم " أن تحكموا بالعدل " يعني على بالبينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " إن الله نعما يعظكم به " يعني يأمركم بالعدل والنصيحة والاستقامة وأداء الأمانة " إن الله كان سميعا " بمقالة العباس " بصيرا " برد المفتاح إلى أهله قرأ ابن عامر والكسائي وحمزة " نعما " بنصب النون وكسر العين والاختلاف فيه كالاختلاف الذي في سورة البقرة وذلك قوله " إن تبدوا الصدقات فنعما هي "
سورة النساء 59
وقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله " يعني في الفرائض " وأطيعوا الرسول " يعني في السنن ويقال " وأطيعوا الله " فيما فرض " وأطيعوا الرسول " فيما بين ويقال " أطيعوا الله " بقول لا إله إلا الله " وأطيعوا الرسول " بقول محمد رسول الله " وأولي الأمر منكم " قال الكلبي ومقاتل يعني أمراء السرايا وقال الضحاك يعني الفقهاء والعلماء في الدين ويقال الخلفاء والأمراء يجب طاعتهم ما لم يأمروا بالمعصية
ثم قال " فإن تنازعتم في شيء " من الحلال والحرام والشرائع " فردوه إلى الله والرسول " يعني إلى أمر الله فيما يأمر بالوحي وإلى أمر الرسول فيما يخبر عن الوحي ثم بعد النبي صلى الله عليه وسلم لما انقطع الوحي يرد إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويقال معناه إذا أشكل عليكم شيء فقول الله ورسوله أعلم وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل وقال الخليل بن أحمد البصري الناس أربعة رجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهذا أحمق فاجتنبوه ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فهذا جاهل فعلموه ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فهذا نائم فأيقظوه ورجل يدري ويدري أنه يدري فهذا عالم فاتبعوه
ثم قال تعالى " إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " يعني إن كنتم تصدقون بالله وبالبعث بعد الموت " ذلك خير " يعني الرد إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم خير من الاختلاف " وأحسن تأويلا " يعني وأحسن عاقبه وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال حق على الإمام أن يحكم بالعدل ويؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك وجب على(1/338)
339
المسلمين أن يطيعوه فإن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل ثم أمرنا بطاعتهم وقال مجاهد " وأولي الأمر منكم " العلماء والفقهاء وهكذا روي عن جابر
سورة النساء 60 - 63
قوله تعالى " إلم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك " وذلك أن منافقا يقال له بشر كان بينه وبين يهودي خصومة فقال اليهودي انطلق بنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وكانت تلك الخصومة في حكم الإسلام على المنافقين وفي حكم اليهود على اليهود فقال اليهودي نأتي محمدا صلى الله عليه وسلم يحكم بيننا وقال المنافق بل نأتي كعب بن الأشرف حتى يحكم بيننا فكانا في ذلك إذ سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه قولهما فقال ما شأنكما فأخبراه بالقصة فقال عمر أنا أحكم بينكما فأجلسهما ثم دخل البيت وخرج بالسيف وقتل المنافق فنزلت الآية " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك " يعني القرآن " وما أنزل من قبلك " يعني سائر الكتب المنزلة " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت " وهو كعب بن الأشرف " وقد أمروا أن يكفروا به " يعني أمروا بتكذيبه وقال الضحاك نزلت الآية في شأن المنافقين لأنهم آمنوا بلسانهم ولم يؤمنوا بقلوبهم وركنوا إلى قول اليهود ومالوا إلى خلاف النبي صلى الله عليه وسلم فذلك قوله " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت " يعني إلى كهنة اليهود وسحرتهم
ثم قال " ويريد الشيطان أن يضلهم " عن الهدى وعن الحق " ضلالا بعيدا " عن الحق ثم قال " وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول " يعني إلى ما أمر الله في كتابه وإلى ما أمر الرسول " رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا " يعني يعرضون عنك إعراضا ويقال صد يصد يكون لازما ويكون متعديا وإنما يتبين ذلك بالمصدر ويقال صد يصد صدا إذا صرف غيره كقوله تعالى " فصدهم عن السبيل " سورة النمل 24 وصد يصد صدودا إذا أعرض بنفسه كقوله تعالى " فمنهم من ءامن به ومنهم من صد عنه " سورة النساء 55 وكقوله " رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا " النساء 61
قوله تعالى " فكيف إذا أصابتهم مصيبة " يقول فكيف يصنعون إذا أصابتهم عقوبة ( بما قدمت أيديهم ) يعني بما عملت أيديهم " ثم جاؤوك يحلفون بالله " قال في رواية الكلبي(1/339)
340
نزلت في شأن ثعلبة بن حاطب كانت بينه وبين الزبير بن العوام خصومة فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير فخرجا من عنده فمرا على المقداد بن الأسود فقال المقداد لمن كان القضاء يا ثعلبة فقال ثعلبة قضى لابن عمته الزبير ولوى شدقه على وجه الاستهزاء فنزلت هذه الآية " فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم " أي يليه شدقه فلما نزلت هذه الآية أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذر إليه ويحلف وهو قوله " ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا " يعني ما أردنا إلا الإحسان في المقالة " وتوفيقا " يقول صوابا وقال الضحاك ومقاتل نزلت في شأن الذين بنوا مسجد الضرار فلما أظهر الله تعالى نفاقهم وأمر بهدم المسجد حلفوا للرسول صلى الله عليه وسلم دفعا عن أنفسهم ما أردنا ببناء المسجد إلا طاعة الله تعالى وموافقة الكتاب
قوله تعالى " أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم " من الضمير وقال الزجاج معناه قد علم الله أنهم منافقون والفائدة لنا أن اعلموا أنهم منافقون قال ومعنى قوله " وتوفيقا " أي طلبا لما وافق الحق
ثم قال تعالى " فأعرض عنهم " ولا تعاقبهم " وعظهم " بلسانك " وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا " يعني خوفهم وهددهم إن فعلتم الثانية عاقبتكم وقال مقاتل تقدم إليهم تقديما وثيقا ثم نسخ بقوله " يأيها النبي جهد الكفار والمنفقين واغلظ عليهم " سورة التوبة 73
سورة النساء الآيات 64 - 65
قوله تعالى " وما أرسلنا من رسول " و " من " صلة فكأنه قال وما أرسلنا رسولا " إلا ليطاع بإذن الله " لكي يطاع بأمر الله ثم قال " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم " بصنيعهم " جاؤوك " بالتوبة " فاستغفروا الله " لذنوبهم " واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما " متجاوزا
قوله تعالى " فلا وربك لا يؤمنون " كقول القائل لا والله لا يؤمنون " حتى يحكموك " يعني حتى يقروا ويرضوا بحكمك يا محمد " فيما شجر بينهم " يعني فيما اختلفوا فيه ويقال تشاجرا أي اختلفا ويقال فيما التبس عليهم
قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الديبلي قال حدثنا أبو عبيد الله عن سفيان عن عمرو عن رجل من ولد أم سلمة عن أم سلمة أنها قالت كان بين الزبير بن العوام وبين رجل خصومه فقضى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير فقال الرجل إنما قضى له لأنه ابن عمته(1/340)
341
فأنزل الله تعالى " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " " ثم لا يجدوا في أنفسهم " يعني في قلوبهم " حرجا " أي شكا " مما قضيت " أنه الحق " ويسلموا تسليما " يعني ويخضعوا لأمرك في القضاء خضوعا قال الزجاج " تسليما " مصدر مؤكد فإذا قلت ضربة ضربا فكأنك قلت لا شك فيه كذلك " ويسلموا تسليما " أي ويسلمون لحكمك تسليما لا يدخلون على أنفسهم شكا
سورة النساء 66 - 68
قوله تعالى " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم " يعني لو فرضنا عليهم القتل " أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم " والقليل منهم عمار بن ياسر وابن مسعود وثابت بن قيس قالوا لو أن الله تعالى أمرنا أن نقتل أنفسنا أو نخرج من ديارنا لفعلنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان أثبت في قلوب الرجال من الجبال الرواسي قرأ ابن عامر " إلا قليلا منهم " بالألف وهكذا في مصاحف أهل الشام وقرأ الباقون " إلا قليل منهم " بالضم قرأ بالضم فمن فمعناه ما فعلوه ويفعله قليل منهم على معنى الأستئناف ومن قرأ بالنصب على معنى أنه خلاف الأول للاستثناء كقوله تعالى " إلا المستضعفين " النساء 98
ثم قال تعالى " ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به " يعني ما يؤمرون به " لكان خيرا لهم " في الآخرة في الثواب " وأشد تثبيتا " يعني تحقيقا في الدنيا
قوله تعالى " وإذا لآتيناهم " يقول حينئذ لأعطيناهم " من لدنا " يعني من عندنا " أجرا عظيما " في الآخرة يعني الجنة " ولهديناهم صراطا مستقيما " يعني دينا قيما يرضاه لهم
سورة النساء 69 - 70
قوله تعالى " ومن يطع الله والرسول " قال في رواية الكلبي نزلت الآية في شأن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب له وكان قليل الصبر عنه حتى تغير لونه ونحل جسمه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غير لونك فقال ما بي من مرض ولكني إذا لم أرك استوحشت وحشة عظيمة حتى ألقاك وأذكر الآخرة وأخاف أن لا أراك هناك فنزل " ومن يطع(1/341)
342
الله والرسول ) " فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم " في الجنة وقال في رواية الضحاك وذلك ان نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا يا نبي الله وإن صرنا إلى الجنة فإنك تفضلنا بدرجات النبوة فلا نراك فنزل " فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم " الآية
قال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا أبو العباس قال حدثنا قتيبة قال حدثنا جهضم عن عطاء بن السائب عن الشعبي أن رجلا من الأنصار أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله لأنت أحب إلي من نفسي وولدي وأهلي ومالي فلولا أني آتيك فأراك لا ريب أني سوف أموت قال وبكى الأنصاري فقال ما أبكاك قال ذكرت أنك تموت ونموت وترفع مع النبيين ونكون نحن وإن دخلنا دونك فلم يجبه بشيء فأنزل الله تعالى " ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم " " من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين " يعني من المسلمين
ثم قال " وحسن أولئك رفيقا " في الجنة يعني رفقاء كقوله تعالى " ثم نخرجكم طفلا " الحج 5 أي أطفالا وكقوله " كل صيحة عليهم هم العدو " المنافقون 4 يعني الأعداء " ذلك الفضل من الله " يعني المن والعطية من الله " وكفى بالله عليما " بالثواب في الآخرة
سورة النساء 71 - 73
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم " يعني عدتكم من السلاح " فانفروا ثبات " يعني عصبا سرايا " أو انفروا جميعا " مع النبي صلى الله عليه وسلم بأجمعكم قال الزجاج الثبات الجماعة المتفرقة فتأويله انفروا جماعات متفرقة أو انفروا مجتمعا بعضكم إلى بعض
قوله تعالى " وإن منكم لمن ليبطئن " فاللام الأولى زيادة للتأكيد واللام الثانية للقسم يعني وإن منكم من يتثاقل ويتخلف عن الجهاد يعني المنافقين فهذا الخطاب للمؤمنين فكأنه يقول إن فيكم منافقين يتثاقلون ويتخلفون عن الجهاد " فإن أصابتكم " يا معشر المسلمين " مصيبة " يعني نكبة وشدة وهزيمة من العدو " قال " ذلك المنافق الذي فيكم وتخلف عن الجهاد " قد أنعم الله علي " بالجلوس " إذا لم أكن معهم شهيدا " يعني حاضرا في تلك الغزوة
قوله تعالى " ولئن أصابكم فضل من الله " يعني الفتح والغنيمة " ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة " يعني معرفة وودا في الدين " يا ليتني كنت معهم " في تلك الغزوة " فأفوز فوزا عظيما " فأصيب غنائم كثيرة وقال مقاتل في الآية تقديم وتأخير ومعناه فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا كأن لم يكن بينكم وبينه مودة في الدين(1/342)
343
ولا ولاية قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص " كأن لم تكن " بالتاء لأن المودة مؤنثه وقرأ الباقون بالياء لأن تأنيثه ليس بحقيقي
سورة النساء الآيات 74 - 76
ثم أمر المنافقين بأن يقاتلوا لوجه الله تعالى فقال عز وجل " فليقاتل في سبيل الله " يعني فليقاتل الذين معكم في طاعة الله " الذين يشرون الحياة الدنيا " يعني يختارون الدنيا على الآخرة ويقال هذا الخطاب للمؤمنين فكأنه يقول فليقاتل في سبيل الله الكفار الذين يشرون الحياة الدنيا " بالآخرة "
ثم قال " ومن يقاتل في سبيل الله " يعني في طاعة الله " فيقتل " يقول فيستشهد " أو يغلب " يعني يقتل العدو ويهزمهم " فسوف نؤتيه أجرا عظيما " يعني ثوابا عظيما في الجنة فجعل ثوابهما واحدا يعني إذا غلب أو غلب يستوجب الثواب في الوجهين جميعا وقال الضحاك في قوله تعالى " ومن يقاتل في سبيل الله " قال ومن قاتل في سبيل الله فواق ناقة غفرت له ذنوبه ووجبت له الجنة فذلك قوله تعالى " فسوف نؤتيه أجرا عظيما " أي ثوابا عظيما في الجنة
ثم حث المؤمنين على القتال فقال تعالى " وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين " يعني وعن المستضعفين " من الرجال والنساء والولدان " ويقال وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وسبيل المستضعفين ويقال " وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله " وفي خلاص المستضعفين وقال الضحاك وذلك أن كفار قريش أسروا سبعة نفر من المسلمين وكانوا يعذبونهم فأمر الله بقتال الكفار ليستنقذوا الأسرى من أيديهم " الذين يقولون " يعني المستضعفين الذين بمكة يدعون الله تعالى ويقولون " ربنا أخرجنا من هذه القرية " يعني مكة " الظالم أهلها " بالشرك " واجعل لنا من لدنك وليا " يعني من عندك وليا حافظا يحفظنا " واجعل لنا من لدنك نصيرا " يعني مانعا يمنعنا منهم قال الكلبي لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جعل الله لهم النبي صلى الله عليه وسلم وليا وهو عتاب بن أسيد نصيرا وكان عتاب بن أسيد ينصف الضعيف من الشديد فنصرهم الله به وأعانهم وكانوا أعز من بمكة من الظلمة قبل ذلك أي صار المسلمون الضعفاء أعزاء كما كان الكفار قبل ذلك(1/343)
344
ثم مدح الله المؤمنين بقتالهم لوجه الله تعالى فقال " الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله " أي في طاعة الله تعالى وإعزاز الدين وذم المشركين المنافقين وبين أن قتالهم للشيطان فقال " والذين كفروا يقاتلون في سبيل الله الطاغوت " يعني في طاعة الشيطان
ثم حرض المؤمنين على القتال فقال " فقاتلوا أولياء الشيطان " يعني جند الشيطان وهم المشركون " إن كيد الشيطان كان ضعيفا " يعني مكر الشيطان كان واهيا ويقال أراد به يوم بدر حيث قال لهم الشيطان يعني للكفار لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه ويقال " إن كيد الشيطان كان ضعيفا " يعني مكروها ضعيفا لا يدوم وهذا كما يقال للحق وللباطل جولة
سورة النساء 77
ثم قال تعالى " ألم تر إلى الذين قيل لهم " يعني ألم تخبر عنهم ويقال معناه ألا ترى إلى هؤلاء وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كانوا بمكة استأذنوا في قتل كفار مكة سرا لما كانوا يلقون منهم من الأذى فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم مهلا " كفوا أيديكم " عن قتالهم " وأقيموا الصلاة " فإني لم أؤمر بقتالهم فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أمره الله تعالى بالقتال فكره بعضهم فنزلت هذه الآية " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم " عن القتل " وأقيموا الصلاة " أي أتموها " وآتوا الزكاة " يعني أقروا بها وأعطوها إذا وجبت عليكم " فلما كتب عليهم القتال " يعني فرض عليهم القتال بالمدينة " إذا فريق منهم يخشون الناس " يعني يخشون عذاب الكفار " كخشية الله " يقول كخشيتهم من عذاب الله " أو أشد خشية " يعني بل أشد خشية ويقال معناه وأشد خشية يعني أكثر خوفا " وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال " يقول لم فرضت علينا القتال " لولا أخرتنا " أي يقولون هلا أجلتنا " إلى أجل قريب " وهو الموت فبين الله تعالى لهم أن الدنيا فانية فقال " قل متاع الدنيا قليل " يقول منفعة الدنيا قليلة لأنها لا تدوم وقال النبي صلى الله عليه وسلم مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها
ثم قال تعالى " والآخرة خير لمن اتقى " ثواب الآخرة أفضل لمن اتقى الشرك والمعاصي " ولا تظلمون فتيلا " وقد ذكرناه قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وابن كثير " ولا تظلمون " بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر يعني المتقين(1/344)
345
سورة النساء الآية 78
قوله تعالى " أينما تكونوا يدرككم الموت " يعني في أي موضع يأتيكم الموت " ولو كنتم في بروج مشيدة " يعني في القصور الطوال المشيدة المبنية إلى السماء حتى لا يخلص إليه أحد من بني آدم وقال القتبي البروج الحصون والمشيدة المطولة وذلك أنهم لما تثاقلوا عن الخروج إلى الجهاد مخافة الموت فأخبرهم الله تعالى لا يموتون قبل الأجل إذا جاء أجلهم لا ينجون من الموت وإن كانوا في موضع حصين وهذا قوله تعالى " قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صدقين " آل عمران 168
ثم أخبر عن المنافقين فقال " وإن تصبهم حسنة " يعني الفتح والغنيمة والخصب " يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة " يعني نكبة وهزيمة " يقولوا هذه من عندك " يعني من شؤمك يعني أصابتنا بسببك أنت الذي حملتنا على هذا " قل كل من عند الله " يقول الرخاء والشدة من الله ويقال القدر خيره وشره من الله تعالى
ثم قال تعالى " فما لهؤلاء القوم " يعني ما للمنافقين " لا يكادون يفقهون حديثا " يعني لا يفهمون قولا إن الشدة والرخاء من الله تعالى لا يسمعون ولا يفقهون ما أتاهم ربهم في القرآن
سورة النساء 79 - 81
قوله تعالى " ما أصابك من حسنة " يعني النعمة وهو الفتح والغنيمة " فمن الله " أي بفضله " وما أصابك من سيئة " يعني البلاء والشدة من العدو أو الشدة في العيش " فمن نفسك " يعني فبذنبك وأنا قضيته عليك ويقال " ما أصابك من حسنة " يوم بدر فمن الله " وأصابك من سيئة " يوم أحد فمن نفسك يعني بذنب أصحابك يعني بتركهم المركز ويقال " ما أصابك من حسنة " يعني الدلائل والعلامات لنبوتك فمن الله " وما أصابك من سيئة " يعني انقطاع الوحي فمن نفسك يعني بترك الاستثناء حيث انقطع عنك جبريل عليه السلام أياما بترك استثنائك به ويقال " ما أصابك من حسنة " يعني تكثير الأمة فمن الله " وما أصابك من سيئة " يعني من أذى الكفار فبتعجيلك كقوله تعالى " لعلك بخع نفسك ألا يكونوا(1/345)
346
مؤمنين ) الشعراء 3 ويقال فيه تقديم وتأخير ومعناه " فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا " النساء 78 ويقولون " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " " قل كل من عند الله " النساء 78
ثم قال تعالى " وأرسلناك للناس رسولا " يعني ليس عليك سوى تبليغ الرسالة " وكفى بالله شهيدا " على مقالتهم وفعلهم
ثم قال تعالى " ومن يطع الرسول فقد أطاع الله " يعني من يطع الرسول فيما أمره فقد أطاع الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم بأمر الله تعالى وفي طاعته طاعة الله تعالى ويقال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله فقال المنافقون إن هذا الرجل يريد أن نتخذه حنانا فأنزل الله تعالى تصديقا لقوله " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله " آل عمران 31 وقال " من يطع الرسول فقد أطاع الله "
ثم قال تعالى " ومن تولى " يعني أعرض عن طاعة الله وطاعة رسوله " فما أرسلناك عليهم حفيظا " أي رقيبا وكان ذلك قبل الأمر بالقتال
ثم أخبر عن أمر المنافقين فقال " ويقولون طاعة " يعني يقولون بحضرتك قولك طاعة وأمرك معروف فمرنا بما شئت فنحن لأمرك نتبع ( فإذا برزوا ) يقول خرجوا " من عندك بيت " يقول ألغت ويقال غيرت " طائفة منهم غير الذي تقول " وقال الزجاج يقال لكل أمر قضي بليل قد بيت قرأ أبو عمرو وحمزة " بيت طائفة " بالإدغام لقرب مخرج التاء من الطاء وقرأ الباقون بالإظهار لأنهما كلمتان
ثم قال تعالى " والله يكتب ما يبيتون " يعني يحفظ عليهم ما يغيرون وقال الزجاج " والله يكتب " له وجهان يجوز أن يكون ينزله إليك في كتابه وجائز أن يكون يحفظ ما جاؤوا به
ثم قال تعالى " فأعرض عنهم " يعني اتركهم " وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا " يعني شهيدا ويقال " وتوكل على الله " يعني ثق بالله " وكفى بالله وكيلا " يعني ثقة لك ثم نسخ بقوله تعالى " يأيها النبي جهد الكفار والمنافقين " التوبة 73 والتحريم 9
سورة النساء 82(1/346)
347
84
قوله تعالى " أفلا يتدبرون القرآن " يعني أفلا يتفكرون في مواعظ القرآن ليعتبروا بها ويقال أفلا يتفكرون في معاني القرآن فيعلمون أنه من عند الله تعالى لأنه " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " يعني تناقصا كثيرا ويقال أباطيل وكذبا كثيرا لأن الاختلاف في قول الناس وقول الله تعالى لا اختلاف فيه فلهذا قال أهل النظر إن الإجماع حجة لأن الإجماع من الله تعالى ولو لم يكن من الله تعالى لوقع فيه الاختلاف ولهذا قالوا إن القياس إذا انتقض سقط الاحتجاج به لأنه لو كان حكم الله تعالى لم يرد عليه نقض
قوله تعالى " وإذا جاءهم أمر من الأمن " يعني المنافقين جاءهم خبر من أمر السرية بالفتح والغلبة على العدو سكتوا وقصروا عما جاءهم من الخبر " أو الخوف " يعني وإن جاءهم خبر من السرية ببلاء وشدة نزلت بالمؤمنين " أذاعوا به " يعني أفشوه " ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم " قال الكلبي لو سكتوا عن إفشائه حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يفشيه " وأولو الأمر " منهم مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " يقول يتبعونه منهم فيكون هؤلاء الذين يسمعونه ويفشونه ويعلمونه " إلا قليلا منهم "
قال تعالى " ولولا فضل الله عليكم ورحمته " يعني لولا من الله عليكم ونعمته " لاتبعتم الشيطان " فيه تقديم وتأخير وقال مقاتل أذاعوا به يعني أفشوه " إلا قليلا " منهم لا يفشون الخبر وقال الزجاج " أذعوا به " يعني أظهروه ومعنى " يستنبطونه منهم " يعني يستخرجونه وأصله من النبط وهو أول الماء الذي يخرج من البئر إذا حفرت ولو ردوا ذلك إلى أن يأخذوا من قبل الرسول ومن قبل أولي الأمر منهم لعلمه هؤلاء الذين أذاعوا به من ضعف المؤمنين وعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم وذوي العلم وكانوا يعلمون مع ذلك وقال عكرمة لعلمه الذين يخوضون فيه ويسألون عنه وقال أبو العالية يعني الذين يتجسسونه منهم وقال الضحاك ولو ردوا أمرهم في الحلال والحرام إلى الرسول في التصديق به والقبول منه " وإلى أولي الأمر منهم " يعني حمله الفقه والحكمة " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " يعني يتفحصون عن العلم " ولولا فضل الله عليكم " بالنبي صلى الله عليه وسلم " ورحمته " بالقرآن " لاتبعتم الشيطان إلا قليلا " وهم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى وفي هذه الآية دليل على جواز الاستنباط من الخبر والكتاب لأن الله تعالى قد أجاز الاستنباط من قبل الرسول وأهل العلم
قوله تعالى ( فقاتل في سبيل الله ) يعني في طاعة الله " لا تكلف إلا نفسك " قال مقاتل يعني ليس عليك ذنب غيرك وقال الزجاج أمر الله تعالى رسوله صلى
الله عليه وسلم بالجهاد وإن قاتل(1/347)
348
وحده لأنه قد ضمن له النصرة وقال أبو بكر رضي الله عنه في أهل الردة لو خالفتني يميني لجاهدت بشمالي ويقال واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بأن يخرج إلى بدر الصغرى فكرة المسلمون الخروج فأمر الله تعالى بأن يخرج وإن كان وحده فقال " وحرض المؤمنين " على القتال يعني على الجهاد بقتال أعداء الله تعالى " عسى الله أن يكف " يعني يمنع " بأس الذين كفروا " يعني قتال الذين كفروا والبأس هو القتال كما قال في آية أخرى " وحين البأس " البقرة 177
ثم قال تعالى " والله أشد بأسا " يعني عذابا ويقال قوة " وأشد تنكيلا " يعني أشد عقوبة في الآخرة من عقوبة الكفار في الدنيا
سورة النساء 85
قوله تعالى " من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها " قال الضحاك يعني من سن سنة حسنة في الإسلام فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء " ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها " يعني من سن سنة قبيحة محدثة في الإسلام فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء وقال الكلبي " من يشفع شفاعة حسنة " يعني يصلح بين اثنين يكن له أجر منها " ومن يشفع شفاعة سيئة " يعني بالنميمة والغيبة " يكن له كفل منها " يعني إثم منها وقال مجاهد إنما هي شفاعة في الناس بعضهم لبعض يعني يشفع لأخيه المسلم في دفع المظلمة عنه وروى سفيان عن عمرو بن دينار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اشفعوا إلي تؤجروا فإن الرجل منكم يسألني الأمر فأمنعه كي ما تشفعوا فتؤجروا وقال الحسن الشفاعة تجري أجرها لصاحبها ما جرت منفعتها والكفل في اللغة النصيب كقوله تعالى " يؤتكم كفلين من رحمته " الحديد 28
ثم قال تعالى " وكان الله على كل شيء مقيتا " والمقيت المقتدر يقال أقات على الشي يعني اقتدر ويقال المقيت الشاهد على الشيء الحافظ له ويقال " مقيتا " يعني بيده الرزق وعليه قوت كل دابة كقوله " وقدر فيها أقواتها " فصلت 10
سورة النساء 86
قوله تعالى " وإذا حييتم بتحية " يعني إذا سلم عليكم " فحيوا بأحسن منها " يعني ردوا جوابها بأحسن منها " أو ردوها " يعني مثلها فأمر الله تعالى المسلمين برد السلام بأن(1/348)
349
يردوا بأحسن منها وهو أن يقولوا وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أو يرد مثله فيقول وعليكم السلام وقال قتادة " فحيوا بأحسن منها " للمسلمين " أو ردوها " لأهل الذمة فيقول لهم وعليكم وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا دخل عليه وقال السلام عليكم فقال له وعليكم السلام فلك عشر حسنات ودخل آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله فرد عليه فقال لك عشرون حسنة ودخل آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد عليه فقال لك ثلاثون حسنة وروي عنه أنه نهى أن ينقص الرجل من سلامه أو من رده وهو أن يقول السلام عليك ولكن ليقل السلام عليكم ويقال إنما ذلك للمؤمنين لأن المؤمن لا يكون وحده ولكن يكون معه الملائكة وفي هذه الآية دليل أن السلام سنة والرد واجب لأن الله تعالى أمر بالرد والأمر من الله تعالى واجب ويقال " وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها " يعني إذا أهدي إليكم بهدية فكافئوا بأفضل منها أو مثلها وهذا التأويل ذكر عن أبي حنيفة رحمه الله ثم قال " إن الله كان على كل شيء حسيبا " يعني مجازيا
سورة النساء 87
قوله تعالى " الله لا إله إلا هو " نزلت في شأن الذين شكوا في البعث فأقسم الله تعالى بنفسه " ليجمعنكم إلى يوم القيامة " وهذه لام القسم وكل لام بعدها نون مشددة فهي لام القسم وقال بعضهم " إلى " صلة في الكلام معناه ليجمعنكم يوم القيامة ويقال ليجمعنكم في الموت وفي قبوركم إلى يوم القيامة ثم يبعثكم " لا ريب فيه " يعني لا شك فيه وهو البعث يعني لا شك فيه عند المؤمنين ويقال لا ينبغي أن يشك فيه
ثم قال تعالى " ومن أصدق من الله حديثا " يعني من أوفى من الله قولا وعهدا قرأ حمزة والكسائي ومن أزدق بالزاي وقرأ الباقون " أصدق " وأصله الصاد إلا أنه لقرب مخرجيهما يجعل مكانه الزاي
سورة النساء 88(1/349)
350
91
قوله تعالى " فما لكم من المنافقين فئتين " نزلت في تسعة نفر ارتدوا عن الإسلام فخرجوا من المدينة وانطلقوا إلى مكة ثم أنهم خرجوا تجارا إلى الشام فقال بعض المسلمين نخرج إلى هؤلاء ونقتلهم ونأخذ أموالهم وقال بعضهم هم مسلمون فلا يجوز أخذ أموالهم ويقال كان قوم من المنافقين بمكة خرجوا إلى الشام فاختلف المسلمون في أمرهم فبين الله تعالى للمسلمين نفاقهم فقال تعالى " فما لكم في المنافقين فئتين " يعني صرتم في أمر المنافقين فئتين يعني فريقين تختصمون في أمرهم " والله أركسهم بما كسبوا " يعني أذلهم ويقال أهلكهم ويقال " أركسهم " يعني ردهم إلى كفرهم ويقال ركست الشيء وأركسته إذا رددته إلى الحال الأول
ثم قال تعالى " أتريدون أن تهدوا من أضل الله " يعني ترشدون إلى الهدى من أضله الله تعالى " ومن يضلل الله " عن الهدى " فلن تجد له سبيلا " يعني دينا ويقال مخرجا
ثم قال تعالى " ودوا لو تكفرون " يعني لو ترجعون عن هجرتكم " كما كفروا " يعني كما رجعوا " فتكونون سواء " يعني فتكونون أنتم وهم على الكفر سواء ومن هذا يقال في المثل إن من أحرق يوما كدسه يتمنى حرق أكداس الناس فكذلك الكفار كانوا يتمنون ان يكون الناس كلهم كفارا حتى يحترقوا معهم
قال الله تعالى " فلا تتخذوا منهم أولياء " في الدين والنصرة " حتى يهاجروا في سيبل الله " يعني حتى يتوبوا ويرجعوا إلى دار الهجرة بالمدينة " فإن تولوا " يعني أبوا الهجرة " فخذوهم " يعني فأسروهم " واقتلوهم حيث وجدتموهم " يعني أين وجدتموهم من الأرض " ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا " في العون
ثم استثنى الذين كان بينهم وبين المسلمين عهد فقال " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق " وهم خزاعة وبنو مدلج وبنو خزيمة وهلال بن عويمر الأسلمي وأصحابه صالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل من أتاهم من المسلمين فهو آمن ومن جاء منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو آمن وفي هذه الآية إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل الإسلام إذا كانت في الموادعة مصلحة للمسلمين
ثم قال تعالى " أو جاؤوكم حصرت صدورهم " يعني ضاقت قلوبهم " أن يقاتلوكم "(1/350)
351
من قبل العهد " أو يقاتلوا قومهم " معكم من قبل القرابة ثم قال " ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم " ذكر منته على المؤمنين أنه يدفع عنهم البلاء ومنعهم عن قتالهم
ثم قال تعالى " فإن اعتزلوكم " في القتال " فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم " يعني الصلح معناه أنهم لو ثبتوا على صلحهم فلا تقاتلوكم فذلك قوله " فما جعل الله لكم عليهم سبيلا " يعني حجة وسلطانا في قتالهم
ثم قال تعالى " ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم " وهم أسد وغطفان كانوا إذا أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقولون آمنا بك وإذا رجعوا إلى قومهم قالوا آمنا بالعقرب والخنفساء يقول إنهم لم يريدوا بذلك تصديق النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أرادوا به الاستهزاء وقال مجاهد هم ناس من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ويسلمون رياء ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون بالأوثان ويريدون أن يأمنوا هاهنا وهاهنا فذلك قوله تعالى " كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها " يقول كلما دعوا إلى الشرك عادوا إليه ودخلوا فيه " فإن لم يعتزلوكم " في القتال " ويلقوا إليكم السلم " يعني لم يلقوا إليكم الصلح " ويكفوا أيديهم " عن قتالكم يعني إن لم يكفوا أيديهم " فخذوهم " يعني أسروهم " واقتلوهم حيث ثقفتموهم " يعني حيث أدركتموهم ووجدتموهم " وأولئكم " يعني أهل هذه الصفة " جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا " يعني حجة مبينة في القتال
سورة النساء الآية 92
قوله تعالى " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ " يقول وما جاز لمؤمن أن يقتل مؤمنا متعمدا إلا خطأ بغير قصد منه ويقال معناه ولا خطأ يعني ما جاز له يقتل عمدا ولا خطأ ثم قال " ومن قتل مؤمنا خطأ " نزلت الآية في شأن عياش بن أبي ربيعة حين قتل الحارث بن زيد وذلك أن عياشا هاجر إلى المدينة مؤمنا فجاءه أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام وهما أخواه لأمه ومعها الحارث بن زيد فقالوا له إن أمك تناشدك بحقها ورحمها أن ترجع إليها وأنك أحب الأولاد إليها وقد حلفت ألا يظلها بيت ولا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا حتى ترجع إليها فارجع إليها وكن على دينك فخرج معهم فلما خرج من المدينة أوثقوه بحبل وضربوه وحملوه إلى مكة وألقوه في الشمس وحلفت أمه بأن(1/351)
352
لا يحله أحد ما لم يكفر بالله فتركوه على حاله حتى أعطاهم الذي أرادوه فحلوه من الوثاق فقال له الحارث بن زيد إن كان الذي كنت عليه هدى فقد تركته وإن كان ضلالة فقد كنت في ضلالة فحلف عياش بأن يقتل الحارث بن زيد إذا لقيه خاليا ثم إن عياشا خرج إلى لمدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم ثم أسلم الحارث بن زيد بعد ذلك فلقيه عياش في بعض سكك المدينة ولم يعلم بإسلامه فقتله ثم علم بإسلامه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالأمر الذي كان منه فنزلت هذه الآية فيه وصارت الآية عامة لجميع الناس وهو قوله " ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " يعني فعليه عتق رقبة مؤمنة ولو أعتق رقبة كافرة لم يجز بالإجماع " ودية مسلمة إلى أهله " يعني وعليه دية مسلمة إلى أهل القتيل والدية مائة من الإبل " إلا أن يصدقوا " وأصله أن يتصدقوا فأدغم التاء في الصاد وأقيم التشديد مقامه ومعناه إلا أن يعفو عنه أولياء القتيل ولا يأخذوا منه شيئا
ثم قال تعالى " فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن " يعني إن كان القتيل من أهل الحرب وقد أسلم في دار الحرب فقتله رجل في دار الحرب فعلى القاتل الكفارة عتق رقبة مؤمنة ولا دية عليه وهذا بالإجماع وقد نزلت الآية في شأن أسامة بن زيد قتل رجلا يقال له مرداس وكان مسلما فنزلت هذه الآية وروي عن عطاء بن السائب عن أبي عياض أنه قال كان الرجل يأتي ويسلم ثم يأتي قومه وهم مشركون فيقيم فيهم فيغزوهم الجيش من جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتل الرجل فنزلت هذه الآية " فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن " " فتحرير رقبة مؤمنة " وليس عليه دية
ثم قال تعالى " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق " يعني إن كان المقتول من أهل الذمة " فدية مسلمة " يعني فعليه دية مسلمة " إلى أهله " " و " عليه أيضا " تحرير رقبة مؤمنة " وروي عن عبد الله بن عباس أن مستأمنين دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكساهما وحملهما فلما خرجا من عنده لقيهما عمرو بن أمية الضمري فقتلهما ولم يعلم أنهما مستأمنان فقداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية حرين مسلمين فنزلت هذه الآية " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة " ولهذا قال علماؤنا إن دية الذمي والمسلم سواء
وهكذا روي عن أبي بكر وعمر وعثمان أن دية الذمي والمسلم سواء مائة من الإبل
ثم قال تعالى " فمن لم يجد " يعني قاتل الخطأ إذا لم يجد رقبة مؤمنة " فصيام شهرين " يعني فعليه صيام شهرين " متتابعين توبة من الله " يعني تلك الكفارة توبة للقاتل من الله تعالى ويقال سبب للتجاوز من الله تعالى " وكان الله عليما " بالقاتل " حكيما
" يعني حكم بالكفارة على من قتل خطأ(1/352)
353
سورة النساء 93
قوله تعالى " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها " روي عن سالم بن أبي الجعد قال كنت عند عبد الله بن عباس بعدما كف بصره فجاءه رجل فناداه ما تقول فيمن قتل مؤمنا متعمدا فقال " جزاؤه جهنم خالدا فيها " " وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما " فقال أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى قال وأنى له الهدى سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول يأتي قاتل المؤمن متعمدا ويتعلق به المقتول عند عرش الرحمن فيقول يا رب سل هذا فيم قتلني فوالذي نفسي بيده في هذا نزلت هذه الآية فما نسختها آية بعد نبيكم وما نزل بعده من برهان وروي عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما قالا لا توبة له وقال غيرهما له التوبة لأن الله تعالى ذكر الشرك والقتل والزنى ثم قال ( ألا من تاب وءامن ) إلى قوله " فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " الفرقان 70ويقال معنى " فجزاؤه جهنم خالدا فيها " يعني داخلا فيها لأنه لم يذكر فيها الأبد كما أن الرجل يقول خلدت فلانا في السجن يعني أدخلته ويقال معناه " فجزاؤه جهنم " أي إن جازاه وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا وعد الله لعبده ثوابا فهو منجزه وإن أوعد له العقوبة فله المشئة إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه ويقال معناه " من يقتل مؤمنا متعمدا " يعني مستحلا لقتله " فجزاؤه جهنم خالدا فيها " لأنه كفر باستحلاله ويقال " ومن يقتل مؤمنا متعمدا " متعمدا لأجل إيمانه كما روي في الأثر أن بغض الأنصار كفر إن كان بغضهم لأجل نصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذلك هاهنا إذا قتله لأجل إيمانه صار كافرا ويقال هو منسوخ بقوله تعالى " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " النساء 48 - 116 ويقال معناه فجزاؤه جهنم بقتله خالدا فيها بارتداده لأن الآية نزلت في شأن رجل قتل مؤمنا متعمدا ثم ارتد عن الإسلام وهو مقيس بن ضبابة الكناني وجد أخاه هشام بن ضبابة قتيلا في بني النجار فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني فهر إلى بني النجار وأمره بأن يقرئهم السلام ويأمرهم بأن يطلبوا قاتله فإن وجدوه قتلوه وإن لم يجدوه حلفوا خمسين يمينا وغرموا الدية فلما أتاهم مقيس بن ضبابة ورسول رسول الله صلى الله عليه وسلم معه بلغهم الرسالة فقالوا سمعا وطاعة لأمر الله ورسوله وقالوا ما نعرف قاتله فحلفوا وغرموا الدية فلما رجع مقيس بن ضبابة قال في نفسه إني بعت دم أخي بمائة من الإبل ودخلت فيه حمية الجاهلية وقال أقتل هذا الفهري مكان أخي وتكون الدية فضلا لي فقتله وتوجه إلى مكة وقال في ذلك شعرا(1/353)
354
( قتلت به فهرا وحملت عقله % سراة بني النجار أرباب فارع )
( فأدركت ثأري واضطجعت توسدا % وكنت إلى الأوثان أول راجع ) فنزلت هذه الآية في شأنه إن جزاؤه جهنم خالدا فيها وكل من يعمل مثل عمله
سورة النساء 94
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله " يقول إذا خرجتم وضربتم في الجهاد " فتبينوا " نزلت الآية في شأن أسامة بن زيد لقي رجلا يقال له مرداس فقال له مرداس قال السلام عليكم وقال إني مؤمن وقال لا إله إلا الله فقتله أسامة ولم يصدقه بأنه مسلم فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أقتلت رجلا يقول لا إله إلا الله فقال أسامة إنه قال بلسانه دون قلبه فقال صلى الله عليه وسلم هلا شققت عن قلبه فقال أسامة استغفر لي فقال له فكيف استغفر لك بلا إله إلا الله ) ثلاث مرات ثم استغفر له الرابعة وأمره بأن يعتق رقبة وروى شهر بن حوشب عن جندب بن سفيان عن رجل من بجيلة قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه بشير من السرية فأخبره بالفتح وقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما نحن نطلب القوم وقد هزمهم الله فقصدت رجلا بالسيف فلما أحس أن السيف واقع به فقال إني مسلم فقتلته فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أقتلت مسلما فقال يا رسول الله إنه قال متعوذا فقال صلى الله عليه وسلم أفلا شققت عن قلبه فقال يا رسول الله استغفر لي فقال لا أستغفر لك فمات الرجل فدفنوه ثم أصبح على وجه الأرض ثم دفنوه فأصبح على وجه الأرض ثلاث مرات فلما رأى ذلك قومه استحيوا منه وحزنوا فحملوه وألقوه في شعب من تلك الشعاب فنزلت هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا " يعني قفوا وانظروا من تقتلون قرأ حمزة والكسائي " فتثبتوا " بالثاء وقرأ الباقون " فتبينوا " بالباء فمن قرأ بالثاء فهو من التثبت وهو التأني يعني قفوا ولا تعجلوا في الأمر حتى يتبين لكم الكافر من المسلم ومن قرأ بالباء فهو من التبين ومعناهما قريب
ثم قال تعالى " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام " قرأ أبو عمرو وعاصم وابن كثير والكسائي " السلام " بالألف وقرأ نافع وابن عامر وحمزة " السلم " بغير ألف وأما من قرأ " السلام " فلأن مرداسا قال لهم السلام عليكم وأما من قرأ " السلم " فهو الدخول في(1/354)
355
الانقياد والمتابعة يعني إن انقاد لكم وتابعكم فلا تقولوا له " لست مؤمنا " وأسلم واستسلم بمعنى واحد أي دخل في الانقياد كما تقول أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء وأربع إذا دخل في الربيع ثم قال " تبتعون عرض الحياة الدنيا " وذلك أن الرجل كانت معه غنيمة حين قتلوه وأخذوا ما معه من الغنيمة فعيرهم الله تعالى بطمعهم في المال ثم قال " فعند الله مغانم كثيرة " يعني عند الله ثواب كثير في الآخرة لمن اتقى ويقال غنائم كثيرة في الدنيا فاطلبوا من حيث أذن لكم وأبيح لكم
ثم قال تعالى " كذلك كنتم من قبل " يعني هكذا كنتم من قبل الهجرة بمنزلة مرداس تأمنون في قومكم بالتوحيد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعصم دماؤكم وأموالكم ولا تخيفون أحدا وكنتم تأمنون بمثله قبل هجرتكم " فمن الله عليكم " بالهجرة ويقال هكذا كنتم يعني كنتم تكتمون إيمانكم من قبل ويقال أي كنتم كفار فمن الله عليكم بالإسلام ثم قال " فتبينوا " يعني قفوا وانظروا في أمركم لكيلا تقتلوا مؤمنا فصارت الآية عامة لجميع السرايا إذا دخلوا دار الحرب ينبغي أن يتبينوا لكي لا يقتلوا مؤمنا ثم قال " أن الله بما تعملون خبيرا " يعني عالما بكم وبأعمالكم
سورة النساء 95 - 96
ثم قال تعالى " لا يستوي القاعدون من المؤمنين " يعني القاعدين عن الجهاد لا يكون حالهم مثل حال الذين يجاهدون في الثواب والأجر " غير أولي الضرر " يعني القاعدين الذين لا عذر لهم ومن كان له عذر فهو خارج من هذا قال ابن عباس يعني ابن أم مكتوم ومحمد بن جحش ويقال عبد الله بن جحش فقالا إنا أعميان فهل لنا من رخصة فنزلت " غير أولي الضرر "
حدثنا أبو الفضل بن أبي حفص قال حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال حدثنا إبراهيم بن داود قال حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأوسي قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سهل بن سعد الساعدي قال رأيت مروان بن الحكم جالسا في المسجد فأقبلت حتى جلست إلى جنبه فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر " " والمجاهدون في سبيل الله " فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها علي فقال يا رسول الله لو أني أستطيع الجهاد لجاهدت وكان رجلا أعمى فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي فثقلت علي(1/355)
356
حتى خفت أن يرض فخذي ثم سري عنه فأنزل الله تعالى " غير أولي الضرر " يعني إلا أن يكون أولي الضرر
قرأ نافع والكسائي وابن عامر " غير أولي الضرر " بنصب الراء وقرأ حمزة وعاصم وابن كثير وأبو عمرو " غير أولي الضرر " بالضم وقرأ بعضهم " غير أولي الضرر " بالكسر فمن قرأ بالضم جعله نعتا ل " القاعدون " يعني لا يستوي القاعدون غير أولي الضرر ومن قرأ بالنصب فهو على معنى الاستثناء ويقال هو نصب على الحال ومن قرأ بالكسر فلحرف الكسر " المؤمنين "
ثم قال تعالى " فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين " يعني بغير عذر " درجة " يعني فضيلة في الآخرة " وكلا " يعني المجاهدين والقاعدين والمعذورين " وعد الله الحسنى " يعني وعد الله لهم الثواب وهو الجنة
ثم قال تعالى " وفضل الله المجاهدين على القاعدين " يعني بغير عذر " أجرا عظيما " ثم بين الأجر فقال " درجات منه " يعني فضائل من الله تعالى في الجنة يعني سبعين درجة وروى هشام بن حسان عن جبلة بن عطية عن ابن محيريز قال ما بين الدرجتين حضر الفرس أو الجواد سبعين عاما ثم قال " ومغفرة " يعني مغفرة لذنوبهم " ورحمة " يعني نعمة في الجنة " وكان الله غفورا " لمن جاهد " رحيما " إذ سوى بين من له عذر بالفضل مع غيره
سورة النساء 97 - 99
قوله تعالى " إن الذين توفاهم الملائكة " يعني ملك الموت يقبض أرواحهم " ظالمي أنفسهم " يعني الذين أسلموا بمكة وتخلفوا عن الهجرة وخرجوا مع المشركين إلى بدر فلما رأوا قلة المؤمنين شكوا وكفروا فقتل بعضهم فأخبر الله تعالى عن حالهم فقال " قالوا فيم كنتم " يعني الملائكة تقول لهم في أي شيء كنتم ويقال أين كنتم عن الهجرة " قالوا كنا مستضعفين في الأرض " يقولون كنا مقهورين في أرض مكة لا نقدر أن نظهر الإيمان " قالوا " يعني قالت لهم الملائكة عليهم السلام " ألم تكن أرض الله واسعة " يعني المدينة مطمئنة رحبة " فتهاجروا فيها " يعني إليها فقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم " فأولئك مأواهم جهنم " أي منزلهم ومصيرهم إلى النار " وساءت مصيرا " يعني بئس المصير صاروا إليها(1/356)
357
حدثنا أبو الفضل بن أبي حفص قال حدثنا الطحاوي قال حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال حدثنا أبو عبد الرحمن المقري عن حيوة بن شريح عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عكرمة عن ابن عباس قال كان ناس من المسلمين مع المشركين يكثرون سواد المشركين يأتي السهم يرمي به فيصيب أحدهم فيقتله فأنزل الله تعالى " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " الآية
ثم استثنى أهل العذر فقال " إلا المستضعفين " يعني المقهورين " من الرجال والنساء والولدان " فليس مأواهم جهنم وهم الذين " لا يستطيعون حلية ولا يهتدون سبيلا " يعني لا يجدون سعة الخروج عنهم إلى المدينة ولا يعرفون طريقا إلى المدينة " فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم " أي يتجاوز عنهم و " عسى " من الله تعالى واجب " وكان الله عفوا " عنهم " غفورا " لهم فلا يعاقبهم فقال عبد الله بن عباس أنا ممن استثنى الله يومئذ كنت غلاما صغيرا وكان ذلك قبل نسخ الهجرة ثم نسخت الهجرة بعد فتح مكة
حدثنا أبو الفضل بن أبي حفص قال حدثنا الطحاوي قال حدثنا أبو أمية قال حدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا عبيد الله بن موسى قال حدثنا إبراهيم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة خطب الناس فقال في خطبته ولا هجرة بعد الفتح وروى عن طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح إنه لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا
سورة النساء 100
قوله تعالى " ومن يهاجر في سبيل الله " يقول في طاعة الله إلى المدينة " يجد في الأرض مراغما كثيرا " يقول ملجأ متحولا من الكفر إلى الإيمان " وسعة " في الرزق وقال القتبي المراغم والمهاجر واحد ويقال راغمت وهاجرت لأنه إذا أسلم خرج مراغما لأهله أي مغايظا لهم والمهاجر المنقطع وقيل للذاهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم مهاجر مراغم لأنه إذا خرج هجر قومه وروي عن معمر عن قتادة قال لما نزلت " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " الآية فقال رجل من المسلمين وهو مريض والله مالي من أني أجد الدليل في الطريق(1/357)
358
وإني لموسر فاحملوني فحملوه فأدركه الموت في الطريق فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لو بلغ إلينا لتم أجره وقد دفن بالتنعيم وجاء بنوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه بالقصة فنزلت هذه الآية " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت " يعني مات في الطريق " فقد وقع أجره على الله " يعني ثوابه على الله الجنة " وكان الله غفورا " لما كان منه في الشرك " رحيما " حين قبل توبته وكان اسمه جندع بن ضمرة
سورة النساء 101
قوله تعالى " وإذا ضربتم في الأرض " يعني إذا خرجتم إلى السفر " فليس عليكم جناح " ويقول لا إثم ولا حرج عليكم " أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " يعني يقتلكم والفتنة في أصل اللغة الاختبار ثم سمي القتل فتنة لأن فيه معنى الاختبار كما قال " على خوف من فرعون وملإيهم أن يفتنهم " يونس 83 يعني يقتلهم فالله تعال قد أباح قصر الصلاة عند الخوف ثم صار ذلك عاما لجميع المسافرين أن يقصروا من الصلاة خافوا أو لم يخافوا وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة تصدق الله عليكم فاقبلوا صدقته
ثم قال تعالى " إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا " يعني ظاهر العداوة ومعناه كونوا بالحذر منهم
سورة النساء 102 - 103
قوله تعالى " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " يعني بالمؤمنين ومعناه إذا كنت(1/358)
359
بحضرة العدو وحضرت الصلاة " فلتقم طائفة منهم " يعني جماعة منهم " معك " في الصلاة " وليأخذوا أسلحتهم " يعني الذين يصلون معك ويقال " وليأخذوا أسلحتهم " الذين هم بإزاء العدو " فإذا سجدوا " يعني إذ صلوا الذين خلف الإمام ركعة واحدة " فليكونوا من ورائكم " يعني ينصرفون إلى موضع العدو ويقفون هناك " ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا " يعني الذين كانوا بإزاء العدو " فليصلوا معك " ركعة أخرى ولم يذكر في الآية لكل طائفة إلا ركعة واحدة ولكن روي في الخبر عن عبد الله بن عمر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى صلاة الخوف صلى بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الأخرى ركعة كما ذكر في الآية ثم جاءت الطائفة الأولى وذهبت هذه الطائفة إلى موضع العدو حتى قضت الطائفة الأولى الركعة الأخرى وسلموا ثم جاءت الطائفة الأخرى وقضوا الركعة الأولى وسلموا حتى تم لكل طائفة ركعتان وهذا اختيار أصحابنا في صلاة الخوف
ثم قال تعالى " ود الذين كفروا " يقول تمنى الذين كفروا " لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم " يعني أمتعة الحرب " فيميلون عليكم ميلة واحدة " يعني يحملون عليكم حملة واحدة وإنما حذرهم لكي يكونوا بالحذر منهم
ثم قال تعالى " ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة أنمار فهزمهم وسبى ذريتهم فلما رجعوا أصابهم المطر فنزلوا واديا تحت الأشجار فوضع النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه وذهب إلى الجانب الآخر من الوادي وحده فجاء السيل فحال بينه وبين أصحابه وكان بعض المشركين على الجبل فرآه حين حال السيل بينه وبين أصحابه فجاءه واحد منهم يقال له حويرث بن الحارث وقال أنا أقتله فأتاه وقال يا محمد من يمنعك مني فقال الله تعالى يمنعني منك فسل سيفه وأراد أن يضربه فدفع النبي صلى الله عليه وسلم الكافر في صدره دفعة فسقط السيف من يده فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ سيفه وقال من يخلصك مني فقال لا أحد فقال له إن أسلمت أرد عليك سيفك فقال لا أسلم ولكن أعاهد الله تعالى ألا أكون عليك ولا لك أبدا فرد عليه سيفه فقال الرجل يا محمد أنت خير مني لأنك قدرت على قتلي فلم تقتلني فرجع الكافر إلى أصحابه فأخبرهم بالقصة فآمن بعضهم ثم انقطع السيل وجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وأخبرهم بالقصة وقرأ عليهم هذه الآية " ولا جناح عليكم أن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى " يعني أصابتكم الجراحات " أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم " من العدو يعني كونوا بالحذر منهم وقال الضحاك " وخذوا حذركم " يعني تقلدوا سيوفكم فإنما ذلك هيبة الغزاة ثم قال تعالى " إن الله أعد
للكافرين " في الآخرة " عذابا مهينا " يهانون فيه
ثم قال تعالى " فإذا قضيتم الصلاة " قال بعضهم فإذا فرغتم من الصلاة " فاذكروا الله " بالقلب واللسان على أي حال كنتم " قياما وقعودا وعلى جنوبكم " ويقال " فإذا قضيتم الصلاة "(1/359)
360
قال بعضهم إذا فرغتم من الصلاة أي صلاة الخوف " فاذكروا الله " بالقلب واللسان أي حال كنتم " قياما وقعودا وعلى جنوبكم " يقول فصلوا لله صلاة الصحيح قياما أو المريض قاعدا أو على جنوبكم إذا كان المرض أشد من ذلك كما قال في آية أخرى " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " ويقال " فإذا قضيتم الصلاة " أي فرغتم من صلاة الخوف " فاذكروا الله " أي فصلوا صلاة الصحيح قائما أو المريض قاعدا أو على جنوبكم إن كان المرض أشد من ذلك
ثم قال تعالى " فإذا اطمأننتم " يقول أمنتم ورجعتم إلى منازلكم " فأقيموا الصلاة " يعني فأتموا الصلاة أربعا وهذا كقوله " يمشون مطمئنين " أي مقيمين
ثم قال تعالى " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " يعني فرضا مفروضا معلوما للمسافر ركعتان وللمقيم أربع وقال مقاتل " كتابا موقوتا " يعني فريضة معلومة كقوله " كتب عليكم " البقرة 178 وغيرها يعني فرض عليكم وقال الزجاج " كتابا موقوتا " أي مفروضا موقوتا فرضه
سورة النساء 104
قوله تعالى " ولا تهنوا " يقول لا تضعفوا " في ابتغاء القوم " يعني في طلب المشركين أبي سفيان وأصحابه بعد يوم أحد وذلك أن المسلمين لما أصابتهم الجراحات يوم أحد فكانوا يضعفون عن الخروج إلى الجهاد فأمرهم الله تعالى بأن يظهروا من أنفسهم الجد والقوة وهذا الخطاب لهم ولجميع الغزاة إلى يوم القيامة
ثم قال " إن تكونوا تألمون " قال عكرمة الألم الوجع وكذلك قال الضحاك والسدي يعني إن أصابكم الوجع والجراحات في الحرب " فإنهم يألمون كما تألمون " يعني يصيبهم الوجع مثل ما يصيبكم ولكم زيادة ليست للمشركين وذلك قوله تعالى " وترجون من الله ما لا يرجون " يعني الثواب في الآخرة " وكان الله عليما " بما كان " حكيما " بما يكون
سورة النساء 105 - 109(1/360)
361
ثم قال تعالى " إنا أنزلنا الكتاب بالحق " يعني أنزلنا عليك جبريل عليه السلام ليقرأ عليك القرآن بالعدل والأمر والنهي " لتحكم بين الناس بما أراد الله " يعني بما أعلمك الله وألهمك بما أوحي إليك " ولا تكن للخائنين خصيما " يعني ولا تكن للسارقين معينا
وروى محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن جده قال عن قتادة بن النعمان قال كان بنو أبيرق ثلاثة بشر وبشير ومبشر فكان بشر يكنى أبا طعمة وكان شاعرا وكان منافقا وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول قاله فلان وكان لعمي رفاعة بن زيد عليه فيها طعام وسلاح فطرقه بشير من الليل فأخذ ما فيها من الطعام والسلاح فلما أصبح عمي دعاني وقال لي إنه أغير علينا الليلة فقلت من فعله فقال بشير وأخواه فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن بشيرا قد سرق من عمي الطعام والسلاح فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه وأما السلاح فليردوه علينا فجاء قومه وكانوا أهل لسان وبيان فقالوا إن رفاعة وابن أخيه عمدوا إلى أهل بيت منا يتهمونهم بالسرقة فوقع قولهم عند النبي صلى الله عليه وسلم موقعا فبين الله خيانتهم فنزل " ولا تكن للخائنين خصيما " وهو طعمة وقال الضحاك سرق طعمة بن أبيرق اليهودي درعا للزبير بن العوام فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للزبير لا بد لك من أن تأتي على ذلك بحجة قيمة وشهادة صحيحة فأنزل الله تعالى تصديقا لقول الزبير " ولا تكن للخائنين خصيما " وقال مقاتل سرق طعمة المنافق ابن ابيرق درعا من يهودي فلما جاؤوا إلى بيته بالأثر رمى الدرع في دار رجل من الأنصار وأنكر فجاء قومه ليبرئوه من السرقة فنزلت هذه الآية وقال الكلبي سرق طعمة بن أبيرق درعا من جار له يقال له قتادة بن النعمان فوضعه عند رجل من اليهود يقال له زيد بن الشخير وأنكر السرقة فجاء قومه يخاصمون عنه فنزلت هذه الآية
قوله تعالى " واستغفر الله " يعني استغفر عند جدالك عن طعمة حين جادلت " إن الله كان غفورا رحيما "
ثم قال تعالى " ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم " يقول ولا تخاصم عن الذين يضرون أنفسهم بالسرقة " إن الله لا يجب من كان خوانا أثيما " يعني خائنا بالسرقة فاجرا برميه على غيره
ثم قال تعالى " يستخفون من الناس " قال الضحاك لما سرق الدرع اتخذ حفره في بيته وجعل الدرع تحت التراب فنزل " يستخفون من الناس " بالتراب " ولا يستخفون من الله " يقول لا يخفى مكان الدرع على الله " وهو معهم " عالم بهم وبخيانتهم ويقال " يستخفون " يعني يستترون من الناس وهم قوم طعمة " ولا يستخفون " من الله يقول ولا يقدرون أن يستتروا من الله تعالى " وهم معهم " يعني عالما بهم
وبخيانتهم " إذ يبيتون " يقول إذ يؤلفون ويغيرون " ما لا يرضى " الله " من القول " يقول ما لا يرضوا لأنفسهم من القول وهم سرقوا(1/361)
362
ويقال ما لا يرضى الله تعالى ولا يحبه ثم قال " وكان الله بما يعملون محيطا " يعني عالما بهم وبخيانتهم
ثم أقبل على قوم طعمة فقال " ها أنتم هؤلاء " يقول أنتم يا هؤلاء " جادلتم " أي خاصتم " عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوما القيامة " يقول فمن يخاصم الله عنهم " يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا " يعني كفيلا ويقال خصيما
وقال الضحاك أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم الحد على طعمة بن أبيرق وكان طعمة مطاعا في اليهود فجاءت اليهود شاكين السلاح وهربوا بطعمة وجادلوا عنه فنزل " ها أنتم هؤلاء " يعني اليهود الآية
سورة النساء الآيات 110 - 113
ثم قال عز وجل " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه " قال الضحاك نزلت الآية في شأن وحشي قاتل حمزة أشرك بالله وقتل حمزة رضي الله عنه ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أني لنادم فهل لي من توبة فنزل " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه " " ثم يستغفر الله " الآية وقال الكلبي نزلت في شأن طعمة " ومن يعمل سوءا " بسرقة الدرع أو يظلم نفسه برميه غيره وجحوده ثم يستغفر الله يعني يتوب إلى الله " يجد الله غفورا " متجاوزا " رحيما " لمن اتقى الشرك وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال كنت إذا سمعت حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعني الله به ما شاء وإذا سمعته من غيره حلفته وحدثني أبو بكر الصديق وصدق أبو بكر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من عبد يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله تعالى إلا غفر الله له وتلا هذه الآية " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه " الآية صدق أبو بكر رضي الله عنه
قوله تعالى " ومن يكسب إثما " يعني الشرك بالله تعالى " فإنما يكسبه على نفسه " أي يضر بنفسه " وكان الله عليما حكيما "
ثم قال " ومن يكسب خطيئة أو إثما " يعني عمل بالمعصية " ثم يرم به بريئا " قال(1/362)
363
مقاتل وهو طعمة حين رمى بالدرع في دار الأنصاري واتهمه به وهو قوله " ثم يرم به بريئا " وقال الضحاك يعني به المنافقين حيث قالوا في عائشة رضي الله عنها قولا عظيما فقال " ومن يكسب خطيئة أو إثما " بالمعاصي " ثم يرم به بريئا " يعني عائشة وصفوان ثم قال الله تعالى " فقد احتمل بهتانا " يقول فقد قال كذبا " وإثما مبينا " يعني ذنبا ظاهرا
قوله تعالى " ولولا فضل الله عليك ورحمته " يعني لولا فضل الله عليك بالنبوة ورحمته بالوحي " لهمت طائفة منهم " يعني جماعة " أن يضلوك " يعني يخطئوك في الحكم " وما يضلون إلا أنفسهم " يعني وما يرجع وبال ذلك إلا على أنفسهم " وما يضرونك من شيء " وإنما يضرون بأنفسهم قال الضحاك نزلت في وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا جئناك لنبايعك على ان لا تكسر أصنامنا ولا تعشرنا فلم يجبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت " لهمت طائفة منهم أن يضلوك " وقال الكلبي يعني قوم طعمة
ثم قال تعالى " وأنزل عليك الكتاب " يعني القرآن " والحكمة " يعني القضاء والمواعظ " وعلمك " بالوحي " ما لم تكن تعلم " قبل الوحي " وكان فضل الله عليك عظيما " بالنبوة
سورة النساء 114 - 115
ثم قال تعالى " لا خير في كثير من نجواهم " وهو ما يتناجون فيما بينهم ويقال في كثير من أحاديثهم وهم وفد ثقيف أو قوم طعمة " إلا من أمر بصدقه " يقول إلا نجوى من أمر بصدقه " أو معروف " يعني القرض كقوله " فليأكل المعروف " النساء 6 ويقال بالمعروف يعني القول بالمعروف والنهي عن المنكر " أو إصلاح بين الناس " يعني يذهب بالصلاح فيم بين اثنين ليصلح بينهما " ومن يفعل ذلك " يعني الذي ذكرنا " ابتغاء مرضاة الله " يعني طلبا لمرضاة الله تعالى " فسوف نؤتيه " يعني في الآخرة " أجرا عظيما " قرأ حمزة وأبو عمرو " يؤتيه " بالياء يعني يؤتيه الله تعالى وقرأ الباقون " نؤتيه " بالنون يعني نحن نعطيه في الآخرة " أجرا عظيما " أي ثوابا عظيما
قوله تعالى " ومن يشاقق الرسول " يعني يخالفه في التوحيد " من بعد ما تبين له الهدى " يعني من بعد ما تبين له التوحيد " ويتبع غير سبيل المؤمنين " يعني يتبع دينا غير دين المؤمنين ويقال يتبع طريقا أو مذهبا غير طريق المؤمنين وفي الآية دليل أن الإجماع حجة لأن من خالف الإجماع فقد خالف سبيل المؤمنين وقال الضحاك قدم نفر من قريش المدينة وأسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين فنزلت هذه الآية " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له(1/363)
364
الهدى ) يعني دين الإسلام " ويتبع غير سبيل المؤمنين " " نوله ما تولى " يعني نكله إلى الأصنام يوم القيامة وهم لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا ولا ينجوهم من عذاب الله تعالى وقال مقاتل " نوله ما تولى " أي نتركه وما اختار لنفسه وقال الكلبي نوله في الآخرة ما تولى في الدنيا وهذا كما قال بعض الحكماء من أراد أن يعلم كيف يعامل معه الآخرة فلينظر كيف يعامل هو مع الله في الدنيا وقال الكلبي نزلت الآية في شأن طعمة لما ظهر حاله وسرقته هرب إلى مكة وارتد فنقب بمكة حائطا لرجل فسقط حجر فبقي في النقب حتى وجدوه على حاله فأخرجوه من مكة فخرج إلى الشام فسرق بعض أموال القافلة فرجموه وقتلوه فنزل قوله " نوله ما تولى "
" ونصله جهنم وساءت مصيرا " قرأ حمزة وعاصم وأبو عمرو " نوله ونصله " بجزم الهاء وقرأ الباقون بالكسر وهما لغتان
سورة النساء 116 - 121
ثم قال عز وجل " إن الله لا يغفر أن يشرك به " قال الضحاك وذلك أن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا إلا إني لم أشرك بالله مذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ولم أواقع المعاصي جرأة على الله تعالى ولا مكابرة له وإني لنادم وتائب مستغفر فما حالي عند الله فأنزل الله تعالى " إن الله لا يغفر أن يشرك به " " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " ويقال نزل في شأن وحشي وقد ذكرناه من قبل " ومن يشرك بالله " يعني من يعبد غير الله تعالى " فقد ضل ضلالا بعيدا " يعني فقد ضل عن الهدى " ضلالا بعيدا " عن الحق
ثم إن الله تعالى ذم الكفار وبين جهلهم فقال " إن يدعون من دونه إلا إناثا " يقول ما يعبدون من دون الله إلا أصناما أمواتا وهذا قول ابن عباس
وعن الحسن أنه قال " إلا إناثا " الشيء الميت الذي ليس فيه روح وقال السدي سموها إناثا اللات والعزى ومناة ثم قال " وإن يدعون إلا شيطانا مريدا " وذلك أن الشيطان كان يدخل في الصنم ويكلمهم وهم يعبدون الصنم وفيه الشيطان ويقال إبليس زين لهم(1/364)
365
عبادة الأصنام فإذا عبدوا بإذنه فكأنهم عبدوا الشيطان ثم قال " مريدا " أي ماردا مثل قدير وقادر والمارد العاتي ويقال كل فاسد مفسد يكون مريدا يعني يكون " مريدا " أي يكون فاسدا بنفسه ويفسده غيره
ثم قال عز وجل " لعنة الله " يعني طرده الله من رحمته وهو إبليس حيث لم يسجد لآدم فلما لعنه " وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا " يعني حظا معلوما قال مقاتل يعني من كل ألف واحد في الجنة وسائرهم في النار فهذا نصيب مفروض
ثم قال عز وجل " ولأضلنهم " يعني عن الهدى والحق " ولأمنينهم " يعني لأخبرنهم بالباطل أنه لا جنة ولا نار ولا بعث " ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام " وهي البحيرة وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يشقون آذان الأنعام ويسمونها بحيرة وذكر قصتهم في سورة المائدة ثم قال " ولآمرنهم فليغيرون خلق الله " قال عكرمة هو الخصاء وهكذا روي عن ابن عباس وأنس بن مالك وروي عن سعيد بن جبير قال هو دين الله وهكذا قال الضحاك ومجاهد وقيل لمجاهد إن عكرمة يقول هو الخصاء فقال ما له لعنة الله وهو يعلم أنه غير الخصاء فبلغ ذلك عكرمة فقال هو فطرة الله وقال الزجاج إن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها فحرموها على أنفسهم وخلق الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس فجعلوها آلهة يعبدونها فقد غيروا خلق الله تعالى " ومن يتخذ الشيطان وليا " يعني يعبد الشيطان ويطيعه " من دون الله " تعالى يعني ترك أمر الله تعالى وطاعته " فقد خسر خسرانا مبينا " يعني ضل ضلالا " مبينا " بينا عن الحق
ثم قال تعالى " يعدهم " يعني الشيطان يخوفهم بالفقر حتى لا يصلوا رحما ولا ينفقوا في خير " ويمنيهم " يعني يخبرهم بالباطل أنه لا ثواب لهم في ذلك العمل " وما يعدهم الشيطان إلا غرورا يعني باطلا
قوله تعالى " أولئك مأواهم جهنم " يعني الذين يطيعون الشيطان مصيرهم إلى جهنم " لا يجدون عنها محيصا " يعني مفرا ومهربا
سورة النساء 122 - 124
قوله تعالى " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني صدقوا بالله تعالى والرسول(1/365)
366
والقرآن وأدوا الفرائض وانتهوا عن المحارم " سندخلهم جنات " وهي البساتين " تجري من تحتها الأنهار " وهي أربعة أنهار نهر من ماء غير آسن ونهر من لبن ونهر من خمر ونهر من عسل مصفى " خالدين فيها أبدا " يعني مطمئنين فيها لا يتغير بهم الحال فهذا وعد من الله تعالى ثم قال " وعد الله حقا " يعني صدقا وكائنا أنجز لهم ما وعد لهم من أمر الجنة " ومن أصدق من الله قيلا " يعني قولا ووعدا
قوله تعالى " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " وذلك أن أهل الكتاب قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وقال المؤمنون إنا أسلمنا لا تضرنا الذنوب فنزل " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " يقول ليس لكم يا معشر المسلمين ما تمنيتم ولا أهل الكتاب ما تمنوا " من يعمل سوءا يجز به " يعني من يعمل معصية دون الشرك يعاقب به وقال الزجاج معناه ليس ثواب الله بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب وقد جرى ما يدل على إضمار الثواب وهو قوله " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي إنما يدخل الجنة من آمن وعمل صالحا ليس كما تمنيتم " من يعمل سوءا يجز به " أي لا ينفعه تمنيه
ويقال لما نزلت هذه الآية " من يعمل سوءا يجز به " شق ذلك على المسلمين وقال أبو بكر كيف الفلاح بعد هذه الآية يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم ألست تمرض ألست تحزن ألست تصيبك اللأواء أي الشدة فذلك كله جزاؤه
حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا العباس قال حدثنا الحسن بن صباح قال حدثنا عبد الوهاب الخفاف عن زياد عن علي بن زيد عن مجاهد قال مر ابن عمر على ابن الزبير وهو مصلوب فنظر إليه فقال يغفر الله لك ثلاثا والله ما علمتك إلا كنت صواما قواما وصالا للرحم أما والله إني لأرجو مع مساوئ ما أصبت أن لا يعذبك الله بعد هذا أبدا ثم التفت فقال سمعت أبا بكر الصديق يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يعمل سوءا يجز به في الدنيا وروى محمد بن قيس عن أبي هريرة قال لما نزلت " من يعمل سوءا يجز به " شق ذلك على المسلمين فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قاربوا وسدودا فكل ما يصيب المؤمن كفارة حتى الشوكة تشاكه والنكبة تنكبه أي الشدة وقال الضحاك السوء الكفر وقال مجاهد قالت قريش لن نبعث ولن نعذب فنزل " ليس بأمانيكم " يعني أماني كفار قريش ولا أماني أهل الكتاب " من يعمل سوءا يجز به " يعني يعاقب عليه
ثم قال تعالى " ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا " يعني الكافر لا يجد لنفسه(1/366)
367
" من دون الله " أي من عذاب الله " وليا " يمنعه " ولا نصيرا " ينفعه ويمنعه من العذاب
ثم قال عز وجل " ومن يعمل من الصالحات " يعني يؤدي الفرائض وينتهي عن المحارم " من ذكر أو أنثى " أي من رجل أو امرأة " وهو مؤمن " يعني مصدق بالثواب والعقاب " فأولئك يدخلون الجنة " لا شك فيها " ولا يظلمون " أي لا ينقصون من ثواب أعمالهم " نقيرا " وهي النقرة التي تكون على ظهر النواة قرأ أبو عمرو وابن كثير " يدخلون " بضم الياء ونصب الخاء على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون " يدخلون " بنصب الياء وضم الخاء يعني أنهم يدخلون الجنة بأعمالهم
سورة النساء 125 - 126
ثم فضل دين الإسلام على سائر الأديان فقال تعالى " ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه " يعني أخلص " وجهه " أي دينه " وهو محسن " في عمله وقيل هو موحد " واتبع ملة إبراهيم حنيفا " يعني مستقيما ويقال مائلا إلى دين الإسلام
ثم قال تعالى " واتخذا الله إبراهيم خليلا " وذلك أن إبراهيم عليه السلام كان يوسع على الضعفاء الطعام فاحتاج في بعض الأوقات إلى الطعام فبعث غلمانه مع الجمال إلى خليل له بمصر ليقرضه شيئا من الطعام فيرد عليه إذا أدرك إنزاله فلما انتهوا إليه فقال إني أخاف أن احتاج قبل إدراك الإنزال فلم يدفع إليهم شيئا فرجعوا فاستحيا الغلمان أن يدخلوا في قرية إبراهيم والناس ينظرون إليهم وليس معهم شيء شيئا فجعلوا الرمل في الجواليق وحملوا على الجمال وجاؤوا إلى منزل إبراهيم عليه السلام وألقوا الأحمال وتفرقوا وجاء واحد منهم وأخبر إبراهيم بالقصة فاغتم لذلك ودخل البيت ونام فخرجت جواريه ونظرن إلى الأحمال فإذا الجواليق دقيق فرفعن منها وجعلن يخبزن خبزا حتى إذا استيقظ إبراهيم عليه السلام وخرج وقال من أين هذا الدقيق فقلن من عند خليلك المصري فقال إبراهيم ليس هذا من عند خليلي المصري ولكن من عند خليل السماء فاتخذه الله تعالى خليلا بذلك
ويقال لما دخلت عليه الملائكة عليهم السلام في شبه الآدميين وجاءهم بعجل سمين فلم يأكلوا منه وقالوا إنا لا نأكل شيئا بغير ثمن فقال لهم أعطوني ثمنه وكلوه فقالوا وما ثمنه قال أن تقولوا في أوله بسم الله وفي آخره الحمد لله فقالوا فيما بينهم حق على الله أن يتخذه خليلا فاتخذه الله خليلا
ويقال إنه أضاف رؤساء الكفار وأهدى لهم هدايا وأحسن إليهم فقالوا له ما حاجتك فقال حاجتي أن تسجدوا لله سجدة فسجدوا فدعا الله تعالى وقال اللهم إني قد فعلت ما(1/367)
368
أمكنني فافعل أنت أهل ذلك فوفقهم الله تعالى للإسلام فاتخذه الله خليلا لذلك
وروى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال اتخذ الله إبراهيم خليلا لإطعامه الطعام وإفشائه السلام وصلاته بالليل والناس نيام
ثم قال عز وجل " ولله ما في السموات وما في الأرض " كلهم عبيده وفي ملكه وحكمه نافذ فيهم " وكان الله بكل شيء محيطا " يعني أحاط علمه بها
سورة النساء 127
قوله تعالى " ويستفتونك في النساء " يعني يسألونك عن ميراث النساء نزلت في أم كجة التي ذكرنا في أول السورة " قل الله يفتيكم فيهن " يعني يبين لكم ما لهن من الميراث " وما يتلى عليكم في الكتاب " يعني في كتاب الله تعالى يفتيكم بذلك " في يتامى النساء " يعني في ميراث يتامى النساء " اللاتي لا تؤتونهن " لا تعطونهن " ما كتب لهن " يعني ما فرض لهن من الميراث " وترغبون " يعني وتزهدون " أن تنكحوهن " لدمامتهن
وروى معمر عن إبراهيم قال كان الرجل يكون عنده اليتيمة الدميمة ولها مال فيكره أن يتزوجها من أجل دمامتها ويكره أن يزوجها من غيره من أجل مالها قال إبراهيم وكان عمر رضي الله عنه يأمر الرجل إذا كانت عنده اليتيمة ولها مال أن يتزوجها
وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كانت يتيمة في حجر رجل فأراد أن يتزوجها ولم يكمل صداق نسائها فأمروا بإكمال الصداق وقال مجاهد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان شيئا ويقولون لا يغزون ففرض الله تعالى لهم الميراث وأمر لليتيم بالقسط
ثم قال تعالى " والمستضعفين " يقول يسألونك عن ميراث المستضعفين " من الولدان " ويقال يفتيكم في المستضعفين من الولدان " وأن تقوموا " يعني يفتيكم أن تقوموا " لليتامى بالقسط " أي بالعدل " وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما " يجازيكم وفي هذه الآية دليل على أن ما سوى الأب والجد إذا زوج اليتيمة جاز وفيها دليل أنه إذا زوج من نفسه جاز إذا كانت غير ذي رحم محرم منه
سورة النساء(1/368)
369
128
قوله تعالى " وإن امرأة خافت " يعني علمت " من بعلها " يعني من زوجها " نشوزا " يعني عصيانا في العشرة " أو إعراضا " عنها وترك محدثتها نزلت في ابنة محمد بن مسلمة وفي زوجها سعد بن الزبير تزوجها وهي شابة فلما أدبرت وعلاها الكبر تزوج عليها امرأة شابة وآثرها عليها وجفا بنت محمد بن مسلمة فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه فنزلت " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا " يعني ترك مجامعتها " أو إعراضا " يعني يعرض بوجهه عنها ويقل مجالستها ومحادثتها " فلا جناح عليهما " يعني لا إثم على الزوج والمرأة " أن يصلحا بينهما صلحا " قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي " أن يصلحا " بضم الياء وهو من الصلح وقرأ الباقون " أن يصالحا " بالألف وتشديد الصاد لأن أصله يتصالحا فأدغمت التاء في الصاد وأقيم التشديد مكانه
ثم قال تعالى " والصلح خير " يعني الصلح خير من الفرقة ويقال الصلح خير من النشوز ويقال الصلح خير من الخصومة والخلاف وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا " قال قول الرجل لامرأته أنت كبيرة وإني أريد أن أستبدل بك شابة فقري على ولدك ولا أقسم لك من نفسي شيئا ورضيت بذلك فذلك الصلح بينهما قال وهذا قول أبي السنابل بن بعكك حين جرى بينهما هذا الصلح ثم صارت الآية عامة في جواز الصلح الذي يجري فيما بين الناس لقوله تعالى " والصلح خير "
ثم قال تعالى " وأحضرت الأنفس الشح " حملها على أن تدع نصيبها ويقال شحت المرأة بنصيبها من زوجها أن تدعه للأخرى وشح الرجل بنصيبه من الأخرى وقال مقاتل طمعها وحرصها يجرها إلى أن ترضى
ثم قال تعالى " وإن تحسنوا " يقول تحسنوا إليهن " وتتقوا " الميل والجور " فإن الله كان بما تعملون خبيرا " في الإحسان والجور
سورة النساء 129 - 130
قوله تعالى " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء " يقول لن تقدروا أن تسووا بين النساء في الحب أي بين الشابة والكبيرة " ولو حرصتم " يعني ولو جهدتم ولكن اعدلوا في القسمة والنفقة " فلا تميلوا كل الميل " بالنفقة والقسمة إلى الشابة " فتذروها كالمعلقة " بغير قسمة كالمسجونة لا أيم ولا ذات بعل(1/369)
370
وروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من كان له أمرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل وفي رواية أخرى وأحد شقيه ساقط وروى أبو أيوب عن أبي قلابة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل في القسمة ويقول اللهم هذا قسمي فيما املك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني الحب والجماع
ثم قال تعالى " وأن تصلحوا " يعني بينهما بالسوية " وتتقوا " الجور والميل " فإن الله كان غفورا رحيما " حيث رخص لكم في الصلح
ثم قال عز وجل " وإن يتفرقا " يعني الزوج والمرأه " يغني الله كلا من سعته " يعني من رزقه وقال مجاهد يعني الطلاق وروي عن جعفر بن محمد أن رجلا شكا إليه الفقر فأمره بالنكاح فذهب الرجل وتزوج ثم جاء إليه فشكا إليه الفقر فأمره بالطلاق فسئل عن ذلك فقال أمرته بالنكاح وقلت لعله من أهل هذه الآية " إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله " النور32 فلما لم يكن من أهل تلك الآية قلت فلعله من أهل هذه الآية " وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته " وروي عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ " فتذروها كأنها مسجونة " ثم قال " وكان الله واسعا " يعني واسع الفضل " حكيما " حكم فرقتهما وتسويتهما
سورة النساء الآيات 131 - 134
ثم قال تعالى " ولله ما في السموات وما في الأرض ولقد وصينا " يعني أمرنا " الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " يعني أهل التوراة والإنجيل " وإياكم " يعني أمرناكم يا أمة محمد في كتابكم " أن اتقوا الله " فيما أوصاكم به في كتابكم من التوحيد ثم من بعد التوحيد بالشرائع " وإن تكفروا " يقول تجحدوا بما أوصاكم وبوحدانية الله تعالى " فإن لله ما في السموات وما في الأرض " يعني هو غني عن عبادتكم " وكان الله غنيا " عن إيمان الخلق وطاعتهم " حميدا " محمودا في أفعاله
وقوله تعالى " ولله ما في السموات وما في الأرض " يعني كلهم عبيده وإماؤه ويقال هذا موصول بالأول " وكان الله غنيا حميدا " في أفعاله لأن له ما في السموات وما في الأرض وهو رازقهم والمدبر في أمورهم ثم قال " وكفى بالله وكيلا " يعني حفيظا وربا
ثم ذكر التهديد لمن رجع عن طاعته فقال " إن يشأ يذهبكم أيها الناس " يعني يهلككم(1/370)
371
إذا عصيتموه " ويأت بآخرين " يعني يخلق خلقا غيركم من هو أطوع لله منكم وهذا كما قال في آية أخرى " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثلكم " محمد 38
ثم قال تعالى " وكان الله على ذلك قديرا " أي يذهبكم ويأت بغيركم ويقال في الآية تخويف وتنبيه لجميع من كانت له ولاية أو إمارة أو رئاسة فلا يعدل في رعيته أو كان عالما فلا يعمل بعلمه ولا ينصح الناس أن يذهبه ويأتي بغيره
قوله تعالى " من كان يريد ثواب الدنيا " يعني من كان يطلب الدنيا بعمله الذي يعمل ولا يريد به وجه الله تعالى فليعمل على وجه التقديم لآخرته كما قال " فعند الله ثواب الدنيا والآخرة " يعني الرزق في الدنيا والثواب في الآخرة وهو الجنة ويقال في الآية مضمر فكأنه يقول " من كان يريد ثواب الدنيا " نؤته منها " ومن يرد ثواب الآخرة " نؤته منها " فعند الله ثواب الدنيا والآخرة " وقال الزجاج كان المشركون مقرين بأن الله تعالى خالقهم وأنه يعطيهم خير الدنيا فأخبر الله تعالى أن خير الدنيا والآخرة إليه وروي عن عيسى بن مريم إنه قال للحواريين أنتم لا تريدون الدنيا ولا الآخرة لأن الدنيا والآخرة لله تعالى فاعبدوه إما لأجل الدنيا وإما لأجل الآخرة وروي في بعض الأخبار أن في جهنم واديا تتعوذ منه جهنم أعد للقراء المرائين
ثم قال تعالى " وكان الله سميعا بصيرا " يعني عالما بنية كل واحد وروى سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال نية المؤمن خير من عمله وعمل المنافق خير من نيته وكل يعمل على نيته
سورة النساء الآيات 135 - 137
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " يعني كونوا قوامين بالعدل وأقيموا الشهادة لله بالعدل ومعناه قولوا الحق " ولو على أنفسكم " وإذا كانت عندكم شهادة فأدوا الشهادة ولو كانت الشهادة على أنفسكم " أو الوالدين والأقربين "(1/371)
372
ثم قال " إن يكن غنيا أو فقيرا " يعني أدوا الشهادة لا تكتموها سواء كان لغني أو لفقير ولا تميلوا إلى الغني لأجل غناه ولا تكتموا الشهادة على الفقير لأجل فقره ويقال اشهدوا على الوالدين غنيين كانا أو فقيرين " فالله أولى بهما " يعني بالغني وبالفقير ويقال أولى بالوالدين وأرحم بهما إن كانا غنيين أو فقيرين " فلا تتبعوا الهوى " يعني لا تشهدوا بهواكم ولكن أشهدوا على ما أشهدتم عليه
ثم قال تعالى " أن تعدلوا " يعني الله تعالى أولى بهما أن تعدلوا على وجه التقديم والتأخير ويقال فلا تتبعوا الهوى أن لا تعدلوا وقال مقاتل يعني فلا تتبعوا الهوى للقرابة واتقوا الله أن تعدلوا عن الحق إلى الهوى ثم قال تعالى " وإن تلووا " يعني تحرفوا الشهادة وتلجلجوا بها ألسنتكم فلا تقيموها على الوجه لتبطل به الشهادة " أو تعرضوا " عنها فلا تشهدوا بها عند الحاكم قرأ حمزة وابن عامر " وأن تلوا " بواو واحدة من الولاية يعني أقيموا الشهادة إذا وليتم وقرأ الباقون " تلووا " بواوين من التحريف " فإن الله كان بما تعملون " من كتمان الشهادة وإقامتها " خبيرا " يعني عالما فهذا تهديد للشهود لكيلا يقصروا في أداء الشهادة ولا يكتموا الشهادة وقال النبي صلى الله عليه وسلم من كان بالله واليوم الآخر فليقم شهادته على من كانت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجحد لحق هو عليه وليؤده ولا يلجئه إلى السلطان والخصومة وقال النبي صلى الله عليه وسلم أكرموا الشهود فإن الله يحيي بهم الحقوق
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله " قال الضحاك يعني اخبار اهل الكتابين الذين آمنوا بموسى عليه السلام وعيسى عليه السلام آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وقال الكلبي نزلت في عبد الله بن سلام وأسيد وأسد ابني كعب وثعلبة بن قيس وغيرهم قالوا يا رسول الله نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وبعزيز ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم بل آمنوا بالله ورسوله محمد وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان من قبل فنزلت هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل " ويقال " يا أيها الذين آمنوا " خاطب به جميع المؤمنين " آمنوا بالله " يعني اثبتوا على الإيمان ويقال " ياأيها الذين آمنوا " يعني يوم الميثاق " آمنوا بالله ورسوله " ويقال نزلت في شأن أهل الكتاب لأنه علم أن فيهم من يؤمن فلقربهم من الإيمان سماهم مؤمنين كما قال " إنهم جند مغرقون " الدخان24 وكانوا لم يغرقوا بعد ويقال إنهم كانوا يقولون نحن مؤمنون فقال لهم " يا أيها الذين آمنوا " يعني بزعمهم كما قال
" ذق إنك أنت العزيز الكريم " الدخان49 يعني بزعمه قرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي(1/372)
373
" والكتاب الذي نزل " بنصب النون والزاي " والكتاب الذي أنزل " بنصب الألف وقرأ الباقون نزل بضم النون وكسر الزاي و " وأنزل " بضم الألف على معنى فعل ما لم يسم فاعله
ثم قال تعالى " ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر " يعني من يجحد بوحدانية الله تعالى وملائكته أنهم عبيده وبرسله أنهم أنبياؤه وعبيده وبالبعث بعد الموت " فقد ضل " عن الهدى " ضلالا بعيدا " عن الحق
وقوله تعالى " إن الذين آمنوا ثم كفروا " وقال مقاتل يعني آمنوا بالتوراة وبموسى عليه السلام ثم كفروا من بعد موسى " ثم آمنوا " بعيسى عليه السلام والإنجيل " ثم كفروا " من بعده " ثم ازدادوا كفرا " بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ويقال إن الذين آمنوا بموسى ثم كفروا بعيسى ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم من قبل أن يبعث ثم كفروا به بعدما بعث " ثم ازدادوا كفرا " يعني ثبتوا على كفرهم وقال في رواية الكلبي آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا به بعده ثم آمنوا بعزير ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وقال في رواية الضحاك نزلت في شأن أبي عامر الراهب وهو الذي بنى مسجد الضرار آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم كفر ثم آمن ثم مات على كفره وقال الزجاج يجوز أن يكون محاربا آمن ثم كفر ثم آمن ثم كفر ويجوز أن يكون منافقا أظهر الإيمان وأبطن الكفر ثم آمن ثم كفر ثم ازداد كفرا بإقامته على النفاق فإن قيل إن الله تعالى لا يغفر كفرا مرة واحدة فأيش الفائدة في قوله " آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا " قيل له لأن الكافر إذا أسلم فقد غفر له ما قد سلف من ذنبه فإذا كفر بعد إيمانه لم يغفر الله له الكفر الأول فهو مطالب بجميع ما فعل في كفره الأول فذلك قوله عز وجل " لم يكن الله ليغفر لهم " يعني إذا ماتوا على كفرهم " ولا ليهديهم سبيلا " يعني لا يوفقهم طريقا
سورة النساء 138 - 139
ثم قال تعالى " بشر المنافقين " وذلك أنه لما نزل قوله تعالى " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " الفتح 2 فقال المؤمنون هذا هنيئا لك فما لنا فنزل قوله تعالى " وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا " الأحزاب 47 فقال المنافقون فما لنا فنزل قوله تعالى " بشر المنافقين " " بأن لهم عذابا أليما " يعني في الآخرة
ثم نعت المنافقين فقال " الذين يتخذون الكافرين " يعني اليهود " أولياء " في العون والنصرة " من دون المؤمنين " ثم عيرهم بذلك فقال " أيبتغون عندهم العزة " يعني يطلبون عندهم المنعة والظفر على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه العزة في اللغة المنعة والغلبة كما يقال من عز بز أي من غلب سلب ويقال عز الشيء إذا اشتد وجوده
ثم ذكر أنه لا نصرة لهم من الكفار وإنما النصرة من الله تعالى فقال " فإن العزة لله(1/373)
374
جميعا ) يعني الظفر والنصر كله من الله تعالى وهذا كما قال في آية أخرى " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " المنافقون 8
سورة النساء 140
ثم قال عز وجل " وقد نزل عليكم في الكتاب " وذلك أن المشركين بمكة كانوا يستهزئون بالقرآن فنهى الله تعالى المسلمين عن القعود معهم وهو قوله " وإذا رأيت الذين يخوضون في ءاياتنا فأعرض عنهم " إلى قوله " فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظلمين " الأنعام 68 فامتنع المسلمون عن القعود معهم فلما قدموا المدينة كانوا يجلسون مع اليهود والمنافقين وكان اليهود يستهزئون بالقرآن فنزل " فقد نزل عليكم في الكتاب " يعني في سورة الأنعام " أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها " يعني يجحد بها " ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم " يعني فلا تجلسوا معهم " حتى يخوضوا في حديث غيره " يعني حتى يأخذوا في كلام آخر
ثم قال " إنكم إذا مثلهم " يعني لو جلستم معهم كنتم معهم في الوزر وفي هذه الآية دليل أن من جلس في مجلس المعصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية أو عملوا بها فإن لم يقدر بأن ينكر عليهم ينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية وروى جويبر عن الضحاك أنه قال دخل في هذه الآية كل محدث في الدين وكل مبتدع إلى يوم القيامة قرأ عاصم " وقد نزل عليكم " بنصب النون والزاي وقرأ الباقون بضم النون وكسر الزاي على معنى فعل ما لم يسم فاعله
ثم قال تعالى " إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا " يعني إذا ماتوا على كفرهم ونفاقهم فبدأ بالمنافقين لأنهم أشد من الكفار وجعل مأواهم جميعا النار وقال الكلبي رواية في قوله تعالى " فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره " نسخ بقوله تعالى " وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء " الأنعام 69 وقال عامة المفسرين إنها محكمة وليست بمنسوخة
سورة النساء 141 - 143(1/374)
375
ثم أخبر عن المنافقين فقال عز وجل " الذين يتربصون بكم " يعني ينتظرون بكم الدوائر وهو تغير الحال عليكم " فإن كان لكم فتح من الله " يعني النصرة والغلبة على العدو " قالوا ألم نكن معكم " فأعطونا من الغنيمة " وإن كان للكافرين نصيب " يعني الظفر والغلبة على المؤمنين " قالوا " للكفار " ألم نستحوذ عليكم " يعني ألم نخبركم بعورة المسلمين ونطلعكم على سرهم ونخبركم عن حالهم ويقال " ألم نستحوذ عليكم " يعني ألم نغلب عليكم بالموالاة والاستحواذ هو الاستيلاء على الشيء كقوله " استحوذ عليهم الشيطن " المجادلة 19 ثم قال " ونمنعكم من المؤمنين " يعني نجادل المؤمنين عنكم ونجنبهم عنكم
قال الله تعالى " فالله يحكم بينكم يوم القيامة " يعني بين المؤمنين والمنافقين والكافرين " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " بأنهم يسلطون علينا ويقال دولة دائمة يعني لا تدوم دولتهم وروي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن قوله عز وجل " ولن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا " وهم يسلطون علينا ويغلبوننا فقال لا يسلط الكافر على المؤمن في الآخرة في يوم القيامة
ثم بين حال المنافقين في الدنيا وخداعهم فقال عز وجل " إن المنافقين يخادعون الله " يعني يظنون أنهم يخادعون الله " وهو خادعهم " يعني يجازيهم جزاء خداعهم وهو أنهم يمشون مع المؤمنين على الصراط يوم القيامة ثم يسلبهم فيبقون في ظلمة ثم قال " وإذا قاموا إلى الصلاة " يعني المنافقين " قاموا كسالى " يعني متثاقلين " يراؤون الناس " يعني لا يرونها حقا ويصلون مراءاة للناس وسمعة " ولا يذكرون الله إلا قليلا " قال ابن عباس لو كان ذلك القليل لله تعالى لكان كثيرا وتقبل منهم ولكن لم يريدوا به وجه الله تعالى
ثم قال تعالى " مذبذبين بين ذلك " يعني مترددين ويقال متفحصين بين ذلك " لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " يعني ليسوا مع المؤمنين في التصديق ولا مع اليهود في الظاهر " ومن يضلل الله " يعني من يخذله الله عن الهدى " فلن تجد له سبيلا " يعني مخرجا
سورة النساء 144
ثم قال عز وجل " يا أيها الذين آمنوا " أي صدقوا قال مقاتل الذين آمنوا بزعمهم وهم المنافقون " ولا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين " ويقال " يا أيها الذين آمنوا " في الظاهر وأسروا النفاق ويقال يعني المؤمنين المخلصين كانت بينهم وبين اليهود صداقة وكانوا يأتونهم فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال " لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين " ثم قال " أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا " يعني حجة بينة في الآخرة(1/375)
376
سورة النساء 145 - 147
ثم بين مأوى المنافقين في الآخرة فقال " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " المنافق في اللغة اشتقاقه من نافقاء اليربوع ويقال لليربوع حجران أحدهما نافقاء والآخر قاصعاء فيظهر نفسه في أحدهما ويخرج من الآخر ولهذا يسمى المنافق منافقا لأنه يظهر من نفسه أنه مسلم ويخرج عن الإسلام إلى الكفر قرأ أهل الكوفة وحمزة والكسائي وعاصم " الدرك " بجزم الراء وقرأ الباقون بالنصب وهما لغتان الدرك والدرك وجمعهما أدراك وهي المنازل بعضها أسفل من بعض فأعد للمنافقين الدرك الأسفل من النار وهي الهاوية ثم قال " ولن تجد لهم نصيرا " يعني مانعا يمنعهم من العذاب
ثم قال عز وجل " إلا الذين تابوا " من النفاق " وأصلحوا " أعمالهم " واعتصموا بالله " يعني تمسكوا بدين الله تعالى وبتوحيده " وأخلصوا دينهم لله " يعني بتوحيدهم لله بالإخلاص فإن فعلوا ذلك " فأولئك مع المؤمنين " يعني المصدقين على دينهم لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم
ثم قال " وسوف يؤت الله المؤمنين " يعني يعطي الله المؤمنين " أجرا عظيما " يعني ثوابا عظيما في الآخرة وفي هذه الآية دليل أن المنافقين هم أشر خلق الله تعالى لأنه أوعدهم الدرك الأسفل من النار ثم استثنى لهم أربعة أشياء التوبة والإخلاص والإصلاح والاعتصام ثم قال بعد هذا كله " فأولئك مع المؤمنين " ولم يقل هم المؤمنون ثم قال " وسوف يؤت الله المؤمنين " ولم يقل سوف يؤتيهم الله بغضا لهم وإعراضا عنهم والمنافقون هم الزنادقة والقرامطة الذين هم بين المؤمنين يظهرون من أنفسهم الإسلام وإذا اجتمعوا فيما بينهم يسخرون بالإسلام وأهله فهم من أهل هذه الآية ومأواهم الهاوية
قوله تعالى " ما يفعل الله بعذابكم " يعني ما يصنع الله بعذابكم " إن شكرتم " يعني إن آمنتم بالله تعالى ووحدتموه ويقال معناه ما حاجة الله إلى تعذيبكم لو كنتم موحدين شاكرين له " وآمنتم " به وصدقتم رسله ثم قال " وكان الله شاكرا " يعني " شاكرا " للقليل من أعمالكم " عليما " بأعمالكم وثوابكم ويقال " شاكرا " يقبل اليسير ويعطي الجزيل " عليما " بما في صدوركم ويقال " عليما " بمن شكر وآمن فلا يعذب شاكرا ولا مؤمنا
سورة النساء 148 - 149(1/376)
377
قوله تعالى " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول " يعني لا يحب أن يذكر بالقول القبيح أحد من الناس " إلا من ظلم " فيقتص من القول بمثل ما ظلم فلا حرج عليه نزلت الآية في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه شتمه رجل فسكت أبو بكر مرارا ثم رد عليه ويقال " إلا من ظلم " فيدعو الله تعالى على ظالمه وقال الفراء " إلا من ظلم " يعني ولا من ظلم وقال السدي قوله " إلا من ظلم " فانتصر بمثل ما ظلم فليس عليه جناح وقال الضحاك " لا يحب الله الجهر بالسوء " أي لا يحب لكم أن تنزلوا برجل فإذا ارتحلتم عنه تذمون طعامه إلا رجلا أردتم النزول عليه عند حاجتكم فمنعكم وقال مجاهد هو في الضيافة إذا دخل الرجل المسافر إلى القوم يريد أن ينزل عليهم فلم يضيفوه فقد رخص له أن يذكر كلاما عنهم يقول فيهم ويقال يعني يسبه بمثل ما سبه ما لم يكن كلاما فيه حد أو كلمة لا تصلح ولو لم يقل لكان أفضل وقرأ بعضهم " إلا من ظلم " بالفتح متصل بقوله " ما يفعل الله بعذابكم " " إلا من ظلم " يعني إلا من أشرك بالله وهو شاذ من القراءة ثم قال " وكان الله سميعا " يعني دعاء المظلوم " عليما " بعقوبة الظالم
ثم أخبر عن التجاوز أنه خير من الانتصار فقال عز وجل " وإن تبدوا خيرا " يعني إن تظهروا حسنة " أو تخفوه " يعني الحسنة " أو تعفوا عن سوء " يعني يتجاوز عن ظالمة ولا يجهر بالسوء عنه فهذا أفضل لأن الله تعالى قادر على عباده فيعفو عنهم وهو قوله " فإن الله كان عفوا قديرا " يعني أن الله قادر على العقوبة لكم فيعفو عنكم
سورة النساء 150 - 152
قوله تعالى " إن الذين يكفرون بالله ورسله " قال ابن عباس نزلت الآية في أهل الكتاب يؤمنون بموسى وعيسى عليهما السلام ويكفرون بغيرهما وهو قوله " ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله " يعني يريدون أن يتخذوا دينا لم يأمر به الله ورسوله به قوله " ويقولون نؤمن ببعض " بموسى وعزير والتوراة " ونكفر ببعض " بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وبعيسى والإنجيل " ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا " يعني بين اليهودية والإسلام
قوله تعالى " أولئك هم الكافرون حقا " حين كفروا ببعض الرسل " وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا " يهانون فيه
قوله تعالى " والذين آمنوا بالله ورسله " يعني أقروا بوحدانية الله تعالى وصدقوا بجميع(1/377)
378
الرسل " ولم يفرقوا بين أحد منهم " في الإيمان والتصديق يعني لم يكفروا ولم يجحدوا بأحد من الأنبياء والرسل عليهم السلام ويصدقون بجميع الكتب " أولئك " يعني أهل هذه الصفة " سوف نؤتيهم أجورهم " يعني سنعطيهم ثوابهم في الجنة " وكان الله غفورا " لذنوبهم " رحيما " لما كان منهم في الشرك قرأ عاصم في رواية حفص " يؤتيهم " بالياء وقرأ الباقون " نؤتيهم " بالنون
سورة النساء 153 - 158
قوله تعالى " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " يعني جملة واحدة كما جاء به موسى عليه السلام ويقال إن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء وأصحابهما قالوا لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتابا تحمله الملائكة إلينا فتقرؤه قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك " يعني إن هؤلاء من أصل أولئك القوم الذين " فقالوا " لموسى عليه السلام " أرنا الله جهرة " يعني عيانا وهم القوم الذين ساروا مع موسى عليه السلام إلى طور سيناء " فأخذتهم الصاعقة " يعني أحرقتهم النار " بظلمهم " يعني بقولهم وسؤالهم " ثم اتخذوا العجل " يعني ومع ذلك قد عبدوا العجل وهم قوم موسى عليه السلام في حال غيبته " من بعد ما جاءتهم البينات " يعني جاءهم موسى عليه السلام بالآيات والعلامات " فعفونا عن ذلك " كله ولم نستأصلهم " وآتينا موسى سلطانا مبينا " يعني حجة بينة وهي اليد والعصا " ورفعنا فوقهم " يقول رفعنا فوقهم الطور " الطور بميثاقيهم " يعني بإقرارهم بما في التوراة حتى أبوا أن يقبلوا الشرائع " وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا " يعني باب أريحة منحنية أصلابهم " وقلنا لهم لا تعدوا في السبت " يقول لا تستحلوا أخذ السمك في يوم السبت قرأ نافع في رواية ورش " لا تعدوا " بالتشديد لأن أصله لا تعتدوا فأدغم التاء في الدال وأقيم التشديد مقامه وقرأ الباقون " ولا تعدوا " بالتخفيف من عدا يعدو عدوانا(1/378)
379
ثم قال تعالى " وأخذنا منهم ميثاقا غليظا " يعني إقرارا وثيقا شديدا في التوراة يعني تركوا هذه الأشياء كلها ونقضوا الميثاق
ثم قال عز وجل " فبما نقضهم ميثاقهم " ولم يذكر في هذه الآية جوابهم والجواب فيه مضمر فكأنه قال وأخذنا منهم ميثاقا غليظا فنقضوا الميثاق فبنقضهم الميثاق لعنهم الله تعالى وخذلهم كقوله " فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم " النساء 155 ثم قال " وكفرهم بآيات الله " يعني بكفرهم بآيات الله لعنهم الله وخذلهم " وقتلهم الأنبياء بغير حق " يعني بغير جرم " وقولهم قلوبنا غلف " يعني ذات أغلفة فلا نفقة حديثك وقرأ بعضهم " غلف " بضم اللام وهو جمع الغلاف يعني أن قلوبنا أوعية لكل علم ولا نفقة حديثك
قال الله تعالى " بل طبع الله عليها " يعني ختم الله على قلوبهم " بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا " يعني لا يؤمنون إلا القليل منهم ويقال لا يؤمنون إلا بالقليل لأنهم آمنوا ببعض وكفروا ببعض وقال مقاتل يعني ما أقل ما يؤمنون يقول بأنهم لا يؤمنون البتة
ثم قال تعالى " وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما " وذلك أن مريم كانت متعبدة ناسكة اصطفاها الله تعالى بولد بغير أب فعيرها اليهود واتهموها وقذفوها بيوسف بن ماثان وكان يوسف خادم بيت المقدس ويقال كان ابن عمها فأنزل الله تعالى إكذابا لقولهم وبين بهتانهم فقال " وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما " يعني لعنهم الله وخذلهم بذلك " وقولهم " يعني وبقولهم " إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله " هذا قول الله لا قول اليهود وقول اليهود إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم ثم قال الله تعالى " رسول الله " يعني الذي هو رسول الله تعالى وذلك أن اليهود لما اجتمعوا على قتله هرب منهم ودخل في بيت فأمر ملك اليهود رجلا يدخل البيت يقال له يهوذا ويقال ططيانوس فجاء جبريل عليه السلام ورفع عيسى عليه السلام إلى السماء فلما دخل الرجل إلى البيت لم يجده فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه فلما خرج ظنوا أنه عيسى فقتلوه وصلبوه ثم قالوا إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى فاختلفوا فيما بينهم فأنزل الله تعالى إكذابا لقولهم فقال " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " يعني ألقي شبه عيسى على غيره فقتلوه
ثم قال تعالى " وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه " من قتله " ما لهم به من علم " يعني لم يكن عندهم علم يقين أنه قتل أو لم يقتل " إلا اتباع الظن " يعني قالوا قولا بالظن " وما قتلوه يقينا " يعني لم يستيقنوا بقتله ويقال " ما قتلوه " يعني يقينا أنهم لم يقتلوه " بل رفعه الله إليه " وقال مقاتل بل رفعة الله إلى السماء في شهر رمضان ليلة القدر وقال الضحاك رفعة
الله إلى السماء في يوم عاشوراء بين الصلاتين يعني بين المغرب والعشاء ثم قال " وكان الله عزيزا " يعني منيعا حين منع عيسى من القتل " حكيما " حين حكم رفعه إلى السماء(1/379)
380
سورة النساء 159 - 161
قوله تعالى " وإن من أهل الكتاب " يقول وما من أهل الكتاب " إلا ليؤمنن به " يعني بعيسى عليه السلام " قبل موته " وذلك أن اليهودي إذا حضرته الوفاة وعاين أمر الآخرة ضربته الملائكة وقالت له يا عدو الله أتاك عزيز فكذبته ويقال للنصراني يا عدو الله أتاك عبد الله ورسوله عيسى عليه السلام فزعمت أنه ابن الله فيؤمن عند ذلك ويقر أنه عبد الله ورسوله ولا ينفعه إيمانه في ذلك الوقت ويكون إيمانهم عليهم شهيدا يوم القيامة وروي عن مجاهد أنه قال ما من أحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن بعيسى عليه السلام قبل موته فقيل له وإن غرق أو احترق أو أكله السبع يؤمن بعيسى عليه السلام فقال نعم وروي أن الحجاج بن يوسف سأل شهر بن حوشب عن هذه الآية فقال إني لأوتى بالأسير من اليهود والنصارى فآمر بضرب عنقه وأنظر إليه في ذلك الوقت فلا أرى منه الإيمان فقال له شهر بن حوشب إنه حين عاين أمر الآخرة يقر بأن عيسى عبد الله ورسوله فيؤمن به ولا ينفعه فقال له الحجاج من أين أخذت هذا قال أخذته من محمد بن الحنفية فقال له الحجاج أخذت من عين صافية وروي عن سعيد بن جبير أنه قال " قبل موته " يعني قبل موت عيسى عليه السلام هكذا قال الحسن
قال الفقيه حدثنا عمر بن محمد قال حدثنا أبو بكر الواسطي قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا يزيد بن زريع عن رجل عن الحسن في قوله " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " قال قبل موت عيسى والله إنه لحي عند الله الآن ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون وروي عن ابن عباس أنه قال يمكث عيسى عليه السلام في الأرض أربعين سنة نبيا إماما مهديا ثم يموت وتصلي عليه هذه الأمة وقال الضحاك يهبط عيسى عليه السلام من السماء إلى الأرض بعد خروج الدجال فيكون هبوطه على صخرة بيت المقدس ثم يقتل الدجال ويكسر الصليب ويهدم البيع والكنائس ولا يبقى على وجه الأرض يهودي ولا نصراني إلا آمن بالمسيح ودخل في الإسلام
ثم قال تعالى " ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " يعني يكون عليهم عيسى عليه السلام شهيدا بأنه قد بلغهم الرسالة
قوله تعالى " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم " يعني بشركهم حرمنا عليهم أشياء كانت حلالا لهم وهو كل ذي ظفر وشحوم البقر والغنم أحلت لهم " ويصدهم عن سبيل الله كثيرا " يعني بصرفهم كثيرا من الناس عن دين الله على وجه التقديم(1/380)
381
" وأخذهم الربا " يعني حرم عليهم الحلال بكفرهم وبصرف الناس عن دين الله تعالى وبأخذهم الربا " وقد نهوا عنه " يعني عن أخذ الربا في التوراة " وأكلهم أموال الناس بالباطل " وهو أخذ الرشوة في الحكم " وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما " يعني هيأنا لهم عذابا وجيعا دائما
سورة النساء 162
قوله تعالى " لكن الراسخون في العلم منهم " يعني المبالغون في العلم الذين أدركوا علم الحقيقة وهم مؤمنو أهل الكتاب وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا هذه الأشياء كانت حراما في الأصل وأنت تحلها ولم تكن حرمت بظلمنا فنزل " لكن الراسخون في العلم منهم " يصدقون بما أنزل إليك أنه الحق ويقال إن مؤمني أهل الكتاب يعلمون أن الذي أنزل إليك من القرآن هو الحق وأنك نبي مبعوث وهو مكتوب عندهم
ثم قال " والمؤمنون " يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " يعني يصدقون بالقرآن وبالكتب التي أنزلت قبل القرآن
ثم وصفهم فقال " والمقيمين الصلاة " قال بعض الجهال هذا غلط من الكاتب حين كتب مصحف الإمام كان ينبغي أن يكتب والمقيمون فأوهم وكتب والمقيمين واحتج بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ثلاثة أحرف في المصحف غلط من الكاتب قوله " والمقيمين الصلاة " وقوله " والصابئون والنصارى " وقوله " إن هذان لساحران " وروي عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها ولكن هذا بعيد عند أهل العلم والخبر لم يثبت عن عثمان ولا عن عائشة لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا حماة الدين والقدوة في الشرائع والأحكام فلا يظن بهم أنهم تركوا في كتاب الله تصحيفا يصلحه غيرهم وهم أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى في قوله " والمقيمين الصلاة " قال بعضهم يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة يعني بالنبيين المقيمين الصلاة وقال بعضهم " لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون " ومن المقيمين الصلاة " يؤمنون بما أنزل إليك "
ثم قال تعالى " والمؤتون الزكاة " يعني الذين يعطون الزكاة المفروضة " والمؤمنون بالله واليوم الآخر " يعني المقرون بوحدانية الله تعالى وبالبعث بعد الموت ثم قال " أولئك " يعني أهل هذه الصفة " سنؤتيهم أجرا عظيما " يعني يعطيهم الله في الآخرة ثوابا عظيما هو الجنة قرأ حمزة " سيؤتيهم " بالياء وقرأ الباقون بالنون
سورة النساء(1/381)
382
163 - 166
قوله تعالى " إنا أوحينا إليك " يعني أرسلنا إليك جبريل " كما أوحينا إلى نوح " يعني كما أرسلنا إلى نوح عليه السلام ويقال " أوحينا إليك " بأن تثبت على التوحيد وتأمر الناس بالتوحيد " كما أوحينا إلى نوح " بأن يثبت على التوحيد ويدعو الناس إلى التوحيد " والنبيين من بعده " يعني أوحينا إليهم بذلك " وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق " وهما ابنا إبراهيم عليهم السلام " ويعقوب " وهو ابن إسحق " والأسباط " وهم أولاد يعقوب عليه السلام كانوا اثني عشر سبطا أوحينا إلى أنبيائهم بأن يثبتوا على التوحيد ويدعوا الناس إلى ذلك " و " أوحينا إلى " عيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا " قرأ حمزة " زبورا " بضم الزاي وقرأ الباقون بالنصب في جميع القرآن ومعناهما واحد وهو عبارة عن الكتاب
ثم قال عز وجل " ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل " يعني قد سميناهم لك من قبل يعني بمكة " ورسلا لم نقصصهم عليك " يعني لم نسمهم لك وقد أرسلناك كما أرسلنا هؤلاء وروي عن كعب الأحبار أنه قال كان الأنبياء عليهم السلام ألفي ألف ومائتي ألف وقال وقاتل كان الأنبياء ألف ألف وأربعمائه ألف وأربعة وعشرين ألفا وروي عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال بعثت على أثر ثمانية آلاف من الأنبياء منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا أحمد بن محمد القاضي قال حدثنا إبراهيم بن خشيش البصري عن شعبة عن أبي إسحاق عن الحارث الأعور عن أبي ذر الغفاري قال قلت يا رسول الله كم كانت الأنبياء عليهم السلام وكم كان المرسلون فقال صلى الله عليه وسلم كانت الأنبياء مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي وكان المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر
ثم قال تعالى " وكلم الله موسى تكليما " قال بعضهم معناه أنه قد أوحى إليه وإنما سماه كلاما على وجه المجاز كما قال في آية أخرى " أم أنزلنا عليهم سلطنا فهو يتكلم " الروم 35 يعني يستدلون بذلك والعرب تقول قال الحائط كذا وكذا وقال عامة المفسرين وأهل العلم إن هذا كلام حقيقة لا مجازا لأنه قد أكده بالمصدر حيث قال " وكلم الله موسى(1/382)
383
تكليما ) والمجاز لا يؤكد لأنه لا يقال قال الحائط قولا فلما أكده بالمصدر نفى عنه المجاز وقال في موضع آخر " إنما قولنا لشيء أردنه أن نقول له كن فيكون " النحل 40 وقد أكده بالتكرار ونفى عنه المجاز وقال في موضع آخر " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا " الشورى 51 يعني الأنبياء الذين لم يكونوا مرسلين فأراهم في المنام أو من وراء حجاب بكلمة مثل ما كلم موسى أو يرسل رسولا وهو رسالة جبريل عليه السلام إلى المرسلين
ثم قال عز وجل " رسلا مبشرين ومنذرين " يعني أرسلنا رسلا مبشرين بالجنة ومنذرين بالنار " لئلا يكون " يقول " لكيلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " يعني بعد إرسال الرسل كي لا يقولوا يوم القيامة إنك لم ترسل إلينا رسولا ولو أن الله تعالى لم يرسل رسولا كان ذلك عدلا منه إذا أعطى كل واحد من خلقه من العقل ما يعرفه ولكن أرسل تفضلا منه ولكي يكون زيادة في الحجة عليهم ثم قال تعالى " وكان الله عزيزا " بالنقمة لمن يجحده " حكيما " حكم إرسال الرسل والأنبياء عليهم السلام
قوله تعالى " لكن الله يشهد بما أنزل إليك " قال ابن عباس وذلك أن رؤساء مكة أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا سألنا اليهود عن صفتك ونعتك فزعموا أنهم لا يعرفونك في كتابهم فأتنا بمن يشهد لك بأنك نبي مبعوث ويظهر نبوتك فنزل " لكن الله يشهد " يعني إن لم يشهد لك أحد منهم فالله تعالى أعظم شهادة من خلقه هو يشهد لك بأنك نبي ويظهر نبوتك قال القتبي هذا من الاختصار لأنه لما نزل " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح " سورة النساء 163 قال المشركون لا نشهد لك بهذا فمن يشهد لك فنزلت هذه الآية حكاية قولهم فقال تعالى " لكن الله يشهد " " بما أنزل إليك " لأن كلمة " لكن " إنما تجيء بعد نفي شيء فوجب ذلك الشيء بها
ثم قال تعالى " أنزله بعلمه " يعني يأمره ويقال أنزل القرآن الذي فيه علمه ثم قال " والملائكة يشهدون " أيضا على شهادتك بالذي شهدت أنه حق " وكفى بالله شهيدا " فلا أحد أفضل من الله تعالى بأنه أنزل القرآن عليك
سورة النساء 167 - 169
قوله تعالى " إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله " يعني صرفوا الناس عن دين الله " قد ضلوا " عن الحق " ضلالا بعيدا " يعني بعيدا عن الحق
ثم قال عز وجل " إن الذين كفروا وظلموا " يعني جحدوا وأشركوا " لم يكن الله ليغفر لهم " يعني ما داموا على شركهم " ولا ليهديهم طريقا " يعني لا يوفقهم لطريق الإسلام " إلا(1/383)
384
طريق جهنم ) يعني يتركهم ويخذلهم في طريق الكفر عقوبة لكفرهم ولجحودهم وهو طريق جهنم ويقال إلا العمل الذي يجرهم إلى جهنم وقال الضحاك لا يهديهم طريقا يوم القيامة يعني لا يرفع لهم إلا طريق جهنم وذلك أن اليهود أهل الإيمان يرفع لهم في الموقف طريق تأخذ بهم إلى الجنة ويرفع لأهل الكفر طريق ينتهي بهم إلى النار
ثم قال " خالدين فيها أبدا " يعني دائمين فيها " وكان ذلك على الله يسيرا " يعني خلودهم وعذابهم في النار هين على الله تعالى
سورة النساء 170 - 171
قوله تعالى " يا أيها الناس " قال ابن عباس يعني يا أهل مكة " قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم " أي بشهادة أن لا إله إلا الله ويقال ببيان الحق ويقال بالحق يعني بالفرض والحجة وقوله " قد جاءكم " على وجه المجاز لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان فيهم ولكن معناه أنه قد ظهر فيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال في آية أخرى " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " سورة التوبة 128 أي ظهر فيكم ثم قال " فآمنوا خيرا لكم " يعني صدقوا بوحدانية الله تعالى والقرآن الذي جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم خير لكم من عبادة الأوثان لأن عبادة الأوثان لا تغنيكم شيئا
ثم قال تعالى " وإن تكفروا " يعني إن تجحدوا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم فإن الله غني عنكم " فإن لله ما في السموات والأرض " كلهم عبيده وإماؤه " وكان الله عليما " بخلقه " حكيما " في أمره
ثم قال عز وجل " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم " قال الضحاك يعني لا تكذبوا في دينكم وقال بعض أهل اللغة الغلو مجاوزة القدر في الظلم ويقال الغلو أن تتجاوز لما حد لك وقال القتبي لا تفرطوا في دينكم فإن دين الله بين المقصر والغالي وغلا في القول إذا تجاوز المقدار وقال ابن عباس وذلك أن اليعقوبية وهم صنف من النصارى قالوا عيسى هو الله وقالت النسطورية هو ابن الله وقالت المرقوسية هو ثالث ثلاثة فنزل " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم " قال مقاتل الغلو في الدين أن يقول على الله غير الحق ويقال لا تتعمقوا في دينكم(1/384)
385
ثم قال تعالى " ولا تقولوا على الله إلا الحق " يعني لا تصفوا بالله بما لا يليق بصفاته فإن الله تعالى واحد لا شريك له ولا ولد له
ثم قال تعالى " إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم " وهو قوله " كن فيكون " سورة النحل 40ثم قال " وروح منه " قال ابن عباس في رواية الكلبي يعني أمر منه فأتاها جبريل فنفخ في جيب درعها فدخلت تلك النفخة بطنها فحملت بعيسى ثم وصل إلى عيسى ابن مريم فتحرك في بطنها وأمه أمة الله تعالى
ثم قال تعالى " فآمنوا بالله ورسله " يعني صدقوا بوحدانية الله تعالى وبما جاءكم به الرسل من الله تعالى " ولا تقولوا ثلاثة " يعني لا تقولوا إن الله ثالث ثلاثة ثم قال " انتهوا خيرا لكم " يقول توبوا إلى الله تعالى من مقالتكم فالتوبة خير لكم من الإصرار على الكفر
ثم قال تعالى " إنما الله إله واحد " ثم نزه نفسه عما قال الكفار فقال " سبحانه أن يكون له ولد " ثم قال " وله ما في السموات وما في الأرض " من الخلق " وكفى بالله وكيلا " يعني كفيلا ويقال شاهدا ولا شاهد أفضل من الله تعالى
سورة النساء 172 - 173
قوله تعالى " لن يستنكف المسيح " يعني لن يتعظم ولن يأنف ولن يتكبر ويقال لن يحتشم " أن يكون عبدا لله " وذلك ان وفد نجران أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وناظروه في أمر عيسى عليه السلام فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم كان عبد الله ورسوله فقالوا لا تقل هكذا فإن عيسى يأنف عن هذا القول فنزل تكذيبا لقولهم " لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله " يعني كان عيسى مقرا بالعبودية ثم قال " ولا الملائكة المقربون " يعني حملة العرش لم يأنفوا عن الإقرار بالعبودية وقال مقاتل الملائكة المقربون أقرب إليه فلم يأنفوا عن عبادته فكيف يأنف عيسى عليه السلام عن عبادته وهو عبد من عباده
ثم قال تعالى " ومن يستنكف " يعني يتعظم " عن عبادته ويستكبر " والاستكبار هو الاستنكاف يقال استنكف واستكبر يعني استكبر عن طاعته " فسيحشرهم إليه جميعا " يأمر بهم إلى النار
ثم قال عز وجل " فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني الطاعات فيما بينهم وبين ربهم " فيوفيهم أجورهم " يعني يوفر لهم ثواب أعمالهم " ويزيدهم من فضله " يعني من رزقه في الجنة(1/385)
386
ثم قال تعالى " وأما الذين استنكفوا واستكبروا " عن عبادة الله تعالى " فيعذبهم عذابا أليما " وجيعا دائما " ولا يجدون لهم من دون الله " يعني عذاب الله " وليا " يعينهم " ولا نصيرا " يعني مانعا يمنعهم من عذاب الله تعالى
سورة النساء الآيات 174 - 175
ثم قال عز وجل " يا أيها الناس " يعني يا أهل مكة " قد جاءكم برهان من ربكم " يعني بيانا من ربكم وحجة من ربكم وهو محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " وأنزلنا إليكم نورا مبينا " يعني بيانا من العمى وبيان الحلال وهو القران
قوله تعالى " فأما الذين آمنوا بالله " يعني صدقوا بوحدانية الله تعالى " واعتصموا به " يعني تمسكوا بدينه " فسيدخلهم في رحمة منه " يعني الجنة " وفضل " يعني الثواب " ويهديهم إليه " يعني يرشدهم إلى دينه ويوفقهم لذلك وفي الآية تقديم وتأخير فكأنه يقول يهديهم في الدنيا " صراطا مستقيما " يعني دينا لا عوج ويثيبهم على ذلك ويدخلهم في الآخرة في رحمة منه وفضل وهو الجنة والكرامة
سورة النساء الآية 176
قوله تعالى " يستفتونك " يعني يسألونك عن حكم الميراث " قل الله يفتيكم في الكلالة " روي عن قتادة أنه قال الكلالة من لا ولد له ولا والد وكذلك قال ابن عباس وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال إني قد رأيت رأيا فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن نفسي ومن الشيطان الكلالة ما عدا الوالد والولد وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال ثلاث لئن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهن لنا كان أحب إلي من الدنيا وما فيها الكلالة والخلافة وأبواب الربا وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الكلالة فقال ألم تر الآية التي أنزلت في النساء " قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد يعني هذا تفسير الكلالة(1/386)
387
وهذه الآية نزلت في شأن جابر بن عبد الله سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن لي أختا فما لي من ميراثها فنزلت هذه الآية فبين ميراث جابر أولا ثم ميراث أخته فصارت الآية عامة لجميع الناس
قال تعالى " إن امرؤ هلك " يعني إن مات رجلا " ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك " من المال " وهو يرثها " يعني إذا ماتت الأخت والأخ حي ورثها " إن لم يكن لها ولد " وقد ذكرت الآية حكم الأخ والأخت إذا لم يكن لهما ولد ولم يبين أنه لو كان لأحدهما ولد فمات أحدهما فما حكمه ولكن بين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن الأخ إذا مات وترك أبنة وأختا أن للابنة النصف وما بقي فللأخت وإن كانت الأخت هي التي ماتت وتركت ابنة وأخا فللأبنة النصف وما بقي فللأخ وفي هذا إجماع وفي الأول اختلاف قال ابن عباس رضي الله عنه لا ترث الأخت مع الابنة شيئا وخالفه جميع الصحابة رضي الله عنهم وقالوا كلهم الأخت مع البنات عصبة
ثم قال تعالى " فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك " يعني إذا كان للميت أختان أو أكثر فلهما الثلثان إذا كانتا اثنتين وإن كن أكثر من ذلك فلهن الثلثان أيضا بالإجماع ثم قال " وإن كانوا أخوة رجالا ونساء " يعني أخوة وأخوات " فللذكر مثل حظ الأنثيين " يعني لكل أخ سهمان ولكل أخت سهم هذا إذا كانت الإخوة والأخوات من الأب والأم أو من الأب خاصة فأما إذا كانوا من قبل الأم فهم شركاء في الثلث ليس لهم أكثر من ذلك كما ذكر في أول السورة وهذا بالإجماع
ثم قال تعالى " يبين الله لكم أن تضلوا " يعني يبين الله لكم قسمة المواريث لكي لا تضلوا ولا تخطئوا في قسمتها وقد يحذف لا فيراد به إثباته كقوله " وألقى فى الأرض روسى أن تميد بكم " سورة لقمان10 يعني أن لا تميد بكم وقد يثبت ويراد به حذفه كقوله تعالى " قال ما منعك ألا تسجد " سورة الأعراف12 يعني أن تسجد وكقوله " فلا أقسم " سورة القيامة1 يعني أقسم ثم قال " والله بكل شيء عليم " من قسمة المواريث وغيره يعني اتبعوا ما أنزل الله تعالى وبين لكم في كتابه والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما(1/387)
388
سورة المائدة
مدنية وهي مائة وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الفقيه الزاهد أبو الليث السمرقندي حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا السراج قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال حدثنا معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير قال دخلت على عائشة رضي الله عنها فقالت هل تقرأ سورة المائدة فقلت نعم قالت فإنها من آخر ما أنزل الله تعالى على نبيه فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرموه وقال الشعبي لم ينسخ من هذه السورة غير قوله " ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد " سورة المائدة 2 الآية وقال بعضهم نسخ منها قوله " أو ءاخران من غيركم " سورة المائدة 106
سورة المائدة 1
قال الله سبحانه وتعالى " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " فهذا نداء مدح والنداء في القرآن على سبع مراتب نداء المدح مثل قوله تعالى " يا أيها النبي " " يا أيها الذين آمنوا " " يا أيها الرسل " ونداء الذم مثل قوله تعالى " يا أيها الذين كفروا " " يأيها الذين هادوا " سورة الجمعة 6 ونداء التنبيه مثل قوله " يا أيها الناس " ونداء الإضافة مثل قوله " يا عبادي " ونداء النسبة مثل قوله " يا بني آدم " " يا بني إسرائيل " ونداء الاسم مثل قوله " يا إبراهيم " " يا داود " ونداء التعبير مثل قوله " يا أهل الكتاب " فهاهنا نداء المدح " يا أيها الذين آمنوا " وهو من جوامع الكلم لأنه قال " يا أيها الذين آمنوا " يعني صدقوا ولم يقل بأي شيء صدقوا معناه الذين صدقوا بوحدانية الله تعالى وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وصدقوا بجميع الرسل وبالبعث والحساب والجنة والنار وقال عبد الله بن مسعود كل مؤدب يحب أن يؤتى أدبه وإن أدب الله القرآن فإذا سمعت الله يقول " يا أيها الذين آمنوا " فأرعها سمعك فإنه خير مأمور به أو شر منهي عنه ويقال جميع ما في القرآن " يا أيها الذين(1/388)
389
آمنوا ) نزل بالمدينة وكل ما يقال في القرآن " يا أيها الناس " نزل أكثر بمكة وقد قيل نزل بالمدينة أيضا ويقال كل ما في القرآن " يا أيها الذين آمنوا " ذكر في الإنجيل يا أيها المساكين
ثم قال " أوفوا بالعقود " يعني أتموا الفرائض التي ذكر الله تعالى في القرآن وعقد على عباده ما أحل لهم وحرم عليهم أن يوفوا بها وقال مقاتل " أوفوا بالعقود " يعني بالعهود التي بينكم وبين المشركين ويقال جميع العقود التي بينه وبين الناس والتي بينه وبين الله تعالى وهذا من جوامع الكلم لأنه اجتمع فيه ثلاثة أنواع من العقود أحدها العقود التي عقدها الله تعالى على عباده من الأوامر والنواهي والنوع الثاني العقود التي يعقدها الإنسان بينه وبين الله تعالى من النذور والأيمان وغير ذلك والنوع الثالث العقود التي بينه وبين الناس مثل البيوع والإجارات وغير ذلك فوجب الوفاء بهذه العقود كلها
ثم قال تعالى " أحلت لكم " يعني رخصت لكم " بهيمة الأنعام " والأنعام تشتمل على الإبل والبقر والغنم والوحش دليله على قوله تعالى " ومن الأنعم حمولة وفرشا " سورة الأنعام 142 ثم قال تعالى " ثمانية أزواج " وأما البهيمة فهي كل حي لا يميز وإنما قيل لها بهيمة لأنها أبهمت من أن تميز
ثم قال تعالى " إلا ما يتلى عليكم " يعني رخصت لكم الأنعام كلها إلا ما حرم عليكم في هذه السورة وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وغير وذلك أنهم كانوا يحرمون السائبة والبحيرة فأخبر الله تعالى أنهما حلالان " إلا ما يتلى عليكم " يعني إلا ما بين لكم في هذه السورة
ثم قال " غير محلي الصيد وأنتم حرم " يعني أحلت لكم هذه الأشياء من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون ثم قال " إن الله يحكم ما يريد " يعني يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء لأنه أعرف بصلاح خلقه وما يصلحهم وما لا يصلحهم وليس لأحد أن يدخل في حكمه وهذا كقوله تعالى " ولا يشرك في حكمه أحدا " سورة الكهف 26 وقال " لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون " سورة الأنبياء 23
سورة المائدة 2
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله " الشعائر ما جعله الله تعالى علامات(1/389)
390
الطاعات وأحدها شعيرة ومعناه لا تستحلوا شيئا من ترك المناسك كلها مما أمر الله تعالى من أمر الحج وهو السعي بين الصفا والمروة والخروج إلى عرفات ورومي الجمار والطواف واستلام الحجر وغير ذلك وذلك أن الأنصار كانوا لا يسعون بين الصفا والمروة وكان أهل مكة لا يخرجون إلى عرفات وكان أهل اليمن يرجعون من عرفات فأمر الله تعالى في هذه السورة بأن لا يتركوا شيئا من أمور المناسك
ثم قال " ولا الشهر الحرام " يعني لا تستحلوا القتل في الشهر الحرام " ولا الهدي ولا القلائد " يقول لا تتعرضوا له ولا تستحلوه وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا خرجوا إلى مكة وكانوا إذا قلدوا الهدي أمنوا بذلك ومن يكن له هدي جعل في عنق راحلته قلادة ومن لم يكن معه راحله جعل في عنقه قلادة من شعر أو وبر فيأمن بذلك فإذا رجع من مكة جعل شيئا من لحاء شجر مكة في عنق راحلته فيأمن بذلك ليعرف انه كان حاجا فأمرهم الله تعالى بأن لا يستحلوا ذلك يعني من فعل ذلك لا يتعرض له
ثم قال " ولا آمين " يقول ولا تستحلوا قاصدين " البيت الحرام " نزلت في شريح بن ضبيعة بن شرحبيل اليماني دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه فلما خرج من عنده مر بسرح لأهل المدنية فساقها وانتهى إلى اليمامة ثم خرج من هناك نحو مكة ومعه تجارة عظيمة فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخرجوا إليه ويغيروا على أمواله فنزل " ولا آمين البيت الحرام " " يبتغون فضلا من ربهم " يعني الربح في المال " ورضوانا " يعني يطلبون بحجهم راضون ربهم فلا يرضى عنهم حتى يؤمنوا ثم نسخ بقوله " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " سورة التوبة 5 ولم ينسخ قوله " لا تحلوا شعائر الله " ولكنها محكمة فوجب إتمام أمور المناسك ولهذا قال أصحابنا إن الرجل إذا دخل في الحج ثم أفسده فعليه أن يأتي بجميع أفعال الحج ولا يجوز أن يترك شيئا منها ثم عليه القضاء في السنة الثانية ونسخ قوله " ولا الشهر الحرام " فيجوز القتال في الشهر الحرام بقوله " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " ( سورة التوبة 5 ) ولم ينسخ قوله " لا تحلوا شعائر الله " ولكنها محكمة فوجب إتمام أمور المناسك ولهذا قال أصحابنا إن الرجل إذا دخل في الحج ثم افسده فعليه أن يأتي بجميع افعال الحج ولا يجوز أن يترك شيئا منها ثم عليه القضاء في السنة الثانية ونسخ قوله " ولا الشهر الحرام " فيجوز القتال في الشهر الحرام بقوله " وقتلوا المشركين كافة " سورة التوبة 36 وقوله تعالى " ولا الهدي ولا القلائد " فهو محكم أيضا ولم ينسخ فكل من قلد الهدي وتوجه إلى مكة ونوى الإحرام صار محرما ولا يجوز له أن يحل بدليل هذه الآية فهذه الأحكام معطوفة بعضها على بعض بعضها
منسوخة وبعضها محكمة فإن قيل قد قال " يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا " فأخبر أنهم يطلبون رضوا ن ربهم ولم يذكر أن طلبهم كان باطلا قيل له لأنه لم يذكر في لفظ الآية أمر الكفار وإنما بين النهي عن التعرض للذين يقصدون البيت فإن كان الذي قصد كافرا فقد بين في آية أخرى أنه لم يقبل منه وإن لم يذكرها هاهنا وهو قوله " ومن يكفر بالإيمن فقد حبط عمله " سورة المائدة 5
وقال تعالى " وإذا حللتم فاصطادوا " يعني إذا حللتم من إحرامكم فاصطادوا إن شئتم فهذه رخصة بلفظ الأمر كقوله " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض " سورة الجمعة 10(1/390)
391
كقوله " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم " سورة البقرة 187 الآية وقال الضحاك " وإذا حللتم " يعني إذا خرجتم من إحرامكم أو خرجتم من حرم الله تعالى وأمنة فاصطادوا
ثم قال تعالى " ولا يجرمنكم شنآن قوم " يقول ولا يحملنكم عداوة كفار مكة " أن صدوكم عن المسجد الحرام " يعني عام الحديبية " أن تعتدوا " على حجاج اليمامة من المشركين فتستحلوا منهم وفي الآية دليل أن المكافأة لا تجوز من غير جنس الذي فعل به وتكون تلك المكافأة اعتداء لأن الله تعالى قال " ولا يجرمنكم شنآن قوم " يعني بغض قوم وعداوتهم " أن تعتدوا " يعني أن تجاوزوا الحد في المكافأة قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر " شنآن " بجزم النون وقرأ الباقون " شنآن " بالنصب وقال القتبي لا يقال في المصادر فعلان وإنما يقال ذلك في الصفات مثل عطشان وسكران وفي المصادر يقال فعلان مثل طيران ولهفان وشنآن وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " إن صدوكم " بكسر الألف على معنى الابتداء وقرأ الباقون " أن صدوكم " بالنصب على معنى البناء
ثم قال تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى " يعني تحاثوا على أمر الله تعالى واعملوا به وروي عن ابن عباس البر ما أمر الله تعالى به والتقوى ما نهى الله عنه يقول تحاثوا على أمر الله واعملوا به وانتهوا عما نهى الله تعالى عنه وامتنعوا عنه وهذا موافق لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال الدال على الخير كفاعله وقد قيل الدال على الشر كصانعه
ثم قال " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " قال القتبي العدوان على وجهين عدوان في السبيل كقوله " فلا عدون إلا على الظالمين " سورة البقرة 193 وكقوله " فلا عدون على " سورة القصص 28 والثاني عدوان في الظلم كقوله " فلا تتنجوا بالإثم " سورة المجادلة 9 وكقوله " ولا تعاونوا على الإثم والعدون " سورة المائدة 2 يعني به حجاج أهل اليمامة وصارت الآية عامة في جميع الناس ثم قال " واتقوا الله " يعني واخشوا الله وأطيعوه فيما أمركم به " إن الله شديد العقاب " يعني إذا عاقب
سورة المائدة 3
قوله تعالى " حرمت عليكم الميتة " يعني حرم عليكم أكل الميتة والميتة كل ما مات حتف أنفه بغير ذكاة فهو حرام إلا الجراد والسمك فقد أباحها على لسان رسول الله حيث(1/391)
392
قال صلى الله عليه وسلم أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال ثم قال " والدم " يعني حرم عليكم أكل الدم وشربه وهو الدم المسفوح كما قال في آية أخرى " إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا " الأنعام 145وأما الدم الذي بقي بعد الأنهار فهو مباح مثل الطحال والكبد والصفرة التي بقيت في اللحم ثم قال " ولحم الخنزير " يعني أكل لحم الخنزير فذكر اللحم والمراد به اللحم والشحم وغير ذلك وهذا حرام بإجماع المسلمين
ثم قال " وما أهل لغير الله به " يعني حرم عليكم أكل ما ذبح لغير الله وأصل الإهلال رفع الصوت ومنه استهلال الصبي وإهلال الحج وإنما سمي الذبح إهلالا لأنهم كانوا يرفعون الصوت عند الذبح بذكر آلهتهم فحرم الله تعالى ذلك
ثم قال " والمنخنقة " وهي الشاة التي تخنق فتموت وكان بعض أهل الجاهلية يستحلون ذلك ويأكلونها
ثم قال " والموقوذة " يعني حرم عليكم أكل الموقوذة وهي التي تضرب بالخشب فتموت وأصله في اللغة هو الإشراف على الهلاك فإذا ضرب بالخشب حتى يشرف على الموت ثم يتركه يقال موقوذة ويقال فلان وقيذ وقذته العبادة أي ضعف وأشرف على الهلاك
ثم قال " والمتردية " وهي الشاة التي تخر من الجبل أو تتردى في بئر فتموت
ثم قال " والنطيحة " وهي الشاة التي تنطح صاحبها فيقتلها
ثم قال " وما أكل السبع " وهي فريسة السبع فحرم الله تعالى أكل هذه الأشياء كلها على المؤمنين ثم استثنى فقال " إلا ما ذكيتم " يعني إلا ما أدركتم ذكاته فذكيتموه قبل أن يموت فلا بأس بأكله
قال القتبي أصل الذكاة من التوقد يقال ذكيت النار إذا ألقيت عليها شيئا من الحطب وإنما سميت الذكية ذكية لأنها صارت بحال ينتفع بها وقال الزجاج أصل الذكاة تمام الشيء وقوله " إلا ما ذكيتم " يعني ما أدركتم ذبحه على التمام
ثم قال " وما ذبح على النصب " قال القتبي النصب هو حجر أو صنم منصوب كانوا يذبحون عنده وجمعه أنصاب ويقال كانوا يذبحون لأعيادهم باسم آلههتهم
ثم قال " وأن تستقسموا بالأزلام " والأزلام القداح واحدها زلم على ميزان قلم وأقلام وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يجتمعون عشرة أنفس ويشترون جزورا ويجعلون لحمه على تسعة أجزاء ويعطى كل واحد منهم سهما من سهامه ويجمعون السهام عند واحد منهم أو شيء من الأحجار ثم يخرج هذا الرجل واحدا من السهام فكل من خرج سهمه يأخذ جزءا من ذلك اللحم فإذا خرج تسعة من السهام لا يبقى شيء من اللحم ولا يكون للذي بقي اسمه آخرا شيء من اللحم وكان ثمن الجزور كله عليه(1/392)
393
وكان نوع آخر أنهم كانوا يجعلون عشرة من القداح وكان لكل واحد منها سهم ولم يكن لثلاثة منها نصيب من اللحم وهو السفيح والمنيح والوعيد وكان للسبعة لكل سهم نصيب وهو القذ والتوأم والرقيب والمعلى والحلس والناقس والمسبل ويقال كان إذا أراد واحد منهم السفر أخرج سهمين من القداح في أحدهما مكتوب أمرني ربي وفي الآخر نهاني ربي فيخرج أحدهما فإن خرج باسمه أمرني ربي وجب عليه الخروج الخروج ولم يسعه التخلف وإن خرج الآخر لا يسعه الخروج فنهى الله تعالى عن ذلك كله وقال " ذلكم فسق " يعني هذه الأفعال معصية وضلالة و واستحلالها كفر
ثم قال تعالى " واليوم يئس الذين كفروا من دينكم " يعني كفار العرب أن تعودوا كفارا حين حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وليس معهم مشرك وقال الضحاك نزلت هذه الآية حين فتح مكة وذلك أن رسول صلى الله عليه وسلم فتح مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع ويقال سنة ثمان ودخلها ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا من قال لا إله إلا الله فهو آمن ومن وضع السلاح فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن فانقادت قريش لأمر الله تعالى ورفعوا أيديهم وأسلموا
قال الله تعالى " فلا تخشوهم " يقول فلا تخشوا صولة المشركين فأنا معكم وناصركم " واخشون " في ترك أمري
ثم قال " اليوم أكملت لكم دينكم " يعني أتممت لكن شرائع دينكم وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان بمكة لم يكن إلا فريضة الصلاة وحدها فلما قدم المدينة أنزل الله الحلال والحرام فنزلت هذه الآية " اليوم أكملت لكم دينكم " يعني دينكم حلالكم وحرامكم وروى حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار أن ابن عباس أنه قرأ " اليوم أكملت لكم دينكم " فقال له يهودي لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا فقال ابن عباس فإنها نزلت في يوم عيدين في يوم الجمعة وكان يوم عرفة
قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا ابن صاعد قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن قيس بن مسلم عن طارق ان اليهود قالوا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إنكم لتقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا " اليوم أكملت لكم دينكم " فقال عمر رضي الله عنه إني لأعلم حيث أنزلت وفي أي يوم أنزلت أنزلت بيوم عرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة فإن قيل في ظاهر هذه الآية دليل أن الدين يزيد وينقص حيث قال " اليوم أكملت لكم دينكم " قيل له ليس فيها دليل لأنه أخبر أنه أكمل في ذلك اليوم وليس فيها دليل أنه لم يكمل قبل ذلك ألا ترى أنه قال في(1/393)
394
سياق الآية " ورضيت لكم الإسلام دينا " ليس فيه دليل أنه لم يرض قبل ذلك ولكن معناه أنه قد أظهر وقرر كما جاء في الخبر أن رجلا أعتق ستة أعبد له في مرضه فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنين منهم يعني أظهر عتقهما وقرر ولم يرد به الابتداء وقال مجاهد معناه اليوم أتممت لكم ظهور دينكم وغلبة دينكم ونصرته وقال قتادة معناه أخلص لكم دينكم
ثم قال تعالى " وأتممت عليكم نعمتي " يعني منتي فلم يحج معكم مشرك " ورضيت " يعني أخترت " لكم الإسلام دينا " وروي في الخبر ان النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزول هذه الآية إحدى وثمانين ليلة ثم مضى لسبيله صلى الله عليه وسلم وقال الزجاج " اليوم " صار نصبا للظرف ومعناه في اليوم أكملت لكم دينكم وقال معاذ بن جبل النعمة لا تكون إلا بعد دخول الجنة فصار كأنه قال رضيت لكم الجنة لأنه لا تكون النعمة تماما إلا حتى يضع قدميه فيها
ثم رجع إلى أول الآية فقال تعالى " فمن اضطر في مخمصة " وذلك أنه لما بين المحرمات علم أن بعض الناس اضطروا إلى أكله فأباح لهم أكله عند الضرورة فقال " فمن اضطر " يعني أجهد إلى شيء مما حرم الله تعالى عليه " في مخمصة " يعني في مجاعة وأصل الخمص ضمور البطن ودقته فإذا جاع فقد خمص بطنه ثم قال " غير متجانف لإثم " يعني غير متعمد المعصية لأكله فوق الشبع وأصل الجنف الميل وقال الزجاج يعني غير متجاوز للحد وغير آكل لها على وجه التلذذ فلا إثم عليه في أكله وقال أهل المدينة المضطر يأكل حتى يشبع وقال أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله إنه يأكل مقدار ما يأمن به الموت وكذلك قال الشافعي رحمه الله " فإن الله غفور رحيم " يعني " غفور " فيما أكل " رحيم " حين رخص له أكله عند الاضطرار قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو " فمن اضطر " بكسر النون لاجتماع الساكنين وقرأ الباقون بالضم
سورة المائدة 4 - 5
قوله تعالى " يسألونك ماذا أحل لهم " نزلت الآية في شأن عدي بن حاتم الطائي قال(1/394)
395
قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا قوم نتصيد بهذه الكلاب والبزاة فما يحل لنا منها فقال صلى الله عليه وسلم ما علمت من كلب أو بازي ثم أرسلته وذكرت اسم الله تعالى عليه فكل ما أمسك عليك فقلت وإن قتله قال إن قتله ولم يأكل منه شيئا فكل فإنما أمسك عليك وإن أكل منه شيئا فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه قلت فإذا خالط كلابنا كلاب أخرى حين ترسلها قال لا تأكل حتى تعلم أن كلبك هو الذي أمسك عليك ونزلت هذه الآية " يسألونك ماذا أحل لهم " يعني ماذا رخص لهم من الصيد ويقال لما نزل قوله تعالى " حرمت عليكم " قالوا إن الله تعالى حرم هذه الأشياء فأي شيء لنا حلال يا رسول الله فأنزل الله تعالى " قال أحل لكم الطيبات " يعني رخص لكم الحلالات من الذبائح " وما علمتم " يعني وأحل لكم صيد ما علمتم " من الجوارح " يعني من الطير والكلاب الكواسب ويقال الجوارح الجارحات
ثم قال " مكلبين " بكسر اللام وقرأ بعضهم بالنصب فمن قرأ بالكسر يعني به أصحاب الكلاب المعلمين للكلاب ومن قرأ بالنصب أراد به الكلاب يعني الكلاب المعلمة " مكلبين " يعني معلمين ثم قال " تعلمونهن " يعني تؤدبونهن في طلب الصيد " مما علمكم الله " يقول كما أدبكم الله تعالى وروي عن مجاهد أنه سئل عن الصقر والبازي والفهد قال هذه كلها جوارح ولا بأس بصيده إذا كان معلما
ثم قال " فكلوا مما أمسكن عليكم " يعني حبسن لكم " واذكروا اسم الله عليه " إذا أرسلتم الكلاب على الصيد وفي هذه الآية دليل أن الكلب إذا كان أكل من الصيد لا يؤكل لأنه أمسك لنفسه وفيها دليل أنه لا يجوز الأكل إلا بالتسمية لأنه أباح على شرط التسمية وعلى شرط أن يمسك لصاحبه وفيها دليل أيضا أن الكلب إذا كان غير معلم لا يجوز أكل صيده وفيها دليل أيضا أن العالم له من الفضيلة ما ليس للجاهل لأن الكلب إذا علم تكون له فضيلة على سائر الكلاب وأن الإنسان إذا كان له علم أولى أن يكون له فضل على سائر الناس وهذا كما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال لكل شيء قيمة وقيمة المرء ما يحسنه
ثم خوفهم فقال " واتقوا الله " يعني اخشوا الله ولا تأكلوا الميتة " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " الأنعام 121 " إن الله سريع الحساب " يعني سريع المجازاة
وقوله تعالى " اليوم أحل لكم الطيبات " يعني المذبوحات من الحلال يعني اليوم أظهر وبين حله ثم قال " وطعام الذين أوتوا الكتاب " يعني ذبائح أهل الكتاب " حل لكم " يعني حلال لكم أكله " وطعامكم حل لهم " يعني ذبائحكم وطعامكم رخص لهم أكله وقال(1/395)
396
الزجاج تأويله أحل لكم أن تطعموهم لأن الحلال والفرائض إنما تعقد على أهل الشريعة
ثم قال " والمحصنات من المؤمنات " يعني أحل لكم تزوج العفائف من المؤمنات " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب " يعني العفائف من أهل الكتاب " من قبلكم " يعني أعطوا الكتاب من قبل كتابكم وهو التوراة والإنجيل واختلفوا في نكاح الصابئة وقد ذكرناه في سورة البقرة
ثم قال " إذا آتيتموهن أجورهن " يعني أعطيتموهن مهورهن " محصنين غير مسافحين " يقول كونوا متعففين عن الزنى غير معلنين بالزنا " ولا متخذي أخدان " يقول لا تتخذوا خدنا فتزنوا بها سرا وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يعيرون من يزني في العلانية ولا يعيرون من يزني سرا فحرم الله زنى السر والعلانية فلما نزلت هذه الآية قلن نساء أهل الكتاب لولا أن الله تعالى قد رضي بديننا لم يبح للمسلمين نكاحنا فنزل " ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله " أي بطل ثواب عمله ويقال لما نزل قوله " حرمت عليكم الميتة " ثم رخص من حال الأضطرار فقال بعضهم لا نأخذ الرخصة في الاضطرار فنزل " ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله " ويقال هذا ابتداء خطاب وهو لجميع المسلمين فقال " ومن يكفر بالإيمان " قال ابن عباس يعني من يكفر بالتوحيد بشهادة أن لا إله إلا الله فقد حبط عمله وقال مجاهد معناه ومن يكفر بالإيمان بالله " فقد حبط عمله " يعني بطل ثواب عمله " وهو في الآخرة من الخاسرين " يعني من المغبونين في العقوبة ولهذا قال أصحابنا رحمهم الله إن الرجل إذا صلى ثم ارتد ثم أسلم في وقت تلك الصلاة وجب عليه إعادة تلك الصلاة ولو كان حج حجة الإسلام فعليه أن يعيد الحج لأنه قد بطل حجه وما فعل قد بطل قبل ارتداده
سورة المائدة 6 - 7
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة " يعني إذا أردتم أن تقوموا إلى الصلاة وأنتم محدثون ويقال إذا قمتم من نومكم إلى الصلاة وأنتم محدثون " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق " يعني مع المرافق " وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين " يعني مع الكعبين قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم وفي رواية أبي بكر(1/396)
397
" وأرجلكم " بكسر اللام وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالنصب فإنه جعله مفعولا نصبا لوقوع الفعل عليه وهو الغسل يعني واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين ومن قرأ بالكسر جعله كسرا لدخول حرف الخفض عليه وهو الباء فكأنه قال وامسحوا برؤوسكم وبأرجلكم يعني إذا كان عليه خفان وقد ثبت ذلك بالسنة ويقال صار كسرا بالمجاورة كما قال في آية أخرى " وحور عين " الواقعة 22 قرأ بعضهم بالكسر بالمجاورة فهذه الأربعة التي ذكرت في الآية من فرائض الوضوء وما سوى ذلك آداب وسنن فإن قيل الآية إذا قرئت بقراءتين فالله تعالى قال بهما جميعا أو بإحداهما قيل له هذا على وجهين إن كان لكل قراءة معنى غير المعنى الآخر فالله تعالى قال بهما جميعا وصارت القراءتان بمنزلة الآيتين وإن كانت القراءتان معناهما واحد فالله تعالى قال بأحداهما ولكنه رخص بأن يقرأ بالقراءتين جميعا
ثم قال تعالى " وإن كنتم جنبا فاطهروا " قال القتبي قد يوصف الجمع بصفة الواحد كقوله " وإن كنتم جنبا " وكقوله " والملائكة بعد ذلك ظهير " التحريم 4 قوله " فاطهروا " معناه فتطهروا إلا أن التاء أدغمت في الطاء لأنهما من مكان واحد فإذا أدغمت فيها سكن أول الكلمة وزيدت ألف الوصل للابتداء
ثم قال تعالى " وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائظ أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه " يعني من الصعيد وقد ذكرناه
ثم قال " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج " يقول لا يكلفكم في دينكم من ضيق " ولكن يريد ليطهركم " يعني يطهركم من الأحداث والجنابة " وليتم نعمته عليكم " بما أنعم عليكم من الرخص " لعلكم تشكرون " أي لكي تشكروا الله لما رخص لكم ولم يضيق عليكم
قوله تعالى " واذكروا نعمة الله عليكم " يقول احفظوا منة الله عليكم بإقراركم بوحدانية الله تعالى " وميثاقه الذي واثقكم به " يعني يوم الميثاق حين أخرجهم من صلب آدم عليه السلام وقال " ألست بربكم قالوا بلى " الأعراف 172 هكذا قال في رواية الكلبي ومقاتل والضحاك وقال بعضهم هو ميثاق الجبلة والإدراك فكل من أدرك فقد أخذ عليه الميثاق وشهدت له خلقته وجبلته فصار ذلك كالإقرار منه ثم قال " إذ قلتم سمعنا وأطعنا " يوم الميثاق قلتم سمعنا قولك يا ربنا وأطعنا أمرك ثم قال " واتقوا الله " في نقص العهد والميثاق " إن الله عليم بذات الصدور " يعني عالم بسرائركم
سورة المائدة 8 - 10(1/397)
398
ثم قال " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط " يعني كونوا قوالين بالحق ثم قال " ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا " وذلك أن الله تعالى لما فتح عليهم مكة أمر الله المسلمين أن لا يكافئوهم بما سلف وأن يعدلوا في القول والحكم والنصفة وذلك قوله " اعدلوا " يعني قولوا بالحق والعدل " هو أقرب للتقوى " يعني فإنه أقرب للطاعة ثم قال " واتقوا الله " يقول واخشوا الله فيما أمركم به " إن الله خبير بما تعملون " من الطاعة وغيرها
ثم بين ثواب من عمل بطاعته فقال " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني الطاعات " لهم مغفرة " لذنوبهم " وأجر عظيم " يعني ثواب عظيم في الجنة ويقال إن أهل مكة قالوا بعدما أسلموا ما لنا في الآخرة وقد أخرجناك وأصحابك من مكة فنزل " وعد الله الذين آمنوا " بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم " وعملوا الصالحات " بعد الإسلام " لهم مغفرة " لما فعلوا في حال الشرك " وأجر عظيم " في الآخرة
ثم قال " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا " يعني جحدوا وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وماتوا على ذلك " أولئك أصحاب الجحيم " يعني مقيمين فيها أبدا
سورة المائدة 11
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وصالح بني قريظة والنضير وهما قبيلتان بقرب المدينة من اليهود وأخذ منهم الميثاق بأن لا يكون بينهم القتال ويتعاونون فيما بينهم على الديات فدخل مستأمنان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجا من عنده فقتلهما عمرو بن أمية الضمري ولم يعلم بأنهما مستأمنان فوداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية حرين مسلمين فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم إلى بني النضير ليستعين بهم في ديتهما فقالوا مرحبا حتى نستأذن إخواننا من بني قريظة وقال في رواية الكلبي خرج إلى بني قريظة فقالوا حتى نستأذن أخواننا من بني النضير وفي رواية مقاتل خرج إلى بني النضير فقالوا حتى نستأذن أخواننا من بني قريظة وأدخلوهم دارا وأجلسوهم في صفة وجعلوا يجمعون السلاح وهموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكانوا ينتظرون كعب بن الأشرف وكان غائبا فنزل جبريل عليه السلام وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصة فقام النبي صلى الله عليه وسلم وخرج فلما أبطأ الرجوع قام أبو بكر فخرج ثم خرج عمر ثم خرج علي رضي الله عنهم فنزلت هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم " " إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم " يقول أداروا وتمنوا أن يمدوا أيديهم إليكم بالقتل " فكف أيديهم عنكم " بالمنع عنكم(1/398)
399
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا علي بن أحمد قال حدثنا نصير بن يحيى قال حدثنا أبو سليمان عن محمد بن الحسن عن محمد بن عبد الله عن الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى بني النضير ليستعين بهم في دية الكلابيين الذين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري فهم بنو النضير بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فسار فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فحاصرهم وأمر بقطع النخيل وحاصرهم حتى قالوا أتؤمننا على دمائنا وذرارينا وعلى ما حملت الإبل إلا الحلقة يعني السلاح قال نعم ففتحوا الحصون وأجلاهم إلى الشام فهذا الخبر موافق رواية مقاتل أنه خرج إلى بني النضير
وقال الضحاك كان سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة إلى البقيع إلى قبور الشهداء وحده فأتاه رجل من اليهود شديد محارب فقال إن كنت نبيا كما تزعم فأعطني سيفك هذا فإن الأنبياء لا يبخلون فأعطاه سيفه فشهر اليهودي السيف وهزه ليضربه به فلم يجترئ للرعب الذي قذفه الله تعالى في قلبه ثم رد عليه السيف فنزل " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم " ثم قال " واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون " يعني على المؤمنين ان يتوكلوا على الله ويتقوا بالنصرة لهم ففي الآية إضمار فكأنه قال فاتقوا الله وتوكلوا على الله " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " يعني على المؤمنين أن يتوكلوا على الله
سورة المائدة 12 - 13
قوله تعالى " ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل " يعني في التوراة من الإيمان بالله تعالى وبأنبيائه وان يعملوا بما في التوراة ثم قال " وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا " قال مقاتل يعني شهداء على قومهم بعث الله تعالى من كل سبط منهم رجلا ليأخذ كل رجل منهم على سبطه الميثاق ويكونوا شهداء على قومهم وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد " وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا " قال من كل سبط من بني إسرائيل رجلا أرسلهم موسى عليه السلام إلى الجبارين فوجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة منهم في خشبة ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبة منه خمسة أنفس أو أربعة فرجع النقباء كلهم ينهون سبطهم عن القتال إلا يوشع بن نون وكالوب بن يوقنا أمرا قومهما بالقتال وقال الكلبي القتبي(1/399)
400
الكفيل عن القوم والنقابة والنكابة شبيه بالعرافة ويقال نقيبا يعني أمينا وقال ابن عباس نقيبا يعني ملكا حين بعثهم موسى إلى بيت المقدس جعل عليهم اثني عشر ملكا على كل سبط منهم ملك " وقال الله " تعالى للنقباء " إني معكم " ويقال " وقال الله " لبني إسرائيل حين أخذ عليهم الميثاق في التوراة " إني معكم " أي معينكم وحافظكم وناصركم " لئن أقمتم الصلاة " يعني ما دمتم أقمتم الصلاة " وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي " يعني صدقتم برسلي " وعزرتموهم " يعني أعنتموهم وقال القتبي أي عظمتموهم والتعزير التعظيم وقال السدي يعني نصرتموهم بالسيف وقال الأخفش يعني وقرتموهم وقويتموهم وقال الضحاك شرفتموهم بالنبوة كما شرفهم الله تعالى ويقال " آمنتم برسلي " أي أمرتم قومكم حتى يؤمنوا برسلي " وعزرتموهم " أي نصرتموهم " وأقرضتم الله قرضا حسنا " أي تأمرون قومكم بذلك
ثم بين جزاءهم وثوابهم إن فعلوا ذلك فقال تعالى " لأكفرن " أي لأمحون " عنكم سيئاتكم " يعني ذنوبكم " ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار " ثم قال " فمن كفر بعد ذلك " العهد والميثاق " منكم فقد ضل سواء السبيل " يعني أخطأ قصد الطريق
ثم قال عز وجل " فبما نقضهم ميثاقهم " يعني لما أخذ الله عليهم الميثاق نقضوا الميثاق فبنقضهم ميثاقهم " لعناهم " يعني لعنهم الله وطردهم من رحمته ويقال " لعناهم " يعني عذبناهم بالمسخ ويقال بالجزية ثم قال " وجعلنا قلوبهم قاسية " يعني يابسة ويقال خالية عن حلاوة الإيمان قرأ حمزة والكسائي " قسية " بغير ألف وقرأ الباقون " قاسية " ومعناهما واحد ويقال قست فهي قاسية وقسية
ثم قال " يحرفون الكلم " والكلم جمع كلمة يعني يغيرون صفة محمد صلى الله عليه وسلم " عن مواضعه " يعني في كتابهم أي من بعدما وافق القرآن يعني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم ويقال استحلوا ما حرم الله تعالى عليهم ولم يعملوا به فكان ذلك تغيير الكلم عن مواضعه ثم قال " ونسوا حظا " يعني تركوا نصيبا " مما ذكروا به " يعني مما أمروا به في كتابهم " ولا تزال تطلع على خائنة منهم " يعني لا يزال تظهر لك منهم الخيانة ونقض العهد
وقال القتبي عن أبي عبيدة إن العرب تضع لفظ الفاعل في موضع المصدر كقولهم للخوان مائدة وإنما يميد بهم ما في الخوان فيجوز أن يكون صفة للخائن كما يقال رجل طاغية ورواية للحديث ثم قال " إلا قليلا منهم " يعني مؤمنيهم لم ينقضوا العهد " فاعف عنهم " يعني اتركهم فلا تعاقبهم " واصفح " عنهم يعني أعرض عنهم " إن الله يحب المحسنين " الذين يعفون عن الناس وهذا قبل الأمر بقتال أهل الكتابين
سورة المائدة(1/400)
401
14
قوله تعالى " ومن الذين قالوا إنا نصارى " وذلك أن الله تعالى لما ذكر حال اليهود ونقضهم الميثاق فقال على أثر ذلك إن النصارى لم يكونوا أحسن معاملة من اليهود ثم بين معاملتهم فقال " ومن الذين قالوا إنا نصارى " " أخذنا ميثاقهم " في الإنجيل بأن يتبعوا قول محمد صلى الله عليه وسلم " فنسوا حظا مما ذكروا به " يعني تركوا نصيبا مما أمروا به في الإنجيل من اتباع قول محمد صلى الله عليه وسلم ويقال نقضوا العهد كما نقض اليهود ويقال إنما سموا أنفسهم النصارى لأنهم نزلوا قرية يقال لها ناصرة نزل فيها عيسى عليه السلام فنزلوا هناك وتواثقوا بينهم ويقال إنما سموا النصارى لقول عيسى عليه السلام " من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله " آل عمران 52والصف14
ثم قال " فأغرينا بينهم العداوة " يعني ألقينا الإغراء في أصل اللغة الإلصاق يقال أغريت الرجل إغراء إذا الصقت به ويقال إن " العداوة " ألقاها بينهم إنسان يقال له بولس كان بينه وبين النصارى قتال وكان يهوديا فقتل منهم خلقا كثيرا فأراد ان يحتال بحيلة يلقي بينهم القتال ليقتل بعضهم بعضا فجاء إلى النصارى وجعل نفسه أعور وقال لهم أتعرفوني فقالوا أنت الذي قتلت منا وفعلت ما فعلت فقال قد فعلت ذلك كله وأنا تائب لأني رأيت عيسى ابن مريم في المنام نزل من السماء فلطم وجهي لطمة وفقأ عيني فقال لي أي شيء تريد من قومي فقبلت يده فتبت على يده وإنما جئتكم لأكون بين أظهركم وأعلمكم شرائع دينكم كما علمني عيسى عليه السلام في المنام فاتخذوا له غرفة فصعد تلك الغرفة وفتح كوة إلى الناس في الحائط وكان يتعبد في الغرفة وربما كانوا يجتمعون إليه ويسألونه ويجيبهم من تلك الكوة وربما يأمرهم حتى يجتمعوا فيناديهم من تلك الكوة ويقول لهم قولا كان في الظاهر منكرا وينكرون عليه فكان يفسر ذلك القول بتفسير يعجبهم ذلك فانقادوا كلهم له وكانوا يقبلون قوله بما يأمرهم به فقال يوما من الأيام اجتمعوا فإنه حضرني علم فأجتمعوا فقال لهم أليس قد خلق الله تعالى هذه الأشياء في الدنيا كلها لمنفعة بني آدم قالوا نعم فقال لم تحرمون على أنفسكم هذه الأشياء يعني الخمر والخنزير وقد خلق لكم ما في الأرض جميعا فأخذوا بقوله واستحلوا الخمر والخنزير فلما مضى على ذلك أيام دعاهم وقال حضرني علم فاجتمعوا وقال لهم من أي ناحية تطلع الشمس فقالوا من قبل المشرق فقال ومن أي ناحية يطلع القمر والنجوم فقالوا من قبل المشرق فقال ومن يرسلهم من قبل المشرق قالوا الله تعالى فقال فاعلموا أن الله من قبل المشرق فإن صليتم له فصلوا إليه فحول صلاتهم إلى المشرق فلما مضت على ذلك أيام دعا طائفة منهم وأمرهم بأن يدخلوا
عليه الغرفة وقال لهم إني أريد أن أجعل نفسي الليلة قربانا لأجل عيسى وقد(1/401)
402
حضرني علم وأنا أريد ان أخبركم في السر لتحفظوا عني وتدعوا الناس إلى ذلك ويقال أيضا إنه أصبح يوما وفتح عينه الأخرى ثم دعاهم وقال لهم جاءني عيسى عليه السلام الليلة وقال قد رضيت عنك فمسح يده على عيني فبرئت فالآن أريد أن أجعل نفسي قربانا ثم قال لهم هل يستطيع أحد أن يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص إلا الله تبارك وتعالى فقالوا لا فقال إن عيسى عليه السلام قد فعل هذه الأشياء فاعلموا بأنه هو الله فخرجوا من عنده ثم دعا طائفة أخرى فأخبرهم بذلك أيضا وقال أنه كان أبنه ثم دعا بالطائفة الثالثة وأخبرهم بأنه ثالث ثلاثة وأخبرهم بأنه يريد أن يجعل نفسه الليلة قربانا فلما كان في بعض الليل خرج من بين ظهرانيهم فأصبحوا وجعلوا كل فريق منهم يقول قد علمني كذا وكذا وقال الفريق الآخر أنت كاذب بل علمني كذا وكذا فوقع بينهم القتال فاقتتلوا وقتلوا خلقا كثيرا وبقيت العداوة بينهم " إلى يوم القيامة " وهم ثلاث فرق فرقة منهم النسطورية قالوا المسيح ابن الله وصنف منهم يقال لهم الماريعقوبية قالوا إن الله هو المسيح وصنف منهم يقال لهم الملكانية قالوا إن الله ثالث ثلاثة المسيح وأمه والله فأغرى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ويقال ألقى بينهم العداوة بالجدال والخصومات في الدين وقال معاوية بن قرة إياكم وهذه الخصومات في الدين فإنها تحبط الأعمال ثم قال " وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون " يعني ينبئهم في الآخرة الذي هو على الحق
سورة المائدة الآيات 15 - 16
ثم قال عز وجل " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا " يعني محمد صلى الله عليه وسلم " يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب " يعني تكتمون ما بين في التوراة وذلك أنهم كتموا آية الرجم وتحريم الخمر وأكل الربا ونعت محمد صلى الله عليه وسلم " ويعفو عن كثير " يعني يتجاوز عن كثير ولا يخبركم به وذكر أن رجلا من أحبارهم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال ما هذا الذي عفوت عنا فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين وإنما أراد اليهودي أن يظهر مناقضة كلامه أنه لم يترك شيئا ألا وقد بينه كله فلما لم يبين له رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من عنده وذهب وقال لأصحابه أرى أنه صادق فيما يقول لأنه كان وجد في كتابه أنه لا يبين له ما سأله
ثم قال تعالى " قد جاءكم من الله نور " يعني ضياء من الضلالة وهو محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن والنور هو الذي يبين الأشياء ويري الأبصار حقيقتها فيسمى القرآن نورا لأنه يقع في(1/402)
403
القلوب مثل النور لأنه إذا وقع في قلبه يبصر به ثم قال " كتاب مبين " يعني القرآن يبين لكم الحق من الباطل
قوله تعالى " يهدي به الله " يعني بالقرآن " من أتبع رضوانه " يعني من طلب الحق ورغب فيه " سبل السلام " يعني دين الله الإسلام والسبل جماعة السبيل وهو الطريق يعني به طريق الهدى والسلام اسم من أسماء الله تبارك وتعالى يعني هو دين الله تعالى
ثم قال " ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه " يعني يخرج من قلوبهم حلاوة الكفر ويدخل فيها حلاوة الإيمان ويوفقهم لذلك " ويهديهم إلى صراط مستقيم " يعني يوفقهم إلى دين الإسلام
سورة المائدة الآية 17
قوله تعالى " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم " ثم قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم " قل فمن يملك من الله شيئا " يقول من يقدر أن يمنع من عذاب الله شيئا " إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا " يعني لو أراد الله أن يهلك عيسى وأمه وجميع الخلق لا يقدر عيسى على رد ذلك فكيف يكون إلها وهو لا يقدر على دفع الهلاك عن نفسه
ثم قال " ولله ملك السموات والأرض وما بينهما " يعني خزائن السموات والأرض وجميع الخلق عبيده وإماؤه وحكمه نافذ فيهم ثم قال " يخلق ما يشاء " لأن نصارى أهل نجران كانوا يقولون لو كان عيسى عليه السلام بشرا كان له أب فأخبرهم الله تعالى أنه قادر على أن يخلق خلقا بغير أب " والله على كل شيء قدير " من خلق عيسى وغيره
سورة المائدة الآيات 18 - 19
قوله تعالى " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله الله وأحباؤه يعني نحن من الله تعالى بمنزلة الأبناء من الآباء في المنزلة والمحبة والكرامة والوالد إذا سخط على ولده في وقت يرضى عنه في وقت آخر ويقال معناه نحن أبناء أنبياء الله وأحباؤه(1/403)
404
قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم " قل فلم يعذبكم بذنوبكم " يعني يحرقكم لأنهم كانوا مقرين أنه يحرقهم أربعين يوما أياما معدودة قل لهم فهل رأيتم والدا يحرق ولده أو يحرق محبة ففي الآية دليل أن الله تعالى إذا أحب عبده يغفر ذنوبه ولا يعذبه بذنوبه لأنه احتج عليهم فقال " فلم يعذبكم " إن كنتم أحباء الله تعالى وقال في آية أخرى " إن الله يحب التوبين ويحب المتطهرين " البقرة 222 ففيها دليل على أنه لا يعذب التوابين بذنوبهم ولا المجاهدين الذين يجاهدون لقوله تعالى " إن الله يحب الذين يقتلون في سبيله صفا " الصف 4 ثم قال " بل أنتم بشر ممن خلق " يعني أنتم لستم بأبناء الله ولا أحبائه ولكن أنتم خلق كسائر خلق الله تعالى
ثم قال " يغفر لمن يشاء " أي يتجاوز عمن يشاء فيهديه لدينه " ويعذب من يشاء " فيهينه ويتركه على الكفر " ولله ملك السموات والأرض وما بينهما " من الخلق " وإليه المصير " يعني إليه المرجع فيجزيهم بأعمالهم
قوله تعالى " يا أهل الكتاب " يعني يا أهل التوراة والإنجيل وإنما أضافهم إلى الكتاب والله أعلم على وجه التعيير يعني أنتم أهل الكتاب فلم لا تعملون بكتابكم كقوله يا عاقل لم لا تفعل كذا وكذا وإنما تذكر العقل على معنى التعيير أي أنك لا تعمل عمل العقلاء
ثم قال " قد جاءكم رسولنا " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " يبين لكم " الدين والأحكام والشرائع " على فترة من الرسل " يعني بعد انقطاع من الرسل والوحي وقال مقاتل في الآية تقديم وتأخير ومعناه قد جاءكم رسولنا " على فترة من الرسل " يبين لكم وإنما سمي " فترة " لأن الدين يفتر ويندرس عند انقطاع الرسل يعني بين عيسى ومحمد عليهما السلام وقال قتادة كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام خمسمائة وستون سنة وقال الكلبي خمسمائة وأربعون سنة وقال الضحاك ومقاتل كان بينهما ستمائة سنة وقال وهب كان بينهما ستمائة وعشرون سنة
ثم قال " إن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير " يعني لكي لا تقولوا ما جاءنا من رسول الله بعد ما درس الدين ليبشرنا وينذرنا " فقد جاءكم " محمد صلى الله عليه وسلم " بشير " بالجنة " ونذير " من النار " والله على كل شيء قدير " من المغفرة والعذاب وبعث الرسل
سورة المائدة 20(1/404)
405
- 26
قوله تعالى " وإذا قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم " يعني احفظوا منة الله عليكم ونعمته " إذ جعل فيكم أنبياء " قال في رواية الكلبي يعني السبعين سوى موسى وهارون عليهما السلام وهم الذين اختارهم موسى فانطلقوا معه إلى الجبل ويقال " إذ جعل فيكم أنبياء " يعني في بني إسرائيل فكان فيهم أربعة آلاف نبي عليهم السلام
ثم قال " وجعلكم ملوكا " يعني بعد العبودية لفرعون قال ابن عباس إن الرجل إذا لم يدخل عليه أحد في بيته إلا بإذنه فهو ملك وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال " وجعلكم ملوكا " أي جعل لكم أزواجا وخدما وبيوتا وبنين ويقال من استغنى عن غيره فهو ملك وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه وله قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها أي بجميعها ثم قال تعالى " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " يعني أعطاكم ما لم يعط أحدا من الخلق وهو المن والسلوى والغمام وغير ذلك
ثم قال عز وجل " يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة " يعني المطهرة والمقدسة في اللغة هو المكان الذي يتطهر فيه فتأويله البيت الذي يتطهر فيه الإنسان من الذنوب ثم قال " التي كتب الله لكم " يعني التي أمركم الله تعالى أن تدخلوها ويقال التي وعد لإبراهيم أن يكون ذلك له ولذريته وذلك أن الله تعالى وعد لإبراهيم أن يكون له مقدار ما يمد بصره فصار ذلك ميراثا منه حين عرج إبراهيم فقال له جبريل انظر يا إبراهيم فنظر فقال يعطي الله تعالى لك ولذريتك مقدار مد بصرك من الملك وهو أرض فلسطين وأردن وما حولهما فقال موسى لقومه " ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم " يعني التي جعل لأبيكم إبراهيم عليه السلام ولكم ميراث منه
وقال القتبي أصل الكتاب ما كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ ثم يتفرغ منه المعاني ويقال كتب بمعنى قضى كما قال " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " التوبة 51 ويقال كتب أي فرض كما قال " كتب عليكم الصيام " ويقال كتب أي جعل كما قال " فاكتبنا مع الشاهدين " ويقال كتب أي أمر كما قال " ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم " يعني أمر الله لكم بدخولها قال ويقال هاهنا بمعنى جعل
ثم قال تعالى " ولا ترتدوا على أدباركم " يعني لا ترجعوا عما أمرتم به من الدخول(1/405)
406
" فتنقلبوا " أي فتصيروا " خاسرين " بفوات الدرجات ووجوب الدركات أي مغبونين في العقوبة فبعث موسى عليه السلام اثني عشر رجلا من كل سبط رجلا يأتيهم بخبر الجبارين فلما أتوهم لقيهم بعض أصحاب تلك المدينة فجاؤوا وأخذوا أصحاب موسى عليه السلام فجعل كل رجلين من أصحاب موسى عليه السلام في كم رجل من الجبارين حتى جاؤوا بهم إلى الملك ويقال لقيهم رجل واحد اسمه عوج فاحتملهم في ثوبه وأتى بهم حتى ألقاهم بين يدي الملك فنظر إليهم وقال هؤلاء يريدون أن يأخذوا مدينتنا فأراد قتلهم فقالت امرأته أيش تصنع بقتل هؤلاء الضعفاء ويكفيهم ما رأوا من أمر القوم وأمر هذه البلدة فأنعم عليهم ودعهم حتى يرجعوا ويذهبوا إلى موسى وقومه بالخبر فأرسلهم الملك وأعطاهم عنقودا من العنب فحملوه على عمودين فرجعوا إلى موسى عليه السلام وقالوا فيما بينهم لا تخبروا قوم موسى بهذا الخبر فإنهم يجبنون عن القتال والله تعالى قد وعد لموسى بأن يفتح عليهم هذه البلدة ولا تخبروا أحدا سوى موسى فلما رجعوا أخبروا بخبرهم القوم إلا اثنين منهم وهما يوشع بن نون وكالوب بن يوقنا
فلما أمر موسى قومه بدخول البلدة " قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين " قال مقاتل يعني طول كل رجل منهم ستة أذرع ونصف وقال الكلبي طول كل رجل منهم ثمانون ذراعا وقال الزجاج الجبار من الآدميين العاتي وهو الذي يجبر الناس على ما يريد ثم قال " وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها " يعني من تلك البلدة وهي الأرض المقدسة واسمها إيلياء ويقال مدينة أخرى يقال لها أريحا " فإن يخرجوا منها فإنا داخلون " " قال رجلان " يعني يوشع بن نون وكالوب ابن يوقنا " من الذين يخافون " الله تعالى " أنعم الله عليهما " بالإسلام ويقال من الذين يخافون الجبارين " أنعم الله عليهما " فلم يخافا وصدقا في مقالتهما " أدخلوا عليهم الباب " وهي أريحا أو إيلياء " فإذا دخلتموه فإنكم غالبون " يعني أن القوم إذا رأوا كثرتكم انكسرت قلوبهم وانقطعت ظهورهم فتكونوا غالبين " وعلى الله فتوكلوا " يعني فثقوا بأنه ناصركم " إن كنتم مؤمنين " يعني مصدقين بوعد الله تعالى
فقال لهم موسى ادخلوا عليهم " قالوا يا موسى " أتصدق الاثنين وتكذب العشرة " إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا " يعني قل لربك أن ينصرك عليهم كما نصرك على فرعون وقال أبو عبيدة يعني اذهب فقاتل وليقاتل معك ربك وليتم أمرك كما أتم قبل ذلك فهو يعنيك فإنا لا نستطيع قتال الجبارين ويقال " اذهب أنت وربك " يعني أنت وسيدك وهارون لأن هارون كان أكبر منه بسنتين أو بثلاث سنين " فقاتلا إنا ههنا قاعدون " فغضب موسى عليه السلام من قولهم " قال رب إني لا أملك
إلا نفسي وأخي " هارون وقال الزجاج " لا أملك إلا نفسي وأخي " يحتمل معنيين أي لا أملك إلا نفسي وأخي لا يملك إلا نفسه ويحتمل لا أملك إلا نفسي وأخي لأن أخاه كان مطيعا له فهو يملك طاعته ثم(1/406)
407
قال " فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " يعني أقض بيننا وبين القوم العاصين
قال الله تعالى " فإنها محرمة عليهم " يعني الأرض المقدسة دخولها محرم عليهم " أربعين سنة " ثم قال " يتيهون في الأرض " ضلالا يعني يتحيرون فيها ولا يعرفون وجه الخروج منها ضلالا في التيه ويقال " فإنها محرمة عليها " وتم الكلام ثم قال " أربعين سنة يتيهون في الأرض " فغم عليهم السبيل فحبسهم بالنهار وسيرهم بالليل يسهرون ليلتهم ويصبحون حيث أمسوا وكان التيه بين فلسطين وآيلة ست فراسخ في اثني عشر فرسخا فمكثوا فيها أربعين سنة لم يقدروا على الخروج منها قال بعضهم لم يكن موسى وهارون عليهما السلام في التيه لأن الأنبياء عليهم السلام لا يعذبون وقال بعضهم 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 * إن الله(1/407)
408
تعالى لم يأمرك بهذا ولكنك تميل إلى هابيل فأمرهما بأن يقربا قربانا فأيكما تقبل قربانه كان أحق بها فعمد قابيل وكان صاحب زرع إلى شر زرعه ووضعه عند الجبل وعمد هابيل وكان صاحب المواشي إلى خير غنمه فوضعها عند الجبل وكان قابيل يضمر في قلبه أنه إن تقبل منه أو لم يتقبل أن لا يسلم إليه أخته فنزلت نار من السماء فأكلت قربان هابيل وكان ذلك علامة القبول وتركت قربان قابيل فذلك قوله " إذ قربا قربانا " يعني وضعا قربانا " فتقبل من أحدهما " يعني هابيل " ولم يتقبل من الآخر " يعني قابيل ف " قال " قابيل لهابيل " لأقتلنك قال " ولم قال لأن الله تعالى قد قبل قربانك ورد علي قرباني فقال له هابيل " إنما يتقبل الله من المتقين " ولم يكن الذنب مني وإنما لم يتقبل منك لخيانتك وسوء نيتك وقال بعض الحكماء العاقل من يخاف على حسناته لأن الله تعالى قال " إنما يتقبل الله من المتقين " والخاسر من يأمن من عذاب الله لأن الله تعالى قال " فلا يأمن مكر الله القوم الخاسرون " الأعراف 99
قوله تعالى " لئن بسطت إلي يدك " يعني إن هابيل قال لقابيل لئن مددت إلي يدك " لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين " ثم قال " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " يعني أني أريد أن ترجع " بإثمي " يعني بقتلك إياي وبإثمك الذي عملته قبل قتلي وهي الخيانة في القربان وغيره ويقال إني أريد أن ترجع بإثمي يعني أن لا أبسط يدي إليك لترجع أنت بإثمي وإثمك ولا يكون علي من الإثم شيء ويقال معناه إني أريد أن تؤخذ بإثمي وإثمك " فتكون من أصحاب النار " يعني لكي لا تكون من أصحاب النار " وذلك جزاء الظالمين "
قال الله تعالى " فطوعت له نفسه قتل أخيه " يعني تابعت له نفسه هواها على قتل أخيه ويقال انقادت له طاعة نفسه وقال قتادة زينت له نفسه تقتل أ " فقتله " قال بعضهم إنه كان لا يدري كيف يقتله حتى جاء إبليس فتمثل عنده برجلين فأخذ أحدهما حجرا ولم يزل بضرب الآخر حتى قتله فتعلم ذلك منه وقال بعضهم بل كان يعرف ذلك بطبعه لأن الإنسان وإن لم ير القتل فإنه يعلم بطبعه أن النفس فانية ويمكن إتلافها فأخذ حجرا وقتله بأرض الهند فلما رجع إلى آدم عليه السلام قال له ما فعلت بهابيل فقال له قابيل أجعلتني رقيبا على هابيل فذهب حيث شاء فبات آدم تلك الليلة محزونا فلما أصبح قابيل رجع إلى الموضع الذي فيه هابيل فرأى غرابا وقال بعضهم كان يحمله على عاتقه أياما لا يدري ما يصنع به حتى رأى غرابا ميتا فجاء غراب آخر فبحث التراب برجله ودفن الغراب الميت في التراب فذلك قوله تعالى " فقتله فأصبح من الخاسرين " يعني فصار من المغبونين في العقوبة
قوله تعالى " فبعث
الله غرابا يبحث في الأرض " وقابيل ينظر إليه وقال القتبي هذا من(1/408)
409
الاختصار ومعناه بعث غرابا يبحث التراب على غراب الميت ليواريه " ليريه كيف يواري سوأة أخيه " يعني كيف يغطي عورة أخيه " قال " قابيل عند ذلك " يا ويلتا أعجزت " يعني أضعفت حيلتي " أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي " يعني فاغطي عورة أخي " فأصبح من النادمين " على حمله حيث لم يدفنه حين قتله قال ابن عباس ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه ويقال إن آدم وحواء أتيا قبره وبكيا أياما عليه ثم إن قابيل كان على ذروة جبل فنطحه ثور فوقع على السفح وقد تفرقت عروقه وأعضاؤه وقال دعا عليه آدم فانخسفت به الأرض وقال مقاتل كان قبل ذلك السباع والطيور تستأنس بآدم فلما قتل قابيل أخاه هربوا فحلقت الطيور بالهواء والوحوش بالبرية والسباع بالغياض وتزوج شيت عليه السلام بإقليما وروى عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل وقال بعضهم هذه القصة كانت في بني إسرائيل وهما أخوان قتل أحدهما الآخر ولكن هذا خلاف قول المفسرين
سورة المائدة 32
قال الله تعالى " من أجل ذلك " يعني من أجل جناية ابن آدم حين قتل أخاه " كتبنا " يعني فرضنا " على بني إسرائيل " وغلظنا وشددنا في التوراة " أنه من قتل نفسه بغير نفس " يعني قتل نفسا بغير أن يقتل نفسا " أو فساد في الأرض " يعني بغير فساد في الأرض وهو الشرك بالله " فكأنما قتل الناس جميعا " يعني إذا قتل نفسا بغير جرم واستحل قتله فكأنما قتل الناس جميعا يعني إذا قتل نفسا فجزاؤه جهنم خالدا فيها
ثم قال " ومن أحياها " يعني نجاها من غرق أو حرق أو يعفو عن القتل " فكأنما أحيا الناس جميعا " يعني له من الأجر كأنما أحيا الناس جميعا لأن في حياة نفس واحدة يكون منفعة لجميع الناس لأنه يدعو لجميع الخلق
ثم قال تعالى " ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات " يعني بالبيان في الأمر والنهي " ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك " البيان " في الأرض لمسرفون " يعني لمشركون تاركون لأمر الله تعالى
سورة المائدة(1/409)
410
33 - 34
قوله تعالى " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " إن للتأكيد وما صلة " يحاربون الله ورسوله " يعني يخالفون الله ورسوله ويتركون أمر الله وأمر رسوله مجاهرة وعيانا " ويسعون في الأرض فسادا " بالقتل وأخذ المال " أن يقتلوا أو يصلبوا " قال مقاتل نزلت هذه الآية في سبعة نفر من بني عرينة قدموا المدينة فاجتووها فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو خرجتم إلى إبلنا وأصبتم من ألبانها وأبوالها ففعلوا فصحوا ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم وساروا بالإبل وأرتدوا عن الإسلام فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم عليا فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم بالحرة حتى ماتوا وهذا قبل أن تنزل آية الحدود وروي أسباط عن السدي قال نزلت في سودان عرينة فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يمثل بهم فنهاه الله تعالى عن ذلك وأمره أن يقيم فيهم الحد الذي أنزل عليه وقال سعيد بن جبير إنه مثل بهم ثم نزل بعد ذلك " إنما جزاء الذين يحاربون الله " الآية وقال ابن عباس في رواية أبي صالح وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بردة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ومن أتاه من المسلمين فهو آمن من أتى المسلمين منهم فهو آمن فمر أناس من بني كنانة يريدون الإسلام فمروا بأصحاب أبي بردة ولم يكن أبو بردة حاضرا يومئذ فخرج أصحابه إليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فنزلت هذه الآية " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " الآية ثم صارت الآية عامة في جميع الناس
واختلف العلماء في حكمهم وهم قطاع الطريق وهم ثلاثة أصناف صنف يأخذ المال ولا يقتل وصنف يأخذ المال ويقتل وصنف يقتل ولا يأخذ المال قال بعضهم إذا وجد صنف من هذه الأصناف فللإمام أن يقيم عليه أي عقوبات شاء لأن الله تعالى قال " أن يقتلوا أو يصلبوا " فقد خير في عقوبتهم وهو قول الحسن وعطاء وقال بعضهم لكل صنف عقوبة على حدة والاختيار عند أصحابنا رحمهم الله أنه إن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف وإن قتل ولم يأخذ المال قتل وإن قتل وأخذ المال قطع وقتل عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يقتل ولا يقطع وروي عن سعيد بن جبير أنه قال إن قتل قتل وإن قتل وأخذ المال قطع ثم صلب وروي عن ابن عباس نحو هذا ويكون " أو "(1/410)
411
بمعنى الواو فكأنه قال إن يقتلوا ويصلبوا " أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " وقال بعضهم يقتل ثم يصلب على وجه النكال والعبرة وقال بعضهم يصلب حيا ثم يطعن في ليته ويخضخض حتى يموت
قوله تعالى " أو ينفوا من الأرض " يعني يطرد حتى لا يجد قرارا في موضع ويقال " ينفوا من الأرض " يعني يحبس فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها فصار كأنه نفي عن الأرض واحتج هذا القائل بقول بعض أهل السجن في ذلك
( خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها % فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا )
( إذا جاءنا السجان يوما لحاجة % عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا )
ويقال ينفى إلى دار الحرب ثم قال تعالى " ذلك لهم خزي في الدنيا " يعني ذلك القتل والقطع لهم عذاب وعقوبة في الدنيا ولا يكون ذلك كفارة لذنوبهم إن لم يتوبوا " ولهم في الآخرة عذاب عظيم " أشد مما كان في الدنيا وهو عذاب النار
ثم استثنى فقال " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " يعني رجعوا عن صنيعهم قبل أن يؤخذوا ويردوا المال فلا يعاقبون في الدنيا ولا في الآخرة ويغفر الله تعالى ذنوبهم وهو قوله " فاعلموا ان الله غفور " لذنوبهم " رحيم " حين قبل توبتهم
سورة المائدة 35 - 37
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله " يعني احذروا المعاصي لكي تنجوا من عذاب الله تعالى " وابتغوا إليه الوسيلة " يعني اطلبوا القربة والفضيلة بالأعمال الصالحة " وجاهدوا في سبيله " يعني في طاعته ويقال جاهدوا العدو " لعلكم تفلحون " أي لكي تنجوا من العقوبة وتنالوا الثواب
قوله تعالى " إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة " يقول إن الكافر إذا عاين العذاب ثم تكون له الدنيا جميعا ومثلها معها فيقدر على أن يفتدي بها من العذاب لافتدى بها يقول الله تعالى لو كان ذلك لهم ففعلوه " ما تقبل منهم " ذلك لفداء " ولهم عذاب أليم " أي وجيع
ثم قال تعالى " يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها " وذلك أنهم يريدون أن يخرجوا من الأبواب فتستقبلهم الملائكة فيضربونهم بمقامع من حديد ويردونهم إليها(1/411)
412
" ولهم عذاب مقيم " يعني دائم أبدا وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال إن قوما يخرجون من النار بعدما يدخلونها قيل له سبحان الله أليس الله تعالى يقول " يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها " فقال جابر اقرؤوا إن شئتم أول الآية " إن الذين كفروا " يعني هذا للكفار خاصة دون العاصين من المؤمنين
سورة المائدة 38 - 39
قوله تعالى " والسارق والسارقة " بدأ بالرجل لأن السرقة في الرجل أكثر وقال في الزنى " الزانية والزاني " سورة النور 2 بدأ النساء لأن الزنى في النساء أكثر وهن المفتنات للرجال " فاقطعوا أيديهما " روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ فاقطعوا أيمانهما وغيره قرأ أيديهما واتفقوا أن المراد به اليمين من الكرسوع الزند نزلت الآية في طعمة بن أبيرق ثم صارت الآية عامة في جميع السراق
وقال بعضهم إذا سرق قليلا أو كثيرا يجب القطع واحتج لظاهر الآية روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده وروي عن ابن الزبير أنه قطع في نعل ثمنه درهم وقال لو سرق خيطا لقطعته وقال بعضهم لا يقطع في أقل من ثلاثة دراهم أو ربع دينار فصاعدا
والاختيار عند علمائنا رحمهم الله أن اليد لا تقطع في أقل من عشرة دراهم وبه جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم قرأ بعضهم " السارق والسارقة " بالنصب وكذلك قوله " الزانية والزاني " بالنصب وإنما جعله نصبا لوقوع الفعل عليه وهو شاذ من القراءة والقراءة المعروفة بالرفع
وروي عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال رفعه بالابتداء لأن القصد ليس إلى واحد من السراق والزناة بعينه إنما هو كقولك من سرق فاقطعوا يده ومن زنى فاجلدوه ثم قال " جزاء بما كسبا " يعني عقوبة لهما بما سرقا " نكالا " يعني عقوبة " من الله " جزاء صار نصبا لأنه مفعول له يعني بجزاء فعلهما ثم قال " والله عزيز " حكم على السارق بقطع اليد
ثم قال عز وجل " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح " يعني من بعد سرقته " وأصلح " العمل " فإن الله يتوب عليه " يتجاوز عنه " إن الله غفور " لما سلف من ذنبه " رحيم " به بعد التوبة يعني إذا تاب ورد المال لا تقطع يده(1/412)
413
سورة المائدة 40 - 41
ثم قال عز وجل " ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض " يعني خزائن السموات المطر وخزائن الأرض النبات ويقال " له ملك السموات والأرض " يحكم فيها ما يشاء " يعذب من يشاء " إذا أصر على ذنوبه " ويغفر لمن يشاء " إذا تاب ورجع ومعناه أن السارق إذا تاب ورد المال لا يقطع ويتجاوز عنه وإن لم يتب قطعت يده ألا ترى أن الله تعالى قال " له ملك السموات والأرض يعذب " إذا لم يتب ويتجاوز إذا تاب فافعلوا أنتم مثل ذلك لأن الله تعالى مع قدرته يتجاوز عن عباده وهو قوله " والله على كل شيء قدير " من المغفرة والعذاب
قوله تعالى " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " نزلت في شأن أبي لبابة بن عبد المنذر وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر بني قريظة فأشار إليهم أبو لبابة وكان حليفا لهم إنكم إن نزلتم من حصونكم قتلكم فلا تنزلوا فنزلت هذه الآية " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " أي يبادرون ويقعون في الكفر " من الذين قالوا آمنا بأفواههم " يعني يقولون ذلك بألسنتهم " ولم تؤمن قلوبهم " في السر وقال الضحاك نزلت الآية في شأن المنافقين كانت علانيتهم تصديقا وسرائرهم تكذيبا
قوله تعالى " ومن الذين هادوا سماعون للكذب " يعني قوالون للكذب وقال القتبي " سماعون " أي قابلون للكذب لأن الرجل يسمع الحق والباطل ولكن يقال لا تسمع من فلان أي لا تقبل ومعنى آخر إنهم يسمعون منك ليكذبوا عليك لأنهم إنما جالسوه لكي يقولوا سمعنا منه كذا وكذا وإنما صار " سماعون " رفعا لأن معناه هم " سماعون لقوم آخرين " يعني أهل خيبر وذلك أن رجلا وامرأة من أهل خيبر زنيا فكرهوا رجمهما فكتبوا إلى يهود بني قريظة أن يذهبوا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن حكم بالجلد رضوا عنه بحكمه وإن حكم بالرجم لم يقبلوا منه وروى نافع عن ابن عمر أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا له أن رجلا وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجدون في التوراة في شأن الرجم فقالوا يحممان ويجلدان يعني تسود وجوههما فقال عبد الله بن سلام كذبتم(1/413)
414
إن فيها آية الرجم فأتوا بالتوراة فأتوا بها فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها وقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقالوا صدق عبد الله بن سلام يا محمد فيها آية الرجم فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما قال ابن عمر فرأيت الرجل يحنو على المرأة يقيها من الحجارة
وروى الشعبي عن جابر بن عبد الله أنه قال زنى رجل من أهل فدك فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن يسألوا محمدا صلى الله عليه وسلم عن ذلك فإن أمركم بالجلد فخذوه وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه فسألوه فدعا بابن صوريا وكان عالمهم وكان أعور فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشدك الله كيف تجدون حد الزاني في كتابكم فقال ابن صوريا فأما إذا ناشدتني بالله فإنا نجد في التوراة أن النظر زنية والاعتناق زنية والقبلة زنية فإن شهد أربعة بأنهم رأوه كالميل في المكحلة فقد وجب الرجم فقال النبي صلى الله عليه وسلم هو ذاك
وروي عن أبي هريرة قال بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجال من اليهود وقد تشاوروا في صاحب لهم زنى بعدما أحصن قالوا فانطلقوا فلنسأل هذا النبي صلى الله عليه وسلم فإن أفتانا بقتوى فيها تخفيف فاحتججنا عند الله تعالى بها وإن أفتانا بما فرض علينا في التوراة من الرجم تركنا ذلك فقد تركنا ذلك في التوراة وهي أحق أن تطاع فقالوا يا أبا القاسم إنه زنى صاحب لنا قد أحصن فما ترى عليه من العقوبة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمنا معه حتى أتى بيت مدارس اليهود فوجدهم يتدارسون التوراة فقال لهم يا معشر اليهود أنشدكم الله الذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام ما تجدون في التوراة من العقوبة على من زنى وقد أحصن فقالوا إنا نجد أن يجلد ويحمم وسكت حبرهم وهو في جانب البيت فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم ينشده فقال له حبرهم إذا ناشدتنا فإنا نجد عليه الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول ما ترخصتم به أمر الله تعالى فقال إنه قد زنى رجل قد أحصن وهو ذو قرابة لملك من ملوكنا فسجنه وأخر عنه الحد وزنى رجل أخر فأراد الملك رجمه فجاء قومه وقالوا لا ترجمه حتى ترجم فلانا فاصطلحوا بينهم على عقوبة دون الرجم فقال النبي صلى الله عليه وسلم فإني أقضي بينكم بما في التوراة ) فنزل قوله تعالى " ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين " " لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه " قال الزجاج يعني من بعد أن وضعه الله تعالى مواضعه وأحل حلاله وحرم حرامه
" يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه " يعني إن أمركم بالجلد فاقبلوه واعملوا به " وإن لم(1/414)
415
تؤتوه فاحذورا ) يقولون إن لم يوافقكم على ما تطلبون ويأمركم بالرجم فلا تقبلوا منه
قال الله تعالى " ومن يرد الله فتنته " يعني كفره وشركه ويقال فضيحته ويقال اختباره " فلن تملك له من الله شيئا " يقول لن تقدر أن تمنعه من عذاب الله شيئا
ثم قال " أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم " من الكفر ولم يرد أن يدخل حلاوة الإيمان في قلوبهم وخذلهم مجازاة لكفرهم ثم قال " لهم في الدنيا خزي " يعني القتل والسبي والجزية وهو قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير " ولهم في الآخرة عذاب عظيم " أعظم مما كان في الدنيا
سورة المائدة 42
ثم قال تعالى " سماعون للكذب " أي قوالون للكذب " أكالون للسحت " قرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي " للسحت " بضم الحاء وقرأ الباقون " للسحت " بجزم الحاء وهما لغتان السحت والسحت وهو الاستئصال يقال أسحته وسحته إذا استأصله وكانوا يأكلون الرشا وكان عاقبته الاستئصال فسماه به كما قال تعالى " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا " النساء 10أي يأكلون ما عاقبتهم نارا وقال النبي صلى الله عليه وسلم كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به قالوا يا رسول الله وما السحت قال الرشوة في الحكم وقال عليه السلام لعن الله الراشي والمرتشي وروي عن وهب بن منبه أنه قيل له الرشوة حرام في كل شيء فقال لا إنما يكره من الرشوة أن ترشو لتعطي ما ليس لك أو تدفع حقا قد لزمك فأما أن ترشو لتدفع عن دينك ودمك ومالك فليس بحرام قال الفقيه أبو الليث وبهذا القول نأخذ لا بأس بأن يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة وهذا كما روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان بالحبشة فرشى بدينارين وقال إنما الإثم على القابض دون الدافع
ثم قال تعالى ( فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ) يعني أهل الكتاب إذا خاصموا إليك فأنت بالخيار إن شئت فاحكم بينهم وإن شئت فأعرض عنهم ولا تحكم بينهم
ثم قال " وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا " يعني إن لم تحكم بينهم فإنهم لا يضرونك شيئا " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " يعني بالعدل وهو الرجم ولها وجه آخر أن الصلح كان بينهم أن تكون جراحات بني قريظة نصفا من جراحات بني النضير وفي القتل كذلك فأمر الله تعالى بأن يحكم بينهم بالعدل وهو قوله عز وجل " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين " يعني العادلين في الحكم وروي عن عكرمة أنه(1/415)
416
قال " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " نسختها آية أخرى " وإن أحكم بينهم بما أنزل الله " المائدة 49 وقال مجاهد لم ينسخ من المائدة إلا آيتان قوله " فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " نسختها " وأن أحكم بينهم بما أنزل الله " المائدة 49 وقوله " ولا تحلوا شعائر الله " نسختها " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " التوبة 5
وقال الزهري مضت السنة أن يرد أهل الكتاب في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم إلا أن يأتوا راغبين حكم الله تعالى فيحكم بينهم بكتاب الله تعالى وهذا القول يوافق قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن لا يحكم بينهم ما لم يتراضوا بحكمنا
سورة المائدة 43 - 44
ثم قال عز وجل " وكيف يحكمونك وعندهم التوراة " يعني كيف يرضون بحكمك ويقال كيف يقرون بحكمك " وعندهم التوراة فيها حكم الله " يعني آية الرجم وحكم الجراحات فلم يقروا بها ولم يعملوا بها " ثم يتولون من بعد ذلك " يعني يعرضون عن العمل به من بعد ما بين الله في كتابهم ثم قال " وما أولئك بالمؤمنين " يعني ليسوا بمصدقين بما عندهم وهم يقولون نحن نؤمن بالتوراة وهم كاذبون
ثم قال عز وجل " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى " من الضلالة " ونور " يعني بيان الشرائع والأحكام يعني حكم الرجم والجراحات " يحكم بها النبيون الذين أسلموا " يعني يقضي بها النبيون الذين صدقوا بالتوراة من لدن موسى عليه السلام إلى عيسى عليه السلام وبينهما ألف نبي ويقال أربعة آلاف نبي ويقال أكثر من ذلك عليهم السلام كانوا يحكمون بما في التوراة " للذين هادوا " يعني كانوا يحكمون لهم وعليهم ويقال يحكم بها الأنبياء من لدن موسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجم بحكم التوراة
ثم قال تعالى " والربانيون والأحبار " قال بعضهم " الربانيون " العلماء " والأحبار " القراء ويقال " الربانيون " الذين في العمل أكثر وفي العلم أقل " والأحبار " الذين في العلم أكثر وفي العمل أقل مثل الفقهاء والعباد ويقال كالفقهاء والعلماء وقال القتبي كلاهما واحد وهما العلماء " بما استحفظوا من كتاب الله " يعني علموا واستودعوا من كتاب الله التوراة " وكانوا عليه شهداء " بما في كتاب الله الرجم وسائر الأحكام(1/416)
417
ثم قال " فلا تخشوا الناس " يعني يهود أهل المدينة لا تخشوا يهود خيبر وأخبروهم بآية الرجم " واخشون " في كتمانه " ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا " يعني عرضا يسيرا
ثم قال " ومن لم يحكم بما أنزل الله " يعني إذا لم يقروا ولم يبينوا " فأولئك هم الكافرون " قال ابن عباس من يجحد شيئا من حدود الله فقد كفر ومن أقر ولم يحكم بها فهو فاسق روى وكيع عن سفيان قال قيل لحذيفة " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " نزلت في بني إسرائيل فقال حذيفة نعم الأخوة لكم وبنو إسرائيل كانت لكم كل حلوة ولهم مرة لتسلكن طريقهم قدر الشراك يعني هذه الآية عامة فمن جحد حكم الله فهو من الكافرين
سورة المائدة 45 - 47
ثم بين الحكم الذي في التوراة فقال عز وجل " وكتبنا عليهم فيها " يعني فرضنا على بني إسرائيل في التوراة " إن النفس بالنفس " إذا كان القتل عمدا " والعين بالعين " إذا كان عمدا " والأنف بالأنف " إذا كان عمدا " والأذن بالأذن " إذا كان عمدا " والسن بالسن " إذا كان عمدا " والجروح قصاص " إذا كان عمدا وروى عكرمة عن ابن عباس أن بني النضير كان لهم شرف على بني قريظة وكانت جراحاتهم على النصف فحملهم على الحق وجعل دم القرظي والنضيري سواء فقال كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف لا نرضى بحكمك لأنك تريد أن تصغرنا بعداوتك ) فنزل " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ثم صارت الآية عامة في جميع الناس في وجوب القصاص في النفس وفي الجراحات
قرأ عاصم وحمزة ونافع " أن النفس بالنفس والعين بالعين " والحروف الست كلها بالنصب وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر كلها بالنصب غير الجروح فإنهم يقرؤونها بالضم على معنى الابتداء وقرأ الكسائي كلها بالضم إلا النفس
ثم قال " فمن تصدق به " يعني عفا عن مظلمته في الدنيا وترك القصاص " فهو كفارة له " قال القتبي فهو كفارة للجارح وأجر للمجروح وقال مجاهد كفارة للجارح وأجر للعافي وقال بعضهم هو كفارة للعافي أي يكفر الله تعالى عنه بعفوه ما سلف من ذنوبه ويقال " كفارة له " أي للجارح يعني إذا ترك الولي حقه يسقط القصاص عن الجارح(1/417)
418
وروى محرز عن أبي هريرة عن رجل من الأنصار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصيب بشيء في جسده فتركه لله تعالى كانت كفارة له وقال الحسن ينادي مناد يوم القيامة من كان له على الله أجر فليقم فلا يقوم إلا من قد عفا
ثم قال تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " يعني يظلمون أنفسهم والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه فالذي عرض نفسه للعقوبة فقد وضع الشيء في غير موضعه
قوله تعالى " وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم " يعني اتبعنا على أثر الرسل عيسى ابن مريم عليهم السلام " مصدقا لما بين يديه " يعني موافقا لما قبله " من التوراة " يقال إن عيسى مصدق التوراة
ثم قال " وآتيناه الإنجيل فيه هدى " من الضلالة " ونور " يعني بيان الأحكام " ومصدقا لما بين يديه من التوراة " يعني الإنجيل موافقا للتوراة في التوحيد وفي بعض الشرائع " وهدى وموعظة للمتقين " الذين يتقون الشرك والفواحش
ثم قال " وليحكم أهل الإنجيل " قرأ حمزة " وليحكم " بكسر اللام ونصب الميم وقرأ الباقون بالجزم فمن قرأ بالكسر فمعناه وآتيناه الإنجيل لكي يحكم أهل الإنجيل " بما أنزل الله فيه " ومن قرأ بالجزم فهو على الأمر والمراد به الخبر عن أمر سبق لهم يعني أمرهم الله تعالى أن يحكموا بما في الإنجيل
ثم قال " ومن لم يحكم بما أنزل الله " يعني في الإنجيل وكان حكمهم العفو " فأولئك هم الفاسقون " يعني العاصين
سورة المائدة 48 - 50
قوله تعالى " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق " يعني أنزلنا إليك يا محمد الكتاب(1/418)
419
" بالحق " يعني ببيان الحق ويقال بالعرض والحجة ولم ينزله بغير شيء " مصدقا لما بين يديه من الكتاب " يعني موافقا للتوراة والإنجيل والزبور في التوحيد وفي بعض الشرائع
ثم قال " ومهيمنا عليه " يقول شاهدا على سائر الكتب بأن الكتب الأول من الله تعالى ويقال " مهيمنا عليه " يعني قاضيا عليه ويقال ناسخا لسائر الكتب
وروي عن ابن عباس أنه قال مؤتمنا على ما قبله وقال القتبي أمينا عليه ويقال " ومهيمنا عليه " في معنى مؤتمن إلا أن الهاء أبدلت من الهمزة كما يقال هرقت الماء وأرقته وإياك وهياك
ثم قال " فاحكم بينهم بما أنزل الله " يعني فاحكم بين الناس بما أنزل الله تعالى في القرآن " ولا تتبع أهواءهم " يعني لا تعمل بأهوائهم ومرادهم " عما جاءك من الحق " يعني لا تترك الحكم بما بين الله تعالى في القرآن من بيان الحق الأحكام
ثم قال " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " يقول جعلنا لكل نبي شريعة والإيمان واحد ولم يختلف الرسل في الإيمان وإنما اختلفوا في الشرائع قال القتبي الشرعة والشريعة واحد يعني السنة والمنهاج الطريق الواضح وقال الزجاج الشرعة الدين والمنهاج الطريق وقد قيل هما شيء واحد وهو الطريق ويقال " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " معناه فرضت على كل أمة ما عملت أن صلاحهم فيه
ثم قال " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة " يعني لجعلكم على شريعة واحدة " ولكن ليبلوكم " يعني ليختبركم " فيما آتاكم " يعني أمركم من السنن والشرائع المختلفة ليتبين من يطيع الله فيما أمره ونهاه ومن يعصيه
ثم قال " فاستبقوا الخيرات " يعني بادروا بالطاعات والأعمال الصالحة وإلى الصف المقدم والتكبيرة الأولى
ثم قال " إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون " من الدين والسنن يوم القيامة فهذا وعيد وتهديد يعني لتستبقوا الخيرات ولا تتبعوا البدعة ولا تخالفوا الكتاب
ثم قال " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " وذلك أن يهود بني النضير قالوا فيما بينهم اذهبوا بنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم لعلنا نفتنه عن دينه وإنما هو بشر فأتوه فقالوا يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وسادتهم وأنا إن اتبعناك اتبعك اليهود ولن يخالفونا وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم فنؤمن بك فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فنزلت هذه الآية " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " يعني اقض بينهم بما في القرآن " ولا تتبع أهواءهم " في الحكم " واحذرهم أن يفتنوك " يعني يصرفوك " عن بعض ما أنزل الله إليك "
وقال في رواية الضحاك تزوج مجوسي ابنته فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبت نفقتها فأمر(1/419)
420
الله تعالى رسوله أن يفرق بينهما بقوله " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " وقال في رواية الكلبي طلبوا منه بأن يحكم بينهم في الدماء على ما كانوا عليه في الجاهلية فنزل " وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك " قال القتبي أصل الفتنة الاختبار ثم يستعمل في أشياء تستعمل في التعذيب كقوله " إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنت " البروج 10 وكقوله " يوم هم على النار يفتنون " الذاريات 13 وتكون الفتنة الشرك كقوله " وقتلوهم حتى لا تكون فتنة " البقرة193 وتكون الفتنة العبرة كقوله " لا تجعلنا فتنة للقوم الظلمين " يونس 85 وتكون الفتنة الصد عن سبيل الله كقوله " واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك "
ثم قال " فإن تولوا " يعني أبوا أن يرضوا بحكمك " فاعلم إنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم " يعني يعذبهم في الدنيا قال الكلبي يعني بالجلاء إلى الشام والإخراج من دورهم وقال الضحاك يعني يريد الله أن يأمر بهم إلى النار بذنوبهم
ثم قال " وإن كثيرا من الناس " يعني رؤساء اليهود " لفاسقون " يعني لكافرون والفاسق هو الذي يخرج عن الطاعة
ثم قال " أفحكم الجاهلية يبغون " يعني يطلبون منك شيئا لم ينزله الله إليك في حكم الزنى والقصاص كما يفعل أهل الجاهلية قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام " تبغون " على معنى المخاطبة وقرأ الباقون بالياء على معنى المغايبة
ثم قال " ومن أحسن من الله حكما " يقول ومن أعدل من الله قضاء " لقوم يوقنون " يعني يصدقون بالقرآن
سورة المائدة 51 - 53
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " في العون والنصرة وذلك أنه لما كانت وقعة أحد خاف أناس من المسلمين أن يظهر عليهم الكفار فأراد من كانت بينه وبين النصارى واليهود صحبة أن يتولوهم ويعاقدوهم فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال " لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " يعني معينا وناصرا " بعضهم أولياء بعض " يعني بعضهم(1/420)
421
على دين بعض " ومن يتولهم منكم " يعني من اتخذ منهم أولياء " فإنه منهم " يعني على دينهم ومعهم في النار
ثم قال " إن الله لا يهدي القوم الظالمين " يعني لا يرشدهم إلى الحجة ويقال لا يرشدهم ما لم يجتهدوا أو يقصدوا الإسلام
ثم بين حال المنافقين فقال " فترى الذين في قلوبهم مرض " يعني شرك ونفاق " يسارعون فيهم " يقول يبادرون في معاونتهم ومعاقدتهم وولايتهم " يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة " يعني ظهور المشركين ويقال شدة وجدوبة فاحتجنا إليهم ويقال نخشى الدائرة على المسلمين فلا ننقطع عنهم
قال الله تعالى " فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده " يعني نصر محمد صلى الله عليه وسلم الذي أيسوا منه " أو أمر من عنده " يعني من قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير ويقال الفتح أي فتح مكة " أو أمر من عنده " يعني الخصب وقال القتبي الفتح أن يفتح المغلق لأن النصرة يفتح الله بها أمرا مغلقا كقوله " فإن كان لكم فتح من الله " النساء 141 وكقوله " فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده " يعني إظهار نفاقهم " فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم " من النفاق " نادمين " لأن المنافقين لما رأوا من أمر بني قريظة والنضير ندموا على ما قالوا
ثم قال " ويقول الذين آمنوا " يعني في ذلك الوقت الذي يظهر نفاقهم " هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم " يقول إذا حلفوا بالله فهو جهد اليمين " إنهم لمعكم " على دينكم قرأ نافع وابن كثير وابن عامر " يقول الذين آمنوا " بغير واو ومعناه إن الله تعالى لما بين حال المنافقين بين على أثره حال المؤمنين فقال " يقول الذين آمنوا " يعني قال الذين آمنوا بعضهم لبعض وقرأ أهل الكوفة حمزة وعاصم والكسائي " ويقول الذين آمنوا " بالواو وضم اللام ومعناه عسى الله أن يأتي بالفتح ويندم المنافقون ويقول الذين آمنوا عند ذلك " هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم " وقرأ أبو عمرو " ويقول " بالواو ونصب اللام عطفا على قوله " عسى الله أن يأتي بالفتح " وعسى أن يقول الذين آمنوا
ثم قال " حبطت " يعني بطلت " أعمالهم " يعني المنافقين الذين كانوا يحلفون أنهم مع المؤمنين وعلى دينهم ولم يكونوا معهم " حبطت أعمالهم " فلا ثواب لهم في الآخرة " فأصبحوا خاسرين " يعني صاروا خاسرين في الدنيا وفي الآخرة
سورة المائدة 54
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه " قرأ نافع وابن عامر بالدالين(1/421)
422
وقرأ الباقون بالدال الواحدة مع التشديد فأما من قرأ " يرتدد " فهو الأصل في اللغة وروي عن أبي عبيدة أنه قال رأيت في مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه بالدالين وأما من قرأ " يرتد " لأنه أدغم الدال الأولى في الثانية فأسكن الأولى ثم حرك الثانية إلى النصب لالتقاء الساكنين
قال ابن عباس نزلت هذه الآية في شأن أهل الردة الذين ارتدوا على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وذلك أن العرب ارتدوا وقالوا نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما أن نعطي من أموالنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا خرج مسيلمة الكذاب فغلب على اليمامة وامتنعوا فشاور أبو بكر رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قتالهم فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كيف نقاتل قوما وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه الزكاة من حقها ثم قال والله لو منعوني عقالا مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه فاتفقت الصحابة على قول أبي بكر وجمعوا العسكر وجاءهم من قبل اليمن سبعة آلاف رجل واجتمع ثلاثة آلاف من أفتى الناس فخرجوا وأميرهم خالد بن الوليد وقاتلهم وخرج مسيلمة الكذاب مع أهل اليمامة واجتمع الأعراب معه وكان بينهم قتال شديد فقتل يومئذ من المسلمين مائة وأربعون رجلا ومنهم ثابت بن قيس بن شماس وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهما فكاد المسلمون أن ينهزموا كلهم حتى نصرهم الله وأظهرهم على أعدائه وقتل مسيلمة الكذاب وأصحابه وتاب أهل الردة فذلك قوله " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " يعني يحبون الله " أذلة على المؤمنين " يعني رحيمة لينة على المؤمنين " أعزة " يقول شديدة غليظة " على الكافرين " يعني أهل اليمين
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوبا وأرق أفئدة الإيمان يمان والحكمة يمانية وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال " فسوف يأتي الله بقوم " يعني بجند من جنود الله مددا وعونا للخليفة أبي للخليفة أبي بكر يحبهم الله الوالد لولده ويحبونه كحب الولد لوالده " أذلة على المؤمنين " كالعبد لسيده و " وأعزه على(1/422)
423
الكافرين ) كالسبع على فريسته ويقال " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " هو أبو بكر وأصحابه وقال الحسن هو والله أبو بكر وأصحابه وقال الضحاك هو أبو بكر وأصحابه لما ارتدت العرب جاهدهم حتى ردهم إلى الإسلام وهذا من كرامة أبي بكر حيث اتفقت الصحابة على رأيه وذلك أنه لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم هم المنافقون أن يظهروا كفرهم وتحير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك حتى جاء عمر وصعد المنبر فقال من قال إن محمدا قد مات فأنا أفعل به كذا وكذا بل هو حي حتى يخرج إليكم وقد وعدنا الله تعالى أن يظهره على الدين كله فجاء أبو بكر فقال له انزل يا عمر فصعد أبو بكر فقال من كان يعبد محمدا فأن محمدا فقد مات ومن كان يعبد الله تعالى فإن الله حي لا يموت ومن أراد أن يرجع عن دينه فليس بيننا وبينه إلا السيف وفي رواية من كان يعبد رب محمد فإنه حي لا يموت والسيف الذي أظهر الله به دينه بعث على عواتقنا ومن شاء أن يبرز فليبرزه وقال ابن مسعود كنا مثل الثعالب قال أبو بكر إن كل واحد منا كالأسد فلما سمع المنافقون ذلك كتموا نفاقهم وقرأ " إنك ميت وإنهم ميتون " الزمر30 وقرأ " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " آل عمران 144 فقال عمر كأني لم أكن سمعت هذه الآية ثم اختلاف آخر كان في دفنه فقال أبو بكر يدفن حيث مات فاتفقوا على قوله ثم اختلاف آخر كان في سقيفة بني ساعدة في أمر الخلافة فاتفقوا على قوله ثم اختلاف أهل الردة وكلهم اتفقوا على قوله فذلك قوله تعالى " يجاهدون في سبيل الله " يعني في طاعة الله عز وجل " ولا يخافون لومة لائم " يعني لا يخافون ملامة الناس بما يعملون من الطاعات " ذلك فضل الله " يعني ذلك توفيق الله " يؤتيه من يشاء " يعني يوفق به من يشاء ويقال ذلك دين الله الإسلام يهدي به من يشاء " والله واسع عليم " يعني " واسع " الفضل " عليم " بمن يصلح للهدى
سورة المائدة الآيات 55 - 56
قوله تعالى " إنما وليكم الله ورسوله " وذلك أن عبد الله بن سلام وأصحابه قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن اليهود أظهروا لنا العداوة وحلفوا أن لا يخالطونا في شيء ومنازلنا فيهم بعيدة من المسجد ولا نجد مسجدا دون هذا المسجد فنزلت هذه الآية " إنما وليكم الله ورسوله " يقول حافظكم وناصركم الله ورسوله " والذين آمنوا " فقالوا يا رسول الله رضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين وقال الضحاك إن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أتاه بنو أسد بن خزيمة وهم سبعمائة رجالهم ونساؤهم فلما قدموا المدينة فقالوا يا رسول الله اغتربنا وانقطعنا عن قبائلنا وعشائرنا فمن ينصرنا فنزل " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا "
ثم
قال تعالى " الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة " قال ابن عباس وذلك أن بلالا لما(1/423)
424
أذن وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في المسجد يصلون بين قائم وراكع وساجد فإذا هو بمسكين يسأل الناس فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال هل أعطاك أحد شيئا قال نعم قال ماذا قال خاتم فضة قال ومن أعطاك قال ذلك المصلي قال في أي حال أعطاك قال أعطاني وهو راكع فنظر فإذا هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن سلام " الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " يعني يتصدقون في حال ركوعهم حيث أشار علي بخاتمه إلى المسكين حتى نزع من أصبعه وهو في ركوعه ويقال يراد به جميع المسلمين أنهم يصلون ويؤدون الزكاة
ثم قال " ومن يتول الله ورسوله " يعني يجعل الله ناصره ويجالس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه " فإن حزب الله " يعني جند الله " هم الغالبون " قال محمد بن إسحاق نزلت هذه الآية في عبادة بن الصامت حين تبرأ من ولاية اليهود يعني يهود بني قينقاع وتولى الله ورسوله فأخبر الله تعالى أن العاقبة لمن يتولى الله ورسوله " والذين آمنوا " فإن الله ينصر أولياءه ويبطل كيد الكافرين فذلك قوله تعالى " فإن حزب الله هم الغالبون " يعني هم القاهرون الظاهرون على أعدائه والعاقبة لهم
سورة المائدة الآيات 57 - 58
وقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا " يعني الذين آمنوا بلسانهم ولم يؤمنوا بقلوبهم ويقال أراد به المخلصين نهاهم الله تعالى عن ولاية الكفار وروى محمد بن إسحاق بإسناده عن عبد الله بن عباس قال كان رفاعة بن زيد بن ثابت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما فأنزل الله تعالى " لا تتخذوا الذين أتخذوا دينكم " الإسلام " هزوا ولعبا " يعني سخرية وباطلا " من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار " يعني مشركي العرب " أولياء " قرأ أبو عمرو والكسائي " والكفار " بالخفض وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالخفض فمعناه من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الكفار أولياء ومن قرأ بالنصب فهو معطوف على قوله " لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم ولا تتخذوا الكفار أولياء "
ثم قال " واتقوا الله إن كنتم مؤمنين " يعني إن كنتم مؤمنين فلا تتخذوا الكفار أولياء(1/424)
425
قوله تعالى " وإذا ناديتم إلى الصلاة " يعني إذا أذن المؤذن للصلاة وإنما أضاف النداء إلى جميع المسلمين لأن المؤذن يؤذن لهم ويناديهم فأضاف إليهم فقال " وإذا ناديتم إلى الصلاة " " اتخذوها هزوا ولعبا " يعني الكفار إذا سمعوا الأذان استهزؤوا به وإذا رأوهم ركعا وسجدا ضحكوا واستهزؤوا بذلك " ذلك " الاستهزاء " بأنهم قوم لا يعقلون " يعني لا يعلمون ثوابه وقال الضحاك سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام وقال من أتخذه مؤذنا قال يا محمد عليك بالعبد الأسود فإنه مشهور في الملائكة وهو جهير الصوت وأحب المؤذنين إلى الله تعالى فدعا رسول الله بلالا وعلمه الأذان وأمره أن يصعد سطح المسجد ويؤذن فلما أذن سخر منه أهل النفاق وأهل الشرك وكذلك يوم فتح مكة أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤذن على ظهر الكعبة فسخر منه كفار الأعراب وجهالهم فنزل " وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا " يعني المنافقين واليهود ومشركي العرب
وروى أسباط عن السدي قال كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن محمدا رسول الله قال حرق الله الكذاب فدخلت خادمته ليلة من من الليالي بنار وهم نيام فسقطت شرارة في البيت فاحترق البيت واحترق هو وأهله واستجيب دعاؤه في نفسه وروي عن ابن عباس هذه الحكاية نحو هذا إلا أنه ذكر اليهودي
سورة المائدة الآيات 59 - 61
قوله تعالى " قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا " يقول هل تطعنون فينا وتعيبوننا " إلا أن آمنا بالله " أي سوى أنا قد آمنا بالله وآمنا ب " وما أنزل إلينا " يعني من القران " وما أنزل من قبل " يعني قبل القرآن يعني التوراة والإنجيل " وأن أكثركم فاسقون " يعني لم تؤمنوا لفسقكم وعصيانكم وقال الزجاج معناه " هل تنقمون منا " هل تكرهون منا إلا إيماننا وبفسقكم إنما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أنا على الحق لأنكم فسقتم ولم تثبتوا على دينكم لمحبتكم الرئاسة ومحبتكم المال
قوله تعالى " قل هل أنبئكم بشر من ذلك " قال مقاتل وذلك أن اليهود قالوا للمؤمنين ما نعلم أحدا من أهل هذه الأديان أقل حظا في الدنيا ولا في الآخرة منكم فنزل قوله تعالى " قل هل أنبئكم " يعني أخبركم بشر من ذلك " مثوبة عند الله " يعني ثوابا عند الله فقالت اليهود من هم قال " من لعنة الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير " فقال المسلمون(1/425)
426
لليهود يا إخوة القردة والخنازير فنكسوا روؤسهم وخجلوا " ومثوبة " صار نصبا للتمييز يعني التفسير
ثم قال " وعبد الطاغوت " قرأ حمزة " وعبد الطاغوت " بنصب العين والدال وضم الباء وكسر التاء من الطاغوت يعني جماعة العبيد جعلهم عبيدا ولم يصح في اللغة وإنما يقال أعبد ولا يقال عبد وقرأ الباقون " وعبد الطاغوت " يعني وجعل منهم من عبد الطاغوت ومعناه خذلهم حتى عبدوا الشيطان وروي عن ابن عباس أنه قرأ " وعبد الطاغوت " بضم العين ونصب الباء بالتشديد يعني جمع عابد يقال عابد وعبد مثل راكع وركع وساجد وسجد وقرأ ابن مسعود وعبدوا الطاغوت يعني يعبدون الطاغوت وقرأ بعضهم " وعبد الطاغوت " بضم العين والباء ونصب الدال وهو جماعة العبيد ويقال عبيد وعبد على ميزان رغيف ورغف وسرير وسرر
ثم قال " أولئك شر مكانا " يعني شر منزلة عند الله " وأضل عن سواء السبيل " يعني أخطأ عن قصد الطريق وهو الهدى
ثم قال " وإذا جاؤوكم قالوا آمنا " وهم المنافقون من أهل الكتاب قالوا صدقنا ووجدنا نعتك وأرادوا بذلك أن يمدحهم المسلمون وهذا كقوله " ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " آل عمران 188 فأخبر الله تعالى عن حالهم فقال " وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به " يعني هم كافرون في الأحوال كلها ولا ينفعهم ذلك القول " والله أعلم بما كانوا يكتمون " يعني عليم بمجازاتهم وهذا تهديد لهم
سورة المائدة 62 - 63
ثم قال " وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم " يعني يبادرون في المعصية " العدوان " يعني الظلم وهو الشرك " وأكلهم السحت " يعني الرشوة في الأحكام " لبئس ما كانوا يعملون " يعني لبئس ما كانوا يتزودون من دنياهم لآخرتهم
ثم قال " ولولا ينهاهم الربانيون " يعني هلا ينهاهم " الربانيون " يعني علماؤهم وعبادهم وإنما شكا الله من علماء السوء الذين لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ويجالسونهم ويؤاكلونهم وكل عالم لم يأمر بالمعروف ويجالس أهل الظلم والمعصية فإنه يدخل في هذه الآية فقال " لبئس ما كانوا يصنعون " حين لم ينهوهم عن " قولهم الإثم " " وأكلهم السحت " ورضوا بفعلهم
سورة المائدة(1/426)
427
64
قوله تعالى " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم " وذلك أن الله تعالى قد بسط عليهم الرزق فلما عصوه وجحدوا نعمته قتر عليهم الرزق فقالوا عند ذلك " يد الله مغلولة " أي محبوسة عن البسط فأمسك عنا الرزق
قال الله تعالى " غلت أيديهم " يعني أمسكت أيديهم عن الخير ويقال هذا وعيد لهم غلت أيديهم في نار جهنم ويقال جعلوا بخلاء فلا يعطون الناس شيئا مما أعطاهم الله تعالى
ثم قال " ولعنوا بما قالوا " يعني عذبوا وطردوا من رحمة الله لقولهم ذلك
ثم قال " بل يداه مبسوطتان " يقال أمره ونهيه ويقال نعمتان نعمة الدنيا ونعمة الآخرة ويقال نعمتان في السماء المطر وفي الأرض النبات يعني رزقه واسع باسط على خلقه " ينفق كيف يشاء " يقول يرزق لمن يشاء مقدار ما يشاء فله خزائن السموات والأرض وهذا كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال قال الله تعالى لو أن أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم سأل كل رجل ما بلغت أمنيته فأعطيته لم ينقص ذلك من خزائن ملكي مقدار ما يعترف من البحر برأس إبرة
ثم قال " وليزيدن كثيرا منهم " يعني من اليهود " ما أنزل إليك " من القرآن " من ربك طغيانا " يعني تماديا بالمعصي " وكفرا " وجحودا بالقرآن يعني كل ما نزل عليك شيء من القرآن كفروا به فيزيد جحودهم في طغيانهم وإنما نسب ذلك إلى ما أنزله لأن ذلك سبب لطغيانهم وجحودهم وهذا كما قال في آية أخرى " ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " الإسراء 82 يعني أن ذلك سبب لخسرانهم
ثم قال " وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " يعني جعلهم الله مختلفين في دينهم متباغضين كما قال في آية أخرى " تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى " الحشر 14
ثم قال " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله " يقول كلما أجمعوا أمرهم على المكر بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فرقة الله تعالى وأطفأ نار مكرهم أي سكته الله تعالى ووهن أمرهم وهذا على وجه الكناية كما قال " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم "
ثم قال " ويسعون في الأرض فسادا " يعني يعملون فيها بالمعاصي ويدعون الناس إلى عبادة غير الله تعالى " والله لا يجب المفسدين " يعني لا يرضى بعمل الذين يعملون بالمعاصي والله لا يحب أهل الفساد ولا عملهم
سورة المائدة(1/427)
428
65 - 66
قوله تعالى " ولو أن أهل الكتاب " يعني اليهود والنصارى " آمنوا " يعني صدقوا بتوحيد الله تعالى وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " واتقوا " الشرك والمعاصي " لكفرنا عنهم سيئاتهم " يعني لعفونا عنهم ذنوبهم " ولأدخلناهم جنات النعيم " في الآخرة
ثم قال " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل " يعني أقروا بما فيهما وبينوا ما كتموا فيها " وما أنزل إليهم من ربهم " يعني بما أنزل إليهم من ربهم في كتابهم ويقال القرآن " لأكلوا من فوقهم " يعني يرزقهم الله تعالى المطر من فوقهم في الوقت الذي ينفعهم ذلك " ومن تحت أرجلهم " يعني ينبت النبات من الأرض وقال الزجاج هذا على وجه التوسعة يقال فلان في خير من فوقه إلى قدمه يعني لو أنهم فعلوا ما أمروا لأعطاهم الله الخير من فوقهم ومن تحت أرجلهم يعني صاروا في الخير في الدنيا والآخرة وروى أبو موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " أيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد فله أجران "
ثم قال " منهم أمة مقتصدة " يعني عصبة وجماعة عادلة وهم مؤمنو أهل الكتاب من أهل التوراة والإنجيل " وكثير منهم ساء ما يعملون " وهم الذين لم يصدقوا ولم يؤمنوا
سورة المائدة 67
قوله تعالى " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " وذلك أن اليهود لعنهم الله قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الإسلام فجعلوا يستهزئون به ويقولون إنك تريد أن نتخذك حنانا ربا كما اتخذت النصارى عيسى فلما رأى ذلك سكت عنهم فأمره الله أن يدعوهم إلى الإسلام ولا يمنعه عن ذلك تكذيبهم إياه فقال " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك " من القرآن " وإن لم تفعل " يعني إن لم تبلغ جميع ما أنزل إليك " فما بلغت رسالته " يعني كأنك لم تبلغ شيئا من رسالته لأنه أمره بتبليغ جميع الرسالة فإذا ترك البعض صار بمنزلة التارك للكل كما أن من جحد آية كتاب الله تعالى صار جاحدا للجميع ويقال " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " يعني فما بلغت المبلغ الذي تكون رسولا وروى سمرة بن جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أيها الناس إنما أنا بشر مثلكم فإن كنتم تعلمون أني قد قصرت عن شيء من تبليغ رسالات ربي فأخبروني حتى أبلغ رسالات ربي كما ينبغي لها أن تبلغ فقام الناس فقالوا نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك وقضيت الذي عليك وروى مسروق عن عائشة قالت(1/428)
429
من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب ثم قرأت " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " الآية
ثم قال تعالى " والله يعصمك من الناس " يعني اليهود ويقال كيد الكفار وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرسه أصحابه بالليل حتى نزلت هذه الآية فخرج إليهم وقال لا تحرسوني فإن الله قد عصمني من الناس
ثم قال " إن الله لا يهدي القوم الكافرين " يعني لا يرشدهم إلى دينه ويقال لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم لا أبالي من خذلني من اليهود ومن نصرني قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر " فما بلغت رسالاته " بلفظ الجماعة وقرأ الباقون بلفظ الوحدان لأن الواحد يغني عن الجماعة
سورة المائدة الآية 68
ثم علمه كيف يبلغ الرسالة فقال تعالى " قل يا أهل الكتاب لستم على شيء " من الدين ولا ثواب لأعمالكم " حتى تقيموا التوراة والإنجيل " يعني تعملوا بما في التوراة والإنجيل " وما أنزل إليكم من ربكم " يعني حتى تقروا بما أنزل على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن تعملون به
ثم قال " وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك " من القرآن " من ربك طغيانا وكفرا " يعني تماديا بالمعصية وكفرا بالقرآن يعني إنما عليك تبليغ الرسالة والموعظة فإن لم ينفعهم ذلك فليس عليك شيء " فلا تأس على القوم الكافرين " يعني لا تحزن عليهم إن كذبوك
وروى محمد بن إسحاق بإسناده عن ابن عباس أنه قال جاء رافع بن حارثه وسلام بن مشكم ومالك بن الضيف وقالوا يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها من الله حق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس فبرئت من أحداثكم فقالوا فإنا قد آمنا بما في أيدينا وإنا على الهدى والحق فلا نؤمن بك فنزل " يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل "
سورة المائدة الآيات(1/429)
430
69 - 71
قوله تعالى " إن الذين آمنوا والذين هادوا " قال في رواية الكلبي هم قوم آمنوا بعيسى عليه السلام ولم يؤمنوا بغيره ولم يرجعوا ويقال " إن الذين آمنوا " بألسنتهم وهم المنافقون ويقال في الآية تقديم يعني " إن الذين آمنوا والذين هادوا " من آمن من اليهود والنصارى " والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا " فلهم أجرهم عند ربهم وقال في هذه السورة " والصابئون " وقال في موضع آخر " والصابئين " لأنه معطوف على خبر إن وكل اسم كان معطوفا على خبر إن كان فيه طريقان إن شاء رفع وإن شاء نصف كقوله إن زيدا قادم وعمرو إن شاء نصب الثاني وإن شاء رفعه كقوله تعالى " أن الله برئ من المشركين ورسوله " التوبة 3 وقد قرأ " ورسوله " ولكنه شاذ وكذلك هاهنا جاز أن يقول " والصابئين " " والصابئون " إلا أن في هذه السورة كتب بالرفع
ثم قال " لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " يعني لمن آمن من هؤلاء الذين سبق ذكرهم فلهم ثواب عند ربهم الجنة
قوله تعالى " لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل " يعني عهدهم في التوراة " وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم " يعني بما لا يوافق هواهم " فريقا كذبوا " مثل عيسى ومن سبق قبله " وفريقا يقتلون " مثل يحيى وزكريا وغيرهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فالله تعالى أمر النبي بتبليغ الرسالة وأمره بأن لا يحزن عليهم إن لم يؤمنوا لأنهم من أهل السوء الذين فعلوا هذه الأفعال
ثم قال " وحسبوا أن لا تكون فتنة " يعني ظنوا أنهم لا يفتنون بتكذبيهم الرسل وقتلهم الأنبياء ويقال ظنوا أن لا يعاقبوا ولا يصيبهم البلاء والشدة والقحط ويقال ظنوا أن قتل الأنبياء لا يكون كفرا ويقال ظنوا أن لا تفسد قلوبهم بالتكذيب وقتل الأنبياء قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو " أن لا تكون فتنة " بضم النون وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالنصب بمعنى أن ومن قرأ بالضم بمعنى حسبوا أنه لا تكون فتنة معناه حسبوا أن فعلهم غير فاتن لهم
ثم قال تعالى " فعموا وصموا " يعني عموا عن الحق وصموا عن الهدى فلم يسمعوه " ثم تاب الله عليهم " يقول تجاوز عنهم ورفع عنهم البلاء فلم يتوبوا " ثم عموا(1/430)
431
وصموا كثير منهم ) ويقال معناه تاب الله على كثير منهم " وعموا وصموا كثير منهم " ويقال ثم تاب الله عليهم يعني بعث محمدا صلى الله عليه وسلم ليدعوهم إلى التوراة " ثم عموا وصموا " بتكذيب محمدا صلى الله عليه وسلم ويقال " عموا وصموا " حين عبدوا العجل ثم تاب الله عليهم بعدما قتلوا سبعين ألفا وهذا على جهة المثل يعني لم يعملوا بما سمعوا ولم يعتبروا بما أبصروا فصاروا كالأعمى والأصم
ثم قال " والله بصير بما يعملون " بقتلهم الأنبياء وتكذيبهم الرسل يعني عليم بمجازاتهم
سورة المائدة 72 - 74
قوله تعالى " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم " وذلك أن نصارى أهل نجران يزعمون أنهم مؤمنون بعيسى فأخبر الله تعالى أنهم كافرون بميسى وأنهم كاذبون في مقالتهم على المسيح وأخبر أن المسيح دعاهم إلى توحيد الله تعالى وأنهم كاذبون على المسيح وهو قوله " وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله " يعني وحدوا الله وأطيعوه " ربي وربكم " يعني خالقي وخالقكم ورازقي ورازقكم " إنه من يشرك بالله " يعني إنه من يموت على شركه " فقد حرم الله عليه الجنة " أن يدخلها " ومأواه النار " يعني مصيره إلى النار " ما للظالمين من أنصار " يعني ليس للمشركين من مانع يمنعهم من العذاب
ثم أخبر أن الفريق الآخر من النصارى هم كفار أيضا فقال الله تعالى " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " فيه مضمر معناه ثالث ثلاثة آلهة ويقال ثالث من ثلاثة آلهة يعني أبا وأما وروحا قدسا يعني الله ومريم وعيسى قال الله تعالى ردا عليهم " وما من إله إلا إله واحد " يعني هم كاذبون في مقالتهم ثم أوعدهم الوعيد إن لم يتوبوا فقال " وإن لم ينتهوا عما يقولون " يعني إن لم يتوبوا ولم يرجعوا عن مقالتهم " ليمسن الذين كفروا منهم " فهذا لام القسم فكأنه أقسم بأنه ليصيبهم " عذاب أليم " يعني إن أقاموا على كفرهم
ثم دعاهم إلى التوبة فقال تعالى " أفلا يتوبون إلى الله " من النصرانية " ويستغفرونه " عن مقالتهم الشرك " والله غفور " للذنوب إن فعلوا " رحيم " بقبول التوبة ويقال " أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه " لفظه لفظ الاستفهام والمراد به الأمر فكأنه قال توبوا إلى الله(1/431)
432
وكذلك كل ما يشبه هذا في القرآن مثل قوله " أتصبرون " يعني اصبروا
سورة المائدة 75 - 77
ثم بين الله تعالى أن المسيح عبده ورسوله وبين الحجة في ذلك فقال " ما المسيح ابن مريم إلا رسول " يعني هو رسول كسائر الرسل " قد خلت من قبله الرسل " وهو من جملة الرسل " وأمه صديقه " تشبه النبيين وذلك حين صدقت جبريل حين قال لها " إنما أنا رسول ربك " مريم 19 والصديق في اللغة هو المبالغ في التصديق وقال في آية أخرى " وصدقت بكلمات ربها " التحريم 12 ثم قال " كانا يأكلان الطعام " يعني المسيح وأمه كانا يأكلان ويشربان ومن أكل وشرب تكون حياته بالحيلة والرب لا يأكل ولا يشرب ويقال " كانا يأكلان الطعام " كناية عن قضاء الحاجة لأن الذي يأكل الطعام فله قضاء الحاجة ومن كان هكذا لا يصلح أن يكون ربا
ثم قال " انظر كيف نبين لهم الآيات " يعني العلامات في عيسى ومريم أنهما لو كانا إلهين ما أكلا الطعام " ثم انظر أنى يؤفكون " يقول من أين يكذبون بإنكارهم بأني واحد وقال القتبي " أنى يؤفكون " يعني أنى يصرفون عن الحق ويعدلون عنه يقال أفك الرجل عن كذا إذا عدل عنه
ثم أخبر الله تعالى عن جهلهم وقلة عقلهم فقال " قل " يا محمد " أتعبدون من دون الله " يعني عيسى وأمه " ما لا يملك لكم " يقول ما لا يقدر لكم " ضرا " في الدنيا " ولا نفعا " في الآخرة وتركتم عبادة الله " والله هو السميع " لقولكم " العليم " بعقوبتكم
قوله تعالى " قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق " يقول لا تجاوزوا الحد والغلو وهو الإفراط والاعتداء ويقال لا تتعمقوا
ثم قال " ولا تتبعوا أهواء قوم " وهم الرؤساء من أهل الكتاب يعني لا تتبعوا شهواتهم لأنهم آثروا الشهوات على البيان والبرهان " قد ضلوا من قبل " وهم رؤساء النصارى ضلوا عن الهدى " وأضلوا كثيرا " من الناس " وضلوا عن سواء السبيل " يعني اخطؤوا قصد الطريق وقال مقاتل نزلت شأن في برصيصا العابد حين جاءه الشيطان فقال له قد فضلك الله على أهل زمانك لكي تحل لهم الحرام وتحرم عليهم الحلال وتسن لهم السنة(1/432)
433
ففعل فاتبعه الناس بذلك ثم ندم على فعله فعمد إلى سلسلة فجعلها في ترقوته فعلق نفسه فجاءه ملك فقال له أنت تتوب وكيف لك بمن تابعك فذلك قوله " قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا عن سواء السبيل "
سورة المائدة 78 - 81
وقوله تعالى " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل " يعني اليهود " على لسان داود " وذلك أن الله تعالى مسخهم قردة حيث اصطادوا السمك يوم السبت " وعيسى ابن مريم " يعني على لسان عيسى ابن مريم حيث دعا عليهم فمسخهم الله تعالى خنازير ويقال " لعن الذين كفروا " أي أبعدوا عن رحمة الله " على لسان داود وعيسى ابن مريم " وقال الزجاج يحتمل معنيين أحدهما أنهم مسخوا بلعنتهما فجعلوا قردة وخنازير وجائز أن يكون داود وعيسى لعنا من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم يعني لعن الكفار الذين على عهد رسول لله صلى الله عليه وسلم
ثم قال " ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " يعني الذين أصابهم من اللعنة " بما عصوا " أي بعصيانهم واعتدائهم " وكانوا يعتدون " في دينهم
ثم قال " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه " يعني لم يمتنعوا عن قبيح من الأفعال ورضوا به " لبئس ما كونوا يفعلون " حين لم ينهوهم عن المنكر
ثم قال " ترى كثيرا منهم " قال مقاتل يعني اليهود " يتولون الذين كفروا " من مشركي العرب وقال الكلبي " ترى كثيرا " من المنافقين " يتولون الذين كفروا " يعني اليهود " لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم " معناه لبئس الفعل الذي يستوجبون به السخط من الله تعالى وتجب لهم العقوبة والعذاب " وفي العذاب هم خالدون " يعني دائمون
ثم قال " ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي " محمدا صلى الله عليه وسلم " وما أنزل إليه " يعني القرآن " ما اتخذوهم أولياء " أي لو كان إيمان المنافقين حقيقة ما اتخذوا اليهود أولياء في العون والنصرة " ولكن كثيرا منهم فاسقون " يعني ناقضين للعهد
سورة المائدة(1/433)
434
82 - 86
ثم قال " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود " وهم يهود بني قريظة وبني النضير " والذين أشركوا " يعني مشركي أهل مكة " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " قال بعضهم إنما أراد به النصارى الذين كانوا في ذلك الوقت لأنهم كانوا أقل مظاهرة على المؤمنين وأسرع إجابة للإسلام وقال أكثر المفسرين إن المراد به النصارى الذين أسلموا وفي سياق الآية دليل عليه وهو قوله " فأثبهم الله بما قالوا " المائدة 85
وروى أسباط عن السدي قال بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر رجلا من الحبشة سبعة قسيسين وخمسة رهبان ينظرون إليه ويسألونه فلما لقوه وقرأ عليهم ما أنزل الله عليه بكوا وآمنوا به ورجعوا إلى النجاشي فهاجر النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم فمات في الطريق فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون واستغفروا له
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه سئل عن هذه الآية فقال " هم الوفد الذين قدموا مع جعفر الطيار من أرض الحبشة " وعن الزهري أنه سئل عن هذه الآية فقال ما زلنا نسمع أنها نزلت في النجاشي وأصحابه
ثم قال تعالى " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " يعني المتعبدين وأصحاب الصوامع ويقال " قسيسين " علماؤهم ورهبانهم ويقال " قسيسين " يعني صديقين " ورهبانا " يعني خائفين من الله تعالى وقال بعض أهل اللغة القس والقسيس رؤساء النصارى والقس بفتح القاف النميمة
ثم قال " وأنهم لا يستكبرون " يعني لا يتعظمون على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " يعني تسيل من الدمع " مما عرفوا من الحق " يقول مما عرفوا محمدا صلى الله عليه وسلم نعته وصفته " يقولون ربنا آمنا " بالقرآن بأنه من الله " فاكتبنا مع الشاهدين " يعني المهاجرين والأنصار وروى عكرمة عن ابن عباس قال " مع الشاهدين " هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم يشهدون له بالبلاغ ويشهدون للرسل أنهم قد بلغوا الرسالة
ثم قال " وما لنا لا نؤمن بالله " وذلك أنهم لما رجعوا إلى قومهم قال لهم كفار قومهم(1/434)
435
تركتم ملة عيسى عليه السلام ويقال إن كفار مكة عاتبوهم على إيمانهم وقالوا لم تركتم دينكم القديم وأخذتم الدين الحديث فقالوا " وما لنا لا نؤمن بالله " معناه وما لنا لا نصدق بالله أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسوله والقرآن من عنده " وما جاءنا من الحق " يعني وبما جاءنا من الحق " ونطمع " يقول نرجو " أن يدخلنا مع القوم الصالحين " يعني مع المؤمنين الموحدين في الجنة فمدحهم الله تعالى وحكى عن مقالتهم وأخبر عن ثوابهم في الآخرة فقال " فأثابهم الله بما قالوا " من التوحيد " جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين " يعني ثواب الموحدين المطيعين
وقد احتج بعض الناس بهذه الآية أن الإيمان هو مجرد القول لأنه قال " فأثابهم الله بما قالوا " ولكن لا حجة لهم فيها لأن قولهم كان مع التصديق وهو قوله تعالى " مما عرفوا من الحق " والقول بغير التصديق لا يكونا إيمانا
ثم بين عقوبة من ثبت على كفره ولم يؤمن فقال تعالى " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا " يعني من مات على ذلك " أولئك أصحاب الجحيم " والجحيم هو النار الشديدة الوقود يقال جحم فلان النار إذا شدد وقودها ويقال لعين الأسد جحمة لشدة توقدها
سورة المائدة 87 - 88
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " نزلت في جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنهم سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم وصف القيامة يوما وخوف النار والحساب اجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون فتوافقوا بأن يخصوا أنفسهم ويترهبوا فنهاهم الله عن ذلك ونزلت هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " إلى آخرها
قال حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا أبو القاسم أحمد بن حميد قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن مدرك بن قزعة عن سعيد بن المسيب قال جاء عثمان بن مظعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله غلبني حديث النفس ولا أحب أن أحدث شيئا حتى أذكر لك قال صلى الله عليه وسلم وما تحدثك نفسك يا عثمان قال تحدثني أن أختصي فقال مهلا يا عثمان فإن إخصاء أمتي الصيام قال يا رسول الله إن نفسي تحدثني أن أترهب في رؤوس الجبال فقال مهلا يا عثمان فإن ترهب أمتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلوات قال يا رسول الله فإن نفسي تحدثني أن أسيح في الأرض قال مهلا يا عثمان فإن سياحة أمتي الغزو في سبيل الله والحج والعمرة قال فإن نفسي تحدثني أن أخرج من مالي كله قال مهلا يا عثمان فإن صدقتك يوما بيوم(1/435)
436
وتكف نفسك وعيالك وترحم المساكين واليتيم أفضل من ذلك فقال يا رسول الله فإن نفسي تحدثني أن أطلق خولة فقال مهلا يا عثمان فإن الهجرة في أمتي من هجر ما حرم الله عليه أو هاجر إلي في حياتي أو زار قبري بعد مماتي أو مات وله امرأة أو امرأتان أو ثلاث أو أربع قال يا رسول الله فإن نهيتني أن اطلقها فإن نفسي تحدثني بأن لا أغشاها قال مهلا فإن الرجل المسلم إذا غشي أهله أو ما ملكت يمينه فلم يكن من وقعته تلك ولد كان له وصيفا في الجنة وإن كان من وقعته تلك ولد فمات قبله كان فرطا وشفيعا يوم القيامة فإن عبد مات بعده كان له نورا يوم القيامة فقال يا رسول الله فإن نفسي تحدثني بأن لا آكل اللحم قال مهلا يا عثمان فإني أحب اللحم وآكله إذا وجدته ولو سألت ربي أن يطعمنيه في كل يوم لأطعمنيه قال يا رسول الله فإن نفسي تحدثني بأن لا أمس الطيب قال مهلا يا عثمان فإن جبريل أمرني بالطيب غبا غبا وقال لا تتركه يوم الجمعة لا تتركه يا عثمان ولا ترغب عن سنتي فمن رغب عن سنتي ثم مات قبل أن يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضي يوم القيامة ونزلت هذه الآية " لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " " ولا تعتدوا " يقول لا تحرموا حلاله " إن الله لا يحب المعتدين " ويقال إن محرم ما أحل الله كمحل ما حرم الله
ثم قال " وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا " من الطعام والشراب " واتقوا الله " ولا تحرموا ما أحل الله لكم " الذي أنتم به مؤمنون " يعني لا تحرموا ما أحل الله لكم إن كنتم مصدقين به فأحلوا حلاله وحرموا حرامه ثم أمرهم الله تعالى بأن يكفروا أيمانهم لأنه لما حرموا الحلال على أنفسهم كان ذلك يمينا منهم ولهذا قال أصحابنا إذا قال الرجل لشيء حلال هذا الشيء علي حرام يكون ذلك يمينا فأمرهم الله تعالى بأن يأكلوا ويحنثوا في أيمانهم وفي الآية دليل أن الرجل إذا حلف على شيء والحنث خير له ينبغي أن يحنث ويكفر بيمينه وفيها دليل أن الكفارة بعد الحنث لأنه أمرهم بالحنث بقوله " فكلوا " ثم أمرهم بالكفارة بقوله " لا يؤاخذكم "
سورة المائدة 89
أمرهم بالكفارة وهو قوله تعالى " لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم " قال ابن عباس اللغو أن يحلف الرجل على شيء بالله وهو يرى أنه صادق وهو فيه كاذب وهكذا روي(1/436)
437
عن أبي هريرة أنه كان يقول لغو اليمين أن يحلف الرجل على شيء يظن أنه الذي حلف عليه هو صادق فإذا هو غير ذلك وقال الحسن هو الرجل يحلف على الشيء يدي أنه كذلك وليس هو كذلك وقال سعيد بن جبير الرجل يحلف باليمين التي لا ينبغي أن يحلف بها يحرم شيئا هو حلال فلا يؤاخذه الله بتركه لكن يؤاخذه الله إن فعل وقال زيد بن أسلم هو قول الرجل أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا أو أخرجني الله من مالي وولدي وقالت عائشة اللغو هو قول الرجل لا والله وبلى والله على شيء لم يعقده قلبه
ثم قال " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص " عقدتم " بالتشديد وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " عقدتم " بالتخفيف وقرا ابن عامر " بما عاقدتم " فمن قرأ " عاقدتم " فهو من العقائد المعاقدة تجري بين الاثنين وهو أن يحلف الرجل لصاحبه بشيء ومن قرأ بالتشديد فهو للتأكيد ومن قرأ بالتخفيف لأن اليمين تكون مرة واحدة والتشديد يجري في التكرار والإعادة
وروى عبد الرزاق عن بكار بن عبد الله قال سئل وهب بن منبه عن قوله " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " قال الأيمان ثلاثة لغو وعقد وصبر فأما اللغو فلا والله وبلى والله لا يعقد عليه القلب وأما العقد فهو أن يحلف الرجل لا يفعله فيفعله فعليه الكفارة وأما الصبر بأن يحلف على مال ليقتطعه بيمينه فلا كفارة له وروى حصين بن عبد الرحمن عن أبي مالك الغفاري قال الأيمان ثلاثة يمين تكفر ويمين لا تكفر ويمين لا يؤاخذ الله بها صاحبها ذكر على نحو ما ذكر محمد في كتاب الإيمان
ثم بين كفارة اليمين فقال تعالى " فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم " روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال الغداء والعشاء وسئل شريح عن الكفارة فقال الخبز والزيت الطيب والخل فقال السائل أرأيت إن أطعمت الخبز واللحم قال ذلك أرفع طعام أهلك وطعام الناس وروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنهما قالا لكل مسكين نصف صاع من حنطة يعني إذا أراد أن يدفع إليهم وإن أراد أن يطعمهم فالغداء والعشاء
ثم قال تعالى " أو كسوتهم " قال مجاهد أدناه ثوب وأعلاه ما شئت وقال إبراهيم النخعي لكل مسكين ثوب وقال الحسن ثوبان أبيضان
ثم قال " أو تحرير رقبة " يعني يعتق رقبة ولم يشترط هاهنا المؤمنة فيجوز الكفارة بالكافرة والمؤمنة فالرجل بالخيار بين هذه الأشياء الثلاثة " فمن لم يجد " الطعام ولا الكسوة ولا الرقبة فعليه " فصيام ثلاثة أيام " وذلك قوله تعالى " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم " )
وروى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح قال سئل
طاوس عن صيام الكفارة قال(1/437)
438
يفرق قال له مجاهد كان عبد الله يقرأ متتابعات قال طاوس فهن أيضا متتابعات وروى مالك عن حميد عن مجاهد قال كان أبي يقرأ فصيام ثلاثة أيام متتابعات في كفارة اليمين
ثم قال " ذلك " يعني الذي ذكرنا " كفارة أيمانكم " عن الطعام والكسوة والعتق والصوم " إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم " يعني ليعلم الرجل ما حلف عليه فليكفر يمينه إذا حنث " كذلك يبين الله لكم آياته " يعني أمره ونهيه " لعلكم تشكرون " أي لكي تشكروا رب هذه النعمة إذ جعل لكم مخرجا من أيمانكم بالكفارة والكفارة في اللغة التغطية يعني يغطي إثمه
سورة المائدة 90 - 93
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر " نزلت هذه الآية في شأن سعد بن أبي وقاص لأنهم كانوا يشربونها وكانت حلالا لهم فجرى بين سعد وبين رجل من الأنصار افتخار في الأنساب فاقتتلا فشج رأس سعد فدعا عمر بن الخطاب فقال اللهم أرنا رأيك في الخمر فإنها متلفة للمال مذهبة للعقول فنزلت هذه الآية التي في سورة البقرة " يسئلونك عن الخمر والميسر " البقرة 219 فقال عمر اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت هذه الآية " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان " يعني حرام وهو من تزيين الشيطان " فاجتنبوه " يعني شربها ولم يقل فاجتنبوها لأنه انصرف إلى المعنى ومعناه اجتنبوا ما ذكرناه ونهاكم عن ذلك كقوله " كلوا من ثمره إذا أثمر " الأنعام 141 ولم يقل من ثمرها
ثم قال تعالى " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله " يعني عن طاعة الله " وعن الصلاة " لأنهم منعوا عن الصلاة إذا كانوا سكارى ولأنه إذا سكر لا يعقل الطاعة وأداء الصلاة
ثم قال " فهل أنتم منتهون " يعني انتهوا عن شربها فقال عمر قد انتهينا يا رب وعن عطاء بن يسار أن رجلا قال لكعب الأحبار أحرمت الخمرة في التوراة قال نعم هذه الآية " إنما الخمر والميسر " مكتوبة في التوراة إنا أنزلنا الحق لنذهب به الباطل ونبطل به(1/438)
439
اللعب والدفف والمزامير والخمر مرة لشاربها أقسم الله تعالى بعزته وجلاله أن من أنتهكها في الدنيا أعطشته يوم القيامة ومن تركها بعدما حرمتها لأسقينها إياه في حظيرة القدس قيل وما حظيرة القدس قال الله هو القدس وحظيرته الجنة
قال تعالى " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول " يعني في تحريم الخمر " وحذروا " عن شربها " فإن توليتم " يقول أعرضتم عن طاعة الله وطاعة الرسول " فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين " فهذا تهديد لمن شرب الخمر بعد التحريم فلما نزلت هذه الآية قال حيي بن أخطب فما حال من مات منهم وهم يشربونها فعيروا بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عن ذلك فنزلت هذه الآية " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " يعني شربوا قبل تحريمها
ويقال إن بعض الصحابة كانوا في سفر فشربوا منها بعد التحريم ولم يعرفوا تحريمها فلما رجعوا سألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل " وليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " يعني شربوا قبل تحريمها " إذا ما اتقوا " الشرك " وآمنوا " يعني صدقوا بوحدانية الله تعالى والقرآن " وعملوا الصالحات ثم اتقوا " المعاصي " وآمنوا " يعني صدقوا تحريمها " ثم اتقوا " شربها " وأحسنوا " العمل وتركوا شربها بعد تحريمها " والله يحب المحسنين " في أفعالهم ويقال معناه ليس عليهم جناح فيما طعموا قبل تحريمها إذا اجتنبوا شربها بعد تحريمها
وروى عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال شرب نفر من أهل الشام الخمر وعليهم يومئذ معاوية بن أبي سفيان وقالوا هي حلال لنا وتأولوا قوله تعالى " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " فكتب معاوية في ذلك إلى عمر فكتب إليه عمر رضي الله عنه أن ابعثهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك فلما قدموا على عمر جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما ترون فقالوا إنهم قد افتروا على الله كذبا وشرعوا في دينه ما لم يأذن به الله فاضرب أعناقهم وعلي كرم الله وجهه ساكت فقال يا أبا الحسن ما ترى في هؤلاء قال أرى أن تستتيبهم فإن تابوا فاضربهم ثمانين جلدة وإن لم يتوبوا فاضرب أعناقهم فاستتابهم فتابوا فضربهم ثمانين جلدة وأرسلهم
سورة المائدة 94 - 95(1/439)
440
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد " يعني ليختبرنكم الله والاختبار من الله هو إظهار ما علم منهم بشيء من الصيد يعني ببعض الصيد فتبعيضه يحتمل أن يكون معناه ما داموا في الإحرام فيكون ذلك بعض الصيد ويحتمل أن يكون على معنى التحضيض يحمل ذلك على وجه تبيين جنس من الأجناس كما قال " فاجتنبوا الرجس من الأوثان " الحج 30 ويحتمل بعض الصيد يعني صيد البر دون صيد البحر " تناله أيديكم " يعني تأخذونه بأيديكم بغير سلاح مثل البيض والفراخ " ورماحكم " يعني تأخذونه بسلاحكم وهو الكبار من الصيد " ليعلم الله من يخافه بالغيب " يعني ليميز الله الذي يخاف من الذي لا يخاف
ويبين فضل الخائفين " فمن اعتدى بعد ذلك " يعني من أخذ الصيد بعد النهي " فله عذاب أليم " يعني وجيع يعني الكفارة والتعزير في الدنيا وفي الآخرة بالعذاب إن مات بغير توبة
ثم قال " يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " يعني وأنتم محرمون ويقال أنتم محرمون أو في الحرم ثم بين الكفارة فقال " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم " يعني عليه الفداء مثل ما قتل قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي " فجزاء مثل " بتنوين الهمزة وبضم اللام وقرأ الباقون بالضم بغير تنوين وبكسر اللام فأما من قرأ بالتنوين فمعناه فعليه جزاء ثم صار المثل نعتا للجزاء وأما من قرأ بغير تنوين فعلى معنى الإضافة إلى الجزاء يعني عليه جزاء مثل ما قتل من النعم يشتري بقيمته من النعم ويذبحه يعني إذا كان المقتول يوجد بقيمته النعم
ثم قال " يحكم به ذوا عدل منكم " يعني رجلان مسلمان عدلان ينظران إلى قيمة المقتول ثم يشتري بقيمته " هديا بالغ الكعبة " يعني يبلغ بالهدي مكه ويذبحه هناك ويتصدق بلحمه على الفقراء " أو كفارة طعام مساكين " يعني إن شاء يشتري بقيمته طعاما ويتصدق به على كل مسكين نصف صاع من حنطة " أو عدل ذلك صياما " يعني يصوم مكان كل نصف صاع من حنطة يوما قال ابن عباس إنما يقوم لكي يعرف مقدار الصيام من الطعام فهو بالخيار بين هذه الأشياء الثلاثة إن شاء أطعم وإن شاء أهدى وإن شاء صام قرأ نافع وابن عامر " أو كفارة طعام مساكين " بغير تنوين على معنى الإضافة وقرأ الباقون " كفارة " بالتنوين ورفع الطعام نعتا لها
ثم قال " ليذوق وبال أمره " يعني عقوبة ذنبه لكي يمتنع عن قتل الصيد " عفا الله عما سلف " يعني عما مضى قبل التحريم " ومن عاد " بعد التحريم " فينتقم الله منه " يعني يعاقبه الله تعالى ومع ذلك يجب عليه الكفارة وقال بعضهم لا يجب عليه الكفارة إذا قتل مرة أخرى(1/440)
441
وروى عكرمة عن ابن عباس انه سئل عن المحرم يصيب الصيد فيحكم عليه ثم يصيبه أيضا قال لا يحكم عليه وتلا هذه الآية " ومن عاد فينتقم الله منه " فذلك إلى الله إن شاء عفا وإن شاء عاقبه وعن شريح أن رجلا أتاه فسأله أن يحكم عليه فقال له شريح هل أصبت صيدا قبله قال لا قال لو كنت أصبته قبل ذلك لم أحكم عليك وقال بعضهم سواء قتل قبل ذلك أو لم يقتل فهو سواء لأنه قاتل في المرة الثانية كما هو قاتل في المرة الأولى
وروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم رضي الله عنهم أنهم حكموا ولم يسألوه أنك أصبت قبل ذلك أم لا وروى ابن جريج عن عطاء أنه سئل عن قوله " عفا الله عما سلف " قال يعني ما كان في الجاهلية " ومن عاد " في الإسلام فينتقم الله منه ومع ذلك عليه الكفارة وروى سعيد بن جبير مثله وقد قال بعض الناس أنه إذا قتل خطأ فلا تجب عليه الكفارة وهذا القول ذكر عن طاوس اليماني وقال غيره تجب عليه الكفارة وروى ابن جريج عن عطاء قال سألته عن قوله " ومن قتله منكم متعمدا " فلو قتله خطأ أيغرم قال نعم يعظم بذلك حرمات الله ومضت به السنن وعن الحسن قال يحكم عليه في الخطأ والعمد وعن إبراهيم النخعي وعن مجاهد مثله وبهذا القول نأخذ أن العمد والخطأ سواء والمرة الأولى والثانية سواء
ثم قال تعالى " والله عزيز ذو انتقام " من أهل المعصية ومن آخذ الصيد بعد التحريم ويقال " ومن عاد " مستحلا أو مستخفا بأمر الله تعالى " فينتقم الله منه " يعني يعذبه الله تعالى " والله عزيز ذو انتقام " يعذب من عصاه
سورة المائدة 96
قوله تعالى " أحل لكم صيد البحر " يعني في الإحرام وغير الإحرام " وطعامه متاعا لكم وللسيارة " يعني للمقيمين والمسافرين وهي السمكة المالحة ويقال " وطعامه " ما نضب الماء عنه فأخذ بغير صيد ميتا ويقال كل ما سقاه الماء فأنبت من الأرض فهو طعام البحر
قال الفقيه حدثنا أبو الفضل بن أبي جعفر قال حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال حدثنا محمد بن خزيمة قال حدثنا حجاج بن المنهال قال حدثنا أبو عوانة عن عمرو بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال كنت أميرا في البحرين فسألني أهل البحرين عما يقذف البحر من السمك فقلت كلوه فلما رجعت إلى المدينة سألت عن ذلك عمر بن الخطاب فقال ما أمرتهم به فقلت أمرتهم بأكله فقال لو أمرتهم بغير ذلك لضربتك بالدرة ثم قرأ عمر " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم " فصيده ما صيد وطعامه ما رمي به(1/441)
442
ثم قال " وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما " يعني ما دمتم محرمين فلا تأخذوا الصيود " واتقوا الله " فلا تأخذوه في إحرامكم " الذي إليه تحشرون " فيجزيكم بأعمالكم
سورة المائدة 97
قوله تعالى " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس " يعني الحرم آمنا للناس كان الرجل إذا أصاب ذنبا أو قتل قتيلا ثم لجأ إلى الحرم آمنا بذلك ويقال " قياما للناس " يعني قواما لمعايشهم قرأ ابن عامر " قيما " على وجه المصدر وقرأ الباقون " قياما " على وجه الاسم والمصدر وإنما سميت الكعبة كعبة لارتفاعها ولهذا سمي الكعبان كعبا ويقال للجارية إذا نهدت ثدياها قد كعبت ثدياها وهي كاعب كما قال " وكواعب أترابا " النبأ33
ثم قال " والشهر الحرام والهدي والقلائد " يعني جعل الشهر الحرام والهدي والقلائد آمنا للناس وقواما لمعايشهم لأنهم كانوا إذا توجهوا إلى مكة وقلدوا الهدي أمنوا ويقال " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس " يعني معالم للناس وقال مقاتل وابن حيان يعني علما لقبلتهم يصلون إليها وقال سعيد بن جبير صلاحا لدينهم وحرم عليهم الغارة في الشهر الحرام وأخذ الهدي والقلائد في الشهر الحرام " ذلك " الذي جعل الله من الأمن " لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض " يعني لتعلموا أن الله يعلم صلاح ما في السموات وما في الأرض " وأن الله بكل شيء عليم " من صلاح الخلق ويقال هو مردود إلى ما أنبأ الله تعالى على لسان نبيه في هذه السورة من أخبار المنافقين وإظهار أسرارهم فقال ذلك الذي ذكر الله تعالى لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم من السر والعلانية
سورة المائدة 98 - 99
ثم قال " اعلموا أن الله شديد العقاب " يعني إذا عاقب فعقوبته شديدة لمن عصاه " وأن الله غفور رحيم " لمن أطاعه
قوله تعالى " ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون " يعني أن الرسول ليس عليه طلب سرائرهم وإنما عليه بتبليغ الرسالة والله تعالى هو الذي يعلم سرائرهم
سورة المائدة 100(1/442)
443
قوله تعالى " قل لا يستوي الخبيث والطيب " يعني لا يستوي الحلال والحرام قال في رواية الكلبي نزلت في شأن حجاج اليمامة شريح بن ضبيعة حين أراد المسلمون أخذ ماله فنهاهم الله تعالى عن ذلك وأخبرهم أن أخذ ماله حرام " ولو أعجبك كثرة الخبيث " يعني كثرة مال شريح بن ضبيعة " واتقوا الله " فلا تستحلوا ما حرم عليكم " يا أولي الألباب " يا ذوي العقول " لعلكم تفلحون " يعني تأمنون من عذابه وروى أسباط عن السدي أنه قال " الخبيث " هم المشركون " والطيب " هم المؤمنون وقال الضحاك " لا يستوي الخبيث والطيب " يعني صدقة من حرام لا تصعد إلى الله ولا توضع في خزائنه وصدقه من حلال تقع في يد الرحمن يعني يقبلها " ولو أعجبك كثرة الخبيث " يعني مثقال حبة من صدقة الحلال أرجح عند الله من جبال الدنيا من الحرام
سورة المائدة 101 - 102
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " روي عن أبي هريرة وعبد الله بن عباس وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ " ولله على الناس حج البيت " آل عمران 97 وقال يا أيها الناس كتب عليكم الحج فقام رجل فقال أفي كل عام يا رسول الله فأعرض عنه ثم عاد فقال والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجب عليكم ولو وجب ما استطعتم ولو تركتموه لكفرتم ثم قال إنما هي حجة واحدة أو قال مرة واحدة فنزل قوله " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم " وعن أبي عوانة أنه قال سألت عكرمة عن قوله " لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " قال ذلك يوم قام فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه فأكثروا عليه فغضب وقال لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم فقام رجل فكره المسلمون يومئذ قيامه فقال يا رسول الله من أبي فقال حذافة يعني رجلا غير أبيه فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله رضينا بالله ربا وبك نبيا فنزلت هذه الآية " لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم "
وروي في خبر آخر أن رجلا سأله فقال أين أبي فقال في النار وروي عن نافع أنه سئل عن هذه الآية فقال لم تزل قط كثرة السؤال تستثقل
ثم قال " وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن " يعني الوقت الذي ينزل جبريل " تبد لكم " يعني تظهر لكم ويقال فيها تقديم وتأخير يعني وإن تسألوا عنها تبد لكم يعني ينزل القرآن ثم قال " عفا الله عنها " يعني عن تلك الأشياء حين لم ينزل فيها القرآن ولم يوجبها عليكم " والله غفور " ذو التجاوز " حليم " حيث لم يعجل عليكم بالعقوبة(1/443)
444
ثم قال " قد سألها قوم " يعني عن هذه الأشياء " من قبلكم " حيث سألوا المائدة من عيسى عليه السلام وغيرهم سألوا أنبيائهم أشياء " ثم أصبحوا بها كافرين " يعني صاروا بها كافرين
سورة المائدة 103
قوله تعالى " ما جعل الله من بحيرة " يعني ما جعل الله حراما من بحيرة كقولهم إن الله أمركم بتحريمها ونزلت في مشركي العرب فكانت الناقة إذا ولدت البطن الخامس فإن كان الولد الخامس ذكرا ذبحوه للآلهة وكان لحمه للرجال دون النساء وإن مات أكله الرجال والنساء وإن كان الولد الخامس أنثى شقوا أذنها وهي البحيرة ثم لا يجز لها وبر ولا يذكر عليه اسم الله وألبانها للرجال دون النساء فإذا ماتت اشترك فيها الرجال والنساء " ولا سائبة " وأما السائبة فهي الأنثى من الأنعام كلها إذا قدم الرجل من سفره أو برأ من مرضه أو بنى بناء سيب شيئا من الأنعام للآلهة ويخرجها من ملكه ويسلمها إلى سدنة البيت لآلهتهم ولا يركبونها وكان صوفها وأولادها للرجال دون النساء " ولا وصيلة " وأما الوصيلة فهي من الغنم إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان الولد السابع جديا ذبحوه لآلهتهم وكان لحمه للرجال فقط دون النساء وإن كانت عناقا كانوا يستعملونها ولكن بمنزلة سائر الغنم وإن كان جديا وعناقا قالوا إن الأخت قد وصلت ذكرا بأخيها فحرمتا جميعا وكانت المنفعة للرجال دون النساء وإن ماتا يشترك الرجال والنساء " ولا حام " وأما الحام فهو الفحل من الأبل إذا ركب ولده قالوا قد حمى ظهره فيهمل ولا يحمل ولا يركب ولا يمنع من المياه ولا المراعي فإذا مات أكله الرجال والنساء يقولون هذه الأشياء كلها من أحكام الله تعالى فنزل قوله تعالى " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام " يعني ما حرم الله هذه الاشياء
قوله تعالى " ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب " وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعرف أول من سيب السوائب وأول من غير عهد إبراهيم عليه السلام قالوا من هو يا رسول الله قال عمرو بن لحي أخو بني كعب لقد رأيته يجر قصبه في النار يؤذي ريحه أهل النار وإني لأعرف من بحر البحائر قالوا من هو يا رسول الله قال رجل من بني مدلج كانت له ناقتان فجدع أذنيهما وحرم ألبانهما ثم شرب ألبانهما بعد ذلك فلقد رأيته في النار وهما تعضانه بأفواههما وتخبطانه بأخفافهما(1/444)
445
ثم قال تعالى " وأكثرهم لا يعقلون " يعني ليس لهم عقل يعقلون به أن الله هو المحلل والمحرم وليس لغيره أن يحل ويحرم
سورة المائدة 104 - 105
ثم أخبر عن جهلهم فقال تعالى " وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول " من تحليل ما حرمتم على أنفسكم وما بين لكم رسوله ويقال تعالوا إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله " قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا " من الدين والسنة
قال الله تعالى " أولو كان آباءهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون " يعني أنهم يتبعون آباءهم وإن كان آباؤهم جهالا فنهاهم الله تعالى عن التقليد وأمرهم بالتمسك بالحق والحجة
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم " معناه الزموا أنفسكم كما تقول عليك زيدا معناه الزم زيدا معناه الزموا أمر أنفسكم لا يؤاخذكم الله بذنوب غيركم " لا يضركم " وأصله في اللغة لا يضرركم فأدغم أحد الراءين في الأخرى وضم الثانية لالتقاء الساكنين وهذا جواب الشرط وموضعه الجزم
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن هذه الآية فقال إذا رأيتم شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليكم بخويصة أنفسكم وروى عمر بن جابر اللخمي عن أبي أمية قال سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية فقال لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أبا ثعلبة ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحا مطاعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك فإن من بعدكم أيام الصبر المتمسك يومئذ بمثل الذي أنتم عليه له كأجر خمسين عاملا قالوا يا رسول الله كأجر خمسين عاملا منهم قال لا بل كأجر خمسين عاملا منكم وروي عن أبي بكر الصديق أنه قال يا أيها الناس إنكم تتلون هذه الآية على غير تأويلها إنه كان رجال طعموا طعمة الإسلام وذاقوا حلاوته وكانت لهم قرابة من المشركين فأرادوا أن يذيقوهم حلاوة الإيمان وأن يدخلوهم في الإسلام فنزل " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " والذي نفس أبي بكر بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله بعذاب من عنده(1/445)
446
وروي عن أبي العالية أنه قال كانوا عند عبد الله بن مسعود فوقع بين رجلين ما يكون بين الناس حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه فقال بعضهم ألا أقوم فآمرهما بالمعروف فقال بعضهم عليك نفسك إن الله تعالى يقول " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل " يقول لا يضركم ضلالة من ضل " إذا اهتديتم " فقال ابن مسعود مه لم يجئ تأويل هذه الآية بعد فما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإذا اختلفت القلوب والأهواء فعند ذلك جاء تأويلها
وقوله تعالى " لا يضركم من ضل " يقول لا يضركم ضلالة من ضل " إذا اهتديتم " إذا ثبتم على الحق " إلى الله " تعالى " مرجعكم جميعا " يوم القيامة " فينبئكم بما كنتم تعملون " في الدنيا
وقال في رواية الكلبي نزلت في المنذر بن عمرو بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل هجر ليدعوهم إلى الإسلام فأبوا الإسلام فوضع عليهم الجزية فقال " لا يضركم من ضل " من أهل هجر وأقر بالجزية " إذا اهتديتم إلى الله " يعني آمنتم بالله
سورة المائدة 106 - 108
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " " شهادة " رفع بالابتداء وخبره " اثنان " ومعناه شهادتكم فيما بينكم حين الوصية اثنان مسلمان عدلان " إذا حضر أحدكم الموت " وأراد أن يشهد على وصيته وكان مقيما ولم يكن مسافرا فليشهد على وصيته اثنين مسلمين " حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض " يعني إذا كنتم في السفر ولم تقدروا على مسلمين فأشهدوا رجلين من غيركم يعني من غير أهل دينكم وروى مغيرة عن إبراهيم قال إذا كان الرجل في سفر فلم يجد مسلمين ليشهدهما على وصيته فليشهد غير أهل دينه فإن اتهما حبسا من بعد الصلاة ويغلط عليهما في اليمين وإن شهد رجلان من الورثة بأنهما خانا وكذبا صدقا بما قالا وأخذ من الآخرين يعني من الشاهدين ما ادعي عليهما(1/446)
447
وروي عن مجاهد أنه قال إذا مات المؤمن في السفر ولا يحضره إلا كافران أشهدهما على ذلك فإن رضي ورثته مما قدما عليه من تركته فذلك ويحلف الشاهدان أنهما لصادقان فإن ظهر أنهما خانا خلف اثنان من الورثة وأبطلا أيمان الشاهدين
وروي عن شريح أنه قال لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني إلا في السفر ولا تجوز في السفر إلا على الوصية وهكذا قال إبراهيم النخعي وبه قال ابن أبي ليلى واحتجوا بظاهر هذه الآية وقال علماؤنا لا يجوز شهادة الذمي على المسلم في الوصية ولا في غيرها
وروي عن عكرمة أنه قال " أو آخران من غيركم " قال من غير عشيرتكم وكذلك قال الحسن " أو آخران من غيركم " يعني من غير قبيلتكم كلهم من أهل الصلاة قال ألا ترى إلى قوله " تحبسونهما من بعد الصلاة " وقال زيد بن أسلم كان ذلك في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام وذلك كان في أول الإسلام والأرض أرض الحرب والناس كلهم كفار إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة
وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم قال " أو آخران من غيركم " قال هي منسوخة وقال الضحاك نسخت هذه الآية بقوله تعالى " وأشهدوا ذوى عدل منكم " الطلاق 2 ورفع اليمين عن الشهود وأبطل شهادة أهل الذمة إلا بعضهم على بعض ويقال لنزول هذه الآية قصة وذلك أن ثلاثة نفر خرجوا إلى السفر تميم الداري وعدي بن زيد وبديل بن ورقاء مولى العاص بن وائل السهمي وأبي عمرو بن العاص فحضر بديل بن ورقاء الوفاة وكان مسلما وأوصى إلى تميم الداري وإلى عدي بن زيد وكانا نصرانيين وأمرهما أن يسلما أمتعته إلى أهله وكتب أسماء الأمتعة وأدرجه في ثيابه فلما قدما المدينة وسلما المتاع إلى أهله فوجد أهله الكتاب وفيه أسماء الأمتعة وفيه جام فضة لم يسلما إليهم فخاصمهما المطلب بن أبي وداعة وعمرو بن العاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية " أن أنتم ضربتم في الأرض " " فأصابتكم مصيبة الموت " بموت بديل بن ورقاء " تحبسونهما من بعد الصلاة " يعني صلاة العصر أي وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي بين الناس بعد صلاة العصر فحلف الشاهدين فحلفا أنهما لم يكتما شيئا فذلك قوله تعالى " إن أنتم ضربتم في الأرض " يعني سافرتم في الأرض فأصابتكم في السفر مصيبة الموت يعني موت بديل بن ورقاء " تحبسونهما " يعني تقيمونهما " من بعد الصلاة " يعني صلاة العصر عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم " فيقسمان بالله إن ارتبتم " يعني ظننتم بالشاهدين ريبة أو شككتم في أمرهما " لا نشتري به ثمنا " يعني باليمين ثمنا يعني أن الشاهدين يحلفان بالله أنهما لم يشتريا بأيمانهما ثمنا قليلا من عرض الدنيا
" ولو كان ذا قربى " يعني ذا قرابة منا
في الرحم لأن الميت كان بينه وبينهما قرابة " ولا نكتم شهادة الله " إن سئلنا عن ذلك فإن كتمناها يعني الشهادة " إنا إذا لمن الآثمين " يعني الفاجرين(1/447)
448
ثم وجد الجام بعد ذلك في أيديهما يبيعانه في السوق وقالا إنا كنا اشتريناه منه فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل " فإن عثر على أنهما استحقا إثما " يعني خانا وكتما شيئا من المال " فآخران " من أولياء الميت " يقومان مقامهما " يعني مقام النصرانيين " من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله " يعني يحلف أولياء الميت أن المتاع متاع صاحبنا " لشهادتنا أحق من شهادتهما " يعني يمين المسلمين وشهادتهما أحق يعني أولى من شهادة الكافرين " ما اعتدينا " في الشهادة والدعوى " إنا إذا " اعتدينا فحينئذ " لمن الظالمين "
قرأ عاصم في رواية حفص " استحق " بنصب التاء وقرأ الباقون بضم التاء فمن قرأ بالنصب جعل " الذين " نعتا للمدعى عليه ومعناه فآخران من المستحقين الدين يقومان مقامهما ومن قرأ بالضم جعل " الذين " نعتا للمدعى عليهما ومعناه فآخران من المستحقين الدين يقومان مقامهما ومن قرأ بالضم جعل " الذين " نعتا للمدعى عليهما وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر " الأولين " وقرأ الباقون " الأوليان " فمن قرأ الأولين يجعله خفضا لأنه بدل من الذين فكأنه يقول من الأولين الذين استحق عليهم ومن قرأ " الأوليان " صار رفعا على البدل مما في " يقومان " المعنى فليقم " الأوليان " بالميت وقال القتبي " الذين استحق عليهم الأوليان " وهما الوليان يقال هذا الأولى بفلان ثم يحذف من الكلام بفلان فيقال هذا الأولى وهذان الأوليان كما يقال هذا الأكبر وهذان الأكبران و " عليهم " هاهنا بمعنى منهم يعني استحق منهم كما قال الله تعالى " الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون " المطففين 2 يعني من الناس يستوفون
قوله تعالى " ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة " يعني ذلك أحرى وأجدر " أن يأتوا بالشهادة " يعني يقيموا الشهادة " على وجهها " كما كانت يعني يقيموا شهادة المدعي مقام شهادة المدعى عليه إذا ظهرت الخيانة لكي لا يخونا في الشهادة ويأتيا بالشهادة " على وجهها "
ثم قال " أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم " يعني إذا خافا أن ترد اليمين إلى غيرهما امتنعا عن الكذب وقد احتج بعض الناس بهذه الآية بأن اليمين ترد على المدعي ولا حجة له فيه لأن رد اليمين حادثة أخرى وهو ظهور الخيانة منهما لأن دعوى الثاني الكتمان
ثم قال " واتقوا الله " ولا تخونوا " واسمعوا " ما تؤمرون به " والله لا يهدي القوم الفاسقين " يعني الخائنين
سورة المائدة 109
قوله تعالى " يوم يجمع الله الرسل " " يوم " صار نصبا لأن معناه اتقوا " يوم يجمع الله الرسل " " فيقول ماذا أجبتم " يقول ماذا أجابكم قومكم في التوحيد " قالوا لا علم لنا " من(1/448)
449
هول ذلك اليوم ومن شدة المسألة وهي في بعض مواطن يوم القيامة قالوا " إنك أنت علام الغيوب " ما كان وما لم يكن
وروى أسباط عن السدي قال نزلوا منزلا ذهبت فيه العقول فلما سئلوا قالوا لا علم لنا ثم نزلوا منزلا آخر فشهدوا على قومهم ويقال هذا عند زفرة جهنم فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل عند ذلك إلا قال نفسي نفسي فعند ذلك " لا علم لنا " ويقال كان ذلك عند أول البعث ثم يشهدون بعد ذلك بتبليغ الرسالة
سورة المائدة 110
قوله تعالى " إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك " بالنبوة وهذا يكون في الآخرة " وعلى والدتك " يعني النعمة التي أنعم الله عليه في الدنيا قال " إذ أيدتك بروح القدس " يعني اعنتك بجبريل و " تكلم الناس في المهد وكهلا " يعني بعد ثلاثين سنة حين أوحى الله إليه قال الكلبي فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ثم رفعه الله ويقال أوحي إليه وهو ابن ثلاثين سنة ومكث في الرسالة ثلاث سنين ورفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة
قال " وإذ علمتك الكتاب والحكمة " يعني الخط بالقلم " والحكمة " يعني الفقه والفهم " والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها " وقال في موضع آخر " فأنفخ فيه " آل عمران 49 بلفظ التذكير لأنه انصرف إلى الطير وقال هاهنا " فتنفخ فيها " بلفظ التأنيث لأنه انصرف إلى الهيئة المتخذة ويقال " فيها " يعني في الطين " فتكون طيرا بإذني " قرأ نافع " طائرا " بالألف وقرأ الباقون " طيرا "
" وتبرئ الأكمة والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني " يعني تحيي الموتى بإذني يعني أحييته بدعائك وروي عن وهب بن منبه أنه قال التقى عيسى ابن مريم عليه السلام وإبليس على عقبه من عقبات بيت المقدس فقال له إبليس أنت الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تكلم الناس في المهد صبيا وأنك تحيي الموتى وتبرئ الأكمة والأبرص فقال عيسى عليه السلام بل العظمة لله بإذنه أحييت الموتى وهو الذي أنطقني فقال إبليس أنت إله الأرض فقال عيسى عليه السلام بل إله الأرض والسماء واحد فكان في ذلك حتى جاء جبريل وضربه بجناحه وألقاه في لجج البحار(1/449)
450
ثم قال " وإذ كففت بني إسرائيل عنك " إذ هموا بقتلك " إذا جئتهم بالبينات " يعني بالعلامات والعجائب " فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين " يعني سحر ظاهر قرأ حمزة والكسائي " ساحر " بالألف وقرأ الباقون " سحر " فمن قرأ بالألف يعني هذا رجل ساحر ومن قرأ بغير ألف يعني هذا الفعل سحر والاختلاف في أربع مواضع هاهنا وفي سورة يونس وفي سورة هود وفي سورة الصف قرأ حمزة والكسائي في هذا كله بالألف وقرأ أبو عمرو ونافع وابن عامر في هذا كله بغير ألف وقرأ عاصم وابن كثير بغير ألف إلا في سورة يونس
سورة المائدة 111 - 113
قوله تعالى " وإذ أوحيت إلى الحواريين " يعني ألهمتهم وألقيت في قلوبهم ويقال أوحيت إلى عيسى ليبلغ الحواريين " أن آمنوا بي " يعني صدقوا بتوحيدي " وبرسولي " فلما أبلغهم الرسالة " قالوا آمنا " يقول صدقنا بهما " واشهد " يا عيسى " بأننا مسلمون " أي مقرون ويقال هذا معطوف على أول الكلام " إذ قال الله يا عيسى " وقال له أيضا " وإذ أوحيت إلى الحواريين " يعني ألهمتهم وقال مقاتل يقوم عيسى خطيبا يوم القيامة بهذه الآيات ويقوم إبليس خطيبا لأهل النار بقوله " إن الله وعدكم وعد الحق " إبراهيم 22 الآية
قوله تعالى " إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك " قرأ الكسائي بالتاء " هل تستطيع ربك " وبنصب الباء وقرأ الباقون بالياء وبضم الباء فمن قرأ بالتاء " هل تستطيع ربك " معناه هل تستطيع أن تدعو ربك ومن قرأ بالياء معناه هل يجيبك ربك " أن ينزل علينا مائدة من السماء " وذلك أن عيسى كان إذا خرج اتبعه خمسة آلاف أو أقل أو أكثر بعضهم كانوا أصحابه وبعضه كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم لمرض بهم أو علة أو كانوا زمنى أو عميانا وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون وبعضهم نظارة فخرج إلى موضع فوقعوا في مفازة ولم يكن معهم نفقة فجاعوا فقالوا للحواريين قولوا لعيسى حتى يدعو الله بأن ينزل علينا مائدة من السماء فجاءه شمعون فأخبره أن الناس يطلبون بأن تدعو الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء ف " قال " عيسى لشمعون قل لهم " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين "
ويقال هذا القول قاله للحواريين قل لهم " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين " فلا تسألوا(1/450)
451
لأنفسكم البلاء فأخبر شمعون بذلك القوم ف " قالوا " لشمعون قل له " نريد أن نأكل منها " يعني المائدة " وتطمئن قلوبنا " حتى تسكن قلوبنا إلى ما دعوتنا إليه " ونعلم أن قد صدقتنا " بأنك نبي " ونكون عليها من الشاهدين " لمن غاب عنا ولمن بعدنا فقام عيسى وصلى ركعتين
سورة المائدة 114 - 115
ثم قال " قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا " وكان يوم الأحد فصار ذلك اليوم عيدا لهم ويقال " عيدا لنا " يعني حجة علينا " وآخرنا " يعني حجة لمن بعدنا " وآية منك " يعني نزولها علامة منك لنبوتي " وارزقنا " يعني وأعطنا المائدة " وأنت خير الرازقين " من غيرك
فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام " إني منزلها عليكم " ما سألتم من المائدة " فمن يكفر بعد " يعني بعد نزول المائدة " منكم " ويكفر بعيسى عليه السلام بعد أكله من المائدة " فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين " يعني أحدا من الخلق وقال بعضهم هذه كلمة تهديد ولم ينزل عليهم المائدة
وروي في بعض التفاسير أنهم قالوا لعيسى رضينا بما في هذه الآية فقال عيسى عليه السلام لشمعون وكان أكبر الحواريين هل معك شيء من الزاد قال نعم فجاءه بخمسة أرغفة وسمكتين صغيرتين فقطعهما قطعا صغارا ثم قال اجلسوا رفقاء فقعدوا عشرة عشرة فألقى عيسى عليه السلام بين يدي كل رفقة قدر ما يحمله بإصبعيه فجعل الطعام يزيد حتى جاوز ركبهم فشبعوا وفضل خمسة ثم عاد من الغد ففعل مثل ما فعل بالأمس
وروي أن الرغيف والسمكتين نزلت من السماء وهم ينظرون إليها وقيل كانت مائدة من در أو بلور وقيل عليها الفواكه إلا الخبز واللحم وكان الجميع خمسة آلاف وقال عامة المفسرين إن المائدة قد أنزلت عليهم وروي عن سلمان الفارسي أن عيسى عليه السلام قام ولبس جبة من شعر وقام ووضع يمينه على يساره وطأطأ رأسه خاشعا لله تعالى وبكى حتى سالت الدموع على لحيته وصدره وهو يدعو ويتضرع فنزلت مائدة من السماء فوقها منديل والناس ينظرون إليها وعيسى عليه السلام ينظر ويبكي ويقول اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة حتى استقرت المائدة بين يدي عيسى والناس حوله قال عيسى عليه(1/451)
452
السلام بسم الله وكشف المنديل للناس فإذا فيه سمكة مشوية لا شوك فيها والودك يسيل منها والخل عند رأسها والملح عند ذنبها وعليها أربعة أرغفة وعليها ألوان البقول إلا الكراث فقال كلوا من رزق ربكم فأكل منها ألف رجل ويقال خمسة آلاف رجل ورجعت المائدة كما كانت وقال بعضهم نزلت يوما واحدا ولم تنزل أكثر من ذلك وقال بعضهم ثلاثة أيام وقال بعضهم سبعة أيام وقال بعضهم أكثر من ذلك فلما رجعوا عن ذلك الموضع شكوا فيه وكفروا فمسخهم الله خنازير
وروي عن ابن عمر أنه قال أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون
وروي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال نزلت المائدة وفيها خبز وسمكة وعن عطية العوفي قال كانت سمكة فيها طعم كل شيء
سورة المائدة 116 - 118
قوله تعالى " وإذا قال الله يا عيسى ابن مريم " يعني يوم القيامة " أأنت قلت للناس اتخذوني " روى أسباط عن السدي قال لما رفع عيسى وقالت النصارى ما قالت وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك سأله الحق جل وعلى عن قولهم وقال الضحاك يدعى بعيسى يوم القيامة ويدعى بالنصارى فيقفهم ويسأله ليفضحهم على رؤوس الناس وقال الزجاج هو سؤال التوبيخ للذين ادعوا عليه لأنهم مجمعون أنه صادق وأنه لا يكذبهم الصادق عنده وذلك أوكد في الحجة عليهم وأبلغ في التوبيخ والتوبيخ ضرب من العقوبة ويقال إن الله تعالى لما قال لعيسى " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " أخذته الرعدة من هيبة الله تعالى ومن هيبه ذلك القول حتى سمع صوتا عظيما في نفسه " قال سبحانك " فنزه الرب عن ذلك أن يكون أمرهم بذلك فقال " ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق " يقول ما ينبغي وما يجوز لي أن أقول ما ليس لي بحق يعني ليس بعدل أن يعبدوا غيرك " إن كنت قلته " يعني إن قلت لهم ذلك القول " فقد علمته " فإنك " تعلم ما في نفسي " يعني ما كان مني في الدنيا " ولا أعلم ما في نفسك " يعني ولا أطلع على غيبك وما كان منك
وقال أهل اللغة نفس الشيء جملة الشيء وحقيقته وذاته فمعناه تعلم ما في(1/452)
453
ضميري ولا أعلم ما في حقيقتك وغيبك " إنك أنت علام الغيوب " ما كان وما يكون وقيل " تعلم ما في نفسي " التي نسبت إلي وأمرتني بالتسليم إليك " ولا أعلم ما في نفسك " التي سلمت إليك فأنت مالكها بجميع ما كان وما يكون منها و " أنت علام الغيوب " قبل كونها وكون فعلها قرأ حمزة " الغيوب " بكسر الغين والباقون بضم الغين ومعناهما واحد وقرأ نافع وعاصم وابن عامر " إني منزلها " بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف وهما لغتان نزل وأنزل بمعنى واحد
ثم قال " ما قلت لهم إلا ما أمرتني به " يعني في الدنيا بالتوحيد " أن اعبدوا الله " يعني وحدوا الله واطيعوه " ربي وربكم " يعني خالقي وخالقكم " وكنت عليهم شهيدا " يعني على بني إسرائيل أني بلغتهم الرسالة ويقال " شهيدا " يعني حفيظا بما أمرتهم " ما دمت فيهم " يعني ما دمت مقيما في الدنيا بين أظهرهم " فلما توفيتني " يعني رفعتني إلى السماء " كنت الرقيب عليهم " يعني الحفيظ والشاهد عليهم " وأنت على كل شيء شهيد " من مقالتي ومقالتهم وما أدري ما أحدثوا بعدي " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " قرأ ابن مسعود " فإنك أنت الغفور الرحيم " وقرأ غيره " العزيز الحكيم " فإن قيل كيف سأل المغفرة للكفار قيل له لأن عيسى علم أن بعضهم قد تاب ورجع عن ذلك فقال " إن تعذبهم " يعني الذين ماتوا على الكفر فإنهم عبادك وأنت القادر عليهم " وإن تغفر لهم " يعني الذين أسلموا ورجعوا عن ذلك وقال بعضهم احتمل أنه لم يكن في كتابه " إن الله لا يغفر أن يشرك به " النساء116 فلهذا المعنى دعا لهم ولكن التأويل الأول أحسن ويقال " إن تغفر لهم " يعني لكذبهم الذي قالوا به علي خاصة لا لشركهم وهذا التأويل ليس بسديد والأول أحسن وروي عن أبي ذر الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ هذه الآية ذات ليلة فرددها حتى أصبح " إن تعذبهم فإنهم عبادك إن تغفر لهم " فإنهم عبادك وقال بعضهم في الآية تقديم وتأخير ومعناه " إن تعذبهم " " فإنك أنت العزيز الحكيم " " وإن تغفر لهم " " فإنهم عبادك "
سورة المائدة 119 - 120
قوله تعالى " قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم " قرأ نافع " هذا يوم " بالنصب وقرأ الباقون بالرفع فمن قرأ بالنصب فعلى الظرف أي قال الله تعالى هذا لعيسى في يوم(1/453)
454
ينفع الصادقين صدقهم ومن قرأ بالرفع فعلى معنى خبر هذا يعني هذا يوم ينفع الموحدين توحيدهم ويقال ينفع النبيين صدقهم بتبليغ الرسالة ويقال ينفع المؤمنين إيمانهم " لهم جنات تجري من تحتها الأنهار " يعني ثوابهم جنات تجري من تحتها الأنهار " خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم " بالطاعة " ورضوا عنه " بالثواب " ذلك الفوز العظيم " يعني المؤمنين فازوا بالجنة
قوله تعالى " لله ملك السموات والأرض " يعني خزائن السموات والأرض " وما فيهن " من الخلق كلهم عبيده وإماؤه " وهو على كل شيء قدير " يعني من خلق عيسى من غير بشر والله أعلم بالصواب صلى الله عليه وسلم(1/454)
455
سورة الأنعام
مكية إلا ثلاث آيات مدنية وهي مائة وخمس وستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قال مقاتل سورة الأنعام كلها مكية غير قوله " وما قدروا الله حق قدره " الآية وقال ابن عباس في رواية أبي صالح سورة الأنعام كلها مكية غير ست آيات " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " إلى آخر الآيات الثلاث وقوله " ما قدروا الله حق " . . . وقوله " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا " وقيل نزلت جملة واحدة وشيعها سبعون ألف ملك قال شهر بن حوشب نزلت الأنعام جملة واحدة وهي مكية غير آيتين " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " وقال بعضهم كلها مكية وقال كعب الأحبار مفتاح التوراة قوله تعالى " الحمد لله الذي خلق السموات والأرض " وخاتمتها خاتمة سورة هود " ولله غيب السموات والأرض " سورة هود 123
سورة الأنعام 1 - 3
قوله تعالى " الحمد لله " حمد الرب نفسه ودل بصنعه على توحيده " الذي خلق السموات والأرض " يعني خلق السموات وما فيها من الشمس والقمر والنجوم وخلق الأرض وما فيها " وجعل الظلمات والنور " يعني خلق الليل والنهار ويقال الكفر والإسلام وقال الضحاك هذه الآية نزلت في شأن المجوس قالوا الله خالق النور والشيطان خالق الظلمة فأنزل الله تعالى إكذابا لقولهم وردا عليهم فقال " وجعل الظلمات والنور " يعني أن الله واحد لا شريك له وهو الذي خلق السموات والأرض وهو الذي خلق الظلمات والنور " ثم الذين كفروا " يعني المجوس " بربهم يعدلون " يعني يشركون ويقال " ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " يعني مشركي مكة " بربهم يعدلون " يعني يعبدون الأصنام
ثم قال " هو الذي خلقكم من طين " يعني آدم وأنتم من ذريته ونسله " ثم قضى أجلا " يعني أجل ابن آدم منذ يوم ولد إلى يوم يموت " وأجل مسمى عنده " يعني البرزخ(1/455)
456
منذ يموت إلى يوم البعث فهو مكتوب في اللوح المحفوظ فهذا قول مقاتل والحسن وقال عكرمة " أجلا " يعني أجل الدنيا " وأجل مسمى " يعني أجل الآخرة وهكذا قال سعيد بن جبير ويقال " أجلا " يعني أجل واحد " وأجل مسمى " يعني يوم القيامة " ثم أنتم تمترون " يعني تشكون في البعث بعد الموت وفي الأجل المسمى
ثم قال " وهو الله في السموات وفي الأرض " يعني هو المتفرد بالتدبير في السموات " وفي الأرض " وهذا كقوله " وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله " الزخرف 84 يعني وهو خالق السموات والأرض ويقال هو الذي يوحد ويقر بوحدانيته أهل السموات والأرض ويقال عالم بما في السموات وبما في الأرض " يعلم سركم " يعني يعلم سر أعمالكم " وجهركم " يعني علانيتكم " ويعلم ما تكسبون " من الخير والشر فيجازيكم بذلك
سورة الأنعام 4 - 6
ثم أخبر عن أمر المشركين فقال " وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين " ولم يتفكروا فيها ليعتبروا في توحيد الله تعالى وذلك أن مشركي مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم علامة وقالوا إنا نريد أن تدعو لينشق القمر نصفين لنؤمن بك وبربك ونصدقك فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانشق القمر نصفين وذهب أحد النصفين إلى جانب حراء والآخر إلى جانب آخر وهم ينظرون إليه وقال ابن مسعود أنا رأيت حراء بين فلقتي القمر فأعرضوا عنه فلم يؤمنوا وقالوا هذا سحر مبين فنزلت " اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا ءاية يعرضوا " القمر 1 - 2 ونزلت هذه الآية " وما تأتيهم من آية من آيات ربهم " يعني انشقاق القمر " إلا كانوا عنها معرضين "
يقول الله تعالى " فقد كذبوا بالحق لما جاءهم " يعني بالقرآن حين جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم واستهزؤوا بالقرآن بأنه ليس من الله تعالى " فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون " يعني سيعلمون جزاء تكذيبهم واستهزائهم بالقرآن بأنه ليس من الله تعالى ويقال يأتيهم أخبار " ما كانوا به يستهزئون " من العذاب حين رأوها معاينة فهذا وعيد لهم أنه يصل إليهم العذاب إما في الدنيا وإما في الآخرة
ثم وعظهم ليخافوا ويرجعوا فقال " ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن " يعني من قبل كفار مكة " مكناهم في الأرض " يعني مكناهم وأعطيناهم من المال والولد " ما لم نمكن(1/456)
457
لكم ) يا أهل مكة " وأرسلنا السماء عليهم مدرارا " يعني أرسلنا المطر متتابعا كلما احتاجوا إليه " وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم " يعني عذبناهم " بذنوبهم " وبتكذيبهم رسلهم " وأنشأنا من بعدهم " يعني وجعلنا من بعد هلاكهم " قرنا آخرين " قال الزجاج القرن أهل كل مدة فيها نبي أو فيها طبقة من أهل العلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم خير القرون أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
سورة الأنعام 7 - 10
ثم قال تعالى " ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس " ذلك أن النضر بن الحارث وعبد الله بن أمية وغيرهما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتابا من السماء قال تعالى " ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس " يقول مكتوبا في صحيفة " فلمسوه بأيديهم " يقول عاينوه وأخذوه بأيديهم ما يصدقونه " لقال الذين كفروا " أي يقول الذين كفروا " إن هذا إلا سحر مبين " ولا يؤمنون به
ثم قال " وقالوا لولا أنزل عليه ملك " من السماء فيكون معه نذيرا قال الله تعالى " ولو أنزلنا ملكا " يعني من السماء " لقضي الأمر " يعني لهلكوا إذا عاينوا الملك ولم يؤمنوا ولم يصدقوا لنزل العذاب بهم " ثم لا ينظرون " يعني لا ينتظر بهم حتى يعذبوا ويقال لو نزل الملك لنزل بإهلاكهم ويقال لو أنزلنا ملكا لا يستطيعون النظر إليه فيموتون
ثم قال " ولو جعلناه ملكا " يعني لو أنزلنا ملكا بالنبوة " لجعلناه رجلا " يعني لأنزلناه على شبه رجل على صورة آدمي ألا ترى أنهم حين جاؤوا إلى إبراهيم عليه السلام جاؤوا على صورة الضيفان وعلى داود عليه السلام مثل الخصمين وكان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم على صورة دحية الكلبي
ثم قال تعالى " وللبسنا عليهم ما يلبسون " يعني لو نزل الملك على أشباه الآدميين لا يزول عنهم الاشتباه والتلبس وروى بعضهم عن ابن عامر أنه قرأ " ما يلبسون " بنصب الباء يعني جعلنا عليه من الثياب ما يلبسونه على أنفسهم ظنوا أنه آدمي والقراءة المعروفة بالكسر يقال لبس يلبس إذا لبس الثوب ولبس يلبس إذا خلط الأمر وقال القتبي " وللبسنا " يعني أظللناهم بما ضلوا به من قبل أن يبعث الملك
ثم قال تعالى " ولقد استهزئ برسل من قبلك " يا محمد كما استهزأ بك قومك في أمر(1/457)
458
العذاب " فحاق بالذين " يقول وجب ونزل بالذين " سخروا منهم ما كونوا به يستهزئون " بالرسل ويقال " فحاق " أي فرجع وقال أهل اللغة الحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعلته نفسه كقوله تعالى " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " فاطر 43 وقال الضحاك كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا في المسجد الحرام مع المستضعفين من المؤمنين بلال بن رباح وصهيب بن سنان وعمار بن ياسر وغيرهم من المسلمين فمر بهم أبو جهل بن هشام في ملأ من قريش وقال يزعم محمد أن هؤلاء ملوك أهل الجنة فأنزل الله تعالى على رسوله هذه الآية ليثبت بها فؤاده ويصبره على أذاهم فقال " ولقد استهزئ برسل من قبلك " يعني إن سخر أهل مكة من أصحابك فقد فعل ذلك الجهلة برسلهم فجعل الله تعالى دائرة السوء على أهل ذلك الاستهزاء
سورة الأنعام 11 - 12
ثم أمر المشركين بأن يعتبروا بمن قبلهم وينظروا إلى آثارهم في الأرض فقال تعالى " قل سيروا في الأرض " أي قل لأهل مكة سافروا في الأرض " ثم انظروا " يعني اعتبروا " كيف كان عاقبة " يعني آخر أمر " المكذبين " بالرسل والكتب وقال الحسن " سيروا في الأرض " يعني اقرؤوا القرآن فانظروا كيف كان عاقبة المتقدمين في العذاب فقال أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم إن فعلت هذا الفعل لطلب المال فاترك هذا الفعل فإنا نجمع لك مالا تصير به أغنى أهل مكة فنزل " قل لمن ما في السموات والأرض " فإن أجابوك وإلا ف " قل لله " يعني ما في السموات وما في الأرض كلها الله تعالى يعطي منها من يشاء من عباده
ثم قال " كتب على نفسه الرحمة " فلا يعذبكم في الدنيا وروى عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن لله مائة رحمة أنزل منها واحدة فقسمها بين الخلق فبها يتراحمون وبها تعطف الوحوش على أولادها وادخر لنفسه تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة
ثم قال " ليجمعنكم إلى يوم القيامة " يعني ليجمعنكم يوم القيامة وهذا كما يقال جمعت هؤلاء إلى هؤلاء أي ضممت بينهم في الجمع " لا ريب فيه " يعني في البعث أنه كائن
ثم نعتهم فقال " الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون " وقال بعضهم هذا ابتداء وخبره " لا يؤمنون " وقال بعضهم هذا بدل من قوله " ليجمعنكم "(1/458)
459
سورة الأنعام 13 - 16
ثم عظم نفسه فقال " وله ما سكن " يعني ما استقر " في الليل والنهار " من الدواب والطير في البحر والبر فمنها ما يستقر بالليل وينتشر بالنهار ومنها ما يستقر بالنهار وينتشر الليل
ثم قال " وهو السميع العليم " يعني " السميع " لمقالتهم " العليم " بعقوبتهم
ثم قال " قل أغير الله أتخذ وليا " يعني ربا وذلك أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن آباءك كانوا على مذهبنا وديننا وإنما تركت أنت مذهبهم ودينهم للحاجة فارجع إلى مذهب آبائك حتى نعينك بالمال فنزل " قل أغير الله أتخذ وليا " يعني أعبد ربا " فاطر السموات والأرض " يعني خالق السموات والأرض ويقال مبتدئهما ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه على ابتداء الخلقة وهو الإقرار بالله حين أخذ عليهم العهد في أصلاب آباءهم وإنما صار " فاطر " كسرا لأنه من صفة الله تعالى يعني أغير الله فاطر السموات والأرض وقال الزجاج يجوز الضم على معنى هو فاطر السموات والأرض ويجوز النصب على معنى اذكروا فاطر السموات إلا أن الاختيار الكسر
ثم قال " وهو يطعم ولا يطعم " يعني يرزق الخلق ولا يرزق ويقال هو يرزق ولا يعان على رزق الخلق وقرأ بعضهم " يطعهم ولا يطعم " بنصب الياء يعني يرزق ولا يأكل
ثم قال " قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم " من أهل مكة يعني أول من أسلم من أهل مكة واستقام على التوحيد " ولا تكونن من المشركين " يعني قال لي ربي لا تكونن من المشركين بقولهم ارجع إلى دين آبائك
قوله تعالى " قل إني أخاف إن عصيت ربي " يعني إني أعلم إن عصيت ربي فرجعت إلى دين آبائي وعبدت غيره " عذاب يوم عظيم " يعني عذابا شديدا في يوم القيامة
" من يصرف عنه " سوء العذاب " يومئذ فقد رحمه " يعني غفر له وعصمه قرأ ابن كثير ونافع وأبو عامر وعاصم في رواية حفص " من يصرف عنه " بضم الياء ونصب الراء على معنى(1/459)
460
فعل ما لم يسم فاعله وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " من يصرف " بنصب الياء ومعناه من يصرف الله عنه ولأنه سبق ذكره قوله " ربي " فانصرف إليه
ثم قال " وذلك الفوز المبين " يعني صرف العذاب هو النجاة الوافرة وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال سددوا وقاربوا وأبشروا واعلموا أنه لا ينجو أحد بعمله قالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أنت قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته يعني أن الخلق كلهم ينجون برحمة الله تعالى
سورة الأنعام 17 - 19
ثم خوفه ليتمسك بدينه فقال تعالى " وإن يمسسك الله بضر " يعني إن يصبك الله بشده أو بلاء " فلا كاشف له إلا هو " يعني لا يقدر أحد من الآلهة التي يدعونها ولا غيرها كشف الضر إلا الله " وإن يمسسك بخير " يقول وإن يصبك بسعة أو صحة الجسم فإنه لا يقدر أحد على دفع ذلك " فهو على كل شيء قدير " من الغنى والفقر والعافية
ثم قال " وهو القاهر فوق عباده " يقول الغالب والعالي عليهم ويقال القادر والمالك عليهم " وهو الحكيم " في أمره " الخبير " بأفعال الخلق
ثم قال " قل أي شيء أكبر شهادة " وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد أما وجد الله رسولا غيرك وما نرى أحدا من أهل الكتاب يصدقك بما تقول فأرنا من يشهد لك أنك رسول فقال الله تعالى " قل " لأهل مكة " أي شيء أكبر شهادة " يعني حجة وبرهانا ويقال من أكبر شهادة فإن أجابوك وإلا ف " قل الله شهيد بيني وبينكم " بأني رسول الله والشهيد في اللغة هو المبين وإنما سمى الشاهد شاهدا لأنه يبين دعوى المدعي بأمر الله نبيه عليه السلام بأن يحتج عليهم بالله الواحد القهار الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور وخلقهم أطوارا
ثم قال " وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به " يعني لأخوفكم بالقرآن يا أهل مكة " ومن بلغ " يعني ومن بلغه القرآن سواكم فأنا نذير وبشير من بلغه القرآن من الجن والإنس قال قتادة قال النبي صلى الله عليه وسلم بلغوا عني ولو آية من كتاب الله تعالى فمن بلغه فكأنما عاين النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه وقال كعب بن محمد القرظي من بلغه القرآن فكأنما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قرأ(1/460)
461
" لأنذركم به ومن بلغ " وقال مجاهد " لأنذركم به " يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم " من بلغ " يعني من العجم وغيرهم
ثم قال " أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى " من الأصنام فإن قالوا نعم " قل لا اشهد " بما شهدتم ولكن " قل " أشهد " إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون " من الأصنام والأوثان
سورة الأنعام 20 - 23
قوله تعالى " الذين آتيناهم الكتاب " يعني التوراة والإنجيل " يعرفونه " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته " كما يعرفون أبناءهم " وقال عبد الله بن سلام أنا أعرف بالنبي صلى الله عليه وسلم مني ولا بني لأني أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أشهد لابني لأني لا أدري ما أحدث النساء بعدي
ثم قال " الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون " يعني كعب بن الأشرف ومن تابعه ممن طلبوا الرئاسة وآثروا الدنيا على الآخرة
قوله تعالى " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا " يعني ممن ختلق على الله كذبا باتخاذ الآلهة وقولهم الشرك " أو كذب بآياته " يعني بالقرآن أنه ليس من عند الله " إنه لا يفلح الظالمون " يعني أنه لا يأمن الكافرون من عذابه قال في اللغة " إنه " مرة تكون للإشارة مثل قوله " إنه هو الغفور الرحيم " يوسف 98ومرة تكون للعماد مثل قوله " إنه لا يفلح الكفرون " المؤمنون 117 " وإنه لا يفلح الظالمون "
قوله تعالى " ويوم نحشرهم جميعا " يوم القيامة " ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون " يعني أين آلهتكم التي تزعمون يعني تعبدون من دون الله " ثم لم تكن فتنتهم " وأصل الفتنة في اللغة هو الاختبار ويقال فتنت الذهب في النار إذا أدخلته فيها لتعلم جودته وإنما سمي جوابهم فتنة لأنهم حين سئلوا اختبروا بما عندهم بالسؤال فلم يكن الجواب من ذلك الاختبار فتنة إلا هذا القول ويقال ثم لم تكن معذرتهم وجوابهم " إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين " قال مجاهد إن المشركين لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر ذنوبهم يقول بعضهم لبعض يا ويلكم جئتم بما لا يغفر الله لكم هلموا الآن فلنكذب على أنفسنا ونحلف على ذلك فحلفوا فحينئذ ختم على أفواههم فتشهد أيديهم وأرجلهم عليهم(1/461)
462
قرأ ابن عامر وابن كثير وعاصم في رواية حفص " ثم لم تكن فتنتهم " بالتاء لأن الفتنة مؤنث و " فتنتهم " بضم التاء لأنه اسم تكن والخبر " إلا إن قالوا " وقرأ حمزة والكسائي " ثم لم يكن " بالياء لأن الفتنة مؤنثة إلا إن تأنيثه ليس بحقيقي ولأن الفتنة بمعنى الإفتان فانصرف إلى المعنى " فتنتهم " بالنصب فجعلاه خبر تكن والاسم ما بعده وقرأ أبو عمرو ونافع وعاصم في رواية أبي بكر " ثم لم تكن " بالتاء والنصب وقرأ حمزة والكسائي " والله ربنا " بنصب الباء ومعناه يا ربنا وقرأ الباقون " والله ربنا " بكسر الباء على معنى النعت
سورة الأنعام 24 - 26
قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم " انظر كيف كذبوا على أنفسهم " يعني كيف صار وبال تكذيبهم على أنفسهم ويقال يقول الله تعالى للملائكة " انظروا كيف كذبوا على أنفسهم " يعني انظروا إليهم كيف يكذبون على أنفسهم " وضل عنهم " يعني ذهب عنهم ويقال اشتغل عنهم الآلهة بأنفسها " ما كانوا يفترون " على الله من الكذب في الدنيا
قوله تعالى " ومنهم من يستمع إليك " يعني إلى حديثك وقراءتك " وجعلنا على قلوبهم أكنة " يعني يستمعون ولا ينفعهم ذلك " وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه " يعني غطاء مجازاة لكفرهم " وفي آذانهم وقرا " يعني صمما وثقلا لا يفقهون حديثك وقال قتادة يسمعونه بآذانهم ولا يفهمون منه شيئا كمثل البهيمة التي تسمع القول ولا تدري ما هو
ثم قال " وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها " يعني انشقاق القمر وغيره " حتى إذا جاؤوك يجادلونك " يعني يخاصمونك بالباطل وينكرون أن القرآن من الله تعالى " يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين " وذلك أن النضر بن الحارث كان يخبر أهل مكة بسير المتقدمين وبأخبارهم فقالوا له ما ترى فيما يقول محمد صلى الله عليه وسلم قال لا أفهم مما يقول شيئا ولا أدري أنه من أساطير الأولين الذي أخبركم به مثل حديث رستم واسفنديار وقال القتبي " أساطير الأولين " واحدها أسطورة واسطارة ومعناها الأباطيل والترهات والبسابس وهي شيء لا نظام له وليس بشيء وفي هذا دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا يتكلمون فيما بينهم بالسر فيظهر الله أسرارهم للنبي صلى الله عليه وسلم
قوله تعالى " وهم ينهون عنه وينأون عنه " يعني أهل مكة ينهون الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم أن يتبعوه ويتباعدون عنه ويقال نزل في شأن أبي طالب كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم إن قريشا لن(1/462)
463
يصلوا إليك حتى أوسد في التراب فامض يا ابن أخي فما عليك غضاضة يعني ذلا وكان لا يسلم لأجل المقالة " وهم ينهون عنه " يعني أن أبا طالب ينهي قريشا عن إيذائه وينأى عنه أي يتباعد عن دينه وهذا قول الكلبي والضحاك ومقاتل والقول الأول أيضا قول الكلبي
ثم قال " وإن يهلكون إلا أنفسهم " يعني وما يهلكون إلا أنفسهم " وما يشعرون " بذلك
سورة الأنعام 27 - 28
قوله تعالى " ولو ترى إذ وقفوا على النار " قال الكلبي يعني حبسوا على النار وقال مقاتل يعني عرضوا على النار وقال الضحاك يعني جمعوا على أبوابها ويقال وقفوا على متن جهنم والنار تحتهم وروي في الخبر أن الناس كلهم وقفوا على متن جهنم وجهنم كأنها متن إهالة ثم ينادي مناد خذي أصحابك ودعي أصحابي
ثم قال " فقالوا يا ليتنا نرد " يعني إلى الدنيا ولم يذكر في الآية الجواب لأن في الكلام ما دل عليه فكأنه يقول ولو ترى يا محمد كفار قريش حين وقفوا على النار لعجبت من ذلك فقالوا " يا ليتنا نرد إلى الدنيا " " ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين " أي مصدقين قرأ حمزة وابن عامر وعاصم في رواية حفص " ولا نكذب " " ونكون " كلاهما بالنصب وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وعاصم في رواية أبي بكر " ولا نكذب " " ونكون " كلاهما بالضم على معنى الخبر ومن قرأ بالنصب فلأنه جواب التمني وجواب التمني إذا كان بالواو أو بالفاء يكون بالنصب كقولك ليتك تصير إلينا ونكرمك وقرأ بعضهم " ولا نكذب " بالضم و " نكون " بالنصب في رواية هشام بن عمار عن ابن عامر وقرأ عبد الله بن مسعود " فلا نكذب " بالفاء
يقول الله عز وجل " بل بدا لهم " يعني ظهر لهم " ما كانوا يخفون من قبل " بألسنتهم لأن الجوارح تشهد عليهم بالشرك فحينئذ يتمنون الرجعة
يقول الله تعالى " ولو ردوا " إلى الدنيا " لعادوا لما نهو عنه " يعني رجعوا إلى كفرهم " وإنهم لكاذبون " في قولهم " ولا نكذب بآيات ربنا " لأنهم قد علموا في الدنيا وعاينوه وقد عاين إبليس وشاهد ومع ذلك قد كفر وكذلك هاهنا لو رجعوا لكفروا كما كفروا من قبل لأنك ترى في الدنيا إنسانا أصابه مرض أو حبس في السجن أخلص بالتوبة لله تعالى أن لا يرجع إلى الفسق فإذا برأ من مرضه أو أطلق من الحبس رجع إلى الحال الأول
سورة الأنعام 29 -(1/463)
464
31
قوله تعالى " وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا " يعني ما هي إلا آجالنا تنقضي في الدنيا فيموت الآباء ويجيء الأبناء " وما نحن بمبعوثين " بعد الموت فيبين الله تعالى حالهم يومئذ فقال " ولو ترى إذ وقفوا " يعني عرضوا وسيقوا وحبسوا " على ربهم " يعني عند ربهم وعند عذاب ربهم " قال أليس هذا " يعني أليس هذا العذاب والبعث " بالحق قالوا بلى وربنا " أقروا في وقت لا ينفعهم الإقرار " قال فذوقوا العذاب " يعني يقول لهم الخزنة " فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " به وتجحدون
قوله تعالى " قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله " يعني غبن الذين جحدوا بالله وبالبعث حين اختاروا العقوبة على الثواب " حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة " يعني فجأة ومعناه أنهم جحدوا وثبتوا على جحودهم حتى إذا جاءتهم القيامة " قالوا يا حسرتنا " يعني يا ندامتنا وخزينا والعرب إذا اجتهدت في المبالغة في الإخبار عن أمر عظيم تقع فيه جعلته نداء كقوله " يا حسرتنا " و " يويلتنا " الكهف 49 ويا ندامتنا " على ما فرطنا " يعني ضيعنا وتركنا العمل " فيها " يعني الدنيا من عمل الآخرة " وهم يحملون أوزارهم " يعني آثامهم " على ظهورهم " يعني إنهم يحملون آثامهم
وروى أسباط عن السدي قال ليس من رجل ظالم يدخل قبره إلا آتاه ملك قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح عليه ثياب دنسة فإذا رآه قال ما أقبح وجهك فيقول كذلك كان عملك قبيحا فيقول ما أنتن ريحك فيقول كذلك كان عملك منتنا فيقول من أنت فيقول أنا عملك فيكون معه في قبره فإذا بعث يوم القيامة قال له إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات فأنت اليوم تحملني فيركب على ظهره حتى يدخله النار قال وذلك قوله " وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم " وذلك على سبيل المجاز يعني يعملون وبال ذلك على ظهورهم وعقوبته ويقال أوقرت ظهورهم من الآثام أي ثقلت وحملت وأصل الوزر في اللغة هو الثقل ثم قال تعالى " ألا ساء ما يزرون " يعني بئس ما يزرونه يعني يحملونه
سورة الأنعام 32
قوله تعالى " وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو " يعني لعب كلعب الصبيان يبنون بنيانهم ثم يهدمونه ويلعبون ويلهون به ويبنون ما لا يسكنون ويأملون ما لا يدركون(1/464)
465
ثم قال " وللدار الآخرة " يعني الجنة " خير للذين يتقون " الشرك والفواحش " أفلا تعقلون " أي أن الآخرة أفضل من الدنيا قرأ ابن عامر " ولدار الآخرة " بلام واحدة بالتخفيف وبكسر الآخرة على معنى الإضافة وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص " أفلا تعقلون " بالتاء على معنى المخاطبة والباقون بالياء على معنى المغايبة
سورة الأنعام 33 - 35
قوله تعالى " قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون " روى سفيان عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم ما نتهمك ولكن نتهم الذي جئت به فنزلت هذه الآية وروى أبو معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو حزين فقال ما يحزنك قال كذبني هؤلاء فقال إنهم لا يكذبونك بل يعلمون أنك صادق فنزلت هذه الآية " قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون " من تكذيبهم إياك في العلانية " فإنهم لا يكذبونك " في السر ويعلمون أنك صادق وكانوا يسمونه أمينا قبل أن يوحى إليه فلما أوحى إليه كذبوه فقال " ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " وهم يعلمون أنك صادق والجحد يكون ممن علم الشيء ثم جحده كقوله تعالى " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم " النمل 14 قرأ نافع والكسائي " فإنهم لا يكذبونك " بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد فمن قرأ بالتخفيف فمعناه أنهم لا يجدونك كاذبا ومن قرأ بالتشديد فمعناه أنهم لا ينسبونك إلى الكذب ولا يكذبوك في السر وقرأ نافع " يحزنك " برفع الياء وكسر الزاي وقرأ الباقون " ليحزنك " بالنصب ومعناهما واحد
ثم عزاه ليصبر على أذاهم فقال تعالى " ولقد كذبت رسل من قبلك " يعني أن قومهم كذبوهم كما كذبك قريش " فصبروا على ما كذبوا وأوذوا " يعني صبروا على تكذيبهم وأذاهم " حتى أتاهم نصرنا " يعني عذابنا لهلاكهم " ولا مبدل لكلمات الله " يعني لا مغير لوعد الله فهذا وعد من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بالنصرة كما نصر النبيين من قبله
ثم قال " ولقد جاءك من نبأ المرسلين " يعني من خبر المرسلين كيف أنجيت المرسلين وكيف أهلكت قومهم فلما وعد الله تعالى النصرة للنبي صلى الله عليه وسلم تعجل أصحابه لذلك فأرادوا أن يعجل بهلاك الكفار فنزل " وإن كان كبر عليك إعراضهم " خاطب النبي صلى الله عليه وسلم وأراد(1/465)
466
به قومه فقال إن عظم عليك إعراضهم عن الإيمان ولا تصبر على تكذيبهم إياك " فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض " يعني إن قدرت أن تطلب سربا في الأرض والنافقاء إحدى جحر اليربوع " أو سلما في السماء " يعني مصعدا إلى السماء " فتأتيهم بآية " فافعل ذلك وجه الإضمار وهذا كما قال في آية أخرى " من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والأخرة فليمدد بسبب إلى السماء " الحج 15 الآية
وروى محمد بن المنكدر أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله أمر السماء أن تطيعك وأمر الأرض أن تطيعك وأمر الجبال أن تطيعك فإن أحببت أن ينزل عذابا عليهم قال يا جبريل أوخر عن أمتي لعل الله يتوب عليهم
ثم قال تعالى " ولو شاء لجمعهم على الهدى " يعني لهداهم إلى الإيمان ويقال ولو شاء الله لاضطرهم إلى الهدى كما قال في آية أخرى " إن نشأ ننزل عليهم من السماء أية فظلت أعناقهم لها خاضعين " الشعراء 4 ومعناه ولو شاء الله لجمعهم على الهدى قهرا وجبرا ولكن ما فعل وكلفهم وتركهم باختيارهم
ثم قال " فلا تكونن من الجاهلين " يعني بأنه لو شاء لهداهم وقال الضحاك يعني القدر خيره وشره من الله تعالى فلا تجعل معرفة ذلك بعد البيان وقيل " فلا تكونن من الجاهلين " بأنه يؤمن بك البعض وإن لم يؤمن بك البعض وإنما يؤمن بك الذي وفقه الله تعالى للهدى وهو أهل لذلك
سورة الأنعام 36 - 37
ثم قال تعالى " إنما يستجيب الذين يسمعون " يعني يطيعك ويصدقك الذين يسمعون منك كلام الهدى والمواعظ قال الزجاج يعني يسمع سماع قابل فالذي لا يقبل كأنه أصم كما قال القائل أصم عما سواه سميع ويقال " فلا تكونن من الجاهلين " بأنه يؤمن بك بعضهم ولن يؤمن بك البعض وإنما يؤمن بك الذي وفقه الله للهدى وهو أهل لذلك وقال " إنما يستجيب الذين يسمعون " يعني يعقلون الموعظة
ثم قال " والموتى يبعثهم الله " يعني كفار مكة سماهم الله موتى لأنه لا منفعة لهم في حياتهم " يبعثهم الله " يعني يحييهم بعد الموت " ثم إليه يرجعون " يعني الكفار في الآخرة فينبئهم بأفعالهم فهذا تهديد لهم
قوله تعالى " وقالوا لولا نزل عليه " يعني أن الكفار قالوا هلا نزل عليه " آية من ربه " يعني علامة لنبوته " قل إن الله قادر على أن ينزل آية " كما سألوك " ولكن أكثرهم لا يعلمون "(1/466)
467
بأن الله قادر على أن ينزلها ويقال قادر على أن ينزلها ويقال " لا يعلمون " ما في نزول الآية لأنه لو نزلت الآية عليهم فلم يؤمنوا بها لاستوجبوا العذاب
سورة الأنعام 38
قوله تعالى " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه " فذكر الجناحين للتأكيد لأنه يقال طار في الأمر إذا أسرع فيه فإذا ذكر الجناحين صار تأكيدا له وقرأ بعضهم " ولا طائر " بالضم لأن معناه وما دابة في الأرض ولا طائر لأن " من " زيادة فيكون الطائر عطفا ورفعا وهي قراءة شاذة
ثم قال " إلا أمم أمثالكم " أي في الخلق والموت والبعث تعرف بأسمائهم " ما فرطنا " يقول ما تركنا " في الكتاب " يعني في اللوح المحفوظ " من شيء " مما يحتاج إليه في القرآن " ثم إلى ربهم يحشرون " يعني الدواب والطيور " يحشرون " ثم يصيرون ترابا
وروى جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال يحشر الله تعالى الخلق كلهم يوم القيامة والبهائم والدواب والطيور وكل شيء فيبلغ من عدله أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول كوني ترابا وعن أبي ذر قال انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا أبا ذر هل تدري فيما انتطحتا قلت لا قال لكن الله تعالى يدري فسيقضي بينهما
وقال بعضهم هذا على وجه المثل لأنه لا يجري عليهم القلم فلا يجوز أن يؤاخذوا به
وقال بعضهم هذا على سبيل الحقيقة لأنه يجري عليهم القلم في الأحكام ولكن فيما بينهم يؤاخذون به
سورة المائدة 39 - 41
ثم قال تعالى " والذين كذبوا بآياتنا " يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " صم " عن الخير فلا يسمعون الهدى " وبكم " يعني خرس لا يتكلمون بالخير " في الظلمات " يعني في الضلالات " من يشاء الله يضلله " يعني يخذله فيموت على الكفر " ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم " يعني يستنقذه من الكفر فيوفقه للإسلام(1/467)
468
ثم قال " قل أرأيتكم " الكاف زيادة في بيان الخطاب " إن أتاكم عذاب الله " في الدنيا " أو أتتكم الساعة " يعني القيامة ثم رجع إلى عذاب الدنيا فقال " أغير الله تدعون " أي ليدفع عنكم العذاب " إن كنتم صادقين " بأن مع الله آلهة أخرى
قوله " بل إياه تدعون " قال أهل اللغة بل للاستدراك والإيجاب بعد النفي وإنما تستعمل في موضعين أحدهما لتدارك الغلط والثاني لترك شيء وأخذ شيء آخر فهاهنا بين أنهم لا يدعون غير الله تعالى وإنما يدعون الله عنهم ليكشف عنهم العذاب
ثم قال " فيكشف ما تدعون إليه إن شاء " وإنما قرن بالاستثناء وبالمشيئة لأن كشف العذاب فضل الله تعالى وفضل الله تعالى يؤتيه من يشاء
ثم قال " وتنسون ما تشركون " يعني تتركون دعاء الآلهة عند نزول الشدة
سورة الأنعام 42 - 43
ثم ذكر حال الأمم الماضية لكي يعتبروا فقال عز وجل " ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك " فكذبوهم على وجه الإضمار " فأخذناهم بالبأساء " يعني بالخوف والشدة " والضراء " يعني الزمانة والفقر وسوء الحال والجوع وقال الزجاج البأساء الجوع والضراء النقص في الأموال والأنفس " لعلهم يتضرعون " يعني لكي يرجعوا إليه ويؤمنوا به " فلولا إذ جاءهم بأسنا " يقول فهلا إذا جاءهم عذابا " تضرعوا " أي يرجعوا إلى الله ويؤمنوا به حتى يرفع عنهم العذاب يعني أنهم لو آمنوا لدفع عنهم العذاب ولكن أصروا على ذلك فذاك قوله تعالى " ولكن قست قلوبهم " يعني جفت ويبست قلوبهم " وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون " من عبادتهم الأصنام
سورة الأنعام 44 - 45
ثم قال " فلما نسوا ما ذكروا به " يعني الأمم الخالية حين لم يعتبروا بالشدة ولم يرجعوا " فتحنا عليهم أبواب كل شيء " من النعم والخصب ويقال إن الله تعالى يبتلي العوام بالشدة فإذا أنعم عليهم يكون استدراجا وأما الخواص فيبتليهم بالنعمة والرخاء فيعرفون ويعدون ذلك بلاء كما روي في الخبر إن الله تعالى أوحى إلى موسى بن عمران إذا رأيت الفقر مقبلا إليك فقل مرحبا بشعار الصالحين وإذا رأيت الغنى مقبلا إليك فقل ذنب عجلت عقوبته فهؤلاء الذين أرسل عليهم ابتلاهم الله تعالى بالشدة فلم يعتبروا فيها ولم يرجعوا ثم فتح عليهم أبواب كل خير عقوبة لهم لكي يعتبروا(1/468)
469
قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا محمد بن حميد عن شهاب بن خراش عن حرملة عن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيت الله يعطي عبدا من الدنيا على معصية مما يحب فإنما ذلك منه استدراج ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء " الآية وقال الحسن والله ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله وعجز رأيه وما أمسكها الله تعالى عن عبد فلم يظن أنه قد خير له فيها إلا كان قد نقص عمله وعجز رأيه قوله " فلما نسوا ما ذكروا به " يعني تركوا ما وعظوا به " فتحنا عليهم أبواب كل شيء " يعني أرسلنا عليهم كل خير ويقال " فتحنا عليهم أبواب كل شيء " من الرزق قرأ ابن عامر " فتحنا " بالتشديد على المبالغة والباقون بالتخفيف " حتى إذا فرحوا بما أوتوا " من أنواع الخير فأعجبهم ما هم فيه " أخذناهم بغتة " يعني أصبناهم بالعذاب فجأة " فإذا هم مبلسون " يعني آيسين من كل خير وقال مجاهد الإبلاس الفضيحة وقال الفراء المبلس المنقطع بالحجة وقال الزجاج المبلس الشديد الحسرة والآيس الحزين وقال بعضهم في الآية تقديم وتأخير ومعناه فلما فتحنا عليهم أبواب كل شيء ونسوا ما ذكروا به أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ثم قال عز وجل " فقطع دابر القوم الذين ظلموا " يعني قطع أصلهم فلم يبق منهم أحد " والحمد لله رب العالمين " على هلاك أعدائه واستئصالهم ويقال الحمد لله الذي ينتقم من أعدائه ولا ينتقم منه أحد ويقال هذا تعليم ليحمدوه سبحانه على إهلاك الظالمين
سورة الأنعام 46 - 49
قوله تعالى " قل أرأيتم " أي قل لأهل مكة " أرأيتم إن أخذ الله سمعكم " فلم تسمعوا شيئا " وأبصاركم " فلم تبصروا شيئا " وختم على قلوبكم " فلم تعقلوا شيئا " من إله غير الله يأتيكم به " يعني هل أحد غير الله بخلقها لكم
ثم قال " انظر كيف نصرف الآيات " أي كيف تبين لهم العلامات فيما ذكر تخويفهم " ثم هم يصدفون " يعني يعرضون ولا يعتبرون قرأ نافع " آرأيتم " بمد الألف(1/469)
470
بغير همز وقرأ الكسائي بغير مد ولا همز وقرأ الباقون بالهمز فهي كلها لغات العرب
ثم قال " قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة " يعني فجأة أو علانية " هل يهلك إلا القوم الظالمون " يعني لا يهلك إلا القوم الكافرون
ثم قال " وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين " يعني ليس لهم أن يقترحوا من أنفسهم وإنما أرسلهم بتبليغ الرسالة مبشرين بالجنة لمن أطاعه ومنذرين بالنار لمن عصاه " فمن آمن " يعني صدق بالرسل " وأصلح " يعني سلك طريقهم وأصلح العمل ويقال أخلص العمل بعد الإيمان " فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " يعني " لا خوف عليهم " من أهوال القيامة " ولا هم يحزنون " عند الصراط
ثم قال " والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون " يعني يصيبهم العذاب بكفرهم ولا يعذب أحدا بغير ذنب
سورة الأنعام 50 - 52
ثم قال " قل لا أقول لكم عندي خزائن الله " يعني مفاتيح الرزق " ولا أعلم الغيب " يعني متى ينزل العذاب بكم هذا جواب لقولهم " لولا أنزل عليه ملك " الأنعام 8 " لولا نزل عليه ءاية من ربه " الأنعام 37 " ولا أقول لكم إني ملك " من السماء إنما أنا بشر مثلكم " إن أتبع " يعني ما أتبع " إلا ما يوحى إلي " من القرآن " قل هل يستوي الأعمى والبصير " يعني الكافر والمؤمن " أفلا تتفكرون " في أمثال القرآن ومواعظه
قوله تعالى " وأنذر به " يعني خوف بالقرآن " الذين يخافون " يعني الذين يعلمون " أن يحشروا إلى ربهم " في الآخرة وإنما خص بالإنذار الذين يعلمون وإن كان منذرا لجميع الخلق لأن الحجة عليهم وجبت لاعترافهم بالمعاندة وهم أهل الكتاب كانوا يقرون بالبعث ويقال هم المسلمون يعلمون أنهم يبعثون يوم القيامة ويؤمنون به
" ليس لهم من دونه " يعني يعلمون أنه ليس لهم من دون الله يعني من عذاب الله " ولي " في الدنيا " ولا شفيع " في الآخرة " لعلهم يتقون " يعني أنذرهم لكي يتقوا المعاصي ويقال " لعلهم يتقون " لكي يتقوا ويثبتوا على الإسلام فإنهم إن لم يثبتوا " ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع "(1/470)
471
قوله تعالى " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي " روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال نزلت هذه الآية في وفي ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم عبد الله بن مسعود قالت قريش تدني هؤلاء السفلة هم الذين يلونك فوقع في قلبه أن يطردهم فنزل " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي " وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال كان رجال يستبقون إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فيهم بلال وصهيب فيجيء أشراف من قومه وسادتهم فيجلسون ناحية فقالوا له إنا سادات قومك وأشرافهم فلو أدنيتنا لأسلمنا فهم أن يفعل فنزل " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي " الآية ويقال إن أبا جهل وأصحابه احتالوا ليطرد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن نفسه فقالوا إن محمدا يتبعه الموالي والأراذل فلو طردهم لاتبعناه فاستعانوا بعمر فأخبر عمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يفعل ذلك فنزل " ولا تطرد الذين يدعون ربهم " يعني يعبدون ربهم " بالغداة والعشي " يعني يصلون لله في أول النهار وآخره " يريدون " يعني يريدون بصلواتهم " وجه الله تعالى ما عليك من حسابهم من شيء " يعني ما عليك من عملهم من شيء " وما من حسابك عليهم من شيء " يعني الإثم ويقال معناه فما عليك إن لم يسلموا فليس عليك من أوزارهم شيء ويقال يعني به الضعفة من المسلمين فلا تطردهم لأنه ليس عليك من حسابهم من شيء أي ليس عليك من أرزاقهم شيء لكن أرزاقهم على الله
ثم قال " فتطردهم فتكون من الظالمين " يعني لو طردتهم من مجلسك فتكون من " الظالمين " أي من الضارين بنفسك قرأ ابن عامر " بالغدوة " وقرأ الباقون " بالغداة " وهما لغتان
سورة الأنعام 53 - 54
ثم قال " وكذلك فتنا " يقول هكذا ابتلينا " بعضهم ببعض " يعني الشريف بالوضيع والعربي بالمولى والغني بالفقير " ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " فلم يكن الاختبار لأجل أن يقولوا ذلك ولكن الاختبار كان سببا لقولهم وهذا قوله تعالى " فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا " القصص 8 فلم يأخذوه لأجل ذلك ولكن كان أخذهم سببا لذلك فكأنهم أخذوه لأجل ذلك فكذلك هاهنا كان الاختبار لا لأجل أن يقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا لأنهم كانوا يقولون لو كان خيرا ما سبقونا إليه ومعناه ليظهر الذين يقولون أهؤلاء من الله عليهم من بيننا
قال الله تعالى " أليس الله بأعلم بالشاكرين " يعني بالموحدين منكم من غيرهم قال(1/471)
472
الكلبي فلما نزلت هذه الآية جاء عمر فاعتذر فنزلت هذه الآية " وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا " يعني عمر رضي الله عنه " فقل سلام عليكم " يعني قبلت توبتكم ويقال قبل الله عذركم ويقال المعنى " وإذا جاءك الذين يؤمنون " يعني الضعفة من المسلمين فابتدئ بالسلام " فقل سلام عليكم " " كتب ربكم على نفسه الرحمة " يعني أوجب الرحمة وقبول التوبة " أنه من عمل منكم سوءا بجهالة " يعني من ركب معصية وهو جاهل بركوبها وإن كان يعلم أنها معصية " ثم تاب من بعده " بعد السوء " وأصلح " العمل " فإنه غفور رحيم " يعني متجاوز للذنوب " رحيم " حين قبل التوبة ويقال معناه من عمل منكم سوءا ثم تاب يغفر له فكيف لمن كان قصده الخير فهو أولى بالرحمة
وروى سفيان عن مجمع عن ماهان الحنفي قال جاء قوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد أصابوا ذنوبا عظاما فأعرض عنهم فنزل " وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة " قرأ عاصم وابن عامر " أنه من عمل " بنصب الألف فإنه غفور بالنصب على معنى البناء و " فإنه " بالكسر على معنى الابتداء وقرأ الباقون كلاهما بالكسر على معنى الابتداء
سورة الأنعام 55 - 56
ثم قال تعالى " وكذلك نفصل الآيات " قال القتبي يعني نأتي بها متفرقة شيئا بعد شيء ولا ننزلها جملة واحدة متصلة وقيل " نفصل الآيات " يعني نبين الآيات يعني القرآن " ولتستبين سبيل المجرمين " يعني طريق المشركين لماذا لا يؤمنون لأنهم إذا رأوا الضعفاء يسلمون قبلهم امتنعوا ويقال " ولتستبين سبيل المجرمين " يعني تعرفهم قرأ ابن كثير وأبو عامر وعاصم في رواية حفص " ولتستبين " بالتاء و " سبيل " بالضم لان السبيل مؤنث كقوله " قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله " يوسف 108 ومعناه ليظهر لكم طريق المشركين وقرا حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " وليستبين " بالياء " سبيل المجرمين " بالضم لأن السبيل هو الطريق والطريق يذكر ويؤنث وقرأ نافع " ولتستبين " بالتاء " سبيل " بالنصب يعني لتعرف يا محمد طريق المشركين
قوله تعالى " قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله " يعني الأصنام ويقال معناه قل إني نهيت عن طرد الضعفاء عن مجلسي كما نهيت عن عبادة الأصنام
ثم قال " قل لا أتبع أهواءكم " يعني لا أذهب مذهبكم ويقال لا أتبع هواكم يعني لا أرجع إلى دينكم في بغض الفقراء ومجانبتهم " قد ضللت إذا " يعني إن فعلت " ذلك(1/472)
473
فقد ضللت إذا ) قرأ بعضهم " ضللت " بالكسر وهو شاذ يعني ضللت سبيل الهدى " وما أنا من المهتدين " يعني لم أكن على الحق
سورة الأنعام 57 - 58
ثم قال " قل إني على بينة من ربي " يعني على أمر بين ويقال على دين من ربي " وكذبتم به " يعني بالقرآن ويقال بالعذاب وذلك أن النضر بن الحارث قال إن كان ما تقوله حقا فأتنا بعذاب الله فنزل " ما عندي ما تستعجلون به " يعني العذاب " إن الحكم إلا لله " يعني ما القضاء في ذلك إلا لله في نزول العذاب " يقص الحق " بنزول العذاب وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم " يقص الحق " بالضاد يعني يبين الحق ويقال يأمر بالحق وقرأ الباقون " يقص الحق " من القصص ولكن لا يكتب بالياء لأن الياء سقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين ويقوم الكسر مقام الياء كقوله تعالى " سندع الزبانية " العلق 18 فحذفت الواو وتفسيره يقضي قضاء الحق قال ابن عباس رضي الله عنه يعني يقضي بالحق
ثم قال " وهو خير الفاصلين " يعني الحاكمين وقيل القاضين ثم قال " قل لو أن عندي ما تستعجلون به " يعني العذاب " لقضي الأمر بيني وبينكم " بالعذاب " والله أعلم بالظالمين " يعني بعقوبة الظالمين أي هو أعلم متى ينزل بهم العذاب
سورة الأنعام 59
قوله تعالى " وعنده مفاتح الغيب " يعني خزائن الأرض والرزق ونزول العذاب ويقال عنده الوصلة إلى علم الغيب " لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر " يعني يعلم ما يهلك في بر أو بحر ويقال يعلم ما في البر من النبات والحب والنوى وما في البحر من الدواب وقوت ما فيها " وما تسقط من ورقة " يعني من الشجر " إلا يعلمها " يعلم وقت سقوطها وموضع مسقطها وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنه قال ليس أحد من خلق الله أكثر من الملائكة وليس من شجرة تخرج إلا وملك موكل بها ويقال إن الإنسان كالشجرة وأعضاءه كالأغصان والحركات منه كالأوراق فهو يعلم حركة بني آدم
ثم قال تعالى " ولا حبة في ظلمات الأرض " يعني تحت الصخرة التي هو أسفل الأرضين السابعة ويقال الحبة التي تحت الأرض التي يخرج منها النبات
ثم قال تعالى " ولا رطب " يعني الماء " ولا يابس " يعني الحجر ويقال " ولا(1/473)
474
رطب ) يعني العمران والامصار والقرى " ولا يابس " يعني الخراب والبادية " إلا في كتاب مبين " يعني في اللوح المحفوظ ويقال " ولا رطب ولا يابس " يعني لا قليل ولا كثير " إلا في كتاب مبين " يعني في اللوح المحفوظ ويقال القرآن قد بين فيه كل شيء بعضه مفسر وبعضه يعرف بالاستدلال والاستنباط وقرأ بعضهم " ولا حبة " " ولا رطب ولا يابس " كل ذلك بالضم على معنى الابتداء وهي قراءة شاذه والقراءة المعروفة بالكسر لأجل " من "
سورة الأنعام 60
قوله تعالى " وهو الذي يتوفاكم بالليل " يعني يقبض أرواحكم في منامكم " ويعلم ما جرحتم بالنهار " يعني ما كسبتم من خير أو شر بالنهار " ثم يبعثكم فيه " يعني يحييكم من النوم في النهار ويرد إليكم أرواحكم " ليقضى أجل مسمى " يعني ليتم اجلكم وتأكلون رزقكم إلى آخر العمر قال بعضهم إذا نام الإنسان تخرج منه روحه كما روي في الخبر الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف يعني الأرواح إذا تعارفت وقعت الألفة بين الأبدان وإذا لم تتعارف الأرواح تناكرت الأبدان وقال بعضهم إن الروح إذا خرجت في المنام من البدن تبقى فيه الحياة فلهذا تكون فيه الحركة والنفس وإذا انقضى عمره خرجت روحه وانقطعت حياته وصار ميتا لا يتحرك ولا يتنفس فإن قيل لو خرجت روحه فكيف لا يتوجع لخروجها إذا نام قيل لأنه يخرج بطيبة نفسه ويعلم أنها تعود وأما إذا انقطع عمره خرج بالكره فيتوجع به وقال بعضهم لا تخرج منه الروح ولكن يخرج منه الذهن وهو الذي يسمى بالفارسية روان وقال بعضهم إنما هو ثقل يدخل في نفسه وهو سبب لراحة البدن وغذائه كقوله " وجعلنا نومكم سباتا " النبأ9 أي راحة الأبدان أخذ من السبوت ويقال هذا أمر لا يعرف حقيقته أحد إلا الله وهذا أصح الأقاويل
قوله تعالى " ثم إليه مرجعكم " يعني مصيركم في الآخرة " ثم ينبئكم بما كنتم تعملون " من خير أو شر فيجازكم بذلك
سورة الأنعام 61 - 62
قوله تعالى " وهو القاهر فوق عباده " يعني القادر والغالب عليهم " ويرسل عليكم حفظة " والحفظة جمع الحافظ مثل الكتبة والكاتب يعني به الملائكة الموكلين ببني آدم ملكين بالليل وملكين بالنهار ويكتب أحدهما الخير والآخر الشر فإذا مشى يكون أحدهما بين يديه والآخر خلفه فإذا جلس يكون أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله كقوله تعالى(1/474)
475
" عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " ق17 - 18 ويقال لكل إنسان خمسة من الملائكة اثنان بالليل واثنان بالنهار الخامس لا يفارقه بالليل ولا بالنهار
قوله تعالى " حتى إذا جاء أحدكم الموت " يعني حضر أحدكم الوفاة عند انقضاء أجله " توفته رسلنا " يعني ملك الموت وأعوانه قرأ حمزة " توفاه " بلفظ التذكير بالإمالة وقرأ الباقون " توفته " بلفظ التأنيث لأن فعل الجماعة إذا تقدم على الاسم جاز أن يذكر ويؤنث " وهم لا يفرطون " يعني لا يؤخرون طرفة عين ويقال معه سبعون من ملائكة الرحمة وسبعون من ملائكة العذاب فإذا قبض نفسا مؤمنه دفعها إلى ملائكة الرحمة فيبشرونها بالعذاب ويفزعونها ثم يصعدون بها إلى السماء ثم ترد إلى سجين وروح المؤمن إلى عليين " ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق " يعني يرد أمورهم إلى الله تعالى " ألا له الحكم " " ألا " كلمة التنبيه ومعناه اعلموا أن الحكم لله يحكم في خلقه ما يشاء ويقضي بينهم يوم القيامة " وهو أسرع الحاسبين " يعني إذا حاسب فحسابه سريع ويقال وهو أحكم الحاكمين وأعدل القاضين
سورة الأنعام 63 - 65
قوله تعالى " قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر " يعني من أهوالهما وشدائدهما والظلمات كناية عن الأهوال والشدائد " تدعونه تضرعا وخفية " وقال الكلبي سرا وعلانية وقال مقاتل يعني في خفض وسكون قرأ عاصم في رواية أبي بكر " خفية " بكسر الخاء والباقون بالضم وهما لغتان وكلاهما واحد " لئن أنجانا من هذه " يعني من غم هذه الاهوال والشدائد " لنكونن من الشاكرين " يعني من الموحدين " قل الله ينجيكم منها " يعني من أهوال البر والبحر " ومن كل كرب " يعني ينجيكم من كل كرب يعني من كل غم وشدة " ثم أنتم تشركون " يعني ترجعون إلى الشرك وقرأ عاصم وحمزة والكسائي " لئن أنجانا " بالألف يعني أنجانا الله تعالى وقرأ الباقون " لأن أنجيتنا " على المخاطبة وقرأ عاصم وحمزة والكسائي " قل الله ينجيكم منها " بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف ومعناهما واحد ويقال أنجى ينجي ونجى ينجي
قوله تعالى " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم " يعني الحصب(1/475)
476
بالحجارة كما فعل بقوم لوط والغرق كما أرسل على قوم نوح يعني إن استكبرتم وأصررتم وكذبتم رسلي مثل ما فعل قوم نوح أو فعلتم مثل ما فعل قوم لوط
ثم قال " أو من تحت أرجلكم " يعني يخسف بكم كما خسف بقارون ومن معه يعني إن استكبرتم واغتررتم بالدنيا كما فعل بقارون ومن معه
ثم قال " أو يلبسكم شيعا " أي يخلطكم يعني الأهوال المختلفة كما ألبس بني إسرائيل إن تركتم أمر رسولي وأتبعتم هواكم كما فعل بنو إسرائيل " ويذيق بعضكم بأس بعض " يعني يقتل بعضكم بعضا بالسيف كما فعل بالأمم الخالية إن فعلتم مثل ما فعلوا فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم يا جبريل ما بقاء أمتي على ذلك قال له جبريل إنما أنا عبد مثلك فادع ربك وسله لأمتك فقام النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ وأسبغ الوضوء وصلى فأحسن الصلاة ثم دعا فنزل جبريل فقال يا جبريل ما بقاء أمتي إذا كان فيهم أهواء مختلفة ويذيق بعضهم بأس بعض فنزل جبريل بهذه الآية " آلم 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 * إليها يقال كل قول وفعل حقيقة ما كان منه في الدنيا فستعرفونه وما كان منه(1/476)
477
في الآخرة " فسوف " يبدو لكم " وسوف تعلمون " ذلك في الدنيا وفي الآخرة ويقال معناه سوف أؤمر بقتالكم إذا جاء وقته " وسوف تعلمون " في ذلك الوقت
سورة الأنعام 68 - 70
قوله تعالى " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا " يعني يستهزئون بالقرآن " فأعرض عنهم " يعني قم من عندهم واترك مجالستهم " حتى يخوضوا في حديث غيره " يعني حتى يكون خوضهم واستهزاؤهم في غير القرآن " وإما ينسينك " يقول إن أنساك " الشيطان " وصية الله تعالى فجلست معهم فقم " فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين " يقول قم إذا ذكرت ودع " القوم الظالمين " يعني المشركين قرأ ابن عامر " وإما ينسينك الشيطان " بنصب النون وتشديد السين وقرأ الباقون بالتخفيف والجزم وهما لغتان نسيته وأنسيته
ثم قال " وما على الذين يتقون " يعني الشرك والاستهزاء " من حسابهم " يعني من آثامهم " من شيء ولكن ذكرى " يعني ذكرهم بالقرآن إذا فعلوا ذلك " لعلهم يتقون " يعني لكي يتقوا الاستهزاء قال الكلبي وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا يا رسول الله لئن كنا كلما استهزؤوا بالقرآن قمنا من عندهم لا نستطيع أن نجلس في المسجد الحرام فنزل " وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء " الآية
قوله تعالى " وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا " قال الضحاك يعني كفار قريش نصبوا أصنامهم في المسجد الحرام وقرطوها بالأقراط وعلقوا بيض النعام في أعناقها فنزل " وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا " وقال الكلبي إن الله تعالى جعل لكل قوم عيدا يعظمونه ويصلون فيه لله تعالى وكل قوم اتخذوا دينهم يعني عيدهم لهوا ولعبا إلا هذه الأمة فإنهم اتخذوا عيدهم صلاة الله وخصنا بالصدقة وهي الجمعة والفطر والأضحى وقال مقاتل اتخذوا دينهم الإسلام لعبا يعني باطلا ولهوا عنه
ثم قال " وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به " يعني عظ وخوف بالقرآن " أن تبسل نفس " يعني لكي لا تهلك نفس " بما كسبت " يعني بما عملت ويقال " أن تبسل نفس " يعني أن تسلم نفس بذنوبها إلى النار وهذا قول الضحاك وقال الأخفش أن ترهن نفس بما عملت(1/477)
478
ويقال تحبس وقال القتبي أن تسلم إلى الهلكة ويقال تخذل ولا تنصر
ثم قال " ليس لها من دون الله ولي " يعني إذا وقع العذاب لم يكن لها مانع يمنعها من العذاب " ولا شفيع " يشفع لها " وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها " يقول لو جاءت بعدل نفسها رجلا مكانها أو يفتدي بما في الأرض جميعا " لا يؤخذ منها " يعني لا يقبل منها " أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا " يعني أهلكوا ويقال أبسلوا بذنوبهم إلى النار " لهم شراب من حميم " يعني ماء حار قد انتهى حره " وعذاب أليم بما كانوا يكفرون " في الدنيا
سورة الأنعام 71
قوله تعالى " قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا " قال مقاتل وذلك أن كفار مكة عذبوا نفرا من المسلمين وراودوهم على الكفر قال الله تعالى للمسلمين قولوا لهم " أندعوا من دون الله " يعني الأوثان " ما لا ينفعنا " في الآخرة " ولا يضرنا " في الدنيا " ونرد على أعقابنا " يعني نعود ونرجع إلى الشرك " بعد إذ هدانا الله " إلى الإسلام " كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران " فإن مثلنا إن اتبعناكم كمثل الذي " استهوته الشياطين " يعني كمثل رجل كان مع قوم فضل الطريق فحيره الشيطان و " له أصحاب يدعونه إلى الهدى " يعني إلى الطريق أن " ائتنا " فإنا على الطريق فأبى أن يأتيهم فذلك مثلنا إن تركنا دين محمد صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد هذا مثل ضربه الله تعالى للكفار يقول الكافر حيران يدعوه المسلم إلى الهدى فلا يجيب الكافر وقال ابن عباس في رواية أبي صالح نزلت الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر كان أبوه وأمه يدعوانه إلى الإسلام فأبى أن يأتيهما وهو يدعوهما إلى الشرك فضرب الله تعالى له المثل بالذي استهوته الشياطين يعني أضلته
" قل إن هدى الله هو الهدى " يعني دين الله هو الإسلام " وأمرنا لنسلم لرب العالمين " يعني لنخلص بالعبادة والتوحيد لله تعالى قرأ حمزة " استهواه " بلفظ التذكير بالإمالة وقرأ الباقون " استهوته " بلفظ التأنيث لأن فعل الجماعة مقدم فيجوز أن يذكر ويؤنث كقوله " توفته رسلنا " الأنعام 61
سورة الأنعام 72 - 73
قوله تعالى " وأن أقيموا الصلاة " يعني وأمرنا بالهدى وبالعمل يعني أقيموا الصلاة(1/478)
479
" واتقوه " يعني وحدوه ويقال أطيعوه ويقال هذا عطف على قوله و " له أصحاب يدعونه إلى الهدى " وإلى إقامة الصلاة ويقال معناه أمرنا بالإسلام وبإقامة الصلاة
ثم خوفهم فقال " وهو الذي إليه تحشرون " فيجازيكم بأعمالكم ثم دل على نفسه بصنعه ليوحدوه فقال " وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق " يعني للحق وللعبرة " ويوم يقول " اليوم صار نصبا لأن معناه واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ويقال معناه واذكروا يوم يقول " كن فيكون " يعني يوم البعث يقول انتشروا في الأرض فانتشروا كلهم من القبور كقوله " يخرجون من الأجداث " يعني من القبور " كأنهم جراد منتشر " القمر 7
ثم قال " قوله الحق " قرأ ابن عامر " فيكون " بالنصب على معنى الجزاء في كل القرآن إلا في موضعين هاهنا وفي آل عمران وقرأ الباقون بالرفع على معنى الخبر و " قوله " رفع الابتداء وخبره الحق يعني قوله الصدق أنه كائن
" وله الملك يوم ينفخ في الصور " اليوم صار نصبا لنزع الخافض ومعناه وله الملك في يوم ينفخ في الصور وهذا كقوله عز وجل " لمن الملك اليوم " غافر 16 كقوله " ملك يوم الدين " الفاتحة 4 ويقال هذا مبين لقوله الأول ومعناه يوم يقول " كن فيكون " " يوم ينفخ في الصور " وروي عن أبي عبيدة أنه قال معناه يوم ينفخ الأرواح في الصور يعني في الأجسام وهذا خلاف أقاويل جميع المفسرين لأنهم كلهم قالوا هو نفخ إسرافيل في الصور وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كيف أنعم وصاحب الصور قد التقمه وفي خبر آخر وصاحب الصور قد التقمه ينتظر متى يؤمر فينفخ فيه
ثم قال " عالم الغيب والشهادة " " الغيب " ما غاب عن العباد " والشهادة " ما علم العباد به ويقال السر والعلانية ويقال " عالم " بما يكون وبما قد كان ويقال " عالم " بأمر الآخرة وبأمر الدنيا " وهو الحكيم الخبير " يعني " الحكيم " في أمره " الخبير " بأفعال الخلق وبأمر البعث
سورة الأنعام 74 - 75
قوله تعالى " وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر " وكان اسم أبيه تارح بن ناخور بلغة قومه وبلغة غيرهم كان آزر وقال السدي كان اسم أبيه آزر وهكذا قال الكلبي وقال بعضهم لم يكن آزر اسم أبيه ولكن كان اسم أكبر أصنامهم فقال أبوه لإبراهيم ربي آزر فقال إبراهيم على وجه التعجب آزر " أتتخذ أصناما آلهة " وقال مجاهد آزر ليس اسم أبيه وإنما هو اسم(1/479)
480
صنم وقال الضحاك عن ابن عباس إن في هذه الآية تقديما فكأنه قال أتتخذ آزر أصناما آلهة يعني أتتخذ الصنم إلها ويقال آزر بلغتهم المخطئ الضال ومعناه " وإذ قال إبراهيم لأبيه " يا آزر المخطئ الضال أتتخذ أصناما آلهة وقرأ الحسن ويعقوب الحضرمي " آزر " بالضم ويكون معناه وإذ قال إبراهيم لأبيه يا آزر والقراءة المعروفة بالنصب لأنه على ميزان أفعل فلا ينصرف فصار نصبا في موضع الخفض ولأنه اسم أعجمي فلا ينصرف
ثم قال " إني أراك وقومك في ضلال مبين " يعني في خطأ وجهل بين بعبادتكم الأصنام
ثم قال " وكذلك نري إبراهيم ملكوت " والملكوت والملك بمعنى واحد إلا أن الملكوت أبلغ في الوصف مثل رهبوت ورحموت كما يقال في المثل الرهبوت خير من الرحموت يعني أن ترهب خير من أن ترحم يعني أن إبراهيم لما برئ من دين أبيه آزر أراه الله " ملكوت السموات والأرض " يعني عجائب السموات والأرض " وليكون من الموقنين " يعني لكي يكون من الموقنين والواو زيادة كقوله " ولنحمل خطيكم " العنكبوت 12 يعني لكي نحمل وكذلك هاهنا " ليكون من الموقنين " يعني حتى يثبت على اليقين قال بعضهم صارت فرجة في السماء حتى رأى إلى سبع سماوات وصارت فرجة في الأرض حتى رأى إلى تحت الصخرة ويقال حين عرج به إلى السماء فنظر إلى عجائب السموات وروي عن عطاء انه قال لما رفع إبراهيم في ملكوت السماوات أشرف على عبد يزني فدعا عليه فهلك ثم أشرف على آخر يزني فدعا عليه فهلك ثم رأى آخر فأراد أن يدعو عليه فقال له ربه عز وجل على رسلك يا إبراهيم فإنك مستجاب لك اكفف دعوتك عن عبادي فإن عبيدي عندي على ثلاث خلال إما أن يتوب فأتوب عليه وإما أن أخرج منه ذرية طيبة وإما أن يتمادى فيما هو فيه فأنا من ورائه أي أنا قادر عليه
وروي عن سلمان الفارسي أنه قال لما رأى إبراهيم ملكوت السموات رأى عبدا على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم رأى آخر على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم رأى آخر على فاحشة فدعا عليه فهلك فقال الله تعالى أنزلوا عبدي كي لا يهلك عبادي ويقال إنه كان يقول أنا أرحم الخلق فلما رأى المعصية فدعا عليهم قال الله تعالى أنا أرحم أنا أرحم بعبادي منك اهبط لعلهم يرجعون
ويقال إن نمروذ بن كنعان قالت له كهنته يولد في هذه السنة غلام ينازعك في ملكك فأمر بذبح كل غلام يولد في تلك السنة ويقال رأى في المنام أن كبشا دخل عليه فنطح سريره بقرنيه فسأل المعبرين فأخبروه أنه يولد غلام ينازعك في ملكك فأمر بذبح كل غلام يولد فحملت أم إبراهيم بإبراهيم ولم يتبين حملها ولم يعرف أحد أنها حامل حتى أخذها الطلق فخرجت إلى جبل من الجبال ودخلت في غار فولدت إبراهيم عليه السلام وخرجت(1/480)
481
ووضعت صخرة على باب الغار فجاءه جبريل عليه السلام ووضع إبهامه في فمه وكان يمصه ويخرج منه اللبن وكان يجعل سبابته في فمه فيمصها ويخرج منها العسل حتى كبر وأدرك في أيام قليلة ويقال إن أمه كانت تختلف إليه وترضعه حتى أرضعته سنتين وتحمل إليه الطعام حتى أدرك في المدة التي يدرك فيها الصبيان فخرج من الغار فنظر إلى السماء وإلى الأرض وإلى الجبال فتفكر في نفسه ثم قال إن لهذه الأشياء خالقا خلقها والذي خلق هذه الأشياء هو الذي خلقني فذلك قوله " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين " فكان في ذلك التفكير إذا نظر إلى نجم مضيء وهو المشتري فرآه أضوأ الكواكب وقد علم أن الله تعالى أعلى الأشياء ولا يشبهه شيء من خلقه ورأى الكواكب أعلى الأشياء أحسنها فقال " هذا ربي " وقال ذلك بغير فكره فكان ذلك منه زلة
سورة الأنعام 76 - 79
قوله تعالى " فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي " وقال هذا بغير فكره فكان ذلك منه زلة ويقال إنما قال ذلك على طريق الاستفهام أهذا ربي " فلما أفل " يعني غاب الكوكب " قال لا أحب الآفلين " يعني لا أحب ربنا يتغير عن حاله ويزول " فلما رأى القمر بازغا " يعني طالعا ويقال كان ذلك في وقت السحر وكان ذلك في آخر الشهر فرأى كوكبا يعني الزهرة حين طلعت وكان من أضوأ الكواكب فلما ارتفع وطلع الفجر نقص ضوؤه ف " قال لا أحب الآفلين " يعني لا أحب ربنا يتغير
" فلما رأى القمر " ورأى ضوءه أكثر من ضوء الكوكب " قال هذا ربي " على سبيل الاستفهام " فلما أفل " يعني نقص وضوؤه حين أسفر الصبح " قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الضالين " يعني لئن لم يحفظ ربي قلبي لقد كنت اتخذت إلها ما لم يكن إلها " فلما رأى الشمس بازغة " يعني طالعة قد ملأت كل شيء ضوءا ف " قال هذا ربي هذا أكبر " يعني أعظم وأكمل ضوءا وأكثر نورا " فلما أفلت " يعني غربت علم أنه ليس بإله فجاءته أمه فقال لها من ربي قالت أنا قال ومن ربك قالت أبوك قال ومن رب أبي قالت نمروذ بن كنعان قال ومن ربه قالت له اسكت فقال لها كيف هو هل يأكل ويشرب وينام قالت لعمر قال هذا لا يصلح أن يكون ربا وإلها فرجعت الأم إلى أب إبراهيم فأخبرته بالقصة فخرج إليه فسأله مثل ذلك ثم قال له في آخره تعالى حتى نعبد الذي خلقي(1/481)
482
وخلقك وخلق نمروذ فغضب أبوه فرجع عنه ثم دخلت عليه رأفة الوالد لولده فرجع إليه وقال له ادخل المصر لتكون معنا فدخل فرأى القوم يعبدون الأصنام فدعوه إلى عبادة الأصنام ف " قال " لهم حينئذ " يا قوم إني بريء مما تشركون " فقيل له من تعبد أنت يا إبراهيم فقال أعبد الله الذي خلقني وخلق السموات والأرض فذلك قوله تعالى " إني وجهت وجهي " يعني أخلصت ديني وعملي " للذي فطر السموات " يعني خلق السموات " والأرض حنيفا " يقول إني وجهت وجهي له مخلصا مستقيما " وما أنا من المشركين " على دينكم ويقال إن قوله " هذا ربي " قال ذلك لقومه على جهة الاستهزاء بهم كما قال " بل فعله كبيرهم هذا " الأنبياء63 ويقال أراد بهذا أن يستدرجهم فيظهر قبح قولهم وفعلهم وخطأ مذهبهم وجهلهم لأنهم كانوا يعبدون النجوم والشمس والقمر فلما رأى الكوكب قال لهم " هذا ربي " وأظهر لهم أنه يعبد ما يعبدون فلما غاب الكوكب قال لهم " لا أحب الآفلين " فأخبرهم بأن الآفل لا يصلح أن يكون إلها ثم قال في الشمس والقمر هكذا كما روي عن عيسى عليه السلام أنه بعث رسولا إلى ملك أرض الروم فلما انتهى إليهم جعل يسجد ويصلي عند الصنم ويريهم أنه يعبد الصنم وهو يريد عبادة الله تعالى ثم أن الملك ظهر له عدو فقالوا لهذا الرسول أشر علينا بشيء في هذا الأمر فقال لهم نتشفع إلى هذا الذي تعبدونه فجعلوا يسجدون له ويتشفعون إليه فلا يسمعون منه جوابا فقالوا أنه لا ينفعنا شيئا قال لهم لم نعبد من لا يدفع عنا ضرا ارجعوا حتى نعبد من ينفعنا فقالوا له لمن نعبد قال لرب السماء فجعل يدعو ويدعون حتى فرج الله عنهم فآمن به بعضهم وكذلك هاهنا أراد إبراهيم أن يريهم قبح ما يعبدون من دون الله لعلهم يرجعون فلما لم يرجعوا قال " يا قوم إني بريء مما تشركون " قرأ حمزة والكسائي " رأى كوكبا بكسر الراء والألف وهي لغة لبعض العرب والنصب أفصح
سورة الأنعام 80 - 83
قوله تعالى " وحاجة قومه " معناه وحاجة قومه في الله ويقال وحاجة قومه في دين الله يعني خاصموه ف " قال " لهم إبراهيم " أتحاجوني في الله " يعني أتخاصموني في دين الله " وقد هدان " لدينه قرأ نافع وابن عامر " أتحاجوني " بتشديد الجيم وتخفيف النون وقرأ الباقون(1/482)
483
بتشديد النون لأن أصله أتجاجونني بنونين فأدغم أحدهما في الآخر فقال " أتحاجوني " يعني أتجادلوني في دين الله " وقد هداني " يعني بين لي الطريق وكانت خصومتهم أنهم حين سمعوه عاب آلهتهم فقالوا له أما تخاف أن تخبلك آلهتنا فتهلك فقال لهم قوله تعالى " ولا أخاف ما تشركون " إني لا أخاف ما لا يسمع ولا يبصر وقال الكلبي ومقاتل لما خوفوه بذلك قال لهم إنما تخافون أنتم إذ سويتم بين الذكر والأنثى والصغير والكبير أما تخافون من الكبير إذ سويتموه بالصغير فذلك قوله تعالى " ولا أخاف ما تشركون به "
ثم قال تعالى " إلا أن يشاء ربي شيئا " فأخاف منهم ويقال " إلا أن يشاء ربي شيئا " يعني أن الله تعالى لا يشاء أن أخافهم
ثم قال " وسع ربي كل شيء علما " يعني ملأ علم ربي كل شيء علما يعني يعلم السر والعلانية " أفلا تتذكرون " يعني أفلا تتعظون فتؤمنون به
قوله تعالى " وكيف أخاف ما أشركتم " يعني من الأصنام " ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا " يقول كتابا وعذرا وحجة لكم فيه " فأي الفريقين أحق بالأمن " من العذاب الموحد أم المشرك " إن كنتم تعلمون " ذلك أنا أعبد إلها واحدا وأنتم تعبدون آلهة شتى
ثم قال " الذي آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم " قال بعضهم هذا قول الله تعالى لما حكى قول إبراهيم للنبي صلى الله عليه وسلم قال له على أثر ذلك " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم " يعني لم يخالطوا تصديقهم بالشرك ولم يعبدوا غيره " أولئك لهم الأمن " من العذاب " وهم مهتدون " من الضلالة وقال بعضهم هذا كله قول إبراهيم لقومه وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من ابتلى فصبر وأعطي فشكر وظلم فاستغفر وظلم فغفر قيل له ما لهم يا رسول الله قال " أولئك لهم الأمن وهم مهتدون "
قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الماسرجسي قال حدثنا أبو كرب قال حدثنا ابن إدريس عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال لما نزلت هذه الآية " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم " شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ترون إلى قول لقمان لابنه " إن الشرك لظلم عظيم " لقمان 13 يعني إن الظلم هنا أراد به الشرك
ثم قال تعالى " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه " يعني أعطيناها إبراهيم على قومه يعني وفقناه للحجة فخاصم بها قومه " نرفع درجات من نشاء " يعني نرفع فضائل من نشاء في الدنيا بالحجة وفي الآخرة بالدرجات " إن ربك حكيم " في أمره " عليم " بخلقه من يصلح للنبوة قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي " درجات "
بالتنوين وقرأ الباقون " درجات " على معنى الإضافة(1/483)
484
سورة الأنعام 84 - 90
ثم قال " ووهبنا له " يعني لإبراهيم " إسحاق ويعقوب " قال الضحاك ولدت سارة إسحاق ولها تسعة وتسعون سنة ولإبراهيم مائة وعشرون سنة ثم ولد لإسحاق يعقوب " كلا هدينا " يعني إسحاق ويعقوب هديناهما بالنبوة والإسلام " ونوحا هدينا من قبل " يعني هديناه للنبوة والإسلام من قبل إبراهيم " ومن ذريته " قال الكلبي يعني من ذرية نوح وقال الضحاك يعني من ذرية إبراهيم " داود " النبي عليه السلام " وسليمان " وهو ابن داود " وأيوب " وهو من ولد عيصو بن إسحاق عليهما السلام " ويوسف " وهو ابن يعقوب عليهما السلام " وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين " يعني نوفيهم أفضل الثواب " وزكريا " يعني من ذرية إبراهيم زكريا عليهما السلام " ويحيى وعيسى وإلياس " عليهم السلام قال الضحاك كان إلياس من ولد إسماعيل وذكر عن القتبي أنه كان من سبط يوشع بن نون " كل من الصالحين " يعني من المرسلين
ثم قال " وإسماعيل " وهو من صلب إبراهيم عليهما السلام " واليسع " وكان اليسع تلميذ إلياس وكان خليفته من بعده قرأ حمزة والكسائي بلامين " والليسع " مشددا وسكون الياء وقرأ الباقون " وليسع " بالتخفيف بلام واحدة فمن قرأ بالتشديد فالاسم منه ليسع ثم أدخلت الألف واللام للتعريف فصار الليسع ومن قرأ بالتخفيف فالاسم منه يسع ثم أدخلت الألف واللام للتعريف فصار اليسع وكذا هذا الاختلاف في سورة " ص "
ثم قال " ويونس " عليه السلام وهو ابن متى " ولوطا " عليه السلام " وكلا فضلنا على العالمين " بالرسالة والنبوة في زمانهم
ثم ذكر آباءهم فقال " ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم " يعني واصطفيناهم بالنبوة يعني آدم ونوحا وإدريس وهودا وصالحا عليهم السلام " وهديناهم إلى صراط مستقيم " وهو دين الإسلام " ذلك هدى الله " يعني دين الإسلام " يهدي به من يشاء من عباده " يعني(1/484)
485
يكرم بدينه من يشاء من عباده " ولو أشركوا " يعني هؤلاء النبيين " لحبط عنهم ما كانوا يعملون " في الدنيا يعني إنما فضلهم الله بالطاعة
ثم قال " أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم " يعني العلم والفهم والفقه " والنبوة فإن يكفر بها " أي الأنبياء " هؤلاء " يعني أهل مكة " فقد وكلنا بها " يعني ألزمنا بها " قوما ليسوا بها بكافرين "
قال سعيد بن جبير هم الأنصار ويقال " فإن يكفر بها " يعني بآياتنا " فقد وكلنا بها " يعني بالإيمان بها " قوما ليسوا بها بكافرين " يعني الأنبياء الذين سبق ذكرهم ويقال الملائكة وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة " فإن يكفر بها هؤلاء " يعني أمة محمد عليه السلام " فقد وكلنا بها قوما " يعني النبيين الذين قص الله تعالى عنهم
ثم قال تعالى " أولئك الذين هدى الله " " الذين " الأنبياء عليهم السلام " فبهداهم " يعني بسنتهم وبتوحيدهم " اقتده " على دينهم واستقم واعمل به وفي هذه الآية دليل أن شرائع المتقدمين واجبة علينا ما لم يظهر نسخها إذا ثبت ذلك في الكتاب أو ظهر على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى أمرنا بأن نقتدي بهداهم واسم الهدى يقع على التوحيد والشرائع مثل " الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين " البقرة 1 - 2 والكتاب يشتمل على الشرائع وغيرها قرأ حمزة والكسائي " فبهداهم اقتده " بالهاء عند الوقف وبغير الهاء عند الوصل لأن الفاء دخلت فيه عند الوقف لتبين الكسرة في الدال وعند الوصل تبين فلا يحتاج إلى إدخالها وقرأ ابن عامر بغير الهاء في الوقف والوصل جميعا وقرأ الباقون بالهاء في الوصل والوقف جميعا لأنها هاء الوقف مثل قوله " كتابيه " و " حسابيه "
ثم قال تعالى " قل لا أسألكم عليه أجرا " يعني قل للمشركين لا أسألكم على الإيمان والقرآن جعلا " إن هو " يعني ما هو وهو القرآن " إلا ذكرى للعالمين " يعني موعظة للعالمين الإنس والجن
سورة الأنعام 91
قوله تعالى " وما قدروا الله حق قدره " يعني ما عظموا الله حق عظمته وما عرفوه حق معرفته نزلت في مالك بن الضيف خاصمه عمر في النبي صلى الله عليه وسلم أنه مكتوب في التوراة فغضب وقال " ما أنزل الله على بشر من شيء " وكان رئيس اليهود فعزلته اليهود عن الرئاسة بهذه الكلمة قال مقاتل نزلت هذه الآية بالمدينة وسائر السور بمكة ويقال إن هذه السورة كلها مكية وكان مالك بن الضيف خرج مع نفر إلى مكة معاندين ليسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء وقد(1/485)
486
كان اشتغل بالتنعم وترك العبادة وسمن فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بمكة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشدك الله أتجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين قال نعم قال فأنت الحبر السمين فقد سمنت من مأكلتك فضحك القوم فخجل مالك بن الضيف وقال ما أنزل الله على بشر من شيء فبلغ ذلك اليهود فأنكروا عليه فقال إنه قد أغضبني فقالوا له كلما غضبت قلت بغير حق وتركت دينك فأخذوا الرياسة منه وجعلوها إلى كعب بن الأشرف فنزلت هذه الآية " وما قدروا الله حق قدره " حيث جحدوا تنزيله " إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء " يعني على رسول من كتاب
" قل " يا محمد " من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى " وهو التوراة " نورا " يعني ضياء " وهدى " يعني بيانا " للناس " من الضلالة " جعلونه قراطيس " يقول تكتبونه في الصحف " تبدونها " يقول تظهرونها في الصحف " وتخفون كثيرا " يعني تكتمون ما فيه صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وآية الرجم وتحريم الخمر " وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم " يعني علمتم أنتم وآباؤكم في التوراة ما لم تعلموا ويقال " علمتم " على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم فإن أجابوك وإلا ف " قل الله " أنزله على موسى " ثم ذرهم " إن لم يصدقوك " في خوضهم " يعني في باطلهم " يلعبون " يعني يلهون ويهزؤون ويفترون قرأ ابن كثير وأبو عمرو " يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفونها كثيرا " كل ذلك بالياء على لفظ المغايبة وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة لأن ابتداء الكلام على المخاطبة
سورة الأنعام 92
ثم قال تعالى " هذا كتاب أنزلناه " يعني القرآن أنزلناه على محمد صلى الله عليه وسلم " مبارك " أي لمن عمل به لأن فيه مغفرة للذنوب وقال الضحاك " مبارك " يعني القرآن لا يتلى على ذي عاهة إلا برئ ولا يتلى في بيت إلا خرج منه الشيطان " مصدق الذي بين يديه " يعني هو مصدق الذي بين يديه من الكتب " ولينذر " قرأ عاصم في رواية أبي بكر " ولينذر " بالياء يعني الكتاب يعني أنزلناه للإنذار والبركة وقرأ الباقون بالتاء يعني لتنذر به يا محمد " أم القرى " يعني أهل مكة وهي أصل القرى وإنما سميت أم القرى لأن الأرض كلها دحيت من تحت الكعبة ويقال لأنها مثلث قبلة للناس جميعا أي يؤمونها ويقال سميت أم القرى لأنها أعظم القرى شأنا ومنزلة " ومن حولها " يعني قرى الأرض كلها
ثم قال " والذين يؤمنون بالآخرة " يعني بالبعث " يؤمنون به " أي بالقرآن ومن هو في(1/486)
487
علم الله أنه سيؤمن " وهم على صلاتهم يحافظون " بوضوئها وركوعها وسجودها ومواقيتها
سورة الأنعام 93 - 94
قوله تعالى " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا " نزلت في مسيلمة الكذاب زعم أن الله تعالى أوحى إليه وهو قوله تعالى " أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء " " ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله " يعني عبد الله بن أبي سرح كان كاتب الوحي فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أملى عليه " سميعا عليما " يكتب عليما حكيما وإذا أملى عليه عليما حكيما كتب هو سميعا بصيرا وشك وقال إن كان محمد صلى الله عليه وسلم يوحى إليه فقد أوحي إلي وإن كان ينزل إليه فقد أنزل إلي مثل ما أنزل إليه فلحق بالمشركين وكفر وقال الضحاك هو مسيلمة الكذاب كان يقول بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى جسيم الأمور وبعثت إلى محقرات الأمور ويقال هذا جواب لقولهم " لو نشاء لقلنا مثل هذا " الأنفال 31
ثم قال " ولو ترى إذ الظالمون " يعني ولو تعلم إذ الكافرون " في غمرات الموت " أي في نزعات الموت وسكراته فحذف الجواب لأن في الكلام دليلا عليه ومعناه لو رأيتهم لرأيتهم في عذاب شديد
ثم قال " والملائكة باسطو أيديهم " بالضرب ويقولون " أخرجوا أنفسكم " يعني أرواحكم الخبيثة
قال حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا أبو القاسم أحمد بن حسين قال حدثنا محمد بن سلمة قال حدثنا أبو أيوب عن القاسم بن الفضل الحراني عن قتادة عن أسامة بن زهير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المؤمن إذا احتضر أتته الملائكة بحريرة فيها مسك ومن ضباير الريحان وتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين ويقال لها يا أيتها النفس المطمئنة اخرجي راضية مرضية ومرضيا عنك إلى روح الله وكرامته فإذا خرجت روحه وضعت على ذلك المسك والريحان وطويت عليه الحريرة وبعث بها إلى العليين وإن الكافر إذا حضر أتته الملائكة بمسح فيه جمرة فتنتزع روحه انتزاعا شديدا ويقال لها أيتها النفس الخبيثة اخرجي ساخطة ومسخوطة عليك إلى هوان الله وعذابه فإذا خرجت روحه وضعت على تلك الجمرة وإن لها نشيجا ويطوى عليها المسح ويذهب بها إلى سجين(1/487)
488
ثم قال تعالى " اليوم تجزون " يعني إذا بعثوا يوم القيامة يقال لهم اليوم تجزون " عذاب الهون " يعني الهوان ويقال الشديد " بما كنتم تقولون على الله " أي في الدنيا " غير الحق " بأن معه شريكا " وكنتم عن آياته تستكبرون " يعني عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ولم تقروا به
قوله تعالى " ولقد جئتمونا فرادى " يعني في الآخرة " فرادى " لا ولد لكم ولا مال الفرادى جمع فرد يعني ليس معكم من دنياكم شيء " كما خلقناكم أول مرة " أي في الدنيا حين ولدتم " وتركتم ما خولناكم " يعني أعطيناكم من المال والولد " وراء ظهوركم " في الدنيا " وما نرى معكم شفعاءكم " يعني آلهتكم " الذين زعمتم " في الدنيا " أنهم فيكم شركاء " يعني قلتم لي شركاء ولكم شفعاء عند الله تعالى
" لقد تقطع بينكم " قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية حفص " بينكم " بالنصب وقرأ الباقون " بينكم " بالضم فمن قرأ بالضم جعل البين اسما يعني نقطع وصلتكم ومودتكم ومن قرأ بالنصب فمعناه لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم فيصير نصبا بالظرف كما تقول أصبحت بينكم أي فيما بينكم " وضل عنكم ما كنتم تزعمون " يعني اشتغل عنكم ما كنتم تعبدون وتزعمون أنها شفعاؤكم
سورة الأنعام 95 - 96
قوله تعالى " إن الله فالق الحب والنوى " يعني يشق الحبة اليابسة فيخرج منها ورقا أخضر ويقال " فالق الحب " مثل البر والشعير والذرة والحبوب كلها " والنوى " كل ثمرة فيها نوى مثل الخوخ والمشمش والغبيراء والإجاص " يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي " وقد ذكرنا تأويله " ذلكم الله " ربكم يعني هذا الذي يفعل بكم هو الله تعالى وهو الذي يفعل هذه الأشياء " فأنى تؤفكون " يعني كيف تكفرون ومن أين تكذبون فذكر عيب آلهتهم
ثم دل على وحدانيته بصنعه قال " فالق الإصباح " يعني خالق الإصباح الإصباح والصبح واحد ويقال الإصباح مصدرا أصبح يصبح إصباحا والصبح اسم ويقال " فالق الإصباح " يعني خالق النهار " وجعل الليل سكنا " قرأ أهل الكوفة حمزة والكسائي وعاصم " وجعل الليل " على معنى الخبر وقرأ الباقون " جاعل الليل " على معنى الإضافة " سكنا " يعني يسكن فيه الخلق
ثم قال " والشمس والقمر حسبانا " يعني وجعل الشمس والقمر " حسبانا " يعني منازلهما بالحساب لا يجاوزانه إذا انتهيا إلى أقصى منازلهما رجعا وهذا قول الكلبي وقال(1/488)
489
مقاتل " حسبانا " يعني يعرف بهما عدد السنين والحساب وقال القتبي " حسبانا " أي حسابا يقال خذ كل شيء أي بحسبانه أي بحسابه وقال الكلبي ويقال للشيء المعلق حسبانا " ذلك تقدير العزيز العليم " يقال هذا فعل " العزيز " في ملكه " العليم " بخلقه لا فعل لأصنامكم فيه
سورة الأنعام 97 - 98
ثم قال " وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها " يعني لتعرفوا بها الطريق " في ظلمات البر والبحر " يعني لتهتدوا بالكواكب في الليالي وتعرفوا بها قبلتكم " قد فصلنا الآيات " يعني بينا العلامات لوحدانية الله تعالى " لقوم يعلمون " وإنما أضاف إلى أهل العلم لأنهم هم الذين ينتفعون به فكأنه بين لهم ويقال " لقوم يعلمون " يعني يصدقون أنه من الله تعالى
ثم قال " وهو الذي أنشأكم " يعني خلقكم " من نفس واحدة " وهو آدم " فمستقر ومستودع " يعني " مستقر " في الرحم " ومستودع " في الصلب ويقال " مستقر " في الصلب " ومستودع " في الرحم ويقال " مستقر " في الدنيا " ومستودع " في القبر قرأ ابن كثير وأبو عمرو " فمستقر " بكسر القاف وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالنصب فمعناه فلكم مستقر ولكم مستودع يعني موضع قرار وموضع إيداع ومن قرأ بالكسر فعلى معنى الفاعل يقال قر الشيء واستقر بمعنى واحد يعني كنتم مستقرين " قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون " يعني بينا العلامات لمن له عقل وذهن
سورة الأنعام 99
قوله تعالى " وهو الذي أنزل من السماء ماء " يعني المطر " فأخرجنا به " بالمطر " نبات كل شيء " يعني معاشا للخلق من الثمار والحبوب وغير ذلك " فأخرجنا منه خضرا " خضر وأخضر بمعنى واحد الأخضر يعني النبات الأخضر وهو أول ما يخرج
ثم قال " نخرج منه حبا متراكبا " يعني السنبلة قد ركب بعضها بعضا " ومن النخل من طلعها " يعني أخرجنا بالماء من النخل من طلعها يعني من عذوقها وثمرها " قنوان دانية " يعني عذوقا متدلية متدانية قريبة ينالها القائم والقاعد يعني من عذوقها عذوق قريبة(1/489)
490
" وجنات من أعناب " يعني يخرج بالماء ( جنات من أعناب ) قرأ الأعمش " وجنات " بالضم عطفها على قوله " قنوان دانية " وقرأ العامة بالكسر ومعناه وأخرجنا جنات من أعناب " والزيتون " يعني أخرجنا منه شجر الزيتون " والرمان متشابها " يعني ورقها في المنظر يشبه بعضها بعضا ويقال ثمرتها مشتبهة في المنظر " وغير متشابه " في الطعم يعني بعضها حلو وبعضها حامض
قوله " انظروا إلى ثمره " قرأ حمزة والكسائي " انظروا إلى ثمره " بضم الثاء والميم وقرأ الباقون بالنصب وكذلك ما بعده فمن قرأ بالنصب فهو اسم الثمرة وإنما أراد به الجنس ومن قرأ بالضم فهو جمع الثمار " إذا أثمر وينعه " يعني ونضجه يعني انظروا إلى نضجه واعتبروا به واعلموا أن له خالقا فهو قادر على أن يحييكم بعد الموت كما أخرج من الأرض اليابسة النبات الأخضر ومن الشجرة الثمار " إن في ذلكم لآيات " يعني في اختلاف ألوانه لعلامات " لقوم يؤمنون " يعني يصدقون ويرغبون في الحق
سورة الأنعام 100 - 103
قوله تعالى " وجعلوا لله شركاء الجن " يعني وضعوا لله شركاء وقال مقاتل وذلك أن بني جهينة قالوا إن صنفا من الملائكة يقال لهم الجن بنات الرحمن وذلك قوله " وجعلوا لله شركاء الجن " وقال الكلبي " وجعلوا لله شركاء الجن " نزلت هذه الآية في الزنادقة قالوا إن الله تعالى وإبليس لعنه الله ولعنهم أخوان قالوا إن الله تعالى خالق الناس والدواب وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب كقوله " وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا " الصافات158 قال الزجاج معناه أطاعوا الجن فيما سولت من شركهم فجعلوهم شركاء الله وهذا قريب مما قاله الكلبي
ثم قال " وخلقهم " يعني جعلوا لله الذي خلقهم شركاء ويقال " وخلقهم " يعني خلق الجن ويقال وخلقهم يعني الذين تكلموا به " وخرقوا له بنين وبنات " يعني وصفوا له البنين والبنات " بغير علم " يعني بلا علم تعلمونه ويقال بلا حجة وبيان وروى عبد الله بن موسى عن جويرية قال سمعت رجلا سأل الحسن عن قوله " وخرقوا له " قال كلمة عربية كانت العرب تقولها كان الرجل إذا كذب في نادي القوم يقول بعض القوم خرقها والله وقوله " وخرقوا له بنين وبنات " يعني أن اليهود لعنهم الله قالوا عزيز ابن الله والنصارى(1/490)
491
لعنهم الله قالوا المسيح ابن الله وكفار قريش جعلوا الملائكة والأصنام بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
ثم نزه نفسه فقال " سبحانه " يعني تنزيها له " وتعالى عما يصفون " يعني هو أعلى وأجل مما يصف الكفار بأن له ولدا قرأ نافع " وخرقوا " بالتشديد على معنى المبالغة
قوله تعالى " بديع السموات والأرض " يعني خالق السموات والأرض يعني مبدعهما وهو أن يبتدئ شيئا ولم يكن شيئا يعني أنه ابتدعهما ولم يكونا " أنى يكون له ولد " قال القتبي " أنى " على وجهين يكون بمعنى كيف كقوله " فأتوا حرثكم أنى شئتم " البقرة223 وكقوله " أنى يحى هذه الله بعد موتها " البقرة259 ويكون بمعنى من أين كقوله " قتلهم الله أنى يؤفكون " التوبة38 وكقوله " أنى يكون له ولد " أي من أين يكون له الولد " ولم تكن له صاحبة " يعني زوجة " وخلق كل شيء " يعني الملائكة والجن وعيسى وغيرهم وهم خلقه وعبيده " وهو بكل شيء عليم " مما خلق
ثم قال " ذلكم الله ربكم " يعني الذي فعل هذا هو ربكم " لا إله إلا هو " يعني لا خالق غيره " خالق كل شيء فاعبدوه " يعني وحدوه وأطيعوه " وهو على كل شيء وكيل " يعني كفيل بأرزاقهم ويقال " وكيل " يعني حفيظ
ثم عظم نفسه فقال " لا تدركه الأبصار " قال مقاتل يعني لا يراه الخلق في الدنيا وروى الشعبي عن مسروق قال قلت لعائشة رضي الله عنها هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه فقالت لقد اقشعر قلبي مما قلت وجلدي أين أنت من ثلاثة من حدثك بهن فقد كذب من حدثك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب ثم قرأت " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار " ومن حدثك أنه قد علم ما في غد فقد كذب ثم قرأت " وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا " سورة لقمان34 ومن حدثك أنه كتم شيئا من الوحي فقد كذب ثم قرأت " يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " المائدة67
ثم قال " وهو يدرك الأبصار " يعني لا يخفى عليه شيء ولا يفوته قال الزجاج في هذه الآية دليل أن الخلق لا يدركون الأبصار أي لا يعرفون كيف حقيقة البصر وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه فاعلم أنهم لا يحيطون بعلمه فكيف به
ثم قال " وهو اللطيف الخبير " يعني " اللطيف " في فعله " الخبير " بخلقه وبأعمالهم وقال أبو العالية " لا تدركه الأبصار " يعني في الدنيا وتدركه أبصار المؤمنين في الآخرة(1/491)
492
سورة الأنعام 104 - 105
قوله تعالى " قد جاءكم بصائر من ربكم " وهو القرآن الذي فيه البيان " فمن أبصر فلنفسه " يقول من صدق بالقرآن وآمن به فثوابه لنفسه " ومن عمي فعليها " يعني من لم يصدق بالقرآن ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فعليه جزاء العذاب " وما أنا عليكم بحفيظ " يعني بمسلط وهذا قبل أن يؤمر بالقتال
ثم قال " وكذلك نصرف الآيات " يعني نبين لهم الآيات في القرآن في كل وجه " وليقولوا درست " قرأ ابن كثير وأبو عمرو " دارست " يعني ذاكرت أهل الكتاب وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي " وليقولوا درست " بغير ألف يعني قرأت الكتب ويقال تعلمت من جبر ويسار وكانا غلامين بمكة عبرانيين فقال أهل مكة إنما يتعلم منهما وقرأ ابن عامر " درست " بنصب الراء والسين وسكون التاء يعني هذا شيء قديم قد خلقت وقرأ بعضهم " درست " أي قرئت وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ " ليقولوا " بغير واو " درس " بغير تاء يعني لكي يقولوا درس النبي وكان نزول هذه الآيات سبب لقولهم هذا فأضاف قولهم إلى الآيات ثم قال تعالى " ولنبينه لقوم يعلمون " يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
سورة الأنعام 106 - 107
قوله تعالى " اتبع ما أوحي إليك من ربك " يعني اعمل بما أنزل إليك من ربك من أمره ونهيه وذلك حين دعي إلى ملة آبائه ثم قال " لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين " يعني لا خالق غيره اتركهم على ضلالتهم
ثم قال " ولو شاء الله ما أشركوا " يقول ولو شاء الله لجعلهم مؤمنين ويقال " ولو شاء الله " لأنزل عليهم آية يؤمنون بها ويقال " لو شاء " لاستأصلهم فقطعهم بسبب شركهم " وما جعلناك عليهم حفيظا " يعني أن لم يوحدوا " وما أنت عليهم بوكيل " يعني بمسلط
سورة الأنعام 108
قوله تعالى " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يذكرون الأصنام بسوء ويذكرون عيبهم فقال المشركون لتنتهين عن شتم آلهتنا أو لنسبن ربكم فنهى الله تعالى المؤمنين عن شتم آلهتهم عندهم لأنهم جهله " فيسبوا الله عدوا "(1/492)
493
يعني اعتداء " بغير علم " منهم يعني بلا علم ويقال " عدوا " ظلما صار نصبا بالمصدر وفي الآية دليل أن الإنسان إذا أراد أن يأمر بالمعروف فيقع المأمور به في أمر هو شر مما هو فيه من الضرب أو الشتم أو القتل فإنه ينبغي أن لا يأمر ويتركه على ما هو فيه
ثم قال تعالى " كذلك زينا " يقول هكذا زينا " لكل أمة " يعني لكل أهل دين عملهم يعني ضلالتهم في الدنيا عقوبة ومجازاة لهم " ثم إلى ربهم مرجعهم " أي في الآخرة " فينبئهم بما كانوا يعملون " يعني فيجازيهم بذلك
سورة الأنعام 109
قوله تعالى " وأقسموا بالله جهد أيمانهم " وكان أهل الجاهلية يحلفون بآبأئهم وبالأصنام وبغير ذلك وكانوا يحلفون بالله تعالى وإذا كانت اليمين بالله يسمونه جهد اليمين ولما نزل قوله " إن نشأ ننزل عليهم من السماء ءاية " الشعراء 4 قالوا أنزلها فوالله لنؤمنن بك وقال المسلمون أنزلها لكي يؤمنوا فنزل " وأقسموا بالله جهد أيمانهم " يقول حلفوا بالله " لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها " قال الله تعالى " قل إنما الآيات عند الله " إن شاء أنزلها وإن شاء لم ينزلها
ثم قال " وما يشعركم أنها " يقول وما يدريكم أنها " إذا جاءت " يعني الآية " لا يؤمنون " وقال مقاتل " وما يشعركم " يا أهل مكة أنها إذا جاءتكم لا تؤمنون وقال الكلبي يعني " وما يشعركم " أيها المؤمنون إنها إذا جاءت لا يؤمنون قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر " إنها " بالكسر على معنى الابتداء وإنما يتم الكلام عند قوله " وما يشعركم " ثم ابتدأ فقال " إنها إذا جاءت لا يؤمنون " ويشهد لهذا قراءة عبد الله بن مسعود " وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون " وقرأ الباقون " أنها " بالنصب على معنى البناء وتشهد لها قراءة أبي وما يشعركم لعلها إذا جاءت وقرأ ابن عامر وحمزة " لا تؤمنون " بالتاء على معنى المخاطبة وهذه القراءة توافق لقول مقاتل
سورة الأنعام 110 - 111
ثم قال تعالى " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم " يعني نترك قلوبهم وأبصارهم معلقة كما هي ولا نوفقهم " كما لم يؤمنوا به أول مرة " قبل نزول الآيات ويقال عند انشقاق القمر لما لم يعتبروا به ولم يؤمنوا فعاقبهم الله تعالى وختم على قلوبهم فثبتوا على كفرهم(1/493)
494
" ونذرهم " يقول وندعهم " في طغيانهم " يعني في ضلال " يعمهون " يعني يترددون ويتحيرون فيه ويقال " كما لم يؤمنوا به أول مرة " يعني كما لم يؤمن به أوائلهم من الأمم الخالية لما سألوا الآية من أنبيائهم عليهم السلام
قوله تعالى " ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة " هذا جواب لقولهم " لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا " قال الله تعالى " ولو أننا أنزلنا إليهم الملائكة " كما سألوا حتى يشهدوا بأنك رسول الله " وكلمهم الموتى " بأنك رسول الله " وحشرنا عليهم كل شيء قبلا " قرا نافع وابن عامر " قبلا " بكسر القاف ونصب الباء وقرأ الباقون بالضم فمن قرأ بالضم فمعناه جماعة القبيل والقبيل الكفيل ويقال " قبلا " أي أصنافا من الآدميين ومن الملائكة ومن الوحش ومن قرأ " قبلا " بالكسر معناه وحشرنا عليهم كل شيء معاينة فعاينوه " ما كانوا ليؤمنوا " وهذا إعلام للنبي صلى الله عليه وسلم بأنهم لا يؤمنون كما أعلم نوحا " أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد ءامن " هود 36
ثم قال " إلا أن يشاء الله " يعني إلا من هو أهل لذلك فوفقه الله تعالى ويقال " إلا أن يشاء الله " يقول قد شاء الله أن لا يؤمنوا حيث خذلهم ولم يوفقهم " ولكن أكثرهم يجهلون " عن ذلك ويقال " أكثرهم يجهلون الحق " أنه من الله تعالى ويقال " يجهلون " ما في العلامة من وجوب هلاكهم بعد العلامة إن لم يؤمنوا
سورة الأنعام 112 - 113
قوله تعالى " وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا " يعني أعداء ومعنى ذلك كما جعلنا لك ولأمتك أعداء مثل أبي جهل وأصحابه كذلك جعلنا لكل نبي عدوا " شياطين الإنس والجن " قال مقاتل وذلك أن إبليس وكل شياطين الإنس وشياطين الجن يضلونهم فإذا التقى شيطان الجن مع شيطان الإنس قال أحدهما للآخر إنى أضللت صاحبي بكذا وكذا فأضلل أنت صاحبك بكذا وكذا فذلك قوله " يوحي بعضهم إلى بعض " يعني يكلم بعضهم بعضا بالإضلال وقال عكرمة للجن شياطين مثل شياطين الإنس وروي عن الزبير بن العوام أن جنيا شكا إليه ما لقي من الشيطان فعلمه دعاء ليخلص منه فدعا به ووجه آخر شياطين الإنس والجن يعني الشياطين من الإنس والشياطين من الجن لأن كل عات متمرد فهو شيطان
وروى عن أبي ذر الغفاري أنه قال دخلت على رسول لله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فأمري أن أصلي ركعتين فصليت ثم جلست عنده قال يا أبا ذر تعوذ بالله من شياطين الإنس وشياطين(1/494)
495
الجن فقلت يا رسول الله أو من الإنس شياطين فقال النبي صلى الله عليه وسلم أو ما تقرأ قوله " شياطين الإنس والجن " وكذلك مثل هذين القولين في قوله تعالى " الذي يوسوس في صدور الناس 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 * الزاي وقرأ الباقون بالتخفيف(1/495)
496
ثم قال تعالى " فلا تكونن من الممترين " يعني الشاكين في أنه الحق وأنه من الله خاطبه بذلك وأراد به غيره من المؤمنين لكي لا يشكوا فيه
قوله تعالى " وتمت كلمة ربك " يقول وجب قول ربك بأنه ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم وأن عاقبة الأمر له " صدقا وعدلا " يعني " صدقا " فيما وعد له من النصرة " وعدلا " فيما حكم به " لا مبدل لكلماته " يقول لا مغير لوعده كقوله " لننصر رسلنا " غافر 51 ويقال " لا مبدل لكلماته " يعني لا ينقض بعضه بعضا ولا يشبه كلام البشر وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا " قال هو قول لا إله إلا الله " وهو السميع العليم " " السميع " بما سألوا " العليم " بهم
ثم قال تعالى " وإن تطع أكثر من في الأرض " يعني أهل أرض مكة فيما يدعونه إلى ملة آبائه ويقال " وإن تطع أكثر من في الأرض " يعني الكفار لأن أكثر من في الأرض كانوا كفارا " يضلوك عن سبيل الله " يعني يصرفونك عن دين الله الإسلام " إن يتبعون إلا الظن " يعني القوم يتبعون أكابرهم بالظن ويتبعونهم فيما لا يعلمون أنهم على الحق فإن قيل كيف يعذبون وهم ظانون على غير يقين قيل لهم لأنهم اقتصروا على الظن والجهل لأنهم اتبعوا أهواءهم ولم يتفكروا في طلب الحق ويقال " إن يتبعون إلا الظن " يعني في أكل الميتة واستحلالها " وإن هم إلا يخرصون " يعني ما هم إلا كاذبون باستحلالهم الميتة وأكلهم لأنهم كانوا يقولون ما قتل لله فهو أولى بالحل وبأكله مما نذبحه بأيدينا
ثم قال " إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله " يعني عن دينه وعن شرائع الإسلام " وهو أعلم بالمهتدين " لدينه قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي " وتمت كلمة ربك " بلفظ الوحدان وقرأ الباقون " كلمات " بلفظ الجماعة
سورة الأنعام 118 - 119
قوله تعالى " فكلوا مما ذكر اسم الله عليه " من الذبائح " إن كنتم بآياته مؤمنين " يعني مصدقين فقد بين الله تعالى أنه لا يجوز أكل الميتة وإنما يحل أكل ما ذبح وذكر اسم الله عليه
ثم قال " وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه " يعني مما ذبح وذكر اسم الله عليه " وقد فصل لكم ما حرم عليكم " يعني بين لكم تحريمه في سورة المائدة وغيره من " ما حرم(1/496)
497
عليكم ) يعني الميتة وغيرها " إلا ما اضطررتم إليه " يقول ما اجتهدتم إلى أكل الميتة عند الجوع قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو " فصل لكم " بضم الفاء " ما حرم عليكم " بضم الحاء على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " وقد فصل " بالنصب " وما حرم " بالضم وقرأ نافع وعاصم في رواية حفص كلاهما بالنصب يعني بين الله لكم ما حرم عليكم
ثم قال " وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم " يقول يدعون إلى أكل الميتة بغير علم " إن ربك هو أعلم بالمعتدين " من الحلال إلى الحرام
سورة الأنعام 120 - 121
قوله تعالى " وذروا ظاهر الإثم وباطنه " يعني زنى السر والعلانية لأن أهل الجاهلية كانوا يحرمون الزنى في العلانية ولا يرون به بأسا في السر فأخبر الله تعالى أن الزنى حرام في السر والعلانية ويقال " ظاهر الإثم " هو الزنى " وباطنه " القبلة واللمس والنظر وقال الضحاك " ظاهر الإثم " الزنى " وباطنه " نكاح الأمهات والأخوات وقال قتادة " ظاهر الإثم وباطنه " يعني قليله وكثيره ويقال ظاهره ارتكاب المعاصي وباطنه ترك الفرائض ويقال باطنه الرياء في الأعمال ويقال الكفر ويقال جميع المعاصي " إن الذين يكسبون الإثم " يقول يعملون الفواحش ويتكلمون بها " سيجزون بما يقترفون " يقول سيعاقبون بما كانوا يكسبون من الإثم قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بضم الياء يعني يضلون الناس وقرأ الباقون " ليضلون " بنصب الياء يعني يضلون بأنفسهم
قوله تعالى " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " يعني ما لم يذك ولم يذبح أو ذبح بغير اسم الله " وإنه لفسق " يعني أكله معصية واستحلاله كفر " وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم " يعني يوسوسون إلى أوليائهم من المشركين " ليجادلوكم " يقول ليخاصموكم في أكل الميتة وهو قولهم ما قتله الله فهو أولى أن يؤكل ويقال الوحي على ثلاثة أوجه الإشارة والإلهام والوسوسة وروي عن عبد الله بن الزبير أنه قيل له إن المختار يقول يوصي إلي فقال صدق " وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم "
قال الفقيه حدثنا أبو الفضل بن أبي جعفر قال حدثنا أبو جعفر الطحاوي بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال قال المشركون للمسلمين ما قتل ربكم ومات فلا تأكلوه وما(1/497)
498
قتلتم أنتم وذبحتم فتأكلونه فأوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " إلى قوله " وإن أطعتموهم " يعني في أكل الميتة واستحلالها " إنكم لمشركون " مثلهم ففي الآية دليل أن من استحل شيئا مما حرم الله تعالى صار مشركا
سورة الأنعام 122 - 123
ثم قال تعالى " أو من كان ميتا فأحييناه " يعني من كان ضالا كافرا فهديناه إلى الإسلام والتوحيد " وجعلنا له نورا يمشي في الناس " يعني أكرمناه بالمغفرة ويقال جعلنا له إيمانا يهتدي به إلى سبيل الخيرات والنجاة " يمشي به في الناس " يعني مع المؤمنين ويقال أعطيناه نورا يوم القيامة يمشي به على الصراط مع المؤمنين ولا يكون حاله " كمن مثله في الظلمات " يعني كمن قدر عليه الكفر ونزل في الكفر مخذولا " ليس بخارج منها " يعني ليس براجع منها قال الكلبي نزلت في عمار بن ياسر يعني ليس حاله كحال الكفار وقال مقاتل يعني به النبي صلى الله عليه وسلم ليس مثل أبي جهل بن هشام الذي بقي في الكفر ويقال يعني جميع المؤمنين ليس حالهم كحال الكفار قرأ نافع " أو من كان ميتا " بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف ومعناهما واحد
ثم قال " كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون " يعني هكذا يعاقب من اختار الكفر على الإيمان فيختم على قلبه مجازاة لكفره
ثم قال " وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها " يعني جعلنا مجرميها أكابرها وجبابرتها كما جعلنا في أهل مكة وهذا معطوف على ما قبله أي مثل ذلك جعلنا في كل قرية كما زين للكافرين " ليمكروا فيها " يعني ليتكبروا فيها ويكذبوا رسلهم " وما يمكرون " يعني وما يصنعون ذلك " إلا بأنفسهم " أي إلا على أنفسهم " وما يشعرون " أن ذلك على أنفسهم
سورة الأنعام 124 - 125
قوله تعالى " وإذا جاءتهم آية " يعني الأكابر الذين سبق ذكرهم ويقال كفار مكة إذا(1/498)
499
جاءتهم علامة مثل انشقاق القمر وغيره " قالوا لن نؤمن " لك يعني لن نصدقك ولن نؤمن بالآيات " حتى نؤتى مثل ما أوتي " أي مثل ما أعطي " رسل الله " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم من الآيات والعلامات ويقال لن نصدقك حتى يوحى إلينا كما أوحي إلى الرسل وذلك أن الوليد بن المغيرة وأبا مسعود الثقفي قالا لو أراد الله تعالى أن ينزل الوحي لأنزل علينا قال بعضهم أرادوا به محمدا صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم أرادوا به جميع الرسل فقال الله تعالى " الله أعلم حيث يجعل رسالته " ومن يصلح للنبوة ومن لا يصلح فخص بها محمدا صلى الله عليه وسلم " سيصيب الذين أجرموا " يعني اشركوا " صغار عند الله " يعني مذلة وهوان عند الله أي من عند الله العذاب بالمستهزئين " وعذاب شديد بما كانوا يمكرون " يعني يكذبون بالرسل قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص " حيث يجعل رسالته " بلفظ الوحدان وقرأ الباقون " رسالاته " بلفظ الجماعة
قوله تعالى " فمن يرد الله أن يهديه " يعني من يرد الله أن يوفقه للإسلام ويهديه لدينه " يشرح صدره للإسلام " يقول يوسع قلبه ويلينه لقبول الإسلام ويدخل فيه نور الإسلام وحلاوته وقال القتبي " يشرح صدره " يعني يفتحه
قال الفقيه قال حدثنا الخليل بن أحمد حدثنا الديبلي قال حدثنا أبو عبيد الله عن سفيان عن خالد بن أبي كريمة عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام " قالوا يا رسول الله وكيف ذلك قال إذا دخل النور في القلب انشرح وانفسح قالوا وهل لذلك من علامة يعرف به قال نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزول الموت
ثم قال تعالى " ومن يرد أن يضله " أي عن الإسلام " ويجعل صدره ضيقا " يعني غير موسع " حرجا " يعني شاكا وقال ابن عباس كالشجرة الملتفة بعضها في بعض لا يجد النور منفذا ومجازا قرأ ابن كثير " ضيقا " بتخفيف الياء وجزمها وقرأ الباقون بالتشديد ومعناهما واحد وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر " حرجا " بكسر الراء وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالنصب فهو المصدر ومن قرأ بالكسر فهو النعت
ثم قال تعالى " كأنما يصعد في السماء " يعني مثله كمثل الذي تكلف الصعود إلى السماء وهو لا يستطيع فكذلك قلب الكافر لا يستطيع قبول الإسلام قرأ ابن كثير " يصعد " بجزم الصاد بغير تشديد من صعد يصعد وقرأ عاصم في رواية أبي بكر " يصاعد " بالألف مع تشديد الصاد لأن أصله يتصاعد فأدغم التاء في الصاد وقرأ الباقون " يصعد " بتشديد الصاد والعين بغير ألف لأن أصله يتصعد فأدغم التاء في الصاد(1/499)
500
ثم قال تعالى " كذلك يجعل الله الرجس " يعني العذاب " على الذين لا يؤمنون " بأن لا يرزقهم حلاوة الإيمان على الذين لا يرغبون في الإيمان ويقال الرجس في اللغة هو اللعنة والعذاب
سورة الأنعام 126 - 129
قوله تعالى " وهذا صراط ربك مستقيما " يعني هذا التوحيد دين ربك مستقيما يعني قائما برضاه " قد فصلنا الآيات " يعني بينا الآيات في أمر القلوب والهدى والضلالة " لقوم يذكرون " يعني يتعظون ويتفكرون في توحيد الله ويقال معناه لا عذر لأحد في التخلف عن الإيمان لأن الله تعالى قد بين طريق الهدى وقد بين العلامات في ذلك لمن كان له عقل وتمييز
ثم ذكر ما أعد الله للمؤمنين في الآخرة فقال " لهم دار السلام عند ربهم " وهي الجنة وهي دار السلام من الأمراض والآفات والخوف والهرم وغير ذلك ويقال ( لهم دار السلام ) فالله السلام والجنة داره يعني دار رب العزة التي أعد لأوليائه وهي الجنة " وهو وليهم " أي الله حافظهم وناصرهم في الدنيا ويقال " وهو وليهم " في الآخرة بالثواب أي يجزيهم " بما كانوا يعملون " في الدنيا
قوله تعالى " ويوم يحشرهم " يقول واذكر يوم يجمعهم الله " جميعا " يعني الجن والإنس قرأ عاصم في رواية حفص " يحشرهم " بالياء يعني أن الله يحشرهم وقرأ الباقون " نحشرهم " بالنون " يا معشر الجن " يقول لهم يا معشر الجن " قد استكثرتم من الإنس " يعني قد أضللتم كثيرا من الإنس " وقال أولياؤهم من الإنس " الذين أضلوهم " ربنا استمتع بعضنا ببعض " يعني انتفع بعضنا ببعض فكان استمتاع الإنس بالجن في الدنيا وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا سافر واحد منهم فأدركه المساء بأرض قفر وخاف بالليل فقال أعوذ بسيد أهل هذا الوادي من سفهاء قومه فأمن ولبث في جوارهم حتى يصبح وكان استمتاع الجن بالإنس أن قالوا لقد سودنا الإنس والجن فيزيدون شرفا في قومهم يعني فيما بين الجن والإنس
" وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا " يعني الموت الذي جعلته أجلنا في هذه الدنيا وهذا قول الكلبي وقال الضحاك " ربنا استمتع بعضنا ببعض " يعني خدع بعضنا بعضا عن دينك يعني(1/500)
501
أن الجن قد خدعونا وأضلونا " وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا " يعني ما كتبت علينا من الشقاوة " قال النار مثواكم " يعني منزلكم وهم الجن والإنس " خالدين فيها " مقيمين في النار " إلا ما شاء الله " قال الكلبي مشيئة الله من كل شيء ويقال إلا ما شاء الله البرزخ والقيامة يعني قد شاء لهم الخلود فيها ويقال " إلا ما شاء الله " من إخراج من يخرج منها من أهل التوحيد " إن ربك حكيم عليم "
ثم قال تعالى " وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا " يعني نسلط بعض كفار الجن على كفار الإنس ويقال نولي بعض الظالمين على بعضه فيهلكه أو يذله وهذا كلام لتهديد الظالم لكي يمتنع عن ظلمه لأنه لو لم يمتنع لسلط الله عليه ظالما آخر ويدخل في الآية جميع من يظلم ومن ظلم في رعيته أو التاجر يظلم الناس في تجارته أو السارق وغيرهم وقال فضيل بن عياض إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم فقف وانظر فيه متعجبا وقال ابن عباس إذا رضي الله عن قوم ولى أمرهم خيارهم وإذا سخط الله على قوم أمرهم شرارهم بما كانوا يكسبون ثم تلا قوله " وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا "
عن مالك بن دينار قال قرأت فيما أنزل الله في بعض الكتب المنزلة أن الله تعالى يقول إني أنا الله مالك الملوك قلوب الملوك بيدي ونواصيها بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك ولكن توبوا إلي أجعلهم عليكم رحمة
ثم قال " بما كانوا يكسبون " يعني يسلط بعضهم على بعض بأعمالهم الخبيثة
سورة الأنعام 130 - 131
ثم قال " يا معشر الجن والإنس " يقول لهم " ألم يأتكم رسل منكم " قال مقاتل بعث الله تعالى رسلا من الجن إلى الجن ومن الإنس إلى الإنس ويقال رسل الجن التسعة الذين سمعوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا أجيبوا داعي الله ويقال " ألم يأتكم رسل منكم " يعني من الإنس خاصة وقال ابن عباس كانت الرسل تبعث إلى الإنس وأن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الجن والإنس
ثم قال تعالى " يقصون عليكم " يقول يقرؤون ويعرضون عليكم " آياتي " يعني القرآن " وينذرونكم " يعني يخوفونكم " لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا " يعني يقولون بلى أقررنا أنهم قد بلغوا وكفرنا بهم يعني كما قالت الرسل وذلك بعدما شهد عليهم سمعهم وأبصارهم يقول الله تعالى " وغرتهم الحياة الدنيا " يعني ما في الدنيا من زهرتها وزينتها(1/501)
502
" وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين " في الدنيا يقول الله تعالى " النار مثواكم خالدين فيها " الأنعام 128 على وجه التقديم والتأخير
قوله تعالى " ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم " يعني ذلك السؤال والشهادة ويقال " ذلك " يعني إرسال الرسل إلى الجن والإنس ليعلم " أن لم يكن ربك مهلك القرى " يعني معذب أهل القرى " بظلم " أي بغير ذنب في الدنيا " وأهلها غافلون " عن الرسل ويقال غافلون عن العذاب لأنه قد بين لهم وأخذ عليهم الحجة
سورة الأنعام 132 - 135
ثم قال تعالى " ولكل درجات مما عملوا " يعني ولكل واحد من المؤمنين فضائل في الجنة بعضهم أرفع درجة من بعض وللكافرين درجات بعضهم أشد عذابا من بعض " وما ربك بغافل عما يعملون " يعني لمن ينسى الطاعة من المطيعين ولا المعصية من العاصين ويجازي كل نفس بما عملت قرأ ابن عامر " عما تعملون " على معنى المخاطبة وقرأ الباقون " يعملون " بالياء على معنى المغايبة
قوله تعالى " وربك الغني ذو الرحمة " يعني " الغني " عن عبادة خلقه " ذو الرحمة " بتأخير العذاب عنهم ويقال " ذو الرحمة " يعني ذو التجاوز عمن تاب ورجع إليه بالتوبة " إن يشأ يذهبكم " يعني يهلككم " ويستخلف من بعدكم ما يشاء " خلقا غيركم من بعد هلاككم " ما يشاء " إن يشأ مثلكم وإن يشأ أطوع منكم " كما أنشأكم " يقول كما خلقكم " من ذرية قوم آخرين " قرنا من بعد قرن ولكنه لا يهلككم رحمة منه لكي تراجعوا وتتوبوا إليه
ثم قال " إن ما توعدون لآت " يعني الوعيد الذي أوعد في الآخرة من العذاب لآت يقول لكائن لا خلف فيه " وما أنتم بمعجزين " يعني بسابقين الله تعالى بأعمالكم الخبيثة التي يجازيكم بها هذا قوله مقاتل وقال الكلبي " بمعجزين " أي بفائتين أن يدرككم ويقال في اللغة أعجزني أي فاتني وسبقني
ثم قال " قل يا قوم اعملوا على مكانتكم " أي على موضعكم يقال مكان ومكانة مثل منزل ومنزلة معناه اعملوا على ما أنتم عليه اليوم ويقال " اعملوا " أي اجتهدوا ما استطعتم ويقال اعملوا في منازلكم من الخير والشر فإنكم تجزون بها لا محالة " إني عامل "(1/502)
503
بما أوحى الله إلى ويقال اعملوا بمكاني وأنا عامل بمكانكم " فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار " فهذا وعيد من الله تعالى يقول نبين لكم من تكون له عاقبة الأمور في الدنيا ومن تكون له الجنة في الآخرة " إنه لا يفلح الظالمون " مخاطبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي في الآخرة ولا يأمن المشركون قرأ عاصم في رواية أبي بكر " اعملوا على مكاناتكم " في جميع القرآن بلفظ الجماعة وقرأ الباقون " مكانتكم " وقرأ حمزة والكسائي " من يكون " بالياء لأنه انصرف إلى المعنى وهو الثواب والباقون قرؤوا بالتاء لأن لفظ العاقبة لفظ مؤنث
سورة 136 - 137
قوله تعالى " وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام " وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال كانوا يسمون لله جزءا من الحرث ولأوثانهم جزءا فما ذهبت به الريح من جزء أوثانهم إلى جزء الله تعالى أخذوه وما ذهبت به الريح من الجزء الذي سموه لله إلى جزء الأصنام تركوه وقالوا إن الله غني عن هذا وقال السدي ما خرج من نصيب الأصنام أنفقوه عليها وما خرج من نصيب الله تصدقوا به فإذا هلك الذي لشركائهم وكثر الذي لله قالوا ليس لآلهتنا بد من النفقة فأخذوا الذي لله وأنفقوه على الأصنام وإذا هلك الذي لله وكثر الذي للأصنام قالوا لو شاء الله لأزكى ماله فلا يردون عليه شيئا فذلك قوله تعالى " وجعلوا لله مما ذرأ " يعني مما خلق من الحرث والأنعام " نصيبا " يعني جعلوا لله نصيبا ولشركائهم نصيبا فاقتصر على المذكور لأن في الكلام دليلا على المسكوت عنه " فقالوا هذا لله بزعمهم " يقول بقولهم ولم يأمرهم الله بذلك " وهذا لشركائنا " يعني للأصنام " فما كان لشركائهم " يعني لأصنامهم " فلا يصل إلى الله " يقول فلا يضعون شيئا في نصيب الله تعالى " وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم " يقول يوضع في نصيبهم " ساء ما يحكمون " يعني لو كان معه شريك كما يقولون ما عدلوا في القسمة ويقال " ساء ما يحكمون " حيث وصفوا لله شريكا قرأ الكسائي بزعمهم بضم الزاي وقرأ الباقون بالنصب وهما لغتان ومعناهما واحد
ثم قال تعالى " وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم " يعني زين لهم شركاؤهم وهم الشياطين قتل أولادهم لأنهم يقتلون أولادهم مخافة الفقر والحمية ويدفنون بناتهم أحياء فزين لهم الشيطان ذلك كما زين لهم تحريم الحرث والأنعام ويقال
(1/503)
504
كان الواحد منهم ينذر أنه إذا ولد له كذا وكذا ولدا بذبح واحدا منهم كما فعل عبد المطلب فزين لهم الشيطان قتل أولادهم فذلك قوله " وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم " قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام " وكذلك زين " بضم الزاي " قتل " بضم اللام " أولادهم " بفتح الدال " شركائهم " بالخفض وإنما قرئ " زين " بالضم على فعل ما لم يسم فاعله ومعناه قتل شركائهم على معنى التقديم ومعناه قتل شركائهم وهم أولادهم لأن أولادهم شركاؤهم في أموالهم فصار شركاؤهم نعتا للأولاد وصار الأولاد نصبا على وجه التفسير وقرأ الباقون بالنصب لأنه فعل ماض و " قتل " بالنصب لأنه مفعول " أولاد " بالجر لأنهه مضاف إليه " شركاؤهم " بالضم لأنه جعل الشركاء على وجه الفاعل
ثم قال تعالى " ليردوهم " يعني ليهلكوهم بذلك " وليلبسوا " يعني ليخلطوا وليشبهوا " عليهم دينهم " يعني دين إبراهيم وإسماعيل
ثم قال " ولو شاء الله ما فعلوه " يعني لو شاء الله لمنعهم من ذلك منع اضطرار وقهر ولأهلكهم " فذرهم وما يفترون " يعني دعهم وما يكذبون بأن الله تعالى أمرهم بذلك ومعناه أن الله تعالى مع قدرته عليهم قد تركهم إلى وقت " فذرهم " فاتركهم أنت أيضا إلى الوقت الذي تؤمر بقتالهم ويقال معناه دعهم فإن لهم موعدا بين يدي الله فيحاسبهم ويجازيهم بها
سورة الأنعام 138 - 139
قوله تعالى " وقالوا هذه أنعام وحرث " وهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحرث وهو نوع من الزرع حرموها على النساء " حجر " يعني حرام والحجر يكون عبارة عن العقل كقوله " هل في ذلك قسم لذي حجر " الفجر 5 أي لذي لب وعقل ويكون عبارة عن الحرام كقوله " حجرا محجورا " الفرقان 22 يعني حراما محرما وكقوله " هذه أنعم وحرث حجر " الأنعام 138 يعني حراما " لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم " من الرجال دون النساء وهو مالك بن عوف كان يفتيهم بالحل والحرمة وكان يقول هذا يجوز وهذا لا يجوز لأشياء كانوا حرموها برأيهم
ثم قال " وأنعام حرمت ظهورها " وهي الحام من الإبل كانوا يتركونها ولا يركبونها " وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها " يعني عند الذبح ويقال عند الركوب وهي البحيرة
(1/504)
505
" افتراء عليه " يعني اختلاقا وكذبا على الله بأنه أمرهم بذلك " سيجزيهم " أي سيعاقبهم " بما كانوا يفترون " أي بما كانوا يكذبون على الله بأنه أمر بهم " وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا " قال الكلبي يعني البحيرة والوصيلة حلال لذكورنا يعنون ما دامت في الأحياء وليس للنساء في شركة ولا نصيب فذلك قوله " ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة " يعني من هذه الأنعام " فهم فيه شركاء " يعني الرجال والنساء في أكلها وقال الضحاك كانت الناقة إذا ولدت فصيلا ذكرا حرموا لحم الفصيل ولبن الناقة الفصيل ولبن الناقة ذكر في أول الكلام " خالصة " لفظ التأنيث لأنه انصرف إلى المعنى ومعناه حمله ما في بطون هذه الأنعام
ثم قال " ومحرم على أزواجنا " ذكر بلفظ التذكير لأنه انصرف إلى قوله " ما في بطون " قرأ عاصم في رواية أبي بكر " وإن تكن " بالتاء على معنى التأنيث " ميتة " بالنصب يعني وإن تكن الجماعة ميتة صارت الميتة خبر كان وقرأ ابن عامر " وإن يكن ميتة " بالضم يعني وإن كانت ميتة جعلها اسم كان رفعا وقرأ ابن كثير " وإن يكن " بالياء " ميتة " بالضم يعني وإن يكن ما فيه ميتة بلفظ التذكير وجعل الميتة اسم كان وقرأ الباقون " وإن يكن ميتة " جعلوا الميتة خبر كان بلفظ التذكير
ثم قال " سيجزيهم وصفهم " صار نصبا لنزع الخافض يعني سيعاقبهم بكذبهم " إنه حكيم " حيث حكم عليهم بالعذاب " عليم " بهم وفي الآية دليل أن العالم ينبغي له أن يتعلم قول من خالفه وإن لم يأخذ به حتى يعلم فساد قوله ويعلم كيف يرد عليه لأن الله تعالى أعلم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قول من خالفهم في زمانهم ليعرفوا فساد قولهم
سورة الأنعام 140
قوله تعالى " قد خسر الذين قتلوا أولادهم " يعنوا دفنوا بناتهم أحياء وقتلوهن " سفها " صار نصبا لنزع الخافض يعني جهلا منهم " بغير علم " يعني بغير حجة لهم في قتلهن وهم ربيعة ومضر كانوا يقتلون بناتهم لأجل الحمية وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا من أصحابه كان لا يزال مغتما بين يديه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك تكون محزونا فقال يا رسول الله إني قد أذنبت في الجاهلية ذنبا فأخاف أن لا يغفر لي وإني أسلمت فقال له أخبرني عن ذنبك فقال يا رسول الله إني كنت من الذين يقتلون بناتهم فولدت لي بنت فتشفعت إلي
(1/505)
506
امرأتي بأن أتركها فتركتها حتى كبرت وأدركت وصارت من أجمل النساء فخطبوها فدخلت علي الحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زوج فقلت للمرأة إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي فابعثيها معي فسرت بذلك وزينتها بالثياب والحلي وأخذت علي المواثيق بأن لا أخونها فذهبت بها إلى رأس بئر فنظرت إلى البئر ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر فالتزمت بي وجعلت تبكي وتقول يا أبت أي شيء تريد أن تفعل بي فرحمتها ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمية ثم التزمتني وجعلت تقول يا أبي لا تضيع أمانة أمي فجعلت مرة أنظر في البئر ومرة أنظر إليها وأرحمها حتى غلبني الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة وهي تنادي في البئر يا أبت قتلتني فمكثت هنالك حتى انقطع صوتها فرجعت فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال لو أمرت أن أعاقب أحدا بما فعل في الجاهلية لعاقبتك بما فعلت
ثم قال تعالى " وحرموا ما رزقهم الله " يعني ما أعطاهم الله " افتراء " يعني كذبا " على الله " بأنه قد حرم ذلك عليهم " قد أضلوا " أي عن الهدى " وما كانوا مهتدين " يعني وما هم بمهتدين ويقال " وما كانوا مهتدين " من قبل فخذلهم الله تعالى بذلك قرأ ابن كثير وابن عامر " قتلوا " بالتشديد لتكثير الفعل والباقون بالتخفيف
سورة الأنعام 141 - 144
قوله تعالى " وهو الذي أنشأ جنات معروشات " يعني خلق البساتين والكروم وما يعرش وهو الذي يبسط مثل القرع ونحو ذلك " وغير معروشات " يعني كل شجرة قائمة على أصولها " والنخل والزرع " يعني خلق النخل والزرع " مختلفا أكله " يعني طعمه منه الحامض والحلو والمر " والزيتون والرمان متشابها " يعني في المنظر " وغير متشابه " يعني في الطعم " كلوا من ثمره إذا أثمر " وإنما ذكر ثمره بلفظ التذكير لأنه انصرف إلى المعنى يعني ثمره الذي ذكرناه " وآتوا حقه يوم حصاده " يعني أعطوا زكاته يوم كيله ودفعه قرأ أبو
(1/506)
507
عمرو وعاصم وابن عامر " حصاده " بنصب الحاء والباقون بالكسر ومعناهما واحد وروى الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال " وآتوا حقه يوم حصاده " قال العشر أو نصف العشر وروى سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال " وآتوا حقه يوم حصاده " قال عند الزرع أي يعطي القبضة وهو بأطراف الأصابع ويعطي عند الصرام القبض ويدعهم يتتبعون آثار الصرام عن الربيع بن أنس " وآتوا حقه يوم حصاده " قال التقاط السنبل وقال الحسن نسختها آية الزكاة وقال إبراهيم نسختها العشر ونصف العشر وقال الضحاك نسخت آية الزكاة كل صدقة في القرآن وهكذا قال عكرمة وقال سفيان سألت السدي عن قوله تعالى " وآتوا حقه يوم حصاده " قال هذه السورة مكية نسختها العشر ونصف العشر قلت عمن قال عن العلماء قال الفقيه الذي قال إنه صار منسوخا يعني أداؤه يوم الحصاد بغير تقدير صار منسوخا ولكل أصل الوجوب لم يصر منسوخا وبين النبي صلى الله عليه وسلم التقدير وهو العشر ونصف العشر
ثم قال تعالى " ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين " قال ابن عباس رضي الله عنهما عمد ثابت بن قيس إلى خمسمائة نخلة فصرمها وقسمها في يوم واحد فأمسى ولم يكن لأهله شيء فنزل " ولا تسرفوا " ولا تتصدقوا بالكل ولا تمنعوا لعيالكم شيئا وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال جد معاذ بن جبل نخله فلم يزل يتصدق حتى لم يبق منه شيء فنزل " ولا تسرفوا " ويقال " ولا تسرفوا " يعني ولا تنفقوا في المعصية قال مجاهد لو أنفقت مثل أبي قبيس ذهبا في طاعة الله تعالى ما يكون إسرافا ولو أنفقت درهما في طاعة الشيطان كان إسرافا وروي عن معاوية بن أبي سفيان أنه سئل عن قوله " ولا تسرفوا " قال الإسراف ما قصرت عن حق الله ويقال " ولا تسرفوا " يقول لا تشركوا الآلهة في الحرث والأنعام وقد ذكر قوله " كلوا من ثمره " بلفظ التذكير لأنه انصرف إلى المعنى يعني من ثمر ما ذكرنا
ثم قال " إنه لا يحب المسرفين " يعني المشركين الذين يشركون الآلهة في الحرث والأنعام
ثم قال تعالى " ومن الأنعام حمولة وفرشا " يعني أنشأ لكم وخلق لكم من الأنعام حمولة وفرشا أي مما يحمله عليه مثل الإبل والبقر " وفرشا " مثل الغنم وصغار الإبل ويقال الفرش ما لا يطيق الحمل وهي ما دون الحقاق التي لا تصلح للركوب " كلوا مما رزقكم الله " أي من الحرث والأنعام حلالا طيبا " ولا تتبعوا خطوات الشيطان " يعني لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه الشيطان " إنه لكم عدوا مبين " أمي ظاهر العداوة غير ناصح لكم
(1/507)
508
ثم قال " ثمانية أزواج " يعني ثمانية أفراد يقال لكل فرد معه آخر زوج أي يقول خلقت لكم ثمانية أصناف ويقال كلوا مما رزقكم الله ثمانية أزواج نزلت الآية في مالك بن عوف وأصحابه حيث قالوا " ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا " ففي هذه الآية دليل إثبات المناظرة في العلم لأن الله تعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يناظرهم ويبين فساد قولهم وفيها إثبات القول بالنظر والقياس وفيها دليل أن القياس إذا ورد عليه النص بطل القول به ويروى إذا ورد عليه النقض لأن الله تعالى أمرهم أن يثبتوا بالمقايسة الصحيحة وأمرهم بطرد علتهم وأمرهم بأن يبينوا وجه الحرمة إن كان سبب الحرمة الأنوثة أو الذكورة أو اشتمال الرحم فإن كان سبب الحرمة الأنوثة ينبغي أن تكون كل أنثى حراما لوجود العلة وإن كان سبب الحرمة الذكورة ينبغي أن يكون كل ذكر حراما لوجود العلة وإن كان محرما لاشتمال الرحم وقد حرم الأولاد كلها ووجبت حرمتها جميعا لوجود العلة فيها فبين انتقاض علتهم وفساد قولهم وذلك قوله " ثمانية أزواج " يعني ثمانية أصناف " من الضأن اثنين " يعني الذكر والأنثى " ومن المعز اثنين " يعني الذكر والأنثى " قل الذكرين حرم أم الأنثيين " يعني قل لهم من أين جاء هذا التحريم من قبل الذكرين حرم أم من قبل الأنثيين " أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين " يعني أم من قبل اشتمال الرحم لا يشتمل إلا على الذكر والأنثى
" نبئوني بعلم " يعني أخبروني بسبب التحريم " إن كنتم صادقين " أن الله حرم ما تقولون " ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل الذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين " يعني أين جاء هذا التحريم
ثم قال تعالى " أم كنتم شهداء " يعني إذا لم تقدروا على إثبات تحريم ذلك بالعقل فهل لكم كتاب يشهد على تحريم هذا فذلك قوله " أم كنتم شهداء " " إذ وصاكم الله بهذا " يعني أمركم بذلك التحريم فسكت مالك بن عوف وتحير فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما لك لا تتكلم فقال بل تكلم أنت فأسمع قال الله عز وجل " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا " بغير حجة وبيان " ليضل الناس بغير علم " يعني ليصرف الناس عن حكم الله تعالى بالجهل " إن الله لا يهدي القوم الظالمين " يعني لا يرشدهم إلى الحجة ويقال لا يوفقهم إلى الهدى مجازاة لكفرهم قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر " ومن المعز " بنصب العين وقرأ الباقون بالجزم ومعناهما واحد
سورة الأنعام 145
(1/508)
509
147
ثم بين لهم ما حرم عليهم فقال الله تعالى " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما " يعني لا أجد فيما أنزل علي من القرآن شيئا محرما " على طاعم يطعمه " يعني على آكل يأكله " إلا أن يكون ميتة " قرأ ابن عامر " إلا أن تكون ميتة " بالتاء على لفظ التأنيث لأن الميتة مؤنث وقرأ " ميتة " بالضم لأنه اسم كان وقرأ حمزة وابن كثير " إلا أن تكون " بالتاء بلفظ التأنيث " ميته " بالنصب فجعل الميتة خبرا لكان والاسم فيه مضمر وقرأ الباقون " إلا أن يكون " بلفظ التذكير " الميتة " بالنصب وإنما جعلوه مذكرا لأنه انصرف إلى المعنى ومعناه إلا أن يكون المأكول ميتة " أو دما مسفوحا " يعني سائلا جاريا " أو لحم خنزير فإنه رجس " أي حرام " أو فسقا " يعني معصية " أهل لغير الله به " يعني لغير اسم الله قد ذبح وقال بعضهم في الآية تقديم وتأخير ومعناه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير أو فسقا أهل لغير الله به فإنه رجس يعني جميع ما ذكر في الآية هو رجس ويقال الرجس هو نعت للحم الخنزير خاصة
وروى عمر بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء فبعث الله نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو وتلا هذه الآية " قل لا أجد فيما أوحي إلي " الآية يعني ما لم يبين تحريمه فهو مباح بظاهر هذه الآية وروى أبو بكر الهذلي عن الحسن أنه قال والله لولا حديث سلمة بن المحبق ما لبسنا خفافكم هذه ولا نعالكم ولا فراءكم حتى نعلم ما هي قال أبو بكر فذكرت ذلك للزهري فقال صدق الحسن ولك عندي أوسع من هذا حدثني عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عباس أنه قرأ " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما " الآية قال إنما حرم من الميتة اكلها وما يؤكل منها وهو اللحم أما الجلد والعظم والشعر والصوف فحلال قال وقد احتج بعض الناس بهذه الآية على أن ما سوى هذه الأشياء التي ذكر في الآية مباح ولكن نحن نقول قد حرم أشياء سوى ما ذكر في الآية مباح وقد بين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وقد قال تعالى " وما ءاتكم الرسول فخذوه وما نهكم عنه فانتهوا " الحشر7
ثم قال تعالى " فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم " وقد ذكرنا تأويل الآية ثم قال " وعلى الذين هادوا حرمنا " يعني أن هذه الأشياء التي ذكرنا في الآية كانت حراما في الأصل وقد حرم الله أشياء كانت حلالا في الأصل على اليهود بمعصيتهم " كل ذي ظفر " يعني الإبل والنعامة والبط والأوز وكل شيء له خف وقال القتبي " كل ذي ظفر "
(1/509)
510
يعني كل ذي مخلب من الطيور وكل ذي حافر من الدواب وسمي ظفرا على الاستعارة وقال الكلبي " كل ذي ظفر " يعني ليس بمنشق ولا مجتر فهو حرام عليهم " ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما " يعني شحوم البطون
ثم استثنى فقال " إلا ما حملت ظهورهما " وقال الضحاك إلا ما كان على اللحوم من الشحوم وقال الكلبي يعني ما تعلق بالظهر من الشحم من الكليتين ويقال حرم عليهم الثروب وأحل ما سواها وواحد الثروب ثرب وهو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش " أو الحوايا " وهو المباعر واحدتها حوية " أو ما اختلط بعظم " مثل الإلية وروى جويبر عن الضحاك قال ما التزق بالعظم ويقال هو المخ " ذلك جزيناهم ببغيهم " يعني ذلك التحريم عاقبناهم بشركهم وظلمهم " وإنا لصادقون " أن هذه الأشياء كانت حلالا في الأصل وحرمناها على اليهود بمعصيتهم لأن اليهود كانوا يقولون إن هذه الأشياء كانت حراما في الأصل
ثم قال تعالى " فإن كذبوك " يعني فيما تقول من التحريم والتحليل " فقل ربكم ذو رحمة واسعة " يعني رحمته وسعت كل شيء لا يعجل بالعقوبة على من عصاه " ولا ير بأسه " يعني عذابه " عن القوم المجرمين " يعني المشركين
سورة الأنعام 148 - 150
قوله تعالى " سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا " يعني ولا أشرك آباؤنا " ولا حرمنا من شيء " ولكن شاء لنا ذلك وأمرنا به ويقال كان مذهبهم مذهب الجبرية
قال الله تعالى " كذلك كذب الذين من قبلهم " يعني الأمم الخالية كذبوا رسلهم كما كذبك قومك وإنما كذبهم الله لأنهم قالوا ذلك على وجه السخرية لا على وجه التحقيق كما قال المنافقون نشهد أنك لرسول الله فكذبهم الله في مقالتهم لأنهم قالوا على وجه السخرية
ثم قال " حتى ذاقوا بأسنا " يعني الأمم الخالية أتاهم عذابنا فهذا تهديد لهم ليعتبروا ثم قال " قل " يا محمد لهم " هل عندكم من علم " يعني بيانا من الله " فتخرجوه لنا " يعني فتبينوه لنا بتحريم هذه الأشياء التي كانوا يحرمونها
ثم بين الله أنهم قالوا ذلك بغير حجة وبيان فقال الله تعالى " إن تتبعون إلا الظن " يعني
(1/510)
511
ما تقولون إلا بالظن من غير يقين وعلم " وإن أنتم إلا تخرصون " يعني قل لهم ما أنتم إلا تكذبون على الله
قوله تعالى " قل فلله الحجة البالغة " يعني الحجة البالغة الوثيقة وهو محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن فبين لهم فيه ما أحل لهم وما حرم عليهم " فلو شاء لهداكم أجمعين " يعني لو شاء لوفقكم لدينه وأكرمكم بالهدى لو كنتم أهلا للإسلام ولكن لم يوفقهم لأنهم لم يجاهدوا في الله حق جهاده
ثم قال " قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا " عليكم " فإن شهدوا " على تحريمه " فلا تشهد معهم " فأخبر الله أنهم لو شهدوا كانت شهادتهم باطلة ولا يجوز قبول شهادتهم لأنهم يقولون بأهوائهم
ثم قال " ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا " يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن " والذين لا يؤمنون بالآخرة " يعني البعث " وهم بربهم يعدلون " يعني يشركون بالله تعالى
سورة الأنعام 151 - 153
ثم قال تعالى " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " يعني قل لمالك بن عوف وأصحابه الذين يحرمون الأشياء على أنفسهم " تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " يعني أبين أبين لكم ما حرم الله عليكم وما أمركم به " ألا تشركوا به شيئا " يقال معناه تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم فقد تم الكلام
أتل عليكم " ألا تشركوا به شيئا " " وبالوالدين إحسانا " يقول نهاكم عن عقوق الوالدين وأمركم ببرهما ويقال معناه " تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا " ويقال معناه حرم عليكم أن تشركوا به شيئا " وبالوالدين إحسانا " يعني أمركم بالإحسان إلى الوالدين " ولا تقتلوا أولادكم من إملاق " يعني من خشية الفقر " نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن " يعني زنى السر والعلانية " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " يعني إلا بالقصاص أو بالرجم أو بترك الإسلام فإن القتل بهذه الأشياء حق
(1/511)
512
" ذلكم وصاكم به " يقول أمركم به في القرآن " لعلكم تعقلون " أمر الله بما حرمه في هذه الآيات وروي عن عبد الله بن مقسم عن ابن عباس قال هذه الآيات المحكمات " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " إلى ثلاث آيات وقال الربيع بن خثيم لرجل هل لك في صحيفة عليها خاتم محمد صلى الله عليه وسلم ثم قرأ هذه الآيات " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم " ويقال هذه الآيات هن أم الكتاب وهن إمام في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ولا يجوز أن يرد عليها النسخ
ثم قال " ولا تقربوا مال اليتيم " يقول لا تأكلوا مال اليتيم ولا تباشروه " إلا بالتي هي أحسن " يعني إلا بالقيام عليه لإصلاح ماله " حتى يبلغ أشده " يعني احفظوا ماله حتى يبلغ رشده قال مقاتل يعني ثماني عشرة سنة وقال الكلبي الأشد ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة ويقال حتى يبلغ مبلغ الرجل ويقال بلوغ الأشد ما بين ثماني عشرة إلى أربعين سنة
ثم قال " وأوفوا الكيل والميزان " يعني أتموا الكيل والميزان عند البيع والشراء " بالقسط " يعني بالعدل " لا نكلف نفسا إلا وسعها " يعني إلا جهدها في العدل يعني إذا اجتهد الإنسان في الكيل والوزن فلو وقعت فيه زيادة قليلة أو نقصان فإنه لا يؤاخذ به إذا اجتهد جهده
قوله تعالى " وإذا قلتم فاعدلوا " يعني اصدقوا وقولوا الحق " ولو كان ذا قربى " يعني وإن كان الحق على ذي قرابة فقولوا الحق ولا تمنعوا الحق " وبعهد الله أوفوا " يقول أتموا العهود التي بينكم وبين الله تعالى والعهد الذي بينكم وبين الناس " ذلكم وصاكم به " يقول أمركم به في الكتاب " لعلكم تذكرون " يعني تتعظون فتمتنعون عما حرم الله عليكم قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " تذكرون " بتخفيف الذال وقرأ الباقون بالتشديد لأن أصله تتذكرون فأدغم إحدى التاءين في الذال
قوله تعالى " وأن هذا صراطي مستقيما " قرأ حمزة والكسائي وعاصم " وإن هذا " بكسر الألف على معنى الابتداء وقرأ الباقون بالنصب على معنى البناء وقرأ ابن عامر " وأن هذا " بجزم النون لأن " أن " إذا خففت منعت عملها ومعنى الآية هذا الإسلام ديني الذي ارتضيته طريقا مستقيما " فاتبعوه ولا تتبعوا السبل " يعني لا تتبعوا دين اليهودية والنصرانية ويقال " هذا صراطي مستقيما " يعني طريق السنة والجماعة " فاتبعوه ولا تتبعوا السبل " يعني الأهواء المختلفة وروي عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم خط بالأرض خطا مستقيما ثم خط بجنبيه خطوطا ثم قال هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل يعني الطريق الذي بجنبي الخط يعني به الأهواء المختلفة
ثم قال " فتفرق بكم عن سبيله " يعني فيضلكم عن دينه " ذلكم وصاكم به لعلكم(1/512)
تتقون " يعني تجتنبون الأهواء المختلفة
513
سورة الأنعام 154 - 157
قوله تعالى " ثم آتينا موسى الكتاب " يعني التوراة ويقال الألواح التي كتبت له حين انطلق إلى الجبل ويقال معناه ثم أتل عليكم ما قال الله تعالى " ثم آتينا موسى الكتاب " ويقال " ثم " بمعنى الواو يعني وآتينا موسى الكتاب " تماما على الذي أحسن " قال القتبي أي تماما على المحسنين كما يقول ثلث مالي لمن غزا أي للغزاة والمحسنون هم الأنبياء والمؤمنون و " على " بمعنى اللام كما نقول في الكلام أتم الله عليه النعمة بمعنى أتم له قال ومعنى الآية والله أعلم وآتينا موسى الكتاب تماما على ما أحسن من العلم والحكمة أي مع ما كان له من العلم والحكمة وكتب المتقدمين أعطيناه زيادة على ذلك ويكون " الذي " بمعنى ما قال ومعنى آخر آتينا موسى الكتاب تتميما منا للمحسنين يعني الأنبياء عليهم السلام والمؤمنين " وتفصيلا " منا " لكل شيء " يعني بيانا لكل شيء قال ويجوز معنى آخر وآتينا موسى الكتاب إتماما منا للإحسان من أحسن تفصيلا لكل شيء " وهدى " من الضلالة " ورحمة " يعني ونعمة ورحمة من العذاب " لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون " يعني لكي يصدقوا بالبعث
ثم قال تعالى " وهذا كتاب أنزلناه مبارك " يعني القرآن فيه بركة لمن آمن به وفيه مغفرة للذنوب " فاتبعوه " يعني اقتدوا به ويقال اعملوا بما فيه من الأمر والنهي " واتقوا " يعني واجتنبوا ولا تتخذوا إماما غير القرآن " لعلكم ترحمون " يعني لكي ترحموا ولا تعذبوا " أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا " يعني أنزلنا هذا القرآن لكي لا تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا يعني اليهود والنصارى ويقال " أن تقولوا " يعني لكراهة أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وذلك أن كفار مكة قالوا قاتل الله اليهود كيف كذبوا أنبياءهم والله لو جاءنا نذير أو كتاب لكنا أهدى منهم فأنزل الله تعالى القرآن حجة عليهم
ثم قال " وإن كنا عن دراستهم لغافلين " يعني عن قراءتهم الكتاب لغافلين عما فيه " أو تقولوا " يعني لكي لا تقولوا " لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم " يعني أصوب
(1/513)
514
دينا منهم " فقد جاءكم بينة من ربكم " يعني حجة من ربكم وهو محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وإنما قال " جاءكم " ولم يقل جاءتكم لأنه انصرف إلى المعنى يعني البيان ولأن الفعل مقدم " وهدى ورحمة " بمعنى " هدى " من الضلالة " ورحمة " من العذاب ويقال قد جاءكم ما فيه من البيان وقطع الشبهات عنكم
ثم قال " فمن أظلم ممن كذب بآيات الله " يعني لا أحد أظلم وأشد في كفره ممن كذب بآيات الله تعالى " وصدف عنها " يعني أعرض عن الإيمان بها " سنجزي الذين يصدفون " يعني يعرضون " عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون " يعني شدة العذاب بما كانوا يعرضون عن الآيات
سورة الأنعام 158
قوله تعالى " هل ينظرون " معناه أقمت عليهم الحجة فلم يؤمنوا فماذا ينتظرون فهل ينتظرون " إلا أن تأتيهم الملائكة " لقبض أرواحهم " أو يأتي ربك " يعني يأتي أمر ربك بما وعد لهم من العقوبة " أو يأتي ربك بما وعد لهم " كقوله " فأتهم الله من حيث لم يحتسبوا " الحشر2 ويقال أو يأتي عقوبة ربك وعذابه وقد ذكر المضاف إليه ويراد به المضاف كقوله تعالى " وسئل القرية " يوسف82 يعني أهل القرية وكقوله " وأشربوا فى قلوبهم العجل " البقرة 93 يعني حب العجل كذلك هاهنا يأتي أمر ربك يعني عقوبة ربك وعذاب ربك ويقال هذا من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله " أو يأتي بعض آيات ربك " يعني طلوع الشمس من مغربها " يوم يأتي بعض آيات بك لا ينفع نفسا إيمانها " حين طلعت الشمس من مغربها " لم تكن آمنت من قبل " يعني أن الكافر إذا آمن في ذلك الوقت لا يقبل إيمانه لأنها قد ارتفعت الحجة حين عاينوها وإنما الإيمان بالغيب
ثم قال " أو كسبت في إيمانها خيرا " يعني المسلم الذي يعمل في إيمانه خيرا فمن كان لم يقبل عمله قبل ذلك فإنه لا يقبل منه بعد ذلك ومن كان قبل منه قبل ذلك فإنه يقبل منه بعد ذلك أيضا أو كانت النفس مؤمنة ولم تكن كسبت خيرا قبل ذلك الوقت لا ينفعها الخير بعد قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد بإسناده عن زر بن حبيش عن صفوان بن عسال المرادي قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر إذ جاء أعرابي فسأله عن أشياء حتى ذكر التوبة فقال النبي صلى الله عليه وسلم للتوبة باب في المغرب مسيرة سبعين عاما أو أربعين عاما فلا يزال حتى يأتي بعض آيات ربك
قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا السراج قال حدثنا زياد بن أيوب عن
(1/514)
515
يزيد بن هارون عن سفيان بن الحسين عن الحكم عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حمار وعليه بردعة أو قطيفة فنظر إلى الشمس حين غابت فقال يا أبا ذر هل تدري أين تغيب هذه قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تغرب في عين حمئة فتنطلق حتى تخر لربها ساجدة تحت العرش فإذا دنا خروجها إذن لها فخرجت فإن أراد أن يطلعها من مغربها حبسها فتقول يا رب إن مسيري بعيد فيقول الله تعالى اطلعي من حيث جئت فذلك قوله " يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها " وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال لا يقبل الله من كافر عملا ولا توبة إذا أسلم حين يراها إلا من كان صغيرا يومئذ فإنه لو أسلم بعد ذلك قبل ذلك منه ومتى كان مؤمنا مذنبا فتاب من الذنب قبلت منه وروي عن عمران بن حصين أنه قال إنما لم وقت وقت الطلوع حتى تكون صبيحته فيهلك كثير من الناس فمن أسلم أو تاب في ذلك الوقت وهلك لم يقبل منه ومن تاب بعد ذلك قبلت منه
ثم قال تعالى " قل انتظروا إنا منتظرون " يعني انتظروا العذاب فإنا منتظرون بكم حتى ننظر أينا أسعد حالا قرأ حمزة والكسائي " إلا أن يأتيهم الملائكة " بالياء بلفظ التذكير والباقون " إلا أن تأتيهم " بلفظ التأنيث لأن الفعل مقدم فيجوز أن يذكر ويؤنث
سورة الأنعام 159
قوله تعالى " إن الذين فرقوا دينهم " قرأ حمزة والكسائي " فارقوا دينهم " بالألف يعني تركوا دينهم الإسلام ودخلوا في اليهودية والنصرانية وقرا الباقون " فرقوا دينهم " يعني آمنوا ببعض الرسل ولم يؤمنوا ببعض " وكانوا شيعا " يعني صاروا فرقا مختلفة وروي عن أسباط عن السدي أنه قال " إن الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا " هؤلاء اليهود والنصارى تركوا دينهم وصاروا فرقا " لست منهم في شيء " أي لم تؤمر بقتالهم ثم نسخ وأمر بقتالهم في سورة براءة
وروى أبو أمامة الباهلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا " إنهم الخوارج وفي هذه الآية حث للمؤمنين على أن كلمة المؤمنين ينبغي أن تكون واحدة وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع ما استطاعوا ثم قال " لست منهم في شيء " يقول إنما عليك تبليغ الرسالة وليس عليك القتال
(1/515)
516
" إنما أمرهم إلى الله " يعني الحكم إلى الله " ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون " أي في الدنيا ويقال ليس بيدك توبتهم ولا عذابهم إنما أمرهم إلى الله تعالى بما كانوا يفعلون
سورة الأنعام 160
قوله تعالى " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " يعني من جاء بالإيمان بشهادة أن لا إله إلا الله فله بكل عمل عمله في الدنيا من الخير عشرة أمثاله من الثواب " ومن جاء بالسيئة " يعني بالشرك " فلا يجزى إلا مثلها " وهو الخلود في النار لأن الشرك أعظم الذنوب والنار أعظم العقوبة فيكون مثله فذلك قوله " جزاء وفاقا " النبأ 26 يعني جزاء وافق العمل ويقرأ فله " عشر " بالتنوين " أمثالها " بضم اللام فتكون الأمثال صفة للعشر وهي قراءة شاذة قرأها الحسن البصري ويعقوب الحضرمي والقراءة المعروفة " عشر أمثالها " على معنى الإضافة وتكلموا في المثل قال بعضهم إذا عمل العبد عملا يعطى في الآخرة ثواب عشرة ويقال وإنه يكتب للواحدة عشرة وروى أبو أمامة الباهلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن صاحب اليمين أمير على أمير على صاحب الشمال وإذا عمل العبد حسنة كتب له عشرة أمثالها وإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين أمسكها فيمسك ست ساعات أو سبع ساعات فإن استغفر لم يكتب عليه شيء وإن لم يستغفر كتب عليه سيئة واحدة ويقال إن الله تعالى قد وعد للواحدة عشرا فهو أعرف بكيفيته فإن قيل ذكر هاهنا للواحدة عشرة وذكر في آية أخرى سبعمائة وفي آية أخرى أضعافا مضاعفة قيل له قد تكلم أهل العلم في ذلك قال بعضهم يكون للعوام عشرة والخواص سبعمائة وأكثر إلى ما لا يحصى وقال بعضهم العشرة اشترط لسائر الحسنات والسبعمائة للنفقة في سبيل الله فالخاص والعام فيه سواء
وقد جاء في الأثر ما يؤكد القولين فقد روى عطية عن عن ابن عمر قال نزلت هذه الآية في الأعراب " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " قال رجل ما للمهاجرين يا أبا عبد الرحمن قال هو أفضل من ذلك " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما " سورة النساء 40وإذا قال الله لشيء عظيم فهو عظيم
وروى همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها يكتب له عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها يكتب له بمثلها حتى يلقى الله بلا ذنب
(1/516)
517
وروى خريم بن فاتك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعمال ستة فموجبتان ومثل بمثل وحسنة بحسنة وحسنة بعشرة وحسنة بسبعمائة فأما الموجبتان فمن مات ولم يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله دخل النار وأما مثل بمثل فمن عمل سيئة فجزاء سيئة مثلها ومن هم بحسنة حتى تشتهي بها نفسه ويعلمها الله من قلبه كتب له حسنة وأما حسنة بعشرة فمن عمل حسنة فله عشر أمثالها وأما حسنة بسبعمائة فالنفقة في سبيل الله ثم قال تعالى " وهم لا يظلمون " يعني لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئا ولا يزادون على سيئاتهم
سورة الأنعام 161 - 163
قوله تعالى " قل إنني هداني ربي " وذلك أن أهل مكة قالوا له من أين لك هذه الفضيلة وأنت بشر مثلنا فإن فعلت لتطلب المال فاترك هذا القول حتى نعطيك من المال ما شئت فنزل " قل إنني هداني ربي " " إلى صراط مستقيم " يعني وفقني الله وهداني إلى دين الإسلام وهو دين لا عوج فيه " دينا قيما " قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " دينا قيما " قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " دينا قيما " بنصب القاف وكسر الياء مشددة وقرأ الباقون " قيما " بكسر القاف ونصب الياء ويكون على معنى المصدر ومن قرأ بالنصب يكون على معنى النعت " دينا قيما " يعني دينا عدلا مستقيما " ملة إبراهيم حنيفا " يعني مستقيما مخلصا " وما كان من المشركين " على دينهم
قوله تعالى " قل إن صلاتي ونسكي " وأصل النسك ما يتقرب به يعني قل إن صلاتي المفروضة وقرباني وديني " ومحياي " في الدنيا " ومماتي " بعد الحياة ويقال " ونسكي " يعني أضحيتي وحجي " لله رب العالمين " " لا شريك له وبذلك أمرت " في الكتاب " وأنا أول المسلمين " من أهل مكة ويقال أول المسلمين يوم الميثاق ويقال " صلاتي " يعني صلاة العيد " ونسكي " يعني الأضحية
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنه قومي إلى أضحيتك واذبحي وقولي إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ويقال أنا أول المخلصين بالثبات على الإسلام
سورة الأنعام 164
(1/517)
518
165
قوله تعالى " قل أغير الله أبغي ربا " يقول أعبد وأطلب ربا غيره " وهو رب كل شيء " من خلفه في السموات والأرض لأنهم كانوا يقولون له نحن كفلاء لك بما يصيبك ومن تابعك فنزل " ولا تكسب كل نفس إلا عليها " يعني إلا لها أو عليها إن كان خيرا فلها وإن كان شرا فعليها " ولا تزر وازرة وزر أخرى " يعني لا تحمل نفس خطيئة نفس أخرى " ثم إلى ربكم مرجعكم " أي مصيركم في الآخرة " فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون " من الدين ويبين لكم الحق من الباطل بالمعاينة
ثم قال تعالى " وهو الذي جعلكم خلائف الأرض " يعني سكان الأرض من بعد إهلاك الأمم الخالية لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وأمته قد خلفوا جميع الأمم ويقال " خلائف " يعني يخلف بعضكم بعضا " ورفع بعضكم فوق بعض درجات " أي فضل بعضكم على بعض في المال والرزق " ليبلوكم فيما آتاكم " يعني ليبتلي الموسر بالغنى ويطلب منه الشكر ويبتلى المعسر بالفاقة ويطلب من الصبر ويقال " ليبلوكم " يعني بعضكم ببعض كما قال تعالى " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة " الفرقان20لتصبروا
ثم خوفه فقال " إن ربك سريع العقاب " كأنه جاء لأن ما هو آت فهو قريب كما قال " وما أمر الساعة إلا كلمح البصر " القمر50 " وإنه لغفور " يعني لمن أطاعه في فاقة أو غنى ويقال " سريع العقاب " لمن لم يشكر نعمته وكان مصرا على ذلك
و " إنه لغفور " لمن رجع وتاب " رحيم " بعد التوبة ويقال " سريع العقاب " لمن لم يحفظ نفسه فيما أعطاه من فضل الله وترك حق الله في ذلك " وإنه لغفور " لمن تاب " رحيم " بعد التوبة قال الفقيه قال حدثنا أبو الحسين بن حمدان بإسناده إلى أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتهليل قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الأنعام صلى عليه واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية في سورة الأنعام يوما وليلة صلى الله عليه وسلم
(1/518)
519
سورة الأعراف
مكية وهي مائتان وست آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأعراف 1 - 3
قوله تعالى " المص " قال ابن عباس يعني أنا الله أعلم وأفصل معناه أعلم بأمور الخلق وأفصل الأحكام والأمور والمقادير فليس لي شريك في تدبير الخلق ويقال معناه أنا الله المصور ويقال أنا الله الناصر ويقال أنا الله الصادق
وروى معمر عن قتادة قال إنه اسم من أسماء القرآن ويقال وهو قسم " كتاب أنزل إليك " يعني أن هذا الكتاب أنزل إليك يا محمد " فلا يكن في صدرك حرج منه " أي فلا يقعن في قلبك شك منه يعني من القرآن أنه من الله تعالى والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره كقوله " فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتب من قبلك " يونس 94 ويقال " فلا يكن في صدرك حرج منه " يعني فلا يضيقن صدرك بتكذيبهم كقوله تعالى " لعلك بخع نفسك إلا يكونوا مؤمنين " الشعراء 30 والحرج في اللغة هو الضيق
ثم قال " لتنذر به " على معنى التقديم يعني كتاب أنزلناه إليك لتنذر به يعني لتخوف بالقرآن أهل مكة " وذكرى للمؤمنين " يعين عظة للمؤمنين الذين اتبعوك
ثم قال " اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم " يعني صدقوا واعملوا بما أنزل علي نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم من القرن ويقرأه عليكم " ولا تتبعوا من دونه أولياء " يعني ولا تتخذوا من دون الله أربابا ولا تعبدوا غيره
ثم أخبر عنهم فقال " قليلا ما تذكرون " " ما " صلة في الكلام ومعناه قليلا تتعظون يعني أنهم لا يتعظون به شيئا قرأ ابن عامر " يتذكرون " على لفظ المغايبة بالياء وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر " تذكرون " بالتاء على معنى المخاطبة بتشديد الذال والكاف لأن أصله تتذكرون فأدغم إحدى التائين في الذال وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " تذكرون " بتخفيف الذال وإسقاط التشديد للتخفيف
سورة الأعراف 4(1/519)
520
7
ثم خوفهم فقال تعالى " وكم من قرية أهلكناها " معناه وكم من أهل قرية وعظناهم فلم يتعظوا فأهلكناهم " فجاءها بأسنا " يعني جاءها عذابنا بعد التكذيب " بياتا " يعني ليلا سمي الليل بياتا لأنه يبات فيه كما سمي البيت بيتا لأنه يبات فيه " أو هم قائلون " يعني عند القيلولة فإن لم تتعظوا أنتم يأتيكم العذاب ليلا أو نهارا كما أتاهم
ثم أخبر عن حال من أتاهم العذاب فقال " فما كان دعواهم إذا جاءهم بأسنا إلا أن قالوا " يعني لم يكن قولهم حين جاءهم العذاب ولم تكن لهم حيلة إلا أنهم تضرعوا وقالوا " إنا كنا ظالمين " ظلمنا أنفسنا بترك طاعة ربنا من التوحيد يعني أن قولهم بعدما جاءهم العذاب والهلاك لم ينفعهم فاعتبروا بهم فإنكم إذا جاءكم العذاب لا ينفعكم التضرع
ثم أخبرهم حالهم يوم القيامة فقال " فلنسألن الذين أرسل إليهم " يعني الأمم هل بلغكم الرسل ما أرسلوا به إليكم وماذا أجبتم المرسلين " ولنسألن المرسلين " عن تبيلغ الرسالة وماذا أجبتم الرسل وهذا كقوله تعالى " ليسئل الصادقين عن صدقهم " الأحزاب 8
ثم قال تعالى " فلنقصن عليهم بعلم " يعني فلنخبرنهم بما عملوا في الدنيا ببيان وعلم منا " وما كنا غائبين " عما بلغت الرسل وعما رد عليهم قومهم ومعناه وما كنا نسألهم لنعلم ولكن سألناهم حجة عليهم
سورة الأعراف 8 - 9
قوله تعالى " والوزن يومئذ الحق " يعني وزن الأعمال يومئذ بالعدل " فمن ثقلت موازينه " يعني رجحت حسناته على سيئاته " فأولئك هم المفلمون " أي الناجون وتكلموا في وزن الأعمال قال بعضهم توزن الصحائف التي كتابها الحفظة في الدنيا وقال بعضهم يجعل للأعمال صورة وتوضع في الميزان وقال بعضهم هذا على وجه المثل وهو كناية عن التعديل وهو قول المعتزلة وقال بعضهم قد ذكر الله تعالى الوزن فنؤمن به ولا نعرف كيفيته
وروى بلال الحبشي عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن جبريل صاحب الميزان يوم القيامة يقول له ربه زن بينهم فرد بعضهم على بعض ولا درهم يؤمئذ ولا فضة ولا دينار فيرد الظالم على المظلوم ما وجد له من حسنة فإن لم توجد له حسنة أخذ من سيئات المظلوم فيرد على الظالم فيرجع الظالم وعليه سيئات مثل الجبل
(1/520)
521
وروي عن ابن عباس أنه قال توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكفتان فأما المؤمن فيؤتى بعمله في احسن صورة وتثقل حسناته على سيئاته وأما الكافر فيؤتى بعمله في أقبح صورة وتثقل سيئاته على حسناته وقال بعضهم لا يوزن عمل الكافر وإنما توزن الأعمال التي بإزائها حسنات
ثم قال " ومن خفت موازينه " يعني رجحت سيئاته على حسناته " فأوليك الذين خسروا أنفسهم " يعني غبنوا حظ أنفسهم ( بم كانوا بآياتنا يظلمون ) يعني بما كانوا يجحدون بأنه ليس من الله تعالى وقد ذكر الموازين بلفظ الجمع قال بعضهم أراد به جماعة الموزون وقال بعضهم أراد به الميزان لأن الميزان يشتمل على الكفتين والشاهين والخيوط فذكر باسم الجماعة
سورة الأعراف 10
قوله تعالى " ولقد مكناكم في الأرض " يعني مكانكم في الأرض وعمرناكم فذكر لهم التهديد ثم ذكر لهم النعم ليستحوا من ربهم ولا يعصوه " وجعلنا لكم فيها معايش " يعني الرزق وهو ما يخرج من الأرض والكروم والثمار والحبوب
وروى خارجة عن نافع أنه قرأ " معائش " بالهمز لأنه على ميزان فعائل مثل الكبائر والشعائر وقرأ الباقون بغير همز لأن الياء أصلية وكان على ميزان مفاعل
ثم قال " قليلا ما تشكرون " يعني إنكم لا تشكرون هذه النعم
سورة الأعراف 11 - 18
قوله تعالى " ولقد خلقناكم ثم صورناكم " يعني خلقنا آدم وأنتم من ذريته " ثم صورناكم " يعني ذريته ويقال " خلقناكم " يعني آدم خلقه من تراب " ثم صورناكم " يعين آدم صوره بعد ما خلقه من طين ويقال " خلقناكم " نطفا في أصلاب الآباء " ثم صورناكم " يعني في أرحام الأمهات " ثم قلنا للملائكة " على وجه التقديم يعني وقلنا للملائكة " اسجدوا لآدم " " ثم " بمعنى الواو ويقال معناه خلقناكم وصورناكم وقلنا
(1/521)
522
للملائكة اسجدوا لآدم وهي سجدة التحية لا سجدة الطاعة فالعبادة لله تعالى والتحية لآدم " فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين " يعني لم يسجد مع الملائكة لآدم " قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك " يعني أن تسجد ولا زيادة ومعناه ما منعك عن السجود إذ أمرتك بالسجود لآدم " قال " إبليس إنما لم أسجد لأني " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " يعني هذا الذي منعني عن السجود فاشتغل اللعين بالقياس والقياس موضع النص باطل لأنه لما أقر بأنه هو الذي خلقه فقد أقر بأن أمره عليه واجب وعليه أن يأتمر بأمره ومع ذلك لو كان القياس جائزا لكان قياسه فاسدا لأن الطين أفضل من النار لأن عامة الثمار والفواكه والحبوب تخرج من الطين ولأن العمارة من الطين والنار للخراب
ثم قال له ربه عز وجل " فاهبط منها " قال مقاتل يعني اهبط من الجنة " فما يكون لك أن تتكبر فيها " يعني في الجنة وقال الكلبي " فاهبط منها " يعني أخرج من الأرض والحق بجزائر البحور فلا تدخل الأرض إلا كهيئة السارق وعليه الخمار يروغ فيها " فما يكون لك أن تتكبر فيها " يعني ما ينبغي لك أن تتكبر في هذه الأرض على نبي آدم " فاخرج إنك من الصاغرين " يعني من المهانين المذلين
قوله تعالى " قال أنظرني إلى يوم يبعثون " يعني أجلني إلى يوم البعث اليوم الذي يخرج الناس من قبورهم قال ابن عباس أراد الخبيث ألا يذوق الموت فأبى الله تعالى أن يعطيه ذلك " قال إنك من المنظرين " يعني إلى النفخة الأولى فحينئذ تذوق الموت وتصيبه المرارة بعد الأولين والآخرين
قوله تعالى " قال فبما أغويتني " قال الكلبي يعني فكما أضللتني وقال مقاتل يعني أما إذا أضللتني وقال بعضهم " فبما أغويتني " يعني فبما دعوتني إلى شيء غويت به " لأقعدن لهم صراطك المستقيم " يعني لأقعدن لهم على طريقك المستقيم وهو دين الإسلام فأصد الناس عن ذلك " ثم لأتينهم من بين أيديهم " روى أسباط عن السدي قال " من بين أيديهم " الدنيا أدعوهم إليها " ومن خلفهم " الآخرة أشككهم فيها " وعن أيمانهم " قال الحق أشككهم فيه " وعن شمائلهم " قال الباطل أخففه عليهم وأرغبهم فيه
وقال في رواية الكلبي " ثم لآتينهم من بين أيديهم " من أمر الآخرة فأزين لهم التكذيب بالبعث بأنه لا جنة ولا نار " ومن خلفهم " من أمر الدنيا فأزينها في أعينهم وأرغبهم فيها فلا يعطون حقا " وعن أيمانهم " أي من قبل دينهم فإن كانوا على الضلالة زينتها لهم وإن كانوا على الهدى شبهته عليهم حتى يشكوا فيه ويقال " وعن شمائلهم " من قبل اللذات والشهوات ويقال " وعن أيمانهم " باليهودية والنصرانية " وعن شمائلهم " بالأهواء المختلفة ويقال معناه لآتيناهم بالإضلال من(1/522)
جميع جهاتهم ويقال " عن أيمانهم " فيما أمروا به " وعن شمائلهم " فيما نهوا عنه ويقال " وعن أيمانهم وعن شمائلهم " أي فيما يعملون لأنه يقال
523
عملت يداك " ولا تجد أكثرهم شاكرين " يعني ذرية آدم عليه السلام لا يكونون شاكرين لنعمتك ويقال " شاكرين " يعني مؤمنين وقال في آية أخرى " وقليل من عبادى الشكور " سبأ13 وقال " ولقد صدق إبليس ظنه " سبأ 20 " قال اخرج منها مذؤوما مدحورا " قال الكلبي ومقاتل يعني اخرج من الجنة " مذؤوما " أي معيبا " مدحورا " يعني مطرودا وقال الزجاج " مذؤوما " يعني مذموما يقال ذأمت الرجل وذممته إذا عبته " مدحورا " يعني مبعدا من رحمة الله تعالى " لمن تبعك منهم " يعني من أطاعك فيما دعوته إليه واللام زيادة للتأكيد " لأملأن جهنم منكم أجمعين " يعني ممن أطاعك منهم من الجن والإنس ويكون هذا اللفظ بمعنى القسم والتأكيد وأنه يفعل ذلك لا محالة
سورة الأنعام 19 - 25
قوله تعالى " يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة " يعني وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة " فكلا من حيث شئتما " يعني من حيث احببتما موسعا عليكما " ولا تقربا هذه الشجرة " يعني ولا تأكلا من هذه الشجرة " فتكونا من الظالمين " يعني فتصيرا من الضارين بأنفسكما
قوله تعالى " فوسوس لهما الشيطان " يعني زين لهما الشيطان " ليبدي لهما ما وري عنهما من سوءاتهما " يعني أراد إبليس بالوسوسة ليظهر ما ستر من عوراتهما والسوأة كناية عن العورة وذلك أن إبليس لما رأى محسوده في الجنة ورأي نفسه طريدا لم يصبر واحتال لإخراجهما فأتاهما " وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين " يعني أنكما لو أكلتما تصيران كالملكين لا تموتان أبدا أو تكونان كالملائكة وتعلمان الخير والشر " أو تكونا من الخالدين " يعني إن لم تكونا ملكين فتكونا من الخالدين لا تموتان أبدا وقرأ بعضهم " ملكين " بالخفض كما قال في آية أخرى " وملك لا يبلى " طه 120 وهي قراءة يحيى بن أبي كثير
قوله تعالى " وقاسمهما " يعني حلف لهما " إني لكما لمن الناصحين " بأنها شجرة الخلد من أكل منها لم يمت وكان آدم لم يعلم أن أحدا يحلف بالله كاذبا " فدلاهما بغرور "
(1/523)
524
يعني غرهما بباطل ويقال زين لهما وأصله في اللغة من التقريب يعني قربهما إلى الشجرة " فلما ذاقا الشجرة " يقول فلما أكلا من الشجرة ووصل إلى بطونهما تهافت لباسهما عنهما " بدت لهما سوءاتهما " يقول ظهرت لهما عوراتهما وإنما سميت العورة سوأة لأن كشف العورة قبيح
قال الفقيه حدثنا أبو جعفر قال حدثنا أبو القاسم أحمد بن حم قد ذكر بإسناده عن أبي بن كعب عن لنبي صلى الله عليه وسلم قال إن آدم كان رجلا طويلا كأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس فلما وقع في الخطيئة بدت له سوءته وكان لا يراها قبل ذلك فانطلق هاربا في الجنة فتعلقت به شجرة من شجر الجنة فناداه ربه يا آدم أتفر مني قال يا رب إني أستحي وفيه دليل أن ستر العورة كان واجبا من وقت آدم عليه السلام لأنه لما كشف عنهما سترا عوراتهما بالأوراق فذلك قوله تعالى " وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة " يعني أقبلا وعمدا على أبدانهما ورقة ورقة ومنه يقال خصف فعله وهو إطباق طاق على طاق وأصل الخصف الضم والجمع يعني أقبلا وعمدا يلزقان عليهما من ورق الجنة وهو ورق التين والخصف إنما هو إلصاق الشيء بالشيء ولهذا يقال له خصاف وقرأ بعضهم " وطفقا " بالنصب وهما لغتان طفق يطفق وطفق يطفق " ونادهما ربهما " يعني قال ربهما " ألم أنهكما عن تلكما الشجرة " يعني عن أكل تلك الشجرة " وأقل لكما " يعني ألم أقل لكما " إن الشيطان لكما عدو مبين " يعني إبليس لكما عدو ظاهر العداوة
قوله تعالى " قالا ربنا ظلمنا أنفسنا " بأكلنا الشجرة فاغفر لنا وتجاوز عن معصيتنا " وإن لم تغفر لنا وترحمنا " يعني إن لم تتجاوز عن ذنوبنا " لنكونن من الخاسرين " بالعقوبة فهذه لام القسم كأنهما قالا والله لنكونن من الخاسرين إن لم تغفر لنا وترحمنا وقد ذكر الله تعالى قبول توبتهما في سورة البقرة وهو قوله تعالى " فتاب عليه " البقرة 37 يعني قبل توبته وفي الآية دليل أن الله تعالى يعذب عباده إذا أصروا على الذنوب ويتجاوز عنهم إذا تابوا لأن إبليس لم يتب وسأل النظرة فجعل مأواه جهنم وتاب آدم ورجع عن ذنبه فقبل توبته
قوله " قال اهبطوا " يعني آدم وحواء عليهما السلام وإبليس لعنه الله " بعضكم لبعض عدو " يعني إبليس عدوا لآدم وحواء
ثم قال " ولكم في الأرض مستقر " يعني منزل وموضع القرار " ومتاع إلى حين " يعني ومعاش إلى وقت الموت
قوله تعالى " قال فيها تحيون " يعني في الأرض تعيشون " وفيها تموتون ومنها تخرجون " يعني من الأرض من قبوركم يوم القيامة قرأ حمزة والكسائي وابن عامر
(1/524)
525
" يخرجون " بنصب الياء وضم الراء وقرأ الباقون " تخرجون " بضم التاء ونصب الراء على معنى فعل ما لم يسم فاعله
سورة الأعراف 26 - 30
قوله تعالى " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا " يقول خلقنا لكم الثياب " يواري سوءاتكم " يعني يستر عوراتكم ويقال معناه أنزلنا عليكم المطر ينبت لكم القطن والكتان لباسا لكم
ثم قال " وريشا " قرأ الحسن البصري ورياشا بالألف وقرأ غيره " وريشا " بغير ألف وقال القتبي الريش والرياش ما ظهر من اللباس وريش الطائر ما ستره الله به ويقال الرياش المال والمعاش قال الفقيه حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبي أسامة عن عوف بن أبي جميلة عن معبد الجهني في قوله " قد أنزلنا عليكم لباسا " قال هو ما تلبسون " ورياشا " قال المعاش " ولباس التقوى " هو الحياء " ذلك خير " يعني لباس التقوى وهو الحياء خير من الثياب لأن الفاجر وإن كان حسن الثياب فإنه بادي العورة ألا ترى إلى قول الشاعر حيث يقول
( حتى كأني أرى من لا حياء له % ولا أمانة وسط القوم عريانا )
وقال القتبي " لباس التقوى " أي ما ظهر عليه من السكينة والعمل الصالح كما قال " لباس الجوع والخوف " النحل 112 يعني ما ظهر عليهم من سوء آثارهم ويقال " لباس التقوى " الإيمان ويقال العفة وتغير حالهم قرأ نافع والكسائي وابن عامر " لباس " بالنصب يعني أنزل لباس التقوى وقرأ الباقون بالضم على معنى الابتداء ويقال فيه مضمر يعني وهو " لباس التقوى " ومعناه ستر العروة أي لباس المتقين وقرأ عبد الله بن مسعود " لباس التقوى " خير وقال مجاهد كان أناس من العرب يطوفون حول البيت عراة فنزل قوله تعالى " قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا " يعني من المال ويقال معنى قوله " ذلك خير " يعني اللباس خير من تركه لأنهم كانوا يطوفون عراة
(1/525)
526
قوله " ذلك من آيات الله " يعني من نعم الله على الناس ويقال من عجائب الله ودلائله " لعلهم يذكرون " يعني يتعظون من قوله تعالى
وقوله " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان " يقول لا يضلنكم الشيطان عن طاعتي فيمنعكم من الجنة " كما أخرج أبويكم من الجنة " حين تركا طاعتي وعصيا أمري " ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما " يعني لا يفتننكم الشيطان عن دينكم في أمور الثياب فينزعها عنكم فتبدوا عوراتكم كما فعل بأبويكم نزع عنهما لباسهما وأظهر عورتهما وقال بعض الحكماء إن المعصية شؤم تضر بصاحبها فتجعله عريانا كما فعلت بآدم عليه السلام
ثم قال " إن يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم " يعني كونوا بالحذر منه فإنه " يراكم هو " أي إبليس وجنوده من الشياطين لأنه يجري من بني آدم مجرى الدم وذكر أن إبليس لما لعن قال يا رب إنك باعث إلى بني آدم رسلا وكتبا فما رسلي قال الكهنة قال فما كتابي قال الوشم قال فما قراءتي قال الشعر قال فما مسجدي قال السوق قال فما مؤذني قال المزامير قال فما بيتي قال الحمام قال فما مصائدي قال النساء قال فما طعامي قال كل ما لم يذكر اسم الله عليه قال فما شرابي قال كل مسكر
قوله عز وجل " إنا جعلنا الشياطين أولياء " يعني قرناء " للذين لا يؤمنون بالآخرة " يعني لا يصدقون بالآخرة
قوله تعالى " وإذا فعلوا فاحشة " يعني إن المشركين حرموا على أنفسهم أشياء قد أحلها الله لهم وكانوا يطوفون بالبيت عراة قالوا لا نطوف في ثياب قد أذنبنا فيها وكان رجالهم يطوفون بالبيت بالنهار ونساؤهم يطوفون بالليل وإذا طافت المرأة بالنهار اتخذت إزارا من سير وكانت تبدو عورتها إذا مشت وكانت تقول
( اليوم يبدو بعضه أو كله % فما بدا منه فلا أحله )
وإذا قيل لهم لم فعلتم هكذا " قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها " يعين بتحريم هذه الأشياء وبالطواف عراة
قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم " قل إن الله لا يأمر بالفحشاء " يعني بالمعاصي " أتقولون على الله ما لا تعلمون " يعني أتكذبون على الله وتقولون بغير علم وتكذبون على الله
ثم بين لهم ما أمرهم الله تعالى فيه فقال عز وجل " قل أمر ربي بالقسط " يعني بالعدل والصواب وكلمة التوحيد وهي شهادة أن لا إله إلا الله " وأقيموا وجوهكم " يعني " قل أمر ربي بالقسط " وقل " أقيموا وجوهكم عند كل مسجد " يعني حولوا وجوهكم إلى
(1/526)
527
الكعبة عند كل صلاة وقال الكلبي يعني إذا حضرت الصلاة وأنتم في مسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحدكم أصلي في مسجدي وإذا لم يكن في مسجد فليأت أي مسجد شاء وقال مقاتل يعني ولوا وجوهكم إلى القبلة في أي مسجد كنتم " وادعوه مخلصين له الدين " يقول وحدوه واعبدوه بالإخلاص ويقال إن أهل الجاهلية كانوا يشركون في تلبيتهم ويقولون لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك فأمرهم أن يدعوه في التلبية مخلصين له الدين
ثم قال " كما بدأكم تعودون " أي ليس كما تشركون فاحتج عليهم بالبعث متصلا بقوله " فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون " " كما بدأكم تعودون " يعني ليس بعثكم على الله تعالى بأشد من ابتدائكم وقال الحسن كما خلقكم ولم تكونوا شيئا فأحياكم كذلك يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة ويقال " كما بدأكم " يوم الميثاق من التصديق والتكذيب " تعودون " إلى ذلك حيث قال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي ويقال " كما بدأكم " فخلقكم من تراب تعودون ترابا بعد الموت وقال ابن عباس " كما بدأكم " مؤمنا وكافرا وشقيا وسعيدا كذلك تموتون عليه وتبعثون عليه
ثم قال " فريقا هدى " وهم المؤمنون فعلم الله تعالى منهم الطاعة وأكرمهم بالمعرفة " وفريقا حق عليهم الضلالة " يعني وجب عليهم الضلالة فخذلهم ولم يكرمهم بالتوحيد حيث علم منهم المعصية والكفر
ثم قال " إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله " يعني اتخذوهم أولياء وأطاعوهم بالمعصية " ويحسبون أنهم مهتدون " يعني يظنون أنهم على الهدى قال الزجاج فيه دليل أن من لا يعلم أنه كافر وهو كافر يكون كافرا لأن بعضهم قال لا يكون كافرا وهو لا يعلم وذلك القول باطل لأن الله تعالى قال " ذلك ظن الذين كفروا " ص 27 وقال " ويحسبون أنهم مهتدون "
سورة الأعراف31 - 32
قوله تعالى " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد " يعني البسوا ثيابكم واستروا عوراتكم عند كل صلاة قال السدي كان هؤلاء الذين يطوفون بالبيت عراة يحرمون الودك فقال الله تعالى " خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا " في التحريم ويقال الإسراف أن يأكل ما لا يحل أكله أو يأكل مما يحل أو يأكل مما يحل له أكله فوق الشبع ومقدار الحاجة وقيل لبعض الأطباء هل وجدت الطب في كتاب الله تعالى قال نعم قد جمع الله تعالى
(1/527)
528
الطب كله في هذه الآية " وكلوا واشربوا ولا تسرفوا " ثم قال " إنه لا يحب المسرفين " يعني لا تحرموا ما أحل الله لكم فإن محرم ما أحل الله كمحل ما حرم الله
قوله تعالى " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده " وهو أنه لما نزل قوله " خذوا زينتكم " لبسوا الثياب وطافوا بالبيت مع الثياب فعيرهم المشركون فنزل قوله تعالى " قل من حرم زينة الله " أي لبس الثياب " التي أخرج لعباده " يعني خلقها لهم " والطيبات من الرزق " يعني الحلال وهو اللحم والشحم والدسم " قل هي للذين آمنوا " قال مقاتل في الآية تقديم ومعناه قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق في الحياة الدنيا " قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة " قرأ نافع " خالصة " بضم الهاء وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالنصب جعلا نصبا للحال أي في حال الحياة الدنيا " خالصة " أي ثابتة ومن قرأ بالضم فهو خبر بعد خبر يعني هي ثابتة لهم خالصة معناه قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا يشترك فيها المؤمن والكافر وهي خالصة للمؤمنين يوم القيامة وقال القتبي هذا من الاختصار ومعناه قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مشتركة وفي الآخرة خالصة
ثم قال " كذلك نفصل الآيات " يعني هكذا نبين العلامات ويقال نبين الآيات من أمره ونهيه وما يكون في الدنيا والآخرة " لقوم يعلمون " يعني يفقهون أمر الله تعالى
سورة الأعراف 33 - 34
ثم أخبرهم ما حرم الله عليهم فقال تعالى " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم " يعني المعاصي ويقال " الإثم " يعني الخمر كما قال القائل
( شربت الإثم حتى ضل عقلي % كذاك الإثم يذهب بالعقول )
" والبغي " يعني حرم الاستطالة وظلم الناس " بغير الحق وأن تشركوا بالله " يقول وحرم أن تشركوا بالله " ما لم ينزل به سلطانا " يقول ما لم ينزل به كتابا فيه عذركم وحجة لكم " وأن تقولوا على الله " يعني وحرم عليكم أن تقولوا على الله " ما لا تعلمون " أنه حرم عليكم
ثم خوفهم فقال عز وجل " ولكل أمة أجل " يعين لكل أهل دين مهلة للعذاب " فإذا جاء أجلهم " بالعذاب " لا يستأخرون ساعة " بعد الأجل " ولا يستقدمون " ساعة قبل الأجل
(1/528)
529
سورة الأعراف 35 - 37
ثم قال الله تعالى " يا بني آدم إما يأتينكم " وأصله إن ما معناه حتى ما يأتيكم " رسل منكم " يعني من جنسكم " يقصون عليكم آياتي " يعني يقرؤون ويعرضون عليكم كتابي " فمن اتقى وأصلح " يعني اتقى الشرك وأطاع الرسول وأصلح العمل ويقال " فمن اتقى " عما نهى الله عنه " وأصلح " يعني عمل بما أمر الله به " فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " يعني " لا خوف عليهم " من العذاب " ولاهم يحزنون " من فوات الثواب ويقال " فلا خوف عليهم " فيما يستقبلهم " ولا هم يحزنون " على ما خلفوا من الدنيا ويقال معناه إما يأتينكم رسل منكم فأيقنتم " فلا خوف عليكم " فيما يستقبلكم
فذكر الله ثواب من اتقى وأصلح ثم بين عقوبة من لم يتق ولم يصلح فقال عز وجل " والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها " يعني تعظموا عن الإيمان فلم يؤمنوا بالرسل وتكبروا عن الإيمان " أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " أي دائمون
قوله تعالى " فمن أظلم " قال الكلبي فمن أكفر وقال بعضهم هذا التفسير خطأ لأنه لا يصح أن يقال هذا أكفر من هذا ولكن معناه ومن أشد في كفره ويقال فلا أحد أظلم ويقال أي ظلم أشنع وأقبح " ممن افترى على الله كذبا " يعني من اختلق على الله كذبا أي شركا " أو كذب بآياته " يعني جحد بمحمد وبالقرآن " أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب " يعني حظهم من العذاب ويقال " نصيبهم من الكتاب " حظهم مما وعد الله لهم الكتاب الإهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة وقال ابن عباس هو ما ذكر في موضع آخر " ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة " ويقال " نصيبهم من الكتاب " أي ما قضي وقدر عليهم في اللوح المحفوظ من السعادة والشقاوة ويقال " نصيبهم " أي رزقهم وأجلهم في الدنيا " حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم " يعني أمهلهم حتى يأتيهم ملك الموت وأعوانه عند قبض أرواحهم " قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله " يعني الملائكة يقولون لهم ذلك عند قبض أرواحهم ويقال تقول ذلك خزنة جهنم قبل دخولها " أين ما كنتم تدعون " أي تعبدون من الآلهة يمنعونكم من النار " قالوا ضلوا عنا " يعني اشتغلوا عنا بأنفسهم " وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين " في الدنيا وذلك حين شهدت عليهم جوارحهم
(1/529)
530
سورة الأعراف 38 - 39
ثم قال " قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم " يعني قالت لهم خزنة النار ادخلوا النار مع أمم قد مضت من قبلكم على مذهبكم " من الجن والإنس في النار كلما دخلت " يعني النار " أمة " جماعة " لعنت أختها " يعني لعنت الأمة التي دخلت قبلها النار قال مقاتل يعني لعنوا أهل ملتهم فيلعن المشركون المشركين ويلعن النصارى ويلعن اليهود وقال الكلبي تدعو على الأمم الذين دخلوا النار قبلهم في النار يبدأ بالأمم الأولى فالأولى ويبدأ أولا بقابيل وولده ويقال يبدأ بالأكابر فألاكابر مثل فرعون كما قال في آية آخرى " ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا " مريم 69
" حتى إذا اداركوا فيها جميعا " يعني اجتمعوا في النار وأصله تداركوا يعني اجتمع القادة والأتباع في النار وقرأ بعضهم " حتى إذا أدركوا فيها " يعني دخلوا في إدراكها كما يقال أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء وهي قراءة شاذة " قالت أخراهم لأولاهم " يعني قالت أواخر الأمم لأولهم ويقال قالت الأتباع للقادة والرؤساء " ربنا هؤلاء أضلونا " عن الهدى " فآتهم عذابا ضعفا من النار " يعني أعطهم زيادة من العذاب " قال " الله تعالى " لكل ضعف ولكن لا تعلمون " يعني على القادة زيادة من العذاب ولكن لا تعلمون ما عليهم قرأ عاصم في رواية أبي بكر " ولكن لا يعلمون " بالياء يعني لا يعلم فريق منهم عذاب فريق آخر " وقالت أولاهم لأخراهم " يعني أولاهم دخولا لآخرهم دخولا ويقال القادة للأتباع " فما كان لكم علينا من فضل " يعني في شيء كفرتم كما كفرنا فنحن وأنتم سواء في الكفر ضللتم كما ضللنا
قال الله تعالى " فذوقوا العذاب " ويقال تقول الخزنة " فذوقوا العذاب " ويقال هذا قول بعضهم لبعض " فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون " يعني بكفركم في الدنيا وبترككم الإيمان
سورة الأعراف 40
(1/530)
531
43
قوله تعالى " إن الذين كذبوا بآياتنا " يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " واستكبروا عنها " يعني عن قبولها ويقال عن النظر فيها " لا تفتح لهم أبواب السماء " يعني لأعمال الكافرين أي ليس لهم عمل صالح تفتح له أبواب السماء ويقال لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء إذا ماتوا وقال بعضهم " أبواب السماء " يعني أبواب الجنة " ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط " يعني لا يدخلون الجنة أبدا كما لا يدخل الجمل في ثقب الإبرة وروي عن ابن مسعود أن سئل عن الجمل فقال زوج الناقة وقال الضحاك الجمل الذي له أربع قوائم وقال بعض الناس الجمل هو أشتر بالفارسية وقال الحسن هو ولد الناقة وروي عن ابن عباس أنه قرأ " حتى يلج الجمل " بضم الجيم وتشديد الميم وهو حبل السفينة وسئل عكرمة عن قوله تعالى " حتى يلج الجمل " قيل وما الجمل قال الحبل الذي يصعد به النخل قال سعيد بن جبير هو حبل السفينة الغليظ قرأ أبو عمرو " لا تفتح " بالتاء بلفظ التأنيث بالتخفيف حمزة والكسائي " لا يفتح " بالياء بلفظ التذكير بالتخفيف وقرأ الباقون " لا تفتح لهم " بالتشديد فمن قرأ بلفظ التأنيث فلأنها من جماعة الباب ومن قرأ بالتذكير فلأن الفعل مقدم ومن قرأ بالتشديد أراد به تكثير الفتح ومن قرأ بالتخفيف فلفتح مرة واحدة وقرأ بعضهم في " سم الخياط " بضم السين وهي قراءة شاذه وهما لغتان قال أبو عبيدة كل ثقب فهو سم
ثم قال عز وجل " وكذلك نجزي المجرمين " يعني هكذا نعاقب المشركين ثم ذكر ما أوعد لهم في النار فقال تعالى " لهم من جهنم مهاد " يعني فراشا من النار " ومن فوقهم غواش " يعني تغشاهم النار من فوق رؤوسهم ومعناه أن من تحتهم نارا ومن فوقهم نارا كقوله " لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل " الزمر 16 ويقال " لهم من جهنم مهاد " يعين حظهم من جهنم كالمهاد فأخبر عن ضيق مكانهم في النار " وكذلك نجزي الظالمين " يعني هكذا نعاقب الكافرين
قوله تعالى " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " وذلك أن الله تعالى لما أخبر عن حال الذين كذبوا بآياته واستكبروا عن قبولها أخبر عن حال الذين آمنوا بآياته فقال " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني صدقوا " وعملوا الصالحات " يعني الأعمال الصالحة " لا نكلف نفسا إلا وسعها " يعني لا نكلف نفسا بعد الإيمان من الأعمال إلا بقدر طاقتها " أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون " يعني دائمين
ثم قال عز وجل " ونزعنا ما في صدورهم من غل " قال بعضهم يعني في الدنيا أخرج
(1/531)
532
الله تعالى الغل والحسد من قلوبهم وألف بين قلوبهم كما قال " ولكن الله ألف بينهم " الأنفال 63 هذا في الجنة يخرج الغل والحسد من قلوبهم قال ابن عباس نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي ونحوهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تابعهم على سنتهم ومنهاجهم إلى يوم القيامة وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لعمران بن طلحة بن عبيد الله أرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال الله تعالى فيهم " ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين " الحجر 47 فأنكر عليه بعضهم فقال علي إن لم نكن نحن فمن هم يعني إن الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في قلوبهم من الغل حتى ينزع عنهم " تجري من تحتهم الأنهار " يعني من تحت غرفهم وأشجارهم الأنهار " وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا " يعني أكرمنا بهذه الكرامة ويقال " الحمد لله " الذي وفقنا للأمر الذي أوجب لنا هذا الثواب وهو الإسلام ويقال هدانا لهاتين العينين وذلك أن أهل الجنة لما انتهوا إلى باب الجنة فإذا هم بشجرة تنبع من ساقها عينان فيعمدون إلى إحداهما فيشربون منها فيخرج الله تعالى ما كان في أجوافهم من غل وقذر فذلك قوله تعالى " وسقاهم ربهم شرابا طهورا " الإنسان 21 ثم يعمدون إلى الأخرى فيغتسلون فيها فيطيب الله تعالى أجسادهم من كل درن وجرت عليهم نضرة ولا تشعث رؤوسهم ولا تغبر وجوههم ولا تشحب أجسادهم أبدا ثم تتلقاهم خزنة الجنة فينادون في التقديم أي قبل أن يدخلوها " إن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون " فقالوا بعد ما اغتسلوا من العينين " الحمد لله الذي هدانا لهذا " يعني وفقنا حتى اغتسلنا من هاتين العينين ويقال لما دخلوا الجنة ونظروا إلى كراماتها قالوا " الحمد لله الذي هدانا " يعني لهذا الثواب " وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله " يعني ما كنا نعرف لولا أن وفقنا الله تعالى وذلك أنهم علموا أن الله تعالى له عليهم الفضل والمن فيما أعطاهم قرأ ابن عامر " ما كنا لنهتدي " بغير واو على الاستئناف وقرأ الباقون بالواو على معنى العطف
قال تعالى " لقد جاءت رسل ربنا بالحق " فصدقناهم " ونودوا أن تلكم الجنة " التي وعدتم وقال بعضهم أن يدخلوها قال لهم خزنة الجنة تلكم الجنة التي وعدتم ويقال بعدما ما دخلوها يقال لهم إن تلكم الجنة يعني هذه الجنة التي " أورثتموها " يعني أنزلتموها بإيمانكم واقتسموها " بما كنتم تعملون " في الدنيا وهذا كما روي في الخبر أنه يقال لهم يوم القيامة جوزوا الصراط بعفوي وادخلوا الجنة برحمتي واقتسموها بأعمالكم(1/532)
533
سورة الأعراف 44 - 46
قوله تعالى " ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا " يعني ما وعدنا في الدنيا في الثواب وجدناه صدقا " فهل وجدتم ما وعد ربكم " من العذاب " حقا " يعني صدقا " قالوا نعم " فاعترفوا على أنفسهم في وقت لا ينفعهم الاعتراف قرأ الكسائي " قالوا نعم " بكسر العين في جميع القرآن وقرأ الباقون بالنصب وروي عن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلا يقول نعم بالنصب فقال له عمر النعم المال وقل نعم يعني بالكسر وروى الكسائي عن شيخ من ولد الزبير قال ما كانت أشياخ قريش إلا يقولون نعم فماتت يعني اللغة " فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين " وذلك أنه ينادي مناد بين الجنة والنار تسمعه الخلائق كلهم إن رحمة الله على المحسنين ولعنة الله على الظالمين يعني عذاب الله على الكافرين " الذين يصدون عن سبيل الله " يعني يصرفون الناس عن دين الله الإسلام وهم الرؤساء منهم منعوا أتباعهم عن الإيمان " ويبغونها عوجا " يقول يريدون بملة الإسلام غيرا وزيفا " وهم بالآخرة كافرون " يعني كانوا جاحدين بالبعث قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي " أن لعنة الله " بتشديد النون ونصب الهاء وقرأ الباقون " أن لعنة " بتخفيف أن وضم الهاء
قوله تعالى " وبينهما حجاب " يعني بين أهل الجنة وأهل النار سور " وعلى الأعراف رجال " وروى مجاهد عن ابن عباس قال الأعراف سور كعرف الديك وقال القتبي الأعراف سور بين الجنة والنار وسمي بذلك لارتفاعه وكل مرتفع عند العرب أعراف وقال السدي إنما سمي الأعراف لأن أصحابه يعرفون الناس روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال هم قوم قتلوا في سبيل الله في معصية آبائهم فمنعهم من النار قتلهم في سبيل الله ومنعهم من الجنة معصية آبائهم وعن حذيفة بن اليمان أنه قال هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فلم يكن لهم زيادة حسنات يدخلون بها الجنة ولا سيئات فاضلة يدخلون بها النار وروي عن ابن عباس مثل هذا وروي عنه أيضا أنه قال هم أولاد الزنى وروي عن أبي مجلز أنه قال هم الملائكة فبلغ ذلك مجاهدا فقال كذب أبو مجلز يقول الله تعالى " وعلى الأعراف رجال " فقال أبو مجلز لأن الملائكة ليسوا بإناث ولكنهم عباد
(1/533)