المهذب
في تفسير سورة الملك
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
(( حقوق الطبع لكل مسلم ))
الطبعة الأولى
(بهانج دار المعور ))(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ،القائل في محكم التنزيل {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) سورة الملك.
وأصلي وأسلم على خير خلق الله محمد بن عبد الله ، القائل : « إِنَّ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ ثَلاَثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ وَهِىَ سُورَةُ تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ ». (1)
وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فكلنا يعلمُ فضائل سورة الملك ، وهي متداولة بين المسلمين ، فهذه السورة ذات الثلاثين آية لها مكانة كبيرة في نفوس السلف والخلف .
وقد قمت بتفسيرها منذ عشرين سنة ، تفسيرا موجزا ، ولم تتسن الظروف لنشره حين ذاك . وقد قمت اليوم بجمع تفسير لها أطول من الأول بكثير ،وقد قسمته لسبعة مباحث على الشكل التالي :
المبحث الأول- حول مكيتها وعدد آياتها من عدة تفاسير
المبحث الثاني-أسماؤها ، بشكل مفصل من عدة تفاسير ...
المبحث الثالث-مناسبتها لما قبلها من عدة تفاسير
المبحث الرابع-أهم الموضوعات التي اشتملت عليها السورة من عدة تفاسير
المبحث الخامس- فضائل السورة ، وقد استقصيتها من مظانها وقمت بتخريجها والحكم المناسب عليها .
المبحث السادس- تفسيرها، وهو أكبر المباحث وعمدة الكتاب ، فقد قسمت السورة لستتة موضوعات رئيسة كل موضوع في مطلب وهي :
المطلب الأول-بعض أدلة القدرة الإلهية
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز - (3134 ) وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.(1/1)
المطلب الثاني-تعذيب الكفار العصاة
المطلب الثالث-وعد المؤمنين بالمغفرة وتهديد الكافرين مرة أخرى
المطلب الرابع-أنواع من الوعيد والتهديد والعبرة بالأمم السابقة
المطلب الخامس-توبيخ المشركين على عبادة الأصنام وإثبات قدرة اللّه واختصاصه بعلم
المطلب السادس-دعاء كفار مكة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بالهلاك
وقد قسمت كل مطلب إلى الأمور التالية :
شرح الكلمات بشكل موجز -من كلمات القرآن للشيخ غازي الدروبي
البلاغة - بشكل موجز من التفسير المنير ، ومن صفوة التفاسير وإعراب القرآن وبيانه لدرويش
المعنى العام - غالبا من تفسير المراغي ، والتفسير الواضح
التفسير والبيان - من التفسير المنير مع تعديلات كثيرة من تفاسير أخرى ولاسيما التفسير القرآني بالقرآن
ومضات عامة- من تفاسير منوعة وغالبها من تفسير القاسمي ودروزة ، والوسيط ، والشنقيطي والألوسي ، والظلال وغيرها
ما يستفاد من الآيات - من التفسير المنير وأيسر التفاسير
وزدت في المطالب التالية مناسبة الآيات - من التفسير المنير غالباً
وزدت في المطلب الخامس- ثمرات الإيمان باليوم الآخر
المبحث السادس-مقاصد السورة بشكل مختصر من تفسير المراغي
المبحث السابع- الثمرات العملية لسورة الملك - وهي ثماني عشرة ثمرة
بحيث صار تفسيرا واضحاً وشاملاً وموضوعيا لها .
وقد عقبت على بعض الأخطاء والأوهام .
فإن أصبت ، فبه ونعمت والفضل لله وحده ،وإن أخطأت فمن تقصيري وأستغفر الله .(1/2)
قال تعالى : {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (53) سورة النحل
فكل ما هم فيه من نعم ، هو من عند اللّه .. حياتهم التي يحيونها ..وحواسّهم ، وجوارحهم ، ونومهم ويقظتهم ، وطعامهم وشرابهم ، وما بين أيديهم من مال وبنين .. كل هذا ، وأضعاف هذا مما يتقلبون فيه ، ويقيمون وجودهم عليه ، هو من عطاء اللّه ، ومن فضل اللّه ، ومن رحمة اللّه .. (1)
لذا أسأل الله تعالى أن ينفع به معَّده وقارئه وناشره والدال عليه في الدارين
جمعه وأعده
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 27 ربيع الأول 1430 الموافق ل23/3/2009م
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (7 / 308)(1/3)
المبحث الأول
حول مكيتها وعدد آياتها
هي مكية قال ابن عطية والقرطبي: باتفاق الجميع. (1)
وهي السادسة والسبعون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة المؤمنين وقبل سورة الحاقة.وآيها في عد أهل الحجاز إحدى وثلاثون وفي عد غيرهم ثلاثون. (2)
وفي التفسير الوسيط : " سورة « الملك » من السور المكية الخالصة ". (3)
****************
__________
(1) - تفسير القرطبي ـ موافق للمطبوع - (18 / 205)
(2) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (29 / 5)
(3) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 5)(1/4)
المبحث الثاني
أسماؤها
سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - "سورة تبارك الذي بيده الملك". (1)
فهذا تسمية للسورة بأول جملة وقعت فيها فتكون تسمية بجملة كما سمي ثابت بن جابر تأبط شرا. ولفظ سورة مضاف إلى تلك الجملة المحكية.
وسميت أيضا "تبارك الملك" بمجموع الكلمتين في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبسمع منه (2)
يكون اسم السورة مجموع هذين اللفظين على طريقة عدِّ الكلمات في اللفظ دون إضافة إحداهما إلى الأخرى مثل تسمية لام ألف.
والشائع في كتب السنَّة وكتب التفسير وفي أكثر المصاحف تسمية هذه السورة سورة الملك وكذلك ترجمها الترمذي: باب ما جاء في فضل سورة الملك (3) . وكذلك عنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه (4) .
وأخرج الطبراني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ، قَالَ:كُنَّا نُسَمِّيهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَانِعَةَ (5) ، أي أخذا من وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - إياها بأنها المانعة المنجية كما في حديث الترمذي المذكور آنفا وليس بالصريح في التسمية.
وفي الإتقان عن تاريخ ابن عساكر من حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سماها "المنجية" (6) ولعل ذلك من وصفه إياها بالمنجية في حديث الترمذي وليس أيضا
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز - (3134) حسن وسيمر لفظه في فضائلها
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (3133) حسن وسيمر لفظه في فضائلها
(3) - باب مَا جَاءَ فِى فَضْلِ سُورَةِ الْمُلْكِ. (9) سنن الترمذى- المكنز - (11 / 67)
(4) صحيح البخارى- المكنز - (16 / 285) 67 - سورة الْمُلْكِ
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (8 / 481) (10105 ) حسن
(6) - تاريخ دمشق لابن عساكر - (6 / 46) ومسند البزار كاملا - (2 / 212) (5300) وفيه قصة وسيرد(1/5)
بالصريح في أنه اسم.،وفي الإتقان عن كتاب جمال القراء تسمَّى أيضا الواقية، وتسمى المانعة بصيغة المبالغة.
وذكر الفخر: أن ابن عباس كان يسميها المجادلة لأنها تجادل عن قارئها عند سؤال الملكين ولم أره لغير الفخر (1) .فهذه ثمانية أسماء سميت بها هذه السورة. (2)
وفي التفسير المنير : " سميت سورة الملك لافتتاحها بتقديس وتعظيم اللّه نفسه الذي بيده الملك - ملك السموات والأرض ، وله وحده مطلق السلطان ، والتصرف في الأكوان كيفما يشاء ، يحيي ويميت ، ويعز ويذل ، ويغني ويفقر ، ويعطي ويمنع. وتسمى السورة أيضا «الواقية» و«المنجية» لأنها تقي وتنجي من عذاب القبر وتشفع لصاحبها ...
وكان ابن عباس يسميها «المجادلة» لأنها تجادل عن قارئها في القبر." (3)
****************
__________
(1) - قلت : بل ورد ذلك عنه كما في اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة - (6 / 96) [5871] ومسند عبد بن حميد - (604) وفيه ضعف
(2) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (29 / 5) وانظر التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1043)
(3) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (29 / 5)(1/6)
المبحث الثالث
مناسبتها لما قبلها
كانت الآيات التي ختمت بها سورة « التحريم » السابقة على هذه السورة ، معرضا للصراع بين الخير والشر ، والحرب بين الإيمان ، والكفر ـ فيما كان من امرأة نوح وامرأة لوط ،وخروجهما من المعركة خاسرتين كافرتين .. ثم ما كان من امرأة فرعون ، وصراعها مع قوى الشر المحدقة بها من كل جهة ، ثم انتصارها ، وخروجها من وسط هذا الظلام المطبق ، إلى حيث النور والهدى ..ثم كان مما بدئت به سورة « الملك » قوله تعالى : « الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا » ليقرر أن نتيجة هذا الصراع بين المحقّين والمبطلين ، والمحسنين والمسيئين ـ إنما تظهر على حقيقتها كاملة يوم القيامة ، ولهذا كان مما قضت به حكمة اللّه سبحانه وتعالى أن يكون موت ، ثم تكون حياة بعد هذا الموت ، ليحاسب الناس على ما عملوا فى الدنيا ، من خير أو شر ..فكان من المناسب أن تلتقى هذه الحقيقة التي قررتها سورة « الملك » مع تلك الحقيقة التي ختمت بها سورة « التحريم ».. وبذلك يتأكد المراد منهما معا. (1)
وفي التفسير المنير : " وجه تعلق هذه السورة بما قبلها من وجهين :
1 - وجه عام : وهو أن هذه السورة تؤكد مضمون السورة السابقة في جملتها ، فالسورة المتقدمة تبيّن مدى قدرة اللّه وهيمنته وتأييده لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - في مواجهة احتمال ظهور تآمر امرأتين ضعيفتين من نسائه عليه ، وهذه السورة توضح بصيغة عامة أن بيد اللّه ملك السموات والأرض ومن فيهن ، وأنه القدير على كل شيء.
2 - وجه خاص : وهو أنه تعالى ذكر في أواخر «التحريم» مثالين فريدين متمثلين بامرأتي نوح ولوط للكافرين ، وبامرأة فرعون المؤمنة ، ومريم العذراء البتول للمؤمنين ، وهذه السورة تدل على إحاطة علم اللّه تعالى وتدبيره وإظهاره في خلقه
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1043)(1/7)
ما يشاء من العجائب والغرائب ، فإن كفر امرأتي نوح ولوط لم يمنع اتصالهما بنبيين كريمين ، وإيمان امرأة فرعون ، لم يضر به اتصالها بفرعون الطاغية الجبار العنيد ،كما لم يزعزع إيمان مريم حملها غير المعهود بعيسى عليه السلام. (1)
وقال الآلوسي : " وجه مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ضرب مثلا للكفار بتينك المرأتين المحتوم لهما بالشقاوة وإن كانتا تحت نبيين عظيمين ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم وهما محتوم لهما بالسعادة وإن أكثر قومهما كفار ، افتتح هذه بما يدل على إحاطته عز وجل وقهره وتصرفه في ملكه على ما سبق به قضاؤه. وقيل إن أول هذه متصل بقوله تعالى آخر الطلاق اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ [الطلاق : 12] لما فيه من مزيد البسط لما يتعلق بذلك وفصل بسورة التحريم لأنها كالقطعة من سورة الطلاق والتتمة لها " (2)
****************
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (29 / 5) وانظر تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 3)
(2) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (15 / 3)(1/8)
المبحث الرابع
أهم الموضوعات التي اشتملت عليها السورة
قال ابن عاشور :
" والأغراض التي في هذه السورة جارية على سنن الأغراض في السور المكية.
ابتدأت بتعريف المؤمنين معاني من العلم بعظمة الله تعالى وتفرده بالملك الحق؛ والنظر في إتقان صنعه الدال على تفرده بالإلهية فبذلك يكون في تلك الآيات حظ لعظة المشركين.
ومن ذلك التذكير بأنه أقام نظام الموت والحياة لتظهر في الحالين مجاري أعمال العباد في ميادين السبق إلى أحسن الأعمال ونتائج مجاريها.
وأنه الذي يجازي عليها.
وانفراده بخلق العوالم خلقا بالغا غاية الإتقان فيما تراد له.
وأتبعه بالأمر بالنظر في ذلك وبالإرشاد إلى دلائله الإجمالية وتلك دلائل على انفراده بالإلهية.
متخلصا من ذلك إلى تحذير الناس من كيد الشياطين، والارتباق معهم في ربقة عذاب جهنم وأن في اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - نجاة من ذلك وفي تكذيبه الخسران، وتنبيه المعاندين للرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى علم الله بما يحوكونه للرسول ظاهرا وخفية بأن علم الله محيط بمخلوقاته.
والتذكير بمنَّة خلق العالم الأرضي، ودقة نظامه، وملاءمته لحياة الناس، وفيها سعيهم ومنها رزقهم.
والموعظة بأن الله قادر على إفساد ذلك النظام فيصبح الناس في كرب وعناء يتذكروا قيمة النعم بتصور زوالها.
وضرب لهم مثلا في لطفه تعالى بهم بلطفه بالطير في طيرانها.
وأيسهم من التوكل على نصرة الأصنام أو على أن ترزقهم رزقا.(1/9)
وفظع لهم حالة الضلال التي ورطوا أنفسهم فيها.
ثم وبخ المشركين على كفرهم نعمة الله تعالى وعلى وقاحتهم في الاستخفاف بوعيده وأنه وشيك الوقوع بهم.
ووبخهم على استعجالهم موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ليستريحوا من دعوته.
وأوعدهم بأنهم سيعلمون ضلالهم حين لا ينفعهم العلم، وأنذرهم بما قد يحلُّ بهم من قحط وغيره". (1)
وفي التفسير الواضح :
"وهي مكية على الصحيح ، وعدد آياتها ثلاثون آية ، وتشتمل كأخواتها المكيات على إثبات وجود اللّه ببيان مظاهر قدرته وعلمه،وقد تعرضت لما يلاقيه الناس يوم القيامة ، ولبيان بعض نعمه على عباده ، والسورة على العموم تدور حول بيان النعم. (2)
وقال في التفسير الوسيط :
" والسورة الكريمة زاخرة بالحديث عن أدلة وحدانية اللّه - تعالى - وقدرته وعن مظاهر فضله ورحمته بعباده ، وعن بديع خلقه في هذا الكون ، وعن أحوال الكافرين ، وأحوال المؤمنين يوم القيامة ، وعن وجوب التأمل والتدبر في ملكوت السموات والأرض .. وعن الحجج الباهرة التي لقنها - سبحانه - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - لكي يقذف بها في وجوه المبطلين ، والتي تبدأ في بضع آيات بقوله - تعالى - قُلْ.ومن ذلك قوله - سبحانه - : قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ ، وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا ، فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ. (3)
وقال دروزة :
" وفي السورة لفت نظر إلى عظمة اللّه وقدرته في مشاهد الكون ونواميسه ، وتقرير كون اللّه إنما خلق الناس وقدّر عليهم البعث بعد الموت لاختبارهم. وتذكير
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (29 / 5)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 709)
(3) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 5)(1/10)
بأفضال اللّه ونعمه على الناس. ووصف لمصير الكفار والمؤمنين الأخروي ، وحملة تنديد وإنذار على الكفار وردود على ما كانوا يقولونه في مواقف الجدل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - . وآياتها منسجمة متوازنة مما يسوغ القول بوحدة نزولها." (1)
وقال الصابوني :
" سورة الملك من السور المكية ، شأنها شأن سائر السور المكية ، التي تعالج موضوع العقيدة في أصولها الكبرى ، وقد تناولت هذه السور أهدافا رئيسية ثلاثة وهي (إثبات عظمة الله وقدرته على الإحياء والإماتة . . وإقامة الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين . . ثم بيان عاقبة المكذبين الجاحدين للبعث والنشور) .
ابتدأت السورة الكريمة بتوضيح الهدف الأول ، فذكرت أن الله جل وعلا بيده الملك والسلطان،وهو المهيمن على الأكوان ، الذي تخضع لعظمته الرقاب ، وتعنو له الجباه ، وهو المتصرف في الكائنات بالخلق والإيجاد ، والإحياء والإماتة [ تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ] الآيات .
ثم تحدثت عن خلق السموات السبع ، وما زين الله به السماء الدنيا من الكواكب الساطعة ، والنجوم اللامعة ، وكلها أدلة على قدرة الله ووحدانيته [ الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت . . ] الآيات .
ثم تناولت الحديث عن المجرمين بشيء من الإسهاب،وهم يرون جهنم تتلظى ، وتكاد تتقطع من شدة الغضب،والغيظ على أعداء الله،وقارنت بين مآل الكافرين والمؤمنين،على طريقة القرآن في الجمع بين الترهيب والترغيب [ إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور . . ] الآيات .
وبعد أن ساقت بعض الأدلة والشواهد على عظمة الله وقدرته ، حذرت من عذابه وسخطه ، أن يحل بأولئك الكفرة الجاحدين [ ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور . . ] الآيات .
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 373)(1/11)
وختمت السورة الكريمة بالإنذار والتحذير للمكذبين بدعوة الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - )، من حلول العذاب بهم في الوقت الذي كانوا يتمنون فيه موت الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وهلاك المؤمنين [ قل أرآيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ] ؟ الآيات ، ويا له من وعيد شديد ، ترتعد له الفرائص !! . (1)
وفي التفسير المنير :
" سورة الملك كسائر السور المكية تعنى بأصول العقيدة الأساسية وهي إثبات وجود اللّه ، وعظمته ، وقدرته على كل شيء والاستدلال على وحدانيته ، والإخبار عن البعث والحشر والنشر.
بدئت بالحديث عن تمجيد اللّه سبحانه ، وإظهار عظمته ، وتفرده بالملك والسلطان ، وهيمنته على الأكوان ، وتصرفه في الوجود بالإحياء والإماتة (الآيات : 1 - 2).
ثم أكدت الاستدلال على وجود اللّه عز وجل بخلقه السموات السبع ، وما زيّنها به من الكواكب والنجوم المضيئة ، وتسخيرها لرجم الشياطين ونحو ذلك من مظاهر قدرته وعلمه (الآيات : 3 - 5) مما يدل على أن نظام العالم نظام محكم لا خلل فيه ولا تغاير.
ومن مظاهر قدرته تعالى : إعداد عذاب جهنم للكافرين ، وتبشير المؤمنين بالمغفرة والأجر الكبير ،وذلك جمع بين الترهيب والترغيب على طريقة القرآن الكريم (الآيات : 6 - 12).
ومن مظاهر علمه وقدرته ونعمه : علمه بالسر والعلن ، وخلقه الإنسان ورزقه ، وتذليل الأرض للعيش الهني عليها وحفظها من الخسف ، وحفظ السماء من إنزال الحجارة المحرقة المدمرة للبشر ، كما دمرت الأمم السابقة المكذبة رسلها ، وإمساك الطير ونحوها من السقوط ، وتحدي الناس أن ينصرهم غير اللّه إن أراد عذابهم (الآيات : 13 - 20).
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 377)(1/12)
وأردفت ذلك في الخاتمة بإثبات البعث ، وحصر علمه باللّه تعالى ، وإنذار المكذبين بدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وتحذيرهم من إيقاع العذاب بهم ، وإعلان وجوب التوكل على اللّه ، والتهديد بتغوير الماء الجاري في الأنهار والينابيع دون أن يتمكن أحد بإجرائه والإتيان ببديل عنه (الآيات : 25 - 30).
والخلاصة : أن السورة إثبات لوجود اللّه تعالى ووحدانيته ببيان مظاهر علمه وقدرته ، وإنذار بأهوال القيامة ، وتذكير بنعم اللّه على عباده ، وربط الرزق بالسعي في الأرض ثم التوكل على اللّه تعالى. (1)
وفي الظلال :
" هذ الجزء كله من السور المكية. كما كان الجزء الذي سبقه كله من السور المدنية. ولكل منهما طابع مميز ، وطعم خاص .. وبعض مطالع السور في هذا الجزء من بواكير ما نزل من القرآن كمطلع سورة «المدثر» ومطلع سورة «المزمل». كما أن فيه سورا يحتمل أن تكون قد نزلت بعد البعثة بحوالي ثلاث سنوات كسورة «القلم».
وبحوالي عشر سنوات كسورة «الجن» التي يروى أنها نزلت في عودة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من الطائف ، حيث أوذي من ثقيف. ثم صرف اللّه إليه نفرا من الجن فاستمعوا إليه وهو يرتل القرآن ، مما حكته سورة الجن في هذا الجزء (2) . وكانت هذه الرحلة بعد وفاة خديجة وأبي طالب قبيل الهجرة بعام أو عامين. وإن كانت هناك رواية أخرى هي الأرجح بأن السورة نزلت في أوائل البعثة.
والقرآن المكي يعالج - في الغالب - إنشاء العقيدة. في اللّه وفي الوحي ، وفي اليوم الآخر. وإنشاء التصور المنبثق من هذه العقيدة لهذا الوجود وعلاقته بخالقه. والتعريف بالخالق تعريفا يجعل الشعور به حيا في القلب ، مؤثرا موجها موحيا بالمشاعر اللائقة بعبد يتجه إلى رب ، وبالأدب الذي يلزمه العبد مع الرب ،
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (29 / 6)
(2) - انظر خبر إسلام الجن سنن الترمذى- المكنز - (3641 ) وصحيح ابن حبان - (14 / 459)(6526)(1/13)
وبالقيم والموازين التي يزن بها المسلم الأشياء والأحداث والأشخاص. وقد رأينا نماذج من هذا في السور المكية السابقة ، وسنرى نماذج منه في هذا الجزء.
والقرآن المدني يعالج - في الغالب - تطبيق تلك العقيدة وذاك التصور وهذه الموازين في الحياة الواقعية وحمل النفوس على الاضطلاع بأمانة العقيدة والشريعة في معترك الحياة ، والنهوض بتكاليفها في عالم الضمير وعالم الظاهر سواء. وقد رأينا نماذج من هذا في السور المدنية السابقة ومنها سور الجزء الماضي.
وهذه السورة الأولى - سورة تبارك - تعالج إنشاء تصور جديد للوجود وعلاقاته بخالق الوجود. تصور واسع شامل يتجاوز عالم الأرض الضيق وحيز الدنيا المحدود ، إلى عوالم في السماوات ، وإلى حياة في الآخرة. وإلى خلائق أخرى غير الإنسان في عالم الأرض كالجن والطير ، وفي العالم الآخر كجهنم وخزنتها. وإلى عوالم في الغيب غير عالم الظاهر تعلق بها قلوب الناس ومشاعرهم ، فلا تستغرق في الحياة الحاضرة الظاهرة ، في هذه الأرض.
كما أنها تثير في حسهم التأمل فيما بين أيديهم وفي واقع حياتهم وذواتهم مما يمرون به غافلين.
وهي تهز في النفوس جميع الصور والانطباعات والرواسب الجامدة الهامدة المتخلفة من تصور الجاهلية وركودها وتفتح المنافذ هنا وهناك ، وتنفض الغبار ، وتطلق الحواس والعقل والبصيرة ترتاد آفاق الكون ، وأغوار النفس ، وطباق الجو ، ومسارب الماء ، وخفايا الغيوب ، فترى هناك يد اللّه المبدعة ، وتحس حركة الوجود المنبعثة من قدرة اللّه. وتؤوب من الرحلة وقد شعرت أن الأمر أكبر ، وأن المجال أوسع. وتحولت من الأرض - على سعتها - إلى السماء. ومن الظواهر إلى الحقائق. ومن الجمود إلى الحركة. مع حركة القدر ، وحركة الحياة ، وحركة الأحياء.الموت والحياة أمران مألوفان مكروران. ولكن السورة تبعث حركة التأمل فيما(1/14)
وراء الموت والحياة من قدر اللّه وبلائه ، ومن حكمة اللّه وتدبيره : «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ».
والسماء خلق ثابت أمام الأعين الجاهلة لا تتجاوزه إلى اليد التي أبدعته ، ولا تلتفت لما فيه من كمال. ولكن السورة تبعث حركة التأمل والاستغراق في هذا الجمال والكمال وما وراءها من حركة وأهداف : «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً. ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ .. وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ ..».
والحياة الدنيا تبدو في الجاهلية غاية الوجود ، ونهاية المطاف. ولكن السورة تكشف الستار عن عالم آخر هو حاضر للشياطين وللكافرين. وهو خلق آخر حافل بالحركة والتوفز والانتظار : «وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ. وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ. تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ. كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها : أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا : بَلى ! قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا : ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقالُوا : لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ!».
والنفوس في الجاهلية لا تكاد تتجاوز هذا الظاهر الذي تعيش فيه ، ولا تلقي بالا إلى الغيب وما يحتويه. وهي مستغرقة في الحياة الدنيا محبوسة في قفص الأرض الثابتة المستقرة. فالسورة تشد قلوبهم وأنظارهم إلى الغيب وإلى السماء وإلى القدرة التي لم ترها عين ، ولكنها قادرة تفعل ما تشاء حيث تشاء وحين تشاء وتهز في حسهم هذه الأرض الثابتة التي يطمئنون إليها ويستغرقون فيها «إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ. وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ. أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ(1/15)
بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ؟ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً؟ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ»..
والطير. إنه خلق يرونه كثيرا ولا يتدبرون معجزته إلا قليلا. ولكن السورة تمسك بأبصارهم لتنظر وبقلوبهم لتتدبر ، وترى قدرة اللّه الذي صور وقدر : «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ؟ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ ، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ».
وهم آمنون في دارهم ، مطمئنون إلى مكانهم ، طمأنينة الغافل عن قدرة اللّه وقدره. ولكن السورة تهزهم من هذا السبات النفسي ، بعد أن هزت الأرض من تحتهم وأثارت الجو من حولهم ، تهزهم على قهر اللّه وجبروته الذي لا يحسبون حسابه : «أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ؟ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ».
والرزق الذي تناله أيديهم ، إنه في حسهم قريب الأسباب ، وهي بينهم تنافس وغلاب. ولكن السورة تمد أبصارهم بعيدا هنالك في السماء ، ووراء الأسباب المعلومة لهم كما يظنون : «أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ؟ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ» ..
وهم سادرون في غيهم يحسبون أنهم مهتدون وهم ضالون. فالسورة ترسم لهم حقيقة حالهم وحال المهتدين حقا ، في صورة متحركة موحية : «أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى ؟ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟».
وهم لا ينتفعون بما رزقهم اللّه في ذوات أنفسهم من استعدادات ومدارك ولا يتجاوزون ما تراه حواسهم إلى التدبر فيما وراء هذا الواقع القريب. فالسورة تذكرهم بنعمة اللّه فيما وهبهم ، وتوجههم إلى استخدام هذه الهبة في تنور المستقبل المغيب وراء الحاضر الظاهر ، وتدبر الغاية من هذه البداية : «قُلْ : هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ ، قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ. قُلْ : هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» ..وهم يكذبون بالبعث والحشر ،(1/16)
ويسألون عن موعده. فالسورة تصوره لهم واقعا مفاجئا قريبا يسوؤهم أن يكون : «وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ، وَقِيلَ : هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ!» ..
وهم يتربصون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه أن يهلكوا فيستريحوا من هذا الصوت الذي يقض عليهم مضجعهم بالتذكير والتحذير والإيقاظ من راحة الجمود! فالسورة تذكرهم بأن هلاك الحفنة المؤمنة أو بقاءها لا يؤثر فيما ينتظرهم هم من عذاب اللّه على الكفر والتكذيب ، فأولى لهم أن يتدبروا أمرهم وحالهم قبل ذلك اليوم العصيب : «قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ؟ قُلْ : هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ».
وتنذرهم السورة في ختامها بتوقع ذهاب الماء الذي به يعيشون ، والذي يجريه هو اللّه الذي به يكفرون! «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ؟» ..إنها حركة. حركة في الحواس ، وفي الحس ، وفي التفكير ، وفي الشعور.ومفتاح السورة كلها ، ومحورها الذي تشد إليه تلك الحركة فيها ، هو مطلعها الجامع الموحي : «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
وعن حقيقة الملك وحقيقة القدرة تتفرع سائر الصور التي عرضتها السورة ، وسائر الحركات المغيبة والظاهرة التي نبهت القلوب إليها ..فمن الملك ومن القدرة كان خلق الموت والحياة ، وكان الابتلاء بهما. وكان خلق السماوات وتزيينها بالمصابيح وجعلها رجوما للشياطين. وكان إعداد جهنم بوصفها وهيئتها وخزنتها. وكان العلم بالسر والجهر. وكان جعل الأرض ذلولا للبشر. وكان الخسف والحاصب والنكير على المكذبين الأولين. وكان إمساك الطير في السماء. وكان القهر والاستعلاء. وكان الرزق كما يشاء. وكان الإنشاء وهبة السمع والأبصار والأفئدة. وكان الذرء في الأرض والحشر.(1/17)
وكان الاختصاص بعلم الآخرة. وكان عذاب الكافرين. وكان الماء الذي به الحياة وكان الذهاب به عند ما يريد ..فكل حقائق السورة وموضوعاتها ، وكل صورها وإيحاءاتها مستمدة من إيحاء ذلك المطلع ومدلوله الشامل الكبير : «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»!!
وحقائق السورة وإيحاءاتها تتوالى في السياق ، وتتدفق بلا توقف ، مفسرة مدلول المطلع المجمل الشامل ، مما يصعب معه تقسيمها إلى مقاطع! (1)
****************
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3628)(1/18)
المبحث الخامس
فضائل السورة
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إِنَّ سُورَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا هِيَ إِلاَّ ثَلاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ فَأَخْرَجَتْهُ مِنَ النَّارِ وَأَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ ، وَهِيَ سُورَةُ الْمُلْكِ (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : " إِنَّ سُورَةً فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً تَسْتَغْفِرُ لِصَاحِبِهَا حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ : تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ؟ فَأَقَرَّ بِهِ أَبُو أُسَامَةَ وَقَالَ : نَعَمْ " (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " فِي الْقُرْآنِ سُورَةٌ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِصَاحِبِهَا حَتَّى غُفِرَ لَهُ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " (3)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : يُؤْتَى الرَّجُلُ فِي قَبْرِهِ فَتُؤْتَى رِجْلاهُ ، فَتَقُولُ رِجْلاهُ : لَيْسَ لَكُمْ عَلَى مَا قِبَلِي سَبِيلٌ كَانَ يَقُومُ يَقْرَأُ بِي سُورَةَ الْمُلْكِ ، ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ صَدْرِهِ أَوْ قَالَ بَطْنِهِ ، فَيَقُولُ : لَيْسَ لَكُمْ عَلَى مَا قِبَلِي سَبِيلٌ كَانَ يَقْرَأُ بِي سُورَةَ الْمُلْكِ ، ثُمَّ يُؤْتَى رَأْسُهُ ، فَيَقُولُ : لَيْسَ لَكُمْ عَلَى مَا قِبَلِي سَبِيلٌ كَانَ يَقْرَأُ بِي سُورَةَ الْمُلْكِ ، قَالَ : فَهِيَ الْمَانِعَةُ تَمْنَعُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَهِيَ فِي التَّوْرَاةِ سُورَةُ الْمُلْكِ ، وَمَنْ قَرَأَهَا فِي لَيْلَةٍ فَقَدْ أَكْثَرَ وَأَطْنَبَ " (4)
__________
(1) - المستدرك للحاكم (3838) صحيح
(2) - صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ (788 ) صحيح
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : " تَسْتَغْفِرُ لِصَاحِبِهَا " ، أَرَادَ بِهِ ثَوَابَ قِرَاءَتِهَا ، فَأَطْلَقَ الِاسْمَ عَلَى مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ وَهُوَ الثَّوَابُ ، كَمَا يُطْلَقُ اسْمُ السُّورَةِ نَفْسِهَا عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي خَبَرِ أَبِي أُمَامَةَ أَرَادَ بِهِ ثَوَابَ الْقُرْآنِ ، وَثَوَابَ الْبَقَرَةِ ، وَآلِ عِمْرَانَ ، إِذِ الْعَرَبُ تُطْلِقُ فِي لُغَتِهَا اسْمَ مَا تَوَّلَدَ مِنَ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ .
(3) - إِثْبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ لِلْبَيْهَقِيِّ ( 130) حسن
(4) - المستدرك للحاكم (3839) صحيح(1/19)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ، قَالَ:"مَاتَ رَجُلٌ فَجَاءَتْهُ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ فَجَلَسُوا عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ: لا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَيْهِ، قَدْ كَانَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْمُلْكِ، فَجَلَسُوا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَقَالَ: لا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَيْهِ قَدْ كَانَ يَقُومُ عَلَيْنَا بِسُورَةِ الْمُلْكِ، فَجَلَسُوا عِنْدَ بَطْنِهِ، فَقَالَ: لا سَبِيلَ لَكُمْ إِنَّهُ قَدْ وَعَى فِيَّ سُورَةَ الْمُلْكِ، فَسُمِّيَتِ الْمَانِعَةَ". (1)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:"يُؤْتَى الرَّجُلُ فِي قَبْرِهِ فَيُؤْتَى رِجْلاهُ فَيَقُولانِ: لَيْسَ لَكُمْ عَلَى مَا قِبَلَنَا مِنْ سَبِيلٍ كَانَ يَقْرَأُ عَلَيْنَا سُورَةَ الْمُلْكِ، ثُمَّ يُؤْتَى جَوْفُهُ، فَيَقُولُ: لَيْسَ لَكُمْ عَلَيَّ سَبِيلٌ قَدْ كَانَ وَعَى فِيَّ سُورَةَ الْمُلْكِ، ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: لَيْسَ لَكُمْ عَلَى مَا قِبَلِي سَبِيلٌ كَانَ يَقْرَأُ فِيَّ سُورَةَ الْمُلْكِ"، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ:"فَهِيَ الْمَانِعَةُ تَمْنَعُ عَذَابَ الْقَبْرِ، وَهِي فِي التَّوْرَاةِ هَذِهِ سُورَةُ الْمُلْكِ مَنْ قَرَأَهَا فِي لَيْلَةٍ أَكْثَرَ وَأَطْيَبَ"
وفي رواية عَنْ عَبْدِ اللَّهِ،قَالَ: إِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْمُلْكِ كُلَّ لَيْلَةٍ فَأُدْخِلَ قَبْرَهُ فَيُؤْتَى فِي قَبْرِهِ فَيُبْدَأُ بِرِجْلَيْهِ فَتَقُولُ رِجْلاهُ: مَا لَكُمْ عَلَى مَا قِبَلِي سَبِيلٌ فَذَكَرَ مِثْلَهُ.." (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : " مَنْ قَرَأَ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ كُلَّ لَيْلَةٍ مَنَعَهُ اللَّهُ بِهَا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَكُنَّا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نُسَمِّيهَا الْمَانِعَةَ ، وَإِنَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ سُورَةٌ مَنْ قَرَأَ بِهَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فَقَدْ أَكْثَرَ وَأَطَابَ " (3)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: " يُؤْتَى الرَّجُلُ فِي قَبْرِهِ فَتُؤْتَى رِجْلَاهُ فَتَقُولُ رِجْلَاهُ: لَيْسَ لَكُمْ عَلَى مَا قِبَلِي سَبِيلٌ إِنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْمُلْكِ ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ صَدْرِهِ أَوْ قَالَ: بَطْنِهِ فَيَقُولُ: لَيْسَ لَكُمْ عَلَى مَا قِبَلِي سَبِيلٌ إِنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْمُلْكِ ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: لَيْسَ لَكُمْ عَلَى مَا قِبَلِي سَبِيلٌ إِنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْمُلْكِ، فَهِيَ الْمَانِعَةُ تَمْنَعُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَهِيَ فِي التَّوْرَاةِ سُورَةُ الْمُلْكِ مَنْ قَرَأَهَا فِي لَيْلَةٍ فَقَدْ
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (8 / 37) (8571 ) صحيح
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (8 / 37) (8572 ) صحيح
(3) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي(9218) صحيح(1/20)
أَكْثَرَ وَأَطْيَبَ " وفي رواية وَقَالَ فِي الْبَطْنِ: " إِنَّهُ قَدْ دَعَا فِيَّ سُورَةَ الْمُلْكِ وَقَالَ فِي الرِّجْلَيْنِ إِنَّهُ كَانَ يَقُومُ فِي سُورَةَ الْمُلْكِ فَتَمْنَعُهُ بِإِذْنِ اللهِ عز وجل مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ " (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ، قَالَ:كُنَّا نُسَمِّيهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَانِعَةَ، وَإِنَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ سُورَةٌ، مِنْ قَرَأَ بِهَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فَقَدْ أَكْثَرَ وَأَطْيَبَ." (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ : " سُورَةُ تَبَارَكَ هِيَ الْمَانِعَةُ ، تَمْنَعُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، أُتِيَ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ فَقَالَتْ لَهُ : لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَى هَذَا إِنَّهُ كَانَ قَدْ دَعَا فِي سُورَةِ الْمُلْكِ ، وَأُتِيَ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ فَقَالَتْ رِجْلَاهُ : لَا سَبِيلَ لَكُمْ عَلَى هَذَا إِنَّهُ كَانَ يَقُومُ بِي بِسُورَةِ الْمُلْكِ فَمَنَعَتْهُ بِإِذْنِ اللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَهِيَ فِي التَّوْرَاةِ سُورَةُ الْمُلْكِ ، مَنْ قَرَأَهَا فِي لَيْلَةٍ فَقَدْ أَكْثَرَ وَأَطَابَ " (3)
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : ضَرَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - خِبَاءَهُ عَلَى قَبْرٍ وَهُوَ لَا يَحْسِبُ أَنَّهُ قَبْرٌ ، فَإِذَا فِيهِ إِنْسَانٌ يَقْرَأُ سُورَةَ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ حَتَّى خَتَمَهَا ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي ضَرَبْتُ خِبَائِي عَلَى قَبْرٍ وَأَنَا لَا أَحْسِبُ أَنَّهُ قَبْرٌ ، فَإِذَا فِيهِ إِنْسَانٌ يَقْرَأُ سُورَةَ تَبَارَكَ المُلْكِ حَتَّى خَتَمَهَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " " هِيَ المَانِعَةُ ، هِيَ المُنْجِيَةُ ، تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ " " (4)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسِ قَالَ : صَوَّبَ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ خِبَاءَهُ عَلَى قَبْرٍ وَهُوَ لَا يَحْسَبُ أَنَّهُ قَبْرٌ ، فَإِذَا فِيهِ إِنْسَانٌ يَقْرَأُ سُورَةَ تَبَارَكَ حَتَّى خَتَمَهَا ، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي ضَرَبْتُ خِبَائِي عَلَى قَبْرٍ وَأَنَا لَا أَحْسَبُ أَنَّهُ قَبْرٌ ،فَإِذَا فِيهِ إِنْسَانٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْمُلْكِ حَتَّى خَتَمَهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " هِيَ الْمَانِعَةُ هِيَ الْمُنْجِيَةُ تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ " (5)
__________
(1) - شعب الإيمان - (4 / 125) (2279 ) صحيح
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (8 / 481) (10105 ) حسن
(3) - إِثْبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ لِلْبَيْهَقِيِّ ( 128) صحيح
(4) - سنن الترمذى- المكنز - (3133 )قال" هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ " " وَفِي البَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ن قلت ، هو حسن لغيره
(5) - إِثْبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ لِلْبَيْهَقِيِّ ( 129) تَفَرَّدَ بِهِ يَحْيَى بْنُ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ(1/21)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ضَرَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - خِبَاءَهُ عَلَى قَبْرٍ وَهُوَ لَا يَحْسَبُ أَنَّهُ قَبْرٌ ، فَإِذَا فِيهِ إِنْسَانٌ يَقْرَأُ سُورَةَ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ حَتَّى خَتَمَهَا ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي ضَرَبْتُ خِبَائِي عَلَى قَبْرٍ وَأَنَا لَا أَحْسَبُ أَنَّهُ قَبْرٌ ، فَإِذَا إِنْسَانٌ يَقْرَأُ بِسُورَةِ تَبَارَكَ حَتَّى خَتَمَهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" هِيَ الْمَانِعَةُ ، هِيَ الْمُنْجِيَةُ ، تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ " (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : تُوُفِّيَ رَجُلٌ فَأُتِيَ مِنْ جَوَانِبِ قَبْرِهِ ، فَجَعَلَتْ سُورَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ تُجَادِلُ عَنْهُ حَتَّى مَنَعَتْهُ قَالَ : فَنَظَرْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ فَإِذَا هِيَ سُورَةُ الْمُلْكِ " (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : " جَادَلَتْ سُورَةُ تَبَارَكَ عَنْ صَاحِبِهَا حَتَّى أَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ " (3)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ ثَلاَثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ وَهِىَ سُورَةُ تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ ». (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " سُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِصَاحِبِهَا حَتَّى غُفِرَ لَهُ ، تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ " (5)
وعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لاَ يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ (الم تَنْزِيلُ) وَ (تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ ). (6)
وعَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - " لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم وَتَبَارَكَ " (7)
وعَنْ طَاوُسٍ قَالَ تَفْضُلاَنِ عَلَى كُلِّ سُورَةٍ فِى الْقُرْآنِ بِسَبْعِينَ حَسَنَةً. (8)
__________
(1) - قِيَامُ اللَّيْلِ لِمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ (184 ) ضعيف
(2) - إِثْبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ لِلْبَيْهَقِيِّ ( 126) صحيح
(3) - إِثْبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ لِلْبَيْهَقِيِّ ( 127) صحيح
(4) - سنن الترمذى- المكنز - (3134 ) وقال :هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
(5) - شعب الإيمان - (4 / 123) (2276 ) حسن
(6) - سنن الترمذى- المكنز - (3135 ) والسُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي(9214 -9216) حسن لغيره
(7) - سُنَنُ الدَّارِمِيِّ (3364 ) ضعيف
(8) - سنن الترمذى- المكنز - (3137 ) فيه ضعف(1/22)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " وَدِدْتُ أَنَّهَا فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ - يَعْنِي تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ - " وَفِي رِوَايَةِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَوَدِدْتُ أَنَّ تَبَارَكَ فِي صَدْرِ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ أُمَّتِي " (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ لِرَجُلٍ : أَلَا أُطْرِفُكَ بِحَدِيثٍ تَفْرَحُ بِهِ ؟ قَالَ : بَلَى ، يَا أَبَا عَبَّاسٍ ، يَرْحَمُكَ اللَّهُ قَالَ : اقْرَأْ : تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ، فَاحْفَظْهَا ، وَعَلِّمْهَا أَهْلَكَ ، وَجَمِيعَ وَلَدِكَ ، وَصِبْيَانَ بَيْتِكَ ، وَجِيرَانَكَ ؛ فَإِنَّهَا الْمُنْجِيَةُ ، وَهِيَ الْمُجَادِلَةُ ، تُجَادِلُ وَتُخَاصِمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّهَا لِقَارِئِهَا ، وَتَطْلُبُ إِلَى رَبِّهَا أَنْ يُنَجِّيَهُ مِنَ النَّارِ إِذَا كَانَتْ فِي جَوْفِهِ ، وَيُنَجِّي اللَّهُ بِهَا صَاحِبَهَا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " وَدِدْتُ أَنَّهَا فِي قَلْبِ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ أُمَّتِي " (2)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ قَالَ: " فِي سُورَةِ تَبَارَكَ جَادَلَتْ صَاحِبَهَا حَتَّى أَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ " (3)
وقال أَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ كَانَ: " يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَفِي الْآخَرِ: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، فَقُلْتُ: أتَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ الطَّوِيلَةَ مَعَ هَذِهِ السُّورَةِ الْقَصِيرَةِ ؟ " قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: " قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ثُلُثُ الْقُرْآنِ، وَإِنَّ تَبَارَكَ تُخَاصِمُ لِصَاحِبِهَا فِي الْقَبْرِ " (4)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : " اقْرَأْ ثَلَاثًا مِنْ ذَوَاتِ آلر " قَالَ الرَّجُلُ : كَبِرَتْ سِنِّي ، وَاشْتَدَّ قَلْبِي ، وَغَلُظَ لِسَانِي ؟ قَالَ : " اقْرَأْ ثَلَاثًا مِنْ ذَوَاتِ حم " قَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى ، فَقَالَ : " اقْرَأْ ثَلَاثًا مِنَ الْمُسَبِّحَاتِ " فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى ، قَالَ : لَكِنْ أَقْرِئْنِي سُورَةً جَامِعَةً ، فَأَقْرَأَهُ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا ، قَالَ الرَّجُلُ :
__________
(1) - شعب الإيمان - (4 / 124) (2277 ) ضعيف
(2) - الْمَطَالِبُ الْعَالِيَةُ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ (3859 ) ضعيف
(3) - شعب الإيمان - (4 / 124) (2278 ) صحيح
(4) - شعب الإيمان - (4 / 126) (2281 ) حسن مرسل(1/23)
وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهَا أَبَدًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ ، أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ " (1)
وعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ الْمُسَبِّحَاتِ قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ وَيَقُولُ : " إِنَّ فِيهَا أَيَّةً أَفْضَلَ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ " (2)
وعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الْمُسَبِّحَاتِ وَيَقُولُ : " إِنَّ فِيهِنَّ آيَةً كَأَلْفِ آيَةٍ " قَالَ مُعَاوِيَةُ : إِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَانُوا يَجْعَلُونَ الْمُسَبِّحَاتِ سِتًّا : سُورَةَ الْحَدِيدِ وَالْحَشْرِ وَالْحَوَارِيِّينَ وَسُورَةَ الْجُمُعَةِ وَالتَّغَابُنِ وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى " (3)
وعَنْ مُرَّةَ بْنِ شَرَاحِيلَ وَكَانَ يُسَمَّى مُرَّةَ الطِّيبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : " إِنَّ الْمَيِّتَ إِذَا مَاتَ أُوقِدَتْ نِيرَانٌ حَوْلَهُ ، فَتَأْكُلُ كُلُّ نَارٍ مَا يَلِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَمَلٌ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ، وَإِنَّ رَجُلًا مَاتَ لَمْ يَكُنْ يَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا سُورَةً ثَلَاثِينَ آيَةً ، فَأَتَتْهُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ فَقَالَتْ : إِنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِي ، فَأَتَتْهُ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ فَقَالَتْ : إِنَّهُ كَانَ يَقُومُ بِي ، فَأَتَتْهُ مِنْ قِبَلِ جَوْفِهِ فَقَالَتْ : إِنَّهُ كَانَ وَعَانِي . قَالَ : فَأَنْجَتْهُ " . قَالَ : فَنَظَرْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ فِي الْمُصْحَفِ فَلَمْ نَجِدْ سُورَةً ثَلَاثِينَ آيَةً إِلَّا تَبَارَكَ . " (4)
وعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ ، قَالَ : " بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " إِنَّ لِكُلِّ شَجَرٍ ثَمَرًا ، وَإِنَّ ثَمَرَ الْقُرْآنِ ذَوَاتُ حم هُنَّ رَوْضَاتٌ مُخْصَبَاتٌ ، مُعْشَبَاتٌ مُتَجَاوِرَاتٌ ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْتَعَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ فَلْيَقْرَأِ الْحَوَامِيمَ ، وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الدُّخَانِ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ أَصْبَحَ مَغْفُورًا لَهُ ، وَمَنْ قَرَأَ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ ، وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، فَكَأَنَّمَا وَافَقَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَمَنْ قَرَأَ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا فَكَأَنَّمَا قَرَأَ رُبُعَ الْقُرْآنِ ، وَمَنْ قَرَأَ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ رُبُعَ الْقُرْآنِ ، وَمَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ ، بَنَى لَهُ قَصْرًا فِي
__________
(1) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (9223 ) حسن
(2) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (9220 ) حسن
(3) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (9222 ) صحيح مرسل
(4) - فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِلْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ (416 ) صحيح(1/24)
الْجَنَّةِ " ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ : إِذًا نَسْتَكْثِرُ مِنَ الْقُصُورِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " اللَّهُ أَكْثَرُ وَأَطْيَبُ ، وَمَنْ قَرَأَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنَ الشَّرِّ إِلَّا قَالَ : أَيْ رَبِّ ، أَعِذْهُ مِنْ شَرِّي ، وَمَنْ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ، فَكَأَنَّمَا قَرَأَ رُبْعَ الْقُرْآنِ ، وَمَنْ قَرَأَ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ أَلْفَ آيَةٍ " (1)
وعَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ ، قَالَ : " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ نَجَاةٌ مِنَ النَّارِ " (2)
وعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ،قَالَ:" كَانَ طَاوُسٌ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ : تَنْزِيلٌ ، وَتَبَارَكَ وَكَانَ يَقُولُ : " إِنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنْهَا تَشْفَعُ سِتِّينَ آيَةٍ يَعْنِي تَعْدِلُ سِتِّينَ آيَةً " (3)
وعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ : الم تَنْزِيلُ وَ: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ : فَهُمَا يَفْضُلَانِ كُلَّ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ بِسَبْعِينَ حَسَنَةً ، وَمَنْ قَرَأَهُمَا كُتِبَ لَهُ بِهِمَا سَبْعُونَ حَسَنَةً ، وَرُفِعَ بِهِمَا لَهُ سَبْعُونَ دَرَجَةً ، وَحُطَّ بِهِمَا عَنْهُ سَبْعُونَ خَطِيئَةً " (4)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، . . . أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثُلُثُ الْقُرْآنِ : " وَأَنَّ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، تُجَادِلُ عَنْ صَاحِبِهَا " (5)
وعن خَالِدَ بْنِ مَعْدَانَ ، قَالَ : " إِنَّ الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ تُجَادِلُ عَنْ صَاحِبِهَا فِي الْقَبْرِ تَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ مِنْ كِتَابِكَ ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ أَكُنْ مِنْ كِتَابِكَ ، فَامْحُنِي عَنْهُ ، وَإِنَّهَا تَكُونُ كَالطَّيْرِ تَجْعَلُ جَنَاحَهَا عَلَيْهِ ،
__________
(1) - فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الضُّرَيْسِ (286 ) هذا حديث ضعيف جدا وبعضه ما ورد فيه له اصل صحيح .
(2) - فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الضُّرَيْسِ(230 ) صحيح مرسل
(3) - فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الضُّرَيْسِ(225 ) صحيح مرسل
(4) - الْأَدَبُ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ (1248 ) قال الشيخ الألباني : ( في قول أبي الزبير ) صحيح من قول أبي الزبير فهو مقطوع موقوف
(5) - فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِلْفِرْيَابِيِّ (27 ) صحيح مرسل(1/25)
فَيُشْفَعُ لَهُ ، فَتَمْنَعُهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَفِي تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، مِثْلَهُ " ، فَكَانَ خَالِدٌ لَا يَبِيتُ حَتَّى يَقْرَأَ بِهِمَا" (1)
وعن أنس قال قال رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) إن رجلا ممن قبلكم مات وليس معه شئ من كتاب الله عز وجل إلا تبارك فلما وضع في حفرته أتاه الملك فثارت السورة في وجهه فقال لها إنك من كتاب الله وإني أكره مساءتك وإني لا أملك لك ولا له ولا لنفسي ضرا ولا نفعا فإن أردت هذا به فانطلقي إلى الرب تبارك وتعالى فاشفعي له فتنطلق إلى الرب فتقول أي رب إن فلانا عمد إلي من بين كتابك فتعلمني وتلاني أفتحرقه أنت بالنار وتعذبه وأنا في جوفه فإن كنت فاعلا ذاك به فامحني من كتابك فيقول ألا أراك غضبت فتقول وحق لي أن أغضب قال فيقول اذهبي فقد وهبته لك وشفعتك فيه قال فتجئ فتزبر الملك فيخرج خاسف البال لم يحل منه بشئ قال فتجئ فتضع فاها على فيه فتقول مرحبا بهذا الفم فربما تلاني ومحبا بهذا الصدر فربما وعاني ومرحبا بهاتين القدمين فربما قامتا وتؤنسه في قبره مخافة الوحشة عليه فلما حدث بهذا رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) لم يبق صغير ولا كبير ولا حر ولا عبد بالمدينة إلا تعلمها وسماها رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) المنجية " (2)
****************
__________
(1) - سُنَنُ الدَّارِمِيِّ (3363 ) صحيح مرسل
(2) - تاريخ دمشق لابن عساكر - (6 / 46) [ 1402 ] وسنده ضعيف جدا(1/26)
المبحث السادس
تفسيرها
المطلب الأول
بعض أدلة القدرة الإلهية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5)}
شرح الكلمات:
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... تَبَارَكَ ... تعاظم وتمجد وتكاثر خيره
1 ... الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ ... المالك المتصرف
2 ... خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ ... أوجدهما وقدرهما أزلا
2 ... لِيَبْلُوَكُمْ ... ليختبركم
2 ... أَحْسَنُ عَمَلاً ... أخلصه وأصوبه
2 ... العَزِيزُ ... القوي الغالب
2 ... الغَفُورُ ... الستير لذنوب عباده التائبين
3 ... طِبَاقًا ... بعضها فوق بعض بينهن خلاء
3 ... تَفَاوُتٍ ... تباين واختلاف
3 ... فُطُورٍ ... شقوق وصدوع وخلل(1/27)
4 ... كَرَّتَيْنِ ... مرتين
4 ... خَاسِئًا ... ذليلا صاغرا
4 ... حَسِيرٌ ... كليل انقطع من الإعياء
5 ... بِمَصَابِيحَ ... بكواكب عظيمة مضيئة
5 ... رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ ... تُرمى منها الشياطين
5 ... عَذَابَ السَّعِيرِ ... عذاب النار (1)
البلاغة :
بِيَدِهِ الْمُلْكُ استعارة تمثيلية ، أو في لفظ «اليد» مجاز ،ويكون قوله الْمُلْكُ على الحقيقة.
لِيَبْلُوَكُمْ استعارة تمثيلية ، شبه معاملة اللّه لعباده بالابتلاء والاختبار.
الْمَوْتَ وَالْحَياةَ بينهما طباق.
الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وضع الموصول للتفخيم والتعظيم ،أي له السلطان والتصرف المطلق.
فَارْجِعِ الْبَصَرَ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ إطناب بتكرار الجملة مرتين لزيادة التنبيه والتذكير.
قَدِيرٌ ، حَسِيرٌ ، السَّعِيرِ سجع مرصع ، وكذا قوله : الْغَفُورُ ، فُطُورٍ. (2)
المعنى العام :
مجّد اللّه نفسه وأخبر أن بيده الملك والتصرف فى جميع المخلوقات بما يشاء لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل ، لقهره وحكمته وعدله ، وهو القدير على كل شىء ثم أخبر بأنه قدّر الموت والحياة ليبلوكم فينظر من منكم أخلص له عملا ، وهو ذو العزة الغالب على أمره ، الغفور لمن أذنب ثم تاب وأقلع عنه ، ثم أردف ذلك بأنه خلق سبع سموات بعضها فوق بعض لا خلل فيها ولا عيب ، فانظر أيها
__________
(1) - كلمات القرآن للشيخ غازي الدروبي - (22 / 1)
(2) - وانظر التحرير والتنوير - (29 / 8) و صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 382)(1/28)
الرائي أ ترى فيها شقا أو عيبا ؟ ثم أعد النظر وحدّق بالبصر ، لتستيقن تمام تناسبها واستواء خلقها ، وقد زيّنا أقرب السموات إليكم بكواكب يهتدى بها الساري ، ويعلم بها عدد السنين والحساب ، وعليها تتوقف حياة الحيوان والنبات ، وهى أيضا سبب الأرزاق المهيجة لشهوات شياطين الإنس والجن ، وهؤلاء قد استمدوا شيطنتهم من مظاهر الطبيعة بوساطة الحرارة والضوء من الكواكب ، وبذا أعد لهم عذاب السعير جزاء ما اقترفوا فى حياتهم الدنيا. (1)
تعالى اللّه وتعاظم - جل شأنه - عما سواه ذاتا وصفة وفعلا وتكاثر خيره وبره على جميع خلقه ، فهو صاحب التصرف التام في الموجودات (2) على مقتضى إرادته ومشيئته بلا منازع ، وهو على كل شيء قدير وهو الحكيم الخبير ، ولفظ « تبارك » يدل على غاية الكمال ونهاية التعظيم والإجلال ، ولذا لا يجوز استعماله في حق غيره سبحانه وتعالى ...
وقد شرع القرآن في تفصيل بعض أحكام الملك وآثار القدرة ، وبيان أن لهما حكما وغايات جليلة كلها تعود على الإنسان بالخير العميم.
وهو الذي خلق الموت والحياة ، وقدرهما على كل كائن في الوجود ، وراعي ترتيبهما الوجودي فقدم الموت على الحياة. ولعل في ذكر الموت مقدما عظة وعبرة لمن يعتبر ، قدرهما ليعاملكم (3) معاملة من يختبر أمركم فيعرف خيركم وشركم ، ويعلم أيكم أحسن عملا! وأكثر إخلاصا ، وأبعد عن محارم اللّه ، وأسرع في طاعة اللّه ، وكان المفروض أن يكون عمل الإنسان دائرا بين الحسن والأحسن لا بين الخير والشر ،وقد خلق اللّه الموت والحياة ليبلوكم وليختبركم ، فالحياة محل الاختبار والتكاليف ، والموت محل الجزاء والثواب الذي هو نهاية الاختبار ، وهو العزيز الذي لا يعجزه عقاب من أساء ، الغفور لمن شاء أو لمن تاب.
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 4)
(2) - - وعلى ذلك يكون قوله « بيده الملك » استعارة تمثيلية ، أى : لفظ اليد مجاز وليس على حقيقته. ويرى السلف أن اليد على حقيقتها واللّه أعلم بها.
(3) - - في قوله (ليبلوكم) استعارة تمثيلية حيث شبه معاملة المولى جل شأنه لعباده بالابتلاء والاختبار.(1/29)
وهو الذي خلق سبع سموات متطابقة بعضها فوق بعض ، وهل السموات هي مدارات الكواكب أو مادة لا يعلمها إلا اللّه ؟ الظاهر - واللّه أعلم - من مجموع النصوص الواردة في القرآن والسنة أن السماء مادة لا يعلمها إلا اللّه ، والعلماء الطبيعيون يقولون : إنها فراغ يدور فيها الكواكب. والخطب سهل ، لو تبصر الإنسان لرأى أن اللّه هو الذي خلق سبع سموات - والعدد على حسب ما كان معروفا عند العرب متطابقة بعضها فوق بعض أشبه ما تكون بطبقات البيضة ، ليس فيها عيب ولا خلل ، ولا ترى في خلقها تفاوتا في أى ناحية من النواحي ، إن كنت في شك في ذلك فارجع البصر ، ودقق النظر حتى يتضح لك الحال ، ويتبين لك المقام ، ولا تبقى لك شبهة في تناسب خلق الرحمن واستكماله لكل أسباب الحكمة. فارجع البصر هل ترى من فطور أو شقوق ؟ الجواب : لا. ثم ارجع البصر ، ودقق النظر مرة بعد مرة - والمراد التكثير في النظر لمعرفة الخلل - يعد إليك البصر محروما من إدراك العيب والخلل في السموات ، فكأن النظر طرد عن ذلك طردا بالصغار وعاد خاسئا ذليلا ، وهو كليل من طول معاودة النظر.
وعلى الجملة فالسماوات السبع ، وما فيهن آية من آيات اللّه الكبرى لو تأملت ما فيها من تناسب وتجاذب وإحكام ودقة ونظام لا يختل أبدا مع سرعة دورانها ، لهالك هذا النظام العجيب ، وإن شككت في ذلك فارجع البصر مرة بعد مرة فإنه سيرتد إليك خائبا خاسئا وهو كليل وضعيف أمام هذه القدرة العظيمة.
فهذه السموات السبع خالية من العيوب والخلل ، وهي كذلك في غاية الحسن والبهاء. ولقد زينا السماء الدنيا بزينة هي الكواكب ، فهي في السماء كالمصابيح في السقوف ، وإنك لترى السماء ليلا ، وكأنها عروس ليلة الزفاف ، وهذه النجوم والأفلاك ينفصل منها أجزاء ملتهبة أو تلتهب من الاحتكاك بالأجواء هذه الأجزاء جعلت رجوما للشياطين ، وأعدت لذلك فلم يعد للشياطين طريق لاستراق السمع من السماء ، ولم يعد للدجالين الكذابين طريق للكذب على الناس ، حيث إن اللّه(1/30)
أخبر أن النجوم خلقت زينة للسماء ، ورجوما للشياطين ، وأعتدنا لأولئك الشياطين عذاب النار المسعرة المشتعلة في الآخرة. (1)
التفسير والبيان :
"قوله تعالى : « تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ».معنى « تبارك » أي تمجّد ، وتعظم ، وكثر خيره وبركته على مخلوقاته ..فهو .. خبر يراد به إظهار ما أفاض اللّه سبحانه على هذا الوجود من خير وبركة ، فاللّه سبحانه ، بيده الملك كله ، لا يملك أحد معه شيئا ، وهو سبحانه القادر على كل شىء ..وإنه ليس بكثير على من لا ينفذ خيره ، وعلى من يملك كل شىء ، ويقدر على كل شىء أن يفيض هذا الخير على الوجود ، حتى لينال منه البرّ والفاجر ، وحتى ليكون من الفجار من يملك من متاع الدنيا ما يقيم به سلطانا قاهرا على الناس ، مثل فرعون الذي حشر ،فنادى ، فقال أنا ربكم الأعلى ..وإنه إذ كانت هنا دنيا يتقلّب فيها الناس ، فإن هناك وراء هذه الدنيا حياة أخرى ، أخلد وأبقى ، وهى الحياة التي خلق الناس فعلا لها ،وأنهم لم يخلقوا لهذه الدنيا ، إلا لتكون معبرا لهم إلى الآخرة ، كما يقول سبحانه :« وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ » (64 : العنكبوت).ولكن كثيرا من الناس جعلوا هذه الحياة الدنيا هى حياتهم ، التي لا حياة لهم بعدها ، ولهذا فإنهم لم يلتفتوا إلى الحياة الآخرة ، ولم يعملوا لها حسابا .. " (2)
وفي التفسير المنير : "أي يمجد اللّه تعالى نفسه الكريمة للتعليم والإرشاد ، ويخبر أنه سبحانه المتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء ، وأنه التام القدرة على كل الأشياء ، لا يعجزه شيء ، بل هو بتصرف في ملكه كيف يريد ، من إعزاز وإذلال ، ورفع ووضع ، وإنعام وانتقام ، وإعطاء ومنع ، لا معقّب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل لحكمته وعدله وإطلاق سلطانه.
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 710)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1045)(1/31)
وكلمة تَبارَكَ تعالى وتعاظم ، وهي تدل على غاية الكمال ومنتهى التعظيم والإجلال ، ولذا لا يجوز استعمالها في حق غير اللّه تعالى.
تدلُّ الآية على أمور ثلاثة : أن اللّه تعالى وتعاظم عن كل ما سواه من المخلوقات ، وأنه المالك المتصرف في السموات والأرض في الدنيا والآخرة ، وهو صاحب القدرة التامة والسلطان المطلق على كل شيء.
ومن مظاهر قدرته وعلمه قوله سبحانه :
1 - « الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ »..أي إنه تعالى موجد الموت والحياة ومقدرهما من الأزل ، وهو الذي جعلهم عقلاء ليدركوا معاني التكليف ويقوموا به ، وليعاملهم معاملة المختبر لأعمالهم ، فيجازيهم على ذلك ، وليعرّفهم أيهم أطوع وأخلص للّه وخير عملا ، وهو القوي الغالب القاهر الذي لا يغلبه ولا يعجزه أحد ، الكثير المغفرة والستر لذنوب من تاب وأناب بعد ما عصاه وخالفه ، فهو سبحانه مع كونه عزيزا منيعا يغفر ويرحم ، ويعفو ويصفح ، كما في آية أخرى : نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الحجر 15/ 49 - 50].
والآية دليل على أن الموت أمرٌ وجوديٌّ ، لأنه مخلوق. والموت : انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقتها له ، والحياة : تعلق الروح بالبدن واتصالها به ، وإيجاد الحياة معناه : خلق الروح في الكائنات الحية ، ومنها إيجاد الإنسان.
والمقصد الأصلي من الابتلاء : هو ظهور كمال إحسان المحسنين.
وقدم الموت على الحياة في الآية لأنه أقوى داعيا إلى العمل.
" وفي هذا تنبيه لهؤلاء الغافلين عن الحياة الآخرة ، وذلك إذا نظروا فرأوا أن هناك عمليتين تجريان عليهما ، وهما الموت والحياة .. فهاتان صورتان تتداولان الإنسان ، كما تتداولان عالم الأحياء كله .. فالكائن الحىّ ، كان ميتا ، أي عدما ، ثم أخرجته قدرة اللّه سبحانه إلى الحياة ، ثم تعيده تلك القدرة إلى الموت مرة أخرى .. ثم تردّه إلى الحياة للحساب والجزاء.(1/32)
فإذا جاء من عند اللّه من يخبر بأن بعد هذا الموت حياة أخرى ، وأن الموت ليس نهاية الإنسان ـ فهل يقع هذا عند العقلاء موقع الإنكار ؟ وكيف والشواهد كلها تشهد بإمكانيته ؟ بل وتقطع بأنه أمر لا بد منه ، من حيث أن هذه الحياة التي لبسها الإنسان بعد العدم ، إنما كانت ليقوم بها على خلافة اللّه فى الأرض ، حيث بسط سلطانه ـ بعقله ـ على كل ما فى هذا الوجود الأرضى .. ومخلوق هذا شأنه ، لا بد أن يرقى صعدا إلى أفق أعلى من هذا الأفق الأرضى ..
وإن هذه الخلافة التي للإنسان على الأرض ليست خلافة جماعية ، تحمل فيها الجماعة الإنسانية كلها تبعتها ، وإنما هى خلافة يحمل فيها كل فرد مسئوليته ، ويحاسب على ما كان منه ، فيجزى بالإحسان إحسانا ، وبالسوء سوءا .. وذلك يقضى بأن يردّ الإنسان إلى الحياة مرة أخرى ، ليحاسب ، وليثاب أو يعاقب ..
والسؤال هنا ، هو :إذا كان كذلك ، وكان لا بد من الحساب والجزاء على ما كان من الإنسان ـ فلم لا يحاسب فى الحياة الدنيا ؟ ولم الموت ثم الحياة ؟ وما حكمة الموت ثم الحياة ؟ أليست هذه الحياة الجديدة هى عودة بالإنسان ـ نفسا وذاتا ـ إلى حياته الأولى ، ووصل لما انقطع منه بالموت ؟ وهل يضيف الموت شيئا جديدا إلى الإنسان حتى يكون لموته مساغا ..؟!!
ونقول : إن هذه التصورات هى نتيجة لهذا الفهم الخاطئ للموت الذي يقع على الإنسان بعد الحياة ، حيث يبدو منه أنه انقطاع للمجرى حياة الإنسان ، ثم إنه بعد زمن ما ـ قد يطول أو يقصر ـ يعود إلى الحياة مرة أخرى ، يوم القيامة!!
ولو فهم الموت على حقيقته ، وأنه ليس إلا تحوّلا من منزل إلى منزل ، وانتقالا من حال إلى حال ـ لو فهم الموت على هذا ، لما كان لمثل هذه التصورات أن تجد لها مكانا فى تفكير الإنسان ، يوقع فى نفسه هذه العزلة الموحشة بين الموت والحياة ..
فالموت ـ فى حقيقته ـ هو حياة جديدة تلبس الإنسان خارج هذا الجسد الذي تركه الموت جثّة هامدة .. وتلك الجثة الهامدة التي يخلفّها الموت وراءه ، هى التي تعطي الموت تلك الصورة المخيفة المفزعة ..(1/33)
ذلك أننا نرى الإنسان فى ثوب الحياة ، يموج بالنشاط والحركة .. ثم يطرقه الموت ، فإذا هو هامد همود الجمادات التي بين أيدينا ، ثم هو فى لحظة يغيّب فى الثرى ، ثم إذا فتّش عنه بعد زمن ، رؤي وقد تحول إلى أنقاض ، ثم إذا أعيد إليه النظر بعد زمن آخر لم ير لهذه الأنقاض أثر!!
وعن هذا التصور ، يقول المشركون الذين لا يؤمنون بالحياة الآخرة ـ يقولون ما يقوله سبحانه وتعالى على لسانهم : « وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ؟ .. »
(10 : السجدة) ولكن لو جاوزنا هذا الجسد ، لوجدنا أن الحياة التي كانت تلبسه ، قد اكتسبت بخلاصها منه بالموت ، قوة لا حدود لها ، حيث خرجت من هذا الحيّز الضيق الذي كان يحتوبها ، وانطلقت فى هذا العالم الرحيب ، تحلّق فيه بقدر ما احتفظت به من خصائصها الروحية حال تلبسها بالجسد .. وفى هذا يقول الرسول الكريم : « الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا ».. وهو شرح لمعنى قوله تعالى : « اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى » (42 : الزمر) ..
أما أن الميت يبقى بعد موته فى حال همود ، وجمود ، إلى أن يجىء يوم البعث والنشور ، فهذا فهم خاطئ أيضا ..
فالإنسان إذ يموت ، فإن الموت ـ كما قلنا ـ لا يقع إلا على جسده ، أما روحه ، فإنها تجد فى موت الجسد فرصتها للخلاص من القيد الذي قيدها به ..
وعلى هذا ، فإن الإنسان إذا مات ، فإنما يموت موتا ظاهريّا يرى فى هذا الجسد ، وأما هو فى حقيقته ، فهو حىّ فى هذا الروح الذي انطلق من الجسد محمّلا بكل ما ترك الجسد فيه من آثار طيبة ، أو سيئة .. وفى هذا يقول الرسول ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ : « من مات فقد قامت قيامته »..(1/34)
وهذا يعنى أن الميت إذ يموت ، يبعث فى الحال بعثا جديدا ، بمعنى أنه يقوم من عالم النوم الذي كان فيه ، كما يشير إلى ذلك الحديث الذي ذكرناه من قبل ، وهو : « الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا »..
وهذا يعنى أيضا أن هناك قيامتين : قيامة خاصة بكل إنسان ، وهى قيامته ساعة موته ، وهى ـ كما قلنا ـ قيامة من عالم النّيام ، عالم الحياة الدنيا ـ ثم قيامة عامة ، وهى التي يبعث فيها الناس جميعا من عالم القبور ، حيث تلتقى الأرواح بأجسادها مرة أخرى ، على صورة يعلمها اللّه سبحانه وتعالى ..
أما هذه الحياة التي عاشها الإنسان على هذه الأرض ، فهى اختبار وابتلاء له ، تتكشف فيه حقيقة طبيعته التي أوجده اللّه عليها ..
إنه فى هذه الحياة أشبه بحبة بذرت فى الأرض مع ما بذر من حبوب ، ثم لا تلبث كل حبة أن تكشف عن حقيقتها ، وعن الثمر الذي تثمره ، من جيّد أو ردىء.
، فإذا آن وقت الحصاد ، جمع كل زرع مع ما بشا كله ..وقد يسأل سائل : ولما ذا هذا البذر والغرس ؟ أليس صاحب البذر والزرع ، هو اللّه سبحانه وتعالى ، وهو سبحانه عالم بما كمن فى هذا البذر من ثمر ؟
والجواب على هذا ، أن علم اللّه سبحانه بالمخلوقات قبل أن تخلق ، هو علم مكنون .. وخلق المخلوقات فى صورها ، وأشكالها ، وأزمنتها ، وأمكنتها هو إظهار لهذا العلم المكنون ، وأنه لولا هذا لما قام الخلق ، ولما اتصف سبحانه بصفة « الخالق » ولظلّ الوجود فى حال كمون .. يقول سبحانه :« هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ » (24 : الحشر).
ويقول سبحانه أيضا : « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ » (1 ـ 2 : العلق) ويقول جل شأنه : « اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62 : الزمر). فكان مما اقتضته إرادة اللّه سبحانه أن يخلق هذا الذي خلق من موجودات وعوالم .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ(1/35)
خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى » (50 : طه) .. وبهذا صار لكل مخلوق ذاتيته ومكانه فى هذا الوجود.
فللحياة حكمة ، وللموت حكمة ، وللبعث بعد الموت حكمة .. « كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » (28. البقرة) .. « أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115 : المؤمنون) وقضية الحياة بعد الموت هى مضلّة الضالين ، وهى الغشاوة التي تحجبهم عن اللّه سبحانه وتعالى ، فلا يرون ماللّه سبحانه وتعالى من قدرة ، وأنه سبحانه قادر على كل شىء ، وأن بعث الحياة فى تلك الأجساد الهامدة ، والعظام البالية ، ليس بأبعد فى مجال المنطق الإنسانى ، من خلقها أول مرة ، من تراب ، أو من نطفة من ماء مهبن .. ولكن هل يكون للمنطق مكان عند من ختم اللّه على قلبه وسمعه ، وجعل على بصره غشاوة ؟ « وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً » (41 : المائدة)" (1)
عَنِ الصَّعْقِ التَّمِيمِيِّ ، قَالَ : شَهِدْتُ الْحَسَنَ ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْبَقَرَةِ : لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ : هِيَ وَاللَّهِ لِمَنْ تَفَكَّرَ فِيهَا لِيَعْلَمَ أَنَّ الدُّنْيَا دَارَ بَلَاءٍ ثُمَّ دَارَ فَنَاءٍ وَلِيَعْلَمَ أَنَّ دَارَ الْآخِرَةِ ،دَارُ جَزَاءٍ ،ثُمَّ دَارُ بَقَاءٍ " (2)
وعَنْ قَتَادَةَ ، قَوْلَهُ : " كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَنَّهُ مَنْ تَفَكَّرَ فِيهِمَا عَرَفَ فَضْلَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى ، وَعَرَفَ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ ثُمَّ دَارُ فَنَاءٍ ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ ثُمَّ دَارُ بَقَاءٍ ، فَكُونُوا مِمَّنْ يَصْرِمُ حَاجَةَ الدُّنْيَا لِحَاجَةِ الْآخِرَةِ " (3)
وعَنْ قَتَادَةَ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ قَالَ : " حَنَّتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَاسْتَأْنَسَتْ بِهِ " وَقَالَ : فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ قَالَ : " كَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ فِي الرَّخَاءِ فَنَجَا وَكَانَ يُقَالُ فِي الْحِكْمَةِ : إِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ
__________
(1) - التفسير القرآني بالقرآن
(2) - تَفْسِيرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (2114 ) صحيح
(3) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ ( 3818 ) صحيح(1/36)
إِذَا مَا عَثَرَ وَإِذَا مَا صُرِعَ وَجَدَ مُتَّكَأً " وَقَالَ : وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ قَالَ : " أَتَاهُمْ وَاللَّهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا وَقَدَهُمْ عَنِ الْبَاطِلِ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخَذَ فِي خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ : مَا اللَّهُ بِخَالِقٍ خَلْقًا هُوَ أَعْلَمُ مِنَّا وَلَا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنَّا فابْتُلِيَتِ الْمَلَائِكَةُ بِخَلْقِ آدَمَ وَقَدْ يَبْتَلِي اللَّهُ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُهُ وَمَنْ يَعْصِيهِ ، وَمَنْ فَكَّرَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَرَفَ فَضْلَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى وَعَرَفَ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ ثُمَّ دَارُ فَنَاءٍ وَأَنَّ الْآخِرَةَ دَارُ بَقَاءٍ ثُمَّ دَارُ جَزَاءٍ فَكُونُوا مِمَنْ يَصْرِمُ حَاجَةَ الدُّنْيَا لِحَاجَةِ الْآخِرَةِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " (1)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : اشْتَرَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَلِيدَةً بِمِائَةِ دِينَارٍ إِلَى شَهْرٍ ، فَسَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ أُسَامَةَ الْمُشْتَرِي إِلَى شَهْرٍ ، أُسَامَةُ لِطُولِ الْأَمَلِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا طَرَفَتْ عَيْنَايَ فَظَنَنْتُ أَنَّ شَفِيرَيَّ يَلْتَقِيَانِ حَتَّى أُقْبَضَ ، وَلَا رَفَعْتُ طَرْفِي ، وَظَنَنْتُ أَنِّي أُوضِعَهُ حَتَّى أُقْبَضَ ، وَلَا لَقَمْتُ لُقْمَةً فَظَنَنْتُ أَنِّي أُسِيغُهَا حَتَّى أَغَصَّ بِالْمَوْتِ ، يَا بَنِي آدَمَ ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فَعُدُّوا أَنْفُسَكُمْ فِي الْمَوْتَى ، إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَآتٍ " (2)
2 - قوله تعالى : « الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ »." أي أنه سبحانه كما خلق الموت والحياة ، خلق سبع سموات طباقا .. أي بعضها ينطبق على بعض ، وقائم عليه قيام اشتمال واحتواء ، وهذا يعنى أن الوجود دائرى الشكل ، وأنه دوائر ، بعضها داخل بعض ، يجمعها مركز واحد ، أشبه بتلك الدوائر التي يحدثها حجر يلقى به فى الماء الساكن ، فتنداح من موقع الحجر دوائر ، بعضها أكبر من بعض .. وهكذا إلى مالا نهاية." (3)
__________
(1) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (2721 ) صحيح
(2) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ (10168 ) ضعيف
(3) - التفسير القرآني(1/37)
أي إنه تعالى الذي أوجد وأبدع السموات السبع ، المتطابقة بعضها فوق بعض ، كل سماء منفصلة عن الأخرى كما جاء في حديث الإسراء وغيره (1) ، يجمع بينها نظام الجاذبية ، ما تشاهد أيها الناظر المتأمل في مخلوقات الرحمن من تناقض وتباين وعدم تناسب ".
وقوله تعالى : « ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ » أي ما ترى من اختلال أو نقص فى نظام الوجود ، وما أبدع الخالق من مخلوقات .. فكل ما خلق اللّه يحمل شارة دالّة على قدرة الخالق ، وعلمه ، وحكمته ، وإبداعه فيما خلق ـ وفى هذا إلفات إلى قدرة اللّه سبحانه ، وإلى إحكام ما خلق .. وأن كل مخلوق مهما صفر شأنه ، وضؤل شخصه ، هو صنعة الحكيم العليم ، فيه من روعة الصنعة ، وقدرة الصانع ، ما فى أعظم المخلوقات وأروعها .. فليس فيما صنع اللّه سبحانه ـ حسن وأحسن ، بل كل ما خلق اللّه على صفة واحدة ، هى الحسن فى أكمل كماله ، وأبدع آياته .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ » (88 : النمل) وفى إضافة الخلق إلى « الرحمن » ـ إشارة أخرى إلى أن المخلوقات إنما خلقت جميعها بيد الرحمة التي مستها جميعا .. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : « وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ » (156 : الأعراف).
وقوله تعالى : « فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ » هو دعوة إلى الإنسان أن ينظر بعقله ليرى مصداق قوله تعالى : « ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ».. أي أن من شكّ في هذه الحقيقة ، أو من لم يقع له بعد علم بها ، فليلق بصره على هذا الوجود ، وليقف بين يديه وقفة المتأمل الدارس ، ثم ليسأل نفسه : هل يرى من فطور ؟ أي هل يرى خللا ، أو اضطرابا ، أو تفاوتا ؟ والفطور : هو التشقق ،
__________
(1) - انظر الحديث مطولا في المسند الجامع - (15 / 57) (11321)(1/38)
والتصدع ، الذي من شأنه أن يصيب الشيء الذي أصيب به .. والفطور إنما يكون فى المواد الجامدة لا السائلة." (1)
أي واردد طرفك في السماء ،وتأمل :هل تشاهد فيها من شقوق وصدوع؟!
وهذا دليل على تعظيم خلقها ، وسلامتها من العيوب ، وكون خالقها ذا قدرة تامة وعلم دقيق شامل محكم متقن. ونظير الآية : اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الرعد 13/ 2].
والسماء : مادة لا يعلم حقيقتها إلا اللّه،وتتحدد الآن بالأميال حسبما تدل عليه برامج غزو الفضاء. وقيل : إنها مدارات الكواكب ، ويرى العلماء الفلكيون أنها فراغ يدور فيها الكوكب ، وإذا عرفنا أن الكواكب ذات أبعاد متفاوتة ومسافات مختلفة ،أدركنا تصور كرات السموات السبع. وتكوّن المجموعة الشمسية والمجموعات النجمية ما يعرف باسم «الكون». والمجموعة الشمسية (أو النظام الشمسي) تطلق في علم الفلك على الشمس والكواكب السيّارة وتوابعها ، وهي بترتيب بعدها عن الشمس : عطارد ، الزهرة ، الأرض ، المريخ ، المشتري ، أورانوس ، نبتون ، بلوتو. والمجموعات النجمية شموس نائية البعد تتغير ألوان بعضها لعدة أيام أحيانا.
"وقوله تعالى : « ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ، يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ » أي إذا انكشف لنظرتك التي ألقيتها على هذا الوجود ، أنه ليس فى خلق اللّه من تفاوت ، أو من فطور ، فلا تقف عند حدود هذه النظرة ، التي أعطتك علما يقينيّا بأن ليس فى خلق اللّه الرحمن من تفاوت أو فطور. فهذا الذي وقع لك من علم ، هو خير كثير ، فاحرص عليه ، واجعل منه زادا تتزود به فى طريقك إلى الإيمان باللّه .. ثم اطلب مزيدا من هذا العلم ، وذلك بمعاودة النظر بعد النظر ، فى ملكوت اللّه ، الذي لا حدود له .. فإنك إن فعلت سلك بك ذلك طريقا لا نهاية
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن - (2 / 96)(1/39)
له ، من العلم اليقينيّ ، بقدرة اللّه ، وعظمته ، وجلاله. وإن بصرك إذ يعود إليك بعد هذه الرحلة الطويلة السابحة فى ملكوت اللّه ، سيعود إليك « خاسئا » أي منزجرا ، مرتدّا فى استخزاء ، أمام هذا الجلال الذي ببهر الأبصار ، ويخلب العقول ، بعد أن يبلغ به التعب والإعياء غايته ، وبعد أن يرى الإنسان الذي حصّل ما حصل من علم الدارسين المتفحصين ، أنه ما زال على شاطىء بحر لا نهاية له!!
والحسير : المتعب الكليل ، الذي أعيا من طول النظر .. ويجوز أن يكون المعنى على صورة أخرى ، وهى أنه مهما عاود الناظر النظر والبحث وراء الوقوع على تفاوت فى خلق الرحمن ، فإنه لن يجد شيئا من هذا ، ولو أجهده السير ، وطال به المطاف ، حتى يسقط إعياء .. وهذا يعنى أن العلم وحده لا يقيم الإنسان على إيمان يقينىّ ، إلا إذا التقى هذا العلم بقلب سليم ، تنقدح فيه شرارة العلم ، فيضىء بنور الحق والهدى.وفى هذا ما يشير إلى أن العقل ، وإن كان من المطلوب منه أن ينظر فى ملكوت اللّه ، وأن يقرأ فى صحف الوجود ما شاء من آيات اللّه ـ فإن عليه أن يعلم أنه على ساحل محيط لا نهاية له ، وأنه إذا أراد أن يحتوى كلّ ما فى هذا الوجود ، فإن ذلك لن يقع له ، ولن يجد آخر المطاف إلا العجز والإعياء .. فليرض إذن بما يقع له من علم ، وليتخذ من هذا العلم ، الشاهد الذي يقيم فى قلبه إيمانا وثيقا باللّه ، وبماله من قدرة ، وعلم ، وحكمة ، وجلال ..فذلك حسبه من العلم الذي يبلغ به شاطىء الأمان .."
3 - قوله تعالى : « وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ » هو إشارة إلى صفحة من صحف الوجود ، التي يمكن أن يرتادها النظر ، وأن يقرأ فيها العقل آيات من قدرة اللّه وإحكام صنعته ..فالسماء الدنيا ، هي أقرب سماء إلينا ، وهي المطلّة على الأرض التي نعيش عليها ..
وإن العين ـ أي عين ـ لترى فيها مصابيح تزينها ، وتنتثر على صفحتها كأنها اللآلئ .. ومن هذه السماء الدنيا تنطلق رجوم وشهب ترمَى بها الشياطين ، التي تتطاول إلى هذه السماء ، وتحاول الاتصال بالملأ الأعلى .. فالضمير فى قوله تعالى :(1/40)
« وجعلناها » يعود إلى السماء. أي وجعلنا من عالمها رجوما للشياطين ..ويجوز أن يعود الضمير إلى المصابيح ، وفى هذا يقول سبحانه : « إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ » (6 ـ 10 الصافات).
وفى هذا إشارة إلى أن للعقل حدودا ، ينبغى أن يقف عندها فإن تجاوز حدوده ، رمى بشهب من الشكوك ، فاحترق بنارها ، كما يحترق الشيطان الذي يصعّد فى السماء ، ويجاوز الحدود التي تحتملها طاقته .. وليس فى هذا حجر على العقل فى الانطلاق إلى أبعد مدى ، ولكن ليكن على حذر من أن يضلّ ، ويتوه ، أو يغرق فى عباب هذا المحيط العظيم."
أي ولقد زيّنا أقرب السموات إلى الناس بكواكب ثوابت وسيارات ، فصارت في أحسن خلق وأبهج شكل ، وسميت الكواكب مصابيح لأنها تضيء كإضاءة السراج ، وجعلنا تلك الكواكب بما ينقضّ منها من الشهب أو من دونها راجمات يرجم بها الشياطين ، " قوله تعالى : « وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ » ـ هو وعيد للشياطين ، وأنه إذا لم يرجم بعضهم بتلك الرجوم القاتلة فى الدنيا ، فإنهم جميعا على موعد مع عذاب السعير ، الذي أعده اللّه سبحانه وتعالى لهم ، فى الآخرة.
فقوله تعالى : « وَأَعْتَدْنا لَهُمْ » ـ إشارة إلى أن هذا العذاب حاضر معدّ لهم منذ الأزل .. ومنه قوله تعالى : « هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ » (23 : ق) أي حاضر .."
أي وأعددنا للشياطين في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب عذاب النار المستعرة الموقدة بسبب فسادهم وإفسادهم.
ورجم الشياطين يعدّ فائدة أخرى للكواكب ، غير كونها زينة للسماء الدنيا ، كما قال تعالى : وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل 16/ 16].
عَنْ قَتَادَةَ ، وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا خَلَقَ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثِ خِصَالٍ : خَلَقَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ الدُّنْيَا ،(1/41)
وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ، وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا ؛ فَمَنْ يَتَأَوَّلُ مِنْهَا غَيْرَ ذَلِكَ ، فَقَدْ قَالَ بِرَأْيِهِ ، وَأَخْطَأَ حَظَّهُ ، وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ ". (1)
وفي البحر المديد : "أي : وجعلنا فيها فائدة أخرى ، هي : رجم أعدائكم الذي يُخرجونكم من النور إلى الظلمات ، بانقضاض الشُهب المقتَبسة منها ، فيأخذ المَلك شعلة من نار الكوكب ، ويضرب بها الجني ، فيقتله ، أو يخبِّله ، فيرجع غُولاً يُفزع الناسَ ، وأمّا الكواكب فلا تزول عن أماكنها ؛ لأنها قارّة في الفلك" (2)
ومضات عامة
قال القاشانيّ : الملك عالَم الأجسام ، كما أن الملكوت عالم النفوس ؛ ولذلك وصف ذاته باعتبار تصريفه عالم الملك ، بحسب مشيئته بالتبارك ، الذي هو غاية العظمة ، ونهاية الازدياد في العلوّ والبركة ، وباعتبار تسخيره عالم الملكوت ، بمقتضى إرادته بالتسبيح ، الذي هو التنزيه ، كقوله { فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } [ يس : 83 ] ، كلاً بما يناسبه ، لأن العظمة والازدياد والبركة تناسب الأجسام ، والتنزه يناسب المجردات عن المادة . فمعنى { تَبَارَكَ } تعالى وتعاظم ، الذي يتصرف في عالم الملك بيد قدرته ، لا يتصرف فيه غيره فبيده كل ما وجد من الأجسام ، لا بيد غيره ، يصرفها كما يشاء ، وهو القادر على كل ما عدم من الممكنات ، يوجدها على ما يشاء .
وقال القاشانيّ : الموت والحياة من باب العدم والملكة ، فإن الحياة هي الإحساس والحركة الإرادية ولو اضطرارية كالتنفس . والموت عدم ذلك عما من شأنه أن يكون له ، وعدم الملكة ليس عدماً محضاً ، بل فيه شائبة الوجود . والألم يعتبر فيه المحل القابل للأمر الوجوديّ ، فلذلك صح تعلق الخلق به ، كتعلقه بالحياة ، وجعل الغرض من خلقهما بلاء الْإِنْسَاْن في حسن العمل وقبحه ، أي : العلم التابع للمعلوم الذي يترتب عليه الجزاء ، وهو العلم الذي يظهر على المظاهر الْإِنْسَاْنية بعد
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (31944 ) صحيح
(2) - البحر المديد ـ نسخة محققة - (8 / 110)(1/42)
وقوع المعلوم ، فإنه ليس إلا علم الله الكامن في الغيب ، الظاهر بظهور المعلوم ؛ لأن الحياة هي التي يتمكن بها على الأعمال ، والموت هو الداعي إلى حسن العمل الباعث عليه ، وبه يظهر آثار الأعمال ، كما أن الحياة يظهر بها أصولها ، وبها تتفاضل النفوس في الدرجات ، وتتفاوت في الهلاك والنجاة . وقدم الموت على الحياة ؛ لأن الموت في علم الملك ذاتيّ ، والحياة عرضية . وقيل : إن أريد به العدم السابق فتقدمه ظاهر ، لسبقه على الوجود ، أو العدم اللاحق فتقديمه لأن فيه عظة وتذكرة ، وردعاً عن ارتكاب المعاصي . (1)
وللإمام ابن حزم رحمه الله كلام في هذه الآية في كتاب " الفِصَل " ساقه في مباحثه مع المعتزلة ، نأثره هنا لنفاثته ، قال رحمه الله : التفاوت المعهود هو ما نافر النفوس ، أو خرج عن المعهود ، فنحن نسمي الصورة المضطربة بأن فيها تفاوتاً ، فليس هذا التفاوت الذي نفاه الله تعالى عن خلقه ، فإذن ليس هو الذي يسميه الناس : تفاوتاً ، فلم يبق إلا أن التفاوت الذي نفاه الله تعالى عما خلق هو شيء غير موجود فيه البتة ؛ لأنه لو وجد في خلق الله تعالى تفاوت ، لكذب قول الله تعالى : { مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ } ولا يكذِّب الله تعالى إلا كافر ، فبطل ظن المعتزلة أن الكفر والظلم والكذب والجور تفاوت ، لأن كل ذلك موجود في خلق الله عز وجل ، مرئي فيه، مشاهد بالعيان فيه ، فبطل احتجاجهم .
فإن قال قائل : فما هذا التفاوت الذي أخبر الله عز وجل أنه لا يرى في خلقه ؟
قيل لهم : هو اسم لا يقع على مسمى موجود في العالم أصلاً ، بل هو معدوم جملة ، إذ لو كان شيئاً موجوداً في العالم ، لوجد التفاوت في خلق الله تعالى . والله تعالى قد أكذب هذا وأخبر أنه لا يُرى في خلقه .
ثم نقول ، وبالله تعالى التوفيق : إن العالم كله ما دون الله تعالى ، وهو كله مخلوق لله تعالى ، أجسامه وأعراضه كلها ، لا نحاشي شيئاً منها . ثم إذا نظر الناظر في تقسيم أنواع أعراضه ، وأنواع أجسامه ، جرت القسمة جرياً مستوياً في تفضيل
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (12 / 491)(1/43)
أجناسه وأنواعه ، بحدودها المميزة لها ، وفصولها المفرقة بينها ، على رتبة واحدة, وهيئة واحدة ، على أن يبلغ إلى الأشخاص التي تلي أنواع الأنواع ، لا تفاوت في شيء من ذلك البتة بوجه من الوجوه ، ولا تخالف في شيء منه أصلاً ، ومن وقف على هذا علم أن الصورة المستقبحة عندنا واقعتان معاً تحت نوع الشكل والتخطيط ، ثم تحت نوع الكيفية ، ثم تحت اسم العرض ، وقوعاً مستوياً لا تفاضل فيه ، ولا تفاوت في هذا بوجه من التقسيم . وكذلك أيضاً نعلم أن الكفر والإيمان بالقلب واقعان تحت نوع الاعتقاد ، ثم تحت فعل النفس ، ثم تحت الكيفية والعرَض ، وقوعاً مستوياً لا تفاضل فيه ، ولا تفاوت من هذا الوجه من التقسيم ، وكذلك أيضاً نعلم أن الإيمان والكفر باللسان واقعان تحت نوع فرع الهواء بآلات الكلام ، ثم تحت نوع الحركة وتحت نوع الكيفية ، وتحت اسم العرض ، وقوعاً حقاً مستوياً لا تفاوت فيه ولا اختلاف .
وهكذا القول في الظلم والإنصاف ، وفي العدل والجور ، وفي الصدق والكذب ، وفي الزنا والوطء الحلال . وكذلك كل ما في العالم ، حتى يرجع جميع الموجودات إلى الرؤوس الأوَل التي ليس فوقها رأس يجمعها إلا كونها مخلوقة لله تعالى ، وهي الجوهر والكم والكيف والإضافة ؛ فانتفى التفاوت عن كل ما خلق الله تعالى وعادت الآية المذكورة حجة على المعتزلة ؛ ضرورة لا منفك لهم عنها ، وهي أنه لو كان وجود الكفر والكذب والظلم تفاوتاً كما زعموا ، لكان التفاوت موجوداً في خلق الرحمن ، وقد كذَّب الله تعالى ذلك ، وهي أن يرى في خلقه تفاوت . انتهى كلامه . (1)
وقال دروزة : " بدأت السورة بالثناء على اللّه. وهذا من أساليب النظم القرآني في مطالع سور عديدة ، وقد أعقب الثناء تنويه بمطلق تصرف اللّه عزّ وجلّ والإشارة إلى حكمته في خلق الناس وموتهم وبعثهم.
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (12 / 494)(1/44)
فلله التقديس والثناء. وهو الذي بيده ملك كل شيء المتصرف في هذا الكون تصرّفا مطلقا ، القادر على كل شيء قدرة شاملة تامّة. وهو الذي بيده الموت والحياة والقادر عليهما. وقد جعل ذلك وسيلة لاختبار الجنس البشري حتى يظهر الأحسن منهم عملا ، على غير حاجة وضعف لأنه قوي عزيز لا يدانيه في قوّته أحد وليس هو في حاجة إلى أحد ، والمتّصف مع ذلك بالغفران والصفح والتسامح.
وهو الذي خلق السموات السبع بإتقان وانتظام وتطابق لا يمكن أن يرى الناظر إليها أي تفاوت أو تناقض أو صدوع أو شقوق أو خلل مهما دقّق في النظر وعاود التدقيق مرة بعد مرة وأجال النظر في جميع الأنحاء. ولن يلبث أن يرتدّ نظره ذليلا مذهولا حائرا كليلا مما يرى من العظمة ورائع الصنع والإتقان مستشعرا بعجزه عن درك الأسرار الربانية والإحاطة بها مستبينا ضالة شأنه إزاءها.
وأسلوب الآيات تقريري قوي موجّه إلى عقول السامعين وقلوبهم.
وهي مقدمة لما يأتي بعدها من التنديد بالكفر وإنذار للكافرين. والسؤال والتحدي في الآيتين الأخيرتين يزيدان في قوة الصورة العظيمة التي رسمتها الآيات الأولى لمشاهد كون اللّه وفي تصوير شعور المرء بها وهو الشعور الدائم العام الذي لا يستطيع أحد أن يتفلت منه حينما يرسل ببصره إلى السموات ويتفكّر في عظيم الإبداع والإتقان والسعة التي لا يحصيها ذهن ولا يحيط بها بصر.
وواضح من أسلوبها أنها موجهة إلى جميع الأذهان استهدافا للتنبيه والاسترعاء والتذكير بعظمة الكون وخالقه وواجب الناس إزاءه. ومن الواجب أن تبقى في هذا النطاق لأن في إخراجها منه ابتعادا عن الهدف القرآني.
ولقد صرف بعض المفسرين عبارة الموت إلى العدم الذي يسبق الحياة ، وعبارة الحياة إلى الحياة الدنيا. والذي تلهمه الآية الثانية هو قصد بيان حكمة اللّه في خلق الناس وإماتتهم وإحيائهم ثانية وهو اختبارهم في الدنيا ومعرفة صالحهم من طالحهم. لتوفيتهم جزاء أعمالهم في الحياة الأخروية بعد الموت. وفيه ما فيه من(1/45)
تلقين جليل مستمر المدى في كون الناس مدعوين إلى العمل الصالح والتسابق فيه وكون حكمة خلقهم أو تميزهم عن سائر خلق اللّه متصلة بذلك. وقد تكرر هذا أكثر من مرة في السور السابقة وكتبنا تعليقا على مداه في سياق سورة هود ، فنكتفي بهذا التنبيه.
ورجم الشياطين من السماء بالشهب قد تكرر ذكره وعلقنا على ذاتية الموضوع في سياق تفسير سورة الجن بما يغني عن الإعادة. وإذا كان من شيء يحسن أن يقال هنا هو أن من الممكن أن يستلهم من الآيتين وما قبلهما وما بعدهما قصد تقرير كون اللّه عزّ وجلّ بالمرصاد لكل من يجرؤ على حدوده ويقف منه موقف المتمرّد مهما خيّل للناس أنه قوي شديد كشياطين الجنّ مثلا الذين لهم في أذهان السامعين صورة ضخمة مفزعة. أما تزيين الدنيا بالمصابيح فهو تعبير متكرر ومتسق مع شعور الناس على اختلاف طبقاتهم بما تقع عليه أنظارهم من مشاهد السماء ونجومها وشهبها وبما في أذهانهم من ذلك بسبيل العظة والتنويه. ومن الواجب أن يبقى ذلك في هذا النطاق مثل سائر التعابير القرآنية المماثلة. ولقد تكرر في القرآن تقرير كون مصير الشياطين في الآخرة هو العذاب والنار مما مرّ منه أمثلة وعلقنا عليها بما يغني عن الإعادة." (1)
وفي التفسير الوسيط : "هذا ، والمتأمل في هذه الآيات الكريمة ، يراها قد ساقت ما يدل على وحدانية اللّه - تعالى - وقدرته بأبلغ أسلوب ، ودعت الغافلين الذين فسقوا عن أمر ربهم ، إلى التدبر في هذا الكون الذي أوجده - سبحانه - في أبدع صورة وأتقنها ، فإن هذا التدبر من شأنه أن يهدى إلى الحق ، ويرشد إلى الصواب .. " (2)
قال الإمام الرازي : اعلم أن هذا هو الدليل الثاني على كونه - تعالى - قادرا عالما ، وذلك لأن هذه الكواكب نظرا إلى أنها محدثة ومختصة بمقدار معين ، وموضع خاص ، وسير معين ، تدل على أن صانعها قادر.ونظرا إلى كونها محكمة متقنة
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة - (5 / 374)
(2) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 11)(1/46)
موافقة لمصالح العباد ، ومن كونها زينة لأهل الدنيا ، وسببا لانتفاعهم بها ، تدل على أن صانعها عالم. (1)
والمعنى : وباللّه لقد زينا وجملنا السماء القريبة منكم بكواكب مضيئة كإضاءة السّرج ، وجعلنا - بقدرتنا - من هذه الكواكب ، ما يرجم الشياطين ويحرقها ، إذا ما حاولوا أن يسترقوا السمع ، كما قال - تعالى - : وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً .
قال الإمام ابن كثير : قوله : وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ عاد الضمير في قوله وَجَعَلْناها على جنس المصابيح لا على عينها ، لأنه لا يرمى بالكواكب التي في السماء ، بل بشهب من دونها ، وقد تكون مستمدة منها - واللّه أعلم - . (2)
وفي الظلال : "«تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..هذه التسبيحة في مطلع السورة توحي بزيادة بركة اللّه ومضاعفتها ، وتمجيد هذه البركة الرابية الفائضة.
وذكر الملك بجوارها يوحي بفيض هذه البركة على هذا الملك ، وتمجيدها في الكون بعد تمجيدها في جناب الذات الإلهية. وهي ترنيمة تتجاوب بها أرجاء الوجود ، ويعمر بها قلب كل موجود. وهي تنطلق من النطق الإلهي في كتابه الكريم ، من الكتاب المكنون ، إلى الكون المعلوم.
«تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» .. فهو المالك له ، المهيمن عليه ، القابض على ناصيته ، المتصرف فيه .. وهي حقيقة. حين تستقر في الضمير تحدد له الوجهة والمصير وتخليه من التوجه أو الاعتماد أو الطلب من غير المالك المهيمن المتصرف في هذا الملك بلا شريك كما تخليه من العبودية والعبادة لغير المالك الواحد ، والسيد الفريد! «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .. فلا يعجزه شي ء ، ولا يفوته شي ء ، ولا
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 12)
(2) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 13)(1/47)
يحول دون إرادته شي ء ، ولا يحد مشيئته شيء. يخلق ما يشاء ، ويفعل ما يريد ، وهو قادر على ما يريده غالب على أمره لا تتعلق بإرادته حدود ولا قيود .. وهي حقيقة حين تستقر في الضمير تطلق تصوره لمشيئة اللّه وفعله من كل قيد يرد عليه من مألوف الحس أو مألوف العقل أو مألوف الخيال! فقدرة اللّه وراء كل ما يخطر للبشر على أي حال .. والقيود التي ترد على تصور البشر بحكم تكوينهم المحدود تجعلهم أسرى لما يألفون في تقدير ما يتوقعون من تغيير وتبديل فيما وراء اللحظة الحاضرة والواقع المحدود. فهذه الحقيقة تطلق حسهم من هذا الإسار. فيتوقعون من قدرة اللّه كل شيء بلا حدود. ويكلون لقدرة اللّه كل شيء بلا قيود. وينطلقون من أسر اللحظة الحاضرة والواقع المحدود.
«الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ» ..
ومن آثار تمكنه المطلق من الملك وتصريفه له ، وآثار قدرته على كل شيء وطلاقة إرادته .. أنه خلق الموت والحياة. والموت يشمل الموت السابق على الحياة والموت اللاحق لها. والحياة تشمل الحياة الأولى والحياة الآخرة.
وكلها من خلق اللّه كما تقرر هذه الآية ، التي تنشئ هذه الحقيقة في التصور الإنساني وتثير إلى جانبها اليقظة لما وراءها من قصد وابتلاء. فليست المسألة مصادفة بلا تدبير. وليست كذلك جزافا بلا غاية. إنما هو الابتلاء لإظهار المكنون في علم اللّه من سلوك الأناسي على الأرض ، واستحقاقهم للجزاء على العمل : «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» .. واستقرار هذه الحقيقة في الضمير يدعه أبدا يقظا حذرا متلفتا واعيا للصغيرة والكبيرة في النية المستسرة والعمل الظاهر. ولا يدعه يغفل أو يلهو. كذلك لا يدعه يطمئن أو يستريح. ومن ثم يجيء التعقيب : «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ» ليسكب الطمأنينة في القلب الذي يرعى اللّه ويخشاه. فاللّه عزيز غالب ولكنه غفور مسامح.
فإذا استيقظ القلب ، وشعر أنه هنا للابتلاء والاختبار ، وحذر وتوقى ، فإن له أن يطمئن إلى غفران اللّه ورحمته وأن يقر عندها ويستريح! إن اللّه في الحقيقة التي(1/48)
يصورها الإسلام لتستقر في القلوب ، لا يطارد البشر ، ولا يعنتهم ، ولا يحب أن يعذبهم. إنما يريد لهم أن يتيقظوا لغاية وجودهم وأن يرتفعوا إلى مستوى حقيقتهم وأن يحققوا تكريم اللّه لهم بنفخة روحه في هذا الكيان وتفضيله على كثير من خلقه. فإذا تم لهم هذا فهناك الرحمة السابغة والعون الكبير والسماحة الواسعة والعفو عن كثير.
ثم يربط هذه الحقيقة بالكون كله في أكبر وأرفع مجاليه كما يربط به من الناحية الأخرى حقيقة الجزاء في الآخرة ، بعد الابتلاء بالموت والحياة : «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ، ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ. وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ ، وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ ، وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ. وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ. تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ، كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها : أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا : بَلى ! قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا : ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ. وَقالُوا : لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ!».
وكل ما في هذه الآيات آثار لمدلول الآية الأولى ، ومظاهر للهيمنة المتصرفة في الملك ، وللقدرة التي لا يقيدها قيد. ثم هي بعد ذلك تصديق للآية الثانية من خلق الموت والحياة للابتلاء ، ثم الجزاء ..
والسماوات السبع الطباق التي تشير إليها الآية لا يمكن الجزم بمدلولها ، استقاء من نظريات الفلك ، فهذه النظريات قابلة للتعديل والتصحيح ، كلما تقدمت وسائل الرصد والكشف. ولا يجوز تعليق مدلول الآية بمثل هذه الكشوف القابلة للتعديل والتصحيح. ويكفي أن نعرف أن هناك سبع سماوات. وأنها طباق بمعنى أنها طبقات على أبعاد متفاوتة.(1/49)
والقرآن يوجه النظر إلى خلق اللّه ، في السماوات بصفة خاصة وفي كل ما خلق بصفة عامة. يوجه النظر إلى خلق اللّه ، وهو يتحدى بكماله كمالا يرد البصر عاجزا كليلا مبهورا مدهوشا.«ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» .. فليس هناك خلل ولا نقص ولا اضطراب .. «فَارْجِعِ الْبَصَرَ»
وانظر مرة أخرى للتأكد والتثبت «هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟» .. وهل وقع نظرك على شق أو صدع أو خلل؟ «ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ» فربما فاتك شيء في النظرة السابقة لم تتبينه ، فأعد النظر ثم أعده «يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ» ..
وأسلوب التحدي من شأنه أن يثير الاهتمام والجد في النظر إلى السماوات وإلى خلق اللّه كله. وهذه النظرة الحادة الفاحصة المتأملة المتدبرة هي التي يريد القرآن أن يثيرها وأن يبعثها. فبلادة الألفة تذهب بروعة النظرة إلى هذا الكون الرائع العجيب الجميل الدقيق ، الذي لا تشبع العين من تملي جماله وروعته ، ولا يشبع القلب من تلقي إيحاءاته وإيماءاته ولا يشبع العقل من تدبر نظامه ودقته. والذي يعيش منه من يتأمله بهذه العين في مهرجان إلهي باهر رائع ، لا تخلق بدائعه ، لأنها أبدا متجددة للعين والقلب والعقل.
والذي يعرف شيئا عن طبيعة هذا الكون ونظامه - كما كشف العلم الحديث عن جوانب منها - يدركه الدهش والذهول. ولكن روعة الكون لا تحتاج إلى هذا العلم. فمن نعمة اللّه على البشر أن أودعهم القدرة على التجاوب مع هذا الكون بمجرد النظر والتأمل فالقلب يتلقى إيقاعات هذا الكون الهائل الجميل تلقيا مباشرا حين يتفتح ويستشرف. ثم يتجاوب مع هذه الإيقاعات تجاوب الحي مع الحي قبل أن يعلم بفكره وبأرصاده شيئا عن هذا الخلق الهائل العجيب.
ومن ثم يكل القرآن الناس إلى النظر في هذا الكون ، وإلى تملي مشاهده وعجائبه. ذلك أن القرآن يخاطب الناس جميعا ، وفي كل عصر. يخاطب ساكن الغابة وساكن الصحراء ، كما يخاطب ساكن المدينة ورائد البحار. وهو يخاطب الأمي الذي لم يقرأ ولم يخط حرفا ، كما يخاطب العالم الفلكي والعالم الطبيعي والعالم النظري(1/50)
سواء. وكل واحد من هؤلاء يجد في القرآن ما يصله بهذا الكون ، وما يثير في قلبه التأمل والاستجابة والمتاع.
والجمال في تصميم هذا الكون مقصود كالكمال. بل إنهما اعتباران لحقيقة واحدة. فالكمال يبلغ درجة الجمال. ومن ثم يوجه القرآن النظر إلى جمال السماوات بعد أن وجه النظر إلى كمالها : «وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ» ..وما السماء الدنيا؟ لعلها هي الأقرب إلى الأرض وسكانها المخاطبين بهذا القرآن. ولعل المصابيح المشار إليها هنا هي النجوم والكواكب الظاهرة للعين ، التي نراها حين ننظر إلى السماء. فذلك يتسق مع توجيه المخاطبين إلى النظر في السماء. وما كانوا يملكون إلا عيونهم ، وما تراه من أجرام مضيئة تزين السماء.
ومشهد النجوم في السماء جميل. ما في هذا شك. جميل جمالا يأخذ بالقلوب. وهو جمال متجدد تتعدد ألوانه بتعدد أوقاته ويختلف من صباح إلى مساء ، ومن شروق إلى غروب ، ومن الليلة القمراء إلى الليلة الظلماء. ومن مشهد الصفاء إلى مشهد الضباب والسحاب .. بل إنه ليختلف من ساعة لساعة. ومن مرصد لمرصد. ومن زاوية لزاوية .. وكله جمال وكله يأخذ بالألباب.
هذه النجمة الفريدة التي توصوص هناك ، وكأنها عين جميلة ، تلتمع بالمحبة والنداء! وهاتان النجمتان المنفردتان هناك ، وقد خلصتا من الزحام تتناجيان! وهذه المجموعات المتضامة المتناثرة هنا وهناك ، وكأنها في حلقة سمر في مهرجان السماء. وهي تجتمع وتفترق كأنها رفاق ليلة في مهرجان! وهذا القمر الحالم الساهي ليلة. والزاهي المزهو ليلة. والمنكسر الخفيض ليلة. والوليد المتفتح للحياة ليلة.والفاني الذي يدلف للفناء ليلة ..!
وهذا الفضاء الوسيع الذي لا يمل البصر امتداده ، ولا يبلغ البصر آماده.
إنه الجمال. الجمال الذي يملك الإنسان أن يعيشه ويتملاه ، ولكن لا يجد له وصفا فيما يملك من الألفاظ والعبارات!(1/51)
والقرآن يوجه النفس إلى جمال السماء ، وإلى جمال الكون كله ، لأن إدراك جمال الوجود هو أقرب وأصدق وسيلة لإدراك جمال خالق الوجود. وهذا الإدراك هو الذي يرفع الإنسان إلى أعلى أفق يمكن أن يبلغه ، لأنه حينئذ يصل إلى النقطة التي يتهيأ فيها للحياة الخالدة ، في عالم طليق جميل ، بريء من شوائب العالم الأرضي والحياة الأرضية. وإن أسعد لحظات القلب البشري لهي اللحظات التي يتقبل فيها جمال الإبداع الإلهي في الكون. ذلك أنها هي اللحظات التي تهيئه وتمهد له ليتصل بالجمال الإلهي ذاته ويتملاه.
ويذكر النص القرآني هنا أن هذه المصابيح التي زين اللّه السماء الدنيا بها هي كذلك ذات وظيفة أخرى : «وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» ..
وقد جرينا في هذه الظلال على قاعدة ألا نتزيد بشيء في أمر الغيبيات التي يقص اللّه علينا طرفا من خبرهاو أن نقف عند حدود النص القرآني لا نتعداه. وهو كاف بذاته لإثبات ما يعرض له من أمور.
فنحن نؤمن أن هناك خلقا اسمهم الشياطين ، وردت بعض صفاتهم في القرآن ، وسبقت الإشارة إليها في هذه الظلال ، ولا نزيد عليها شيئا ونحن نؤمن أن اللّه جعل من هذه المصابيح التي تزين السماء الدنيا رجوما للشياطين ، في صورة شهب كما جاء في سورة أخرى : «وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ» ... «إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ» .. كيف؟ من أي حجم؟ في أية صورة؟ كل ذلك لم يقل لنا اللّه عنه شيئا ، وليس لنا مصدر آخر يجوز استفتاؤه في مثل هذا الشأن. فلنعلم هذا وحده ولنؤمن بوقوعه. وهذا هو المقصود. ولو علم اللّه أن هناك خيرا في الزيادة أو الإيضاح أو التفصيل لفصل سبحانه. فما لنا نحن نحاول ما لم يعلم اللّه أن فيه خيرا؟ : في مثل هذا الأمر. أمر رجم الشياطين؟! ثم يستطرد فيما أعده اللّه للشياطين غير الرجوم : «وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ» ..
فالرجوم في الدنيا وعذاب السعير في الآخرة لأولئك الشياطين. ولعل مناسبة ذكر هذا ، الذي أعده اللّه للشياطين في الدنيا والآخرة هي ذكر السماء أولا ، ثم ما(1/52)
يجيء بعد من ذكر الذين كفروا. والعلاقة بين الشياطين والذين كفروا علاقة ملحوظة. فلما ذكر مصابيح السماء ذكر اتخاذها رجوما للشياطين. ولما ذكر ما أعد للشياطين من عذاب السعير ذكر بعده ما أعده للذين كفروا من أتباع هؤلاء الشياطين : «وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» .. " (1)
ما يستفاد من الآيات
يستنبط من الآيات ما يأتي :
1- تقرير ربوبية الله تعالى بعرض دلائل القدرة والعلم والحكمة والخير والبركة وهي موجبة لألوهيته أي عبادته دون من سواه عزوجل .
2 - تعاظم اللّه بالذات عن كل ما سواه ، وهو مالك السموات والأرض في الدنيا والآخرة ، والقادر على كل شيء من إنعام وانتقام.
3 - اللّه هو الذي أوجد الموت وأوجد الحياة ليعامل العباد معاملة المختبر ، ويقيم الدليل عليهم أيهم أطوع وأخلص للّه ، وهو سبحانه القوي الغالب في انتقامه ممن عصاه ، الغفور لمن تاب.
والابتلاء : هو التجربة والامتحان حتى يعلم أنه هل يطيع أو يعصي؟
4- بيان الحكمة من خلق النجوم وهي في قول قتادة رحمه الله : أن الله جل ثناؤه إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصال : زينة لسماء الدنيا ، ورجوماً للشياطين ، وعلامات يهتدى بها . (2)
5 - اللّه هو الذي أوجد أيضا السموات السبع متطابقة بعضها فوق بعض ، ما ترى في خلقها من اعوجاج وصدوع ، ولا تناقض ولا تباين ، بل هي مستقيمة مستوية ، دالة على خالقها ، لا عيب ولا خلل فيها.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3631)
(2) - أيسر التفاسير للجزائري - (4 / 286)(1/53)
6 - إذا كرر الإنسان النظر في السموات مرات كثيرة ، لا يرى فيها عيبا بل يتحيّر بالنظر إليها ، ويرجع إليه بصره خاشعا صاغرا متباعدا عن أن يرى شيئا من ذلك ، وقد بلغ الغاية في الإعياء.
7 - زيّن اللّه السماء الدنيا وهي القربى أقرب السموات إلى الناس بكواكب مصابيح لإضاءتها ، وجعل منها شهبا تنقض على مردة الشياطين ، وأعد اللّه للشياطين أشد الحريق بسبب الكفر والضلال والإفساد.
والآيات كلها دليل على كونه تعالى كامل القدرة والعلم.
8- مَن جعل الموتَ نُصب عينيه لا محالة يجتهد ، ولله در القائل (1) :
وَفِي ذِكْرِ هولِ الموتِ والقَبْر والبلاَ عَن الشغْل باللذَّاتِ للمرء زَاجِر
أَبَعْدَ اقْتِرابِ الأَربَعينَ تَربُّص وشَيْب فَذاك مُنْذِرٌ لك ذَاعِر
فَكَمْ في بُطون الأرضِ بعد ظُهورها مَحَاسِنهم فيها بوَالٍ دَوَاثِر
وأنت على الدنيا مُكب مُنَافِس لِحُطَامِها فيها حَريص مُكاثر
علَى خطرٍ تُمسي وتُصبح لاَهِياً أَتدْرِي بماذا لَوْ عقلت تُخاطِر
وَإِنْ أحد يَسعى لدُنياه جَاهداً ويَذْهلُ عن أخراه لآ شَكَّ خاسِر
فَجدّ ولا تَغفَل ، فَعَيشك زائِل وأَنْتِ إِلى دارِ الْمَنِيَّةِ صَائِر
****************
__________
(1) - البحر المديد ـ نسخة محققة - (8 / 110)(1/54)
المطلب الثاني
تعذيب الكفار في نار جهنم
قال تعالى :
{ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)}
شرح الكلمات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
7 ... أُلْقُوا فِيهَا ... ألقتهم الملائكة في النار
7 ... شَهِيقًا ... صوتا منكرا
7 ... وَهِيَ تَفُورُ ... تغلي
8 ... تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ ... تتقطع من شدة الغضب
9 ... ضَلالٍ كَبِيرٍ ... خطأ عقلي
10 ... فَسُحْقًا ... فبعدا من الرحمة والكرامة (1)
البلاغة :
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ استفهام إنكاري للتقريع والتوبيخ زيادة لهم في العذاب.
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ مقابلة ، قابلة بقوله بعدئذ : إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ.
سَمِعُوا لَها شَهِيقاً استعارة مكنية ، شبه شدة استعارها وحسيسها بصوت الحمار.
__________
(1) - كلمات القرآن للشيخ غازي الدروبي - (22 / 1)(1/55)
وفي قوله : « تكاد تميز من الغيظ » استعارة مكنية تبعية ، شبّه جهنم بالمغتاظة عليهم لشدة غليانها بهم وحذف المشبه به وأبقى شيئا من لوازمه لأن المغتاظة تتميز وتتقصف غضبا ويكاد ينفصل بعضها عن بعض لشدة اضطرابها ويقولون فلان يتميز غيظا إذا وصفوه بالإفراط في الغضب. وفي هذه الآية أيضا فن حسن الاتباع فقد جرى الشعراء على نهجها فولعوا بإسناد أفعال من يعقل إلى ما لا يعقل.. (1)
ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ إطناب بتكرار الجملة مرتين لزيادة التنبيه.
المناسبة :
بعد أن بيّن اللّه تعالى ما أعد للشياطين من عذاب السعير في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا ، عمم الوعيد ، وأوضح أن هذا العذاب معدّ أيضا لكل كافر جاحد بربه ، ثم ذكر أوصاف النار وأهوالها الشديدة.
المعنى العام :
بعد أن ذكر سبحانه أن شياطين الإنس والجن قد أعدّ لهم عذاب السعير ، أردف ذلك ببيان أن هذه النار قد أعدها لكل جاحد بوحدانيته ، مكذب برسله ، منكر للبعث واليوم الآخر ، ثم وصف هذه النار بأوصاف تشيب من هولها الولدان ، وتصطك لسماعها الأسنان ، منها :
(1) أنه يسمع لها شهيق حين يلقى الكافرون فيها.
(2) أنها تفوز بهم كما يفور ما فى المرجل حين يغلى.
(3) أنها تكون شديدة الغيظ والحنق على من فيها.
(4) أن خزنتها يسألون داخليها : ألم تأتكم الرسل فتبعدكم عن هذا العذاب ؟
(5) أن أهلها يعترفون بأن اللّه ما عذبهم ظلما ، بل قد جاءهم الرسل فكذبوهم وقالوا لهم : أنتم فى ضلال بعيد.
__________
(1) - انظر إعراب القرآن وبيانه ـ موافقا للمطبوع - (10 / 150)(1/56)
(6) دعاء الملائكة عليهم بالبعد من رحمة اللّه وألطافه ، وكرمه وإحسانه. (1)
وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم ، وبئس المصير مصيرهم ، إذا ألقوا فيها سمعوا لها صوتا منكرا كصوت الحمار (2) ، وهو حسيسها حالة كونها تفور بهم وتغلى غليان المرجل ، ويا ويلهم حينما يرون النار ، تكاد تتميز ،أى : ينفصل بعضها عن بعض من شدة الغيظ (3) والغضب! وهذا وصف لجهنم دقيق.
وهاك وصفا لمن فيها : كلما ألقى فيها جماعة من أصحابها سألهم خزنتها وزبانيتها قائلين لهم : ألم يأتكم نذير يتلو عليكم آيات اللّه ، وينذركم لقاء ربكم ؟ قالوا : بلى قد جاءنا نذير فأنذرنا وتلا علينا آيات ربنا ، فكذبناه ، وقلنا له : ما أنزل اللّه من شيء على بشر مثلنا ، ما أنتم أيها الرسل جميعا إلا في ضلال كبير ، وقالوا معترفين بخطئهم ومتحسرين على ما فاتهم : لو كنا نسمع الكلام سماع قبول وإنصاف ، ولو كنا نعقل ونحكم عقولنا حقيقة في كل ما يلقى إلينا ما كنا في عداد أصحاب السعير اليوم! فاعترفوا بذنبهم الذي هو كفرهم بآيات اللّه فبعدا لهم من رحمة اللّه ورضوانه ، وسحقا لهم إنهم من أصحاب السعير. (4)
التفسير والبيان :
قوله تعالى : «وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ » ـ هو معطوف على قوله تعالى .. « وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ ».
أي أعتدنا للشياطين عذاب السعير ، وللذين كفروا بربهم أعتدنا لهم كذلك عذاب جهنم ، وبئس المصير الذي يصيرون إليه .. فالشياطين من الجنّ ، والكافرون من
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 10)
(2) - وعلى ذلك ففي (شهيق) استعارة صريحة.
(3) - جهنم لا يعقل أن يكون لها غيظ وغضب وإنما يجوز أن يكون في الكلام استعارة تصريحية حيث شبه اشتعال النار بهم وشدة تأثيرها فيهم باغتياظ المغتاظ على غيره المبالغ في إيصال الضرر ، ويجوز أن يكون الغضب للزبانية.
(4) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 712)(1/57)
الإنس ، لهم جميعا عذاب أليم ، معدّ لهم ، وهو فى انتظار ورودهم عليه يوم القيامة."
أي وأعتدنا لكل الجاحدين بربهم ، المكذبين رسله من الجن والإنس عذاب نار جهنم ، وبئس المآل والمرجع وما يصيرون إليه ، وهو جهنم.
ثم ذكر صفات النار الأربع وهي :
1 ، 2 – « إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ ».. أي أن جهنم هذه التي أعدها اللّه سبحانه للكافرين ، ستلقاهم لقاء يسوءهم ، كما يسوءهم عذابها .. إنهم سيجدون منها عدوّا راصدا لهم ، كأنّ بينها وبينهم ثارات قديمة ، فإذا أمكنتها الفرصة فيهم ، أخذتهم أخذ العدوّ عدوّه ، حين تمكنه الفرصة منه .. إنه لا يشفى غيظها منهم ، إلّا أن تضربهم بكل ما فيها من قوة. فهى تشهق شهيق من وجد فرصته فى عدوه بين يديه ، وقد طال انتظاره لها لتلك الفرصة ..
إن هؤلاء الكافرين ، هم أعداء اللّه ، والنار جند من جند اللّه المسلط على أعدائه .. فهم لهذا فى موقف العدوّ من هذه النار ، المسلطة عليهم من اللّه سبحانه. "
أي إذا طرح الكفار في نار جهنم ، كما يطرح الحطب في النار العظيمة ، سمعوا لها صوتا منكرا كصوت الحمير أول نهيقها ، أو كصوت المتغيظ من شدة الغضب ، وهي تغلي بهم غليان المرجل.
3 - « تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ». "أي أن جهنم حين برد عليها هؤلاء الواردون من أهلها ، تلقاهم ، مغيظة محنقة ، تكاد تميز من الغيظ ، أي تتقطع وتتمزق من الغيظ ، والحنق عليهم ، لا يشفى غليلها ، إلا أن تحتويهم ، وتجعلهم وقودا لها .."
4 - « كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ » ـ أي كلما ألقى فى جهنم « فوج » أي جماعة ممن قضى اللّه فيهم أنهم من أصحاب النار ـ كلما ألقى فوج من هذه الأفواج المتتابعة ، سألهم خرنة جهنم وزبانيتها هذا السؤال : « أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ؟ ».(1/58)
وهذا السؤال تقريعى وتوبيخى للواردين على جهنم .. لأنهم ما وردوا جهنم إلا لمخالفتهم النذير ، أي الرسول الذي أرسله اللّه تعالى إليهم ، لينذرهم عذاب هذا اليوم ، فكذبوا الرسول ، ولم يؤمنوا بما جاءهم به من عند اللّه .. ولو أنهم اتبعوا هذا النذير ما وردوا جهنم .. وهذا يعنى أنه لا يعذّب إلا من بلغتهم رسالة رسل اللّه ، ثم خالفوها ، ولم يقبلوا ما دعوا إليه منها ..وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا » (15 : الإسراء) ..
وفى قوله تعالى : « كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ » وفى التعبير عن سوق الكافرين إلى جهنم بالإلقاء فى هذا ما يشير إلى هوان هؤلاء المجرمين ، وعدم احترام آدميتهم ، وأنهم إنما يعاملون معاملة الأشياء المستغنى عنها ، من النفايات والفضلات ، حيث نطرح بعيدا بغير حساب ، فتقع حيث تقع ، غير ملتفت إليها."
فيجيبهم الكفار بقولهم من ناحيتين :
1 - « قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ » هو جواب الواردين على النار ، لما سئلوا عنه من زبانية جهنم بقولهم : « أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ » ؟ فكان جوابهم : بلى! أي قد جاءنا نذير ، ولكن كذبنا بهذا النذير ، وقلنا ما نزل اللّه من شىء ، أي من كتب ، وما أرسل من رسل ..
وقوله تعالى : « إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ » يجوز أن يكون من جواب أهل النار ، ومن مقولاتهم للمنذرين الذين جاءوهم ، حيث كذبوهم ، ثم رموهم بالضلال الكبير ، الذي لا يخفى أمره على أحد ..ويجوز أن يكون هذا تعقيبا من زبانية جهنم على ما سمعوه من جواب أهل النار ..و« إن » نافية بمعنى « ما » ، أي ما أنتم إلا فى ضلال كبير .."
أي أجاب الكفار قائلين : بلى جاءنا رسول من عند اللّه ربنا ، فأنذرنا وخوّفنا ، لكنا كذبنا ذلك النذير ، وقلنا له : ما نزّل اللّه من شيء على لسانك ، ولم يوح إليك بشيء من أمور الغيب وأخبار الآخرة والشرائع التي أمرنا اللّه بها.(1/59)
وما أنتم أيها الرسل إلا في ذهاب عن الحق ، وبعد عن الصواب. فهذا على الأظهر من جملة قول الكفار وخطابهم للمنذرين.ونظير الآية قوله تعالى : حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها ، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها : أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ، يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ قالُوا : بَلى ، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ [الزمر 39/ 71].
وهذا دليل على عدل اللّه في خلقه وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه ، وإرسال الرسول إليه ، كما قال تعالى : وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء 17/ 15].
2 - قوله تعالى : «وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ».. هذا من حديث النفس لأصحاب النار ، حيث يرجعون بالملامة على أنفسهم ، ويتهمون أنفسهم بأنهم كانوا فى غفلة من أمرهم ، وأنهم لم يكونوا أصحاب سمع أو عقل ، إذ لو كانوا أصحاب سمع وعقل ما كذبوا رسل اللّه ، ولما وردوا هذا المورد الوبيل .. وقدّم السمع على العقل ، لأنهم إنما أدينوا فى الآخرة من جهة سمعهم ، وما جاءهم عن طريقه من آيات اللّه ، على لسان رسله .. فلم يحسنوا الاستماع إلى ما أنذرهم به الرسل ، ولم يقبلوا ما دعوا إليه من الإيمان باللّه واليوم الآخر ، ولم يعرضوا ما سمعوا على عقولهم.
ثم إنهم إذ لم يأخذوا بهذا البلاغ السمعي ، ولم يكن لهم من عقولهم بلاغ عقلىّ ، يقيم لهم طريقا إلى الإيمان باللّه ، ويدعوهم إليه فقد ضلّوا ، وهلكوا .."
أي إننا نلوم أنفسنا ونندم على ما فعلنا ، فلو كنا نسمع ما أنزل اللّه من الحق سماع من يعي ، وسماع هداية ، أو نعقل عقل من يميز وينظر وينتفع ، وعقل هداية ، ما كنا من أهل النار ، وما كنا عليه من الكفر باللّه والضلال ، ولكن لم يكن لنا فهم نعي به ما جاءت به الرسل ، ولا كان لنا عقل يرشدنا إلى اتباعهم ، والإيمان بما أنزل اللّه تعالى ، والاستماع إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقدم السمع على العقل والتفهم لأن المدعو إلى شيء يسمع كلام الداعية أولا ثم يتفكر فيه.(1/60)
« فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ »..أي أن هؤلاء المعذّبين بنار جهنم ، قد شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا ظالمين ، وأنهم أهل لهذا العذاب الذي هم فيه ..وقوله تعالى : « فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ » دعاء عليهم بالبعد من رحمة اللّه ورضوانه ، يرميهم به كل لسان .. ناطق أو صامت ، فى هذا الوجود .. "
أي فأقروا معترفين بما صدر عنهم من ذنب استحقوا به عذاب النار ، وهو الكفر وتكذيب الأنبياء ، فبعدا لهم من اللّه ومن رحمته. وهذا بيان بالجريمة ثم العقاب.
عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " لَنْ يَهْلَكَ النَّاسُ حَتَّى يَعْذِرُوا ، أَوْ يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ " (1)
ومضات عامة
{ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ } أي : جماعة من الكفرة { سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } أي : في الدنيا ينذركم هذا العذاب .قال في " الإكليل " : استدل به على أنه لا تكليف قبل البعثة . (2)
تنبيهان :
الأول : قال الناصر : لو تفطن نبيهٌ لهذه الآية لعدّها دليلاً على تفضيل السمع على البصر ، فإنه قد استدل على ذلك بأخفى منها .
الثاني : قال ابن السمعانيّ في " القواطع " : استدل به من قال بتحكيم العقل .
وقال الزمخشريّ : قيل : إنما جمع بين السمع والعقل ، لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل (3)
وقال دروزة : " وفي هذه الآيات إنذار للكافرين باللّه وآياته : فلهم أيضا عذاب جهنم وبئست هي مصيرهم. وحينما يقبلون عليها سيرونها في حالة تبعث الرعب والفزع حيث يكون لها صوت مرعب من شدّة فورانها وتكاد تتشقّق وتتفجّر من الغليان أو سخطا على الكفار. وكلما ألقي فيها فوج منهم سألهم الموكلون بها
__________
(1) - سُنَنُ أَبِي دَاوُدَ (3844 ) صحيح
(2) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (12 / 498)
(3) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (12 / 499)(1/61)
سؤال المندد المقرع عمّا إذا لم يكن قد أتاهم نذير يعظهم ويخوفهم من هذا المصير فيجيبون إجابة المتحسّر النادم أنه قد جاءنا نذير فوقفنا منه موقف المكذّب وسفّهناه وأنكرنا أن يرسل اللّه رسلا للناس وقلنا له إنه في دعواه في ضلال كبير فاستحققنا هذا المصير.
ولو كنا نعقل أو نسمع ما صرنا إليه. وهكذا يعترفون بما اقترفوه من ذنوب فسحقا لهم وبعدا.
والآيات معطوفة على سابقتها ومتصلة بها. ولعل عطف الكفار على الشياطين قد قصد به تشديد التقريع فهم من طبقة واحدة ومصيرهم واحد.
والوصف قوي مرعب والمحاورة المفروض حدوثها لاذعة مستحكمة. ومن شأن ذلك إثارة الفزع والندم في الكفار وحملهم على الارعواء وهو مما استهدفته الآيات. " (1)
وفي التفسير الوسيط : " إذا كان الأمر كما أخبروا عن أنفسهم ، فقد أقروا واعترفوا بذنوبهم ، وأن اللّه - تعالى - ما ظلمهم ، وأن ندمهم لن ينفعهم في هذا اليوم .. بل هم جديرون بالدعاء عليهم بالطرد من رحمة اللّه - تعالى - وبخلودهم في نار السعير.واللام في قوله لِأَصْحابِ للتبيين ، كما في قولهم : سقيا لك.فالآية الكريمة توضح أن ما أصابهم من عذاب كان بسبب إقرارهم بكفرهم ، وإصرارهم عليه حتى الممات " (2)
وفي الظلال : "ثم يرسم مشهدا لجهنم هذه ، وهي تستقبل الذين كفروا في غيظ وحنق شديد : «إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ. تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ!» ..
وجهنم هنا مخلوقة حية ، تكظم غيظها ، فترتفع أنفاسها في شهيق وتفور ويملأ جوانحها الغيظ فتكاد تتمزق من الغيظ الكظيم وهي تنطوي على بغض وكره يبلغ إلى حد الغيظ والحنق على الكافرين!
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة - (5 / 377)
(2) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 9)(1/62)
والتعبير في ظاهره يبدو مجازا تصويريا لحالة جهنم. ولكنه - فيما نحس - يقرر حقيقة. فكل خليقة من خلائق اللّه حية ذات روح من نوعها. وكل خليقة تعرف ربها وتسبح بحمده وتدهش حين ترى الإنسان يكفر بخالقه ، وتتغيظ لهذا الجحود المنكر الذي تنكره فطرتها وتنفر منه روحها. وهذه الحقيقة وردت في القرآن في مواضع شتى تشعر بأنها تقرر حقيقة مكنونة في كل شيء في هذا الوجود.
فقد جاء بصريح العبارة في القرآن : «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» .. وورد كذلك : «يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ» .. وهي تعبيرات صريحة مباشرة لا مجال فيها للتأويل.
كذلك ورد «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ : ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا : أَتَيْنا طائِعِينَ» ..
مما يحتمل أن يقال فيه إنه مجاز تصويري لحقيقة خضوع السماء والأرض لناموس اللّه. ولكن هذا التأويل لا ضرورة له. بل هو أبعد من المعنى المباشر الصريح.
ووردت صفة جهنم هذه. كما ورد في موضع آخر تعبير عن دهشة الكائنات وغيظها للشرك بربها : «لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا ، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً ، وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً» ..
وكل هذه النصوص تشير إلى حقيقة ، حقيقة إيمان الوجود كله بخالقه ، وتسبيح كل شيء بحمده. ودهشة الخلائق وارتياعها لشذوذ الإنسان حين يكفر ، ويشذ عن هذا الموكب وتحفز هذه الخلائق للانقضاض على الإنسان في غيظ وحنق كالذي يطعن في عزيز عليه كريم على نفسه ، فيغتاظ ويحنق ، ويكاد من الغيظ يتمزق. كما هو حال جهنم وهي : «تَفُورُ. تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ!».كذلك نلمح هذه الظاهرة في خزنة جهنم : «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها. أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟» ..(1/63)
وواضح أن هذا السؤال في هذا الموضع هو للتأنيب والترذيل. فهي مشاركة لجهنم في الغيظ والحنق. كما هي مشاركة لها في التعذيب ، وليس أمرّ من الترذيل والتأنيب للضائق المكروب! والجواب في ذلة وانكسار واعتراف بالحمق والغفلة ، بعد التبجح والإنكار واتهام الرسل بالضلال : «قالُوا : بَلى ! قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا ، وَقُلْنا : ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ. وَقالُوا : لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ!» ..فالذي يسمع أو يعقل ، لا يورد نفسه هذا المورد الوبيء. ولا يجحد بمثل ما جحد به أولئك المناكيد. ولا يسارع باتهام الرسل بالضلال على هذا النحو المتبجح الوقح ، الذي لا يستند في الإنكار إلى دليل. ثم ينكر ويدعي ذلك الادعاء العريض على رسل اللّه الصادقين يقول : «ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ : إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ»! «فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ» ..والسحق البعد. وهو دعاء عليهم من اللّه بعد اعترافهم بذنبهم في الموقف الذي لم يؤمنوا به ولم يصدقوا بوقوعه.
والدعاء من اللّه قضاء. فهم مبعدون من رحمته. لا رجاء لهم في مغفرة ، ولا إقالة لهم من عذاب. وهم أصحاب السعير الملازمون له. ويا لها من صحبة! ويا له من مصير! وهذا العذاب ، عذاب السعير ، في جهنم التي تشهق بأنفاسها وهي تفور ، عذاب شديد مروع حقا. واللّه لا يظلم أحدا. ونحسب - واللّه أعلم - أن النفس التي تكفر بربها - وقد أودع فطرتها حقيقة الإيمان ودليله - هي نفس فرغت من كل خير. كما فرغت من كل صفة تجعل لها اعتبارا في الوجود ، فهي كالحجر الذي توقد به جهنم. وقد انتهت إلى نكسة وارتكاس مكانها هذه النار ، إلى غير نجاة منها ولا فرار!
والنفس التي تكفر باللّه في الأرض تظل تنتكس وترتكس في كل يوم تعيشه ، حتى تنتهي إلى صورة بشعة مسيخة شنيعة ، صورة منكرة جهنمية نكيرة. صورة لا يماثلها شيء في هذا الكون في بشاعتها ومسخها وشناعتها.(1/64)
فكل شيء روحه مؤمنة ، وكل شيء يسبح بحمد ربه ، وكل شيء فيه هذا الخير ، وفيه هذه الوشيجة التي تشده إلى محور الوجود .. ما عدا هذه النفوس الشاردة المفلتة من أواصر الوجود ، الآبدة الشريرة ، الجاسية الممسوخة النفور. فأي مكان في الوجود كله تنتهي إليه ، وهي مبتوتة الصلة بكل شيء في الوجود؟ إنها تنتهي إلى جهنم المتغيظة المتلمظة ، الحارقة ، المهدرة لكل معنى ولكل حق ولكل كرامة بعد أن لم يعد لتلك النفوس معنى ولا حق ولا كرامة! والمألوف في سياق القرآن أن يعرض صفحتين متقابلتين في مشاهد القيامة. فهو يعرض هنا صفحة المؤمنين في مقابل صفحة الكافرين . " (1)
ما يستفاد من الآيات
دلت الآيات على ما يأتي :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء ببيان ما يجري فيها من عذاب وعقاب .
2- بيان أن تكذيب الرسل كفر موجب للعذاب ، وتكذيب العلماء كتكذيب الرسل بعدهم أي في وجوب العذاب المترتب على ترك طاعة الله ورسوله .
3- بيان أن ما يقوله أهل النار في اعترافهم هو ما يقوله الملاحدة اليوم في ردهم على العلماء بأن التدّين تأخر عقلي ونظر رجعي .
4- تقرير أن الكافر اليوم لا يسمع ولا يعقل أي سماعاً ينفعه وعقلاً عن المهالك باعتراف أهل النار إذ قالوا { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } . (2)
5 - للكافرين الجاحدين وجود اللّه ووحدانيته ، المكذبين رسله عذاب جهنم في الآخرة ، وبئس المرجع والمنقلب. وظاهر الآية يقتضي القطع بأن الفاسق المصرّ لا يبقى في النار.
6 - للنار أوصاف أربعة مرعبة رهيبة : هي سماع شهيق أي صوت منكر لها ، والفوران فهي تغلي بالكفار غليان المرجل ، والغضب فهي تكاد تتقطع وينفصل
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3633)
(2) - أيسر التفاسير للجزائري - (4 / 287)(1/65)
بعضها من بعض من شدة الغيظ على أعداء اللّه تعالى ، وتعنيف الزبانية فكلما ألقي فيها جماعات منهم يسألهم خزنتها وهم مالك وأعوانه من الزبانية سؤال توبيخ وتقريع زيادة لهم في العذاب : ألم يأتكم رسول نذير في الدنيا ينذركم هذا اليوم حتى تحذروا؟!.
7 - يعترف الكفار بأنه قد جاءهم رسول أنذرهم وخوفهم ، فكذبوه ، وقالوا : ما أنتم يا معشر الرسل إلا في بعد عن الحق والصواب.
8- وبعد أن اعترفوا بتكذيب الرسل ، اعترفوا أيضا بجهلهم ، وهم في النار ، وقالوا : لو كنا نسمع من الرسل النذر سماع تدبر ووعي ، وتعقل وفهم ما جاؤوا به ، ما كنا من أهل النار..ودل هذا على أن الكافر لم يعط من العقل شيئا.
وقال الطبري :" يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ : وَقَالَ الْفَوْجُ الَّذِي أُلْقِيَ فِي النَّارِ لِلْخَزَنَةِ : لَوْ كُنَّا فِي الدُّنْيَا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مِنَ النُّذُرِ مَا جَاءُونَا بِهِ مِنَ النَّصِيحَةِ ، أَوْ نَعْقِلُ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مَا كُنَّا الْيَوْمَ فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ يَعْنِي أَهْلَ النَّارِ "
9 - يقال للكفار حينئذ : سحقا لكم ، أي بعدا من رحمة اللّه ، سواء اعترفوا أو جحدوا ، فإن ذلك لا ينفعهم.
10 - احتجوا بآية وَقالُوا : لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ .. على أن الدين لا يتم إلا بالتعليم لأن السمع يقتضي إرشاد المرشد وهداية الهادي. واحتجوا بها أيضا على تفضيل السمع على البصر لأن الآية دلت على أن للسمع مدخلا في الخلاص من النار والفوز بالجنة ، فالسمع مناط الفوز ، والبصر ليس كذلك ، فوجب أن يكون السمع أفضل.
****************(1/66)
المطلب الثالث
وعد المؤمنين بالمغفرة وتهديد الكافرين مرة أخرى
قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) }
شرح الكلمات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
12 ... يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ ... يخافون الله وهم غائبون عن أعين الناس
12 ... أَجْرٌ كَبِيرٌ ... أي الجنة
13 ... عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ ... عليم بما يخطر في القلوب
14 ... ألا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ... ألا يعلم الخالق سركم وجهركم
14 ... وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ... لطيف بعباده خبير بهم
15 ... ذَلُولاً ... سهلة ممهدة
15 ... فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ... في جوانبها
15 ... وَكُلُوا مِنْ رِّزْقِهِ ... لا يجدي سعيكم ما لم ييسره الله لكم
15 ... إِلَيْهِ النُّشُورُ ... إليه المرجع (1)
البلاغة :
وَأَسِرُّوا واجْهَرُوا بينهما طباق.
كَبِيرٌ ، الْخَبِيرُ سجع ، وكذا قوله : الصُّدُورِ والنُّشُورُ.
المناسبة :
__________
(1) - كلمات القرآن للشيخ غازي الدروبي - (22 / 1)(1/67)
بعد وعيد الكفار بعذاب النار ، ذكر اللّه تعالى للمقابلة وعد المؤمنين بالمغفرة والأجر الكبير ، ثم عاد إلى تهديد الكافرين والناس جميعا بأنه عليم بكل ما يصدر عنهم في السر والعلن ، وأقام الدليل على ذلك بأنه هو الخالق والقادر الذي ذلّل الأرض للعالم ، وأذن لهم بالانتفاع بما فيها من خيرات وكنوز ظاهرة وباطنة كالزروع والثمار والمعادن.
المعنى العام :
بعد أن أوعد الكفار بما أوعد ، وبالغ فى ترهيبهم بما بالغ - وعد المؤمنين بالمغفرة والأجر الكريم ، ثم عاد إلى تهديد الكافرين بأنه عليم بما يصدر منهم فى السر والعلن ، وأقام الدليل على ذلك بأنه هو الخالق ، فلا يخفى عليه شىء من أمرهم ، بل يصل علمه إلى ظواهر أمورهم وبواطنها ، ثم عدد نعماءه عليهم ، فذكر أنه عبّد لهم الأرض وذللها لهم ، وهيأ لهم فيها منافع من زروع وثمار ومعادن ، فليتمتعوا بما أوتوا ثم إلى ربهم مرجعهم ، وإليه بعثهم ونشورهم. (1)
أما المؤمنون الذين يخشون اللّه حقا ، ويؤمنون به ، ويخافون عذابه يوم القيامة أولئك لهم مغفرة عظيمة لذنوبهم ، ولهم أجر كبير لا يقادر قدره ولا يعرف كنهه.
واللّه يعلم الغيب والشهادة ، ويعلم السر وأخفى ، فسواء عنده الإسرار في القول والجهر به ، إنه عليم بصاحبة الصدور ، وبما يكون من الخواطر التي تلازم القلوب فلا تبرحها ، ألا يعلم اللّه مخلوقاته التي خلقها ؟ ألا يعلم الخالق خلقه ؟ والحال أنه هو اللطيف العالم بدقائق شئون البشر ، المطلع على خفايا الخلق ، وهو اللطيف بعباده ، وإن لطفه بعباده لعجيب ، فهو يوصل الخير إليهم ، ويكشف الضر عنهم من أخفى الطرق وأدقها ، وهو الخبير بكل شيء.
هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا : سهلة مذللة ينتفع الخلق بكل ما فيها ، فانقياد الأرض لبنى آدم ظاهر الوضوح ، وخاصة في هذه الأيام حيث لم يدع الخلق ضربا من ضروب الانتفاع إلا سلكوه ، ولا عنصرا إلا حللوه وركبوه ، صهروا المعادن ،
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 13)(1/68)
وفتتوا الذرات واستنبتوا النباتات ، واكتشفوا أسرار الكائنات ، وغاصوا في أعماق البحار وطاروا في أجواء الفضاء ، أليس اللّه قد لطف بعباده حيث مكنهم من كل ذلك ؟ جعل الأرض ذلولا ، وإذا كان كذلك فامشوا في مناكبها ونواحيها ، وجوانبها وأطرافها ، وآكامها وسهلها وحزنها. (1)
التفسير والبيان :
قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ »..هو بيان للطرف المقابل للذين كفروا بربهم ، والذين عرضتهم الآيات السابقة وعرضت أحوالهم ، وما يلقون من هوان وعذاب يوم القيامة ..وكما أن فى الآخرة عذابا ، فإن فيها رحمة ورضوانا ، كما يقول سبحانه : « وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ » (20 : الحديد) ..
وإذا كان للذين كفروا بربهم ، عذاب جهنم وبئس المصير ، فإن للذين آمنوا ، مغفرة وأجرا عظيما ..والذين يخشون ربهم بالغيب ، هم الذين خافوا عذاب يوم القيامة ، وخافوا لقاء ربهم ، قبل هذا اليوم الغائب عنهم .. ثم إنهم هم الذين يخشون ربهم فى سرهم ، كما يخشونه فى علانيتهم ، حيث يشهدون سلطان اللّه قائما عليهم فى كل حال من أحوالهم. فهم لشهودهم هذا السلطان ، لا يعصون اللّه ، ولا يفعلون ما لا يرضاه ، وهم لهذا مجزبّون من اللّه تعالى ، بمغفرة ذنوبهم التي تقع منهم ، وهم على خشية من اللّه ، كما يقول سبحانه : « وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ » (60 : المؤمنون) ..
وإلى جانب غفران ذنوبهم يكون مضاعفة أجرهم لما يعملون من حسنات .. « لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ».."
وفي التفسير المنير : " أي إن الذين يخافون عذاب ربهم ولم يروه ، فيؤمنون به خوفا من عذابه ، ويخافون اللّه في السر والعلن ، فيخشون ربهم إذا كانوا غائبين
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 715)(1/69)
عن الناس ، بالكف عن المعاصي والقيام بالطاعات ، حيث لا يراهم أحد إلا اللّه تعالى ، هؤلاء لهم مغفرة عظيمة يغفر اللّه بها ذنوبهم ، وثواب جزيل ، وهو الجنة.
ثبت في الصحيحين عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِى ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ إِمَامٌ عَدْلٌ ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِى عِبَادَةِ اللَّهِ ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِى الْمَسَاجِدِ ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِى اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ » . (1) .
وعَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: " حُرِّمَ عَلَى عَيْنَيْنِ أَنْ تَنَالَهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ " (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، رَفَعَهُ قَالَ : لاَ يَدْخُلُ النَّارَ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ وَلاَ يَجْتَمِعُ دُخَانُ جَهَنَّمَ وَغُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللهِ فِي مَنْخِرَيْ عَبْدٍ ، أَوْ قَدَمِ مُسْلِمٍ." (3)
ثم نبّه اللّه تعالى على أنه مطّلع على الضمائر والسرائر ، فقال « وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ » ـ هو بيان شارح ، ودعوة إلى الإيمان بالغيب ، الذي أشار إليه قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ».. أي أن سبحانه وتعالى ، عالم بما نحفى وما نعلن ، مطلع على ما نعمل فى سر أو جهر .. وإذن فليكن سلطان اللّه مشهودا لنا فى كل حال .. وأنه إذا كنا لا نجاهر بالمنكر أمام الناس ، فكيف نجاهر بالمعاصي أمام اللّه ؟
فليس فيما نفعل أو نقول ، سرّ بالنسبة إلى اللّه سبحانه ، بل كل أعمالنا وأقوالنا ، هى جهر منّا بين يديه ، على أية حال لنا .. « سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1423 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2427)
(2) - شعب الإيمان - (6 / 99)(3930 )
(3) - مسند الطيالسي -(2565) صحيح(1/70)
جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ » (10 : الرعد) .. فمن ترك المعاصي جهرا ، ولم يتركها سرّا ، فهو إنما يفعل ذلك خوفا من الناس ، لا من خشية اللّه ، وفى ذلك استخفاف بجلال اللّه ، وسوء أدب مع اللّه .."
أي سواء أخفيتم كلامكم أو جهرتم به ، فاللّه عليم به ، يعلم بما يخطر في القلوب وما تكنّه الضمائر ، لا يخفى عليه منه خافية ، والمراد أن قولكم وعملكم على أي سبيل وجد ، فاللّه عليم به ، فاحذروا من المعاصي سرا كما تحترزون عنها جهرا ، فإن ذلك لا يتفاوت بالنسبة إلى علم اللّه تعالى. وقدّم السر على الجهر لأنه مقدم عليه عادة ، فما من أمر إلا وهو يبدأ أولا في النفس ثم يجهر به ، وللتحذير من التكتم والسر الذي قد يظن عدم العلم به. وقوله : إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ كالعلّة لما قبله.
والآية خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال ، وتشمل ما كانوا يسِرون به من الكلام في أمر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - .
ثم أقام اللّه تعالى الأدلة على سعة علمه ، فقال : « أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ »..هو تقرير لما جاء فى قوله تعالى : « وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ».. فإن علم اللّه سبحانه وتعالى بما نسرّ وما نجهر به من قول ـ أمر لا يصحّ أن ينكره أو يشك فيه عاقل .. فنحن صنعة اللّه .. من التراب ، إلى النطفة ، إلى العلقة ، إلى المضغة ، إلى أن نصبح بشرا سويا .. وإذا كان ذلك شأن اللّه فينا ـ أفيخفى على اللّه بعد ذلك شىء من ظاهرنا ، أو باطننا ؟ أفيخفى على الصانع شىء من أسرار ما صنع ؟ أيخفى على صانع آلة من الآلات البخارية ، أو الكهربية ، أىّ جزء من أجزائها .. دقّ ، أو عظم ؟ ألا يعلم السرّ فى كل حركة من حركاتها ، أو سكنة من سكناتها ؟ ألا يعلم لم تتحرك ، ولم تسكن ؟ ..
فإذا كان ذلك كذلك فيما يخلق المخلوقون ، فكيف لا يكون هذا الربّ العالمين ، وخالق المخلوقين ؟ ..
فالاستفهام فى قوله تعالى : « أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ » استفهام تقريرى ..(1/71)
وقوله تعالى : « وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ » صفتان من صفات اللّه تعالى » تكشفان عن سعة علمه ، ونفوذ هذا العلم إلى أعمق أعماق الوجود .. فهو علم « اللطيف » الذي لا يحجب عنه شىء « الخبير » الذي لا تخفى عليه حقيقة أي شىء .. "
وفي التفسير المنير : أي ألا يعلم الخالق الذي خلق الإنسان وأوجده السرّ ومضمرات القلوب؟ فهو تعالى الذي خلق الإنسان بيده ، وأعلم شيء بالمصنوع صانعه ، وهو العليم بدقائق الأمور ، وما في القلوب ، والخبير بما تسرّه وتضمره من الأمور ، لا تخفى عليه من ذلك خافية. والمراد : ألا يعلم السّر من خلق السّر.
وقيل : معناه : ألا يعلم اللّه مخلوقه؟ قال ابن كثير : والأول (أي ألا يعلم الخالق) أولى لقوله : وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. والواقع أن كلا المعنيين محتمل ، فيمكن جعل مَنْ اسما للخالق جل وعز ، ويكون المعنى : ألا يعلم الخالق خلقه ، كما يمكن جعلها اسما للمخلوق ، ويكون المعنى : ألا يعلم اللّه من خلق.ولا بد من أن يكون الخالق عالما بما خلقه وما يخلقه.
ثم أقام اللّه تعالى الدليل على قدرته ، ونبّه إلى تمام نعمته ، فقال « هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ »..هو خطاب للناس جميعا ، وإلفات لهم إلى فضل اللّه عليهم ، وإحسانه إليهم ، إذ خلقهم ، وأقامهم على خلافة الأرض ، وجعل الحياة فيها ذلولا لهم ، أي مذللة ، ميسرة لهم ، بما أوجد فيها من أسباب الحياة ، وأدوات العمل للعاملين فيها ..
وقوله تعالى : « فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ » هو دعوة إلى العمل فى هذه الحياة ، وإلى السعي فى الأرض ، والضرب فى وجوهها المختلفة .. فاللّه سبحانه قد وضع بين أيدي الناس خيرات كثيرة ممدودة على بساط هذه الأرض ، وعليهم هم أن يتحركوا فى كل وجه على هذا البساط ، وأن يمدّوا أيديهم إلى كل شىء يقدرون عليه من هذا الخير ، فإن هم لم يفعلوا ، فقد بخسوا أنفسهم حقها من الحياة الكريمة على هذه الأرض ، ونزلوا إلى درجة الحيوانات التي تأكل من حشائشها ، وخسيس ثمارها ..(1/72)
ومناكب الأرض ، هى أجزاؤها العليا فيها ، أشبه بمنكبي الإنسان ، وهما جانبا الكتفين .. وهذا يعنى أن يستدعى الإنسان قواه كلها ، وأن يعمل فى الحياة عملا جادّا ، يحشد له طاقانه الجسدية والعقلية ، حتى يأخذ مكانا متمكنا من الأرض ، يستطيع به أن يقهر قوى الطبيعة فيها ، وأن يقودها بقوته ، وأن يتحكم فيها بسلطانه .. فهذا هو مكان الإنسان الذي يعرف قدر إنسانيته ، ويحترم وجوده بين المخلوقات فيها .. إنه الخليفة على هذه الأرض ، ومقام الخلافة يقتضيه أن يأخذ مكان الصدارة فيها ، وأن يجلس مجلس السلطان من رعيته ..
وفى تعدية الفعل « امشوا » بحرف الجر « فى » بدلا من « على » ـ إشارة إلى أن ينفذ الإنسان في أعماق هذه المناكب ، وإلى أن يعمل على كشف أسرارها ، لا مجرد اتخاذها طريقا يمشي عليه ..
وقوله تعالى : « وَإِلَيْهِ النُّشُورُ » هو خاتمة مطاف الإنسان ، بعد انتهاء رحلته فى الأرض .. فهو بعد هذه الرحلة ، تطوى صفحة وجوده على الأرض ، ثم تنشر حياته من جديد ، بين يدى اللّه فى الحياة الآخرة .. "
أي إن اللّه هو الذي سخّر لكم الأرض وذلّلها لكم ، وجعلها سهلة لينة قابلة للاستقرار عليها ، لا تميد ولا تضطرب ، بما جعل فيها من الجبال ، وفجّر فيها الينابيع ، وشقّ الطرق ، وهيّأ المنافع ، وأنبت فيها الزروع وأخرج الثمار ، فسيروا في جوانبها وأقطارها وأرجائها حيث شئتم بحثا عن المكاسب والتجارات والأرزاق ، ولا يغني السعي شيئا عن تيسير اللّه ، لذا قال تعالى : وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ أي مما رزقكم وخلقه لكم في الأرض ، ومكّنكم من الانتفاع بها ، وأعطاكم القدرات على تحصيل خيراتها ، ثم اعلموا أنكم في النهاية صائرون إليه ، فإليه النشور ، أي البعث من قبوركم ، لا إلى غيره ، وإليه المرجع يوم القيامة ، فاحذروا الكفر والمعاصي في السر والعلن.
والآية دليل على قدرة اللّه ومزيد إنعامه على خلقه ، وعلى أن السعي واتخاذ الأسباب لا ينافي التوكل على اللّه ، وعلى أن الاتجار والتكسب مندوب إليه.(1/73)
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" لَوْ تَوَكَّلْتَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ رُزِقْتَ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُوا خِمَاصًا ، وَتَرُوحُ بِطَانًا "
وَفِي رِوَايَةِ " لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا " (1)
فأثبت لها غدوّا ورواحا ، لطلب الرزق ، مع توكلها على اللّه عز وجل ، وهو المسخّر المسيّر المسبّب.
وَرُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَقَالَ: " مَا أَنْتُمْ ؟ " فقَالُوا: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ ، فقَالَ: " بَلْ أَنْتُمُ الْمُتَّكِلُونَ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُتَوَكِّلِينَ ؟ رَجُلٌ أَلْقَى حَبَّةً فِي بَطْنِ الْأَرْضِ، ثُمَّ تَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ "، وَقَوْلُهُ " الْمُتَّكِلُونَ " - يَعْنِي عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ – (2)
ويكون المراد من الآيتين هذه وما قبلها تهديد الكافرين بأن اللّه عالم بسرهم وجهرهم ، وأنه هو المنعم المتفضل عليهم بما يسّر لهم من خيرات الأرض ، فاحذروا عقابه ، فكأنه تعالى قال : أيها الكفار اعلموا أني عالم بسركم وجهركم ، فكونوا خائفين مني ، محترزين من عقابي ، فقد أسكنتكم في هذه الأرض التي ذلّلتها لكم ، وجعلتها سببا لنفعكم ورزقكم ، وإني إن شئت خسفت بكم هذه الأرض ، وأنزلت عليها من السماء أنواع المحن.
ومضات عامة
قال في " الإكليل " : في قوله تعالى : { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ } الأمر بالتسبب والكسب
وقال ابن كثير : في الآية تذكير بنعمته تعالى على خلقه في تسخيره لهم الأرض ، وتذليله إياها لهم ، بأن جعلها ساكنة لا تميد ولا تضطرب بما جعل فيها من الجبال
__________
(1) - شعب الإيمان - (2 / 404) (1139 ) صحيح
أي: لو تعلمون يقينا أنه لا فاعل إلا الله و أنّ كل موجود من خلق ورزق وعطاء ومنع من الله ثم تسعون في الطلب على الوجه الجميل (المشروع) لرزقكم (الاتحاف) 9/388
(2) - شعب الإيمان - (2 / 429) فيه جهالة(1/74)
، وأنبع فيها من العيون ، وسلك فيها من السبل ، وهيَّأ فيها من المنافع ، ومواضع الزرع والثمار . والمعنى : سافِروا حيث شئتم من أقطارها ، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات (1)
وفال دروزة : " إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12). احتوت هذه الآية بيان مصير المؤمنين الذي يتّقون اللّه وعذابه المغيّب عنهم مقابلة لبيان مصير الكفار جريا على الأسلوب القرآني. فإنّ لهم من ربّهم المغفرة والأجر الكبير. وفي الآية بشرى وتطمين وتثبيت للمؤمنين في الوقت نفسه. " (2)
وقال عن الآيتين التاليتين :" المتبادر أن الخطاب في الآية الأولى موجّه للمكذبين ، وفي الآيات والحالة هذه عود على بدء إلى التنديد بالكفار وإنذارهم.
وقد تضمنت الأولى تحديا لهم : فسيّان عند اللّه أن تسروا ما تقولون أو تجهروا به فهو عليم به لأنه عليم بكل ما يجول في صدور الناس وأفكارهم.
وتضمنت الثانية حجّة برهانيّة على ذلك : فاللّه هو الذي خلق الناس ومن الطبيعيّ أن يعلم أعمالهم وما يدور في أفكارهم وما تخفيه صدورهم. وهو اللطيف الذي يعرف دقائق الأمور ، الخبير الذي لا يعزب عن علمه شي ء." (3)
في الآية : هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15).
1 - تذكير بفضل اللّه على الناس بما كان من تسخيره الأرض وتيسيره الانتفاع بخيراتها ليسعوا في مناكبها ويأكلوا من رزقه.
2 - وتقرير بأن مرجع الناس إليه ليحاسبهم على أعمالهم.
وواضح أن الآية استمرار للآيات السابقة سياقا وموضوعا.
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (12 / 500)
(2) - التفسير الحديث لدروزة - (5 / 378)
(3) - التفسير الحديث لدروزة - (5 / 378)(1/75)
ومع أن من المحتمل أن يكون الخطاب فيها موجها للكافرين الذين هم موضوع الخطاب في الآيات السابقة فإنها تنطوي على ما هو المتبادر على تلقينات جليلة المدى :
1 - فقد سخّر اللّه الدنيا للجميع فليس لأحد أن يمنع أحدا من السعي في مناكبها والانتفاع منها.
2 - وقد حثّ الجميع على السعي في مناكبها فليس لأحد أن يأكل سعي غيره أو يسلبه ثمرات سعيه ويقعد هو عن السعي.
3 - وقد سخّر الدنيا ومنافعها لجميع الناس ولكنه نبههم إلى أن هذه المنافع لا تنال إلّا بالسعي والعمل.
4 - وقد قرر أن الرزق الذي يستخرجه الناس من الأرض هو في الحقيقة رزقه لأنه هو الذي خلق مادته وأوجد القوى والأسباب التي تساعد على إخراجه ، فلا حقّ لأحد أن يدّعيه لنفسه أو يحتكره من دون الناس. (1)
وفي الظلال : " تتمة لمدلول الآية الثانية في السورة : «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» .. بذكر الجزاء بعد ذكر الابتلاء : «إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» ..
والغيب المشار إليه هنا يشمل خشيتهم لربهم الذي لم يروه ، كما يشمل خشيتهم لربهم وهم في خفية عن الأعين ، وكلاهما معنى كبير ، وشعور نظيف ، وإدراك بصير. يؤهل لهذا الجزاء العظيم الذي يذكره السياق في إجمال : وهو المغفرة والتكفير ، والأجر الكبير.
ووصل القلب باللّه في السر والخفية ، وبالغيب الذي لا تطلع عليه العيون ، هو ميزان الحساسية في القلب البشري وضمانة الحياة للضمير .. عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ عَلَى الْحَالِ، فَإِذَا فَارَقْنَاكَ كُنَّا عَلَى غَيْرِهَا، فَنَخَافُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نِفَاقًا قَالَ: " كَيْفَ أَنْتُمْ وَرَبَّكُمْ ؟ " قَالُوا: اللهُ رَبُّنَا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ،
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة - (5 / 379)(1/76)
قَالَ: " كَيْفَ أَنْتُمْ وَنَبِيَّكُمْ ؟ " قَالُوا أَنْتَ نَبِيُّنَا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ قَالَ: " لَيْسَ ذَلِكُمُ النِّفَاقَ " (1) ..
فالصلة باللّه هي الأصل. فمتى انعقدت في القلب فهو مؤمن صادق موصول.
وهذه الآية السابقة تربط ما قبلها في السياق بما بعدها ، في تقرير علم اللّه بالسر والجهر ، وهو يتحدى البشر.
وهو الذي خلق نفوسهم ، ويعلم مداخلها ومكامنها ، التي أودعها إياها : «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟».
أسروا أو اجهروا فهو مكشوف لعلم اللّه سواء. وهو يعلم ما هو أخفى من الجهر والسر. «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» التي لم تفارق الصدور! عليم بها ، فهو الذي خلقها في الصدور ، كما خلق الصدور! «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؟» ألا يعلم وهو الذي خلق؟ «وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟» الذي يصل علمه إلى الدقيق الصغير والخفي المستور.
إن البشر وهم يحاولون التخفي من اللّه بحركة أو سر أو نية في الضمير ، يبدون مضحكين! فالضمير الذي يخفون فيه نيتهم من خلق اللّه ، وهو يعلم دروبه وخفاياه. والنية التي يخفونها هي كذلك من خلقه وهو يعلمها ويعلم أين تكون. فماذا يخفون؟ وأين يستخفون؟
والقرآن يعنى بتقرير هذه الحقيقة في الضمير. لأن استقرارها فيه ينشئ له إدراكا صحيحا للأمور. فوق ما يودعه هناك من يقظة وحساسية وتقوى ، تناط بها الأمانة التي يحملها المؤمن في هذه الأرض. أمانة العقيدة وأمانة العدالة ، وأمانة التجرد للّه في العمل والنية. وهو لا يتحقق إلا حين يستيقن القلب أنه هو وما يكمن فيه من سر ونية هو من خلق اللّه الذي يعلمه اللّه. وهو اللطيف الخبير ..
__________
(1) - شعب الإيمان - (2 / 345) (1029 ) ومسند البزار - (2 / 319) (6904) حسن(1/77)
عندئذ يتقي المؤمن النية المكنونة ، والهاجس الدفين ، كما يتقي الحركة المنظورة ، والصوت الجهير. وهو يتعامل مع اللّه الذي يعلم السر والجهر ، اللّه الذي خلق الصدور فهو يعلم ما في الصدور.
ثم ينتقل بهم السياق من ذوات أنفسهم التي خلقها اللّه ، إلى الأرض التي خلقها لهم ، وذللها وأودعها أسباب الحياة : «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا ، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» ..
والناس لطول ألفتهم لحياتهم على هذه الأرض وسهولة استقرارهم عليها ، وسيرهم فيها ، واستغلالهم لتربتها ومائها وهوائها وكنوزها وقواها وأرزاقها جميعا .. ينسون نعمة اللّه في تذليلها لهم وتسخيرها. والقرآن يذكرهم هذه النعمة الهائلة ، ويبصرهم بها ، في هذا التعبير الذي يدرك منه كل أحد وكل جيل بقدر ما ينكشف له من علم هذه الأرض الذلول.
والأرض الذلول كانت تعني في أذهان المخاطبين القدامى ، هذه الأرض المذللة للسير فيها بالقدم وعلى الدابة ، وبالفلك التي تمخر البحار. والمذللة للزرع والجني والحصاد. والمذللة للحياة فيها بما تحويه من هواء وماء وتربة تصلح للزرع والإنبات.
وهي مدلولات مجملة يفصلها العلم - فيما اهتدى إليه حتى اليوم - تفصيلا يمد في مساحة النص القرآني في الإدراك.
فمما يقوله العلم في مدلول الأرض الذلول : إن هذا الوصف : «ذَلُولًا» .. الذي يطلق عادة على الدابة ، مقصود في إطلاقه على الأرض! فالأرض هذه التي نراها ثابتة مستقرة ساكنة ، هي دابة متحركة .. بل رامحة راكضة مهطعة!! وهي في الوقت ذاته ذلول لا تلقي براكبها عن ظهرها ، ولا تتعثر خطاها ، ولا تخضه وتهزه وترهقه كالدابة غير الذلول! ثم هي دابة حلوب مثلما هي ذلول! إن هذه الدابة التي نركبها تدور حول نفسها بسرعة ألف ميل في الساعة ، ثم تدور مع هذا حول الشمس بسرعة حوالي خمسة وستين ألف ميل في الساعة. ثم تركض هي والشمس(1/78)
والمجموعة الشمسية كلها بمعدل عشرين ألف ميل في الساعة ، مبتعدة نحو برج الجبار في السماء .. ومع هذا الركض كله يبقى الإنسان على ظهرها آمنا مستريحا مطمئنا معافى لا تتمزق أوصاله ، ولا تتناثر أشلاؤه ، بل لا يرتج مخه ولا يدوخ ، ولا يقع مرة عن ظهر هذه الدابة الذلول!
وهذه الحركات الثلاث لها حكمة. وقد عرفنا أثر اثنتين منها في حياة هذا الإنسان ، بل في الحياة كلها على ظهر هذه الأرض. فدورة الأرض حول نفسها هي التي ينشأ عنها الليل والنهار. ولو كان الليل سرمدا لجمدت الحياة كلها من البرد ، ولو كان النهار سرمدا لاحترقت الحياة كلها من الحر .. ودورتها حول الشمس هي التي تنشأ عنها الفصول. ولو دام فصل واحد على الأرض ما قامت الحياة في شكلها هذا كما أرادها اللّه. أما الحركة الثالثة - فلم يكشف ستار الغيب عن حكمتها بعد. ولا بد أن لها ارتباطا بالتناسق الكوني الكبير.
وهذه الدابة الذلول التي تتحرك كل هذه الحركات الهائلة في وقت واحد ، ثابتة على وضع واحد في أثناء الحركة - يحدده ميل محورها بمقدار 5 ، 23 لأن هذا الميل هو الذي تنشأ عنه الفصول الأربعة مع حركة الأرض حول الشمس ، والذي لو اختل في أثناء الحركة لاختلت الفصول التي تترتب عليها دورة النبات بل دورة الحياة كلها في هذه الحياة الدنيا!
واللّه جعل الأرض ذلولا للبشر بأن جعل لها جاذبية تشدهم إليها في أثناء حركاتها الكبرى ، كما جعل لها ضغطا جويا يسمح بسهولة الحركة فوقها. ولو كان الضغط الجوي أثقل من هذا لتعذر أو تعسر على الإنسان أن يسير ويتنقل - حسب درجة ثقل الضغط - فإما أن يسحقه أو يعوقه. ولو كان أخف لاضطربت خطى الإنسان أو لانفجرت تجاويفه لزيادة ضغطه الذاتي على ضغط الهواء حوله ، كما يقع لمن يرتفعون في طبقات الجو العليا بدون تكييف لضغط الهواء!
واللّه جعل الأرض ذلولا ببسط سطحها وتكوين هذه التربة اللينة فوق السطح. ولو كانت صخورا صلدة - كما يفترض العلم بعد برودها وتجمدها - لتعذر(1/79)
السير فيها ، ولتعذر الإنبات. ولكن العوامل الجوية من هواء وأمطار وغيرها هي التي فتتت هذه الصخور الصلدة ، وأنشأ اللّه بها هذه التربة الخصبة الصالحة للحياة. وأنشأ ما فيها من النبات والأرزاق التي يحلبها راكبو هذه الدابة الذلول!
واللّه جعل الأرض ذلولا بأن جعل الهواء المحيط بها محتويا للعناصر التي تحتاج الحياة إليها ، بالنسب الدقيقة التي لو اختلت ما قامت الحياة ، وما عاشت إن قدر لها أن تقوم من الأساس. فنسبة الأكسجين فيه هي 21 تقريبا ونسبة الأزوت أو النتروجين هي 78 تقريبا والبقية من ثاني أكسيد الكربون بنسبة ثلاثة أجزاء من عشرة آلاف وعناصر أخرى.
وهذه النسب هي اللازمة بالضبط لقيام الحياة على الأرض! واللّه جعل الأرض ذلولا بآلاف من هذه الموافقات الضرورية لقيام الحياة .. ومنها حجم الأرض وحجم الشمس والقمر ، وبعد الأرض عن الشمس والقمر. ودرجة حرارة الشمس. وسمك قشرة الأرض. ودرجة سرعتها. وميل محورها. ونسبة توزيع الماء واليابس فيها. وكثافة الهواء المحيط بها .. إلى آخره .. إلى آخره.
وهذه الموافقات مجتمعة هي التي جعلت الأرض ذلولا. وهي التي جعلت فيها رزقا ، وهي التي سمحت بوجود الحياة ، وبحياة هذا الإنسان على وجه خاص.
والنص القرآني يشير إلى هذه الحقائق ليعيها كل فرد وكل جيل بالقدر الذي يطيق ، وبالقدر الذي يبلغ إليه علمه وملاحظته ، ليشعر بيد اللّه - الذي بيده الملك - وهي تتولاه وتتولى كل شيء حوله ، وتذلل له الأرض ، وتحفظه وتحفظها. ولو تراخت لحظة واحدة عن الحفظ لاختل هذا الكون كله وتحطم بمن عليه وما عليه! فإذا استيقظ ضميره لهذه الحقيقة الهائلة أذن له الخالق الرحمن الرحيم بالمشي في مناكبها والأكل من رزقه فيها : «فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ».والمناكب المرتفعات ، أو الجوانب. وإذا أذن له بالمشي في مناكبها فقد أذن له بالمشي في سهولها وبطاحها من باب أولى. فمتى أذن له في الشموس منها فقد أذن له في الذلول! والرزق الذي فيها كله من خلقه ، وكله من ملكه ، وهو أوسع مدلولا مما(1/80)
يتبادر إلى أذهان الناس من كلمة الرزق. فليس هو المال الذي يجده أحدهم في يده ، ليحصل به على حاجياته ومتاعه. إنما هو كل ما أودعه اللّه هذه الأرض ، من أسباب الرزق ومكوناته. وهي في الأصل ترجع إلى طبيعة تكوين الأرض من عناصرها التي تكونت منها ، وطبيعة تقسيم هذه العناصر بهذه النسب التي وجدت بها. ثم القدرة التي أودعها اللّه النبات والحيوان - ومنه الإنسان - على الانتفاع بهذه العناصر.
وفي اختصار نشير إلى أطراف من حقيقة الرزق بهذا المعنى : «تعتمد حياة كل نبات كما هو معروف على المقادير التي تكاد تكون متناهية في الصغر من ثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء ، والتي يمكن القول بأنها تتنسمها. ولكي نوضح هذا التفاعل الكيماوي المركب المختص بالتركيب الضوئي بأبسط طريقة ممكنة نقول : «إن أوراق الشجر هي رئات ، وإن لها القدرة في ضوء الشمس على تجزئة ثاني أكسيد الكربون العنيد إلى كربون وأكسجين. وبتعبير آخر يلفظ الأكسجين ويحتفظ بالكربون متحدا مع هيدروجين الماء الذي يستمده النبات من جذوره (حيث يفصل الماء إلى هيدروجين وأكسجين).
وبكيمياء سحرية تصنع الطبيعة من هذه العناصر سكرا أو سليلوزا ومواد كيمائية أخرى عديدة ، وفواكه وأزهارا.
ويغذي النبات نفسه ، وينتج فائضا يكفي لتغذية كل حيوان على وجه الأرض. وفي الوقت نفسه يلفظ النبات الأكسجين الذي نتنسمه والذي بدونه تنتهي الحياة بعد خمس دقائق.
«وهكذا نجد أن جميع النباتات والغابات والأعشاب وكل قطعة من الطحلب ، وكل ما يتعلق بمياه الزرع ، تبني تكوينها من الكربون والماء على الأخص. والحيوانات تلفظ ثاني أكسيد الكربون ، بينما تلفظ النباتات الأكسجين. ولو كانت هذه المقايضة غير قائمة ، فإن الحياة الحيوانية أو النباتية كانت تستنفد في النهاية كل الأكسجين ، أو كل ثاني أكسيد الكربون تقريبا. ومتى انقلب التوازن(1/81)
تماما ذوى النبات أو مات الإنسان ، فيلحق به الآخر وشيكا. وقد اكتشف أخيرا أن وجود ثاني أكسيد الكربون بمقادير صغيرة هو أيضا ضروري لمعظم حياة الحيوان ، كما اكتشف أن النباتات تستخدم بعض الأكسجين.
«ويجب أن يضاف الهيدروجين أيضا ، وإن كنا لا نتنسمه. فبدون الهيدروجين كان الماء لا يوجد. ونسبة الماء من المادة الحيوانية أو النباتية هي كبيرة لدرجة تدعو إلى الدهشةو لا غنى عنه مطلقا» .
وهناك دور الأزوت أو النتروجين في رزق الأرض.
«وبدون النتروجين في شكل ما لا يمكن أن ينمو أي نبات من النباتات الغذائية. وإحدى الوسيلتين اللتين يدخل بها النتروجين في التربة الزراعية هي طريق نشاط جراثيم «بكتريا» معينة تسكن في جذور النباتات البقلية ، مثل البرسيم والحمص والبسلة والفول وكثير غيرها. وهذه الجراثيم تأخذ نتروجين الهواء وتحيله إلى نتروجين مركب قابل لأن يمتصه النبات وحين يموت النبات يبقى بعض هذا النتروجين المركب في الأرض.
«وهناك طريقة أخرى يدخل بها النتروجين إلى الأرض. وذلك عن طريق عواصف الرعد. وكلما ومض برق خلال الهواء ، وحد بين قدر قليل من الأكسجين وبين النتروجين ، فيسقطه المطر إلى الأرض كنتروجين مركب » (أي في الصورة التي يستطيع النبات امتصاصها لأنه لا يقدر على امتصاص النتروجين الخالص من الهواء ونسبته فيه حوالي 78 كما أسلفنا).
والأرزاق المخبوءة في جوف الأرض من معادن جامدة وسائلة كلها ترجع إلى طبيعة تكوين الأرض والأحوال التي لابستها. ولا نطيل شرحها. فالرزق في ضوء هذه البيانات السريعة أوسع مدلولا مما يفهمه الناس من هذا اللفظ. وأعمق أسبابا في تكوين الأرض ذاتها وفي تصميم الكون كله. وحين يأذن اللّه للناس في الأكل منه ، فهو يتفضل بتسخيره لهم وتيسير تناوله كما يمنح البشر القدرة على تناولها والانتفاع بها : «فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» ..وهو محدود بزمن مقدر في(1/82)
علم اللّه وتدبيره زمن الابتلاء بالموت والحياة ، وبكل ما يسخره اللّه للناس في هذه الحياة. فإذا انقضت فترة الابتلاء كان الموت وكان ما بعده : «وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» ..إليه .. وإلّا فإلى أين إن لم يكن إليه؟ والملك بيده؟ ولا ملجأ منه إلا إليه؟ وهو على كل شيء قدير؟ " (1)
ما يستفاد من الآيات
يستدل بالآيات على ما يأتي :
1- فضيلة الإيمان بالغيب ومراقبة الله تعالى في السر والعلن .
2- مشروعية السير في الأرض لطلب الرزق من التجارة والفلاحة وغيرهما
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء . (2)
3 - إن خشية اللّه ، والخوف من عذابه وعقابه ، ومجاهدة الشيطان واجب كل إنسان ، وإن الذين يخافون اللّه ، ويخافون عذابه الغائب عنهم وهو عذاب يوم القيامة ، ويراقبون اللّه في سرهم وعلنهم ، لهم مغفرة لذنوبهم ، وثواب كبير وهو الجنة.
4 - إن اللّه تعالى عالم على السواء بالجهر وبالسر ، وبما في الصدور من خطرات وخفايا وبما في القلوب من الخير والشر. وعليه يكون ما أخفاه المشركون من الكلام في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وما جهروا به معلوما تمام العلم للّه عز وجل. كذلك كل ما يكيد به الناس للإسلام وقرآنه ونبيه - صلى الله عليه وسلم - وأهله في كل عصر ، دولا وأفرادا ، يعلم به اللّه ، ويعاقب أهل الكيد والمكر والشر والضلال عليه.
5 - الدليل على كونه تعالى عالما بجميع الأشياء السرية والعلنية أنه هو الخالق للإنسان وأفعاله وأقواله ، ومن خلق شيئا لا بد وأن يكون عالما بمخلوقه.
6 - إن الأرض وما فيها من خيرات ومنافع وكنوز مسخرة للإنسان هي من نعمة اللّه وفضله ، وهي حقل التجارب ، ومرصد السلوك الإنساني ، واللّه الذي ذلّلها
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3635)
(2) - أيسر التفاسير للجزائري - (4 / 288)(1/83)
ويسّر لعباده الأرزاق فيها قادر أيضا على أن يخسفها بأهلها وسكانها ، ويكون المصير والمرجع إليه بعد البعث من القبور للحساب والجزاء ، فما على الناس إلا استعمال الأرض في الخير ، والبعد عن الشر والمنكرات والكفر والمعاصي.
****************(1/84)
المطلب الرابع
أنواع من الوعيد والتهديد والعبرة بالأمم السابقة
قال تعالى :
{ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) }
شرح الكلمات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
16 ... مَنْ فِي السَّمَاءِ ... الله فوق السموات وفوق العرش
16 ... يَخْسِفَ بِكُمُ ... تغور بكم
16 ... تَمُورُ ... تتحرك وتضطرب
17 ... حَاصِبًا ... ريحا من السماء فيها حصباء
17 ... كَيْفَ نَذِيرِ ... كيف عاقبة إنذاري
18 ... كَانَ نَكِيرِ ... إنكاري عليهم بإهلاكهم
19 ... صَافَّاتِ وَيَقْبِضْنَ ... تبسط أجنحتها تارة ثم تجمعها
19 ... مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ ... يمسكهن بما سخر لهن من الهواء
19 ... إِنَّهُ بِكُلَِّ شَئٍ بَصِيرٌ ... بما يصلح كل شئ من مخلوقاته (1)
البلاغة :
صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ بينهما طباق لأن المعنى صافات وقابضات.
نَذِيرِ ، نَكِيرِ ، بَصِيرٌ سجع مرصّع مراعاة لرؤوس الآيات.
المناسبة :
__________
(1) كلمات القرآن للشيخ غازي الدروبي - (22 / 1)(1/85)
بعد بيان الأدلة على علم اللّه وقدرته لترهيب الكافرين وتخويفهم ، أورد تعالى أدلة أخرى بقصد الوعيد والتهديد ، من إمكان الخسف العاجل بأهل الأرض ، أو إرسال الريح الحاصب التي تدمر كل شيء ، مع التذكير بإهلاك الأمم السابقة كعاد وثمود وقوم نوح وفرعون وجنوده ، وإقدار الطير على الطيران في جو السماء.
المعنى العام :
بعد أن ذكر ما أعده للكافرين من نار تلظى ، ووصف هذه النار بما تشيب من هوله الولدان - أردف ذلك بترهيبهم وتخويفهم بأنهم لا يأمنون أن يحل بهم فى الدنيا مثل ما حل بالمكذبين بالرسل من قبلهم : من خسف عاجل تمور به الأرض مورا ، أو ريح حاصب تهلك الحرث والنسل ، ولا تبقى منهم ديّارا ولا نافخ نار ثم ضرب لهم المثل بما حل بالأمم قبلهم من ضروب المحن والبلاء ، فقد أهلكت ثمود بصاعقة لم تبق ولم تذر ، وأهلكت عاد بالريح الصرصر العاتية التي سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما - متتابعة - وأهلك فرعون وقومه بالغرق فى بحر القلزم (البحر الأحمر) ثم لفت أنظارهم إلى باهر قدرته ، وعظيم منّته على عباده ، فطلب منهم أن يروا الطير وهى تبسط أجنحتها فى الجو تارة ، وتضمها أخرى بتسخير اللّه وتعليمه ما هى فى حاجة إليه. (1)
فاحذروا أيها الناس هذا التمادي في الباطل ، والتكذيب للرسل ، واذكروا أنه تعالى جعل لكم الأرض سهلة لينة منقادة انقياد الدابة الذلول ، فدعوا إذن العناد والتكذيب ، واعلموا أن إليه النشور ، وإليه وحده مرجع الإنسان في الحياة الأخرى ليحاسبه ويجازيه.
واعلموا أيها الناس أن اللّه قادر على تبديل النعم بالنقم ، فاحذروا عقابه ، واخشوا غضبه ، أأمنتم الحق - تبارك وتعالى - أن يخسف بكم الأرض ، ويغيبكم فيها ، فإذا هي تتحرك بشدة حركة غير عادية ؟ أأمنتم أيها القوم ذلك الإله العظيم الذي
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 16)(1/86)
تعتقدون أنه موجود في السماء - مع أنه ثبت بالدليل العقلي أن اللّه ليس له مكان بل هو موجود بقدرته وعلمه وإحاطته في كل مكان - أأمنتم أن يهلككم ، ويبيدكم ، ويغير هذه الأرض الذلول التي تنتفعون بها في كل شيء ، فإذا هي تمور وتضطرب ؟ !
بل أأمنتم اللّه الذي هو في السماء - كما تعتقدون - أن يرسل ريحا شديدة تثير الحصباء وتحملها ، هذه الريح ترسل عليكم فتهلككم وتستأصل شأفتكم ؟ !
انظر إلى ترتيب الآيات ترتيبا محكما دقيقا حيث ذكرهم ربك بنعمة صلاحية الأرض للمعيشة ، ثم حذرهم عاقبة التمادي في الباطل ، وأن من الحكمة ألا يأمنوا زوال النعم فإن اللّه قادر على سلبهم إياها ، فبعد أن تكون الأرض ذلولا تصبح كالفرس الجموح فترجف وتضطرب اضطراب خسف وهلاك حتى تبتلعهم ، وكأن العرب استبعدوا هذا ، فأضرب الحق - تبارك وتعالى - عن تهديدهم بهذا إلى تهديدهم بشيء كثير الحصول عندهم ، وهو الريح الحاصب التي تنزع الناس ، وتتركهم هلكى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية ؟ ! وفيه يتبين إنذار اللّه لهم حقا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ؟ !
ثم أراد اللّه أن يهددهم بأسلوب آخر يكون بلفت نظرهم إلى من تقدمهم من الأمم التي كذبت رسلها ، وأبيدت عن آخرها ، وفي ذلك سلوى للرسول الأكرم.
ولقد كذب الذين من قبلهم من الأمم السابقة التي عرفوها ، وكانوا يمرون على آثارهم ، فغضب اللّه عليهم وأذاقهم عذاب الحياة الدنيا ، وخسف بهم الأرض ، وأهلكهم وتلك آثارهم ، فانظروا كيف كان نكيري وسخطى على الكفار ؟ !
هؤلاء كذبوا برسلهم ، واستخفوا بوعيدهم ، واغتروا بمالهم ، فكانت عاقبة أمرهم خسرا في الدنيا والآخرة ، وكان المشركون من العرب يعتقدون أن ما يهددون به لن يحل أبدا ، فذكرهم بما حل بغيرهم. وذكر لهم بعض آيات قدرته في الكون ليعلموا أن اللّه على كل شيء قدير. فقال ما معناه : أليس من عجائب القدرة ما يراه الإنسان في كل وقت وآن ، من تحليق الطيور في أجواز الفضاء ، من الذي(1/87)
رفعها ، ومن الذي منعها من السقوط ، ومن الذي أوجد فيها القدرة على الطيران ، وللتحرك في السماء ، من الذي ركبها تركيبا به تقوى على ذلك ؟ أليس هذا من عجائب صنع اللّه ؟ أعموا ولم يروا إلى الطير فوقهم صافات أجنحتهن تارة ، ويقبضنها تارة أخرى ، ما فعل هذا إلا الرحمن الذي سهل لذلك الحيوان وسائل الطير والانتقال ، كان هذا أساسا لتفكير الإنسان في الطيران ، إنه بكل شيء بصير .. بسط الطائر لجناحه أساس طيرانه ، وقد يبقى مستمرّا عليه ساعات ، وقبضه له وهو يطير قليل الحصول ، عارض متجدد. ومن هنا عبر عند البسط بقوله : « صافّات » وعند القبض بقوله : « يقبضن » (1) .
أولم ينظر المشركون إلى عجيب صنع اللّه وإلى آثار قدرته الظاهرة في طيران الطائر في الهواء فيعرفوا مبلغ قدرة اللّه على إنزال العذاب بهم ؟! (2)
التفسير والبيان :
« أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ ».مناسبة هذه الآية لما قبلها ، هى أن الآية السابقة كانت دعوة موجهة من اللّه سبحانه وتعالى إلى الناس جميعا ، أن يأخذوا أماكنهم من الأرض ، وأن يعملوا قواهم كلها فيما أودع اللّه لهم فيها من خير ، ليقطفوا من ثمارها ، ويأكلوا من طيباتها .. وذلك فى قوله تعالى : « هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ».. وهذه الأرض التي مكّن اللّه سبحانه للناس من السعي فيها ـ من يمسكها أن أن تميد بهم ؟ ومن يحفظ وجودهم عليها ، فلا تفتح فاها لتبتلعهم ؟ أليس ذلك من تدبير الحكيم العليم ؟ ومن رحمة الرحمن الرحيم ؟! ..
فما بال هؤلاء المشركين لا يؤمنون باللّه ،وقد جاءهم رسول كريم يدعوهم إلى اللّه ، ويحمل بين يديه كتابا منيرا ، تنطق كل آية من آياته بمعجزة قاهرة متحدّية ؟ .
__________
(1) - - هذا جواب عن سؤال حاصله : لما ذا عبر القرآن بقوله : (صافات ويقبضن) مخالفا بين اللفظين ولم يأت بهما فعلين أو اسمين ؟ ومحور الجواب أن اسم الفاعل يدل على الدوام والاستمرار والفعل يدل على الحدوث والتجدد ، والصف أى : البسط كثير دائم عند الطيران ، والقبض قليل غير متجدد.
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 716)(1/88)
أأمنوا أن يخسف اللّه بهم الأرض ، فإذا هى « تمور » أي تضطرب وترتجف بما يحدثه هذا الخسف من انقلاب ، تفقد به توازنها ، وتلقى بهم من فوق ظهرها ؟ أأمنوا عذاب اللّه أن ينزل بهم وهم على هذه الأرض وقد حادّوا اللّه وحاربوه .. ؟
والمور : الاضطراب الشديد ، المنبعث من رجّة عظيمة ، ومنه قوله تعالى : « يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً » (9 : الطور) .. وفى قوله تعالى : « مَنْ فِي السَّماءِ » ـ إشارة إلى علوّ سلطان اللّه ،وإلى تمكّنه منهم .. وليس فى هذه المكانية تحديد لوجود اللّه ، وإنما هي إشارة إلى علوّ سلطانه ، وتمكن قدرته." (1)
أي هل تأمنون أن يخسف أو يغور ويقلع اللّه بكم الأرض ، كما خسف بقارون بعد ما جعلها لكم ذلولا تمشون في مناكبها ، فإذا هي تضطرب وتتحرك وتموج بكم؟
والمراد بهذا الاستفهام الوعيد والإخبار بأنه تعالى قادر على تعذيب من كفر باللّه وأشرك معه إلها آخر.ونظير الآية قوله تعالى : قُلْ : هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام 6/ 65].
ولكن من لطفه ورحمته تعالى بخلقه أنه يحلم ويصفح ، ويؤجل ولا يعجّل كما قال تعالى : وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ ، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً [فاطر 35/ 45].
ثم أتبع اللّه تعالى ذلك بوعيد آخر « أَم أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ »..
الحاصب : ما يحصب به ، أي يقذف به من حصا ونحوه .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى للكافرين والمشركين : « إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ » (98 : الأنبياء) ..أي أنهم يلقون فيها كما يلقى الحصا .. ومنه الحصباء ، وهى دقاق الحصا ..
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1062)(1/89)
وفى الآية ، تهديد للمشركين بأن يرموا من بالسماء بالصواعق والرجوم ، إن لم تأخذهم الأرض بالزلازل والخسف .. فهم واقعون تحت البلاء ، يأخذهم من السماء ، أو يأتيهم من الأرض ، أو من السماء والأرض معا ..فكيف يبيتون على أمن من هذا البلاء ، وهم على عداوة ظاهرة للّه ، وفى حرب سافرة معه ، ومع رسوله ، ومع أوليائه المؤمنين به .. ؟
وفى قوله تعالى : « فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ » تهديد بعد تهديد ، بأنهم إن أمهلهم اللّه سبحانه ، فلم يعجل لهم العقاب ، فإن عقاب اللّه راصد لهم ، إن لم يلقهم اليوم فغدا ، وإن لم يأخذهم به في الدنيا ، أخذهم به فى الآخرة ، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون .. " (1)
أي بل هل أمنتم ربكم اللّه الذي هو في السماء كما تزعمون ، وهل أمنتم سلطانه وملكوته وقهره أن يرسل عليكم ريحا مصحوبة بحجارة من السماء ، كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل في مكة،وحينئذ تعلمون إذا عاينتم العذاب كيفية إنذاري وعقابي لمن خالف وكذب به ، ولكن لا ينفعكم هذا العلم؟! ونظير الآية قوله تعالى : أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ ، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ، ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا [الإسراء 17/ 78].
ثم ذكّر اللّه تعالى بعذاب الأمم المتقدمة مؤكدا تخويف الكفار بالمثال والبرهان ، أما المثال فهو : « وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ »..وفى هذا إلفات للمشركين إلى ما كان للّه سبحانه من نقم ، ومن مهلكات أرسلها على الذين كفروا من قبلهم .. فلينظروا فى آثار هؤلاء الذين كفروا من قبلهم ، وليشهدوا كيف كان أخذ اللّه لهم ، بعد أن أتوا ما أنكره اللّه تعالى عليهم من منكررات .. إذ ليس وراء هذا الإنكار من اللّه ، إلا الانتقام والعذاب." (2)
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1063)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1064)(1/90)
أي إن الكفار الذين كانوا قبلهم ، والذين كذبوا الرسل ، شاهدوا أمثال هذه العقوبات بسبب كفرهم ، كعاد وثمود وكفار الأمم ، فحاق بهم سوء العذاب ، وانظروا كيف كان إنكاري عليهم بما أوقعته بهم من العذاب الشديد؟
وأما البرهان فقد ذكر تعالى عدة براهين على كمال قدرته ، مما يدل على كونه تعالى قادرا على إيقاع جميع أنواع العذاب بالكفار.
وهذا هو البرهان الأول « أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ .. ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ »..هو دعوة مجدّدة إلى هؤلاء المشركين ، أن يعيدوا النظر فى موقفهم الضال عن طريق الهدى ، بعد أن طالت مسيرتهم فى هذا الطريق المنحرف ، وبعد أن أصبحوا فى معرض سخط اللّه ، ونقمته .. فتلك هي فرصتهم الأخيرة ، إن أفلتت منهم ، ولم يستقيموا على الطريق المستقيم ، فليس لهم بعد هذا إلا أن يردوا موارد الهالكين ..
والدعوة التي يدعَى إليها المشركون هنا ، للإيمان باللّه ، والاستقامة على طريق الحق ـ هى دعوة موجهة إلى عقولهم التي غطّى عليها الجهل والضلال ، وذلك بأن يوقظوا هذه العقول ، وأن ينظروا بها إلى آيات اللّه التي بين أيديهم من صحف الوجود ، بعد أن أصمّوا آذانهم عن آيات اللّه التي تتلى عليهم .. وآيات اللّه التي بين أيديهم كثيرة لا يحصرها عدّ ..
ثم إنه لكيلا تزيغ أبصارهم ، ولا تضطرب عقولهم أمام هذه الآيات الكثيرة ـ فها هي ذى آية وضعها اللّه تعالى بين أيديهم ، ودعاهم إلى النظر فيها ، وتقليبها على جميع وجوهها ..
فلينظروا إلى الطير ، وقد صفت أجنحتها ـ أي بسطتها فى جو السماء ـ ثم لينظروا إليها ، وقد قبضت هذه الأجنحة ، أو ضمتها ، وهي فى حالتيها تلك ، محلقة فى الجو ، سابحة فى السماء ، لا تسقط ، كما تسقط الأجسام من أعلى إلى أسفل ..(1/91)
لينظروا إلى الطير فى حاليها تلك .. فماذا يقع فى عقولهم من هذا النظر ، إن كان لهم نظر ، وكانت لهم عقول ؟ ..
من يمسك هذه الطير ؟ ومن منحها تلك القدرة على أن تسبح فى السماء. ومن يمسكها أن تسقط من الجو ؟ « ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ».. فأين أبصارهم ؟ وأين ما تعطيه هذه الأبصار من شواهد على وجودها .. ؟ " (1)
أي أولم ينظروا إلى الطير فوقهم في الجو أو الهواء ، وهن باسطات أجنحتها تارة ، وقابضات ضامات لها تارة أخرى ، ما يمسكهن في الهواء عند الطيران والقبض والبسط إلا الإله الرحمن القادر على كل شيء ، بما سخّر لهن من الهواء برحمته ولطفه ، إنه سبحانه عليم بصير بما يصلح كل شيء من مخلوقاته ، لا يخفى عليه شيء من دقائق الأمور وعظائمها.ونظير الآية : أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ، ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل 16/ 79].
قالوا : وفي الآية دليل على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة للّه تعالى لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري لها ، وقد أضافه اللّه تعالى إلى نفسه.
ومضات عامة
قال دروزة :" هذه الآيات موجهة أيضا للسامعين الكافرين.وقد تضمنت :
1 - إنذارا بأسلوب سؤال إنكاري عمّا إذا كانوا آمنوا وهم يكذبون بآيات اللّه و رسله من أن يخسف اللّه بهم الأرض فتميد تحت أقدامهم أو يرسل عليهم رجوما من الحجارة فيرون حينئذ مصداق نذره ووعيده.
2 - وتذكيرا لهم بما كان من تكذيب الأمم السابقة وبما كان من عذاب اللّه فيهم.
3 - ولفتا لنظرهم إلى الطير التي تطير في السماء فتبسط أجنحتها أو تقبضها وما يمسكها عن السقوط إلا اللّه حيث ينطوي في هذه الظاهرة دليل على قدرة اللّه وكونه البصير بكل شيء المدبّر لكل شي ء.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1066)(1/92)
4 - وتنديدا إنذاريا آخر بأسلوب السؤال الإنكاري عمّن يمكن أن ينصرهم من دون اللّه إذا ما جاء وقت عذابه لهم أو عمّن يرزقهم غيره إذا هو أمسك عليهم الرزق ، ومع ذلك فقد تمادوا في العتوّ والتمرّد على دعوة اللّه والنفور منها حيث صاروا بذلك مستحقين لهذا وذاك.
5 - سؤالا تنديديا آخر عمن هو الأفضل أهو الذي يمشي مكبّا على وجهه لا يرى طريقه ، أم هو المستقيم في مشيته الذي يرى الطريق الواضح المستقيم ويسير فيه.
والآيات استمرار للآيات السابقة سياقا وموضوعا. وهي قوية محكمة في تنديدها وإنذارها. " (1)
وفي التفسير الوسيط :
" أى : هو - سبحانه - الذي جعل لكم - بفضله ورحمته - الأرض المتسعة الأرجاء.
مذللة مسخرة لكم ، لتتمكنوا من الانتفاع بها عن طريق المشي عليها ، أو البناء فوقها. أو غرس النبات فيها ..
ومادام الأمر كذلك فامشوا في جوانبها وأطرافها وفجاجها .. ملتمسين رزق ربكم فيها ، وداوموا على ذلك ، ففي الحديث الشريف : « التمسوا الرزق في خبايا الأرض ».
والمراد بقوله : وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ الانتفاع بما فيها من وجوه النعم ، وعبر عنه بالأكل لأنه أهم وجوه الانتفاع.
فالآية الكريمة دعوة حارة للمسلمين لكي ينتفعوا بما في الأرض من كنوز ، حتى يستغنوا عن غيرهم في مطعمهم ومشربهم وملبسهم وسائر أمور معاشهم .. فإنه بقدر تقصيرهم في استخراج كنوزها ، تكون حاجتهم لغيرهم.
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة - (5 / 376)(1/93)
قال بعض العلماء : قال الإمام النووي في مقدمة المجموع : إن على الأمة الإسلامية أن تعمل على استثمار وإنتاج كل حاجاتها حتى الإبرة ، لتستغنى عن غيرها ، وإلا احتاجت إلى الغير بقدر ما قصرت في الإنتاج
وقد أعطى اللّه - تعالى - العالم الإسلامى الأولوية في هذا كله. فعليهم أن يحتلوا مكانهم ، ويحافظوا على مكانتهم ، ويشيدوا كيانهم بالدين والدنيا معا .. " (1)
" المراد بمن في السماء : اللّه - عز وجل - بدون تحيز أو تشبيه أو حلول في مكان.
قال الإمام الآلوسى : قوله : أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ وهو اللّه - عز وجل - كما ذهب إليه غير واحد ، فقيل على تأويل : من في السماء أمره وقضاؤه ، يعني أنه من التجوز في الإسناد ، أو أن فيه مضافا مقدرا ، وأصله : من في السماء أمره ، فلما حذف وأقيم المضاف إليه مقامه ارتفع واستتر ، وقيل على تقدير : خالق من في السماء ..وقيل في بمعنى على ، ويراد العلو بالقهر والقدرة ..
وأئمة السلف لم يذهبوا إلى غيره - تعالى - والآية عندهم من المتشابه وقد قال - صلى الله عليه وسلم - آمنوا بمتشابهه ولم يقل أولوه. فهم مؤمنون بأنه - عز وجل - في السماء : على المعنى الذي أراده - سبحانه - مع كمال التنزيه. وحديث الجارية عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ ، قَالَ : كَانَتْ لِي غُنَيْمَةٌ تَرْعَاهَا جَارِيَةٌ لِي فِي قِبَلِ أُحُدٍ ، وَالْجَوَّانِيَّةِ ، فَاطَّلَعْتُ عَلَيْهَا ذَاتَ يَوْمٍ ، وَقَدْ ذَهَبَ الذِّئْبُ مِنْهَا بِشَاةٍ ، وَأَنَا مِنْ بَنِي آدَمَ آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ ، فَصَكَكْتُهَا صَكَّةً ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيَّ ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ : أَفَلاَ أَعْتِقُهَا ؟ قَالَ : ائْتِنِي بِهَا ، فَأَتَيْتُهُ بِهَا ، فَقَالَ : أَيْنَ اللَّهُ ؟ قَالَتْ : فِي السَّمَاءِ ، قَالَ : مَنْ أَنَا ؟ قَالَتْ : أَنْتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : أَعْتِقْهَا ، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ. " (2) من أقوى الأدلة في هذا الباب. وتأويله بما أول به الخلف ، خروج عن دائرة الإنصاف عند ذوى الألباب . . " (3)
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 19)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (1227) وصحيح ابن حبان - (1 / 383)( 165)
(3) - راجع تفسير الآلوسى ج 29 ص 15.(1/94)
قال ابن الأثير : " فإنها مؤمنة : قال الخطابي : إنما حكم بأنها مؤمنة بهذا القدر من قولها ، وهو أنه لما سألها : أين الله ؟ قالت: في السماء ، وهذا القدر لا يكفي في ثبوت الإسلام والإيمان ، دون الإقرار بالشهادتين ، والتبرؤ من سائر الأديان؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - رأى منها أمارة الإسلام ، وأنها في دار الإسلام ، وبين المسلمين ، وتحت رقِّ المسلم ، وهذا القدر يكفي عَلمًا لذلك.ألا ترى أنا إذا رأينا رجلاً وامرأة مقيمين في بيت ، فسألناه عنها ، فقال: هي زوجتي ، وصدَّقته على ذلك ، فإننا نقبل قولهما ، ولا نكشف عن أمرهما ولا نطلب منهما شرائطَ العقد ، فإذا جاءنا رجل وامرأة أجنبيان ، يريدان ابتداءَ عقد النكاح ، فإننا نطالبهما بشروط النكاح ، من إحضار الولي ، والشهود ، وغير ذلك ، وكذلك الكافر إذا عُرض عليه الإسلام ، لم نقتصر منه على قوله: إني مُسلم ، حتى يَصفَ الإسلام بكماله وشرائطه.
وإذا جاءنا من يُجهَلُ حالُهُ في الكفر والإيمان ، فقال: إني مسلم ، قبلناه ، فإذا كان عليه أَمَارَةُ الإسلام - من هيئةٍ وإشارَةٍ ودارٍ - كان قَبول قوله أولى ، بل يُحكم عليه بالإسلام ، وإن لم يقل شيئًا." (1)
وقال النووي : " هَذَا الْحَدِيث مِنْ أَحَادِيث الصِّفَات ، وَفِيهَا مَذْهَبَانِ تَقَدَّمَ ذِكْرهمَا مَرَّات فِي كِتَاب الْإِيمَان . أَحَدهمَا : الْإِيمَان بِهِ مِنْ غَيْر خَوْض فِي مَعْنَاهُ ، مَعَ اِعْتِقَاد أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَتَنْزِيهه عَنْ سِمَات الْمَخْلُوقَات . وَالثَّانِي تَأْوِيله بِمَا يَلِيق بِهِ ، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا قَالَ : كَانَ الْمُرَاد اِمْتِحَانهَا ، هَلْ هِيَ مُوَحِّدَة تُقِرّ بِأَنَّ الْخَالِق الْمُدَبِّر الْفَعَّال هُوَ اللَّه وَحْده ، وَهُوَ الَّذِي إِذَا دَعَاهُ الدَّاعِي اِسْتَقْبَلَ السَّمَاء كَمَا إِذَا صَلَّى الْمُصَلِّي اِسْتَقْبَلَ الْكَعْبَة ؟ وَلَيْسَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مُنْحَصِر فِي السَّمَاء كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مُنْحَصِرًا فِي جِهَة الْكَعْبَة ، بَلْ ذَلِكَ لِأَنَّ السَّمَاء قِبْلَة الدَّاعِينَ ، كَمَا أَنَّ الْكَعْبَة قِبْلَة الْمُصَلِّينَ ، أَوْ هِيَ مِنْ عَبَدَة الْأَوْثَان الْعَابِدِينَ لِلْأَوْثَانِ الَّتِي بَيْن أَيْدِيهمْ ، فَلَمَّا قَالَتْ : فِي السَّمَاء ، عَلِمَ أَنَّهَا مُوَحِّدَة وَلَيْسَتْ عَابِدَة لِلْأَوْثَانِ . قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : لَا خِلَاف بَيْن الْمُسْلِمِينَ قَاطِبَة فَقِيههمْ وَمُحَدِّثهمْ وَمُتَكَلِّمهمْ وَنُظَّارهمْ
__________
(1) - جامع الأصول في أحاديث الرسول - (1 / 231)(1/95)
وَمُقَلِّدهمْ أَنَّ الظَّوَاهِر الْوَارِدَة بِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى فِي السَّمَاء كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء أَنْ يَخْسِف بِكُمْ الْأَرْض } وَنَحْوه لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرهَا ، بَلْ مُتَأَوَّلَة عِنْد جَمِيعهمْ ، فَمَنْ قَالَ بِإِثْبَاتِ جِهَة فَوْق مِنْ غَيْر تَحْدِيد وَلَا تَكْيِيف مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاء وَالْمُتَكَلِّمِينَ تَأَوَّلَ : فِي السَّمَاء ، أَيْ : عَلَى السَّمَاء ، وَمَنْ قَالَ مِنْ دَهْمَاء النُّظَّار وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَأَصْحَاب التَّنْزِيه بِنَفْيِ الْحَدّ وَاسْتِحَالَة الْجِهَة فِي حَقّه سُبْحَانه وَتَعَالَى تَأَوَّلُوهَا تَأْوِيلَات بِحَسَبِ مُقْتَضَاهَا ، وَذَكَرَ نَحْو مَا سَبَقَ . قَالَ : وَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي جَمَعَ أَهْل السُّنَّة وَأَلْحَقَ كُلّهمْ عَلَى وُجُوب الْإِمْسَاك عَنْ الْفِكْر فِي الذَّات كَمَا أُمِرُوا ، وَسَكَتُوا لِحِيرَةِ الْعَقْل ، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيم التَّكْيِيف وَالتَّشْكِيل ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ وُقُوفهمْ وَإِمْسَاكهمْ غَيْر شَاكّ فِي الْوُجُود وَالْمَوْجُودَة ، وَغَيْر قَادِح فِي التَّوْحِيد ، بَلْ هُوَ حَقِيقَته ، ثُمَّ تَسَامَحَ بَعْضهمْ بِإِثْبَاتِ الْجِهَة خَاشِيًا مِنْ مِثْل هَذَا التَّسَامُح ، وَهَلْ بَيْن التَّكْيِيف وَإِثْبَات الْجِهَات فَرْق ؟ لَكِنْ إِطْلَاق مَا أَطْلَقَهُ الشَّرْع مِنْ أَنَّهُ الْقَاهِر فَوْق عِبَاده ، وَأَنَّهُ اِسْتَوَى عَلَى الْعَرْش ، مَعَ التَّمَسُّك بِالْآيَةِ الْجَامِعَة لِلتَّنْزِيهِ الْكُلِّيّ الَّذِي لَا يَصِحّ فِي الْمَعْقُول غَيْره ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء } عِصْمَة لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّه تَعَالَى ، وَهَذَا كَلَام الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى .
وفِيهِ : دَلِيل عَلَى أَنَّ الْكَافِر لَا يَصِير مُؤْمِنًا إِلَّا بِالْإِقْرَارِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِرِسَالَةِ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - . وَفِيهِ : دَلِيل عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِالشَّهَادَتَيْنِ ، وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ جَزْمًا كَفَاهُ ذَلِكَ فِي صِحَّة إِيمَانه وَكَوْنه ، مِنْ أَهْل الْقِبْلَة وَالْجَنَّة ، وَلَا يُكَلَّف مَعَ هَذَا إِقَامَة الدَّلِيل وَالْبُرْهَان عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمهُ مَعْرِفَة الدَّلِيل ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور" (1)
وعَنْ نَافِعٍ، قَالَ: خَرَجَ ابْنُ عُمَرَ فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ أَصْحَابُ لَهُ، وَوَضَعُوا سَفْرَةً لَهُ، فَمَرَّ بِهِمْ رَاعِي غَنَمٍ، قَالَ: فَسَلَّمَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: " هَلُمَّ يَا رَاعِي، هَلُمَّ "، فَأَصِبْ مِنْ هَذِهِ السُّفْرَةِ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (2 / 298)(1/96)
أَتَصُومُ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ الْحَارِّ شَدِيدٍ سُمُومُهُ وَأَنْتَ فِي هَذِهِ الْجِبَالِ تَرْعَى هَذَا الْغَنَمَ ؟ " فَقَالَ لَهُ: أَيْ وَاللهِ أُبَادِرُ أَيَّامِي الْخَالِيَةَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ يُرِيدُ يَخْتَبِرُ وَرَعَهُ : " فَهَلْ لَكَ أَنْ تَبِيعَنَا شَاةً مِنْ غَنَمِكَ هَذِهِ فَنُعْطِيكَ ثَمَنَهَا وَنُعْطِيكَ مِنْ لَحْمِهَا فَتُفْطِرَ عَلَيْهِ ؟ " فَقَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ لِي بِغَنَمٍ، إِنَّهَا غَنَمُ سَيِّدِي، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: " فَمَا عَسَى سَيِّدُكَ فَاعِلًا إِذَا فَقْدَهَا، فَقُلْتَ: أَكْلَهَا الذِّئْبُ " فَوَلَّى الرَّاعِي عَنْهُ وَهُوَ رَافِعٌ أُصْبُعَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ يَقُولُ: أَيْنَ اللهُ، قَالَ: فَجَعَلَ ابْنُ عُمَرَ يُرَدِّدُ قَوْلَ الرَّاعِي وَهُوَ يَقُولُ: قَالَ الرَّاعِي: فَأَيْنَ اللهُ ؟ قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعَثَ إِلَى مَوْلَاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ الْغَنَمَ وَالرَّاعِي فَأَعْتَقَ الرَّاعِيَ، وَوَهَبَ لَهُ الْغَنَمَ" (1)
وفي الظلال : "والآن - وبينما هم في هذا الأمان على ظهر الأرض الذلول ، وفي هذا اليسر الفائض بإذن اللّه وأمره .. الآن يهز هذه الأرض الساكنة من تحت أقدامهم هزا ويرجها رجا فإذا هي تمور. ويثير الجو من حولهم فإذا هو حاصب يضرب الوجوه والصدور .. يهز هذه الأرض في حسهم ويثير هذا الحاصب في تصورهم ، لينتبهوا من غفلة الأمان والقرار ، ويمدوا بأبصارهم إلى السماء وإلى الغيب ، ويعلقوا قلوبهم بقدر اللّه : «أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ؟ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً؟ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ! وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ؟» ..
والبشر الذين يعيشون على ظهر هذه الدابة الذلول ، ويحلبونها فينالون من رزق اللّه فيها نصيبهم المعلوم! يعرفون كيف تتحول إلى دابة غير ذلول ولا حلوب ، في بعض الأحيان ، عند ما يأذن اللّه بأن تضطرب قليلا فيرتج كل شيء فوق ظهرها أو يتحطم! ويمور كل ما عليها ويضطرب فلا تمسكه قوة ولا حيلة. ذلك عند الزلازل والبراكين ، التي تكشف عن الوحش الجامح ، الكامن في الدابة الذلول ، التي يمسك اللّه بزمامها فلا تثور إلا بقدر ، ولا تجمح إلا ثواني معدودات يتحطم فيها كل ما شيد الإنسان على ظهرها أو يغوص في جوفها عند ما تفتح أحد
__________
(1) شعب الإيمان - (7 / 223) (4908 ) حسن(1/97)
أفواهها وتخسف كسفة منها .. وهي تمور .. البشر ولا يملكون من هذا الأمر شيئا ولا يستطيعون.
وهم يبدون في هول الزلزال والبركان والخسف كالفئران الصغيرة محصورة في قفص الرعب ، من حيث كانت آمنة لاهية غافلة عن القدرة الكبرى الممسكة بالزمام! والبشر كذلك يشهدون العواصف الجامحة الحاصبة التي تدمر وتخرب ، وتحرق وتصعق. وهم بإزائها ضعاف عاجزون ، بكل ما يعلمون وما يعملون. والعاصفة حين تزأر وتضرب بالحصى الحاصب ، وتأخذ في طريقها كل شيء في البر أو البحر أو الجو يقف الإنسان أمامها صغيرا هزيلا حسيرا حتى يأخذ اللّه بزمامها فتسلس وتلين! والقرآن يذكر البشر الذين يخدعهم سكون الدابة وسلامة مقادتها ، ويغريهم الأمان بنسيان خالقها ومروضها.
يذكرهم بهذه الجمحات التي لا يملكون من أمرها شيئا. والأرض الثابتة تحت أقدامهم ترتج وتمور ، وتقذف بالحمم وتفور. والريح الرخاء من حولهم تتحول إلى إعصار حاصب لا تقف له قوة في الأرض من صنع البشر ، ولا تصده عن التدمير .. يحذرهم وينذرهم في تهديد يرج الأعصاب ويخلخل المفاصل.«فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ»!!!
ويضرب لهم الأمثلة من واقع البشرية ، ومن وقائع الغابرين المكذبين : «وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ؟» ..
والنكير الإنكار وما يتبعه من الآثار ، ولقد أنكر اللّه ممن كذبوا قبلهم أن يكذبوا. وهو يسألهم : «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ؟» وهم يعلمون كيف كان ، فقد كانت آثار الدمار والخراب تصف لهم كيف كان هذا النكير!
وكيف كان ما أعقبه من تدمير! والأمان الذي ينكره اللّه على الناس ، هو الأمان الذي يوحي بالغفلة عن اللّه وقدرته وقدره ، وليس هو الاطمئنان إلى اللّه ورعايته ورحمته. فهذا غير ذاك. فالمؤمن يطمئن إلى ربه ، ويرجو رحمته وفضله. ولكن هذا لا يقوده إلى الغفلة والنسيان والانغمار في غمرة الأرض ومتاعها ، إنما يدعوه إلى(1/98)
التطلع الدائم ، والحياء من اللّه ، والحذر من غضبه ، والتوقي من المخبوء في قدره ، مع الإخبات والاطمئنان.
قال الإمام أحمد - بإسناده - عن عائشة - رضي اللّه عنها - أنها قالت : «ما رأيت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته. إنما كان يبتسم. وقالت : كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه. قالت : يا رسول اللّه إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية. فقال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم - : «يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟ قد عذب قوم بالريح. وقد رأى قوم العذاب وقالوا ، هذا عارض ممطرنا » فهذا هو الإحساس اليقظ الدائم باللّه وقدره ، وبما قصه القرآن من هذا في سيره. وهو لا ينافي الاطمئنان إلى رحمة اللّه وتوقع فضله.
ثم هو إرجاع جميع الأسباب الظاهرة إلى السبب الأول. ورد الأمر بحاله وكليته إلى من بيده الملك وهو على كل شيء قدير. فالخسف والحاصب ، والبراكين والزلازل ، والعواصف ، وسائر القوى الكونية والظواهر الطبيعية ليس في أيدي البشر من أمرها شيء. إنما أمرها إلى اللّه. وكل ما يذكره البشر عنها فروض يحاولون بها تفسير حدوثها ، ولكنهم لا يتدخلون في إحداثها ، ولا يحمون أنفسهم منها. وكل ما ينشئونه على ظهر الأرض تذهب به رجفة من رجفاتها ، أو إعصار من أعاصيرها ، كما لو كان لعبا من الورق! فأولى لهم أن يتوجهوا في أمرها إلى خالق هذا الكون ، ومنشئ نواميسه التي تحكم هذه الظواهر ، ومودعه القوى التي يتجلى جانب منها في هذه الأحداث. وأن يتطلعوا إلى السماء - حيث هي رمز للعلو - فيتذكروا اللّه الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير.
إن الإنسان قوي بالقدر الذي وهبه اللّه من القوة. عالم بالقدر الذي أعطاه اللّه من العلم. ولكن هذا الكون الهائل زمامه في يد خالقه ، ونواميسه من صنعه ، وقواه من إمداده. وهذه القوى تسير وفق نواميسه في حدود قدره. وما يصيب الإنسان(1/99)
منها مقدور مرسوم ، وما يعلمه الإنسان منها مقدور معلوم. والوقائع التي تحدث تقف هذا الإنسان بين الحين والحين أمام قوى الكون الهائلة مكتوف اليدين حسيرا ، ليس له إلا أن يتذكر خالق هذه القوى ومروضها وإلا أن يتطلع إلى عونه ليواجهها ، ويسخر ما هو مقدور له أن يسخره منها.
وحين ينسى هذه الحقيقة ، ويغتر وينخدع بما يقسم اللّه له من العلم ومن القدرة على تسخير بعض قوى الكون ، فإنه يصبح مخلوقا مسيخا مقطوعا عن العلم الحقيقي الذي يرفع الروح إلى مصدرها الرفيع ويخلد إلى الأرض في عزلة عن روح الوجود!
بينما العالم المؤمن يركع في مهرجان الوجود الجميل ، ويتصل ببارئ الوجود الجليل. وهو متاع لا يعرفه إلا من ذاق حلاوته حين يكتبها اللّه له! على أن قوى الكون الهائلة تلجئ الإنسان إلجاء إلى موقف العجز والتسليم سواء رزق هذه الحلاوة أم حرمها.
فهو يكشف ما يكشف ، ويبدع ما يبدع ، ويبلغ من القوة ما يبلغ. ثم يواجه قوى الكون في انكسار الحسير الصغير الهزيل. وقد يستطيع أن يتقي العاصفة أحيانا ولكن العاصفة تمضي في طريقها لا يملك وقفها. ولا يملك أن يقف في طريقها ، وقصارى ما يبلغ إليه جهده وعلمه أن يحتمي من العاصفة وينزوي عنها! .. أحيانا
وأحيانا تقتله وتسحقه من وراء جدرانه وبنيانه. وفي البحر تتناوحه الأمواج والأعاصير فإذا أكبر سفائنه كلعبة الصبي في مهب الرياح. أما الزلزال والبركان فهما هما من أول الزمان إلى آخر الزمان! فليس إلا العمى هو الذي يهيّئ لبعض المناكيد أن «الإنسان يقوم وحده» في هذا الوجود ، أو أنه سيد هذا الوجود! إن الإنسان مستخلف في هذه الأرض بإذن اللّه. موهوب من القوة والقدرة والعلم ما يشاء اللّه. واللّه كالئه وحاميه. واللّه رازقه ومعطيه. ولو تخلت عنه يد اللّه لحظة لسحقته أقل القوى المسخرة له ، ولأكله الذباب وما هو أصغر من الذباب. ولكنه(1/100)
بإذن اللّه ورعايته مكلوء. ومحفوظ. وكريم. فليعرف من أين يستمد هذا التكريم ، وذلك الفضل العظيم.
بعدئذ ينتقل بهم من لمسة التهديد والنذير ، إلى لمسة التأمل والتفكير. في مشهد يرونه كثيرا ، ولا يتدبرونه إلا قليلا. وهو مظهر من مظاهر القدرة ، وأثر من آثار التدبير الإلهي اللطيف.
«أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ؟ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ ، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ» ..وهذه الخارقة التي تقع في كل لحظة ، تنسينا بوقوعها المتكرر ، ما تشي به من القدرة والعظمة. ولكن تأمل هذا الطير ، وهو يصف جناحيه ويفردهما ، ثم يقبضهما ويضمهما ، وهو في الحالين : حالة الصف الغالبة ، وحالة القبض العارضة يظل في الهواء ، يسبح فيه سباحة في يسر وسهولة ويأتي بحركات يخيل إلى الناظر أحيانا أنها حركات استعراضية لجمال التحليق والانقضاض والارتفاع! تأمل هذا المشهد ، ومتابعة كل نوع من الطير في حركاته الخاصة بنوعه ، لا يمله النظر ، ولا يمله القلب. وهو متعة فوق ما هو مثار تفكير وتدبر في صنع اللّه البديع ، الذي يتعانق فيه الكمال والجمال! والقرآن يشير بالنظر إلى هذا المشهد المثير : «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ؟» ..
ثم يوحي بما وراءه من التدبير والتقدير : «ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ» ..
والرحمن يمسكهن بنواميس الوجود المتناسقة ذلك التناسق العجيب ، الملحوظ فيه كل صغيرة وكبيرة ، المحسوب فيه حساب الخلية والذرة .. النواميس التي تكفل توافر آلاف الموافقات في الأرض والجو وخلقة الطير ، لتتم هذه الخارقة وتتكرر ، وتظل تتكرر بانتظام.
والرحمن يمسكهن بقدرته القادرة التي لا تكل ، وعنايته الحاضرة التي لا تغيب. وهي التي تحفظ هذه النواميس أبدا في عمل وفي تناسق وفي انتظام. فلا تفتر ولا تختل ولا تضطرب غمضة عين إلى ما شاء اللّه : «ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ» .. بهذا التعبير المباشر الذي يشي بيد الرحمن تمسك بكل طائر وبكل جناح ، والطائر(1/101)
صاف جناحيه وحين يقبض ، وهو معلق في الفضاء! «إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ» ..يبصره ويراه. ويبصر أمره ويخبره. ومن ثم يهيّئ وينسق ، ويعطي القدرة ، ويرعى كل شيء في كل لحظة ، رعاية الخبير البصير.
وإمساك الطير في الجو كإمساك الدواب على الأرض الطائرة بما عليها في الفضاء. كإمساك سائر الأجرام التي لا يمسكها في مكانها إلا اللّه. ولكن القرآن يأخذ بأبصار القوم وقلوبهم إلى كل مشهد يملكون رؤيته وإدراكه ويلمس قلوبهم بإيحاءاته وإيقاعاته. وإلا فصنعة اللّه كلها إعجاز وكلها إبداع ، وكلها إيحاء وكلها إيقاع. وكل قلب وكل جيل يدرك منها ما يطيقه ، ويلحظ منها ما يراه. حسب توفيق اللّه. " (1)
ما يستفاد من الآيات
يستنبط من الآيات ما يلي :
1- تحذير المعرضين عند الله وإنذارهم بسوء العواقب إن استمروا على إعراضهم فإن الله قادر على أن يخسف بهم الأرض أو يرسل عليهم حاصباً من السماء وليس هناك من يؤمنهم ويجيرهم بحال من الأحوال . إلا إيمانهم وإسلامهم الله عز وجل .
2- في الهالكين الأولين عير وعظات لمن له قلب حي وعقل يعقل به .
3- من آيات الله في الآفاق الدالة على قدرة الله وعلمه ورحمته الموجبة لعبادته وحده طيران الطير في السماء وهو يبسط جناحيه ويقبضهما ولا يسقط إذ المفروض أن يبقى دائماً يخفق بجناحيه يدفع نفسه فيطير بمساعدة الهواء أما إن قبض أو بسط المفروض أنه يسقط ولكن الرحمن عز وجل يمسكه فلا يسقط . (2)
4 - اللّه تعالى هو القادر على أن يخسف بالكافرين والظالمين الأرض ، عقوبة على كفرهم ، كما خسف بقارون وبداره الأرض ، فإذا الأرض تذهب وتجيء وتغور بهم وتبتلعهم.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3637)
(2) - أيسر التفاسير للجزائري - (4 / 289)(1/102)
وإنما خص اللّه تعالى السماء في قوله : أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ تنبيها على أن الإله الذي تنفذ قدرته في السماء ، لا من يعظمونه في الأرض ، علما بأنه تعالى إله في السماء وفي الأرض ، كما قال : وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ ، وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [الزخرف 43/ 84].
وقد احتج المشبّهة على إثبات المكان للّه تعالى بقوله : أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ وأجابهم الرازي بأن هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين لأن كونه في السماء يقتضي كون السماء محيطا به من جميع الجوانب ، فيكون أصغر من السماء ، والسماء أصغر من العرش بكثير ، فيلزم أن يكون اللّه تعالى شيئا أصغر من العرش ، وذلك محال باتفاق أهل الإسلام لأن العرش أكبر المخلوقات في السماء والأرض. ولأنه تعالى قال : قُلْ : لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ : لِلَّهِ [الأنعام 6/ 12] فوجب صرف الآية عن ظاهرها إلى التأويل.
وللتأويل وجوه أولاها : تقدير الآية : أأمنتم من في السماء سلطانه وملكه وقدرته ، والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان اللّه وتعظيم قدرته ، كما قال : وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام 6/ 3] فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين (1) .
5 - إن اللّه تعالى هو الذي أنعم على عباده بتذليل الأرض ، وجعلها سهلة للاستقرار عليها ، وامتن عليهم ، فأباح لهم السير في نواحيها وأقطارها وآكامها وجبالها بحثا عن الرزق وللاتجار والتكسب ، وأذن لهم بالأكل مما أحله لهم ، ثم هم في النهاية مرجعهم إلى اللّه ، فإن الذي خلق السماء لا تفاوت فيها ، والأرض ذلولا ، قادر على أن يبعثهم وينشرهم من قبورهم أحياء.
6 - إن اللّه عز وجل هو القادر أيضا على تعذيب الكفار بإرسال حجارة من السماء ، كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل ، وحين وقوع العذاب يعلمون كيف إنذار اللّه بالعذاب أنه حق.
__________
(1) - تفسير الرازي : 30/ 70(1/103)
7 - أكد اللّه تعالى تخويفات الكفار بضرب المثل بمن كانوا قبلهم ، فإنهم شاهدوا أمثال هذه العقوبات بسبب كفرهم ، وكفار هذه الأمم المتقدمة ، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين وأصحاب الرّسّ وقوم فرعون.
8- من البراهين الدالة على قدرته تعالى : أنه كما ذلّل الأرض للإنسان ، ذلل الهواء للطيور ، وما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا اللّه عز وجل ، وهو عليم بصير بكل شيء وبما يصلح كل شيء من مخلوقاته. (1)
****************
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (29 / 28)(1/104)
المطلب الخامس
توبيخ المشركين على عبادة الأصنام وإثبات قدرة اللّه واختصاصه بعلم البعث
قال تعالى :
{ أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) }
شرح الكلمات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
20 ... جُنْدٌ لَكُمْ ... أعوان
20 ... غُرُورٍ ... خديعة من الشيطان وأعوانه
21 ... لَجُّوا ... تمادوا
21 ... عُتُوٍ ... معاندة واستكبار
21 ... وَنُفُورٍ ... تباعد
22 ... مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ ... ساقطا على وجهه لا يأمن العثور
22 ... يَمْشِي سَوِيًّا ... منتصب القامة سالما من السقوط
23 ... أَنْشَأَكُم ... ابتدأ خلقكم
23 ... الأَفْئِدَةَ ... القلوب والعقول
24 ... قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ... قليلا ما تستعملون هذه القوى في طاعة الله
27 ... ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ ... خلقكم وبعثكم في الأرض(1/105)
27 ... رَأَوْهُ زُلْفَةً ... رأو العذاب قريبا منهم (1)
البلاغة :
أَمَّنْ هذَا الَّذِي استفهام إنكار.
وفي قوله « أفمن يمشي مكبّا على وجهه أهدى أم من يمشي سويّا على صراط مستقيم » استعارة تمثيلية وهو مثل للمؤمن والكافر ، فالكافر أعمى لا يهتدي إلى الطريق بل يمشي متعسفا فلا يزال يتعثر وينكب على وجهه والمؤمن صحيح البصر يمشي في طريق واضحة مستقيمة سالما من العثور والخرور على وجهه. وهكذا تتجلى طريقة القرآن في التجسيد. (2)
غُرُورٍ ، نُفُورٍ سجع مرصع لمراعاة رؤوس الآيات.
المناسبة :
بعد أن أورد اللّه تعالى البرهان الأول على كمال قدرته وهو تمكين الطيور من الطيران ، وبّخ المشركين على عبادة الأصنام ، وردّ على اعتقادهم شيئين أو أمرين : وهما القوة في الأعوان ، وجلب الخير من الأصنام ، ثم أورد تعالى برهانين آخرين على كمال قدرته : وهما خلق الناس وحواسهم ، وتكاثر الخلق واستمرارهم وتوزيعهم في الأرض ثم حشرهم إليه. ثم ذكر شيئين قالهما الكفار لمحمد - صلى الله عليه وسلم - لما أمره ربه بتخويفهم بعذاب اللّه وهما مطالبته بتعيين وقت العذاب ، ودعاؤهم عليه وعلى المؤمنين بالهلاك ، وهذا الأخير موضع الفقرة التالية.
فتكون البراهين الثلاثة على كمال قدرة اللّه هي الاستدلال أولا بأحوال الطيور من الحيوانات ، ثم الاستدلال بصفات الإنسان وهي السمع والبصر والعقل وحدوث ذاته ، ثم الاستدلال بضمان تكاثر الخلق وحفظ النوع الإنساني وتوزيعه في أنحاء الأرض والحشر يوم القيامة.
__________
(1) - كلمات القرآن للشيخ غازي الدروبي - (22 / 1)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 382) وإعراب القرآن وبيانه ـ موافقا للمطبوع - (10 / 159)(1/106)
المعنى العام :
بعد أن أبان للمشركين عجائب قدرته فيما يشاهدونه من أحوال الطير ، ووبخهم على ترك التأمل فيها - أردفه بتوبيخهم على عبادتهم غيره تعالى يبتغون منه نصرا ورزقا ، منكرا عليهم ما اعتقدوه ، مبينا لهم أنهم لا يصلون إلى ما أمّلوه ، وإلا فليبينوا هذا الناصر والمعين والرازق إذا هو أمسك رزقه.
أما وقد وضح الحق لذى عينين فهم فى لجاج وعناد بعد وضوح الحجة وتبين المحجة ، ثم ضرب مثلا يبين حالى المشرك والموحّد ، فمثّل حال الأول بحال من يمشى منحنيا إلى الأمام على وجهه ، فلا يدرى أين يسلك ، ولا كيف يذهب ، فيكون حائرا ضالا ، ومثّل حال الثاني بحال من يمشى منتصب القامة على الطريق الواضح ، فيرى ما أمامه ويهتدى إلى ما يريد.
ثم أعقب هذا بذكر الدلائل على تفرده بالألوهية بذكر خلق الإنسان فى الأرض وإعطائه نعمة السمع والبصر ، وأرشد إلى أن القليل من الناس شكور لهذه النعم.
ثم أردف هذا بذكر سؤال المشركين للرسول عن ميقات البعث استهزاء به ، وإجابته إياهم بأن علمه عند اللّه وليس له من علمه شىء ، وإنما هو نذير مبين ، وذكر أنه حين تقوم القيامة ويعرف المشركون قرب وقوع ما كانوا ينكرون تعلو وجوههم غبرة ، ترهقها قترة ، ويقال لهم : إن ما كنتم تستعجلون قد وقع ولا مردّ له ، فماذا أنتم فاعلون ؟ . (1)
أم أنهم تعاموا عن ذلك اعتدادا بأن لهم من دون اللّه قوة تحميهم ولهم آلهة من دون اللّه ترزقهم إن أمسك اللّه عنهم الرزق ، فوبخهم اللّه وأنبهم على هذا الزعم الفاسد ، وأنكر عليهم وجود جند لهم وأعوان يدفعون عنهم عذاب اللّه إن أراد بهم سوءا فقال : أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ (2) لا جند لهم ولا أعوان ، ما الكافرون الذين يتوهمون ذلك إلا في غرور باطل ،
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 19)
(2) - - أمن هي أم الإضرابية ، ومن هي للاستفهام الإنكارى.(1/107)
وخداع كاذب ، وأنكر عليهم اعتقادهم أن الآلهة ترزقهم إن أمسك اللّه عنهم الرزق بقوله : أمن هذا الذي يرزقكم ؟ أى : أخبرونى من هذا - والإشارة هنا للتحقير - الذي تظنون أنه يرزقكم من دون اللّه ؟!
لا أحد أبدا يرزق غيره ، فإن اللّه هو الرزاق ذو القوة المتين ، بل هؤلاء لجوا في عنادهم ، واستمروا في عتوهم ونفورهم عن الحق.
ولقد ضرب اللّه مثلا للكفار المعاندين الموصوفين بالعتو والنفور مع مقارنتهم بالمؤمنين الذين هداهم اللّه إلى الصراط المستقيم ، ولا شك أن الكافر المغرور الذي نفخ الشيطان في أنفه فامتلأ عتوّا ونفورا فهو كالماشى المكب على وجهه الذي يتعثر في كل خطوة يخطوها ، أما المؤمن فهو كالسائر على طريق لاحب ، أى : ممهد مستقيم ، وهو منتصب القامة معتدل في المشي فأى القبيلين أهدى طريقا ، وأقرب وصولا ؟
وإذا كان المشركون كذلك فهل هم معذورون أولا ؟ لا ، ليسوا معذورين في شيء فاللّه خلق الخلق ، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة لعلهم يتجهون إلى الخير وإلى الحق : نور اللّه! ولكن قليلا ما يشكرون.
قل لهم : هو الذي خلقكم ، وذرأكم في الأرض فكان منكم النسل الكثير ، والتكاثر المفضى إلى الانتشار في بقاع الأرض ، ولكن اعلموا أنكم إليه تحشرون ، ولا غرابة في ختام هذه الآيات بالحشر فإن السورة مكية من أغراضها إثبات البعث.
وكان المشركون يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ميعاد البعث استهزاء به وسخرية بوعيده وإنكارا له فيقولون : متى الساعة أيها المؤمنون إن كنتم صادقين في دعواكم ؟ .
ولكن اللّه رد عليهم بقوله : إنما العلم عند اللّه ، أى : اللّه وحده الذي يعلم الوقت ، وإنما الرسول مبلغ فقط ، أما متى يكون ؟ فليس من اختصاصه.
فلما رأوا هذا اليوم الموعود ، والعذاب السيئ الذي أعد لهم. لما رأوه وقد كانوا يكذبون به استاءت وجوههم ، وامتلأت غيظا وهماّ ، وقيل لهم تأنيبا وإيلاما : هذا(1/108)
الذي كنتم تطلبونه وتسألونه ، أو هذا هو الذي كنتم تدعون بطلانه وتزعمون أنه لا يأتيكم ، فها أنتم أولاء ترونه قريبا منكم ، لا شك فيه الآن.
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى الإيمان ، ويلح في ذلك ، وفي خلال هذا يسفه أحلامهم ويذم آلهتهم ، وكانوا يكرهون ذلك ويستاءون له فكانوا يقولون لبعض : انتظروا فسيموت وتموت دعوته ويهدأ بالنا ، وتطمئن نفوسنا. (1)
التفسير والبيان :
يرد اللّه تعالى على المشركين الذين عبدوا معه غيره ، يبتغون عندهم النصر والرزق ، فيقول منكرا عليهم ما اعتقدوه ، ومخبرا أنهم لن يحصلوه على ما أمّلوه :
1 - « أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ »..وإذا لم يستجب المشركون لهذه الدعوة التي يدعون فيها إلى آيات اللّه وإلى الإيمان به ـ فعلى أي شىء يعوّلون فى الخلاص من نقمة اللّه وعذابه.ألهم جند ينصرونهم من دون اللّه ، ويدفعون عنهم بأسه إذا وقع بهم ؟ إنهم لمخدعون مغرورون ، إن كان ذلك من أمانيّهم ، ومن متعلقاتهم ظنونهم ، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى عنهم : « وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ » (18 : يونس).و« إن » فى قوله تعالى : « إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ » حرف يفيد النفي ، بمعنى « ما » أي ما الكافرون إلا فى غرور ، يحتويهم ، ويشتمل عليهم .." (2)
أي بل من هذا الجند أو العون الذي يعينكم ويمنعكم من عذاب اللّه إن أراد بكم سوءا؟!
الواقع أنه ليس لكم من دون اللّه من ولي ولا واق ، ولا ناصر لكم غيره ، ولهذا فإن الكافرين هم في خداع وغرور عظيم من جهة الشيطان ، غرَّهم بأن العذاب لا ينزل بهم.
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 718)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1068)(1/109)
والتعبير بقوله : مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إشارة إلى أن بقاء الناس في الأرض مع كفرهم وظلمهم هو برحمة الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء.
والآية ردٌّ على الكفار الذين كانوا يمتنعون من الإيمان ، ويعتمدون في زعمهم واعتقادهم المخطئ على القوة من جهة الإخوة والأعوان ، مخبرا إياهم أنه لا ناصر لهم سوى اللّه سبحانه.
ثم رد اللّه تعالى على ادعائهم وجود رازق غير اللّه ، وأن الأصنام مصدر جميع الخيرات لهم ، ودفع كل الآفات عنهم ، فقال :
2 - « أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ. بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ »..وهذا سؤال آخر ، مطلوب من المشركين أن يجدوا له جوابا :من يرزقهم إن أمسك اللّه الرزق عنهم ؟ هل من رازق لهم غير اللّه ؟
إن هذه الوقفات مع المشركين ، وهذه المراجعة التي يراد بها الكشف عن آفات الضلال المسلطة عليهم ، لا تزيدهم إلا بعدا عن الحقّ ، وإلا عتوّا وعنادا ، ولجاجا فى العناد والكفر.واللجاج فى الشيء : الإغراق فيه. ومجاوزة الحدّ .. والعتو :العناد الشديد. (1)
أي بل من هذا الذي إذا منع اللّه عنكم رزقه ، رزقكم بعده بالأمطار وغيرها؟
والمعنى أنه لا أحد يعطي ويمنع ، ويرزق وينصر إلا اللّه عز وجل ، وحده لا شريك له ، وهم يعلمون ذلك ، ومع هذا يعبدون غيره ، لذا وصفهم تعالى بقوله : بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ أي بل تمادوا واستمروا في عناد واستكبار عن الحق ، ونفور عنه ، وتابعوا طريقهم في طغيانهم وإفكهم وضلالهم ، ولم يعتبروا ولم يتفكروا.
فدلت الآيتان على أنه لا ناصر ينصر من عذاب اللّه ، ولا رازق يرزق غير اللّه إن حجب رزقه عن مخلوقاته.
عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ أَمْلَى عَلَىَّ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فِى كِتَابٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ فِى دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ « لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1070)(1/110)
وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ ، وَلَهُ الْحَمْدُ ، وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ ، وَلاَ مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ » (1) .
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ « رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَىْءٍ بَعْدُ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ ». (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ « اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَىْءٍ بَعْدُ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ ». (3)
ثم ضرب اللّه مثلا للمؤمن والكافر أو الموحد والمشرك ، فقال : « أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » ؟
وهذه بديهة من البديهيّات ، توضع موضع القضايا المطلوب من المشركين النطر فيها ، والوصول إلى حكم لها .. وذلك بعد أن عجزت عقولهم عن أن تنظر فيما ينظر فيه العقلاء!.
والقضية هى :أىّ أهدى سبيلا ، وأسلم عاقبة .. من يمشى مكبّا على وجهه ، لا يرى ما بين يديه ، ولو كان هاوية يهوى إليها ، أو وحلا يغوص فيه ـ أم الذي يمشى مفتّح العينين ، رافع الرأس ، مستقيم الخطا ؟ ..وفى هذا استخفاف بعقولهم ، وإنزالهم منزلة الأطفال الذين يلقّنون المعلومات تلقينا .." (4)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (844 ) -الجد : الحظ والسعادة والغنى
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (1099 ) -الجد : الحظ والسعادة والغنى
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (1100 )
(4) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1072)(1/111)
أرأيتم حال المؤمن والكافر ، فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من يمشي مكبّا على وجهه ، أي يمشي متعثرا في كل وقت ، منحنيا غير مستو ، لا يدري أين يسلك ، ولا كيف يذهب ، بل هو تائه حائر ضال.
أهذا أهدى أم ذلك المؤمن الذي مثله كمن يسير معتدلا ناظرا أمامه على طريق مستو ، لا اعوجاج به ولا انحراف فيه ، فهو في نفسه مستقيم ، وطريقه مستقيمة ، سواء في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا إذ يسير على منهج اللّه يكون على هدى وبصيرة ، وفي الآخرة يحشر على طريق مستقيم يؤدي به إلى الجنة. وهذا الاستفهام لا تراد حقيقته ، بل المراد منه أن كل سامع يجيب بأن الماشي سويا على صراط مستقيم أهدى.
ثم ذكر اللّه تعالى البرهان الثاني الدال على كمال قدرته قائلا : « قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما » ـ جاء تلقينا لهم ، وإلزاما إياهم بتلك الحقائق ، سواء عقلوها أو لم يعقلوها ..فالإله الذي حدثتهم الآيات السابقة عنه ، ودعتهم إلى النظر فى آياته ، وإلى الإجابة على عدد من الأسئلة التي من شأن العقلاء أن يسألوها أنفسهم ، وأن يتولّوا الإجابة عليها ، فى سبيل التعرف على اللّه ـ هذا الإله ، هو الذي جعل لهم السمع ، والأبصار ، والعقول .. ولكن كثيرا من الناس لا يشكرون اللّه تعالى على هذه النعم بل ولا يعترفون به ربّا ، وفى هذا يقول سبحانه : « وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ » (13 : سبأ). " (1)
أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين : إن اللّه ربكم هو الذي ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، وأوجد لكم حاسة السمع لسماع المواعظ به ، وحاسة البصر لنظر بدائع خلق اللّه ، والقلوب والعقول للتأمل والتفكير في مخلوقات اللّه وإدراك حقائق الأشياء ، ولكن قلّما تستعملون هذه القوى التي أنعم اللّه بها عليكم في طاعته وامتثال أوامره ، وترك زواجره ، وفيما خلقت لأجله من الخير ، وذلك هو الشكر الحقيقي لهذه الطاقات ، لا مجرد ترداد الشكر باللسان ، وملازمة
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1073)(1/112)
العصيان لأن شكر نعمة اللّه تعالى : هو أن يصرف تلك النعمة إلى وجه رضاه ، فإذا لم تستعمل هذه القوى في طلب مرضاة اللّه ، فأنتم ما شكرتم نعمته مطلقا.
فقوله تعالى : قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ إشارة إلى أنه تعالى أعطاهم هذه القوى العظيمة ، ولكنهم ضيّعوها في غير ما خلقت لأجله.وإنما خصت هذه الجوارح بالذكر لأنها أداة العلم والفهم.
ثم ذكر اللّه تعالى البرهان الثالث على كمال قدرته ، فقال : « قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ » ـ جاء تلقينا لهم ، وإلزاما إياهم بتلك الحقائق ، سواء عقلوها أو لم يعقلوها ..فالإله الذي حدثتهم الآيات السابقة عنه ، ودعتهم إلى النظر فى آياته ، وإلى الإجابة على عدد من الأسئلة التي من شأن العقلاء أن يسألوها أنفسهم ، وأن يتولّوا الإجابة عليها ، فى سبيل التعرف على اللّه ـ هذا الإله ، هو الذي جعل لهم السمع ، والأبصار ، والعقول .. ولكن كثيرا من الناس لا يشكرون اللّه تعالى على هذه النعم بل ولا يعترفون به ربّا ، وفى هذا يقول سبحانه : « وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ » (13 : سبأ).
وهذا الإله ، هو الذي ذرأ الناس ، أي خلقهم ، وأقامهم على هذه الأرض وبثّهم فيها ، وهو الذي سيحشرهم إليه بعد موتهم ..والذرء : الخلق ، وذرأ الشيء : كثّره وبثه. هذه حقائق ، مطلوب من الرسول أن يبلغها الناس جميعا. فمن صدّق وآمن ، فقد اهتدى ، وسلم .. ومن أعرض وكفر ، فقد ضلّ وخسر. " (1)
أي وقل لهم أيضا : إن اللّه هو خلقكم وبثكم ووزعكم في أنحاء الأرض ، مع اختلاف ألسنتكم في لغاتكم ، واختلاف ألوانكم وأشكالكم ، ثم إليه تجمعون بعد هذا التفرق والشتات ، فهو يجمعكم كما فرقكم ، ويعيدكم كما بدأكم للحساب والجزاء.
وبعد أمر اللّه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بتخويف الكفار بعذاب اللّه ، ذكر مقالة الكفار ومطالبتهم بتعيين وقت البعث استهزاء واستنكارا ، فقال : « وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1075)(1/113)
كُنْتُمْ صادِقِينَ »..هو بيان لما انتهى إليه أمر هؤلاء المشركين ، بعد هذه الوقفة الطويلة معهم ، وبعد هذه المراجعة لحسابهم المغلوط ، الذي اطمأنوا إليه .. إنّ كل هذا لم يزحزحهم عن موقف الضلال الذي هم فيه .. وإنهم مازالوا على تكذيبهم بالبعث ، والحساب والجزاء ، فيسألون هذا السؤال ، الذي يدل على رفضهم لكل ما قدم إليهم من أدلة ، وما عرض عليهم من آيات :« مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ؟ ».. يقولون هذا فى استهزاء وسخرية ..وكأنهم يقولون النبي ، وللمؤمنين : دعونا من كل هذا الذي تخوضون فيه ، وقولوا لنا : متى هذا الوعد ؟ أي متى يوم القيامة الذي تقولون عنه وتجعلونه موعدا للحساب والجزاء ؟ متى يومه ؟ إن كنتم صادقين فى هذا الزعم ، فحددوا له موعدا لهذا اليوم ، طال هذا الموعد أم قصر ..
أمَّا إطلاق هذا اليوم ضالّا فى غياهب الغيب ، فهذا دليل على أن الحديث عن هذا اليوم ، هو حديث مكذوب ، وقول مفترى ..
إذ لو أنه كان حديثا قائما على واقع من الحق ، لعلم المتحدّث به ، الموعد الذي يقع فيه .. أمَّا أن يتحدث متحدث عن أمر سيقع ، ثم لا يربط هذا الحديث عنه بزمن معلوم ، فذلك رجم بالغيب ، أشبه بأخبار الكهان والمنجّمين ..هكذا كانوا يفكّرون ويقدّرون .. (1)
أي ويقول المشركون لمحمد والمؤمنين تهكما واستهزاء : متى يقع ما تعدنا به من القيامة والحشر والعذاب والنار في الآخرة ، والخسف والحاصب في الدنيا ، إن كنتم يا محمد والمؤمنون به صادقين فيما تدعونه؟ فأخبرونا به ، أو فبيّنوه لنا.
وقد جاءهم الرد المفحم فى قوله تعالى : « قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ».. إن الرسول لم يقل لهم يوما إنه يعلم الغيب ، أو أنه إله مع اللّه ، وإنما بادأهم من أول الأمر ، بما أمره اللّه سبحانه أن يلقاهم به فى قوله تعالى : « قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ » (110 : الكهف) .. وقوله سبحانه : « إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1077)(1/114)
يُوحى إِلَيَّ » (15 : يونس) ..وإذ كان هذا شأنه ، فإنه لا يعلم من أمر الساعة شيئا : « قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي » (187 : الأعراف).
إن موعد الساعة فرع من أصل ، وجزئية من أمر كلىّ ، هو الساعة ذاتها ، أي القيامة والبعث ، والحساب والجزاء .. هذه هى القضية .. فإن آمنوا بها إيمان غيب ، فإن من تمام هذا الإيمان أن يؤمنوا بكل ما جاء فى القرآن عنها .. وإن لم يؤمنوا بها أصلا ، فلا معنى إذن لأن يسألوا عن متعلقاتها .. (1)
أي قل لهم أيها النبي : إنما علم ذلك عند اللّه ، فلا يعلم وقت الساعة والعذاب على التعيين إلا اللّه عز وجل ، لكنه أمرني أن أخبركم أن هذا كائن وواقع لا محالة ، فاحذروه ، وإنما أنا منذر لكم ، أنذركم وأخوّفكم عاقبة كفركم ، فعليّ البلاغ وقد أديته لكم.
" وممّا ينبغى أن يؤمن به الرسول قبل أن يبدأ رسالته ، أن يؤمن بالآخرة ، كما آمن باللّه ، وأن يستيقن أنها آتية لا ريب فيها .. وفى قوله تعالى : « أَكادُ أُخْفِيها » إشارة إلى أن الساعة غيب من غيوب اللّه ، وأنها محجبة وراء ستر الغيب ، وأن الذي يؤمن بها إنما يؤمن إيمان غيب ، لا إيمان شهادة ومعاينة .. ومع هذا ، فإنّ هناك من الأمارات ، والدلائل ، ما يجدها العقل بين يديه ، ليستدلّ منها على أن الحياة الدنيا ليست هى مبدأ الإنسان ، ونهايته ، وأنه لا بد أن يكون وراء هذه الحياة حياة أرحب وأوسع ، لتجزى فيها كلّ نفس بما عملت فى هذه الدنيا .. وهذا هو السرّ فى قوله تعالى : « أَكادُ أُخْفِيها » ولم يجىء النظم القرآنى « أخفيتها » فهذا التعبير القرآنى يحمل فى طياته إشارة مضيئة إلى أن الإنسان مطالب ـ بما أودع اللّه سبحانه وتعالى فى كيانه من قوّى عاقلة مدركة ـ بأن يتجنب الشر ، ويتجه إلى الخير ، وأن يتنكب طرق الضلال ، ويأخذ طريق الهدى ، وبذلك يكون مهيئا تلقائيّا للقاء الآخرة ، وللفوز برضوان اللّه فيها .. أما من زهد فى عقله ،
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1079)(1/115)
وتنكر لفطرته ، فركب طريق الغواية والضلال ، فإن ما يلقاه فى الآخرة من عذاب وبلاء ، هو الجزاء العادل الذي يستحقه.
وهذا يعنى أنه إذا لم تكن هناك آخرة ، أو حساب وجزاء ـ فإنه كان جديرا بالإنسان أن يحاسب نفسه ، ويقيمها على ما هو أكرم لإنسانيته ، وأحفظ لقدرها وكرامتها ..
ـ وقوله تعالى « أَكادُ أُخْفِيها » أي أكاد ألّا أنبئ أحدا عنها ، وألا يقع فى حساب الناس أنها آتية ، حتى يعمل كل بما فى طبيعته ، وحتى يجزى كل بما هو أهل له ، إذا جاء يوم الحساب ، على غير حساب أو انتظار من الناس.
ولكن رحمة اللّه بعباده ، قد شملتهم ، فأنذروا بهذا اليوم قبل أن يقع ، وحذّروا بما فيه من نكال وبلاء للضالين والمنحرفين ، ووعدوا بما فيه من خير ونعيم ورضوان ، للمؤمنين المتقين ..
« فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى » وفى هذا إشارة إلى بنى إسرائيل ، وتعريض بإيمانهم بالآخرة ، إذ كان إيمانهم بها إيمانا غير مستيقن .. وإنما هو متلبس بالشكّ ، والظنون .. ذلك أنهم لا يؤمنون إلّا بما هو مادىّ ، يجبه حواسّهم ، وفى هذا يقول اللّه عنهم :« وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً » (55 : البقرة) يقولون هذا عن اللّه وآيات اللّه تنزل عليهم من السّماء ، يرونها رأى العين ، ويعيشون فيها ، فكيف بيوم القيامة وليس فى أيديهم شىء منه ؟" (1)
" أما الساعة فهي الموعد المرتقب للجزاء الكامل العادل ، الذي تتوجه إليه النفوس فتحسب حسابه وتسير في الطريق وهي تراقب وتحاسب وتخشى الانزلاق .. واللّه سبحانه يؤكد مجيئها : «إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ» وأنه يكاد يخفيها. فعلم الناس بها قليل لا يتجاوز ما يطلعهم عليه من أمرها بقدر ما يحقق حكمته من معرفتهم ومن جهلهم .. والمجهول عنصر أساسي في حياة البشر وفي تكوينهم النفسي. فلا بد من مجهول
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (8 / 785)(1/116)
في حياتهم يتطلعون إليه. ولو كان كل شيء مكشوفا لهم - وهم بهذه الفطرة - لوقف نشاطهم وأسنت حياتهم. فوراء المجهول يجرون. فيحذرون ويأملون ، ويجربون ويتعلمون. ويكشفون المخبوء من طاقاتهم وطاقات الكون من حولهم ويرون آيات اللّه في أنفسهم وفي الآفاق ويبدعون في الأرض بما شاء لهم اللّه أن يبدعوا .. وتعليق قلوبهم ومشاعرهم بالساعة المجهولة الموعد ، يحفظهم من الشرود ، فهم لا يدرون متى تأتي الساعة ، فهم من موعدها على حذر دائم وعلى استعداد دائم. ذلك لمن صحت فطرته واستقام. فأما من فسدت فطرته واتبع هواه فيغفل ويجهل ، فيسقط ومصيره إلى الردى :«فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى » ..ذلك أن اتباع الهوى هو الذي ينشىء التكذيب بالساعة. فالفطرة السليمة تؤمن من نفسها بأن الحياة الدنيا لا تبلغ فيها الإنسانية كمالها ، ولا يتم فيها العدل تمامه وأنه لا بد من حياة أخرى يتحقق فيها الكمال المقدر للإنسان ، والعدل المطلق في الجزاء على الأعمال.." (1)
ثم وصف تعالى حال أولئك الكفار عند رؤية العذاب ، فقال « فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ».إنه يوم آت لا ريب فيه ، ولكن اقتضت حكمة اللّه أن يخفى ميقاته ، كما يقول سبحانه : « إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى » (15 : طه) .. فلو كشف هذا اليوم للناس لفسد نظامهم ،واضطربت حياتهم ، ولو كان بينهم وبينه مئات السنين أو ألوفها ، تماما كما لو عرف الإنسان اليوم الذي يموت فيه .. إنه بهذا الكشف ، يموت كل يوم مئات المرات ، ولو كان بينه وبين الموت عشرات السنين ..
وفى الحديث عن رؤية المشركين لهذا اليوم بصيغة الماضي « رأوه » ، وهم مازالوا فى هذه الدنيا ، وفى إنكار ، وتكذيب له ـ فى هذا إهمال لإنكارهم ، وعدم اعتداد بمعتقدهم الفاسد فى أمر البعث ، ثم سوقهم إليهم سوقا فى الدنيا وهم
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2331)(1/117)
متلبسون بهذا الإنكار ، فإذا هم بين يدى ما ينكرون ..وقوله تعالى : « زلفة » أي دانيا ، وقريبا منهم ، بحيث يعاينونه ، ويقعون تحت سلطانه .. ومنه قوله تعالى : « وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ » (90 ـ الشعراء) أي دنت وقربت لهم ، لتكون بين أيديهم.
وقوله تعالى : « سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا » ـ أي حلّ بها السوء ، ونزل بها الكرب ..
وإسناد السوء إلى الوجوه ، لأنها هى التي تتجلّى على صفحتها آثار المشاعر ، والأحاسيس ، والأفكار التي تدور فى كيان الإنسان ، من فرح أو حزن ، ومن لذة أو ألم ..
وفى إقامة « الذين كفروا » بدلا من ضميرهم ، ليكون فى ذلك مواجهة لهم بهذا الذي يسؤوهم ، وليبين السبب الذي من أجله حلت بهم المساءة .. وهو أنهم كانوا كافرين ..
وقوله تعالى : « وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ » أي أنه حين يلقاهم هذا اليوم ، ويقع عليهم منه ما يقع من فزع وكرب ، يلقاهم من يقول لهم :«هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ » أي هذا الذي كنتم تطلبونه ، وتلحّون فى الكشف عن وجهه ... فها هو ذا قد جاءكم .. فلم تنكرونه ؟ ولم تفزعون منه ؟
وهل يفزع المرء من أمر كان شديد اللهف على لقائه ؟
و« تدعون » معناه تطلبون ، وتتمنون .. ومنه قوله تعالى عن أصحاب الجنة : « وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ » (31 : فصلت).
وفى تعدية الفعل تدعون بحرف الجر « الباء ».. « به تدعون » وهو متعدّ بنفسه ـ لتضمّنه معنى الفعل ، « تهتفون » أو « تستعجلون ».. ونحوهما ، مما يدل على شدة الرغبة للشىء ، والطلب له." (1)
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1081)(1/118)
أي فلما رأوا العذاب الموعود به قريبا في الدنيا ، وقامت القيامة وشاهدها الكفار ، ورأوا أن الأمر كان قريبا لأن كل ما هو آت قريب وإن طال زمنه ، اسودّت وجوههم ، وعلتها الكآبة ، وغشيتها الذلة والمهانة ، وقالت لهم ملائكة العذاب الخزنة على وجه التقريع والتوبيخ : هذا الذي كنتم في الدنيا تطلبونه وتستعجلون به استهزاء ، في قولكم لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأحقاف 46/ 22].
ونظير الآية : وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ، وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الزمر 39/ 47 - 48].
وفيه إشارة إلى ما ينكشف للمشركين والضالين فى هذا اليوم ، مما لم يكن يقع فى حسبانهم ..ففي هذا اليوم يرون أن ما كانوا يعبدون من دون اللّه ، هو ضلال فى ضلال ، ويرون أعمالهم التي زينها لهم الشيطان ، وجوها منكرة ، تطلع عليهم بالويلات والحسرات .. وأكثر من هذا ، فإنهم يرون هذا الهول الذي يلقاهم من جهنم ، مما لم يقع فى خيال ، أو يخطر على بال ..كما يرون أناسا كانوا يسخرون منهم ويستهزئون بهم قد لبسوا حلل النعيم ، ونزلوا منازل الرحمة والرضوان ، على حين يشهدون سادتهم وكبراءهم ممن كانوا ينزلونهم منازل الآلهة ، وقد قطّعت لهم ثياب من نار ، يصبّ من فوق رءوسهم الحميم .. يصهر به ما فى بطونهم والجلود .. ولهم مقاطع من جديد .. كلّما أرادوا أن يخرجوا منها من غمّ أعيدوا فيها ...إن معارف الناس ، وتصوراتهم وأخيلتهم فى هذه الدنيا ، لا تكاد تلتقى مع شىء من أمور الآخرة ، وإن كان المؤمنون باللّه أكثر تصورا لها ، وأقرب إدراكا لمجملها ..
روى أن بعض الصالحين حين حضره الموت ، فزع واضطرب ، فسئل فى هذا ، فقال : ذكرت قول اللّه تعالى : « وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ » فما أدرى ماذا يبدو لى من اللّه وأنا مقدم عليه!.(1/119)
قوله تعالى : « وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ». هو معطوف على قوله تعالى : « وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ » ـ من عطف الخاص على العام .. فمما يبدو للظالمين ـ مما لم يكونوا يحتسبونه ـ هو سيئات ما كسبوا ، حيث يبدو كسبهم الذي كسبوه ، وعملهم الذي عملوه فى الدنيا ، ضلالا فى ضلال ، وسوءا إلى سوء. وخسرانا إلى خسران ، مع أنهم كانوا يحسبون أن هذا الذي يعملون ، هو الحق ، وهو الخير .. واللّه سبحانه وتعالى يقول : « قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ».. (103 ـ 104 : الكهف) وقوله تعالى : « وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ »..حاق بهم : أي نزل بهم ، واشتمل عليهم .. وأصله من الحقّ ..ومعنى هذا ، أن الحق الذي كانوا يستهزئون به قد جاء ليحاكمهم ، وليقتصّ منهم لجنايتهم التي جنوها عليه ، بالانتصار للباطل ، ومحاربة أولياء الحق .." (1)
" ولا يفصح عما بدا لهم من اللّه ولم يكونوا يتوقعونه. لا يفصح عنه ولكنه هكذا هائل مذهل مخيف .. فهو اللّه. اللّه الذي يبدو منه لهؤلاء الضعاف ما لا يتوقعون! هكذا بلا تعريف ولا تحديد!.«وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ..وهذه كذلك تزيد الموقف سوءا. حين يتكشف لهم قبح ما فعلوا وحين يحيط بهم ما كانوا به يستهزئون من الوعيد والنذير. وهم في ذلك الموقف الأليم الرعيب .." (2)
ومضات عامة
قال القاسمي : " . { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } تمثيل للضالين والمهتدين . والمكب : هو المتعثر الذي يخرّ على
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (12 / 1173)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 3056)(1/120)
وجهه لوعورة طريقه ، واختلاف سطحه ارتفاعاً وانخفاضاً . والذي يمشي سويّاً هو القائم السالم من العثار لاستواء طريقه ، واستقامة سطحه .
قال القاضي : والمراد تمثيل المشرك والموحِّد بالسالكين ، والدينين بالمسلكين . ولعل الاكتفاء بما في الكَبّ من الدلالة على حال المسلك ، للإشعار بأن ما عليه المشرك لا يستأهل أن يسمى طريقاً ، أي : فلذلك ذكر المسلك في الثاني دون الأول . " (1)
وقال دروزة : " في الآيتين( 23- 24) أمر للنبي بتوجيه الخطاب إلى الكفار في معرض التذكير والتنديد والتقرير بأن اللّه هو الذي خلقهم في البدء ووهبهم نعمة السمع والبصر والعقل مع تأنيبهم على قلة شكرهم للّه على هذه الأفضال. وبأن اللّه هو الذي كثرهم في الأرض ونمّاهم وسيحشرون إليه.
والآيتان متصلتان بما سبقهما كذلك سياقا وموضوعا. وقد انطوى في الآية الثانية تقرير قدرة اللّه على حشرهم إليه ما دام هو الذي خلقهم وكثّرهم في الأرض. " (2)
" وفي الآية الأولى(25)حكاية لتساؤل الكفار تساؤلا يتضمّن معنى الإنكار والاستخفاف عن موعد تحقيق وعد البعث والحساب والعذاب الأخروي إذا كان ذلك حقا وصدقا. وفي الثانية (26) أمر للنبي بإجابتهم بأن علم ذلك عند اللّه ، وأنه ليس إلّا نذيرا للبيان والتبليغ.
والآيتان أيضا متصلتان سياقا وموضوعا بما سبقهما. وأسلوب الآيتين والآيتين اللتين قبلهما قد يلهم أن هذه الآيات وما قبلها حكاية أو تسجيل لموقف حجاجي وجاهي بين النبي والكفار أو تعقيب عليه."
وفي الآية (27) جاءت في معرض توكيد تحقيق وعد اللّه ووصف حالة الكفار حينئذ : فلسوف يرون تحقيق هذا الوعد أقرب مما يظنون. وحينئذ تتجهّم وجوههم هلعا من العاقبة. ويقال لهم هذا هو مصداق وعد اللّه الذي كنتم تنكرونه
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 3)
(2) - التفسير الحديث لدروزة - (5 / 381)(1/121)
وتتعجلونه تعجّل الساخر الجاحد. والآية متصلة بالسياق كما هو واضح. وقد تضمنت إنذارا وتعنيفا وردّا." (1)
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية (2) : أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى :
هذا مثل ضربه اللّه للمؤمن والكافر ، فالكافر مثله فيما هو فيه ، كمثل من يمشى مكبا على وجهه ، أى : يمشى منحنيا لا مستويا على وجهه ، أى : لا يدرى أين يسلك ، ولا كيف يذهب ، بل هو تائه حائر ضال ، أهذا أهدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا أى : منتصب القامة عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أى على طريق واضح بين ، وهو في نفسه مستقيم وطريقه مستقيمة.هذا مثلهم في الدنيا ، وكذلك يكونون في الآخرة ، فالمؤمن يحشر يمشى سويا على صراط مستقيم .. وأما الكافر فإنه يحشر يمشى على وجهه إلى النار ..
وروى الإمام أحمد عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يُحْشَرُ النَّاسُ ثَلاَثَةَ أَصْنَافٍ صِنْفاً مُشَاةً وَصِنْفاً رُكْبَاناً وَصِنْفاً عَلَى وُجُوهِهِمْ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فَقَالَ « إِنَّ الَّذِى أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَمَّا إِنَّهُ يَتَّقُونَ بِكُلِّ حَدَبٍ وَشَوْكٍ » (3) . .
وعَن أَنَسٍ ، قال : قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم يوم القيامة ؟ قال : الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم." (4)
وقال الجمل : هذا مثل للمؤمن والكافر ، حيث شبه - سبحانه - المؤمن في تمسكه بالدين الحق ، ومشيه على منهاجه ، بمن يمشى في الطريق المعتدل ، الذي ليس فيه ما يتعثر به ..وشبه الكافر في ركوبه ومشيه على الدين الباطل ، بمن يمشى في الطريق الذي فيه حفر وارتفاع وانخفاض ، فيتعثر ويسقط على وجهه ، وكلما
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة - (5 / 382)
(2) - تفسير ابن كثير ج 8 ص 208.
(3) - مسند أحمد - المكنز - (8989) حسن -الحدب : الغليظ من الأرض فى ارتفاع
(4) - مسند البزار كاملا - (2 / 342) (7220) صحيح(1/122)
تخلص من عثرة وقع في أخرى.فالمذكور في الآية هو المشبه به ، والمشبه محذوف ، لدلالة السياق عليه .. (1)
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد لفتت أنظار الناس إلى التفكر والاعتبار ، ووبخت المشركين على جهالاتهم وطغيانهم ، وساقت مثالا واضحا للمؤمن والكافر ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة. (2)
قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المشركين - على سبيل تبصيرهم بالحجج والدلائل الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا ، وعلى سبيل التنويع في الإرشاد والتوجيه .. قل لهم : الرحمن - عز وجل - هو الذي أنشأكم وأوجدكم في كل طور من أطوار حياتكم ، وهو سبحانه - الذي أوجد لكم السمع الذي تسمعون به ، والأبصار التي تبصرون بها الكائنات ، والأفئدة أى والقلوب التي تدركونها بها ..ولكنكم - مع كل هذه النعم - قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ خالقكم - عز وجل - . وجمع - سبحانه - الأفئدة والأبصار ، وأفرد السمع ، لأن القلوب تختلف باختلاف مقدار ما تفهمه مما يلقى إليها من إنذار أو تبشير ، ومن حجة أو دليل ، فكان من ذلك تعدد القلوب بتعدد الناس على حسب استعدادهم.
وكذلك شأن الناس فيما تنتظمه أبصارهم من آيات اللّه في كونه ، فإن أنظارهم تختلف في عمق تدبرها وضحولته ، فكان من ذلك تعدد المبصرين ، بتعدد مقادير ما يستنبطون من آيات اللّه في الآفاق.
وأما المسموع فهو بالنسبة للناس جميعا شيء واحد ، هو الحجة يناديهم بها المرسلون ، والدليل يوضحه لهم النبيون.
لذلك كان الناس جميعا كأنهم سمع واحد ، فكان إفراد السمع إيذانا من اللّه بأن حجته واحدة ، ودليله واحد لا يتعدد.
__________
(1) - حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 380.
(2) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 23)(1/123)
" والمعنى : لقد حل بالكافرين العذاب الذي كانوا يستعجلونه ، ويقولون : متى هذا الوعد.
فحين رأوه نازلا بهم ، وقريبا منهم سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أى : ساءت رؤيته وجوههم ، وحلت عليها غبرة ترهقها قترة.
وَقِيلَ لهم على سبيل التوبيخ والتأنيب هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ أى : هذا هو العذاب الذي كنتم تتعجلون وقوعه في الدنيا ، وتستهزءون بمن يحذركم منه." (1)
وفي الظلال : "ثم يلمس قلوبهم لمسة أخرى تعود بهم إلى مشهد البأس والفزع من الخسف والحاصب ، بعد أن جال بهم هذه الجولة مع الطير السابح الآمن. فيردد قلوبهم بين شتى اللمسات عودا وبدءا كما يعلم اللّه من أثر هذا الترداد في قلوب العباد : «أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ؟ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ»
وقد خوفهم الخسف وخوفهم الحاصب ، وذكرهم مصائر الغابرين الذين أنكر اللّه عليهم فأصابهم التدمير.
فهو يعود ليسألهم : من هو هذا الذي ينصرهم ويحميهم من اللّه ، غير اللّه؟ من هو هذا الذي يدفع عنهم بأس الرحمن إلا الرحمن؟ «إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ» .. غرور يهيئ لهم أنهم في أمن وفي حماية وفي اطمئنان ، وهم يتعرضون لغضب الرحمن وبأس الرحمن ، بلا شفاعة لهم من إيمان ولا عمل يستنزل رحمة الرحمن.
ولمسة أخرى في الرزق الذي يستمتعون به ، وينسون مصدره ، ثم لا يخشون ذهابه ، ثم يلجون في التبجح والإعراض : «أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ؟ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ» ..
ورزق البشر كله - كما سلف - معقود بإرادة اللّه في أول أسبابه ، في تصميم هذا الكون وفي عناصر الأرض والجو. وهي أسباب لا قدرة للبشر عليها إطلاقا ، ولا تتعلق بعملهم بتاتا. فهي أسبق منهم في الوجود ، وهي أكبر منهم في الطاقة ،
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 26)(1/124)
وهي أقدر منهم على محو كل أثر للحياة حين يشاء اللّه.فمن يرزق البشر إن أمسك الماء ، أو أمسك الهواء ، أو أمسك العناصر الأولى التي منها ينشأ وجود الأشياء؟
إن مدلول الرزق أوسع مدى وأقدم عهدا وأعمق جذورا مما يتبادر إلى الذهن عند ما يسمع هذه الكلمة. ومرد كل صغيرة وكبيرة فيه إلى قدرة اللّه وقدره ، وإرساله للأسباب وإمساكها حين يشاء.
وفي هذا المدلول الكبير الواسع العميق تنطوي سائر المدلولات القريبة لكلمة الرزق ، مما يتوهم الإنسان أنها من كسبه وفي طوقه ، كالعمل ، والإبداع ، والإنتاج .. وكلها مرتبطة بقيام الأسباب والعناصر الأولى من جهة ومتوقفة على هبة اللّه للأفراد والأمم من جهة أخرى. فأي نفس يتنفسه العامل ، وأي حركة يتحركها ، إلا من رزق اللّه ، الذي أنشأه ، ومنحه المقدرة والطاقة ، وخلق له النفس الذي يتنفسه ، والمادة التي تحترق في جسده فتمنحه القدرة على الحركة؟ وأي جهد عقلي يبذله مخترع إلا وهو من رزق اللّه الذي منحه القدرة على التفكير والإبداع؟ وأي إنتاج ينتجه عامل أو مبدع إلا في مادة هي من صنع اللّه ابتداء ، وإلا بأسباب كونية وإنسانية هي من رزق اللّه أصلا؟ .. «أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه؟!» ..
«بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ».والتعبير يرسم خدا مصعرا ، وهيئة متبجحة ، بعد تقريره لحقيقة الرزق ، وأنهم عيال على اللّه فيه ، وأقبح العتو والنفور ، والتبجح والتصعير ، ما يقع من العيال في مواجهة المطعم الكاسي ، الرازق العائل وهم خلو من كل شيء إلا ما يتفضل به عليهم. وهم بعد ذلك عاتون معرضون وقحاء! وهو تصوير لحقيقة النفوس التي تعرض عن الدعوة إلى اللّه في طغيان عات ، وفي إعراض نافر ، وتنسى أنها من صنع اللّه ، وأنها تعيش على فضله ، وأنها لا تملك من أمر وجودها وحياتها ورزقها شيئا على الإطلاق! ولقد كانوا - مع هذا - يتهمون النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه بالضلال ويزعمون لأنفسهم أنهم أهدى سبيلا! كما يصنع(1/125)
أمثالهم مع الدعاة إلى اللّه في كل زمان. ومن ثم يصور لهم واقع حالهم وحال المؤمنين في مشهد حي يجسم حقيقة الحال : «أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى ؟ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟» .. والذي يمشي مكبا على وجهه إما أن يكون هو الذي يمشي على وجهه فعلا لا على رجليه في استقامة كما خلقه اللّه ، وإما أن يكون هو الذي يعثر في طريقه فينكب على وجهه ، ثم ينهض ليعثر من جديد! وهذه كتلك حال بائسة تعاني المشقة والعسر والتعثر ، ولا تنتهي إلى هدى ولا خير ولا وصول! وأين هي من حال الذي يمشي مستقيما سويا في طريق لا عوج فيه ولا عثرات ، وهدفه أمامه واضح مرسوم؟!
إن الحال الأولى هي حال الشقي المنكود الضال عن طريق اللّه ، المحروم من هداه ، الذي يصطدم بنواميسه ومخلوقاته ، لأنه يعترضها في سيره ، ويتخذ له مسارا غير مسارها ، وطريقا غير طريقها ، فهو أبدا في تعثر ، وأبدا في عناء ، وأبدا في ضلال.
والحال الثانية هي حال السعيد المجدود المهتدي إلى اللّه ، الممتع بهداه ، الذي يسير وفق نواميسه في الطريق اللاحب المعمور ، الذي يسلكه موكب الإيمان والحمد والتمجيد. وهو موكب هذا الوجود كله بما فيه من أحياء وأشياء.
إن حياة الإيمان هي اليسر والاستقامة والقصد. وحياة الكفر هي العسر والتعثر والضلال ..فأيهما أهدى؟ وهل الأمر في حاجة إلى جواب؟ إنما هو سؤال التقرير والإيجاب! ويتوارى السؤال والجواب ليتراءى للقلب هذا المشهد الحي الشاخص المتحرك .. مشهد جماعة يمشون على وجوههم ، أو يتعثرون وينكبون على وجوههم لا هدف لهم ولا طريق. ومشهد جماعة أخرى تسير مرتفعة الهامات ، مستقيمة الخطوات ، في طريق مستقيم ، لهدف مرسوم.
إنه تجسيم الحقائق ، وإطلاق الحياة في الصور ، على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير .. وعلى ذكر الهدى والضلال ، يذكرهم بما وهبهم اللّه من وسائل(1/126)
الهدى ، وأدوات الإدراك ثم لم ينتفعوا بها ، ولم يكونوا من الشاكرين : «قُلْ : هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ ، قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» ..
وحقيقة أن اللّه هو الذي أنشأ الإنسان ، حقيقة تلح على العقل البشري ، وتثبت ذاتها بتوكيد يصعب رده.
فالإنسان قد وجد - وهو أرفع وأعلم وأقدر ما يعلم من الخلائق - وهو لم يوجد نفسه ، فلا بد أن يكون هناك من هو أرفع وأعلم وأقدر منه أوجده .. ولا مفر من الاعتراف بخالق. فوجود الإنسان ذاته يواجهه بهذه الحقيقة.والمماراة فيها نوع من المماحكة لا يستحق الاحترام.
والقرآن يذكر هذه الحقيقة هنا ليذكر بجانبها ما زود اللّه به الإنسان من وسائل المعرفة : «وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ» ..
وما قابل الإنسان به هذه النعمة : نعمة الإنشاء ونعمة السمع والأبصار والأفئدة : «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» ..والسمع والأبصار معجزتان كبيرتان عرف عنهما بعض خواصهما العجيبة. والأفئدة التي يعبر بها القرآن عن قوة الإدراك والمعرفة ، معجزة أعجب وأغرب. ولم يعرف بعد عنها إلا القليل. وهي سر اللّه في هذا المخلوق الفريد ..
وللعلم الحديث محاولات في معرفة شيء عن معجزتي السمع والبصر نذكر منها لمحة:
«تبدأ حاسة السمع بالأذن الخارجية ، ولا يعلم الا اللّه أين تنتهي. ويقول العلم : إن الاهتزاز الذي يحدثه الصوت في الهواء ينقل إلى الأذن ، التي تنظم دخوله ، ليقع على طبلة الأذن. وهذه تنقلها إلى التيه داخل الأذن.
«والتيه يشتمل على نوع من الأقنية بين لولبية ونصف مستديرة. وفي القسم اللولبي وحده أربعة آلاف قوس صغيرة متصلة بعصب السمع في الرأس.
«فما طول القوس منها وحجمها؟ وكيف ركبت هذه الأقواس التي تبلغ عدة آلاف كل منها تركيبا خاصا؟(1/127)
وما الحيز الذي وضعت فيه؟ ناهيك عن العظام الأخرى الدقيقة المتماوجة. هذا كله في التيه الذي لا يكاد يرى! وفي الأذن مائة ألف خلية سمعية. وتنتهي الأعصاب بأهداب دقيقة. دقة وعظمة تحير الألباب» .
«ومركز حاسة الإبصار العين ، التي تحتوي على مائة وثلاثين مليونا من مستقبلات الضوء ، وهي أطراف أعصاب الإبصار. وتتكون العين من الصلبة والقرنية والمشيمة والشبكية .. وذلك بخلاف العدد الهائل من الأعصاب والأوعية .
«وتتكون الشبكية من تسع طبقات منفصلة ، والطبقة التي في أقصى الداخل تتكون من أعواد ومخروطات.
ويقال : إن عدد الأولى ثلاثون مليون عود ، وعدد الثانية ثلاثة ملايين مخروط. وقد نظمت كلها في تناسب محكم بالنسبة لبعضها البعض وبالنسبة للعدسات .. وعدسة عينيك تختلف في الكثافة ، ولذا تجمع كل الأشعة في بؤرة ، ولا يحصل الإنسان على مثل ذلك في أية مادة من جنس واحد كالزجاج مثلا » ..
فأما الأفئدة فهي هذه الخاصية التي صار بها الإنسان إنسانا. وهي قوة الإدراك والتمييز والمعرفة التي استخلف بها الإنسان في هذا الملك العريض. والتي حمل بها الأمانة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال.
أمانة الإيمان الاختياري ، والاهتداء الذاتي ، والاستقامة الإرادية على منهج اللّه القويم ولا يعلم أحد ماهية هذه القوة ، ولا مركزها ، داخل الجسم أو خارجه! فهي سر اللّه في الإنسان لم يعلمه أحد سواه.
وعلى هذه الهبات الضخمة التي أعطيها الإنسان لينهض بتلك الأمانة الكبرى ، فإنه لم يشكر : «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» .. وهو أمر يثير الخجل والحياء عند التذكير به ، كما يذكرهم القرآن في هذا المجال ويذكر كل جاحد وكافر ، لا يشكر نعمة اللّه عليه وهو لا يوفيها حقها لو عاش للشكر دون سواه! ثم يذكرهم أن اللّه لم ينشئ البشر ويمنحهم هذه الخصائص عبثا ولا جزافا لغير قصد ولا غاية. إنما هي فرصة(1/128)
الحياة للابتلاء. ثم الجزاء في يوم الجزاء : «قُلْ : هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ ، وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» ..
والذرء : الإكثار. ويحمل كذلك معنى الانتشار. والحشر : الجمع بعد النشر في الأرجاء. وهما حركتان متقابلتان من الناحية التصورية ، تقابلهما من الناحية المعنوية. ذلك مشهد للإكثار من الخلق ونشرهم أو نثرهم في الأرض. وهذا مشهد لجمعهم منها وحشرهم بعد النشر والنثر! ويجمعهما السياق في آية واحدة ، ليتقابل المشهدان في الحس والتصور على طريقة القرآن. وليتذكر البشر وهم منتشرون في الأرض أن هناك غاية هم صائرون إليها ، هي الجمع والحشر. وأن هناك أمرا وراء هذا ، ووراء الابتلاء بالموت والحياة.
ثم يحكي شكهم في هذا الحشر ، وارتيابهم في هذا الوعد : «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»؟ ..
وهو سؤال الشاك المستريب. كما أنه سؤال المماحك المتعنت. فإن معرفة موعد هذا الوعد وميقاته لا تقدم ولا تؤخر ولا علاقة لها بحقيقته ، وهو أنه يوم الجزاء بعد الابتلاء. ويستوي بالقياس إليهم أن يجيء غدا أو أن يجيء بعد ملايين السنين .. فالمهم أنه آت ، وأنهم محشورون فيه ، وأنهم مجازون بما عملوا في الحياة.
ومن ثم لم يطلع اللّه أحدا من خلقه على موعده ، لأنه لا مصلحة لهم في معرفته ، ولا علاقة لهذا بطبيعة هذا اليوم وحقيقته ، ولا أثر له في التكاليف التي يطالب الناس بها استعدادا لملاقاته ، بل المصلحة والحكمة في إخفاء ميقاته عن الخلق كافة ، واختصاص اللّه بعلم ذلك الموعد ، دون الخلق جميعا : «قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ».
وهنا يبرز بجلاء فارق ما بين الخالق والمخاليق. وتتجرد ذات اللّه ووحدانيته بلا شبيه ولا شريك. ويتمحض العلم له سبحانه. ويقف الخلق - بما فيهم الرسل والملائكة - في مقامهم متأدبين عند مقام الألوهية العظيم : «قُلْ : إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ(1/129)
اللَّهِ. وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» .. وظيفتي الإنذار ، ومهمتي البيان. أما العلم فعند صاحب العلم الواحد بلا شريك.
وبينما هم يسألون في شك ويجابون في جزم ، يخيل السياق القرآني كأن هذا اليوم الذي يسألون عنه قد جاء ، والموعد الذي يشكون فيه قد حان وكأنما هم واجهوه الآن. فكان فيه ما كان : «فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا ، وقيل : هذا الذي كنتم به تدعون»! فقد رأوه قريبا مواجها لهم حاضرا أمامهم دون توقع ودون تمهيد. فسيئت وجوههم ، وبدا فيها الاستياء.
ووجه إليهم التأنيب : «وَقِيلَ : هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ» .. هذا هو حاضرا قريبا. وهو الذي كنتم تدعون أنه لن يكون!
وهذه الطريقة في عرض ما سيكون تتكرر في القرآن ، لمواجهة حالة التكذيب أو الشك بمفاجأة شعورية تصويرية تقف المكذب أو الشاك وجها لوجه مع مشهد حاضر لما يكذب به أو يشك فيه.
ثم هي في الوقت ذاته تصور حقيقة. فهذا اليوم كائن في علم اللّه أما خط الزمن بينه وبين البشر فهو قائم بالقياس إلى البشر. وهي مسألة نسبية لا تمثل الحقيقة المجردة كما هي في حساب اللّه. ولو أذن اللّه لرأوه اللحظة كما هو في علم اللّه. فهذا الانتقال المفاجئ لهم من الدنيا إلى الآخرة ، ومن موقف الشك والارتياب إلى موقف المواجهة والمفاجأة ، يشير إلى حقيقة قائمة لو أذن اللّه بها لا نكشفت لهم. في الوقت الذي يصور لهم هذه الحقيقة تصويرا يهز مشاعرهم. " (1)
ما يستفاد من الآيات
يستدل بالآيات على ما يأتي :
1- تقرير حقيقة ثابتة وهي أن الكافر يعيش في غرور كامل ولذا يرفض دعوة الحق.
2- تقرير حقيقة ثابتة وهي إنحراف الكافر وضلاله وإستقامة المؤمن وهدايته .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3639)(1/130)
3- وجوب الشكر لله تعالى على نعمة السمع والبصر والقلب وذلك بالإيمان والطاعة (1) .
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
5 - لا ناصر ولا رازق للمؤمن والكافر في الحقيقة والواقع إلا اللّه عز وجل ، ولكن الكافرين في غرور من الشياطين تغرّهم بأن لا عذاب ولا حساب ، وفي تماد واستمرار في طغيانهم وضلالهم ونفورهم عن الحق.
6 - مثل الكافر في ضلاله وحيرته كالرجل المنكّس الرأس الذي لا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله ، والذي لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه ، ومثل المؤمن في هدايته وتبصره كالرجل السوي الصحيح البصير الماشي في الطريق المستقيم المهتدي له. ولا شك بأن الثاني أهدى من الأول.
7 - هناك براهين ثلاثة على كمال قدرة اللّه تعالى : وهي تمكين الطيور من الطيران في الهواء ، وخلق الإنسان وتزويده بطاقات السمع والبصر والفؤاد أو العقل ، وخلق الناس موزعين مفرقين على ظهر الأرض ثم حشر الناس يوم القيامة ، لمجازاة كلّ بعمله لأن القادر على البدء أقدر على الإعادة.
8 - غالب الناس لا يشكرون نعم اللّه باستعمال حواسهم فيما خلقت لأجله ، ولا يوحدون اللّه تعالى.
9 - طالب الكفار بعد تخويفهم بعذاب اللّه بتعيين الوقت الموعود به استهزاء وإنكارا.
10 - الجواب عن تساؤلهم واستعجالهم : أن علم وقت قيام الساعة عند اللّه وحده ، فلا يعلمه غيره. وما مهمة الرسول إلا البلاغ المبين والإنذار والتخويف البيّن من العذاب.
__________
(1) - أيسر التفاسير للجزائري - (4 / 291)(1/131)
ثمرات الإيمان باليوم الآخر
لما كانَ الإيمان باليوم الآخر أحدَ أصولِ الإيمان الستةِ التي لا يصحُّ إيمانُ مسلمٍ بدونها.
ولما لذلك الإيمانِ من أثرٍ في حياة المسلمِ وطاعته لأوامر الله (عزَّ و جلَّ) واجتنابِ نواهيه، ولما له من أثرٍ في صلاحِ القلوبِ وصلاحِ الناس وسعادتهِم في الدنيا والآخرة، ولما في نسيانِ ذلك اليوم العظيم ِوالغفلةِ عنه من خطرٍ على حياةِ الناس ومصيرهِم.. فلا غرابةَ إذن أن يردَ ذكرُ هذا اليوم كثيراً في القرآن الكريم ، حتى لا تكاد تخلو منه صفحةٌ من صفحاتهِ.
وإذا كانَ الكتابُ والسنَّةُ قد اهتما غاية الاهتمامِ بتفاصيل ذلك اليوم المشهودِ، وبأحوال هذا النبأ العظيم؛ فإنه من الحمقِ والجهلِ ألا نهتمَّ بما اهتمَّ به الوحيانِ.
إنَّ أعظمَ قضيةٍ يجبُ أن ينشغلَ بها كلُّ واحد منا هي: قضيةُ وجودهِ وحياتهِ والغايةِ منها، وقضيةُ مستقبلهِ ومصيرهِ وشقائهِ وسعادتهِ، فلا يجوزُ أن يتقدمَ ذلك شيءٌ مهما كان، فكلُّ أمر دونه هينٌ ،وكلُّ خطبٍ سواه حقيرٌ. وهل هناكَ أعظمُ وأفدح ُمن أن يخسرَ الإنسانُ حياتَه وأهلَه، ويخسرَ مع ذلك سعادتَه وسعادتَهم، فماذا يبقى بعد ذلك؟ قال تعالى : {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (15) سورة الزمر . وقال تعالى : {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} (45) سورة الشورى .
وأهميةُ هذا الموضوع تتجلَّى فيما يلي:
1- انفتاح الدنيا الشديد على كثير من الناس في هذا الزمان وما صحب ذلك من مكر الليل والنهار بأساليب جديدة ودعايات خبيثة تزين الدنيا في أعين الناس(1/132)
وتصدهم عن الآخرة، ومع ما كان عليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان والتقوى، فقد كانَ يحذرهم من الاغترار بالدنيا وضرورة الاستعداد للآخرة، مع أنَّ الدنيا لم تنفتحْ عليهم مثل اليوم، فلا شكَّ ولا ريبَ أننا أحوجُ منهم بكثير إلى أن نتذكرَ الآخرة ويذكّرَّ بعضُنا بعضاً، بعظمةِ شأنها وأهمية الاستعداد لها.
2- ركونُ كثيرٍ من الناس للدنيا، ولقد ترتبَ على ذلك أن قستِ القلوب، وتحجرتِ الأعينِ، وهُجِرَ كتابُ الله (عز وجل)، وإذا قرأ أحدُنا القرآن قرأهُ بقلب لاهٍ، فأنَّّى لمثل ذلك القلب أن يخشعَ لذكر اللهِ؟ وأنَّّى لعينيهِ أن تدمعَ خوفاً من الله، وقد انعكس ذلك على الصلاةِ ، فقلّ الخاشعونَ والمطمئنون فيها.. والله المستعان.
3- لما في تذكُّرِ ذلك اليومِ ومشاهدهِ العظيمةِ من حثٍّ على العملِ الصالحِ ، والمبادرةِ لفعل الخيراتِ وترك المنكراتِ ، بل ما تكاسلَ المتكاسلون في عمل الصالحات سواءٌ الواجب منها والمسنونُ إلا بسببِ الغفلةِ عن الآخرة والانشغالِ عنها، يقول تعالى في وصف عباده الصالحين: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (37) سورة النور ، وقال تعالى : {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (9) سورة الزمر.
4- لمَا ظهرَ في عصرنا اليومَ من المشكلاتِ المعقدةِ والأمراضِ المزمنةِ، التي نشأتْ عنها الأمراضُ النفسيةُ المتنوعةُ من القلقِ والاكتئابِ، اللذين يؤديانِ غالباً إلى حياةٍ يائسةٍ، ومن أسبابِ ذلك: البعدُ عن الله تعالى، وعن تذكُّرٍ اليومِ الآخر.
5- لمَّا تميزَ به زماننا اليومَ من كثرةِ المظالم في بعض المجتمعاتِ واعتداءِ الناس بعضهم على بعضٍ، من أكلٍ لأموالٍ غيرهِم بدونِ وجهِ حقٍّ، وكذلك النيلُ من الأعراضِ، والحسدِ والتباغضِ، والفرقةِ والاختلافِ، وبخاصة بين بعضَ الدعاةِ وطلبةِ العلم، ولا شكَّ أنه لا شيءَ مثلَ تذكرِ اليومِ الآخرِ، وتذكُّرِ الوقوف بين يدي الله (عز وجل) علاجاً لتلك الأمراضٍ.(1/133)
6- ولما كان الركونُ إلى الدنيا والغفلةُ عن الآخرةِ من أعظمِ الأسبابِ في وهن النفوس وضعفها كان لا بدَّ من التذكيرِ المستمرِّ بذلك اليوم ،وما فيه من نعيمٍ أو جحيمٍ، لأنَّ في هذا التذكير أكبرَ الأثر في نشاط الهممِ وعدم الاستسلامِ للوهنِ واليأسِ رجاءَ ثواب اللهِ (عزَّ وجلَّ) وما أعدَّهُ للمجاهدين في سبيله الداعين إليه.
7- ولمَّا قلَّ في برامجِ الدعوةِ والتربيةِ الاعتناءُ بهذه الجانب العظيمِ من التربية مما له الأثرُ الكبيرُ في الاستقامةِ على الجادة ، والدعوةِ إلى الله على بصيرةٍ، ولكنْ نرى من بعضِ المهتمينَ بالدعوة من يستهينُ بهذا الجانبِ العظيمِ حتى صارَ بعضُهم يقللُ من أثرِ التذكرةِ بالآخرة بقوله: إن هذا الأمرَ يغلبُ عليه الوعظُ أو هذا مقالٌ عاطفيٌّ وعظيٌّ ... إلخ.. مع أنَّ المتأملَ لكتابِ الله (سبحانه) وسنَّةِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - يرَى بجلاءٍ جانبَ الوعظِ بارزاً بالربطِ بين الدنيا والآخرةِ والثوابِ والعقابِ.. نسأل اللهَ أن يهدينا جميعاً ،وأنْ يوفقَنا للاقتداءِ بالسنَّةِ والسيرِ على نهجِها.
إنَّ في اليقين باليوم الآخر وأنبائه العظيمة لآثاراً واضحةً وثماراً طيبةً، لابدَّ أن تظهر في قلب العبد وعلى لسانه وجوارحه، وفي حياته كلِّها، ولكنَّ هذا اليقين وحده لا يكفي حتى ينضمَّ إليه الصبر ومجاهدة الشهوات والعوائقِ، لأن الواحد منا ـ مع يقينهِ باليوم الآخر وأهواله ـ يرى في حياته أن ثمراتِ هذا اليقين ضعيفةٌ، فلابد إذن من سببٍ لهذا الأمر. (1)
****************
__________
(1) - انظر كتابي أركان الإيمان – ثمرات الإيمان باليوم الآخر ففيه الكثير(1/134)
المطلب السادس
دعاء كفار مكة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بالهلاك
قال تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) }
شرح الكلمات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
28 ... سِيئَتْ ... تغيرت واسودت
28 ... قُلْ أَرَأَيْتُمْ ... أخبروني
28 ... يُجِيرُ ... يحفظ
30 ... غَوْرًا ... ذاهبا في أعماق الأرض
30 ... مَاءٍ مَّعِينٍ ... نابع ، سائح ، جار على وجه الأرض (1)
المناسبة :
هذا هو الأمر الثاني الذي حكاه اللّه عن الكفار بعد تخويفهم بعذاب اللّه ، فطالبوا أولا بتعيين وقت الحشر والبعث والعذاب ، ثم دعوا على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وعلى المؤمنين بالهلاك ، كما قال تعالى : أَمْ يَقُولُونَ : شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور 52/ 30] وقال : بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً [الفتح 48/ 12].
البلاغة :
في قوله : « آمنّا به وعليه توكلنا » التقديم والتأخير فقد قدّم المفعول في قوله وعليه توكلنا وأخّره في قوله آمنّا به ، وقال الزمخشري بصدده : « فإن قلت لم أخّر مفعول آمنّا وقدّم مفعول توكلنا؟ قلت لوقوع آمنّا تعريضا بالكافرين حين ورد
__________
(1) - كلمات القرآن للشيخ غازي الدروبي - (22 / 1)(1/135)
عقيب ذكرهم كأنه قيل آمنّا ولم نكفر كما كفرتم ثم قال وعليه توكلنا خصوصا لم نتوكل على ما أنتم متوكلون عليه من رجالكم وأموالكم » (1)
المعنى العام :
روى أن كفار مكة كانوا يدعون على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وعلى المؤمنين بالهلاك كما حكى اللّه عنهم فى آية أخرى بقوله : « أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ » وقوله : {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} (12) سورة الفتح فنزلت الآية ، ثم أمره أن يقول لهم : إن هلاكى أو رحمتى لا تجيركم من عذاب اللّه ، ثم أمره أن يقول لهم : إنا آمنا بربنا وتوكلنا عليه ، وستعلمون غدا من الهالك ؟ ثم أمره أن يقول لهم : إن غار ماؤكم فى الأرض ولم تصل إليه الدلاء ، فمن يأتيكم بماء عذب زلال تشربونه ؟ (2)
رد اللّه عليهم آمرا النبي أن يقول لهم : أخبرونى إن استجاب اللّه دعاءكم ، فأهلكنا بالموت أو رحمنا فأخر أجلنا قليلا. ماذا تستفيدون من ذلك ، ما دمتم مقيمين على الكفر والضلال ، أتحسبون أن ذلك ينجيكم من عذاب اللّه ؟ لا ولن ينفعكم موتنا أو عدمه ، وإنما الذي ينفعكم هو الإيمان فقط ، والذي نجانا نحن هو الإيمان بالرحمن والتوكل عليه فقط ، وأما أنتم إذا ظللتم على ما أنتم عليه فستعلمون غدا من هو في ضلال كبير ؟
قل لهم مذكرا بنعمة من نعمه : أخبرونى إن أصبح ماؤكم غائرا لا تصله الأيدى ولا الدلاء فمن يأتيكم بماء معين جار على وجه الأرض نابع من العيون ، أو منظور إليه بالعيون ؟ لا أحد غير اللّه فآمنوا به واعملوا صالحا ينجيكم ربكم من عذاب أليم. (3)
__________
(1) - إعراب القرآن وبيانه ـ موافقا للمطبوع - (10 / 162)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 23)
قلت : سبب النزول لا يصح فلا يعول عليه
(3) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 719)(1/136)
التفسير والبيان :
أجاب الحق سبحانه وتعالى عن دعاء الكافرين بهلاك النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين من وجهين :
الوجه الأول - « قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ».مناسبة هذه الآية لما قبلها ، هى أن الآية السابقة قد طلعت على المشركين المكذبين بيوم القيامة ـ طلعت عليهم بهذا اليوم ، وكشفت عما وقع عليهم من ملاقاته ، من هلع وفزع ..!
وإنه ليس هذا ، وحسب ، هو الذي يلقاه الكافرون من هذا اليوم ، بل إن هناك عذابا أليما فى نار جهنم التي أعدت لهم .. وهذا ما جاءت الآية الكريمة لتقريره ، فى أبلغ صورة ، وذلك أن هذا العذاب الواقع بالكافرين لا يصرفه عنهم أحد ، من صديق أو قريب ، وأن ما يقع لغيرهم من إساءة أو مسرة ، لا أثر له فى العذاب الواقع بهم .. فاذا أهلك اللّه النبي ومن معه أو رحمهم فى هذه الحياة الدنيا ، فليس في هذا ما يخلّص الذين كفروا ، من عذاب الآخرة ، أو يدفعه عنهم .. إنه واقع بهم ، فلا محيد لهم عنه ، ولا منقذ له منه ..
إنهم كانوا يتمنون هلاك النبي ، ويتوقعون أن يصبحوا يوما فلا يرون له مكانا فيهم ، وهذا ما ذكره اللّه تعالى عنهم فى قوله سبحانه : « أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ » (30 الطور) وفى هذا ـ على ما قدّروا ـ راحة لهم من عناء ، وعافية من بلاء.
وإنهم لواهمون فى تقديرهم هذا ، مخدوعون فيما يتمنون ، إذ ماذا يعود عليهم من موت النبي ؟ إنه صلوات اللّه وسلامه عليه ـ لا يملك لنفسه ، ولا لمن معه نفعا ولا ضرّا ، بل الأمر كله بيد اللّه ، وأن النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ليس هو الذي يتولّى حساب هؤلاء الكافرين ، ويأخذهم بالعذاب الذي أعدّ لهم ، حتى إنه لو مات لرفع عنهم العذاب ـ وكلا .. إنه ليس هو الذي يتولى هذا ، بل الذي يتولاه ، هو اللّه سبحانه ، وليس للكافرين من مجير من هذا العذاب. (1)
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1071)(1/137)
أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين باللّه ، الجاحدين لنعمه : أخبروني عن أي فائدة أو منفعة لكم ، أو راحة فيما إذا أهلكني اللّه بالإماتة أو رحمني بتأخير الأجل ، أنا ومن معي من المؤمنين ، فلو فرض أنه وقع بنا ذلك ، فلا ينجي الكافرين أحد من عذاب اللّه ، سواء أهلك اللّه تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين معه ، كما كان الكفار يتمنونه أو ينتظرونه ، أو أمهلهم.
والمراد بالآية تنبيه الكفار وحثهم على طلب النجاة والإنقاذ بالتوبة والإنابة والرجوع إلى اللّه بالإيمان والإقرار بالتوحيد والنبوة والبعث ، وإعلامهم بأنه لا ينفعهم وقوع ما يتمنون للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين من العذاب والنكال ، فسواء عذبهم اللّه أو رحمهم ، فلا مناص لهم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بهم.
وقال الطبري: " يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - : قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ : أَرَأَيْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ فَأَمَاتَنِي وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَأَخَّرَ فِي آجَالِنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابٍ مُوجِعٍ مُؤْلِمٍ ، وَذَلِكَ عَذَابُ النَّارِ . يَقُولُ : لَيْسَ يُنَجِّي الْكُفَّارَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَوْتُنَا وَحَيَاتُنَا ، فَلَا حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى أَنْ تَسْتَعْجِلُوا قِيَامَ السَّاعَةِ ، وَنُزُولَ الْعَذَابِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ نَافِعِكُمْ ، بَلْ ذَلِكَ بَلَاءٌ عَلَيْكُمْ عَظِيمٌ ."
الوجه الثاني - « قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ .. آمَنَّا بِهِ .. وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا .. فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ » أي إن النبي ومن معه ، هم فى مقام العبودية للّه ، كسائر الناس جميعا .. إن آمنوا باللّه ، وأحسنوا العمل ، غفر اللّه لهم ، وأنزلهم منازل المكرمين .. ولهذا جاء قوله تعالى إلى النبي الكريم ، بإعلان هذا الايمان باللّه فى وجه الكافرين ، ليكون لهم من ذلك علم بأن النبي ليس خارجا عن هذه الدعوة التي يدعوهم إليها ، وأنه عبد اللّه مؤمن به ، متوكل عليه .. وتلك هى سبيل المؤمنين معه ..فهل يؤمن الكافرون باللّه ؟ وهل يأخذون الطريق الذي أخذه النبي وأصحابه ؟(1/138)
:« فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ » (137 : البقرة). (1)
أي قل لهم : إنه اللّه الرحمن الذي آمنا به وحده ، لا نشرك به شيئا ، وعليه توكلنا في جميع أمورنا ، لا على غيره. والتوكل : تفويض الأمور إليه عز وجل ، كما قال تعالى : فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود 11/ 123]. ولهذا قال تعالى : فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ستدركون من هو في خطأ واضح منا ومنكم ، ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة. وفيه تعريض بالكفرة أنهم متكلون على الرجال والأموال. وإذا كان هذا حالهم فكيف يقبل اللّه دعاءهم على المؤمنين؟
ثم ذكر اللّه تعالى الدليل على وجوب التوكل عليه لا على غيره ، فقال مظهرا الرحمة في خلقه : « قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ » هو تهديد للكافرين بأن يسلط اللّه تعالى عليهم البلاء فى الدنيا ، وأن يرميهم بالمكاره ، وأن ينزع عنهم نعمه التي يعيشون فيها. فلو أن اللّه سبحانه ذهب بهذا الماء الذي هو قوام حياتهم ، وحياة حيوانهم ونباتهم ، فمن يأتيهم بجرعة ماء منه ؟
وغور الماء : هو ذهابه غائرا فى الأرض ، أي منسربا فيها، ضائعا فى بطنها.والماء العين ، هو الماء الذي يفيض من العيون ..وفى الآية الكريمة إشارة إلى النبي الكريم ، وإلى القرآن الذي بين يديه ، أنه هو الحياة التي منها حياة القلوب والنفوس ، وأنه لو ذهب هذا النبي ـ كما يتمنون ـ لكان فى هذا هلاكهم ، وضياعهم ، بذهاب مصدر الهدى والنور لهم. إنه لن يأتيهم نبى بعده ، ولن ينزل عليهم من اللّه كتاب بعد هذا الكتاب ، الذي إن فاتهم حظهم منه ، فقد فاتهم ماء الحياة ، وغذاء الأرواح. " (2)
أي قل لهم يا محمد : أخبروني إن صار ماؤكم الذي جعله اللّه لكم في العيون والآبار والأنهار لمنافعكم المتعددة غائرا ذاهبا في الأرض إلى أسفل بحيث لا ينال
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1072)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1073)(1/139)
بالدلاء وغيرها ، فمن الذي يأتيكم بماء كثير جار لا ينقطع ، أي لا يأتيكم به أحد إلا اللّه تعالى ، وذلك بالأمطار والثلوج والأنهار ، فمن فضله وكرمه أن أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار الأرض لتحقيق حاجة الناس قلة وكثرة.
والمقصود أن يجعلهم مقرين ببعض نعمه ، ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر.
فإذا كان لا بد وأن يقولوا : هو اللّه ،فيقال لهم حينئذ : فلم لا تجعلون من لا يقدر على شيء أصلا شريكا له في المعبودية؟
والآية دليل على وجوب الاعتماد على اللّه تعالى في كل حاجة ، مع أنه برهان آخر على كمال قدرته ووحدانيته ، وإشارة إلى أن الفتوح العقلي لا يتيسر إلا بإعانة اللّه تعالى.ونظير الآية : أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [الواقعة 56/ 68 - 69].
" وهذا الماء الذي تشربون .. ألا تفكرون من أين جاء ؟ ألا تنظرون فيه وفى هذا الماء الملح الذي يملأ وجه الأرض ؟ من فصل بينهما ؟ ومن أخرج لكم من هذا الماء الملح ، هذا الماء العذب الفرات ؟ أأنتم الذين صنع هذا الصنيع ، وأنشأ من هذا الماء الملح سحابا يحمل الماء العذب ، وينشىء منه الأنهار ، ويفجر العيون ؟
أأنتم أنزلتموه من المزن ، أي السحب ، أم نحن المنزلون ؟ ! أجيبوا!!
ولا جواب إلا التسليم والإقرار ، بأن اللّه سبحانه هو الذي صنع لكم هذا الذي صنع! ولو شاء اللّه سبحانه وتعالى ، لجعل هذا الماء العذب على حاله التي كان عليها من قبل أن يخرج من رحم البحار ، كما خرجتم أنتم من أرحام أمهاتكم ، وكما خرج النبات من رحم الأرض .. " (1)
"وهذا الماء أصل الحياة ، وعنصرها الذي لا تنشأ إلا به كما قدر اللّه. ما دور الإنسان فيه؟ دوره أنه يشربه.أما الذي أنشأه من عناصره ، وأما الذي أنزله من سحائبه ، فهو اللّه سبحانه. وهو الذي قدر أن يكون عذبا فكان «لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (14 / 728)(1/140)
أُجاجاً». مالحا لا يستساغ ، ولا ينشئ حياة. فهلا يشكرون فضل اللّه الذي أجرى مشيئته بما كان؟
والمخاطبون ابتداء بهذا القرآن كان الماء النازل من السحائب ، في صورته المباشرة ، مادة حياتهم ، وموضع احتفالهم ، والحديث الذي يهز نفوسهم ، وقد خلدته قصائدهم وأشعارهم .. ولم تنقص قيمة الماء بتقدم الإنسان الحضاري ، بل لعلها تضاعفت. والذين يشتغلون بالعلم ويحاولون تفسير نشأة الماء الأولى أشد شعورا بقيمة هذا الحدث من سواهم. فهو مادة اهتمام للبدائي في الصحراء ، وللعالم المشتغل بالأبحاث سواء." (1)
ومضات عامة
قال القاسمي :
" كان كفار مكة يَتربصون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - رَيبَ المنون ؛ تخلصاً من دعوته وانتشارها ، فأمر أن يقول لهم ذلك . أي : أخبروني إن أماتني الله ومن معي من المؤمنين ، أو رحمنا بتأجيل آجالنا وانتصارنا ، فمن يجيركم من عذاب أليم قضى الله وقوعه بكم لكفركم ؟ .
قال ابن كثير : أي : خلصوا أنفسكم ، فإنه لا منقذ لكم من الله إلا بالتوبة والإنابة ، والرجوع إلى دينه ، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنكال ، فسواء عذَّبنا الله أو رحمنا ، فلا مناص لكم من عذابه ونكاله الواقع بكم . والمعني بالعذاب : إما الدنيوي وهو خزيهم بالانتصار عليهم ، ودحور ضلالهم ، أو الأخروي ، وهو أشد وأبقى . " (2)
قال الرازي : المقصود تقريرهم ببعض نعمه تعالى ، ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر . أي : أخبروني إن صار ماؤكم ذاهباً في الأرض ، فمن يأتيكم بماء معين ؟ فلا بد وأن يقولوا : هو الله ؛ فيقال لهم حينئذٍ : فلم تجعلون من لا يقدر على شيء
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3469)
(2) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 5)(1/141)
أصلاً شريكاً له في العبودية ، وهو كقوله تعالى :{ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ } [ الواقعة : 68 ] ، أي : بل هو الذي أنزله وسلكه ينابيع ؛ رحمة بالعباد ، فله الحمد . (1)
وقال دروزة :
" في هذه الآيات أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بتوجيه سؤال استنكاري للكفار عما إذا كان يستطيع أحد أن يجيرهم من عذاب اللّه وبلائه الشديد إن مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه قبل نزوله عليهم أو رحمهم حين نزوله. وعمن يستطيع أن يأتيهم بالماء الدائم الظاهر إذا ما أصبح ماؤهم غائرا في الأرض. وأمر له أيضا بإعلان إيمانه وإيمان من معه إيمانا مطلقا باللّه وتوكلهم عليه وحده وبإنذار الكفار بأنهم لن يلبثوا حتى يعرفوا من الفريقين المهتدي ومن هو المرتكس في الضلالة.
والآيات متصلة أيضا بما سبقها سياقا وموضوعا. وفيها توكيد لما تلهمه الآيات [23 و24 و25 و26] من الموقف الحجاجي الوجاهي الذي قام بين النبي - صلى الله عليه وسلم - والكفار والتعقيب عليه كما هو المتبادر. وقد جاءت خاتمة لهذا الموقف أو التعقيب وخاتمة للسورة في الوقت ذاته.
ولقد قال بعض المفسرين إن الآية الأولى تضمنت ردّا على الكفار الذين كانوا يتربّصون بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتمنونه حتى يخلصوا منه وهو ما حكته إحدى آيات سورة الطور السابقة. وقد لا يخلو القول من وجاهة. ولكن التأويل الذي أوّلناها به هو الذي تبادر لنا أنه الأوجه. واللّه أعلم. " (2)
وفي التفسير الوسيط :
" والمراد بالهلاك : الموت ، وبالرحمة : الحياة والنصر بدليل المقابلة ، وقد منح اللّه - تعالى - نبيه العمر المبارك النافع ، فلم يفارق - صلى الله عليه وسلم - الدنيا إلا بعد أن بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ودخل الناس في دين اللّه أفواجا ، وكانت كلمته هي العليا. "
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 5)
(2) - التفسير الحديث لدروزة - (5 / 383)(1/142)
" وقل لهم - أيها الرسول الكريم - على سبيل التوبيخ وإلزام الحجة : أخبرونى إن أصبح ماؤكم غائرا في الأرض ، بحيث لا يبقى له وجود أصلا.
فمن يستطيع أن يأتيكم بماء ظاهر على وجه الأرض ، تراه عيونكم ، وتستعملونه في شئونكم ومنافعكم.إنه لا أحد يستطيع ذلك إلا اللّه - تعالى - وحده ، فعليكم أن تشكروه على نعمه ، لكي يزيدكم منها." (1)
وفي الظلال : "لقد كانوا يتربصون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والحفنة المؤمنة التي معه أن يهلكوا فيستريحوا منهم وكانوا يتواصون بينهم بالصبر عليه حتى يوافيه الأجل ، فتسكن هذه الزوبعة التي أثارتها الدعوة في صفوفهم.
كما كانوا يتبجحون أحيانا فيزعمون أن اللّه سيهلك محمدا ومن معه لأنهم ضالون ، ولأنهم يكذبون على اللّه فيما يقولون! فهنا أمام مشهد الحشر والجزاء ، ينبههم إلى أن أمنيتهم حتى لو تحققت لا تعصمهم هم من عاقبة الكفر والضلال. فأولى لهم أن يتدبروا أمرهم قبل هذا الموعد الذي واجههم به كأنه واقع بهم : «قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا ، فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ؟» ..
وهو سؤال يردهم إلى تدبر حالهم ، والتفكير في شأنهم ، وهو الأولى! فما ينفعهم أن تتحقق أمانيهم فيهلك اللّه النبي ومن معه - كما لا ينقذهم بطبيعة الحال أن يرحم اللّه نبيه ومن معه. واللّه باق لا يموت. وهو الذي ذرأهم في الأرض وإليه يحشرون ..
ولكنه لا يقول لهم : فمن يجيركم من عذاب أليم؟ ولا ينص على أنهم كافرون. إنما يلوح لهم بالعذاب الذي ينتظر الكافرين : «فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» .. وهو أسلوب في الدعوة حكيم ، يخوفهم من ناحية ، ويدع لهم فرصة للتراجع عن موقفهم من ناحية. فلو جابههم بأنهم كافرون ، وأنه لا مفر لهم من العذاب الأليم ..
فربما جهلوا وحمقوا وأخذتهم العزة بالإثم أمام الاتهام المباشر والتهديد.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (15 / 29)(1/143)
ففي بعض الحالات يكون أسلوب التلميح أفعل في النفس من أسلوب التصريح! ثم يترقى من هذه التسوية بين الأمرين ، إلى تقرير موقف المؤمنين من ربهم وثقتهم به وتوكلهم عليه ، مع التلميح إلى اطمئنانهم لإيمانهم ، وثقتهم بهداهم ، وبأن الكافرين في ضلال مبين.
«قُلْ : هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا. فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
وذكر صفة «الرَّحْمنُ» هنا يشير إلى رحمته العميقة الكبيرة برسوله والمؤمنين معه فهو لن يهلكهم كما يتمنى الكافرون أو كما يدعون.
ويوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى إبراز الصلة التي تربطهم بربهم الرحمن. صلة الإيمان «آمَنَّا بِهِ» ..
وصلة التوكل «وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا» .. عليه وحده .. والتعبير يشي بالقربى بينهم وبين الرحمن. واللّه - سبحانه - هو الذي يتفضل على رسوله وعلى المؤمنين فيأذن له بإعلان هذه القربى ، ويوجهه إلى هذا الإعلان. وكأنما ليقول له : لا تخف مما يقوله الكفار. فأنت ومن معك موصولون بي منتسبون إليّ. وأنت مأذون مني في أن تظهر هذه الكرامة ، وهذا المقام! فقل لهم ... وهذا ود من اللّه وتكريم ..
ثم ذلك التهديد الملفوف : «فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .. وهو أسلوب كذلك من شأنه أن يخلخل الإصرار على الجحود ويدعوهم إلى مراجعة موقفهم مخافة أن يكونوا هم الضالين! فيتعرضوا للعذاب الذي سبق ذكره في الآية : «فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ؟» وفي الوقت ذاته لا يجبههم بأنهم ضالون فعلا ، حتى لا تأخذهم العزة بالإثم. وهو أسلوب في الدعوة يناسب بعض حالات النفوس
وأخيرا يجيء الإيقاع الأخير في السورة يلمح لهم بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة ، وذلك بحرمانهم من سبب الحياة الأول ، وهو الماء : «قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ؟» ..(1/144)
والماء الغور : الغائر الذاهب في الأرض لا يقدرون عليه. والمعين : النابع الفائض المتدفق. وهي لمسة قريبة في حياتهم ، إن كانوا ما يزالون يستبعدون ذلك اليوم ويشكون فيه .. والملك بيد اللّه وهو على كل شيء قدير.
فكيف لو توجهت إرادته إلى حرمانهم مصدر الحياة القريب!
ثم يدعهم يتدبرون ما يكون لو أذن اللّه بوقوع هذا المحذور! وهكذا تنتهي هذه السورة ، وينتهي هذا الحشد من الإيقاعات واللمسات ، وهذه الرحلات والجولات.
في آفاق وأغوار وأبعاد مترامية الأطراف. وكل آية على وجه التقريب كانت إيقاعا خاصا. أو كانت رحلة في عالم مجهول مغيب ، أو منظور لا تلتفت إليه الأنظار والقلوب.
إنها سورة ضخمة. سورة أكبر من حجمها وحيزها وعدد آياتها. وكأنما هي سهام تشير إلى بعيد ، ويكاد كل سهم يستقل بكشف عالم جديد! وهي تبني من قواعد التصور الإسلامي جوانب رئيسية هامة فهي تقر في الضمير حقيقة القدرة المطلقة ، وحقيقة الهيمنة المطلقة. وحقيقة الابتلاء بالموت والحياة تمهيدا للحشر والجزاء. وحقيقة الكمال والجمال في صنعة اللّه. وحقيقة العلم المطلق بالسر والنجوى. وحقيقة مصدر الرزق. وحقيقة حفظ اللّه للخلائق ، وحضوره سبحانه - مع كل مخلوق ... وجملة من هذه الحقائق التي يقوم عليها تصور المسلم لربه. وتصوره للوجود وارتباطه بخالق الوجود. هذا التصور الذي ينبثق منه منهج حياة المؤمن كله. مع ربه. ومع نفسه. ومع الناس.
ومع الأحياء. ومع الكون كله من أحياء وأشياء. والذي يتكيف به شعوره وضميره وشخصيته وقيمه وموازينه ، واستقباله للحياة ... " (1)
ما يستفاد من الآيات
دلت الآيات على ما يأتي :
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3641)(1/145)
1- بيان ما كان عليه المشركون من عداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تمنوا موته.
2- مشروعية الحجاج لإحقاق الحق وإبطال الباطل . (1)
3 - لا فائدة ولا جدوى من دعاء الكفار على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين لأنه لا يستجاب دعاؤهم ، ولأنه إن مات المؤمنون أو رحموا فأخر اللّه تعالى آجالهم ، فمن يجير الكافرين من عذاب أليم؟ فلا حاجة بهم إلى توقع السوء وانتظاره بمن آمنوا ، ولا إلى استعجال قيام الساعة ، وما عليهم لتخليص نفوسهم من العذاب إلا إعلان الإيمان والإقرار بالتوحيد والنبوة والبعث.
4 - يجب الاعتماد والتوكل على اللّه تعالى في كل حاجة ، بعد اتخاذ الأسباب والوسائل المقدورة للبشر ، وشأن المؤمنين أن يتكلوا على اللّه سبحانه ، أما الكفار فيتكلون على رجالهم وأموالهم.
5 - إن اللّه تعالى هو القادر على إمداد خلقه بالأرزاق والأمطار والمياه النابعة ، ولا أحد غير اللّه عز وجل يقدر على ذلك ، واللّه برحمته وفضله ومنّه وكرمه يمدّ عباده بما يحتاجون ، وإن كفروا وجحدوا به.
يحكى أن بعض المتجبرين على اللّه قرئت الآية : قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً .. عنده ، فقال : تأتينا به الفؤوس والمعاول ، فذهب ماء عينيه.وهذا من الإعجاز. (2)
6- إن الذي يأتي بالماء هو الله تعالى فالتوبة والاستغفار مجلبة له بعد نضبه ، قال تعالى : { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ } [هود : 52]
وقال تعالى على لسان النبي نوح عليه السلام { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) }[نوح : 10-13]
__________
(1) - أيسر التفاسير للجزائري - (4 / 292)
(2) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (29 / 39)(1/146)
وفي الظلال :
" وننظر في هذا الوعد. وهو يتعلق بإدرار المطر ومضاعفة القوة. وهي أمور تجري فيها سنة اللّه وفق قوانين ثابتة في نظام هذا الوجود ، من صنع اللّه ومشيئته بطبيعة الحال. فما علاقة الاستغفار بها وما علاقة التوبة؟
فأما زيادة القوة فالأمر فيها قريب ميسور ، بل واقع مشهود ، فإن نظافة القلب والعمل الصالح في الأرض يزيدان التائبين العاملين قوة. يزيدانهم صحة في الجسم بالاعتدال والاقتصار على الطيبات من الرزق وراحة الضمير وهدوء الأعصاب والاطمئنان إلى اللّه والثقة برحمته في كل آن ويزيدانهم صحة في المجتمع بسيادة شريعة اللّه الصالحة التي تطلق الناس أحرارا كراما لا يدينون لغير اللّه على قدم المساواة بينهم أمام قهار واحد تعنو له الجباه .. كما تطلقان طاقات الناس ليعملوا وينتجوا ويؤدوا تكاليف الخلافة في الأرض غير مشغولين ولا مسخرين بمراسم التأليه للأرباب الأرضية وإطلاق البخور حولها ودق الطبول ، والنفخ فيها ليل نهار لتملأ فراغ الإله الحق في فطرة البشر! والملحوظ دائما أن الأرباب الأرضية تحتاج ويحتاج معها سدنتها وعبادها أن يخلعوا عليها بعض صفات الألوهية من القدرة والعلم والإحاطة والقهر والرحمة .. أحيانا .. كل ذلك ليدين لها الناس! فالربوبية تحتاج إلى ألوهية معها تخضع بها العباد!
وهذا كله يحتاج إلى كد ناصب من السدنة والعبّاد وإلى جهد ينفقه من يدينون للّه وحده في عمارة الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها ، بدلا من أن ينفقه عبّاد الأرباب الأرضية في الطبل والزمر والتراتيل والتسابيح لهذه الأرباب المفتراة!
ولقد تتوافر القوة لمن لا يحكّمون شريعة اللّه في قلوبهم ولا في مجتمعهم ، ولكنها قوة إلى حين. حتى تنتهي الأمور إلى نهايتها الطبيعية وفق سنة اللّه ، وتتحطم هذه القوة التي لم تستند إلى أساس ركين. إنما استندت إلى جانب واحد من السنن الكونية كالعمل والنظام ووفرة الإنتاج. وهذه وحدها لا تدوم. لأن فساد الحياة الشعورية والاجتماعية يقضي عليها بعد حين.(1/147)
فأما إرسال المطر. مدرارا. فالظاهر للبشر أنه يجري وفق سنن طبيعية ثابتة في النظام الكوني. ولكن جريان السنن الطبيعية لا يمنع أن يكون المطر محييا في مكان وزمان ، ومدمرا في مكان وزمان وأن يكون من قدر اللّه أن تكون الحياة مع المطر لقوم ، وأن يكون الدمار معه لقوم ، وأن ينفذ اللّه تبشيره بالخير ووعيده بالشر عن طريق توجيه العوامل الطبيعية فهو خالق هذه العوامل ، وجاعل الأسباب لتحقيق سنته على كل حال. ثم تبقى وراء ذلك مشيئة اللّه الطليقة التي تصرف الأسباب والظواهر بغير ما اعتاد الناس من ظواهر النواميس وذلك لتحقيق قدر اللّه كيفما شاء. حيث شاء. بالحق الذي يحكم كل شيء في السماوات والأرض غير مقيد بما عهده الناس في الغالب " " (1)
وقال أيضاً : " ونقف أمام الحقيقة التي كشف عنها هود لقومه وهو يقول لهم : «وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ ، وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» .. وهي ذات الحقيقة التي ذكرت في مقدمة السورة بصدد دعوة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لقومه بمضمون الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. وذلك في قوله تعالى : «وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ» ..
إنها حقيقة العلاقة بين القيم الإيمانية والقيم الواقعية في الحياة البشرية ، وحقيقة اتصال طبيعة الكون ونواميسه الكلية بالحق الذي يحتويه هذا الدين .. وهي حقيقة في حاجة إلى جلاء وتثبيت وبخاصة في نفوس الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا والذين لم تصقل أرواحهم وتشف حتى ترى هذه العلاقة أو على الأقل تستشعرها
إن الحق الذي نزل به هذا الدين غير منفصل عن الحق المتمثل في ألوهية اللّه - سبحانه - والحق الذي خلقت به السماوات والأرض ، المتجلي في طبيعة هذا الكون ونواميسه الأزلية .. والقرآن الكريم كثيرا ما يربط بين الحق المتمثل في ألوهية
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 1897)(1/148)
اللّه - سبحانه - والحق الذي قامت به السماوات والأرض والحق المتمثل في الدينونة للّه وحده ..
والحق المتمثل في دينونة الناس للّه يوم الحساب بصفة خاصة ، والحق في الجزاء على الخير والشر في الدنيا والآخرة .. وذلك في مثل هذه النصوص :
«وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا .. إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ .. بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ، وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ، وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ. أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ؟ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا ، فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ. لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ. أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً؟ قُلْ : هاتُوا بُرْهانَكُمْ. هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ. وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» ... (الأنبياء 16 - 25).
« يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ، لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ، وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ - مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ - شَيْئاً ، وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ، وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ» ...(الحج : 5 - 7).
«وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ، لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ، فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا(1/149)
فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً ، وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ. ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ ، إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ، وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً؟ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ، وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ. لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ ، فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ، وَادْعُ إِلى رَبِّكَ ، إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ ...» ..(الحج : 54 - 67).
وهكذا نجد في هذه النصوص وأمثالها في القرآن الكريم العلاقة الواضحة بين كون اللّه سبحانه هو الحق ، وبين خلقه لهذا الكون وتدبيره بنواميسه ومشيئته بالحق ، وبين الظواهر الكونية التي تتم بالحق. وبين تنزيل هذا الكتاب بالحق ، وبين الحكم بين الناس في الدنيا والآخرة بالحق .. فكله حق واحد موصول ينشأ عنه جريان قدر اللّه بما يشاء ، وتسليط القوى الكونية بالخير والشر على من يشاء وفق ما يكون من الناس من الخير والشر في دار الابتلاء. ومن هنا كان ذلك الربط بين الاستغفار والتوبة ، وبين المتاع الحسن وإرسال السماء مدرارا ... فكل أولئك موصول بمصدر واحد هو الحق المتمثل في ذات اللّه سبحانه وفي قضائه وقدره ، وفي تدبيره وتصريفه ، وفي حسابه وجزائه ، في الخير وفي الشر سواء ..
ومن هذا الارتباط مجلى أن القيم الإيمانية ليست منفصلة عن القيم العملية في حياة الناس. فكلتاهما تؤثر في هذه الحياة. سواء عن طريق قدر اللّه الغيبي المتعلق بعالم الأسباب من وراء علم البشر وسعيهم. أو عن طريق الآثار العملية المشهودة التي(1/150)
يمكن للبشر رؤيتها وضبطها كذلك. وهي الآثار التي ينشئها في حياتهم الإيمان أو عدم الإيمان ، من النتائج المحسوسة المدركة.
وقد أسلفنا الإشارة إلى بعض هذه الآثار العملية الواقعية حين قلنا مرة : إن سيادة المنهج الإلهي في مجتمع معناه أن يجد كل عامل جزاءه العادل في هذا المجتمع ، وأن يجد كل فرد الأمن والسكينة والاستقرار الاجتماعي - فضلا على الأمن والسكينة والاستقرار القلبي بالإيمان - ومن شأن هذا كله أن يمتع الناس متاعا حسنا في هذه الدنيا قبل أن يلقوا جزاءهم الأخير في الآخرة .. وحين قلنا مرة : إن الدينونة للّه وحده في مجتمع من شأنها أن تصون جهود الناس وطاقاتهم من أن تنفق في الطبل والزمر والنفخ والتراتيل والتسابيح والترانيم والتهاويل التي تطلق حول الأرباب المزيفة ، لتخلع عليها شيئا من خصائص الألوهية حتى تخضع لها الرقاب! ومن شأن هذا أن يوفر هذه الجهود والطاقات للبناء في الأرض والعمارة والنهوض بتكاليف الخلافة فيكون الخير الوفير للناس. فضلا على الكرامة والحرية والمساواة التي يتمتع بها الناس في ظل الدينونة للّه وحده دون العباد .. (1)
وقال : "وهذه القاعدة التي يقررها القرآن في مواضع متفرقة ، قاعدة صحيحة تقوم على أسبابها من وعد اللّه ، ومن سنة الحياة كما أن الواقع العملي يشهد بتحققها على مدار القرون. والحديث في هذه القاعدة عن الأمم لا عن الأفراد. وما من أمة قام فيها شرع اللّه ، واتجهت اتجاها حقيقيا للّه بالعمل الصالح والاستغفار المنبئ عن خشية اللّه .. ما من أمة اتقت اللّه وعبدته وأقامت شريعته ، فحققت العدل والأمن للناس جميعا ، إلا فاضت فيها الخيرات ، ومكن اللّه لها في الأرض واستخلفها فيها بالعمران وبالصلاح سواء.
ولقد نشهد في بعض الفترات أمما لا تتقي اللّه ولا تقيم شريعته وهي - مع هذا - موسع عليها في الرزق ، ممكن لها في الأرض .. ولكن هذا إنما هو الابتلاء : «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» ثم هو بعد ذلك رخاء مؤوف ، تأكله آفات
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 1903)(1/151)
الاختلال الاجتماعي والانحدار الأخلاقي ، أو الظلم والبغي وإهدار كرامة الإنسان ..وأمامنا الآن دولتان كبيرتان موسع عليهما في الرزق ، ممكن لهما في الأرض. إحداهما رأسمالية والأخرى شيوعية (1) .
وفي الأولى يهبط المستوي الأخلاقي إلى الدرك الأسفل من الحيوانية ، ويهبط تصور الحياة إلى الدرك الأسفل كذلك فيقوم كله على الدولار!! وفي الثانية تهدر قيمة «الإنسان» إلى درجة دون الرقيق وتسود الجاسوسية ويعيش الناس في وجل دائم من المذابح المتوالية ويبيت كل إنسان وهو لا يضمن أنه سيصبح ورأسه بين كتفيه لا يطيح في تهمة تحاك في الظلام!
وليست هذه أو تلك حياة إنسانية توسم بالرخاء! (2)
****************
__________
(1) - قلت: سقطت الثانية والأولى على وشك السقوط بإذن الله تعالى على أيدي المحاهدين الأطهار الأبرار ، الذين رووا هذه الأرض بدمائهم الزكية العطرة .
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3713)(1/152)
المبحث السادس
أهم مقاصد السورة
ما حوته السورة من موضوعات
(1) وصف السموات
(2) بيان أن نظام العالم لا عوج فيه ولا اختلاف.
(3) وصف عذاب الكافرين فى الدنيا والآخرة.
(4) التذكير بخلق الإنسان ورزقه وأشباه ذلك. (1)
****************
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (29 / 25)(1/153)
المبحث السابع
الثمرات العملية لسورة الملك
الثمرة الأولى - لقد طوفنا في كتب التفسير قديما وحديثاً حول تفسير هذه السورة المباركة ، وما هي إلا ومضات مما فتح الله به على هؤلاء الأئمة الأخيار ، وإلا فلا يحيط بكلام ربنا إحاطة تامة سواه.
قال تعالى : {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (109) سورة الكهف
" والبحر أوسع وأغزر ما يعرفه البشر. والبشر يكتبون بالمداد كل ما يكتبون وكل ما يسجلون به علمهم الذي يعتقدون أنه غزير! فالسياق يعرض لهم البحر بسعته وغزارته في صورة مداد يكتبون به كلمات اللّه الدالة على علمه فإذا البحر ينفد وكلمات اللّه لا تنفد. ثم إذا هو يمدهم ببحر آخر مثله ، ثم إذا البحر الآخر ينفد كذلك وكلمات اللّه تنتظر المداد! وبهذا التصوير المحسوس والحركة المجسمة يقرب إلى التصور البشري المحدود معنى غير المحدود ، ونسبة المحدود إليه مهما عظم واتسع.
والمعنى الكلي المجرد يظل حائرا في التصور البشري ومائعا حتى يتمثل في صورة محسوسة. ومهما أوتي العقل البشري من القدرة على التجريد فإنه يظل في حاجة إلى تمثل المعنى المجرد في صور وأشكال وخصائص ونماذج .. ذلك شأنه مع المعاني المجردة التي تمثل المحدود ، فكيف بغير المحدود؟ لذلك يضرب القرآن الأمثال للناس ويقرب إلى حسهم معانيه الكبرى بوضعها في صور ومشاهد ،ومحسوسات ذات مقومات وخصائص وأشكال على مثال هذا المثال.
والبحر في هذا المثال يمثل علم الإنسان الذي يظنه واسعا غزيرا. وهو - على سعته وغزارته - محدود.(1/154)
وكلمات اللّه تمثل العلم الإلهي الذي لا حدود له ، والذي لا يدرك البشر نهايته بل لا يستطيعون تلقيه وتسجيله.فضلا على محاكاته.
ولقد يدرك البشر الغرور بما يكشفونه من أسرار في أنفسهم وفي الآفاق ، فتأخذهم نشوة الظفر العلمي ، فيحسبون أنهم علموا كل شي ء ، أو أنهم في الطريق! ولكن المجهول يواجههم بآفاقه المترامية التي لا حد لها ، فإذا هم ما يزالون على خطوات من الشاطئ ، والخضم أمامهم أبعد من الأفق الذي تدركه أبصارهم!
إن ما يطيق الإنسان تلقيه وتسجيله من علم اللّه ضئيل قليل ، لأنه يمثل نسبة المحدود إلى غير المحدود.
فليعلم الإنسان ما يعلم وليكشف من أسرار هذا الوجود ما يكشف .. ولكن ليطامن من غروره العلمي ، فسيظل أقصى ما يبلغه علمه أن يكون البحر مدادا في يده. وسينفد البحر وكلمات اللّه لم تنفد ولو أمده اللّه ببحر مثله فسينتهي من بين يديه وكلمات اللّه ليست إلى نفاد ..وفي ظل هذا المشهد الذي يتضاءل فيه علم الإنسان ينطلق الإيقاع الثالث والأخير في السورة ، فيرسم أعلى أفق للبشرية - وهو أفق الرسالة الكاملة الشاملة. فإذا هو قريب محدود بالقياس إلى الأفق الأعلى الذي تتقاصر دونه الأبصار ، وتنحسر دونه الأنظار" (1)
==============
الثمرة الثانية - كلُّ جيل من أجيال المسلمين يفتح الله تعالى عليهم بقدر ،لفهم كتابه وكشف بعض أسراره حتى يكون القرآن مواكبا لحياة المسلمين في كل زمان ومكان ليأخذ بهم إلى بر الأمان .
===============
الثمرة الثالثة - لا بد من الاعتقاد الجازم أن مالك الملك هو الله وحده.
وينتج عن ذلك عدة أمور :
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2296)(1/155)
الأول- أننا جميعاً عبيد لله تعالى وحده ، فعلينا السمع والطاعة له ،قال تعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (16) سورة التغابن
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{ [الحجرات : 1 ]
تأمل البداية كيف تكرّرت النداءات لأهل الإيمان، للفت الانتباه لشيء مهم يجب إطراق السمع له -ثم بدأ- السياق العذب يؤسس العلاقة المتينة المبنية على القناعة والتعظيم للشخص الذي يُستمد منه هذا الدين، وهذا له دلاله مهمة فالمتلقي لهذا القرآن وهذا الدين سيأخذه من شخص معين معروف بصفته وباسمه وشخصه، إذاً لا بد من ملء نفوس أتباعه بطاعته واتّباعه وحماية ما جاء به والدفاع عنه، ولا يمكن أن يتمكن هذا في نفوسهم حتى يحبوه.
لذلك جاء الأمر خاصًا وعامًا، خاصًا لمن هم في عصره وعايشوه وعرفوه باسمه وشخصه، وأخذوا هذا الدور منه مشافهة، إذاً لا بد من إيضاح الطريق لهم للتعامل معه - صلى الله عليه وسلم - لذلك جاءت النداءات في صدر هذه السورة. وخطاب عام لمن عرفوه باسمه وصفته ولم تكتحل أعينهم برؤيته - صلى الله عليه وسلم - وهم الذين دخلوا في الإسلام بعد ذلك إلى يوم القيامة؛ لأنه عندما انتهى دوره على مسرح الحياة بعدما بلّغ الرسالة كاملة غير منقوصة، وبعد ما رضي الله هذا الدين بعد إتمامه وكماله .. (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً) [المائدة: من الآية3] جرى عليه -بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - ما جرى على الخلق، وذاق الكأس التي ذاقها الأنبياء من قبله، وكذلك الخلق وهو الرحيل عن هذه الدنيا، فغاب جسده وجسمه وشكله، وبقي هدْيه - صلى الله عليه وسلم - .
والذي يريد أن يعتنق هذا الدين بعد رحيله - صلى الله عليه وسلم - ، لابد أن يؤمن ويقبل بمسلمات غيبيّة -دون اعتراض- لأنها قطعية الثبوت والدلالة، وهنا تكمن عظمة هذا الدين.(1/156)
لذلك جاءت بداية هذه السورة على خطين متوازيين عام وخاص -كما أسلفنا القول-، فهو خطاب خاص للصحابة -رضوان الله عليهم- الذين عاصروه - صلى الله عليه وسلم - ، وعام لمن سيأتي بعده من المسلمين، ولمن سيعتنق الإسلام بعد ذلك، وتلحظ أن الخطاب الخاص بمن سيأتي بعده في ثناياه الأمر بامتثال أمر غيبي لم يره، فعندما يقول الحق تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)[الحجرات:1] يحق للمخاطب الذي لم يشاهد شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أن يقول: كيف يأمرني الله بشيء لم أشاهده ولم أعش معه في وقت واحد، وأنتم تقولون أن القرآن صالح لكل زمان ومكان ويشمل عموم المسلمين..؟ وهذا اعتراض له ما يسوّغه.
فإذا اتسعت دائرة فهمنا لكتاب ربنا سبحانه وتعالى، واستوعبنا شمولية الإسلام بشكلها الصحيح، لهان الفهم وسهل الاستيعاب وزال الغموض المصطنع، فنحن إخوان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين أتينا بعده، كما عبر هو عليه الصلاة والسلام بذلك بأننا إخوانه، والذين رأوه هم أصحابه كما قال لهم عندما قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي. إذاً الصحابة عليهم مسؤوليتان، الأولى: الانخفاض والإنصات والإطراق له، والخضوع بالصوت إلى درجة الهمس، ولا ينتج هذا إلا إذا استحكم الحب والانقياد لما يقول، - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا يسهل عملية التلقي والاستيعاب لتعاليم الإسلام، لذلك الصحابة هان عليهم الفهم، فضحوا بأرواحهم في سبيل الله من أجل إعلاء دينه، الذي اعتنقوه، وهي المسؤولية الثانية. أما الذين لم تكتحل عيونهم برؤيته - صلى الله عليه وسلم - وهم إخوانه- فعليهم مسؤولية خطيرة منقسمة بوحدتها إلى قسمين، القسم الأول: الحب، الذي يجب أن يملأ جنبات القلب بكل ما تعنيه هذه المفردة من المعنى اللغوي والشرعي، لشخصه عليه الصلاة والسلام، والقسم الثاني: الانقياد والاستجابة والاتّباع (1)
__________
(1) -ضوء من الحجرات- عبد الله بن عبد الرحمن العيادة 27/8/1426(1/157)
الثاني - أننا محتاجون إلى مدد الله وعطائه ورحمته دائما لا نستغني عنها لحظة . قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (15) سورة فاطر
" يا أيها البشر جميعا ، أنتم المحتاجون إلى اللّه تعالى على الإطلاق ، في منح القدرة على الحياة والبقاء ، وفي جميع الحركات والسكنات ، وفي جميع أمور الدين والدنيا ، لذا فاعبدوه وحده لأن ثمرة العبادة عائدة إليكم وحدكم ، واللّه هو المنفرد بالغنى وحده لا شريك له عن عبادتكم وغيرها ، وهو المحمود المشكور على نعمه وعلى جميع ما يفعله ويقوله ويقدره ويشرعه. وذكر الْحَمِيدُ ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه ، الجواد المنعم عليهم ، المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه. " (1)
" وفى قوله تعالى : « يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ » دعوة للناس أن يتجهوا بحاجاتهم إلى من يملك كل شىء ، ومن بيده الخير كله .. والناس جميعا فى حاجة دائمة إلى من يعينهم ، ويقضى حوائجهم ، وهم يتوسلون إلى هذا بكثير من الوسائل ، ومنها عبادة الأصنام ، والملائكة والجنّ ، والملوك وأصحاب الجاه والسلطان ، يبغون بذلك الخير منهم .. وكلهم إنما يتناولون ما بين أيديهم من جاء ، أو سلطان ، أو مال ـ من عطاء اللّه .. إنهم فقراء إلى اللّه ..
إن حبس عنهم العطاء ، كانوا أفقر الفقراء ، وأضعف الضعفاء .. وإذن فالناس جميعا ـ غنيّهم وفقيرهم ـ فقير إلى اللّه .. « كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً » (20 : الإسراء) وقوله تعالى : « وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ » حثّ للناس على الطلب من اللّه ، والرغب إليه فيما عنده .. فإنه سبحانه غنىّ ، لا تنفذ خزائنه ، ولا تنقص بالعطاء أبدا .. « وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ » (32 : النساء) فهو سبحانه يستجيب لمن سأله ، ويعطيه ما شاء من فضله .. وهو سبحانه « حميد » أي يحمد لعباده ما يلقون به عطاءه ، من حمد وشكر ، أيّا كان هذا العطاء ، قليلا أو كثيرا ..
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (22 / 249)(1/158)
إنه فضل من فضل وإحسان من إحسانه .. وإن من لا يشكر على القليل لا يشكر على الكثير .." (1)
"إن الناس في حاجة إلى تذكيرهم بهذه الحقيقة في معرض دعوتهم إلى الهدى ، ومجاهدتهم ليخرجوا مما هم فيه من الظلمات إلى نور اللّه وهداه. في حاجة إلى تذكيرهم بأنهم هم الفقراء المحاويج إلى اللّه. وأن اللّه غني عنهم كل الغنى. وأنهم حين يدعون إلى الإيمان باللّه وعبادته وحمده على آلائه فإن اللّه غني عن عبادتهم وحمدهم ، وهو المحمود بذاته. وأنهم لا يعجزون اللّه ولا يعزون عليه فهو إن شاء أن يذهب بهم ويأتي بخلق جديد من جنسهم أو من جنس آخر يخلفهم في الأرض. فإن ذلك عليه يسير ..
الناس في حاجة إلى أن يذكروا بهذه الحقيقة ، لئلا يركبهم الغرور وهم يرون أن اللّه - جل وعلا - يعنى بهم ، ويرسل إليهم الرسل ويجاهد الرسل أن يردوهم عن الضلالة إلى الهدى ، ويخرجوهم من الظلمات إلى النور. ويركبهم الغرور فيظنون أنهم شيء عظيم على اللّه! وأن هداهم وعبادتهم تزيد شيئا في ملكه تعالى! واللّه هو الغني الحميد.
وإن اللّه سبحانه يمنح العباد من رعايته ، ويفيض عليهم من رحمته ، ويغمرهم بسابغ فضله - بإرسال رسله إليهم ، واحتمال هؤلاء الرسل ما يحتملون من إعراضهم وإيذائهم ، وثباتهم على الدعوة إلى اللّه بعد الإعراض والإيذاء .. إن اللّه سبحانه إنما يعامل عباده هكذا رحمة منه وفضلا وكرما ومنا. لأن هذه صفاته المتعلقة بذاته. لا لأن هؤلاء العباد يزيدون في ملكه شيئا بهداهم ، أو ينقصون من ملكه شيئا بعماهم. ولا لأن هؤلاء العباد مخلوقات نادرة عزيزة صعبة الإعادة أو الاستبدال ، فيغتفر لهم ما يقع منهم لأنهم صنف لا يعاد ولا يستبدل.
وإن الإنسان ليدهش ويحار في فضل اللّه ومنه وكرمه ، حين يرى هذا الإنسان الصغير الضئيل الجاهل القاصر ، الضعيف العاجز ، ينال من عناية اللّه ورعايته كل
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (11 / 866)(1/159)
هذا القدر الهائل! والإنسان ساكن صغير من سكان هذه الأرض. والأرض تابع صغير من توابع الشمس. والشمس نجم مما لا عد له ولا حصر من النجوم. والنجوم إن هي إلا نقط صغيرة - على ضخامتها الهائلة - متناثرة في فضاء الكون الذي لا يعلم الناس حدوده. وهذا الفضاء الذي تتناثر فيه تلك النجوم كالنقط التائهة إن هو إلا بعض خلق اللّه! ثم ينال الإنسان من اللّه كل هذه الرعاية .. ينشئه ، ويستخلفه في الأرض ، ويهبه كل أدوات الخلافة - سواء في تكوينه وتركيبه أو تسخير القوى والطاقات الكونية اللازمة له في خلافته - ويضل هذا المخلوق ويتبجح حتى ليشرك بربه أو ينكره. فيرسل اللّه إليه الرسل ، رسولا بعد رسول ، وينزل على الرسل الكتب والخوارق. ويطرد فضل اللّه ويفيض حتى لينزل في كتابه الأخير للبشر قصصا يحدث بها الناس ، ويقص عليهم ما وقع لأسلافهم ، ويحدثهم عن ذوات أنفسهم ، ويكشف لهم عما فيها من قوى وطاقات ، ومن عجز وضعف ، بل إنه - سبحانه - ليحدث عن فلان وفلان بالذات ، فيقول لهذا : أنت فعلت وأنت تركت ، ويقول لذاك : هاك حلا لمشكلتك ، وهاك خلاصا من ضيقتك! كل ذلك ، وهذا الإنسان هو الساكن الصغير من سكان هذه الأرض ، التابعة الصغيرة من توابع الشمس ، التائهة في هذا الوجود الكبير حتى ما تكاد تحس!
واللّه - سبحانه - هو فاطر السماوات والأرض ، وخالق هذا الوجود بما فيه ومن فيه بكلمة. بمجرد توجه الإرادة. وهو قادر على أن يخلق مثله بكلمة وبمجرد توجه الإرادة ..
والناس خلقاء أن يدركوا هذه الحقيقة ليدركوا مدى فضل اللّه ورعايته ورحمته. وليستحيوا أن يستجيبوا للفضل الخالص والرعاية المجردة والرحمة الفائضة بالإعراض والجحود والنكران.
فهي من هذه الناحية لمسة وجدانية موحية ، إلى جانب أنها حقيقة صادقة واقعة. والقرآن يلمس بالحقائق قلوب البشر لأن الحقيقة حين تجلى أفعل في النفس ولأنه(1/160)
هو الحق وبالحق نزل. فلا يتحدث إلا بالحق ، ولا يقنع إلا بالحق ، ولا يعرض إلا الحق ، ولا يشير بغير الحق" (1)
===============
الثمرة الرابعة - لا بد من التسليم التام لله تعالى بكل ما يفعل .
قال تعالى : {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (71) سورة الأنعام
قل يا محمد وأعلن أن هدى اللّه هو الهدى وأننا - من ثم - أمرنا أن نسلم لرب العالمين. فهو وحده الذي يستسلم له العالمون. فالعوالم كلها مستسلمة له ، فماذا الذي يجعل الإنسان وحده - من بين العالمين - يشذ عن الاستسلام لهذه الربوبية الشاملة التي تستسلم لها العوالم في السماوات والأرضين؟
إن ذكر الربوبية للعالمين هنا له موضعه .. إنه يقرر الحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها وهي استسلام الوجود كله ، وما فيه من عوالم مشهودة ومغيبة ، للنواميس التي وضعها اللّه لها وهي لا تملك الخروج عليها ، والإنسان - من ناحية تركيبه العضوي - يستسلم كذلك لهذه النواميس كرها ، ولا يملك الخروج عليها
فلا يبقى إلا أن يستسلم في الجانب الذي ترك له الخيار فيه ليبتلى فيه ، وهو جانب الاختيار .. اختيار الهدى أو الضلال .. ولو استسلم فيه استسلام كيانه العضوي ، لاستقام أمره ، وتناسق تكوينه وسلوكه ، وجسمه وروحه ، ودنياه وآخرته « ..
وفي إعلان الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين معه ، أنهم أمروا بالاستسلام فاستسلموا ، إيحاء مؤثر لمن يفتح اللّه قلبه للتلقي والاستجابة على مدى الزمان." (2)
==================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2937)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 1133)(1/161)
الثمرة الخامسة -لا يجوز الاعتراض على أي حكم من أحكام الله تعالى ، لأنه مالك الملك ، والعبد لا يعترض على سيده .
قال تعالى : {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (23) سورة الأنبياء
أي أن هذا الذي يكون من حياة وموت ، وبعث ، هو من تدبير اللّه ، ومن تصريفه فى ملكه ، لا يسأل عما يفعل .. فمن أسلم نفسه للّه ،فقد فاز ونجا ، ومن أبى أن يسلم نفسه للّه ، فقد خاب وخسر .. وذلك يوم تنكشف له الحقيقة ، ويجد اليوم الذي كان يكذب به ، والنار التي توعّد اللّه بها المكذبين .. (1)
وقال تعالى : {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (26) سورة آل عمران
" إنها الحقيقة الناشئة من حقيقة الألوهية الواحدة .. إله واحد فهو المالك الواحد .. هو «مال الملك» بلا شريك .. ثم هو من جانبه يملك من يشاء ما يشاء من ملكه. يملكه إياه تمليك العارية يستردها صاحبها ممن يشاء عند ما يشاء. فليس لأحد ملكية أصيلة يتصرف فيها على هواه. إنما هي ملكية معارة له خاضعة لشروط المملك الأصلي وتعليماته فإذا تصرف المستعير فيها تصرفا مخالفا لشرط المالك وقع هذا التصرف باطلا. وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا. أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملك صاحب الملك الأصيل ..
وكذلك هو يعز من يشاء ويذل من يشاء بلا معقب على حكمه ، وبلا مجير عليه ، وبلا راد لقضائه ، فهو صاحب الأمر كله بما أنه - سبحانه - هو اللّه .. وما يجوز أن يتولى هذا الاختصاص أحد من دون اللّه.
وفي قوامة اللّه هذه الخير كل الخير .. فهو يتولاها سبحانه بالقسط والعدل. يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء بالقسط والعدل. ويعز من يشاء ويذل من يشاء بالقسط والعدل. فهو الخير الحقيقي في جميع الحالات وهي المشيئة المطلقة
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (13 / 251)(1/162)
والقدرة المطلقة على تحقيق هذا الخير في كل حال : «بِيَدِكَ الْخَيْرُ» .. «إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
وهذه القوامة على شؤون البشر ، وهذا التدبير لأمرهم بالخير ، ليس إلا طرفا من القوامة الكبرى على شؤون الكون والحياة على الإطلاق " (1)
===============
الثمرة السادسة - أن يستوي المنع والعطاء عند العبد المؤمن ، فإذا أعطاه الله شكر ، وإذا منعه صبر.
عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ». (2)
وقال تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (35) سورة الأنبياء
"والابتلاء بالشر مفهوم أمره. ليتكشف مدى احتمال المبتلى ، ومدى صبره على الضر ، ومدى ثقته في ربه ، ورجائه في رحمته .. فأما الابتلاء بالخير فهو في حاجة إلى بيان ..
إن الابتلاء بالخير أشد وطأة ، وإن خيل للناس أنه دون الابتلاء بالشر ..
إن كثيرين يصمدون للابتلاء بالشر ولكن القلة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير.
كثيرون يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف. ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة. ويكبحون جماح القوة الهائجة في كيانهم الجامحة في أوصالهم.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 384)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (7692 )(1/163)
كثيرون يصبرون على الفقر والحرمان فلا تتهاوى نفوسهم ولا تذل. ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الثراء والوجدان. وما يغريان به من متاع ، وما يثير انه من شهوات وأطماع!
كثيرون يصبرون على التعذيب والإيذاء فلا يخيفهم ، ويصبرون على التهديد والوعيد فلا يرهبهم. ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الإغراء بالرغائب والمناصب والمتاع والثراء! كثيرون يصبرون على الكفاح والجراح ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الدعة والمراح. ثم لا يصابون بالحرص الذي يذل أعناق الرجال. وبالاسترخاء الذي يقعد الهمم ويذلل الأرواح!
إن الابتلاء بالشدة قد يثير الكبرياء ، ويستحث المقاومة ويجند الأعصاب ، فتكون القوى كلها معبأة لاستقبال الشدة والصمود لها. أما الرخاء فيرخي الأعصاب وينيمها ويفقدها القدرة على اليقظة والمقاومة!
لذلك يجتاز الكثيرون مرحلة الشدة بنجاح ، حتى إذا جاءهم الرخاء سقطوا في الابتلاء! وذلك شأن البشر .. إلا من عصم اللّه " (1)
وأكثر الناس لا يشكرون عند الرخاء ولا يصبرون عند البلاء ، قال تعالى : {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ } (51) سورة فصلت
هذا الإنسان لا يسأم من دعاء الخير. فهو ملح فيه ، مكرر له ، يطلب الخير لنفسه ولا يمل طلبه. وإن مسه الشر. مجرد مس. فقد الأمل والرجاء وظن أن لا مخرج له ولا فرج ، وتقطعت به الأسباب وضاق صدره وكبر همه ويئس من رحمة اللّه وقنط من رعايته. ذلك أن ثقته بربه قليلة ، ورباطه به ضعيف! وهذا الإنسان إذا أذاقه اللّه منه رحمة بعد ذلك الضر ، استخفته النعمة فنسي الشكر واستطاره الرخاء فغفل عن مصدره. وقال : هذا لي. نلته باستحقاقي وهو دائم علي! ونسي الآخرة واستبعد أن تكون «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً» .. وانتفخ في عين نفسه فراح يتألى
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2377)(1/164)
على اللّه ، ويحسب لنفسه مقاما عنده ليس له ، وهو ينكر الآخرة فيكفر باللّه. ومع هذا يظن أنه لو رجع إليه كانت له وجاهته عنده! «وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى »!
وهو غرور .. عندئذ يجيء التهديد في موضعه لهذا الغرور :«فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا ، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ» ..وهذا الإنسان إذا أنعم اللّه عليه : استعظم وطغى. وأعرض ونأى بجانبه. فأما إذا مسه الشر فيتخاذل ويتهاوى ، ويصغر ويتضاءل ، ويتضرع ولا يمل الضراعة. فهو ذو دعاء عريض! أية دقة ، وأي تسجيل للصغيرة في نفس الإنسان والكبيرة! إنه خالقه الذي يصفه. خالقه الذي يعرف دروب نفسه. ويعرف أنها تظل تدور في هذه الدروب المنحنية ، إلا أن تهتدي إلى الطريق المستقيم .. فتستقيم .. (1)
================
الثمرة السابعة - أن المنع والعطاء بحكمة وبقدر ، ولكن يجب أن نعلم أنه إذا أعطانا أن ننسب الفضل لله وحده وإلا فالهلاك.
قال تعالى : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) [القصص : 76 ، 78] }
إنها قولة المغرور المطموس الذي ينسى مصدر النعمة وحكمتها ، ويفتنه المال ويعميه الثراء.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 3129)(1/165)
وهو نموذج مكرر في البشرية. فكم من الناس يظن أن علمه وكده هما وحدهما سبب غناه. ومن ثم فهو غير مسؤول عما ينفق وما يمسك ، غير محاسب على ما يفسد بالمال وما يصلح ، غير حاسب للّه حسابا ، ولا ناظر إلى غضبه ورضاه!
والإسلام يعترف بالملكية الفردية ، ويقدر الجهد الفردي الذي بذل في تحصيلها من وجوه الحلال التي يشرعها ولا يهون من شأن الجهد الفردي أو يلغيه. ولكنه في الوقت ذاته يفرض منهجا معينا للتصرف في الملكية الفردية - كما يفرض منهجا لتحصيلها وتنميتها - وهو منهج متوازن متعادل ، لا يحرم الفرد ثمرة جهده ، ولا يطلق يده في الاستمتاع به حتى الترف ولا في إمساكه حتى التقتير ويفرض للجماعة حقوقها في هذا المال ، ورقابتها على طرق تحصيله ، وطرق تنميته. وطرق إنفاقه والاستمتاع به. وهو منهج خاص واضح الملامح متميز السمات.
ولكن قارون لم يستمع لنداء قومه ، ولم يشعر بنعمة ربه ، ولم يخضع لمنهجه القويم. وأعرض عن هذا كله في استكبار لئيم وفي بطر ذميم.
ومن ثم جاءه التهديد قبل تمام الآية ، ردا على قولته الفاجرة المغرورة : «أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً؟ وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ».
فإن كان ذا قوة وذا مال ، فقد أهلك اللّه من قبله أجيالا كانت أشد منه قوة وأكثر مالا. وكان عليه أن يعلم هذا. فهذا هو العلم المنجي. فليعلم. وليعلم أنه هو وأمثاله من المجرمين أهون على اللّه حتى من أن يسألهم عن ذنوبهم. فليسوا هم الحكم ولا الأشهاد! «وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ»! (1)
=============
الثمرة الثامنة - أن يصبر على البلاء ويرضى بالقضاء .
قال تعالى :{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2712)(1/166)
رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة : 155 - 157]
لا بد من تربية النفوس بالبلاء ، ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد ، وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات .. لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة ، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف. والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى. فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين. وكلما تألموا في سبيلها ، وكلما بذلوا من أجلها .. كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها. كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها .. إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم : لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيرا مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء ، ولا صبروا عليه .. وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها ، مقدرين لها ، مندفعين إليها .. وعندئذ يجيء نصر اللّه والفتح ويدخل الناس في دين اللّه أفواجا ..
ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى. فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد. والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون ، والران عن القلوب.
وأهم من هذا كله ، أو القاعدة لهذا كله .. الالتجاء إلى اللّه وحده حين تهتز الأسناد كلها ، وتتوارى الأوهام وهي شتى ، ويخلو القلب إلى اللّه وحده. لا يجد سندا إلا سنده. وفي هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات ، وتتفتح البصيرة ، وينجلي الأفق على مد البصر .. لا شيء إلا اللّه .. لا قوة إلا قوته .. لا حول إلا(1/167)
حوله .. لا إرادة إلا إرادته .. لا ملجأ إلا إليه .. وعندئذ تلتقي الروح بالحقيقة الواحدة التي يقوم عليها تصور صحيح ..
والنص القرآني هنا يصل بالنفس إلى هذه النقطة على الأفق :«وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا : إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» ..
إنا للّه .. كلنا .. كل ما فينا .. كل كياننا وذاتيتنا .. للّه .. وإليه المرجع والمآب في كل أمر وفي كل مصير .. التسليم .. التسليم المطلق .. تسليم الالتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجها لوجه بالحقيقة الوحيدة ، وبالتصور الصحيح.
هؤلاء هم الصابرون .. الذين يبلغهم الرسول الكريم بالبشرى من المنعم الجليل ..
وهؤلاء هم الذين يعلن المنعم الجليل مكانهم عنده جزاء الصبر الجميل :«أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» ..صلوات من ربهم .. يرفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه .. وهو مقام كريم .. ورحمة .. وشهادة من اللّه بأنهم هم المهتدون ..
وكل أمر من هذه هائل عظيم ..
وبعد .. فلا بد من وقفة أمام هذه الخاتمة في تلك التعبئة للصف الإسلامي. التعبئة في مواجهة المشقة والجهد ، والاستشهاد والقتل ، والجوع والخوف ، ونقص الأموال والأنفس والثمرات. والتعبئة في هذه المعركة الطويلة الشاقة العظيمة التكاليف.
إن اللّه يضع هذا كله في كفة. ويضع في الكفة الأخرى أمرا واحدا .. صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون .. إنه لا يعدهم هنا نصرا ، ولا يعدهم هنا تمكينا ، ولا يعدهم هنا مغانم ، ولا يعدهم هنا شيئا إلا صلوات اللّه ورحمته وشهادته .. لقد كان اللّه يعد هذه الجماعة لأمر أكبر من ذواتها وأكبر من حياتها.
فكان من ثم يجردها من كل غاية ، ومن كل هدف ومن كل رغبة من الرغبات البشرية - حتى الرغبة في انتصار العقيدة - كان يجردها من كل شائبة تشوب التجرد المطلق له ولطاعته ولدعوته .. كان عليهم أن يمضوا في طريقهم لا يتطلعون(1/168)
إلى شيء إلا رضى اللّه وصلواته ورحمته وشهادته لهم بأنهم مهتدون .. هذا هو الهدف ، وهذه هي الغاية ، وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها .. فأما ما يكتبه اللّه لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فليس لهم ، إنما هو لدعوة اللّه التي يحملونها.
إن لهم في صلوات اللّه ورحمته وشهادته جزاء. جزاء على التضحية بالأموال والأنفس والثمرات. وجزاء على الخوف والجوع والشدة. وجزاء على القتل والشهادة .. إن الكفة ترجح بهذا العطاء فهو أثقل في الميزان من كل عطاء. أرجح من النصر وأرجح من التمكين وأرجح من شفاء غيظ الصدور ..
هذه هي التربية التي أخذ اللّه بها الصف المسلم ليعده ذلك الإعداد العجيب ، وهذا هو المنهج الإلهي في التربية لمن يريد استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين. (1)
=================
الثمرة التاسعة - العلم الراسخ ، والإيمان المنير يقودان للإيمان الحق
قال تعالى : { لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} (162) سورة النساء
فالعلم الراسخ ، والإيمان المنير ، كلاهما يقود أهله إلى الإيمان بالدين كله. كلاهما يقود إلى توحيد الدين الذي جاء من عند اللّه الواحد.
وذكر العلم الراسخ بوصفه طريقا إلى المعرفة الصحيحة كالإيمان الذي يفتح القلب للنور ، لفتة من اللفتات القرآنية التي تصور واقع الحال التي كانت يومذاك كما تصور واقع النفس البشرية في كل حين. فالعلم السطحي كالكفر الجاحد ، هما اللذان يحولان بين القلب وبين المعرفة الصحيحة .. ونحن نشهد هذا في كل زمان. فالذين يتعمقون في العلم ، ويأخذون منه بنصيب حقيقي ، يجدون أنفسهم أمام
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 145)(1/169)
دلائل الإيمان الكونية أو على الأقل أمام علامات استفهام كونية كثيرة ، لا يجيب عليها إلا الاعتقاد بأن لهذا الكون إلها واحدا مسيطرا مدبرا متصرفا ، وذا إرادة واحدة ، وضعت ذلك الناموس الواحد .. وكذلك الذين تتشوق قلوبهم للهدى - المؤمنون - يفتح اللّه عليهم ، وتتصل أرواحهم بالهدى .. أما الذين يتناوشون المعلومات ويحسبون أنفسهم علماء ، فهم الذين تحول قشور العلم بينهم وبين إدراك دلائل الإيمان ، أو لا تبرز لهم - بسبب علمهم الناقص السطحي - علامات الاستفهام. وشأنهم شأن من لا تهفو قلوبهم للهدى ولا تشتاق .. وكلاهما هو الذي لا يجد في نفسه حاجة للبحث عن طمأنينة الإيمان ، أو يجعل التدين عصبية جاهلية فيفرق بين الأديان الصحيحة التي جاءت من عند ديان واحد ، على أيدي موكب واحد متصل من الرسل ، صلوات اللّه عليهم أجمعين. (1)
===============
الثمرة العاشرة - لقد أقيمت الحجة على الخلق بإرسال الرسل ، فلا عذر لهم عند الله .
قال تعالى : {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } (165) سورة النساء
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ « وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِى أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِىٌّ وَلاَ نَصْرَانِىٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ». (2)
وقوله سبحانه : « لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ » هو إشارة إلى ألطاف اللّه ، ورحمته بعباده ، حيث لم يدعهم إلى عقولهم ليتعرفوا إليه ، ويستقيموا على سبيله ، بل رفد هذه العقول بذلك النور الهادي الذي حمله إليهم رسل اللّه ، لتكون رؤيتهم لآيات اللّه واضحة ، وطريقهم إليه مشرقا ..
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 804)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (403 )(1/170)
فمن كفر باللّه وحاد عن طريقه ، فليس ذلك عن علّة ، إلا العناد ، واتباع الهوى ، والانقياد للشيطان .. فإذا أخذ الكافر بكفره ، فذلك هو الحكم الذي حكم به الكافر على نفسه ، ورضيه لها. فلا عذر لمعتذر ، ولا حجة لكافر.
وقوله تعالى : « وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً » هو بيان للصفة الإلهية المتجلية على العباد فى هذا المقام. فهو سبحانه وتعالى عزيز ، يخضع لعزته كل موجود .. ولو شاء لأخذ الناس بغير حجّة عليهم ، ولعذبهم من غير أن يبعث فيهم رسله مبشرين ومنذرين ـ إذ ليس لأحد أن يراجع اللّه ، ولا أن يعترض على ما يريد .. ولكنه ـ سبحانه ـ مع هذه العزة المتمكنة الغالبة « حكيم » لا يفعل إلا ما تقضى به حكمته ، فى إشراقها وعدلها. (1)
وللّه الحجة البالغة في الأنفس والآفاق وقد أعطى اللّه البشر من العقل ما يتدبرون به دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق. ولكنه - سبحانه - رحمة منه بعباده ، وتقديرا لغلبة الشهوات على تلك الأداة العظيمة التي أعطاها لهم - أداة العقل - اقتضت رحمته وحكمته أن يرسل إليهم الرسل «مبشرين ومنذرين» يذكرونهم ويبصرونهم ويحاولون استنقاذ فطرتهم وتحرير عقولهم من ركام الشهوات ، التي تحجب عنها أو تحجبها عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق.
«وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» ..عزيزا : قادرا على أخذ العباد بما كسبوا. حكيما : يدبر الأمر كله بالحكمة ويضع كل أمر في نصابه ..والقدرة والحكمة لهما عملهما فيما قدره اللّه في هذا الأمر وارتضاه ..
«لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» أمام حشد من الإيحاءات اللطيفة العميقة ونختار منه ثلاثا على سبيل الاختصار الذي لا يخرج بنا من الظلال.
نقف منها :
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1012)(1/171)
أولا : أمام قيمة العقل البشري ووظيفته ودوره في أخطر قضايا «الإنسان» قضية الإيمان باللّه التي تقوم عليها حياته في الأرض من جذورها بكل مقوماتها واتجاهاتها وواقعياتها وتصرفاتها كما يقوم عليها مآله في الآخرة وهي أكبر وأبقى.
لو كان اللّه - سبحانه - وهو أعلم بالإنسان وطاقاته كلها ، يعلم أن العقل البشري ، الذي وهبه للإنسان ، هو حسب هذا الإنسان في بلوغ الهدى لنفسه والمصلحة لحياته ، في دنياه وآخرته ، لو كله إلى هذا العقل وحده يبحث عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق ، ويرسم لنفسه كذلك المنهج الذي تقوم عليه حياته ، فتستقيم على الحق والصواب ولما أرسل إليه الرسل على مدى التاريخ ولما جعل حجته على عباده هي رسالة ، الرسل إليهم وتبليغهم عن ربهم ولما جعل حجة الناس عنده - سبحانه - هي عدم مجيء الرسل إليهم :
«لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» .. ولكن لما علم اللّه - سبحانه - أن العقل الذي آتاه للإنسان أداة قاصرة بذاتها عن الوصول إلى الهدى - بغير توجيه من الرسالة وعون وضبط - وقاصرة كذلك عن رسم منهج للحياة الإنسانية يحقق المصلحة الصحيحة لهذه الحياة وينجي صاحبه من سوء المآل في الدنيا والآخرة ..
لما علم اللّه - سبحانه - هذا شاءت حكمته وشاءت رحمته أن يبعث للناس بالرسل ، وألا يؤاخذ الناس إلا بعد الرسالة والتبليغ : «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» .. وهذه تكاد تكون إحدى البديهيات التي تبرز من هذا النص القرآني .. فإن لم تكن بديهية فهي إحدى المقتضيات الحتمية ..
إذن .. ما هي وظيفة هذا العقل البشري وما هو دوره في قضية الإيمان والهدى وفي قضية منهج الحياة ونظامها؟
إن دور هذا العقل أن يتلقى عن الرسالة ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول. ومهمة الرسول أن يبلغ ، ويبين ، ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما يرين عليها من الركام. وينبه العقل الإنساني إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس(1/172)
والآفاق وأن يرسم له منهج التلقي الصحيح ، ومنهج النظر الصحيح وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية ، المؤدي إلى خير الدنيا والآخرة.
وليس دور العقل أن يكون حاكما على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان ، والقبول أو الرفض - بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن اللّه وبعد أن يفهم المقصود بها : أي المدلولات اللغوية والاصطلاحية للنص - ولو كان له أن يقبلها أو يرفضها - بعد إدراك مدلولها ، لأنه هو لا يوافق على هذا المدلول! أو لا يريد أن يستجيب له - ما استحق العقاب من اللّه على الكفر بعد البيان .. فهو إذن ملزم بقبول مقررات الدين متى بلغت إليه عن طريق صحيح ، ومتى فهم عقله ما المقصود بها وما المراد منها ..
إن هذه الرسالة تخاطب العقل .. بمعنى أنها توقظه ، وتوجهه ، وتقيم له منهج النظر الصحيح .. لا بمعنى أنه هو الذي يحكم بصحتها أو بطلانها ، وبقبولها أو رفضها. ومتى ثبت النص كان هو الحكم وكان على العقل البشري أن يقبله ويطيعه وينفذه سواء كان مدلوله مألوفا له أو غريبا عليه
إن دور العقل - في هذا الصدد - هو أن يفهم ما الذي يعنيه النص. وما مدلوله الذي يعطيه حسب معاني العبارة في اللغة والاصطلاح. وعند هذا الحد ينتهي دوره .. إن المدلول الصحيح للنص لا يقبل البطلان أو الرفض بحكم من هذا العقل. فهذا النص من عند اللّه ، والعقل ليس إلها يحكم بالصحة أو البطلان ، وبالقبول أو الرفض لما جاء من عند اللّه.وعند هذه النقطة الدقيقة يقع خلط كثير .. سواء ممن يريدون تأليه العقل البشري فيجعلونه هو الحكم في صحة أو بطلان المقررات الدينية الصحيحة .. أو ممن يريدون إلغاء العقل ، ونفي دوره في الإيمان والهدى ..
والطريق الوسط الصحيح هو الذي بيناه هنا .. من أن الرسالة تخاطب العقل ليدرك مقرراتها وترسم له المنهج الصحيح للنظر في هذه المقررات ، وفي شؤون الحياة كلها. فإذا أدرك مقرراتها - أي إذا فهم ماذا يعني النص - لم يعد أمامه إلا(1/173)
التصديق والطاعة والتنفيذ .. فهي لا تكلف الإنسان العمل بها سواء فهمها أم لم يفهمها.
وهي كذلك لا تبيح له مناقشة مقرراتها متى أدرك هذه المقررات ، وفق مفهوم نصوصها .. مناقشتها ليقبلها أو يرفضها. ليحكم بصحتها أو خطئها .. وقد علم أنها جاءته من عند اللّه. الذي لا يقص إلا الحق ، ولا يأمر إلا بالخير.
والمنهج الصحيح في التلقي عن اللّه ، هو ألا يواجه العقل مقررات الدين الصحيحة - بعد أن يدرك المقصود بها - بمقررات له سابقة عليها كونها لنفسه من مقولاته «المنطقية»! أو من ملاحظاته المحدودة أو من تجاربه الناقصة .. إنما المنهج الصحيح أن يتلقى النصوص الصحيحة ، ويكون منها مقرراته هو! فهي أصح من مقرراته الذاتية ومنهجها أقوم من منهجه الذاتي - قبل أن يضبط بموازين النظر الدينية الصحيحة - ومن ثم لا يحاكم العقل مقررات الدين - متى صح عنده أنها من اللّه - إلى أية مقررات أخرى من صنعه الخاص! .. إن العقل ليس إلها ، ليحاكم بمقرراته الخاصة مقررات اللّه ..
إن له أن يعارض مفهوما عقليا بشريا للنص بمفهوم عقلي بشري آخر له .. هذا مجاله ، ولا حرج عليه في هذا ولا حجر ما دام هنالك من الأصول الصحيحة مجال للتأول والأفهام المتعددة. وحرية النظر - على أصوله الصحيحة وبالضوابط التي يقررها الدين نفسه - مكفولة للعقول البشرية في هذا المجال الواسع. وليس هنالك من هيئة ، ولا سلطة ، ولا شخص ، يملك الحجر على العقول ، في إدراك المقصود بالنص الصحيح وأوجه تطبيقه - متى كان قابلا لأوجه الرأي المتعددة ، ومتى كان النظر في حدود الضوابط الصحيحة والمنهج الصحيح ، المأخوذ من مقررات الدين - وهذا كذلك معنى أن هذه الرسالة تخاطب العقل ..
إن الإسلام دين العقل .. نعم .. بمعنى أنه يخاطب العقل بقضاياه ومقرراته ولا يقهره يخارقة مادية لا مجال له فيها إلا الإذعان. ويخاطب العقل بمعنى أنه يصحح له منهج النظر ويدعوه إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق(1/174)
ليرفع عن الفطرة ركام الإلف والعادة والبلادة وركام الشهوات المضلة للعقل والفطرة. ويخاطب العقل بمعنى أنه يكل إليه فهم مدلولات النصوص التي تحمل مقرراته ، ولا يفرض عليه أن يؤمن بما لا يفهم مدلوله ولا يدركه .. فإذا وصل إلى مرحلة إدراك المدلولات وفهم المقررات لم يعد أمامه إلا التسليم بها فهو مؤمن ، أو عدم التسليم بها فهو كافر .. وليس هو حكما في صحتها أو بطلانها. وليس هو مأذونا في قبولها أو رفضها ، كما يقول من يبتغون أن يجعلوا من هذا العقل إلها ، يقبل من المقررات الدينية الصحيحة ما يقبل ، ويرفض منها ما يرفض ، ويختار منها ما يشاء ، ويترك منها ما يشاء ..
فهذا هو الذي يقول اللّه عنه : «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟» ويرتب عليه صفة الكفر ، ويرتب عليه كذلك العقاب ..
فإذا قرر اللّه - سبحانه - حقيقة في أمر الكون ، أو أمر الإنسان ، أو أمر الخلائق الأخرى. أو إذا قرر أمرا في الفرائض ، أو في النواهي .. فهذا الذي قرره اللّه واجب القبول والطاعة ممن يبلغ إليه. متى أدرك المدلول المراد منه ..
إذا قال اللّه سبحانه «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» .. «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» .. «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» ..
«خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ» .. إلى آخر ما قال - سبحانه - عن طبيعة الكون والكائنات والأحياء والأشياء .. فالحق هو ما قال. وليس للعقل أن يقول - بعد أن يفهم مدلول النصوص والمقررات التي تنشئها - إنني لا أجد هذا في مقرراتي ، أو في علمي ، أو في تجاربي فكل ما يبلغه العقل في هذا معرض للخطأ والصواب. وما قرره اللّه - سبحانه - لا يحتمل إلا الحق والصواب.
وإذا قال اللّه سبحانه : «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» ..(1/175)
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ» ..
«وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ...» ..
«وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ..» .. إلى آخر ما قال في شأن منهج الحياة البشرية فالحق هو ما قال - سبحانه - وليس للعقل أن يقول : ولكنني أرى المصلحة في كذا وكذا مما يخالف عن أمر اللّه ، أو فيما لم يأذن به اللّه ولم يشرعه للناس .. فما يراه العقل مصلحة يحتمل الخطأ والصواب ، وتدفع إليه الشهوات والنزوات .. وما يقرره اللّه - سبحانه - لا يحتمل إلا الصحة والصلاح
وما قرره اللّه سبحانه من العقائد والتصورات ، أو من منهج الحياة ونظامها ، سواء في موقف العقل إزاءه
متى صح النص ، وكان قطعي الدلالة ولم يوقت بوقت .. فليس للعقل أن يقول : آخذ في العقائد والشعائر التعبدية ولكني أرى أن الزمن قد تغير في منهج الحياة ونظامها .. فلو شاء اللّه أن يوقت مفعول النصوص لوقته. فما دام النص مطلقا فإنه يستوي زمان نزوله وآخر الزمان .. احترازا من الجرأة على اللّه ، ورمي علمه بالنقص والقصور - سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا .. إنما يكون الاجتهاد في تطبيق النص العام على الحالة الجزئية لا في قبول المبدأ العام أو رفضه ، تحت أي مقولة من مقولات العقل في جيل من الأجيال!
وليس في شيء من هذا الذي نقرره انتقاص من قيمة العقل ودوره في الحياة البشرية .. فإن المدى أمامه واسع في تطبيق النصوص على الحالات المتجددة - بعد أن ينضبط هو بمنهج النظر وموازينه المستقاة من دين اللّه وتعليمه الصحيح - والمدى أمامه أوسع في المعرفة بطبيعة هذا الكون وطاقاته وقواه ومدخراته وطبيعة الكائنات فيه والأحياء والانتفاع بما سخر اللّه له من هذا الكون ومن هذه الكائنات(1/176)
والأحياء وتنمية الحياة وتطويرها وترقيتها - في حدود منهج اللّه - لا كما تبتغي الشهوات والأهواء التي تضل العقل وتغطي الفطرة بالركام !.
ونقف من هذه اللفتة : «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» وقفة أخرى :
نقف منها أمام التبعة العظيمة الملقاة على الرسل - صلوات اللّه عليهم - ومن بعدهم على المؤمنين برسالاتهم - تجاه البشرية كلها .. وهي تبعة ثقيلة بمقدار ما هي عظيمة ..
إن مصائر البشرية كلها في الدنيا وفي الآخرة سواء ، منوطة بالرسل وبأتباعهم من بعدهم. فعلى أساس تبليغهم هذا الأمر للبشر ، تقوم سعادة هؤلاء البشر أو شقوتهم ، ويترتب ثوابهم أو عقابهم .. في الدنيا والآخرة.
إنه أمر هائل عظيم .. ولكنه كذلك .. ومن ثم كان الرسل - صلوات اللّه عليهم - يحسون بجسامة ما يكلفون.
وكان اللّه - سبحانه - يبصرهم بحقيقة العبء الذي ينوطه بهم .. وهذا هو الذي يقول اللّه عنه لنبيه : «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» .. ويعلمه كيف يتهيأ له ويستعد : «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا .. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» .. «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا. فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً. وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا» .. وهذا هو الذي يشعر به نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو يأمره أن يقول وأن يستشعر حقيقة ما يقول : «قُلْ : إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً .. إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ»
« عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً .. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ. وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» ..
إنه الأمر الهائل العظيم .. أمر رقاب الناس .. أمر حياتهم ومماتهم .. أمر سعادتهم وشقائهم .. أمر ثوابهم وعقابهم .. أمر هذه البشرية ، التي إما أن تبلغ إليها الرسالة(1/177)
فتقبلها وتتبعها فتسعد في الدنيا والآخرة. وإما أن تبلغ إليها فترفضها وتنبذها فتشقى في الدنيا والآخرة. وإما ألا تبلغ إليها فتكون لها حجة على ربها ، وتكون تبعة شقائها في الدنيا وضلالها معلقة بعنق من كلف التبليغ فلم يبلغ! فأما رسل اللّه - عليهم الصلاة والسلام - فقد أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة ، ومضوا إلى ربهم خالصين من هذا الالتزام الثقيل .. وهم لم يبلغوها دعوة باللسان ، ولكن بلغوها - مع هذا - قدوة ممثلة في العمل ، وجهادا مضنيا بالليل والنهار لإزالة العقبات والعوائق .. سواء كانت هذه العقبات والعوائق شبهات تحاك ، وضلالات تزين ، أو كانت قوى طاغية تصد الناس عن الدعوة وتفتنهم في الدين. كما صنع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين. بما أنه المبلغ الأخير. وبما أن رسالته هي خاتمة الرسالات. فلم يكتف بإزالة العوائق باللسان.
إنما أزالها كذلك بالسنان «حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ» ..
وبقي الواجب الثقيل على من بعده .. على المؤمنين برسالته .. فهناك أجيال وراء أجيال جاءت وتجيء بعده - صلى الله عليه وسلم - وتبليغ هذه الأجيال منوط - بعده - بأتباعه. ولا فكاك لهم من التبعة الثقيلة - تبعة إقامة حجة اللّه على الناس وتبعة استنقاذ الناس من عذاب الآخرة وشقوة الدنيا - إلا بالتبليغ والأداء .. على ذات المنهج الذي بلغ به رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وأدى .. فالرسالة هي الرسالة والناس هم الناس
وهناك ضلالات وأهواء وشبهات وشهوات .. وهناك قوى عاتية طاغية تقوم دون الناس ودون الدعوة وتفتنهم كذلك عن دينهم بالتضليل وبالقوة .. الموقف هو الموقف والعقبات هي العقبات ، والناس هم الناس.
ولا بد من بلاغ ، ولا بد من أداء. بلاغ بالبيان. وبلاغ بالعمل حتى يكون المبلغون ترجمة حية واقعة مما يبلغون. وبلاغ بإزالة العقبات التي تعترض طريق الدعوة وتفتن الناس بالباطل وبالقوة .. وإلا فلا بلاغ ولا أداء ..(1/178)
إنه الأمر المفروض الذي لا حيلة في النكوص عن حمله .. وإلا فهي التبعة الثقيلة. تبعة ضلال البشرية كلها وشقوتها في هذه الدنيا ، وعدم قيام حجة اللّه عليها في الآخرة! وحمل التبعة في هذا كله ، وعدم النجاة من النار ..
فمن ذا الذي يستهين بهذه التبعة؟ وهي تبعة تقصم الظهر وترعد الفرائص وتهز المفاصل؟! إن الذي يقول : إنه «مسلم» إما أن يبلغ ويؤدي هكذا. وإلا فلا نجاة له في دنيا ولا في أخرى .. إنه حين يقول : إنه «مسلم» ثم لا يبلغ ولا يؤدي .. كل ألوان البلاغ والأداء هذه ، إنما يؤدي شهادة ضد الإسلام الذي يدعيه! بدلا من أداء شهادة له ، تحقق فيه قوله تعالى : «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» .
وتبدأ شهادته للإسلام ، من أن يكون هو بذاته. ثم ببيته وعائلته. ثم بأسرته وعشيرته ، صورة واقعية من الإسلام الذي يدعو إليه .. وتخطو شهادته الخطوة الثانية بقيامة بدعوة الامة - بعد دعوة البيت والأسرة والعشيرة - إلى تحقيق الإسلام في حياتها كلها .. الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية .. وتنتهي شهادته بالجهاد لإزالة العوائق التي تضل الناس وتفتنهم من أي لون كانت هذه العوائق .. فإذ استشهد في هذا فهو إذن «شهيد» أدى شهادته لدينه ، ومضى إلى ربه .. وهذا وحده هو «الشهيد».
وفي نهاية المطاف نقف وقفة خاشعة أمام جلال اللّه وعظمته ممثلة في علمه ، وعدله ، ورعايته ، وفضله ، ورحمته وبره .. بهذا الكائن الإنساني الذي يجحد ويطغى ..
نقف أمام عظمة العلم بهذا الكائن وما أودعه من القوى والطاقات وما ركب في كينونته من استعدادات الهدى والضلال. وما رتبه على هذا العلم حين لم يكله إلى عقله وحده .. على عظمة هذه الأداة التي وهبها له وعلى كثرة ما في الأنفس والآفاق من دلائل الهدى وموجبات الإيمان .. فلقد علم اللّه أن هذه الأداة العظيمة تنوشها الشهوات والنزوات وأن الدلائل المبثوثة في تضاعيف الكون وأطواء النفس قد يحجبها الغرض والهوى ، ويحجبها الجهل والقصور .. ومن ثم لم يكل إلى العقل(1/179)
البشري تبعة الهدى والضلال - إلا بعد الرسالة والبيان - ولم يكل إليه بعد البيان والاهتداء وضع منهج الحياة ، إنما وكل إليه تطبيق منهج الحياة الذي يقرره له اللّه .. ثم ترك له ما وراء ذلك - وهو ملك عريض - يبدع فيه ما شاء ، ويغير فيه ما شاء ، ويركب فيه ما شاء ، ويحلل فيه ما شاء. منتفعا بتسخير اللّه لهذا الملك كله لهذا الإنسان وهو الذي يخطىء عقله ويصيب ، وتعثر قدمه وتستقيم على الطريق! ونقف أمام عظمة العدل الذي يرتب للناس حجة على اللّه - سبحانه - لو لم يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين. هذا مع احتشاد كتاب الكون المفتوح ، وكتاب النفس المكنون بالآيات الشواهد على الخالق ، ووحدانيته ، وتدبيره وتقديره ، وقدرته وعلمه .. ومع امتلاء الفطرة بالأشواق والهواتف إلى الاتصال ببارئها والإذعان له ، والتناسق والتجاوب والتجاذب بينها وبين دلائل وجود الخالق في الكون والنفس .. ومع هبة العقل الذي يملك أن يحصي الشواهد ويستنبط النتائج .. ولكن اللّه - سبحانه - بما يعلم من عوامل الضعف التي تطرأ على هذه القوى كلها ، فتعطلها ، أو تفسدها ، أو تطمسها ، أو تدخل في حكمها الخطأ والشطط ،قد أعفى الناس من حجية الكون ، وحجية الفطرة ، وحجية العقل ، ما لم يرسل إليهم الرسل ليستنقذوا هذه الأجهزة كلها مما قد يرين عليها ، وليضبطوا بموازين الحق الإلهي الممثل في الرسالة ، هذه الأجهزة ، فتصح أحكامها حين تستقيم على ضوابط المنهج الإلهي .. وعندئذ فقط يلزمها الإقرار والطاعة والاتباع أو تسقط حجتها وتستحق العقاب ..
ونقف أمام عظمة الرعاية والفضل والرحمة والبر بهذا المخلوق الذي يكرمه اللّه ويختاره ، على ما يعلم به من ضعف ونقص فيكل إليه هذا الملك العريض .. خلافة الأرض .. وهو بالقياس إليه ملك عريض!
وإن كان في ملك اللّه ذرة تمسكها يد اللّه فلا تضيع في ملكه الكبير! ثم تشاء رعايته وفضله ورحمته وبره ، ألا تدعه لما أودع في كينونته من فطرة هادية ولكنها تطمس ومن عقل هاد ولكنه يضل بل يتفضل عليه ربه فيرسل إليه الرسل تترى ..(1/180)
وهو يكذب ويعاند ويشرد وينأى فلا يأخذه ربه بأخطائه وخطاياه ولا يحبس عنه بره وعطاياه ، ولا يحرمه هداه على أيدي رسله الهداة ..
ثم لا يأخذه بالعقاب في الدنيا أو في الآخرة حتى تبلغه الرسل فيعرض ويكفر ، ويموت وهو كافر لا يتوب ولا ينيب ..
ومن عجب أن يأتي على هذا الإنسان زمان يزعم لنفسه أنه استغنى عن ربه .. استغنى عن رعايته وفضله ورحمته وبره .. استغنى عن هدايته ودينه ورسله .. استغنى بالأداة التي علم ربه أنها لا تغنيه - ما لم تقوّم بمنهج اللّه - فلم يكتب عليه عقابا إلا بعد الرسالة والبيان .. فيتمثل لنا الطفل الذي يحس ببعض القوة في ساقيه فيروح يبعد عنه اليد التي تسنده ، ليتكفأ ويتعثر! غير أن الطفل في هذا المثال أرشد وأطوع للفطرة. إذ أنه بمحاولة الاستقلال عن اليد التي تسنده يجيب داعي الفطرة في استحثاث طاقات كامنة في كيانه وإنماء قدرات ممكنة النماء وتدريب عضلات وأعصاب تنمو وتقوى بالتدريب .. أما إنسان اليوم الذي يبعد عنه يد اللّه ، ويتنكب هداه ، فإن كينونته - بكل ما يكمن فيها من قوى - يعلم اللّه أنها لا تشتمل على قوة مكنونة تملك الاستغناء عن يد اللّه وهداه. وقصارى ما في قواه أنها ترشد وتضبط وتستقيم برسالة اللّه. وتضل وتختل وتضطرب إذا هي استقلت بنفسها ، وتنكبت هداه! وخطأ وضلال - إن لم يكن هو الخداع والتضليل - كل زعم يقول : إن العقول الكبيرة كانت حرية أن تبلغ بدون الرسالة ما بلغته بالرسالة .. فالعقل ينضبط - مع الرسالة - بمنهج النظر الصحيح فإذا أخطأ بعد ذلك في التطبيق كان خطؤه كخطأ الساعة التي تضبط ، ثم تغلبها عوامل الجو والمؤثرات ، وطبيعة معدنها الذي يتأثر بهذه المؤثرات ، لا كخطأ الساعة التي لم تضبط أصلا ، وتركت للفوضى والمصادفة! وشتان شتان! وآية أن ما يتم بالرسالة - عن طريق العقل نفسه - لا يمكن أن يتم بغيرها فلا يغني العقل البشري عنها ..(1/181)
أن تاريخ البشرية لم يسجل أن عقلا واحدا من العقول الكبيرة النادرة اهتدى إلى مثل ما اهتدت إليه العقول العادية المتوسطة بالرسالة .. لا في تصور اعتقادي ولا في خلق نفسي ، ولا في نظام حياة ، ولا في تشريع واحد لهذا النظام ..
إن عقول أفلاطون وأرسطو من العقول الكبيرة قطعا .. بل إنهم ليقولون : إن عقل أرسطو هو أكبر عقل عرفته البشرية - بعيدا عن رسالة اللّه وهداه - فإذا نحن راجعنا تصوره لإلهه - كما وصفه - رأينا المسافة الهائلة التي تفصله عن تصور المسلم العادي لإلهه مهتديا بهدى الرسالة.
وقد وصل أخناتون - في مصر القديمة - إلى عقيدة التوحيد - وحتى مع استبعاد تأثره في هذا بإشعاع عقيدة التوحيد في رسالة إبراهيم ورسالة يوسف - فإن الفجوات والأساطير التي في عقيدة أخناتون تجعل المسافة بينها وبين توحيد المسلم العادي لإلهه بعيدة بعيدة.
وفي الخلق نجد في الفترة التي هيمن فيها الإسلام في صدر الإسلام نماذج للأوساط ممن رباهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا تتطاول إليها أعناق الأفذاذ على مدار التاريخ ممن لم تخرجهم رسالة سماوية.
وفي المبادئ والنظم والتشريعات لا نجد أبدا ذلك التناسق والتوازن ، مع السمو والرفعة التي نجدها في نظام الإسلام ومبادئه وتشريعاته. ولا نجد أبدا ذلك المجتمع الذي أنشأه الإسلام يتكرر لا في زمانه ولا قبل زمانه ولا بعد زمانه في أرض أخرى ، بتوازنه وتناسقه ويسر حياته وتناغمها ..
إنه ليس المستوي الحضاري المادي هو الذي يكون عليه الحكم. فالحضارة المادية تنمو بنمو وسائلها التي ينشئها «العلم» الصاعد .. ولكن ميزان الحياة في فترة من الفترات هو التناسق والتوازن بين جميع أجزائها وأجهزتها وأوضاعها .. هو التوازن الذي ينشىء السعادة والطمأنينة ، والذي يطلق الطاقات الإنسانية كلها لتعمل دون كبت ودون مغالاة في جانب من جوانبها الكثيرة .. والفترة التي عاشت بالإسلام كاملا لم تبلغها البشرية - بعيدا عن الرسالة - في أي عصر .. والخلخلة وعدم(1/182)
الاتزان هو الطابع الدائم للحياة في غير ظل الإسلام مهما التمعت بعض الجوانب ومهما تضخمت بعض الجوانب. فإنما تلتمع لتنطفئ جوانب أخرى.
وإنما تتضخم على حساب الجوانب الأخرى .. والبشرية معها تتأرجح وتحتار وتشقى (1)
===============
الثمرة الحادية عشرة - الذين لا يسمعون لهدي السماء دواب
ولفظ «الدواب» يشمل الناس فيما يشمل ، فهم يدبون على الأرض ، ولكن استعماله يكثر في الدواب من الأنعام ، فيلقي ظله بمجرد إطلاقه ويخلع على «الصم البكم الذين لا يعقلون» صورة البهيمة في الحس والخيال! وإنهم لكذلك! إنهم لدواب بهذا الظل. بل هم شر الدواب! فالبهائم لها آذان ولكنها لا تسمع إلا كلمات مبهمة ولها لسان ولكنها لا تنطق أصواتا مفهومة. إلا أن البهائم مهتدية بفطرتها فيما يتعلق بشؤون حياتها الضرورية.
أما هؤلاء الدواب فهم موكولون إلى إدراكهم الذي لا ينتفعون به.فهم شر الدواب قطعا! «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ» .
«وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ» ..أي لأسمع قلوبهم وشرحها لما تسمعه آذانهم .. ولكنه - سبحانه - لم يعلم فيهم خيرا ولا رغبة في الهدى (2)
وقال تعالى : {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (55) سورة الأنفال
إن كفر هؤلاء الكافرين الذين وصفوا بأنّهم شرّ الدّوابّ عند اللّه .. إنما يتلبس بنفوس خاصّة ، من جماعة من الكافرين ، لا بكلّ الكافرين .. وتلك الجماعة هى التي من شأنها ألا تخلع هذا الكفر أبدا ، بل تشدّ قلوبها عليه ، حتى تموت به!
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 805) ويراجع بتوسع كتاب : «الإسلام ومشكلات الحضارة» فصل : «تخبط واضطراب» «دار الشروق».
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1493)(1/183)
ومن هنا استحقت تلك الجماعة هذا الوصف الذي وصفها اللّه سبحانه وتعالى به ، وهى أنها شرّ ما دبّ على الأرض من كائنات ، وذلك لأنها لا تعقل كما يعقل الناس ، ولا تسمع كما يسمع الناس ، ولا تبصر كما يبصر الناس .. ثم هى ليست من دوابّ الحيوانات ، تعيش ، فى حدود الطبيعة المتاحة لتلك الدواب ، وإنما هى خلق آخر ..مزيج من الإنسان والحيوان .. وذلك مسخ للإنسان ، وللحيوان معا ، وبهذا المسخ يكون هؤلاء الآدميّون الحيوانيّون شرّ الدّواب ، طبيعة وخلقا.
فقوله تعالى : « فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ » حكم قاطع ، قاض على هذا الصنف من الكافرين بأنه لن يدخل الإيمان قلبه أبدا .. وهذا الصنف هو الذي ذكره اللّه سبحانه وتعالى فى قوله : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ .. وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ » (6 ـ 7 :البقرة). (1)
================
الثمرة الثانية عشرة - أن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي تكفل الله تعالى بحفظه .
قال تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (9) سورة الحجر
فخير لهم أن يقبلوا عليه. فهو باق محفوظ لا يندثر ولا يتبدل. ولا يلتبس بالباطل ولا يمسه التحريف وهو يقودهم إلى الحق برعاية اللّه وحفظه ، إن كانوا يريدون الحق ، وإن كانوا يطلبون الملائكة للتثبت .. إن اللّه لا يريد أن ينزل عليهم الملائكة ، لأنه أراد بهم الخير فنزل لهم الذكر المحفوظ ، لا ملائكة الهلاك والتدمير.
وننظر نحن اليوم من وراء القرون إلى وعد اللّه الحق بحفظ هذا الذكر فنرى فيه المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب - إلى جانب غيرها من الشواهد الكثيرة - ونرى أن الأحوال والظروف والملابسات والعوامل التي تقلبت على هذا الكتاب في خلال هذه القرون ما كان يمكن أن تتركه مصونا محفوظا لا تتبدل فيه كلمة
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 643)(1/184)
،ولا تحرف فيه جملة ، لولا أن هنالك قدرة خارجة عن إرادة البشر ، أكبر من الأحوال والظروف والملابسات والعوامل ، تحفظ هذا الكتاب من التغيير والتبديل ، وتصونه من العبث والتحريف.
لقد جاء على هذا القرآن زمان في أيام الفتن الأولى كثرت فيه الفرق ، وكثر فيه النزاع ، وطمت فيه الفتن ، وتماوجت فيه الأحداث. وراحت كل فرقة تبحث لها عن سند في هذا القرآن وفي حديث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ودخل في هذه الفتن وساقها أعداء هذا الدين الأصلاء من اليهود - خاصة - ثم من «القوميين» دعاة «القومية» الذين تسمّوا بالشعوبيين! ولقد أدخلت هذه الفرق على حديث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ما احتاج إلى جهد عشرات العلماء الأتقياء الأذكياء عشرات من السنين لتحرير سنة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وغربلتها وتنقيتها من كل دخيل عليها من كيد أولئك الكائدين لهذا الدين.كما استطاعت هذه الفرق في تلك الفتن أن تؤول معاني النصوص القرآنية ، وأن تحاول أن تلوي هذه النصوص لتشهد لها بما تريد تقريره من الأحكام والاتجاهات ..
ولكنها عجزت جميعا - وفي أشد أوقات الفتن حلوكة واضطرابا - أن تحدث حدثا واحدا في نصوص هذا الكتاب المحفوظ وبقيت نصوصه كما أنزلها اللّه حجة باقية على كل محرف وكل مؤول وحجة باقية كذلك على ربانية هذا الذكر المحفوظ.
ثم جاء على المسلمين زمان - ما نزال نعانيه - ضعفوا فيه عن حماية أنفسهم ، وعن حماية عقيدتهم ، وعن حماية نظامهم ، وعن حماية أرضهم ، وعن حماية أعراضهم وأموالهم وأخلاقهم. وحتى عن حماية عقولهم وإدراكهم! وغيّر عليهم أعداؤهم الغالبون كل معروف عندهم ، وأحلوا مكانه كل منكر فيهم .. كل منكر من العقائد والتصورات ، ومن القيم والموازين ، ومن الأخلاق والعادات. ومن الأنظمة والقوانين .. وزينوا لهم الانحلال والفساد والتوقح والتعري من كل خصائص «الإنسان» وردوهم إلى حياة كحياة الحيوان .. وأحيانا إلى حياة يشمئز(1/185)
منها الحيوان .. ووضعوا لهم ذلك الشر كله تحت عنوانات براقة من «التقدم» و«التطور» و«العلمانية» و«العلمية» و«الانطلاق» و«التحرر» و«تحطيم الأغلال» و«الثورية» و«التجديد» ... إلى آخر تلك الشعارات والعناوين .. وأصبح «المسلمون» بالأسماء وحدها مسلمين. ليس لهم من هذا الدين قليل ولا كثير.
وباتوا غثاء كغثاء السيل لا يمنع ولا يدفع ، ولا يصلح لشيء إلا أن يكون وقودا للنار .. وهو وقود هزيل! ..
ولكن أعداء هذا الدين - بعد هذا كله - لم يستطيعوا تبديل نصوص هذا الكتاب ولا تحريفها. ولم يكونوا في هذا من الزاهدين. فلقد كانوا أحرص الناس على بلوغ هذا الهدف لو كان يبلغ ، وعلى نيل هذه الأمنية لو كانت تنال! ولقد بذل أعداء هذا الدين - وفي مقدمتهم اليهود - رصيدهم من تجارب أربعة آلاف سنة أو تزيد في الكيد لدين اللّه. وقدروا على أشياء كثيرة .. قدروا على الدس في سنة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وعلى تاريخ الأمة المسلمة. وقدروا على تزوير الأحداث ودس الأشخاص في جسم المجتمع المسلم ليؤدوا الأدوار التي يعجزون عن أدائها وهم سافرون. وقدروا على تحطيم الدول والمجتمعات والأنظمة والقوانين.
وقدروا على تقديم عملائهم الخونة في صورة الأبطال الأمجاد ليقوموا لهم بأعمال الهدم والتدمير في أجسام المجتمعات الإسلامية على مدار القرون ، وبخاصة في العصر الحديث ..
ولكنهم لم يقدروا على شيء واحد - والظروف الظاهرية كلها مهيأة له - .. لم يقدروا على إحداث شيء في هذا الكتاب المحفوظ ، الذي لا حماية له من أهله المنتسبين إليه وهم بعد أن نبذوه وراء ظهورهم غثاء كغثاء السيل لا يدفع ولا يمنع فدل هذا مرة أخرى على ربانية هذا الكتاب ، وشهدت هذه المعجزة الباهرة بأنه حقا تنزيل من عزيز حكيم.
لقد كان هذا الوعد على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مجرد وعد. أما هو اليوم - من وراء كل تلك الأحداث الضخام ومن وراء كل تلك القرون الطوال. فهو(1/186)
المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب ، والتي لا يماري فيها إلا عنيد جهول : «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» .. وصدق اللّه العظيم (1)
===============
الثمرة الثالثة عشرة - القرآن الكريم هو زاد الفرد والأسرة والمجتمع الذي لا ينضب .
عَنِ الْحَارِثِ قَالَ : دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا أُنَاسٌ يَخُوضُونَ فِى أَحَادِيثَ فَدَخَلْتُ عَلَى عَلِىٍّ فَقُلْتُ : أَلاَ تَرَى أَنَّ أُنَاساً يَخُوضُونَ فِى الأَحَادِيثِ فِى الْمَسْجِدِ. فَقَالَ : قَدْ فَعَلُوهَا؟ قُلْتُ : نَعَمْ. قَالَ : أَمَا إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« سَيَكُونُ فِتَنٌ ». قُلْتُ : وَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا؟ قَالَ :« كِتَابُ اللَّهِ كِتَابُ اللَّهِ ، فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ ، هُوَ الَّذِى مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جِبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِى غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ ، فَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَهُوَ الَّذِى لاَ يَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسِنَةُ ، وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ ، وَلاَ يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ ، وَلاَ تَنْقَضِى عَجَائِبُهُ ، وَهُوَ الَّذِى لَمْ يَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعُوهُ أَنْ قَالُوا (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً) هُوَ الَّذِى مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِىَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . (2)
وقال تعالى : {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (9) سورة الإسراء
إن هذه البشرية - وهي من صنع اللّه - لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع اللّه ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده - سبحانه - وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل مغلق ، وشفاء كل داء : «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» ..
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2127)
(2) - سنن الدارمى- المكنز - (3394) حسن لغيره -يخلق : يبلى(1/187)
«إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» .. ولكن هذه البشرية لا تريد أن ترد القفل إلى صانعه ، ولا أن تذهب بالمريض إلى مبدعه ، ولا تسلك في أمر نفسها ، وفي أمر إنسانيتها ، وفي أمر سعادتها أو شقوتها .. ما تعودت أن تسلكه في أمر الأجهزة والآلات المادية الزهيدة التي تستخدمها في حاجاتها اليومية الصغيرة .. وهي تعلم أنها تستدعي لإصلاح الجهاز مهندس المصنع الذي صنع الجهاز. ولكنها لا تطبق هذه القاعدة على الإنسان نفسه ، فترده إلى المصنع الذي منه خرج ، ولا أن تستفتي المبدع الذي أنشأ هذا الجهاز العجيب ، الجهاز الإنساني العظيم الكريم الدقيق اللطيف ، الذي لا يعلم مساربه ومداخله إلا الذي أبدعه وأنشأه : «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟» ..
ومن هنا جاءت الشقوة للبشرية الضالة. البشرية المسكينة الحائرة ، البشرية التي لن تجد الرشد ، ولن تجد الهدى ، ولن تجد الراحة ، ولن تجد السعادة ، إلا حين ترد الفطرة البشرية إلى صانعها الكبير ، كما ترد الجهاز الزهيد إلى صانعه الصغير! ولقد كانت تنحية الإسلام عن قيادة البشرية حدثا هائلا في تاريخها ، ونكبة قاصمة في حياتها ، نكبة لم تعرف لها البشرية نظيرا في كل ما ألم بها من نكبات ..
لقد كان الإسلام قد تسلم القيادة بعد ما فسدت الأرض ، وأسنت الحياة ، وتعفنت القيادات ، وذاقت البشرية الويلات من القيادات المتعفنة و«ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ» ..
تسلم الإسلام القيادة بهذا القرآن ، وبالتصور الجديد الذي جاء به القرآن ، وبالشريعة المستمدة من هذا التصور .. فكان ذلك مولدا جديدا للإنسان أعظم في حقيقته من المولد الذي كانت به نشأته. لقد أنشأ هذا القرآن للبشرية تصورا جديدا عن الوجود والحياة والقيم والنظم كما حقق لها واقعا اجتماعيا فريدا ، كان يعز على خيالها تصوره مجرد تصور ، قبل أن ينشئه لها القرآن إنشاء .. نعم! لقد كان هذا الواقع من النظافة والجمال ، والعظمة والارتفاع ، والبساطة واليسر ، والواقعية والإيجابية ، والتوازن والتناسق ... بحيث لا يخطر للبشرية على بال ، لولا(1/188)
أن اللّه أراده لها ، وحققه في حياتها .. في ظلال القرآن ، ومنهج القرآن ، وشريعة القرآن.
ثم وقعت تلك النكبة القاصمة ونحي الإسلام عن القيادة. نحي عنها لتتولاها الجاهلية مرة أخرى ، في صورة من صورها الكثيرة. صورة التفكير المادي الذي تتعاجب به البشرية اليوم ، كما يتعاجب الأطفال بالثوب المبرقش واللعبة الزاهية الألوان! إن هناك عصابة من المضللين الخادعين أعداء البشرية. يضعون لها المنهج الإلهي في كفة والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى ثم يقولون لها : اختاري!!!
اختاري إما المنهج الإلهي في الحياة والتخلي عن كل ما أبدعته يد الإنسان في عالم المادة ، وإما الأخذ بثمار المعرفة الإنسانية والتخلي عن منهج اللّه!!!
وهذا خداع لئيم خبيث. فوضع المسألة ليس هكذا أبدا .. إن المنهج الإلهي ليس عدوا للإبداع الإنساني. إنما هو منشئ لهذا الإبداع وموجه له الوجهة الصحيحة .. ذلك كي ينهض الإنسان بمقام الخلافة في الأرض. هذا المقام الذي منحه اللّه له ، وأقدره عليه ، ووهبه من الطاقات المكنونة ما يكافىء الواجب المفروض عليه فيه وسخر له من القوانين الكونية ما يعينه على تحقيقه ونسق بين تكوينه وتكوين هذا الكون ليملك الحياة والعمل والإبداع .. على أن يكون الإبداع نفسه عبادة للّه ، ووسيلة من وسائل شكره على آلائه العظام ، والتقيد بشرطه في عقد الخلافة وهو أن يعمل ويتحرك في نطاق ما يرضي اللّه. فأما أولئك الذين يضعون المنهج الإلهي في كفة ، والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى .. فهم سيئو النية ، شريرون ، يطاردون البشرية المتعبة الحائرة كلما تعبت من التيه والحيرة والضلال ، وهمت أن تسمع لصوت الحادي الناصح ، وأن تؤوب من المتاهة المهلكة ، وأن تطمئن إلى كنف اللّه ...
وهنالك آخرون لا ينقصهم حسن النية ولكن ينقصهم الوعي الشامل ، والإدراك العميق ..(1/189)
هؤلاء يبهرهم ما كشفه الإنسان من القوى والقوانين الطبيعية ، وتروعهم انتصارات الإنسان في عالم المادة. فيفصل ذلك البهر وهذه الروعة في شعورهم بين القوى الطبيعية والقيم الإيمانية ، وعملها وأثرها الواقعي في الكون وفي واقع الحياة ويجعلون للقوانين الطبيعة مجالا ، وللقيم الإيمانية مجالا آخر ويحسبون أن القوانين الطبيعية تسير في طريقها غير متأثرة بالقيم الإيمانية ، وتعطي نتائجها سواء آمن الناس أم كفروا. اتبعوا منهج اللّه أم خالفوا عنه. حكموا بشريعة اللّه أم بأهواء الناس!
هذا وهم .. إنه فصل بين نوعين من السنن الإلهية هما في حقيقتهما غير منفصلين. فهذه القيم الإيمانية هي بعض سنن اللّه في الكون كالقوانين الطبيعية سواء بسواء. ونتائجها مرتبطة ومتداخلة ولا مبرر للفصل بينهما في حس المؤمن وفي تصوره .. وهذا هو التصور الصحيح الذي ينشئه القرآن في النفس حين تعيش في ظلال القرآن. ينشئه وهو يتحدث عن أهل الكتب السابقة وانحرافهم عنها وأثر هذا الانحراف في نهاية المطاف : «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ». وينشئه وهو يتحدث عن وعد نوح لقومه : «فَقُلْتُ : اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً» .. وينشئه وهو يربط بين الواقع النفسي للناس والواقع الخارجي الذي يفعله اللّه بهم : «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» ..
إن الإيمان باللّه ، وعبادته على استقامة ، وإقرار شريعته في الأرض ... كلها إنفاذ لسنن اللّه.
وهي سنن ذات فاعلية إيجابية ، نابعة من ذات المنبع الذي تنبثق منه سائر السنن الكونية التي نرى آثارها الواقعية بالحس والاختبار.(1/190)
ولقد تأخذنا في بعض الأحيان مظاهر خادعة لافتراق السنن الكونية ، حين نرى أن اتباع القوانين الطبيعية يؤدي إلى النجاح مع مخالفة القيم الإيمانية .. هذا الافتراق قد لا تظهر نتائجه في أول الطريق ولكنها تظهر حتما في نهايته .. وهذا ما وقع للمجتمع الإسلامي نفسه. لقد بدأ خط صعوده من نقطة التقاء القوانين الطبيعية في حياته مع القيم الإيمانية. وبدأ خط هبوطه من نقطة افتراقهما. وظل يهبط ويهبط كلما انفرجت زاوية الافتراق حتى وصل إلى الحضيض عند ما أهمل السنن الطبيعية والقيم الإيمانية جميعا ..
وفي الطرف الآخر تقف الحضارة المادية اليوم. تقف كالطائر الذي يرف بجناح واحد جبار ، بينما جناحه الآخر مهيض ، فيرتقي في الإبداع المادي بقدر ما يرتكس في المعنى الإنساني ويعاني من القلق والحيرة والأمراض النفسية والعصبية ما يصرخ منه العقلاء هناك .. لولا أنهم لا يهتدون إلى منهج اللّه ، وهو وحده العلاج والدواء.
إن شريعة اللّه للناس هي طرف من قانونه الكلي في الكون. فإنفاذ هذه الشريعة لا بد أن يكون له أثر إيجابي في التنسيق بين سيرة الناس وسيرة الكون .. والشريعة إن هي إلا ثمرة الإيمان لا تقوم وحدها بغير أصلها الكبير. فهي موضوعة لتنفذ في مجتمع مسلم ، كما أنها موضوعة لتساهم في بناء المجتمع المسلم. وهي متكاملة مع التصور الإسلامي كله للوجود الكبير وللوجود الإنساني ، ومع ما ينشئه هذا التصور من تقوى في الضمير ، ونظافة في الشعور ، وضخامة في الاهتهامات ، ورفعة في الخلق ، واستقامة في السلوك ... وهكذا يبدو التكامل والتناسق بين سنن اللّه كلها سواء ما نسميه القوانين الطبيعية وما نسميه القيم الإيمانية .. فكلها أطراف من سنة اللّه الشاملة لهذا الوجود.
والإنسان كذلك قوة من قوى الوجود. وعمله وإرادته ، وإيمانه وصلاحه ، وعبادته ونشاطه .... هي كذلك قوى ذات آثار إيجابية في هذا الوجود وهي مرتبطة بسنة اللّه الشاملة للوجود .. وكلها تعمل متناسقة ، وتعطي ثمارها كاملة(1/191)
حين تتجمع وتتناسق بينما تفسد آثارها وتضطرب ، وتفسد الحياة معها ، وتنتشر الشقوة بين الناس والتعاسة حين تفترق وتتصادم : «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» .. فالارتباط قائم وثيق بين عمل الإنسان وشعوره وبين ماجريات الأحداث في نطاق السنة الإلهية الشاملة للجميع.ولا يوحي بتمزيق هذا الارتباط ، ولا يدعو إلى الإخلال بهذا التناسق ، ولا يحول بين الناس وسنة اللّه الجارية ، إلا عدو للبشرية يطاردها دون الهدى وينبغي لها أن تطارده ، وتقصيه من طريقها إلى ربها الكريم .. (1)
وما أحوج الأمة المسلمة في كل وقت إلى تملي هذه التوجيهات ، وإلى دراسة هذا القرآن بالعين المفتوحة والحس البصير ، لتتلقى منه تعليمات القيادة الإلهية العلوية في معاركها التي تخوضها مع أعدائها التقليديين ولتعرف منها كيف ترد على الكيد العميق الخبيث الذي يوجهونه إليها دائبين ، بأخفى الوسائل ، وأمكر الطرق. وما يملك قلب لم يهتد بنور الإيمان ، ولم يتلق التوجيه من تلك القيادة المطلعة على السر والعلن والباطن والظاهر ، أن يدرك المسالك والدروب الخفية الخبيثة التي يتدسس فيها ذلك الكيد الخبيث المريب
ثم نلحظ من جانب التناسق الفني والنفسي في الأداء القرآني ، أن بدء هذه الجولة يلتحم بختام قصة آدم ، وبالإيحاءات التي أشرنا إليها هناك ، وهذا جانب من التكامل في السياق القرآني بين القصص والوسط الذي تعرض فيه (2)
فالنفس البشرية هي النفس البشرية وأعداء الأمة المسلمة هم أعداؤها ..
والقرآن حاضر .. ولا نجاة للنفس البشرية ولا للأمة المسلمة إلا بإدخال هذا القرآن في المعركة ، ليخوضها حية كاملة كما خاضها أول مرة .. وما لم يستيقن المسلمون من هذه الحقيقة فلا فلاح لهم ولا نجاح!
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 15)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 180)(1/192)
وأقل ما تنشئه هذه الحقيقة في النفس .. أن تقبل على هذا القرآن بهذا الفهم وهذا الإدراك وهذا التصور.
أن تواجهه وهو يتحرك ويعمل وينشئ التصور الجديد ، ويقاوم تصورات الجاهلية ، ويدفع عن هذه الأمة ، يقيها العثرات. لا كما يواجهه الناس اليوم نغمات حلوة ترتل ، وكلاما جميلا يتلى ، وينتهي الأمر .. إنه لامر غير هذا نزّل اللّه القرآن .. لقد نزله لينشئ حياة كاملة ، ويحركها ، ويقودها إلى شاطئ الامان بين الأشواك والعثرات ، ومشقات الطريق التي تتناثر فيها الشهوات كما تتناثر فيها العقبات. واللّه المستعان .. (1)
إن القرآن هو كتاب هذه الأمة الحي ورائدها الناصح وأنه هو مدرستها التي تلقت فيها دروس حياتها.
وأن اللّه - سبحانه - كان يربي به الجماعة المسلمة الأولى التي قسم لها إقامة منهجه الرباني في الأرض ، وناط بها هذا الدور العظيم بعد أن أعدها له بهذا القرآن الكريم. وأنه - تعالى - أراد بهذا القرآن أن يكون هو الرائد الحي - الباقي بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقيادة أجيال هذه الأمة ، وتربيتها ، وإعدادها لدور القيادة الراشدة الذي وعدها به ، كلما اهتدت بهديه ، واستمسكت بعهدها معه ، واستمدت منهج حياتها كله من هذا القرآن ، واستغزت به واستعلت على جميع المناهج الأرضية. وهي بصفتها هذه ، مناهج الجاهلية! إن هذا القرآن ليس مجرد كلام يتلى .. ولكنه دستور شامل .. دستور للتربية ، كما أنه دستور للحياة العملية ، ومن ثم فقد تضمن عرض تجارب البشرية بصورة موحية على الجماعة المسلمة التي جاء لينشئها ويربيها وتضمن بصفة خاصة تجارب الدعوة الإيمانية في الأرض من لدن آدم - عليه السلام - وقدمها زادا للأمة المسلمة في جميع أجيالها. تجاربها في الأنفس ، وتجاربها في واقع الحياة. كي تكون الأمة المسلمة على بينة من طريقها ، وهي تتزود لها بذلك الزاد الضخم ، وذلك الرصيد المتنوع.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 261)(1/193)
ومن ثم جاء القصص في القرآن بهذه الوفرة ، وبهذا التنوع ، وبهذا الإيحاء .. وقصص بني إسرائيل هو أكثر القصص ورودا في القرآن الكريم ، لأسباب عدة ، ذكرنا بعضها في الجزء الأول من الظلال عند استقبال أحداث بني إسرائيل وذكرنا بعضها في هذا الجزء في مناسبات شتى - وبخاصة في أوله - ونضيف إليها هنا ما نرجحه .. وهو أن اللّه - سبحانه - علم أن أجيالا من هذه الأمة المسلمة ستمر بأدوار كالتي مر فيها بنو إسرائيل ، وتقف من دينها وعقيدتها مواقف شبيهة بمواقف بني إسرائيل فعرض عليها مزالق الطريق ، مصورة في تاريخ بني إسرائيل ، لتكون لها عظة وعبرة ولترى صورتها في هذه المرآة المرفوعة لها بيد اللّه - سبحانه - قبل الوقوع في تلك المزالق أو اللجاج فيها على مدار الطريق! إن هذا القرآن ينبغي أن يقرأ وأن يتلقى من أجيال الأمة المسلمة بوعي. وينبغي أن يتدبر على أنه توجيهات حية ، تتنزل اليوم ، لتعالج مسائل اليوم ، ولتنير الطريق إلى المستقبل. لا على أنه مجرد كلام جميل يرتل أو على أنه سجل لحقيقة مضت ولن تعود! ولن ننتفع بهذا القرآن حتى نقرأه لنلتمس عنده توجيهات حياتنا الواقعة في يومنا وفي غدنا كما كانت الجماعة المسلمة الأولى تتلقاه لتلتمس عنده التوجيه الحاضر في شؤون حياتها الواقعة .. وحين نقرأ القرآن بهذا الوعي سنجد عنده ما نريد. وسنجد فيه عجائب لا تخطر على البال الساهي! سنجد كلماته وعباراته وتوجيهاته حية تنبض وتتحرك وتشير إلى معالم الطريق وتقول لنا : هذا فافعلوه وهذا لا تفعلوه. وتقول لنا : هذا عدولكم وهذا صديق. وتقول لنا : كذا فاتخذوا من الحيطة وكذا فاتخذوا من العدة. وتقول لنا حديثا طويلا مفصلا دقيقا في كل ما يعرض لنا من الشؤون .. وسنجد عندئذ في القرآن متاعا وحياة وسندرك معنى قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ»
فهي دعوة للحياة ..للحياة الدائمة المتجددة. لا لحياة تاريخية محدودة في صفحة عابرة من صفحات التاريخ. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 65)(1/194)
«إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» ..هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم ، فيشمل الهدى أقواما وأجيالا بلا حدود من زمان أو مكان ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق ، وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان.
يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور ، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض ، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة ، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء ، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق.
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه ، وبين مشاعره وسلوكه ، وبين عقيدته وعمله ، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم ، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض ، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى اللّه ، ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعا بالحياة.
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة ، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء. ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار. ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض : أفرادا وأزواجا ، وحكومات وشعوبا ، ودولا وأجناسا ، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى ولا تميل مع المودة والشنآن ولا تصرفها المصالح والأغراض. الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه ، وهو أعلم بمن خلق ، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل ، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان.(1/195)
ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها ، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام. (1)
================
الثمرة الرابعة عشرة - أهمية القصة في القرآن الكريم وطريقة عرضها .
قصص الأنبياء في القرآن يمثل موكب الإيمان في طريقه الممتد الواصل الطويل. ويعرض قصة الدعوة إلى اللّه واستجابة البشرية لها جيلا بعد جيل كما يعرض طبيعة الإيمان في نفوس هذه النخبة المختارة من البشر ، وطبيعة تصورهم للعلاقة بينهم وبين ربهم الذي خصهم بهذا الفضل العظيم .. وتتبع هذا الموكب الكريم في طريقه اللاحب يفيض على القلب رضى ونورا وشفافية ويشعره بنفاسة هذا العنصر العزيز - عنصر الإيمان - وأصالته في الوجود. كذلك يكشف عن حقيقة التصور الإيماني ويميزه في الحس من سائر التصورات الدخيلة .. (2)
والقصة تقطع إلى مشاهد حية ، تموج بالحركة وبالحوار ، وتزخر بالانفعالات والسمات ، وتتخللها التوجيهات إلى مواضع العبرة في السياق ، وتكشف عن طبيعة المعركة بين الدعوة إلى «رَبِّ الْعالَمِينَ» وبين الطواغيت المتسلطة على عباد اللّه ، المدعية للربوبية من دون اللّه ، كما تتجلى روعة العقيدة حين تستعلن ، فلا تخشى سلطان الطواغيت ، ولا تحفل التهديد والوعيد الشديد .. (3)
إن للقرآن طريقة موحدة في التعبير ؛ يتخذها في أداء جميع الأغراض على السواء , حتى أغراض البرهنة والجدل . تلك هي طريقة التصوير التشخيصي بوساطة التخييل والتجسيم .
فلننظر الآن في تقويم هذه الطريقة , من حيث هي طريقة فنية من طرق الأداء - وذلك هو مجال بحثنا في هذا الكتاب - , فالأهداف الدينية التي جاء القرآن
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2215)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 55)
(3) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1344)(1/196)
لتحقيقها , والموضوعات الإلهية والتشريعية التي تناولها ... كل أولئك مباحث ليست من همنا هنا ؛ وإذا كان بعضها قد جاء عرضا في ثنايا الفصول الماضية , فإنما جئنا به لننظر كيف تناوله القرآن , وكيف سلك في التعبير عنه . وبعض الناس حين ينظر في هذه الموضوعات , ويرى ما فيها من دقة وعظمة , وصلاحية ومرونة , وإحاطة وشمول , يحسبها ميزة القرآن الكبرى , ويحسب أن طريقة التعبير القرآنية تابعة لها , وأن الإعجاز كله كامن فيها ؛ كما أن بعضهم يفرق بين المعاني وطريقة الأداء , ويتحدث عن إعجاز القرآن في كل منهما على انفراد .
أما نحن فنريد أن نقول : إن الطريقة التي اتبعها القرآن في التعبير , هي التي أبرزت هذه الأغراض والموضوعات ؛ فهي كفاء هذه الأغراض والموضوعات .
ولا يردنا هذا إلى تلك المباحث العقيمة حول اللفظ والمعنى - وقد استغرقت من النقاد العرب ما استغرقت مند أن أثارها الجاحظ , فزعم أن المعاني ملقاة على قارعة الطريق ؛ ثم تابعه في البحث ابن قتيبة وقدامة وأبو هلال العسكري وغيرهم مخالفين ومؤيدين - وإنا لنحسب أن " عبد القاهر " قد وصل فيها إلى رأي حاسم حين انتهى في " دلائل الإعجاز " إلى أن اللفظ وحده , لا يتصور عاقل أن يدور حوله بحث من حيث هو لفظ , إنما من حيث دلالته يدور البحث فيه . وأن المعنى وحده لا يتصور عاقل أن يدور حوله بحث من حيث هو خاطر في الضمير , إنما من حيث أنه ممثل في لفظ يدور البحث فيه . وأن المعنى مقيد في تحديده بالنظم الذي يؤدي به , فلا يمكن أن يختلف النظمان . ثم يتحد المعنى تمام الاتحاد .
لم يصغ " عبد القاهر " القضية هذه الصياغة المختصرة , فنحن نترجم عنه ؛ وإلا فقد استغرق فيها كتابا لا نستطيع نقله هنا , ولا نقل فقرات منه كالتي نقلناها في أول هذا الكتاب , بذلك الأسلوب المعقد الذي رأيناه هناك .
ولكن له فضله العظيم في تقرير هذه القضية , ولو خطا خطوة واحدة في التعبير الحاسم عنها , لبلغ الذروة في النقد الفني , فنقول نحن عنه : إن طريقة الأداء حاسمة في تصوير المعنى ؛ وإنه حيثما اختلفت طريقتان للتعبير عن المعنى الواحد اختلفت(1/197)
صورتا هذا المعنى في النفس والذهن . وبذلك تربط المعاني وطرق الأداء ربطا لا يجوز الحديث بعده عن المعاني والألفاظ . كل على انفراد . فلن يبرز المعنى الواحد إلا في صورة واحدة ؛ فإذا تغيرت الصورة تغير المعنى بمقدارها . وقد لا يتأثر المعنى الذهني العام في ذاته , ولكن صورته في النفس والذهن تتغير , وهي المعول عليها في الفن - إذ التعبير في الفن للتأثير - فإذا اختلف الأثر الناشئ عنه , فالمعنى المنقول مختلف بلا مراء !
وننتهي من هذا البيان , إلى فضل الطريقة التصويرية في القرآن , فهذه الطريقة هي التي جعلت للمعاني والأغراض والموضوعات القرآنية , صورتها التي نراها , ومن هذه الصورة كانت قيمتها الكبرى , فهي في هذه الصورة غيرها في أية صورة أخرى , كما أسلفنا .
ونحب أن نزيد المسألة إيضاحا بالنماذج , وإن كانت قد تفرقت في ثنايا الكتاب , وتفرق التعليق عليها في مواضعها بما يفيد مزية الطريقة القرآنية فيها ؛ ولكننا هنا في معرض التلخيص الأخير , ولدينا من النماذج الكثير .
لقد كانت السمة الأولى للتعبير القرآني هي اتباع طريقة تصوير المعاني الذهنية والحالات النفسية , وإبرازها في صور حسية , والسير على طريقة تصوير المشاهد الطبيعية , والحوادث الماضية , والقصص المروية , والأمثال القصصية , ومشاهد القيامة , وصور النعيم والعذاب , والنماذج الإنسانية .. كأنها كلها حاضرة شاخصة . بالتخييل الحسي الذي يفعمها بالحركة المتخيلة .
فما فضل هذه الطريقة على الطريقة الأخرى , التي تنقل المعاني والحالات النفسية في صورتها الذهنية التجريدية ؛ وتنقل الحوادث والقصص أخيارا مروية ؛ وتعبر عن المشاهد والمناظر تعبيرا لفظيا , لا تصويرا تخييليا ؟
يكفي لبيان هذا الفضل , أن نتصور هذه المعاني كلها في صورتها التجريدية , وأن نتصورها بعد ذلك في الهيئة الأخرى التشخيصية :(1/198)
إن المعاني في الطريقة الأولى تخاطب الذهن والوعي , وتصل إليهما مجردة من ظلالها الجميلة . وفي الطريقة الثانية تخاطب الحس والوجدان , وتصل إلى النفس , من منافذ شتى : من الحواس بالتخييل . ومن الحس عن طريق الحواس , ومن الوجدان المنفعل بالأصداء والأضواء . ويكون الذهن منفذا واحدا من منافذها الكثيرة إلى النفس . لا منفذها المفرد الوحيد .
ولهذه الطريقة فضلها ولا شك في أداء الدعوة لكل عقيدة ؛ ولكننا إنما ننظر إليها هنا من الوجهة الفنية البحتة . وإن لها من هذه الوجهة لشأنا . فوظيفة الفن الأولى هي إثارة الانفعالات الوجدانية ؛ وإشاعة اللذة الفنية بهذه الإثارة , وإجاشة الحياة الكامنة بهذه الانفعالات , وتغذية الخيال بالصورة لتحقيق هذا جميعه .. وكل أولئك تكفله طريقة التصوير والتشخيص للفن الجميل : وإليك المثال فوق ما ضربنا من أمثال :
1- معنى النفور الشديد من دعوة الإيمان ينقل إليك في صورته التجريدية هكذا : إنهم لينفرون أشد النفرة من دعوة الإيمان . فيتملى الذهن وحده النفور في برود وسكون . ثم ينقل إليك في هذه الصورة العجيبة : " فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ . كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ . فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ " . فتشترك مع الذهن حاسة النظر , وملكة الخيال , وانفعال السخرية , وشعور الجمال : السخرية من هؤلاء الذين يفرون كما تفر حمر الوحش من الأسد ؛ لا لشئ إلا لأنهم يُدعون إلى الإيمان ! والجمال الذي يرتسم في حركة الصورة حينما يتملاها الخيال في إطار من الطبيعة , تشرد فيه هذه الحمر يتبعها " قسورة " المرهوب !
فللتعبير هنا ظلاله حوله , تزيد في مساحته النفسية - إذا صح هذا التعبير !
2- ومعنى عجز الآلهة التي كان العرب يعبدونها من دون الله , يمكن أن يؤدَّى في عدة تعبيرات ذهنية مجردة , كأن يقال : إن ما تعبدون من دون الله لأعجز عن خلق أحقر الأشياء . فيصل المعنى إلى الذهن مجردا باهتا .(1/199)
ولكن التعبير التصويري يؤديه في هذه الصورة : "... إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ " . فيشخص هذا المعنى ويبرز في تلك الصور المتحركة المتعاقبة : " لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً " هذه درجة . " وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ " . وهذه أخرى . " وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ " . وهذه ثالثة ... أرأيت إلى تصوير الضعف المزري , وإلى التدرج في تصويره , بما يثير في النفس السخرية اللاذعة , والاحتقار المهين ؟ ولكن . أهذه مبالغة ؟ وهل البلاغة فيها هذا الغلو ؟
كلا ! فهذه حقيقة واقعة بسيطة . إن هؤلاء الآلهة " لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ " والذباب صغير حقير ؛ ولكن الإعجاز في خلقه هو الإعجاز في خلق الجمل والفيل . إنها معجزة " الحياة " يستوي فيها الجسيم والهزيل . فليست المعجزة في صميمها هي خلق الهائل من الأحياء . إنما هي خلق الخلية الصغيرة كالهباء .
ولكن الإبداع الفني هنا هو في عرض هذه الحقيقة في صورة تلقي ظلال الضعف عن خلق أحقر الأشياء ؛ والجمال الفني هنا هو في تلك الظلال التي تضفيها محتويات الصورة , وفي الحركة التخييلية في محاولة الخلق , وفي التجمع له , ثم في محاولة الطيران خلف الذباب لاستنقاذ ما يسلبه , وهم وأتباعهم عاجزون عن هذا الاستنقاذ !
3- ويعبر عن حالة تخلي الأولياء عن أوليائهم أمام هول القيامة بهذه الصيغة التجريدية : لقد تناكر الأصفياء . وتنابز الأولياء , وتخلى المتبوعون عن التابعين حينما شاهدوا الهول يوم الدين . فيكون من أدق التعبيرات التي تصاغ . ولكن أين هذا التعبير الذهني من هذا الاستعراض المفعم بالحياة : " وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ . وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ(1/200)
أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " .
ففي خذت الاستعراض يتجسم للخيال مشهد من ثلاث فرق :
الضعفاء . الذين كانوا ذيولا للأقوياء وهم ما يزالون في ضعفهم , وقصر عقولهم , وخور نفوسهم . يلجأون إلى الذين استكبروا في الدنيا , يسألونهم الخلاص من هذا الموقف , ويعتبون عليهم إغواءهم في الحياة ؛ متمشين في هذا مع طبيعتهم الهزيلة وضعفهم المعروف .
والذين استكبروا . وقد ذلت كبرياؤهم , وواجهوا مصيرهم . وهم ضيقو الصدور بهؤلاء الضعفاء , الذين لا يكفيهم ما يرونهم فيه من ذلة وعذاب , فيسألونهم الخلاص , وهم لا يملكون لذات أنفسهم خلاصا , أو يذكرونهم بجريمة إغوائهم لهم حيث لا تنفع الذكرى . فما يزيدون على أن يقولوا لهم في سأم وضيق : " لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ " .
والشيطان . بكل ما في شخصيته من مراوغة ومغالطة , واستهتار وتبجح . ومكر " وشيطنة " . يعترف لأتباعه - الآن فقط - بأن الله وعدهم وعد الحق , وأنه هو وعدهم فأخلفهم . ثم يمضهم ويؤلمهم , وهو ينفض يديه من تبعاتهم : " وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم " . لا بل يزيد في تبجحه , فيقول : " إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ " . حقا . إنه لشيطان !
وإن هذا لإبداع في تصوير الموقف الفريد , الذي يتخلى فيه التابع عن المتبوع , ويتنكر المتبوع للتابع . حيث لا يجدي أحدا منهم أن يتخلى أو يستمسك ؛ ولكنها طبيعة كل فريق , تبرز عارية أمام الهول العظيم .
وإن الشيطان هنا لمنطقي مع نفسه , ومع الصورة التي يرسمها القرآن له . وإلا فما يكون شيطانا بغير هذه التلاعب والتبجح والإنكار !(1/201)
وهكذا تصل إلى النفس تلك الأصداء كلها , وتلك الظلال جميعها , من وراء التعبير المصور المشخص . فأين يقع التعبير الذهني , من هذا التصوير الفني ؟
4- ويقال : إن أعمال الذين كفروا لا حساب لها ولا وزن , وأنهم يخدعون أنفسهم حين يظنونها شيئا ؛ أو أنهم في ضلال دائم , لا مخرج لهم منه , ولا هادي لهم فيه . فيؤدي المعنى إلى الذهن حيث يركد هناك . ولكنه يحيا ويتحرك , ويجيش به الحس والخيال , حين يؤدي في هذه الهيئة التصويرية : " وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ " . أو " أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ " . هنا صور فنية ساحرة , فيها روح القصة , وفيها تخييل قوي .... وهي بعد في حاجة إلى ريشة مبدعة , لو أريد تصويرها بالألوان , وإلى عدسة يقظة , لو أريد تصويرها بالحركات . بل أين هي الريشة , أو أين هي العدسة , التي تستطيع أن تبرز هذه الظلمات : " فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا " . ؟
أو تصور الظمآن , يسير وراء السراب " حتى إذا جاءه لم يجده شيئا " ووجد مفاجأة عجيبة - لم تكد تخطر له على بال - " وَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ " وفي سرعة خاطفة تناوله " فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ " ؟
فإذا ذكرنا الغرض الديني الذي رسمت له هذه الصورة , فلنذكر معه المتاع الفني الطريف , في هذا التصوير الحي الجميل .
5- ومن هذا الوادي تصوير معنى الضلال بعد الهدى , وضياع الجهد معه سدى , تلك الصور الحية المتتابعة : " أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ . مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ(1/202)
مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ . صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ " .
" أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ . يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " .
إن هنا حشدا من الصور المتتابعة في شريط متحرك : هؤلاء هم قد أوقدوا النار فأضاءت . وفجأة يذهب الله بنورهم , ويخيم حولهم الظلام .. أو ها هي ذي العاصفة : " َصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ " وهؤلاء هم مذعورون يتوقعون الصاعقة , ويخافون الموت , فيجعلون أصابعهم في آذانهم ؛ وما تغني الأصابع في الآذان ؛ ولكنها حركة الغريزة في هذا الأوان . وها هو ذا البرق يخطف البصر , ولكنه ينير الطريق لحظة , فهم يخطون على ضوئه خطوة . وها هو ذا ينقطع فيظلون واقفين , لا يدرون كيف يخطون ....
لو سجلت عدسة الصور المتحركة مشهدا كهذا , بما فيه من الحركة والتتابع , لكانت موفقة كل التوفيق . فكيف والمنظر هنا تسجله الألفاظ , فلا تنقص منه حركة واحدة تستطيع عدسة الصور المتحركة إثباتها ؟ لا بل تتيح للنفس متعة أشهى , بأن تدع للخيال عملا ؛ وهو يرسم الصور ويمحوها ؛ ويصنع الحركات ويتبعها ؛ ويرسم الظلال ويشهدها . والنفس تجيش , والوجدان ينفعل , والقلب يسرع في النبضات , تحت تأثير ماذا ؟ تحت تأثير الكلمات !
ومن تمام القول في طريقة القرآن التصويرية أن نجمل هنا ما تفرق في مواضع مختلفة في الكتاب عن الحياة التي يبثها التعبير في التصوير , فهي سمة بارزة فيه , تحدد نوع التصوير ومستواه .
إن المعاني الذهنية والحالات المعنوية , لم تستبدل بها صور فحسب ؛ ولكن اختيرت لها صور حية , وقيست بمقاييس حية . ومرت من خلال وسط حي .(1/203)
فهول الساعة العظيم يصور في ذهول المرضعات عما أرضعن , وتخلي الحاملات عن حملهن , وترنح السكارى وما هم بسكارى ؛ ويقاس بمدى فعل الهول في هذه النفوس الآدمية , لا بالألفاظ والأوصاف التجريدية .
أو يصور في فرار المرء من أخيه وأمه وأبيه , وفصيلته التي تؤويه . حيث يكون " لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ " . فهو يقاس بأثره في النفس الإنسانية لا بالمقاييس الأخرى الوصفية .
فإذا اشتركت الجوامد في تصوير هذا الهول خلعت عليها الحياة أو أشرك معها الأحياء : " يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً " فهي حية ترتجف كالآدميين . أو " فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً . السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ ... " . فالسماء المنفطرة بجوارها الأطفال الشيب ... وهول الطوفان يصور في الطبيعة , وإلى جانبها يصور في والد وولده : ذلك ناج في السفينة ملهوف على فلذة كبده , وهذا يجرفه الطوفان حيث : " لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ " . وإن الهول هنا ليكاد يكون أعظم من الهول في الطبيعة : "وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ".فما كان الموج في المشهد إلا إطارا للهول النفسي الذي يفرق بين الابن وأبيه , ويفصم الصلة التي لا تفصمها الأهوال !
وآلام العذاب الشديد في الآخرة , تبدو من خلال صرخات إنسانية , تلقي ظلها من خلال التعبير : " وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ " . " وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا " .
ووخزات الخزي في هذا اليوم , لا توصف بالألفاظ , ولكن تبرز من وسط آدمي حي : " وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ " .
وصرخات الندم يهتف بها لسان إنسان , يندم بعد فوات الأوان : " وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً{27} يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً ... " .(1/204)
وتسرب الإيمان نراه من خلال نفس بشرية في قصة إبراهيم : " فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ " .
والحض على الجهاد يأتي في تصوير موقف المؤمنين والكافرين : " وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ... " .
وهو تصوير يفرق بين حقيقة الموقفين تفرقة حاسمة في بضع كلمات , ويقيس الفوارق بنفوس الفريقين وما ينتظرهما من مآل .
ولا نعود إلى استعراض ما استعرضنا من الصور في شتى الفصول ؛ فحسبنا هذا القدر لبيان نوع التصوير القرآني , وتوضيح معنى الحياة في هذا التصوير . الحياة التي تنقل الأثر من الحس إلى أعماق النفس , لأنها تنتقل من كائن حي , إلى كائن حي , في وسط حي , فتتغلغل في أعماق الضمير من خلال التعبير والتصوير .
وسمة ثالثة في تعبير القرآن :
إن هذه الريشة المبدعة ما مست جامدا إلا نبض بالحياة , ولا عرضت مألوفا إلا بدا جديدا . وتلك قدرة قادرة , ومعجزة ساحرة , كسائر معجزات الحياة !
الصبح مشهد مألوف مكرور , ولكنه في تعبير القرآن حي لم تشهده من قبل عينان . إنه " الصبح إذا تنفس " .
والليل آنٌ من الزمان معهود , ولكنه في تعبير القرآن حي جديد " والليل إذا يسر " . وهو يطلب النهار في سباق جبار " يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا " .
والظل ظاهرة تشهد وتعرف , ولكنه في تعبير القرآن نفس تحس وتتصرف : " وظل من يحموم لا بارد ولا كريم " .
والجدار بنية جامدة كالجلمود , ولكنه في تعبير القرآن يحس ويريد : " فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه ! " .
والطير بنية حية ولكنها مألوفة لا تلفت الإنسان . أما في تعبير القرآن فمشهد رائع يثير الجنان : " أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ .... " .(1/205)
والأرض والسماء , والشمس والقمر . والجبال والوديان . والدور العامرة . والآثار الدائرة . والنبات والحيوان . والأشجار والأفنان ... كل أولئك أحياء . أو مشاهد تخاطب الأحياء . فليس هناك جامد ولا ميت بين الجوامد والأشياء !
تلك طريقة القرآن . وإنها لفن قائم وحده إزاء المعاني والأغراض وهو في أفقه الرفيع , كفاء تلك المعاني , وصنو هذه الأغراض . (1)
===============
الثمرة الخامسة عشرة - الحكمة من ضرب الأمثال في القرآن الكريم .
قال تعالى : {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (25) سورة إبراهيم
وقال تعالى : {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (35) سورة النور
وضرب الأمثال والأشباه في القرآن الكريم يراد به كشف الغوامض ، وتنبيه الأذهان إلى الحقائق ، وإبانة المصالح ، وتقرير الحكم البالغة ، وهو من الأمور المستحسنة في العقول والتربية والتعليم. وأما الذين كفروا فيجادلون في الحق بعد ما تبيّن ، ويمارون بالبرهان وقد تعيّن ، فيخرجون من الموضوع ، ويعرضون عن الحجة. (2)
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ ، وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ أي هذا المثل وأشباهه في القرآن الكريم ، يضربها للناس تقريبا لأفهامهم ، وتوضيحا لما التبس عليهم ، وما
__________
(1) - التصوير الفني في القرآن- طريقة القرآن في عرض القصة
(2) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (1 / 113)(1/206)
يفهمها ويدركها ويتدبر حقيقتها إلا العلماء الأثبات ، المتضلعون في العلم ، المتأملون في القضايا والمسائل. (1)
كما نلمس اهتمامها بضرب الأمثال للمؤمن والكافر ، والشاكر والجاحد والإله الحق والآلهة الباطلة .. وذلك لأن في ضرب الأمثال تقريبا للبعيد وتوضيحا للخفى ، بأسلوب من شأنه أن يكون أوقع في القلوب ، وأثبت في النفوس وأدعى إلى التدبر والتفكر. (2)
" إن فى ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير للناس ، لأن أنس النفوس بها أكثر ، فهى تخرج المعنى من خفىّ إلى جلىّ ، ومما يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع ، وبها يطبق المعقول على المحسوس فيحصل العلم التام بالشيء الممثل له. " (3)
وقال المراغي : " لما تغلغلت الوثنية فى جميع الأديان المعروفة وأفسدتها على أهلها ، أنزل اللّه لهداية البشر هذا النور المبين وهو القرآن ، فبين لمن يفهم لغته حقيقة التوحيد بالدلائل والبراهين الكونية والعقلية مع ضرب الأمثال وذكر شىء من القصص لكشف ما ران على هذه العقيدة من شهات المضلين وأوهام الضالين التي مزجتها بالشرك. " (4)
================
الثمرة السادسة عشرة - القيامة آتية لا محالة ولكن الله تعالى قد استأثر بها دون خلقه .
قال تعالى : {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} (63) سورة الأحزاب
وكل من يزعم من الخلق أنه يعرفها فهو كذاب أشر ، فالمهم الاستعداد لها .
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (20 / 245)
(2) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم لطنطاوي - (8 / 96)
(3) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (13 / 149)
(4) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (6 / 37)(1/207)
وقد كانوا ما يفتأون يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة التي حدثهم عنها طويلا وخوفهم بها طويلا ووصف القرآن مشاهدها حتى لكأن قارئه يراها. يسألونه عن موعدها ويستعجلون هذا الموعد ويحمل هذا الاستعجال معنى الشك فيها ، أو التكذيب بها ، أو السخرية منها ، بحسب النفوس السائلة ، وقربها من الإيمان أو بعدها.
والساعة غيب قد اختص به اللّه سبحانه ، ولم يشأ أن يطلع عليه أحدا من خلقه جميعا ، بما فيهم الرسل والملائكة المقربون. وفي حديث حقيقة الإيمان والإسلام عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِى الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِىُّ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِىُّ حَاجَّيْنِ أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ فَقُلْنَا لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلاَءِ فِى الْقَدَرِ فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلاً الْمَسْجِدَ فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِى أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِى سَيَكِلُ الْكَلاَمَ إِلَىَّ فَقُلْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ - وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ - وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لاَ قَدَرَ وَأَنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ. قَالَ فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّى بَرِىءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّى وَالَّذِى يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ قَالَ حَدَّثَنِى أَبِى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِى عَنِ الإِسْلاَمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِىَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً. قَالَ صَدَقْتَ. قَالَ فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنِ الإِيمَانِ. قَالَ « أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ». قَالَ صَدَقْتَ. قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنِ الإِحْسَانِ. قَالَ « أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ(1/208)
كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ». قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنِ السَّاعَةِ. قَالَ « مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ». قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنْ أَمَارَتِهَا. قَالَ « أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِى الْبُنْيَانِ ». قَالَ ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ لِى « يَا عُمَرُ أَتَدْرِى مَنِ السَّائِلُ ». قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ ». (1)
فالمسؤول رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - والسائل - جبريل عليه السّلام - كلاهما لا يعلم علم الساعة «قُلْ : إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ» .. على وجه الاختصاص والتفرد من دون عباد اللّه.
قدر اللّه هذا لحكمة يعلمها ، نلمح طرفا منها ، في ترك الناس على حذر من أمرها ، وفي توقع دائم لها ، وفي استعداد مستمر لفجأتها. ذلك لمن أراد اللّه له الخير ، وأودع قلبه التقوى. فأما الذين يغفلون عن الساعة ، ولا يعيشون في كل لحظة على أهبة للقائها ، فأولئك الذين يختانون أنفسهم ، ولا يقونها من النار. وقد بين اللّه لهم وحذرهم وأنذرهم وجعل الساعة غيبا مجهولا متوقعا في أية لحظة من لحظات الليل والنهار : «وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً» .. (2)
=================
الثمرة السابعة عشرة - إذا أيقن أنه مخلوق ، وأنه مملوك لله ،فلا يحقد على غيره ولا يحسده،ويطهر قلبه مما سوى الله تعالى ، فلا يلتفت لغيره .
قال تعالى : {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (131) سورة طه
قوله تعالى : « وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ » نهى يراد به النصح والإرشاد ، وذلك بألا يلتفت النبىّ والمؤمنون إلى ما بين أيدى هؤلاء المشركين من أموال وبنين وألا يقع فى نفسه ، أو أنفس المؤمنين ، أن ذلك الذي أمدّ اللّه بعض المشركين ، به ، من
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (102 ) الأُنف : المستأنف الذى لم يسبق به قدر -يتقفر : يطلب ويتتبع ويجمع
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2882)(1/209)
نعمة ، هو تكريم لهم ، وإحسان منه سبحانه وتعالى إليهم .. بل هو ابتلاء وامتحان لهم ، ليرى منهم سبحانه أيشكرون أم يكفرون ؟ .. وها هم أولاء قد كفروا به ، وحادّوه ، وحاربوا رسوله ، وبهذا تحولت هذه النعم إلى سيئات وأوزار ، تضاف إلى رصيدهم مما كسبوا من سيئات وأوزار ..
ـ وفى قوله تعالى : « أَزْواجاً مِنْهُمْ » إشارة إلى أن ما يتمتع به المشرك من عطاء اللّه هو شركة بينه وبين زوجه ، التي هى متعة من متعه وهو متعة لها ..
فالمرأة كالرجل هنا ، فى أنها مبتلاة بنعم اللّه ، ومحاسبة عليها .. فإن شكرت ، وآمنت ، وعملت صالحا أخذت بحظها من رضوان اللّه ، وإن جحدت وكفرت ، وخالطت الآثام ، فعليها وزر ما عملت ، وستلقى جزاءها من عذاب اللّه.
ـ وفى قوله تعالى : « زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا » إشارة إلى أن ذلك المتاع الذي فى أيدى الناس ، هو زهرة من زهرات الحياة الدنيا ، يبهج العين ، ويسرّ القلب ..
ولكنّه لا يعمّر طويلا ، بل سرعان ما يذبل ويجفّ ، ثم يصير حطاما .. تماما كالزهرة. تملأ العين بهجة ومسّرة ، ثم تموت وشيكا!!
و« زهرة » منصوب على أنه مفعول ثان للفعل : « متّعنا » لتضمنه معنى « أعطينا ».
وفى قوله تعالى : « وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى » ـ إشارة إلى ما بين يدى النبىّ الكريم من رزق عظيم .. هو القرآن الكريم ، ثم تلك الرسالة الشريفة التي اصطفاه اللّه لها ، وتخيّره لتبليغها عنه إلى عباده! فأى رزق خير من هذا الرزق ؟ وأي عطاء أكرم وأوفر من هذا العطاء ؟ إنه أشرف قدرا ، وأعظم أثرا ، وأخلد ذكرا من كلّ ما فى هذه الدنيا من مال ومتاع! (1)
والزهرة سريعة الذبول على ما بها من رواء وزواق. فإنما نمتعهم بها ابتلاء «لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ» فنكشف عن معادنهم ، بسلوكهم مع هذه النعمة وذلك المتاع. وهو متاع
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (8 / 840)(1/210)
زائل كالزهرة سرعان ما تذبل «وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى » وهو رزق للنعمة لا للفتنة. رزق طيب خير باق لا يذبل ولا يخدع ولا يفتن.
وما هي دعوة للزهد في طيبات الحياة ، ولكنها دعوة إلى الاعتزاز بالقيم الأصيلة الباقية وبالصلة باللّه والرضى به. فلا تتهاوى النفوس أمام زينة الثراء ، ولا تفقد اعتزازها بالقيم العليا ، وتبقى دائما تحس حرية الاستعلاء على الزخارف الباطلة التي تبهر الأنظار .. (1)
================
الثمرة الثامنة عشرة - أن يستعد للقاء الله تعالى قبل فوات الأوان .
قال تعالى : {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} (20) سورة الحشر
وقال تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (185) سورة آل عمران
لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس : حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة ، محدودة بأجل ثم تأتي نهايتها حتما .. يموت الصالحون ويموت الطالحون. يموت المجاهدون ويموت القاعدون. يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد. يموت الشجعان الذين يأبون الضيم ، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن .. يموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية ، ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص.
الكل يموت .. «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» .. كل نفس تذوق هذه الجرعة ، وتفارق هذه الحياة .. لا فارق بين نفس ونفس في تذوق هذه الجرعة من هذه الكأس الدائرة على الجميع. إنما الفارق في شيء آخر.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2357)(1/211)
الفارق في قيمة أخرى. الفارق في المصير الأخير : «وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» ..هذه هي القيمة التي يكون فيها الافتراق. وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلان عن فلان. القيمة الباقية التي تستحق السعي والكد. والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب : «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» ..
ولفظ «زُحْزِحَ» بذاته يصور معناه بجرسه ، ويرسم هيئته ، ويلقي ظله! وكأنما للنار جاذبية تشد إليها من يقترب منها ، ويدخل في مجالها! فهو في حاجة إلى من يزحزحه قليلا قليلا ليخلصه من جاذبيتها المنهومة! فمن أمكن أن يزحزح عن مجالها ، ويستنقذ من جاذبيتها ، ويدخل الجنة .. فقد فاز ..
صورة قوية. بل مشهد حي. فيه حركة وشد وجذب! وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته. فللنار جاذبية! أليست للمعصية جاذبية؟ أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها زحزحة عن جاذبية المعصية؟ بلى! وهذه هي زحزحتها عن النار! أليس الإنسان - حتى مع المحاولة واليقظة الدائمة - يظل أبدا مقصرا في العمل .. إلا أن يدركه فضل اللّه؟ بلى!
وهذه هي الزحزحة عن النار حين يدرك الإنسان فضل اللّه ، فيزحزحه عن النار!
«وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» ..إنها متاع. ولكنه ليس متاع الحقيقة ، ولا متاع الصحو واليقظة .. إنها متاع الغرور. المتاع الذي يخدع الإنسان فيحسبه متاعا. أو المتاع الذي ينشئ الغرور والخداع! فأما المتاع الحق. المتاع الذي يستحق الجهد في تحصيله .. فهو ذاك .. هو الفوز بالجنة بعد الزحزحة عن النار.
وعند ما تكون هذه الحقيقة قد استقرت في النفس. عند ما تكون النفس قد أخرجت من حسابها حكاية الحرص على الحياة - إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال - وأخرجت من حسابها حكاية متاع الغرور الزائل .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 539)(1/212)
قَالَ بُكَيْرُ بْنُ فَيْرُوزَ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ ، يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ خَافَ أَدْلَجَ ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الجَنَّةُ" (1)
وكَانَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ يَقُولُ : " مَا رَأَيْتُ مِثْلَ الْجَنَّةِ ، نَامَ طَالِبُهَا وَمَا رَأَيْتُ مِثْلَ النَّارِ نَامَ هَارِبُهَا " قَالَ : فَكَانَ إِذَا جَاءَ اللَّيْلُ قَالَ : " أَذْهَبَ حَرُّ النَّارِ النَّوْمَ ، فَمَا يَنَامُ حَتَّى يُصْبِحَ ، وَإِذَا جَاءَ النَّهَارُ قَالَ : " أَذْهَبَ حَرُّ النَّارِ النَّوْمَ ، فَمَا يَنَامُ حَتَّى يُمْسِيَ ، فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ قَالَ : مَنْ خَافَ أَدْلَجَ ، بَعْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى " (2)
وعَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ خَافَ أَدْلَجَ ، وَمَنْ أَدْلَجَ فَقَدْ بَلَغَ الْمَنْزِلَ ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ ، جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ" " (3)
وعَنْ كُرْدُوسٍ ، قَالَ : كَانَ يَقُصُّ عَلَيْنَا غُدْوَةً وَعَشِيَّةً ، وَيَقُولُ : " إنَّ الْجَنَّةَ لَا تُنَالُ إلَّا بِعَمَلٍ لَهَا ، اخْلِطُوا الرَّغْبَةَ بِالرَّهْبَةِ ، وَدُومُوا عَلَى صَلَاحٍ ، وَاتَّقُوا اللَّهَ بِقُلُوبٍ سَلِيمَةٍ وَأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ " ، وَيَكْثُرُ أَنْ يَقُولَ : " مَنْ خَافَ أَدْلَجَ " (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صلى الله عليه وسلم - " مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ ، وَأَقَامَ الصَّلاَةَ ، وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ ، جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا " ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَفَلاَ نُبَشِّرُ النَّاسَ ؟ قَالَ : " إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ ، فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ - أُرَاهُ - فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ " (5)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ قِصَّةِ بَدْرٍ قَالَ : فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ ». قَالَ
__________
(1) - سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ ـ الْجَامِعُ الصَّحِيحُ (2484 ) وقال :هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ
(2) - التَّهَجُّدُ وَقِيَامُ اللَّيْلِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (55 )
(3) - المستدرك للحاكم (7852) حسن
(4) - مصنف ابن أبي شيبة - (19 / 304) (36127)
(5) - صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ (2662 )(1/213)
يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِىُّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ؟ فَقَالَ :« نَعَمْ ». قَالَ : بَخٍ بَخٍ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟ ». قَالَ : لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ رَجَاهَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ :« فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا ». قَالَ : فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ : لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِى هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ. قَالَ : فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1)
وعَنْ زُبَيْدٍ ، قَالَ : لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا بَكْرٍ الْوَفَاةُ أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ ، فَقَالَ : إنِّي مُوصِيك بِوَصِيَّةٍ إنْ حَفِظْتهَا : إنَّ لِلَّهِ حَقًّا فِي اللَّيْلِ لاَ يَقْبَلُهُ فِي النَّهَارِ ، وَإِنَّ لِلَّهِ حَقًّا فِي النَّهَارِ لاَ يَقْبَلُهُ فِي اللَّيْلِ ، وَأَنَّهُ لاَ يُقْبَلُ نَافِلَةٌ حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ ، وَإِنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمَ الْبَاطِلَ فِي الدُّنْيَا وَخِفَّتِهِ عَلَيْهِمْ ، وَحُقَّ لِمِيزَانٍ لاَ يُوضَعُ فِيهِ إِلاَّ الْبَاطِلُ أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا ، وَإِنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمَ الْحَقَّ فِي الدُّنْيَا وَثِقَلِهِ عَلَيْهِمْ ، وَحُقَّ لِمِيزَانٍ لاَ يُوضَعُ فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ الْحَقُّ أَنْ يَكُونَ ثَقِيلا ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِصَالِحِ مَا عَمِلُوا ، وَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ ، فَيَقُولُ الْقَائِلُ : لاَ أبلغ هولاء ، وَذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ بِسَيِّئِ مَا عَمِلُوا وَرَدَّ عَلَيْهِمْ صَالِحَ مَا عَمِلُوا : فَيَقُولُ الْقَائِلُ : أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَؤُلاَءِ ، وَذَكَرَ آيَةَ الرَّحْمَةِ وَآيَةَ الْعَذَابِ ، لِيَكُون الْمُؤْمِنُ رَاغِبًا رَاهِبًا ، وَلاَ يَتَمَنَّى عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ ، وَلاَ يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ ، فَإِنْ أَنْتَ حَفِظْت قَوْلِي هَذَا فَلاَ يَكُنْ غَائِبٌ أَحَبَّ إلَيْك مِنَ الْمَوْتِ ، وَلاَ بُدَّ لَك مِنْهُ ، وَإِنْ أَنْتَ ضَيَّعْت قَوْلِي هَذَا فَلاَ يَكُنْ غَائِبٌ أَبْغَضَ إلَيْك مِنْهُ وَلَنْ تُعْجِزَهُ." (2)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (9 / 43) (18373) وصحيح مسلم- المكنز - ( 5024) -العين : الجاسوس
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (19 / 134) (35574) صحيح(1/214)
أهم المصادر
1. أضواء البيان للشنقيطي
2. أيسر التفاسير للجزائري
3. البحر المحيط ـ نسخة محققة
4. البحر المديد ـ موافق للمطبوع
5. التحرير والتنوير لابن عاشور
6. التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع
7. التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع
8. التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع
9. التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع
10. التفسير الوسيط للقرآن الكريم لطنطاوي
11. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
12. الكشاف للزمخشري
13. المفصل في موضوعات سور القرآن
14. تفسير ابن كثير - دار طيبة
15. تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع
16. تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة
17. تفسير الفخر الرازى ـ موافق للمطبوع
18. روح المعانى ـ نسخة محققة
19. صفوة التفاسير ـ للصابونى
20. إعراب القرآن وبيانه ـ موافقا للمطبوع
21. فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع
22. كلمات القرآن للشيخ غازي الدروبي
23. محاسن التأويل تفسير القاسمي
24. نظم الدرر ـ موافق للمطبوع
25. اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة
26. السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة(1/215)
27.السنن الكبرى للبيهقي- المكنز
28. المستدرك للحاكم مشكلا
29. المسند الجامع
30. المعجم الأوسط للطبراني
31. المعجم الصغير للطبراني
32. المعجم الكبير للطبراني
33. جامع الأصول في أحاديث الرسول
34. دلائل النبوة للبيهقي
35. سنن أبي داود - المكنز
36. سنن ابن ماجه- المكنز
37. سنن الترمذى- المكنز
38. سنن الدارمى- المكنز
39. شرح مشكل الآثار (321)
40. شعب الإيمان (458)
41. صحيح ابن حبان
42. صحيح البخارى- المكنز
43. صحيح مسلم- المكنز
44. مجمع الزوائد
45. مسند أبي عوانة مشكلا
46. مسند أبي يعلى الموصلي مشكل
47. مسند أحمد - المكنز
48. مسند البزار كاملا
49. موسوعة السنة النبوية
50. شرح النووي على مسلم
51. فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة
52. فتاوى واستشارات الإسلام اليوم(1/216)
الفهرس العام
المبحث الأول ... 4
حول مكيتها وعدد آياتها ... 4
المبحث الثاني ... 5
أسماؤها ... 5
المبحث الثالث ... 7
مناسبتها لما قبلها ... 7
المبحث الرابع ... 9
أهم الموضوعات التي اشتملت عليها السورة ... 9
المبحث الخامس ... 19
فضائل السورة ... 19
المبحث السادس ... 27
تفسيرها ... 27
المطلب الأول ... 27
بعض أدلة القدرة الإلهية ... 27
شرح الكلمات: ... 27
البلاغة : ... 28
المعنى العام : ... 28
التفسير والبيان : ... 31
ومضات عامة ... 42
ما يستفاد من الآيات ... 53
المطلب الثاني ... 55
تعذيب الكفار في نار جهنم ... 55
شرح الكلمات : ... 55
المناسبة : ... 56(1/217)
المعنى العام : ... 56
التفسير والبيان : ... 57
ومضات عامة ... 61
ما يستفاد من الآيات ... 65
المطلب الثالث ... 67
وعد المؤمنين بالمغفرة وتهديد الكافرين مرة أخرى ... 67
شرح الكلمات : ... 67
البلاغة : ... 67
المعنى العام : ... 68
التفسير والبيان : ... 69
ومضات عامة ... 74
ما يستفاد من الآيات ... 83
المطلب الرابع ... 85
المطلب الرابع ... 85
أنواع من الوعيد والتهديد والعبرة بالأمم السابقة ... 85
شرح الكلمات : ... 85
البلاغة : ... 85
المناسبة : ... 85
المعنى العام : ... 86
التفسير والبيان : ... 88
ومضات عامة ... 92
ما يستفاد من الآيات ... 102
المطلب الخامس ... 105
المطلب الخامس ... 105
توبيخ المشركين على عبادة الأصنام وإثبات قدرة اللّه واختصاصه بعلم البعث ... 105
شرح الكلمات : ... 105
البلاغة : ... 106(1/218)
المناسبة : ... 106
المعنى العام : ... 107
التفسير والبيان : ... 109
ومضات عامة ... 120
ما يستفاد من الآيات ... 130
ثمرات الإيمان باليوم الآخر ... 132
المطلب السادس ... 135
المطلب السادس ... 135
دعاء كفار مكة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بالهلاك ... 135
شرح الكلمات : ... 135
المناسبة : ... 135
البلاغة : ... 135
المعنى العام : ... 136
التفسير والبيان : ... 137
ومضات عامة ... 141
ما يستفاد من الآيات ... 145
المبحث السادس ... 153
أهم مقاصد السورة ... 153
المبحث السابع ... 154
الثمرات العملية لسورة الملك ... 154
الثمرة الأولى - لقد طوفنا في كتب التفسير قديما وحديثاً حول تفسير هذه السورة المباركة ، وما هي إلا ومضات مما فتح الله به على هؤلاء الأئمة الأخيار ، وإلا فلا يحيط بكلام ربنا إحاطة تامة سواه. ... 154
الثمرة الثانية – كلُّ جيل من أجيال المسلمين يفتح الله تعالى عليهم بقدر ،لفهم كتابه وكشف بعض أسراره حتى يكون القرآن مواكبا لحياة المسلمين في كل زمان ومكان ليأخذ بهم إلى بر الأمان . ... 155
الثمرة الثالثة – لا بد من الاعتقاد الجازم أن مالك الملك هو الله وحده. ... 155(1/219)
الثاني - أننا محتاجون إلى مدد الله وعطائه ورحمته دائما لا نستغني عنها لحظة . قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (15) سورة فاطر ... 158
الثمرة الرابعة - لا بد من التسليم التام لله تعالى بكل ما يفعل . ... 161
الثمرة الخامسة -لا يجوز الاعتراض على أي حكم من أحكام الله تعالى ، لأنه مالك الملك ، والعبد لا يعترض على سيده . ... 162
الثمرة السادسة - أن يستوي المنع والعطاء عند العبد المؤمن ، فإذا أعطاه الله شكر ، وإذا منعه صبر. ... 163
الثمرة السابعة - أن المنع والعطاء بحكمة وبقدر ، ولكن يجب أن نعلم أنه إذا أعطانا أن ننسب الفضل لله وحده وإلا فالهلاك. ... 165
الثمرة الثامنة - أن يصبر على البلاء ويرضى بالقضاء . ... 166
الثمرة التاسعة - العلم الراسخ ، والإيمان المنير يقودان للإيمان الحق ... 169
الثمرة العاشرة - لقد أقيمت الحجة على الخلق بإرسال الرسل ، فلا عذر لهم عند الله . ... 170
الثمرة الحادية عشرة - الذين لا يسمعون لهدي السماء دواب ... 183
الثمرة الثانية عشرة - أن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي تكفل الله تعالى بحفظه . ... 184
الثمرة الثالثة عشرة - القرآن الكريم هو زاد الفرد والأسرة والمجتمع الذي لا ينضب . ... 187
الثمرة الرابعة عشرة - أهمية القصة في القرآن الكريم وطريقة عرضها . ... 196
الثمرة الخامسة عشرة - الحكمة من ضرب الأمثال في القرآن الكريم . ... 206
الثمرة السادسة عشرة - القيامة آتية لا محالة ولكن الله تعالى قد استأثر بها دون خلقه . ... 207
الثمرة السابعة عشرة - إذا أيقن أنه مخلوق ، وأنه مملوك لله ،فلا يحقد على غيره ولا يحسده،ويطهر قلبه مما سوى الله تعالى ، فلا يلتفت لغيره . ... 209
الثمرة الثامنة عشرة - أن يستعد للقاء الله تعالى قبل فوات الأوان . ... 211(1/220)