بعضها على سبيل المثال، ففي الحديث: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي. رواه مسلم . وفي الحديث: أحب الأعمال إلى الله أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله. رواه ابن حبان ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع. وفي الحديث: إن الله يحب الرفق في الأمر كله. رواه البخاري ومسلم .
وفي الحديث: إن الله يحب سمح البيع، سمح الشراء، سمح القضاء . رواه الترمذي والحاكم وصححه الألباني . وفي الحديث: إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا: فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال . رواه مسلم .
وفي الحديث: إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها. رواه الحاكم وصححه الألباني . وفي الحديث: أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً... رواه الطبراني وحسنه الألباني . وفي الحديث: إن الله يبغض الفاحش المتفحش. رواه أحمد وابن حبان ، وصححه الألباني . وفي الحديث: إن الله يبغض كل جعظري جواظ صخاب في الأسواق، جيفة بالليل حمار بالنهار، عالم بالدنيا جاهل بالآخرة . رواه البيهقي في السنن وصححه الألباني . (1)
13- سبب نزول للآية الأخير مختلق :
قال الطبري : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : ثنا عِيسَى بْنُ فَرْقَدٍ ، عَنْ أَبِي الْجَارُودِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ، أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " أَنْتَ يَا عَلِيُّ وَشِيعَتُكَ " (2)
ونقله الشوكاني في فتح القدير قال: وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية.. الحديث . ونقله الألباني بلفظ: والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة. ثم قال إنه أولكم إيمانا معي وأوفاكم بعهد الله وأقومكم بأمر الله وأعدلكم في الرعية وأقسمكم بالسوية وأعظمكم عند الله مزية . قال ونزلت: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ {البينة: 7} ( . قال فكان أصحاب محمد ( إذا أقبل علي قالوا قد جاء خير البرية .) وقال: موضوع (3)
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (10 / 3598) رقم الفتوى 74127 كيفية إرضاء العبد ربه سبحانه وتعالى تاريخ الفتوى : 09 ربيع الثاني 1427
(2) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (35023 ) موضوع
(3) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (7 / 2072) رقم الفتوى 49707 من الأحاديث المكذوبة على النبي - صلى الله عليه وسلم - تاريخ الفتوى : 19 ربيع الثاني 1425(1/885)
ونقل الشوكاني في الفوائد المجموعة حديث (علي خير البرية) وقال : رواه ابن عدي عن أبي سعيد مرفوعا وفي إسناده أحمد بن سالم أبو سمرة ولا يحتج به، وقال في الميزان: هذا كذب، وقال ابن الجوزي: موضوع.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية: هذا مما هو كذب موضوع باتفاق العلماء وأهل المعرفة بالمنقولات (1) . وقد علق الألوسي على هذا الأثر فقال: وهذا الأثر إن سلمت صحته لا محذور فيه إذ لا يستدعي التخصيص بل الدخول في العموم وهم بلا شبهة داخلون فيه دخولا أوليا.. وإن كان دون إثبات صحة تلك الأخبار خرط القتاد والله تعالى أعلم. (2)
فهذا الحديث كما رأيت حكم عليه أهل العلم بالحديث بالوضع، لكن الأحاديث الصحيحة الواردة في فضل علي رضي الله عنه فيها غنية. (3)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - مختصر منهاج السنة النبوية - (2 / 59) ومنهاج السنة النبوية - (7 / 187)
(2) - تفسير الألوسي - (23 / 79)
(3) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (10 / 1274) رقم الفتوى 71462 فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه معلومة مشهورة تاريخ الفتوى : 07 محرم 1427(1/886)
سورة الزلزلة
مدنيّة ، وهي ثماني آيات
تسميتها :
سميت سورة الزلزلة أو الزلزال لافتتاحها بالإخبار عن حدوث الزلزال العنيف قبيل يوم القيامة : إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها. وهي سورة مدنية ، وقال ابن كثير : هي مكية.
قال ابن عاشور : " كلام الصحابة سورة : ( إذا زلزلت ( روى الواحدي في ( أسباب النزول ) عن عبد الله بن عَمرو : ( نزلتْ إذا زلزلت ) وأبو كبر قاعد فبكى ) الحديث . وفي حديث أنس بن مالك مرفوعاً عند الترمذي : ( إذا زلزلت ) تَعْدل نصف القرآن ) ، وكذلك عنونها البخاري والترمذي .
وسميت في كثير من المصاحف ومن كتب التفسير ( سورة الزلزال ) .
وسميت في مصحف بخط كوفي قديم من مصاحف القيروان ( زُلزلت ) وكذلك سماها في ( الإِتقان ) في السور المختلف في مكان نزولها ، وكذلك تسميتها في ( تفسير ابن عطية ) ، ولم يعدها في ( الإِتقان ) في عداد السور ذوات أكثر من اسم فكأنه لم ير هذه ألقاباً لها بل جعلها حكاية بعض ألفاظها ولكن تسميتها سورة الزلزلة تسمية بالمعنى لا بحكاية بعض كلماتها .
واختلف فيها فقال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعطاء والضحاك : هي مكية . وقال قتادة ومقاتل : مدنية ، ونسب إلى ابن عباس أيضاً . والأصح أنها مكية واقتصر عليه البغوي وابن كثير ومحمد بن الحسن النيسابوري في تفاسيرهم . وذكر القرطبي عن جابر أنها مكية ولعله يعني : جابر بن عبد الله الصحابي لأن المعروف عن جابر بن زيد أنها مدنية فإنها معدودة في نزول السور المدنية فيما روي عن جابر بن زيد . وقال ابن عطية : آخرها وهو : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ( ( الزلزلة : 7 ) الآية نزل في رجلين كانا بالمدينة اه . وستعلم أنه لا دلالة فيه على ذلك .
وقد عدت الرابعة والتسعين في عداد نزول السور فيما روي عن جابر بن زيد ونظمه الجعبري وهو بناءٌ على أنها مدنية جعلها بعد سورة النساء وقبل سورة الحديد .
وعدد آيها تسع عند جمهور أهل العدد ، وعدّها أهل الكوفة ثماني للاختلاف في أن قوله : ( يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم ( ( الزلزلة : 6 ) آيتان أو آية واحدة . (1)
وفي التفسير الوسيط :
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 489)(1/887)
1 - سورة « الزلزلة » وتسمى - أيضا - سورة « إذا زلزلت » وسورة « الزلزال » من السور المكية ، وقيل : هي من السور المدنية.
قال الآلوسى : هي مكية في قول ابن عباس ومجاهد وعطاء ، ومدنية في قول مقاتل وقتادة.
ويبدو لنا أن القول بكونها مكية أرجح ، لأن الحديث عن أهوال يوم القيامة ، يكثر في السور المكية ، ولأن بعض المفسرين - كالإمام ابن كثير - قد اقتصر على كونها مكية ، ولم يذكر في ذلك خلافا.
وعدد آياتها ثماني آيات في المصحف الكوفي ، وتسع آيات في غيره. وسبب ذلك اختلافهم في قوله - تعالى - : يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ هل هو آيتان أو آية واحدة.
2 - والسورة الكريمة من أهم مقاصدها : إثبات أن يوم القيامة حق وبيان ما اشتمل عليه من أهوال ، وتأكيد أن كل إنسان سيجازى على حسب عمله في الدنيا ... (1)
مناسبتها لما قبلها :
لما ذكر اللَّه تعالى في آخر سورة البيّنة وعيد الكافر ووعد المؤمن وأن جزاء الكافرين نار جهنم ، وجزاء المؤمنين جنات ، بيّن هنا وقت ذلك الجزاء وبعض أماراته وهو الزلزلة وإخراج الأرض أثقالها ، فكأنه قيل : متى يكون ذلك ؟
فقال : إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها أي يكون يوم زلزلة الأرض. ثم إنه تعالى أراد أن يزيد في وعيد الكافر ، فقال : أجازيه حينما تزلزل الأرض ، مثل قوله تعالى : يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران 3/ 106]. ثم ذكر ما للطائفتين ، فقال : فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ .. [106] ، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ [107]. ثم جمع بينهما هنا في آخر السورة بذكر الذرّة من الخير والشر.
وقال الخطيب : " ختمت سورة « البينة » قبل هذه السورة بما يلقى الكافرون ، من عذاب ، خالدين فى النار ، وبما يلقى المؤمنون ، من نعيم ، خالدين فيه خلودا مؤبدا فى الجنة ..
وجاءت سورة الزلزلة محدثة بهذا اليوم الذي يجزى فيه كل من الكافرين والمؤمنين هذا الجزاء الذي يستحقه كل فريق منهم ، فكان عرض هذا اليوم ، وإخراج الناس فيه من قبور هم للحساب والجزاء ـ كان عرض هذا اليوم منظورا إليه من خلال صورتى النار والجنة اللتين تحدث عنهما السورة السابقة ـ كان أبعث المرهبة منه ، والخشية من لقائه." (2)
ما اشتملت عليه السورة :
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم لطنطاوي - (15 / 475)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1648)(1/888)
سورة الزلزلة مدنية ، وهي في أسلوبها تشبه السور المكية ، لما فيها من أهوال وشدائد يوم الفيامة ، وهي هنا تتحدث عن الزلزال العنيف الذي يكون بين يدي الساعة ، حيث يندك كل صرح شامخ ، وينهار كل جبل راسخ ، ويحصل من الأمور العجيبة الغريبة ، ما يندهش له الإنسان ، كإخراج الأرض ما فيها من موتى ، وإلقائها ما في بطنها ، من كنوز ثمينة من ذهب وفضة ، وشهادتها على كل إنسان بما عمل على ظهرها ، تقول : عملت يوم كذا ، كذا وكذا ، وكل هذا من عجائب ذلك اليوم الرهيب ، كما تتحدث عن إنصراف الخلائق من أرض المحشر ، إلى الجنة أو النار ، وإنقسامهم إلى فريقين ما بين شفي وسعيد [ فريق في الجنة ، وفريق في السعير ] . (1)
وقال ابن عاشور : فيها إثبات البعث وذكر أشراطه وما يعتري الناس عند حدوثها من الفزع .
وحضور الناس للحشر وجزائهم على أعمالهم من خير أو شر وهو تحريض على فعل الخير واجتناب الشر . (2)
في السورة إنذار بيوم القيامة وهوله وحسابه. وحثّ على الخير وتحذير من الشرّ بصورة عامة. ومن المفسّرين من روى مكيتها وحسب ومنهم من قال إنها من المختلف على مكيته ومدنيته بسبب تعدّد الروايات والطابع المكي قويّ البروز عليها بحيث يسوغ ترجيح مكيّتها إن لم نقل الجزم بذلك ، بل ويلهم أنها من السور المبكرة في النزول. وتكاد تكون هي وسورة القارعة المتفق على مكيتها ونزولها مبكرة صورتين متماثلتين. ولقد جاء في حديث رواه الترمذي عن أنس أن قراءة هذه السورة تعدل نصف القرآن وفي حديث آخر عنه أنها تعدل بربع القرآن.
وقد يكون التباين من الرواة. وعلى كل حال فقد يكون قصد التذكر بأهوال يوم القيامة والحثّ على الخير واجتناب الشرّ من الحكمة المتوخاة في الحديث واللّه تعالى أعلم. (3)
مقصودها انكشاف الأمور ، وظهور المقدور أتم ظهور ، وانقسام الناس في الجزاء في دار البقاء إلى سعادة وشقاء ، وعلى ذلك دل اسمها بتامل الظرف ومظروفه ، وما أفاد من بديع القدر وصروفه ) بسم الله ( المحيط بكل شيء قدؤرة وعلما ) الرحمن ( الذي عم الخلق بنعمته الظاهرة قسما ) الرحيم ( الذي أتم النعمة على خواصه حقيقة واسما ، عينا ورسما . (4)
هذه السورة مدنية في المصحف وفي بعض الروايات؛ ومكية في بعض الروايات الأخرى . ونحن نرجح الروايات التي تقول بأنها مكية . وأسلوبها التعبيري وموضوعها يؤيدان هذا .
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 513)
(2) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 489)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (6 / 118)
(4) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 504)(1/889)
إنها هزة عنيفة للقلوب الغافلة . هزة يشترك فيها الموضوع والمشهد والإيقاع اللفظي . وصيحة قوية مزلزلة للأرض ومن عليها؛ فما يكادون يفيقون حتى يواجههم الحساب والوزن والجزاء في بضع فقرات قصار!
وهذا هو طابع الجزء كله ، يتمثل في هذه السورة تمثلاً قوياً . . (1)
سبب نزولها :
كان الكفار يسألون كثيرا عن الساعة ويوم الحساب ، فيقولون : أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ؟ [القيامة 75/ 6]. مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ؟ [الملك 67/ 25]. مَتى هذَا الْفَتْحُ ؟ (2) [السجدة 32/ 28] ونحو ذلك ، فأبان لهم في هذه السورة علامات القيامة فحسب ، ليعلموا أن علم ذلك عند اللَّه ، ولا سبيل إلى تعيين ذلك اليوم للعرض والحساب والجزاء.
فضلها :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : اقْرَأْ ثَلاثًا مِنْ ذَوَاتِ الرَّاءِ ، فَقَالَ الرَّجُلُ : كَبِرَتْ سِنِّي ، وَاشْتَدَّ قَلْبِي ، وَغَلُظَ لِسَانِي ، قَالَ : اقْرَأْ ثَلاثًا مِنْ ذَوَاتِ حم ، فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الأُولَى ، فَقَالَ : اقْرَأْ ثَلاثًا مِنَ الْمُسَبِّحَاتِ ، فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ ، فَقَالَ الرَّجُلُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَقْرِئْنِي سُورَةً جَامِعَةً ، فَأَقْرَأَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا زُلْزِلَتْ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا ، فَقَالَ الرَّجُلُ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَزِيدُ عَلَيْهِ أَبَدًا ، ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُقِيمُهُ " (3)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو . قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَالَ : أَقْرِئْنِي يَا رَسولَ اللهِ . قَالَ لَهُ : اقْرَأْ ثَلاَثًا مِنْ ذَاتِ ( آلر) فَقَالَ الرَّجُلُ : كَبِرَتْ سِنِّي ، وَاشْتَدَّ قَلْبِي ، وَغَلُظَ لِسَانِي . قَالَ : فَاقْرَأْ مِنْ ذَاتِ (حم) فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الأُولَى . فَقَالَ : اقْرَأْ ثَلاَثًا مِنَ الْمُسَبِّحَاتِ . فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ . فَقَالَ الرَّجُلُ : وَلَكِنْ أَقْرِئْنِي ، يَا رَسُولَ اللهِ ، سُورَةً جَامِعَةً . فَأَقْرَأَهُ : "إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ) حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا . قَالَ الرَّجُلُ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، لاَ أَزِيدُ عَلَيْهَا أَبَدًا . ثَُم أَدْبَرَ الرَّجُلُ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ ، أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ . ثَُمَّ قَالَ : عَلَيَّ بِهِ ، فَجَاءَهُ ، فَقَالَ لَهُ : أُمِرْتُ بِيَوْمِ الأَضْحَى ، جَعَلَهُ اللهُ عِيدًا لِهَذِهِ الأُمَّةِ . فَقَالَ الرَّجُلُ : أَرَأَيْتَ إِنْ لمْ أَجِدْ إِلاَّ مَنِيحَةَ ابْنِي ، أَفَأُضَحِّي بِهَا ؟ قَالَ : لاَ . وَلَكِنَّكَ تَأْخُذُ مِنْ شَعَْرِكَ ، وَتُقَلِّمُ أَظْفَارَكَ ، وَتَقُصُّ شَارِبَكَ ، وَتَحْلِقُ عَانَتَكَ ، فَذَلِكَ تَمَامُ أُضْحِيَتِكَ عِنْدَ اللهِ. (4)
__________
(1) - الظلال
(2) - أي متى الفتح الذي تعدوننا به ، وهو يوم البعث الذي يقضي اللَّه فيه بين عباده ؟
(3) - المستدرك للحاكم (3964) حسن
(4) - المسند الجامع - (11 / 416) (8657) وسنن أبى داود(1401) ومسند أحمد ( 6732) حسن(1/890)
وأخرج الترمذي عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَرْدَانَ ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ صَاحِبَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَهُ ؛
أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلَ رَجُلاً مِنْ صَحَابَتِهِ ، فَقَالَ : أَيْ فُلاَنُ ، هَلْ تَزَوَّجْتَ ؟ قَالَ : لاَ ، وَلَيْسَ عِنْدِي مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ ، قَالَ : أَلَيْسَ مَعَكَ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ؟ قَالَ : بَلَى ، قَالَ : رُبُعُ الْقُرْآنِ ، قَالَ : أَلَيْسَ مَعَكَ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ؟ قَالَ : بَلَى ، قَالَ : رُبُعُ الْقُرْآنِ ، قَالَ : أَلَيْسَ مَعَكَ (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ) ؟ قَالَ : بَلَى ، قَالَ : رُبُعُ الْقُرْآنِ ، قَالَ : أَلَيْسَ مَعَكَ (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ) ؟ قَالَ : بَلَى ، قَالَ : رُبُعُ الْقُرْآنِ ، قَالَ : أَلَيْسَ مَعَكَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) ؟ قَالَ : بَلَى ، قَالَ : رُبُعُ الْقُرْآنِ ، قَالَ : تَزَوَّجْ . تَزَوَّجْ . تَزَوَّجْ - ثَلاَثَ مَرَّاتٍ -.. (1)
وقَالَ سَلَمَةُ بْنُ وَرْدَانَ : سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ رُبُعُ الْقُرْآنِ ، وَإِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ رُبُعُ الْقُرْآنِ ، وَإِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ رُبُعُ الْقُرْآنِ " مُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (2)
وقَالَ سَلَمَةُ بْنُ وَرْدَانَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ : إِنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ ، وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ فَقَالَ أَمَا تَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ؟ قَالَ : بَلَى . قَالَ : فَتَزَوَّجْ قَالَ : أَمَا تَقْرَأْ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا فَإِنَّهَا رُبْعُ الْقُرْآنِ ، أَمَا تَقْرَأُ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فَإِنَّهَا رُبْعُ الْقُرْآنِ ، أَمَا تَقْرَأُ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحِ فَإِنَّهَا رُبْعُ الْقُرْآنِ ، قَالَ : فَتَزَوَّجْ" (3)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ قَرَأَ إِذَا زُلْزِلَتْ عُدِلَتْ لَهُ بِنِصْفِ الْقُرْآنِ ، وَمَنْ قَرَأَ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ عُدِلَتْ لَهُ بِرُبُعِ الْقُرْآنِ ، وَمَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عُدِلَتْ لَهُ بِثُلُثِ الْقُرْآنِ " (4)
وعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ ، قَالَ : " بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " إِنَّ لِكُلِّ شَجَرٍ ثَمَرًا ، وَإِنَّ ثَمَرَ الْقُرْآنِ ذَوَاتُ حم هُنَّ رَوْضَاتٌ مُخْصَبَاتٌ ، مُعْشَبَاتٌ مُتَجَاوِرَاتٌ ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْتَعَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ فَلْيَقْرَأِ الْحَوَامِيمَ ، وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الدُّخَانِ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ أَصْبَحَ مَغْفُورًا لَهُ ، وَمَنْ قَرَأَ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ ، وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، فَكَأَنَّمَا وَافَقَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَمَنْ قَرَأَ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا فَكَأَنَّمَا قَرَأَ رُبُعَ الْقُرْآنِ ، وَمَنْ قَرَأَ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ رُبُعَ الْقُرْآنِ ، وَمَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ ، بَنَى لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ " ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ : إِذًا نَسْتَكْثِرُ مِنَ الْقُصُورِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " اللَّهُ أَكْثَرُ وَأَطْيَبُ ، وَمَنْ قَرَأَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنَ الشَّرِّ إِلَّا قَالَ : أَيْ رَبِّ ،
__________
(1) - المسند الجامع - (2 / 619) (1183) وسنن الترمذى (3140 ) فيه ضعف
(2) - مُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (12292) ضعيف
(3) - مُعْجَمُ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ (1603) ضعيف
(4) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ (2413 ) فيه جهالة(1/891)
أَعِذْهُ مِنْ شَرِّي ، وَمَنْ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ، فَكَأَنَّمَا قَرَأَ رُبْعَ الْقُرْآنِ ، وَمَنْ قَرَأَ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ أَلْفَ آيَةٍ " (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا تَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ ، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ تَعْدِلُ رُبُعَ الْقُرْآنِ ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلِ ثُلُثَ الْقُرْآنِ " (2)
وعَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا زُلْزِلَتْ تَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ ، وَالْعَادِيَاتِ تَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ " (3)
وعَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : " مَنْ قَرَأَ إِذَا زُلْزِلَتِ تَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ " (4)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الضُّرَيْسِ (286 ) ضعيف جدا
(2) - فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الضُّرَيْسِ (288) الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (2033 ) وقال هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ " قلت : هو حديث حسن
(3) - فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِلْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ (421 ) صحيح مرسل
(4) - فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الضُّرَيْسِ(232 ) صحيح مرسل(1/892)
أمارة القيامة والجزاء على الخير والشر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ
سبب النزول الاية 6 والسابعة:
عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } وذلك لما نزلت هذه الآية: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } [ الإنسان: 8 ] ، كان المسلمون يرون أنهم لا يُؤجَرون على الشيء القليل الذي أعطوه، فيجيء المسكين إلى أبوابهم فيستقلون أن يعطوه التمرة والكسرة والجَوْزة ونحو ذلك، فيردونه ويقولون: ما هذا بشيء. إنما نُؤجَر على ما نعطي ونحن نحبه. وكان آخرون يَرَون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير: الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك، يقولون: إنما وعد الله النار على الكبائر. فرغبهم في القليل من الخير أن يعملوه، فإنه يوشك أن يكثر، وحذرهم اليسير من الشر، فإنه يوشك أن يكثر، فنزلت: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } يعني: وزن أصغر النمل { خَيْرًا يَرَهُ } يعني: في كتابه، ويَسُرُّه ذلك. قال: يكتب لكل بر وفاجر بكل سيئة سيئة واحدة. وبكل حسنة عشر حسنات، فإذا كان يوم القيامة ضاعف الله حسنات المؤمنين أيضًا، بكل واحدة عشر، ويمحو عنه بكل حسنة عشر سيئات، فمن زادت حسناته على سيئاته مثقال ذرة، دخل الجنة.. (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " الخَيْلُ لِثَلاَثَةٍ : لِرَجُلٍ أَجْرٌ ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ ، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ : فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَأَطَالَ فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ ، فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنَ المَرْجِ أَوِ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ أَرْوَاثُهَا وَآثَارُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ ، فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِئَاءً ، وَنِوَاءً لِأَهْلِ الإِسْلاَمِ فَهِيَ وِزْرٌ عَلَى ذَلِكَ "
وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الحُمُرِ ، فَقَالَ : " مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا إِلَّا هَذِهِ الآيَةُ الجَامِعَةُ الفَاذَّةُ " : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ " (2)
__________
(1) - أخرجه ابن أبي حاتم الدر المنثور - (10 / 324) و تفسير ابن كثير - (8 / 464) حسن
(2) - صحيح البخارى (2860 )
استنت : جرت وعدت -الطيل : حبل يشد به قائمة الدابة -المرج : الأرض الواسعة ذات نبات كثير تخلى فيه الدواب تسرح مختلطة كيف شاءت -النواء : العداوة(1/893)
وقد أوضح الشارح أن السؤال عن ما إذا كان يجب على ما يقتنيه المسلم من الحمر زكاة- فقال لم ينزل عليّ فيها شيء إلّا هذه الآية الجامعة الفاذة : وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ، حيث ينطوي في الحديث حثّ على عمل الخير ومن ذلك الصدقات مهما قلّت وبأي اسم كان ونهى عن الشرّ مهما تفه فيتساوق التلقين النبوي كذلك مع التلقين القرآني. (1)
تناسب الآيات :
لما ختم تلك بجزاء الصالح والطالح في دار البقاء على ما أسلفوه في مواطن الفناء , ذكر في هذه الأول مبادئ تلك الدار وأوائل غاياتها , وذكر في القارعة ثواني مبادئها وآخر غاياتها , وأبلغ في التحذير بالإخبار بإظهار ما يكون عليه الجزاء , فقال معبراً بأداة التحقق لأن الأمر حتم لا بد من كونه : {إذا}.
ولما كان المخوف الزلزلة ولو لم يعلم فاعلها , وكان البناء للمفعول يدل على سهولة الفعل ويسره جداً , بنى للمفعول قوله : {زلزلت الأرض} أي حركت واضطربت زلزلة البعث بعد النفخة الثانية بحيث يعمها ذلك لا كما كان يتفق قبل ذلك من زلزلة بعضها دون بعض وعلى وجه دون ذلك , وعظم هذا الزلزال وهوّله بإبهامه لتذهب النفس فيه كفل مذهب , فقال كاسراً الزاء لأنه مصدر , ولو فتحها لكان اسماً للحركة , قال البيضاوي : وليس إلا في المضاعف.
{زلزالها *} أي تحرها واضطرابها الذي يحق لها في مناسبته لعظمة جرم الأرض وعظمة ذلك اليوم , ولو شرح بما يليق به لطال الشرح , وذلك كما تقول : أكرم التقي إكرامة وأهن الفاسق الشقي إهانة , أي على حسب ما يليق به.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : وردت عقب سورة البرية ليبين بها حصول جزاء الفريقين ومآل الصنفين المذكورين في قوله : {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} - إلى قوله : {أولئك شر البرية} وقوله : {إن الذين آمنوا} - إلى آخر السورة.
ولما كان حاصل ذلك افتراقهم على صنفين ولم يقع تعريف بتباين أحوالهم , أعقب ذلك بمآل الصنفين واستيفاء جزاء الفريقين المجمل ذكرهم فقال تعالى : {يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم} إلى آخر السورة - انتهى.
ولما كان الاضطراب العظيم يكشف عن الخفي في المضطرب قال : {وأخرجت} وأظهر ولم يضمر تحقيقاً للعموم فقال : {الأرض} أي كلها {أثقالها} أي مما هو مدفون فيها كاأموات والكنوز التي كان أمرها ثقيلاً على الناس , وهو جمع ثقل بالكسر , وذلك حين يكون البعث
__________
(1) - التفسير الحديث - (1 / 3623)(1/894)
والقيام متأثراً ذلك الإخراج عن ذلك الزلزال , كما يتأثر عن زلزال البساط بالنفض إخراج ما في بطنه وطيه وغضونه من وسخ وتراب وغيره , وما كان على ظهرها فهو ثقل لعيها لأنها يعطيها الله قوة إخراج ذلك كله كما كان يعطيها قوة أن تخرج النبت الصغير اللطيف الطري الذي هو أنعم من الحرير فيشق الأرض الصلبة التي تكل عنها المعاول والحديد , ويشق النواة مع ما لها من الصلابة التي تستعصي بها على الحديد فينفلق نصفين وينبت منها منا يريده سبحانه وتعالى , ويفلق قشر الجوز واللوز ونوى الخوخ وغيره ما هو في غاية الصلابة كما نشاهده , ويخرج منه الشجرة بشق الأرض على ضعفه ولينه وصلابتها وبكونه على ظهرها حتى يصير أغلظ شيء واشده , وكذا الحب سواء , فالذي قدر على ذلك هو سبحانه وتعالى قادر على تكوين الموتى في بطن الأرض وإعادتهم على ما كانوا عليه كما يكون الجنين في البطن ويشق جميع منافذه على التحذير من السمع والبصر والفم وغير ذلك من غير أن يدخل إلى هناك بيكار ولا منشار , ثم يخرج من البطن , فكذا إخراج الموتى من غير فرق , كل عليه هين - سبحانه ما أعظم شأنه وأعز سلطانه. ولما كان الإنسان إذا رأى هذا عجب له ولم يدرك سببه لأنه أمر عظيم فظيع يبهر عقله ويضيق عنه ذرعه , عبر عنه بقوله : {وقال الإنسان} أي هذا النوع الصادق بالقليل والكثير لما له من النسيان لما تأكد عنده من أمر البعث بما له من الأنس بنفسه والنظر في عطفه , على سبيل التعجب والدهش أو الحيرة , ويجوز أن يكون القائل الكافر كما يقول : {من بعثنا من مرقدنا} [يس : 52] فيقول له المؤمن : {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} [يس : 52] {ما لها *} أي أيّ شيء للأرض في هذا الأمر الذي لم يعهد مثله.
ولما طال الكلام وأريد التهويل , أبدل من " إذا " قوله معرفاً للإنسان ما سأل عنه : {يومئذ} أي إذ كان ما ذكر من الزلزال وما لزم عنه ونصبه وكذا ما أبدل منه بقوله : {تحدث} أي الأرض بلسان الحال بإخراج ما في بطنها من الموتى والكنوز وغيرها على وجه يعلم الإنسان به لم زلزلت ولم أخرجت , وأن الإنذار بذلك كان حقاً , وقال ابن مسعود رضي الله عنه : تحدث بلسان المقال.
{أخبارها *} أي التي زلزلت وأخرجت ما أخرجت لأجلها , وكل شيء عمل عليها شهادة منها على العاملين فتقول : عمل فلان كذا وكذا - تعدد حتى يود المجرم أنه يساق إلى النار لينقطع عنه تعداد ذلك الذي يلزم منه العار , وتشهد للمؤمن بما عمل حتى يسره ذلك , فيشهد للمؤذن كل ما امتد إليه صوته من رطب ويابس.
ولما كان من المقرر أنه لا يكون شيء إلا بإذنه تعالى , وكان قد بنى الأفعال لما لم يسم فاعله , فكان الجاهل ربما خفي عليه فاعل ذلك قال : {بأن} أي تحدث بسبب أن {ربك} أى المحسن(1/895)
إليك بإحقاق الحق وإزهاق الباطل لإعلاء شأنك {أوحى} وعدل عن حرف النهاية إيذاناً بالإسراع في الإيحاد فقال : {لها *} أي بالإذن في التحديث المذكور بالحال أو المقال.
ولما أخبر تعالى بإخراج الأئقال التي منها الأموات , اشتد التشوف إلى هيئة ذلك الإخراج وما يتأثر عنه , فقال مكرراً ذكر اليوم زيادة في التهويل : {يومئذ} أي إذ كان ما تقدم وهو حين يقوم الناس من القبور {يصدر} أي يرجع رجوعاً هو في غاية السرعة والاهتداء إلى الموضع الذي ينادون منه لا يغلط منهم فيه ولا يضل عنه {الناس} من قبورهم إلى ربهم الذي كان لهم بالمرصاد ليفصل بينهم {أشتاتاً *} أي متفرقين بحسب مراتبهم في الذوات والأحوال من مؤمن وكافر , وآمن وخائف , ومطيع وعاص.
ولما ذكر ذلك , أتبعه علته فقال بانياً للمفعول على طريقة كلام القادرين : {ليروا} أي يرى الله المحسن منهم والمسيء بواسطة من يشاء من جنوده أو بغير واسطة حين يكلم سبحانه وتعالى كل أحد من غير ترجمان ولا واسطة كما أخبر بذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم - {أعمالهم *} فيعلموا جزاءها أو صادرين عن الموقف كل إلى داره ليرى جزاء عمله , ثم سبب عن ذلك قوله مفصلاً التي قبله : {فمن يعمل} من محسن أو مسيء مسلم أو كافر {مثقال} أي مقدار وزن {ذرة خيراً} أي من جهة الخير {يره *} أي حاضراً لا يغيب عنه شيء منه لأن المحاسب له الإحاطة علماً وقدرة , فالكافر يوقف على أنه جوزي به في الدنيا أو أنه أحبط لبنائه على غير أساس الإيمان , فهو صورة بلا معنى ليشتد ندمه ويقوى حزنه وأسفه , والمؤمن يراه ليشتد سروره به.
ولما ذكر الخير , أتبعه ضده فقال : {ومن يعمل} أي كائناً من كان {مثقال ذرة شراً} أي من جهة الشر {يره} فما فوقه , فالمؤمن يراه ويعلم أنه قد غفر له ليشتد فرحه , والكافر يراه فيشتد حزنه وترحه , والذرة النملة الصغيرة أو الهباءة التي ترى طائرة في الشعاع الداخل من الكوة , وقد رجع آخرها على أولها بتحديث الأخبار وإظهار الأسرار , وقد ورد في حديث الأعرابي أن هذه السورة جامعة لهذه الآية الأخيرة , وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إنها أحكم آية في القرآن , وكان رسول الله عليه - صلى الله عليه وسلم - يسميها الفاذة الجامعة , ومن فقه ذلك لم يحقر ذنباً وإن دق لأنه يجتمع إلى أمثاله فيصير كبيراً كما قال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها : "إياك ومحقرات الذنوب , فإن لها من الله طالباً" وروي كما ذكرته في كتابي " مصاعد النظر في الإشراف على مقاصد السور " في حديث "إنها تعدل نصف القرآن" وفي حديث آخر أنها تعدل ربع القرآن , ولا تعارض , فالأول نظر إليها من جهة أن الأحكام تنقسم إلى أحكام الدنيا وأحكام الآخرة , وهذه السورة اشتملت على أحكام الآخرة إجمالاً , وزادت على القارعة بإخراج الأثقال وأن كل أحد يرى كل ما عمل , والثاني نظر إليه باعتبار ما تضمنه الحديث الذي رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله(1/896)
وأني رسول الله بعثني بالحق , ويؤمن بالموت , ويؤمن بالبعث بعد الموت , ويؤمن بالقدر " فاقتضى هذا الحديث أن الإيمان بالبعث الذي قررته هذه السورة ربع الإيمان الكامل الذي دل عليه القرآن , وأيضاً فأمر الدين أربع أجزاء : أمر المعبود , وأمر العبيد , وأمر العبادة على وجه الخصوص والخفاء وإن اكنت على وجه التمام والوفاء , وسورة النصر ربع لأنها لأمر العبادة على وجه العموم والجلاء والظهور والعلاء - والله الهادي للصواب وإليه المآب. (1)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... زُلْزِلَتْ ... تحركت حركة شديدة من أسفلها
2 ... أَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا ... كنوزها وموتاها
3 ... مَا لَهَا ... ماذا جرى لها
4 ... تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ... تخبر بما حدث عليها من خير وشر وتشهد به لأهله
5 ... أَوْحَى لَهَا ... أذن لها بالإخبار أو أمرها أن تخبر
6 ... يَصْدُرُ النَّاسُ ... يرجعون
6 ... أَشْتَاتًا ... فرقا وجماعات
7 ... مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ... وزن نملة صغيرة
المعنى الإجمالي:
حينما يريد اللّه انقضاء الدنيا ، وقيام الساعة ، يأمر الأرض فتتزلزل وتهتز اهتزازا عنيفا لم يكن مألوفا ، وتخرج دفائنها وأثقالها من نار ومياه ومعادن وما بقي من جثث ، عندئذ يقول الإنسان الذي يرى هذا : ما لها ؟ أى : ما الذي حصل للأرض ؟ ! فإن هذا لم يألفه ولم يعرف له سببا ، وفي ذلك الوقت تحدثك الأرض حديثها ، وتنطق بلسان الحال لا بلسان المقال ، كما قال العلامة الطبري في تفسيره : إن هذا تمثيل ، فما وقع للأرض مما لم يكن مألوفا إنما كان بسبب أن ربك أوحى لها ، وأمرها بهذا أمرا تكوينا ، وكل ما يحصل في الكون فهو من قبيل الأمر التكويني من اللّه ، إلا أن هناك أمورا تحصل بلا سبب ظاهرى فتسند للأمر التكويني ، وما يحصل بسبب عادى لا يسند إليه ، وإن كان في الواقع منه ، يومئذ يخرج الناس من قبورهم متفرقين كل على حسب عمله ، ليروا جزاء أعمالهم ، فمن يعمل ما يوازن مثقال ذرة من خير يثب عليه ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر يجاز عليه وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 752)(1/897)
الْقِيامَةِ ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ وهذه السورة سورة ترغيب وترهيب (1)
قال ابن عثيمين : " {إذا زلزلت الأرض زلزالها} المراد بذلك ما ذكره الله تعالى في قوله: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} [الحج: 1، 2]. وقوله: {زلزالها} يعني الزلزال العظيم الذي لم يكن مثله قط، ولهذا يقول الله عز وجل: {ترى الناس سكارى وما هم بسكارى} يعني من شدة ذهولهم وما أصابهم تجدهم كأنهم سكارى، وما هم بسكارى بل هم صحاة، لكن لشدة الهول صار الإنسان كأنه سكران لا يدري كيف يتصرف، ولا كيف يفعل. {وأخرجت الأرض أثقالها} المراد بهم: أصحاب القبور، فإنه إذا نفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم نفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون، يخرجون من قبورهم لرب العالمين عز وجل كما قال الله تبارك وتعالى: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} [المطففين: 6]. {وقال الإنسان مالها} الإنسان المراد به الجنس، يعني أن الإنسان البشر يقول: ما لها؟ أي شيء لها هذا الزلزال؟ ولأنه يخرج وكأنه كما قال الله تعالى: {سكارى} [الحج: 2]. فيقول: ما الذي حدث لها وما شأنها؟ لشدة الهول. {يومئذ} أي في ذلك اليوم إذا زلزلت {تحدث أخبارها} أي تخبر عما فعل الناس عليها من خير أو شر، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن المؤذن إذا أذن فإنه لا يسمع صوته شجر، ولا مدر، ولا حجر، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة، فتشهد الأرض بما صنع عليها من خير أو شر، وهذه الشهادة من أجل بيان عدل الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى لا يؤاخذ الناس إلا بما عملوه، وإلا فإن الله تعالى بكل شيء محيط، ويكفي أن يقول لعباده جل وعلا عملتم كذا وعملتم كذا.. لكن من باب إقامة العدل وعدم إنكار المجرم؛ لأن المجرمين ينكرون أن يكونوا مشركين، قال الله تعالى: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23]. لأنهم إذا رأوا أهل التوحيد قد خلصوا من العذاب ونجوا منه أنكروا الشرك لعلهم ينجون، ولكنهم يختم على أفواههم، وتكلم الأيدي، وتشهد الأرجل والجلود والألسن كلها تشهد على الإنسان بما عمل، وحينئذ لا يستيطع أن يبقى على إنكاره بل يقر ويعترف، إلا أنه لا ينفع الندم في ذلك الوقت. وقوله: {يومئذ تحدث أخبارها} هو جواب الشرط في قوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها}. قوله: {بأن ربك أوحى لها} أي بسبب أن الله أوحى لها، يعني أذن لها في أن تحدث أخبارها، وهو سبحانه وتعالى على كل
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 892)(1/898)
شيء قدير إذا أمر شيئاً بأمر فإنه لابد أن يقع، يخاطب الله الجماد فيتكلم الجماد كما قال الله تعالى: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11]. وقال الله تعالى للقلم اكتب، قال: ربِّ وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. وقال الله تعالى: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} [يس: 65]. فالله عز وجل إذا وجه الكلام إلى شيء ولو جماداً فإنه يخاطب الله ويتكلم ولهذا قال: {يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها} قوله: {يومئذ} يعني يومئذ تزلزل الأرض زلزالها. {يصدر الناس أشتاتاً} أي جماعات متفرقين، يصدرون كل يتجه إلى مأواه، فأهل الجنة ـ جعلنا الله منهم ـ يتجهون إليها، وأهل النار ـ والعياذ بالله ـ يساقون إليها {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً. ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً. لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً} [مريم: 85 ـ 87]. فيصدر الناس جماعات وزمراً على أصناف متباينة تختلف اختلافاً كبيراً كما قال الله تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللاخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً} [الإسراء: 21]. {ليروا أعمالهم} يعني يصدرون أشتاتاً فيروا أعمالهم، يريهم الله تعالى أعمالهم إن خيراً فخير، وإن شًّرا فشر، وذلك بالحساب وبالكتاب، فيعطى الإنسان كتابه إما بيمينه، وإما بشماله، ثم يحاسب على ضوء ما في هذا الكتاب، يحاسبه الله عز وجل، أما المؤمن فإن الله تعالى يخلو به وحده ويقرره بذنوبه ويقول: فعلت كذا، وفعلت كذا وكذا، وفعلت كذا، حتى يقر ويعترف، فإذا رأى أنه هلك، قال الله عز وجل: «إني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم»، وأما الكافر ـ والعياذ بالله ـ فإنه لا يعامل هذه المعاملة بل ينادى على رؤوس الأشهاد {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} [هود: 18]. وقوله: {ليروا أعمالهم} هذا مضاف والمضاف يقتضي العموم وظاهره أنهم يرون الأعمال الصغير والكبير وهو كذلك، إلا ما غفره الله من قبل بحسنات، أو دعاء أو ما أشبه ذلك فهذا يمحى كما قال الله تعالى {إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} [هود: 114]. فيرى الإنسان عمله، يرى عمله القليل والكثير حتى يتبين له الأمر جليًّا ويعطى كتابه ويقال: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 64]. ولهذا يجب على الإنسان أن لا يقدم على شيء لا يرضي الله عز وجل؛ لأنه يعلم أنه مكتوب عليه، وأنه سوف يحاسب عليه. {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شًّرا يره} {من} شرطية تفيد العموم، يعني: أي إنسان يعمل مثقال ذرة فإنه سيراه، سواء من الخير، أو من الشر {مثقال ذرة} يعني وزن ذرة، والمراد بالذرة: صغار النمل كما هو معروف، وليس المراد بالذرة: الذرة المتعارف عليها اليوم كما ادعاه بعضهم، لأن هذه الذرة المتعارف عليها اليوم ليست معروفة في ذلك الوقت، والله عز وجل لا يخاطب الناس إلا بما يفهمون، وإنما ذكر(1/899)
الذرة لأنها مضرب المثل في القلة، كما قال الله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها} [النساء: 40]. ومن المعلوم أن من عمل ولو أدنى من الذرة فإنه سوف يجده، لكن لما كانت الذرة مضرب المثل في القلة قال الله تعالى {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره}.
وقوله تبارك وتعالى: {مثقال ذرة} يفيد أن الذي يوزن هو الأعمال، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم:
فمن العلماء من قال: إن الذي يوزن العمل.
ومنهم من قال: إن الذي يوزن صحائف الأعمال.
ومنهم من قال: إن الذي يوزن هو العامل نفسه.
ولكل دليل، أما من قال: إن الذي يوزن هو العمل فاستدل بهذه الاية {فمن يعمل مثقال ذرة} لأن تقدير الاية فمن يعمل عملاً مثقال ذرة. واستدلوا أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم».
لكن يشكل على هذا أن العمل ليس جسماً يمكن أن يوضع في الميزان بل العمل عمل انتهى وانقضى.
ويجاب عن هذا بأن يقال:
أولاً: على المرء أن يصدق بما أخبر الله تعالى به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من أمور الغيب، وإن كان عقله قد يحار فيه، ويتعجب ويقول كيف يكون هذا؟ فعليه التصديق لأن قدرة الله تعالى فوق ما نتصور، فالواجب على المسلم أن يسلم ويستسلم ولا يقول كيف؟ لأن أمور الغيب فوق ما يتصور.
ثانياً: أن الله تعالى يجعل هذه الأعمال أجساماً توضع في الميزان وتثقل وتخف، والله تعالى قادر على أن يجعل الأمور المعنوية أجساماً، كما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن الموت يؤتى به على صورة كبش ويوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة فيشرئبون ويطلعون ويقال: يا أهل النار فيشرئبون ويطلعون فيقال لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، مع أنه في صورة كبش والموت (معنى) ليس جسماً ولكن الله تعالى يجعله جسماً يوم القيامة، فيقولون: هذا الموت فيذبح أمامهم ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت، وبهذا يزول الإشكال الوارد على هذا القول.
أما من قال: إن الذي يوزن هو صحائف الأعمال فاستدلوا بحديث صاحب البطاقة الذي يؤتى يوم القيامة به، ويقال: انظر إلى عملك فتمد له سجلات مكتوب فيها العمل السيىء، سجلات عظيمة، فإذا رأى أنه قد هلك أتي ببطاقة صغيرة فيها لا إله إلا الله فيقول: يا رب ما هذه(1/900)
البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال له: إنك لا تظلم شيئاً، ثم توزن البطاقة في كفة، والسجلات في كفة، فترجح بهن البطاقة وهي لا إله إلا الله قالوا فهذا دليل على أن الذي يوزن هو صحائف الأعمال.
وأما الذين قالوا: إن الذي يوزن هو العامل نفسه فاستدلوا بحديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان ذات يوم مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهبت ريح شديدة، فقام عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فجعلت الريح تكفئه؛ لأنه نحيف القدمين والساقين، فجعل الناس يضحكون، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «مما تضحكون؟ أو مما تعجبون؟ والذي نفسي بيده إن ساقيه في الميزان أثقل من أحد» وهذا يدل على أن الذي يوزن هو العامل.
فيقال: نأخذ بالقول الأول: أن الذي يوزن العمل، ولكن ربما يكون بعض الناس توزن صحائف أعماله، وبعض الناس يوزن هو بنفسه.
فإن قال قائل: على هذا القول أن الذي يوزن هو العامل هل ينبني هذا على أجسام الناس في الدنيا وأن صاحب الجسم الكبير العظيم يثقل ميزانه يوم القيامة؟
فالجواب: لا ينبني على أجسام الدنيا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة»، وقال: اقرؤا {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً}. [الكهف: 105]. وهذا عبدالله بن مسعود يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إن ساقيه في الميزان أثقل من أحد»، فالعبرة بثقل الجسم أو عدمه، ثقله يوم القيامة بما كان معه من أعمال صالحة. يقول عز وجل: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شًّرا يره}.
وهذه السورة كلها التحذير والتخويف من زلزلة الأرض، وفيها الحث على الأعمال الصالحة، وفيها أن العمل لا يضيع مهما قل، حتى لو كان مثقال ذرة، أو أقل فإنه لابد أن يراه الإنسان ويطلع عليه يوم القيامة. نسأل الله تعالى أن يختم لنا بالخير والسعادة والصلاح والفلاح، وأن يجعلنا ممن يحشرون إلى الرحمن وفداً إنه على كل شيء قدير. " (1)
شرح الآيات آية آية :
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
كَانَ الكُفَّارُ كَثِيراً مَا يَسْأَلُونَ عَنِ السَاعَةِ وَالحِسَابِ ، وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ ، فَذَكَرَ اللهَ تَعَالى فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلاَمَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ .
إِذَا زُلْزِلَت الأَرْضُ وَاضْطَرَبَتْ ، وَتَحَرَّكَتْ مِنْ أَسْفَلِهَا حَرَكَةً شَدِيدَةً
__________
(1) - تفسير القرآن للعثيمين - (37 / 2)(1/901)
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)
وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ مَا فِي جَوْفِهَا مِنْ أَمْوَاتٍ وَسَوَائِلَ مُنْصَهِرَةٍ وَمَعَادِنَ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالى { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ }
وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3)
وَيَقُولُ الأَحْيَاءُ الذِينَ يَشْهَدُونَ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ ، وَهُمْ مَشْدُوهُونَ مِنْ هَوْلِ مَا يَرَوْنِ : مَا الذِي وَقَعَ لِهَذِهِ الأَرْضِ؟ فَبَعْدَ أَنْ كَانَتْ سَاكِنَةً مُسْتَقِرَّةً ، صَارَتْ مُتَحَرِّكَةً مُضْطَرِبَةً ، لَقَدْ أَتَاهَا مِنْ أَمْرِ رَبِّهَا مَا أَتَاهَا .
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)
فإِذَا وَقَعَتِ الزَّلْزَلَةُ ، وَاضْطَرَبَتِ الأَرْضُ ، وَتَحَرَّكَتْ مِنْ أسْفَلِهَا حِينَئِذٍ تُحَدِّثُ الأَرْضُ بِمَا عَمِلَ العَامِلُونَ عَلَى ظَهْرِهَا .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةِ : " قَرَأَ رَسُولُ اللهِ هَذِهِ الآيَةَ ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ) ، وَقَالَ : أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟ قَالُوا : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ فَإِنَّ أَخبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدِ وَكُلِّ أَمَةٍ بِمَا عَمِلاَ عَلَى ظَهْرِهَا ، أَنْ تَقُولَ عَمِلَ كَذَا وَكَذَا فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا . فَهِذِهِ أَخْبَارُهَا " ( رَوَاهُ البُخَارِيُّ ) .
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)
وَقَدْ حَدَثَ كُلُّ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمرَهَا بِأَنْ تَتَزَلْزَلَ وَتَنْشَقَّ وَتَتَحَدَّثَ بِمَا فَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى ظَهْرِهَا فَأَطَاعَتْ أَمْرَ رَبِّهَا .
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)
وَيَوْمَ تَتَزَلْزَلُ الأَرْضُ ، وَتَنْدَكُّ ، وَيَبْعَثُ اللهُ تَعَالَى المَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ ، وَيَجْمَعُهُمْ لِلْحِسَابِ وَيَقْضِي بَيْنَهُمْ بِعَدْلِهِ المُطْلَق ، فَيَرْجِعُ النَّاسُ عَنْ مَوْقِفِ الحِسَابِ ( يَصْدُرُ النَّاسُ ) أَصْنَافاً مُتَمَايِزِينَ ، فَيَكُونُ المُحْسِنُونَ مَعاً ، فِي طَرِيقِهِمْ إِلى دَار المَثُوَبَةِ ، وَيَكُونُ الطُّغَاةُ المُجْرِمُون وَالمُسيئُونَ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى دَارِ العُقُوبَةِ لِيُلاَقُوا جَزَاءَ مَا عَمِلُوهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا .
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)
فَمَنْ عَمِلَ عَمَلَ خَيْرٍ فَإِنَّهُ سَيَجِدُ ثَوَابَهُ مَهْمَا كَانَ حَقِيراً ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ فِي وَزْنِ الذَّرَّةِ
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
وَمَنْ عَمِلَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ سُوءٍ فَإنَّهُ وَاجِدٌ جَزَاءَهُ عِنْدَ رَبِّهِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ
التفسير والبيان :
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها أي إذا تحركت الأرض من أسفلها حركة شديدة ، واضطربت اضطرابا هائلا حتى يتكسر كل شيء عليها ، كما قال تعالى : يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ(1/902)
زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج 22/ 1] وقال سبحانه : إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا [الواقعة 56/ 4].
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ألقت ما في جوفها من الأموات والدفائن ، كما قال تعالى : وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ [الانشقاق 84/ 3- 4].
وأخرج مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « تَقِىءُ الأَرْضُ أَفْلاَذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَيَجِىءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ فِى هَذَا قَتَلْتُ .وَيَجِىءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ فِى هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِى. وَيَجِىءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ فِى هَذَا قُطِعَتْ يَدِى ثُمَّ يَدَعُونَهُ فَلاَ يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا ». (1) .
وتخرج الأرض الأموات في النفخة الثانية.
وَقالَ الْإِنْسانُ : ما لَها ؟ أي قال كل فرد من أفراد الإنسان لما يبهره أمرها ويذهله خطبها : ما لهذه الأرض ، ولأي شيء زلزلت ، وأخرجت أثقالها ؟
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها أي في ذلك الوقت المضطرب ، وقت الزلزلة ، تخبر الأرض بأخبارها ، وتحدّث بما عمل عليها من خير وشر ، ينطقها اللَّه سبحانه ، لتشهد على العباد. قال ابن عباس في الآية : قال لها ربها : قولي ، فقالت.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَرَأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذِهِ الآيَةَ : {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة] ، قَالَ : أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ ، وَأَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا ، أَنْ تَقُولَ : عَمِلَ كَذَا وَكَذَا فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا."صحيح ابن حبان (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذِهِ الآيَةَ : يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ، قَالَ : أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا ، أَنْ تَقُولَ : عَمِلَ عَمَلَ كَذَا فِي يَوْمِ كَذَا ، فَهَذِهِ أَخْبَارَهَا " (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذِهِ الآيَةَ : يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ، قَالَ : أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ
__________
(1) - صحيح مسلم (2388 ) -الأفلاذ : جمع فلذ جمع فلذة وهى القطعة المقطوعة طولا والمراد تخرج كنوزها
(2) - صحيح ابن حبان - (16 / 360) (7360) حسن لغيره
(3) - المستدرك للحاكم (3012) حسن لغيره(1/903)
عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا أَنْ تَقُولَ : عَمِلَ كَذَا ، أَوْ كَذَا فِي يَوْمِ كَذَا ، وَكَذَا فَذَلِكَ أَخْبَارُهَا " (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذِهِ الآيَةَ (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) قَالَ « أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا ». قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا تَقُولُ عَمِلَ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا » (2) .
وعن رَبِيعَةَ الْجُرَشِيِّ ، أِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : اسْتَقِيمُوا وَنِعِمَّا إِنِ اسْتَقَمْتُمْ ، وحَافِظُوا عَلَى الْوُضُوءِ ، فَإِنَّ خَيْرَ عَمَلِكُمُ الصَّلاةُ ، وتَحَفَظُّوا مِنَ الأَرْضِ فَإِنَّهَا أُمُّكُمْ ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ عَامِلٍ عَلَيْهَا خَيْرًا أَوْ شَرًّا إِلا وَهِي مُخْبِرَةٌ ." (3)
وقال الطبري : إن هذا تمثيل ، والمراد أنها تنطق بلسان الحال ، لا بلسان المقال.
ثم أبان اللَّه تعالى مصدر هذه الواقعة ، فقال : بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها أي تحدّث أخبارها بوحي اللَّه وإذنه لها بأن تتحدث وتشهد. فقوله : أَوْحى لَها أي أذن لها وأمرها ، أو أوحى إليها أي ألهمها.
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ أي في هذا اليوم المضطرب وفي يوم الخراب المدمر ، يصدر الناس من قبورهم إلى موقف الحساب ، مختلفي الأحوال ، فبعضهم آمن ، وبعضهم خائف ، وبعضهم بلون أهل الجنة ، وبعضهم بلون أهل النار ، ليريهم اللَّه أعمالهم معروضة عليهم. هذا ما يراه بعض المفسرين كالشوكاني. فالصدر على هذا الرأي : هو قيامهم للبعث بعد أن كانوا مدفونين في الأرض ، وأَشْتاتاً فرقا مؤمن وكافر وعاص ، سائرون إلى العرض ، ليروا أعمالهم.
وقال آخرون كابن كثير : يرجعون عن موقف الحساب أشتاتا ، أي أنواعا وأصنافا ، ما بين شقي وسعيد ، مأمور به إلى الجنة ، ومأمور به إلى النار ،ليجازوا بما عملوه في الدنيا من خير وشر ، فيكون المراد بقوله : لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ ليروا جزاء أعمالهم وهو الجنة والنار ، ولهذا قال :
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ أي فمن يعمل في الدنيا وزن نملة صغيرة أو هباء لا يرى إلا في ضوء الشمس ، والمراد أي عمل مهما كان صغيرا ، فإنه يجده يوم القيامة في كتابه ، ويلقى جزاءه ، فيفرح به ، أو يراه بعينه معروضا عليه. وكذلك من يعمل في الدنيا أي شيء من الشر ولو كان حقيرا أو قليلا ، يجد جزاءه يوم القيامة ، فيسوؤه. والذرّ كما تقدم : ما يرى في شعاع الشمس من الهباء ، أو هو النملة الصغيرة.
__________
(1) - المستدرك للحاكم (3965) حسن لغيره
(2) - سنن الترمذى(3677 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وهو حسن لغيره
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (4 / 455) (4462) حسن(1/904)
ونظير الآية قوله تعالى : وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ، أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء 21/ 47] وقوله سبحانه : وَوُضِعَ الْكِتابُ ، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ، وَيَقُولُونَ : يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف 18/ 49].
وفي صحيح البخاري عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ سَمِعْتُ عَدِىَّ بْنَ حَاتِمٍ - رضى الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ » (1) .
وعَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّارَ فَأَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثُمَّ قَالَ « اتَّقُوا النَّارَ ». ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ كَأَنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا ثُمَّ قَالَ « اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ ». (2)
وعَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ ذَكَرَ النَّارَ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ ثُمَّ قَالَ « اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ ». (3)
وفي الصحيح عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ ». (4)
وعَنْ عَقِيلِ بْنِ طَلْحَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو جُرَيٍّ الْهُجَيْمِيُّ ، قَالَ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَعَلِّمْنَا شَيْئًا يَنْفَعُنَا اللَّهُ بِهِ ، فقَالَ : لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي ، وَلَوْ أَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ ، وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الإِزَارِ ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمَخِيلَةِ ، وَلاَ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ ، فَلاَ تَشْتُمْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ ، فَإِنَّ أَجْرَهُ لَكَ ، وَوَبَالَهُ عَلَى مَنْ قَالَهُ. (5)
وعَنْ أَبِي جُرَيٍّ الْهُجَيْمِيِّ، أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى قَعُودٍ لِي شَدَدْتُهُ بِالْمَسْجِدِ، وَدَخَلْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بُرْدَتَيْنِ لَهُ، فَقُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلَامُ، فَقَالَ: " عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى "، فَقُلْتُ: إِنَّا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ، وَفِينَا جَفَاءٌ ، لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللهُ، قَالَ: " لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ
__________
(1) - صحيح البخارى (1417 )
(2) - صحيح مسلم (2396)
(3) - صحيح مسلم -(2397 )
(4) - صحيح مسلم (6857 )
(5) - صحيح ابن حبان - (2 / 281) (522) حسن
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : الأَمْرُ بِتَرْكِ اسْتِحْقَارِ الْمَعْرُوفِ أَمْرٌ قُصِدَ بِهِ الإِرْشَادُ وَالزَّجْرُ عَنْ إِسْبَالِ الإِزَارِ زَجْرُ حَتْمٍ لِعِلَّةٍ مَعْلُومَةٍ وَهِيَ الْخُيَلاَءُ ، فَمَتَى عُدِمَتِ الْخُيَلاَءُ ، لَمْ يَكُنْ بِإسْبَالِ الإِزَارِ بَأْسٌ وَالزَّجْرُ عَنِ الشَّتِيمَةِ إِذَا شُوتِمَ الْمَرْءُ ، زَجْرٌ عَنْهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَقَبْلَهُ ، وَبَعْدَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُشْتَمْ.(1/905)
تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ " أَظُنُّهُ، قَالَ: " وَلَا تَسُبَّنَّ شَيْئًا " قَالَ أَبُو جُرَيٍّ: " فَوَالَّذِي ذَهَبَ بِنَفْسِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ شَيْئًا، وَلَا بَعِيرًا، وَلَا غُلَامًا، وَإِيَّاكَ والْإِسْبَالَ، فَإِنَّهَا مِنَ الْخُيَلَاءِ ، وَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخُيَلَاءَ " (1)
وفي الصحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا ، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ » (2) .
وعَنْ عَمْرِو بْنِ مُعَاذٍ الأَنْصَارِيِّ : أَنَّ سَائِلا وَقَفَ عَلَى بَابِ بَيْتِهِمْ ، فَقَالَتْ جَدَّتُهُ : أَطْعِمُوهُ ، فَقَالُوا : لَيْسَ قَالَتْ : فَاسْقُوهُ سَوِيقًا ، قَالُوا : لَيْسَ عِنْدَنَا الْعَجَبُ ، أنستطيعُ أَنْ نُطْعِمَ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا فَقَالَتْ : إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ : رَدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ" (3)
وعَنِ ابْنِ بُجَيْدٍ الأَنْصَارِيِّ ، عَنْ جَدَّتِهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ." (4)
أخرج الإمام أحمد عن عائشة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : « يا عائشة استتري من النار ، ولو بشق تمرة ، فإنها تسدّ من الجائع مسدّها من الشبعان » .
وعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: " فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ " ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُجْزَى بِمَا عَمِلْتُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةِ مِنْ شَرٍّ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا رَأَيْتَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا تَكْرَهُ فَبِمَثَاقِيلِ ذَرِّ الشَّرِّ، وَيَدَّخِرُ اللَّهُ لَكَ مَثَاقِيلَ ذَرِّ الْخَيْرِ حَتَّى تُوَفَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (5)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ : بَيْنَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَأْكُلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ ، وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي لَرَاءٍ مَا عَمِلْتُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ شَرٍّ ، فَقَالَ : " يَا أَبَا بَكْرٍ ، أَرَأَيْتَ مَا تَرَى فِي الدُّنْيَا مِمَّا تَكْرَهُ فَبِمَثَاقِيلِ ذَرِّ الشَّرِّ ، وَيُدَّخَرُ لَكَ مَثَاقِيلُ ذَرِّ الْخَيْرِ حَتَّى تَوَفَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (6) وأخرج ابن جرير عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، أَنَّهُ قَالَ : أُنْزِلَتْ : إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَبُو بَكْرٍ
__________
(1) - شعب الإيمان - (10 / 398) (7690) حسن
(2) - صحيح البخارى (2566) وصحيح مسلم (2426 ) -الفرسن : الفرسن للبعير كالحافر للفرس
(3) - الآحاد والمثاني - (5 / 529) (381) حسن
(4) - صحيح ابن حبان - (8 / 167) (3374) صحيح
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - رُدُّوا السَّائِلَ قَصْدُ زَجْرٍ بِلَفْظِ الأَمْرِ ، يُرِيدُ بِهِ لاَ تَرُدُّوا السَّائِلَ إِلاَّ بِشَيْءٍ وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ.
(5) - تفسير ابن أبي حاتم - (12 / 440) فيه ضعف
(6) - الْمُعْجَمُ الْأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيّ(8643 ) ضعيف(1/906)
الصِّدِّيقُ قَاعِدٌ ، فَبَكَى حِينَ أُنْزِلَتْ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ؟ " قَالَ : يُبْكِينِي هَذِهِ السُّورَةُ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَوْلَا أَنَّكُمْ تُخْطِئُونَ وَتُذْنِبُونَ فَيَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ، لَخَلَقَ اللَّهُ أُمَّةً يُخْطِئُونَ وَيُذْنِبُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ " فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تُنَبِّئُ عَنْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِنَّمَا يَرَى عُقُوبَةَ سَيِّئَاتِهِ فِي الدُّنْيَا ، وَثَوَابَ حَسَنَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ ، وَأَنَّ الْكَافِرَ يَرَى ثَوَابَ حَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا ، وَعُقُوبَةَ سَيِّئَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ ، وَأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ مَا سَلَفَ لَهُ مِنْ إِحْسَانٍ فِي الدُّنْيَا مَعَ كُفْرِهِ (1) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فِي قَوْلِهِ : " فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ " قَالَ : " لَيْسَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا كَافِرٌ عَمِلَ خَيْرًا وَلَا شَرًّا ، فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَرَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُرِيَهُ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ فَيَغْفِرُ لَهُ مِنْ سَيِّئَاتِهِ وَيُثِيبُهُ بِحَسَنَاتِهِ ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُرِيَهُ حَسَنَاتِهِ ، وَسَيِّئَاتِهِ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ حَسَنَاتَهُ ، وَيُعَذِّبُهُ بِسَيِّئَاتِهِ " (2) .
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ ، أَنَّهُ قَالَ : " أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَرَى حَسَنَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَرَى حَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا " (3)
وعَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ ، أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُدْعَانَ ، كَانَ يَصِلُ الرَّحِمَ ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ ، وَيَفُكُّ الْعَانِي ، فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهُ شَيْئًا ؟ قَالَ : " لَا ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا : رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ " (4)
وعَنْ عَلْقَمَةَ ، أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ يَزِيدَ الْجُعْفِيَّ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ أُمَّنَا هَلَكَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، كَانَتْ تَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ ، فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهَا شَيْئًا ؟ قَالَ : " لَا " (5)
وعَنْ سَلَمَةَ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ ، قَالَ : ذَهَبْتُ أَنَا وَأَخِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ أَمَّنَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ ، هَلْ يَنْفَعُهَا عَمَلُهَا ذَلِكَ شَيْئًا ؟ قَالَ : " لَا " (6)
وعلى هذا يعاقب الكافر بسبب كفره ، وأما حسناته فتنفعه في الدنيا ، كدفع شر أو ضرر عنه ، وأما في الآخرة فلا تفيده ، ولا تنجيه من عذاب الكفر الذي يخلد به في النار ، قال تعالى : وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان 25/ 23].
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (35051 ) حسن
(2) - الْبَعْثُ وَالنُّشُورُ لِلْبَيْهَقِيِّ (53 ) حسن
(3) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (35047 ) صحيح
(4) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (35044 ) صحيح
(5) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (35045 ) صحيح
(6) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (35046 ) صحيح(1/907)
ومضات :
قال الإمام : أي : ومن يعمل من الخير أدنى عمل وأصغره ، فإنه يراه ويجد جزاءه ، لا فرق في ذلك بين المؤمن والكافر . غاية الأمر أن حسنات الكفار الجاحدين لا تصل بهم إلى أن تخلصهم من عذاب الكفر ، فهم به خالدون في الشقاء . والآيات التي تنطق بحبوط أعمال الكفار ، وأنها لا تنفعهم ، معناها هو ما ذكرنا ، أي : أن عملاً من أعمالهم لا ينجيهم من عذاب الكفر ، وإن خفف عنهم بعض العذاب الذي كان يرتقبهم ، على بقية السيئات الأخرى ، أما عذاب الكفر نفسه فلا يخفف عنهم منه شيء ، كيف لا ، والله جل شأنه يقول : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] .
ثم قال الغزالي : ولا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذِكر سوى ما يوسوس به ؛ لأنه إذا خطر في القلب ذكر شيء انعدم منه ما كان من قبل . ولكن كل شيء سوى الله تعالى وسوى ما يتعلق به ، فيجوز أيضاً أن يكون مجالاً للشيطان . وذكر الله تعالى هو الذي يؤمن جانبه ويعلم أنه ليس للشيطان فيه مجال ، ولا يعالج الشيء إلا بضده . وضد جميع وساوس الشيطان ذكر الله بالاستعاذة والتبرؤ عن الحَوْل والقوة ، وهو معنى قولك : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وذلك لا يقدر عليه إلا المتَّقون الغالب عليهم ذِكْرُ الله تعالى ، وإنما الشيطان يطوف عليهم في أوقات الفلتات على سبيل الخلسة . قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [ الأعراف : 201 ] .
ثم قال : فالوسوسة هي هذه الخواطر ، والخواطر معلومة ؛ فإذن الوسواس معلوم بالمشاهدة ، وكل خاطر فله سبب ، ويفتقر إلى اسم يعرّفه ، فاسم سببهُ الشيطان ، ولا يتصور أن ينفك عنه آدميّ ، وإنما يختلفون بعصيانه ومتابعته ؛ فقد اتضح بهذا النوع من الاستبصار معنى الوسوسة والإلهام ، والملك والشيطان والتوفيق والخذلان . انتهى . (1)
قوله تعالى : « إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها ؟ » هذا من إرهاصات يوم البعث والنشور ، حيث تزلزل الأرض وتضطرب ، وهذا الزلزال الذي سيقع لها يوم البعث ، هو زلزال خاص بهذا اليوم ، ولهذا أضيف إليها فى قوله تعالى « زلزالها » وكأنه هو الزلزال الوحيد الذي تزلزله ،« إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ » (1 : الحج). أما ما يحدث من زلزال للأرض فيما قبل هذا الزلزال ، فلا حساب له ، إذا نظر له من خلال هذا هذا الزلزال العظيم ..
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 295)(1/908)
وفى هذا اليوم تخرج الأرض أثقالها ، أي ما حملت فى بطنها من أموات ، فكأنها تلدهم من جديد ، كما تلد الأم أبناءها ، بعد أن يتم حملها ، وتثقل به بطنها .. كما يقول سبحانه : « فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ » (189 : الأعراف) ..
وقوله تعالى : « وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها » ؟ هو سؤال عجب ودهش ، يسأله الإنسان نفسه بعد أن تلفظه الأرض من بطنها ، وتلقى به على ظهرها .. إنه ينكر هذا الذي حدث .. لقد كان فى بطن الأرض ، فماذا أخرجه منها ؟ وماذا يراد به ؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا » ؟ (51 ـ 52 يس).
وقوله تعالى : « يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها » ـ هو جواب الشرط « إذا » فى قوله تعالى : « إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها » أي فى هذا اليوم ، يوم البعث والنشور ، الذي تزلزل فيه الأرض ـ تحدث الأرض « أخبارها » أي تظهر الأرض أخبارها التي كانت مكنونة فى صدرها ..
وفى التعبير عن إظهار أخبارها بالتحديث ـ إشارة إلى أن أحداثها التي يراها الناس يومئذ ، هى أبلغ حديث ، وأظهر بيان ، فهو شواهد ناطقة بلسان الحال ، أبلغ من لسان المقال ..وفى التعبير عن خبء الأرض ، وما تخرجه من بطنها بلفظ الأخبار ـ إشارة أخرى إلى أن هذه الأسرار المضمرة التي كانت مخبوءة فى صدر الأرض ، قد أعلنت وأصبحت أخبارا يعلمها الناس جميعا .. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم بقوله ، وقد سئل صلوات اللّه وسلامه عليه عن معنى قوله تعالى : « يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ».. فقال : « أتدرون ما أخبارها » ؟ قالوا : اللّه ورسوله أعلم. قال : « أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها ..تقول عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا .. »
وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى : « يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها » أي تنشر أخبارها ، وتظهر أسرارها ، وتخرج خبأها ..
«إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها ، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ، وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها ، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ».. فالضمير « ها » الذي يعود إلى الأرض فى « زلزالها » و« أثقالها » و« ما لها » و« أخبارها » يشير إلى أمور خاصة بالأرض فى هذا اليوم ، يوم ينفخ فى الصور ، للبعث والنشور .. فللأرض فى هذا اليوم زلزالها الذي ينتظرها ، ولها أثقالها التي تخرجها ، ولها هذا التساؤل الذي يتساءله الناس عنها ، ولها حديثها الذي تحدثه للناس ، وعن الناس ، فى هذا اليوم الموعود.(1/909)
وليس هذا الذي رآه الناس من أحداث الأرض يومئذ هو من تلقاء نفسها ، وإنما ذلك بما أوحى به إليها ربّها ، وما أمرها اللّه به ، فامتثلت له ، وأمضته كما أمر اللّه ..
وفى قوله تعالى : « أوحى لها » ـ إشارة إلى أنها بمجرد الإشارة إليها من اللّه ، خضعت لمشيئة اللّه .. فلم تكن فى خضوعها لربها محتاجة لأن يردّد عليها القول ، أو يؤكد لها الأمر .. بل هو مجرد اللمح والإشارة .. وهذا هو شأن الخاضع المطيع ، الذي لا إرادة له مع من يأمره .. إنه لا يحتاج إلى أمر صريح مؤكد ، بل تغنى الإشارة عن العبارة ..
فالوحى هنا ، هو التلميح ، دون التصريح ، والإشارة دون العبارة .. وهذا من معنى قوله تعالى : « وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ » أي حق ووجب عليها الامتثال والطاعة.
قوله تعالى : « يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ ».
أي فى هذا اليوم ، يوم البعث ، يصدر الناس ، أي يجىء الناس ، صادرين من قبورهم « أشتاتا » أي أفرادا ، متفرقين ، كأنهم جراد منتشر ، إلى حيث يردون على المحشر فى موقف الحساب .. فللناس فى هذا اليوم صدور ، وورود ..
صدور من القبور ، وورود إلى المحشر.
وقوله تعالى : « لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ » هو تعليل لهذا الصدور ، أي وذلك ليروا أعمالهم التي عملوها فى الدنيا. « يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ ». وقوله تعالى : « فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ».أي فمن يعمل فى هذه الدنيا مثقال ذرة من خير ، يره خيرا فى الآخرة ، ومن يعمل فى دنياه مثقال ذرة من شر ، يره شرا يوم القيامة .. فليس المراد برؤية الأعمال تجرد الرؤية ، وإنما المراد هو ماوراء هذه الأعمال من جزاء .. فالعمل الطيب إذا رآه صاحبه سرّ به ، ورأى فى وجهه البشير الذي يحمل إليه رحمة اللّه ورضوانه فى هذا اليوم العظيم .. والعمل السيء إذا رآه صاحبه حاضرا بين يديه فى مقام الحساب ، ساءه ذلك ، وملأ نفسه حسرة وغما ، إذ كان هو الشاهد الذي يشهد بتأثيمه وتجريمه.
ومثقال الذرة : وزنها.والذرة : هباءة من غبار ، لا ترى إلا فى ضوء الشمس المتسلل من كوّة فى مكان مظلم .. وعن ابن عباس : الذرّ ما يلتصق بيدك إذا مست التراب. (1)
إنه يوم القيامة حيث ترتجف الأرض الثابتة ارتجافاً ، وتزلزل زلزالا ، وتنفض ما في جوفها نفضاً ، وتخرج ما يثقلها من أجساد ومعادن وغيرها مما حملته طويلاً . وكأنها تتخفف من هذه الأثقال ، التي حملتها طويلاً!
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1649)(1/910)
وهو مشهد يهز تحت أقدام المستمعين لهذه السورة كل شيء ثابت؛ ويخيل إليهم أنهم يترنحون ويتأرجحون ، والأرض من تحتهم تهتز وتمور! مشهد يخلع القلوب من كل ما تتشبث به من هذه الأرض ، وتحسبه ثابتاً باقياً؛ وهو الإيحاء الأول لمثل هذه المشاهد التي يصورها القرآن ، ويودع فيها حركة تكاد تنتقل إلى أعصاب السامع بمجرد سماع العبارة القرآنية الفريدة!
ويزيد هذا الأثر وضوحاً بتصوير « الإنسان » حيال المشهد المعروض ، ورسم انفعالاته وهو يشهده :{ وقال الإنسان : ما لها؟ } . .
وهو سؤال المشدوه المبهوت المفجوء ، الذي يرى ما لم يعهد ، ويواجه ما لا يدرك ، ويشهد ما لا يملك الصبر أمامه والسكوت . مالها؟ ما الذي يزلزلها هكذا ويرجها رجا؟ مالها؟ وكأنه يتمايل على ظهرها ويترنح معها؛ ويحاول أن يمسك بأي شيء يسنده ويثبته ، وكل ما حوله يمور موراً شديداً!
« والإنسان » قد شهد الزلازل والبراكين من قبل . وكان يصاب منها بالهلع والذعر ، والهلاك والدمار ، ولكنه حين يرى زلزال يوم القيامة لا يجد أن هناك شبهاً بينه وبين ما كان يقع من الزلازل والبراكين في الحياة الدنيا . فهذا أمر جديد لا عهد للإنسان به . أمر لا يعرف له سراً ، ولا يذكر له نظيراً . أمر هائل يقع للمرة الأولى!
{ يومئذ } . . يوم يقع هذا الزلزال ، ويُشدَه أمامه الإنسان { تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها } . . يومئذ تحدث هذه الأرض أخبارها ، وتصف حالها وما جرى لها . . لقد كان ما كان لها { بأن ربك أوحى لها } . . وأمرها أن تمور موراً ، وأن تزلزل زلزالها ، وأن تخرج أثقالها! فأطاعت أمر ربها { وأذنت لربها وحقت } تحدث أخبارها . فهذا الحال حديث واضح عما وراءه من أمر الله ووحيه إليها . .
وهنا و { الإنسان } مشدوه مأخوذ ، والإيقاع يلهث فزعاً ورعباً ، ودهشة وعجبا ، واضطراباً وموراً . . هنا و { الإنسان } لا يكاد يلتقط أنفاسه وهو يتساءل : مالها مالها؟ هنا يواجه بمشهد الحشر والحساب والوزن والجزاء : { يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم .
فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره . ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } .
وفي لمحة نرى مشهد القيام من القبور : { يومئذ يصدر الناس أشتاتاً } . . نرى مشهدهم شتيتاً منبعثاً من أرجاء الأرض { كأنهم جراد منتشر } . . وهو مشهد لا عهد للأنسان به كذلك من قبل . مشهد الخلائق في أجيالها جميعاً تنبعث من هنا ومن هناك : { يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً } وحيثما امتد البصر رأى شبحاً ينبعث ثم ينطلق مسرعاً! لا يلوي على شيء ، ولا ينظر وراءه ولا حواليه : { مهطعين إلى الداع } ممدودة رقابهم ، شاخصة أبصارهم . { لكل(1/911)
امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } إنه مشهد لا تعبر عن صفته لغة البشر . هائل مروّع . مفزع . مرعب . مذهل . .
كل أولئك وسائر ما في المعجم من أمثالها لا تبلغ من وصف هذا المشهد شيئاً مما يبلغه إرسال الخيال قليلاً يتملاه بقدر ما يملك وفي حدود ما يطيق!
{ يومئذ يصدر الناس أشتاتاً } . . { ليروا أعمالهم } . . وهذه أشد وأدهى . . إنهم ذاهبون إلى حيث تعرض عليهم أعمالهم ، ليواجهوها ، ويواجهوا جزاءها . ومواجهة الإنسان لعمله قد تكون أحياناً أقسى من كل جزاء . وإن من عمله ما يهرب من مواجهته بينه وبين نفسه ، ويشيح بوجهه عنه لبشاعته حين يتمثل له في نوبة من نوبات الندم ولذع الضمير . فكيف به وهو يواجه بعمله على رؤوس الأشهاد ، في حضرة الجليل العظيم الجبار المتكبر؟!
إنها عقوبة هائلة رهيبة . . مجرد أن يُروا أعمالهم ، وأن يواجهوا بما كان منهم!
ووراء رؤيتها الحساب الدقيق الذي لا يدع ذرة من خير أو من شر لا يزنها ولا يجازي عليها .
{ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره . ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } . .ذرة . . كان المفسرون القدامى يقولون : إنها البعوضة . وكانوا يقولون : إنها الهباءة التي ترى في ضوء الشمس . . فقد كان ذلك أصغر ما يتصورون من لفظ الذرة . . .
فنحن الآن نعلم أن الذرة شيء محدد يحمل هذا الاسم ، وأنه أصغر بكثير من تلك الهباءة التي ترى في ضوء الشمس ، فالهباءة ترى بالعين المجردة . أما الذرة فلا ترى أبداً حتى بأعظم المجاهر في المعامل . إنما هي « رؤيا » في ضمير العلماء! لم يسبق لواحد منهم أن رآها بعينه ولا بمجهره . وكل ما رآه هو آثارها!
فهذه أو ما يشبهها من ثقل ، من خير أو شر ، تحضر ويراها صاحبها ويجد جزاءها! . .
عندئذ لا يحقر « الإنسان » شيئاً من عمله . خيراً كان أو شراً . ولا يقول : هذه صغيرة لا حساب لها ولا وزن . إنما يرتعش وجدانه أمام كل عمل من أعماله ارتعاشه ذلك الميزان الدقيق الذي ترجح به الذرة أو تشيل!
إن هذا الميزان لم يوجد له نظير أو شبيه بعد في الأرض . . إلا في القلب المؤمن . .
القلب الذي يرتعش لمثقال ذرة من خير أو شر . . وفي الأرض قلوب لا تتحرك للجبل من الذنوب والمعاصي والجرائر . .
ولا تتأثر وهي تسحق رواسي من الخير دونها رواسي الجبال ..
إنها قلوب عتلة في الأرض ، مسحوقة تحت أثقالها تلك في يوم الحساب!! (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3954)(1/912)
ما ترشد إليه الآياتُ
1 - تقرير عقيدة البعث والجزاء .
2 - من أمارات الساعة : الزلزلة الشديدة للأرض ، وإخراج الأرض أثقالها ، أي ما في جوفها من الدفائن والأموات. قالوا : إنها عند النفخة الأولى تتزلزل ، فتلفظ بالكنوز والدفائن ، وعند النفخة الثانية ترجف فتخرج الأموات أحياء ، كالأم تلد حيا.
3 - تشهد الجمادات على الإنسان بما فعل من خير شر .
4 - تُمحَّصُ الصدور ويخرج ما فيها وتجازى عليها .
5- في يوم الزلزلة يذهب الناس من مخارج قبورهم إلى الموقف ، بعضهم إثر بعض
6- لا شك بأن الإنسان في وقت الزلازل والبراكين يرتجف ويخاف ويتساءل : ما للأرض زلزلت ، ما لها أخرجت أثقالها ؟ وهي كلمة تعجيب.
7- إذا زلزلت الأرض تخبر يومئذ بما عمل عليها من خير أو شر ، ومعنى تحديث الأرض عند أبي مسلم الأصفهاني : يومئذ يتبين لكل أحد جزاء عمله ، فكأنها حدثت بذلك ، كقولك : الدار تحدثنا بأنها كانت مسكونة ، فكذا انتقاض الأرض بسبب الزلزلة تحدث أن الدنيا قد انقضت ، وأن الآخرة قد أقبلت.
وقال الطبري : تبين أخبارها بالرّجة والزلزلة وإخراج الموتى.
وقال الجمهور : المعنى أن اللَّه تعالى يجعل الأرض حيوانا عاقلا ناطقا ويعرفها جميع ما عمل أهلها ، فحينئذ تشهد لمن أطاع ، وعلى من عصى ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ الْأَرْضَ لَتُخْبِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِكَلِّ عَمَلٍ عُمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا "، وَقَرَأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : { إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا } [الزلزلة: 1]، فَتَلَاهَا حَتَّى بَلَغَ: { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } [الزلزلة: 4]، " أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا ؟ جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: خَبَرُهَا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَخْبَرَتْ بِكَلِّ عَمَلٍ عُمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا " (1) .
8- الذي تخبر به الأرض : إما أعمال العباد على ظهرها ، كما جاء عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذِهِ الآيَةَ (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) قَالَ « أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا ». قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا تَقُولُ عَمِلَ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا ». (2) .
__________
(1) - شعب الإيمان - (9 / 420) (6913 ) ضعيف
(2) - سنن الترمذى (3677 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.!!!(1/913)
أو أنها تخبر بما أخرجت من أثقالها ، كما جاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " إِذَا كَانَ أَجَلُ الْعَبْدِ بِأَرْضٍ أَوْثَبَتْهُ إِلَيْهَا حَاجَةٌ حَتَّى يَبْلُغَ أَقْصَى أَثَرَهُ ، فَيُقْبَضَ ، فَتَقُولُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : هَذَا عَبْدُكَ مَا اسْتَوْدَعْتَنِي " (1) .
أو أنها تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان : ما لها ؟ وهذا قول ابن مسعود ، فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى ، وأمر الآخرة قد أتى ، فيكون ذلك منها جوابا لهم عند سؤالهم ، ووعيدا للكافر ، وإنذارا للمؤمن (2) .
9- في يوم الزلزلة يذهب الناس من مخارج قبورهم إلى الموقف ، بعضهم إثر بعض ، أو يرجعون وينصرفون من موقف الحساب إلى موضع الثواب والعقاب فرقا فرقا ، ليروا صحائف أعمالهم ، أو جزاء أعمالهم وهو الجنة أو النار ، وما يناسب كلّا منهما.
10- كل من يعمل في الدنيا عملا خيرا صغيرا أو كبيرا ، يره بعينه أو يره اللَّه إياه يوم القيامة ، وكل من يعمل في الدنيا عملا شرا مهما كان قليلا ، يره بنفسه أو يره اللَّه إياه يوم القيامة. أو أن المراد : يجد جزاءه إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
أما الكافر كما تقدم فحسناته في الآخرة محبطة بكفره وترد في وجهه ، ويجد عقاب ما فعل من كفر أو شر ، فيعذب بسيئاته ، أي أن عموم الآية قائم ، ولكن لا تقبل حسنات الكفار.
قال ابن مسعود عن آية : فَمَنْ يَعْمَلْ .. : هذه أحكم آية في القرآن.
وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية. عَنْ كَعْبٍ ، أَنَّهُ قَالَ : فِي الْقُرْآنِ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - آيَتَانِ أَحْصَتَا مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَلَا تَجِدُونَ : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ قَالَ جُلَسَاؤُهُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَإِنَّهُمَا أَحْصَتَا مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ " (3)
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم- يسمي هذه الآية الجامعة الفاذّة.
عَنْ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ، عَمِّ الْفَرَزْدَقِ ، أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ : " فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ " ، قَالَ : حَسْبِي ، لَا أُبَالِي أَنْ لَا أَسْمَعَ غَيْرَهَا "
وقَالَ الْحَسَنُ : قَدِمَ عَمُّ الْفَرَزْدَقِ صَعْصَعَةُ الْمَدِينَةَ لَمَّا سَمِعَ : مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ، قَالَ : " حَسْبِي لَا أُبَالِي أَنْ أَسْمَعَ غَيْرَ هَذَا " (4)
__________
(1) - السُّنَّةُ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ (318 ) صحيح
(2) - تفسير القرطبي : 20/ 148- 149
(3) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ(7818 ) حسن
(4) - مُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (20169 ) صحيح(1/914)
وعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ ، قَالَ : " أَحْسَبُهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " اعْمَلُوا وَأَنْتُمْ مِنَ اللَّهِ عَلَى حَذَرٍ ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مَعْرُوضُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ ، وَأَنَّكُمْ مُلَاقُوا اللَّهَ لَا بُدَّ لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ " (1)
مقاصد هذه السورة
اشتملت هذه السورة الكريمة على مقصدين :
(1) اضطراب الأرض يوم القيامة ودهشة الناس حينئذ.
(2) ذهاب الناس لموقف العرض والحساب ثم مجازاتهم على أعمالهم. (2)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - اقْتِضَاءُ الْعِلْمِ الْعَمَلَ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ (19 ) فيه ضعف
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 220)(1/915)
سورة العاديات
مكيّة ، وهي إحدى عشرة آية
تسميتها :
سميت سورة العاديات لأن اللَّه افتتحها بالقسم بالعاديات : وهي خيل المجاهدين المسرعة في لقاء العدو.
وقال ابن عاشور : " سميت في المصاحف القيروانية العتيقة والتونسية والمشرقية ( سورة العاديات ) بدون وَاو ، وكذلك في بعض التفاسير فهي تسمية لما ذكر فيها دون حكاية لفظه . وسميت في بعض كتب التفسير ( سورة والعاديات ) بإثبات الواو .
واختلف فيها فقال ابن مسعود وجابر بن زيد وعطاء والحسن وعكرمة : هي مكية . وقال أنس بن مالك وابن عباس وقتادة : هي مدنية .
وعدت الرابعة عشرة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد بناء على أنها مكية نزلت بعد سورة العصر وقبل سورة الكوثر .وآيها إحدى عشرة .
ذكر الواحدي في ( أسباب النزول ) عن مقاتل وعن غيره أن رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) بعث خيلاً سَرية إلى بني كنانة وَأَمَّرَ عليها المنذر بن عَمْرو الأنصاري فأسهبتْ أي أمعنت في سهب وهي الأرض الواسعة شهراً وتأخر خبرهم فأرجف المنافقون وقالوا : قُتِلوا جميعاً ، فأخبر الله عنهم بقوله : ( والعاديات ضبحاً ( ( العاديات : 1 ) الآيات ، إعلاماً بأن خيلهم قد فعلتْ جميع ما في تلك الآيات .
وهذا الحديث قال في ( الإِتقان ) رواه الحاكم وغيره . وقال ابن كثير : روى أبو بكر البزار هنا حديثاً غريباً جداً وساق الحديث قريباً مما للواحدي .
وأقول غرابة الحديث لا تناكد قبوله وهو مروي عن ثقات إلا أن في سنده حَفص بن جميع وهو ضعيف . فالراجح أن السورة مدنية . " (1)
مناسبتها لما قبلها :
تظهر المناسبة بين السورتين من وجهين :
1- هناك تناسب وعلاقة واضحة بين قوله تعالى في الزلزلة : وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [2] وقوله في هذه السورة : إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ.
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 497)(1/916)
2- لما ختمت السورة السابقة ببيان الجزاء على الخير والشر ، وبّخ اللَّه تعالى الإنسان على جحوده نعم ربه ، وإيثاره الحياة الدنيا على الآخرة ، وترك استعداده للحساب في الآخرة بفعل الخير والعمل الصالح ، وترك الشر والعصيان.
وقال الخطيب : " الزلزلة التي تزلزلها الأرض يوم البعث ، وإخراج الأرض أثقالها وما فى جوفها من الموتى ، وصدور الناس أشتاتا من القبور إلى موقف الحشر ، والمواجهة هناك بين الكافرين والمؤمنين ـ كل هذا تمثله صورة واقعة فى الحياة ، نجدها حين تقوم حالة حرب بين الناس ، فتزلزل الأرض تحت أقدام الجيوش الزاحفة نحو ساحة القتال ، بما يركبون من خيل ، وما يحملون من عدد القتال ، وهم يصدرون من بيوتهم فى سرعة الرياح العاصفة إلى لقاء العدو ، لا يمسكهم شىء عن الانطلاق حتى يبلغوا ساحة الحرب ..
قوم إذا الشرّ أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا
هكذا يوم الحرب .. إنه من يوم القيامة قريب فى أهواله ، وشدائده ، وما يلقى الناس منه ، من هول وشدة. ففى ميدان الحرب ، حساب وجزاء ، وربح وخسران ، وهول وفزع ، يشمل المحاربين جميعا.
فالحرب ، وميدانها فى الدنيا ، هى أقرب شىء يمثّل به المحشر ، والحساب ، والجزاء فى الآخرة ..
ولهذا جاءت سورة العاديات تالية سورة الزلزلة ، لهذه المشابه التي بينهما. " (1)
ما اشتملت عليه السورة :
* سورة العاديات مكية ، وهي تتحدث عن خيل المجاهدين في سبيل الله ، حين تغير على الأعداء ، فيسمع لها عند عدوها بسرعة صوت شديد ، وتقدح بحوافرها الحجارة فيتطأير منها النار ، وتثير التراب والغبار
* وقد بدأت السورة الكريمة ، بالقسم بخيل الغزاة - إظهارا لشرفها وفضلها عند الله - على أن الإنسان كفور لنعمة الله تعالى عليه ، جحود لآلائه وفيوض نعمائه ، وهو معلن لهذا الكفران والجحود ، بلسان حاله ومقاله ، كما تحدثت عن طبيعة الإنسان وحبه الشديد للمال
* وختمت السورة الكريمة ببيان أن مرجع الخلائق إلى الله للحساب والجزاء ، ولا ينفع في الآخرة مال ولا جاه ، وإنما ينفع الأيمان والعمل الصالح (2)
وقال ابن عاشور :
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1653)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 515)(1/917)
" فيها ذَمُّ خصَال تفضي بأصحابها إلى الخسران في الآخرة ، وهي خصال غالية على المشركين والمنافقين ، ويراد تحذير المسلمين منها .
ووعظ الناس بأن وراءهم حساباً على أعمالهم بعد الموت ليتذكره المؤمن ويهدد به الجاحد . وأُكد ذلك كله بأن افتتح بالقسم ، وأدمج في القسم التنويه بخيل الغزاة أو رواحل الحجيج ." (1)
تتضمن السورة تنديدا بجحود الإنسان واستغراقه في حب المال وتذكيرا بالآخرة وإحاطة اللّه بأعمال الناس. وأسلوبها عرض عام للدعوة كسابقتها. وقد روي أنها مدنية والجمهور على أنها مكية وأسلوبها وتبكير نزولها مما يؤيد مكيتها. (2)
يجري سياق هذه السورة في لمسات سريعة عنيفة مثيرة ، ينتقل من إحداها إلى الأخرى قفزاً وركضاً ووثباً ، في خفة وسرعة وانطلاق ، حتى ينتهي إلى آخر فقرة فيها فيستقر عندها اللفظ والظل والموضوع والإيقاع! كما يصل الراكض إلى نهاية المطاف!
وتبدأ بمشهد الخيل العادية الضابحة ، القادحة للشرر بحوافرها ، المغيرة مع الصباح ، المثيرة للنقع وهو الغبار ، الداخلة في وسط العدو فجأة تأخذه على غرة ، وتثير في صفوفه الذعر والفرار!
يليه مشهد في النفس من الكنود والجحود والأثرة والشح الشديد!
ثم يعقبه مشهد لبعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور!
وفي الختام ينتهي النقع المثار ، وينتهي الكنود والشح ، وتنتهي البعثرة والجمع . . إلى نهايتها جميعاً . إلى الله . فتستقر هناك : { إن ربهم بهم يومئذ لخبير } . .
والإيقاع الموسيقي فيه خشونة ودمدمة وفرقعة ، تناسب الجو الصاخب المعفر الذي تنشئه القبور المبعثرة ، والصدور المحصل ما فيها بشدة وقوة ، كما تناسب جو الجحود والكنود ، والأثرة والشح الشديد . . فلما أراد لهذا كله إطاراً مناسباً ، اختاره من الجو الصاخب المعفر كذلك ، تثيره الخيل العادية في جريها ، الصاخبة بأصواتها ، القادحة بحوافرها ، المغيرة فجاءة مع الصباح ، المثيرة للنقع والغبار ، الداخلة في وسط العدو على غير انتظار . . فكان الإطار من الصورة والصورة من الإطار (3)
سبب النزول :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْلًا فَأَشْهَرَتْ شَهْرًا لَا يَأْتِيهِ مِنْهَا خَبَرٌ ، فَنَزَلَتْ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ضَبَحَتْ بِأَرْجُلِهَا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا قَدَحَتْ بِحَوَافِرِهَا الْحِجَارَةَ فَأَوْرَتْ نَارًا
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 498)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 7)
(3) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3957)(1/918)
فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا صَبَّحَتِ الْقَوْمَ بِغَارَةٍ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا أَثَارَتْ بِحَوَافِرِهَا التُّرَابَ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا قَالَ : صَبَّحَتِ الْقَوْمَ جَمْعًا . رَوَاهُ الْبَزَّارُ ." (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - غَرِيبُ الْحَدِيثِ (551 ) ومجمع الزوائد (11515 ) وتفسير ابن كثير - (19 / 284) ضعيف(1/919)
جحود النعم والبخل لحب الخير وإهمال الاستعداد للآخرة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... العَادِيَاتِ ... الخيل تعدو في الغزو
1 ... ضَبْحًا ... الضبح صوت الخيل إذا عدت
2 ... فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا ... تقدح النار بضرب حوافرها بالصخر
3 ... فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا ... الخيل تهاجم العدو في الصباح
4 ... فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ... هيجن الغبار في مكان العدو من سرعة حركتها
5 ... فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ... أحاط الغبار بالعدو من كل جانب
6 ... الكَنُودُ ... الكفور : الذي يعدد المصائب ولا يعدد نعم الله عليه
8 ... وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ ... شديد الحب للمال وحريص عليه بخيل به
9 ... بُعْثِرَ مَافِي القُبُورِ ... خرج ما فيها من الأموات
10 ... حُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ... أخرج ما كانوا يسرون في نفوسهم
11 ... لَخَبِيرٌ ... إن الله يعلم ما كانوا يصنعون ومجازيهم عليه
المعنى الإجمالي:
أقسم الحق - تبارك وتعالى - بالخيل إذا عدت حالة كونها تضبح ضبحا ، فالخيل التي تغير على العدو في الصباح ، فالخيل التي تثير التراب وتهيجه فوق الرءوس فتتوسط به جموع الأعداء ، وهن متلبسات بالغبار.
أقسم اللّه بالخيل الشديدة العدو التي تخرج من أفواهها زفيرا عاليا ، فالتي تورى النار أثناء الجري ، وتغير على العدو في الصبح ، وتثير النقع وتتوسط به جمع الأعداء ، وتلك أوصاف للخيل التي يجاهد بها أصحابها في سبيل اللّه ، وهذا شرف كبير ، ولذلك أقسم اللّه بها ، على أن الخيل من الدواب التي لها مكانتها ، وهي كما قال العربي : ظهورها حرز وبطونها كنز. ومهما استحدث من آلات الحرب فلا زال للخيل مكان ملحوظ ، على أن هذه الأوصاف تعلمنا كيف نستخدم الخيل ، حتى لا نتخذها زينة فقط.لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [سورة النحل آية 8].(1/920)
أما المقسم عليه فقوله : إن الإنسان لربه لكنود ، وإنه على ذلك لشهيد ، وإنه لحب الخير لشديد ، وقد وصف اللّه الإنسان بثلاث صفات : الأولى كونه كنودا ، أى :
مناعا للخير جحودا يجحد نعمة ربه ، ولا يقوم بشكرها ، وهذا إنما يكون من الإنسان الكفور أو العاصي ، لقد صدق الحديث : « الكنود الّذى يمنع رفده ، ويأكل وحده ، ويضرب عبده »
الثانية كونه على أعماله شهيدا فأعماله شاهدة عليه فلا تحتاج لدليل ، وهو لا يستطيع إنكار جحده لظهوره ، على أنه إن أنكر بلسانه عناده فبينه وبين ضميره يشهد بأنه منكر جاحد لنعم ربه ، وسيشهد على نفسه يوم القيامة ، فهو إذا على أعماله شهيد ، والثالثة : إنه لحب الخير لشديد ، نعم ، إن الإنسان لأجل حبه المال حبا جما بخيل به شحيح لا ينفق منه إلا بقدر بسيط ، وهو حريص عليه ، متناه في الحرص ، ممسك مبالغ في الإمساك.
يحصل منه هذا ؟!
أفلا يعلم الإنسان أن ربه به بصير ؟ أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وأخرجت الناس من الدور ، ثم أظهرت دفائن القلوب وأسرار الصدور : إن ربهم بهم يومئذ لخبير ، وإنه سيجازى على النقير والقطمير. (1)
التفسير والبيان :
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً ، فَالْمُغِيراتِ أي قسما بالخيل التي تجري وتعدو بفرسانها المجاهدين في سبيل اللَّه إلى العدو ، ويسمع لها حينئذ صوت زفيرها الشديد وأنفاسها المتصاعدة ، بسبب شدة الجري. وتخرج شرر النار بحوافرها أثناء الجري بسبب اصطكاك نعالها بالصخر أو الحجر وتغير أو تهجم على العدو وقت الصباح.
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً ، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً فهيجن في الصبح أو مكان معترك الخيول غبارا يملأ الجو ، ثم توسطن بعدوهن جمعا من الأعداء ، اجتمعوا في مكان ، ففرّقنه أشتاتا.
وإنما أقسم اللَّه تعالى بالخيل لأن لها في الركض (العدو) من الخصال الحميدة ما ليس لسائر الدواب ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « الْخَيْلُ فِى نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ » (2) . ، ولأنها وسيلة الغزو عند العرب ، ولا تكاد تخلو في الأغلب من الخطور ببالهم.
والمراد إعلاء شأنها في نفوس المؤمنين ، ليعنوا بتربيتها ، وليتدربوا عليها من أجل الجهاد في سبيل اللَّه ، وليعتادوا على معالي الأمور ، وظواهر الجد والعمل.
وفي هذا القسم ترغيب باقتناء الخيل لهذه الأغراض النبيلة ، لا للسمعة والمفاخرة والرياء.
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 895)
(2) - صحيح البخارى(2849) وهو متواتر(1/921)
وعلى هذا فاللام في العاديات للعهد ، ويحتمل وهو الظاهر كما تقدم عن أبي حيان أن تكون للجنس وليست أل فيه للعهد ، ويدخل فيها خيل الجهاد والسرية دخولا أولياء.
وجواب القسم المحلوف عليه هو : إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ أي إن الإنسان كفور بطبعه للنعمة ، كثير الجحد لها ، وعدم الإقرار بمقتضاها الموجب لشكر الخالق المنعم ، والخضوع لشرعه وأحكامه ، إلا من جاهد نفسه ، وعقل أمر الدنيا والآخرة ، فأقبل على الطاعة والفضيلة ، وأحجم عن المعصية والرذيلة.
والظاهر أن المراد بالإنسان هو الجنس ، والأكثرون على أن الإنسان هو الكافر لقوله بعد ذلك : أَفَلا يَعْلَمُ. لكنهم قالوا أيضا : ويحتمل أن يراد أن جنس الإنس مفطور على ذلك إلا من عصمه اللَّه بلطفه وتوفيقه ، وقوله : أَفَلا يَعْلَمُ يجوز أن يكون توبيخا على أنه لا يعمل بعلمه.
وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ أي وإن الإنسان على كونه كنودا جحودا لشهيد يشهد على نفسه بالجحد والكفران ، أي بلسان حاله ، وظهور أثر ذلك عليه في أقواله وأفعاله بعصيان ربه ، كما قال تعالى : ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة 9/ 17].
وقال قتادة وسفيان الثوري : وإن اللَّه على ذلك لشهيد.
وإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أي وإن الإنسان بسبب حبه للمال لبخيل به ، أو أن حبه للمال قوي ، فتراه مجدّا في طلبه وتحصيله ، متهالكا عليه. فصار هناك رأيان في المعنى : أحدهما- وإنه لشديد المحبة للمال ، والثاني- وإنه لحريص بخيل بسبب محبة المال ، قال ابن كثير : وكلاهما صحيح.
ثم هدد الإنسان وتوعده إذا ظل بهذه الصفات ، فقال : أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ ، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ ، إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ أي أفلا يدري الجاحد إذا أخرج أو نثر ما في القبور من الأموات ، وأبرز وأظهر ما يسرّ الناس في نفوسهم من النوايا والعزائم ، والخير والشر ، إن رب هؤلاء المبعوثين لخبير بهم ، مطلع على جميع أحوالهم ، لا تخفى عليه منهم خافية في ذلك اليوم وفي غيره ، ومجازيهم في ذلك اليوم على جميع أعمالهم أوفر الجزاء ، ولا يظلمون مثقال ذرة. فإذا علموا ذلك ووعوه ، فعليهم ألا يشغلهم حب المال عن شكر ربهم وعبادته والعمل للآخرة.
وخص أعمال القلوب بالذكر لأن أعمال الأعضاء الأخرى تابعة لأعمال القلب فإنه لولا البواعث والإرادات في القلوب ، لما حصلت أفعال الجوارح.
وأعاد الضمير في قوله : إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ بصيغة الجمع لأن الإنسان في معنى الجمع ، كقوله تعالى : إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر 103/ 2] ثم قال : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [3].(1/922)
وإنما قال : يَوْمَئِذٍ مع أنه تعالى عالم بأحوال الناس في كل وقت ، للتأكيد على أنه عالم بذلك يوم المجازاة.
وعبّر عن المجازاة بالخبرة والعلم المحيط بهم ولأعمالهم لأن القصد هو التهديد ، كما قال تعالى : سَنَكْتُبُ ما قالُوا [آل عمران 3/ 181] مع أن كتابة أقوالهم وأفعالهم حاصلة فعلا ، وإنما أراد أننا سنجازيهم بما قالوا الجزاء المناسب.
فيكون قوله تعالى : لَخَبِيرٌ وهو تعالى خبير دائما فيه تضمين (خبير) معنى مجاز لهم في ذلك اليوم (1) .
وهذه الآية تدل على كونه تعالى عالما بالجزئيات الزمانيات لأنه تعالى نص على كونه عالما بكيفية أحوالهم في ذلك اليوم ، فيكون منكر ذلك كافرا.
ومضات :
قال الإمام : وهو وصف عرض للخيل من الغاية التي أجريت لها ، أي : أنها تعدو ويشتد عدوها حتى يخرج الشرر من حوافرها ، لتهجم على عدوّ وقت الصباح ، وهو وقت المفاجأة لأخذ العدو على غير أهبة .
{ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } أي : فأهجن بذلك الوقت غباراً من الإثارة ، وهي التهييج وتحريك الغبار ونحوه ليرتفع . والنقع : الغبار كما ذكرنا ، وورد بمعنى الصياح ، فجوّز إرادته هنا بمعنى صياح من هجم عليه ، وأوقع به . لا صياح المغير على المحارب ، وإن جاز على بُعد فيه ، أي : هيجن الصياح بالإغارة على العدوّ ، وضمير { بِهِ } للوقت والباء ظرفية . وفيه احتمالات أخر ككونه للعدو أو للإغارة ، لتأويلها بالجري . فالباء سببية أو للملابسة . ويجوز كونها ظرفية أيضاً . والضمير للمكان الدال عليه السياق ، للعلم بأن الغبار لا يثار إلا من موضع . وهو الذي اختاره ابن جرير .
قال الشهاب : وذكر إثارة الغبار ، للإشارة إلى شدة العدو وكثرة الكرّ والفرّ . وتخصيص الصبح لأن الغارة كانت معتادة فيه ، أي : لمباغتة العدوّ . والغبار إنما يظهر نهاراً . و أثرن معطوف على ما قبله .
قال الناصر : وحكمة الإتيان بالفعل معطوفاً على الاسم الذي هو العاديات أو ما بعدهُ ، لأنها أسماء فاعلين تعطي معنى الفعل . وحكمة مجيء هذا المعطوف فعلاً عن اسم فاعل ، تصوير هذه الأفعال في النفس . فإن التصوير يحصل بإيراد الفعل بعد الاسم لما بينهما من التخالف . وهو أبلغ من التصوير بالأسماء المتناسقة . وكذلك التصوير بالمضارع بعد الماضي .
__________
(1) - البحر المحيط : 8/ 505(1/923)
وقوله تعالى : { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً } أي : فتوسطن ودخلن في وسط جمع من الأعداء ، ففرقته وشتته . يقال : وسطت القوم بالتخفيف ، و وسطته بالتشديد ، و توسطتهُ بمعنى واحد . وفي الضمير الوجوه المتقدمة .
قال الإمام رحمه الله : أقسم تعالى بالخيل متصفة بصفاتها التي ذكرها آتية بالأعمال التي سردها ؛ لينوه بشأنها ويعلي من قدرها في نفوس المؤمنين أهل العمل والجد ؛ ليعنوا بقنيتها وتدريبها على الكر والفر ، وليحملهم أنفسهم على العناية بالفروسية والتدرب على ركوب الخيل ، والإغارة بها ؛ ليكون كل واحد منهم مستعداً في أي : وقت كان ، لأن يكون جزءاً من قوة الأمّة إذا اضطرت إلى صدّ عدو ، أو بعثها باعث على كسر شوكته . وكان في هذه الآيات القارعات ، وفي تخصيص الخيل بالذكر في قوله : { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [ الأنفال : 60 ] ، وفيما ورد من الأحاديث التي لا تكاد تحصر ما يحمل كل فرد من رجال المسلمين على أن يكون في مقدمة فرسان الأرض مهارة في ركوب الخيل ، ويبعث القادرين منهم على قنية الخيل على التنافس في عقائلها ، وأن يكون فن السباق عندهم يسبق بقية الفنون إتقاناً . أفليس أعجب العجب أن ترى أمماً ، هذا كتابها ، قد أهملت شأن الخيل والفروسية ، إلى أن صار يشار إلى راكبها بينهم بالهزؤ والسخرية ؟ وأخذت كرام الخيل تهجر بلادهم إلى بلاد أخرى . (1)
في آيات السورة تنديد ببعض أخلاق الإنسان وإنذار له ، وقد تضمنت :
1 - قسما ربانيا بالخيل وهي تعدو عدوا شديدا حين تعتزم الإغارة فيغدو نفسها ضبحا وينقدح من اصطدام حوافرها بالحجارة الشرر ، ويثور الغبار ، وتتوسط الجمع المغار عليه على أن الإنسان جاحد لنعمة اللّه مع ما يشهده من آثار أفضال اللّه عليه ، مستغرق في حب المال.
2 - وتساؤلا في معرض الاستنكار والإنذار والتذكير عما إذا كان الإنسان لا يعرف أن اللّه محاسبه على ما يقدم من عمل حين يبعث الناس من قبورهم ويواجهون بأعمالهم ، ولسوف يظهر لهم جليا أن اللّه خبير بهم وبأعمالهم.
والمتبادر أنه أريد بوصف الإنسان بما وصف تقرير كون ذلك هو الطبع الغالب على الجبلة الإنسانية وأن الآيات قد استهدفت تنبيه الإنسان إلى ما في هذه الأخلاق من شطط ومجانبة للحق والواجب نحو اللّه والناس وحمله على تجنبها وتذكيره بنعمة ربه عليه وكونه محيطا بأعماله مراقبا له فيها ومحاسبه عليها في الحياة الأخرى.
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 297)(1/924)
وإطلاق الآيات وعدم احتوائها إشارة إلى موقف معين يسوغان القول بأنها بسبيل عرض أهداف الدعوة ومبادئها عرضا عاما كسابقتها ، كما يسوغ وصفها بما وصفت به سور الفاتحة والأعلى والليل والفجر والعصر أيضا.
والأهداف التي احتوتها جليلة في صدد الأخلاق الشخصية والاجتماعية ، حيث إنها ترتفع بالإنسان إلى أن لا يكون المال هو كل شيء لديه فينسيه واجباته نحو ربه بالاعتراف بربوبيته والخضوع له وشكره على نعمه ، ونحو الناس بالبر والرحمة.
ويلفت النظر بنوع خاص إلى التنديد بحب المال. وما سبق من مثل ذلك في سورة الفجر حيث يتلاحق الإيذان الرباني بكراهية اكتناز المال واستقطاب الثروة على ما نبهنا عليه في سياق سورة الفجر.
وقد يكون القسم القرآني بالخيل متصلا بما كان للخيل والفروسية في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيئته من أهمية بالغة. حيث ينطوي فيه صورة من صور ذلك العصر والبيئة. ولقد روى البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأبو داود حديثا عن عروة الباقي قال : «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، الأجر والمغنم» مما قد يكون فيه توكيد لتلك الأهمية البالغة.
ولقد روى الطبرسي المفسر الشيعي أن السورة مدنية. وروى مناسبتين لنزولها واحدة عن مقاتل جاء فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية إلى حي من حنانة عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري فتأخر رجوعهم فقال المنافقون إنهم قتلوا جميعهم فأخبر اللّه تعالى بما كان من غارتهم ونصرهم. وثانية عن الإمام أبي عبد اللّه جاء فيها أنها نزلت في مناسبة بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عليّ بن أبي طالب إلى ذات السلاسل ونصره بعد أن أرسل مرارا غيره فعادوا بدون نصر. وأنها لما نزلت خرج رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - الغداة فصلى بالناس وقرأ السورة وقال إن عليا ظفر بأعدائه وبشرني جبريل بذلك هذه الليلة في هذه السورة. وجمهور المفسرين على أنها مكية مبكرة في النزول ، وأسلوبها وفحواها يؤيدان ذلك بكل قوة. ونخشى أن يكون للهوى الشيعي أثر في رواية مدنيتها فإن الرواة الشيعيين دأبوا يروون روايات كثيرة في مناسبات آيات كثيرة لتأييد هواهم بقطع النظر عن ما في الروايات من مآخذ على ما سوف ننبه عليه في مناسباته. (1)
قوله تعالى : « وَالْعادِياتِ ضَبْحاً. فَالْمُورِياتِ قَدْحاً. فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً .. » العاديات : جمع عادية ، وهى الخيل تعدو فى خفّة ، وسرعة ، كما يعدو خفيف الوحش.
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 8)(1/925)
والضبح : ما يخرج من صدور الخيل من أصوات وهى تعدو ، أشبه بأنفاس الإنسان وهو يلهث أثناء الجري .. وسمى ضبحا حكاية لصوت الخيل الذي يشبه صوت هذا اللفظ عند النطق به « ضبح ».
والمقسم به هنا ، هو الخيل ، فى حال عدوها ، حاملة فرسانها إلى ميدان القتال .. فهى تعدو ضابحة ، وهى فى عدوها تورى نارا تنقدح من احتكاك حوافرها بالحجارة التي تعدو عليها ..
وفى هذا ما يشير إلى أنها تسير تحت جنح الظلام بفرسانها حتى لا تراها عين العدوّ ، وحتى لا ينذر بها هذا العدوّ ، ويأخذ حذره من المفاجأة حين تطلع عليه على غير انتظار ، ولهذا يظهر هذا الشرر الذي ينقدح من احتكاك حوافرها بالصوّان .. كما يقول الشاعر فى وصف سيوف الأبطال فى الحرب :
تقدّ السلوقىّ المضاعف نسجه وتوقد بالصّفاح نار الحباحب
فإذا بلغت الخيل المكان الذي تشرف به على عدوّها ، أمسكت عن السير ، حتى تهجم عليه وتبغته على حين غفلة منه ، مع مطلع الصبح ، قبل أن يدبّ دبيب الحياة فى الأحياء.
فهذه ثلاثة أقسام بالحيل فى مسيرتها نحو الحرب .. فأقسم بها سبحانه ، وهى فى أول طريقها إلى القتال ، ثم أقسم بها ، وهى تكيد العدو ، فتسير إليه ليلا ، وتستخفى نهارا ، ثم أقسم بها ، وهى تلقى العدوّ بغتة مع أول النهار.
وفى هذا تعظيم لمسيرة هذه الخيل فى كل حال من أحوالها ، وإنها لجدير بها أن تكون خيل المؤمنين ، التي تسير هذه المسيرة المباركة للجهاد فى سبيل اللّه ، وإن هذا التدبير لجدير أن يكون من تدبير المؤمنين فى لقاء العدوّ ، فيلقون عدوّهم بالعدد ، والعدد ، وبالتدبير والمكيدة.
وبهذا يكتب لهم الغلب ، ويتحقق لهم النصر.
قوله تعالى : « ضَبْحاً ، وقَدْحاً ، وصُبْحاً » منصوبة على الحال من العاديات .. بمعنى ضابحة ، وقادحة ، ومصبحة العدوّ ..
قوله تعالى : « فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ».
هو إلفات إلى موقف الخيل ، وقد دخلت ميدان القتال ، إنها تثير فيه النقع ، أي الغبار بحركاتها ، وتنقّل فرسانها عليها ، بين كرّ وفرّ ، ومحاورة ومداورة ، انتهازا للفرصة التي تمكّن من العدو ، وتصيبه فى مقاتله.
والضمير فى « به » يعود إلى ميدان القتال المفهوم من مسيرة هذه الخيل العادية .. إنها الخيل تعدو إلى جهاد فى سبيل اللّه ، وليست الخيل التي تعدو للصيد واللهو ، ونحو هذا.(1/926)
قوله تعالى : « فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ».. إشارة إلى أنها وإن جاءت فرادى ، وهى متجهة إلى ميدان القتال ، فإنها لا تشتبك مع العدوّ فى الحرب إلا مجتمعة ، حيث يضرب المغيرون عليها عدوّهم بيد مجتمعة قوية متمكنة.
وفى قوله تعالى : « فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً » إشارة أخرى إلى أنّ هذه الخيل إنما تدخل المعمعة بفرسانها ، وتهجم على قلب العدوّ ، وتدخل فى كيانه ، لا أنها تخطف الخطفة من بعد ، دون أن تلتحم بالعدوّ ، وتختلط به ، وفى العطف بالفاء فى قوله تعالى : « فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً » ـ فى هذا ما يشعر بأن هذين الفعلين من أفعال الخيل العاديات ، وأنهما داخلان فى حيّز القسم بها ، والتقدير : والعاديات ضبحا ، فالموريات قدحا ، فالمغيرات صبحا ، فالمثيرات به نقعا ، فالمتوسطات به جمعا.
وكل هذا الذي يشير إليه القرآن الكريم ، هو تخطيط للحرب ، ولما ينبغى أن يكون من تدبير جيش المسلمين فى لقاء العدوّ .. فهو درس بليغ فى الحرب ، يأتى عرضا ، فيكون أثره أبلغ وأوقع من الدرس المباشر ، الذي يواجه الإنسان مواجهة الأستاذ لتلميذه .. فلقد جاء العرض للخيل ، وفرسانها ، وأفعالهم فى الحرب ، والمسلمون محصورون فى مكة ، واقعون تحت قبضة المشركين ، لا يدور فى تفكيرهم أبدا أنهم سيكونون يوما هم فرسان هذه الخيل ، وهم جنود اللّه ، تعدو بهم هذه العاديات إلى الجهاد فى سبيل اللّه ، فيمكن اللّه لدينه بهم فى الأرض ، ويقيم بهم دولة الإسلام!.
يقول الأستاذ الإمام محمد عبده ، معلقا على هذا الدرس الذي يلقّنه القرآن الكريم لأتباعه فى الإعداد للحرب ، والتمكن من وسائلها :
« أفليس من أعجب العجب أن ترى أمما ـ وخير من هذا أن يقال أمّة ، لأن المسلمين أمة لا أمم ـ هذا كتابها ، قد أهملت شأن الخيل والفروسية ، إلى أن صار يشار إلى راكبها بينهم بالهزء والسخرية ، وأخذت كرام الخير تهجر بلادهم إلى بلاد أخرى ؟ .
« أليس من أغرب ما يستغرب أن أناسا يزعمون أن هذا الكتاب كتابهم ، يكون طلاب العلوم الدينية منهم أشدّ الناس رهبة من ركوب الخيل ، وأبعدهم عن صفات الرجولة ، حتى وقع من أحد أساتذتهم المشار إليه بالبنان ، عند ما كنت أكلّمه فى منافع بعض العلوم وفوائدها فى علم الدين ـ أن قال لى : « إذا كان كل ما يفيد فى الدين نعلّمه لطلبة العلم ، كان علينا إذن أن نعلمهم ركوب الخيل ؟ ! « يقول هذا ليفحمنى ، وتقوم له الحجة علىّ ، كأنّ تعليم ركوب الخيل مما لا يليق ولا ينبغى لطلبة العلم ، وهم يقولون : إن العلماء ورثة الأنبياء .. فهل هذه الأعمال ، وهذه العقائد تتفق مع الإيمان بهذا الكتاب ؟
أنصف واحكم » !.(1/927)
والحق ما قال الإمام ، فإن فرسان الحرب فى الإسلام ، كانوا أئمة المسلمين ، والقمم العالية فيهم ، وحسبنا أن نذكر هنا على بن أبى طالب ، وحمزة بن عبد المطلب ، وخالد بن الوليد ، وعبيدة بن الجراح ، وطلحة والزبير ، وسعد ابن أبى وقاص ، وغيرهم وغير هم كثير كثير! ولو أن صحابة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - شهدوا عصر الدبابات ، والطائرات ، والصواريخ ، لكانوا أساتذة هذا الميدان ، إبداعا واستعمالا ، ولكانت الأمم التي تملك الصواريخ اليوم أمما متخلفة ، بالنسبة إليهم .. ذلك أن نفوسهم أشرقت بنور الحق ، وقلوبهم امتلأت بقوة الإيمان وعزته ، فعظمت نفوسهم ، واتسعت آمالهم ، وأبت عليهم نفوسهم العالية ، وهممهم العظيمة أن يسبقها سابق فيما يكسب العزة والسيادة ، والمجادة .. فإذا صغرت النفوس ، وضعفت الهمم ، رضيت بالدّون ، واستغنت بالتافة الحقير من الأمور ..
فليس بالمؤمن من صغرت نفسه ، وضؤل شخصه ، وأمسك من دنياه بقبض الريح منها .. واللّه سبحانه وتعالى يقول : « وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ »..
وإنه لا عزة مع الضعف ، ولا إيمان بغير القوة والعزة .. القوة فى المادة والروح جميعا.
وقوله تعالى : « إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ».
هو جواب القسم بالعاديات ..
والكنود : الجاحد لنعمة ربه ، المنكر لإحسانه إليه ..!
وهذا شأن كثير من الناس ، بل هو شأن معظم الناس ، ولهذا جاء الحكم مطلقا ، إذ ليس فى الناس إلا قلة قليلة هى التي تعرف فضل اللّه عليها ، وإحسانه إليها ، ومع هذا فإنها لن تبلغ مهما اجتهدت ، ما ينبغى للّه سبحانه من حمد وشكر .. وإلى هذا يشير قوله تعالى : « وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ » (13 : سبأ) وفى قوله تعالى : « وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ » ـ استدعاء للإنسان أن يستحضر وجوده ، وأن يحاسب نفسه ، وسيرى ـ إن كان على علم وحق ـ أنه مقصر فى حق اللّه ، جاحد لفضله عليه .. وأن حبه الشديد لتحصيل المال ، والاستكثار منه ، هو آفته التي تنسيه فضل اللّه عليه ، فيغمط حقوق اللّه ، ويعمى عن وجوه الإنفاق فى سبيل اللّه .. وفى التعبير عن المال بلفظ الخير ـ إشارة إلى أنه خير فى ذاته ، ولكنه قد يتحول فى أيدى كثير من الناس إلى شر مستطير يحرق أهله!! وقوله تعالى : « أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ ».أي أفلا يعلم هذا الإنسان الكنود ، وهو يحاسب نفسه ، أنّه إذا بعثر ما فى القبور ، وخرج الموتى من قبورهم إلى المحشر ، « وحصّل » أي جمع ما فى صدورهم من خفايا أعمالهم ، ورأوه عيانا بين أيديهم ـ أفلا يعلم ما يكون عليه حاله يومئذ ، وما ينزل به من عذاب اللّه ؟ .(1/928)
وفى حذف مفعول الفعل « يعلم ». . استدعاء للعقل أن يبحث عن هذا المفعول ، وأن يستدلّ عليه ، وفى هذا ما يدعوه إلى إعمال فكره ، فيجد العبرة والعظة .. أي أفلا يعلم ما يكون فى هذا اليوم ؟ إنه لو علم لكان له مزدجر عن غيّه وضلاله.
وقوله تعالى : « إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ».هو تعقيب على هذا السؤال : « أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ ».. أي فإذا لم يكن يعلم ماذا يكون فى هذا اليوم ، فليذكر هذه الحقيقة المطلقة ، التي ينادى بها فى الوجود كله ، وهى حقيقة ثابتة : « إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ».. إذا علم هذه الحقيقة ، وآمن بها ، علم ماذا يكون عليه حاله يومئذ .. إن ربه الذي يعلم كل شىء ، قد علم ما كان منه فى الدنيا ، وأنه محاسبه على ما عمل ..
وليس الظرف فى قوله تعالى : « إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ » قيد لعلم اللّه وحصره فى هذا اليوم ، بل إن علم اللّه بما يعمل الناس ، هو علم دائم متصل ، ولكن علمه فى هذا اليوم بأعمال الناس ، يقتضى محاسبتهم عليها ، وجزاءهم بما عملوا .. فهذا يوم الجزاء لعمل كل عامل .. (1)
يقسم الله سبحانه بخيل المعركة ، ويصف حركاتها واحدة واحدة منذ أن تبدأ عدوها وجريها ضابحة بأصواتها المعروفة حين تجري ، قارعة للصخر بحوافرها حتى توري الشرر منها ، مغيرة في الصباح الباكر لمفاجأة العدو ، مثيرة للنقع والغبار . غبار المعركة على غير انتظار . وهي تتوسط صفوف الأعداء على غرة فتوقع بينهم الفوضى والاضطراب!
إنها خطوات المعركة على ما يألفه المخاطبون بالقرآن أول مرة . . والقسم بالخيل في هذا الإطار فيه إيحاء قوي بحب هذه الحركة والنشاط لها ، بعد الشعور بقيمتها في ميزان الله والتفاته سبحانه إليها؟
وذلك فوق تناسق المشهد مع المشاهد المقسم عليها والمعقب بها كما أسلفنا . أما الذي يقسم الله سبحانه عليه ، فهو حقيقة في نفس الإنسان ، حين يخوى قلبه من دوافع الإيمان . حقيقة ينبهه القرآن إليها ، ليجند إرادته لكفاحها ، مذ كان الله يعلم عمق وشائجها في نفسه ، وثقل وقعها في كيانه : { إن الإنسان لربه لكنود . وإنه على ذلك لشهيد . وإنه لحب الخير لشديد } . .
إن الإنسان ليجحد نعمة ربه ، وينكر جزيل فضله . ويتمثل كنوده وجحوده في مظاهر شتى تبدو منه أفعالاً وأقوالاً ، فتقوم عليه مقام الشاهد الذي يقرر هذه الحقيقة . وكأنه يشهد على نفسه بها . أو لعله يشهد على نفسه يوم القيامة بالكنود والجحود : { وإنه على ذلك لشهيد } .
. يوم ينطق بالحق على نفسه حيث لا جدال ولا محال!
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1654)(1/929)
{ وإنه لحب الخير لشديد } فهو شديد الحب لنفسه ، ومن ثم يحب الخير . ولكن كما يتمثله مالا وسلطة ومتاعاً بأعراض الحياة الدنيا . .
هذه فطرته . وهذا طبعه . ما لم يخالط الإيمان قلبه . فيغير من تصوراته وقيمه وموازينه واهتماماته . ويحيل كنوده وجحوده اعترافاً بفضل الله وشكراناً . كما يبدل أثرته وشحه إيثاراً ورحمة . ويريه القيم الحقيقية التي تستحق الحرص والتنافس والكد والكدح . وهي قيم أعلى من المال والسلطة والمتاع الحيواني بأعراض الحياة الدنيا . .
إن الإنسان بغير إيمان حقير صغير . حقير المطامع ، صغير الاهتمامات . ومهما كبرت أطماعه . واشتد طموحه ، وتعالت أهدافه ، فإنه يظل مرتكساً في حمأة الأرض ، مقيداً بحدود العمر ، سجيناً في سجن الذات . . لا يطلقه ولا يرفعه إلا الاتصال بعالم أكبر من الأرض ، وأبعد من الحياة الدنيا ، وأعظم من الذات . . عالم يصدر عن الله الأزلي ، ويعود إلى الله الأبدي ، وتتصل فيه الدنيا بالآخرة إلى غير انتهاء . .
ومن ثم تجيء اللفتة الأخيرة في السورة لعلاج الكنود والجحود والأثرة والشح ، لتحطيم قيد النفس وإطلاقها منه . مع عرض مشهد البعث والحشر في صورة تنسي حب الخير ، وتوقظ من غفلة البطر : { أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور ، وحصل ما في الصدور؟ } . .
وهو مشهد عنيف مثير . بعثرة لما في القبور . بعثرة بهذا اللفظ العنيف المثير . وتحصيل لأسرار الصدور التي ضنت بها وخبأتها بعيداً عن العيون . تحصيل بهذا اللفظ العنيف القاسي . . فالجو كله عنف وشدة وتعفير!
أفلا يعلم إذا كان هذا؟ ولا يذكر ماذا يعلم؟ لأن علمه بهذا وحده يكفي لهز المشاعر . ثم ليدع النفس تبحث عن الجواب ، وترود كل مراد ، وتتصور كل ما يمكن أن يصاحب هذه الحركات العنيفة من آثار وعواقب!
ويختم هذه الحركات الثائرة باستقرار ينتهي إليه كل شيء ، وكل أمر ، وكل مصير : { إن ربهم بهم يومئذ لخبير } . .فالمرجع إلى ربهم . وإنه لخبير بهم { يومئذ } وبأحوالهم وأسرارهم . . والله خبير بهم في كل وقت وفي كل حال . ولكن لهذه الخبرة { يومئذ } آثار هي التي تثير انتباههم لها في هذا المقام . . إنها خبرة وراءها عاقبة . خبرة وراءها حساب وجزاء . وهذا المعنى الضمني هو الذي يلوح به في هذا المقام!
إن السورة مشوار واحد لاهث صاخب ثائر . . حتى ينتهي إلى هذا القرار . . معنى ولفظاً وإيقاعاً ، على طريقة القرآن! (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3958)(1/930)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- الترغيب في الجهاد والإعداد له كالخيل أمس ، والطائرات اليوم .
2- بيان حقيقة وهي أن الإِنسان كفور لربه ونعمه عليه يذكر المصيبة إذا أصابته وينسى النعم التي غطته إلا إذا آمن وعمل صالحا .
3- بيان أن الإِنسان يحب المال حبا شديدا إلا إذا هذّب بالإِيمان وصالح الأعمال .
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء ..
5- أقسم سبحانه بالخيل التي تشغل بها أذهان العرب عادة على رداءة جبلة الإنسان من قلة الشكر والصبر ، والحرص على المال ، بحيث يكاد يشغله عن تحصيل الكمال الحقيقي ، وعن العمل للمعاد الذي إليه مآل العباد.
فقد طبع الإنسان على كفران النعمة ، وحب المال وبخله به ، وعليه أن يروض نفسه على ما يكون له به النجاة والسعادة.
6- ثم وبخ اللَّه تعالى بالعلم التام الأزلي الأبدي الشامل لأحوال مبدأ الإنسان ومعاده ، والتوبيخ أوالتهديد مدعاة للعقلاء إلى التأمل في المصير المحتوم ، والاستعداد للآخرة بزاد التقوى والفضيلة ، والبعد عن العصيان والمخالفة والرذيلة.
ولا يختلف العلم وقت المجازاة بالأعمال والأقوال والأحوال عن العلم الأزلي للَّه تعالى بذلك ، وإنما قال : يَوْمَئِذٍ للتأكيد على شمول العلم في الماضي والحاضر والمستقبل ، ولأن الجزاء منوط بالعمل السابق ، فيكون تخصيصه دالا على التذكر وعدم النسيان ، وعلى التزام العدل وتوافر العلم وقت الجزاء.
- - - - - - - - - - -(1/931)
سورة القارعة
مكيّة ، وهي إحدى عشرة آية
تسميتها :
سميت سورة القارعة لبدء السورة بها تهويلا وتخويفا ، كابتداء سورة الحاقة ، والقارعة من أسماء يوم القيامة كالحاقة والطامّة والصاخّة والغاشية ونحو ذلك. وسميت بهذا لأنها تقرع القلوب بهولها.
وقال ابن عاشور : " اتفقت المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة على تسمية هذه السورة ( سورة القارعة ) ولم يُروَ شيء في تسميتها من كلام الصحابة والتابعين .
واتُّفق على أنها مكية .
وعدت الثلاثين في عِداد نزول السور نزلت بعد سورة قريش وقبل سورة القيامة .
وآيها عشر في عد أهل المدينة وأهللِ مكة ، وثمانٌ في عد أهل الشام والبصرة ، وإحدى عشرة في عد أهل الكوفة . " (1)
مناسبتها لما قبلها :
ختمت السورة السابقة بوصف يوم القيامة : أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ ، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ ، إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ وأعقبتها هذه السورة برمّتها بالحديث عن القيامة ووصفها الرهيب وأهوالها المخيفة.
وقال الخطيب : " ختمت سورة « العاديات » بقوله تعالى : « أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ».. وفيها دعوة إلى الناس أن يحاسبوا أنفسهم فى الدنيا ، قبل يوم الحساب والجزاء فى الآخرة .. وجاءت سورة القارعة تقرع الناس بهذا اليوم ، يوم الجزاء ، وتدعوهم إلى الحساب والجزاء ، بعد أن أخذوا الفرصة الممكّنة لهم من حساب أنفسهم ، وإعدادها لهذا اليوم .. " (2)
ما اشتملت عليه السورة :
* سورة القارعة مكية ، وهي تتحدث عن القيامة وأهوالها ، والآخرة وشدائدها ، وما يكون فيها من أحداث وأهوال عظام ، كخروج الناس من القبور ، وإنتشارهم في ذلك اليوم الرهيب ، كالفراش المتطاير ، المنتشر هنا وهناك ، يجيئون ويذهبون على غير نظام ، من شدة حيرتهم وفزعهم في ذلك اليوم العصيب .
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 509)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1660)(1/932)
* كما تحدثت عن نسف الجبال وتطايرها ، حتى تصبح كالصوف المنبث المتطاير في الهواء ، بعد أن كانت صلبة راسخة فوق الأرض ، وقد قرنت بين الناس والجبال ، تنبيها على تأثير تلك القارعة في الجبال ، حتى صارت كالصوف المندوف ، فكيف يكون حال البشر في ذلك اليوم العصيب ؟
*وختمت السورة الكريمة بذكر الموازين التي توزن بها أعمال الناس ، وإنقسام الخلق إلى سعداء وأشقياء ، حسب ثقل الموازين وخفتها ، وسميت السورة الكريمة بالقارعة ، لأنها تقرع القلوب والأسماع بهولها وشدائدها (1)
وقال ابن عاشور :
" ذُكر فيها إثبات وقوع البعث وما يسبق ذلك من الأهوال .
وإثباتُ الجزاء على الأعمال وأن أهل الأعمال الصالحة المعتبرة عند الله في نعيم ، وأهل الأعمال السيئة التي لا وزن لها عند الله في قعر الجحيم ." (2)
في السورة إنذار بهول القيامة وبيان مصير المحسنين والمسيئين فيها ، وأسلوبها عام وليس فيها إشارة إلى موقف معين ، فهي من نوع سور الليل والشمس والأعلى وأخواتها. (3)
القارعة : القيامة . كالطامة ، والصاخة ، والحاقة ، والغاشية . والقارعة توحي بالقرع واللطم ، فهي تقرع القلوب بهولها .والسورة كلها عن هذه القارعة . حقيقتها . وما يقع فيها . وما تنتهي إليه . . فهي تعرض مشهداً من مشاهد القيامة .والمشهد المعروض هنا مشهد هول تتناول آثاره الناس والجبال . فيبدو الناس في ظله صغاراً ضئالاً على كثرتهم : فهم { كالفراش المبثوث } مستطارون مستخفون في حيرة الفراش الذي يتهافت على الهلاك ، وهو لا يملك لنفسه وجهة ، ولا يعرف له هدفاً! وتبدو الجبال التي كانت ثابتة راسخة كالصوف المنفوش تتقاذفه الرياح وتعبث به حتى الأنسام! فمن تناسق التصوير أن تسمى القيامة بالقارعة ، فيتسق الظل الذي يلقيه اللفظ ، والجرس الذي تشترك فيه حروفه كلها ، مع آثار القارعة في الناس والجبال سواء!
وتلقي إيحاءها للقلب والمشاعر ، تمهيداً لما ينتهي إليه المشهد من حساب وجزاء! (4)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 517)
(2) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 509)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 182)
(4) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3960)(1/933)
أهوال القيامة وأماراتها وميزان الحساب فيها
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... القَارِعَةُ ... لأنها تقرع الخلائق بأهوالها وتفزعهم
4 ... الفَرَاشِ المبثْوثْ ... الفراش المنتشر في كل مكان
5 ... العِهْنِ ... الصوف المصبوغ بألوان مختلفة
6 ... ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ... رجحت حسناته
7 ... عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ... عيشة في الجنة يرضاها ويُسَرُّ بها
8 ... خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ... رجحت سيئاته
9 ... فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ... أمه التي يأوي إليها هي النار
11 ... نَارٌ حَامِيَةٌ ... فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءا
المعنى الإجمالي:
القارعة التي تقرع الناس بأهوالها ، وتصك آذانهم بصوتها هي يوم القيامة ، يوم الفزع الأكبر والهول الشديد ، واليوم الذي تصطك فيه الأجرام العلوية بالسفلية ، ويقرع فيها أعداء اللّه بالعذاب الشديد والخزي والنكال ، تلك هي القارعة الكبرى وما القارعة ؟ وهذا استفهام للتهويل والتفخيم ، وما أدراك! ما القارعة ؟ ! نعم أى شيء يعرفك بها ويعلمك حقيقتها ؟ لا أحد يخبرك عنها إلا خالقها وهو اللّه ، وأنت لا تعرف عنها إلا ما يقصه عليك ربها.
يوم يكون الناس حيارى مضطربين كالفراش المتفرق الذي يقع في النار لتخبطه وسوء تقديره ، وتكون الجبال الرواسي - التي كانت مثلا في الثبات وعدم التأثر - كالصوف المنفوش ، يا سبحان اللّه! أما حال من فيها فها هو ذا : فمن ثقلت موازينه لحسن أعماله وكثرة إخلاصه ، فهو يومئذ في عيشة راضية ، أى : فهو في حال تقر بها عينه ، وتطمئن لها نفسه حتى يصبح راضيا مغتبطا.(1/934)
وأما من خفت موازينه لسوء عمله واتباعه الباطل وبعده عن الحق فأمه هاوية ، ما أروع هذا التعبير! ما يأوى إليه نار حامية ، نار يهوى فيها صاحبها ، وما أدراك ، ما هيه ؟ أى : أنت لا تعرف عنها شيئا ، إنها نار حامية تكوى الوجوه ، وتشوى الجلود ، وقانا اللّه شرها. (1)
التفسير والبيان :
الْقارِعَةُ ، مَا الْقارِعَةُ ، وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ؟ الْقارِعَةُ من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب بالفزع ، وأي شيء هي ، وما أعلمك ما شأن القارعة ؟ وقوله : مَا الْقارِعَةُ لتعظيم شأنها وتفخيمه ، وقوله : وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ تأكيد لشدة هولها ، وتعظيم أمرها ، وتهويل شأنها.
ثم فسر ذلك وأبان زمانها وأماراتها ، فقال :
1- يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ أي يوم يخرج الناس من القبور ، يسيرون على غير هدى في كل اتجاه ، شأنهم في ذلك ، كالحشرة الطائرة المعروفة المنتشرة المتفرقة. أو كجميع الحشرات الطائرة ، كالبعوض والجراد ، فهم في انتشارهم وتفرقهم وذهابهم ومجيئهم بسبب حيرتهم مما هم فيه ، كأنهم فراش مبثوث ، أي متفرق منتشر ، كما قال تعالى : كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ [القمر 54/ 7]. قال الزمخشري : شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والتطاير إلى الداعي من كل جانب ، كما يتطاير الفراش إلى النار.
2- وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ أي وتصير الجبال كالصوف ذي الألوان المختلفة ، المندوف الذي نقش بالندف لأنها تتفتت وتتطاير ، كما في قوله تعالى : وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ [التكوير 81/ 3] وقوله سبحانه : وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا [المزمّل 73/ 14].
وفي ذكر هاتين الأمارتين تخويف للناس وتحذير شديد.
ثم ذكر الجزاء على الأعمال وأحوال الناس وتفرقهم فريقين إجمالا ، فقال : فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي أما من ثقلت موازينه بأن رجحت حسناته أو أعماله الصالحة على سيئاته ، فهو في عيشة مرضية يرضاها صاحبها في الجنة. والعيشة : كلمة تجمع النعم التي في الجنة.
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ، فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ ، وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ ، نارٌ حامِيَةٌ أي وأما من رجحت سيئاته على حسناته ، أو لم تكن له حسنات يعتد بها ، فمسكنه أو مأواه جهنم. وسماها أمه لأنه يأوي إليها كما يأوي الطفل إلى أمه ، وسميت جهنم هاوية وهي الهالكة لأنه يهوي فيها مع عمق قعرها ، ولأنها نار عتيقة.
ونحن نؤمن بالميزان كما ورد في القرآن ، دون أن ندري كيفية وزنه وتقديره.
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 897)(1/935)
وما أعلمك ما هذه النار ؟ والاستفهام للتهويل والتخويف ، ببيان أنها خارجة عن المعهود ، بحيث لا يدرى كنهها. قال الزمخشري : هيه ضمير الداهية التي دل عليها قوله : فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ أو ضمير هاوية ، والهاء للسكت ، وإذا وصل القارئ حذفها.
هي نار شديدة الحرارة ، انتهى حرها وبلغ في الشدة إلى الغاية ، فهي حارة شديدة الحرارة ، قوية اللهب والسعير. وهذا دليل على قوتها التي تفوق جميع النيران.
أخرج مالك والبخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ » . قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً . قَالَ « فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا ، كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا » (1) . .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : نَارُكُمْ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ ضُرِبَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ ، وَلَوْلاَ ذَلِكَ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْفَعَةً لأَحَدٍ. (2)
وعن أبي هريرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ أَحَدٌ بِجَنَّتِهِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ عَبْدٌ مِنْ جَنَّتِهِ، خَلَقَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ رَحْمَةٍ، وَأَهْبَطَ مِنْهَا رَحْمَةً بَيْنَ عِبَادِهِ يَتَرَاحَمُونَ بِهَا، وَعِنْدَ اللَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَهَذِهِ النَّارُ جُزْءٌ مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ مِنْ جَهَنَّمَ " (3)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: هَذِهِ النَّارُ جُزْءٌ مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ مِنْ جَهَنَّمَ. (4)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« أَهْوَنُ النَّاسِ عَذَاباً مَنْ لَهُ نَعْلاَنِ يَغْلِى مِنْهُمَا دِمَاغُهُ ». (5)
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ « إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاَةِ ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ » (6) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاَةِ ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ. (7)
ومضات :
__________
(1) - صحيح البخارى (3265)
(2) - صحيح ابن حبان - (16 / 504) (7463) صحيح
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (19 / 229) (562 ) حسن
(4) - غاية المقصد فى زوائد المسند 2 - (3 / 18) (5086 ) وأحمد (9158 ) صحيح
(5) - سنن الدارمى(2904) صحيح
(6) - صحيح البخارى (534 )
(7) - صحيح ابن حبان - (4 / 374) (1507) صحيح(1/936)
أسلوب الآيتين الأوليين استرعائي إلى يوم القيامة للإنذار بهوله وشدته ، وهو من أساليب النظم المتكرر في متون السور وفي مطالعها وتعبير وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ بسبيل تعظيم أمرها وهولها. والآيتان التاليتان لهما احتوتا وصفا لما يكون عليه الناس والجبال في هذا اليوم ، بسبيل توكيد هوله وشدته أيضا. والآيات الأربع الأخيرة احتوت تصنيف الناس حسب أعمالهم حيث يكونون فريقين : فريقا موازينه ثقيلة ، فمصيره الطمأنينة والعيش الرضي ، وآخر خفيفة فمصيره أعماق النار الحامية.
وتشبيه الناس بالفراش المبثوث والجبال بالعهن المنفوش مستمد من مألوفات الناس ومدركاتهم ، فالفراش دائم الاضطراب والتحويم والانتشار ، وسيكون الناس كذلك يوم القيامة من شدة القلق والرعب ، والجبال معروفة بصلابتها وصخورها ورسوخها في الأرض وارتفاعها في السماء. فأريد إفهام السامعين أن أشد ما يعرفونه صلابة ورسوخا يتفكك وينحل ويصبح كالعهن المنفوش رخاوة ولينا وخفة من شدة الهول وقد تنوع وصف حالة الجبال في يوم القيامة ، ومرّ من ذلك مثال في سورة المزمل. وهذا التنوع قد يدل على ما قلناه من أن القصد بهذا الوصف وأمثاله توكيد هول يوم القيامة وشدته.
وبمناسبة ورود تعبير الموازين وثقلها وخفتها في الآخرة في هذه السورة لأول مرة نقول إن ذلك قد ورد في سور أخرى منها آيات سورة الأعراف هذه : وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) وآية سورة الأنبياء هذه : وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) وآيات سورة المؤمنون هذه : فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103).
ولقد تعددت التأويلات المروية لهذه المسألة كما روي في صددها أحاديث عديدة. ومن الأحاديث حديث رواه أبو داود عن عائشة جاء فيها : «إنها ذكرت النار فبكت فقال لها رسول اللّه ما يبكيك فقالت ذكرت النار فبكيت فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة يا رسول اللّه. فقال أمّا في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدا : عند الميزان حتّى يعلم أيخفّ ميزانه أو يثقل ، وعند الكتاب حين يقال هاؤم اقرأوا كتابيه حتّى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه أم في شماله أم من وراء ظهره ، وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنّم» . وحديث رواه الترمذي عن أنس قال : «سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشفع لي يوم القيامة فقال أنا فاعل ، فقلت يا رسول اللّه فأين أطلبك قال اطلبني أول ما تطلبني على الصّراط ، قلت فإن لم ألقك على الصّراط قال فاطلبني عند الميزان ، قلت فإن لم ألقك عند الميزان ، قال فاطلبني عند الحوض فإني لا أخطئ هذه الثلاث المواطن».(1/937)
وحديث رواه الترمذي كذلك عن عبد اللّه بن عمرو قال : «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - إن اللّه سيخلص رجلا من أمّتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كلّ سجلّ مثل مدّ البصر ثم يقول اللّه أتنكر من هذا شيئا ، أظلمتك كتبتي الحافظون. فيقول لا يا ربّ. فيقول أفلك عذر؟ فيقول لا يا ربّ. فيقول بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول احضر وزنك فيقول يا ربّ ما هذه البطاقة مع هذه السجلّات فيقول إنك لا تظلم فيقول فتوضع السجلات في كفّة والبطاقة في كفّة فتطيش السجلات وتثقل البطاقة فإنه لا يثقل مع اسم اللّه شيء» .
وحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللّه جناح بعوضة ، وقال اقرؤوا فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا» . وحديث رواه الإمام أحمد جاء فيه : «إنّ ابن مسعود كان يجني سواكا من أراك وكان دقيق الساقين فجعلت الريح تكفؤه فضحك القوم منه فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ممّ تضحكون. قالوا يا نبيّ اللّه من دقة ساقيه. فقال والذي نفسي بيده إنّهما أثقل في الميزان من أحد» .
والتأويلات المروية عن أهل التأويل أو التي ذكرها المفسرون مختلفة ، فهناك من أخذ الآيات على ظاهرها مستأنسا بالأحاديث فقال إنه ينصب موازين بكفتين فتوضع الأعمال الحسنة في كفة والسيئة في كفة. ومن الذين ذهبوا هذا المذهب من قال استئناسا ببعض الأحاديث السابقة الذكر إن الذي يوضع في الكفتين كتب الأعمال ، ومنهم من قال إن الأعمال ذاتها تتجسد ، واستند هؤلاء إلى أحاديث أخرى منها حديث رواه مسلم عن أبي أمامة الباهلي قال : «سمعت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقول اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه. اقرأوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صوافّ تحاجّان عن أصحابهما» .
وحديث أخرجه ابن ماجه عن بريدة قال : «قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول أنا الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك».
وحديث رواه الإمام أحمد عن البراء في قصة سؤال القبر جاء فيه : «فيأتي المؤمن شاب حسن اللون طيب الريح فيقول من أنت فيقول أنا عملك الصالح وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق»
على أن هناك من قال إن الميزان في الجملة القرآنية تمثيلي يعني القضاء السوي والحكم العادل وأن استعمال الميزان بهذا المعنى شائع في اللغة. وقد عزيت بعض هذه الأقوال إلى مجاهد والضحاك من علماء التابعين بل وروي عن مجاهد قوله : «ليس ميزانا وإنما هو ضرب مثل»
ومع ما في هذه الأقوال من وجاهة وسداد فان جمهور المفسرين وأهل السنة قد أخذوا المذهب الأول بناء على صراحة العبارة القرآنية وما روي من أحاديث صحيحة.(1/938)
وعلى كل حال فإننا نقول إن الإيمان بما جاء في القرآن والأحاديث الصحيحة في هذا الأمر كما في غيره واجب على المسلم مع الإيمان بأنه لا بد من أن يكون لذكر الأمر بالأسلوب الذي ذكر به حكمة. ولما كانت حكمة التنزيل اقتضت أن تكون أوصاف مشاهد الآخرة من نعيم وعذاب وحساب مستمدة من مألوفات الناس على ما نبهنا عليه في سياق تعليقنا على الحياة الأخروية في سورة الفاتحة. ولما كان الناس في الحياة الدنيا قد اعتادوا على وزن الأشياء لمعرفة مقاديرها وقيمها واستيفاء حقوقهم فيها حسب نتيجة الوزن واعتبار ذلك هو مقتضى العدل واعتبار الشذوذ عنه ظلما وغبنا وإجحافا فقد يكون هذا من مقتضيات تلك الحكمة. وقد يكون من مقتضياتها كذلك تنبيه الناس إلى أنهم محاسبون على أعمالهم مهما كانت صغيرة أو كبيرة وأنها سوف يقايس ويوازن بين الحسنات والسيئات منها ولا ينجو إلّا من كانت أعماله حسنات أو على الأقل من كانت حسناته غالبة على سيئاته حتى يجتهدوا في الأعمال الحسنة ويتجنبوا الأعمال السيئة ، واللّه تعالى أعلم.
هذا ، وفيما احتوته السورة من الإنذار الشديد والوصف القوي وبيان مصير المحسن والمسيء دعوة للناس ليرجعوا عن طريق الغواية والشرّ ويسلكوا طريق الهدى والحق في الحياة الدنيا حتى ينالوا الحياة الرضية والعيشة الهنيئة في الآخرة ، وهو ما استهدفه الإنذار والتبشير القرآنيان بصورة مستمرة. كذلك فإن في الآيات الأربع الأخيرة تقريرا ضمنيا لمسؤولية الناس عن أعمالهم وأنها إنما تصدر عن كسبهم وأنهم إنما ينالون جزاءها حقا وعدلا وفاقا لها. (1)
التفسير قوله تعالى : « الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ». القارعة : هى يوم القيامة ، لأنها تقرع القلوب بهولها ، كأنها المقرعة التي تقع على الرأس بضربة مفاجئة .. فهى كالحاقة ، والصاخة ، والطامة ، والغاشية ..والاستفهام عنها هنا ، هو تهويل لها ، وليومها ، وأنها مما لا تحيط العقول بكنهها ..
وقوله تعالى : « يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ »..
هو خبر عن القارعة ، أي هى يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ، وتكون الجبال كالعهن المنفوش .. أي فى هذا اليوم يكون الناس كالفراش المنتشر ، فى انطلاقهم إلى الحشر ، وفى حومهم حول النار كما يحوم الفراش .. وتكون الجبال فى هذا اليوم كالصوف المنفوش ، أي الذي تفككت شعيراته بعضها عن بعض .. وقد عرضنا لهذا فى مبحث خاص وقوله تعالى : « فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ » ـ المراد بثقل الموازين هنا هو اعتبار الأعمال ، وإقامة وزن لها ، حتى إذا وزنت كان لها رجحان على غيرها من الأعمال التي لا قدر لها
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 183)(1/939)
ولا وزن ، كما يقول سبحانه وتعالى عن أعمال الكافرين : « أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً » (105 : الكهف) لأن أعمالهم لا قيمة لها ولا قدر .. ، لأنها لم تقم فى ظل الإيمان باللّه.
فأصحاب الأعمال الحسنة التي رجحت بها موازينهم وارتفعت بها أقدارهم على الناس يومئذ ، هم فى عيشة راضية ، حيث ينعمون فى جنات عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ..
وفى وصف المعيشة بأنها راضية ، مع أن الرضا إنما يكون لمن يعيشون فيها ـ فى هذا إشارة إلى أنها راضية فى ذاتها ، بحيث تبدو وكأنها كائن حىّ قد اجتمع له كل ما يرضيه .. فهذه المعيشة قد اجتمع لها كل أسباب الرضوان لجميع الناس على اختلاف مطالبهم ..
وقد عرضنا لهذا فى تفسير سورة « الحاقة ».
قوله تعالى : « وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ. فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ. وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ. نارٌ حامِيَةٌ » وهؤلاء هم الكافرون الذين حبطت أعمالهم ، فلم يكن لهم ولا لأعمالهم وزن ـ هؤلاء أمّهم. التي تضمهم إليهم ، وتحنو عليهم ، هى هاوية ، حيث تهوى بأصحابها إلى قرار الجحيم .. إنها نار حامية ، تأكل أهلها كما تأكل النار الحطب ..
وفى جميع الموازين ، إشارة إلى أن كل عمل من أعمال الإنسان له ميزانه الذي يوزن به ، حسب قدره ، وقيمة ..
أما الميزان الذي توزن به الأعمال ، فهذا مما استأثر اللّه سبحانه وتعالى بعلمه ، ولا ينبغى لنا أن نتكلف له تصورا ، وحسبنا أن نؤمن بأن هناك ميزانا توزن به الأعمال ، وتتبين به قيمة كل عمل ، صغر أو كبر .. أما هيئة هذا الميزان وكيفيته ، وكيف توزن الأعمال به ـ فهذا مما يتولاه اللّه عنا ، ولا شأن لنا به .. إنه سبحانه يحاسب ، ويقضى ، ويحكم ، وهو أحكم الحاكمين. (1)
لقد بدأ بإلقاء الكلمة مفردة كأنها قذيفة : { القارعة } بلا خبر ولا صفة . لتلقي بظلها وجرسها الإيحاء المدوي المرهوب!
ثم أعقبها سؤال التهويل : { ما القارعة؟ } . . فهي الأمر المستهول الغامض الذي يثير الدهش والتساؤل!
ثم أجاب بسؤال التجهيل : { وما أدراك ما القارعة؟ } . . فهي أكبر من أن يحيط بها الإدراك ، وأن يلم بها التصور!
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1661)(1/940)
ثم الإجابة بما يكون فيها ، لا بماهيتها . فماهيتها فوق الإدراك والتصور كما أسلفنا : { يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ، وتكون الجبال كالعهن المنفوش } . .
هذا هو المشهد الأول للقارعة . مشهد تطير له القلوب شعاعاً ، وترجف منه الأوصال ارتجافاً . ويحس السامع كأن كل شيء يتشبث به في الأرض قد طار حوله هباء! ثم تجيء الخاتمة للناس جميعاً :{ فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية ، وأما من خفت موازينه فأمه هاوية . وما أدراك ماهيه؟ نار حامية! } .
وثقل الموازين وخفتها تفيدنا : قيماً لها عند الله اعتبار ، وقيماً ليس لها عنده اعتبار . وهذا ما يلقيه التعبير بجملته ، وهذا الله أعلم ما يريده الله بكلماته . فالدخول في جدل عقلي ولفظي حول هذه التعبيرات هو جفاء للحس القرآني ، وعبث ينشئه الفراغ من الاهتمام الحقيقي بالقرآن والإسلام!
{ فأما من ثقلت موازينه } في اعتبار الله وتقويمه { فهو في عيشة راضية } . . ويدعها مجملة بلا تفصيل ، توقع في الحس ظلال الرضى وهو أروح النعيم .
{ وأما من خفت موازينه } في اعتبار الله وتقويمه { فأمه هاوية } . . والأم هي مرجع الطفل وملاذه . فمرجع القوم وملاذهم يومئذ هو الهاوية!
وفي التعبير أناقة ظاهرة ، وتنسيق خاص . وفيه كذلك غموض يمهد لإيضاح بعده يزيد في عمق الأثر المقصود :{ وما أدراك ماهيه؟ } . .سؤال التجهيل والتهويل المعهود في القرآن ، لإخراج الأمر عن حدود التصور وحيز الإدراك!
ثم يجيء الجواب كنبرة الختام :{ نار حامية } . .هذه هي أم الذي خفت موازينه! أمه التي يفيء إليها ويأوي! والأم عندها الأمن والراحة . فماذا هو واجد عند أمه هذه . . الهاوية . . النار . . الحامية!!
إنها مفاجأة تعبيرية تمثل الحقيقة القاسية! (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر صورة صادقة لها .
2- التحذير من أهوال يوم القيامة وعذاب الله تعالى فيها .
3- تقرير عقيدة وزن الأعمال صالحها وفاسدها وترتيب الجزاء عليها
4- تقرير أن الناس يوم القيامة فريقان فريق في الجنة وفريق في السعير.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3961)(1/941)
5- القيامة ذات أهوال وشدائد ومخاوف تهز القلوب وتقرع الأسماع ، لا يعلم أحد بكنهها لأنها في الشدة بحيث لا يتصورها عقل أحد ، وكيفما قدرت فهو أعظم من تقديرك ، كأنه تعالى قال : قوارع الدنيا في جنب تلك القارعة كأنها ليست بقوارع ، ونار الدنيا في جنب نار الآخرة كأنها ليست بنار.
وفي هذا تحذير شديد وإرهاب لا مثيل له. قال مقاتل : إنها تقرع أعداء اللَّه بالعذاب ، وأما أولياؤه فهم من الفزع آمنون.
6- وصف اللَّه يوم القيامة بأمرين :
الأول- كون الناس فيه كالفراش المتفرق المنتشر ، وهو الحيوان الذي يتهافت في النار.
الثاني- صيرورة الجبال فيه كالصوف ذي الألوان ، المندوف ، الذي ينفش بعضه عن بعضه.
ويلاحظ أنه تعالى وصف تغير الأحوال على الجبال من وجوه أربعة :
أولها- أن تصير قطعا ، كما قال : وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ ، فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الحاقة 69/ 14].
وثانيها- أن تصير كثيبا مهيلا ، كما قال : وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً ، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل 27/ 88].
وثالثها- ثم تصير كالعهن المنفوش ، وهي أجزاء كالذر الداخل من النافذة.
ورابعها- تصير سرابا ، كما قال : وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ ، فَكانَتْ سَراباً [النبأ 78/ 20] (1) .
7- يقسم الناس يوم القيامة إلى قسمين بحسب ثقل موازين أعمالهم وخفتها ، فأما من رجحت حسناته على سيئاته فهو في الجنة في عيشة مرضية ، وأما من رجحت سيئاته على حسناته فهو في نار حامية شديدة الحرارة. وقوله : نارٌ حامِيَةٌ إشارة إلى أن سائر النيران بالنسبة إلى نار الآخرة غير حامية. وهذا القدر كاف في التنبيه على قوة سخونتها.
والموازين جمع ميزان ، فيؤتى بحسنات المطيع في أحسن صورة ، فإذا رجح ، فله الجنة ، ويؤتى بسيئات الكافر في أقبح صورة ، فيخف وزنه ، فيدخل النار.
وقال المتكلمون : إن نفس الحسنات والسيئات لا يصح وزنهما ،بل المراد أن الصحف المكتوب فيها الحسنات والسيئات توزن ، أو يجعل النور علامة الحسنات ، والظلمة علامة السيئات.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : قَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ : قَوْلُهُ : وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ قَالَ : " إِنَّا نَرَى مِيزَانًا وَكِفَّتَيْنِ ،سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ : " يُجْعَلُ الرَّجُلُ الْعَظِيمُ الطَّوِيلُ فِي الْمِيزَانِ ، ثُمَّ لَا يَقُومُ بِجَنَاحٍ ذُبَابٍ " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ عَمْرِو
__________
(1) - تفسير الرازي : 32/ 72(1/942)
بْنِ دِينَارٍ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ : هُوَ الْمِيزَانُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ ، وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَزِنُ أَعْمَالَ خَلْقِهِ الْحَسَنَاتِ مِنْهَا وَالسَّيِّئَاتِ ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ : مَوَازِينُ عَمَلِهِ الصَّالِحِ ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يَقُولُ : فَأُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ ظَفَرُوا بِالنَّجَاحِ وَأَدْرَكُوا الْفَوْزَ بِالطَّلَبَاتِ ، وَالْخُلُودِ وَالْبَقَاءِ فِي الْجَنَّاتِ ، لِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقَوْلِهِ : " مَا وُضِعَ فِي الْمِيزَانِ شَيْءٌ أَثْقَلَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ " ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي تُحَقِّقُ أَنَّ ذَلِكَ مِيزَانٌ يُوزَنُ بِهِ الْأَعْمَالُ عَلَى مَا وَصَفْتُ . فَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ جَاهِلٌ بِتَوْجِيهِ مَعْنَى خَبَرِ اللَّهِ عَنِ الْمِيزَانِ وَخَبَرِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ وِجْهَتِهِ ، وَقَالَ : وَكَيْفَ تُوزَنُ الْأَعْمَالُ ، وَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ بِأَجْسَامٍ تُوصَفُ بِالثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ ، وَإِنَّمَا تُوزَنُ الْأَشْيَاءُ لِيُعْرَفَ ثِقَلُهَا مِنْ خِفَّتِهَا وَكَثْرَتُهَا مِنْ قِلَّتِهَا ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُوصَفُ بِالثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ ؟ قِيلَ لَهُ فِي قَوْلِهِ : ( وَمَا وَجْهُ وَزْنِ اللَّهِ الْأَعْمَالَ وَهُوَ الْعَالِمُ بِمَقَادِيرِهَا قَبْلَ كَوْنِهَا ؟ ) : وَزْنُ ذَلِكَ نَظِيرُ إِثْبَاتِهِ إِيَّاهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ ، وَاسْتِنْسَاخِهِ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بِهِ إِلَيْهِ وَمِنْ غَيْرِ خَوْفٍ مِنْ نِسْيَانِهِ ، وَهُوَ الْعَالِمُ بِكُلِّ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَالٍ وَوَقْتٍ قَبْلَ كَوْنِهِ وَبَعْدَ وُجُودِهِ ، بَلْ لِيَكُونَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي تَنْزِيلِهِ : كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ الْآيَةَ ، فَكَذَلِكَ وَزْنُهُ تَعَالَى أَعْمَالَ خَلْقِهِ بِالْمِيزَانِ حُجَّةً عَلَيْهِمْ وَلَهُمْ ، إِمَّا بِالتَّقْصِيرِ فِي طَاعَتِهِ وَالتَّضْيِيعِ ، وَإِمَّا بِالتَّكْمِيلِ وَالتَّتْمِيمِ . وَأَمَّا وَجْهُ جَوَازِ ذَلِكَ ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : " يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْمِيزَانِ ، فَيُوضَعُ فِي الْكِفَّةِ ، فَيُخْرَجُ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا فِيهَا خَطَايَاهُ وَذُنُوبُهُ . قَالَ : ثُمَّ يُخْرَجُ لَهُ كِتَابٌ مِثْلُ الْأَنْمُلَةِ ، فِيهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ : فَتُوضَعُ فِي الْكِفَّةِ فَتَرْجَحُ بِخَطَايَاهُ وَذُنُوبِهِ " فَكَذَلِكَ وَزْنُ اللَّهِ أَعْمَالَ خَلْقِهِ بِأَنْ يُوضَعَ الْعَبْدُ وَكُتُبُ حَسَنَاتِهِ فِي كِفَّةٍ مِنْ كِفَّتَيِ الْمِيزَانِ ، وَكُتُبُ سَيِّئَاتِهِ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى ، وَيُحْدِثُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ثِقْلًا وَخِفَّةً فِي الْكِفَّةِ الَّتِي الْمَوْزُونُ بِهَا أَوْلَى احْتِجَاجًا مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ عَلَى خَلْقِهِ كَفِعْلِهِ بِكَثِيرٍ مِنْهُمْ مِنِ اسْتِنْطَاقِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمُ ، اسْتِشْهَادًا بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ حُجَجِهِ . وَيُسْأَلُ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ ، فَيُقَالُ لَهُ : إِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَنَا تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ يُثَقِّلُ مَوَازِينَ قَوْمٍ فِي الْقِيَامَةِ وَيُخَفِّفُ مَوَازِينَ آخَرِينَ ، وَتَظَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِتَحْقِيقِ ذَلِكَ ، فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ لَكَ إِنْكَارَ الْمِيزَانِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمِيزَانَ الَّذِي وَصَفْنَا صِفَتَهُ الَّذِي يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ ؟ أَحُجَّةُ عَقْلٍ ؟ فَقَدْ يُقَالُ : وَجْهُ صِحَّتِهِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ ، وَلَيْسَ فِي وَزْنِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَلْقَهُ وَكُتُبَ أَعْمَالِهِمْ ، لِتَعْرِيفِهِمْ أَثْقَلَ الْقِسْمَيْنِ مِنْهَا بِالْمِيزَانِ ، خُرُوجٌ مِنْ حِكْمَةٍ ، وَلَا دُخُولٌ فِي جَوْرٍ فِي قَضِيَّةٍ ، فَمَا الَّذِي أَحَالَ ذَلِكَ عِنْدَكَ مِنْ حُجَّةٍ أَوْ عَقْلٍ أَوْ خَبَرٍ ؟ إِذْ كَانَ لَا سَبِيلَ إِلَى حَقِيقَةِ الْقَوْلِ بِإِفْسَادِ مَا لَا يَدْفَعُهُ الْعَقْلُ إِلَّا مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْتُ ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ . وَفِي عَدَمِ الْبُرْهَانِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وُضُوحُ فَسَادِ قَوْلِهِ وَصِحَّةِ مَا قَالَهُ أَهْلُ الْحَقِّ فِي(1/943)
ذَلِكَ . وَلَيْسَ هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ مَوَاضِعِ الْإِكْثَارِ فِي هَذَا الْمَعْنَى عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْمِيزَانَ الَّذِي وَصَفْنَا صِفَتَهُ ، إِذْ كَانَ قَصْدُنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْبَيَانَ عَنْ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَرَنَّا إِلَى مَا ذَكَرْنَا نَظَائِرَهُ ، وَفِي الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ " (1)
8- الأعمال والأقوال التي تثقل الميزان :
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ، ثَقِيلَتَانِ فِى الْمِيزَانِ ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ » (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِى الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ » (3) . .
وعَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : دَعَا أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَقَالَ لَهُ : " إِنِّي أُوصِيكَ بِوَصِيَّةٍ أَنْ تَحْفَظَهَا : إِنَّ لِلَّهِ فِي اللَّيْلِ حَقًّا لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ ، وَبِالنَّهَارِ حَقًّا لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ ، إِنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ نَافِلَةٌ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ ، إِنَّهُ إِنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْحَقَّ فِي الدُّنْيَا ، وَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ، وَحُقَّ لِمِيزَانٍ لَا يُوضَعُ فِيهِ إِلَّا الْحَقُّ أَنْ يَثْقُلَ ، وَخَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، لِاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ فِي الدُّنْيَا ، وَخِفَّتِهِ عَلَيْهِمْ ، وَحُقَّ لِمِيزَانٍ لَا يُوضَعُ فِيهِ إِلَّا الْبَاطِلُ أَنْ يَخِفَّ ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِأَحْسَنَ أَعْمَالِهِمْ ، فَيَقُولُ قَائِلٌ : أَيْنَ يَبْلُغُ عَمَلِي مِنْ عَمِلِ هَؤُلَاءِ ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ عَنْ أَسْوَأِ أَعْمَالِهِمْ فَلَمْ يُبْدِهِ ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ بِأَسْوَإِ أَعْمَالِهِمْ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ : أَنَا خَيْرٌ عَمَلًا مِنْ هَؤُلَاءِ ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ رَدَّ عَلَيْهِمْ أَحْسَنَ أَعْمَالِهِمْ ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ آيَةَ الشِّدَّةِ عِنْدَ آيَةِ الرَّخَاءِ ، وَآيَةَ الرَّخَاءِ عِنْدَ آيَةِ الشِّدَّةِ ، لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ رَاغِبًا رَاهِبًا ، لِئَلَّا يُلْقِيَ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ ، وَلَا يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ أُمْنِيَةً يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ فِيهَا غَيْرَ الْحَقِّ " (4)
وعَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ قَالَ : لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا بَكْرٍ الْوَفَاةُ بَعَثَ إِلَى عُمَرَ يَسْتَخْلِفُهُ فَقَالَ النَّاسُ : اسْتَخْلَفَ عَلَيْنَا فَظًّا غَلِيظًا ، لَوْ قَدْ مَلَكَنَا كَانَ أَفَظَّ وَأَغْلَظَ ، فَمَاذَا تَقُولُ لِرَبِّكَ إِذَا لَقِيتَهُ وَقَدِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَيْنَا
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (13106و13107 ) صحيح مرسل ، وخديث عبد الله حسن
(2) - صحيح البخارى (6406 )
فقوله كلمتان فيه ترغيب وتخفيف وقوله حبيبتان فيه حث على ذكرهما لمحبة الرحمن إياهما وقوله خفيفتان فيه حث بالنسبة إلى ما يتعلق بالعمل وقوله: "ثقيلتان فيه إظهار ثوابهما وجاء الترتيب بهذا الحديث على أسلوب عظيم وهو أن حب الرب سابق وذكر العبد وخفة الذكر على لسانه تال وبعد ذلك ثواب هاتين الكلمتين إلى يوم القيامة وهاتان الكلمتان معناهما جاء في ختام دعاء أهل الجنة ل قوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فتح الباري لابن حجر - (1 / 473)
(3) - صحيح مسلم (7021 )
(4) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (28858 ) حسن لغيره(1/944)
عُمَرَ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : " أَتُخَوِّفُونِي بِرَبِّي ؟ أقُولُ : يَا رَبِّ ، أَمَّرْتُ عَلَيْهِمْ خَيْرَ أَهْلِكَ . ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ : إِنِّي مُوصِيكَ بِوَصِيَّةٍ إِنْ حَفِظْتَهَا : إِنَّ لِلَّهِ حَقًّا فِي اللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ ، وَلِلَّهِ حَقًّا فِي النَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ فِي اللَّيْلِ ، وَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ نَافِلَةً حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ ، وَإِنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْحَقَّ فِي الدُّنْيَا ثِقَلَهُ عَلَيْهِمْ ، وَحَقَّ لِمِيزَانٍ لَا يُوضَعُ فِيهِ إِلَّا الْحَقُّ أَنْ يَكُونَ ثَقِيلًا ، وَإِنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ فِي الدُّنْيَا وَخِفَّتِهِ عَلَيْهِمْ ، وَحَقَّ لِمِيزَانٍ لَا يُوضَعُ فِيهِ إِلَّا الْبَاطِلُ أَنْ يَخِفَّ ، إِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِصَالِحِ أَعْمَالِهِمْ وَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ ، فَيَقُولُ الْقَائِلُ : لَا أَبْلُغُ هَؤُلَاءِ ، وَذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ بِأَسْوَإِ مَا عَمِلُوا بِهِ ، رَدَّ عَلَيْهِمْ صَالِحَ الَّذِينَ عَمِلُوا ، فَيَقُولُ الْقَائِلُ : أَنَا أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ ، وَذَكَرَ آيَةَ الرَّحْمَةِ وَآيَةَ الْعَذَابِ ؛ لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ رَاغِبًا رَاهِبًا ، لَا تَتَمَنَّ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ غَيْرَ الْحَقِّ ، وَلَا تُلْقِ بِيَدَيْكَ إِلَى التَّهْلُكَةِ ، فَإِنْ حَفِظْتَ قَوْلِي هَذَا لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنَ الْمَوْتِ ، وَلَابُدَّ لَكَ مِنْهُ ، وَإِنْ أَنْتَ ضَيَّعْتَ قَوْلِي لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَبْغَضَ إِلَيْكَ مِنَ الْمَوْتِ ، وَلَنْ تُعْجِزَهُ "
عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ سَالِمٍ قَالَ : لَمَّا حَضَرَ أَبَا بَكْرٍ الْمَوْتُ أَوْصَى : " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، هَذَا عَهْدٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عِنْدَ آخِرِ عَهْدِهِ بِالدُّنْيَا خَارِجًا مِنْهَا ، وَأَوَّلِ عَهْدِهِ بِالْآخِرَةِ دَاخِلًا فِيهَا ، حَيْثُ يُؤْمِنُ الْكَافِرُ ، وَيَتَّقِي الْفَاجِرُ ، وَيَصْدُقُ الْكَاذِبُ ، إِنِّي اسْتَخْلَفْتُ مِنْ بَعْدِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، فَإِنْ قَصَدَ وَعَدَلَ فَذَاكَ ظَنِّي بِهِ ، وَإِنْ جَارَ وَبَدَّلَ فَالْخَيْرَ أَرَدْتُ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ . ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عُمَرَ فَدَعَاهُ فَقَالَ : يَا عُمَرُ ، أَبْغَضَكَ مُبْغِضٌ ، وَأَحَبَّكَ مُحِبٌّ ، وَقَدْ مَا يُبْغَضُ الْخَيْرُ وَيُحَبُّ الشَّرُّ قَالَ عُمَرُ : فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهَا قَالَ : لَكِنْ لَهَا بِكَ حَاجَةٌ ، قَدْ رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَصُحْبَتَهُ ، وَرَأَيْتَ أَثْرَتَهُ أَنْفُسَنَا عَلَى نَفْسِهِ ، حَتَّى أَنْ كُنَّا لَنُهْدِيَ لِأَهْلِهِ فَضْلَ مَا يَأْتِينَا مِنْهُ ، وَرَأَيْتَنِي وَصَحِبْتَنِي ، وَإِنَّمَا اتَّبَعْتُ أَثَرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي ، وَاللَّهِ مَا نِمْتُ فَحَلَمْتُ ، وَلَا شَبَّهْتُ فَتَوَهَّمْتُ ، وَإِنِّي عَلَى طَرِيقِي مَا زِغْتُ ، تَعْلَمُ يَا عُمَرُ أَنَّ لِلَّهِ حَقًّا فِي اللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ فِي النَّهَارِ ، وَحَقًّا فِي النَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ فِي اللَّيْلِ ، وَإِنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْحَقَّ ، وَحَقَّ لِمِيزَانٍ لَا يَكُونُ فِيهِ إِلَّا الْحَقُّ أَنْ يَثْقُلَ ، وَإِنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ ، وَحَقَّ لِمِيزَانٍ لَا يَكُونُ فِيهِ إِلَّا الْبَاطِلُ أَنْ يَخِفَّ ، إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أُحَذِّرُكَ نَفْسُكَ ، وَأُحَذِّرُكَ النَّاسَ ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ طَمَحَتْ أَبْصَارُهُمْ ، وَانْتَفَخَتْ أَجْوَافُهُمْ ، وَإِنَّ لَهُمْ لَحِيرَةٌ عَنْ ذِلَّةٍ تَكُونُ ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَهُ ، وَإِنَّهُمْ لَنْ يَزَالُوا خَائِفِينَ لَكَ فَرِقِينَ مِنْكَ مَا خِفْتَ مِنَ اللَّهِ وَفَرِقْتَهُ ، وَهَذِهِ وَصِيَّتِي ، وَأَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ " (1)
__________
(1) - تَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ (1010 و1011) صحيح(1/945)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَابِطٍ ، قَالَ : " لَمَّا بَلَغَ النَّاسَ ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ ، يُرِيدُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ ، عُمَرَ ، قَالُوا : مَاذَا يَقُولُ لِرَبِّهِ إِذَا لَقِيَهُ : اسْتَخْلَفَ عَلَيْنَا فَظًّا غَلِيظًا ، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ فَكَيْفَ لَوْ قَدَرَ ؟ فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ ، فَقَالَ : " أَبِرَبِّي تُخَوِّفُونِي أَقُولُ : اسْتَخْلَفْتُ خَيْرَ أَهْلِكَ ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ ، فَقَالَ : إِنَّ لِلَّهِ عَمَلًا بِاللَّيْلِ ، لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ ، وَعَمَلًا بِالنَّهَارِ ، لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَنْ تُقْبَلَ نَافِلَةٌ حَتَّى تُؤَدُّوا الْفَرِيضَةَ ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ ، فَذَكَرَهُمْ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَةٍ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ : أَنَّى يَبْلُغُ عَمَلِي هَذَا ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ حِينَ ذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ ، فَذَكَرَهُمْ بِأَسْوَأِ أَعْمَالِهِمْ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ حَسَنَةً فَلَمْ تُقْبَلْ مِنْهُمْ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ : عَمَلِي خَيْرٌ مِنْ هَذَا ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ ، لِكَيْ يُرْهِبَ الْمُؤْمِنَ فَيَعْمَلَ ، وَكَيْ يُرَغِّبَ فَلَا يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُمْ بِاتِّبَاعِهِمُ الْحَقَّ وَتَرْكِهِمُ الْبَاطِلَ ، فَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ، وَحُقَّ لِمِيزَانٍ أَنْ لَا يُوضَعَ فِيهِ إِلَّا الْحَقُّ أَنْ يَثْقُلَ أَلَمْ تَرَ أَنَّ مَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ إِلَّا بِاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ ، وَتَرْكِهِمُ الْحَقَّ ، وَحُقَّ لِمِيزَانٍ أَنْ لَا يُوضَعَ فِيهِ إِلَّا الْبَاطِلُ أَنْ يَخِفَّ ، ثُمَّ قَالَ : أَمَا إِنْ حَفِظْتَ وَصِيَّتِي لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنَ الْمَوْتِ ، وَأَنْتَ لَا بُدَّ لَاقِيهِ ، وَإِنْ أَنْتَ ضَيَّعْتَ وَصِيَّتِي لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَبْغَضَ إِلَيْكَ مِنَ الْمَوْتِ ، وَلَا تُعْجِزُهُ " (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ». قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ « إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِى قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِى النَّارِ ». (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ ، وَلاَ مَتَاعَ لَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ ، وَقَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا ، فَيَقْعُدُ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَ مَا عَلَيْهِ أَخَذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ." (3)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - تَفْسِيرُ سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ (888 ) صحيح لغيره
(2) - صحيح مسلم (6744 )
(3) - صحيح ابن حبان - (10 / 258) (4411) صحيح(1/946)
سورة التكاثر
مكيّة ، وهي ثماني آيات
تسميتها :
سميت سورة التكاثر لقوله تعالى : أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ أي شغلكم التفاخر بالأموال والأولاد والأعوان.
قال الألوسي : أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال : كان أصحاب رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) يسمونها ( المَقْبُرة ) اه .
وسميت في معظم المصاحف ومعظم التفاسير ( سورة التكاثر ) وكذلك عنونها الترمذي في ( جامعه ) وهي كذلك معنونة في بعض المصاحف العتيقة بالقيروان . وسميت في بعض المصاحف ( سورة ألهاكم ) وكذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من ( صحيحه ) .
وهي مكية عند الجمهور ، قال ابن عطية : هي مكية لا أعلم فيها خلافاً .
وعن ابن عباس والكلبي ومقاتل : أنها نزلت في مفاخرة جَرت بين بني عبد مناف وبَني سهم في الإِسلام كما يأتي قريباً وكانوا من بطون قريش بمكة ولأن قبور أسلافهم بمكة .
وفي ( الإِتقان ) : المختار أنها مدنية . قال : ويدل له ما أخرجه ابن أبي حاتم أنها نزلت في قبيلتين من الأنصار تفاخروا ، وما أخرجه البخاري عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لَوْ أَنَّ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ ، وَلَنْ يَمْلأَ فَاهُ إِلاَّ التُّرَابُ ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ » .
وعَنْ أُبَىٍّ قَالَ كُنَّا نَرَى هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ ( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ) (1) ..
يريد المستدل بهذا أن أبيّاً أنصاري وأن ظاهر قوله : حتى نزلت : ( ألهاكم التكاثر ، أنها نزلت بعد أن كانوا يَعدُّون : لو أن لابن آدم وادياً من ذهب الخ من القرآن وليس في كلامُ أُبيُّ دليل ناهض إذ يجوز أن يريد بضمير كنا ( المسلمين ، أي كان من سبق منهم يعد ذلك من القرآن حتى نزلت سورة التكاثر وبَيّن لهم النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) أن ما كانوا يقولونه ليس بقرآن .
والذي يظهر من معاني السورة وغلظة وعيدها أنها مكية وأن المخاطب بها فريق من المشركين لأن ما ذكر فيها لا يليق بالمسلمين أيامئذ .
وسبب نزولها فيما قاله الواحدي والبغوي عن مقاتل والكلبي والقرطبيُّ عنهما وعن ابن عباس : أن بني عبد مناف وبني سهم من قريش تفاخروا فتعادُّوا السادة والأشراف من أيّهم أكثر عدداً فكثَر بنُو عبد مناف بني سهم ، ثم قالوا نعُدُّ موتانا حتى زاروا القبور فعدوا القبور فكثَرهم بنو سهم بثلاثة أبيات لأنهم كانوا أكثر عدداً في الجاهلية .
__________
(1) - صحيح البخارى -(6439 و6440)(1/947)
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بُرَيْدة الجَرميُّ قال : نزلت في قبيلين من الأنصار بني حارثة وبني الحارث تفاخروا وتكاثروا بالأحياء ثم قالوا : انطلِقوا بنا إلى القبور فجعلت إحدى الطائفتين تقول : فيكم مثل فلان ، تشير إلى القبرِ ، ومثل فلان ، وفعل الآخرون مثل ذلك ، فأنزل الله : ( ألهاكم التكاثر ).
وقد عدت السادسة عشرة في ترتيب نزول السور ، نزلت بعد سورة الكوثر وقبل سورة الماعون بناء على أنها مكية .وعدد آياتها ثمان . (1)
مناسبتها لما قبلها :
أخبرت سورة القارعة عن بعض أهوال القيامة ، وجزاء السعداء والأشقياء ، ثم ذكر في هذه السورة علة استحقاق النار وهو الانشغال بالدنيا عن الدين ، واقتراف الآثام ، وهددت بالمسؤولية في الآخرة عن أعمال الدنيا.
ومناسبتها لما قبلها - أن فى الأولى وصف القيامة وبعض أهوالها وجزاء الأخيار والأشرار ، وأن فى هذه ذكر الجحيم وهى الهاوية التي ذكرت فى السورة السابقة ، وذكر السؤال عما قدم المرء من الأعمال فى الحياة الدنيا ، وهذا بعض أحوال الآخرة. (2)
ما اشتملت عليه السورة :
* سورة التكاثر مكية ، وهي تتحدث عن انشغال الناس بمغريات الحياة ، وتكالبهم على جمع حطام الدنيا ، حتى يقطع الموت عليهم متعتهم ، ويأتيهم فجأة وبغتة ، فينقلهم من القصور إلى القبور . الموت يأتي بغتة والقبرصندوق العمل ، وقد تكرر في هذه السورة (الزجر والإنذار) تخويفا للناس ، وتنبيها لهم على خطئهم ، باشتغالهم بالفانية عن البافية [ كلا سوف تعلمون ، ثم كلا سوف تعلمون ] .
* وختمت السورة الكريمة ببيان المخاطر والأهوال التي سيلقونها في الآخرة ، والتي لا يجوزها ولا ينجو منها إلا المؤمن ، الذي قدم صالح الأعمال. (3)
وقال ابن عاشور :
" اشتملت على التوبيخ على اللهو عن النظر في دلائل القرآن ودعوة الإِسلام بإيثار المال والتكاثر به والتفاخر بالأسلاف وعدم الإِقلاع عن ذلك إلى أن يصيروا في القبور كما صار من كان قبلهم وعلى الوعيد على ذلك .
وحثهم على التدبر فيما ينجيهم من الجحيم .
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 517)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 228)
(3) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 519)(1/948)
وأنهم مبعوثون ومسؤولون عن إهمال شكر المنعم العظيم ." (1)
في السورة تنديد بالمستغرقين في الدنيا ومالها ونعيمها. وإنذار لهم بالآخرة. وهي عامة العرض والتوجيه. وقد روي أنها مدنية. وأسلوبها ومضمونها يحمل على الشك في ذلك. وقد سلكتها التراتيب المروية في سلك السور المكية. (2)
سبب نزول السورة :
عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، فِي قَوْلِهِ:" " أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ " ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ، فِي بَنِي حَارِثَةَ، وَبَنِي الْحَارِثِ، تَفَاخَرُوا وَتَكَاثَرُوا، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا: فِيكُمْ مِثْلُ فُلانِ بْنِ فُلانٍ وَفُلانٍ؟ وَقَالَ الْآخَرُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، تَفَاخَرُوا بِالْأَحْيَاءِ، ثُمَّ قَالُوا: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى الْقُبُورِ، فَجَعَلَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ تَقُولُ: فِيكُمْ مِثْلُ فُلانٍ؟ يَشِيرُونَ إِلَى الْقَبْرِ، وَمِثْلُ فُلانٍ؟ وَفَعَلَ الْآخَرُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ " ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيمَا رَأَيْتُمْ عِبْرَةٌ وَشُغُلٌ" (3)
وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " مَا زِلْنَا نَشُكُّ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ حَتَّى نَزَلَتْ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ " (4)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 518)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 15)
(3) - تفسير ابن أبي حاتم - (12 / 445) فيه ضعف
(4) - سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ ـ الْجَامِعُ الصَّحِيحُ (3430 ) حسن(1/949)
التفاخر في الدنيا والسؤال عن الأعمال
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... أَلْهَاكُمْ ... شغلكم عن طاعة الله
1 ... التَّكَاثُرُ ... التباهي بكثرة المال والمتاع
2 ... حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِر ... تشاغلتم بالمال وجمعه حتى متم ثم نقلتم إلى المقابر
3 ... كَلا ... حرف ردع وزجر - لا ينبغي لكم هذا
3 ... سَوْفَ تَعْلَمُونَ ... سوف تعلمون في قبوركم خطأ فعلكم
5 ... لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ ... لو تعلمون مصيركم علما يقينيا لما شغلكم المال والأولاد عن طاعة ربكم
6 ... لِتَرَوُنَّ الجَحِيمَ ... والله لترون النار
7 ... لِتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ ... لترون النار حقيقة مشاهدة عيانا
8 ... لَتُسْئَلُّنُّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ... وسوف تسألون عن هذا النعيم وهو ( الأمن والصحة سؤال تفضل وإنعام ، وهو الحساب اليسير .
المعنى الإجمالي:
ألهاكم التكاثر في الأموال والرجال والتغالب في جمعها عن تحصيل ما ينفعكم وعمل ما يبقى لكم يوم القيامة ، ألهاكم ذلك وشغلكم عن الخير الذي ينفعكم حتى صرتم موتى والمعنى : أنكم بقيتم على ذلك طول حياتكم.
وقد ورد أن قبيلتين تفاخرتا بكثرة المال والرجال حتى ذهبوا إلى قبورهم ، وتفاخروا بمن مات فنزلت السورة تنعى عليهم ذلك وتحذرهم عاقبته ومغبته.
ارتدعوا عن ذلك العمل الذي ينشئ التدابر والتقاطع والانشغال بما لا ينفع صاحبه.
كلا سوف تعلمون عاقبة هذا التكاثر وعند ذلك تندمون ولا ينفع الندم ، ثم كلا سوف تعلمون ، وهذا تأكيد للمعنى السابق ، كلا! لو تعلمون عاقبة ذلك علما يقينيا لا شك فيه ولا شبهة علما ناشئا عن اعتقاد صحيح لما تفاخرتم بالمال أو بالرجال ، ولما تسابقتم في تكثير المال والرجال(1/950)
، ولانصرفتم إلى ما هو خير لكم وأجدى عليكم ، ألا وهو التسابق في تحصيل الخير ، فلمثل هذا فليعمل العاملون.
أقسم لترون الجحيم - وهذا كناية عن ذوق عذابها - ثم لترونها ولتتذوقن عذابها لأنكم تسابقتم في المال وتكاثرتم وتفاخرتم به ، ولترونها لذلك رؤية مشاهدة ، رؤية محسوسة وهي الرؤية اليقينية ، ثم بعد ذلك لتسألن عن النعيم الذي تتفاخرون به وتتسابقون في تحصيله ، فاحذروا أيها الناس وانتبهوا. (1)
التفسير والبيان :
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أي شغلكم التفاخر والتباهي بالأموال والأولاد والأعوان ، والاعتناء بكثرتها وتحصيلها ، شغلكم عن طاعة اللَّه والعمل للآخرة ، حتى أدرككم الموت ، وأنتم على تلك الحال.
قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهُ - صلى الله عليه وسلم - « يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ » (2) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ : يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ." (3)
وعَنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : لاِبْنِ آدَمَ ثَلاَثَةٌ أَخِلاَّءُ : أَمَّا خَلِيلٌ ، فَيَقُولُ : مَا أَنْفَقَتْ فَلَكَ ، وَمَا أَمْسَكَتْ فَلَيْسَ لَكَ ، فَهَذَا مَالُهُ ، وَأَمَّا خَلِيلٌ فَيَقُولُ : أَنَا مَعَكَ فَإِذَا أَتَيْتَ بَابَ الْمَلِكِ تَرَكْتُكَ وَرَجَعْتُ ، فَذَلِكَ أَهْلُهُ وَحَشَمُهُ ، وَأَمَّا خَلِيلٌ ، فَيَقُولُ : أَنَا مَعَكَ حَيْثُ دَخَلْتَ وَحَيْثُ خَرَجْتَ ، فَهَذَا عَمَلُهُ ، فَيَقُولُ : إِنْ كُنْتَ لَأَهْوَنَ الثَّلاَثَةِ عَلَيَّ." (4)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَتَشِبُّ مِنْهُ اثْنَتَانِ الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ » (5) ..
وعَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَتَشِبُّ فِيهِ اثْنَتَانِ : الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ ، وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ." (6)
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 898)
(2) - صحيح البخارى(6514 ) وصحيح مسلم (7613 )
(3) - صحيح ابن حبان - (7 / 374) (3107) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (7 / 375) (3108) صحيح
(5) - صحيح مسلم( 2459) -يشب : يقوى -يهرم : يكبر فى السن
(6) - صحيح ابن حبان - (8 / 25) (3229) صحيح(1/951)
أما زيارة القبور ، فمباحة بالآداب الشرعية،بأن يبدأ الزائر السلام على صاحب القبر عند رأسه ، ثم يتجه إلى القبلة ويدعو اللَّه عز وجل بالرحمة والمغفرة للميت ولنفسه وللمسلمين ،
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا وَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الْمَقَابِرِ فَأَمَرَنَا فَجَلَسْنَا ثُمَّ تَخَطَّا إِلَى الْقُبُورِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَبْرٍ مِنْهَا فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَنَاجَاهُ طَوِيلًا ثُمَّ ارْتَفَعَ نَحِيبُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَاكِيًا فَبَكَيْنَا لِبُكَاءِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَقْبَلَ إِلَيْنَا فَلَقِيَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: مَا الَّذِي أَبْكَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ لَقَدْ أَبْكَانَا وَأَفْزَعَنَا، فَأَخَذَ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَوْمَأَ إِلَيْنَا فَأَشَارَ فَقَالَ: " أَفْزَعَكُمْ بُكَائِي ؟ " فَقُلْنَا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللهِ . فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ الْقَبْرَ الَّذِي رَأَيْتُمُونِي عِنْدَهُ قَبْرُ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ، وَإِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي زِيَارَتِهَا فَأَذِنَ لِي، ثُمَّ اسْتَأْذَنْتُهُ فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي " . فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } [التوبة: 113] كَذَلِكَ حَتَّى تَقَصَّى الْآيَاتِ كُلَّهَا: { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ } [التوبة: 114] فَأَخَذَنِي مَا يَأْخُذُ الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ فِي الرِّقَةِ فَذَاكَ الَّذِي أَبْكَانِي، أَلَا إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَأَكْلِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ، لِيَسَعَكُمْ، وَعَنْ نَبِيذِ الْأَوْعِيَةِ، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا وَتُذَكِّرُ الْآخِرَةَ، وَكُلُوا لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ وَأَبْقُوا مِنْهَا مَا شِئْتُمْ فَإِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ أَنَّ الْخَيْرَ قَلِيلٌ تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ، أَلَا وَإِنَّ كُلَّ وِعَاءٍ لَا يُحَرِّمُ شَيْئًا، كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " (1)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ يَوْمًا , فَخَرَجْنَا مَعَهُ ، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الْمَقَابِرِ ، فَأَمَرَنَا فَجَلَسْنَا ، ثُمَّ تَخَطَّى الْقُبُورَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَبْرٍ مِنْهَا فَجَلَسَ إِلَيْهِ ، فَنَاجَاهُ طَوِيلاً ، ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَاكِيًا ، فَبَكَيْنَا لِبُكَاءِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا ، فَتَلَقَّاهُ عُمَرُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَالَ : مَا الَّذِي أَبْكَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ , فَقَدْ أَبْكَيْتَنَا وَأَفْزَعْتَنَا ؟ فَأَخَذَ بِيَدِ عُمَرَ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا ، فَقَالَ : أَفْزَعَكُمْ بُكَائِي ؟ قُلْنَا : نَعَمْ , فَقَالَ : إِنَّ الْقَبْرَ الَّذِي رَأَيْتُمُونِي أُنَاجِي قَبْرُ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي الاِسْتِغْفَارَ لَهَا ، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي ، فَنَزَلَ عَلَيَّ : {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة : ] , فَأَخَذَنِي مَا يَأْخُذُ الْوَلَدُ لِلْوَالِدِ مِنَ الرِّقَةِ ، فَذَلِكَ الَّذِي أَبْكَانِي. أَلاَ وَإِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ، فَزُورُوهَا ، فَإِنَّهَا تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا وَتُرَغِّبُ فِي الآخِرَةِ." (2)
وعَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَرِيبًا مِنْ أَلْفِ رَاكِبٍ ، فَنَزَلَ بِنَا وَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ ، فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَفَدَاهُ بِالأُمِّ وَالأَبِ ، يَقُولُ : مَا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَ : إِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي الاسْتِغْفَارِ لأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي ،
__________
(1) - أخبار مكة للفاكهي - (4 / 53) (2372 ) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (3 / 261) (981) صحيح(1/952)
فَدَمَعَ عَيْنَايَ رَحْمَةً لَهَا ، وَاسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي زِيَارَتِهَا فَأَذِنَ لِي ، وَإِنِّي كُنْتُ قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا ، وَلْيَزِدْكُمْ زِيَارَتُهَا خَيْرًا"
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، أَنَّ عَائِشَةَ أَقْبَلَتْ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ الْمَقَابِرِ فَقُلْتُ لَهَا : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتِ ؟ قَالَتْ : مِنْ قَبْرِ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، فَقُلْتُ لَهَا : أَلَيْسَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، كَانَ قَدْ نَهَى ، ثُمَّ أُمِرَ بِزِيَارَتِهَا "
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلا فَزُورُوهَا ، فَإِنَّهَا تُرِقُّ الْقَلْبَ ، وَتُدْمِعُ الْعَيْنَ ، وَتُذَكِّرُ الآخِرَةَ ، وَلا تَقُولُوا هُجْرًا
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَزُورَ قَبْرًا فَلْيَزُرْهُ ، فَإِنَّهُ يُرِقُّ الْقَلْبَ ، وَيُدْمِعُ الْعَيْنَ ، وَيُذَكِّرُ الآخِرَةَوعَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : زُرِ الْقُبُورَ تَذَكَّرْ بِهَا الآخِرَةَ ، وَاغْسِلِ الْمَوْتَى فَإِنَّ مُعَالَجَةَ جَسَدِهِ مَوْعِظَةٌ بَلِيغَةٌ ، وَصَلِّ عَلَى الْجَنَائِزِ لَعَلَّ ذَلِكَ أَنْ يُحْزِنَكَ ، فَإِنَّ الْحَزِينَ فِي ظِلِّ اللَّهِ يَتَعَرَّضُ كُلَّ خَيْرٍ " (1)
وهذا دليل على أنها تمنع إذا كانت مصحوبة بمنكرات ، كالاختلاط والفتن والنواح.
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ أي ردعا وزجرا لكم عن هذا التكاثر المقيت الذي يؤدي إلى التقاطع والتدابر والأحقاد والضغائن ، وإهمال العمل للآخرة ، وخير الأمة ، وتصحيح السلوك والأخلاق. وستعلمون عاقبة ذلك يوم القيامة. قال الزمخشري : كَلَّا ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه ، ولا يهتم بدينه.
والجملة الثانية كررت للتأكيد والتغليظ والوعيد والزجر.كَلَّا ، لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أي ارتدعوا عن هذا اللهو بالدنيا ، فإنكم لو تعلمون الأمر الذي أنتم صائرون إليه علما يقينا ، لانشغلتم عن التكاثر والتفاخر ، ولبادرتم إلى صالح الأعمال ، ولما ألهاكم التباهي عن أمر الآخرة العظيم والإعداد لها. وجواب لَوْ محذوف ، أي لو علمتم لما ألهاكم.
وهذا زيادة في الزجر واللوم عن الانهماك في الدنيا ، والاغترار بمظاهر الحياة الفارغة الزائلة. وليس الكلام مجرد وعظ ، وإنما الخطر الداهم يقتضي عمق التأمل والتفكر في مستقبل الآخرة ، وذلك لا يتوافر عادة بغير إيمان قوي ، وقلب واع سليم. وتكرار لفظ كَلَّا المفيدة للزجر ، للدلالة على استحقاق ضرر آخر غير العذاب. وقال الحسن : كَلَّا بمعنى حقا كأنه قيل : حقا لو تعلمون علم اليقين.
__________
(1) - المستدرك للحاكم(1391-1395) صحيح(1/953)
ثم فسر الوعيد فقال : لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ أي لتشاهدن النار في الآخرة ، والمراد ذوق عذابها وهذا جواب قسم محذوف. وهو توعد بحال رؤية النار التي إذا زفرت زفرة واحدة ، خرّ كل ملك مقرّب ، ونبي مرسل ، على ركبتيه من المهابة ، والعظمة ، ومعاينة الأهوال الجسام.
ثم أكد ذلك بقوله : ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ أي ثم لترون الجحيم الرؤية التي هي نفس اليقين ، وهي المشاهدة والرؤية بأعينكم ، فإياكم الوقوع فيما يؤدي إلى النار من اقتراف المعاصي والسيئات ، وارتكاب الموبقات والمنكرات.
ثم أكد السؤال عن الأعمال للتحذير فقال : ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ أي إنكم سوف تسألون عن نعيم الدنيا الذي ألهاكم عن العمل للآخرة ، وتسألون عن أنواع نعيم الدنيا من أمن وصحة وفراغ ومأكول ومشروب ومسكن وغير ذلك من النعم ، قال الزمخشري : عَنِ النَّعِيمِ عن اللهو والتنعم الذي شغلكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه. وقال الرازي : والأظهر أن الذي يسأل عن النعيم هم الكفار ، وفي قول آخر : أنه عام في حق المؤمن والكافر ، واحتجوا بأحاديث منها :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ : قَالَ الزُّبَيْرَ : لَمَّا نَزَلتْ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيُّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ عَنْهُ ؟ وَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ قَالَ " إِمَّا أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ " (1)
وعَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : " لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ نُعَيْمٍ نُسْأَلُ عَنْهُ ؟ سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا وَالْأَرْضُ كُلُّهَا لَنَا حَرْبٌ ، يُصْبِحُ أَحَدُنَا بِغَيْرِ غَدَاءٍ ، وَيُمْسِي بِغَيْرِ عَشَاءٍ . قَالَ : " عُنِيَ بِذَلِكَ قَوْمٌ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ ، يُغْدَى عَلَيْهِ بِجَفْنَةٍ ، وَيُرَاحُ عَلَيْهِ بِجَفْنَةٍ ، وَيَرُوحُ فِي حُلَّةٍ ، وَيَغْدُو فِي حُلَّةٍ ، وَيَسْتُرُونَ بُيُوتَهُمْ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ ، وَيَفْشُوا فِيهِمُ السِّمَنُ " (2)
وعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ نُعَيْمٍ نُسْأَلُ عَنْهُ ؟ ، وَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ الْمَاءُ وَالتَّمْرُ ، قَالَ : " أَمَا إِنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ " (3)
وعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ ( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) فَقَرَأَهَا حَتَّى بَلَغَ (لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ أَىِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ وَإِنَّمَا هُمَا الأَسْوَدَانِ الْمَاءُ وَالتَّمْرُ وَسُيُوفُنَا عَلَى رِقَابِنَا وَالْعَدُوُّ حَاضِرٌ فَعَنْ أَىِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ قَالَ « إِنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ » (4) .
__________
(1) - مُسْنَدُ الْحُمَيْدِيِّ (61 ) صحيح
(2) - مُعْجَمُ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ(209 ) صحيح مرسل
(3) - الْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ (13774 ) صحيح
(4) - مسند أحمد (24360) صحيح(1/954)
وعَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ ، سَمِعَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ ، وَقَالَ ، لَهُ رَجُلٌ : خَرَجَ الدَّجَّالُ ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ : " أَمَّا مَا كَانَ فِيكُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَلَا وَاللَّهِ ، لَا يَخْرُجُ حَتَّى يَتَمَنَّى قَوْمٌ خُرُوجَهُ ، وَلَا يَخْرُجُ حَتَّى يَكُونَ خُرُوجُهُ أَحَبَّ إِلَى أَقْوَامٍ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ الْبَارِدِ فِي الْيَوْمِ الْحَارِّ ، وَلَيَكُونَنَّ فِيكُمْ أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَرْبَعُ فِتَنٍ : الرَّقْطَاءُ ، وَالْمُظْلِمَةُ ، وَفُلَانَةُ ، وَفُلَانَةُ ، وَلَتُسْلِمَنَّكُمُ الرَّابِعَةُ إِلَى الدَّجَّالِ ، وَلَيَقْتَتِلَنَّ بِهَذَا الْغَائِطِ فِئَتَانِ ، مَا أُبَالِي فِي أَيِّهِمَا رَمَيْتُ بِسَهْمٍ كِنَانَتِي " (1)
وثبت في صحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ » (2) . .
أي أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين ، لا يقومون بواجبهما ، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه ، فهو مغبون. فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ؛ أَنَّهُ قَالَ : « لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَسْأَلَهُ عَنْ خَمْسٍ : عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ ، وَمَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ » (3) .
وأخرج البخاري عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الخَطْمِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " " مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا " " (4)
وأخرج ابن جرير عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : بَيْنَمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَالِسَانِ ، إِذْ جَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : " مَا أَجْلَسَكُمَا هَاهُنَا ؟ " قَالَا : الْجُوعُ ، قَالَ : " وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا أَخْرَجَنِي غَيْرُهُ " ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى أَتَوْا بَيْتَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ ، فَاسْتَقْبَلَتْهُمُ الْمَرْأَةُ ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " أَيْنَ فُلَانٌ ؟ " فَقَالَتْ : ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مَاءً ، فَجَاءَ صَاحِبُهُمْ يَحْمِلُ قِرْبَتَهُ ، فَقَالَ : مَرْحَبًا ، مَا زَارَ الْعِبَادَ شَيْءٌ أَفْضَلَ مِنْ شَيْءٍ زَارَنِي الْيَوْمَ ، فَعَلَّقَ قِرْبَتَهُ بِكَرَبِ نَخْلَةٍ ، وَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " أَلَا كُنْتَ اجْتَنَيْتَ ؟ " فَقَالَ : أَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونُوا الَّذِينَ تَخْتَارُونَ عَلَى أَعْيُنِكُمْ ، ثُمَّ أَخَذَ الشَّفْرَةَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ " ، فَذَبَحَ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ ، فَأَكَلُوا ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ ، فَلَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَبْتُمْ هَذَا ، فَهَذَا مِنَ النَّعِيمِ " (5)
__________
(1) - الْفِتَنُ لِنُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ (100 ) حسن
(2) - صحيح البخارى(6412)
(3) - المجالسة وجواهر العلم(7 ) صحيح بشواهده
(4) - سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ ـ الْجَامِعُ الصَّحِيحُ (2374 ) هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ
(5) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (35172 ) حسن(1/955)
والظاهر أن السؤال عن النعيم للعموم لأجل لام الجنس إلا أن سؤال الكافر للتوبيخ لأنه عصى وكفر ، وسؤال المؤمن للتشريف ، فإنه أطاع وشكر.
والظاهر أن هذا السؤال في موقف الحساب ، وهو متقدم على مشاهدة جهنم ، ومعنى ثُمَّ الترتيب في الأخبار ، ثم أخبركم أنكم تسألون.
ومضات :
شغلكم التباهي بالكثرة في المال والولد ونحوهما ، فيقول هذا : أنا أكثر منك مالاً ، والآخر : أنا أكثر منك ولداً ، وهكذا مما يصرف عن الجد في العمل ، ويطفئ نور الاستعداد وصفاء الفطرة والعقل والكمالات المعنوية الباقية ، ذهب بكم التفاخر والتباهي بهذه الأمور الفانية ، من كثرة الأموال والأولاد ، وشرف الآباء والأجداد كلَّ مذهب { حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } أي : حتى هلكتم ومتم وصرتم من أصحاب القبور ، فأفنيتم عمركم في الأعمال السيئة وما تنبهتم طول حياتكم إلى ما هو سبب سعادتكم ونجاتكم . وزيارة القبور عبارة عن الموت .
روى الزمخشري شواهد لها : قال الشهاب : وفيها إشارة إلى تحقق البعث ؛ لأن الزائر لا بد من انصرافه عما زاره ، ولذا قال بعض الأعراب لما سمعها : بعثوا وربِّ الكعبة ! وقال ابن عبد العزيز : لا بد لمن زار ، أن يرجع إلى جنة أو نار . وسمى بعض البلغاء المقبرة دهليز الآخرة .
قال الإمام : وكني برؤية الجحيم عن ذوق العذاب فيها ، وهي كناية شائعة في الكتاب العزيز : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } أي : عن النعيم الذي ألهاكم التكاثر به والتفاخر في الدنيا ماذا عملتم فيه ، ومن أين وصلتم إليه ، وفيم أصبتموه ، وماذا عملتم به ؟ ويدخل في ذلك ما أنعم عليهم من السمع والبصر وصحة البدن .
قال ابن عباس : النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار . قال : يسأل الله العباد فيم استعملوا وهوأعلم بذلك منهم . وهو قوله : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ] ، قال ابن جرير : لم يخصص في خبره تعالى نوعاً من النعيم دون نوع ، بل عمّ ؛ فهو سائلهم عن جميع النعيم ، ولذا قال مجاهد : أي : عن كل شيء من لذة الدنيا . وقال قتادة : إن الله عزوجل سائل كل عبد عما استودعه من نعمه وحقه . (1)
في آيات السورة :
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 304)(1/956)
1 - تنديد موجه إلى السامعين بما هم فيه من المباراة في الاستكثار من الأموال والأولاد والتفاخر بذلك واستغراقهم بسبب ذلك استغراقا يمنعهم من التفكير في الموت وما بعده ، بحيث لا ينتهون مما هم فيه إلّا حين يموتون.
2 - وتنبيه وتبصير لهم. فإنهم سوف يعلمون علما يقينيا بأنهم مخطئون ، وأنهم سوف يرون الجحيم الموعودة ويرون بعين اليقين ما أوعدوا به. وأنهم سوف يسألون عن أعمالهم وما قضوه في الدنيا من حياة النعيم التي ألهتهم عن الآخرة والتفكير فيها.
ولقد روى بعض المفسرين روايات عديدة في نزول السورة. منها أنها نزلت في قبيلتين من الأنصار تفاخرتا فيما بينهما بما عندهما من مال وما هما فيه من نعيم. ومنها أنها نزلت في فريق من اليهود فخروا على المسلمين بما كان عندهم من مال. ومنها أنها نزلت في حيين من قريش هما بنو مناف وبنو سهم تفاخرا فيما بينهما بما عندهما من مال . ولم ترد هذه الروايات في كتب الصحاح.
والروايتان الأوليان تقتضيان أن تكون السورة مدنية مع أن رواة النزول وجمهور المفسرين يسلكونها في سلك السور المكية المبكرة في النزول. وأسلوبها ومضمونها يحملان على الشك في الروايتين وفي رواية تفاخر بني سهم ومناف القرشيين أيضا ويسوغان الترجيح بأنها مطلقة التوجيه عامة الإنذار والتنبيه مثل سور العاديات والعصر والأعلى والليل والفجر إلخ.
ولقد احتوت تلقينا جليلا مستمر المدى. ومتسقا مع التلقينات التي احتوتها السور المماثلة السابقة وهو وجوب تنبيه الناس إلى واجباتهم نحو اللّه ونحو الناس في الحياة الدنيا وعدم الاندفاع في الاستكثار من المال والاستغراق في النعيم وجعل شهوات الحياة ونعيمها قصارى الهمّ والمطلب.
ولقد رويت بضعة أحاديث نبوية على هامش هذه السورة. منها حديث رواه مسلم والترمذي عن عبد اللّه بن الشخير قال : «إنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ [1] قال يقول ابن آدم مالي مالي. وهل لك من مالك إلّا ما تصدّقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت» . وحديث رواه الترمذي عن الزبير بن العوام قال : «لما نزلت ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [8] قلت يا رسول اللّه فأيّ النعيم نسأل عنه وإنما هما الأسودان التمر والماء. قال أما إنّه سيكون» حيث يتسق التلقين النبوي مع ما نوهنا به من التلقين القرآني في هذا الأمر كما هو الشأن في كل أمر آخر.
وننبه مع ذلك على ضوء آيات سورة الأعراف [31 - 33] التي أوردناها في مناسبة مماثلة في تفسير سورة الأعلى أن روح الآيات تلهم أن التنديد والتنبيه موجهان إلى من تلهيه أمواله وأولاده وشهواته ومتعه عن واجباته نحو ربه ونحو الناس ويستغرق في ذلك استغراقا يملك عليه تفكيره ويعمي بصيرته ويجعله لا يحسب للعواقب حسابا ويوهمه بأنه في أمن دائم. لا إلى(1/957)
أصحاب الأموال والأولاد والمتنعمين إطلاقا إذا ما أدوا حق اللّه بالإيمان به وعبادته وشكره وحق الناس بالبر والتزموا القصد والاعتدال. وليس في الأحاديث النبوية ما يتناقض مع ذلك. بل هناك أحاديث ينطوي فيها هذا بصراحة أوردناها في سياق تفسير سورة الفجر فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار (1)
قوله تعالى : « أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ ».أي أيها الناس ، قد شغلكم التكاثر فى الأموال والمتاع ، فقطعتم حياتكم فى جمع المال وكنزه ، وفى تحصيل الجاه والسلطان ، دون أن تلفتوا إلى ما يجمّل العقل ، ويغذى الروح ، ويكمل النفس .. « حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ » أي نزلتم فى قبوركم ، وإنها ليست دار مقام لكم ، وإنما هى إلمامة تلمّون بها ، أشبه بالزائر يطرق مكانا ، ثم يرحل عنه. وهكذا أنتم فى هذه القبور التي ستضمكم يوما ..
إنها زورة ، ثم تحوّلون عنها إلى الحياة الآخرة .. إنها منزل على الطريق إلى البعث ، والحساب والجزاء ..
فالخطاب هنا عام للناس جميعا ، والمؤمنون منهم أولى بهذا الخطاب من غيرهم ، إذ كان يرجى منهم أن ينتفعوا به ، وأن ينظروا إلى أنفسهم نظرا مجدّدا على ضوئه.
وقوله تعالى : « كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ». وكلا ، فليس هذا هو الموقف السليم الذي ينبغى أن يقفه الإنسان فى الحياة ، وليس هو الطريق القويم الذي يحق له أن يسلكه .. فإن جمع المال للتلهى به ، وإشباع شهوات النفس منه ، وإرضاء غرورها بالتعالي والتشامخ على الناس ، لا لكسب محمدة ، أو قضاء حق للّه أو للناس ـ هو ضلال ووبال .. وستعلمون حقيقة هذا لو أنكم نظرتم نظرا عاقلا مستبصرا ، ثم كلا .. إنكم لم تحسنوا النظر ، ولم تمعنوا الفكر ، فما زال علمكم بما أنتم عليه من ضلال ، علما لا يحرك شعورا ، ولا يثير خاطرا ، ولا ينزع بكم إلى أخذ اتجاه غير اتجاهكم .. فأعيدوا النظر ، وجددوا البحث فى حالكم تلك ، وسوف تعلمون .. وكلا .. فهذا العلم الجديد الذي علمتموه لا يعدّ علما ، فما زلتم فى شك وريب من البعث والحساب والجزاء ، ولو كان علما عن يقين ، لتغير حالكم ، ولما كان هذا موقفكم فى الحياة ..
فلو كنتم تعلمون علم اليقين « لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ » ، وأنتم فى هذه الدنيا ، ولعلتم أن العذاب هو جزاء أهل الضلال ، وأن العاقل ليرى جهنم فى الدنيا وكأنها ماثلة بين عينيه ، فيتوقاها بالإيمان باللّه ، والعمل الصالح ، ويخاف مقام ربه ، ويخشى لقاءه بما يجنى من منكرات .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ » (18 :
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 15)(1/958)
فاطر).
وقوله تعالى : « ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ » أي لرأيتم الجحيم فى الدنيا رؤية علمية يدلكم عليها العقل ، فكأنها ماثلة بين أعينكم .. ثم إنكم بعد ذلك : « لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ » أي رؤية بصرية ، واقعية ، حيث يشهدها كل من فى المحشر ، ويراها رأى العين ، كما يقول سبحانه : « وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها » (71 : مريم) وكما يقول جل شأنه : « وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى » (36 : النازعات) وتوكيد جواب « لو » هنا لتحقق وقوعه مستقبلا ..
وذلك لأن « لو » حرف يمتنع جوابها لامتناع شرطها .. وذلك محقق فى الماضي ، لأن الشرط لم يقع ، فامتنع لذلك وقوع الجواب ..
فإذا جاء الشرط والجواب مضارعين ، كان الحكم معلقا ، فقد يقع الشرط فيقع تبعا لذلك الجواب ، وقد لا يقع الشرط فلا يقع الجواب .. تقول لو جاء الضيف لأكرمته .. وهذا يعنى أن الضيف لم يجىء وبالتالى لم يقع إكرامه ..
وتقول لو يجىء الضيف لأكرمنّه .. فالضيف لم يجىء بعد ، وقد يجىء ، فإذا جاء لم يكن بدّ من إكرامه .. والتوكيد للفعل هنا واجب ، لأنه حلّ محل فعل غلب أن يكون ممتنعا وقوعه ، وهو جواب لو الماضي الذي يجىء أكثر ما يجىء فعلا ماضيا ، فلزم توكيد الجواب هنا ، ليقطع كل احتمال لامتناع وقوعه.
وقوله تعالى : « ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ». أي ثم إذ ترون الجحيم فى المحشر ، تحاسبون على ما أنعم اللّه به عليكم من نعم ، وأجلّها العقل ، والرسول ، والقرآن .. فمن رعى هذه النعم ، وأدى واجب الشكر عليها ، نجا من هذه النار ، ونزل منازل المؤمنين فى الجنة ، ومن كفر يهذه النعم ، حرم نعيم الجنة ، وألقى به فى عذاب الجحيم (1)
هذه السورة ذات إيقاع جليل رهيب عميق وكأنما هي صوت نذير ، قائم على شرف عال . يمد بصوته ويدوي بنبرته . يصيح بنوّم غافلين مخمورين سادرين ، أشرفوا على الهاوية وعيونهم مغمضة ، وحسهم مسحور . فهو يمد بصوته إلى أعلى وأبعد ما يبلغ : { ألهاكم التكاثر . حتى زرتم المقابر } . .أيها السادرون المخمورون . أيها اللاهون المتكاثرون بالأموال والأولاد وأعراض الحياة وأنتم مفارقون . أيها المخدوعون بما أنتم فيه عما يليه . أيها التاركون ما تتكاثرون فيه وتتفاخرون إلى حفرة ضيقة لا تكاثر فيها ولا تفاخر . . استيقظوا وانظروا . . فقد { ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر } .
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1664)(1/959)
ثم يقرع قلوبهم بهول ما ينتظرهم هناك بعد زيارة المقابر في إيقاع رزين : { كلا سوف تعلمون } . .ويكرر هذا الإيقاع بألفاظه وجرسه الرهيب الرصين : { ثم كلا سوف تعلمون } .
ثم يزيد التوكيد عمقاً ورهبة . وتلويحاً بما وراءه من أمر ثقيل . لا يتبينون حقيقته الهائلة في غمرة الخمار والاستكثار : { كلا لو تعلمون علم اليقين } . .ثم يكشف عن هذه الحقيقة المطوية الرهيبة : { لتروُنّ الجحيم } . .ثم يؤكد هذه الحقيقة ويعمق وقعها الرهيب في القلوب : { ثم لتروّنها عين اليقين } . .ثم يلقي بالإيقاع الأخير ، الذي يدع المخمور يفيق ، والغافل يتنبه ، والسادر يتلفت ، والناعم يرتعش ويرتجف مما في يديه من نعيم:{ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم }!
لتسألن عنه من أين نلتموه؟ وفيم أنفقتموه؟ أمن طاعة وفي طاعة؟ أم من معصية وفي معصية؟ أمن حلال وفي حلال؟ أم من حرام وفي حرام؟ . هل شكرتم؟ هل أديتم؟ هل شاركتم؟ هل استأثرتم؟
{ لتسألن } عما تتكاثرون به وتتفاخرون . . فهو عبء تستخفونه في غمرتكم ولهوكم ولكن وراءه ما وراءه من هم ثقيل!
إنها سورة تعبر بذاتها عن ذاتها . وتلقي في الحس ما تلقي بمعناها وإيقاعها . وتدع القلب مثقلاً مشغولاً بهم الآخرة عن سفساف الحياة الدنيا وصغائر اهتماماتها التي يهش لها الفارغون!
إنها تصور الحياة الدنيا كالومضة الخاطفة في الشريط الطويل . . { ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر } . . وتنتهي ومضة الحياة وتنطوي صفحتها الصغيرة . . ثم يمتد الزمن بعد ذلك وتمتد الأثقال؛ ويقوم الأداء التعبيري ذاته بهذا الإيحاء . فتتسق الحقيقة مع النسق التعبيري الفريد . .
وما يقرأ الإنسان هذه السورة الجليلة الرهيبة العميقة ، بإيقاعاتها الصاعدة الذاهبة في الفضاء إلى بعيد في مطلعها ، الرصينة الذاهبة إلى القرار العميق في نهايتها . . حتى يشعر بثقل ما على عاتقه من أعقاب هذه الحياة الوامضة التي يحياها على الأرض ، ثم يحمل ما يحمل منها ويمضي به مثقلاً في الطريق!
ثم ينشئ يحاسب نفسه على الصغير والزهيد!!! (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1 - يحذر اللَّه تعالى من ترك العمل الصالح والاستعداد للآخرة ، ويوبخ الذين تشغلهم المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة اللَّه ، حتى يموتوا ويدفنوا في المقابر.
والتوبيخ عام يشمل التفاخر بكل شيء من الأموال والأولاد ، والقبائل والعشائر ، والسلطة والجاه ، والرجال والأعوان ، فهو يتضمن التفاخر بالنفس وهي العلوم والأخلاق الفاضلة ،
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3962)(1/960)
والتفاخر بالبدن وهو الصحة والجمال ، والتفاخر بالأمور الخارجية وهي المال والجاه والأعوان والأقرباء والأصدقاء.
2 - عذاب القبر حق كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام .
3 - حتمية الحساب والجزاء .
4 - السؤال عن النعيم الذي يتمتع به الإنسان وهو الحساب اليسير.
5 - قال العلماء : ينبغي لعلاج القلب ثلاثة أمور : طاعة اللَّه ، والإكثار من ذكر الموت (هاذم اللذات) وزيارة قبور أموات المسلمين.
6- لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة ، وزيارتها من أعظم الدواء للقلب القاسي لأنها تذكّر الموت والآخرة. وذلك يحمل على قصر الأمل ، والزهد في الدنيا ، وترك الرغبة فيها ، كما تقدم في الأحاديث الثابتة.
7- حُكْمُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ (1) :
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ تُنْدَبُ لِلرِّجَال زِيَارَةُ الْقُبُورِ ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا ، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ بِالآْخِرَةِ ، (2) وَلأَِنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْبَقِيعِ لِزِيَارَةِ الْمَوْتَى وَيَقُول : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا مُؤَجَّلُونَ ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ . وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ : أَسْأَل اللَّهَ لِي وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ . (3)
أَمَّا النِّسَاءُ ، فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ تُكْرَهُ زِيَارَتُهُنَّ لِلْقُبُورِ فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ. قَالَ وَفِى الْبَابِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يُرَخِّصَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فِى زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَلَمَّا رَخَّصَ دَخَلَ فِى رُخْصَتِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا كُرِهَ زِيَارَةُ الْقُبُورِ لِلنِّسَاءِ لِقِلَّةِ صَبْرِهِنَّ وَكَثْرَةِ جَزَعِهِنَّ. (4) . .
وَلأَِنَّ النِّسَاءَ فِيهِنَّ رِقَّةُ قَلْبٍ ، وَكَثْرَةُ جَزَعٍ ، وَقِلَّةُ احْتِمَالٍ لِلْمَصَائِبِ ، وَهَذَا مَظِنَّةٌ لِطَلَبِ بُكَائِهِنَّ ، وَرَفْعِ أَصْوَاتِهِنَّ .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ - إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلنِّسَاءِ زِيَارَةُ الْقُبُورِ كَمَا يُنْدَبُ لِلرِّجَال ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ الْحَدِيثُ (5) .
__________
(1) - انظر : نوادر الأصول - (1 / 123) والموسوعة الفقهية الكويتية - (24 / 88)
(2) - أخرجه مسلم ( 2 / 672 - ط الحلبي ) وأحمد ( 3 / 355 - ط الحلبي ) واللفظ له
(3) - أخرجه مسلم ( 2 / 669 ، 671 - ط الحلبي )
(4) - سنن الترمذى (1076 ) والمعجم الكبير للطبراني - (4 / 40) (3511و3512) حسن
(5) - مر تخريجه(1/961)
وَقَال الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ : إِنْ كَانَ ذَلِكَ لِتَجْدِيدِ الْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ وَالنَّدْبِ وَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُنَّ فَلاَ تَجُوزُ ، وَعَلَيْهِ حُمِل حَدِيثُ لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ . وَإِنْ كَانَ لِلاِعْتِبَارِ وَالتَّرَحُّمِ مِنْ غَيْرِ بُكَاءٍ ، وَالتَّبَرُّكِ بِزِيَارَةِ قُبُورِ الصَّالِحِينَ فَلاَ بَأْسَ - إِذَا كُنَّ عَجَائِزَ - وَيُكْرَهُ إِذَا كُنَّ شَوَابَّ ، كَحُضُورِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ : وَهُوَ تَوْفِيقٌ حَسَنٌ .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : تُكْرَهُ زِيَارَةُ الْقُبُورِ لِلنِّسَاءِ ، لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا (1) فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَقَعُ مِنْهُنَّ مُحَرَّمٌ ، حَرُمَتْ زِيَارَتُهُنَّ الْقُبُورَ ، وَعَلَيْهِ يُحْمَل قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ .
قَالُوا : وَإِنِ اجْتَازَتِ امْرَأَةٌ بِقَبْرٍ فِي طَرِيقِهَا فَسَلَّمَتْ عَلَيْهِ وَدَعَتْ لَهُ فَحَسَنٌ ؛ لأَِنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ لِذَلِكَ
وَيُسْتَثْنَى مِنَ الْكَرَاهَةِ زِيَارَةُ قَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِنَّهُ يُنْدَبُ لَهُنَّ زِيَارَتُهُ ، وَكَذَا قُبُورُ الأَْنْبِيَاءِ غَيْرِهِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ فِي طَلَبِ زِيَارَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - . (2)
8- كرر اللَّه تعالى في هذه السورة الوعيد بعد الوعيد ، للتأكيد والتغليظ على ثبوت عذاب القبر وعذاب الآخرة ، وأن ما وعدنا به من البعث وتوابعه حق وصدق. ثم أعاد تعالى الزجر والتنبيه على أنه إن لم يفعل الناس العمل الصالح ، وترك التفاخر بالأموال والأولاد والرجال ، يندمون ، ويستوجبون العقاب.
9- أتى اللَّه تعالى بوعيد آخر بقسم محذوف : واللَّه لترون الجحيم في الآخرة ، وهذا خطاب للكفار الذين وجبت لهم النار ، وقيل : الخطاب عام ، كما قال تعالى : وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم 19/ 71] فهي للكفار دار ، وللمؤمنين ممر. ثم أخبر تعالى عن رؤية الجحيم رؤية مشاهدة بالأعين ، وبعيون القلوب والأفئدة.
10- يسأل الناس يوم القيامة عن ألوان النعيم في الدنيا ، من ظلال المساكن والأشجار ، وطيب الحياة والرفاهية ، والصحة والفراغ ، والأمن والستر ونحو ذلك. والكل يسألون ، ولكن سؤال الكفار توبيخ لأنه قد ترك الشكر ، وسؤال المؤمن سؤال تشريف لأنه شكر ، وهذا النعيم في كل نعمة. ويكون السؤال في موقف الحساب ، وقيل : بعد الدخول في النار توبيخا لهم ، والأول هو الظاهر.
__________
(1) - أخرجه البخاري ( الفتح 3 / 144 - ط السلفية ) ، ومسلم ( 2 / 646 ط عيسى الحلبي ) من حديث أم عطية
(2) - ابن عابدين 1 / 604 ، الشرح الصغير 1 / 227 ، شرح البهجة 2 / 120 ، كشاف القناع 2 / 150 ، غاية المنتهى 1 / 256 ، المغني 2 / 565 ، 570 .(1/962)
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ - أَوْ لَيْلَةٍ - فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَقَالَ : " مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ " قَالَا : الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ، قَالَ : " وَأَنَا ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا ، قُومُوا " ، فَقَامُوا مَعَهُ ، فَأَتَى رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ ، قَالَتْ : مَرْحَبًا وَأَهْلًا ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَيْنَ فُلَانٌ ؟ " قَالَتْ : ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ ، إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ ، فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَصَاحِبَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي ، قَالَ : فَانْطَلَقَ ، فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ ، فَقَالَ : كُلُوا مِنْ هَذِهِ ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِيَّاكَ ، وَالْحَلُوبَ " ، فَذَبَحَ لَهُمْ ، فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا ، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ " (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - صَحِيحُ مُسْلِمٍ (3914 )(1/963)
سورة العصر
مكيّة ، وهي ثلاث آيات
تسميتها :
سميت سورة العصر لقسم اللَّه به في مطلعها بقوله : وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ وَالْعَصْرِ : الدهر ، لاشتماله على الأعاجيب ، من سرّاء وضرّاء ، وصحة وسقم ، وغنى وفقر ، وعز وذل ، وانقسامه إلى أجزاء : سنة وشهر ويوم وساعة ودقيقة وثانية.
قال ابن عاشور : وكذلك تسميتها في مصاحف كثيرة وفي معظم كتب التفسير وكذلك هي في مصحف عتيق بالخط الكوفي من المصاحف القيروانية في القرن الخامس .
وسميت في بعض كتب التفسير وفي ( صحيح البخاري ) ( سورة والعصر ) بإثبات الواو على حكاية أول كلمة فيها ، أي سورة هذه الكلمة .
وهي مكية في قول الجمهور وإطلاق جمهور المفسرين . وعن قتادة ومجاهد ومقاتل أنها مدنية . وروي عن ابن عباس ولم يذكرها صاحب ( الإِتقان ) في عداد السور المختلف فيها .
وقد عدت الثالثة عشرة في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الانشراح وقبل سورة العاديات .
وآيُهَا ثلاث آيات .
وهي إحدى سور ثلاث هُنَّ أقصر السور عَدد آيات : هي ، والكوثر وسورة النصر . (1)
مناسبتها لما قبلها :
هى مكية ، وآياتها ثلاث ، نزلت بعد سورة الشرح.
ومناسبتها لما قبلها - أنه ذكر فى السورة السابقة أنهم اشتغلوا بالتفاخر والتكاثر وبكل ما من شأنه أن يلهى عن طاعة اللّه ، وذكر هنا أن طبيعة الإنسان داعية له إلى البوار ، وموقعة له فى الدمار إلا من عصم اللّه وأزال عنه شرر نفسه ، فكأن هذا تعليل لما سلف - إلى أنه ذكر فى السالفة صفة من اتبع نفسه وهواه ، وجرى مع شيطانه حتى وقع فى التهلكة ، وهنا ذكر من تجمل بأجمل الطباع ، فآمن باللّه وعمل الصالحات ، وتواصى مع إخوانه على الاستمساك بعرى الحق ، والاصطبار على مكارهه. (2)
وقال الخطيب : " الإنسان الذي ألهاه التكاثر بالأموال ، والتفاخر بالجاه والسلطان ، دون أن يتزود للآخرة بزاد الإيمان والتقوى ، هو هذا الإنسان الخاسر .. وأي خسران أكثر من أنه اشترى الدنيا بالآخرة ؟ وهذا ما جاءت سورة العصر لتقرره .. " (3)
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 527)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 233)
(3) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1667)(1/964)
ما اشتملت عليه السورة :
* سورة العصر مكية ، وقد جاءت في غاية الإيجاز والبيان ، لتوضيح سبب سعادة الإنسان أو شقاوته ، ونجاحه في هذه الحياة أو خسرانه ودماره.
* أقسم تعالى بالعصر وهو الزمان الذي ينتهى فيه عمر الإنسان ، وما فيه من أصناف العجائب ، والعبر الدالة على قدرة الهت وحكمته ، على أن جنس الإنسان في خسارة ونقصان ، إلا من اتصف بالأوصاف الأربعة وهى (الإيمان ) و(العمل الصالح ) و(التواصي بالحق ) و(الإعتصام بالصبر) وهي أسس الفضيلة ، وأساس الدين ، ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله : لو لم ينزل الها سوى هذه السورة لكفت الناس . (1)
وقال ابن عاشور :
" اشتملت على إثبات الخسران الشديد لأهل الشرك ومن كان مثلهم من أهل الكفر بالإِسلام بعد أن بلغت دعوته ، وكذلك من تقلد أعمال الباطل التي حذر الإِسلام المسلمين منها .
وعلى إثبات نجاة وفوز الذين آمنوا وعملوا الصالحات والداعين منهم إلى الحق .
وعلى فضيلة الصبر على تزكية النفس ودعوة الحق .
وقد كان أصحاب رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) اتخذوها شعاراً لهم في ملتقاهم . روى الطبراني بسنده إلى عبيد الله بن عبد الله بن الحُصين الأنصاري ( من التابعين ) أنه قال : ( كان الرجلان من أصحاب رسول الله إذا التقيا لم يفترقا إلاّ على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها ثم يسلم أحدهما على الآخر ( أي سلام التفرق وهو سنة أيضاً مثل سلام القُدوم ) .
وعن الشافعي : لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم . وفي رواية عنه : لو لم ينزل إلى الناس إلا هي لكفتهم . وقال غيره : إنها شملت جميع علوم القرآن . وسيأتي بيانه ." (2)
احتوت السورة توكيدا حاسما بأن لا فلاح للإنسان إلّا بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر. وأسلوبها يدل على أنها من أوائل السور نزولا مثل الليل والأعلى وغيرهما ، لأنها احتوت مبادئ عامة محكمة من مبادئ الدعوة. وقد ذكرت بعض الروايات أنها مدنية ، غير أن أسلوبها يدل على مكيتها وهو ما عليه الجمهور. (3)
فضلها (4) :
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 521)
(2) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 528)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 561)
(4) - انظر : فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (2 / 3744) رقم الفتوى 7952 فضل سورة العصر تاريخ الفتوى : 14 صفر 1422
وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (5 / 7314) رقم الفتوى 38040 من أسماء السور تاريخ الفتوى : 04 شعبان 1424(1/965)
عَنْ سَعِيدِ بْنِ نَشِيطِ ، أَنَّ قُرَّةَ بْنَ هُبَيْرَةَ الْعَامِرِيَّ ، قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَسْلَمَ ، فَلَمَّا كَانَ عَامُ حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهُوَ عَلَى نَاقَةٍ قَصِيرَةٍ ، فَقَالَ : " يَا قُرَّةُ " ، فَقَالَ النَّاسُ : يَا قُرَّةُ . فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : " كَيْفَ قُلْتَ لِي حِينَ أَتَيْتَنِي تُسْلِمُ ؟ " ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، كَانَ لَنَا أَرْبَابٌ ، وَرَبَّاتٌ مِنْ دُونَ اللَّهِ ، نَدْعُوهُمْ فَلَا يُجِيبُونَنَا ، وَنَسْأَلُهُمْ فَلَا يُعْطَونَنَا ، فَلَمَّا بَعَثَكَ اللَّهُ ، أَجَبْنَاكَ وَتَرَكْنَاهُمْ . ثُمَّ أَدْبَرَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ رُزِقَ لُبًّا " ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ ، وَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَعُمْرُهُ ، ثُمَّ قَالَ عَمْرُو : " فَأَقْبَلْتُ حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُسَيْلِمَةَ ، فَأَعْطَانِي الْأَمَانَ ، ثُمَّ قَالَ لِي : إِنَّ مُحَمَّدًا أُرْسِلَ فِي جَسِيمِ الْأَمْرِ ، وَأُرْسِلْتُ أَنَا فِي الْمُحَقَّرَاتِ . فَقُلْتُ : اعْرِضْ عَلَيَّ شَيْئًا مِمَّا تَقُولُ ؟ فَقَالَ : يَا ضِفْدَعُ نَقِّي ، فَإِنَّكِ نِعْمَ مَا تَنُقِّينَ ، لَا وَارِدًا تُنَفِّرِينَ ، وَلَا مَاءً تُكَدِّرِينَ . ثُمَّ قَالَ : يَا دَبْرُ يَا دَبْرُ (1) ، يَدَانِ وَصَدْرٌ ، وَسَائِرُ خَلْقِهِ حَفْرٌ وَنَفْرٌ . ثُمَّ أَتَاهُ أُنَاسٌ يَخْتَصِمُونَ إِلَيْهِ فِي نَخْلٍ قَطَعَهَا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ، فَتَسَجَّى بِقَطِيفَةٍ ، ثُمَّ كَشَفَ رَأْسَهُ ، وَقَالَ : وَاللَّيْلِ الْأَدْهَمَ ، وَالذِّئْبِ الْأَضْخَمِ ، مَا جَانَبُوا أَبَا مُسْلِمٍ مِنْ مُحْرِمٍ . ثُمَّ تَسَجَّى الثَّانِيَةَ ، فَقَالَ : وَاللَّيْلِ الدَّامِسِ ، وَالذِّئْبِ الْهَامِسِ ، مَا حُرْمَتُهُ رَطْبًا إِلَّا كَحُرْمَتِهِ يَابِسِ . قُومُوا فَمَا أَرَى عَلَيْكُمْ فِيمَا صَنَعْتُمْ بَأْسًا ، فَقُلْتُ : أَمَا وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ . قَالَ : فَتَوَعَّدَنِي ، ثُمَّ قَالَ : يَا قُرَّةُ بْنَ هُبَيْرَةَ ، فَمَا فَعَلَ صَاحِبَكُمْ ؟ قُلْتُ : إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَ لَهُ مَا عِنْدَهُ عَلَى مَا عِنْدَنَا فَتَوَفَّاهُ . قَالَ : لَا أُصَدِّقُ أَحَدًا مِنْكُمْ بَعْدَهُ . فَلَقِيتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يُرْسِلَنِي إِلَى قَوْمِهِ ، مِنْ أَجْلِ مَا سَمِعْتُ مِنْهُ ، فَأَتَيْتُهُمْ ، فَأَخْرَجَ لِي كِتَابًا مِنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَدْ أَدَّى الصَّدَقَةَ . فَقُلْتُ : مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا قُلْتَ ؟ قَالَ : حَمَلَنِي أَنَّهُ كَانَ لِي مَالٌ وَوَلَدٌ ، فَتَخَوَّفْتُ عَلَيْهِ مِنْهُ ، وَأَنَا أَرَدْتُ بِكَلِمَتِي أَنِّي قُلْتُ لَا أُصَدِّقُ أَحَدًا مِنْكُمْ بَعْدَهُ ، يَقُولُ : إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ " (2)
وعَنْ أَبِي مَدِينَةٍ الدَّارِمِيِّ ، قَالَ : كَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا التَقَيَا ، ثُمَّ أَرَادَا أَنْ يَفْتَرِقَا ، قَرَأَ أَحَدُهُمَا : وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ حَتَّى يَخْتِمَهَا ، ثُمَّ يُسَلِّمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ . " (3)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - الوبر : دويبة تشبه الهر ، أعظم شيء فيه أذناه وصدره ، وباقيه دميم ، فأراد مسيلمة أن يركب من هذا الهذيان ما يعارض به القرآن ، فلم يرج ذلك على عابد الأوثان في ذلك الزمان (تفسير ابن كثير 4/ 547)
(2) - مَسَاوِئُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (168 ) فيه جهالة
(3) - الزُّهْدُ أَبِي دَاوُدَ (402 ) والْمُعْجَمُ الْأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ (5281 ) صحيح(1/966)
أصول السعادة والشقاء
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
المفردات :
ما يستفاد من الآيات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... والعَصْرِ ... الدهر ( الواو للقسم )
2 ... لَفِي خُسْرٍ ... في نقص وخسارة إذا لم يؤمن
3 ... إِلا الَّذِينَ آمَنُوا ... المؤمنون
3 ... وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... إذا عملوا الصالحات لا يخسرون
3 ... تَوَاصَوْا بِالَحِّق ... أداء الطاعات وترك المحرمات
3 ... وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ... الصبر على المصائب وعلى أذى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المعنى الإجمالي:
يقسم اللّه بالدهر ، لما فيه من العبر ، وما يكون فيه من الأحوال المتناقضة التي تدل على أن لهذا الكون ، ولهذا الدهر إلها هو المتصرف القادر فيه ، ألست ترى فيه ليلا ونهارا يتعاقبان ، وترى فيه آية لليل وأخرى للنهار ، ألست ترى فيه سراء ، وضراء ، وسعادة وشقاء وصحة ومرضا ، وخوفا وأمنا ، وإنسانا يموت من الجوع وآخر يهلك من الشبع ، وهذا يموت من الغرق ، وذاك يموت من الحرق ، كل ذلك والعصر زمن لا دخل له في شيء أبدا ، بل هذا يدل على أن للكون إلها هو خالقه ومدبره وهو المستحق لأنه يتوجه إليه وحده ويعبد.
إن الإنسان لفي خسر وضلال وكفر وهلاك بسبب ما يتردى فيه من المعاصي والكفر والآثام التي اختارها لنفسه يا سبحان اللّه الإنسان كالمغمور في الخسران ، وقد أحاط به من كل جانب ، وذلك أنه يذنب في حق الإله الذي رباه وأنعم عليه بكل نعمة وخير.
إن الإنسان - جميع أفراده - في ذنوب وآثام مهلكة إلا من عصم اللّه منه ووفقه إلى الخير ، وهم الذين آمنوا باللّه وملائكته وكتبه ورسله إيمانا صادقا خالصا ، ثم أتبعوا ذلك بالعمل الصالح المفيد الذي يرضى اللّه ورسوله والمؤمنين ، ولكن هل يكتفى منك اللّه بذلك ؟ لا ، بل لا بد من خصلة ثالثة هي التواصي بالحق ، والتواصي بالصبر ، أى :(1/967)
يوصى بعضهم بعضا بالحق الثابت الذي أرشد له الدليل السليم والشريعة الصحيحة ، ويوصى بعضهم بعضا بالصبر على المكروه ، وتحمل المشاق.
إذ لا يكتفى منك الدين بأن تعمل الخير فقط بل لا بد أن تدعو غيرك - بعد أن تصلح نفسك - تدعوه إلى الحق وإلى الخير وإلى الصراط المستقيم ، وسيلحقك أذى في ذلك بلا شك فاصبر وادع غيرك للصبر ، فالصبر نصف الإيمان واللّه هو الموفق إلى الخير. (1)
قال ابن عثيمين : " يقول الله عز وجل: {والعصر. إن الإنسان لفي خسر} أقسم الله تعالى بالعصر، والعصر قيل: إن المراد به آخر النهار، لأن آخر النهار أفضله، وصلاة العصر تسمى الصلاة الوسطى، أي: الفضلى كما سماها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك.
وقيل: إن العصر هو الزمان. وهذا هو الأصح أقسم الله به لما يقع فيه من اختلاف الأحوال، وتقلبات الأمور، ومداولة الأيام بين الناس وغير ذلك مما هو مشاهد في الحاضر، ومتحدث عنه في الغائب. فالعصر هو الزمان الذي يعيشه الخلق، وتختلف أوقاته شدة ورخاء، وحرباً وسلماً، وصحة ومرضاً، وعملاً صالحاً وعملاً سيئاً إلى غير ذلك مما هو معلوم للجميع. أقسم الله به على قوله: {إن الإنسان لفي خسر} والإنسان هنا عام، لأن المراد به الجنس، وعلامة الإنسان الذي يراد به العموم أن يحل محل «ال» كلمة «كل» فهنا لو قيل: كل إنسان في خسر لكان هذا هو المعنى. ومعنى الاية الكريمة أن الله أقسم قسماً على حال الإنسان أنه في خسر أي: في خسران ونقصان في كل أحواله، في الدنيا وفي الاخرة إلا من استثنى الله عز وجل. وهذه الجملة مؤكدة بثلاث مؤكدات، الأول: القسم، والثاني: (إنّ) والثالث: (اللام) وأتى بقوله {لفي خسر} ليكون أبلغ من قوله: (لخاسر) وذلك أن «في» للظرفية فكأن الإنسان منغمس في الخسر، والخسران محيط به من كل جانب. {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}. استثنى الله سبحانه وتعالى هؤلاء المتصفين بهذه الصفات الأربع:
الصفة الأولى: الإيمان الذي لا يخالجه شك ولا تردد بما بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين سأله جبريل عن الإيمان قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره». وشرح هذا الحديث يطول وتكلمنا عليه في مواطن كثيرة، فالذين آمنوا بهذه الأصول الستة هم المؤمنون، ولكن يجب أن يكون إيماناً لا شك معه ولا تردد. بمعنى: أنك تؤمن بهذه الأشياء وكأنك تراها رأي العين. والناس في هذا المقام ثلاثة أقسام:
القسم الأول: مؤمن خالص الإيمان؛ إيماناً لا شك فيه ولا تردد.
والقسم الثاني: كافر جاحد منكر.
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 900)(1/968)
والقسم الثالث: متردد. والناجي من هؤلاء القسم الأول الذي يؤمن إيماناً لا تردد فيه، يؤمن بوجود الله، وربوبيته، وألوهيته، وبأسمائه وصفاته عز وجل، ويؤمن بالملائكة وهم عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور، وكلفهم بأعمال منها ما هو معلوم، ومنها ما ليس بمعلوم، فجبريل عليه الصلاة والسلام مكلف بالوحي ينزل به من عند الله إلى الأنبياء والرسل، وميكائيل مكلف بالقطر والنبات يعني: وكله الله على المطر وكل ما يتعلق بالمطر وعلى النبات. وإسرافيل: موكل بالنفخ بالصور، ومالك: موكل بالنار، ورضوان موكل بالجنة. ومن الملائكة من لا نعلم أسمائهم ولا نعلم أعمالهم أيضاً، لكن جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه ما من موضع أربع أصابع في السماء إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع، أو ساجد»، كذلك نؤمن بالكتب التي أنزلها الله على الرسل عليهم الصلاة والسلام، ونؤمن بالرسل الذين قصهم الله علينا، نؤمن بهم بأعيانهم، والذين لم يقصهم علينا نؤمن بهم إجمالاً؛ لأن الله لم يقص علينا جميع أنباء الرسل، قال الله تعالى: {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} [غافر: 78]. واليوم الاخر هو يوم البعث يوم يخرج الناس من قبورهم للجزاء حفاة، عراة، غرلاً، بهماً. فالحفاة يعني الذين ليس عليهم نعال ولا خفاف أي: أقدامهم عارية، والعراة: الذين ليس عليهم ثياب، والغرل: الذين لم يُختنوا. والبهم: الذين ليس معهم مال يحشرون كذلك، ولما حدث النبي عليه الصلاة والسلام بأنهم عراة قالت عائشة: يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: «الأمر أعظم من ذلك» أي من أن ينظر بعضهم إلى بعض، لأن الناس كل مشغول بنفسه. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن الإيمان باليوم الاخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما يكون بعد الموت، فيجب أن تؤمن بفتنة القبر أي: بالاختبار الذي يكون للميت إذا دفن وتولى عنه أصحابه، فإنه يأتيه ملكان يسألانه عن ربه، ودينه، ونبيه، وتؤمن كذلك بأن القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار. أي أن فيه العذاب أو الثواب، وتؤمن كذلك بالجنة والنار وكل ما يتعلق باليوم الاخر فإنه داخل في قولنا «أن تؤمن بالله واليوم الاخر» والقدر: تقدير الله عز وجل يعني: يجب أن تؤمن بأن الله تعالى قدر كل شيء وذلك أن الله خلق القلم فقال له: اكتب. قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. إذاً فالإيمان في قوله: {إلا الذين آمنوا} يشمل الإيمان بالأصول الستة التي بينها الرسول عليه الصلاة والسلام. أما قوله: {وعملوا الصالحات} فمعناه: أنهم قاموا بالأعمال الصالحة: من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وبر للوالدين، وصلة الأرحام وغير ذلك فلم يقتصروا على مجرد ما في القلب بل عملوا وأنتجوا و{الصالحات} هي التي اشتملت على شيئين:
الأول: الإخلاص لله عز وجل.(1/969)
والثاني: المتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام.
وذلك أن العمل إذا لم يكن خالصاً لله فهو مردود. قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال الله: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه». فلو قمت تصلي مراءاة للناس، أو تصدقت مراءاة للناس، أو طلبت العلم مراءاة للناس، أو وصلت الرحم مراءاة للناس أو غير ذلك. فالعمل مردود حتى وإن كان صالحاً في ظاهره. كذلك الاتباع لو أنك عملت عملاً لم يعمله الرسول عليه الصلاة والسلام وتقربت به إلى الله مع الإخلاص لله فإنه لا يقبل منك لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». إذاً العمل الصالح ما جمع وصفين: الأول: الإخلاص لله عز وجل. والثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {وتواصوا بالحق} أي: صار بعضهم يوصي بعضاً بالحق. والحق: هو الشرع. يعني كل واحد منهم يوصي الاخر إذا رآه مفرطاً في واجب. أوصاه وقال: يا أخي قم بالواجب، إذا رآه فاعلاً لمحرم أوصاه قال: يا أخي اجتنب الحرام، فهم لم يقتصروا على نفع أنفسهم بل نفعوا أنفسهم وغيرهم، {وتواصوا بالصبر} أي: يوصي بعضهم بعضاً بالصبر، والصبر حبس النفس عما لا ينبغي فعله، وقسمه أهل العلم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: صبر على طاعة الله.
القسم الثاني: صبر عن محارم الله.
القسم الثالث: صبر على أقدار الله.
الصبر على الطاعة، كثير من الناس يكون فيه كسل عن الصلاة مع الجماعة مثلاً: لا يذهب إلى المسجد يقول أصلي في البيت وأديت الواجب فيكسل فقال له: يا أخي أصبر نفسك، احبسها كلفها على أن تصلي مع الجماعة. كثير من الناس إذا رأى زكاة ماله كثيرة شح وبخل وصار يتردد. أُخرج هذا المال الكثير، أو أتركه وما أشبه ذلك. فيقال له: يا أخي اصبر نفسك على أداء الزكاة، وهكذا بقية العبادات فإن العبادات كما قال الله تعالى في الصلاة: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} [البقرة: 45]. أكثر عباد الله تجد أن العبادات عليهم ثقيلة، فهم يتواصون بالصبر على الطاعة، كذلك الصبر عن المعصية بعض الناس مثلاً تجره نفسه إلى أكساب محرمة إما بالربا، وإما بالغش، وإما بالتدليس أو بغير ذلك من أنواع الحرام فيقال له: اصبر يا أخي أصبر نفسك لا تتعامل على وجه محرم. بعض الناس أيضاً يبتلى بالنظر إلى النساء تجده ماشياً في السوق وكل ما مرت امرأة أتبعها بصره فيقال له: يا أخي اصبر نفسك عن هذا الشيء.
ويتواصون على أقدار الله، يصاب الإنسان بمرض في بدنه، يصاب الإنسان بفقد شيء من ماله، يصاب الإنسان بفقد أحبته فيجزع ويتسخط ويتألم فيتواصون فيما بينهم، اصبر يا أخي هذا أمر(1/970)
مقدر والجزع لا يفيد شيئاً، واستمرار الحزن لا يرفع الحزن، إنسان امتحن بموت ابنه نقول: يا أخي اصبر، قدر أن هذا الابن لم يُخلق، ثم كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام لإحدى بناته: «إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب». الأمر كله لله، فإذا أخذ الله تعالى ملكه كيف تعتب على ربك؟ كيف تتسخط.
فإن قيل: أي أنواع الصبر أشق على النفوس؟
فالجواب: هذا يختلف، فبعض الناس يشق عليه القيام بالطاعة وتكون ثقيلة عليه جداً، وبعض الناس بالعكس الطاعة هينة عليه، لكن ترك المعصية صعب، شاق مشقة كبيرة، وبعض الناس يسهل عليه الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، لكن لا يتحمل الصبر على المصائب، يعجز حتى إنه قد تصل به الحال إلى أن يرتد ـ والعياذ بالله ـ كما قال الله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والاخرة ذلك هو الخسران المبين} [الحج: 11]. إذاً نأخذ من هذه السورة أن الله سبحانه وتعالى أكد بالقسم المؤكد بإن، واللام أن جميع بني آدم في خسر، والخسر محيط بهم من كل جانب، إلا من اتصف بهذه الصفات الأربع: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ: «لو لم ينزل الله على عباده حجة إلا هذه السورة لكفتهم». يعني: كفتهم موعظة وحثاً على التمسك بالإيمان والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر على ذلك. وليس مراده أن هذه السورة كافية للخلق في جميع الشريعة، لكن كفتهم موعظة، فكل إنسان عاقل يعرف أنه في خُسر إلا إذا اتصف بهذه الصفات الأربع، فإنه سوف يحاول بقدر ما يستطيع أن يتصف بهذه الصفات الأربع، وإلى تخليص نفسه من الخسران. نسأل الله أن يجعلنا من الرابحين الموفقين، إنه على كل شيء قدير. " (1)
التفسير والبيان :
وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ أي قسما بالعصر وهو الدهر أو الزمان الذي يمر به الناس لما فيه من العبر وتقلبات الليل والنهار ، وتعاقب الظلام والضياء ، وتبدل الأحداث والدول ، والأحوال والمصالح ، مما يدل على وجود الصانع عزّ وجلّ وعلى توحيده وكمال قدرته ، أقسم بذلك على أن الإنسان في خسارة وهلاك ونقص وضلال عن الحق ، في المتاجر والمساعي ، وصرف الأعمال في أعمال الدنيا ، إلا من استثناهم اللَّه فيما يأتي. وإقسام اللَّه بالدهر دليل على
__________
(1) - تفسير القرآن للعثيمين - (41 / 1)(1/971)
شرفه وأهميته ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ ، وَلاَ تَقُولُوا خَيْبَةَ الدَّهْرِ . فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ » (1) ..
والآية كما ذكر الرازي كالتنبيه على أن الأصل في الإنسان أن يكون في الخسران والخيبة.
وقيل : المراد بالعصر : صلاة العصر ، أو وقتها تعظيما لها ، ولشرفها وفضلها ، ولهذا فسّر بها الصلاة الوسطى عند كثير من العلماء. وفيه إشارة إلى أن عمر الدنيا الباقي هو ما بين العصر إلى المغرب ، فعلى الإنسان أن يشتغل بتجارة لا خسران فيها ، فإن الوقت قد ضاق ، وقد لا يمكن تدارك ما فات.
والمراد بالإنسان : الجنس ، واللام لام الجنس وهو الراجح. وقيل : اللام في الإنسان لمعهود معين ، كما روي عن ابن عباس أنه أراد جماعة من المشركين كالوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن المطّلب. قال أبو حيان : والعصر ، والإنسان : اسم جنس يعم ، ولذلك صح الاستثناء منه.
ثم استثنى من جنس الإنسان عن الخسران ما يأتي : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ ، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ أي إن الإنسان لفي خسارة وضياع ونقصان وهلاك إلا الذين جمعوا بين الإيمان باللَّه والعمل الصالح ، فإنهم في ربح ، لا في خسر لأنهم عملوا للآخرة ، ولم تشغلهم أعمال الدنيا عنها ، فآمنوا بقلوبهم ، وعملوا بجوارحهم (أعضائهم).
وإلا الذين وصّى بعضهم بعضا بالأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره : وهو الإيمان باللَّه والتوحيد ، والقيام بما شرعه اللَّه ، واجتناب ما نهى عنه. والحق خلاف الباطل ، ويشمل جميع الخيرات وما يلزم فعله ، أو هو أداء الطاعات ، وترك المحرّمات. قال الزمخشري : وهو الخير كله ، من توحيد اللَّه وطاعته واتباع كتبه ورسله ، والزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة.
__________
(1) - صحيح البخارى (6182 ) وصحيح مسلم (6002 )
قَالَ الْعُلَمَاء : وَهُوَ مَجَاز ، وَسَبَبه أَنَّ الْعَرَب كَانَ شَأْنهَا أَنْ تَسُبّ الدَّهْر عِنْد النَّوَازِل وَالْحَوَادِث وَالْمَصَائِب النَّازِلَة بِهَا مِنْ مَوْت أَوْ هَرَم أَوْ تَلَف مَال أَوْ غَيْر ذَلِكَ ، فَيَقُولُونَ : يَا خَيْبَة الدَّهْر ، وَنَحْو هَذَا مِنْ أَلْفَاظ سَبّ الدَّهْر ، فَقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تَسُبُّوا الدَّهْر فَإِنَّ اللَّه هُوَ الدَّهْر " أَيْ لَا تَسُبُّوا فَاعِل النَّوَازِل ، فَإِنَّكُمْ إِذَا سَبَبْتُمْ فَاعِلهَا وَقَعَ السَّبّ عَلَى اللَّه تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ هُوَ فَاعِلهَا وَمُنْزِلهَا . وَأَمَّا الدَّهْر الَّذِي هُوَ الزَّمَان فَلَا فِعْل لَهُ ، بَلْ هُوَ مَخْلُوق مِنْ جُمْلَة خَلْق اللَّه تَعَالَى . وَمَعْنَى " فَإِنَّ اللَّه هُوَ الدَّهْر " أَيْ فَاعِل النَّوَازِل وَالْحَوَادِث ، وَخَالِق الْكَائِنَات . وَاللَّهُ أَعْلَم .شرح النووي على مسلم - (7 / 419)(1/972)
وإلا الذين أوصى بعضهم بعضا بالصبر على فرائض اللَّه ، وعن معاصي اللَّه ، وعلى أقداره وبلاياه. والصبر يشمل احتمال الطاعات ، واجتناب المنكرات ، وتحمل المصائب والأقدار ، وأذي الذي يأمرونه بالمعروف ، وينهونه عن المنكر.
ومضات :
قال الإمام : كان من عادة العرب أن يجتمعوا وقت العصر ويتحادثوا ويتذاكروا في شؤونهم ، وقد يكون في حديثهم مالا يليق أو ما يؤذي به بعضهم بعضاً . فيتوهم الناس أن الوقت مذموم . فأقسم الله به لينبهك إلى أن الزمان في نفسه ليس مما يذم ويسب ، كما اعتاد الناس أن يقولوا : زمان مشؤوم ، و : وقت نحس ، و : دهر سوء ، وما يشبه ذلك . بل هو عادّ للحسنات كما هو عادّ للسيئات ، وهو ظرف لشؤون الله الجليلة من خلق ورزق وإعزاز وإذلال وخفض ورفع . فكيف يذم في ذاته ، وإنما قد يُذم ما يقع فيه من الأفاعيل الممقوتة !
{ إِنَّ الْإِنْسَاْن لَفِي خُسْرٍ } أي : خسران ، لخسارته رأس ماله الذي هو نور الفطرة والهداية الأصلية ، بإيثار الحياة الدنيا واللذات الفانية والاحتجاب بها وبالدهر, وإضاعة الباقي في الفاني
{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا } أي : بالله وبما أنزل من الحق ، إيماناً مُلك إرادتهم فلا يعملون إلا ما يوافق اعتقاداتهم ، كما قال : { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } قال القاشانيّ : أي : من الفضائل والخيرات ، أي : اكتسبوها فربحوا زيادة النور الكمالي على النور الاستعدادي الذي هو رأس مالهم .
تنبيهات :
الأول : قال الإمام ابن القيم في "مفتاح دار السعادة " قال الشافعي رضي الله عنه : لو فكر الناس كلهم في هذه الصورة لكفتهم ، وبيان ذلك أن المراتب أربعة وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله :
إحداها : معرفة الحق . الثانية : عمله به .
الثالثة : تعليمه من لا يحسنه . الرابعة : صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه .
فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة . وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر ، إلا الذين آمنوا ، وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به ، فهذه مرتبة . وعملوا الصالحات وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه أخرى . وتواصوا بالحق ، وصى به بعضهم بعضا تعليما وإرشادا ، فهذه مرتبة ثالثة . وتواصوا بالصبر ، صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات . فهذه مرتبة رابعة .
وهذا نهاية الكمال . فإن الكمال أن يكون الشخص كاملاً في نفسه ، مكملاً لغيره . وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية ، فصلاح القوة العلمية بالإيمان . وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات ، وتكميله غيره بتعليمه إياه وصبره عليه وتوصيته بالصبر على العلم والعمل . فهذه(1/973)
السورة -على اختصارها- هي من أجمع سورة القرآن للخير بحذافيره . والحمد لله الذي جعل كتابه كافيا عن كل ما سواه ، شافيا من كل داء ، هاديا إلى كل خير . انتهى
الثاني : قال الرازي : هذه السورة فيها وعيد شديد . وذلك لأنه تعالى حكم بالخسار على جميع الناس ، إلا من كان آتيا بهذه الأشياء الأربعة . وهي : الإيمان ، والعمل الصالح ، التواصي بالحق ، والتواصي بالصبر ؛ فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور . وأنه كما يلزم المكلف تحصيل ما يخص نفسه ، فكذلك يلزمه في غيره أمور : منها الدعاء إلى الدين ، والنصيحة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن يحب له ما يحب لنفسه ثم كرر التواصي ليتضمن الأول الدعاء إلى الله ، والثاني الثبات عليه . والأول الأمر بالمعروف ، والثاني النهي عن المنكر . ومنه قوله تعالى : { وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } [ لقمان : 147 ] ، وقال عمر : رحم الله من أهدى إليّ عيوبي .
الثالث : قال الرازي : دلت الآية على أن الحق ثقيل ، وأن المحن تلازمه ؛ فلذلك قرن التواصي بالصبر .
الرابع : تخصص التواصي بالحق والصبر ، من اندراجهما في الأعمال الصالحة ، لإبراز كمال الاعتناء بهما .
قال الإمام : من تلك الأعمال الدعوة إلى الحق والوصية بالصبر ، لكنه أراد تخصيص هذين الأمرين بالذكر ، لأنهما حفاظ كل خير ورأس كل أمر . والحق هو ما تقرر من حقيقة ثابتة أو شريعة صحيحة ، وهو ما أرشد إليه دليل قاطع أو عيان ومشاهدة . فشرط النجاة من الخسران أن يعرف الناس الحق ويلزموه أنفسهم ، ويمكنوه من قلوبهم ، ثم يحمل الناس بعضهم بعضا عليه ، بأن يدعو كلٌّ صاحبه إلى الاعتقاد بالحقائق الثابتة التي لا ينازع فيها العقل ولا يختلف فيها النقل ، وأن يبعدوا بأنفسهم وبغيرهم عن الأوهام والخيالات التي لا قرار للنفوس عليها ولا دليل يهدي إليها ، ولا يكون ذلك إلا بإعمال الفكر وإجادة النظر في الأكوان ، حتى تستطيع النفس دفع ما يرد عليها من باطل الأوهام ، وهذا إطلاق للعقل من كل قيد ، مع اشتراط التدقيق في النظر ، لا الذهاب مع الطيش والانخداع للعادة والوهم . ومن لم يأخذ نفسه بحمل الناس على الحق الصحيح بعد أن يعرفه فهو من الخاسرين . كم ترى في الآية بالنص الصريح الذي لا يقبل التأويل .
والصبر قوة للنفس على احتمال المشقة في العمل الطيب ، واحتمال المكروه من الحرمان من اللذة ، إن كان في نيلها ما يخالف حقا أو ما لا تأذن به الشريعة الصحيحة التي لا اختلاف فيها . واحتمال الآلام إذا عرضت المصائب بدون جزع ولا خروج في دفعها عن حدود الحق والشرع . فشرط النجاة من الخسران أن تصبر ، وأن توصي غيرك بالصبر ، وتحمله على(1/974)
تكميل قواه بهذه الفضيلة الشريفة ، التي هي أم الفضائل بأسرها ، ولا يمكنك حمله على ذلك حتى تكون بنفسك متحليّاً بها ، وإلا دخلت في من يقول ولا يفعل كما يقول ؛ فلم تكن ممن يعمل الصالحات . انتهى .
الخامس : قال الإمام : إنما قال : { وَتَوَاصَوْا } ، ولم يقل : وأوصوا ؛ ليبين أن النجاة من الخسران إنما تناط بحرص كل من أفراد الأمة على الحق ، ونزوع كل منهم إلى أن يوصي به قومه ومن يهمه أمر الحق ، ليوصي صاحبه بطلبه يهمه أن يرى الحق فيقبله ، فكأن في هذه العبارة الجزلة قد نص على تواصيهم بالحق وقبولهم الوصية به إذا وجهت إليهم .
السادس : قال ابن كثير : ذكر الطبراني من طريق حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن عبيد الله بن حصن ، قال : كان الرجلان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الأخر سورة العصر إلى آخرها . ثم يسلم أحدهما على الآخر . قال الإمام : قد ظن الناس أن ذلك كان للتبرك ، وهو خطأ ؛ وإنما كان ليذكر كل واحد منهما صحابه بما ورد فيها ، خصوصا من التواصي بالحق والتواصي بالصبر ؛ حتى يجتلب منه قبل التفرق ، وصية خير لو كانت عنده .
وقد فسر الإمام رحمه الله هذه السورة بتفسير على حدة لم يسبق إلى نظيره ، فعلى من أراد التوسع في أسرارها ، أن يرجع إليه . (1)
السورة على قصرها جاءت بأسلوب حاسم قوي ، لتهتف بالناس أن لا فلاح لهم ولا نجاح ولا صلاح إلّا في الإيمان باللّه وحده والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر ، وأن كل من ينحرف عن هذه السبيل فهو خاسر.
وهي على إيجازها خلاصة هدف الدعوة الإسلامية الموجهة إلى الإنسانية جمعاء ، وهي عرض عام مثل سورة الأعلى والليل. ولذلك نرجح أنها نزلت مثلهما قبل الفصول القرآنية التي فيها حكاية مواقف المكذبين في سورة العلق والقلم والمزمل والمدثر.
ولقد كان المؤمنون الأولون رضي اللّه عنهم يعرفون عظم مدى السورة حتى لقد روي أن الرجلين من أصحاب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إذا التقيا لم يفترقا إلّا بعد أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر ثم يسلم أحدهما على الآخر. ولقد قال الشافعي رحمه اللّه : لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم.
ونقول بالمناسبة إن هناك آثارا في فضل صلاة العصر. وقد فسرت الصلاة الوسطى المأمور بالمحافظة عليها بنوع خاص في آية البقرة هذه : حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 306)(1/975)
[238] بصلاة العصر. والتسمية تنويهية بفضل هذه الصلاة. ومما يروى «4» أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجلس في مسجده في المدينة لأصحابه بعد هذه الصلاة فيلتفون حوله ويستمعون إلى تعاليمه وعظاته ويراجعه الناس في مشاكلهم ، لأنهم يكونون في هذا الوقت قد فرغوا من مشاغلهم اليومية أو كادوا ، وتكون شدة الحرارة في الصيف قد خفّت. ومن هنا كان الحث على المحافظة عليها كما هو المتبادر ومن هنا تبدو حكمة القسم الرباني بوقتها.
وتعبير الصَّالِحاتِ عام مطلق يتضمن كل نوع من أنواع الخير والبر والمعروف تعبديا كان أم غير تعبدي ، فعبادة اللّه وحده وإسلام النفس إليه ونبذ ما سواه عمل صالح ، والإحسان والبرّ بالمحتاجين والرحمة بالضعفاء عمل صالح ، والجهاد في سبيل اللّه ومكافحة الظلم والظالمين وتضحية النفس والمال في هذا السبيل عمل صالح ، والتزام الحق والعدل والإنصاف والصدق والأمانة عمل صالح ، والتعاون على البرّ والتقوى والأعمال العامة عمل صالح ، والكسب الحلال وقيام المرء بواجباته نحو أسرته وأولاده وأقاربه عمل صالح ، ومعاملة الناس بالحسنى عمل صالح إلخ ... وهكذا يكون تلقين السورة وما انطوى فيها من هدف الدعوة هو التبشير بكل عمل فيه خير وبرّ ورحمة ومكرمة وفضيلة وإخلاص للّه ، وبكلمة ثانية بكل ما فيه جماع الخير وسعادة الدارين. وأعظم بهما من تلقين وهدف جليلين خالدين ، ومن هنا تبدو قوة القول المأثور عن الشافعي رحمه اللّه.
تعليق على التواصي بالحق والتواصي بالصبر
وتعبير «التواصي» قوي لأنه للمشاركة. فلا يكفي أن يلتزم الإنسان الحق والصبر بنفسه ، بل يجب أن يتضامن الناس فيهما ويوصي بعضهم بعضا بهما.
والتواصي بالحق يستهدف تضامن أفراد المجتمع في الحق وإحقاقه ، بحيث يكون الحق هو القائم الحاكم المؤيد من مجموعهم. والتواصي بالصبر يستهدف تضامن أفراد المجتمع في شد بعضهم أزر بعض في الأحداث الملمة والمصاعب المدلهمة وفي مواقف الحق والخير ، دونما وهن ولا ضعف ولا جزع ولا تراخ.
وإذا لوحظ أن تعبير الحق عام يشمل كل شيء من حقوق اللّه على عباده وحقوق المجتمع على أفراده ، وحقوق المجتمعات على بعضها ، وحقوق الأفراد على بعضهم ومجتمعاتهم ، وحقوق الضعفاء والبؤساء والمحرومين على الأقوياء والقادرين والميسورين يبان مدى التلقين القرآني الجليل في التنويه بالتواصي بالحق وجعله لازما للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، واختصاصه بالذكر من الصالحات مع أنه داخل في معناها الشامل ، وما استهدفه هذا التلقين من الارتفاع بالإنسان والمجتمع الإنساني إلى مرتبة الكمال من حيث الطمأنينة العامة والسلامة الاجتماعية ، وانتفاء أسباب الضغينة والحقد والقطيعة والخصام والبغي والبؤس والقلق التي تجتاح المجتمع(1/976)
حينما تنتشر فيه الفردية وتقوى الأنانية ، ويشتد عدم مبالاة الفرد بغير نفسه ومصلحته وكيانه الخاص لضمان النفع لنفسه من أي سبيل ، أو حينما يتسع المجال فيه لبغي الناس وعدوانهم بعضهم على بعض بدون رادع ، أو حينما تداس فيه حقوق الضعفاء وتفقد فيه رغبة مساعدة المحتاجين ، وتضعف أو تزول فيه عاطفة البرّ والتعاطف الاجتماعية.
وهذا المبدأ بهذه السعة من المبادئ الجليلة التي قررها القرآن مرة بعد مرة وبأساليب متنوعة ، حتى كان من أهم أهداف الدعوة الإسلامية. ووروده في هذه السورة المبكرة وبهذا الأسلوب القوي يدل على أنه من أسس الدعوة الرئيسية ، وإنه لكذلك. وإنه لمن أقوى مرشحات الإسلام للشمول والخلود.
ومثل هذا يقال في صدد الصبر والتواصي به. لأن ذلك الخلق الشخصي الاجتماعي من لوازم الحياة الإنسانية الصالحة وعمدها. ويهدف القرآن إلى تقويته في الأفراد والمجتمع وبثّ روح القوة والطمأنينة فيهم. ووروده في هذه السورة المبكرة وبهذا الأسلوب القوي يدل على اعتباره من أهم الأخلاق التي يجب أن تقوم عليها الشخصية الإنسانية الإسلامية ، وعلى ما له من خطورة وضرورة في حياة الأفراد والمجتمع.
ونرى بهذه المناسبة أن نشير إلى ما تكرر كثيرا في القرآن من التنويه بالصبر حتى لقد بلغ عدد المرات التي وردت فيها كلمة الصبر ومشتقاتها في القرآن المكي والمدني ونوّه فيها بخلق الصبر وحثّ عليه وأثنى على من يتخلق به ويلتزمه ووعد بالنجاح والأجر وأمر بالاستعانة به على مواجهة الخطوب والشدائد نحو مائة مرة حيث يدل هذا على مبلغ العناية الربانية بترسيخ هذا الخلق أو هذه الفضيلة التي هي من أجل الفضائل الأخلاقية في المسلمين. من ذلك في القرآن المكي هذه الآيات :
1 - إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ يوسف [90].
2 - وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) الرعد [22].
3 - وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) النحل [41 - 42].
4 - ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) النحل [96].
5 - الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) الحج [35].(1/977)
6 - قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) الزمر [10].
7 - وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) فصلت [34 - 35].
8 - وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) الشورى [43].
ومن ذلك في القرآن المدني هذه الآيات :
1 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ
(157) البقرة [153 - 157].
2 - لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) البقرة [177].
3 - وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) آل عمران [146].
4 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) آل عمران [200].
وواضح من هذه الآيات ومن الآيات الكثيرة الأخرى التي وردت في سور عديدة ، أن هدفها هو بثّ روح الجلد ورباطة الجأش وضبط النفس والسكينة والتضحية في نفس المسلم مما يضمن له الكرامة والعزة والنجاح ويجنبه الطيش والهلع والجزع والاضطراب والقلق في الأزمات والأخطار.
والصبر بعد يتجسد في أخلاق كثيرة ، فالشجاعة هي الصبر على مكاره الجهاد ومواقف الحق. والعفاف هو الصبر على الشهوات. والحلم هو الصبر على المثيرات.
والكمال هو الصبر على أمانة الأسرار. والزهد هو الصبر على الحرمان. فإذا ما رسخ هذا الخلق في امرئ صار له من القوة المعنوية والشجاعة والجلد ما يمكنه من مواجهة الخطوب دون فزع وجزع وتحمل المشاق والرضاء بالمكروه والحرمان في سبيل الحق والشرف(1/978)
والكرامة والعزوف عن الشهوات والمثابرة على المقاصد النبيلة مهما عسرت وطال أمدها وغدا محل رضاء اللّه عز وجل والناس واعتمادهم.
ولقد روى الخمسة عن أبي سعيد الخدري حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء فيه : «ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر» . حيث ينطوي في الحديث التنويه العظيم بالصبر الذي ينطوي في الآيات القرآنية ويتساوق بذلك التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر مثل سائر الأمور.
ولقد يكون في القرآن المكي بل والمدني آيات تحثّ النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين على الصبر على ما كان يقع من أذى الكفار وما كان من هؤلاء من مكابرة وعناد ومناوأة. غير أن المتمعن فيها يجد أنه ليس من تناقض بينها وبين ما قررناه. كما أنه ليس فيها ما يمكن أن يكون حثا على احتمال الظلم والجور والضيم والذل.
وكثير منها بل جميعها إنما توخت تثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما هو عليه من الحق وتهدئتهم إلى الوقت المناسب وحث النبي - صلى الله عليه وسلم - على الاستمرار في الدعوة والمهمة التي انتدب لها كما ترى في الأمثلة التالية وهي مكية ومدنية :
1 - وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) يونس [109].
2 - وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) النحل [126 - 128].
3 - فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) غافر [77].
4 - وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) الطور [48].
5 - وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) البقرة [109].
6 - لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) آل عمران [186].
مغزى تلازم الإيمان والعمل الصالح في القرآن
وفي تقديم الإيمان على العمل الصالح إشارة إلى انبثاق العمل الصالح من الإيمان. فالإيمان هو الذي يدفع صاحبه إلى الخير ويزعه عن الشر. وفي ربط الإيمان بالعمل الصالح إشارة إلى وجوب تلازمهما واعتبار العمل الصالح عنوانا أو مظهرا للإيمان. وهذا التلازم بين ذكر الإيمان والعمل الصالح يلحظ في جل الآيات القرآنية مما يمكن أن يدل على قصد الإشارة إلى(1/979)
شدة الارتباط واللحمة والتوافق بينهما وتوكيدها. وإذا لوحظ أن الإيمان شيء داخلي أو ذاتي في أعماق النفس لا يمكن أن يدل على نفسه بنفسه ، ولا يمكن أن يدل عليه إلا العمل الصالح بأن لنا وجه الحق في ذلك.
والحكمة في هذا ظاهرة قوية ، فالإيمان يمنح صاحبه طمأنينة واستقرار نفس يجعلانه يصدر في أعماله وأهدافه عن يقين وقصد وتثبت واندفاع وصبر ، ويتحمل في سبيل ذلك ما قد يلاقيه من مصاعب وما تمس الحاجة إليه من تضحيات.
والإيمان باللّه يجعل صاحبه يقبل على الخير والعمل الصالح وينقبض عن الشر والإثم والسيئات ابتغاء لوجه اللّه واتقاء لغضبه واكتسابا لرضائه ورضوانه ، دون أن يكون هناك حافز من منفعة عاجلة أو دون أن يكون ذلك مما لا بد منه على الأقل.
أما العمل الذي لا يصدر عن إيمان فإنه يكون معرضا في الأغلب للانقطاع والتردد والتأثر بالمؤثرات والاعتبارات الشخصية والنفعية والظرفية. وكثيرا ما ينصرف المرء عنه حينما يلقى المصاعب والمشاكل ، أو حينما يتطلب منه التضحيات أو حينما لا يكون من ورائه جلب خير أو دفع شر عاجل. والعمل الصالح من الجهة الأخرى لا يكون فيه حيوية ويقين وتثبت واستمرار إذا لم يكن منبثقا من إيمان يجعله لازما حيّا قويا بذاته وبصرف النظر عن أي اعتبار ، ويجعل صاحبه لا ينصرف عنه مهما لاقى في سبيله من مصاعب واقتضى منه من تضحية وعناء واستنفد من قوة وجهد.
وإذا أراد قائل أن يقول إن هناك من يفعل الخير لذاته نتيجة للتربية الخلقية الراسخة فليذكر هذا القائل أن هذا النوع من الندرة بحيث لا يمكن أن يورد على ما قررناه آنفا وأن المجتمع في حاجة دائمة إلى حافز مشترك يشمل بتأثيره أكبر عدد ممكن من البشر ، وليس هذا الحافز إلّا الإيمان. وهذا فضلا عن أن التدين الراسخ في أعماق الطبيعة الإنسانية يمهد السبيل لقوة هذا الحافز وتأثيره وشموله.
وإذا أراد قائل أن يقول إن كثيرا من المؤمنين باللّه واليوم الآخر لا يفعلون الخير أو لا يفعلونه إلّا إذا رجوا مقابلة عاجلة عليه ، فالجواب على هذا هو أن إيمان هؤلاء ليس هو الإيمان الصحيح. فهم مسلمون أكثر منهم مؤمنون. وقد فرق القرآن بين الفئتين ونبه لمدى وأثر الإيمان الصحيح في صاحبه في آيات سورة الحجرات هذه : قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15).(1/980)
على أن الوازع للخير يظل دائما أقوى في المؤمنين على كل حال منه في غير المؤمنين على ما هو المشاهد المحسوس في كل وقت.
هذا ، وأسلوب السورة المطلق يسوغ وصفها بما وصفت به سورة الفاتحة والأعلى والليل والفجر ، واللّه أعلم. (1)
قوله تعالى : « وَالْعَصْرِ ». هو قسم بهذا الوقت من أوقات الزمن ، وهو الساعات الأخيرة من النهار ..
وقد أقسم اللّه سبحانه وتعالى بأجزاء من الزمن ، كالفجر ، والضحى ، والليل ، والنهار ..
وفى القسم « بالعصر » تنويه بشأن هذا الوقت من الزمن ، الذي تبدأ فيه الأحياء تجمع نفسها ، وتعود إلى مأواها بما حصّلت وجمعت فى سعيها فى الحياة ..
وإنه لجدير بالعاقل أن يحاسب نفسه على ما عمل فى يومه هذا ، وما حصل فيه من خير ، وما اقترف فيه من إثم .. إنه وقت محاسبة ومراجعة لأعمال اليوم ، وتصحيح للأخطاء التي وقع فيها ، فلا يستأنفها فى غده .. ولهذا كانت صلاة العصر هى الصلاة الوسطى ـ على ما جاءت به الأخبار الصحيحة ، وقرره معظم أهل العلم ـ تلك الصلاة التي نوه اللّه سبحانه وتعالى بها ، فقال تعالى : « حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى » (238 : البقرة).
وقوله تعالى : « إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ».هو المقسم عليه ، وهو جواب القسم ..
والإنسان فى خسر ، أي فى ضلال ، لأنه لم يعرف قدره ، ولم يرتفع بإنسانيته إلى المقام الذي أهّله اللّه سبحانه وتعالى له .. فلقد خلق اللّه سبحانه الإنسان فى أحسن تقويم ، ولكن الإنسان لم يلتفت إلى هذا الخلق ، ولم يقدره قدره ، ولم يأخذ الطريق الذي يدعو إليه العقل ، بل انقاد لشهواته ، واستخف بإنسانيته ، وتحول إلى عالم البهيمة ، يأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام ..
ذلك هو شأن الإنسان فى معظم أفراده وأحواله .. وقليل هم أولئك الذين عرفوا قدر إنسانيتهم ، وما أودع اللّه سبحانه وتعالى فيهم من قوى قادرة على أن ترتفع بهم إلى الملأ الأعلى ، لو أنهم أحسنوا استعمالها ، وهؤلاء هم الذين استثناهم اللّه سبحانه وتعالى بقوله :
« إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ». فهؤلاء هم الإنسان الكريم عند اللّه ، الذي يلقاه ربه بالرضا والرضوان ..إنهم هم الذين آمنوا باللّه ، وعرفوا ما للّه سبحانه وتعالى ، من كمال وجلال ..
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 561)(1/981)
فاستمسكوا بالحق ، وهو الإيمان ، وما يدعو إليه ، وما ينهى عنه .. ثم تواصوا به فيما بينهم ، فنصح بعضهم لبعض بالاستقامة عليه ، والتمسك به ، وفى هذا ما يقوّى من جبهة الحق ، ويكثّر من أتباعه.
وفى قوله تعالى : « وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ » ـ إشارة إلى أن طريق الإيمان ، والاستقامة على شريعته ليس أمرا هينا ، فإن ذلك إنما يحتاج إلى معاناة وصبر على مغالبة الشهوات ، وقهر دواعى الأهواء ، ووساوس الشيطان .. فطريق الحق طريق محفوف بالمكاره ، والصبر هو زاد الذين يسلكون طريقه ، ويبلغون به غايات الفوز والفلاح .. (1)
في هذه السورة الصغيرة ذات الآيات الثلاث يتمثل منهج كامل للحياة البشرية كما يريدها الإسلام . وتبرز معالم التصور الإيماني بحقيقته الكبيرة الشاملة في أوضح وأدق صورة . إنها تضع الدستور الإسلامي كله في كلمات قصار . وتصف الأمة المسلمة : حقيقتها ووظيفتها . في آية واحدة هي الآية الثالثة من السورة . . وهذا هو الإعجاز الذي لا يقدر عليه إلا الله . .
والحقيقة الضخمة التي تقررها هذه السورة بمجموعها هي هذه :
إنه على امتداد الزمان في جميع الأعصار ، وامتداد الإنسان في جميع الأدهار ، ليس هنالك إلا منهج واحد رابح ، وطريق واحد ناج . هو ذلك المنهج الذي ترسم السورة حدوده ، وهو هذا الطريق الذي تصف السورة معالمه . وكل ما وراء ذلك ضياع وخسار . .
{ والعصر ، إن الإنسان لفي خسر . إلا الذين آمنوا ، وعملوا الصالحات ، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } .إنه الإيمان . والعمل الصالح . والتواصي بالحق . والتواصي بالصبر . .
فما الإيمان؟؟
نحن لا نعرّف الإيمان هنا تعريفه الفقهي؛ ولكننا نتحدث عن طبيعته وقيمته في الحياة .
إنه اتصال هذا الكائن الإنساني الفاني الصغير المحدود بالأصل المطلق الأزلي الباقي الذي صدر عنه الوجود . ومن ثم اتصاله بالكون الصادر عن ذات المصدر ، وبالنواميس التي تحكم هذا الكون ، وبالقوى والطاقات المذخورة فيه . والانطلاق حينئذ من حدود ذاته الصغيرة إلى رحابة الكون الكبير . ومن حدود قوته الهزيلة إلى عظمة الطاقات الكونية المجهولة . ومن حدود عمره القصير إلى امتداد الآباد التي لا يعلمها إلا الله .
وفضلاً عما يمنحه هذا الاتصال للكائن الإنساني من قوة وامتداد وانطلاق ، فإنه يمنحه إلى جانب هذا كله متاعاً بالوجود وما فيه من جمال ، ومن مخلوقات تتعاطف أرواحها مع روحه . فإذا الحياة رحلة في مهرجان إلهي مقام للبشر في كل مكان وفي كل أوان . . وهي سعادة
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1668)(1/982)
رفيعة ، وفرح نفيس ، وأنس بالحياة والكون كأنس الحبيب بالحبيب . وهو كسب لا يعدله كسب . وفقدانه خسران لا يعدله خسران . .
ثم إن مقومات الإيمان هي بذاتها مقومات الإنسانية الرفيعة الكريمة . .
التعبد لإله واحد ، يرفع الإنسان عن العبودية لسواه ، ويقيم في نفسه المساواة مع جميع العباد ، فلا يذل لأحد ، ولا يحني رأسه لغير الواحد القهار . . ومن هنا الانطلاق التحرري الحقيقي للإنسان . والانطلاق الذي ينبثق من الضمير ومن تصور الحقيقة الواقعة في الوجود . إنه ليس هناك إلا قوة واحدة وإلا معبود واحد . فالانطلاق التحرري ينبثق من هذا التصور انبثاقاً ذاتياً ، لأنه هو الأمر المنطقي الوحيد .
والربانية التي تحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان تصوراته وقيمه وموازينه واعتباراته وشرائعه وقوانينه ، وكل ما يربطه بالله ، أو بالوجود ، أو بالناس . فينتفي من الحياة الهوى والمصلحة ، وتحل محلهما الشريعة والعدالة . وترفع من شعور المؤمن بقيمة منهجه ، وتمده بالاستعلاء على تصورات الجاهلية وقيمها واعتباراتها ، وعلى القيم المستمدة من الارتباطات الأرضية الواقعة .
. ولو كان فرداً واحداً ، لأنه إنما يواجهها بتصورات وقيم واعتبارات مستمدة من الله مباشرة فهي الأعلى والأقوى والأولى بالاتباع والاحترام .
ووضوح الصلة بين الخالق والمخلوق ، وتبين مقام الألوهية ومقام العبودية على حقيقتها الناصعة ، مما يصل هذه الخليقة الفانية بالحقيقة الباقية في غير تعقيد ، وبلا وساطة في الطريق . ويودع القلب نوراً ، والروح طمأنينة ، والنفس أنساً وثقة . وينفي التردد والخوف والقلق والاضطراب كما ينفي الاستكبار في الأرض بغير الحق ، والاستعلاء على العباد بالباطل والافتراء!
والاستقامة على المنهج الذي يريده الله . فلا يكون الخير فلته عارضة ، ولا نزوة طارئة ، ولا حادثة منقطعة . إنما ينبعث عن دوافع ، ويتجه إلى هدف ، ويتعاون عليه الأفراد المرتبطون في الله ، فتقوم الجماعة المسلمة ذات الهدف الواحد الواضح ، والراية الواحدة المتميزة . كما تتضامن الأَجيال المتعاقبة الموصولة بهذا الحبل المتين .
والاعتقاد بكرامة الإنسان على الله ، يرفع من اعتباره في نظر نفسه ، ويثير في ضميره الحياء من التدني عن المرتبة التي رفعه الله إليها . وهذا أرفع تصور يتصوره الإنسان لنفسه . . أنه كريم عند الله . . وكل مذهب أو تصور يحط من قدر الإنسان في نظر نفسه ، ويرده إلى منبت حقير ، ويفصل بينه وبين الملأ الأعلى . . هو تصور أو مذهب يدعوه إلى التدني والتسفل ولو لم يقل له ذلك صراحة!(1/983)
ومن هنا كانت إيحاءات الدارونية والفرويدية والماركسية هي أبشع ما تبتلى به الفطرة البشرية والتوجيه الإنساني ، فتوحي إلى البشر بأن كل سفالة وكل قذارة وكل حقارة هي أمر طبيعي متوقع ، ليس فيه ما يستغرب ، ومن ثم ليس فيه ما يخجل . . وهي جناية على البشرية تستحق المقت والازدراء!
ونظافة المشاعر تجيء نتيجة مباشرة للشعور بكرامة الإنسان على الله . ثم برقابة الله على الضمائر واطلاعه على السرائر . وإن الإنسان السوي الذي لم تمسخه إيحاءات فرويد وكارل ماركس وأمثالهما ، ليستحيي أن يطلع إنسان مثله على شوائب ضميره وخائنة شعوره . والمؤمن يحس وقع نظر الله سبحانه في أطواء حسه إحساساً يرتعش له ويهتز . فأولى أن يطهر حسه هذا وينظفه!
والحاسة الأخلاقية ثمرة طبيعية وحتمية للإيمان بإله عادل رحيم عفو كريم ودود حليم ، يكره الشر ويحب الخير . ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
وهناك التبعة المترتبة على حرية الإرادة وشمول الرقابة ، وما تثيره في حس المؤمن من يقظة وحساسية ، ومن رزانة وتدبر . وهي ليست تبعة فردية فحسب ، إنما هي كذلك تبعة جماعية ، وتبعة تجاه الخير في ذاته ، وإزاء البشرية جميعاً . . أمام الله . . وحين يتحرك المؤمن حركة فهو يحس بهذا كله ، فيكبر في عين نفسه ، ويقدر نتيجة خطوه قبل أن يمد رجله . . إنه كائن له قيمة في الوجود ، وعليه تبعة في نظام هذا الوجود ..
والارتفاع عن التكالب على أعراض الحياة الدنيا وهو بعض إيحاءات الإيمان واختيار ما عند الله ، وهو خير وأبقى . { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } والتنافس على ما عند الله يرفع ويطهر وينظف . . يساعد على هذا سعة المجال الذي يتحرك فيه المؤمن . . بين الدنيا والآخرة ، والأرض والملأ الأعلى . مما يهدئ في نفسه القلق على النتيجة والعجلة على الثمرة . فهو يفعل الخير لأنه الخير ، ولأن الله يريده ، ولا عليه ألا يدرّ الخير خيراً على مشهد من عينيه في عمره الفردي المحدود . فالله الذي يفعل الخير ابتغاء وجهه لا يموت سبحانه - ولا ينسى ، ولا يغفل شيئاً من عمله . والأرض ليست دار جزاء . والحياة الدنيا ليست نهاية المطاف . ومن ثم يستمد القدرة على مواصلة الخير من هذا الينبوع الذي لا ينضب . وهذا هو الذي يكفل أن يكون الخير منهجاً موصولاً ، لا دفعة طارئة ، ولا فلتة مقطوعة . وهذا هو الذي يمد المؤمن بهذه القوة الهائلة التي يقف بها في وجه الشر . سواء تمثل في طغيان طاغية ، أو في ضغط الاعتبارات الجاهلية ، أو في اندفاع نزواته هو وضغطها على إرادته . هذا الضغط الذي ينشأ أول ما ينشأ من شعور الفرد بقصر عمره عن استيعاب لذائذه وتحقيق أطماعه ، وقصره كذلك(1/984)
عن رؤية النتائج البعيدة للخير ، وشهود انتصار الحق على الباطل! والإيمان يعالج هذا الشعور علاجاً أساسياً كاملاً .
إن الإيمان هو أصل الحياة الكبير ، الذي ينبثق منه كل فرع من فروع الخير ، وتتعلق به كل ثمرة من ثماره ، وإلا فهو فرع مقطوع من شجرته ، صائر إلى ذبول وجفاف . وإلا فهي ثمرة شيطانية ، وليس لها امتداد أو دوام!
وهو المحور الذي تشد إليه جميع خيوط الحياة الرفيعة . وإلا فهي مفلتة لا تمسك بشيء ، ذاهبة بدداً مع الأهواء والنزوات . .
وهو المنهج الذي يضم شتات الأعمال ، ويردها إلى نظام تتناسق معه وتتعاون ، وتنسلك في طريق واحد ، وفي حركة واحدة ، لها دافع معلوم ، ولها هدف مرسوم . .
ومن ثم يهدر القرآن قيمة كل عمل لا يرجع إلى هذا الأصل ، ولا يشد إلى هذا المحور ، ولا ينبع من هذا المنهج . والنظرية الإسلامية صريحة في هذا كل الصراحة . . جاء في سورة إبراهيم : { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف . لا يقدرون مما كسبوا على شيء } وجاء في سورة النور : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً } وهي نصوص صريحة في إهدار قيمة العمل كله ، ما لم يستند إلى الإيمان ، الذي يجعل له دافعاً موصولاً بمصدر الوجود ، وهدفاً متناسقاً مع غاية الوجود . وهذه هي النظرة المنطقية لعقيدة ترد الأمور كلها إلى الله . فمن انقطع عنه فقد انقطع وفقد حقيقة معناه .
إن الإيمان دليل على صحة الفطرة وسلامة التكوين الإنساني ، وتناسقه مع فطرة الكون كله ، ودليل التجاوب بين الإنسان والكون من حوله .
فهو يعيش في هذا الكون ، وحين يصح كيانه لا بد أن يقع بينه وبين هذا الكون تجاوب . ولا بد أن ينتهي هذا التجاوب إلى الإيمان ، بحكم ما في الكون ذاته من دلائل وإيحاءات عن القدرة المطلقة التي أبدعته على هذا النسق . فإذا فقد هذا التجاوب أو تعطل ، كان هذا بذاته دليلاً على خلل ونقص في الجهاز الذي يتلقى ، وهو هذا الكيان الإنساني . وكان هذا دليل فساد لا يكون معه إلا خسران . ولا يصح معه عمل ولو كان في ظاهره مسحة من الصلاح .
وإن عالم المؤمن من السعة والشمول والامتداد والارتفاع والجمال والسعادة بحيث تبدو إلى جانبه عوالم غير المؤمنين صغيرة ضئيلة هابطة هزيلة شائهة شقية . . خاسرة أي خسران!
والعمل الصالح وهو الثمرة الطبيعية للإيمان ، والحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الإيمان في القلب . فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة . ما إن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح . . هذا هو الإيمان(1/985)
الإسلامي . . لا يمكن أن يظل خامداً لا يتحرك ، كامناً لا يتبدى في صورة حية خارج ذات المؤمن . . فإن لم يتحرك هذه الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت . شأنه شأن الزهرة لا تمسك أريجها . فهو ينبعث منها انبعاثاً طبيعياً . وإلا فهو غير موجود!
ومن هنا قيمة الإيمان . . إنه حركة عمل وبناء وتعمير . . يتجه إلى الله . . إنه ليس انكماشاً وسلبية وانزواء في مكنونات الضمير . وليس مجرد النوايا الطيبة التي لا تتمثل في حركة وهذه طبيعة الإسلام البارزة التي تجعل منة قوة بناء كبرى في صميم الحياة .
وهذا مفهوم ما دام الإيمان هو الارتباط بالمنهج الرباني . وهذا المنهج حركة دائمة متصلة في صميم الوجود . صادرة عن تدبير ، متجهة إلى غاية . وقيادة الإيمان للبشرية هي قيادة لتحقيق منهج الحركة التي هي طبيعة الوجود . الحركة الخيرة النظيفة البانية المعمرة اللائقة بمنهج يصدر عن الله .
أما التواصي بالحق والتواصي بالصبر فتبرز من خلالها صورة الأمة المسلمة أو الجماعة المسلمة ذات الكيان الخاص ، والرابطة المميزة ، والوجهة الموحدة . الجماعة التي تشعر بكيانها كما تشعر بواجبها . والتي تعرف حقيقة ما هي مقدمة عليه من الإيمان والعمل الصالح ، الذي يشمل فيما يشمل قيادة البشرية في طريق الإيمان والعمل الصالح؛ فتتواصى فيما بينها بما يعينها على النهوض بالأمانة الكبرى .
فمن خلال لفظ التواصي ومعناه وطبيعته وحقيقته تبرز صورة الأمة أو الجماعة المتضامة المتضامنة . الأمة الخيرة . الواعية . القيمة في الأرض على الحق والعدل والخير . . وهي أعلى وأنصع صورة للأمة المختارة . . وهكذا يريد الإسلام أمة الإسلام . . هكذا يريدها أمة خيرة قوية واعية قائمة على حراسة الحق والخير ، متواصية بالحق والصبر في مودة وتعاون وتآخ تنضح بها كلمة التواصي في القرآن ..
والتواصي بالحق ضرورة . فالنهوض بالحق عسير . والمعوقات عن الحق كثيرة : هوى النفس ، ومنطق المصلحة ، وتصورات البيئة . وطغيان الطغاة ، وظلم الظلمة ، وجور الجائرين . . والتواصي تذكير وتشجيع وإشعار بالقربى في الهدف والغاية ، والأخوة في العبء والأمانة . فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات الفردية ، إذ تتفاعل معاً فتتضاعف . تتضاعف بإحساس كل حارس للحق أن معه غيره يوصيه ويشجعه ويقف معه ويحبه ولا يخذله . . وهذا الدين وهو الحق لا يقوم إلا في حراسة جماعة متواصية متكافلة متضامنة على هذا المثال .
والتواصي بالصبر كذلك ضرورة . فالقيام على الإيمان والعمل الصالح ، وحراسة الحق والعدل ، من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة . ولا بد من الصبر . لا بد من الصبر على جهاد النفس ،(1/986)
وجهاد الغير . والصبر على الأذى والمشقة . والصبر على تبجح الباطل وتنفج الشر . والصبر على طول الطريق وبطء المراحل ، وانطماس المعالم ، وبعد النهاية!
والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة ، بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف ، ووحدة المتجه ، وتساند الجميع ، وتزودهم بالحب والعزم والإصرار . . إلى آخر ما يثيره من معاني الجماعة التي لا تعيش حقيقة الإسلام إلا في جوها ، ولا تبرز إلا من خلالها . . وإلا فهو الخسران والضياع .
وننظر اليوم من خلال هذا الدستور الذي يرسمه القرآن لحياة الفئة الرابحة الناجية من الخسران ، فيهولنا أن نرى الخسر يحيق بالبشرية في كل مكان على ظهر الأرض بلا استثناء . يهولنا هذا الضياع الذي تعانيه البشرية في الدنيا قبل الآخرة يهولنا أن نرى إعراض البشرية ذلك الإعراض البائس عن الخير الذي أفاضه الله عليها؛ مع فقدان السلطة الخيرة المؤمنة القائمة على الحق في هذه الأرض . . هذا والمسلمون أو أصحاب دعوى الإسلام بتعبير أدق هم أبعد أهل الأرض عن هذا الخير ، وأشدهم إعراضاً عن المنهج الإلهي الذي اختاره الله لهم ، وعن الدستور الذي شرعه لأمتهم ، وعن الطريق الوحيد الذي رسمه للنجاة من الخسران والضياع . والبقاع الي انبعث منها هذا الخير أول مرة تترك الراية التي رفعها لها الله ، راية الإيمان ، لتتعلق برايات عنصرية لم تنل تحتها خيراً قط في تاريخها كله . لم يكن لها تحتها ذكر في الأرض ولا في السماء . حتى جاء الإسلام فرفع لها هذه الراية المنتسبة لله ، لا شريك له ، المسماة باسم الله لا شريك له ، الموسومة بميسم الله لا شريك له . . الراية التي انتصر العرب تحتها وسادوا وقادوا البشرية قيادة خيرة قوية واعية ناجية لأول مرة في تاريخهم وفي تاريخ البشرية الطويل . .
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم : « ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ » . . عن هذه القيادة الخيرة الفذة في التاريخ كله ، وتحت عنوان « عهد القيادة الإسلامية » : « الأئمة المسلمون وخصائصهم » :
« ظهر المسلمون ، وتزعموا العالم ، وعزلوا الأمم المزيفة من زعامة الإنسانية التي استغلتها وأساءت عملها ، وساروا بالإنسانية سيراً حثيثاً متزناً عادلاً ، وقد توفرت فيهم الصفات التي تؤهلهم لقيادة الأمم ، وتضمن سعادتها وفلاحها في ظلهم وتحت قيادتهم » .
« أولاً : أنهم أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية ، فلا يقننون ولا يشترعون من عند أنفسهم . لأن ذلك منبع الجهل والخطأ والظلم ، ولا يخبطون في سلوكهم وسياستهم ومعاملتهم للناس خبط عشواء ، وقد جعل الله لهم نوراً يمشون به في الناس ، وجعل لهم شريعة يحكمون بها الناس { أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج(1/987)
منها؟ } وقد قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى ، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } ثانياً : أنهم لم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية وتزكية نفس ، بخلاف غالب الأمم والأفراد ورجال الحكومة في الماضي والحاضر ، بل مكثوا زمناً طويلاً تحت تربية محمد - صلى الله عليه وسلم - وإشرافه الدقيق ، يزكيهم ويؤدبهم ، ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف والأمانة والإيثار وخشية الله ، وعدم الاستشراف للإمارة والحرص عليها . يقول : » إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله ، أو أحداً حرص عليه « .
ولا يزال يقرع سمعهم : { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين } فكانوا لا يتهافتون على الوظائف والمناصب ، فضلاً عن أن يرشحوا أنفسهم للإمارة ، ويزكوا أنفسهم ، وينشروا دعاية لها ، وينفقوا الأموال سعياً وراءها . فإذا تولوا شيئاً من أمور الناس لم يعدوه مغنماً أو طعمة أو ثمناً لما أنفقوا من مال أو جهد؛ بل عدوه أمانة في عنقهم ، وامتحاناً من الله؛ ويعلمون أنهم موقوفون عند ربهم ، ومسؤولون عن الدقيق والجليل ، وتذكروا دائماً قول الله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } وقوله . . { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ، ليبلوكم فيما آتاكم } » ثالثاً : إنهم لم يكونوا خدمة جنس ، ورسل شعب أو وطن ، يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده؛ ويؤمنون بفضله وشرفه على جميع الشعوب والأوطان ، لم يخلقوا إلا ليكونوا حكاماً ، ولم تخلق إلا لتكون محكومة لهم . ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها ، ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها ، ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكم أنفسهم! إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعاً إلى عبادة الله وحده . كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد : الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام « فالأمم عندهم سواء ، والناس عندهم سواء الناس كلهم من آدم ، وآدم من تراب . لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وقد قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص عامل مصر وقد ضرب ابنه مصرياً وافتخر بآبائه قائلاً : خذها من ابن الأكرمين . فاقتص منه عمر : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أحراراً أمهاتهم؟ فلم يبخل هؤلاء بما عندهم من دين وعلم وتهذيب على أحد ، ولم يراعوا في الحكم والإمارة والفضل نسباً ولوناً ووطناً ، بل كانوا سحابة انتظمت(1/988)
البلاد وعمت العباد ، وغوادي مزنة أثنى عليها السهل والوعر ، وانتفعت بها البلاد والعباد على قدر قبولها وصلاحها .
في ظل هؤلاء وتحت حكمهم استطاعت الأمم والشعوب حتى المضطهدة منها في القديم أن تنال نصيبها من الدين والعلم والتهذيب والحكومة ، وأن تساهم العرب في بناء العالم الجديد ، بل إن كثيراً من أفرادها فاقوا العرب في بعض الفضائل ، وكان منهم أئمة هم تيجان مفارق العرب وسادة المسلمين من الأئمة والفقهاء والمحدثين . .
« رابعاً : إن الإنسان جسم وروح ، وهو ذو قلب وعقل وعواطف وجوارح ، لا يسعد ولا يفلح ولا يرقى رقياً متزناً عادلاً حتى تنمو فيه هذه القوى كلها نمواً متناسباً لائقاً بها ، ويتغذى غذاء صالحاً ، ولا يمكن أن توجد المدنية الصالحة ألبتة إلا إذا ساد وسط ديني خلقي عقلي جسدي يمكن فيه للإنسان بسهولة أن يبلغ كماله الإنساني . وقد أثبتت التجربة أنه لا يكون ذلك إلا إذا مكنت قيادة الحياة وإدارة دفة المدنية بين الذين يؤمنون بالروح والمادة ، ويكونون أمثلة كاملة في الحياة الدينية والخلقية ، وأصحاب عقول سليمة راجحة ، وعلوم صحيحة نافعة » . .
إلى أن يقول تحت عنوان : « دور الخلافة الراشدة مثل المدنية الصالحة » :
« وكذلك كان ، فلم نعرف دوراً من أدوار التاريخ أكمل وأجمل وأزهر في جميع هذه النواحي من هذا الدور دور الخلافة الراشدة فقد تعاونت فيه قوة الروح والأخلاق والدين والعلم والأدوات المادية في تنشئة الإنسان الكامل . وفي ظهور المدنية الصالحة . . كانت حكومة من أكبر حكومات العالم ، وقوة سياسية مادية تفوق كل قوة في عصرها ، تسود فيها المثل الخلقية العليا ، وتحكم معايير الأخلاق الفاضلة في حياة الناس ونظام الحكم ، وتزدهر فيها الأخلاق والفضيلة مع التجارة والصناعة ، ويساير الرقي الخلقي والروحي اتساع الفتوح واحتفال الحضارة ، فتقل الجنايات ، وتندر الجرائم بالنسبة إلى مساحة المملكة وعدد سكانها ورغم دواعيها وأسبابها ، وتحسن علاقة الفرد بالفرد ، والفرد بالجماعة ، وعلاقة الجماعة بالفرد .
وهو دور كمالي لم يحلم الإنسان بأرقى منه ، ولم يفترض المفترضون أزهى منه . . « .
هذه بعض ملامح تلك الحقبة السعيدة التي عاشتها البشرية في ظل الدستور الإسلامي الذي تضع » سورة العصر « قواعده ، وتحت تلك الراية الإيمانية التي تحملها جماعة الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر .
فأين منها هذا الضياع الذي تعانيه البشرية اليوم في كل مكان ، والخسار الذي تبوء به في معركة الخير والشر ، والعماء عن ذلك الخير الكبير الذي حملته الأمة العربية للبشر يوم حملت راية الإسلام فكانت لها القيادة . ثم وضعت هذه الراية فإذا هي في ذيل القافلة . وإذا القافلة كلها تعطو إلى الضياع والخسار . وإذا الرايات كلها بعد ذلك للشيطان ليس فيها راية واحدة لله .(1/989)
وإذا هي كلها للباطل ليس فيها راية واحدة للحق . وإذا هي كلها للعماء والضلال ليس فيها راية واحدة للهدى والنور ، وإذا هي كلها للخسار ليس فيها راية واحدة للفلاح! وراية الله ما تزال . وإنها لترتقب اليد التي ترفعها والأمة التي تسير تحتها إلى الخير والهدى والصلاح والفلاح .
ذلك شأن الربح والخسر في هذه الأرض . وهو على عظمته إذا قيس بشأن الآخرة صغير . وهناك . هناك الربح الحق والخسر الحق . هناك في الأمد الطويل ، وفي الحياة الباقية ، وفي عالم الحقيقة . . هناك الربح والخسر : ربح الجنة والرضوان ، أو خسر الجنة والرضوان . هناك حيث يبلغ الإنسان أقصى الكمال المقدر له ، أو يرتكس فتهدر آدميته ، وينتهي إلى أن يكون حجراً في القيمة ودون الحجر في الراحة :{ يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر : يا ليتني كنت تراباً } وهذه السورة حاسمة في تحديد الطريق . . إنه الخسر . . { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } . . طريق واحد لا يتعدد . طريق الإيمان والعمل الصالح وقيام الجماعة المسلمة ، التي تتواصى بالحق وتتواصى بالصبر . وتقوم متضامنة على حراسة الحق مزودة بزاد الصبر .
إنه طريق واحد . ومن ثم كان الرجلان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة » والعصر « ثم يسلم أحدهما على الآخر . . لقد كانا يتعاهدان على هذا الدستور الإلهي ، يتعاهدان على الإيمان والصلاح ، ويتعاهدان على التواصي بالحق والتواصي بالصبر . ويتعاهدان على أنهما حارسان لهذا الدستور . ويتعاهدان على أنهما من هذه الأمة القائمة على هذا الدستور . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1 - فضل سورة العصر لاشتمالها على طريق النجاة في ثلاث آيات حتى قال الإِمام الشافعي لو ما أنزل الله تعالى على خلقه حجة إلا هذه السورة لكفتهم .
2 - بيان مصير الكافر وهو الخسران المبين .
3 - المؤمنون الذين يعملون الصالحات ناجون من العذاب .
4- التواصي بالحق والتواصي بالصبر من الأمور الواجبة .
5- الإنسان وإن ربح الثورة الكبيرة والمال الوفير ، فهو في خسارة محققة ، إن لم يعمل للآخرة عملا طيبا صحيحا.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3964)(1/990)
6- أقسم اللَّه تعالى على هذا الحكم بأي عصر أو زمان ، لما فيه من التنبيه بتصرف الأحوال وتبدّلها ، وما فيها من الدلالة على الصانع ووحدانيته وكمال قدرته ومزيد حكمته التي تظهر أحيانا بعد مرور الزمان.
والعصر في الحلف بالأيمان مختلف في تقديره عند الفقهاء ، فقال مالك : من حلف ألا يكلم رجلا عصرا ، يحمل على السنة لأنه أكثر ما قيل فيه ، وذلك على أصله في تغليظ المعنى في الأيمان.
وقال الشافعي : يبرّ بساعة ، إلا أن تكون له نية ، أو يفسره بما يحتمله ، وذلك حملا على الأقل المتيقن المراد بالعصر. (1)
7- حكم اللَّه تعالى بالوعيد الشديد لأنه حكم بالخسارة على جميع الناس إلا من كان آتيا بأشياء أربعة أو متصفا بصفات أربع ، وهي : الإيمان ، والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر.
فدلّ ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور ، وعناصر الإيمان ستة :
أن تؤمن باللَّه ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره. والعمل الصالح : أداء الفرائض واجتناب المعاصي ، وفعل الخير.
والتواصي بالحق : أن يوصي بعضهم بعضا بالأمر الثابت ، ويحث بعضهم بعضا على توحيد اللَّه ، والعمل بالقرآن ، والدعوة إلى الدين والنصيحة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن يحب المرء لغيره ما يحب لنفسه. قال عمر رضي اللَّه عنه : رحم اللَّه من أهدى إلي عيوبي.
والتواصي بالصبر : أن يوصي الناس بعضهم بعضا على طاعة اللَّه عزّ وجلّ ، والصبر عن معاصيه ، والرضا بالقضاء والقدر في المصائب والمحن.
8- قال الإمام الرازي رحمه اللَّه : دلت الآية على أن الحق ثقيل ، وأن المحن تلازمه ، فلذلك قرن به التواصي (2) .
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 395)
(2) - تفسير الرازي : 32/ 90(1/991)
سورة الهمزة
مكيّة ، وهي تسع آيات
تسميتها :
سميت سورة الهمزة لبدئها بقول اللَّه تبارك وتعالى : وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ والهمزة : الذي يغتاب الناس ويطعن بهم بقول أو فعل أو إشارة ، واللمزة : الذي يعيب الناس بإشارة الحاجب والعين. قال ابن عباس :الهمزة : المغتاب ، واللمزة : العياب.
وقال ابن عاشور : " سميت هذه السورة في المصاحف ومعظم التفاسير سورة الهمزة بلام التعريف ، وعنونها في صحيح البخاري } وبعض التفاسير : ( سورة ويل لكل هُمزة ) . وذكر الفيروز آبادي في ( بصائر ذوي التمييز ) أنها تسمى ( سورة الحطمة ) لوقوع هذه الكلمة فيها.
وهي مكية بالاتفاق .
وعدت الثانية والثلاثين في عداد نزول السور نزلت بعد سورة القيامة وقبل سورة المرسلات .
وآيها تسع بالاتفاق .
روي أنها نزلت في جماعة من المشركين كانوا أقاموا أنفسهم لِلَمز المسلمين وسَبهم واختلاق الأحدوثات السيئة عنهم . وسُمي من هؤلاء المشركين : الوليدُ بن المغيرة المخزومي ، وأميةُ بن خلف ، وأبيّ بن خلف ، وجميل بن مَعْمر من بني جُمَح ( وهذا أسلَم يوم الفتح وشهد حُنيناً ) والعاص بنُ وائل من بني سهم . وكلهم من سادة قريش . وسُمي الأسودُ بن عبد يغوث ، والأخنسُ بن شَرِيق الثقفيان من سادة ثقيف أهل الطائف . وكل هؤلاء من أهل الثراء في الجاهلية والازدهاء بثرائهم وسؤددهم . وجاءت آية السورة عامة فعم حكمها المسمَّيْنَ ومن كان على شاكلتهم من المشركين ولم تذكر أسماؤهم . " (1)
مناسبتها لما قبلها :
فى سورة العصر أقسم الحقّ جلّ وعلا « بالعصر » على أن الإنسان فى خسر ، مستثنيا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق ، وتواصوا بالصبر.
وفى هذه السورة (سورة الهمزة) عرض للإنسان الخاسر ، ومن أبن كان خسرانه ، وإلى أين يكون مصيره. (2)
ما اشتملت عليه السورة :
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 535)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1670)(1/992)
* سورة الهمزة مكية ، وقد تحدثت عن الذين يعيبون الناس ، ويإليلون أعراضهم ، بالطعن والإنتقاص ، والازدراء ، وبالسخرية والإستهزاء فعل السفهاء [ ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالا وعدده ]
* كما ذمت الذين يشتغلون بجمع الأموال ، وتكديس الثروات ، كأنهم مخلدون في هذه الحياة ، يظنون لفرط جهلهم وكثرة غفلتهم أن المال سيخلدهم في الدنيا [ يحسب أن ماله أخلده ] .
* وختمت السورة بذكر عاقبة هؤلاء التعساء الأشقياء ، حيث يدخلون نارا لا تخمد أبدا ، تحطم المجرمين ومن يلقى فيها من البشر ، لأنها الحطمة نار سقر! ! [ كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة ؟ ] إلى نهاية السورة الكريمة. (1) .
وقال ابن عاشور : " فغرض هذه السورة وعيد جماعة من المشركين جعلوا هَمز المسلمين ولمزهم ضرباً من ضروب أذاهم طمعاً في أن يُلجئهم الملل من أصناف الأذى ، إلى الانصراف عن الإسلام والرجوع إلى الشرك" (2)
في السورة حملة على من اعتاد السخرية بالناس ولمزهم والتفاخر بماله ، ومع صلتها بالسيرة النبوية وبعض صور مواقف الأغنياء فيها فأسلوبها عام مطلق. (3)
مقصودها بيان الحزب الأكبر الخاسر الذي أهاه التكاثر ، فبانت خسارته يوم القارعة الخافضة الرافعة ، واسمها الهمزة ظاهر الدلالة على ذلك ) بسم الله ( الذي له تمام العز وهو الحكم العدل ) الرحمن ( الذي عم ظاهر نعمته أهل البخل وأولي البذل ) الرحيم ( الذي أتم نعمته على من شاء من عباده فخصهم بالفضل . (4)
سبب نزول قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ "
عن ابْنِ عُمَرَ ، وَقِيلَ لَهُ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : " مَا عُنِينَا بِهَا ، وَمَا عُنِينَا بِعُشْرِ الْقُرْآنِ " الزُّهْدُ لِوَكِيعٍ (5) وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، قَالَ:"مَازِلْنَا نَسْمَعُ أَنَّ " وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ " ، قَالَ: لَيْسَتْ بِحَاجِبَةٍ لِأَحَدٍ، نَزَلَتْ فِي جَمِيلِ بْنِ عَامِرٍ" (6)
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 522)
(2) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 535)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 205)
(4) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 525)
(5) - الزُّهْدُ لِوَكِيعٍ (442 ) فيه جهالة
(6) - تفسير ابن أبي حاتم - (12 / 450) و الدر المنثور - (10 / 347)(1/993)
وعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الرَّقَّةِ قَالَ : " نَزَلَتْ فِي جَمِيلِ بْنِ عَامِرٍ الْجُمَحِيِّ " (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (35211 ) فيه جهالة(1/994)
الطعّان العيّاب للناس وجزاؤه
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... الهُمَزَة ... الذي يعيب بالقول
1 ... اللُّمَزَة ... العياب بالفعل والغمز بالعين استهزاءً
2 ... جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ ... أحصاه وأعده لنوائب الدهر
3 ... يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ... أيظن أنه يخلد بهذا المال لا يموت
4 ... كَلا ... ليس الأمر كما يظن
4 ... لِيُنْبَذَنَّ ... ليطرحن
4 ... الحُطَمَة ... جهنم لأنها تحطم كل ما يلقى فيها
7 ... تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ ... تشرف على القلوب فتحرقها
8 ... مُؤْصَدَةٌ ... مغلقة
المعنى الإجمالي:
ويل شديد لا يدرك كنهه ، ولا تعرف حقيقته : لكل همزة لمزة ، لكل شخص يطعن في أعراض الناس ، ويغض من شأنهم ، ويحقر من أعمالهم ، يسيء إليهم متلذذا بعمله ، وإنما دعاه إلى ذلك إعجابه بنفسه ، وغروره بماله الذي جمعه وجعله عدته ، وعده مرات ، وظن أنه لا يموت ، ويروى أن الأخنس بن شريق ، أو الوليد بن المغيرة ، أو أمية بن خلف كان يفعل ذلك مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .
سيذكر اللّه ما أعده لهؤلاء وأمثالهم من العيابين المغرورين بمالهم فقال : كلا : ردع لهم وزجر عن ظنهم الفاسد وحسبانهم الكاذب واللّه لينبذن من يفعل ذلك في الحطمة ، تلك النار التي تحطم العظام وتأكل اللحوم وتهجم على القلوب.
وما أدراك ما الحطمة ؟ وهذا الاستفهام يراد به تفخيم أمرها ، وإكبار شأنها وبيان أنها مما لا تدركها العقول ، ولا تحيط بها الأوهام ، ولا يعرفها إلا خالقها فمن ذا الذي يعلمك بشأنها إلا خالقها ؟ ولذا عرفها فقال : هي نار اللّه التي ليست كنيران الخلق ، نار اللّه الموقدة ، التي تطلع على الأفئدة وتقهرها وتعلوها ، لأنها تدخل في الجوف ، أو هي تعرف أسرار القلوب ، وتميز(1/995)
بين الطائع والعاصي ، إنها مطبقة عليهم فلا يخرجون منها أبدا ، وأبوابها المغلقة شدت بأوتاد طويلة لا تفتح أبدا. (1)
التفسير والبيان :
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ أي خزي وعذاب شديد لكل من يغتاب الناس ويطعن بهم أو يعيبهم في حضورهم ، قال مقاتل : إن الهمزة : الذي يغتاب بالغيبة ، واللمزة : الذي يغتاب في الوجه. وقال ابن عباس : هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ طعان معياب.
ثم ذكر أوصافا أخرى له : الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ أي أن ذلك الهمزة اللمزة الذي يزدري الناس ويحتقرهم ويترفع عليهم بسبب إعجابه بما جمع من المال وأحصاه ، وظن أن له به الفضل على غيره ، كقوله تعالى : جَمَعَ فَأَوْعى [المعارج 70/ 18].
يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ أي يظن أن ماله يضمن له الخلود ويتركه حيّا مخلدا لا يموت لشدة إعجابه بما يجمعه من المال ، فلا يعود يفكر بما بعد الموت.
ثم ردّ اللَّه عليه أوهامه وزجره على مزاعمه ، فقال : كَلَّا ، لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ أي زجرا له وردعا ، فليس الأمر كما زعم ولا كما حسب ، بل ليلقين ويطرحن هذا الذي جمع ماله هو وماله في النار التي تحطم أو تهشم كل ما يلقى فيها.
ثم هوّل عليه شأن النار وعرفها له ، فقال : وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ ، نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ أي وما أعلمك ما هذه النار ، وأي شيء هي ؟ فكأنها لا تدركها العقول ، هي نار اللَّه الموقدة المستقرة بأمر اللَّه سبحانه ، التي لا تخمد أبدا.
وفائدة وصف جهنم بالحطمة مناسبتها لحال المتكبر المتجبر بماله ، المترفع على غيره ، فهي تكسر كسرا كل ما يلقى فيها ، لا تبقي ولا تذر.
وإضافة نارُ اللَّهِ للتفخيم ، أي هي نار ، لا كسائر النيران.
ثم وصف النار بأوصاف ثلاثة هي : الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ، إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ، فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ أي التي تعلو القلوب وتغشاها بحرها الشديد ، وتحرقهم وهم أحياء. والقلوب أشد أجزاء البدن تألما ، وخصت بالذكر لأنها محل العقائد الزائغة ، والنيات الخبيثة ، وسوء الأخلاق من الكبر واحتقار الناس ، والأعمال القبيحة.
وهي عليهم مطبقة ، مغلقة عليهم أبوابها جميعا ، فلا منافذ ، ولا يستطيعون الخروج منها ، كما قال تعالى : عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ [البلد 90/ 20] ، وقال سبحانه : كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ ، أُعِيدُوا فِيها .. [الحج 22/ 22].
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 902)(1/996)
و هي أيضا كائنة في أعمدة ممددة طويلة موثّقة. قال مقاتل : أطبقت الأبواب عليهم ، ثم شدّت بأوتاد من حديد ، فلا يفتح عليهم باب ، ولا يدخل عليهم روح.
والآية تفيد المبالغة في العذاب بقوله : لَيُنْبَذَنَّ أي أنه موضع له قعر عميق جدا كالبئر ، وأن أبوابها لا تفتح ليزيد في حسرتهم ، وتغلق إغلاقا محكما للتيئيس من الخروج منها ، وممددة في أعمدة دائمة اللهب ، فلا أمل في إطفائها أو تخفيف شدة حرارتها.
ومضات :
قال الإمام : أي : أن الذي يحمله على الحط من أقدار الناس ، هو جمعه المال وتعديده . أي : عده مرة بعد أخرى ، شغفاً به وتلذذاً بإحصائه ؛ لأنه لا يرى عزاً ولا شرفاً ولا مجداً في سواه ، فكلما نظر إلى كثرة ما عنده منه ، انتفخ وظن أنه من رفعة المكانة ، بحيث يكون كل ذي فضل ومزيه دونه ، فهو يهزأ به ويهمزه ويلمزه ، ثم لا يخشى أن تصيبه عقوبة على الهمز واللمز وتمزيق العرض ؛ لأن غروره بالمال أنساه الموت وصرف عنه ذكر المآل فهو { يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ } أي : يظن أن ماله الذي جمعه وأحصاه وبخل بإنفاقه ، مخلدهُ في الدنيا ، فمزيل عنه الموت .
قال القاشاني في بيان آفات رذيلتي الهمز واللمز اللتين نزلت في وعيدهما السورة ، ما مثاله : الهمز أي : الكسر من أعراض الناس واللمز ، أي : الطعن فيهم ، رذيلتان مركبتان من الجهل والغضب والكبر ؛ لأنهما يتضمنان الإيذاء وطلب الترفع على الناس ، وصاحبهما يريد أن يتفضل على الناس ، ولا يجد في نفسه فضيلة يترفع بها . فينسب العيب والرذيلة إليهم ليظهر فضله عليهم ، ولا يشعر أن ذلك عين الرذيلة ، فهو مخدوع من نفسه وشيطانه موصوف برذيلتي القوة النطقية والغضبية .
ثم قال : وفي قوله :{ وَعَدَّدَهُ } إشارة أيضاً إلى الجهل ؛ لأن الذي جعل المال عدة للنوائب لا يعلم أن نفس ذلك المال يجر إليه النوائب ؛ لاقتضاء حكمة الله تفريقه في النائبات ، فكيف يدفعها ؟ وكذا في قوله :{ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ } أي : لا يشعر أن المقتضيات المخلدة لصاحبها هي العلوم والفضائل النفسانية الباقية ، لا العروض والذخائر الجسمانية الفانية ولكنهُ مخدوع بطول الأمل ، مغرور بشيطان الوهم عن بغتة الأجل . والحاصل أن الجهل الذي هو رذيلة القوة الملكية ، أصل جميع الرذائل ، ومستلزم لها . فلا جرم أنه يستحق صاحبه المغمور فيها العذاب الأبديّ المستولي على القلب المبطل لجوهره . (1)
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 311)(1/997)
في الآيات حملة شديدة قارعة على من يجعل ديدنه السخرية بالناس وإلصاق المعايب فيهم ، وبخاصة على صاحب المال الكثير من هؤلاء الذي غرّه ماله وجعله يحسب أنه واقيه من النكبات ومخلده في النعيم والقوة ، وتكذيب له وتوكيد بأن مصيره جهنّم الشديدة الحرارة التي تحرق كل شيء وتصل إلى القلوب والتي ستوصد أبوابها عليه ويحكم سدّها بالأعمدة ويكون له فيها العذاب الدائم.
وقد روي أن الآيات نزلت في حقّ شخص اختلف في اسمه بين الأخنس بن شريق وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة كان غنيا وجيها مغرورا ديدنه السخرية بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واتهامه بالمعايب. والرواية متسقة مع الآيات كما هو واضح ، والآيات بذلك تحتوي صورة من صور مواقف الكفار وبخاصة أغنياءهم وزعماءهم من النبي عليه السلام ودعوته ، وصرخة داوية رادعة في وجوههم بالتقريع والإنذار.
ومع هذا فأسلوب الآيات التعميمي المطلق يتضمن تلقينا مستمر المدى ضدّ هذا النوع من الناس والتنديد به والتنبيه إلى ما في أخلاقه من سوء ووجوب اجتنابها. (1)
قوله تعالى : « وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ».« الهمزة » هو الذي يهمز الناس ، أي يؤذبهم بقوارص الكلم جهرة ، فيخدش حياءهم ، ويمتهن كرامتهم ، ليزداد هو علوّا وتطاولا على الناس ، ولتخفّ موازينهم إزاء ميزانه ، فلا يرتفع أمامه رأس ، ولا يشمخ أنف.
و« اللمزة » هو الذي ينقص من أقدار ذوى الأقدار ، فى غير مواجهتهم ، إذ كان لا يستطيع أن يلقاهم وجها لوجه. فيشيع الفاحشة فيهم ، ويذيع قالة السوء عنهم.
فالهمز واللّمز غايتهما واحدة ، وهى الحطّ من أقدار الناس ، ومحاولة إنزالهم منازل الدّون فى الحياة .. وإن كان الهمز بأسلوب العلانية ، واللمز بأسلوب السرّ والخفاء .. ومن كان من شأنه الهمز كان من شأنه اللمز كذلك ، والعكس صحيح .. إذ هما ينبعان من طبيعة واحدة.
وقوله تعالى : « الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ » هو من أوصاف هذا الهمزة اللّمزة ، الذي توعّده اللّه سبحانه وتعالى بالويل والعذاب ..
فأكثر الناس همزا ولمزا للناس ، هو الذي يحرص على جمع المال ، ويجعل هذا الجمع كلّ همّه فى الدنيا ..
وإنه لكى ينفسح له طريق الجمع ، ويخلو له ميدان الكسب ، يحارب الناس بكل سلاح ، فلا يدع فى الميدان الذي يعمل فيه إنسانا إلا طعنه الطعنات القاتلة متى أمكنته الفرصة فيه .. بالهمز حينا ، وباللمز أحيانا.
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 206)(1/998)
ثم إنه من جهة أخرى ـ إذ يجمع ما يجمع من مال ـ حريص على أن يدفع عن هذا المال كل عادية يراها بأوهامه وظنونه ، فهو لشدة حرصه على ما جمع ، يحسب أن كل الناس لصوص يريدون أن يسرقوه ، أو قطاع طرق يتربصون به .. وهو لهذا يرمى الناس بكل سلاح ، ويطعنهم بكل ما يقع ليده .. وكأنهم متلبسون بسرقة ماله الذي جمع!! ثم هو من جهة ثالثة ، حريص على أن يقيم له من هذا المال الذي جمعه ، سلطانا على الناس ، لا بما ينفق عليهم منه فى وجوه الخير ، ولا بما يمدّ به يده إليهم من معروف ، بل بما يرى الناس من غناه وكثرة أمواله .. وهو لهذا يعمل على إعلاء نفسه بهدم غيره ، والحطّ من منزلته .. وهذا هو الإنسان فى أسوأ أحواله ، وأخسّ منازله .. إنه لا يسمو بذاتيته ، ولا يرتفع بسعيه فى وجوه الخير والفلاح ، بل إنه يرتفع على حطام الناس ، ويعلو على جثث ضحاياه ، الذين يريق دمهم بهمزه ولمزه.
وهذا هو السرّ ـ واللّه أعلم ـ فى الجمع هنا بين الهمزة ، اللّمزة ، وجامع المال ومكتنزه.
فالهمز واللمز ، وإن كان طبيعة غالبة فى الناس من أغنياء وفقراء ، إلّا أنه عند الذين همّهم كلّه هو المال ، يعدّ سلاحا من الأسلحة العاملة لهم فى جمع المال ، وفى حراسته ، وفى التمكين لهم من التسلط على الناس به.
وعدّد المال : جمع بعضه إلى بعض فى صفوف مترصّة ، وفى صنوف متعددة ، كل صنف منها يأخذ مكانا خاصّا به ، فهذا ذهب ، وذاك فضة ، وذا جواهر ولآلىء ، وتلك أنعام وزروع ، ورياض ، وهذه دور وقصور ، وأثاث ورياش ، إلى غير ذلك مما يعدّ من عالم المال ، ويحسب بحسابه.
وقوله تعالى : «يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ » جملة حالية تكشف عن ظنون هذا الإنسان وأوهامه ، وهو أنه على ظنّ من أن هذا المال الذي جمعه ، سيخلّده ، ويمدّ له فى الحياة ، وأنه بقدر ما يستكثر من المال بقدر ما يكون له من بقاء فى هذه الدنيا .. هكذا شأن الحريصين على المال ، الذين اتجه همهم كلّه إلى جمعه .. إنهم لا يذكرون الموت أبدا ، ولا يغشون مكانا يذكّرهم به ، ولا يستمعون إلى حديث يذكر فيه .. إن الموت عندهم هو عدوّ قد قتلوه بأمانيّهم الباطلة ، وأراحوا أنفسهم منه ، فما لهم والحديث عنه ؟ وما لهم وما يذكّرهم به ؟
وقوله تعالى : « كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ».أي كلّا ، إنه فى وهم خادع ، وفى ضلال مبين ، إذ يحسب أن المال يخلّد صاحبه ويمدّ له فى العمر .. وكلا إنه سيموت ، وسيبعث ، وسينبذ أي يرمى فى الحطمة ، أي جهنّم ، التي تحطمه حطما ، وتدقّه دقّا ، وتهشمه هشما ..
ونبذ الشيء : طرحه فى غير مبالاة ، هوانا له واستخفافا به .. كما تنبذ النواة من النمرة بعد أن تؤكل.(1/999)
وقوله تعالى : « وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ ؟ نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ».استفهام عن الحطمة ، يلفت النظر إليها ، ويدير العقل للبحث عن حقيقتها ..
وجواب يجيب عن هذا السؤال ، ليكشف عن حقيقة هذه الحطمة ، ليلتقى مع ما وقع فى النفس من تصورات لها ، فتزداد حقيقتها وضوحا وبيانا.
إنها نار اللّه الموقدة .. قد أوقدها اللّه فكانت نار للّه ، وليست من تلك النار التي يوقدها الناس!.
وقوله تعالى : « الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ».أي أنهانار ذات شأن عجيب ، ليس فى نار الدنيا شىء من صفاتها وآثارها .. إنها تطلع على الأفئدة ، أي أنها لا تتسلط على الأجسام وحسب ، بل إنها تتسلط كذلك على المشاعر والوجدانات ، فتشتعل بها المشاعر ، ونحترق بها الوجدانات .. وقد يكون فى هذا ما يشير ـ واللّه أعلم ـ إلى أن عذاب أهل النار نفسىّ ، أكثر منه مادىّ.
وقد قيل إن معنى الاطلاع على الأفئدة ، هو أن هذه النار العجيبة تعرف أهلها ، وكأنّها اطلعت على سرائرهم ، وما عملوا من منكرات ، فتدعوهم إليها ، وتمسك بهم ، وتشتمل عليهم ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : « تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى » (17 ـ 18 المعارج) وقوله سبحانه : « إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً » (12 : الفرقان).
قوله تعالى : « إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ. فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ».أي أن هذه النار مؤصدة ، أي مغلقة على أهلها ، مطبقة عليهم ، لا يجدون لهم فيها منفذا إلى العالم الخارجي .. أما هم ، فهم مشدودون إلى عمد ممددة ، قد شدت أغلالهم إليها .. فهم بهذه القيود فى سجن ، داخل هذا السجن!
وقد قلنا فى غير موضع إن هذه الأوصاف التي توصف بها أدوات العذاب ، فى النار ، وتلك الأوصاف التي توصف بها ألوان النعيم فى الجنة ، هى مما فتمثله فى الدنيا ، ونرى مشابه منه كما نطق به القرآن الكريم ، أما كنه هذه الأشياء وحقيقتها ، فلا يعلمها إلا اللّه ، سبحانه ، وعلينا أن نصدق بها كما وردت ، دون أن نبحث عن صفاتها ، وحدودها (1)
تعكس هذه السورة من الصور الواقعية في حياة الدعوة في عهدها الأول . وهي في الوقت ذاته نموذج يتكرر في كل بيئة . . صورة اللئيم الصغير النفس ، الذي يؤتى المال فتسيطر نفسه به ، حتى ما يطيق نفسه! ويروح يشعر أن المال هو القيمة العليا في الحياة . القيمة التي تهون أمامها جميع القيم وجميع الأقدار : أقدار الناس . وأقدار المعاني . وأقدار الحقائق . وأنه وقد ملك المال فقد ملك كرامات الناس وأقدارهم بلا حساب!
كما يروح يحسب أن هذا المال إله قادر على كل شيء؛ لا يعجز عن فعل شيء! حتى دفع الموت وتخليد الحياة . ودفع قضاء الله وحسابه وجزائه إن كان هناك في نظره حساب وجزاء!
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1671)(1/1000)
ومن ثم ينطلق في هوس بهذا المال يعده ويستلذ تعداده؛ وتنطلق في كيانه نفخة فاجرة ، تدفعه إلى الاستهانة بأقدار الناس وكراماتهم . ولمزهم وهمزهم . . يعيبهم بلسانه ويسخر منهم بحركاته . سواء بحكاية حركاتهم وأصواتهم ، أو بتحقير صفاتهم وسماتهم . . بالقول والإشارة . بالغمز واللمز . باللفتة الساخرة والحركة الهازئة!
وهي صورة لئيمة حقيرة من صور النفوس البشرية حين تخلو من المروءة وتعرى من الإيمان . والإسلام يكره هذه الصورة الهابطة من صور النفوس بحكم ترفعه الأخلاقي . وقد نهى عن السخرية واللمز والعيب في مواضع شتى . إلا أن ذكرها هنا بهذا التشنيع والتقبيح مع الوعيد والتهديد ، يوحي بأنه كان يواجه حالة واقعية من بعض المشركين تجاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتجاه المؤمنين . . فجاء الرد عليها في صورة الردع الشديد ، والتهديد الرعيب . وقد وردت روايات بتعيين بعض الشخصيات . ولكنها ليست وثيقة . فنكتفي نحن بما قررناه عنها . .
والتهديد يجيء في صورة مشهد من مشاهد القيامة يمثل صورة للعذاب مادية ونفسية ، وصورة للنار حسية ومعنوية . وقد لوحظ فيها التقابل بين الجرم وطريقة الجزاء وجو العقاب . فصورة الهمزة اللمزة ، الذي يدأب على الهزء بالناس وعلى لمزهم في أنفسهم وأعراضهم ، وهو يجمع المال فيظنه كفيلاً بالخلود! صورة هذا المتعالي الساخر المستقوي بالمال ، تقابلها صورة « المنبوذ » المهمل المتردي في { الحطمة } التي تحطم كل ما يلقى إليها ، فتحطم كيانه وكبرياءه . وهي { نار الله الموقدة } وإضافتها لله وتخصيصها هكذا يوحي بأنها نار فذة ، غير معهودة ، ويخلع عليها رهبة مفزعة رعيبة . وهي { تطلع } على فؤاده الذي ينبعث منه الهمز واللمز ، وتكمن فيه السخرية والكبرياء والغرور . . وتكملة لصورة المحطم المنبوذ المهمل . . هذه النار مغلقة عليه ، لا ينقذه منها أحد ، ولا يسأل عنه فيها أحد! وهو موثق فيها إلى عمود كما توثق البهائم بلا احترام! وفي جرس الألفاظ تشديد : { عدّده . كلا . لينبذن . تطلع . ممدّدة } وفي معاني العبارات توكيد بشتى أساليب التوكيد : { لينبذن في الحطمة .
وما أدراك ما الحطمة؟ نار الله الموقدة . . } فهذا الإجمال والإبهام . ثم سؤال الاستهوال . ثم الاجابة والبيان . . كلها من أساليب التوكيد والتضخيم . وفي التعبير تهديد { ويل . لينبذن . الحطمة . . نار الله الموقدة . التي تطلع على الأفئدة .إنها عليهم مؤصدة . في عمد ممددة } . .
وفي ذلك كله لون من التناسق التصويري والشعوري يتفق مع فعلة { الهمزة اللمزة } !
لقد كان القرآن يتابع أحداث الدعوة ويقودها في الوقت ذاته . وكان هو السلاح البتار الصاعق الذي يدمر كيد الكائدين ، ويزلزل قلوب الأعداء ، ويثبت أرواح المؤمنين .
وإنا لنرى في عناية الله سبحانه بالرد على هذه الصورة معنيين كبيرين :
الأول : تقبيح الهبوط الأخلاقي وتبشيع هذه الصورة الهابطة من النفوس .(1/1001)
والثاني : المنافحة عن المؤمنين وحفظ نفوسهم من أن تتسرب إليها مهانة الإهانة ، وإشعارهم بأن الله يرى ما يقع لهم ، ويكرهه ، ويعاقب عليه . . وفي هذا كفاية لرفع أرواحهم واستعلائها على الكيد اللئيم . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
2- التحذير من غيبة الأشخاص ومن انتقاصهم بالحركة أو باللسان .
3- التنديد بالمغترين بالأموال المعجبين بها .
4- بيان شدة عذاب النار وفظاعته الذي تنخلع له القلوب .
5- الخزي والعذاب والهلكة لكلّ مغتاب عيّاب طعّان للناس (2) . فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّهُ قَالَ: " خِيَارَكُمُ الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللهُ بِهِمْ، وَإِنَّ شِرَارَكُمُ الْمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ ". (3)
وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ ؟ " فَقَالُوا : بَلَى ، فَقَالَ : " الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللَّهُ ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ ؟ " ، فَقَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : " الْمَاشُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ ، الْبَاغُونَ الْبُرَآءَ الْعَنَتَ " (4)
6- كأن سبب الهمز واللمز والترفع على الناس وازدرائهم هو المال وطول الأمل ، لأن الغنى يورث الإعجاب والكبر ، وعدّ المال من غير ضرورة دليل على المتعة النفسية والزخرفة الدنية ، والانشغال عن السعادة الباقية ، ولأن المال يطول الأمل ، ويمنّي بالأماني البعيدة ، حتى أصبح لفرط غفلة صاحب المال يحسب أن ماله يتركه خالدا في الدنيا.
7- ردع اللَّه تعالى عن كل هذه المزاعم والتحسبات ، فالمال لا يرفع القدر ، ولا يقتضي الطعن بالآخرين ، وليس المال كما يظن مخلّدا في الدنيا ، بل المخلّد هو العلم والعمل ، كما قال علي رضي اللَّه عنه : مات خزّان المال ، وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر.
8- حدد اللَّه تعالى عقاب الهمزة اللمزة جامع المال حبّا فيه لذاته ، وهو الطرح أو الإلقاء في نار جهنم التي تحطم كل ما يلقى فيها ، وهي نار اللَّه الموقدة غير الخامدة ، التي أعدها اللَّه
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3972)
(2) - وانظر : فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (4 / 8809) رقم الفتوى 28503 نقل الكلام إلى المسؤول بين مصلحة العمل وعدمها تاريخ الفتوى : 02 محرم 1425
(3) - شعب الإيمان - (9 / 77) (6282 ) حسن
(4) - مسْنَدُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ (2072) حسن(1/1002)
للعصاة ، والتي تأكل جميع ما في الأجساد ، حتى تبلغ الفؤاد ، ثم يخلقون خلقا جديدا ، فترجع تأكلهم.
وهي مغلقة الأبواب ، مطبقة عليهم ، حال كونهم موثقين بأعمدة ، وهي في أعمدة طوال تلتف بهم من كل جانب.
وعَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ ، بِسَنَدِهِ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " إِنَّ النَّارَ تَأْكُلُ أَهْلَهَا ، حَتَّى إِذَا اطَّلَعَتْ عَلَى أَفْئِدَتِهِمُ انْتَهَتْ ، ثُمَّ يَعُودُ كَمَا كَانَ ، ثُمَّ يَسْتَقْبِلُهُ أَيْضًا فَيَطَّلِعُ عَلَى فُؤَادِهِمْ ، فَهُوَ كَذَلِكَ أَبَدًا " فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ : نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - صِفَةُ النَّارِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا ( 140 ) و الزُّهْدُ وَالرَّقَائِقُ لِابْنِ الْمُبَارَكِ( 1918) فيه ضعف(1/1003)
سورة الفيل
مكيّة ، وهي خمس آيات
تسميتها :
سميت سورة الفيل لافتتاحها بالتذكير بقصة أصحاب الفيل : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ ؟ أي ألم تعلم علم اليقين ما ذا صنع ربّك العظيم القدير بأبرهة الحبشي قائد اليمن وأتباعه الذين أرادوا هدم البيت الحرام ؟!
وردت تسميتها في كلام بعض السلف سورة {أَلَمْ تَرَ} . روى القرطبي في تفسير "سورة قريش" عن عمرو بن ميمون قال: صليت المغرب خلف عمر ابن الخطاب فقرأ في الركعة الثانية {أَلَمْ تَرَ} و {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1]. وكذلك عنونها البخاري. وسميت في جميع المصاحف وكتب التفسير "سورة الفيل". وهي مكية بالاتفاق.
وقد عدت التاسعة عشرة في ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وقبل "سورة الفلق". وقيل قبل "سورة قريش" لقول الأخفش إن قوله تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] متعلق بقوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5]، ولأن أبي بن كعب جعلها وسورة قريش سورة واحدة في مصحفه ولم يفصل بينهما بالبسملة ولخبر عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب المذكور آنفا روى أن عمر بن الخطاب قرأ مرة في المغرب في الركعة الثانية سورة الفيل وسورة قريش، أي ولم يكن الصحابة يقرأون في الركعة من صلاة الفرض سورتين لأن السنة قراءة الفاتحة وسورة فدل أنهما عنده سورة واحدة. ويجوز أن تكون سورة قريش نزلت بعد سورة الفلق وألحقت بسورة الفيل فلا يتم الاحتجاج بما في مصحف أبي بن كعب ولا بما رواه عمرو بن ميمون.وآيها خمس.
أغراضها
وقد تضمنت التذكير بأن الكعبة حرم الله وأن الله حماه ممن أرادوا به سوءا أو أظهر غضبه عليهم فعذبهم لأنهم ظلموا بطمعهم في هدم مسجد إبراهيم وهو عندهم في كتابهم،وذلك ما سماه الله كيدا، وليكون ما حل بهم تذكرة لقريش بأن فاعل ذلك هو رب ذلك البيت وأن لا حظ فيه للأصنام التي نصبوها حوله.
وتنبيه قريش أو تذكيرهم بما ظهر من كرامة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الله إذ أهلك أصحاب الفيل في عام ولادته.(1/1004)
ومن وراء ذلك تثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الله يدفع عنه كيد المشركين فإن الذي دفع كيد من يكيد لبيته لأحق بأن يدفع كيد من يكيد لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ودينه ويشعر بهذا. (1)
مناسبتها لما قبلها :
ذكر اللَّه تعالى في السورة السابقة الهمزة حال الهمزة اللمزة الذي جمع مالا ، وتعزز بماله ، وأفاد تعالى أن المال لا يغني من اللَّه شيئا ، ثم ذكر في هذه السورة الدليل على ذلك ، بإيراد قصة أصحاب الفيل الذين كانوا أشدّ منهم قوة ، وأكثر مالا ، وأعظم عتوا ، وقد أهلكهم اللَّه بأصغر الطير وأضعفه ، ولم يغن عنهم مالهم ولا عددهم ولا قوتهم شيئا.
وقال الخطيب : " فى سورة « الهمزة » عرض لمن جمع المال ، واتخذ منه سلاحا يغمز به الناس ، ويهمزهم ، ويمزق أديمهم ، ويزبل وجودهم الإنسانى بين الناس ..
وسورة « الفيل » تعرض لجماعة من تلك الجماعات ، التي اجتمع ليدها قوة من تلك القوى المخيفة ، هى الفيل ، الذي يشبه قوة المال فى طغيانه ، حين يجتمع ليد إنسان جهول غشوم ، طاغية ، فيتسلط على الناس ، كما يتسلط صاحب الفيل على صاحب الحمار ، أو الحصان ، مثلا .. فكان عاقبة صاحب هذا الفيل الهلاك والدمار ، كما كان عاقبة صاحب هذا المال ، الذلّ والخزي ، والخسران .. " (2)
1 - سورة « الفيل » وسماها بعضهم سورة « ألم تر ... » من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها خمس آيات ، وكان نزولها بعد سورة « قل يا أيها الكافرون » ، وقبل سورة « القيامة » فهي السورة التاسعة عشرة في ترتيب النزول من بين السور المكية.
2 - ومن أهم مقاصدها تذكير أهل مكة بفضل اللّه - تعالى - عليهم ، حيث منع كيد أعدائهم عنهم ، وعن بيته الحرام ، وبيان أن هذا البيت له مكانته السامية عنده - تعالى - ، وأن من أراده بسوء قصمه اللّه - تعالى - ، وتبشير النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه - سبحانه - كفيل برعايته ونصره على أعدائه ، كما نصر أهل مكة على أبرهة وجيشه ، وتثبيت المؤمنين على الحق ، لكي يزدادوا إيمانا على إيمانهم ، وبيان أن اللّه - سبحانه - غالب على أمره.
3 - وقصة أصحاب الفيل من القصص المشهورة عند العرب ، وملخصها : أن أبرهة الأشرم الحبشي أمير اليمن من قبل النجاشيّ ملك الحبشة ، بنى كنيسة بصنعاء لم ير مثلها في زمانها ... وأراد أن يصرف الناس من الحج إلى بيت اللّه الحرام ، إلى الحج إليها ... ثم جمع جيشا عظيما قدم به لهدم الكعبة ... فأهلكه اللّه - تعالى - وأهلك من معه من رجال وأفيال ...
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 543)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1675)(1/1005)
وكانت ولادته - صلى الله عليه وسلم - في هذا العام .... (1)
ما اشتملت عليه السورة :
* سورة الفيل مكية ، وهي تتحدث عن قصة " اصحاب الفيل " حين قصدوا هدم الكعبة المشرفة ، فرد الله كيدهم في نحورهم ، وحمى بيته من تسلطهم وطغيانهم ، وأرسل على جيش " أبرهة الأشرم " وجنوده أضعف مخلوقاته ، وهي الطير التي تحمل في أرجلها ومناقيرها حجارة صغيرة ، ولكنها أشد فتكا وتدميرا من الرصاصات القاتلة ، حتى أهلكهم الله وأبادهم عن آخرهم ، وكأن ذلك الحدث التاريخى الهام ، في عام ميلاد سيد الكائنات (محمد بن عبد الله ) صلوات الهن وسلامه عليه ، سنة سبعين وخمسمائة ميلادية ، وكان من أعظم الإرهاصات الدالة على صدق نبوته ( - صلى الله عليه وسلم - ). (2)
في السورة تذكير بما كان من نكال اللّه في أصحاب الفيل في معرض الإنذار. (3)
أضواء من التاريخ على قصة أصحاب الفيل :
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : " إنَّ أَبْرَهَةَ بَنَى كَنِيسَةً بِصَنْعَاءَ ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا ، فَسَمَّاهَا الْقُلَّيْسَ ؛ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا فِي زَمَانِهَا بِشَيْءٍ مِنَ الْأَرْضِ ؛ وَكَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ : إِنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ كَنِيسَةً ، لَمْ يُبْنَ مِثْلُهَا لِمَلِكٍ كَانَ قَبْلَكَ ، وَلَسْتُ بِمُنْتَهٍ حَتَّى أَصْرِفَ إِلَيْهَا حَاجَّ الْعَرَبِ . فَلَمَّا تَحَدَّثَتِ الْعَرَبُ بِكِتَابِ أَبْرَهَةَ ذَلِكَ لِلنَّجَاشِيٍّ ، غَضِبَ رَجُلٌ مِنَ النَّسَأَةِ أَحَدُ بَنِي فُقَيْمٍ ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي مَلِكٍ ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْقُلَّيْسَ ، فَقَعَدَ فِيهَا ، ثُمَّ خَرَجَ فَلَحِقَ بِأَرْضِهِ ، فَأُخْبِرَ أَبْرَهَةُ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : مَنْ صَنَعَ هَذَا ؟ فَقِيلَ : صَنَعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ ، الَّذِي تَحُجُّ الْعَرَبُ إِلَيْهِ بِمَكَّةَ ، لَمَّا سَمِعَ مِنَ قَوْلِكَ : أَصْرِفُ إِلَيْهِ حَاجَّ الْعَرَبِ ، فَغَضِبَ ، فَجَاءَ فَقَعَدَ فِيهَا ، أَيْ أَنَّهَا لَيْسَتْ لِذَلِكَ بِأَهْلٍ ؛ فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ أَبْرَهَةُ ، وَحَلَفَ لَيَسِيرَنَّ إِلَى الْبَيْتِ فَيَهْدِمَهُ ، وَعِنْدَ أَبْرَهَةَ رِجَالٌ مِنَ الْعَرَبِ قَدْ قَدِمُوا عَلَيْهِ يَلْتَمِسُونَ فَضْلَهُ ، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ خُزَاعِيِّ بْنِ حُزَابَةَ الذَّكْوَانِيُّ ، ثُمَّ السُّلَمِيُّ ، فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ ، مَعَهُ أَخٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ قَيْسُ بْنُ خُزَاعِيِّ ؛ فَبَيْنَمَا هُمْ عِنْدَهُ ، غَشِيَهُمْ عَبْدٌ لِأَبْرَهَةَ ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ فِيهِ بِغِذَائِهِ ، وَكَانَ يَأْكُلُ الْخُصَى ؛ فَلَمَّا أَتَى الْقَوْمَ بِغِذَائِهِ ، قَالُوا : وَاللَّهِ لَئِنْ أَكَلْنَا هَذَا لَا تَزَالُ تَسُبُّنَا بِهِ الْعَرَبُ مَا بَقِينَا ، فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ خُزَاعِيٍّ ، فَجَاءَ أَبْرَهَةَ فَقَالَ : أَيُّهَا الْمَلِكُ ، إِنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ لَنَا ، لَا نَأْكُلُ فِيهِ إِلَّا الْجُنُوبَ وَالْأَيْدِي ، فَقَالَ لَهُ أَبْرَهَةُ : فَسَنَبْعَثُ إِلَيْكُمْ مَا أَحْبَبْتُمْ ، فَإِنَّمَا أَكْرَمْتُكُمْ بِغِذَائِي ، لِمَنْزِلَتِكُمْ عِنْدِي . ثُمَّ إِنَّ أَبْرَهَةَ تَوَّجَ مُحَمَّدَ بْنَ خُزَاعِيٍّ ، وَأَمَّرَهُ عَلَى مُضَرَ ، أَنْ يَسِيرَ فِي النَّاسِ ، يَدْعُوهُمْ إِلَى حَجِّ الْقُلَّيْسِ ، كَنَيسَتِهِ الَّتِي بَنَاهَا ، فَسَارَ مُحَمَّدُ بْنُ خُزَاعِيٍّ ،
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم لطنطاوي - (15 / 509)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 524)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 41)(1/1006)
حَتَّى إِذَا نَزَلَ بِبَعْضِ أَرْضِ بَنِي كِنَانَةَ ، وَقَدْ بَلَغَ أَهْلَ تِهَامَةَ أَمْرُهُ ، وَمَا جَاءَ لَهُ ، بَعَثُوا إِلَيْهِ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُ عُرْوَةُ بْنُ حِيَاضٍ الْمِلَاصِيُّ ، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ ؛ وَكَانَ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ خُزَاعِيٍّ أَخُوهُ قَيْسُ بْنُ خُزَاعِيٍّ ، فَهَرَبَ حِينَ قُتِلَ أَخُوهُ ، فَلَحِقَ بِأَبْرَهَةَ فَأَخْبَرَهُ بِقَتْلِهِ ، فَزَادَ ذَلِكَ أَبْرَهَةَ غَضَبًا وَحِنْقًا ، وَحَلَفَ لَيَغْزُوَنَّ بَنِي كِنَانَةَ ، وَلَيَهْدِمَنَّ الْبَيْتَ . ثُمَّ إِنَّ أَبْرَهَةَ حِينَ أَجْمَعَ السَّيْرَ إِلَى الْبَيْتِ ، أَمَرَ الْحُبْشَانَ فَتَهَيَّأَتْ وَتَجَهَّزَتْ ، وَخَرَجَ مَعَهُ بِالْفِيلِ ، وَسَمِعَتِ الْعَرَبُ بِذَلِكَ ، فَأَعْظَمُوهُ ، وَفَظِعُوا بِهِ ، وَرَأَوْا جِهَادَهُ حَقًّا عَلَيْهِمْ ، حِينَ سَمِعُوا أَنَّهُ يُرِيدُ هَدْمَ الْكَعْبَةِ ، بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ، فَخَرَجَ رَجُلٌ كَانَ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَمُلُوكِهِمْ ، يُقَالُ لَهُ ذُو نَفْرٍ ، فَدَعَا قَوْمَهُ وَمَنْ أَجَابَهُ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ ، إِلَى حَرْبِ أَبْرَهَةَ ، وَجِهَادِهِ عَنْ بَيْتِ اللَّهِ ، وَمَا يُرِيدُ مِنْ هَدْمِهِ وَإِخْرَابِهِ ، فَأَجَابَهُ مَنْ أَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ ، وَعَرَضَ لَهُ ، وَقَاتَلَهُ ، فَهُزِمَ وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ ، وَأُخِذَ لَهُ ذُو نَفْرٍ أَسِيرًا ؛ فَلَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُ ، قَالَ ذُو نَفْرٍ : أَيُّهَا الْمَلِكُ لَا تَقْتُلْنِي ، فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَائِي مَعَكَ خَيْرًا لَكَ مِنْ قَتْلِي ؛ فَتَرَكَهُ مِنَ الْقَتْلِ ، وَحَبَسَهُ عِنْدَهُ فِي وَثَاقٍ . وَكَانَ أَبْرَهَةُ رَجُلًا حَلِيمًا . ثُمَّ مَضَى أَبْرَهَةُ عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ يُرِيدُ مَا خَرَجَ لَهُ ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِأَرْضِ خَثْعَمَ ، عَرَضَ لَهُ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيُّ فِي قَبِيلَيْ خَثْعَمَ : شَهْرَانِ ، وَنَاهِسٍ ، وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ ، فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ أَبْرَهَةُ ، وَأُخِذَ لَهُ أَسِيرًا ، فَأُتِيَ بِهِ ؛ فَلَمَّا هَمَّ بِقَتْلِهِ ، قَالَ لَهُ نُفَيْلٌ : أَيُّهَا الْمَلِكُ لَا تَقْتُلْنِي ، فَإِنِّي دَلِيلُكَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ ، وَهَاتَانِ يَدَايَ لَكَ عَلَى قَبِيلَيْ خَثْعَمَ شَهْرَانَ ، وَنَاهِسٍ ، بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ؛ فَأَعْفَاهُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ ، وَخَرَجَ بِهِ مَعَهُ ، يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ ؛ حَتَّى إِذَا مَرَّ بِالطَّائِفِ ، خَرَجَ إِلَيْهِ مَسْعُودُ بْنُ مُعَتِّبٍ فِي رِجَالِ ثَقِيفٍ ، فَقَالَ : أَيُّهَا الْمَلِكُ ، إِنَّمَا نَحْنُ عُبَيْدُكَ ، سَامِعُونَ لَكَ مُطِيعُونَ ، لَيْسَ لَكَ عِنْدَنَا خِلَافٌ ، وَلَيْسَ بَيْتُنَا هَذَا بِالْبَيْتِ الَّذِي تُرِيدُ ، يَعْنُونَ اللَّاتَ ، إِنَّمَا تُرِيدُ الْبَيْتَ الَّذِي بِمَكَّةَ ، يَعْنُونَ الْكَعْبَةَ ، وَنَحْنُ نَبْعَثُ مَعَكَ مَنْ يَدُلُّكُ ، فَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ ، وَبَعَثُوا مَعَهُمْ أَبَا رِغَالٍ ؛ فَخَرَجَ أَبْرَهَةُ وَمَعَهُ أَبُو رِغَالٍ حَتَّى أَنْزَلَهُ الْمُغَمِّسَ ، فَلَمَّا أَنْزَلَهُ بِهِ مَاتَ أَبُو رِغَالٍ هُنَاكَ ، فَرَجَمَتِ الْعَرَبُ قَبْرَهُ ، فَهُوَ الْقَبْرُ الَّذِي تَرْجُمُ النَّاسُ بِالْمُغَمِّسِ . وَلَمَّا نَزَلَ أَبْرَهَةُ الْمُغَمِّسَ ، بَعَثَ رَجُلًا مِنَ الْحَبَشَةِ ، يُقَالُ لَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ مَقْصُودٍ ، عَلَى خَيْلٍ لَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَّةَ ، فَسَاقَ إِلَيْهِ أَمْوَالَ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ ، وَأَصَابَ فِيهَا مِائَتَيْ بَعِيرٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا ؛ وَهَمَّتْ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَهُذَيْلٌ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ بِالْحَرَمِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ بِقِتَالِهِ ، ثُمَّ عَرَفُوا أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ ، فَتَرَكُوا ذَلِكَ ، وَبَعَثَ أَبْرَهَةُ حُنَاطَةَ الْحِمْيَرِيَّ إِلَى مَكَّةَ ، وَقَالَ لَهُ : سَلْ عَنْ سَيِّدِ هَذَا الْبَلَدِ وَشَرِيفِهِمْ ، ثُمَّ قُلْ لَهُ : إِنَّ الْمَلِكَ يَقُولُ لَكُمْ : إِنِّي لَمْ آتِ لِحَرْبِكُمْ ، إِنَّمَا جِئْتُ لِهَدْمِ الْبَيْتِ ، فَإِنْ لَمْ تَعْرِضُوا دُونَهُ بِحَرْبٍ فَلَا حَاجَةَ لِي بِدِمَائِكُمْ ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْ حَرْبِي فَأْتِنِي بِهِ . فَلَمَّا دَخَلَ حُنَاطَةُ مَكَّةَ ، سَأَلَ عَنْ سَيِّدِ قُرَيْشٍ وَشَرِيفِهَا ، فَقِيلَ : عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ ، فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَبْرَهَةُ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ(1/1007)
حَرْبَهُ ، وَمَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْ طَاقَةٍ ؛ هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ ، وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَوْ كَمَا قَالَ ، فَإِنْ يَمْنَعْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ وَحَرَمُهُ ، وَإِنْ يُخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، فَوَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ عَنْهُ ، أَوْ كَمَا قَالَ ؛ فَقَالَ لَهُ حُنَاطَةُ : فَانْطَلِقْ إِلَى الْمَلِكِ ، فَإِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِكَ . فَانْطَلَقَ مَعَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ، وَمَعَهُ بَعْضُ بَنِيهِ ، حَتَّى أَتَى الْعَسْكَرَ ، فَسَأَلَ عَنْ ذِي نَفْرٍ ، وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا ، فَدُلَّ عَلَيْهِ ، فَجَاءَهُ وَهُوَ فِي مَحْبَسِهِ ، فَقَالَ : يَا ذَا نَفْرٍ ، هَلْ عِنْدَكَ غَنَاءٌ فِيمَا نَزَلَ بِنَا ؟ فَقَالَ لَهُ ذُو نَفْرٍ ، وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا : وَمَا غَنَاءُ رَجُلٍ أَسِيرٍ فِي يَدَيْ مَلِكٍ ، يَنْتَظِرُ أَنْ يَقْتُلَهُ غُدُوًّا أَوْ عَشِيًّا ؟ مَا عِنْدِي غَنَاءٌ فِي شَيْءٍ مِمَّا نَزَلَ بِكَ ، إِلَّا أَنَّ أُنَيْسًا سَائِقَ الْفِيلِ لِي صَدِيقٌ ، فَسَأُرْسِلُ إِلَيْهِ ، فَأُوصِيهِ بِكَ ، وَأُعْظِمُ عَلَيْهِ حَقَّكَ ، وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ لَكَ عَلَى الْمَلِكِ ، فَتُكَلِّمَهُ بِمَا تُرِيدُ ، وَيَشْفَعُ لَكَ عِنْدَهُ بِخَيْرٍ ، إِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ . قَالَ : حَسْبِي ، فَبَعَثَ ذُو نَفْرٍ إِلَى أُنَيْسٍ ، فَجَاءَ بِهِ ، فَقَالَ : يَا أُنَيْسُ إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ سَيِّدُ قُرَيْشٍ ، وَصَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ ، يُطْعِمُ النَّاسَ بِالسَّهْلِ ، وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ ، وَقَدْ أَصَابَ الْمَلِكُ لَهُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ ، فَاسْتَأْذِنْ لَهُ عَلَيْهِ ، وَانْفَعْهُ عِنْدَهُ بِمَا اسْتَطَعْتَ ، فَقَالَ : أَفْعَلُ . فَكَلَّمَ أُنَيْسٌ أَبْرَهَةَ ، فَقَالَ : أَيُّهَا الْمَلِكُ ، هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ بِبَابِكَ ، يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ ، وَهُوَ صَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ ، يُطْعِمُ النَّاسَ بِالسَّهْلِ ، وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ ، فَأْذَنْ لَهُ عَلَيْكَ ، فَلْيُكَلِّمْكَ بِحَاجَتِهِ ، وَأَحْسِنْ إِلَيْهِ . قَالَ : فَأَذِنَ لَهُ أَبْرَهَةُ ، وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ رَجُلًا عَظِيمًا وَسِيمًا جَسِيمًا ؛ فَلَمَّا رَآهُ أَبْرَهَةُ أَجَلَّهُ وَأَكْرَمَهُ أَنْ يَجْلِسَ تَحْتَهُ ، وَكَرِهَ أَنْ تَرَاهُ الْحَبَشَةُ يُجْلِسَهُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ ، فَنَزَلَ أَبْرَهَةُ عَنْ سَرِيرِهِ ، فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطِهِ ، فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَيْهِ إِلَى جَنْبِهِ ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ : قُلْ لَهُ مَا حَاجَتُكَ إِلَى الْمَلِكِ ؟ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ التَّرْجُمَانُ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : حَاجَتِي إِلَى الْمَلِكِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي ؛ فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ ، قَالَ أَبْرَهَةُ لِتَرْجُمَانِهِ : قُلْ لَهُ : قَدْ كُنْتَ أَعْجَبَتْنِي حِينَ رَأَيْتُكَ ، ثُمَّ زَهِدْتُ فِيكَ حِينَ كَلَّمْتَنِي ، أَتُكَلِّمُنِي فِي مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَبْتُهَا لَكَ ، وَتَتْرُكَ بَيْتًا هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ ، قَدْ جِئْتُ لِهَدْمِهِ فَلَا تُكَلِّمُنِي فِيهِ ؟ قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : إِنِّي أَنَا رَبُّ الْإِبِلِ ، وَإِنَّ لِلْبَيْتِ رَبًّا سَيَمْنَعُهُ ، قَالَ : مَا كَانَ لِيُمْنَعَ مِنِّي ، قَالَ : فَأَنْتَ وَذَاكَ ، ارْدُدْ إِلَيَّ إِبِلِي . وَكَانَ فِيمَا زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ ذَهَبَ مَعَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى أَبْرَهَةَ ، حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِ حُنَاطَةَ ، يَعْمَرُ بْنُ نُفَاثَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الدِّيلِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ كِنَانَةَ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ بَنِي كِنَانَةَ ، وَخُوَيْلِدُ بْنُ وَاثِلَةَ الْهُذَلِيُّ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ هُذَيْلٍ ، فَعَرَضُوا عَلَى أَبْرَهَةَ ثُلُثَ أَمْوَالِ تِهَامَةَ ، عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُمْ ، وَلَا يَهْدِمَ الْبَيْتَ ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَكَانَ أَبْرَهَةَ ، قَدْ رَدَّ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْإِبِلَ الَّتِي أَصَابَ لَهُ ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا عَنْهُ انْصَرَفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى قُرَيْشٍ ، فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ ، وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ ، وَالتَّحَرُّزِ فِي شَعَفِ الْجِبَالِ وَالشِّعَابِ ، تَخَوُّفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ ؛ ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ، فَأَخَذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ ، بَابِ الْكَعْبَةِ ، وَقَامَ(1/1008)
مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَدْعُونَ اللَّهَ ، وَيَسْتَنْصِرُونَهُ عَلَى أَبْرَهَةَ وَجُنْدِهِ ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ، وَهُوَ آخِذٌ حَلْقَةَ بَابِ الْكَعْبَةِ :
يَا رَبِّ لَا أَرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمُ حِمَاكَا
إِنَّ عَدُوَّ الْبَيْتِ مَنْ عَادَاكَا امْنَعْهُمُ أَنْ يُخْرِبُوا قُرَاكَا
وَقَالَ أَيْضًا :
لَاهُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ يَمْ نَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَكْ
لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ وَمِحَالُهُمْ غَدْوًا مِحَالَكْ
فَلَئِنْ فَعَلْتَ فَرُبَّمَا أَوْلَى فَأَمْرٌ مَا بَدَا لَكْ
وَلَئِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّهُ أَمْرٌ تُتِمُّ بِهِ فَعَالَكْ
وَقَالَ أَيْضًا :
وَكُنْتُ إِذَا أَتَى بَاغٍ بِسَلْمٍ نُرَجِّي أَنْ تَكُونَ لَنَا كَذَلِكْ
فَوَلَّوْا لَمْ يَنَالُوا غَيْرَ خِزْيٍ وَكَانَ الْحَيْنُ يُهْلِكُهُمْ هُنَالِكْ
وَلَمْ أَسْمَعْ بِأَرْجَسَ مِنْ رِجَالٍ أَرَادُوا الْعِزَّ فَانْتَهَكُوا حَرَامَكْ
جَرُّوا جُمُوعَ بِلَادِهِمْ وَالْفِيلَ كَيْ يَسْبُوا
عِيَالَكْ ثُمَّ أَرْسَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حَلْقَةَ بَابِ الْكَعْبَةَ ، وَانْطَلَقَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى شَعَفِ الْجِبَالِ ، فَتَحَرَّزُوا فِيهَا ، يَنْتَظِرُونَ مَا أَبْرَهَةُ فَاعِلٌ بِمَكَّةَ إِذَا دَخَلَهَا ؛ فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبْرَهَةُ تَهَيَّأَ لِدُخُولِ مَكَّةَ ، وَهَيَّأَ فِيلَهُ ، وَعَبَّأَ جَيْشَهُ ، وَكَانَ اسْمُ الْفِيلِ مَحْمُودًا ، وَأَبْرَهَةُ مُجْمِعٌ لِهَدْمِ الْبَيْتِ ، ثُمَّ الِانْصِرَافِ إِلَى الْيَمَنِ . فَلَمَّا وَجَّهُوا الْفِيلَ ، أَقْبَلَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيُّ ، حَتَّى قَامَ إِلَى جَنْبِهِ ، ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِهِ فَقَالَ : ابْرُكْ مَحْمُودُ ، وَارْجِعْ رَاشِدًا مِنْ حَيْثُ جِئْتَ ، فَإِنَّكَ فِي بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ ؛ ثُمَّ أَرْسَلَ أُذُنَهُ ، فَبَرَكَ الْفِيلُ ، وَخَرَجَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ يَشْتَدُّ حَتَّى أَصْعَدَ فِي الْجَبَلِ . وَضَرَبُوا الْفِيلَ لِيَقُومَ فَأَبَى ، وَضَرَبُوا فِي رَأْسِهِ بِالطَّبَرْزِينَ لَيَقُومَ ، فَأَبَى ، فَأَدْخَلُوا مَحَاجِنَ لَهُمْ فِي مَرَاقِّهِ ، فَبَزَغُوهُ بِهَا لِيَقُومَ ، فَأَبَى ، فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ ، فَقَامَ يُهَرْوِلُ ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ ، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الْمَشْرِقِ ، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى مَكَّةَ فَبَرَكَ ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنَ الْبَحْرِ ، أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ ، مَعَ كُلِّ طَيْرٍ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ يَحْمِلُهَا : حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ ، وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ مِثْلُ الْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ ، لَا يُصِيبُ مِنْهُمْ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ ، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ أَصَابَتْ ، وَخَرَجُوا هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطَّرِيقَ الَّذِي مِنْهُ جَاءُوا ، وَيَسْأَلُونَ عَنْ نُفَيْلِ بْنِ حَبِيبٍ ، لِيَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى الْيَمَنِ ، فَقَالَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ حِينَ رَأَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ نِقْمَتِهِ :
أَيْنَ الْمَفَرُّ وَالْإِلَهُ الطَّالِبْ وَالْأَشْرَمُ الْمَغْلُوبُ غَيْرُ الْغَالِبْ(1/1009)
فَخَرَجُوا يَتَسَاقَطُونَ بِكُلِّ طَرِيقٍ ، وَيَهْلِكُونَ عَلَى كُلِّ مَنْهَلٍ ، فَأُصِيبَ أَبْرَهَةُ فِي جَسَدِهِ ، وَخَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ ، فَسَقَطَتْ أَنَامِلُهُ أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً ،كُلَّمَا سَقَطَتْ أُنْمُلَةٌ أَتْبَعَتْهَا مِدَّةٌ تَمُثُّ قَيْحًا وَدَمًا ، حَتَّى قَدِمُوا بِهِ صَنْعَاءَ ، وَهُوَ مِثْلُ فَرْخِ الطَّيْرِ ، فَمَا مَاتَ حَتَّى انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ فِيمَا يَزْعُمُونَ " (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : " أَقْبَلَ أَصْحَابُ الْفِيلِ ، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْ مَكَّةَ اسْتَقْبَلَهُمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ، فَقَالَ لِمَلِكِهِمْ : مَا جَاءَ بِكَ إِلَيْنَا ؟ أَلَا بَعَثْتَ فَنَأْتِيَكَ بِكُلِّ شَيْءٍ أَرَدْتَ ؟ فَقَالَ : أُخْبِرْتُ بِهَذَا الْبَيْتِ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَمِنَ ، فَجِئْتُ أُخِيفُ أَهْلَهُ ، فَقَالَ : إِنَّا نَأْتِيكَ بِكُلِّ شَيْءٍ تُرِيدُ ، فَارْجِعْ . فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَدْخُلَهُ ، وَانْطَلَقَ يَسِيرُ نَحْوَهُ ، وَتَخَلَّفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ، فَقَامَ عَلَى جَبَلٍ ، فَقَالَ : لَا أَشْهَدُ مَهْلِكَ هَذَا الْبَيْتِ وَأَهْلِهِ . ثُمَّ قَالَ :
اللَّهُمَّ إِنَّ لِكُلِّ إِلَهٍ حِلَالًا فَامْنَعْ حِلَالَكْ
لَا يَغْلِبَنَّ مِحَالُهُمْ أَبَدًا مِحَالَكْ
اللَّهُمَّ فَإِنْ فَعَلْتَ فَأَمْرٌ مَا بَدَا لَكْ
فَأَقْبَلَتْ مِثْلُ السَّحَابَةِ مِنْ نَحْوِ الْبَحْرِ حَتَّى أَظَلَّتْهُمْ طَيْرٌ أَبَابِيلُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ قَالَ : فَجَعَلَ الْفِيلُ يَعُجُّ عَجًّا فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ وَعِنْدِي فِي هَذَا قِصَّةٌ أُخْرَى طَوِيلَةٌ بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا فِيمَا قَصَدْنَاهُ كِفَايَةٌ
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ قَالَ : طَيْرٌ لَهَا خَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الطَّيْرِ ، وَأَكُفُّ كَأَكُفِّ الْكِلَابِ " *
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : طَيْرًا أَبَابِيلَ يَقُولُ : " يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا " وَفَى قَوْلِهِ : كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ يَقُولُ : التِّبْنُ
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، فِي قَوْلِهِ : طَيْرًا أَبَابِيلَ قَالَ : فِرَقٌ
وعَنْ عِكْرِمَةَ ، فِي قَوْلِهِ : طَيْرًا أَبَابِيلَ يَقُولُ : كَانَتْ طَيْرًا نَشَأَتْ مِنْ قِبَلِ الْبَحْرِ لَهَا مِثْلُ رُءُوسِ السِّبَاعِ ، لَمْ تُرَ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَلَا بَعْدَهُ ، فَأَثَّرَتْ فِي جُلُودِهِمْ أَمْثَالَ الْجُدَرِيِّ ، فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَا رُئِيَ الْجُدَرِيُّ
وعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ ، قَالَ : " لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُهْلِكَ أَصْحَابَ الْفِيلِ بَعَثَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا نَشَأَتْ مِنَ الْبَحْرِ كَأَنَّهَا الْخَطَاطِيفُ ، بُلْقٌ ، كُلُّ طَيْرٍ مِنْهَا مَعَهُ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ مُجَزَّعَةٍ ، فِي مِنْقَارِهِ حَجَرٌ ، وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ ، ثُمَّ جَاءَتْ حَتَّى صَفَّتْ عَلَى رُءُوسِهِمْ ثُمَّ صَاحَتْ ، وَأَلْقَتْ مَا فِي أَرْجُلِهَا وَمَنَاقِيرِهَا ، فَمَا مِنْ حَجَرٍ وَقَعَ مِنْهَا عَلَى رَجُلٍ إِلَّا خَرَجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ : إِنْ وَقَعَ
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (35263 ) بلاغاً(1/1010)
عَلَى رَأْسِهِ خَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ ، وَإِنْ وَقَعَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ خَرَجَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ ، قَالَ : وَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا شَدِيدَةً ، فَضَرَبَتْ أَرْجُلَهَا ، فَزَادَهَا شِدَّةً ، فَأُهْلِكُوا جَمِيعًا "
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : جَاءَ أَصْحَابُ الْفِيلِ حَتَّى نَزَلُوا الصِّفَاحَ ، فَجَاءَهُمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ جَدُّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : إِنَّ هَذَا بَيْتُ اللَّهِ تَعَالَى ، لَمْ يُسَلِّطِ اللَّهُ عَلَيْهِ أَحَدًا . قَالُوا : لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَهْدِمَهُ . قَالَ : وَكَانُوا لَا يُقَدِّمُونَ فِيلَهُمْ إِلَّا تَأَخَّرَ ، فَدَعَا اللَّهُ الطَّيْرَ الْأَبَابِيلَ ، فَأَعْطَاهَا حِجَارَةً سُودًا عَلَيْهَا الطِّينُ ، فَلَمَّا . حَاذَتْهُمْ رَمَتْهُمْ ، فَمَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا أَخَذَتْهُ الْحِكَّةُ ، فَكَانَ لَا يَحُكُّ إِنْسَانٌ مِنْهُمْ جِلْدَهُ إِلَّا تَسَاقَطَ لَحْمُهُ
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : " إِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ الْبَيْتَ : الْعَتِيقَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْتَقَهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ ، فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ جَبَّارٌ قَطُّ "
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَتْ : " لَقَدْ رَأَيْتُ قَائِدَ الْفِيلِ وَسَائِسَهُ أَعْمَيَيْنِ مُقْعَدَيْنِ ، يَسْتَطْعِمَانِ بِمَكَّةَ " (1)
وقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ : فَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ قَالَ : " شَهِدْتُ الْعَبَّاسَ وَهُوَ يَهْدِمُهُ ، فَأَصَابَ مِنْهُ مَالًا عَظِيمًا ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ دَعَا بِالسَّلَاسِلِ ، فَعَلَّقَهَا فِي كُعَيْبٍ وَالْخَشَبَةِ الَّتِي مَعَهُ ، فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ ، فَلَمْ يَقْرَبْهَا أَحَدٌ مَخَافَةً لِمَا كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَقُولُونَ فِيهَا ، فَدَعَا بِالْوَرْدِيَيْنِ ، وَهِيَ الْعَجَلُ ، فَأَعْلَقَ فِيهَا السَّلَاسِلَ ، ثُمَّ جَبَذَهَا الثِّيرَانُ ، وَجَبَذَهَا النَّاسُ مَعَهَا ، حَتَّى أَبْرَزُوهَا مِنَ السُّوَرِ ، فَلَمَّا أَنْ لَمْ يَرَ النَّاسُ شَيْئًا مِمَّا كَانُوا يَخَافُونَ مِنْ مَضَرَّتِهَا ، وَثَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ كَانَ تَاجِرًا بِصَنْعَاءَ ، فَاشْتَرَى الْخَشَبَةَ وَقَطَعَهَا لِدَارٍ لَهُ ، فَلَمْ يَلْبَثِ الْعِرَاقِيُّ أَنْ جَذِمَ ، فَقَالَ رُعَاعُ النَّاسِ : هَذَا لِشِرَائِهِ كُعَيْبًا . قَالَ : ثُمَّ رَأَيْتُ أَهْلَ صَنْعَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ يَطُوفُونَ بِالْقُلَّيْسِ ، فَيَلْقُطُونَ مِنْهُ قِطَعَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ " ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ ، قَالَ : فَلَمَّا تَحَدَّثَتِ الْعَرَبُ بِكِتَابِ أَبْرَهَةَ بِذَلِكَ إِلَى النَّجَاشِيِّ ، غَضِبَ رَجُلٌ مِنَ النَّسَاءَةِ أَحَدُ بَنِي فُقَيْمٍ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْقُلَّيْسَ فَقَعَدَ فِيهَا - أَيْ أَحْدَثَ فِيهَا - ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى لَحِقَ بِأَرْضِهِ ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ أَبْرَهَةُ ، فَقَالَ : مَنْ صَنَعَ هَذَا ؟ فَقِيلَ لَهُ : صَنَعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ الَّذِي تَحُجُّ الْعَرَبُ إِلَيْهِ بِمَكَّةَ لَمَّا سَمِعَ بِقَوْلِكَ أَصْرِفُ إِلَيْهَا حَاجَّ الْعَرَبِ . فَغَضِبَ ، فَجَاءَهَا فَقَعَدَ فِيهَا ، أَيْ أَنَّهَا لَيْسَتْ لِذَلِكَ بِأَهْلٍ ، فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ أَبْرَهَةُ ، وَحَلَفَ لَيَسِيرَنَّ إِلَى الْبَيْتِ حَتَّى يَهْدِمَهُ ، ثُمَّ أَمَرَ الْحَبَشَةَ ، فَتَهَيَّأَتْ وَتَجَهَّزَتْ ، ثُمَّ سَارَ وَخَرَجَ بِالْفِيلِ مَعَهُ ، فَسَمِعَتْ بِذَلِكَ الْعَرَبُ فَأَعْظَمُوهُ وَقَطَعُوا بِهِ وَرَأَوْا أَنَّ جِهَادَهُ حَقٌّ عَلَيْهِمْ حِينَ سَمِعُوا أَنَّهُ يُرِيدُ هَدْمَ الْكَعْبَةَ بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ الْيَمَنِ وَمُلُوكِهِمْ يُقَالُ لَهُ ذُو نَفْرٍ ، فَدَعَا قَوْمَهُ وَمَنْ أَجَابَهُ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ إِلَى حَرْبِ أَبْرَهَةَ وَإِلَى مُجَاهَدَتِهِ عَنْ
__________
(1) - دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ - بَابُ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ( 34-42)(1/1011)
بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَمَا يُرِيدُ مِنْ هَدْمِهِ وَإِخْرَاجِهِ ، فَأَجَابَهُ مَنْ أَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ فَقَاتَلَهُ ، فَهُزِمَ ذُو نَفْرٍ ، فَأُتِيَ بِهِ أَسِيرًا ، فَلَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُ قَالَ لَهُ ذُو نَفْرٍ : أَيُّهَا الْمَلِكُ ، لَا تَقْتُلْنِي ، فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مَقَامِي مَعَكَ خَيْرًا لَكَ مِنْ قَتْلِي . فَتَرَكَهُ مِنَ الْقَتْلِ ، وَحَبَسَهُ عِنْدَهُ فِي وَثَاقٍ . وَكَانَ أَبْرَهَةُ رَجُلًا حَلِيمًا وَرِعًا ذَا دِينٍ فِي النَّصْرَانِيَّةِ ، وَمَضَى أَبْرَهَةُ عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ يُرِيدُ مَا خَرَجَ إِلَيْهِ ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي أَرْضِ خَثْعَمٍ عَرَضَ لَهُ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيُّ فِي قَبَائِلِ خَثْعَمٍ شَهْرَانَ وَنَاهِسٍ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ ، فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ أَبْرَهَةُ ، وَأُخِذَ لَهُ نُفَيْلٌ أَسِيرًا ، فَأَتَى بِهِ ، فَقَالَ لَهُ نُفَيْلٌ : أَيُّهَا الْمَلِكُ ، لَا تَقْتُلْنِي ، فَإِنِّي دَلِيلُكَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ ، وَهَاتَانِ يَدَايَ عَلَى قَبَائِلِ خَثْعَمٍ شَهْرَانَ وَنَاهِسٍ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ . فَأَعْفَاهُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ ، وَخَرَجَ بِهِ مَعَهُ يَدُلُّهُ ، حَتَّى إِذَا مَرَّ بِالطَّائِفِ خَرَجَ إِلَيْهِ مَسْعُودُ بْنُ مُعَتِّبٍ فِي رِجَالِ ثَقِيفٍ ، فَقَالُوا لَهُ : أَيُّهَا الْمَلِكُ ، إِنَّمَا نَحْنُ عَبِيدُكَ ، سَامِعُونَ لَكَ مُطِيعُونَ ، وَلَيْسَ لَكَ عِنْدَنَا خِلَافٌ ، وَلَيْسَ بَيْتُنَا هَذَا بِالْبَيْتِ الَّذِي تُرِيدُ - يَعْنُونَ اللَّاتَ - إِنَّمَا تُرِيدُ الْبَيْتَ الَّذِي بِمَكَّةَ ، وَنَحْنُ نَبْعَثُ مَعَكَ مَنْ يَدُلُّكَ عَلَيْهِ . فَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ ، وَبَعَثُوا مَعَهُ أَبَا رِغَالٍ يَدُلُّهُ عَلَى مَكَّةَ ، فَخَرَجَ أَبْرَهَةُ وَمَعَهُ أَبُو رِغَالٍ حَتَّى أَنْزَلَهُمْ بِالْمُغَمَّسِ ، فَلَمَّا أَنْزَلَهُ بِهِ مَاتَ أَبُو رِغَالٍ هُنَالِكَ ، فَرَجَمَتِ الْعَرَبُ قَبْرَهُ ، فَهُوَ قَبْرُهُ الَّذِي يُرْجَمُ بِالْمُغَمَّسِ ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ جَرِيرُ بْنُ الْخَطَفِيِّ :
إِذَا مَاتَ الْفَرَزْدَقُ فَارْجُمُوهُ كَمَا تَرْمُونَ قَبْرَ أَبِي رِغَالِ
فَلَمَّا نَزَلَ أَبْرَهَةُ الْمُغَمَّسَ بَعَثَ رَجُلًا مِنَ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ مَفْصُودٍ عَلَى خَيْلٍ لَهُ ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَّةَ ، فَسَاقَ إِلَيْهِ أَمْوَالَ أَهْلِ تِهَامَةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ ، فَأَصَابَ فِيهَا مِائَتَيْ بَعِيرٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا ، فَهَمَّتْ قُرَيْشٌ وَخُزَاعَةُ وَكِنَانَةُ وَهُذَيْلٌ وَمَنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ بِقِتَالِهِ ، ثُمَّ عَرَفُوا أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ ، فَتَرَكُوا ذَلِكَ ، وَبَعَثَ أَبْرَهَةُ حِنَاطَةَ الْحِمْيَرِيَّ إِلَى مَكَّةَ ، فَقَالَ لَهُ : سَلْ عَنْ سَيِّدِ أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ وَشَرِيفِهِمْ ، ثُمَّ قُلْ لَهُمْ : إِنَّ الْمَلِكَ يَقُولُ لَكُمْ : إِنِّي لَمْ آتِ لِحَرْبِكُمْ ، إِنَّمَا جِئْتُ لِهَدْمِ هَذَا الْبَيْتِ ، فَإِنْ لَمْ تَعْرِضُوا لِي بِقِتَالٍ فَلَا حَاجَةَ لِي بِدِمَائِكُمْ ، فَإِنْ هُوَ لَمْ يُرِدْ حَرْبِي فَأْتِنِي بِهِ . فَلَمَّا دَخَلَ حِنَاطَةُ مَكَّةَ سَأَلَ عَنْ سَيِّدِ قُرَيْشٍ وَشَرِيفِهَا ، فَقِيلَ لَهُ : عَبْدُ الْمُطَّلِبِ . فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَقَالَ بِمَا قَالَ أَبْرَهَةُ ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ حَرْبَهُ ، وَمَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْ طَاقَةٍ ، هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ ، وَبَيْتُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ كَمَا قَالَ - فَإِنْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ وَحَرَمُهُ ، وَإِنْ يُخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَوَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا دَفْعٌ عَنْهُ . فَقَالَ لَهُ حِنَاطَةُ : فَانْطَلِقْ مَعِي إِلَيْهِ ، فَإِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِكَ . فَانْطَلَقَ مَعَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَمَعَهُ بَعْضُ بَنِيهِ ، حَتَّى أَتَى الْعَسْكَرَ ، فَسَأَلَ عَنْ ذِي نَفْرٍ ، وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا ، حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَحْبَسِهِ ، فَقَالَ : يَا ذَا نَفْرٍ ، هَلْ عِنْدَكَ مِنْ غَنَاءٍ فِيمَا نَزَلَ بِنَا ؟ قَالَ ذُو نَفْرٍ : وَمَا غَنَاءُ رَجُلٍ أَسِيرٍ فِي يَدَيْ مَلِكٍ يَنْتَظِرُ أَنْ يَقْتُلَهُ بُكْرَةً أَوْ عَشِيَّةً ؟ مَا عِنْدِي غَنَاءٌ فِي شَيْءٍ مِمَّا نَزَلَ(1/1012)
بِكَ ، إِلَّا أَنَّ أُنَيْسًا سَائِسَ الْفِيلِ صَدِيقٌ لِي ، فَسَأُرْسِلُ إِلَيْهِ فَأُوصِيهِ بِكَ ، وَأُعْظِمُ عَلَيْهِ حَقَّكَ ، وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ لَكَ عَلَى الْمَلِكِ ، وَتُكَلِّمَهُ فِيمَا بَدَا لَكَ ، وَيَشْفَعَ لَكَ عِنْدَهُ بِخَيْرٍ إِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ . قَالَ : حَسْبِي . فَبَعَثَ ذُو نَفْرٍ إِلَى أُنَيْسٍ ، فَقَالَ لَهُ : إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ سَيِّدُ قُرَيْشٍ ، وَصَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ ، يُطْعِمُ النَّاسَ بِالسَّهْلِ وَالْجَبَلِ ، وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ ، وَقَدْ أَصَابَ الْمَلِكُ لَهُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ ، فَاسْتَأْذِنْ لَهُ عَلَيْهِ ، وَانْفَعْهُ عِنْدَهُ بِمَا اسْتَطَعْتَ . فَقَالَ : أَفْعَلُ . فَكَلَّمَ أُنَيْسٌ أَبْرَهَةَ ، فَقَالَ لَهُ : أَيُّهَا الْمَلِكُ ، هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ بِبَابِكَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ ، وَهُوَ صَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ ، وَهُوَ يُطْعِمُ النَّاسَ بِالسَّهْلِ وَالْجَبَلِ ، وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ ، فَأْذَنْ لَهُ عَلَيْكَ ، فَلْيُكَلِّمْكَ فِي حَاجَتِهِ . فَأَذِنَ لَهُ أَبْرَهَةُ . وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَوْسَمَ النَّاسِ وَأَعْظَمَهُمْ وَأَجْمَلَهُمْ ، فَلَمَّا رَآهُ أَبْرَهَةُ أَجَلَّهُ وَأَكْرَمَهُ عَنْ أَنْ يُجْلِسَهُ تَحْتَهُ ، وَكَرِهَ أَنْ تَرَاهُ الْحَبَشَةُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ ، فَنَزَلَ أَبْرَهَةُ عَنْ سَرِيرِهِ ، فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطِهِ ، وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَيْهِ إِلَى جَنْبِهِ ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ : قُلْ لَهُ : مَا حَاجَتُكَ ؟ قَالَ لَهُ التَّرْجُمَانُ : إِنَّ الْمَلِكَ يَقُولُ لَكَ : مَا حَاجَتُكَ ؟ قَالَ : حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ الْمَلِكُ عَلَيَّ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي . فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ أَبْرَهَةُ لِتَرْجُمَانِهِ : قُلْ لَهُ : قَدْ كُنْتَ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ ، ثُمَّ قَدْ زَهِدْتُ فِيكَ حِينَ كَلَّمْتَنِي ، تُكَلِّمُنِي فِي مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَبْتُهَا لَكَ ، وَتَتْرُكُ بَيْتًا هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ ، وَقَدْ جِئْتُ لِهَدْمِهِ ، لَا تُكَلِّمُنِي فِيهِ ؟ قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : إِنِّي أَنَا رَبُّ إِبِلِي ، وَإِنَّ لِلْبَيْتِ رَبًّا سَيَمْنَعُهُ . قَالَ : مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنِّي . قَالَ : أَنْتَ وَذَاكَ . قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ فِيمَا يَزْعُمُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ ذَهَبَ مَعَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى أَبْرَهَةَ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِ حِنَاطَةَ الْحِمْيَرِيَّ يَعْمَرُ بْنُ نُفَاثَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الدِّيلِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ بَنِي بَكْرٍ ، وَخُوَيْلِدُ بْنُ وَاثِلَةَ الْهُذَلِيُّ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ هُذَيْلٍ ، فَعَرَضُوا عَلَى أَبْرَهَةَ ثُلُثَ أَمْوَالِ تِهَامَةَ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُمْ وَلَا يَهْدِمَ الْبَيْتَ ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَكَانَ ذَلِكَ أَمْ لَا . وَقَدْ كَانَ أَبْرَالأبل التى كَةُ رَدَّ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَ أَصَابَ ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا عَنْهُ انْصَرَفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى قُرَيْشٍ ، فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ ، وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ ، وَالتَّحَرُّزِ فِي شَعَفِ الْجِبَالِ ؛ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ ، ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ، فَأَخَذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ ، وَقَامَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، يَدْعُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيَسْتَنْصِرُونَهُ عَلَى أَبْرَهَةَ وَجُنْدِهِ ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ آخِذٌ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ :
يَا رَبِّ إِنَّ الْمَرْءَ يَمْنَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حَلَالَكْ
لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ وَمِحَالُهُمْ عَدْوًا مِحَالَكْ
إِنْ كُنْتَ تَارِكَهُمْ وَقِبْلَتَنَا فَأْمُرْ مَا بَدَا لَكْ
وَلَئِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّهُ أَمْرٌ يُتِمُّ بِهِ فِعَالَكْ
ثُمَّ أَرْسَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حَلْقَةَ بَابِ الْكَعْبَةِ ، وَانْطَلَقَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى شَعَفِ الْجِبَالِ ، فَتَحَرَّزُوا فِيهَا يَنْتَظِرُونَ مَا أَبْرَهَةُ فَاعِلٌ بِمَكَّةَ إِذَا دَخَلَهَا . وَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَيْضًا :(1/1013)
قُلْتُ وَالْأَشْرَمُ تَرْدِي خَيْلُهُ إِنَّ ذَا الْأَشْرَمَ غَرَّ بِالْحَرَمْ
كَادَهُ تُبَّعُ فِيمَا جَنَّدَتْ حِمْيَرٌ وَالْحَيُّ مِنْ آلِ قِدَمْ
فَانْثَنَى خَارِجًا آهٍ ِوَفِي أَوْدَاجِهِ حَاجِرٌ أَمْسَكَ مِنْهُ بِالْكَظَمْ
نَحْنُ أَهْلُ اللَّهِ فِي بَلْدَتِهِ لَمْ يَزَلْ ذَاكَ عَهْدَ إِبْرَاهِيمْ
نَعْبُدُ اللَّهَ وَفِينَا شِيمَةٌ صِلَةُ الْقُرْبَى وَإِيفَاءُ الذِّمَمْ
إِنَّ لِلْبَيْتِ لَرَبًّا مَانِعًا مَنْ يُرِدْهُ بِأَثَامٍ يُصْطَلَمْ
يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلَمَّا أَصْبَحَ أَبْرَهَةُ تَهَيَّأَ لِدُخُولِ مَكَّةَ ، وَهَيَّأَ فِيلَهُ ، وَعَبَّأَ جَيْشَهُ ، وَكَانَ اسْمُ الْفِيلِ مَحْمُودًا ، وَأَبْرَهَةُ مُجْمِعٌ لِهَدْمِ الْكَعْبَةِ ، ثُمَّ الِانْصِرَافِ إِلَى الْيَمَنِ ، فَلَمَّا وَجَّهُوا الْفِيلَ إِلَى مَكَّةَ أَقْبَلَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيُّ حَتَّى قَامَ إِلَى جَنْبِ الْفِيلِ ، فَالْتَقَمَ أُذُنَهُ ، فَقَالَ : ابْرُكْ مَحْمُودًا ، وَارْجِعْ رَاشِدًا مِنْ حَيْثُ جِئْتَ ، فَإِنَّكَ فِي بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ . ثُمَّ أَرْسَلَ أُذُنَهُ ، فَبَرَكَ الْفِيلُ ، وَخَرَجَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ يَشْتَدُّ حَتَّى أَصْعَدَ فِي الْجَبَلِ ، وَضَرَبُوا الْفِيلَ لَيَقُومَ فَأَبَى ، فَضَرَبُوا رَأْسَهُ بِالطَّبَرْزِينِ فَأَبَى ، فَأَدْخَلُوا مَحَاجِنَ لَهُمْ فِي مَرَاقِّهِ فَبَزَغُوهُ بِهَا لَيَقُومَ فَأَبَى ، فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَامَ يُهَرْوِلُ ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الْمَشْرِقِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَوَجَّهُوهُ إِلَى مَكَّةَ فَبَرَكَ ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنَ الْبَحْرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ وَالْبِلْسَانِ ، مَعَ كُلِّ طَيْرٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ يَحْمِلُهَا ، حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ ، وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ أَمْثَالُ الْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ ، لَا تُصِيبُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا هَلَكَ ، وَلَيْسَ كُلَّهُمْ أَصَابَتْ ، وَخَرَجُوا هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطَّرِيقَ الَّتِي مِنْهَا جَاءُوا ، وَيَسْأَلُونَ عَنْ نُفَيْلِ بْنِ حَبِيبٍ لِيَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى الْيَمَنِ ، فَقَالَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ حِينَ رَأَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ نِقْمَتِهِ :
أَيْنَ الْمَفَرُّ وَالْإِلَهُ الطَّالِبُ وَالْأَشْرَمُ الْمَغْلُوبُ غَيْرُ الْغَالِبِ
وَقَالَ نُفَيْلٌ أَيْضًا حِينَ وَلَّوْا وَعَايَنُوا مَا نَزَلَ بِهِمْ :
أَلَا حُيِّيتِ عَنَّا يَا رُدَيْنَا نَعِمْنَاكُمْ مَعَ الْإِصْبَاحِ عَيْنَا
رُدَيْنَةُ لَوْ رَأَيْتِ وَلَنْ تَرَيْهِ لَدَى جَنْبِ الْمُحَصَّبِ مَا رَأَيْنَا
إِذًا لَعَذَرْتِنِي وَحَمِدْتِ أَمْرِي وَلَمْ تَأْسَيْ عَلَى مَا فَاتَ بَيْنَا
حَمِدْتُ اللَّهَ إِذْ عَايَنْتُ طَيْرًا وَخِفْتُ حِجَارَةً تُلْقَى عَلَيْنَا
وَكُلُّ الْقَوْمِ يَسْأَلُ عَنْ نُفَيْلٍ كَأَنَّ عَلَيَّ لِلْحُبْشَانِ دَيْنَا
فَخَرَجُوا يَتَسَاقَطُونَ بِكُلِّ طَرِيقٍ ، وَيَهْلِكُونَ بِكُلِّ مَهْلِكٍ عَلَى كُلِّ مَنْهَلٍ ، وَأُصِيبَ أَبْرَهَةُ فِي جَسَدِهِ ، وَخَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ تَسْقُطُ أَنَامِلُهُ أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً ، كُلَّمَا سَقَطَتْ مِنْهُ أُنْمُلَةٌ اتَّبَعَتْهَا مِنْهُ مِدَّةٌ تَمُثُّ قَيْحًا وَدَمًا ، حَتَّى قَدِمُوا بِهِ صَنْعَاءَ وَهُوَ مِثْلُ فَرْخِ الطَّائِرِ ، فَمَا مَاتَ حَتَّى انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ فِيمَا يَزْعُمُونَ ، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ فِلَالٌ مِنَ الْجَيْشِ وَعُسَفَاءُ وَبَعْضُ مَنْ ضَمَّهُ الْعَسْكَرُ ، فَكَانُوا بِمَكَّةَ(1/1014)
يَعْتَمِلُونَ وَيَرْعَوْنَ لِأَهْلِ مَكَّةَ . قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنَّهُ حُدِّثَ أَنَّ أَوَّلَ مَا رُؤِيَتِ الْحَصْبَةُ وَالْجُدَرِيُّ بِأَرْضِ الْعَرَبِ ذَلِكَ الْعَامَ ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ مَا رُؤِيَ بِهَا مِنْ مَرَايِرِ الشَّجَرِ الْحَرْمَلِ وَالْحَنْظَلُ وَالْعُشْرُ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ " قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ : وَقَالَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ : إِنَّهُ أَوَّلُ مَا كَانَتْ بِمَكَّةَ حَمَامُ الْيَمَامِ ، حَمَامُ مَكَّةَ الْحَرَمِيَّةِ ذَلِكَ الزَّمَانَ . يُقَالُ : إِنَّهَا مِنْ نَسْلِ الطَّيْرِ الَّتِي رَمَتْ أَصْحَابَ الْفِيلِ حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ مِنْ جُدَّةَ ، وَلَمَّا هَلَكَ أَبْرَهَةُ مَلَكَ الْحَبَشَةَ ابْنُهُ يَكْسُومُ بْنُ أَبْرَهَةَ ، وَبِهِ كَانَ يُكْنَى ، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَ يَكْسُومَ أَخُوهُ مَسْرُوقُ بْنُ أَبْرَهَةَ ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَتْهُ الْفُرْسُ حِينَ جَاءَهُمْ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ ، وَكَانَ آخِرَ مُلُوكِ الْحَبَشَةِ ، وَكَانُوا أَرْبَعَةً ، فَجَمِيعُ مَا مَلَكُوا أَرْضَ الْيَمَنِ مِنْ حِينِ دَخَلُوهَا إِلَى أَنْ قُتِلُوا ثَلَاثِينَ سَنَةً ، وَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ مَكَّةَ الْحَبَشَةَ ، وَأَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ النِّقْمَةِ ، أَعْظَمَتِ الْعَرَبُ قُرَيْشًا ، وَقَالُوا : أَهْلُ اللَّهِ ، قَاتَلَ عَنْهُمْ ، وَكَفَاهُمْ مُؤْنَةَ عَدُوِّهِمْ . فَجَعَلُوا يَقُولُونَ فِي ذَلِكَ الْأَشْعَارَ يَذْكُرُونَ فِيهَا مَا صَنَعَ اللَّهُ بِالْحَبَشَةِ ، وَمَا دَفَعَ عَنْ قُرَيْشٍ مِنْ كَيْدِهِمْ ، وَيَذْكُرُونَ الْأَشْرَمَ وَالْفِيلَ وَمَسَاقَهُ إِلَى الْحَرَمِ ، وَمَا أَرَادَ مِنْ هَدْمِ الْبَيْتِ وَاسْتِحْلَالِ حُرْمَتِهِ " (1)
وكان لهذه الهزيمة أثر كبير في التاريخ وبين العرب ، فأعظموا قريشا ، وقالوا : هم أهل اللَّه ، قاتل اللَّه عنهم ، وكفاهم العدو ، وازدادوا تعظيما للبيت ، وإيمانا بمكانه عنه اللَّه.
وأراد اللَّه بهذا الحادث تعظيم بيته ، وإعلاء شأنه ، وتهيئة أمة العرب لحمل رسالة الإسلام إلى العالم كله.
وكان ذلك الحدث التاريخي المهم في عام ميلاد النّبي - صلى الله عليه وسلم - ، سنة 570 م ، أي كان بين عام الفيل ومبعث النّبي - صلى الله عليه وسلم - أربعون سنة. وكان قد بقي بمكة جمع شاهدوا تلك الواقعة ، وقد بلغت حدّ التواتر حينئذ ، فما ذاك إلا إرهاص للرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وقال ابن كثير :
هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش، فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل، الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود، فأبادهم الله، وأرغم آنافهم، وخيب سعيهم، وأضل عملهم، وَرَدهم بشر خيبة. وكانوا قوما نصارى، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالا مما كان عليه قريش من عبادة الأوثان. ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال، ولسان حال القدر يقول: لم ننصركم -يا معشر قريش-على الحبشة لخيريتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرفه ونعظمه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد، صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء. (2)
__________
(1) - أَخْبَارُ مَكَّةَ لِلْأَزْرَقِيِّ (156 ) فيه جهالة
(2) - تفسير ابن كثير - دار طيبة - (8 / 483)(1/1015)
وفي الظلال :
" تشير هذه السورة إلى حادث مستفيض الشهرة في حياة الجزيرة العربية قبل البعثة ، عظيم الدلالة على رعاية الله لهذه البقعة المقدسة التي اختارها الله لتكون ملتقى النور الأخير ، ومحضن العقيدة الجديدة ، والنقطة التي تبدأ منها زحفها المقدس لمطاردة الجاهلية في أرجاء الأرض ، وإقرار الهدى والحق والخير فيها . .....
وتختلف الروايات هنا في تحديد نوع هذه الجماعات من الطير ، وأشكالها ، وأحجامها ، وأحجام هذه الحجارة ونوعها وكيفية فعلها . كما أن بعضها يروي أن الجدري والحصبة ظهرا في هذا العام في مكة .
ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات ، وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعمل عملها ، أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة أقرب وأولى . وأن الطير قد تكون هي الذباب والبعوض التي تحمل الميكروبات ، فالطير هو كل ما يطير .
قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في تفسيره للسورة في جزء عم : « وفي اليوم الثاني فشا في جند الجيش داء الجدري والحصبة . . قال عكرمة : وهو أول جدري ظهر ببلاد العرب . وقال يعقوب بن عتبة فيما حدث : إن أول ما رؤيت الحصبة والجدري ببلاد العرب ذلك العام . وقد فعل الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله . فكان لحمهم يتناثر ويتساقط فذعر الجيش وصاحبه وولوا هاربين ، وأصيب الجيش ، ولم يزل يسقط لحمه قطعة قطعة ، وأنملة أنملة حتى انصدع صدره ومات في صنعاء .
» هذا ما اتفقت عليه الروايات ، ويصح الاعتقاد به . وقد بينت لنا هذه السورة الكريمة أن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير مما يرسله الله مع الريح « .
» فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض ، وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات ، فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه ، فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه . وأن كثيراً من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر ، وأن هذا الحيوان الصغير الذي يسمونه الآن بالمكروب لا يخرج عنها . وهو فرق وجماعات لا يحصي عددها إلا بارئها . . ولا يتوقف ظهور أثر قدرة الله تعالى في قهر الطاغين ، على أن يكون الطير في ضخامة رؤوس الجبال ، ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب ، ولا على أن يكون له ألوان خاصة به ، ولا على معرفة مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها . . فلله جند من كل شيء « .(1/1016)
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد
» وليست في الكون قوة إلا وهي خاضعة لقوته . فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت ، أرسل الله عليه من الطير ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة ، فأهلكته وأهلكت قومه ، قبل أن يدخل مكة . وهي نعمة غمر الله بها أهل حرمه على وثينتهم حفظاً لبيته ، حتى يرسل من يحميه بقوة دينه - صلى الله عليه وسلم - وإن كانت نعمة من الله حلت بأعدائه أصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت دون جرم اجترمه ، ولا ذنب اقترفه « .
« هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة . وما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبوله إلا بتأويل ، إن صحت روايته . ومما تعظم به القدرة أن يؤخذ من استعز بالفيل وهو أضخم حيوان من ذوات الأربع جسماً ويهلك ، بحيوان صغير لا يظهر للنظر ، ولا يدرك بالبصر ، حيث ساقه القدر . لا ريب عند العاقل أن هذا أكبر وأعجب وأبهر!! » .
ونحن لا نرى أن هذه الصورة التي افترضها الأستاذ الإمام صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم أو تلك التي جاءت بها بعض الروايات من أن الحجارة تخرق الرؤوس والأجسام وتنفذ منها وتمزق الأجساد فتدعها كفتات ورق الشجر الجاف وهو « العصف » . . لا نرى أن هذه الصورة أو تلك أدل على قدرة الله ، ولا أولى بتفسير الحادث . فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع . ومن حيث الدلالة على قدرة الله وتدبيره ، ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس ، المعهودة المكشوفة لعلمهم ، هي التي جرت فأهلكت قوماً أراد الله إهلاكهم . أو أن تكون سنة الله قد جرت بغير المألوف للبشر ، وغير المعهود المكشوف لعلمهم ، فحققت قدره ذاك .
إن سنة الله ليست فقط هي ما عهده البشر وما عرفوه . وما يعرف البشر من سنة الله إلا طرفاً يسيراً يكشفه الله لهم بمقدار ما يطيقون ، وبمقدار ما يتهيأون له بتجاربهم ومداركهم في الزمن الطويل ، فهذه الخوارق كما يسمونها هي من سنة الله . ولكنها خوارق بالقياس إلى ما عهدوه وما عرفوه!
ومن ثم فنحن لا نقف أمام الخارقة مترددين ولا مؤولين لها متى صحت الرواية أو كان في النصوص وفي ملابسات الحادث ما يوحي بأنها جرت خارقة ، ولم تجر على مألوف الناس ومعهودهم . وفي الوقت ذاته لا نرى أن جريان الأمر على ألسنة المألوفة أقل وقعاً ولا دلالة من جريانه على ألسنة الخارقة للمألوف . فالسنة المألوفة هي في حقيقتها خارقة بالقياس إلى قدرة البشر . . إن طلوع الشمس وغروبها خارقة وهي معهودة كل يوم وإن ولادة كل طفل خارقة وهي تقع كل لحظة ، وإلا فليجرب من شاء أن يجرب! وإن تسليط طير كائناً ما كان يحمل حجارة مسحوقة ملوثة بميكروبات الجدري والحصبة وإلقائها في هذه الأرض ، في هذا(1/1017)
الأوان ، وإحداث هذا الوباء في الجيش ، في اللحظة التي يهم فيها باقتحام البيت . . إن جريان قدر الله على هذا النحو خارقة بل عدة خوارق كاملة الدلالة على القدرة وعلى التقدير . وليست بأقل دلالة ولا عظمة من أن يرسل الله طيراً خاصاً يحمل حجارة خاصة تفعل بالأجسام فعلاً خاصاً في اللحظة المقررة .. هذه من تلك . . هذه خارقة وتلك خارقة على السواء . .
فأما في هذا الحادث بالذات ، فنحن أميل إلى اعتبار أن الأمر قد جرى على أساس الخارقة غير المعهودة ، وأن الله أرسل طيراً أبابيل غير معهودة وإن لم تكن هناك حاجة إلى قبول الروايات التي تصف أحجام الطير وأشكالها وصفاً مثيراً ، نجد له نظائر في مواضع أخرى تشي بأن عنصر المبالغة والتهويل مضاف إليها! تحمل حجارة غير معهودة ، تفعل بالأجسام فعلاً غير معهود . .
نحن أميل إلى هذا الاعتبار . لا لأنه أعظم دلالة ولا أكبر حقيقة . ولكن لأن جو السورة وملابسات الحادث تجعل هذا الاعتبار هو الأقرب . فقد كان الله سبحانه يريد بهذا البيت أمراً . كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمناً؛ وليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحف منه حرة طليقة ، في أرض حرة طليقة ، لا يهيمن عليها أحد من خارجها ، ولا تسيطر عليها حكومة قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها . ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال ، حتى ليمتن بها على قريش بعد البعثة في هذه السورة ، ويضربها مثلاً لرعاية الله لحرماته وغيرته عليها . . فمما يتناسق مع جو هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود ، بكل مقوّماته وبكل أجزائه ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفرد فذ . .
وبخاصة أن المألوف في الجدري أو الحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده ، فإن الجدري أو الحصبة لا يسقط الجسم عضواً عضواً وأنملة أنملة ، ولا يشق الصدر عن القلب . .
وهذه الصورة هي التي يوحي بها النص القرآني : { فجعلهم كعصف مأكول } . . إيحاء مباشراً قريباً .
ورواية عكرمة وما حدث به يعقوب بن عتبة ليست نصاً في أن الجيش أصيب بالجدري . فهي لا تزيد على أن تقول : إن الجدري ظهر في الجزيرة في هذا العام لأول مرة . ولم ترد في أقوالهما أية إشارة لأبرهة وجيشه خاصة بالإصابة بهذا المرض . . ثم إن إصابة الجيش على هذا النحو وعدم إصابة العرب القريبين بمثله في حينه تبدو خارقة إذا كانت الطير تقصد الجيش وحده بما تحمل . وما دامت المسألة خارقة فعلام العناء في حصرها في صورة معينة لمجرد(1/1018)
أن هذه الصورة مألوفة لمدارك البشر! وجريان الأمر على غير المألوف أنسب لجو الحادث كله؟!
إننا ندرك ونقدر دوافع المدرسة العقلية التي كان الأستاذ الإمام رحمه الله على رأسها في تلك الحقبة . . ندرك ونقدر دوافعها إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات في تفسير القرآن الكريم وأحداث التاريخ ، ومحاولة ردها إلى المألوف المكشوف من السنن الكونية .
. فلقد كانت هذه المدرسة تواجه النزعة الخرافية الشائعة التي تسيطر على العقلية العامة في تلك الفترة؛ كما تواجه سيل الأساطير والإسرائيليات التي حشيت بها ، كتب التفسير والرواية في الوقت الذي وصلت فيه الفتنة بالعلم الحديث إلى ذروتها ، وموجة الشكّ في مقومات الدين إلى قمتها . فقامت هذه المدرسة تحاول أن ترد إلى الدين اعتباره على أساس أن كل ما جاء به موافق للعقل . ومن ثم تجتهد في تنقيته من الخرافات والأساطير . كما تحاول أن تنشئ عقلية دينية تفقه السنن الكونية ، وتدرك ثباتها واطرادها ، وترد إليها الحركات الإنسانية كما ترد إليها الحركات الكونية في الأجرام والأجسام وهي في صميمها العقلية القرآنية فالقرآن يرد الناس الناس إلى سنن الله الكونية باعتبارها القاعدة الثابتة المطردة المنظمة لمفردات الحركات والظواهر المتناثرة .
ولكن مواجهة ضغط الخرافة من جهة وضغط الفتنة بالعلم من جهة أخرى تركت آثارها في تلك المدرسة . من المبالغة في الاحتياط ، والميل إلى جعل مألوف السنن الكونية هو القاعدة الكلية لسنة الله . فشاع في تفسير الأستاذ الشيخ محمد عبده كما شاع في تفسير تلميذيه الأستاذ الشيخ رشيد رضا والأستاذ عبد القادر المغربي رحمهم الله جميعاً شاع في هذا التفسير الرغبة الواضحة في رد الكثير من الخوارق إلى مألوف سنة الله دون الخارق منها ، وإلى تأويل بعضها بحيث يلائم ما يسمونه « المعقول »! وإلى الحذر والاحتراس الشديد في تقبل الغيبيات .
ومع إدراكنا وتقديرنا للعوامل البيئية الدافعة لمثل هذا الاتجاه ، فإننا نلاحظ عنصر المبالغة فيه ، وإغفال الجانب الآخر للتصور القرآني الكامل . وهو طلاقة مشيئة الله وقدرته من وراء السنن التي اختارها سواء المألوف منها للبشر أو غير المألوف هذه الطلاقة التي لا تجعل العقل البشري هو الحاكم الأخير . ولا تجعل معقول هذا العقل هو مرد كل أمر بحيث يتحتم تأويل ما لا يوافقه كما يتكرر هذا القول في تفسير أعلام هذه المدرسة .
هذا إلى جانب أن المألوف من سنة الله ليس هو كل سنة الله . إنما هو طرف يسير لا يفسر كل ما يقع من هذه السنن في الكون . وأن هذه كتلك دليل على عظمة القدرة ودقة التقدير . .
وكل ذلك مع الاحتياط من الخرافة ونفي الأسطورة في اعتدال كامل ، غير متأثر بإيحاء بيئة خاصة ، ولا مواجهة عرف تفكيري شائع في عصر من العصور!!(1/1019)
إن هنالك قاعدة مأمونة في مواجهة النصوص القرآنية ، لعل هنا مكان تقريرها . . إنه لا يجوز لنا أن نواجه النصوص القرآنية بمقررات عقلية سابقة . لا مقررات عامة . ولا مقررات في الموضوع الذي تعالجه النصوص . بل ينبغي أن نواجه هذه النصوص لنتلقى منها مقرراتنا . فمنها نتلقى مقرراتنا الإيمانية ، ومنها نكوّن قواعد منطقنا وتصوراتنا جميعاً؛ فإذا قررت لنا أمراً فهو المقرر كما قررته! ذلك أن ما نسميه « العقل » ونريد أن نحاكم إليه مقررات عن الأحداث الكونية والتاريخية والإنسانية والغيبية هو إفراز واقعنا البشري المحدود ، وتجاربنا البشرية المحدودة .
وهذا العقل وإن يكن في ذاته قوة مطلقة لا تتقيد بمفردات التجارب والوقائع بل تسمو عليها إلى المعنى المجرد وراء ذواتها ، إلا أنه في النهاية محدود بحدود وجودنا البشري . وهذا الوجود لا يمثل المطلق كما هو عند الله . والقرآن صادر عن هذا المخلوق فهو الذي يحكمنا . ومقرراته هي التي نستقي منها مقرراتنا العقلية ذاتها . ومن ثم لا يصلح أن يقال : إن مدلول هذا النص يصطدم مع العقل فلا بد من تأويله كما يرد كثيراً في مقررات أصحاب هذه المدرسة . وليس معنى هذا هو الاستسلام للخرافة . ولكن معناه أن العقل ليس هو الحكم في مقررات القرآن . ومتى كانت المدلولات التعبيرية مستقيمة واضحة فهي التي تقرر كيف تتلقاها عقولنا ، وكيف تصوغ منها قواعد تصورها ومنطقها تجاه مدلولاتها ، وتجاه الحقائق الكونية الأخرى . ." (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3974)(1/1020)
قصة أصحاب الفيل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... الفيل ... أصحاب الفيل ( أبرهة الحبشي وجنده )
2 ... كَيْدَهُمْ ... هو هدم الكعبة
2 ... تَضْلِيلٍ ... خسارة وهلاك
3 ... أَبَابِيلَ ... جماعات متفرقة
4 ... مِن سِجِّيل ... من آجر ( الطين المشوي )
5 ... كَعَصْفٍ ... ورق الزرع
5 ... مَأْكُولٍ ... أكلته الدواب وداسته بأرجلها
المعنى الإجمالي:
ذكّر اللّه سبحانه نبيه ومن تبلغه رسالته بعمل عظيم دالّ على بالغ قدرته ، وأن كل قدرة دونها فهى خاضعة لسلطانها - ذاك أن قوما أرادوا أن يتعززوا بفيلهم ليغلبوا بعض عباده على أمرهم ، ويصلوا إليهم بشرّ وأذى ، فأهلكهم اللّه ، وردّ كيدهم ، وأبطل تدبيرهم ، بعد أن كانوا فى ثقة بعددهم وعددهم ولم يفدهم ذلك شيئا.
قصص أصحاب الفيل كما رواه أرباب السير
حادث الفيل معروف متواتر لدى العرب ، حتى إنهم جعلوه مبدأ تاريخ يحددون به أوقات الحوادث ، فيقولون : ولد عام الفيل ، وحدث كذا لسنتين بعد عام الفيل ، ونحو ذلك.
وخلاصة ما أجمع عليه رواتهم - أن قائدا حبشيا ممن كانوا قد غلبوا على اليمن أراد أن يعتدى على الكعبة المشرّفة ويهدمها ، ليمنع العرب من الحج إليها ، فتوجه بجيش جرار إلى مكة ، واستصحب معه فيلا أو فيلة كثيرة زيادة فى الإرهاب والتخويف ولم يزل سائرا يغلب من يلاقيه ، حتى وصل إلى « المغمّس » وهو موضع بالقرب من مكة ، ثم أرسل إلى أهل مكة يخبرهم أنه لم يأت لحربهم ، وإنما جاء لهدم البيت ، ففزعوا منه ، وانطلقوا إلى شعف الجبال ينظرون ما هو فاعل.
وفى اليوم الثاني فشا فى جند الحبشي داء الجدرىّ والحصبة ، قال عكرمة : وهو أول جدرىّ ظهر ببلاد العرب ، ففعل ذلك الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله ، فكان لحمهم يتناثر ويتساقط(1/1021)
، فذعر الجيش وصاحبه وولّوا هاربين ، وأصيب الحبشي ولم يزل لحمه يسقط قطعة قطعة ، وأنملة أنملة ، حتى انصدع صدره ومات فى صنعاء. (1)
ألم تعلم بقصة متواترة مستفيضة أصبح العلم بها يساوى في قوته وجلائه العلم الناشئ عن الرؤية والمشاهدة ؟ والمراد : أخبرنى بقصة أصحاب الفيل ، أخبرنى كيف فعل ربك بهم ؟ ألم يجعل كيدهم ومكرهم وحيلتهم في هدم الكعبة ، في ضلال وباطل ، ولم يصلوا إلى ما أرادوا؟!.
وقد أرسل اللّه عليهم طيرا جماعات تحمل حجارة فيها جراثيم الأمراض التي فتكت بمعظم الجيش ، حتى باء بالخيبة ، ورجع بالخذلان المبين ، هذه الطيور رمت الجيش بحجارة من طين متحجر ، فأهلكت أكثره ، وتركته نهبا للطير ، أشبه ما يكون بالعصف المأكول للحيوان ، وهو ورق الشجر إذا جف بعد الحصاد. (2)
التفسير والبيان :
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ ألم تعلم علم اليقين ، وكأنك شاهدت الواقعة ، بما صنع ربّك العظيم القدير بأصحاب الفيل ، حيث دمرهم اللَّه ، وحمى بيته الحرام ، أفلا يجدر بقومك أن يؤمنوا باللَّه ؟ ! وقد شاهد أناس منهم الواقعة ، حيث أقبل قوم من النصارى الأحباش الذين ملكوا اليمن ، إلى الحجاز ، يريدون تخريب الكعبة ، فلما قربوا من مكة ، وأرادوا دخولها ، أرسل اللَّه عليهم جماعات من الطيور محمّلة بحجارة ، ألقوها عليهم ، فأهلكتهم.
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ أي أفسد خطتهم ومؤامرتهم ، والمعنى : ألم تر أن ربك جعل مكرهم وتدبيرهم وسعيهم في تخريب الكعبة ، واستباحة أهلها ، في تضليل عما قصدوا إليه ، وفي ضياع وإبطال ، حتى لم يصلوا إلى البيت ، ولا إلى ما أرادوا بكيدهم ، بل أهلكهم اللَّه تعالى. والكيد : هو إرادة مضرة بالغير على الخفية.
وإذا علم قومك هذا الأمر ، فليخافوا أن يعاقبهم اللَّه بعقوبة مماثلة ، ما داموا يصرون على الكفر باللَّه تعالى وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - وكتابه الكريم ، ويصدون الناس عن سبيل الإيمان الحق باللَّه عزّ وجلّ.
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ ، تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ أي وبعث اللَّه عليهم جماعات متفرقة من الطيور السود ، جاءت من قبل البحر فوجا فوجا ، مع كل طائر ثلاثة أحجار : حجران في رجليه ، وحجر في منقاره ، لا يصيب شيئا إلا دمره وهشمه.
وهي حجارة صغيرة من طين متحجر ، كالحمصة وفوق العدسة ، فإذا أصاب أحدهم حجر منها ، خرج به الجدري أو الحصبة ، حتى هلكوا.
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 241)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 905)(1/1022)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ أي فجعلهم فضلات وبقايا مثل ورق الزرع أو الشجر إذا أكلته الدواب ، ثم راثته ، فأهلكهم جميعا.
عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ ، حَتَّى كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِى خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ » . فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ ، وَسَارَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِى يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا ، بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ . فَقَالَ النَّاسُ حَلْ حَلْ . فَأَلَحَّتْ ، فَقَالُوا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ ، خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ ، ثُمَّ قَالَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا » . ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ ، قَالَ فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ ، عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا ، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ ، وَشُكِىَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَطَشُ ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّىِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ ، إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِىُّ فِى نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ ، وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ ، فَقَالَ إِنِّى تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَىٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَىٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَمَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً ، وَيُخَلُّوا بَيْنِى وَبَيْنَ النَّاسِ ، فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا ، وَإِلاَّ فَقَدْ جَمُّوا ، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ ، لأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِى هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِى ، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ » . فَقَالَ بُدَيْلٌ سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ . قَالَ فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا قَالَ إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ ، وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلاً ، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا ، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ لاَ حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَىْءٍ . وَقَالَ ذَوُو الرَّأْىِ مِنْهُمْ هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ . قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا ، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ أَىْ قَوْمِ أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ قَالُوا بَلَى . قَالَ أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ قَالُوا بَلَى . قَالَ فَهَلْ تَتَّهِمُونِى . قَالُوا لاَ . قَالَ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّى اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظٍ ، فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَىَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِى وَوَلَدِى وَمَنْ أَطَاعَنِى قَالُوا بَلَى . قَالَ فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ ، اقْبَلُوهَا وَدَعُونِى آتِهِ . قَالُوا ائْتِهِ . فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ أَىْ مُحَمَّدُ ، أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى ، فَإِنِّى وَاللَّهِ لأَرَى وُجُوهًا ، وَإِنِّى لأَرَى أَوْشَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ . فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ امْصُصْ بَظْرَ اللاَّتِ ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ فَقَالَ مَنْ ذَا قَالُوا أَبُو(1/1023)
بَكْرٍ . قَالَ أَمَا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْلاَ يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِى لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لأَجَبْتُكَ . قَالَ وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ ، وَقَالَ لَهُ أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ فَقَالَ مَنْ هَذَا قَالُوا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ . فَقَالَ أَىْ غُدَرُ ، أَلَسْتُ أَسْعَى فِى غَدْرَتِكَ وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ ، فَقَتَلَهُمْ ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَمَّا الإِسْلاَمَ فَأَقْبَلُ ، وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِى شَىْءٍ » . ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَيْنَيْهِ . قَالَ فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ أَىْ قَوْمِ ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِىِّ وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ ، يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مُحَمَّدًا ، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ ، فَاقْبَلُوهَا . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى كِنَانَةَ دَعُونِى آتِهِ . فَقَالُوا ائْتِهِ . فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « هَذَا فُلاَنٌ ، وَهْوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ » . فَبُعِثَتْ لَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِى لِهَؤُلاَءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ . فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ . فَقَالَ دَعُونِى آتِهِ . فَقَالُوا ائْتِهِ . فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « هَذَا مِكْرَزٌ وَهْوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ » . فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو . قَالَ مَعْمَرٌ فَأَخْبَرَنِى أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ » . قَالَ مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِىُّ فِى حَدِيثِهِ فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ هَاتِ ، اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا ، فَدَعَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - الْكَاتِبَ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ » . قَالَ سُهَيْلٌ أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا هُوَ وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ . كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ . فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ وَاللَّهِ لاَ نَكْتُبُهَا إِلاَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ » . ثُمَّ قَالَ « هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ » . فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلاَ قَاتَلْنَاكَ ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « وَاللَّهِ إِنِّى لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِى . اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ » . قَالَ الزُّهْرِىُّ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ « لاَ يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ(1/1024)
اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا » . فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ » . فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لاَ تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَكَتَبَ . فَقَالَ سُهَيْلٌ وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ ، إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا . قَالَ الْمُسْلِمُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِى قُيُودِهِ ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ ، حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ . فَقَالَ سُهَيْلٌ هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَىَّ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ » . قَالَ فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَىْءٍ أَبَدًا . قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « فَأَجِزْهُ لِى » . قَالَ مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ . قَالَ « بَلَى ، فَافْعَلْ » . قَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلٍ . قَالَ مِكْرَزٌ بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ . قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ أَىْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ، أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِى اللَّهِ . قَالَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَتَيْتُ نَبِىَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ أَلَسْتَ نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ « بَلَى » . قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ « بَلَى » . قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا قَالَ « إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهْوَ نَاصِرِى » . قُلْتُ أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ قَالَ « بَلَى ، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ » . قَالَ قُلْتُ لاَ . قَالَ « فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ » . قَالَ فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ يَا أَبَا بَكْرٍ ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ بَلَى . قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ بَلَى . قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا قَالَ أَيُّهَا الرَّجُلُ ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَيْسَ يَعْصِى رَبَّهُ وَهْوَ نَاصِرُهُ ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ . قُلْتُ أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ قَالَ بَلَى ، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ . قَالَ الزُّهْرِىِّ قَالَ عُمَرُ فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالاً . قَالَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ « قُومُوا فَانْحَرُوا ، ثُمَّ احْلِقُوا » . قَالَ فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِىَ مِنَ النَّاسِ . فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ . فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ . فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ ، قَامُوا فَنَحَرُوا ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا ، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا ، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ) حَتَّى بَلَغَ ( بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِى الشِّرْكِ ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ ، وَالأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ - رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ - وَهْوَ مُسْلِمٌ فَأَرْسَلُوا فِى طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ ، فَقَالُوا الْعَهْدَ الَّذِى جَعَلْتَ لَنَا . فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ(1/1025)
وَاللَّهِ إِنِّى لأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلاَنُ جَيِّدًا . فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ فَقَالَ أَجَلْ ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ . فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْهِ ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ ، وَفَرَّ الآخَرُ ، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ رَآهُ « لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا » . فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِى وَإِنِّى لَمَقْتُولٌ ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ ، قَدْ رَدَدْتَنِى إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَنْجَانِى اللَّهُ مِنْهُمْ . قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ » . فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ . قَالَ وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ ، فَلَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ ، فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلاَّ لَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلاَّ اعْتَرَضُوا لَهَا ، فَقَتَلُوهُمْ ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهْوَ آمِنٌ ، فَأَرْسَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ) حَتَّى بَلَغَ ( الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ) وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِىُّ اللَّهِ ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ . (1) .
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - : لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ قَامَ فِى النَّاسِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ « إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ ، فَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلِى ، وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِى سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِى ، فَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا ، وَلاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهْوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يُفْدَى ، وَإِمَّا أَنْ يُقِيدَ » . فَقَالَ الْعَبَّاسُ إِلاَّ الإِذْخِرَ ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِلاَّ الإِذْخِرَ » . فَقَامَ أَبُو شَاهٍ - رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ - فَقَالَ اكْتُبُوا لِى يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « اكْتُبُوا لأَبِى شَاهٍ » . (2) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : لَمَّا فَتْحَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ ، قَتَلَتْ هُذَيْلُ رَجُلاً مِنْ بَنِي لَيْثٍ بِقَتِيلٍ كَانَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَامَ ، فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلاَ حَبَسَ الْفِيلَ عَنْ مَكَّةَ ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي ، وَلاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ ، ثُمَّ هِيَ حَرَامٌ ، لاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا ، وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا ، وَلاَ يُلْتَقَطُ سَاقِطُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَقْتُلَ ، وَإِمَّا أَنْ يَفْدِيَ ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ : أَبُو شَاهٍ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ اكْتُبُوا
__________
(1) - صحيح البخارى (2731 و2732 )
(2) - صحيح البخارى( 2434 ) -يقيد : يقتص(1/1026)
لِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ ، ثُمَّ قَامَ الْعَبَّاسُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ إِلاَّ الإِذْخِرَ ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي قُبُورِنَا ، وَفِي بُيُوتِنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِلاَّ الإِذْخِرَ. (1)
ومضات :
قال أبو السعود : الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والهمزة لتقرير رؤيته - صلى الله عليه وسلم - بإنكار عدمها . والرؤية علمية ، أي : ألم تعلم علماً رصيناً متاخماً للمشاهدة والعيان ، باستماع الأخبار المتواترة ، ومعاينة الآثار الظاهرة . وتعليق الرؤية بكيفية فعله عز وجل لا بنفسه ، بأن يقال : ألم تر ما فعل ربك إلخ ؛ لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئة عجيبة دالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته وعزة بيته وشرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فإن ذلك من الإرهاصات ؛ لما روي أن القصة وقعت في السنة التي ولد فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما سنأثره .
قال الرازي : اعلم أن الكيد هو إرادة مضرة بالغير على الخفية . إن قيل : لِششم سماهُ كيداً وأمرهُ كان ظاهراً ، فإنهُ كان يصرح أنهُ يهدم البيت ؟ قلنا : نعم ، لكن الذي كان في قلبه شر مما أظهر ؛ لأنه كان يضمر الحسد للعرب ، وكان يريد صرف الشرف الحاصل لهم بسبب الكعبة ، منهم ومن بلدهم ، إلى نفسه وإلى بلدته { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ } أي : طوائف متفرقة ، يتبع بعضها بعضاً من نواح شتى ، و أبابيل جمع لا واحد له ، على ما حكاه أبو عبيدة والفراء . وزعم أبو جعفر الرؤاسي - وكان ثقة - أنه سمع واحدها إبالة ، بكسر الهمزة وتشديد الموحدة . وهي حزمة الحطب ، استعير لجماعة الطير . وحكى الكسائي عن بعض النحويين في مفردها أبول ، وعن آخرين : أبيل ، سماعاً كما أثره ابن جرير . والتنكير في { طَيْراً } إما للتحقير ، فإنه مهما كان أحقر كان صنع الله أعجب وأكبر ، أو للتفخيم ، كأنه يقول : وأي طير ترمي بحجارة صغيرة فلا تخطئ المقتل ، أفاده الرازي .
تنبيهات :
الأول : كان السبب الذي من أجله حلَّت عقوبة الله تعالى لأصحاب الفيل, مسير أبرهة الحبشي بجنده مع الفيل على بيت الله الحرام لتخريبه . وواقعة الفيل في ذاتها معروفة متواترة الرواية ، حتى إنهم جعلوها مبدأ تاريخ يحددون به أوقات الحوادث ......
التنبيه الثاني : إنما أضيف أمر القصة إلى الفيل واشتهرت به ؛ لاصطحابهم الفيل معهم للبطش والتخريب ، فإنه لو تم لقائديه كيدهم ، لكان الفيل يدهم العاملة وسهمهم النافذ ؛ وذلك أن جبابرة البلاد التي يوجد فيها الفيل يتخذونه آلة بطش وانتقام ، فإذا غضبوا على محارب أسروه ، أو
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (9 / 28) (3715) صحيح(1/1027)
وزير أوثقوه ، أو بلد ونازلوا حصنه أرسلوا على دار المغضوب عليه أو حصنه الفيل ، فنطح برأسه ونابه الصرح فيدكه ، وقواعد البنيان فيهدمها ؛ فيكون أمضى من معاول وفؤوس ، وأعظم رعباً ورهبة في النفوس ، وربما ألقوا المسخوط عليه بين يديه ، فأعمل فيه نابه ، ولف عليه خرطومه وشاله ، ومثَّل به تمثيلاً كان أشد بطشاً وتنكيلاً . وقد حدثني بغرائب هذه الفظائع الجاهلية بعض آل ملوك الأفغان لما أقام مدة بالشام .
الثالث : قال القاشانيّ : قصة أصحاب الفيل مشهورة ، وواقعتهم قريبة من عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي إحدى آيات الله ، وأثر من سخطه على من اجترأ عليه بهتك حرمه ، وإلهام الطيور والوحوش أقرب من إلهام الْإِنْسَاْن لكون نفوسهم ساذجة . وتأثير الأحجار بخاصية أودعها الله تعالى فيها ليس بمستنكر . ومن اطلع على عالم القدرة ، وكشف له حجاب الحكمة ، عرف لمية أمثال هذه .
قال : وقد وقع في زماننا مثلها من استيلاء الفأر على مدينة أبيورد وإفساد زروعهم ورجوعها في البرية إلى شط جيحون ، وأخذ كل واحدة منها خشبة من الأيكة التي على شط نهرها وركوبها عليها وعبورها بها من النهر .
الرابع : قال الإمام الماوردي في " أعلام النبوة " : آيات الملك باهرة ، وشواهد النبوات قاهرة ، تشهد مباديها بالعواقب فلا يلتبس بها كذب بصدق ، ولا منتحل بمحق ، وبحسب قوتها وانتشارها يكون بشائرها وإنذارها . ولما دنا مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقاطرت آيات نبوته وظهرت آيات بركته ، فكان من أعظمها شأناً ، وأظهرها برهاناً ، وأشهرها عياناً وبياناً أصحاب الفيل ، أنقذهم النجاشي من أرض الحبشة في جمهور جيشه على مكة لقتل رجالها وسبي ذراريها وهدم الكعبة . وآية الرسول في قصة الفيل أنه كان في زمانها حملاً في بطن أمه بمكة ؛ لأنه ولد بعد خمسين يوماً من الفيل ، فكانت آيته في ذلك من وجهين :
أحدهما : أنهم لو ظفروا لسبوا واسترقوا ؛ فأهلكهم الله تعالى لصيانة رسوله أن يجري عليه السبي حملاً ووليداً . والثاني : أنه لم يكن لقريش من التأله ما يستحقون به دفع أصحاب الفيل عنهم ، وما هم أهل كتاب لأنهم كانوا بين عابد صنم أو متدين وثن أو قائل بالزندقة أو مانع من الرجعة ، ولكن لما أراده الله تعالى من ظهور الإسلام تأسيساً للنبوة وتعظيماً للكعبة ، وأن يجعلها قبلة للصلاة ومنسكاً للحج .
فإن قيل : فكيف منع عن الكعبة قبله مصيرها قبلة ومنسكاً ، ولم يمنع الحَجَّاج من هدمها وقد صارت قبلة ومنسكاً حتى أحرقها ونصب المنجنيق عليها ؟
قيل : فعل الحَجاج كان بعد استقرار الدِّين ، فاستغنى عن آيات تأسيسه ، وأصحاب الفيل كانوا قبل ظهور النبوة فجعل المنع منها آية لتأسيس البنوة ومجيء الرسالة ، على أن الرسول < قد(1/1028)
أنذر بهدمها > فصار الهدم آية ًبعد أن كان المنع آية ، فلذلك اختلف حكمها في الحالين ، والله تعالى اعلم .
ولما انتشر في العرب ما صنع الله تعالى بجيش الفيل ، تهيبوا الحرم وأعظموه وزادت حرمته في النفوس ودانت لقريش بالطاعة وقالوا : أهل الله ، قاتل عنهم وكفاهم كيد عدوهم ، فزادوهم تشريفاً وتعظيماً ، فصاروا أئمة ديانين ، وقادة متبوعين ، وصار أصحاب الفيل مثلاً في الغابرين . وكان شأن الفيل رادعاً لكل باغ ودافعاً لكل طاغ . وقد عاصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زمن نبوته وبعد هجرته ، جماعة شاهدوا الفيل وطير الأبابيل ، منهم حكيم بن حزام ، وحاطب بن عبد العزى ، ونوفل بن معاوية ؛ لأن كل واحد من هؤلاء عاش مائة وعشرين سنة : منها ستين سنة في الجاهلية ، وستين سنة في الإسلام ، انتهى .
الخامس : ورد في كثير من الأحاديث الصحيحة الإشارة إلى نبأ الفيل : روى البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أظل يوم الحديبية على الثنية التي نهبط به على قريش ، بركت ناقته فزجروها فألحت فقالوا : خلأت القصواء - أي : حرنت - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : < ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل > ، قال ابن الأثير في " النهاية " : هو فيل أبرهة الحبشي الذي جاء يقصد خراب الكعبة ، فحبس الله الفيل فلم يدخل الحرم ، وردَّ رأسه راجعاً من حيث جاء . يعني أن الله حبس ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وصل إلى الحديبية ، فلم تتقدم ولم تدخل الحرم ؛ لأنه أراد أن يدخل مكة بالمسلمين . وفي الصحيحين أيضاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم فتح مكة : < إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب . (1)
معنى آيات السورة واضح ، وهي تذكر السامعين في معرض الإنذار بما كان من نكال اللّه في أصحاب الفيل فجعل كيدهم حابطا خاسرا حيث أرسل عليهم جماعات من الطير فرمتهم بحجارة طينية وجعلتهم كورق الزرع الممضوغ.
وجمهور المفسرين على أن المقصد من أصحاب الفيل هم الأحباش الذين غزوا مكة فإذا كان هذا صحيحا فإنه يؤيد الروايات التي ترويها الكتب العربية القديمة عن الغزوة التي تعرف في تاريخ العرب قبل الإسلام بغزوة الفيل والتي قام بها الأحباش بقيادة أبرهة. وسميت كذلك لأنه كان في الحملة الحبشية بعض الأفيال.
وملخص ما جاء في الروايات أن الأحباش غزوا اليمن قبل البعثة النبوية بذريعة نصر النصارى الذين اضطهدهم الملك الحميري ذو نواس الذي كان يعتنق اليهودية وانتصروا عالى
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 314)(1/1029)
الدولة الحميرية ووطدوا سلطانهم في اليمن. وقد اضطهدوا بدورهم اليهود اليهودية وأخذوا يدعون العرب إلى النصرانية وينشئون الكنائس في اليمن وقد أنشئوا كنيسة كبرى سمتها الكتب العربية باسم القليس. غير أن العرب لم يستجيبوا إلى الدعوة وظلوا متعلقين بتقاليدهم وبالحج إلى الكعبة في الحجاز حتى أن بعضهم نجّس القليس فغضب الأحباش وأرادوا أن يخضعوا الحجاز لحكمهم ويهدموا الكعبة التي يتعلق بها العرب فجاءوا بحملة كبيرة فلما وصلت قرب مكة شرد أهل مكة إلى الجبال لأنهم رأوا أن لا طاقة لهم بها. ولكن اللّه حبس الفيل الكبير الذي كان في طليعة الحملة عن مكة فتوقفت الحملة ، فسلط اللّه عليها جماعات كثيرة من الطيور تحمل بمناقيرها حجارة صغيرة من طين متحجر وأخذت ترمي بالحجارة على الأحباش فلا يكاد الحجر يصيب جسم الحبشي حتى يتهرأ. وقد تمزق شمل الحملة نتيجة لذلك ونجا الحجاز والكعبة. وقد كان لهذا الحادث ونتيجته ردّ فعل عظيم في بلاد العرب حتى صاروا يؤرخون أحداثهم بعام الفيل. وقد روي فيما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد في هذا العام كما روي أن الحادث كان قبل ولادته بمدة تراوحت بين ثلاث عشرة سنة وأربعين سنة على اختلاف الروايات ، ومما ذكرته الروايات أن عربيا اسمه أبو رغال صار دليلا للحملة فمات في مكان اسمه المغمس فصار العرب يرجمون قبره استنكارا لخيانته لقومه وظلوا على ذلك دهرا.
وأسلوب الآيات ومضمونها يدلان أولا على أن الحادث كان لا يزال صداه يتردد على الألسنة في بيئة النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما نزلت السورة. وثانيا على أن العرب كانوا يعتقدون أن البلاء الذي وقع على الأحباش وهرّأ أجسامهم ومزق شملهم هو بلاء رباني. وثالثا على أن القصد من التذكير بالحادث الذي كان قريب العهد ، وكان مالئا للأذهان هو الموعظة ودعوة السامعين أو زعماء قريش إلى الارعواء عن مواقف الأذى والجحود التي يقفونها. فاللّه الذي كان من قدرته أن يصب بلاءه على الأحباش ويمزقهم شرّ ممزق مع ما هم عليه من شدة البأس قادر على أن يصب بلاءه عليهم ويمزقهم. وهم يعرفون ذلك فعليهم أن يرعووا ويحذروا ويتركوا الأذى والعناد.
وهكذا يتسق الأسلوب والهدف القرآني في هذه القصة اتساقهما في القصص القرآنية عامة ، على ما شرحنا قبل ، أما ماهية الطير والحجارة فقد ذكر المفسرون القدماء في صددها أقوالا تجعل الحادث في نطاق المعجزات والخوارق. ورووا فيما رووه أن مرضي الحصبة والجدري ظهرا لأول مرة في الحجاز عقب الحادث كأنما يريدون أن يقولوا إن الطير رمتهم بحجارة أصيبوا منها بأحد المرضين. وقد أوّل الإمام الشيخ محمد عبده ذلك بأن الحجارة كانت ملقحة بجرثومة الجدري. ولسنا نرى كبير طائل في تحقيق ماهية الحادث لذاته لأنه خارج عن نطاق الهدف القرآني. ولكنا نقول إن حرفية آيات السورة وظاهرها على كل حال في جانب كون(1/1030)
الحادث بلاء ربانيا خارقا كما أن أسلوبها يساعد على القول إنها في صدد التذكير بحادث عظيم ، وإن سامعي القرآن الذين كانوا حديثي عهد بالحادث كانوا يعتقدون أن الذي وقع على الأحباش هو بلاء رباني خارق في صورة زحوف من الطير كانت ترميهم بحجارة من سجيل.
هذا ، ولقد أسهب المفسرون المطولون في صور الحادث وأوردوا روايات عديدة عن ماهية الطير والحجارة وأشكالها وكيفية رميها والإصابات التي كانت تحدثها ومقابلة عبد المطلب جد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبرهة قبل الحادث وما دار بينه وبينه في صدد مواشي أهل مكة والكعبة ، وأوردوا فيما أوردوه أن ابن عباس قال : إنه رأى من حجارة الطير قفيزا عند أم هانئ رضي اللّه عنها عمة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وهي مخططة بحمرة وأن عائشة رضي اللّه عنها قالت إنها رأت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين ... إلخ ومع أن هذا الإسهاب لا يدخل في غرض التفسير وأن الروايات تتحمل الشك والتوقف ، فإن هذا وذاك يدلان على أن العرب في بيئة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يتداولون أخبار الحادث العظيم ومشاهده. (1)
فيما يحدث به التاريخ ، وتتوارد عليه الأخبار الصحيحة ، تلك الحادثة التي تسمى حادثة الفيل ، والتي أرخ بها العرب الجاهليون ، كما كانوا يؤرخون بالأحداث العظيمة ، التي تقع لهم فى مسيرة حياتهم .. فاتخذوا عام الفيل مبدأ لمرحلة من مراحل التاريخ عندهم ..
وحادثة الفيل ـ كما تروى كتب التاريخ والسير ـ كانت عام ميلاد النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وأن مسرحها كان مكة ، البلد الحرام ، وأن مقصدها كان هدم الكعبة والبيت الحرام! قيل إن قائدا حبشيا اسمه « أبرهة » ، كان قد غلب على اليمن ، ثم رأى تعظيم العرب للكعبة ، وإقبالهم عليها ، وتمسحهم بها ، فأراد أن يجعل وجهة العرب إليه ، فبنى بنيّة ، أراد بها أن يحج العرب إليها ، وأن ينصرفوا عن الكعبة .. فلما لم يجد منهم استجابة لدعوته ، ولا التفاتا إلى بنيته ، قرر أن يهدم الكعبة ، ويزيل معالمها ، حتى لا يكون للعرب متجه إليها ، فيخلو بذلك وجههم لهذه البنية التي بناها .. فسار يجيش كثيف ، يتقدمه فيل عظيم ، كان عدة له من عدد الحرب التي يرهب بها أعداءه .. فلما سمعت قريش بمقدم أبرهة بهذا الفيل الذي يتهددهم به ، فزعت ، وهالها الأمر ..
قالوا : ونزل أبرهة بجيشه وفيله بمكان اسمه « المغلّس » على مشارف مكة ، وحط رحاله هناك ، استعدادا لدخول مكة ، وهدم الكعبة ..
ثم إنه استدعى إليه صاحب كلمة قريش يومئذ ، وكان عبد المطلب بن هاشم ، جدّ النبي .. فجاء إليه ، فكلمه أبرهة فيما جاء له ، وأنه لا يريد شرا بالناس ، وإنما جاء ليهدم الكعبة ، فإن أخلت
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 41)(1/1031)
قريش بينه وبين الكعبة لم يعرض لهم بسوء ، وإلا فقد عرفوا ما سوف ينزل بهم من بلاء!! فقال له « عبد المطلب » :
دونك وما تشاء .. ولكن ردّ إلينا ما احتواه جيشك من أموالنا .. وكان جيش أبرهة قد ساق كل ما صادفه فى طريقه من إبل وشاء ، وعبيد ، مما كان على مواقع المراعى لقريش .. فقال أبرهة : أحدثك فى شأن الكعبة ، وتحدثنى عن الإبل والشاء ؟ أترى هذه الأنعام أكرم عندكم وأغلى من هذا البيت الذي تعظمونه ؟ فقال « عبد المطلب » هذه الأنعام لنا ، أما البيت فله ربّ يحميه!! قالوا : ودعا عبد المطلب قريشا إلى أن يخرجوا من مكة إلى شعابها ، وجبالها ، وأن يدعوا أبرهة والبيت الحرام ..
وفى صبيحة اليوم الذي تأهب فيه أبرهة لدخول البلد الحرام ، فشا فى جيشه الجدري ، فهلك الجيش جميعه.
قالوا ، وكان ذلك أول عهد العرب بهذا الداء ، الذي لم تعرفه من قبل ..
وقالوا : إن هذا الداء كان يهرى جسد من يلمّ به ، حيث يتناثر لحمه ، ويتساقط ، قطعا قطعا ، كما تتساقط الرمم المتعفنة ..
وهكذا قضى على الجيش كله ، ولم تبق منه إلا تلك الأشلاء الممزقة ، المتناثرة.
والقرآن الكريم ، لا يشير إلى هذا الداء ـ داء الجدري ـ الذي يقال إنه هو الذي هلك به أبرهة وجيشه ، وإنما يتحدث عن طير أبابيل ، رمت القوم بحجارة من سجيل ، فجعلتهم كعصف مأكول ، كما يقول سبحانه :
«أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ » وهو استفهام تقريرى تنطق به الحال المشاهدة ..والتضليل : الضياع ، والخيبة ، والبوار ..
وقوله تعالى : « وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ »..الأبابيل : الجماعات ، والأسراب التي يتبع بعضها بعضا ..
وقوله تعالى : « تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ .. ».أي أن هذه الأسراب من الطير كانت ترمى القوم بحجارة من سجيل ..
وهذه الحجارة لا يدرى حقيقتها إلا اللّه سبحانه وتعالى ، والأوصاف التي يصفها بها المفسرون والمحدّثون لا ينبغى الوقوف عندها .. وهل يسأل عن عصا موسى وكيف كانت تنقلب حية ؟ وعن يد عيسى وكيف كانت تبرئ الأكمه والأبرص ، وعن كلمته ، وكيف كانت تحيى الموتى ؟ .. إنها آيات من عند اللّه ، وآيات اللّه ، وإن لبست فى الظاهر صورا حسية ، فإن فى كيانها أسرارا لا يعلمها إلا علام الغيوب .. وهذه الطير ، هى طير ، والذي كانت تحمله وترمى يه القوم ، هو حجارة من سجيل .. أما جنس هذا الطير ، وصفته ، وأما الأحجار وصفتها فذلك ما(1/1032)
لا يعلمه إلا اللّه ، والبحث عنه رجم بالغيب .. هذا ، ويطلق الطير على كل ما طار بجناحين ، سواء أكان بعوضا ، أم ذبابا ، أم نسورا ، وعقبانا ..
والسجيل : الحجارة الصلدة ، وأصل السجيل ، الطين المطبوخ.
والعصف : الكمّ الذي يضم الحب فى كيانه ، كحب القمح ، والشعير ، ونحوه .. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : « وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ ».
والعصف المأكول : أي الذي أكل منه الحب ، وبقي هذا القشر الرقيق الذي كان يغلّقه .. ولا شك أن هذا الذي أخذ اللّه سبحانه وتعالى به هذا الطاغية الذي جاء ليهدم بيت اللّه ، هو آية من الآيات الدالة على ما لهذا البيت عند اللّه من حرمة ، وأنه بيته على هذه الأرض ، الذي كان أول بيت وضع للناس ، وسيكون آخر بيت يبقى على وجه الأرض .. وأنه لا يزول حتى تزول معالم الحياة من هذا العالم .. ثم إن وقوع هذه الآية مع مطلع ميلاد النبي ، هو آية من آيات اللّه ، على ما لرسول اللّه عند ربه من مقام كريم ، فلا ينزل سوء ببلد هو فيه .. إنه صلوات اللّه وسلامه عليه ـ رحمة حيث كان .. رحمة للناس ، وبركة على المكان والزمان .. فرحم اللّه قومه ، وأكرمهم من أجله ، فلم ينزل به ما نزل بالأقوام الضالين الذين عصوا رسلهم ، بل عافاهم اللّه سبحانه من هذا البلاء وأخذ بهم إلى طريق الهدى والإيمان. وكذلك فعل سبحانه بالبلد الحرام ، مطلع نبوته ، ومبدأ رسالته ، فحماها من كل سوء ، ودفع عنها كل مكروه .. فى ماضيها ، وحاضرها ومستقبلها ، وستبقى هكذا إلى يوم الدين ، البيت المعمور ، الذي تتجه إليه أبدا قلوب الأمة الإسلامية ووجوهها. (1)
{ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل؟ } . . وهو سؤال للتعجيب من الحادث ، والتنبيه إلى دلالته العظيمة . فالحادث كان معروفاً للعرب ومشهوراً عندهم ، حتى لقد جعلوه مبدأ تاريخ . يقولون حدث كذا عام الفيل ، وحدث كذا قبل عام الفيل بعامين ، وحدث كذا بعد عام الفيل بعشر سنوات . . والمشهور أن مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في عام الفيل ذاته . ولعل ذلك من بدائع الموافقات الإلهية المقدرة!
وإذن فلم تكن السورة للإخبار بقصة يجهلونها ، إنما كانت تذكيراً بأمر يعرفونه ، المقصود به ما وراء هذا التذكير . .
ثم أكمل القصة بعد هذا المطلع في صورة الاستفهام التقريري كذلك :{ ألم يجعل كيدهم في تضليل؟ } . . أي ألم يضل مكرهم فلا يبلغ هدفه وغايته ، شأن من يضل الطريق فلا يصل إلى ما يبتغيه . . ولعله كان بهذا يذكر قريشاً بنعمته عليهم في حماية هذا البيت وصيانته ، في
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1676)(1/1033)
الوقت الذي عجزوا هم عن الوقوف في وجه أصحاب الفيل الأقوياء . لعلهم بهذه الذكرى يستحون من جحود الله الذي تقدمت يده عليهم في ضعفهم وعجزهم ، كما يطامنون من اغترارهم بقوتهم اليوم في مواجهة محمد - صلى الله عليه وسلم - والقلة المؤمنة معه . فقد حطم الله الأقوياء حينما شاءوا الاعتداء على بيته وحرمته؛ فلعله يحطم الأقوياء الذين يقفون لرسوله ودعوته .
فأما كيف جعل كيدهم في تضليل فقد بينه في صورة وصفية رائعة : { وأرسل عليهم طيراً أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجيل . فجعلهم كعصف مأكول } . . والأبابيل : الجماعات . وسجيل كلمة فارسية مركبة من كلمتين تفيدان : حجر وطين . أو حجارة ملوثة بالطين . والعصف : الجاف من ورق الشجر . ووصفه بأنه مأكول : أي فتيت طحين! حين تأكله الحشرات وتمزقه ، أو حين يأكله الحيوان فيمضغه ويطحنه! وهي صورة حسية للتمزيق البدني بفعل هذه الأحجار التي رمتهم بها جماعات الطير .
ولا ضرورة لتأويلها بأنها تصوير لحال هلاكهم بمرض الجدري أو الحصبة .
فأما دلالة هذا الحادث والعبر المستفادة من التذكير به فكثيرة . .
وأول ما توحي به أن الله سبحانه لم يرد أن يكل حماية بيته إلى المشركين ، ولو أنهم كانوا يعتزون بهذا البيت ، ويحمونه ويحتمون به . فلما أراد أن يصونه ويحرسه ويعلن حمايته له وغيرته عليه ترك المشركين يهزمون أمام القوة المعتدية . وتدخلت القدرة سافرة لتدفع عن بيت الله الحرام ، حتى لا تتكون للمشركين يد على بيته ولا سابقة في حمايته ، بحميتهم الجاهلية . ولعل هذه الملابسة ترجح ترجيحاً قوياً أن الأمر جرى في إهلاك المعتدين مجرى السنة الخارقة لا السنة المألوفة المعهودة فهذا أنسب وأقرب . .
ولقد كان من مقتضى هذا التدخل السافر من القدرة الإلهية لحماية البيت الحرام أن تبادر قريش ويبادر العرب إلى الدخول في دين الله حينما جاءهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وألا يكون اعتزازهم بالبيت وسدانته وما صاغوا حوله من وثنية هو المانع لهم من الإسلام! وهذا التذكير بالحادث على هذا النحو هو طرف من الحملة عليهم ، والتعجيب من موقفهم العنيد!
كذلك توحي دلالة هذا الحادث بأن الله لم يقدّر لأهل الكتاب أبرهة وجنوده أن يحطموا البيت الحرام أو يسيطروا على الأرض المقدسة . حتى والشرك يدنسه ، والمشركون هم سدنته . ليبقي هذا البيت عتيقاً من سلطان المتسلطين ، مصوناً من كيد الكائدين . وليحفظ لهذه الأرض حريتها حتى تنبت فيها العقيدة الجديدة حرة طليقة ، لا يهيمن عليها سلطان ، ولا يطغى فيها طاغية ، ولا يهيمن على هذا الدين الذي جاء ليهيمن على الأديان وعلى العباد ، ويقود البشرية ولا يقاد . وكان هذا من تدبير الله لبيته ولدينه قبل أن يعلم أحد أن نبي هذا الدين قد ولد في هذا العام!(1/1034)
ونحن نستبشر بإيحاء هذه الدلالة اليوم ونطمئن ، إزاء ما نعلمه من أطماع فاجرة ماكرة ترف حول الأماكن المقدسة من الصليبية العالمية والصهيونية العالمية ، ولا تني أو تهدأ في التمهيد الخفي اللئيم لهذه الأطماع الفاجرة الماكرة . فالله الذي حمى بيته من أهل الكتاب وسدنته مشركون ، سيحفظه إن شاء الله ، ويحفظ مدينة رسوله من كيد الكائدين ومكر الماكرين!
والإيحاء الثالث هو أن العرب لم يكن لهم دور في الأرض . بل لم يكن لهم كيان . قبل الإسلام . كانوا في اليمن تحت حكم الفرس أو الحبشة . وكانت دولتهم حين تقوم هناك أحياناً تقوم تحت حماية الفرس . وفي الشمال كانت الشام تحت حكم الروم إما مباشرة وإما بقيام حكومة عربية تحت حماية الرومان .. ولم ينج إلا قلب الجزيرة من تحكم الأجانب فيه . ولكنه ظل في حالة بداوة أو في حالة تفكك لا تجعل منه قوة حقيقية في ميدان القوى العالمية . وكان يمكن أن تقوم الحروب بين القبائل أربعين سنة ، ولكن لم تكن هذه القبائل متفرقة ولا مجتمعة ذات وزن عند الدول القوية المجاورة . وما حدث في عام الفيل كان مقياساً لحقيقة هذه القوة حين تتعرض لغزو أجنبي .
وتحت راية الإسلام ولأول مرة في تاريخ العرب أصبح لهم دور عالمي يؤدونه ، وأصبحت لهم قوة دولية يحسب لها حساب . قوة جارفة تكتسح الممالك وتحطم العروش ، وتتولى قيادة البشرية ، بعد أن تزيح القيادات الجاهلية المزيفة الضالة . . ولكن الذي هيأ للعرب هذا لأول مرة في تاريخهم هو أنهم نسوا أنهم عرب! نسوا نعرة الجنس ، وعصبية العنصر ، وذكروا أنهم مسلمون . ومسلمون فقط . ورفعوا راية الإسلام ، وراية الإسلام وحدها . وحملوا عقيدة ضخمة قوية يهدونها إلى البشرية رحمة وبراً بالبشرية؛ ولم يحملوا قومية ولا عنصرية ولا عصبية . حملوا فكرة سماوية يعلمون الناس بها لا مذهباً أرضياً يخضعون الناس لسلطانه . وخرجوا من أرضهم جهاداً في سبيل الله وحده ، ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها ، ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها ، ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكمهم أنفسهم! إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعاً إلى عبادة الله وحده ، كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد : « الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام » .
عندئذ فقط كان للعرب وجود ، وكانت لهم قوة ، وكانت لهم قيادة . . ولكنها كانت كلها لله وفي سبيل الله . وقد ظلت لهم قوتهم . وظلت لهم قيادتهم ما استقاموا على الطريقة . حتى إذا انحرفوا عنها وذكروا عنصريتهم وعصبيتهم ، وتركوا راية الله ليرفعوا راية العصبية نبذتهم الأرض وداستهم الأمم ، لأن الله قد تركهم حيثما تركوه ، ونسيهم مثلما نسوه!(1/1035)
وما العرب بغير الإسلام؟ ما الفكرة التي قدموها للبشرية أو يملكون تقديمها إذا هم تخلوا عن هذه الفكرة؟ وما قيمة أمة لا تقدم للبشرية فكرة؟ إن كل أمة قادت البشرية في فترة من فترات التاريخ كانت تمثل فكرة . والأمم التي لم تكن تمثل فكرة كالتتار الذين اجتاحوا الشرق ، والبرابرة الذين اجتاحوا الدولة الرومانية في الغرب لم يستطيعوا الحياة طويلاً ، إنما ذابوا في الأمم التي فتحوها . والفكرة الوحيدة التي تقدم بها العرب للبشرية كانت هي العقيدة الإسلامية ، وهي التي رفعتهم إلى مكان القيادة ، فإذا تخلوا عنها لم تعد لهم في الأرض وظيفة ، ولم يعد لهم في التاريخ دور . . وهذا ما يجب أن يذكره العرب جيداً إذا هم أرادوا الحياة ، وأرادوا القوة ، وأرادوا القيادة . . والله الهادي من الضلال . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- تسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يلاقيه من ظلم كفار قريش .
2- دلت القصة أيضا على تكريم اللَّه للكعبة ، وإنعامه على قريش بدفع العدو عنهم ، فكان يجب عليهم المبادرة إلى الإيمان برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وعبادة اللَّه ، وشكره على نعمائه.
3- دلت الواقعة على قدرة اللَّه الصانع وعلمه وحكمته ، وعلى شرف محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه يجوز تقديم المعجزات على زمان البعثة ، تأسيسا لنبوتهم ، وإرهاصا لها ، ولذلك قالوا : كانت الغمامة تظله (2) . قال أبو حيان : كان صرف ذلك العدوّ العظيم عام مولده السعيد - صلى الله عليه وسلم - إرهاصا بنبوته إذ مجيء تلك الطيور على الوصف المنقول من خوارق العادات ، والمعجزات المتقدمة بين أيدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقد ظلل (أحبط) كيدهم ، وأهلكهم بأضعف جنوده ، وهي الطير التي ليست من عادتها أنها تقتل (3) .
4- هذا الخطاب ، وإن كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكنه عام ، أي ألم تروا ما فعلت بأصحاب الفيل ؟ أي قد رأيتم ذلك ، وعرفتم موضع منتي عليكم ، فما لكم لا تؤمنون ؟ !
5- كان إرسال الطير عليهم إرهاصا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأما بعد تقرير نبوته فلم يكن هناك حاجة إلى الإرهاص ، لذا لم يعذب الحجّاج بتخريب البيت ، ولأنه لم يكن قاصدا التخريب ، وإنما أراد شيئا آخر ، وهو قتل ابن الزبير.
6- شبه تدميرهم وإهلاكهم وصيرورتهم بعد قصف الطير بالحجارة بصورة قبيحة حقيرة ، تدل على حقارة كفرهم ، وصغار نفوسهم ، وهوانهم على اللَّه ، وتلك الصورة ورق يابس أو تبن
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3979)
(2) - تفسير الرازي : 32/ 97
(3) - البحر المحيط : 8/ 512(1/1036)
تعصف به الريح ، أكلته الدواب وراثته ، أي كفضلات البهائم ، وذلك يدل أيضا على فنائهم التام لأنه أراد تشبيه تقطيع أوصالهم بتفريق أجزاء الروث.
إلا أن هذا التشبيه جاء على منهج القرآن في أدبه الرفيع ، مثل قوله تعالى في تشبيه عيسى وأمه : كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [المائدة 5/ 75].
وإنما سلط اللَّه العذاب على أصحاب الفيل ، ولم يسلطه على كفار قريش الذين ملؤوا الكعبة أوثانا لأن أصحاب الفيل قصدوا التخريب ، وهذا تعد على حق العباد ، ووضع الأوثان فيها قصدوا به التقرب إلى اللَّه ، وهو مع ذلك تعدّ على حق اللَّه تعالى ، وحق العباد مقدّم على حق اللَّه تعالى.
- - - - - - - - - - -(1/1037)
سورة قريش
مكيّة ، وهي أربع آيات
تسميتها :
سميت سورة قريش تذكيرا لهم بنعم اللَّه عليهم في مطلع السورة : لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ...
قال ابن عاشور : " سميت هذه السورة في عهد السلف : سورة لإِيلاف قريش قال عمرو بن ميمون الأودي صلَّى عمر بن الخطاب المغربَ فقرأ في الركعة الثانية : ألم تر كيف ولإِيلاف قريش وهذا ظاهر في إرادة التسمية ، ولم يعدّها في الإِتقان } في السور التي لها أكثر من اسم .
وسميت في المصاحف وكتب التفسير ( سورة قريش ) لوقوع اسم قريش فيها ولم يقع في غيرها ، وبذلك عنونها البخاري في ( صحيحه ) .
والسورة مكية عند جماهير العلماء . وقال ابن عطية : بلا خلاف . وفي القرطبي عن الكلبي والضحاك أنها مدنية ، ولم يذكرها في ( الإِتقان ) مع السور المختلف فيها .
وقد عدت التاسعة والعشرين في عداد نزول السور ،نزلت بعد سورة التين وقبل سورة القارعة.
وهي سورة مستقلة بإجماع المسلمين على أنها سورة خاصة .
وجعلها أبيّ بن كعب مع سورة الفيل سورة واحدة ولم يفصل بينهما في مصحفه بالبسملة التي كانوا يجعلونها علامة فصل بين السور ، وهو ظاهر خبر عمرو بن ميمون عن قراءة عمر بن الخطاب . والإِجماع الواقع بعد ذلك نقض ذلك .
وعدد آياتها أربع عند جمهور العادّين . وعدها أهل مكة والمدينة خمس آيات .
ورأيت في مصحف عتيق من المصاحف المكتوبة في القيروان عددها أربع آيات مع أن قراءة أهل القيروان قراءة أهل المدينة . (1)
مناسبتها لما قبلها :
ترتبط السورة بما قبلها من وجهين :
1- كلتا السورتين تذكير بنعم اللَّه على أهل مكة ، فسورة الفيل تشتمل على إهلاك عدوهم الذي جاء لهدم البيت الحرام أساس مجدهم وعزهم ، وهذه السورة تذكر نعمة أخرى اجتماعية واقتصادية ، حيث حقق اللَّه بينهم الألفة واجتماع الكلمة ، وأكرمهم بنعمة الأمن والاستقرار ، ونعمة الغنى واليسار والإمساك بزمام الاقتصاد التجاري في الحجاز ، بالقيام برحلتين صيفا إلى الشام وشتاء إلى اليمن.
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 553)(1/1038)
2- هذه السورة شديدة الاتصال بما قبلها ، لتعلق الجار والمجرور في أولها بآخر السورة المتقدمة : لِإِيلافِ قُرَيْشٍ .. أي لإلف قريش أي أهلك اللَّه أصحاب الفيل ، لتبقى قريش ، ولذا كانتا في مصحف أبيّ سورة واحدة. ولكن في المصحف الإمام فصلت هذه السورة عن التي قبلها ، وكتب بينهما : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. (1)
وقال الخطيب :
" أشارت سورة « الفيل » إلى هذه المنّة العظيمة التي امتن بها اللّه سبحانه وتعالى على « قريش » إذ دفع عن بلدهم الحرام ، وعن بيته الحرام هذا المكروه ، وردّ عنهم هذا البلاء ، وأخذ المعتدى على حرمة هذا البيت أخذ عزيز مقتدر .. وبهذا وجدت قريش فى هذا البلد أمنها ، ووجدت فى جوار البيت الحرام حماها ، وصار لها فى قلوب العرب مكانة عالية ، وقدر عظيم ، لا يستطيع أحد أن يحدّث نفسه بسوء ينال به أحدا من أهل هذا البلد الحرام ، وقد رأى ما صنع اللّه بمن أراد به أو بأهله سوءا ..
وجاءت سورة « قريش » بعد هذا ، وكأنها تعقيب على حادثة الفيل ، ونتيجة لازمة من نتائج هذه الحادثة .. ولهذا وصل كثير من العلماء هذه السورة بسورة الفيل ، وجعل اللام فى قوله تعالى : « لِإِيلافِ قُرَيْشٍ » لام تعليل ، متعلقا بقوله تعالى « فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ».
. أي جعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش .. كما سنرى ذلك بعد .. " (2)
ما اشتملت عليه السورة :
تحدثت هذه السورة عن نعم الله الجليلة على أهل مكة ، حيث كانت لهم رحلتان : رحلة في الشتاء إلى اليمن ، ورحلة في الصيف إلى الشام من أجل التجارة ، وقد اكرم الله تعالى قريشا بنعمتين عظيمتين من نعمه الكثيرة هما : نعمة الأمن والإستقرار ، ونعمة الغنى واليسار [ فليعبدوا رب هذا البيت ، الذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف ] . (3) .
وقال ابن عاشور : " أمر قريش بتوحيد الله تعالى بالربوبية تذكيراً لهم بنعمةِ أنَّ الله مكّن لهم السير في الأرض للتجارة برحلتي الشتاء والصيف لا يخشون عادياً يعدُو عليهم .
وبأنه أمنهم من المجاعات وأمَّنهم من المخاوف لِما وقر في نفوس العرب من حرمتهم لأنهم سكان الحرَم وعُمّار الكعبة .
وبما ألهم الناس من جلب الميرة إليهم من الآفاق المجاورة كبلاد الحبشة .
__________
(1) - انظر تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 244)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1680)
(3) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 526)(1/1039)
وردِّ القبائل فلا يغير على بلدهم أحد قال تعالى : ( أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة اللَّه يكفرون ( ( العنكبوت : 67 ) فأكسبهم ذلك مهابة في نفوس الناس وعطفاً منهم ." (1)
في السورة تذكير لقريش بنعم اللّه عليهم ودعوة لهم إلى عبادته وقد روي أنها مدنية ، غير أن أسلوبها يلهم مكيتها كما أن أكثر الروايات متفقة على ذلك. (2)
فضلها وسبب نزولها :
عَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " فَضَّلَ اللَّهُ قُرَيْشًا بِسَبْعِ خِصَالٍ لَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ قَبْلَهُمْ ، وَلَا يُعْطَاهَا أَحَدٌ بَعْدَهُمْ ، فَضَّلَ اللَّهُ قُرَيْشًا : بِأَنِّي مِنْهُمْ ، وَأَنَّ النُّبُوَّةَ فِيهِمْ ، وَأَنَّ الْحِجَابَةَ فِيهِمْ ، وَأَنَّ السِّقَايَةَ فِيهِمْ ، وَنَصَرَهُمْ عَلَى الْفِيلِ ، وَعَبَدُوا اللَّهَ عَشْرَ سِنِينَ لَا يَعْبُدُهُ غَيْرُهُمْ ، وَأَنْزَلَ فِيهِمْ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ تَنْزِلْ فِي أَحَدٍ غَيْرَهُمْ " . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ (3)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 554)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 167)
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (18 / 145) (20432 ) ضعيف(1/1040)
التذكير بنعم اللَّه على قريش
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... لإِيلافِ قُرَيشٍ ... حتى تألف قريش
2 ... إِيلافِهِمْ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيفِ ... حتى تألف الرحلتين فتقيم في مكة
2 ... رِحْلَةَ الشِّتَاءِ ... تكون إلى اليمن
2 ... وَ الصَّيفِ ... إلى بلاد الشام
3 ... فَلْيَعْبُدُوا ... ليعبدوا الله شكرا على نعمتي الأمن والشبع
3 ... رَبَّ هَذَا البَيْتِ ... مالك البيت ومالك كل شيء
4 ... أَطْعَمَهُمْ مِّنْ جُوعٍ ... رزقهم ليقيموا في البيت الحرام
5 ... آمَنَهُمْ مِنْ خَوفٍ ... وجعل البيت آمنا ...
المعنى الإجمالي:
إن كانت قريش « هم أولاد النضر بن كنانة » لا يعبدون ربهم لسبب من الأسباب فليعبدوا رب هذا البيت لأنه آلفهم رحلة الشتاء والصيف للتجارة وكسب الرزق ، وكانوا بذلك أغنياء آمنين ينتقلون حيث شاءوا ، بفضل اللّه الذي جعلهم جيران بيته وخدم حجاجه لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
وللّه وحده المنة والفضل على أهل مكة حيث نجّى البيت من أبرهة لتظل لهم مكانتهم وتجارتهم مع جيرانهم ، فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم بعد جوع وفقر ، وآمنهم بعد خوف وذل.
فاللّه - سبحانه وتعالى - الذي وسع لهم في الرزق ، ومهد لهم سبيل الأمن ، وأعطاهم القبول عند الناس لأنهم أهل بيته وخدم حجاجه ، فاستطاعوا بذلك أن يجدوا قوتهم ويأمنوا على أنفسهم وتجارتهم ، وإذا كان اللّه هو صاحب الفضل في ذلك كله فليعبدوه وحده دون سواه لأنه أطعمهم بدل جوع شديد ، وآمنهم بدل خوف كثير. (1)
التفسير والبيان :
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ أي فلتعبد قريش ربها ، شكرا له ، لأجل إيلافهم (أي جعلهم يألفون ، ويسّر لهم ذلك) رحلتين : رحلة إلى اليمن شتاء
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 907)(1/1041)
لجلب العطور والبهارات الآتية من الهند والخليج ، وكونها في الشتاء لأنها بلاد حارّة ، ورحلة إلى الشام في الصيف ، لجلب الحبوب الزراعية ، وكونها في الصيف لأنها بلاد باردة ، وكانت قريش في مكة تعيش بالتجارة ، ولولا هاتان الرحلتان لم يتمكنوا من المقام بها ، ولولا الأمن بجوار البيت ، لم يقدروا على التصرف ، وكانوا لا يغار عليهم لأن العرب يقولون : قريش أهل بيت اللَّه عز وجل. وكل هذا الاحترام والإجلال لقريش أهل مكة من اللَّه عز وجل الذي هيأه لهم بواسطة البيت الحرام ، فكان عليهم الإقرار بهذه النعمة ، وإفراد اللَّه بالعبادة والتعظيم.
وصريح محمد بن إسحاق وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن هذه السورة متعلقة بما قبلها لأن المعنى عندهما : حبسنا عن مكة الفيل ، وأهلكنا أهله لإيلاف قريش ، أي لائتلافهم واجتماعهم في بلدهم آمنين.
وعلى كل حال فهاتان نعمتان : نعمة صد أصحاب الفيل ، ونعمة جوار البيت الحرام والائتلاف فيه ، فإن لم يعبدوا اللَّه لسائر نعمه ، فليعبدوه لهاتين النعمتين. وقد عرّفهم سبحانه بأنه ربّ هذا البيت ، بالرغم من أوثانهم التي يعبدونها حول الكعبة ، فميّز نفسه عنها ، وبالبيت تشرفوا على سائر العرب ، وهم يدركون هذا ويقرّون به. وكانت الإشارة إلى البيت في السورة لإفادة التعظيم.
قال الرازي رحمه اللَّه عند قوله تعالى : لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ : اعلم أن الإنعام على قسمين : أحدهما- دفع الضرر ، والثاني- جلب النفع ، والأول أهم وأقدم ، ولذلك قالوا : دفع الضرر عن النفس واجب ، أما جلب النفع ، فإنه غير واجب ، فلهذا السبب بيّن اللَّه تعالى نعمة دفع الضرر في سورة الفيل ، ونعمة جلب النفع في هذه السورة ، ونظرا لهاتين النعمتين العظيمتين أمرهم ربهم بعبادته والعبودية له وأداء الشكر على ذلك : لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (1) .
والعبادة : هي التذلل والخضوع للمعبود على غاية ما يكون ، وهي تحقق معنى العبودية.
ثم ذكر اللَّه تعالى نعما أخرى على قريش ، وصف بهما رب هذا البيت ، فقال : - الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ أي هو ربّ البيت ، وهو الذي أطعمهم من جوع ووسّع لهم في الرزق ويسّر لهم سبيله ، بسبب هاتين الرحلتين ، فخلّصهم من جوع شديد كانوا فيه قبلهما.
- وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ أي وتفضل عليهم بالأمن والاستقرار ، فليفردوه بالعبادة وحده لا شريك له ، ولا يعبدوا من دونه صنما ولا ندا ولا وثنا ، قال ابن كثير : ولهذا من استجاب لهذا الأمر ، جمع اللَّه له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة.
__________
(1) - تفسير الرازي : 32/ 107(1/1042)
ومن عصاه سلبهما منه ، كما قال تعالى : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ، يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ ، فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ. وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ ، فَكَذَّبُوهُ ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ [النحل 16/ 112- 113] (1) .
وكانت العرب يغير بعضها على بعض ، ويسبي بعضها بعضا ، فأمنت قريش كما تقدم من ذلك لمكان الحرم ، كما آمنهم من خوف الحبشة مع الفيل قال اللَّه تعالى : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً ، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ؟ [العنكبوت 29/ 67].
ومضات :
في السورة هتاف بقريش أن يعبدوا اللّه ربّ البيت الذي هم في جواره. فقد يسّر اللّه لهم ببركته الأمن من الخوف والوقاية من الجوع كما يسّر لهم رحلتي الشتاء والصيف اللتين كانوا يتهيأون لهما كل عام ويعدون لهما العدة ويجنون منهما أسباب الرخاء والرفاه ، فمن واجبهم شكر أفضاله عليهم بالإيمان وعبادته وحده.
واختصاص قريش بالذكر إما لأنهم أول من وجهت إليهم الدعوة أو لأنهم كانوا قدوة العرب بسبب جوارهم وسدانتهم للكعبة التي كانت تسمى بيت اللّه وكانت محجا للعرب أجمع والتي كان لهم بسببها المركز المحترم بين العرب ، أو لأن زعماء قريش وأثرياءهم كانوا يقفون متمردين في وجه الدعوة ويحولون دون استجابة الناس إليها ، وينالون بالأذى من قدروا عليه من المستجيبين إليها ، ومن الجائز أن يكون كل هذا مما قصد إليه بهذا الاختصاص الذي فيه شيء من التنديد كأنما يقال لهم إن عليكم بدلا من أن تفعلوا ذلك أن تكونوا أولى الناس بالاستجابة إلى دعوة اللّه شكرا على نعمته واعترافا بفضله.
ولقد كانت قريش تدرك خطورة مركزها وتدرك أنها مدينة به وبما تتمتع به من خيرات وبركات وأمن ورغد رزق للكعبة ، على ما يمكن أن تدل عليه آية سورة المائدة هذه : جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) وآية سورة القصص هذه : وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وآية سورة العنكبوت هذه : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وآيات سورة الحج هذه : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً
__________
(1) - تفسير ابن كثير : 4/ 553(1/1043)
الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28).
ولقد ظل معظم العرب من بدو وحضر منقبضين عن الدعوة إلى السنّة الهجرية الثامنة فلما يسّر اللّه سبحانه وتعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة ودخل أهلها في الإسلام أخذ الناس يدخلون في دين اللّه أفواجا على ما جاء في سورة النصر : إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) حيث يبدو من هذا أثر الموقف الذي وقفته قريش بزعامة سادتها وكبرائها وأغنيائها في سيرة الدعوة الإسلامية الذي يدل على ما كان لها من خطورة في المجتمع العربي ، وعلى هدف هذه السورة التي اختصتهم بالهتاف وذكرتهم بأفضال اللّه عليهم ونبهتهم إلى وجوب مقابلة ذلك بالشكر والاستجابة لدعوته.
ولقد تعددت الأقوال في معنى قريش واشتقاقها ، فهناك قول بأن هذا الاسم مقتبس من اسم دابة بحرية قوية تظهر في سواحل البحر الأحمر الحجازية وهي القرش. وهناك قول بأنه من التقرش بمعنى التجمع ، أو التقرش بمعنى التجارة ، وهناك قول بأن هذا الاسم أطلق على بطون قريش قبل قصي الجد الرابع للنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي اجتمعت هذه البطون تحت لوائه ، والإجماع منعقد على أن هذه القبيلة تمتّ إلى عدنان أولا ومضر ثانيا من الأجداد الأولين. وقد كان من المتداول قبل البعثة النبوية أن عدنان من أنسال إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام الذي أسكنه أبوه في وادي مكة وتزوج من جرهم إحدى قبائل العرب فيه. وإسكان إبراهيم لابنه إسماعيل في وادي مكة مشار إليه في القرآن في آية سورة إبراهيم هذه : رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37).
ولقد ذكر في الإصحاح السادس عشر من سفر التكوين المتداول اليوم وهو أول أسفار العهد القديم أن إبراهيم عليه السلام صرف إسماعيل مع أمه تلبية لطلب سارة زوجته التي غارت منهما وإن هاجر تاهت مع ابنها في برية بئر سبع ونفد الماء منها وخشيت أن يموت الصبي من العطش وبكت ورفعت صوتها فأرسل اللّه إليها ملاكا طمأنها ووعدها بأنه سيجعله أمة كبيرة وكشف لها عن بئر ماء. وأن اللّه كان مع الغلام وأمامه مع أمه في برية فاران واتخذت له أمه امرأة من أرض مصر.(1/1044)
وباستثناء الخبر الأخير فإن نفس القصة مما كان متداولا في بيئة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن جملة ذلك أن البئر الذي كشفه لها الملاك هو بئر زمزم أو ماء زمزم. وعلماء المسلمين بناء على ذلك يفسرون فاران بوادي مكة. ويوردون بعض الأدلة على صحة تفسيرهم. والنص القرآني يؤيد ذلك. وسفر التكوين وسائر الأسفار المتداولة الأخرى قد كتبت بعد موسى عليه السلام بمدة طويلة وطرأ عليها تحريفات وتشويهات متنوعة على ما سوف نشرحه في مناسبات أخرى. والواجب على المسلم أن يؤمن بما جاء في القرآن. وليس هناك أي دليل تاريخي يقيني أو أي دليل عقلي صحيح يناقضه . ونرجح إلى هذا أنه كان في أيدي اليهود أسفار ذكرت ما هو متطابق مع القرآن الكريم وضاعت كما ضاع كثير غيرها على ما سوف نشرحه كذلك في مناسبة آتية.
ومهما يكن من أمر فإن اسم قريش كان يطلق على القبيلة المسماة به قبل البعثة بمدة غير قصيرة على ما تؤيده الروايات وعلى ما يلمح في سورة قريش التي نحن في صددها.
ولقد كانت قريش قبل البعثة مؤلفة من عدة بطون ، وكان في مكة من رؤساء بطون قريش البارزة حكومة أو شبه حكومة أو حكومة شيوخ ، لكن بطن أو عشيرة مركز معين فيها ينتقل في زعماء العشيرة أو البطن جيلا بعد جيل ، ومن هذه المراكز ما هو ديني مثل سدانة الكعبة وحجابتها وسقاية الحج ورفادته (ضيافته وقراه) ومنها ما هو سياسي مثل اللواء وقيادة الجيش والسفارة ومنها ما هو اجتماعي مثل الأنساب والأشناق أي تأمين الديات التي تطلب من بطون القبيلة ،وكان بين أصحاب المراكز تضامن وتساند ، وكان لهم دار ندوة قرب الكعبة يجتمعون فيها للمداولة في مختلف شؤون القبيلة ، وقد كان هذا مع كونهم أهل حرم اللّه وسدنته وسقايته وعمارته مما جعل لهذه القبيلة خطورة واحتراما بين سائر العرب ، وسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - من أحد بطون قريش البارزة وهو بطن هاشم. وكان عمه العباس صاحب مركز هذا البطن وكان يتولى سقاية الحج أي أمر توفير المياه للحجاج في موسم الحج.
والمتبادر أن تعبير «البيت» والإشارة القريبة إليه وتذكير قريش بما كان من أفضال اللّه عليهم متصل بتلك الخطورة وإدراكها ، والتعبير يلهم أن قريشا كانوا يعتقدون أن الكعبة بيت اللّه ، والآيات التي أوردناها تلهم أن العرب كانوا يشاركون قريشا في هذه العقيدة. ويحجون الكعبة وهي المرادف القرآني للبيت على ما جاء في الآية [97] من سورة المائدة. ويحترمون حرمها وقدسيتها وأمنها على أساس هذه العقيدة. وكانت الحرمة والقدسية شاملة لجميع منطقة مكة على ما تفيده الآيات العديدة التي منها آية سورة النمل هذه : إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) ومنها آيات سورة القصص [57] وسورة العنكبوت [67] التي أوردناها آنفا. وعلى هذا فإن الكعبة وحجها كان نوعا ما مظهرا(1/1045)
لوحدة عربية دينية قبل البعثة. وقد اقتضت حكمة اللّه عز وجل أن يبقى تقليد الحج وحرمة الحرم المكي ومعظم طقوسه بعد تنقيتها من شوائب الشرك في الإسلام بسبب ذلك على ما هو المتبادر واللّه أعلم.
والكعبة غرفة مثمنة الأضلاع تقوم في وسط الحرم المكي. ولها باب مرتفع عن الأرض بنحو متر ثم يرتفع البناء إلى نحو خمسة أمتار ويقوم السقف على ستة أسطوانات مرمرية. ويبلغ مسطحها الداخلي نحو ثلاثين مترا ، والبناء الحاضر هو بناء إسلامي وقد تجدد ورمّم في الإسلام أكثر من مرة. وهو مكان بناء قديم وعلى صورته التي كان عليها قبل البعثة. وهذه الصورة ليست هي القديمة الأولى وإنما كانت تجديدا لها أيضا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته حيث تروي روايات السيرة أن البناء القديم تصدّع فهدمه القرشيون وجددوه. ومما روته هذه الروايات أن زعماء قريش اختلفوا على من يضع الحجر الأسود في ركنه المعتاد وهو حجر صواني لامع بقدر بلاطة عادية كانوا يقدسونه ويستلمونه أو يقبلونه عند الطواف حول الكعبة فحكموا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمر ، لأنه كان مشهورا عندهم بالأمانة ورجحان العقل فوضعه في رداء ، وطلب من الزعماء أن يحملوا الرداء ويرفعوه جميعا حتى إذا بلغ مستوى مكانه وضعه فيه بيده الشريفة .
وروايات المفسرين متعددة في أصل هذا الحجر حيث يذكر بعضها أن الحجر من زمن إبراهيم وبعضها أنه هدية من السماء. وليس هذا واردا في كتب الأحاديث الصحيحة. والاحتمال الأقوى أن يكون قطعة من نيزك سقط من السماء على أرض مكة فاعتبروه هدية سماوية وقدسوه ووضعوه في ركن بيت عبادتهم المقدس. وقد هدم البناء من قبل عبد اللّه بن الزبير لما أعلن خلافته في سنة 62 هـ ووسعه وأدخل فيه المقام المسمّى بحجر إبراهيم وجعل له بابين لأن هناك حديثا رواه البخاري عن عائشة قالت : «قال لي رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ألم تري أن قومك بنوا الكعبة واقتصروا عن قواعد إبراهيم. فقلت يا رسول اللّه ألا تردّها على قواعد إبراهيم قال لو لا حدثان قومك بالكفر. فقال ابن عمر لئن كانت عائشة سمعت هذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أراه ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلّا أن البيت لم يتمّم على قواعد إبراهيم».
وفي الجزء الأول من طبقات ابن سعد ورد هذا النص مع زيادة جاء فيه : «فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلم أريك ما تركوا منه فأراها قريبا من سبع أذرع في الحجر ، قالت عائشة وقال رسول اللّه : ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقا وغربا» .
ثم تصدع في زمن ابن الزبير نتيجة لضرب مكة بالمجانيق من قبل الحجاج قائد عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي الذي قاد حملة لإرغام ابن الزبير ، حيث كان يعتبر خارجا متمردا على الدولة. فلما تمت الغلبة له على ابن الزبير هدم الكعبة وأعاد بناءها إلى الصورة التي كانت(1/1046)
عليها قبيل البعثة ، ثم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - . وتصدع البناء ورمم وجدد بعد ذلك وكان يعاد إلى هذه الصورة التي هو عليها الآن.
وهناك أحاديث أخرى وردت في الكتب الخمسة في صدد الكعبة غير التي أوردناها فيها بعض الصور التي كانت وتأييد لما ذكرناه استنادا إلى الروايات. منها حديث رواه البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال : «إنّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لما قدم أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة فأمر بها فأخرجت فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم اللّه أما واللّه لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قطّ. فدخل البيت فكبّر في نواحيه» .
وحديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال : «دخل رسول اللّه البيت هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم فلما فتحوا كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسألته هل صلّى فيه رسول اللّه؟ قال : نعم بين العمودين اليمانيين وفي رواية جعل عمودا عن يساره وعمودين عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلّى» . وحديث رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي عن عائشة قالت : «كنت أحبّ أن أدخل البيت وأصلّي فيه فأخذ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بيدي فأدخلني في الحجر فقال صلّي في الحجر إن أردت دخول البيت فإنما هو قطعة من البيت فإنّ قومك اقتصروا حين بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت» . وحديث رواه الخمسة عنها قالت : «سألت رسول اللّه عن الجدار أمن البيت هو قال نعم ، قلت فلم يدخلوه في البيت قال إن قومك قصّرت بهم النفقة قلت فما شأن بابه مرتفعا ، قال فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا. ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر في البيت وأن ألزق بابه بالأرض. وفي رواية لو لا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا. باب يدخلون منه وباب يخرجون منه وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة» .
أما بناء الكعبة (البيت) وقدسيتها وجعل حرمها آمنا لا يقع فيه قتال ولا يسفك فيه دم. وحجها فالقرآن يقرر أن ذلك يرجع إلى عهد إبراهيم عليه السلام الذي يخمن وجوده في القرن الثالث والثلاثين أو الرابع والثلاثين قبل الهجرة النبوية. والقرن التاسع عشر أو العشرين قبل الميلاد المسيحي على ما تفيد آيات سورة الحج [25 - 28] التي أوردناها قبل وآيات سورة البقرة هذه : وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً(1/1047)
مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129). وآيات سورة آل عمران هذه : إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97).
والمرجح أن العرب كانوا يعتقدون ذلك قبل البعثة ويتناقلونه جيلا عن جيل ويشيرون إلى علامات موجودة في حرم الكعبة تدل عليه. وهي ما عبر عنه في آيات البقرة وآل عمران بجملة مَقامِ إِبْراهِيمَ وجملة آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ حيث كانوا يرون أثرا في حجر كبير لقدم إنسانية ويتداولون أنه الحجر الذي كان يقف عليه إبراهيم فيما كان يرفع قواعد البيت مع إسماعيل على ما ذكرته آيات البقرة وانطبع عليه أثر قدمه فسموه مقام إبراهيم ، وقد أقر القرآن التسمية وأمر المسلمين باتخاذه مصلى.
ولقد أشار ديودور الصقلي من أهل القرن الأول قبل الميلاد إلى الكعبة في سياق كلام عن الأنباط حيث قال : «ووراء أرض الأنباط بلاد فيها هيكل يحترمه العرب كافة احتراما كبيرا» وحيث يدل هذا على تقدم وجود الكعبة على زمنه بمدة طويلة وعلى ما كان لها من احترام شامل.
والقرآن يقرر أنه أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ آل عمران [96]. والمؤولون يؤولون الجملة بأنها أول بيت قام في الأرض لعبادة اللّه. ويروي المفسرون «3» في سياق ذلك روايات كثيرة عن هذه الأولية. منها أن اللّه قد خلق الكعبة قبل الأرض بألفي سنة إذ كان عرشه على الماء ودحيت الأرض من تحته. وإن اللّه بعث الملائكة فبنتها على مثال بيت لعبادتهم في السماء اسمه البيت المعمور. وإنها كانت موجودة قبل آدم أو أن آدم هو أول من بناها بأمر اللّه على مثال ذلك البيت وطاف بها. وأنها رفعت زمن الطوفان إلى السماء أو هدمت به فأمر اللّه إبراهيم وإسماعيل بإعادة بنائها في مكانها الذي كشف اللّه لهما عنه وعلى مثالها الأول.
وهناك من قال إن هذه الأولية تعني كون الكعبة أول مكان جعل للناس قبلة ومحجا وأمانا لمن يدخله أو أول بيت وضعت فيه البركة. وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة وإن كان القولان الأخيران هما على ما يتبادر الأكثر ورودا ووجاهة.
وهناك حديث رواه الشيخان والنسائي عن أبي ذر قال : «سألت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عن أول مسجد وضع في الأرض ، قال المسجد الحرام ، قلت ثم أيّ قال المسجد الأقصى ، قلت كم بينهما؟ قال أربعون عاما. ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركتك الصلاة فصلّ» . والمسجد الأقصى تسمية إسلامية والمراد بها لغة المسجد البعيد جدا. والمتفق عليه أن المقصد منها مسجد بيت المقدس ،(1/1048)
وقد قام على أنقاض معبد اليهود القديم الذي دمره الرومان في القرن الأول بعد الميلاد . ولم يكن مسجد قائم في مكانه حينما نزل القرآن فتكون التسمية على اعتبار ما كان قبل وبعد. والمعروف المتداول أن الذي أنشأ ذلك المعبد هو سليمان بن داود عليهما السلام الذي عاش على وجه التخمين القريب في القرن العاشر قبل الميلاد أي بعد الزمن الذي يخمن أن إبراهيم عاش فيه بألف عام. وهذا يثير إشكالا بالنسبة للحديث كما هو المتبادر. ويزداد هذا الإشكال بحديث رواه النسائي عن عبد اللّه بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «إن سليمان بن داود عليهما السلام لمّا بنى بيت المقدس سأل اللّه عزّ وجلّ خلالا ثلاثة حكما يصادف حكمه فأوتيه. وملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه وسأل اللّه تعالى حين فرغ من بنائه ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمّه» «4» حيث ينطوي في الحديث خبر نبوي بأن الذي بنى المسجد هو سليمان عليه السلام لأن الفقرة الثالثة قوية الدلالة على أن المراد بها هو المسجد.
ولقد حاول ابن القيم في كتابه زاد المعاد أن يحلّ الإشكال فقال إن المستشكلين لا يعرفون أن سليمان ليس هو الباني الأول للمسجد وإنما هو مجدد له وأن الباني الأول هو يعقوب حفيد إبراهيم عليهما السلام وتكون المسافة بين الجد وحفيده صحيحة كما في الحديث. ولم يذكر ابن القيم من أين استقى هذا والراجح أنه قرأ سفر التكوين المتداول اليوم. وفي الإصحاح (33) من هذا السفر خبر بناء يعقوب مذبحا للرب وأنه دعاه باسم القدير إله إسرائيل في قطعة حقل اشتراها عند شليم مدينة أهل شليم ، وشليم هذه كانت عاصمة ملك اسمه ملكيصادق على ما جاء في الإصحاح (14) من السفر المذكور. وشراح الأسفار يراوحون الظن في شليم بين أن تكون مدينة أورشليم التي عرفت باسم بيت المقدس أو مدينة يقوم مكانها اليوم قرية اسمها سالم قريبة من نابلس. والظاهر أن ابن القيم رجح الظن الأول واعتبر يعقوب هو المنشئ الأول لمسجد بيت المقدس الذي سمي في القرآن والحديث المسجد الأقصى.
وعلى كل حال فإن من واجب المسلم الإيمان بكل ما يثبت صدوره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا يشمل حديث أبي ذر إذا كان صادرا يقينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس فيه ما يمنع ذلك. وليس هناك من دليل تاريخي يقيني وعقلي صحيح ينفي ما جاء فيه.
وفيه تساوق مع كلام اللّه الذي يقرر السبق والأولوية للبيت. ومن الحكمة التي قد تلمح فيه بالإضافة إلى ذلك توكيد فضل البيت الذي صار حجه واستقباله في الصلاة من أركان دين المسلمين وصلاتهم على كل بيت آخر من بيوت اللّه تعالى.
ولقد روى الشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في سواه ، إلّا المسجد الحرام» . وفي رواية ابن ماجه :(1/1049)
«وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه» مما فيه توكيد لذلك الفضل الذي تلمح حكمة توكيده في الحديث الأول ، واللّه تعالى أعلم.
وهناك أحاديث وروايات وشروح أخرى متصلة بظروف وكيفية بناء الكعبة لأول مرة من قبل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وبمناسك الحج جاءت في سياق آيات أخرى في سور أخرى فرأينا أن نؤجلها إلى مناسباتها.
وجملة وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ تعني ما كان يتمتع به أهل مكة من أمن بسبب وجود بيت اللّه في مدينتهم. وهو ما ذكر في آيات القصص [67] والنمل [91] والبقرة [125 - 129] وآل عمران [97] التي قرر بعضها أن هذا الأمن كان من لدن إبراهيم عليه السلام حين أنشأ الكعبة حيث دعا اللّه بأن يجعل البلد آمنا. وقد جاء هذا الدعاء أيضا في آية سورة إبراهيم هذه : وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35). ولقد كان من مظاهر هذا الأمن أن كل إنسان يكون فيه آمنا على دمه وماله من غيره مهما كان بينه وبين هذا الغير من عداء وإحن وثارات وسواء أكان من أهل مكة أم غريبا عنها. وكان لمكة أو لما كان يسمى الحرم حدود معينة تشمل جميع منطقة مكة إلى مسافة أميال من جميع جوانبها. ولقد كان زعماء مكة يدركون في قرارة أنفسهم أن رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - حق وهدى ولكنهم كانوا يخافون أن تنسف هذا التقليد الذي كانوا يتمتعون في ظله بالأمن والرفاه فيما تنسفه من عادات جاهلية فقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما حكته عنه آية القصص [57] : وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا وقد طمأنتهم الآية على ذلك إذ قالت : أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ القصص [57] لأن حكمة اللّه اقتضت أن تبقى معظم تقاليد الحج ومن جملته أمن مكة بسبب وجود بيت اللّه فيها على ما ذكرناه قبل قليل. ولقد أشارت آية في سورة العنكبوت إلى نفس المعنى الذي أشارت إليه هذه الجملة من آية القصص وهي : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67).
ولقد وقعت بعض الأحداث التي اعتدي فيها على بعض الناس في حرم مكة أي أخل بها في تقليد أمن الحرم فنشبت بسبب ذلك وبسبيل تأديب المخلّين حروب عرفت بحروب الفجار أو أيام الفجار وسميت بهذا الاسم لأنها وقعت في منطقة حرم مكة وفي الأشهر الحرم وقد شهد أحد الأيام رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مع أعمامه وكان ينبل عليهم أي يرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها على ما رواه ابن هشام عن أبي عبيدة النحوي عن أبي عمرو بن العلاء . وقد روى ابن هشام رواية أخرى في حادث متصل بأمن مكة شهده رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - جاء فيها أن بني هاشم وبني عبد المطلب وبني أسد بن عبد العزى وبني زهرة بن كلاب وبني تميم بن مرة اجتمعوا في دار عبد(1/1050)
اللّه بن جدعان فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلّا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته وسمّوا حلفهم هذا حلف الفضول. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن شهد هذا الحدث. وقد روى ابن هشام هذه الرواية عن زياد بن عبد اللّه البكائي عن محمد بن اسحق. وأورد في سياقها حديثا عن محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبد اللّه بن عوف الزهري يقول : «قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لقد شهدت في دار عبد اللّه بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم. ولو أدعى به في الإسلام لأجبت» .
وهناك أحاديث نبوية عديدة صحيحة في حرمة بيت اللّه ومكة التي هو فيها.
من ذلك ما جاء في حديث رواه مسلم وأبو داود عن جابر بن عبد اللّه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :«إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» . وحديث رواه الخمسة عن أبي هريرة عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «إنّ اللّه عزّ وجلّ حبس عن مكة الفيل وسلّط عليها رسوله والمؤمنين. ألا وإنها لم تحلّ لأحد قبلي ولن تحلّ لأحد بعدي. ألا وإنها أحلّت لي ساعة من النهار. ألا وإنها ساعتي هذه حرام. لا يخبط شوكها ولا يعضد شجرها وزاد في رواية ولا ينفّر صيدها ولا يلتقط ساقطتها إلّا منشد». وحديث رواه الشيخان عن ابن عباس عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - :
«إنّ هذا البلد حرّمه اللّه يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة» وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي شريح العدوي عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «إنّ مكة حرّمها اللّه ولم يحرّمها الناس فلا يحلّ لامرئ يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة. فإن أحد ترخّص بقتال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فيها فقولوا له إنّ اللّه أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنّما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلّغ الشاهد الغائب» .
ورحلتا الشتاء والصيف هما رحلتان تجاريتان كان القرشيون يقومون بهما :
واحدة إلى اليمن جنوبا في الشتاء ، وأخرى إلى الشام شمالا في الصيف. وكانوا يصلون إلى بلاد الصومال والحبشة في رحلة الجنوب وإلى فلسطين ومصر وربما إلى بلاد العراق وفارس في رحلة الشمال على ما ذكرته الروايات العربية ، وأشارت إلى شيء منه آيات سورة الصافات هذه في معرض ذكر مساكن قوم لوط التي كانت في تخوم فلسطين : وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) وكانت هذه الرحلات وسائل عظيمة لتنمية ثروة القرشيين واكتسابهم المهارة التجارية واقتباسهم كثيرا من(1/1051)
معارف العالم المتحضر الذي كان يحيط بالجزيرة ووسائل حضارته ومعيشته. وكانت مواسم الحج والأسواق التي كانت تقام فيها مجالا واسعا لأعمالهم التجارية أيضا فضلا عما كان يعقد في هذه المواسم والأسواق من مجالس قضائية وندوات شعرية وخطابية يشهدها وفود من مختلف أنحاء جزيرة العرب وأطرافها التي كان ينتشر فيها العرب ويقوم لهم فيها ممالك ، ونعني بلاد الشام حيث كان فيها مملكة الغساسنة وبلاد العراق حيث كان فيها مملكة المناذرة أو اللخميين. وكل هذا مما جعل كذلك لقريش خطورتهم واحترامهم ومما ساعدهم على الاستنارة والتفوق الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
فالدعوة المحمدية انبثقت في هذا الوسط الذي كانت له زعامة موطدة وخطورة مفروضة وحرمات محترمة ومصالح متنوعة في الحجاز بنوع خاص ، وفي خارجها بنوع عام. وقد توهم الزعماء في هذه الدعوة تهديدا لزعامتهم وخطورتهم ومصالحهم وحرماتهم ، فكان منهم المواقف المناوئة التي حكت فصول القرآن عنها الشيء الكثير فاقتضت حكمة التنزيل توجيه الهتاف في هذه السورة إلى قريش وزعمائهم في الجملة للكف عنها وشكر اللّه على نعمه وأفضاله التي يسّرها لهم والاستجابة لدعوته وعبادته بدلا منها. (1)
الإيلاف : من التأليف ، والجمع ، فى تجانس وألفة ، ومودة ..
فقوله تعالى : « لِإِيلافِ قُرَيْشٍ » أي لأجل أن تألف قريش رحلة الشتاء والصيف ، ولكى تعتاد تنظيم حياتها على هاتين الرحلتين ـ كان هذا الذي صنعه اللّه بهذا العدوّ صاحب الفيل ، الذي جاء يبغى إزعاجهم عن البلد الحرام ، ونزع ما فى القلوب من مكانة لهم ، وتعظيم لشأنهم ، باعتبارهم سدنة البيت الحرام الذي كانت تعظمه العرب ، وتعظم ساكنيه .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ » (25 : الحج).
وقوله تعالى : « إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ ».. هو بدل من قوله تعالى : « لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ». . أي لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، كان هذا الذي فعلناه بهذا العدو المغير الذي جاء يزعج أهل هذا البلد الآمن .. فكانوا فى رحلتيهم التجاربتين ، فى الشتاء والصيف ، فى أمن وسلام ، لا يعرض لهم أحد « بسوء ، فحيث نزلوا وجدوا الألفة والمودة من كل من يلقاهم ، ويعرف أنهم أهل هذا البلد الحرام ..
فقوله تعالى : « رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ » مفعول به للمصدر « إيلافهم ».
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 167)(1/1052)
وقد كان لقريش رحلتان للتجارة .. رحلة فى الشتاء ، إلى اليمين ، ورحلة فى الصيف ، إلى الشام ..
والذي يعرف الحياة الجاهلية ، وما كان يعرض للمسافرين فى طرقها وشعابها من أخطار ، وما يترصدهم على طريقهم من المغيرين وقطاع الطرق ، يدرك قيمة هذا الأمن الذي كان يصحب قريشا فى قوافلها المتجهة إلى اليمن أو الشام ، محملة بالأمتعة ، والبضائع ، دون أن يعرض لها أحد .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : «أَ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ » (67 : العنكبوت) ولهذا جاء قوله تعالى : « فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ » ـ جاء تعقيبا على هذه النعمة العظيمة التي أنعمها اللّه على قريش ، وجعل من حقّ شكرها أن يعبدوا رب هذا البيت ، فهو ـ سبحانه ـ الذي حفظه لهم مما كان يراد به من سوء ، وحفظ عليهم أمنهم وسلامتهم فيه .. فلقد أطعمهم اللّه سبحانه من جوع ، بما فتح لهم من طرق آمنة يغدون فيها ويروحون بتجاراتهم ، وألبسهم لباس الأمن حيث كانوا ، داخل هذا البلد الحرام أو خارجه .. وإنه لا أجلّ من نعمة الأمن بجده الإنسان وسط غابة ، تزأر فيها الأسود ، وتعوى الذئاب! وفى إضافة البيت إلى اللّه سبحانه وتعالى ، تشريف لهذا البيت ، ورفع لقدره وتنوبه به ..
فاللّه سبحانه وتعالى ، هو رب هذا البيت ، ورب كلّ شىء فى هذا الوجود ، ولكن إضافة هذا البيت وحده إلى ربوبيته سبحانه وتعالى ، تجعل لهذا البيت شأنا غير شأن عوالم المخلوقات كلّها .. فهل يعرف المشركون قدر هذا البيت ؟
وهل يحفظون حرمته ، ويرعونها حق رعايتها ؟
وقد أشرنا من قبل ـ فى تفسير سورة القدر ـ إلى أن اللّه سبحانه وتعالى لم يضف إلى ذاته سبحانه فى مقام القسم ـ من عالم البشر غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأن هذه الإضافة ، تضع النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ فى كفة ، وعالم المخلوقات كلها فى كفة ، وأن كفته ترجح كفة المخلوقات جميعها ، فى سمائها وأرضها ، وما فى سمائها وأرضها.
ونقول هنا ، إن اللّه سبحانه لم يضف إلى ذاته الكريمة ـ فى مقام الربوبية ـ بيتا ، غير هذا البيت الحرام ..َبَّ هذَا الْبَيْتِ » .. وهذا يعنى أن هذا البيت ، يرجح فى ميزانه بيوت اللّه جميعها. (1)
استجاب الله دعوة خليله إبراهيم ، وهو يتوجه إليه عقب بناء البيت وتطهيره : { رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات } فجعل هذا البيت آمناً ، وجعله عتيقاً من سلطة المتسلطين
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1681)(1/1053)
وجبروت الجبارين؛ وجعل من يأوي إليه آمناً والمخافة من حوله في كل مكان . . حتى حين انحرف الناس وأشركوا بربهم وعبدوا معه الأصنام . . لأمر يريده سبحانه بهذا البيت الحرام .
ولما توجه أصحاب الفيل لهدمه كان من أمرهم ما كان ، مما فصلته سورة الفيل ، وحفظ الله للبيت أمنه ، وصان حرمته؛ وكان مَنْ حوله كما قال الله فيهم : { أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم؟ } وقد كان لحادث الفيل أثر مضاعف في زيادة حرمة البيت عند العرب في جميع أنحاء الجزيرة ، وزيادة مكانة أهله وسدنته من قريش ، مما ساعدهم على أن يسيروا في الأرض آمنين ، حيثما حلوا وجدوا الكرامة والرعاية ، وشجعهم على إنشاء خطين عظيمين من خطوط التجارة عن طريق القوافل إلى اليمن في الجنوب ، وإلى الشام في الشمال . وإلى تنظيم رحلتين تجاريتين ضخمتين : إحداهما إلى اليمن في الشتاء ، والثانية إلى الشام في الصيف .
ومع ما كانت عليه حالة الأمن في شعاب الجزيرة من سوء؛ وعلى ما كان شائعاً من غارات السلب والنهب ، فإن حرمة البيت في أنحاء الجزيرة قد كفلت لجيرته الأمن والسلامة في هذه التجارة المغرية ، وجعلت لقريش بصفة خاصة ميزة ظاهرة؛ وفتحت أمامها أبواب الرزق الواسع المكفول ، في أمان وسلام وطمأنينة . وألفت نفوسهم هاتين الرحلتين الآمنتين الرابحتين ، فصارتا لهم عادة وإلفاً!
هذه هي المنة التي يذكرهم الله بها بعد البعثة كما ذكرهم منة حادث الفيل في السورة السابقة ، منة إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف ، ومنة الرزق الذي أفاضه عليهم بهاتين الرحلتين وبلادهم قفرة جفرة وهم طاعمون هانئون من فضل الله . . ومنة أمنهم الخوف . سواء في عقر دارهم بجوار بيت الله ، أم في أسفارهم وترحالهم في رعاية حرمة البيت التي فرضها الله وحرسها من كل اعتداء .
يذكرهم بهذه المنن ليستحيوا مما هم فيه من عبادة غير الله معه؛ وهو رب هذا البيت الذي يعيشون في جواره آمنين طاعمين؛ ويسيرون باسمه مرعيين ويعودون سالمين . .
يقول لهم : من أجل إيلاف قريش : رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي كفل لهم الأمن فجعل نفوسهم تألف الرحلة ، وتنال من ورائها ما تنال { فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع } . . وكان الأصل بحسب حالة أرضهم أن يجوعوا ، فأطعمهم الله وأشبعهم من هذا الجوع { وآمنهم من خوف } . . وكان الأصل بحسب ما هم فيه من ضعف وبحسب حالة البيئة من حولهم أن يكونوا في خوف فآمنهم من هذا الخوف!
وهو تذكير يستجيش الحياء في النفوس .(1/1054)
ويثير الخجل في القلوب . وما كانت قريش تجهل قيمة البيت وأثر حرمته في حياتها . وما كانت في ساعة الشدة والكربة تلجأ إلا إلى رب هذا البيت وحده . وها هو ذا عبد المطلب لا يواجه أبرهة بجيش ولا قوة . إنما يواجهه برب هذا البيت الذي يتولى حماية بيته! لم يواجهه بصنم ولا وثن ، ولم يقل له . . إن الآلهة ستحمي بيتها . إنما قال له : « أنا رب الإبل وإن للبيت رباً سيمنعه » . . ولكن انحراف الجاهلية لا يقف عند منطق ، ولا يثوب إلى حق ، ولا يرجع إلى معقول .
وهذه السورة تبدو امتداداً لسورة الفيل قبلها من ناحية موضوعها وجوها . وإن كانت سورة مستقلة مبدوءة بالبسملة ، والروايات تذكر أنه يفصل بين نزول سورة الفيل وسورة قريش تسع سور . ولكن ترتبيهما في المصحف متواليتين يتفق مع موضوعهما القريب . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- مظاهر تدبير الله تعالى وحكمته ورحمته فسبحانه من إله حكيم رحيم .
2- بيان إفضال الله تعالى على قريش وإنعامه عليها الأمر الذي تطلّب شكرها ولم تشكر فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بتركها للشكر .
3- وجوب عبادة الله تعالى وترك عبادة من سواه .
4- وجوب الشكر على النعم وشكرها حمدا لله تعالى عليها والثناء عليه بها وصرفها في مرضاته .
5- الإطعام من الجوع والتأمين من الخوف عليهما مدار كامل أجهزة الدولة فأرقى الدول اليوم وقبل اليوم لم تستطع أن تحقق لشعوبها هاتين النعمتين نعمة العيش الرغد والأمن التام .
6-أمر اللَّه تعالى في هذه السورة قريشا وهم أولاد النضر بن كنانة بعبادة وتوحيد ربهم الذي أنعم عليهم بهذه النعم الكثيرة ومنها :
ا- إهلاك أصحاب الفيل وصدهم عن مكة ، كما أهلكوا أيضا لأجل كفرهم ، وفي هذا دفع لضرر عظيم مؤكد الحصول لولا عناية اللَّه وحمايته ، وتوفير أيضا للأمن والسلامة والاطمئنان بجوار البيت الحرام.
ب- نعمة الرزق وتوفير الحاجة والكفاية بسبب ارتحالهم إلى اليمن شتاء وإلى الشام صيفا لجلب مختلف أنواع التجارات من الأطعمة والثياب ، مع أمنهم من إغارة العرب عليهم لأنهم أهل بيت اللَّه وجبرانه.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3983)(1/1055)
ت- نعمة الأمن من المخاوف ، سواء في داخل مكة حيث جعل اللَّه لهم مكة بلدا آمنا ، ويتخطف الناس من حولهم ، أو في خارجها عند ما يتنقلون للتجارة والكسب.
والكسب.
ث- نعمة وجود البيت الحرام أو الكعبة المشرفة محل التعظيم والتقديس من العرب ، وأساس مجدهم وعزهم ، فإنهم شرّفوا بالبيت على سائر العرب ، فذكّرهم اللَّه بهذه النعمة.
والخلاصة : إن نعم اللَّه عليهم لا تحصى ، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه ، فليعبدوه لهذه النعمة الظاهرة وهي إيلافهم رحلتين.
عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ، إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ " وَيْحَكُمْ يَا قُرَيْشُ ، اعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَكُمْ مِنْ جُوعٍ،وَآمَنَكُمْ مِنْ خَوْفٍ" (1) .
وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ ، قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ ( وَيْلُ أُمِّكُمْ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ ، رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ) (2)
واستدل الإمام مالك بالسورة على أن الزمان قسمان : شتاء وصيف ، ولم يجعل لهما ثالثا ، فالشتاء نصف السنة ، والصيف نصفها.
واستدل العلماء بهذا أيضا على جواز تصرف الرجل في الزمانين بين محلّين ، يكون حالهما في كل زمان أنعم من الآخر ، كالجلوس في المجلس البحري في الصيف ، وفي القبلي في الشتاء ، وفي اتخاذ أدوات التبريد صيفا ، ووسائل الدفء شتاء.
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - مُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (27607 ) حسن
(2) - فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِلْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ (573 ) والْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ ( 19112) ضعيف(1/1056)
سورة الماعون
مكيّة ، وهي سبع آيات
مكيتها أو مدنيتها :
هذه السورة مكية في قول الجمهور ، مدنية في قول ابن عباس وقتادة ، وقال هبة اللَّه المفسر الضرير : نزل نصفها بمكة في العاصي بن وائل ، ونصفها بالمدينة في عبد اللَّه بن أبي المنافق.
وقال ابن عاشور :
" سميت هذه السورة في كثير من المصاحف وكتب التفسير ( سورة الماعون ) لورود لفظ الماعون فيها دون غيرها .
وسميت في بعض التفاسير ( سورة أرأيت ) وكذلك في مصحف من مصاحف القيروان في القرن الخامس ، وكذلك عنونها في ( صحيح البخاري ) .
وعنونها ابن عطية ب ( سورة أرأيتَ الذي ) . وقال الكَواشي في ( التلخيص ) ( سورة الماعون والدين وأرأيت ) ، وفي ( الإِتقان ) : وتسمى ( سورة الدين ) وفي ( حاشيتي الخفاجي وسَعدي ) تسمى ( سورة التكذيب ) وقال البِقاعي في ( نظم الدرر ) تسمى ( سورة اليتيم ) . وهذه ستة أسماء .
وهي مكية في قول الأكثر . وروي عن ابن عباس ، وقال القرطبي عن قتادة : هي مدنية . وروي عن ابن عباس أيضاً . وفي ( الإِتقان ) : قيل نزل ثلاثٌ أولها بمكة إلى قوله : ( المسكين ( ( الماعون : 3 ) وبقيتها نزلت بالمدينة ، أي بناء على أن قوله : ( فويل للمصلين ( ( الماعون : 4 ) إلى آخر السورة أريد به المنافقون وهو مروي عن ابن عباس وقاله هبة الله الضرير وهو الأظهر .
وعدت السابعة عشرة في عداد نزول السور بناء على أنها مكية ، نزلت بعد سورة التكاثر وقبل سورة الكافرون . (1)
تسميتها :
سميت سورة الماعون ، لأن اللَّه تعالى ذم في نهايتها المدنية الذين يمنعون الماعون : وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ [7] كالساهين عن الصلاة ، والمنافقين.
والماعون : ما يستعيره الجار من جاره من أدوات الطبخ ، كالقدر والملح والماء ، وآلات الحراثة والزرع ، كالفأس والدلو ، ووسائل الخياطة كالإبرة والخيط ونحو ذلك من كل ما
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 563)(1/1057)
يستعان وينتفع به من المنافع السريعة. وتسمى أيضا سورة الدّين للنعي في مطلعها المكي على الذي يكذب بالدّين ، أي الجزاء الأخروي.
مناسبتها لما قبلها :
ترتبط السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة :
1- ذم اللَّه في السورة السابقة سورة قريش الجاحدين لنعمة اللَّه
الذين أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وذم في هذه السورة من لم يحضّ على طعام المسكين.
2- أمر اللَّه في السورة المتقدمة بعبادته وحده وتوحيده : لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
و ذم في هذه السورة الذين هم عن صلاتهم ساهون ، وينهون عن الصلاة.
3- عدّد اللَّه تعالى في السورة الأولى نعمه على قريش ، وهم مع ذلك ينكرون البعث ، ويجحدون الجزاء في الآخرة ، وأتبعه هنا بتهديدهم وتخويفهم من عذابه لإنكار الدّين ، أي الجزاء الأخروي. (1)
وقال الخطيب : " جاء فى سورة « قريش » تنويه عظيم بشأن الشّبع من الجوع ، والأمن من الخوف ، حيث لا حياة بغير طعام ، ولا طعم لحياة بغير أمن! وجاءت سورة « الماعون » لتضرب ـ والحديد ساخن ـ كما يقولون ـ على أوتار هذه القلوب الجافية ، ولتهزّ تلك المشاعر الجامدة ، التي عرفت طعم الشّبع بعد الجوع ، وذاقت هناءة الأمن بعد الخوف ، حتى تندّ بالمعروف ، وتسخو بالخير ، قبل أن تنسى لذعة الجوع ، ورعدة الخوف. " (2)
ما اشتملت عليه السورة :
* هذه السورة مكية ، وقد تحدثت بأيجاز عن فريقين من البشر هما :
أ - الكافر الجاحد لنعم الله ، المكذب بيوم الحساب والجزاء .
ب - المنافق الذي لا يقصد بعمله وجه الهل ، بل يرائي في أعماله وصلاته.
* أما الفريق الأول : فقد ذكر تعالى من صفاتهم الذميمة ، أنهم يهينون اليتيم ويزجرونه ، غلظة لا تأديبا ، ولا يفعلون الخير ، حتى ولو بالتذكير بحق المسكين والفقير ، فلا هم أحسنوا في عبادة ربهم ، ولا أحسنوا إلى خلقه [ أرأيت الذي يكذب بالدين ؟ فذلك الذي يدع اليتيم . ولا يحض على طعام المسكين . . ] الأيات.
* وأما الفريق الثاني : فهم المنافقون ، الغافلون عن صلاتهم ، الذين لا يؤدونها في أوقاتها ، والذين يقومون بها " صورة " لا (معنى) المراءون بأعمالهم ، وقد توعدت الفريقين بالويل
__________
(1) - انظر تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 247)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1683)(1/1058)
والهلإلي ، وشنعت عليهم أعظم تشنيع ، بأسلوب الاستغراب والتعجيب من ذلك الصنيع ! ! . (فويل للمصلين . الذين هم عن صلاتهم ساهون . الذين هم يراءون ويمنعون الماعون) (1)
من مقاصدها التعجيب من حال من كذبوا بالبعث وتفظيع أعمالهم من الاعتداء على الضعيف واحتقاره والإِمساك عن إطعام المسكين ، والإِعراض عن قواعد الإِسلام من الصلاة والزكاة لأنه لا يخطر بباله أن يكون في فعله ذلك ما يجلب له غضب الله وعقابه . (2)
تضمنت السورة نعيا وتنديدا بالذين يكذبون بالآخرة ويقسون على اليتيم ويحرمون المسكين من الطعام ويراؤون في صلاتهم وأعمالهم ويمنعون ماعونهم عن ذوي الحاجة إليه ، وقد روي أن السورة مدنية كما روي أن آياتها الثلاث الأخيرة فقط هي مدنية. ومع احتمال صحة الرواية الأخيرة استلهاما من مضمون الآيات ، فإننا نميل إلى ترجيح كونها مكية جميعها وكونها عرضا عاما لأهداف الدعوة. (3)
هذه السورة مكية في بعض الروايات ، ومكية مدنية في بعض الروايات ( الثلاث الآيات الأولى مكية والباقيات مدنية ) وهذه الأخيرة هي الأرجح . وإن كانت السورة كلها وحدة متماسكة ، ذات اتجاه واحد ، لتقرير حقيقة كلية من حقائق هذه العقيدة ، مما يكاد يميل بنا إلى اعتبارها مدنية كلها ، إذ إن الموضوع الذي تعالجه هو من موضوعات القرآن المدني وهو في جملته يمت إلى النفاق والرياء مما لم يكن معروفاً في الجماعة المسلمة في مكة . ولكن قبول الروايات القائلة بأنها مكية مدنية لا يمتنع لاحتمال تنزيل الآيات الأربع الأخيرة في المدينة وإلحاقها بالآيات الثلاث الأولى لمناسبة التشابه والاتصال في الموضوع . . وحسبنا هذا لنخلص إلى موضوع السورة وإلى الحقيقة الكبيرة التي تعالجها . .
إن هذه السورة الصغيرة ذات الآيات السبع القصيرة تعالج حقيقة ضخمة تكاد تبدل المفهوم السائد للإيمان والكفر تبديلاً كاملاً . فوق ما تطلع به على النفس من حقيقة باهرة لطبيعة هذه العقيدة ، وللخير الهائل العظيم المكنون فيها لهذه البشرية ، وللرحمة السابغة التي أرادها الله للبشر وهو يبعث إليهم بهذه الرسالة الأخيرة . .
إن هذا الدين ليس دين مظاهر وطقوس؛ ولا تغني فيه مظاهر العبادات والشعائر ، ما لم تكن صادرة عن إخلاص لله وتجرده ، مؤدية بسبب هذا الإخلاص إلى آثار في القلب تدفع إلى العمل الصالح ، وتتمثل في سلوك تصلح به حياة الناس في هذه الأرض وترقى .
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 527)
(2) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 564)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 18)(1/1059)
كذلك ليس هذا الدين أجزاء وتفاريق موزعة منفصلة ، يؤدي منها الإنسان ما يشاء ، ويدع منها ما يشاء . . إنما هو منهج متكامل ، تتعاون عباداته وشعائره ، وتكاليفه الفردية والاجتماعية ، حيث تنتهي كلها إلى غاية تعود كلها على البشر . . غاية تتطهر معها القلوب ، وتصلح الحياة ، ويتعاون الناس ويتكافلون في الخير والصلاح والنماء . . وتتمثل فيها رحمة الله السابغة بالعباد
ولقد يقول الإنسان بلسانه : إنه مسلم وإنه مصدق بهذا الدين وقضاياه . وقد يصلي ، وقد يؤدي شعائر أخرى غير الصلاة ولكن حقيقة الإيمان وحقيقة التصديق بالدين تظل بعيدة عنه ويظل بعيداً عنها ، لأن لهذه الحقيقة علامات تدل على وجودها وتحققها . وما لم توجد هذه العلامات فلا إيمان ولا تصديق مهما قال اللسان ، ومهما تعبد الإنسان!
إن حقيقة الإيمان حين تستقر في القلب تتحرك من فورها ( كما قلنا في سورة العصر ) لكي تحقق ذاتها في عمل صالح . فإذا لم تتخذ هذه الحركة فهذا دليل على عدم وجودها أصلاً . (1)
سبب نزول الآية 4 فما بعدها :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا، وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف: 110]، أُنْزِلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَ اللهِ غَيْرَهُ وَلَيْسَتْ هَذِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ، فِي قَوْلِهِ: { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } [الماعون: 5] هُمُ الْمُنَافِقُونَ كَانُوا يُرَاؤُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِصَلَاتِهِمْ إِذَا حَضَرُوا وَيَتْرُكُونَهَا إِذَا غَابُوا، وَيَمْنَعُونَهُمُ الْعَارِيَةَ بِغَضِّهِ لَهُمْ وَهِيَ الْمَاعُونُ " . (2)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3984)
(2) - شعب الإيمان - (9 / 171) (6437 ) حسن(1/1060)
الكافر المنكر الجزاء الأخروي والمنافق المرائي بعمله وعقاب كل منهما
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... أَرَأَيْتَ ... هل عرفت
1 ... يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ... يجحد الجزاء لانكاره البعث
2 ... يَدُعُّ ... يدفع
2 ... يَدُعُّ اليَتِيمَ ... يقهره ويظلمه حقه
3 ... وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ ... لا يحث نفسه ولا غيره
3 ... المِسْكِينِ ... الذي ليس له ما يكفيه
4 ... فَوَيلٌ ... العذاب الشديد
5 ... سَاهُونَ ... يؤخرون الصلاة عن وقتها
6 ... يُرَاءُونَ ... لا يخلصون في عبادتهم لله تعالى
6 ... يَمْنَعُونَ ... لا يعطون
6 ... المَاعُونَ ... الزكاة ، الماء ، ما ينتفع به من متاع البيت
المعنى الإجمالي:
أرأيت الذي يكذب بالدين ؟ أخبرنى عنه من هو ؟ فإن الواجب على المتدين أن يعرفه على حقيقته حتى يبتعد عنه لا عن صفاته ؟ فالاستفهام أريد به تشويق السامع ليعرف ما بعده ، وللإشارة إلى أن هذا الأمر خفى! وكل يدعى أنه مصدق بيوم الدين ، هل عرفت من هو المكذب بالدين ؟ إن لم تكن عرفته فذلك هو : الذي يدع اليتيم ، ويدفعه دفعا عنيفا ويزجره زجرا شديدا عن حقه في ماله إن كان له مال ، أو عن حقه في الصدقة إن كان فقيرا ، وهو الذي لا يحض على إطعام المساكين ، وإذا كان لا يحث عليه فمن باب أولى لا يطعم هو ، وانظر إلى علامة المكذب بيوم الدين التي ذكرها القرآن :
منع الحقوق وإيذاء الضعفاء ، والبخل الشديد على المستحقين ، إذا عرفت ذلك فويل وهلاك للمصلين الذين هم عن صلاتهم غافلون ، الذين يصلون صلاتهم بدون خشوع وخضوع ، وبدون استحضار قلبي لعظمة اللّه ، وبدون تدبر لمعانى ما يقرءون ، صلاة لا يشعر صاحبها(1/1061)
أنه بين يدي الخالق فتراه يسبح بفكره ويسرح طرفه ويتحرك ويعبث بأطرافه ولا يعرف عدد ما يصلى ، تلك صلاة بعض الناس الذين يكذبون بيوم الدين وهي بلا شك لا تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وقد سها أصحابها عن ذكر اللّه وهم لذلك يراءون الناس ويذكرونهم ويفعلون لهم ولا يفعلون للّه ، وهم لشدة الشح وكثرة البخل يمنعون الماعون! أرأيت من يكذب بالدين ؟ هو الذي يشتد على اليتيم ، ولا يعطى حقوق المساكين وهو غافل عن صلاته مراء للناس في عمله ، ومانع خيره عن غيره ، فالويل ثم الويل لهؤلاء ، إن صاموا وإن صلوا. (1)
التفسير والبيان :
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ أي أأبصرت يا محمد الذي يكذب بالحساب والجزاء ؟ أو بالمعاد والجزاء والثواب. وقوله : أَرَأَيْتَ وإن كان في صورة استفهام ، لكن الغرض بمثله المبالغة في التعجب. وهذا مثال آخر لكون الإنسان في خسر.
فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي هو الذي يدفع اليتيم عن حقه دفعا شديدا ، ويزجره زجرا عنيفا ، ويظلمه حقه ولا يحسن إليه ، وقد كان عرب الجاهلية لا يورّثون النساء والصبيان.
ولا يحث نفسه ولا أهله ولا غيرهم على إطعام المسكين المحتاج ، بخلا بالمال ، كما قال تعالى : كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الفجر 89/ 17- 18] أي الفقير الذي لا يملك شيئا ، أو لا يجد كفايته.
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ أي فخزي وعذاب للمنافقين الذي يؤدون الصلاة أحيانا تظاهرا ، والذين هم غافلون عنها ، غير مبالين بها ، لا يرجون بصلاتهم ثوابا إن صلوا ، ولا يخافون عليها عقابا إن تركوا ، فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها ، وإذا كانوا مع المؤمنين صلوا رياء ، وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا.
ولم يقل : في صلاتهم ساهون لأن السهو في أثناء الصلاة مغتفر معفو عنه لأنه غير اختياري ، وإنما قال : عن صلاتهم ساهون بتأخيرها عن وقتها رأسا ، أو فعلها مع قلة مبالاة بها ، كقوله : وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى ، يُراؤُنَ النَّاسَ [النساء 4/ 142]. ويجوز أن يطلق لفظ « المصلين » على تاركي الصلاة ، بناء على أنهم من جملة المكلفين بالصلاة.
الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ أي إن أولئك الساهين عن صلاتهم هم الذين يراءون الناس بصلاتهم إن صلوا ، أو يراءون الناس بكل ما عملوا من أعمال البر ، ليثنوا عليهم. قال الزمخشري : المراءاة : هي مفاعلة من الإراءة لأن المرائي يري الناس عمله ، وهم يرونه الثناء عليه ، والإعجاب به.
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 908)(1/1062)
روى الإمام أحمد عَنْ شُعْبَةَ حَدَّثَنِى عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ سَمِعْتُ رَجُلاً فِى بَيْتِ أَبِى عُبَيْدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يُحَدِّثُ ابْنَ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ وَصَغَّرَهُ وَحَقَّرَهُ ». قَالَ فَذَرَفَتْ عَيْنا عَبْدِ اللَّهِ. (1) .
وعَنْ أَبِي صَخْرٍ، حَدَّثَنِي مَكْحُولٌ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هِنْدٍ الدَّارِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ قَامَ مَقَامَ رِيَاءٍ أَوْ سُمْعَةٍ رَايَا اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَسَمَّعَ " (2)
وقال عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ الْمَكِّيُّ،: أَتَيْتُ الزُّهْرِيَّ بِمِنًى فَاجْتَمَعْنَا عَلَيْهِ فَأَمَرَ بِنَا، فَطُرِدْنَا ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْنَا الْغُلَامَ، فَحَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبَّادَ بْنَ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " يَا نَعَايَا الْعَرَبِ، يَا نَعَايَا الْعَرَبِ ثَلَاثًا، إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرِّيَاءُ، وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ " (3)
وعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يَا نَعَايَا الْعَرَبِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي الرِّيَاءُ ، وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ - يَعْنِي الزِّنَا - " (4)
وعَنْ عَوْفِ بن مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ:"مَنْ قَامَ مَقَامَ رِيَاءٍ رَاءَى اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ قَامَ مَقَامَ سُمْعَةٍ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ". (5)
وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ أي يمنعون العارية وفعل الخير ، والْماعُونَ اسم لكل ما يتعاوره الناس بينهم ، من الدّلو والفأس والقدّوم والقدر ومتاع البيت ، وما لا يمنع عادة ، كالماء والملح ، مما ينسب مانعة إلى الخسة ولؤم الطبع وسوء الخلق.
فهؤلاء المنافقون لا أحسنوا عبادة ربهم ، ولا أحسنوا إلى خلقه ، حتى ولا بإعارة ما ينتفع به ويستعان به ، مع بقاء عينه ، ورجوعه إليهم ، وهؤلاء لمنع الزكاة وأنواع القربات أولى وأولى.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : كُنَّا نَعُدُّ الْمَاعُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَارِيَةَ الدَّلْوِ وَالْقِدْرِ." (6) .
ومضات :
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (20 / 123) (1493) ومسند أحمد (6665 ) صحيح لغيره
(2) - شعب الإيمان - (9 / 150) (6404 ) صحيح
(3) - شعب الإيمان - (9 / 151) (6405 ) صحيح
(4) - شعب الإيمان - (9 / 152) (6406 ) صحيح
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (12 / 422) (14528 ) حسن
(6) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (4 / 183) (8041) والمسند الجامع - (11 / 957) (9090) وفتح الباري لابن حجر - (8 / 731) صحيح(1/1063)
المعني بهذه الآيات أولاً وبالذات المنافقون في عهد النبوة ، ويدخل فيها ثانياً وبالعرض كل من وجد فيهم تلك الخلال الذميمة اعتباراً بالعموم ؛ فالسورة مدنية ونظيرها في المنافقين قوله تعالى : { وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 142 ] ، ولذا قال ابن عباس فيما رواه ابن جرير : هم المنافقون كانوا يراؤون الناس بصلاتهم إذا حضروا ، ويتركونها إذا غابوا ، ويمنعونهم العارية بغضاً لهم ، وهو الماعون (1)
في الآيات الثلاث الأولى :
1 - سؤال تنديدي موجه للسامع عن ذلك الذي يكذب بالحساب والجزاء الأخرويين.
2 - وتقرير بمثابة الجواب بأنه هو الذي لا تأخذه الشفقة على اليتيم فينتهره ويدفعه بشدة والذي لا تأخذه الرأفة بالمسكين فلا يطعمه ولا يحض غيره على إطعامه.
وفي الآيات الأربع التالية :
إنذار وسوء دعاء على الذين يصلون وقلوبهم لاهية عما هم فيه. والذين يصدرون في عبادتهم وأعمالهم أمام اللّه والناس عن رياء وخداع. والذين يمنعون عونهم وبرّهم أو ماعونهم عن المحتاجين إليه.
وقد روي أن السورة جميعها مدنية كما روي أن الآيات الثلاث الأخيرة فقط هي المدنية ، وطابع الآيات الأربع الأولى مكي ، وقد تكررت ألفاظها ومعانيها في السور المكية كثيرا وفيما سبق من السور وقد روي أنها نزلت في أبي جهل حيث كان وصيا على يتيم فسأله شيئا من ماله فدفعه ولم يعبأ به ، كما روي أنها نزلت في أبي سفيان الذي كان ينحر في الأسبوع جزورين فأتاه يتيم فسأله لحما فقرعه بالعصا . أما الآيات الثلاث الأخيرة فإن الصورة التي انطوت فيها قد تكون مدنية من الوجهة الزمنية ، لأن صورة المسلم المتظاهر بالإسلام واللاهي عن الصلاة ، هي صورة من صور المنافقين في المدينة الذين وصفوا في القرآن المدني بهذه الصفة كما جاء في آية سورة النساء هذه : إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142).
غير أن الآيات من جهة أخرى متسقة في الوزن ومنسجمة مع الآيات السابقة لها كما هو ظاهر. وحرف الفاء في بدء الآية الرابعة قد يسوغ القول إن الآيات الثلاث جاءت معقبة على الآيات الأربع السابقة لها.
وعلى هذا فإما أن يكون التنديد في الآيات الثلاث الأخيرة تنديدا بالإنسان المرائي في صلاته وعمله ودينه ، المانع معونته عن المحتاج إليها إطلاقا ، ومثل هذا يكون في أي مجتمع وظرف.
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 329)(1/1064)
ويكون من هدف الآيات تحذير المؤمنين الأولين من هذا الخلق ، وإما أن تكون رواية مدنية الآيات الثلاث صحيحة وقد أضيفت إلى الأربع حينما أوحي بها لحكمة متصلة بهذه الآيات بدت للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
ونحن نميل إلى ترجيح الاحتمال الأول بسبب التوازن والانسجام وعدم وضوح الحكمة في إضافة آيات قليلة مدنية إلى آيات قليلة مكية وتكوين سورة قصيرة من هذه وتلك.
وأسلوب الآيات قد جاء مطلقا فيكون ما احتوته مستمر المدى والتلقين.
وهو ما جرى عليه النظم القرآني بسبيل ذلك مما مرت منه أمثلة عديدة. ولا يتعارض هذا مع ما يمكن أن يصح من نزولها أو نزول بعضها في مناسبة حادث وقع من بعض الأشخاص ، فكثير من آيات القرآن وفصوله نزلت في مناسبات معينة بأسلوب مطلق ليكون مستمر المدى والتلقين.
ومن تلقينات السورة الرئيسية تقريرها لكون جحود الإنسان للآخرة هو الذي يشجعه على اقتراف الآثام في الدنيا وعلى قسوة القلب إزاء الضعفاء واليتامى والمساكين ، إذا أمن الجزاء والمقابلة ، وفي هذا توكيد لتقريرات قرآنية سابقة ، ولحكمة اللّه التي جعلت للحياة الدنيا تتمة في حياة أخرى لجزاء كل امرئ بما عمل. كما أن فيه مظهرا من مظاهر حكمة التنزيل في تكرار الإنذار بالحياة الأخرى وجعل الإيمان بها ركنا من أركان الإسلام على ما شرحناه في سياق سورة الفاتحة.
وتخصيص اليتيم والمسكين بالذكر لا يعني كما هو المتبادر أن قهر الأول وحرمان الثاني هما عنوان التكذيب بالآخرة وجزائها حصرا. فهذا أسلوب من أساليب القرآن وهناك آيات قرآنية كثيرة منها مما سبق تذكر آثاما أخرى عامة وخاصة يقترفها الإنسان نتيجة لجحوده ذلك. وقد يعني تخصيص ذلك بالذكر هنا قصد التنويه بخطورة أمر اليتيم والمسكين. وهو ما تكرر كثيرا في القرآن وقد سبق منه أمثلة عديدة وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
وفي التنديد بالمصلين اللاهية قلوبهم عن صلاتهم تنبيه لوجوب تذكر المصلي اللّه ، وإفراغ قلبه له حينما يقف أمامه متعبدا ، وتقرير ضمني بأنه بذلك فقط يتأثر بصلاته تأثرا يبعث فيه السكينة والطمأنينة ويرتفع به إلى أفق الروحانية العلوية كما هو مجرب عند كل من يفعل ذلك حقا. ويوقظ فيه الضمير فيبتعد عن الفحشاء والمنكر ويندفع نحو الخير والصلاح. وكل هذا من مقاصد الصلاة بالإضافة إلى كونها واجب العبادة ومظهر الخضوع للّه على ما شرحناه في سياق سورة العلق. أما اللاهون فلا يتأثرون ذلك التأثير الباعث الموقظ الوازع الدافع فتكون صلاتهم عملا آليا لا روح فيها ولا حياة ويكون القصد منها الرياء والخداع ولا تكون بعد مقبولة عند اللّه.(1/1065)
وجملة يُراؤُنَ [6] جاءت مطلقة لتنعى الرياء على الإنسان إطلاقا سواء أكان يرائي في صلاته أم في أي موقف وعمل آخر. وتتضمن بناء على ذلك تنديدا بخطورة خلق الرياء وبشاعته حيث يكون المتخلق به أمام اللّه مخادعا وأمام الناس كاذبا مضللا ساخرا ، وتنبيها إلى ما في انتشار هذا الخلق في مجتمع من المجتمعات من الشر العام.
ولقد تكرر النعي القرآني على هذا الخلق والنهي عنه كما جاء في سورة البقرة هذه : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) وآية سورة النساء هذه : وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وآية سورة الأنفال هذه : وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وآية سورة النساء هذه : إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142).
ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة في ذمّ الرياء والمرائين منها حديث أخرجه الترمذي عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - تعوّذوا باللّه من جبّ الحزن قالوا يا رسول اللّه وما جبّ الحزن؟ قال : واد في جهنّم تتعوّذ منه جهنّم كلّ يوم ألف مرة. قيل يا رسول اللّه من يدخله قال القرّاء المراءون بأعمالهم» . وحديث رواه البغوي بطرقه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا يا رسول اللّه وما الشرك الأصغر قال الرياء». وحديث رواه الترمذي ومسلم عن أبي سعيد بن أبي فضالة قال : «قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا جمع اللّه الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله اللّه أحدا فليطلب ثوابه من عند غير اللّه فإنّ اللّه أغنى الشركاء عن الشرك» . ولمسلم عن أبي هريرة حديث آخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء فيه : «قال اللّه تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشّرك. من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» .
وحديث رواه مسلم عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ فَقَالَ لَهُ نَاتِلُ أَهْلِ الشَّامِ أَيُّهَا الشَّيْخُ حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِىءٌ. فَقَدْ قِيلَ.ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِى النَّارِ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ. وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ(1/1066)
فِى النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِىَ فِى النَّارِ ». (1)
وننبه على أن هناك حديثا فيه استدراك يحسن سوقه في هذا المساق رواه الترمذي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ فَيُسِرُّهُ فَإِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ أَعْجَبَهُ ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لَهُ أَجْرَانِ أَجْرُ السِّرِّ وَأَجْرُ الْعَلاَنِيَةِ ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.. (2)
حيث يفيد هذا أن الرياء المعاقب عليه هو ما قصد صاحب العمل أن يقال عنه وليس خالصا للّه. وأنه إذا كان عمل المرء عملا بنية خالصة وعرفه الناس وأعجبوا به لا يعد من هذا الباب.
والتنديد بما نعى الماعون سواء أكان المعونة عامة أم الزكاة أم أدوات البيت جدير بالتنويه من حيث كون منع الماعون مظهرا من مظاهر عدم التعاون وعدم تبادل المعروف أو عدم بذل ما يكون الآخر في حاجة إليه من عون. ومن حيث تضمنه حقا لكل مسلم على تجنبه وعلى بذل كل عون يقدر عليه إلى من هو في حاجة إليه وهو ما تكرر تقريره في آيات عديدة مرت أمثلة منها.
ولقد روى مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ فِى عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِى عَوْنِ أَخِيهِ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ ». (3) . حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الشأن كما هو في كل شأن. (4)
__________
(1) - صحيح مسلم (5032 )
(2) - سنن الترمذى (2559 ) حسن
قَالَ أَبُو عِيسَى وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ إِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ فَأَعْجَبَهُ فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنْ يُعْجِبَهُ ثَنَاءُ النَّاسِ عَلَيْهِ بِالْخَيْرِ لِقَوْلِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - « أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِى الأَرْضِ ». فَيُعْجِبُهُ ثَنَاءُ النَّاسِ عَلَيْهِ لِهَذَا لِمَا يَرْجُو بِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ فَأَمَّا إِذَا أَعْجَبَهُ لِيَعْلَمَ النَّاسُ مِنْهُ الْخَيْرَ لِيُكْرَمَ عَلَى ذَلِكَ وَيُعَظَّمَ عَلَيْهِ فَهَذَا رِيَاءٌ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ فَأَعْجَبَهُ رَجَاءَ أَنْ يُعْمَلَ بِعَمَلِهِ فَيَكُونَ لَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ فَهَذَا لَهُ مَذْهَبٌ أَيْضًا.
(3) - صحيح مسلم (7028 )
(4) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 19)(1/1067)
« أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ؟ ». خطاب للنبى ، صلوات اللّه وسلامه عليه ، ولكل من هو أهل للخطاب ، ولتلقّى العبرة والعظة منه ..
والاستفهام هنا يراد به إلفات الأنظار والعقول إلى هذا الإنسان الذي يكذب بالدين .. إنه إنسان عجيب ، لا ينبغى لعاقل أن يفوته النظر إلى هذا الكائن العجيب وتلك الظاهرة النادرة! ففيه عبرة لمن يعتبر ، وفيه ملهاة لمن يريد أن يتلّهى ..
والدين : هو الدينونة ، أي الحساب والجزاء فى الحياة الآخرة ..
والذين يكذبون بالدينونة ، والبعث ، والحساب ، والجنة ، والنار ، لا يؤمنون باللّه ، وإن آمنوا به فهم لا يوقرونه ، ولا يعرفون قدره. ومن هنا فهم لا يعلمون حسابا للقاء اللّه ، ولا يقدّمون شيئا لليوم الآخر ، فإنّ من خلت نفسه من شعور الثواب أو العقاب من الجهة التي يتعامل معها ، فإنه لا يلقاها إلا فى تراخ وفتور ، وعدم مبالاة.
وقوله تعالى : « فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ».
الفاء واقعة فى جواب شرط مقدر ، يدل عليه الاستفهام فى قوله تعالى : « أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ » ؟ أي إذا لم تكن رأيته ، فها هو ذا ، فانظر إليه ، وشاهد أحواله ، فهو ذلك الذي يدعّ اليتيم ..
والإشارة مشاربها إلى هذا الذي يكذب بالدين .. إنه ذلك الذي « يَدُعُّ الْيَتِيمَ » أي يقهره ، ويذله ، وينزع عنه لباس الأمن والطمأنينة إذا وقع ليده ، وعاش فى ظله .. إن اليتيم ضعيف ، عاجز ، أشبه بالطير المقصوص الجناح ، يحتاج إلى اللطف ، والرعاية ، والحنان .. فإذا وقع ليد إنسان قد خلا قلبه من الرحمة ، وجفت عواطفه من الحنان والعطف ـ كان أشبه بفرخ الطير وقع تحت مخالب نسر كاسر ، فيموت فزعا وخوفا ، قبل أن يموت تمزيقا ونهشا ..
وقوله تعالى : « وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ».
أي لا يدعو إلى إطعام المسكين ، ولا يجعل من رسالته فى الناس إطعام الجياع .. فإن من لا يحمل همّ الجياع ، ولا يدعو الناس إلى إطعامهم ، لا يجد من نفسه الدافع الذي يدفعه إلى إطعامهم من ذات يده .. ذلك أن الذي يعرف عنه فى الناس أنه يحضّ على هذه المكرمة وينادى بها فيهم ـ يستحى أن يدعو إلى فعل ولا يفعله ..وإنك لن تجد بخيلا أبدا يدعو إلى الإحسان ، لأن كلمة الإحسان تفزعه ، حتى لو نطق بها زورا ويهتانا .. فإذا دعا داع إلى الإحسان كان معنى هذا أنه يمكن أن يكون فى المحسنين يوما ما .. وهذا هو السرّ فى احتفاء القرآن الكريم بالحضّ على فعل المكارم ، فمن حضّ على مكرمة ، وجعلها دعوة له ، كان قمينا بأن يكون من أهلها عملا ، بعد أن كان من دعاتها قولا ..(1/1068)
وإذا جاز لإنسان أن يدعّ اليتيم ، ويزعج أمنه ، أو يضن على جائع بلقمة يتبلغ بها ـ وهو غير جائز ، ولا مقبول على أي حال ـ فإنه لا يجوز ولا يقبل أن يكون ذلك من أحد من قريش ، الذين أطعمهم اللّه من جوع ، وآمنهم من خوف ، من بين العرب جميعا ..
إنهم يشهدون ذلك فى كل لحظة من لحظات حياتهم : « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ » (67 : العنكبوت).
وقوله تعالى : « فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ ».مناسبة هذه الآيات لما قبلها ، هى أن الصلاة فى حقيقتها نور يضىء ظلام القلوب ، ويجلّى غشاوة النفوس ، لأنها أوثق الصلات التي تصل العبد بربه ، وتقرّبه منه ، وتعرضه لنفحات الرحمة ، فتشيع فى كيانه الحب والحنان ، حيث يضفيهما على عباد اللّه ، وخاصة الضعفاء والفقراء ، الذين وصّى اللّه سبحانه وتعالى يهم الأقوياء والأغنياء ، واسترعاهم إياهم.
والصلاة لاتثمر هذا الثمر الطيب ، ولا تؤتى هذا الأكل الكريم ، إلا إذا كانت خالصة للّه ، يشهد فيها المصلّى جلال خالقه ، وعظمة ربه .. وذلك لا يكون حتى تصدق النية ، وتخلص الرغبة ، ويعظم اليقين فى لقاء اللّه ، والثقة فى أنّ من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.
والذين يسهون عن الصلاة ، أي يغفلون عنها ، ولا يشغلون أنفسهم بها ، وبانتظار أوقاتها ليهيئوا أنفسهم لها ، ويعدوها للقاء اللّه فى محرابها ـ هؤلاء ليسوا مصلين فى الحقيقة ، وإن ركعوا ، وسجدوا ، لأن صلاتهم تلك إنما تقع عفوا ، وتجىء حسب ما اتفق ، كأن يكونوا فى جماعة ، وقد أذّن المؤذن للصلاة ، فيمنعهم الحياء ، أو الخوف من قالة السوء فيهم أن تصلى الجماعة ولا يصلون ، أو أنهم يصلون فى الأوقات التي لا يشغلهم فيها شىء ، ولو كان تافها.
أما إذا شغلهم عمل ، أو لهو ، فلا يذكرون الصلاة ، ولا يؤثرونها على ما بين أيديهم من عمل ، أو لهو ، حتى لكأن الصلاة نافلة من نوافل الحياة ، لا قدر لها ولا وزن! فهذا هو السهو ، وهؤلاء هم الساهون عن الصلاة الذين توعدهم اللّه سبحانه وتعالى بالويل ، لأنهم يراءون الناس ، وينافقونهم أو ينافقون أنفسهم بها ، وهم لهذا لا ينتفعون بالصلاة ، فلا يأتمرون منها بمعروف ، ولا ينتهون بها عن منكر ..
وقوله تعالى : « وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ ». الماعون : من العون ، وهو ما يجد فيه الإنسان عونا على ما يلمّ به من حاجة وعوز ..
والمراد بالماعون هنا الزكاة ، لأنها أوسع الأبواب ، وأجداها فى إسداء العون ، للفقير ، والمسكين ، وابن السبيل ..(1/1069)
فالويل إنما يتجه الوعيد به هنا ، إلى الذين لا يقيمون الصلاة على وجهها ، ولا يؤدّون الزكاة على تمامها وكمالها ، طيبة بها أنفسهم ، منشرحة بها صدورهم ..
فهم يمنعون الزكاة ما استطاعوا منعها ، ويؤدونها إذا قام عليهم سلطان قاهر ، يرصد أموالهم ، ويستخرج منها زكاتهم ، كما يستخرج رجال الأمن المال المسروق من جيب السارق!! وفى قوله تعالى : « فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ » ـ وفى جعل هاتين الكلمتين آية ذات دلالة مستقلة ، مستوفية أركان الجملة المفيدة من مبتدأ وخبر ـ فى هذا إعجاز من إعجاز البلاغة القرآنية ، حيث تهزّ هاتين الكلمتين أقطار النفس ، وتستثير دواعى الفكر ، حين يجد المرء نفسه بين يدى هذه الحقيقة الغريبة المذهلة :
« ويل للمصلين » !! وكيف يكون الويل للمصلين ، والصلاة عماد الدين ، وركنه المتين ، وعليها يقوم بناؤه ، وبها تشتد أركانه ، وتثبت دعائمة ؟ أهذا ممكن أن يكون ؟ ويجىء الجواب نعم! وكيف ؟ إنها صلاة الساهين عنها ، المستخفين بها ، الذين يأتونها رياء ونفاقا .. وإن الذين لا يؤدون الصلاة أصلا ، ممن يؤمنون باللّه ، لهم أحسن حالا ، من هؤلاء المصلين المرائين ، لأن الذين لا يؤدونها أصلا ، لم يتعاملوا بالصلاة بعد ، ولم يزنوها بهذا الميزان البخس ، ولو أنهم صلّوا فقد يقيمونها على ميزان يعرف قدرها ، ويبين عن جلالها ، وعظمة شأنها .. أما الذي يصلى ساهيا عن الصلاة متغافلا عنها ، مستخفّا بها ـ فقد بان قدر الصلاة عنده ووزنها فى مشاعره .. وهو قدر هزبل ، ووزن لا وزن له ، ومن هنا كان جزاؤه هذا الوعيد بالويل والعذاب الشديد .. (1)
إنها تبدأ بهذا الاستفهام الذي يوجه كل من تتأتى منه الرؤية ليرى : { أرأيت الذي يكذب بالدين؟ } وينتظر من يسمع هذا الاستفهام ليرى أين تتجه الإشارة وإلى من تتجه؟ ومن هو هذا الذي يكذب بالدين ، والذي يقرر القرآن أنه يكذب بالدين .. وإذا الجواب : { فذلك الذي يدع اليتيم . ولا يحض على طعام المسكين } !
وقد تكون هذه مفاجأة بالقياس إلى تعريف الإيمان التقليدي . . ولكن هذا هو لباب الأمر وحقيقته . . إن الذي يكذب بالدين هو الذي يدفع اليتيم دفعاً بعنف أي الذي يهين اليتيم ويؤذيه . والذي لا يحض على طعام المسكين ولا يوصي برعايته . . فلو صدّق بالدين حقاً ، ولو استقرت حقيقة التصديق في قلبه ما كان ليدع اليتيم ، وما كان ليقعد عن الحض على طعام المسكين .
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1684)(1/1070)
إن حقيقة التصديق بالدين ليست كلمة تقال باللسان؛ إنما هي تحول في القلب يدفعه إلى الخير والبر بإخوانه في البشرية ، المحتاجين إلى الرعاية والحماية . والله لا يريد من الناس كلمات . إنما يريد منهم معها أعمالاً تصدقها ، وإلا فهي هباء ، لا وزن لها عنده ولا اعتبار .
وليس أصرح من هذه الآيات الثلاث في تقرير هذه الحقيقة التي تمثل روح هذه العقيدة وطبيعة هذا الدين أصدق تمثيل .
ولا نحب أن ندخل هنا في جدل فقهي حول حدود الإيمان وحدود الإسلام . فتلك الحدود الفقهية إنما تقوم عليها المعاملات الشرعية . فأما هنا فالسورة تقرر حقيقة الأمر في اعتبار الله وميزانه . وهذا أمر آخر غير الظواهر التي تقوم عليها المعاملات!!
ثم يرتب على هذه الحقيقة الأولى صورة تطبيقية من صورها : { فويل للمصلين ، الذين هم عن صلاتهم ساهون ، الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون } إنه دعاء أو وعيد بالهلاك للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون . . فمن هم هؤلاء الذين هم عن صلاتهم ساهون!
إنهم { الذين هم يراءون ويمنعون الماعون } . .إنهم أولئك الذين يصلون ، ولكنهم لا يقيمون الصلاة . الذين يؤدون حركات الصلاة ، وينطقون بأدعيتها ، ولكن قلوبهم لا تعيش معها ، ولا تعيش بها ، وأرواحهم لا تستحضر حقيقة الصلاة وحقيقة ما فيها من قراءات ودعوات وتسبيحات . إنهم يصلون رياء الناس لا إخلاصاً لله . ومن ثم هم ساهون عن صلاتهم وهم يؤدونها . ساهون عنها لم يقيموها . والمطلوب هو إقامة الصلاة لا مجرد أدائها . وإقامتها لا تكون إلا باستحضار حقيقتها والقيام لله وحده بها .
ومن هنا لا تنشئ الصلاة آثارها في نفوس هؤلاء المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون . فهم يمنعون الماعون . يمنعون المعونة والبر والخير عن إخوانهم في البشرية . يمنعون الماعون عن عباد الله . ولو كانوا يقيمون الصلاة حقاً لله ما منعوا العون عن عباده ، فهذا هو محك العبادة الصادقة المقبولة عند الله . .
وهكذا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام حقيقة هذه العقيدة ، وأمام طبيعة هذا الدين . ونجد نصاً قرآنياً ينذر مصلين بالويل . لأنهم لم يقيموا الصلاة حقاً . إنما أدوا حركات لا روح فيها . ولم يتجردوا لله فيها . إنما أدوها رياء .
ولم تترك الصلاة أثرها في قلوبهم وأعمالهم فهي إذن هباء . بل هي إذن معصية تنتظر سوء الجزاء!
وننظر من وراء هذه وتلك إلى حقيقة ما يريده الله من العباد ، حين يبعث إليهم برسالاته ليؤمنوا به وليعبدوه . .(1/1071)
إنه لا يريد منهم شيئاً لذاته سبحانه فهو الغني إنما يريد صلاحهم هم أنفسهم . يريد الخير لهم . يريد طهارة قلوبهم ويريد سعادة حياتهم . يريد لهم حياة رفيعة قائمة على الشعور النظيف ، والتكافل الجميل ، والأريحية الكريمة والحب والإخاء ونظافة القلب والسلوك .
فأين تذهب البشرية بعيداً عن هذا الخير؟ وهذه الرحمة؟ وهذا المرتقى الجميل الرفيع الكريم؟ أين تذهب لتخبط في متاهات الجاهلية المظلمة النكدة وأمامها هذا النور في مفرق الطريق؟ (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1 - ذم المكذب بالجزاء والحساب في الآخرة ، واللفظ عام لا يقتصر على من كان سبب نزول الآية..
2- التهديد والوعيد لمن يظلم اليتيم ويأكل حقه .، فمن صفات المكذب بالجزاء الأخروي وقبائحه : زجر اليتيم وطرده ودفعه عن حقه وظلمه وقهره ، وترك الخير وعدم الحث أو عدم الأمر على إطعام الفقير والمسكين ، من أجل بخله وتكذيبه بالجزاء. وليس الذم عاما ، حتى يتناول من تركه عجزا ، ولكنهم كانوا يبخلون مع الغنى ، ويعتذرون لأنفسهم.
3 - الويل لمن يغفل عن الصلاة .
4 - الويل لمانع الزكاة ويرائي في صلاته ولا يشفق على الناس ويمنعهم خيره ورفده ويمنع إعارة مالا يتضرر به
5- الويل ، أي العذاب والتهديد العظيم لمن فعل ثلاثة أمور : أحدها- السهو عن الصلاة ، وثانيها- فعل المراءاة ، وثالثها- منع الماعون.
وقد جمع المنافقون الأوصاف الثلاثة : ترك الصلاة ، والرياء ، والبخل بالمال.
والسهو عن الصلاة : تركها رأسا ، أو فعلها مع قلة المبالاة بها كما تقدم.
أما السهو في الصلاة فهو أمر غير اختياري ، فلا يدخل تحت التكليف. وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - سها في الصلاة ، وشرع سجود السهو لمن سها.وكذلك سها الصحابة.
وحقيقة الرياء : طلب ما في الدنيا بالعبادة ، وطلب المنزلة في قلوب الناس ، وللرياء أنواع ، وأولها : تحسين السّمت (الهيئة) مع إرادة الجاه وثناء الناس. وثانيها : لبس الثياب القصار أو الخشنة ، ليأخذ بذلك هيبة الزهد في الدنيا. وثالثها : الرياء بالقول بإظهار السخط على أهل الدنيا ، وإظهار الوعظ والتأسف على ما يفوته من فعل الخير والطاعة.
ورابعها : إظهار الصلاة والصدقة ، أو تحسين الصلاة لأجل رؤية الناس له (2) .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3985)
(2) - أحكام القرآن لابن العربي : 4/ 1972 ، تفسير القرطبي : 20/ 212- 213(1/1072)
والفرق بين المنافق والمرائي : أن المنافق هو المظهر للإيمان المبطن للكفر ، والمرائي : المظهر ما ليس في قلبه من زيادة خشوع ليعتقد فيه من يراه أنه متدين (1) .
وقال العلماء : لا بأس بالإراءة إذا كان الغرض الاقتداء ، أو نفي التهمة.
واجتناب الرياء صعب إلا على من راض نفسه ، وحملها على الإخلاص. فعَنْ أَبِي عَلِيٍّ ، رَجُلٍ مِنْ بَنِي كَاهِلٍ ، قَالَ : خَطَبَنَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ، فَقَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ ، فَقَالَ : " أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ " ، فَقَالَ لَهُ مَنْ شَاءَ أَنْ يَقُولَ : وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ ، قَالَ : " قُولُوا : اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا نَعْلَمُهُ وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُ " (2)
والماعون عند أكثر المفسرين : اسم جامع لما لا يمنع في العادة ، ويسأله الفقير والغني في أغلب الأحوال ، ولا ينسب سائله إلى لؤم ، بل ينسب مانعة إلى اللؤم والبخل ، كالفأس والقدر والدّلو والمقدحة والغربال والقدوم ، ويدخل فيه الماء والملح والنار ، لما روى ابن ماجه عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ ؟ قَالَ : " الْمَاءُ ، وَالْمِلْحُ ، وَالنَّارُ " ، قَالَتْ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْمَاءُ قَدْ عَرَفْنَاهُ ، فَمَا بَالُ الْمِلْحِ وَالنَّارِ ؟ قَالَ : " يَا حُمَيْرَاءُ مَنْ أَعْطَى نَارًا ، فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا أَنْضَجَتْ تِلْكَ النَّارُ ، وَمَنْ أَعْطَى مِلْحًا ، فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا طَيَّبَ ذَلِكَ الْمِلْحُ ، وَمَنْ سَقَى مُسْلِمًا شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ ، حَيْثُ يُوجَدُ الْمَاءُ ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ رَقَبَةً ، وَمَنْ سَقَى مُسْلِمًا شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ ، حَيْثُ لَا يُوجَدُ الْمَاءُ ، فَكَأَنَّمَا أَحْيَاهَا " (3) . ومن ذلك أن يلتمس جارك الخبز من تنورك ، أو أن يضع متاعه عندك يوما أو نصف يوم (4) . وقيل : منع الماعون : منع زكاة أموالهم.
وبالرغم من أن هذه الأوصاف واضحة في المنافقين ، فإن بعضها قد يوجد في المسلم الصادق الإسلام ، وحينئذ يلحقه جزء من التوبيخ ، كالصلاة إذا تركها ، ومنع الماعون إذا تعين ، ويكون منعا قبيحا مخلّا بالمروءة في غير حال الضرورة.
6- في الآيتين حول السهو عن الصلاة ومنع الماعون إشارة إلى أن الصلاة للَّه عز وجل ، والماعون للخلق أو للناس ، فمن ترك الصلاة لم يراع جانب تعظيم أمر اللَّه ، ومن منع الماعون لم يراع جانب الشفقة على خلق اللَّه ، وهذا كمال الشقاوة ، نعوذ باللَّه منها.
__________
(1) - تفسير الرازي : 32/ 115
(2) - مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ (28965 ) حسن لغيره
(3) - سُنَنُ ابْنِ مَاجَهْ (2486 ) حسن
(4) - غرائب القرآن : 30/ 191(1/1073)
والخلاصة : وصف اللَّه الكفار والمنافقين في هذه السورة بأربع صفات :البخل ، وترك الصلاة ، والرياء فيها ، ومنع الزكاة والخير.
7- وسائل التخلص من الرياء :
ا/ استحضار عظمة الله، وأن النفع كله بيده، فإن حياة الإنسان وصحته وهواءه وماءه وأرضه وسماءه بيد الله، وليس لأحد تصرف في صغير ولا كبير حتى يقصد بالعمل أو بشيء منه، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) [الأعراف:194].
وقال تعالى: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) [فاطر:13-14].
ب/ مجاهدة النفس على الإخلاص، فقد قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].
ت/ العلم بخطر الرياء، فقد حذر الله منه بقوله: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الزمر:65].
ث/ أن تستعين بدعاء الله سبحانه بأن يوفقك للإخلاص، وقد علمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاءً نتخلص به من الرياء، فقد روى عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْكَاهِلِيِّ قَالَ : خَطَبَنَا أَبُو مُوسَى ، فَقَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : " أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا الشِّرْكَ ، فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ " فَقَالَ : مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ : وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ ؟ قَالَ : " قُولُوا : اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا تَعْلَمُهُ وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُ " الْمُعْجَمُ الْأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ (1) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ حَجَّ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ وَقَطِيفَةٍ تُسَاوِى أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ أَوْ لاَ تُسَاوِى ثُمَّ قَالَ « اللَّهُمَّ حِجَّةٌ لاَ رِيَاءَ فِيهَا وَلاَ سُمْعَةَ » (2) ..
هـ/ أن يعلم المرائي بعبادته أو خدمته للناس أنهم متى ما عرفوا أنه يريد ثناءهم ومدحهم، ونحو ذلك سقط من أعينهم، وربما ازدروه، وأصبح لا قيمة له بينهم. (3)
8- وجوب بذل الماعون عند الحاجة إليه :
__________
(1) الْمُعْجَمُ الْأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ (3613 ) حسن
(2) - سنن ابن ماجه (3002 ) صحيح لغيره -الرث : الخلق البالى
(3) - انظر : فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (3 / 3425) رقم الفتوى 16150 الشرك الخفي...أنواعه..ووسائل النجاة منه تاريخ الفتوى : 21 صفر 1423
وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (6 / 5135) رقم الفتوى 46566 الرياء أخفى من دبيب النمل تاريخ الفتوى : 13 صفر 1425(1/1074)
أَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ قَوْمًا اُضْطُرُّوا إلَى سُكْنَى فِي بَيْتِ إنْسَانٍ إذَا لَمْ يَجِدُوا مَكَانًا يَأْوُونَ إلَيْهِ إلَّا ذَلِكَ الْبَيْتَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَكِّنَهُمْ .
وَكَذَلِكَ لَوْ احْتَاجُوا إلَى أَنْ يُعِيرَهُمْ ثِيَابًا يَسْتَدْفِئُونَ بِهَا مِنْ الْبَرْدِ ؛ أَوْ إلَى آلَاتٍ يَطْبُخُونَ بِهَا ؛ أَوْ يَبْنُونَ أَوْ يَسْقُونَ : يَبْذُلُ هَذَا مَجَّانًا .
وَإِذَا احْتَاجُوا إلَى أَنْ يُعِيرَهُمْ دَلْوًا يَسْتَقُونَ بِهِ ؛ أَوْ قِدْرًا يَطْبُخُونَ فِيهَا ؛ أَوْ فَأْسًا يَحْفِرُونَ بِهِ : فَهَلْ عَلَيْهِ بَذْلُهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ لَا بِزِيَادَةِ ؟.
فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ بَذْلِ ذَلِكَ مَجَّانًا إذَا كَانَ صَاحِبُهَا مُسْتَغْنِيًا عَنْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ وَعِوَضِهَا (1) ؛ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :{ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) }، وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ :{ كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، نَتَحَدَّثُ أَنَّ الْمَاعُونَ: الدَّلْوُ، وَالْقِدْرُ، وَالْفَأْسُ لا يُسْتَغْنَى عَنْهُ"ْ} (2) .
وَفَى الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الْخَيْلُ لِرَجُلٍ أَجْرٌ ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ ، فَأَمَّا الَّذِى لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ ، فَأَطَالَ بِهَا فِى مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ ، فَمَا أَصَابَتْ فِى طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنَ الْمَرْجِ أَوِ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ ، وَلَوْ أَنَّهُ انْقَطَعَ طِيَلُهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِىَ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ ، فَهِىَ لِذَلِكَ أَجْرٌ ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِى رِقَابِهَا وَلاَ ظُهُورِهَا ، فَهِىَ لِذَلِكَ سِتْرٌ ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً لأَهْلِ الإِسْلاَمِ ، فَهِىَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ » (3) .
وَفِي البخاري عن أبي سَعِيدٍ قَالَ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهُ عَنِ الْهِجْرَةِ ، فَقَالَ « وَيْحَكَ إِنَّ الْهِجْرَةَ شَأْنُهَا شَدِيدٌ فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ » قَالَ نَعَمْ . قَالَ « فَتُعْطِى صَدَقَتَهَا » . قَالَ نَعَمْ .
__________
(1) - صحيح مسلم (4614) عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ فِى سَفَرٍ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ قَالَ فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالاً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ ». قَالَ فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لاَ حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِى فَضْلٍ. = الظهر : الإبل
(2) - تفسير مجاهد برقم(2092 ) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 8 / ص 130) برقم(8917 ) وهو صحيح
(3) - صحيح البخارى برقم(2371 ) ومسلم برقم(2337) = استنت : جرت وعدت =الطيل : حبل يشد به قائمة الدابة = المرج : الأرض الواسعة ذات نبات كثير تخلى فيه الدواب تسرح مختلطة كيف شاءت =النواء : العداوة(1/1075)
قَالَ « فَهَلْ تَمْنَحُ مِنْهَا شَيْئًا » . قَالَ نَعَمْ . قَالَ « فَتَحْلُبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا » . قَالَ نَعَمْ . قَالَ « فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا » (1) .
وَثَبَتَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - { أَنَّهُ نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ } (2) ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِى جِدَارِهِ » . ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا لِى أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَاللَّهِ لأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ (3) .
وَإِيجَابُ بَذْلِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ مَذْهَبُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . (4)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(2633 ) و مسند أبي عوانة برقم(5798 ) البحار : هى القرى أو المدن = يترك : ينقصك
(2) - صحيح البخارى برقم(2284 ) وأبو داو د برقم(3431 )
(3) - صحيح البخارى برقم(2463 ) ومسلم برقم (4215)
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 488) :وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث ، هَلْ هُوَ عَلَى النَّدْب إِلَى تَمْكِين الْجَار مِنْ وَضْع الْخَشَب عَلَى جِدَار جَاره ؟ أَمْ عَلَى الْإِيجَاب ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَأَصْحَاب مَالِك : أَصَحّهمَا فِي الْمَذْهَبَيْنِ : النَّدْب ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْكُوفِيُّونَ . وَالثَّانِي : الْإِيجَاب ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَأَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الْحَدِيث ، وَهُوَ ظَاهِر الْحَدِيث . وَمَنْ قَالَ بِالنَّدْبِ قَالَ : ظَاهِر الْحَدِيث أَنَّهُمْ تَوَقَّفُوا عَنْ الْعَمَل ، فَلِهَذَا قَالَ : مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ؟ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْهُ النَّدْب لَا الْإِيجَاب ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا أَطْبَقُوا عَلَى الْإِعْرَاض عَنْهُ . وَاللَّهُ أَعْلَم .
(4) - مجموع الفتاوى لابن تيمية - (28 / 98)(1/1076)
سورة الكوثر
مكيّة ، وهي ثلاث آيات
مكيتها أو مدنيتها :
هذه السورة مكية في المشهور وقول الجمهور ، وقال الحسن وعكرمة وقتادة : مدنية ، وهو رأي ابن كثير.
قال ابن عاشور :
سميت هذه السورة في جميع المصاحف التي رأيناها في جميع التفاسير أيضا "سورة الكوثر" وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من "جامعه". وعنونها البخاري في صحيحه سورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ولم يعدها في "الإتقان" مع السور التي ليس لها أكثر من اسم. ونقل سعد الله الشهير بسعدي في "حاشيته على تفسير البيضاوي" عن البقاعي أنها تسمى "سورة النحر".
وهل هي مكية أو مدنية? تعارضت الأقوال والآثار في أنها مكية أو مدنية تعارضا شديدا، فهي مكية عند الجمهور وأقتصر عليه أكثر المفسرين، ونقل الخفاجي عن كتاب النشر قال: أجمع من نعرفه على أنها مكية. قال الخفاجي: وفيه نظر مع وجود الاختلاف فيها.
وعن الحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة هي مدنية ويشهد لهم ما في صحيح مسلم عن أنس بن مالك بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه وقال: "أنزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر:1-3] ثم قال: أتدرون ما الكوثر?" قلنا الله ورسوله أعلم. قال: "فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة" الحديث. وأنس أسلم في صدر الهجرة فإذا كان لفظ آنفا في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - مستعملا في ظاهر معناه وهو الزمن القريب، فالسورة نزلت منذ وقت قريب من حصول تلك الرؤيا.
ومقتضى ما يروى في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} أن تكون السورة مكية، ومقتضى ظاهر تفسير قوله تعالى: {وانحر} من أن النحر في الحج أو يوم الأضحى تكون السورة مدنية ويبعث على أن قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ليس ردا على كلام العاصي بن وائل كما سنبين ذلك.
والأظهر أن هذه السورة مدنية وعلى هذا سنعتمد في تفسير آياتها.
وعلى القول بأنها مكية عدوها الخامسة عشرة في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة العاديات وقبل سورة التكاثر. وعلى القول بأنها مدنية فقد قيل: إنها نزلت في الحديبية.
وعدد آيها ثلاث بالاتفاق.(1/1077)
وهي أقصر سور القرآن عدد كلمات وعدد حروف، وأما في عدد الآيات فسورة العصر وسورة النصر مثلها ولكن كلماتها أكثر.. (1)
تسميتها :
سميت سورة الكوثر لافتتاحها بقول اللَّه تعالى مخاطبا نبيه - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي الخير الكثير الدائم في الدنيا والآخرة ، ومنه : نهر الكوثر في الجنة.
مناسبتها لما قبلها :
وصف اللَّه الكفار والمنافقين الذين يكذبون بالدين أي بالجزاء الأخروي بأربع صفات : البخل في قوله : يَدُعُّ الْيَتِيمَ ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وترك الصلاة في قوله : الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ. والرياء أو المراءاة في الصلاة في قوله : الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ ومنع الخير والزكاة في قوله :وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ. (2)
وذكر اللَّه تعالى في هذه السورة في مقابلة تلك الصفات الأربع صفات أربعا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر أنه أعطاه الكوثر في مقابلة البخل في قوله : إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي الخير الكثير الدائم ، فأعط أنت الكثير ولا تبخل ، وأمره بالمواظبة على الصلاة : فَصَلِّ أي دم على الصلاة في مقابلة ترك الصلاة ، وأمره بالإخلاص في الصلاة في قوله : فَصَلِّ لِرَبِّكَ أي لرضا ربك ، لا لمراءاة الناس ، في مقابلة المراءاة في الصلاة ، وأمره بالتصدق بلحم الأضاحي على الفقراء ، في مقابلة منع الماعون (3) .
وقال الخطيب : " فى سورة « الماعون » ، توعد اللّه الذين لا يقيمون الصلاة ، ولا يؤدّون الزكاة لأنهم مكذبون بالدين ، غير مؤمنين بالبعث والحساب ، والجزاء ـ توعد اللّه سبحانه هؤلاء ، بالويل والهلاك ، والعذاب الشديد فى نار جهنم ..
وفى مقابل هذا ، جاءت سورة الكوثر تزفّ إلى سيد المؤمنين باللّه واليوم الآخر ، هذا العطاء الجزيل ، وذلك الفضل الكبير من ربه .. ومن هذا العطاء ، وذلك الفضل ، ينال كلّ مؤمن ومؤمنة نصيبه من فضل اللّه ، وعطائه على قدر ما عمل .. " (4)
ما اشتملت عليه السورة :
* سورة الكوثر مكية ، وقد تحدثت عن فضل الله العظيم على نبيه الكريم ، بإعطائه الخير الكثير ، والنعم العظيمة في الدنيا والآخرة ، ومنها [ نهر الكوثر ] وغير ذلك من الخير العظيم
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 571)
(2) - انظر تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 251)
(3) - تفسير الرازي : 32/ 117
(4) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1689)(1/1078)
العميم ، وقد دعت الرسول إلى إدامة الصلاة ، ونحر الهدي شكرا لله [ إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وإنحر ] .
* وختمت السورة ببشارة الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) بخزي أعدائه ، ووصفت مبغضيه بالذلة والحقارة ، والإنقطاع من كل خير في الدنيا والآخرة ، بينما ذكر الرسول مرفوع على المنائر والمنابر ، واسمه الشريف على كل لسان ، خالد إلى آخر الدهر والزمان [ إن شانئك هو الأبتر ] . (1)
وقال ابن عاشور :
" اشتملت على بشارة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) بأنه أُعطي الخير الكثير في الدنيا والآخرة.
وأمره بأن يشكر الله على ذلك بالإِقبال على العبادة .
وأن ذلك هو الكمال الحق لا ما يتطاول به المشركون على المسلمين بالثروة والنعمة وهم مغضوب عليهم من الله تعالى لأنهم أبغضوا رسوله ، وغضب الله بتَرٌ لهم إذا كانوا بمحل السخط من الله .
وأن انقطاع الولد الذكر ليس بتراً لأن ذلك لا أثر له في كمال الإِنسان . " (2)
في السورة بشرى وتطمئن للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتنديد بمبغضيه. وقد روي أنها مدنية ومضمونها وأسلوبها يلهمان مكيتها وهو ما عليه الجمهور. (3)
هذه السورة خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كسورة الضحى ، وسورة الشرح . يسري عنه ربه فيها ، ويعده بالخير ، ويوعد أعداءه بالبتر ، ويوجهه إلى طريق الشكر .
ومن ثم فهي تمثل صورة من حياة الدعوة ، وحياة الداعية في أول العهد بمكة . صورة من الكيد والأذى للنبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوة الله التي يبشر بها؛ وصورة من رعاية الله المباشرة لعبده وللقلة المؤمنة معه؛ ومن تثبيت الله وتطمينه وجميل وعده لنبيه ومرهوب وعيده لشانئه .
كذلك تمثل حقيقة الهدى والخير والإيمان . وحقيقة الضلال والشر والكفران . . الأولى كثرة وفيض وامتداد . والثانية قلة وانحسار وانبتار . وإن ظن الغافلون غير هذا وذاك .
ورد أن سفهاء قريش ممن كانوا يتابعون الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودعوته بالكيد والمكر وإظهار السخرية والاستهزاء . ليصرفوا جمهرة الناس عن الاستماع للحق الذي جاءهم به من عند الله ، من أمثال العاص ابن وائل ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبي لهب ، وأبي جهل ، وغيرهم ، كانوا يقولون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه أبتر . يشيرون بهذا إلى موت الذكور من أولاده . وقال أحدهم : دعوه فإنه سيموت بلا عقب وينتهي أمره!
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 529)
(2) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 572)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 11)(1/1079)
وكان هذا اللون من الكيد اللئيم الصغير يجد له في البيئة العربية التي تتكاثر بالأبناء صدى ووقعاً . وتجد هذه الوخزة الهابطة من يهش لها من أعداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشانئيه ، ولعلها أوجعت قلبه الشريف ومسته بالغم أيضاً .
ومن ثم نزلت هذه السورة تمسح على قلبه - صلى الله عليه وسلم - بالرّوح والندى ، وتقرر حقيقة الخير الباقي الممتد الذي اختاره له ربه؛ وحقيقة الانقطاع والبتر المقدر لأعدائه . (1)
فضل السورة :
عَنْ ثَابِتٍ ، قَالَ : قَرَأَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر]. قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : الْكَوْثَرُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ يَجْرِي عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ ، حَافَّتَاهُ قِبَابُ الدُّرِّ ، قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : فَضَرَبْتُ بِيَدِي فَإِذَا طِينُهُ مِسْكٌ أَذْفَرُ ، وَإِذَا حَصْبَاؤُهُ اللُّؤْلُؤُ. (2)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : دَخَلْتُ الْجَنَّةَ ، فَإِذَا أَنَا بِنَهَرٍ حَافَّتَاهُ مِنَ اللُّؤْلُؤِ ، فَضَرَبْتُ بِيَدِي مَجْرَى الْمَاءِ ، فَإِذَا مِسْكٌ أَذْفَرُ ، فَقُلْتُ : يَا جِبْرِيلُ ، مَا هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا الْكَوْثَرُ أَعْطَاكَهُ اللَّهُ ، أَوْ أَعْطَاكَ رَبُّكَ.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : دَخَلْتُ الْجَنَّةَ ، فَإِذَا أَنَا بِنَهَرٍ يَجْرِي ، بَيَاضُهُ بَيَاضُ اللَّبَنِ ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ ، وَحَافَّتَاهُ خِيَامُ اللُّؤْلُؤِ ،فَضَرَبْتُ بِيَدِي ، فَإِذَا الثَّرَى مِسْكٌ أَذْفَرُ ، فَقُلْتُ لِجِبْرِيلَ : مَا هَذَا ؟ فَقَالَ : هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَهُ اللَّهُ. (3)
سبب نزول السورة :
كان المشركون من أهل مكة والمنافقون من أهل المدينة يعيبون النبي - صلى الله عليه وسلم - ويلمزونه بأمور :
(1) أنه إنما اتبعه الضعفاء ولم يتبعه السادة الكبراء ، ولو كان ما جاء به الدين صحيحا لكان أنصاره من ذوى الرأى والمكانة بين عشائرهم ، وهم ليسوا ببدع فى هذه المقالة ، فقد قال قوم نوح له فيما قصه اللّه علينا : « وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ » .
وقد جرت سنة اللّه فى خلقه أن يسرع فى إجابة دعوة الرسل الضعفاء ، من قبل أنهم لا يملكون مالا فيخافوا أن يضيع فى سبيل الدعوة الجديدة ، ولا جاها ونفوذا فيخافوا أن يضيعا أمام الجاه الذي منحه صاحب الدعوة - وأن يتخلف عنها السادة الكبراء حتى يدخلوا فى دين اللّه وهم له كارهون ، ومن ثم يظل الجدل بين أولئك الصناديد ورسل اللّه ، ويأخذون فى انتقاصهم. وكيل التهم لهم تهمة بعد تهمة ، واللّه ينصر رسله ويؤيدهم ويشدّ أزرهم.
__________
(1) - الظلال
(2) - صحيح ابن حبان - (14 / 389) (6471) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (6472و6473) صحيح(1/1080)
وعلى هذا السّنن سار أهل مكة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد تخلف عنه سادتهم وكبراؤهم حسدا له ولقومه الأدنين.
(2) إنهم كانوا إذا رأوا أبناءه يموتون ، يقولون : انقطع ذكر محمد وصار أبتر ، يحسبون ذلك عيبا فيلمزونه به ويحاولون تنفير الناس عن اتباعه.
(3) إنهم كانوا إذا رأوا شدة نزلت بالمؤمنين طاروا بها فرحا وانتظروا أن تدول الدّولة عليهم وتذهب ريحهم ، فتعود إليهم مكانتهم التي زعزعها الدين الجديد.
فجاءت هذه السورة لتؤكد لرسوله أن ما يرجف به المشركون وهم لا حقيقة له ، ولتمحص نفوس الذين لم تصلب قناتهم ، ولتردّ كيد المشركين فى نحورهم ، ولتعلمهم أن الرسول منتصر لا محالة. وأن أتباعه هم المفلحون. (1)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : لَمَّا قَدِمَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مَكَّةَ قَالَتْ قُرَيْشٌ : أَنَّهُ خَيْرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، أَوْ خَيْرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَسَيِّدُهُمْ ، أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا الَّذِي يَزْعُمَ إِنَّهَ خَيْرٌ مِنَّا وَنَحْنُ أَهْلُ الْحَجِيجِ وَأَهْلُ السَّدَانَةِ وَأَهْلُ السِّقَايَةِ ، أَمْ هَذَا الْمُنْبَتِرُ قَوْمَهُ ، يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا . قَالَ : بَلْ أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْهُ فَنَزَلَتْ : إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ الْآيَةَ " (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ : لَمَّا قَدِمَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مَكَّةَ قَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ : أَنْتَ خَيْرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَسَيِّدُهُمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالُوا : أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا الصُّنْبُورِ الْمُنْبَتِرِ مِنْ قَوْمِهِ يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا , وَنَحْنُ أَهْلُ الْحَجِيجِ وَأَهْلُ السِّدَانَةِ وَأَهْلُ السِّقَايَةِ ؟ قَالَ : أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْهُ . قَالَ : فَأُنْزِلَتْ : إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ وَأُنْزِلَتْ : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ إِلَى قَوْلِهِ : فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا " (3)
وعَنْ عِكْرِمَةَ ، قَالَ : لَمَّا أُوحِيَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَتْ قُرَيْشٌ : بُتِرَ مُحَمَّدٌ مِنَّا , فَنَزَلَتْ : {إنَّ شَانِئَك هُوَ الأَبْتَرُ} : الَّذِي رَمَاك بِهِ هُوَ الأَبْتَرُ. (4)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 252)
(2) - تَفْسِيرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (5479 ) صحيح
(3) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (8953) صحيح
(4) - مصنف ابن أبي شيبة (235) - (11 / 508) (32456) صحيح مرسل(1/1081)
المنح المعطاة للنبي - صلى الله عليه وسلم -
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) سورة الكافرون
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... الكَوثَرَ ... الخير الكثير
2 ... فَصَلِّ ... اشكر الله بصلاتك
2 ... وَانْحَرْ ... اذبح (يوم النحر) على اسم الله وحده لا شريك له
3 ... شَانِئَكَ ... عدوك و مبغضك
3 ... الأَبْتَرُ ... لا عقب له
المعنى الإجمالي:
كان المشركون حينما يرون النبي والمسلمين في قلة من العدد وقلة من المال يستخفون بهم ويهونون من شأنهم ظانين أن الحق والخير إنما يكون مع المال والغنى وكثرة العدد ، وإذا رأوا النبي وقد مات له ولد قالوا : قد بتر محمد ولم يبق له ذكر ، وكان المنافقون كذلك إذا رأوا ما عليه المسلمون من شدة وضيق ذات اليد انتظروا منهم السوء ومنوا أنفسهم بالغلبة عليهم ، وكان ضعاف المسلمين ربما وقع في نفوسهم شيء من خواطر السوء إذا وقعوا في ضيق أو شدة لهذا كله نزلت السورة تبين ما عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وما أعطى من الخير الكثير في الدنيا والآخرة ، وما سيؤول إليه حال حاسديه ومبغضيه ، ولعلنا نعتبر بذلك ونرضى!
إنا أعطيناك الكوثر ، أى : الخير الكثير البالغ حد الإفراط ، ألم يعطك ربك النبوة والدين الحق ؟ وأرسلك للناس كافة ؟ وجعل دينك خاتم الأديان ، ونهاية الرسالات ، وجمع فيه بين خير الدنيا والآخرة ، وجمع فيه الحسن والكمال من كل ناحية ؟ ألم يعطك القرآن والعلم والحكمة ؟ ألم يعطك الفضل الكثير والخير العميم ، والهدى والنور ؟
وسعادة الدنيا والآخرة لك ولأصحابك ولأمتك إلى يوم القيامة ؟ ! نعم أعطاك هذا كله ، ومن بينه الكوثر - إذا فسر بنهر في الجنة - وإذا كان الأمر كذلك فصل لربك وتوجه إليه وحده وتوكل عليه ولا ترج غيره فإنه نعم المولى ونعم النصير ، صل للّه وانحر ذبيحتك مما هو نسك للّه ، كل هذا له وحده فإنه هو الذي رباك وأعطاك وهداك ووفقك.
أما شانئوك وحاسدوك ومبغضوك فهم المقطوع أثرهم ، الذين لا يبقى لهم ذكر جميل ، وقد شبه اللّه الذكر الجميل بذنب الحيوان لأنه يتبعه وهو زينة له ، وشبه الحرمان من الأثر الطيب بقطع(1/1082)
الذنب ، وقد شاع البتر في ذلك ، وبعض العلماء يفسر الصلاة بصلاة العيد ، والنحر بالأضحية فقط ، وليس هذا بسديد. (1)
التفسير والبيان :
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي منحناك الخير الكثير البالغ في الكثرة إلى النهاية أو الغاية ، ومنه نهر في الجنة ، جعله اللَّه كرامة لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ولأمته.
وهذا رد على الأعداء الذين استخفوا به واستقلوه ، ووصف مناقض لما عليه أهل الكفر والنفاق من البخل.
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ أي كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة ، ومن ذلك نهر الكوثر ، فداوم على صلاتك المفروضة والنافلة ، وأدّها خالصة لوجه ربك ، وانحر ذبيحتك وأضحيتك وما هو نسك لك وهو الهدي (شاة أو بعير مقدّم للحرم) وغير ذلك من الذبائح للَّه تعالى وعلى اسم اللَّه وحده لا شريك له ، فإنه هو الذي تعهدك بالتربية وأسبغ عليك نعمه دون سواه ، كما جاء في آية أخرى آمرا له : قُلْ : إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ ، وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام 6/ 162- 163].
وهذا على نقيض فعل المشركين الذين كانوا يصلون لغير اللَّه ، وينحرون لغير اللَّه ، فأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن تكون صلاته ونحره له ، وهو أيضا نقيض فعل المنافقين المراءين.
وقال قتادة وعطاء وعكرمة : المراد صلاة العيد ، ونحر الأضحية.
قال ابن كثير : الصحيح أن المراد بالنحر ذبح المناسك ، ولهذا جاء عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رضى الله عنهما - قَالَ خَطَبَنَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الأَضْحَى بَعْدَ الصَّلاَةِ فَقَالَ « مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَإِنَّهُ قَبْلَ الصَّلاَةِ ، وَلاَ نُسُكَ لَهُ » . فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ خَالُ الْبَرَاءِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَإِنِّى نَسَكْتُ شَاتِى قَبْلَ الصَّلاَةِ ، وَعَرَفْتُ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونَ شَاتِى أَوَّلَ مَا يُذْبَحُ فِى بَيْتِى ، فَذَبَحْتُ شَاتِى وَتَغَدَّيْتُ قَبْلَ أَنْ آتِىَ الصَّلاَةَ . قَالَ « شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ » . قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَإِنَّ عِنْدَنَا عَنَاقًا لَنَا جَذَعَةً هِىَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ شَاتَيْنِ ، أَفَتَجْزِى عَنِّى قَالَ « نَعَمْ ، وَلَنْ تَجْزِىَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ » (2) .
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 910)
(2) - صحيح البخارى(955 )
الجَذعة : ما استكمل سنة ولم يدخل فى الثانية -الجَذعة : ما استكمل سنة ولم يدخل فى الثانية - العناق : الأنثى من ولد المعز أتى عليها أربعة أشهر(1/1083)
عَنِ الضَّحَّاكِ ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قَالَ : صَلِّ لِرَبِّكَ وَسَلْ " وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ : وَانْحَرْ وَاسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ بِنَحْرِكَ . وَذُكِرَ أَنَّهُ سُمِعَ بَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ : مَنَازِلُهُمْ تَتَنَاحَرُ : أَيْ هَذَا بِنَحْرِ هَذَا : أَيْ قُبَالَتَهُ . وَذُكِرَ أَنَّ بَعْضَ بَنِي أَسَدٍ أَنْشَدَهُ :
أَبَا حَكَمٍ هَلْ أَنْتَ عَمُّ مُجَالِدٍ وَسَيِّدُ أَهْلِ الْأَبْطَحِ الْمُتَنَاحِرِ
أَيْ يَنْحَرُ بَعْضُهُ بَعْضًا . وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ : قَوْلُ مَنْ قَالَ : مَعْنَى ذَلِكَ : فَاجْعَلْ صَلَاتَكْ كُلَّهَا لِرَبِّكَ خَالِصًا دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ ، وَكَذَلِكَ نَحْرُكَ اجْعَلْهُ لَهُ دُونَ الْأَوْثَانِ ، شُكْرًا لَهُ عَلَى مَا أَعْطَاكَ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْخَيْرِ الَّذِي لَا كُفْءَ لَهُ ، وَخَصَّكَ بِهِ ، مِنْ إِعْطَائِهِ إِيَّاكَ الْكَوْثَرَ . وَإِنَّمَا قُلْتُ : ذَلِكَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا أَكْرَمَهُ بِهِ مِنْ عَطِيَّتِهِ وَكَرَامَتِهِ ، وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ بِالْكَوْثَرِ ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ قَوْلَهُ : فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ، فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّهُ خَصَّهُ بِالصَّلَاةِ لَهُ ، وَالنَّحْرِ عَلَى الشُّكْرِ لَهُ ، عَلَى مَا أَعْلَمَهُ مِنَ النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِ ، بِإِعْطَائِهِ إِيَّاهُ الْكَوْثَرَ ، فَلَمْ يَكُنْ لِخُصُوصِ بَعْضِ الصَّلَاةِ بِذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ ، وَبَعْضِ النَّحْرِ دُونَ بَعْضٍ وَجْهٌ ، إِذْ كَانَ حَثًّا عَلَى الشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ . فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ : إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ الْكَوْثَرَ ، إِنْعَامًا مِنَّا عَلَيْكَ بِهِ ، وَتَكْرُمَةً مِنَّا لَكَ ، فَأَخْلِصْ لِرَبِّكَ الْعِبَادَةَ ، وَأَفْرِدْ لَهُ صَلَاتَكَ وَنُسُكَكَ ، خِلَافًا لِمَا يَفْعَلُهُ مَنْ كَفَرَ بِهِ ، وَعَبَدَ غَيْرَهُ ، وَنَحَرَ لِلْأَوْثَانِ " (1)
إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ أي إن مبغضك يا محمد ، ومبغض ما جئت به من الهدى والحق والبرهان الساطع والنور المبين هو الأبتر الأقل الأذل المنقطع عن خيري الدنيا والآخرة ، والذي لا يبقى ذكره بعد موته. وهذا رد على ما قال بعض المشركين وهو العاص بن وائل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات ابنه عبد اللَّه من خديجة : إنه أبتر ، وهذا قول ابن عباس ومقاتل والكلبي وعامة أهل التفسير.
والأبتر من الرجال : الذي لا ولد له. وعن ابن عباس : نزلت في أبي جهل.
وهذا يعم جميع من اتصف بعداوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن ذكر في سبب النزول وغيرهم. (2)
ومضات :
قال ابن كثير : والآية تعم جميع من اتصف بذلك ، ممن ذكر وغيرهم .
وقال الإمام : كان المستهزئون من قريش كالعاص بن وائل وعقبة بن أبي معيط وأبي لهب وأمثالهم ، إذا رأوا أبناء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يموتون ، يقولون : بتر محمد ، أي : لم يبق له ذكر في أولاده من بعده ، ويعدون ذلك عيباً يلمزونه به وينفرون به الناس من أتباعه ، وكانوا إذا رأوا
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (35467 )
(2) - انظر تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 253)(1/1084)
ضعف المسلمين وفقرهم وقلتهم يستخفون بهم ويهونون أمرهم ، ويعدّون ذلك مغمزاً في الدين ، ويأخذون القلة والضعف دليلاً على أن الدين ليس بحق ، ولو كان حقاً لنشأ مع الغنى والقوة شأن السفهاء مع الحق في كل زمان أو مكان غلب فيه الجهل . وكان المنافقون إذا رأوا ما فيه المؤمنون من الشدة والبأساء يمنّون أنفسهم بغلبة إخوانهم القدماء من الجاحدين ، وينتظرون السوء بالمسلمين لقلة عددهم وخلوّ أيديهم من المال . وكان الضعفاء من حديثي العهد بالإسلام من المؤمنين ، تمُرُ بنفوسهم خواطر السوء عندما تشتد عليهم حلقات الضيق ؛ فأراد الله سبحانه أن يمحص من نفوس هؤلاء ، ويبكّت الآخرين ، ليؤكد له الوعد بأنه هو الفائز وأن متبعه هو الظافر ، وإن عدوه هو الخائب الأبتر الذي يُمحى ذِكره ويعفى أثره . (1)
الخطاب في الآيات موجه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبيل البشرى والتطمين. فقد أعطاه اللّه الكوثر ، فعليه أن يصلي لربه ويقرب إليه القرابين شكرا. ويتأكد أن عدوه ومبغضه هو الأبتر.
وقد روى المفسرون عَنْ قَتَادَةَ ، " إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ قَالَ : هُوَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ ، قَالَ : أَنَا شَانِئُ مُحَمَّدًا ، وَهُوَ أَبْتَرُ ، لَيْسَ لَهُ عَقِبٌ ، قَالَ اللَّهُ : إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ قَالَ قَتَادَةُ : الْأَبْتَرُ : الْحَقِيرُ الدَّقِيقُ الذَّلِيلُ " (2)
ومضمون الآيات وروحها يلهمان صحة الرواية ويلهمان أن قول الكافر ونعته النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنعت المؤذي قد أثارا في نفسه أزمة ، فأنزل اللّه السورة ترد عليه وتحمل البشرى والتطمين للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالأسلوب القوي الذي جاءت به حيث تقول له إن اللّه قد أعطاه الكوثر ومن أعطي الكوثر فلن يكون أبتر وأن مبغضه المقطوع من رحمة اللّه لهو الحري بهذا النعت وعليه أن يشكر اللّه بالصلاة وذبح القرابين تقربا إليه.
ومما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مستغرقا في النوم فأفاق ضاحكا مستبشرا ثم قال نزلت عليّ هذه السورة . وهذه الرواية لم ترد في كتب الصحاح. وإن صحت ففيها صورة من صور الوحي القرآني. وهناك رواية تذكر أن السورة نزلت يوم الحديبية بسبيل التنويه بما تم للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين في ذلك اليوم من الفتح وبشرى وأمر بالصلاة ونحر الهدي في الحديبية . وكان إذ ذاك عيد الفطر ، ولم ترد هذه الرواية في كتب الصحاح ولا في كتب السيرة القديمة التي روت تفاصيل يوم الحديبية. على أن جمهور الرواة والمفسرين على أن السورة مكية ومن السور المبكرة جدا في النزول.
وقد تعددت الأقوال في معنى الكوثر وفي المقصود من الصلاة والنحر. ففي صدد الكوثر روى البخاري والترمذي عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «لمّا عرج بي إلى السماء أتيت على نهر حافتاه
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 331)
(2) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (35473 ) صحيح مرسل(1/1085)
قباب اللؤلؤ مجوّفا فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال : هذا الكوثر». وروى البخاري عن عائشة رضي اللّه عنها سئلت عن قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ الكوثر [1] فقالت : «نهرا أعطيه نبيّكم - صلى الله عليه وسلم - شاطئاه عليه درّ مجوّف آنيته كعدد النجوم». وروى الترمذي وأبو داود عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
«بينا أنا أسير في الجنة إذ عرض لي نهر حافتاه قباب اللؤلؤ قلت للملك ما هذا قال هذا الكوثر الذي أعطاكه اللّه ثم ضرب بيده إلى طينه فاستخرج مسكا ثمّ رفعت لي سدرة المنتهى فرأيت عندها نورا عظيما». وروى الترمذي عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدرر والياقوت تربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج» . وإلى جانب هذه الأحاديث التي رواها الطبري بنصوصها أو نصوص مقاربة أورد هذا المفسر أقوالا رواها عن رواة عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير من علماء أصحاب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وتابعيهم تذكر أن معنى الكلمة الخير الكثير الذي أعطاه اللّه لنبيه والنبوة والحكمة والقرآن. ومما أورده الطبري أن سائلا سأل سعيد بن جبير عن معناها فلما قال له الخير الكثير قال السائل كنا نسمع أنه نهر في الجنة؟ فقال : هو الخير الكثير الذي أعطاه اللّه لنبيه وفي رواية أخرى أنه نهر وغيره ... .
فيمكن والحالة هذه أن يقال إن ابن عباس وتلامذته لم يثبت عندهم تلك الأحاديث ففسروا الكلمة بهذه التفسيرات الوجيهة المتسقة مع ظروف الدعوة الأولى التي كان يلقى النبي فيها المواقف الشديدة فتقتضي حكمة التنزيل تثبيته وتطمينه وتذكيره بما أنعم اللّه عليه من نعم عظمى وحثه على التقرب إليه بالصلاة والشكر مما تكرر في السور السابقة.
ومما يلحظ أن ترتيب هذه السورة سابق على سورة النجم التي تروي مشاهد الإسراء والمعراج في سياق آياتها الأولى. وقد يكون في هذا تدعيم لذلك التفسير والتوجيه.
ولقد جمع سعيد بن جبير مع ذلك في جوابه بين القولين. وقد يكون في هذا توفيق موفق واللّه تعالى أعلم.
وأما الصلاة والنحر فليس فيهما حديث صحيح. وقد قيل إن الصلاة هي صلاة الفجر يوم عيد النحر كما قيل إنها صلاة ذلك العيد وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر في الآية بنحر القربان عقب الصلاة على اختلاف الوقتين المرويين. وهناك من قال إنهما أمران مطلقان للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة والتقرب إليه بالقرابين شكرا على نعمه الكثيرة التي والاها عليه. كما أن هناك من قال إنها تأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن تكون صلاته ونحره للّه وحده إذا كان قومه يصلون وينحرون لغيره وقد أعطاه الخير الكثير .(1/1086)
ونحن نميل إلى ترجيح أحد القولين الأخيرين واللّه أعلم. (1)
الكوثر : مبالغة فى الكثرة ، والمراد بالكثرة هنا ، الكثرة فى العطاء من الخير والإحسان ، والخطاب هنا للنبى صلوات اللّه وسلامه عليه.
والمراد بهذا الخبر هو التنويه بمقام النبىّ الكريم عند ربه جلّ وعلا ، وبرضاه عنه ، ذلك الرضا الذي لا حدود له ، والذي تملأ القطرة منه وجوه الوجود ، بشاشة ، ومسرّة ، وإسعادا ..
وفى إطلاق لفظ الكوثر ، دون قيده بنوع ، أو قدر ـ إشارة إلى تناوله كل ما هو خير ، وبلوغه إلى ما لا يعرف له نهاية أو حدّ ، كما أنه إشارة أخرى إلى أنه خير ، وخير مطلق ، مصفّى من كل شائبة ، خالص من كل كدر .. ذلك أنه عطاء ، والعطاء لا يكون إلا مما هو خير ، وإحسان ، فكيف إذا كان عطاء من يد اللّه سبحانه وتعالى ؟ .. إن صفة هذا العطاء هى من صفات المعطى جلّ وعلا .. فلا تسل بعد هذا ما يكون هذا العطاء! « هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ ». . وإنه لحسب المؤمن إذا دعا ربه أن يقول : « اللهم أعطنى ، ولا تحرمنى ».
. فإذا اللّه دعاءه ، فليسعد السعادة كلها بما أعطى من عطاء ربه! فاللهم أعطنا ولا تحرمنا ، واللهم استجب لنا ولا تردنا ، فأنت خير من أعطى ، وأكرم من سئل ..
ولعلك تسأل : وماذا أعطى النبي الكريم ؟ .
لقد أعطى اللّه سبحانه وتعالى النبي الكريم خير ما أعطى عبدا من عباده ..وحسبه أنه خاتم النبيين ، وحسبه القرآن الذي كمل به دين اللّه ، وتمت به شريعته ، وحسبه الدعوة التي قام عليها ، وبلغ بها غايتها ، وأقام بها دين اللّه فى الأرض ، وغرس مغارسه فى مشارقها ومغاربها .. وحسبه أن رفع اللّه تعالى ذكره فى العالمين إلى يوم الدين. وحسبه أن أسرى به مولاه إلى السموات العلا ، واستضافه فى الملأ الأعلى ، وأراه من آيات ربه الكبرى .. « أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ، وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ، وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ »..
« أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ، وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى »..« وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً » (113 : النساء) .. « وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى »..هذا بعض ما أعطى اللّه سبحانه نبيّه الكريم ، وإنّ عطية واحدة من هذه العطايا لنملأ الدنيا كلها خيرا وبركة ، وتسع الناس جميعا سعادة ورضا! وهذا هو ميزان الرسول الكريم عند ربه ، دون الناس جميعا .. وإنه ميزان ليرجح كل ما أعطى الناس من جزيل عطايا اللّه سبحانه وتعالى ومننه ..
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 11)(1/1087)
فكل ما أعطى الناس بعد هذا ، أو قبل هذا ، من مال وبنين ، ومن علم ومعرفة ، ومن هدى ونور ، وكل ما أصابوا من خير مادى أو معنوى ـ هو من بعض هذا الذي أعطى رسول اللّه صلوات اللّه وسلامه عليه .. فما أعظم هذا الغنى وما أطيبه ، وما أبقاه وأخلده .. « وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى » (131 : طه) وهل يلتفت رسول اللّه بعد هذا إلى ما عند الناس مما رزقهم اللّه من مال وبنين ؟ وهل يرى شيئا من حطام الدّنيا يجرى مع هذا الذي أعطاه اللّه ، ويأخذ له مكانا فيه ؟ وهل تشتهى نفس بين يديها مائدة حافلة بطيب الطعام ، وصنوف المآكل ، إلى فتات فى مزبلة يتداعى عليها الذباب ؟
وقوله تعالى : « فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ». الفاء هنا للسببية ، والتعقيب على هذه البشرى المسعدة التي شرح سبحانه وتعالى بها صدر النبي الكريم ، وملأ قلبه بها سعادة ورضا .. وإذن فليشكر ربّه ، وليسبح بحمده ، عرفانا بهذا العطاء الجزيل ، وتقديرا لقدره ..
والصلاة ، هى أفضل القربات إلى اللّه ، وأعظم وسائل الزّلفى إليه ، والولاء له .. واللام فى قوله تعالى : « لربك » لام الملكية ، أي صل الصلاة للّه وحده ، واجعلها خالصة له سبحانه ، لا يدخل عليها شىء من الغفلة ، أو الاشتغال بغير اللّه ..وقوله تعالى : « وانحر » أي أطعم الفقراء والمساكين .. فهذا من الزكاة التي هى أخت الصلاة ..وقد اختلف المفسرون فى هذه الصلاة : أهي صلاة عيد الأضحى ، أم هى الصلاة على إطلاقها .. وكذلك اختلفوا فى النحر ، وهل هو ما ينحر من الأضاحى ، يوم عيد النحر ، بعد الصلاة ، أم هو النحر إطلاقا ؟ والأولى عندنا أن تكون الصلاة مطلقة ، لا يراد بها صلاة عيد الأضحى ، بل المراد بالأمر بها المداومة عليها ولو كانت صلاة عيد الأضحى ، لخفّ فى مقابلها وزن هذا العطاء الجزيل الذي أعطاه اللّه نبيه ، فى قوله تعالى : « إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ».
. فصلاة عيد الأضحى ركعتان لا غير فى كل عام .. ثم إن صلاة العيد هذه ليست فرضا ، وإنما هى سنة!! فهل هاتان الركعتان تتوازنان مع هذا العطاء الجزيل ، وهل يقومان بواجب الشكر عليه ؟
فالمراد بالصلاة إذن هى الصلاة مطلقة فى فرائضها ، وسننها .. ونوافلها ..
وهى صلاة تكاد تكون مستغرقة معظم الأيام والليالى مدى العمر .. وهذا ما يمكن أن يكون فى مقام الحمد والشكر على ما أعطى النبي الكريم من ربه ، هذا العطاء الجليل الكثير ، الذي لا حدود له ..
وعلى هذا ، فالقول بأن المراد بالنحر ، هو نحر الأضحية بعد صلاة العيد ،قول متهافت ، وأولى منه أن يراد به مطلق النحر ، وأن يراد بمطلق النحر ، إطعام الفقراء والمساكين ، وأن(1/1088)
يراد بإطعام الفقراء والمساكين الزكاة ، إذ كان من بعضها ما يطعم منه الفقراء والمساكين .. وعبّر عن إطعامهم بما ينحر من ذبائح ، لأن ذلك خير ما يطعمونه إذ كان اللحم هو الطعام الذي يتشهاه الفقراء والمحرمون ، ولا يجدون سبيلا إليه ، وإن وجدوا السبيل إلى لقمة العيش !! وقوله تعالى : « إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ».
الشانئ : هو المبغض ، والمعادى ، والمتجنب لمن يبغضه ويعاديه ..
والأبتر : المنقطع عن كل خير ، المحروم من كل ما فيه غناء ونقع ..
وشانىء النبىّ ، هو المكذّب له ، الكافر بما يدعو إليه من الإيمان باللّه ، واليوم الآخر ، والعمل الصالح الذي يرضى اللّه ، ويقرّب العبد من رحمته ، فيخلص بهذا من عذاب الآخرة ، وينجو من أهوالها وشدائدها ..
وشانىء النبي ، محروم من كل خير ، منقطع عن موارد الهدى والنور ، فهو إلى ضياع وهلاك ، وإلى عذاب جهنم خالدا فيها أبدا .. إن شانىء النبي ومبغضه مصروف عن الإيمان باللّه ، واليوم الآخر .. وحسبه بهذا هلاكا وضياعا ، وحرمانا من كل خير ..
هذا هو حظ شانىء النبي ومبغضه ، فى كل زمان ومكان .. إنه البعد عن كل خير ، والحرمان من كل طيّب ، ثم العذاب الأليم فى نار جهنم ..
والروايات التي تحدّث عن أن هذه السورة نزلت فى العاص بن وائل ، أو عقبة بن أبى معيط ، أو أبى جهل ، أو أبى لهب ، وأنهم كانوا يعيّرون النبي - صلى الله عليه وسلم - بموت ولديه ، القاسم ، وعبد اللّه ، وأنه لا نسل له غير هما من الذكور ، وأن عقبه قد بتر وانقطع ـ هذه الروايات إن دلت على شىء ، فإنما تدل على أن نزول هذه السورة الكريمة ، كان فى هذا الوقت الذي تتحدث به قريش بهذا الحديث المنكر ، وأن ذلك كان مناسبة جاءت فى وقتها ، لا أن هذا الحديث كان سببا باعثا لنزولها ، إذ كانت محامل السورة أعظم قدرا ، وأكبر شأنا ، من أن تلتقى مع هذا الحديث عن الولد ، وحفظ النسل به ، وإن كان ذلك مما تعنزّ به قريش ، وتحرص عليه. (1)
والكوثر صيغة من الكثرة . . وهو مطلق غير محدود . يشير إلى عكس المعنى الذي أطلقه هؤلاء السفهاء . . إنا أعطيناك ما هو كثر فائض غزير . غير ممنوع ولا مبتور . . فإذا أراد أحد أن يتتبع هذا الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه فهو واجده حيثما نظر أو تصور .
هو واجده في النبوة . في هذا الاتصال بالحق الكبير ، والوجود الكبير . الوجود الذي لا وجود غيره ولا شيء في الحقيقة سواه . وماذا فقد من وجد الله؟
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1690)(1/1089)
وهو واجده في هذا القرآن الذي نزل عليه . وسورة واحدة منه كوثر لا نهاية لكثرته ، وينبوع ثر لا نهاية لفيضه وغزارته!
وهو واجده في الملأ الأعلى الذي يصلي عليه ، ويصلي على من يصلي عليه في الأرض ، حيث يقترن اسمه باسم الله في الأرض والسماء .
وهو واجده في سنته الممتدة على مدار القرون ، في أرجاء الأرض . وفي الملايين بعد الملايين السائرة على أثره ، وملايين الملايين من الألسنة والشفاه الهاتفة باسمه ، وملايين الملايين من القلوب المحبة لسيرته وذكراه إلى يوم القيامة .
وهو واجده في الخير الذي فاض على البشرية في جميع أجيالها بسببه وعن طريقه . سواء من عرفوا هذا الخير فآمنوا به ، ومن لم يعرفوه ولكنه فاض عليهم فيما فاض!
وهو واجده في مظاهر شتى ، محاولة إحصائها ضرب من تقليلها وتصغيرها!
إنه الكوثر ، الذي لا نهاية لفيضه ، ولا إحصاء لعوارفه ، ولا حد لمدلوله . ومن ثم تركه النص بلا تحديد ، يشمل كل ما يكثر من الخير ويزيد . .
وقد وردت روايات من طرق كثيرة أن الكوثر نهر في الجنة أوتيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن ابن عباس أجاب بأن هذا النهر هو من بين الخير الكثير الذي أوتيه الرسول . فهو كوثر من الكوثر! وهذا هو الأنسب في هذا السياق وفي هذه الملابسات .
{ فصل لربك وانحر } . بعد توكيد هذا العطاء الكثير الفائض الكثرة ، على غير ما أرجف المرجفون وقال الكائدون ، وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى شكر النعمة بحقها الأول . حق الإخلاص والتجرد لله في العبادة وفي الاتجاه . . في الصلاة وفي ذبح النسك خالصاً لله : { فصل لربك وانحر } . . غير ملق بالاً إلى شرك المشركين ، وغير مشارك لهم في عبادتهم أو في ذكر غير اسم الله على ذبائحهم .
وفي تكرار الإشارة إلى ذكر اسم الله على الذبائح ، وتحريم ما أهل به لغير الله ، وما لم يذكر اسم الله عليه . . ما يشي بعناية هذا الدين بتخليص الحياة كلها من عقابيل الشرك وآثاره . لا تخليص التصور والضمير وحدهما . فهو دين الوحدة بكل معنى من معانيها ، وكل ظل من ظلالها؛ كما أنه دين التوحيد الخالص المجرد الواضح . ومن ثم فهو يتتبع الشرك في كل مظاهره ، وفي كل مكامنه؛ ويطارده مطاردة عنيفة دقيقة سواء استكن في الضمير ، أم ظهر في العبادة ، أم تسرب إلى تقاليد الحياة فالحياة وحدة ما ظهر منها وما بطن ، والإسلام يأخذها كلا لا يتجزأ ، ويخلصها من شوائب الشرك جميعاً ، ويتجه بها إلى الله خالصة واضحة ناصعة ، كما نرى في مسألة الذبائح وفي غيرها من شعائر العبادة أو تقاليد الحياة . .{ إن شانئك هو(1/1090)
الأبتر } . .في الآية الأولى قرر أنه ليس أبتر بل هو صاحب الكوثر . وفي هذه الآية يرد الكيد على كائديه ، ويؤكد سبحانه أن الأبتر ليس هو محمد ، إنما هم شانئوه وكارهوه .
ولقد صدق فيهم وعيد الله . فقد انقطع ذكرهم وانطوى . بينما امتد ذكر محمد وعلا . ونحن نشهد اليوم مصداق هذا القول الكريم ، في صورة باهرة واسعة المدى كما لم يشهده سامعوه الأولون!
إن الإيمان والحق والخير لا يمكن أن يكون أبتر . فهو ممتد الفروع عميق الجذور . وإنما الكفر والباطل والشر هو الأبتر مهما ترعرع وزها وتجبر ..
إن مقاييس الله غير مقاييس البشر . ولكن البشر ينخدعون ويغترون فيحسبون مقاييسهم هي التي تقرر حقائق الأمور! وأمامنا هذا المثل الناطق الخالد . . فأين الذين كانوا يقولون عن محمد - صلى الله عليه وسلم - قولتهم اللئيمة ، وينالون بها من قلوب الجماهير ، ويحسبون حينئذ أنهم قد قضوا على محمد وقطعوا عليه الطريق؟ أين هم؟ وأين ذكراهم ، وأين آثارهم؟ إلى جوار الكوثر من كل شيء ، ذلك الذي أوتيه من كانوا يقولون عنه : الأبتر؟!
إن الدعوة إلى الله والحق والخير لا يمكن أن تكون بتراء ولا أن يكون صاحبها أبتر ، وكيف وهي موصولة بالله الحي الباقي الأزلي الخالد؟ إنما يبتر الكفر والباطل والشر ويبتر أهله ، مهما بدا في لحظة من اللحظات أنه طويل ممتد الجذور . .
وصدق الله العظيم . وكذب الكائدون الماكرون . . (1)
الكلام عن حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -
يكرم الله عبده ورسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - في الموقف العظيم بإعطائه حوضا واسع الأرجاء ماؤه أبيض من اللبن ، وأحلى من العسل ، وريحه أطيب من المسك ، وكيزانه كنجوم السماء ، يأتيه هذا الماء الطيب من نهر الكوثر ، الذي أعطاه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في الجنة ، ترد عليه أمة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا.
وقد اختلف أهل العلم في موضعه فذهب الغزالي والقرطبي إلى أنه يكون قبل المرور على الصراط في عرصات يوم القيامة، واستدلوا على ذلك بأنه يؤخذ بعض وارديه إلى النار فلو كان بعد الصراط لما استطاعوا الوصول إليه، واستظهر ابن حجر أن مذهب البخاري أن الحوض يكون بعد الصراط لأن البخاري أورد أحاديث الحوض بعد أحاديث الشفاعة ، وأحاديث نصب الصراط . وما ذهب إليه الغزالي والقرطبي أرجح .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3989)(1/1091)
الأحاديث الواردة فيه
عَنِ ابْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « حَوْضِى مَسِيرَةُ شَهْرٍ ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلاَ يَظْمَأُ أَبَدًا » متفق عليه (1) .
وعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، قَالَ : قَالَ : ابْنُ عَمْرٍو ، قَالَ : رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ ، زَوَايَاهُ سَوَاءً ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ ، وَأَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ ، آنِيَتُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لاَ يَظْمَأُ بَعْدَهُ أَبَدًا. (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ حَوْضِى أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنٍ لَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ بِاللَّبَنِ وَلآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ وَإِنِّى لأَصُدُّ النَّاسَ عَنْهُ كَمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ إِبِلَ النَّاسِ عَنْ حَوْضِهِ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَعْرِفُنَا يَوْمَئِذٍ قَالَ « نَعَمْ لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لأَحَدٍ مِنَ الأُمَمِ تَرِدُونَ عَلَىَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ » (3) .المحجل : أبيض مواضع الوضوء من اليدين -الغر : جمع الأغر وهو أبيض الوجه
وعَنْ قَتَادَةَ قَالَ قَالَ أَنَسٌ قَالَ نَبِىُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « تُرَى فِيهِ أَبَارِيقُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ » (4) .
وعَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنِّى لَبِعُقْرِ حَوْضِى أَذُودُ النَّاسَ لأَهْلِ الْيَمَنِ أَضْرِبُ بِعَصَاىَ حَتَّى يَرْفَضَّ عَلَيْهِمْ ». فَسُئِلَ عَنْ عَرْضِهِ فَقَالَ « مِنْ مَقَامِى إِلَى عَمَّانَ ». وَسُئِلَ عَنْ شَرَابِهِ فَقَالَ « أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ يَغُتُّ فِيهِ مِيزَابَانِ يَمُدَّانِهِ مِنَ الْجَنَّةِ أَحَدُهُمَا مِنْ ذَهَبٍ وَالآخَرُ مِنْ وَرِقٍ » (5) . يغت : يدفق فيه دفقا دائما متتابعا -الورق : الفضة -الميزاب : أنبوبة تركب فى جانب البيت من أعلاه لينصرف منها ماء المطر
وعَنْ حَارِثَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « حَوْضُهُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ ». فَقَالَ لَهُ الْمُسْتَوْرِدُ أَلَمْ تَسْمَعْهُ قَالَ « الأَوَانِى ». قَالَ لاَ. فَقَالَ الْمُسْتَوْرِدُ « تُرَى فِيهِ الآنِيَةُ مِثْلَ الْكَوَاكِبِ » (6) .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ أَمَامَكُمْ حَوْضًا مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْهِ كَمَا بَيْنَ جَرْبَا وَأَذْرُحَ » (7) .
__________
(1) - صحيح البخارى (6579 ) وصحيح مسلم (6111 )
(2) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 364) (6452) صحيح
(3) - صحيح مسلم (604 )
(4) - صحيح مسلم (6140 )
(5) - صحيح مسلم(6130 )
(6) - صحيح مسلم (6122 )
(7) - صحيح مسلم (6124 )(1/1092)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ أَمَامَكُمْ حَوْضًا كَمَا بَيْنَ جَرْبَا وَأَذْرُحَ فِيهِ أَبَارِيقُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ مَنْ وَرَدَهُ فَشَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا » (1) .
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا آنِيَةُ الْحَوْضِ قَالَ « وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَكَوَاكِبِهَا أَلاَ فِى اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْمُصْحِيَةِ آنِيَةُ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يَظْمَأْ آخِرَ مَا عَلَيْهِ يَشْخُبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ مَا بَيْنَ عَمَّانَ إِلَى أَيْلَةَ مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ » (2) .
يشخب : يسيل -المصحية : التى لا غيم فيها -الميزاب : أنبوبة تركب فى جانب البيت من أعلاه لينصرف منها ماء المطر
وعَنْ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ. (3)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ ، وَالْمَدِينَةِ. (4)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ ، وَصَنْعَاءَ ، أَوْ كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ ، وَعَمَّانَ. (5)
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَذِهِ الأَخْبَارُ الأَرْبَعُ قَدْ تُوهِمُ مَنْ لَمْ يُحْكِمُ صِنَاعَةَ الْحَدِيثِ أَنَّهَا مُتَضَادَّةٌ ، أَوْ بَيْنَهَا تَهَاتِرُ ، لأَنَّ فِي خَبَرِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ : مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ ، وَالْمَدِينَةِ وَفِي خَبَرِ جَابِرٍ : مَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى مَكَّةَ ، وَفِي خَبَرِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ : مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ إِلَى بُصْرَى ، وَفِي خَبَرِ قَتَادَةَ : مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَعَمَّانَ ، وَلَيْسَ بَيْنَ هَذِهِ الأَخْبَارِ تَضَادٌّ ، وَلاَ تَهَاتِرٌ ، لأَنَّهَا أَجْوِبَةٌ خَرَجَتْ عَلَى أَسْئِلَةٍ ذَكَرَ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - ، فِي كُلِّ خَبَرٍ مِمَّا ذَكَرْنَا جَانِبًا مِنْ جَوَانِبِ حَوْضِهِ أَنَّ مَسِيرَةَ كُلَّ جَانِبٍ مِنْ حَوْضِهِ مَسِيرَةُ شَهْرٍ ، فَمِنْ صَنْعَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِغَيْرِ الْمُسْرِعِ ، وَمِنْ أَيْلَةَ إِلَى مَكَّةَ كَذَلِكَ ، وَمِنْ صَنْعَاءَ إِلَى بُصْرَى كَذَلِكَ ، وَمِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى عَمَّانَ ، الشَّامِ كَذَلِكَ.
ـــــــــــــ
__________
(1) - صحيح مسلم (6128)
(2) - صحيح مسلم (6129 )
(3) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 357) (6445) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 359) (6448) صحيح
(5) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 362) (6451) صحيح(1/1093)
الذين يردون الحوض والذين يطردون عنه
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ ، وَلَيُرْفَعَنَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ دُونِى فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِى . فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ » رواه البخاري (1)
وعَنْ أَبِى حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ ، مَنْ وَرَدَهُ شَرِبَ مِنْهُ ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا ، لَيَرِدُ عَلَىَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِى ، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ » (2) . الفرط : المتقدم والمراد الشفيع
وعَنِ الصُّنَابِحِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَلاَ إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ ، وَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ ، فَلاَ تَقْتَتِلُنَّ بَعْدِي. (3)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنِّى فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ ، مَنْ مَرَّ عَلَىَّ شَرِبَ ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا ، لَيَرِدَنَّ عَلَىَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِى ، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ » . قَالَ أَبُو حَازِمٍ فَسَمِعَنِى النُّعْمَانُ بْنُ أَبِى عَيَّاشٍ فَقَالَ هَكَذَا سَمِعْتَ مِنْ سَهْلٍ فَقُلْتُ نَعَمْ . فَقَالَ أَشْهَدُ عَلَى أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ لَسَمِعْتُهُ وَهْوَ يَزِيدُ فِيهَا « فَأَقُولُ إِنَّهُمْ مِنِّى . فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ . فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِى » . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سُحْقًا بُعْدًا ، يُقَالُ سَحِيقٌ بَعِيدٌ ، وَأَسْحَقَهُ أَبْعَدَهُ . (4)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ « السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا ». قَالُوا أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « أَنْتُمْ أَصْحَابِى وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ ». فَقَالُوا كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ « أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَىْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلاَ يَعْرِفُ خَيْلَهُ ». قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ أَلاَ لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِى كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ أُنَادِيهِمْ أَلاَ هَلُمَّ. فَيُقَالُ إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا » (5) .
بهم : جمع بهيم وهو الأسود وقيل الذى لايخالط لونه لون سواه -الدهم : جمع أدهم وهو الأسود
__________
(1) - صحيح البخارى(6576 ) ومسلم (6118)
(2) - صحيح البخارى (7050 ) ومسلم (6108)
(3) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 357) (6446) صحيح
(4) - صحيح البخارى (6583 و6584)
(5) - صحيح مسلم (607 )(1/1094)
وعَنْ أَبِى حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ سَهْلاً يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ مَنْ وَرَدَ شَرِبَ وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا وَلَيَرِدَنَّ عَلَىَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِى ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ ». قَالَ أَبُو حَازِمٍ فَسَمِعَ النُّعْمَانُ بْنُ أَبِى عَيَّاشٍ وَأَنَا أُحَدِّثُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ هَكَذَا سَمِعْتَ سَهْلاً يَقُولُ قَالَ فَقُلْتُ نَعَمْ. قَالَ وَأَنَا أَشْهَدُ عَلَى أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ لَسَمِعْتُهُ يَزِيدُ فَيَقُولُ « إِنَّهُمْ مِنِّى. فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِى مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِى » (1) . الفرط : المتقدم والمراد الشفيع
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « تَرِدُ عَلَىَّ أُمَّتِى الْحَوْضَ وَأَنَا أَذُودُ النَّاسَ عَنْهُ كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ إِبِلَ الرَّجُلِ عَنْ إِبِلِهِ ». قَالُوا يَا نَبِىَّ اللَّهِ أَتَعْرِفُنَا قَالَ « نَعَمْ لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لأَحَدٍ غَيْرِكُمْ تَرِدُونَ عَلَىَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ وَلَيُصَدَّنَّ عَنِّى طَائِفَةٌ مِنْكُمْ فَلاَ يَصِلُونَ فَأَقُولُ يَا رَبِّ هَؤُلاَءِ مِنْ أَصْحَابِى فَيُجِيبُنِى مَلَكٌ فَيَقُولُ وَهَلْ تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ » (2) .
المحجل : أبيض مواضع الوضوء من اليدين -الغر : جمع الأغر وهو أبيض الوجه
وعن جَابِرَ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : أَنَا فَرَطُكُمْ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُونِي فَأَنَا عَلَى الْحَوْضِ مَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى مَكَّةَ ، وَسَيَأْتِي رِجَالٌ وَنِسَاءٌ بِآنِيَةٍ وَقِرَبٍ ثُمَّ لاَ يَذُوقُونَ مِنْهُ شَيْئًا (3) .
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : وَسَيَأْتِي رِجَالٌ وَنِسَاءٌ بِآنِيَةٍ وَقِرَبٍ ثُمَّ لاَ يَذُوقُونَ مِنْهُ شَيْئًا أُرِيدَ بِهِ : مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ الَّذِينَ قَدْ غُفِرَ لَهُمْ ، يَجِيئُونَ بِأَوَانِي لِيَسْتَقُوا بِهَا مِنَ الْحَوْضِ ، فَلاَ يُسْقَوْنَ مِنْهُ لأَنَّ الْحَوْضَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ خَاصٌّ دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ ، إِذْ مُحَالٌ أَنْ يَقْدِرَ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ عَلَى حَمْلِ الأَوَانِي وَالْقِرَبِ فِي الْقِيَامَةِ ، لأَنَّهُمْ يُسَاقُونَ إِلَى النَّارِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
وعن عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ ،قالَ : قَامَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : مَا حَوْضُكَ الَّذِي تُحَدِّثُ عَنْهُ ؟ فَقَالَ : هُوَ كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ إِلَى بُصْرَى ، ثُمَّ يُمِدُّنِي اللَّهُ فِيهِ بِكُرَاعٍ لاَ يَدْرِي بَشَرٌ مِمَّنْ خُلِقَ أَيُّ طَرَفَيْهِ ، قَالَ : فَكَبَّرَ عُمَرُ ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : أَمَّا الْحَوْضُ فَيَزْدَحِمُ عَلَيْهِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ يُقْتُلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَيَمُوتُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَأَرْجُو أَنْ يُورِدَنِيَ اللَّهُ الْكُرَاعَ فَأَشْرَبَ مِنْهُ. (4)
وقد أورد القرطبي في "التذكرة" بعض الأحاديث التي سقناها ثم قال: ( قال علماؤنا رحمة الله عليهم أجمعين : فكل من ارتد عن دين الله أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله ، ولم يأذن به الله فهو
__________
(1) - صحيح مسلم(6108 و6109)
(2) - صحيح مسلم (605 )
(3) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 360) (6449) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 361) (6450) صحيح(1/1095)
من المطرودين عن الحوض ، المبعدين عنه ، وأشدهم طردا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم كالخوارج على اختلاف فرقها ، والروافض على تباين ضلالها ، والمعتزلة على أصناف أهوائها ، فهؤلاء كلهم مبدلون. وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وتطميس الحق وقتل أهله وإذلالهم والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي ، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع. ثم البعد قد يكون في حال ويقربون بعد المغفرة إن كان التبديل في الأعمال ولم يكن في العقائد ، وعلى هذا التقدير يكون نور الوضوء يعرفون به ، ثم يقال لهم سحقاً ، وإن كانوا من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظهرون الإيمان ويسرون الكفر فيأخذهم بالظاهر . ثم يكشف لهم الغطاء فيقول لهم : سحقاً سحقاً ، ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد مبطل ليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان .
وقد يقال : إن من أنفذ الله عليه وعيده من أهل الكبائر إنه ، وإن ورد الحوض وشرب منه فإنه إذا دخل النار بمشيئة الله تعالى لا يعذب بعطش ، و الله أعلم (1) .
ما ترشد إليه الآياتُ
1- بيان إكرام الله تعالى لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - .
2- أعطى اللَّه عز وجل نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - مناقب كثيرة ، وخيرا كثيرا عظيما بالغا حد النهاية ، ومنه نهر في الجنة.
3- وجوب الإِخلاص في العبادات كلها لاسيما الصلاة والنحر .
4- مشروعية الدعاء على الظالم .{ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) [نوح : 26 - 28]}
5- أمر اللَّه تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأمته بأداء الصلوات المفروضة والنوافل خالصة لوجه اللَّه تعالى ، دون مشاركة أحد سواه ، وأمرهم أيضا بذبح المناسك مما يهدى إلى الحرم والأضاحي وجميع الذبائح للَّه تعالى ، وعلى اسم اللَّه وحده لا شريك له.
6- إن مبغضي النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من شرع ربه هم المنقطعون عن خيري الدنيا والآخرة ، والذين لا يبقى لهم ذكر مسموع بعد موتهم لأنهم لم يؤمنوا برسالة الحق ، ولم يعملوا من أجل الحق والخير المحض للَّه سبحانه وتعالى. (2)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة - (ج 1 / ص 399)
(2) - هذا وقد جمعت موسوعة ضخمة للدفاع عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، تجدها في صيد الفوائد ومشكاة(1/1096)
سورة الكافرون
مكيّة ، وهي ست آيات
تسميتها :
سميت سورة الكافرون لأن اللَّه تعالى أمر نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بأن يخاطب الكافرين بأنه لا يعبد ما يعبدون من الأصنام والأوثان : قُلْ : يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وتسمى أيضا سورة المنابذة ، وسورة الإخلاص ، والمقشقشة.
قال ابن عاشور :
عنونت هذه السورة في المصاحف التي بأيدينا قديمها وحديثها وفي معظم التفاسير "سورة الكافرون" بإضافة "سورة" إلى {الْكَافِرُونَ} وثبوت واو الرفع في {الْكَافِرُونَ} على حكاية لفظ القرآن الواقع في أولها.
ووقع في "الكشاف" و"تفسير ابن عطية" و"حرز الأماني" "سورة الكافرون" بياء الخفض في لفظ {الْكَافِرُونَ} بإضافة "سورة" إليه أن المراد سورة ذكر الكافرين، أو نداء الكافرين، وعنونها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه" سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1].
قال في "الكشاف" و"الإتقان": وتسمى هي وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} بالمشققشتين لأنهما تشقشقان من الشرك أي تبرئان منه يقال: قشقش، إذ أزال المرض.
وتسمى أيضا سورة الإخلاص فيكون هذان الاسمان مشتركين بينها وبين سورة قل هو الله أحد.
وقد ذكر في سورة براءة أن سورة براءة تسمى المقشقشة لأنها تقشقش، أي تبرئ من النفاق فيكون هذا مشتركا بين السور الثلاث فيحتاج إلى التمييز.
وقال سعد الله المعروف بسعدي عن "جمال القراء" أنها تسمى سورة العبادة وفي "بصائر ذوي التمييز" للفيروز آبادي تسمى "سورة الدين".
وهي مكية بالاتفاق في حكاية ابن عطية وابن كثير، وروي عن ابن الزبير أنها مدنية.
وقد عدت الثامنة عشرة في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الماعون وقبل سورة الفيل.
وعدد آياتها ست.
وبهذا يعلم الغرض الذي اشتملت عليه وأنه تأييسهم من أن يوافقهم في شيء مما هم عليه من الكفر بالقول الفصل المؤكد في الحال والاستقبال وأن دين الإسلام لا يخالط شيئا من دين الشرك. (1)
مناسبتها لما قبلها :
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 508)(1/1097)
أمر اللَّه نبيه في السورة السابقة بإخلاص العبادة للَّه وحده لا شريك له ، وفي هذه السورة سورة التوحيد والبراءة من الشرك تصريح باستقلال عبادته عن عبادة الكفار ، فهو لا يعبد إلا ربه ، ولا يعبد ما يعبدون من الأوثان والأصنام ، وبالغ في ذلك فكرّره وأكّده ، وانتهى إلى أن له دينه ، ولهم دينهم. (1)
وقال الخطيب : " الكوثر الذي أعطاه اللّه سبحانه وتعالى النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ كان فى مقابله البتر والحرمان من كل خير لمن يشنأ هذا النبي ، الذي وضع اللّه سبحانه وتعالى ، الخير كله فى يده .. وهذا مجمل ما تحدثت عنه سورة « الكوثر » وفى سورة « الكافرون » التي تأتى بعد هذه السورة ، موقف بين النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ وما أعطاه اللّه سبحانه من خير كثير ، يفيض من النبع الأعظم ، وهو الإيمان باللّه ـ وبين المشركين الذين عزلوا أنفسهم عن هذا الخير ، وحرموا أن ينالوا شيئا منه .. وفى هذا الموقف يعلن النبي عن هذا الخير الذي من اللّه به عليه ، وأنه ممسك به ، مقيم عليه ، لا يصرفه عنه شىء من هذه الدنيا ..
فهو لا يعبد غير اللّه سبحانه وتعالى ، ولا يتحول عن عبادته أبدا ، ولا ينظر إلى شىء وراءه من مال وبنين!! " (2)
ما اشتملت عليه السورة :
سورة الكافرون مكية ، وهي سورة (التوحيد) و(البراءة من الشرك ) والضلال ، فقد دعا المشركون رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، إلى المهادنة ، وطلبوا منه أن يعبد آلهتهم سنة ، ويعبدوا إلهه سنة ، فنزلت السورة تقطع أطماع الكافرين ، وتفصل النزاع بين الفريقين : أهل الإيمان ، وعبدة الأوثان ، وترد على الكافرين تلك الفكرة السخيفة في الحال والاستقبال. (3)
في السورة أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بإعلان الكفار أنه لا يعبد ما يعبدون ، ولهم إذا شاءوا أن يظلوا على ما هم عليه فلا يعبدون ما يعبد ، ولكل من الفريقين دينه ، وقد تضمنت مبدأ حرية التدين الذي ظلت الآيات القرآنية تقرره في المكي منها والمدني.
ومن الحكمة الملموحة في الحديثين التنويه والترغيب والتيسير ، واللّه تعالى أعلم. (4)
لم يكن العرب يجحدون الله ولكن كانوا لا يعرفونه بحقيقته التي وصف بها نفسه . أحد . صمد . فكانوا يشركون به ولا يقدرونه حق قدره ، ولا يعبدونه حق عبادته . كانوا يشركون به هذه
__________
(1) - انظر تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 254)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1694)
(3) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 531)
(4) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 25)(1/1098)
الأصنام التي يرمزون بها إلى أسلافهم من الصالحين أو العظماء . أو يرمزون بها إلى الملائكة . . وكانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله ، وأن بينه سبحانه وبين الجنة نسباً ، أو ينسون هذا الرمز ويعبدون هذه الآلهة ، وفي هذه الحالة أو تلك كانوا يتخذونها لتقربهم من الله كما حكى عنهم القرآن الكريم في سورة الزمر قولهم : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ولقد حكى القرآن عنهم أنهم كانوا يعترفون بخلق الله والسماوات والأرض ، وتسخيره للشمس والقمر ، وإنزاله الماء من السماء كالذي جاء في سورة العنكبوت : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله } { ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله } وفي إيمانهم كانوا يقولون : والله وتالله . وفي دعائهم كانوا يقولون : اللهم . . الخ .
ولكنهم مع إيمانهم بالله كان هذا الشرك يفسد عليهم تصورهم كما كان يفسد عليهم تقاليدهم وشعائرهم ، فيجعلون للآلهة المدعاة نصيباً في زرعهم وأنعامهم ونصيباً في أولادهم . حتى ليقتضي هذا النصيب أحياناً التضحية بأبنائهم . وفي هذا يقول القرآن الكريم عنهم في سورة الأنعام . { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً . فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا . فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله . وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم . ساء ما يحكمون! وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم ، وليلبسوا عليهم دينهم ، ولو شاء الله ما فعلوه ، فذرهم وما يفترون . وقالوا : هذه أنعام وحرث حِجر لا يطعمها إلا من نشأ بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها ، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه . سيجزيهم بما كانوا يفترون ، وقالوا : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ، ومحرم على أزواجنا ، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء . سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم . قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم . وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله . قد ضلوا وما كانوا مهتدين } وكانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم ، وأنهم أهدى من أهل الكتاب ، الذين كانوا يعيشون معهم في الجزيرة العربية ، لأن اليهود كانوا يقولون : عزير ابن الله . والنصارى كانوا يقولون : عيسى ابن الله . بينما هم كانوا يعبدون الملائكة والجن على اعتبار قرابتهم من الله بزعمهم فكانوا يعدون أنفسهم أهدى . لأن نسبة الملائكة إلى الله ونسبة الجن كذلك أقرب من نسبة عزير وعيسى . . وكله شرك . وليس في الشرك خيار .
ولكنهم هم كانوا يحسبون أنفسهم أهدى وأقوم طريقاً!
فلما جاءهم محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن دينه هو دين إبراهيم عليه السلام قالوا : نحن على دين إبراهيم فما حاجتنا إذن إلى ترك ما نحن عليه واتباع محمد؟! وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع(1/1099)
الرسول - صلى الله عليه وسلم - خطة وسطا بينهم وبينه؛ وعرضوا عليه أن يسجد لآلهتهم مقابل أن يسجدوا هم لإلهه! وأن يسكت عن عيب آلهتهم وعبادتهم ، وله فيهم وعليهم ما يشترط!
ولعل اختلاط تصوراتهم ، واعترافهم بالله مع عبادة آلهة أخرى معه . . لعل هذا كان يشعرهم أن المسافة بينهم وبين محمد قريبة ، يمكن التفاهم عليها ، بقسمة البلد بلدين ، والالتقاء في منتصف الطريق ، مع بعض الترضيات الشخصية!
ولحسم هذه الشبهة ، وقطع الطريق على المحاولة ، والمفاصلة الحاسمة بين عبادة وعبادة ، ومنهج ومنهج ، وتصور وتصور ، وطريق وطريق . . نزلت هذه السورة . بهذا الجزم . وبهذا التوكيد . وبهذا التكرار . لتنهي كل قول ، وتقطع كل مساومة وتفرق نهائياً بين التوحيد والشرك ، وتقيم المعالم واضحة ، لا تقبل المساومة والجدل في قليل ولا كثير (1)
سبب النزول :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، أَنَّ قُرَيْشًا دَعَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى أَنْ يُعْطُوهُ مَالا فَيَكُونُ أَغْنَى رَجُلٍ بِمَكَّةَ ، وَيُزَوِّجُوهُ مَا أَرَادَ مِنَ النِّسَاءِ وَيَطَأُونَ عَقِبَهُ ، فَقَالُوا : هَذَا لَكَ عِنْدَنَا يَا مُحَمَّدُ ، وَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا ، وَلاَ تَذْكُرْهَا بِشَرٍّ ، فَإِنْ بَغَضْتَ فَإِنَّا نَعْرِضُ عَلَيْكَ خَصْلَةً وَاحِدَةً ، وَلَكَ فِيهَا صَلاحٌ ، قَالَ : وَمَا هِيَ ؟ قَالَ : تَعْبُدُ إِلَهَنَا سَنَةً اللاتَ وَالْعُزَّى ، وَنَعْبُدُ إِلَهِكَ سَنَةً ، قَالَ : حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَأْتِينِي مِنْ رَبِّي ، فَجَاءَ الْوَحْي مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ : قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ السُّورَةَ ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ[الزمر:64} (2)
عَنْ اِبْن عَبَّاس : إِنَّ قُرَيْشًا وَعَدُوا رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُعْطُوهُ مَالًا , فَيَكُون أَغْنَى رَجُل بِمَكَّة , وَيُزَوِّجُوهُ مَا أَرَادَ مِنْ النِّسَاء , وَيَطَئُوا عَقِبه , فَقَالُوا لَهُ : هَذَا لَك عِنْدنَا يَا مُحَمَّد , وَكُفَّ عَنْ شَتْم آلِهَتنَا , فَلَا تَذْكُرهَا بِسُوءٍ , فَإِنْ لَمْ تَفْعَل , فَإِنَّا نَعْرِض عَلَيْك خَصْلَة وَاحِدَة , فَهِيَ لَك وَلَنَا فِيهَا صَلَاح .قَالَ : " مَا هِيَ ؟ " قَالُوا : تَعْبُد آلِهَتنَا سَنَة : اللَّاتِ وَالْعُزَّى , وَنَعْبُد إِلَهك سَنَة , قَالَ : " حَتَّى أَنْظُر مَا يَأْتِي مِنْ عِنْد رَبِّي " , فَجَاءَ الْوَحْي مِنْ اللَّوْح الْمَحْفُوظ : { قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ } السُّورَة , وَأَنْزَلَ اللَّه : { قُلْ أَفَغَيْر اللَّه تَأْمُرُونِّي أَعْبُد أَيّهَا الْجَاهِلُونَ } إِلَى قَوْله : { فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ } [ الزمر / 64 : 66 ] . (3)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، قَالَ : ثني سَعِيدُ بْنُ مِينَا مَوْلَى الْبَخْتَرِيِّ ، قَالَ : " لَقِيَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ ، رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ ، هَلُمَّ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3991)
(2) - المعجم الصغير للطبراني - (2 / 44) (751)
(3) - تفسير الطبري - (33 / 374) (29563 ) صحيح(1/1100)
فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ ، وَتَعْبُدْ مَا نَعْبُدُ ، وَنُشْرِكْكَ فِي أَمْرِنَا كُلِّهِ ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي جِئْتَ بِهِ خَيْرًا مِمَّا بِأَيْدِينَا كُنَّا قَدْ شَرَكْنَاكَ فِيهِ ، وَأَخَذْنَا بِحَظِّنَا مِنْهُ ؛ وَإِنْ كَانَ الَّذِي بِأَيْدِينَا خَيْرًا مِمَّا فِي يَدَيْكَ ، كُنْتَ قَدْ شَرَكْتَنَا فِي أَمْرِنَا ، وَأَخَذْتَ مِنْهُ بِحَظِّكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ حَتَّى انْقَضَتِ السُّورَةُ "." (1)
فضلها :
وعن عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ ، عَنْ أَبِيهَا ، قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " مَنْ قَرَأَ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ كَأَنَّمَا قَرَأَ رُبُعَ الْقُرْآنِ ، وَمَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ " (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ فِى رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وَ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (3)
وعَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ الأَشْجَعِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ إِذَا أَوَيْتُ إِلَى فِرَاشِي ، قَالَ : اقْرَأْ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. (4)
وعَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : هَلْ لَكَ فِي رَبِيبَةٍ يَكْفُلُهَا رَبِيبٌ ؟ قَالَ : ثُمَّ جَاءَ فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : تَرَكْتُهَا عِنْدَ أُمِّهَا ، قَالَ : فَمَجِيءٌ مَا جَاءَ بِكَ ؟ قَالَ : جِئْتُ لِتُعَلِّمَنِي شَيْئًا أَقُولُهُ عِنْدَ مَنَامِي ، قَالَ : اقْرَأْ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون : ] ، ثُمَّ نَمْ عَلَى خَاتِمَتِهَا ، فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ. (5)
وعن سِمَاكَ بْنِ حَرْبٍ ، قَالَ : وَلاَ أَعْلَمُ إِلاَّ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَقْرَأُ فِي صَلاَةِ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِـ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، وَيَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ الآخِرَةِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ الْجُمُعَةَ ، وَالْمُنَافِقِينَ. (6)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، أَنَّ رَجُلاً قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ، فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى : {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون] حَتَّى انْقَضَتِ السُّورَةُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : هَذَا عَبْدٌ عَرَفَ رَبَّهُ ، وَقَرَأَ
__________
(1) - تفسير ابن أبي حاتم - (12 / 462) وجَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (35481 ) حسن مرسل
(2) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ (2424 ) حسن
(3) - صحيح مسلم(1723 )
(4) - صحيح ابن حبان - (3 / 69) (789) صحيح
(5) - صحيح ابن حبان - (3 / 69) (780) صحيح
(6) - صحيح ابن حبان - (5 / 149) (1841) صحيح(1/1101)
فِي الآخِرَةِ : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص] حَتَّى انْقَضَتِ السُّورَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : هَذَا عَبْدٌ آمَنَ بِرَبِّهِ فَقَالَ طَلْحَةُ : فَأَنَا أَسْتَحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ. (1)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : نِعْمَ السُّورَتَانِ هُمَا ، تُقْرَآنِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. (2)
وعَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ صَلاَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِاللَّيْلِ ، فَقَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ تَجَوَّزَ بِرَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ يَنَامُ وَعِنْدَ رَأْسِهِ طَهُورُهُ وَسِوَاكُهُ ، فَيَقُومُ فَيَتَسَوَّكُ وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي ، وَيَتَجَوَّزُ بِرَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي ثَمَانِ رَكَعَاتٍ يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ فِي الْقِرَاءَةِ ، ثُمَّ يُوتِرُ بِالتَّاسِعَةِ ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ ، فَلَمَّا أَسَنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَخَذَ اللَّحْمُ ، جَعَلَ الثَّمَانَ سِتًّا ، وَيُوتِرُ بِالسَّابِعَةِ ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ يَقْرَأُ فِيهِمَا : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، وَإِذَا زُلْزِلَتْ. (3)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (6 / 213) (2460) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (6 / 214) (2461) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (6 / 362) (2635) صحيح(1/1102)
البراءة من الشرك والكفر وأعمال المشركين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... قُلْ ... خطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
2 ... يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ ... خطاب لكل كافر ومشرك
3 ... لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ... التبرؤ من عبادة الأصنام والأنداد
4 ... ولا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ... أنكم لا تقتدون بأوامر الله في عبادته
5 ... مَا أَعْبُدُ ... من أعبد - ما بمعنى من
6 ... لَكُمْ دِينُكُمْ ... عليكم جزاء كفركم وشرككم
6 ... وَلِيَ دِينِ ... لي توحيدي و إخلاصي وجزاؤه ...
المعنى الإجمالي:
قل يا محمد لهؤلاء الكفار الذين مرنوا على الكفر فلم يعد فيهم خير ، ولن يرجى منهم إيمان ، قل لهم : لا أعبد الذي تعبدونه فأنتم تعبدون آلهة تتخذونها شفعاء للّه الواحد القهار ، أنتم تعبدون آلهة تظنون أنها تحل في صورة أو تظهر في صنم أو وثن ، وأنا أعبد اللّه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، ولا مثيل له ولا ند ، ولا يحل في جسم أو شخص ، وهو الغنى عن الشفعاء ولا يتقرب إليه بمخلوق ، بل القربى والوسيلة إليه في العبادة فقط فبين الذي أعبد والذي تعبدون فرق شاسع ، فلا أنا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد. يا أيها الكافرون الثابتون على الكفر : لا أنا عابد عبادتكم ولا أنتم عابدون عبادتي فالآيات 2 ، 3 تدلان على الاختلاف في المعبود الذي يعبد ، فالنبي - عليه الصلاة والسلام - يعبد اللّه وهم يعبدون الأصنام والأوثان والشفعاء ، والآيتان 4 ، 5 تدلان على الاختلاف في نفس العبادة فعبادة النبي خالصة للّه لا يشوبها شرك ولا تصحبها غفلة عن المعبود ، وعبادتكم كلها شرك وإشراك وتوسل بغير العمل فكيف يلتقيان!! وبعض العلماء يرى - دفعا للتكرار - أن المعنى : لا أعبد في المستقبل ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ، ولا أنا عابد ما عبدتم في الماضي ولا أنتم عابدون ما أعبد فيه ، والأمر سهل والنهاية واحدة.(1/1103)
لكم دينكم وعليكم وحدكم وزره ، ولى ديني الذي أدعو إليه وعلى تبعاته وأوزاره ، وهاتان الجملتان لتأكيد المعنى السابق. (1)
التفسير والبيان :
هذه سورة البراءة من عمل المشركين ، وهي آمرة بالإخلاص في العبادة ، فقال تعالى : قُلْ : يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ أي قل أيها النبي لكفار قريش : يا أيها الكافرون ، لا أعبد على الإطلاق ما تعبدون من الأصنام والأوثان ، فلست أعبد آلهتكم بأية حال. والآية تشمل كل كافر على وجه الأرض. وفائدة كلمة قُلْ : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مأمورا بالرفق واللين في جميع الأمور ، ومخاطبة الناس بالوجه الأحسن ، فلما كان الخطاب هنا غليظا أراد اللَّه رفع الحرج عنه وبيان أنه مأمور بهذا الكلام ، لا أنه ذكره من عند نفسه.
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أي ولستم أنتم ما دمتم على شرككم وكفركم عابدين اللَّه الذي أعبد ، فهو اللَّه وحده لا شريك له.
وهاتان الآيتان (2 ، (3) تدلان على الاختلاف في المعبود ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يعبد اللَّه وحده ، وهم يعبدون الأصنام والأوثان أو الأنداد والشفعاء ، أو أن المعنى دفعا للتكرار كما ذكر الزمخشري : لا أعبد في المستقبل ما تعبدون في الحال ، وعلامته لا التي هي للاستقبال ، بدليل أن (لن) للاستقبال على سبيل التوكيد أو التأبيد ، وأصله في رأي الخليل : لا أن. وما : للحال (2) ، وخلاصة المعنى : لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ، ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أي ولا أعبد عبادتكم ، أي لا أسلكها ولا أقتدي بها ، وإنما أعبد اللَّه على الوجه الذي يحبه ويرضاه ، وأنتم لا تقتدون بأوامر اللَّه وشرعه في عبادته ، بل قد اخترعتم شيئا من تلقاء أنفسكم ، فعبادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه خالصة للَّه لا شرك فيها ولا غفلة عن المعبود ، وهم يعبدون اللَّه بما شرعه ، ولهذا كانت كلمة الإسلام : « لا إله إلا اللَّه ، محمد رسول اللَّه » أي لا معبود إلا اللَّه ، ولا طريق إليه في العبادة إلا بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
والمشركون يعبدون غير اللَّه عبادة لم يأذن اللَّه بها ، فكلها شرك وإشراك ، ووسائلها من صنع الهوى والشيطان.
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 912)
(2) - قد فهم بعضهم خطا ما أراده الزمخشري هنا وفي الآيتين بعدهما. فقلب الوضع ، وجعل الاستقبال محل الحال وبالعكس.(1/1104)
فالآيتان (4 ، 5) تدلان على الاختلاف في العبادة نفسها. ويرى بعضهم كالزمخشري : وما كنت قط في الحال أو في الماضي عابدا ما عبدتم ، يعني لم تعهد مني عبادة صنم في الجاهلية ، فكيف ترجى مني في الإسلام ؟ ! وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته.
وقيل : في الآيات تكرار ، والغرض التأكيد ، لقطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم.
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ أي لكم شرككم أو كفركم ، ولي ديني وهو التوحيد والإخلاص أو الإسلام ، فدينكم الذي هو الإشراك ، لكم لا يتجاوزكم إليّ ، وديني الذي هو التوحيد مقصور علي لا يتجاوزني ، فيحصل لكم. وقيل : الدين : الجزاء ، والمضاف محذوف ، أي لكم جزاء دينكم ، ولي جزاء ديني. وقيل : الدين : العبادة.
وليست السورة منسوخة بآية القتال ، والمحققون على أنه لا نسخ ، بل المراد التهديد ، كقوله تعالى : اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت 41/ 40].
ونظير هذه الآية قوله تعالى : وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ : لِي عَمَلِي ، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس 10/ 41] وقوله : لَنا أَعْمالُنا ، وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ [القصص 28/ 55]. والمراد بذلك كله التهديد ، لا الرضا بدين الآخرين.
وقد استدل الإمام أبو عبد اللَّه الشافعي وغيره بهذه الآية الكريمة : لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ على أن الكفر كله ملة واحدة ، فورّث اليهود من النصارى وبالعكس إذا كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به لأن الأديان ما عدا الإسلام كلها كالشيء الواحد في البطلان. (1)
وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود وبالعكس ،لحديث عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« لاَ يَتَوَارَثَ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى » (2) . .
قال الرازي : جرت عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ عند المتاركة ، وذلك غير جائز لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به ، بل ليتدبر فيه ، ثم يعمل بموجبه (3) .
ومضات :
ونقل ابن كثير عن الإمام ابن تيمية أن المراد بقوله : { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } نفي الفعل ، لأنها جملة فعلية { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } نفي قبوله لذلك بالكلية ، لأن النفي بالجملة الاسمية آكد ، فكأنه نفى الفعل وكونه قابلاً لذلك ، ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضاً ، وهو قول حسن .واختار الإمام كون { مَّا } في الأوليين موصولة وفيما بعدها مصدرية ، قال : فمفاد
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 443)
(2) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (6 / 218) (12591) صحيح
(3) - تفسير الرازي : 32/ 148(1/1105)
الجملتين الأوليين الاختلاف التام في المعبود ، ومفاد الجملتين الأخريين تمام الاختلاف في العبادة ، فلا معبودنا واحد ولا عبادتنا واحدة ؛ لأن معبودي ذلك الإله الواحد المنزه عن الند والشفيع ، المتعالي عن الظهور في شخص معين ، الباسط فضلَه لكل من أخلص له ، الآخذ قهره بناصية كل من نابذ المبلغين الصادقين عنه ، والذي تعبدونه على خلاف ذلك . وعبادتي مخلصة لله وحده ، وعبادتكم مشوبة بالشرك مصحوبة بالغفلة عن الله تعالى ؛ فلا تسمى على الحقيقة عبادة . فأين هي من عبادتي ؟ وقوله تعالى : { لَكُمْ دِينَكُمْ } تقرير لقوله تعالى : { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } وقوله تعالى : { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } كما أن قوله تعالى : { وَلِيَ دِينِ } تقرير لقوله تعالى : { وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } والمعنى أن دينكم الذي هو الإشراك مقصورٌ على الحصول لكم ، لا يتجاوزه إلى الحصول لي أيضاً ، كما تطمعون فيه ؛ فإن ذلك من المحالات ، وأن ديني الذي هو التوحيد ، مقصور على الحصول لي ، لا يتجاوزه إلى الحصول لكم ، فلا مشاركة بينه وبين ما أنتم عليه .
تنبيه :
قال ابن كثير استدل الإمام الشافعيّ وغيره بهذه الآية الكريمة { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } على أن الكفر كلُّه ملة واحدة فورّث اليهود من النصارى وبالعكس ، إذا كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به ؛ لأن الأديان - ما عدا الإسلام - كلها كالشيء الواحد في البطلان . وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود ، وبالعكس ؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - < لا يتوارث أهل ملتين شتَّى > (1)
في الآيات أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يعلن جاحدي رسالته بخطته بالنسبة لدينهم وعبادتهم. وبأن لهم إذا شاءوا أن يسيروا على نفس الخطة فهو يعبد غير ما يعبدون. ويخضع لغير ما يخضعون ، ويتجه إلى غير ما يتجهون. وهو مسؤول عن تبعة موقفه ، وهم مسؤولون عن تبعة موقفهم ، ولكل من الفريقين دينه الذي ارتضاه لنفسه.
وقد روي أن السورة نزلت بمناسبة مراجعة بعض زعماء قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم - وطلبهم التشارك في عبادة الآلهة ، فيصلي إلى آلهتهم ويصلون إلى إلهه ، ويحترم آلهتهم ويحترمون إلهه إلى أن يتحقق الفريقان أيّ الدينين خير فيتبعونه «1».
والرواية محتملة الصحة على ما تلهمه روح الآيات ، ويؤيدها آية سورة القلم : وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) التي مر تفسيرها قبل في سياق السورة المذكورة.
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 334)(1/1106)
على أن من المحتمل أيضا أن تكون نزلت بمناسبة موقف حجاجي بين النبي - صلى الله عليه وسلم - والكفار ، ظل هؤلاء معاندين مكابرين فيه فنزلت لإنهاء الموقف. وقد تكرر مثل ذلك في مواقف ومناسبات مماثلة كما جاء في آية سورة يونس هذه :
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وفي آية سورة يونس هذه أيضا : قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وفي آية سورة الكهف هذه : وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [29] وفي آيات سورة سبأ هذه : قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26).
وقد يفسر هذا التوجيه أسلوب السورة من حيث خلوه من الحملة على عبادة الكفار الضالة. ولعلها استهدفت فيما استهدفته درء الأذى عن المسلمين المستضعفين الذين كان زعماء الكفار ينالونهم به وخاصة في أوائل عهد الدعوة حيث تدعوهم إلى الإنصاف ، فإن كانوا يريدون أن يثبتوا على دينهم ويرون ذلك من حقهم فعليهم أن يحترموا هذا للمسلمين أيضا.
ومع خصوصية الخطاب وزمنيته فالمتبادر أن السورة تضمنت مبدأ قرآنيا جليلا منذ عهد مبكر من الدعوة ، في تقرير حرية التدين والعبادة والدعوة إلى احترامها واستشعار الناس بشعور الإنصاف والعدل فيما بينهم في صددها ، باعتبار هذه المسألة مسألة وجدان ويقين وطمأنينة قلب وروح وانشراح صدر ، لا يجوز أن تكون معرضة لأي تأثير أو تابعة لأي اعتبار.
ومن الجدير بالذكر أن هذا المبدأ لم يقرر في هذه السورة فحسب أو في العهد المكي الذي كان فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ضعيفا والمسلمون قلة مستضعفة ، بل قررته آيات القرآن المكي في مختلف أدوار التنزيل مرات كثيرة وبأساليب متنوعة ، كما يفهم من الآيات التي أوردناها آنفا ومن آيات سورة النمل هذه : إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) ومن آيات سورة الأنبياء هذه : قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِن أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111)
ثم قررته آيات عديدة من القرآن المدني في مختلف أدوار التنزيل كذلك كما يفهم من آية سورة البقرة هذه : لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ(1/1107)
اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) وآية سورة آل عمران هذه : قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) وآية سورة آل عمران هذه : فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) وآية سورة النساء هذه : إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) وآية سورة المائدة هذه : يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وآيات سورة التوبة هذه : إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) وإِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) وآيات سورة الممتحنة هذه : لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) وهكذا يكون هذا المبدأ من المبادئ المحكمة. وفي هذا ما فيه من بليغ التلقين وبعد المدى ومؤيدات الخلود للإسلام ومبادئه.
ولقد يرد أنه ورد في القرآن آيات كثيرة تدل على أن كفار العرب لم يكونوا ينكرون ربوبية اللّه ولم يكونوا منصرفين عن عبادته ودعائه بالمرة مثل ما جاء في آية سورة الزخرف هذه : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وفي آية سورة لقمان هذه : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) ، وإن في هذا ما يتناقض مع مضمون السورة. ومع أن الشق الأول صحيح فليس هناك من تناقض. فقد كانوا يشركون مع اللّه غيره ويتخذون الأصنام رموزا لشركائهم فيسجدون لها ويقربون القرابين عندها ، وكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات اللّه ويعبدونهم ويدعونهم ولو ليكونوا شفعاءهم عند اللّه وفي هذا كفر صريح بحق اللّه وواجبه على خلقه وتناقض صريح بين ما يعبد النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعوا إليه وهو اللّه وحده لا شريك له ولا كفؤ له ولا ولد له وبين ما يعبدونه ويتجهون إليه ، وهذا هو المراد في آيات السورة كما هو المتبادر.
ونحن نعرف أنه يورد على هذا أقوال من جانب المسلمين وغير المسلمين على السواء. فإن كثيرا من علماء المسلمين ومفسري القرآن قالوا إن الآيات التي تأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاكتفاء بإنذار المشركين وهجرهم وتركهم وشأنهم وإعلانهم أنه ليس إلّا منذر لهم وأنه ليس عليهم مسيطر ولا(1/1108)
جبار أو التي تأمر بقتال المقاتلين للمسلمين منهم دون سواهم مما جاء في سور كثيرة مكية ومدنية مثل الآيات التالية في السور المكية :
1 - قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ سورة يونس [108].
2 - فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ سورة الحجر [94].
3 - وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ سورة النحل [127].
4 - إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ سورة النمل [91 - 92].
5 - وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا سورة المزمل [10].
6 - فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ سورة الغاشية [21 - 22].
ومثل الآيات التالية في السور المدنية :
1 - وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ البقرة [190].
2 - وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ البقرة [193].
3 - لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ البقرة [256].
4 - إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا النساء [90].
وأمثالها الكثير في السور المكية والمدنية قد نسخت بآيات سورة التوبة هذه :
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) التي(1/1109)
تأمر بقتال المشركين بدون هوادة إلى أن يسلموا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. ثم بآية سورة التوبة [36] التي جاء فيها :
وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً والتي ينعتها بعض العلماء والمفسرين بآية السيف. وقد فسر كثير من مفسري القرآن وعلمائهم كلمة فتنة الواردة في آية سورة البقرة هذه : وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) بمعنى الشرك وقالوا إنها توجب قتال المشركين حتى لا يبقى شرك ومشركون ويسود دين اللّه الإسلام.
ومما قاله المفسرون في سياق تفسير آية البقرة لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ البقرة [256] إن هذه الآية منسوخة بالنسبة للعرب المشركين دون غير العرب. وإن العرب المشركين لا يقبل منهم إلّا الإسلام أو السيف وإن غير العرب يقبل منهم الجزية دون السيف.
وأما من ناحية غير المسلمين فإن كثيرا من المبشرين والمستشرقين قالوا إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يقف عند مبدأ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ الكافرون [6] إلّا في ظروف ضعفه ، وإنه حالما قوي بعد الهجرة أخذ يقاتل الكفار ولم يكن يقبل من المشركين إلّا الإسلام ومن الكتابيين إلّا الاستسلام والجزية. واستمر على ذلك إلى النهاية وكان يغري المسلمين بالغنائم.
وشرح الموضوع على وجهه الحق الذي يتبادر من نصوص القرآن ووقائع السيرة النبوية كفيل بالإجابة على الطرفين.
إن القتال في الإسلام إنما شرع للدفاع عن حرية الدعوة والمسلمين ومقابلة الأذى والعدوان والصدّ إلى أن تضمن الحرية والسلامة للمسلمين ، والحرية والانطلاق للدعوة ويمتنع الأذى والعدوان على المسلمين والإسلام ، وظل هذا المبدأ محكما إلى النهاية.
وأول آيات وردت في هذا الصدد آيات سورة الحج هذه : إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40). ثم نزلت آيات سورة البقرة هذه : وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194).(1/1110)
والأساس في هذه الآيات وتلك هو ذلك المبدأ ، وفيها صراحة أن المشركين كانوا يقاتلون المسلمين. وكانوا إلى هذا يفتنون المسلمين عن دينهم بالجبر والإكراه ويصدون عن سبيل اللّه ويعطلون سير الدعوة. ويضطرون المسلمين إلى الخروج من موطنهم مرغمين. وكل هذا سبب مشروع لقتالهم متسق مع ذلك المبدأ. وفي تأويل كلمة «الفتنة» بالشرك تجوّز كبير. فالفتنة هي إرغام المسلمين على الارتداد عن الإسلام الذي كان يمارسه زعماء المشركين في مكة ضد ضعفاء المسلمين. والدليل على ذلك آية سورة البروج هذه : إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) وآية سورة النحل هذه :
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) والكلمة في الآية الثانية من سلسلة آيات البقرة [190 - 194] والتي هي في جملة وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ البقرة [191] تعني نفس الشيء حينما يتروى فيها. ولا يصح في حال أن تؤول بالشرك. ونزول آية : وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ البقرة [193] دليل قوي بل حاسم على أن معنى الآية هو قتال المعتدين إلى أن ينتهوا عن موقف العدوان وفتنة المسلمين وتغدو حرية الدعوة وحرية المسلمين في دينهم ودمائهم وأموالهم وحقوقهم مضمونة. وقد جاء في سورة الأنفال آية مثلها تقريبا وهي : وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) ولعل في مقطع هذه الآية الأخير قرينة أقوى على أن المقصد من جملة «فإن انتهوا» الانتهاء من موقف العدوان وفتنة المسلمين.
ومن الأدلة اليقينية على أن جملة فَإِنِ انْتَهَوْا الأنفال [93] في هذه الآية وفي آية سورة البقرة [193] ليست الانتهاء بالإسلام فقط وإن من الممكن أن يكون بوقف حالة الحرب بالصلح أيضا صلح الحديبية الذي جرى بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وقريش في السنة الهجرية السادسة حيث أنهى هذا الصلح حالة الحرب ووقف القتال ضد قريش. والآيتان نزلتا قبل هذا الصلح على الأرجح. ومما يسوغ تخمينه بقوة أن آية البقرة نزلت قبل وقعة بدر وآية الأنفال نزلت بعد هذه الوقعة على ما سوف نشرحه في مناسباتهما.
وفي سورة الإسراء آية فيها دليل حاسم على معنى كلمة الفتنة وهو الرد والارتداد والإرجاع وهي هذه : وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73).
وآيات سورة التوبة التي تعلن البراءة من المشركين وتأمر بقتالهم إلى أن يتوبوا ويؤمنوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة والتي أوردناها آنفا تخللها وجاء معها استثناءات تجعل ذلك الإعلان والأمر محصورا في المشركين المعتدين والناكثين لعهودهم كما جاء في عبارة إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ(1/1111)
مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً التوبة [4] وكما جاء في الآيات التالية التي هي جزء من السلسلة : وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13).
وآيتا فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ في سلسلة آيات التوبة ليستا المخرج الوحيد كما قد يتبادر. فالآيات في جملتها تعني أنهم إن آمنوا فبها ونعمت ويصبحوا إخوانا للمسلمين ، ويهدر كل ما فعلوه معهم قبل. وإن لم يؤمنوا وحافظوا على عهدهم واستقاموا عليه فلا مانع. وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في الدين فيقاتلون حتى ينتهوا من هذا الموقف العدواني.
وجملة وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً في آية التوبة [36] ليست منفردة. فإن لها تتمة وهي كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً التوبة [36] وهذه التتمة تزيل اللبس في الجملة وتعيد الأمر إلى أصله من وجوب قتال المشركين الذين يقاتلون المسلمين وتظهر مقدار ما في الاستناد إليها من تجوز كبير أيضا.
وفحوى القول إن آية سورة النساء [90] منسوخة تجوز كبير أيضا إزاء ما فيها من صراحة وحسم. ويدعم هذا آية في سورة الممتحنة التي نزلت قبيل الفتح المكي فيها مثل هذه الصراحة والحسم بل وأكثر حيث إنها تحض على البرّ والإقساط للذين لا يقاتلون المسلمين ولا يشتركون في إخراجهم من ديارهم وهي : لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) وقد فند الطبري قول من قال إن هذه الآية منسوخة وقال إن برّ المؤمن لأهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه أصلا إذا لم يكن في ذلك دلالة لهم على دعوة لأهل الإسلام أو تقوية لهم بكراع أو سلاح. وفي سورة البقرة آية أخرى تدعم ذلك وتدعم أو توضح مدى آية الممتحنة في الوقت نفسه وهي : لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) وقد روى الطبري وغيره روايتين في نزولها واحدة تذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمنع الصدقات عن فقراء المشركين وثانية أن المسلمين كانوا يمنعون صدقاتهم عن المشركين من(1/1112)
أقاربهم وأنسبائهم فنزلت الآية مؤذنة بأن النبي والمسلمين غير مسؤولين عن هداهم الذي هو في يد اللّه وأن الصدقات هي قربة من المتصدق للّه عن نفسه فلا مانع من إعطائهم منها على شركهم ... وليس هناك أي قول فيما اطلعنا عليه بنسخ هذه الآية الرائعة في مداها الذي نحن في صدده.
ولقد حدث مرة سوء تفاهم بين قائد إحدى السرايا وبعض العرب الذين أظهروا الإسلام أو المسالمة ، فظن القائد أن ذلك خدعة ، وقتل بعضهم وأخذ ماشيتهم فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد الغضب ولم يلبث أن أوحى اللّه بآية قوية رائعة فيها عتاب على عدم قبول ظواهر الناس كما ترى فيها : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً سورة النساء [94] ، وفي آية سورة الأنفال هذه : وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) أمر صريح بأن يسالم كل من جنح إلى المسالمة من الأعداء. وفي آيات سورة محمد هذه : الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها
[4] آمر بقتال الكفار الصادّين عن سبيل اللّه إلى أن تخضد شوكتهم ثم يؤسر الباقون إلى أن يفتدوا أنفسهم أو يطلق سراحهم منّا دون إرغام على الإسلام لأن المقصود من القتال قد حصل.
ولم يرد أي خبر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفض في أي وقت طلب صلح أو عهد أمان من أعداء محاربين ، كما أنه لم يرد أي خبر بأنه قاتل أو أمر بقتال أناس مسالمين أو حياديين أو معتزلين. والذي يدرس وقائع الجهاد يرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبعث سرية ولم يباشر غزوة ولم يشتبك بقتال مع فئة إلّا ردا على عدوان أو انتقاما من عدوان أو دفعا لأذى أو تنكيلا بغادر أو تأديبا لباغ أو ثأرا لدم إسلامي أهدر أو ضمانة لحرية الدعوة والاستجابة إليها ، أو بناء على نكث عهد أو بسبب مظاهرة لعدو أو تآمر معه على المسلمين.
وكل هذا متسق مع النصوص القرآنية التي لا يمكن أن يصدر منه ما ينقضها بطبيعة الحال.
وكل هذا ينطبق على وقائع القتال مع اليهود والنصارى الكتابيين أيضا. فكل عملية تأديب أو تنكيل أو غزوة ضد يهود يثرب والقرى اليهودية الأخرى في طريق الشام كانت ردا على عدوان أو مؤامرة ضد الإسلام والمسلمين . وحملات مؤتة وتبوك كانت مقابلة على عدوان القبائل العربية النصرانية في طريق الشام والبلقاء على رسل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوافل المسلمين .(1/1113)
وآية التوبة هذه : قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) تضمنت إشارة إلى ذلك وحصرت أمر القتال في الفئات التي لا تدين دين الحق ولا تحرم ما حرم اللّه ورسوله من الكتابيين دون سائرهم وحملات الفتح التي سيرها أبو بكر رضي اللّه عنه وما بعدها هي امتداد لهذه الحملات حيث كانت حالة الحرب التي نشأت عن العدوان قائمة. ووصايا النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء رضي اللّه عنهم لقواد هذه الحملات بألّا يقاتلوا إلّا من يقاتلهم وبأن يسالموا من يسالمهم وبأن يتركوا من لا يتعرض لهم ومن يعتزلهم وشأنه وأن لا يقتلوا النساء والصبيان معروفة مشهورة . ولو كان قتال كل كافر وكل مشرك مبدأ إسلاميا لاقتضى أن يقاتل كل كافر وكل مشرك مهما كانت حالته وسنه وموقفه وهذا لم يحصل إطلاقا لا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في زمن خلفائه الراشدين رضي اللّه عنهم. وقتال أبي بكر للمرتدين وعدم قبوله منهم إلّا الإسلام والاستسلام حالة أخرى لأن الارتداد كان ضد الدولة الإسلامية والنظام الإسلامي في الدرجة الأولى وفي موطأ الإمام مالك حديث عن يحيى بن سعيد احتوى وصية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان حين بعثه على رأس جيش إلى الشام جاء فيها : «إني موصيك بعشر لا تقتلنّ امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما ولا تقطعنّ شجرا مثمرا ولا تخربنّ عامرا ولا تعقرنّ شاة ولا بعيرا إلّا لمأكلة ولا تحرقنّ نخلا ولا تفرّقنّه ولا تغلل ولا تجبن. وإنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم للّه فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له».
ويورد فيما يورد حديث صحيح جاء فيه : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه فمن قال لا إله إلّا اللّه فقد عصم مني نفسه وماله إلّا بحقّه وحسابه على اللّه» . ونكرر هنا ما قلناه تعليقا على هذا الحديث في سياق التعليق على (سبيل اللّه) والخطة القرآنية للدعوة إلى سبيل اللّه في سورة المزمل من أن ذلك يحمل على قصد قتال الذين يستحقون القتال حسب المبادئ التي قررها القرآن وليس قتل الكفار والمشركين بسبب كفرهم وحسب. لأنه لم يرد كما قلنا أي خبر عن قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - لكفار ومشركين موادين ومسالمين ومحايدين وغير معتدين وغير متآمرين وغير ناقضين بشكل ما.
وهناك أحاديث صحيحة عديدة تدعم ما ذكرناه. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِى خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ « اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَ لاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلاَلٍ - فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ(1/1114)
دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِى عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِى يَجْرِى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ فِى الْغَنِيمَةِ وَالْفَىْءِ شَىْءٌ إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلاَ ذِمَّةَ نَبِيِّهِ وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ » (1) .
وحديث رواه أبو داود عن أنس قال : «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال انطلقوا باسم اللّه وباللّه وعلى ملّة رسول اللّه ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة ولا تغلّوا وضمّوا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن اللّه يحبّ المحسنين» .
وحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن ابن عمر قال : «وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - فنهى عن قتل النساء والصبيان. وسئل النبيّ عن أهل الدار يبيّتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريّهم قال هم منهم» وحديث رواه الترمذي والنسائي عن عطية القرظي قال : «عرضنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم قريظة فكان من أنبت قتل ومن لم ينبت خلّي سبيله فكنت ممّن لم ينبت فخلّي سبيلي» .
وفي الحديث الأول بخاصة نقض لما قاله بعض المفسرين في سياق جملة لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ في الآية [256] من سورة البقرة وذكرناه قبل من أن هذه الجملة منسوخة بالنسبة للمشركين من العرب ولا يقبل منهم غير الإسلام أو السيف. فليس في القرآن على ضوء ما قدمناه ما ينسخ ذلك بالنسبة للمشركين العرب. وفي هذا الحديث الصحيح إجازة بقبول الجزية من الأعداء المشركين ومعظم الجيوش والسرايا التي سيرها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كانت على الأعداء المشركين من العرب. بل وإن صلح الحديبية الذي أشرنا إليه دليل على جواز الصلح مع المشركين العرب بدون جزية إذا ما كان في ذلك من مصلحة المسلمين. وفي سورة الأنفال آية تأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنوح إلى السلم إذا جنح إليها الكفار الأعداء. وهي الآية [61] وهي مطلقة لا تشترط جزية ولا شرطا آخر ، وفي هذا دليل على ما تقدم أيضا ، واللّه تعالى أعلم. (2)
__________
(1) - صحيح مسلم (4619 ) -تخفر : تنقض العهد -تغل : تسرق من الغنيمة قبل أن تقسم
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 26)(1/1115)
كان مما يلقى به المشركون النبىّ لصرفه عن دعوته ـ أن يجمعوا له مالا ، إن كان يريد مالا ، حتى يكون أكثرهم مالا ، وأوسعهم غنى ، أو يقيموه رئيسا عليهم ، إن كان يطمع فى الرياسة ، أو يزوجوه أجمل بناتهم ، وأكرمهم نسبا ، إن كان يرغب فى ذلك .. فلما لم يلقوا من النبي الكريم إلا تساميا عن هذه المطالب الرخيصة ، وإلا إعراضا عنها ، وأنه لا يتحول عن الدّين الذي يدعو إليه ، ولو وضعوا الشمس فى يمينه ، والقمر فى يساره! ـ لمّا لم يجدوا استجابة من النبىّ فى ترك دعوته ، جاءوه يعرضون عليه أن يخلطوا دينهم بدينه ، وأن يجمعوا بينهما ، فيعبدون هم ما يعبده النبىّ إلى جانب ما يعبدون ويعبد هو ما يعبد المشركون إلى جانب معبوده الذي يعبده فإن كان الذي جاء به خيرا مما معهم شاركوه فيه ، وأخذوا حظهم منه ، وإن كان الذي هم عليه خيرا مما جاء به شاركهم فيه ، وأخذ حظه منه .. وبهذا تنقطع أسباب الشقاق ، والعداوة ، بينهم وبينه ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ » (64 : الزمر) ..وهذا من ضلال القوم وسفه أحلامهم ، وسوء معتقدهم .. فإن الحق كلّ لا يتجزأ ، ولا يتبعّض .. فإما أن يكون ما يعبدون حقا ، وإذن فإنّ خلطه بشىء دخيل عليه يغيّر من صورته ، ويفسد حقيقته ، فلا يكون حقا ، ولا يكون باطلا ، وإنما هو حق وباطل معا .. وإما أن يكون باطلا ، وإذن فلم يمسكون به ، ويحرصون عليه ؟ .. وإن فى تفريطهم فى معتقدهم على هذا الوجه لدليلا على أنه معتقد فاسد ، وأنهم هم أنفسهم لا يجدون فيه ما يقيمهم منه على يقين به ، واطمئنان إليه ، وأنه من السهل الميسور عندهم أن يبيعوه بالثمن البخس لأول عارض يعرض لهم.
فالمخاطبون من قريش هنا هم الكافرون الذين حكم عليهم بالكفر حكما مؤبّدا ، وأنهم لن يؤمنوا أبدا ، ولهذا أخذوا هذا الوضع فى سورة خاصة بهم ..
قوله تعالى : « قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ »..
الكافرون هنا ، هم المشركون من قريش ..
وقوله تعالى : « لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ » أي أنا لا أعبد المعبودات التي تعبدونها. إن لى معبودا لا أعبد سواه ..
وقوله تعالى : « وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ » أي وأنتم لا تعبدون الإله الذي أعبده أنا .. إن لكم آلهة تعبدونها ، غير الإله الذي أعبده ..
فهناك إذن اختلاف بعيد بينى وبينكم ، فى ذات المعبود الذي أعبده ، وذوات المعبودات التي تعبدونها. هذا هو حالى وحالكم الآن .. وهذا هو الحكم فيما أعبد ، وفيما تعبدون .. وتلك حقيقة لا خلاف بيننا عليها .. أنا لا أعبد معبوداتكم ، وأنتم لا تعبدون معبودى ..(1/1116)
وقوله تعالى : « وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ »..هو تعقيب على هذا الحكم العام المطلق ، وينبنى عليه : أننى لا أنا عابد ما عبدتم ، فى أي حال من أحوالى ، لا حاضرا ولا مستقبلا .. ولا أنتم عابدون فى المستقبل الإله الذي أعبده .. فأنا على ما أنا عليه من عبادة الإله الذي أعبده ، لا أتحول عن عبادته ، وأنتم على ما أنتم عليه من عبادة ما تعبدون من معبودات لا تتحولون عن عبادتها ..
وهذا يعنى أن الذين خوطبوا بهذا الخطاب من المشركين ، لم يدخلوا فى الإسلام ، ولم يؤمنوا باللّه ، بل ماتوا على شركهم .. وهذا ما يفهم من قوله تعالى : « قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ » ففى وصف المشركين بالكفر إشارة إلى أنهم من الذين استبدّ بهم العناد ، وركبهم الضلال ، فانتقلوا ـ بدعوة النبىّ لهم إلى الإيمان باللّه ـ انتقلوا من الشرك إلى الكفر الصريح ..
يقول الطّبرسى فى تفسيره : يريد (أي بالكافرين) قوما معينين ، لأن الألف واللام للعهد ..
والقرآن الكريم ، حين يلقى رءوس المشركين ، ومن غلبت عليه الشّقوة منهم ممن لا يدخلون فى دين اللّه أبدا ـ كان يخاطبهم بوصف الكافرين لا المشركين ، ومن ذلك قوله تعالى : « إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً. فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً » (15 ـ 17 الطارق) .. ويقول سبحانه فى أحد رءوس هؤلاء المشركين : « أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا » (77 ـ 79 مريم) ..
فهؤلاء المخاطبون بوصف الكفر من المشركين ، قد ماتوا على الكفر ، وسيلقون جزاء الكافرين فى الآخرة .. إنهم قبل دعوتهم إلى الإسلام كانوا مشركين ، فلما لم يستجيبوا لهذه الدعوة انتقلوا من الشرك إلى الكفر .. وكذلك أهل الكتاب ، كانوا قبل دعوة النبىّ لهم ضلّالا ، فلما دعاهم وأبوا أن يؤمنوا ، صاروا كفارا.
وقوله تعالى : « لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ».هو فصل الخطاب ، ومقطع الأمر فيما بين النبىّ ، وهؤلاء الكافرين ..إن لهم دينهم الذي يدينون به ويحاسبون عليه ، وهو له دينه الذي يدين به ، ويلقى ربه عليه.« وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ » (41 : يونس). (1)
نفي بعد نفي . وجزم بعد جزم . وتوكيد بعد توكيد . بكل أساليب النفي والجزم والتوكيد . .
{ قل } . . فهو الأمر الإلهي الحاسم الموحي بأن أمر هذه العقيدة أمر الله وحده . ليس لمحمد فيه شيء . إنما هو الله الآمر الذي لا مرد لأمره ، الحاكم لا راد لحكمه .
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1695)(1/1117)
{ قل يا أيها الكافرون } . . ناداهم بحقيقتهم ، ووصفهم بصفتهم . . إنهم ليسوا على دين ، وليسوا بمؤمنين وإنما هم كافرون . فلا التقاء إذن بينك وبينهم في طريق . .
وهكذا يوحي مطلع السورة وافتتاح الخطاب ، بحقيقة الانفصال الذي لا يرجى معه اتصال!
{ لا أعبد ما تعبدون } . . فعبادتي غير عبادتكم ، ومعبودي غير معبودكم . .
{ ولا أنتم عابدون ما أعبد } فعبادتكم غير عبادتي ، ومعبودكم غير معبودي .
{ ولا أنا عابد ما عبدتم } . . توكيد للفقرة الأولى في صيغة الجملة الاسمية وهي أدل على ثبات الصفة واستمرارها .
{ ولا أنتم عابدون ما أعبد } . . تكرار لتوكيد الفقرة الثانية . كي لا تبقي مظنة ولا شبهة ، ولا مجال لمظنة أو شبهة بعد هذا التوكيد المكرر بكل وسائل التكرار والتوكيد!
ثم إجمال لحقيقة الافتراق الذي لا التقاء فيه . والاختلاف الذي لا تشابه فيه ، والانفصال الذي لا اتصال فيه ، والتمييز الذي لا اختلاط فيه :
{ لكم دينكم ولي دين } . . أنا هنا وأنتم هناك ، ولا معبر ولا جسر ولا طريق!!!
مفاصلة كاملة شاملة ، وتميز واضح دقيق . .
ولقد كانت هذه المفاصلة ضرورية لإيضاح معالم الاختلاف الجوهري الكامل ، الذي يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق . الاختلاف في جوهر الاعتقاد ، وأصل التصور ، وحقيقة المنهج ، وطبيعة الطريق .
إن التوحيد منهج ، والشرك منهج آخر . . ولا يلتقيان . . التوحيد منهج يتجه بالإنسان مع الوجود كله إلى الله وحده لا شريك له . ويحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان ، عقيدته وشريعته ، وقيمه وموازينه ، وآدابه وأخلاقه ، وتصوراته كلها عن الحياة وعن الوجود . هذه الجهة التي يتلقى المؤمن عنها هي الله ، الله وحده بلا شريك . ومن ثم تقوم الحياة كلها على هذا الأساس . غير متلبسة بالشرك في أية صورة من صوره الظاهرة والخفية . . وهي تسير . .
وهذه المفاصلة بهذا الوضوح ضرورية للداعية . وضرورية للمدعوين . .
إن تصورات الجاهلية تتلبس بتصورات الإيمان . وبخاصة في الجماعات التي عرفت العقيدة من قبل ثم انحرفت عنها . وهذه الجماعات هي أعصى الجماعات على الإيمان في صورته المجردة من الغبش والالتواء والانحراف . أعصى من الجماعات التي لا تعرف العقيدة أصلاً . ذلك أنها تظن بنفسها الهدى في الوقت الذي تتعقد انحرافاتها وتتلوى! واختلاط عقائدها وأعمالها وخلط الصالح بالفاسد فيها ، قد يغري الداعية نفسه بالأمل في اجتذابها إذا أقر الجانب الصالح وحاول تعديل الجانب الفاسد . . وهذا الإغراء في منتهى الخطورة!(1/1118)
إن الجاهلية جاهلية . والإسلام إسلام . والفارق بينهما بعيد . والسبيل هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته . هو الانسلاخ من الجاهلية بكل ما فيها والهجرة إلى الإسلام بكل ما فيه .
وأول خطوة في الطريق هي تميز الداعية وشعوره بالانعزال التام عن الجاهلية : تصوراً ومنهجاً وعملاً . الانعزال الذي لا يسمح بالالتقاء في منتصف الطريق . والانفصال الذي يستحيل معه التعاون إلا إذا انتقل أهل الجاهلية من جاهليتهم بكليتهم إلى الإسلام .
لا ترقيع . ولا أنصاف حلول . ولا التقاء في منتصف الطريق . . مهما تزيت الجاهلية بزي الإسلام ، أو ادعت هذا العنوان!
وتميز هذه الصورة في شعور الداعية هو حجر الأساس . شعوره بأنه شيء آخر غير هؤلاء . لهم دينهم وله دينه ، لهم طريقهم وله طريقه . لا يملك أن يسايرهم خطوة واحدة في طريقهم . ووظيفته أن يسيرهم في طريقه هو ، بلا مداهنة ولا نزول عن قليل من دينه أو كثير!
وإلا فهي البراءة الكاملة ، والمفاصلة التامة ، والحسم الصريح . . { لكم دينكم ولي دين } . .
وما أحوج الداعين إلى الإسلام اليوم إلى هذه البراءة وهذه المفاصلة وهذا الحسم . . ما أحوجهم إلى الشعور بأنهم ينشئون الإسلام من جديد في بيئة جاهلية منحرفة ، وفي أناس سبق لهم أن عرفوا العقيدة ، ثم طال عليهم الأمد { فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون } وأنه ليس هناك أنصاف حلول ، ولا التقاء في منتصف الطريق ، ولا إصلاح عيوب ، ولا ترقيع مناهج . . إنما هي الدعوة إلى الإسلام كالدعوة إليه أول ما كان ، الدعوة بين الجاهلية . والتميز الكامل عن الجاهلية . . { لكم دينكم ولي دين } . . وهذا هو ديني : التوحيد الخالص الذي يتلقى تصوراته وقيمه ، وعقيدته وشريعته . . كلها من الله . . دون شريك . . كلها . . في كل نواحي الحياة والسلوك .
وبغير هذه المفاصلة . سيبقى الغبش وتبقى المداهنة ويبقى اللبس ويبقى الترقيع . . والدعوة إلى الإسلام لا تقوم على هذه الأسس المدخولة الواهنة الضعيفة . إنها لا تقوم إلا على الحسم والصراحة والشجاعة والوضوح . .
وهذا هو طريق الدعوة الأول : { لكم دينكم ولي دين } . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1 - خطاب من الله تعالى لرسوله بالتبرؤ من عبادة الكفار والمشركين
2 - المفاصلة بين أهل الإيمان وأهل الكفر .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3992)(1/1119)
3 - مخالفة الكفار والمشركين وعدم التشبه بهم .
4 - ملة الكفر واحدة وملة الإيمان واحدة .
5- دلت السورة على اختلاف المعبود واختلاف العبادة بين المسلمين وغيرهم ، وعلى أن الكفر ملة واحدة في مواجهة الإسلام ، وهذه العوامل الثلاثة تدل على أنه لالقاء بين الكفر والإيمان ، ولا بين أصحاب العداوة الدينية الحاقدة المتأصلة في النفس مع الإسلام وأهله.
أما اختلاف المعبود بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه المؤمنين وبين الكفار : فهو أن الفريق الأول يعبد اللَّه وحده لا شريك له ، والفريق الثاني يعبد غير اللَّه من الأصنام والأوثان والأنداد والشفعاء من البشر أو الملائكة أو الكوكب أو غير ذلك من أباطيل الملل والنحل.
وأما اختلاف العبادة فالمؤمنون يعبدون اللَّه بإخلاص لا شرك فيه ولا غفلة عن المعبود ، وبما شرع اللَّه لعباده من كيفية العبادة المرضية له ، وأما الكفار والمشركون فيعبدون معبوداتهم بكيفيات فيها الشرك والإشراك وبنحو اخترعوه لأنفسهم ، لا يرضى عنه ربهم.
وأما الكفر فكله ملة واحدة في مواجهة الإسلام لأن الدين الحق المقبول عند اللَّه هو الإسلام وهو الإخلاص للَّه والتوحيد. وأما أنواع الكفر المعارضة لمبدأ التوحيد فتشترك في صلب الاعتقاد المنحرف عن أصل التوحيد. (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 444)(1/1120)
سورة النصر
مدنيّة ، وهي ثلاث آيات
تسميتها :
سميت سورة النصر لافتتاحها بقول اللَّه تبارك وتعالى : إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ أي الفتح الأكبر والنصر المؤزر الذي سمي فتح الفتوح وهو فتح مكة المكرمة. وتسمى أيضا سورة التوديع.
وقال ابن عاشور :
سميت هذه السورة في كلام السلف ( سورةَ إذا جاء نصر الله والفتحُ ) . روى البخاري : ( أن عائشة قالت : لما نزلت سورة إذا جاء نصر الله والفتح ) الحديثَ .
وسميت في المصاحف وفي معظم التفاسير ( سورة النصر ) لذكر نصر الله فيها ، فسميت بالنصر المعهود عهداً ذكرياً .
وهي معنونة في ( جامع الترمذي ) ( سورة الفتح ) لوقوع هذا اللفظ فيها فيكون هذا الاسم مشتركاً بينها وبين سورة : ( إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً .
وعن ابن مسعود أنها تسمى سورة التوديع في الإِتقان ( لما فيها من الإِيماء إلى وَداعه ( - صلى الله عليه وسلم - ) ا هـ . يعني من الإِشارة إلى اقتراب لحاقه بالرفيق الأعلى كما سيأتي عن عائشة .
وهي مدنية بالاتفاق . واختلف في وقت نزولها فقيل : نزلت منصرَف النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) من خيبر ( أي في سنة سبع ) ، ويؤيده ما رواه الطبري والطبراني عن ابن عباس : ( بينما رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) بالمدينة نزلت ) إذا جاء نصر الله والفتح قال رسول الله : الله أكبر جَاء نصر الله والفتحُ وجاء نصرُ أهل اليمن فقال رجل : يا رسول الله وما أهل اليمن ؟ قال : قوم رقيقة قلوبهم ، لينة طباعهم ، الإِيمانُ يماننٍ والفقهُ يَماننٍ والحكمةُ يمانية اه ، ومجيء أهل اليمن أول مرة هو مجيء وفد الأشعريين عام غزوة خيبر .
ولم يختلف أهل التأويل أن المراد بالفتح في الآية هو فتح مكة ، وعليه فالفتح مستقبل ودخول الناس في الدين أفواجاً مستقبل أيضاً وهو الأليق باستعمال ( إذا ) ويحمل قول النبي : جاء نصر الله والفتح على أنه استعمال الماضي في معنى المضارع لتحقق وقوعه أو لأن النصر في خيبر كان بادرةً لفتح مكة .
وعن قتادة : نزلت قبل وفاة رسول الله بسنتين . وقال الواحدي عن ابن عباس : نزلت مُنصرفَه من حُنين ، فيكون الفتح قد مضى ودخول الناس في الدين أفواجاً مستقبلاً ، وهو في سنة الوفود سنة تسع ، وعليه تكون ( إذا ) مستعملة في مجرد التوقيت دون تعيين .(1/1121)
وروى البزار والبيهقي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن ابن عمر أنها نزلت أواسط أيام التشريق ( أي عامَ حجة الوداع ) . وضعفه ابن رجب بأن فيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف . وقال أحمد بن حنبل : لا تحل الرواية عنه وإن صحت هذه الرواية كان الفتح ودخول الناس في الدين أفواجاً قد مَضيا .
وعن ابن عمر أن رسول الله عاش بعد نزولها نحواً من ثلاثة أشهر وعليه تكون ( إذا ) مستعملة للزمن الماضي لأن الفتح ودخول الناس في الدين قد وقَعا .
وقد تظافرت الأخبار رواية وتأويلاً أن هذه السورة تشتمل على إيماء إلى اقتراب أجل رسول الله وليس في ذلك ما يرجح أحد الأقوال في وقت نزولها إذ لا خلاف في أن هذا الإِيماء يشير إلى توقيت بمجيء النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجاً فإذا حصل ذلك حان الأجل الشريف .
وفي حديث ابن عباس في صحيح البخاري ( : هو أجل رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) أعلمه له قال : ( إذا جاء نصر الله والفتح ( ( النصر : 1 ) وذلك علامة أجَلِك : ( فسبح بحمد ربك واستغفره ( ( النصر : 3 ) .
وفي هذا ما يُؤَوِّل ما في بعض الأخبار من إشارة إلى اقتراب ذلك الأجل مثل ما في حديث ابن عباس عند البيهقي في ( دلائل النبوة ) والدّارمي وابن مردويه : لما نزلت : ( إذا جاء نصر الله والفتح ( دعا رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) فاطمة وقال : إنه قد نُعيَتْ إليَّ نفْسي فبكتْ ) الخ ، فإن قوله : ( لَما نزلت ) مُدرج من الراوي ، وإنما هو إعلام لها في مرضه كما جاء في حديث الوفاة في ( الصحيحين ) فهذا جمع بين ما يَلُوح منه تعارض في هذا الشأن .
وعدها جابر بن زيد السورة المائة والثلاث في ترتيب نزول السور ، وقال : نزلت بعد سورة الحشر وقبل سورة النور . وهذا جار على رواية أنها نزلت عقب غزوة خيبر .
وعن ابن عباس أنها آخر سورة نزلت من القرآن فتكون على قوله السورة المائة وأربع عشرة نزلت بعد سورة براءة ولم تنزل بعدها سورة أخرى .
وعدد آياتها ثلاث وهي مساوية لسورة الكوثر في عدد الآيات إلا أنها أطول من سورة الكوثر عدَّةَ كلمات ، وأقصرُ من سورة العصر . وهاته الثلاث متساوية في عدد الآيات . وفي حديث ابن أبي شيبة عن أبي إسحاق السبعي في حديث : ( طعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فصلى عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة بأقصر سورتين في القرآن : ( إنا أعطيناك الكوثر ( ( الكوثر : 1 ) و ) إذا جاء نصر الله والفتح ( ( النصر : 1 ) . (1)
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 587)(1/1122)
مناسبتها لما قبلها :
لما أخبر اللَّه تعالى في آخر السورة المتقدمة باختلاف دين الإسلام الذي يدعو إليه الرسول عن دين الكفار ، أنبأه هنا بأن دينهم سيضمحل ويزول ، ودينه سيعلو وينتصر وقت مجيء الفتح والنصر ، حيث يصبح دين الأكثرين. وفي ذلك بيان فضل اللَّه تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالنصر والفتح ، وانتشار الإسلام ، وإقبال الناس أفواجا إلى دينه : دين اللَّه ، كما أن فيه إشارة إلى دنو أجله - صلى الله عليه وسلم - . (1)
وقال الخطيب : " آذن النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ المشركين فى سورة « الكافرون » التي سبقت هذه السورة ـ آذانهم بكلمة الفصل بينه وبينهم « لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ »
.. ووراء هذه الكلمة الحاسمة القاطعة ، التي أخذ بها النبي طريقه إلى ربه ومعبوده ، واتخذ بها المشركون طريقهم إلى آلهتهم ومعبوداتهم ـ وراء هذه الكلمة تشخص الأبصار إلى مسيرة كلّ من النبي والمشركين الذين أخذوا طريقا غير طريقه ، لترى ماذا ينتهى إليه الطريق بكل منهما
وتختفى عن الأبصار طريق أهل الشرك ، وتبتلعهم رمال العواصف الهابّة عليهم من صحراء ضلالهم ..
أما الطريق الذي أخذه النبي صلوات اللّه وسلامه عليه ، فها هو ذا النصر العظيم يلقاه عليه ، وها هو ذا الفتح المبين ترفرف أعلامه بين يديه ، وها هو ذا دين اللّه الذي يدعو إليه ، قد فتحت أبوابه ، ودخل الناس فيه أفواجا .. " (2)
ما اشتملت عليه السورة :
سورة النصر مدنية ، هي تتحدث عن " فتح مكة " الذي عز به المسلمون ، وإنتشر الإسلام في الجزيرة العربية ، وتقلمت أظافر الشرك والضلال ، وبهذا الفتح المبين ، دخل الناس في دين الله ، وإرتفعت راية الإسلام ، وإضمحلت ملة الأصنام ، وكان الإخبار بفتح مكة قبل وقوعه ، من أظهر الدلائل على صدق نبوته ، عليه أفضل الصلاة والسلام. (3)
والغَرض منها الوعد بنصر كامل من عند الله أو بفتح مكة ، والبشارة بدخول خلائق كثيرة في الإسلام بفتح وبدونه إن كان نزولها عند منصرف النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) من خيبر كما قال ابن عباس في أحد قوليه .
والإِيماءُ إلى أنه حين يقع ذلك فقد اقترب انتقال رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) إلى الآخرة.
__________
(1) - انظر تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 257)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1698)
(3) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 532)(1/1123)
ووعدُه بأن الله غفر له مغفرة تامة لا مؤاخذة عليه بعدها في شيء مما يختلج في نفسه الخوف أن يكون منه تقصير يقتضيه تحديد القوة الإنسانية الحدَّ الذي لا يفي بما تطلبه همَّتُه المَلَكية بحيث يكون قد ساوَى الحد الملَكي الذي وصفه الله تعالى في الملائكة بقوله : ( يسبحون الليل والنهار لا يفترون ( ( الأنبياء : 20 ) . (1)
فيها أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالتسبيح بحمد اللّه واستغفاره إذا ما جاء نصر اللّه وفتحه ورأى الناس يدخلون في دينه.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أنها نزلت بعد سورة التوبة وبكلمة أخرى آخر السور المدنيّة نزولا. ومع أن روايات الترتيب الأخرى تذكر ترتيبها كسابعة السور المدنيّة نزولا أو كسادسة عشرة أو كثامنة عشرة بل إن هناك رواية بأنها مكيّة فإن هناك روايات وأحاديث عديدة بطرق مختلفة تؤيد ترتيب المصحف الذي اعتمدناه. ففي فصل التفسير من صحيح البخاري في سياق هذه السورة حديث عن ابن عباس جاء فيه «كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله فقال عمر إنه من قد علمتم فدعاه ذات يوم فأدخله معهم فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلّا ليريهم. قال ما تقولون في قول اللّه تعالى : إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فقال بعضهم أمرنا أن نحمد اللّه ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم. فقال لي أكذلك تقول يا ابن عباس فقلت لا. فما تقول. قلت هو أجل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أعلمه به قال إذا جاء نصر اللّه والفتح وذلك علامة أجلك فسبّح بحمد ربك واستغفر. إنه كان توابا فقال عمر ما أعلم منها إلّا ما تقول» وقد روى الطبري في سياقها حديثا عن ابن عباس جاء فيه «لما نزلت قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - نعيت إليّ نفسي كأني مقبوض في تلك السنة». وروى الطبري والبغوي أحاديث بطرق مختلفة عن ابن عباس بالمعنى نفسه بدون عزو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . وروى الطبري عن الضحاك قوله كانت هذه السورة آية لموت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - . وروي مثل هذا عن مجاهد وعطاء أيضا. وقد ذكر الزمخشري أنها آخر السور نزولا وأنها نزلت في حجة الوداع في منى وذكر النيسابوري - مع ذكره القول إنها مكيّة - أنها نزلت في أواسط أيام التشريق في منى في حجة الوداع وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعش بعدها إلّا سبعين يوما وأن السورة تسمى لذلك سورة التوديع وأن أكثر الصحابة متفقون على أنها دلت على نعي رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - . وروى ابن كثير حديثا عن ابن عمر أخرجه البزار والبيهقي أنها نزلت على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أيام التشريق فعرف أنه الوداع فأمر براحلته وخطب خطبته الشهيرة بخطبة الوداع.
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 589)(1/1124)
ولقد روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ « سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ ». قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الَّتِى أَرَاكَ أَحْدَثْتَهَا تَقُولُهَا قَالَ « جُعِلَتْ لِى عَلاَمَةٌ فِى أُمَّتِى إِذَا رَأَيْتُهَا قُلْتُهَا (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) ». إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. (1)
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي آخِرِ أَمْرِهِ لَا يَقُومُ وَلَا يَقْعُدُ ، وَلَا يَذْهَبُ وَلَا يَجِيءُ إِلَّا قَالَ : " سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ " فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّكَ تُكْثِرُ مِنْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ، لَا تَذْهَبُ وَلَا تَجِيءُ ، وَلَا تَقُومُ وَلَا تَقْعُدُ إِلَّا قُلْتَ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ، قَالَ : " إِنِّي أُمِرْتُ بِهَا " فَقَالَ : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ " (2)
والحديثان يؤيدان إذا صحّا كون السورة نزلت بين يدي موت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فضلا عما انطوى فيهما من صورة رائعة لعمق شعوره بواجبه نحو اللّه تسبيحا وحمدا واستغفارا.
وبناء على ذلك كلّه رجحنا ترتيب المصحف الذي اعتمدناه وجعلنا ترتيب هذه السورة بعد سورة التوبة وآخر السور المدنيّة.
ونصّ السورة وروحها يؤيدان ذلك على ما سوف يأتي شرحه. أما القول إنها مكيّة فهو غريب ينقضه نصّها وروحها والروايات الكثيرة الأخرى التي أوردناها.
وما قلناه من أن السورة هي آخر السور نزولا لا يعني أن لا يكون نزل بعدها قرآن. وكل ما هناك أنه لم ينزل سور جديدة تامة. وأن ما يحتمل أن يكون من قرآن قد نزل بعدها قد ألحق بسور أخرى بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - واللّه أعلم.
وترجيح كون هذه السورة آخر السور نزولا وترجيح كون سورة الفاتحة أولى السور نزولا يدعمان بعضهما ويلهمان معجزة قرآنية ربانية. ففي سورة الفاتحة براعة استهلال للدعوة الإسلامية والقرآن وفي سورة النصر هتاف رباني بما تمّ من نصر اللّه للدعوة الإسلامية. (3)
مقصودها الإعلام بتمام الدين اللازم عن مدلول اسمها النصر ، اللازم عنه موت النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، اللازم عنه العلم بأنه ما برز إلى عالم الكون والفساد إلا لإعلاء كلمة الله تعالى وإدحاض كلمة الشيطان - لعنة الله تعالى عليه - اللازم عنه أنه ( - صلى الله عليه وسلم - ) خلاصة الوجود ، وأعظم عبد للولي الودود ، وعلى ذلك أيضا دل اسمها التوديع وحال نزولها وهو أيام التشريق من سنة حجة الوداعه ) بسم الله ( الذي له الأمر كله ، فهو العليم الحكيم ) الرحمن ( الذي أرسلك رحمة للعالمين ، فعمهم بعد نعمة الإيجاد بأن بين لهم إقامة لمعاشهم ومعادهم بك طريق النجاة غاية
__________
(1) - صحيح مسلم (1114 )
(2) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (35499 ) صحيح
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (9 / 573)(1/1125)
البيان ، بما أنزل عليك من معجز القرآن الذي من سمعه فكأنما سمعه من العلي العظيم ) الرحيم ( الذي خص من أراده بالإقبال به إلى حزبه وجعله من أهل قربه بلزوم الصراط المستقيم . (1)
فضلها :
عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ تَعْدِلُ رُبُعَ الْقُرْآنِ، وَ إِذَا زُلْزِلَتْ تَعْدِلُ رُبُعَ الْقُرْآنِ، وَ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ تَعْدِلُ رُبُعَ الْقُرْآنِ " (2) .
وعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ ، قَالَ : قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ : يَا ابْنَ عُتْبَةَ ، أَتَعْلَمُ آخِرَ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ ؟ ، قُلْتُ : نَعَمْ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، قَالَ : صَدَقْتَ " (3)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِمِنًى وَهُوَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ حَتَّى خَتَمَهَا فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ الْوَدَاعُ ، فَأَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ فَرَكِبَ فَوَقَفَ للنَّاسِ بِالْعَقَبَةِ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ فَحَمِدَ اللَّهُ ، وَأثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ، فَقَالَ : " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ هَدَرٌ وَأَوَّلُ دِمَائِكُمْ دَمُ إِيَاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ ، وَإِنَّ أَوَّلَ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ أَوْضَعُ لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ، أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ فَهُوَ الْيَوْمَ كَهَيْئَةِ يَوْمِ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ رَجَبُ مُضَرَ بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ ، وَذُو الْقَعْدَةِ ، وَذُو الْحِجَّةِ ، وَالْمُحَرَّمُ ، وَإِنَّ النَّسِيءَ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ صَفَرَ عَامًا حَرَامًا وَعَامًا حَلَالًا ، وَيجْعَلُونَ المُحَرَّمَ عَامًا حَلَالًا وَعَامًا حَرَامًا ، وَذَلِكَ النَّسِيءُ مِنَ الشَّيْطَانِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا آخِرَ الزَّمَانِ وَقَدْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِمُحَقَّرَاتِ الْأَعْمَالِ فَاحْذَرُوهُ فِي دِينِكُمْ ، أَيُّهَا النَّاسُ ، مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا ، أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ النِّسَاءَ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ ، أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ ، وَلَكُمْ عَلَيْهُنَّ حَقٌّ ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ حَقٌّ ، وَمِنْ حَقِّكُمْ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ وَلَا يَعْصِينَكُمْ فِي مَعْرُوفٍ فَإِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا ضَرَبْتُمْ فَاضْرِبُوا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِذَا اعْتَصَمْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ ، أَيُّهَا النَّاسُ ، أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ قَالُوا يَوْمٌ حَرَامٌ . قَالَ : أَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ قَالُوا : شَهْرٌ حَرَامٌ . قَالَ : أَيُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ قَالُوا : بَلَدٌ
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 559)
(2) - شعب الإيمان - (4 / 138) (2300 ) ضعيف
(3) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي ( 10333 ) صحيح(1/1126)
حَرَامٌ . قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ حَرَّمَ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ هَذَا الْيَوْمِ وَهَذَا الشَّهْرِ أَلَا لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَلَا أُمَّةَ بَعْدَكُمْ أَلَا فَلْيُبَلِّغْ شَاهِدُكُمْ غَائِبَكُمْ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ اشْهَدْ أَنِّي قَدْ بَلَّغْتُ ثَلَاثَ مِرَارٍ " (1)
سبب نزول السورة :
عَنْ مِقْسَمٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمَّا كَانَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبَيْنَ قُرَيْشٍ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَتْ سِنِينَ ذَكَرَ أَنَّهَا كَانَتْ حَرْبٌ بَيْنَ بَنِي بَكْرٍ وَهُمْ حُلَفَاءُ قُرَيْشٍ ، وَبَيْنَ خُزَاعَةَ وَهُمْ حُلَفَاءُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَعَانَتْ قُرَيْشُ حُلَفَاءَهُ عَلَى خُزَاعَةَ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَمْنَعَنَّهُمْ مِمَّا أَمْنَعُ مِنْهُ نَفْسِي وَأَهْلِ بَيْتِي " وَأَخَذَ فِي الْجِهَازِ إِلَيْهِمْ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا فَقَالُوا لِأَبِي سُفْيَانَ : مَا تَصْنَعُ وَهَذِهِ الْجُيُوشُ تُجَهَّزُ إِلَيْنَا ؟ انْطَلِقْ فَجَدِّدْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ كِتَابًا ، وَذَلِكَ مَقْدِمُهُ مِنَ الشَّامِ فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : هَلُمَّ فَلْنُجَدِّدْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كِتَابًا ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " فَنَحْنُ عَلَى أَمْرِنَا الَّذِي كَانَ ، وَهَلْ أَحْدَثْتُمْ مِنْ حَدَثٍ ؟ " فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : لَا . فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " فَنَحْنُ عَلَى أَمْرِنَا الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا " ، فَجَاءَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ : هَلْ لَكَ عَلَى أَنْ تَسُودَ الْعَرَبَ ، وَتَمُنَّ عَلَى قَوْمِكَ فَتُجِيرَهُمْ ، وَتُجَدِّدَ لَهُمْ كِتَابًا ؟ فَقَالَ : مَا كُنْتَ لِأَفْتَاتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَمْرٍ ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ فَقَالَ : هَلْ لَكِ أَنْ تَكُونِي خَيْرَ سَخْلَةٍ فِي الْعَرَبِ ؟ أَنْ تُجِيرِي بَيْنَ النَّاسِ ، فَقَدْ أَجَارَتْ أُخْتُكِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ فَلَمْ يُغَيِّرْ ذَلِكَ ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ : مَا كُنْتُ لِأَفْتَاتَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَمْرٍ ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ : أَجِيرَا بَيْنَ النَّاسِ قُولَا : نَعَمْ ، فَلَمْ يَقُولَا شَيْئًا ، وَنَظَرَا إِلَى أُمِّهِمَا وَقَالَا : نَقُولُ مَا قَالَتْ أَمُّنَا ، فَلَمْ يَنْجَحْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا طَلَبَ ، فَخَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ فَقَالُوا : مَاذَا جِئْتَ بِهِ ؟ قَالَ : جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ قَوْمٍ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ ، وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُ مِنْهُمْ صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا ، وَلَا أُنْثَى ، وَلَا ذَكْرًا ، إِلَّا كَلَّمْتُهُ ، فَلَمْ أَنْجَحْ مِنْهُمْ شَيْئًا قَالُوا : مَا صَنَعْتَ شَيْئًا ارْجِعْ فَرَجَعَ وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ قُرَيْشًا ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِنَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ : " انْظُرُوا أَبَا سُفْيَانَ فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَهُ " ، فَنَظَرُوهُ فَوَجَدُوهُ ، فَلَمَّا دَخَلَ الْعَسْكَرَ جَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَجَأُونَهُ ، وَيُسْرِعُونَ إِلَيْهِ ، فَنَادَى : يَا مُحَمَّدُ إِنِّي لَمَقْتُولٌ ، فَأُمِرَ بِي إِلَى الْعَبَّاسِ ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ لَهُ خِدْنًا وَصَدِيقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْعَبَّاسِ ، فَبَاتَ عِنْدَهُ ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ ، تَحَرَّكَ النَّاسُ ، فَظَنَّ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَهُ قَالَ : يَا عَبَّاسُ مَا شَأْنُ النَّاسِ ؟ قَالَ : تَحَرَّكُوا لِلمُنَادِي لِلصَّلَاةِ قَالَ : فَكُلُّ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا تَحَرَّكُوا لِمُنَادِي مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَقَامَ الْعَبَّاسُ لِلصَّلَاةِ وَقَامَ مَعَهُ ، فَلَمَّا فَرَغُوا قَالَ : يَا عَبَّاسُ مَا يَصْنَعُ مُحَمَّدٌ شَيْئًا
__________
(1) - مُسْنَدُ عَبْدِ بْنِ حُمَيدٍ (860 ) والسنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (5 / 152) (9964) ضعيف(1/1127)
إِلَّا صَنَعُوا مِثْلَهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَلَوْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ حَتَّى يَمُوتُوا جُوعًا لفَعَلُوا ، وَإِنِّي لَأَرَاهُمْ سَيُهْلِكُونَ قَوْمَكَ غَدًا ، قَالَ يَا عَبَّاسُ فَادْخُلْ بِنَا عَلَيْهِ فَدَخَلَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمِ ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ خَلْفَ الْقُبَّةِ ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : كَيْفَ أَصْنَعُ بِالْعُزَّى ؟ فَقَالَ عُمَرُ مِنْ خَلْفِ الْقُبَّةِ : تَخْرَأُ عَلَيْهَا فَقَالَ : وَأَبِيكَ إِنَّكَ لَفَاحِشٌ ، وَإِنِّي لَمْ آتِكَ يَا بْنَ الْخَطَّابِ إِنَّمَا جِئْتُ لِابْنِ عَمِّي ، وَإِيَّاهُ أُكَلِّمُ قَالَ : فَقَالَ الْعَبَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ قَوْمِنَا ، وَذَوِي أَسْنَانِهِمْ ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَجْعَلَ لَهُ شَيْئًا يُعْرَفُ ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ " قَالَ : فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : أَدَارِي ؟ أَدَارِي ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " نَعَمْ ، وَمَنْ وَضَعَ سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ " ، فَانْطَلَقَ مَعَ الْعَبَّاسِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَخَافَ مِنْهُ الْعَبَّاسُ بَعْضَ الْغَدْرِ فَجَلَّسَهُ عَلَى أَكَمَةٍ حَتَّى مَرَّتْ بِهِ الْجُنُودُ قَالَ : فَمَرَّتْ بِهِ كَبْكَبَةٌ فَقَالَ : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا عَبَّاسُ ؟ فَقَالَ : هَذَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ عَلَى الْمُجَنَّبَةِ الْيُمْنَى قَالَ : ثُمَّ مَرَّتْ كَبْكَبَةٌ أُخْرَى فَقَالَ : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا عَبَّاسُ ؟ قَالَ : هُمْ قُضَاعَةُ وَعَلَيْهِمْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ قَالَ : ثُمَّ مَرَّتْ بِهِ كَبْكَبَةٌ أُخْرَى ، فَقَالَ : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا عَبَّاسُ ؟ قَالَ : هَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى الْمُجَنَّبَةِ الْيُسْرَى قَالَ : ثُمَّ مَرَّتْ بِهِ قَوْمٌ يَمْشُونَ فِي الْحَدِيدِ فَقَالَ : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا عَبَّاسُ ؟ الَّتِي كَأَنَّهَا حَرَّةٌ سَوْدَاءُ قَالَ : هَذِهِ الْأَنْصَارُ عِنْدَهَا الْمَوْتُ الْأَحْمَرُ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْأَنْصَارُ حَوْلَهُ ، فَقَالَ : أَبُو سُفْيَانَ سِرْ يَا عَبَّاسُ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ صَبَاحَ قَوْمٍ فِي دِيَارِهِمْ قَالَ : ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى مَكَّةَ نَادَى ، وَكَانَ شِعَارُ قُرَيْشٍ يَا آلَ غَالِبٍ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا ، فَلَقِيَتْهُ امْرَأَتُهُ هِنْدٌ فَأَخَذَتْ بِلِحْيَتِهِ وَقَالَتْ : يَا آلَ غَالِبٍ اقْتُلُوا الشَّيْخَ الْأَحْمَقَ ، فَإِنَّهُ قَدْ صَبَأَ ، فَقَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْلِمَنَّ أَوْ لَيُضْرَبَنَّ عُنُقُكِ قَالَ : فَلَمَّا أَشْرَفَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مَكَّةَ كَفَّ النَّاسُ أَنْ يَدْخُلُوهَا حَتَّى يَأْتِيَهُ رَسُولُ الْعَبَّاسِ ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " لَعَلَّهُمْ يَصْنَعُونَ بِالْعَبَّاسِ مَا صَنَعَتْ ثَقِيفٌ بِعُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ، فَوَاللَّهِ إِذًا لَا أَسْتَبْقِي مِنْهُمْ أَحَدًا " قَالَ : ثُمَّ جَاءَهُ رَسُولُ الْعَبَّاسِ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْكَفِّ فَقَالَ : " كُفُّوا السِّلَاحَ إِلَّا خُزَاعَةَ عَنْ بَكْرٍ سَاعَةً " ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَكَفُّوا ، فَأَمَّنَ النَّاسَ كُلَّهُمْ إِلَّا ابْنَ أَبِي سَرْحٍ ، وَابْنَ خَطَلٍ وَمَقِيسَ الْكِنَانِيَّ ، وَامْرَأَةً أُخْرَى ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنِّي لَمْ أُحَرِّمْ مَكَّةَ وَلَكِنْ حَرَّمَهَا اللَّهُ ، وَإِنَّهَا لَمْ تُحَلِّلْ لِأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّمَا أَحَلَّهَا اللَّهُ لِي فِي سَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ " قَالَ : ثُمَّ جَاءَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِابْنِ أَبِي سَرْحٍ فَقَالَ : بَايِعْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، ثُمَّ جَاءَ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، ثُمَّ جَاءَهُ أَيْضًا فَقَالَ : بَايِعْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَقَدْ أَعْرَضْتَ عَنْهُ ، وَإِنِّي لَأَظُنُّ بَعْضَكُمْ سَيَقْتُلُهُ " فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ : فَهَلَّا أَوْمَضْتَ إِلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : " إِنَّ النَّبِيَّ لَا يُومِضُ " وَكَأَنَّهُ رَآهُ غَدْرًا . قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَقَاتَلَ بِمَنْ مَعَهُ صُفُوفَ قُرَيْشٍ بِأَسْفَلَ مَكَّةَ حَتَّى هَزَمَهُمُ اللَّهُ ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَرَفَعَ عَنْهُمْ(1/1128)
، فَدَخَلُوا فِي الدِّينِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحِ حَتَّى خَتَمَهَا . قَالَ مَعْمَرٌ : قَالَ الزُّهْرِيُّ ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ ـ وَهِيَ كِنَانَةُ ـ وَمَنْ أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ قَبْلَ حُنَيْنٍ ، وَحُنَيْنٌ وَادٍ فِي قُبُلِ الطَّائِفِ ذُو مِيَاهٍ ، وَبِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ عَجُزُ هَوَازِنَ وَمَعَهُمْ ثَقِيفٌ ، وَرَأْسُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّضْرِيُّ ، فَاقْتَتَلُوا بِحُنَيْنٍ ، فَنَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - وَالْمُسْلِمِينَ ، وَكَانَ يَوْمًا شَدِيدًا عَلَى النَّاسِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ الْآيَةُ . (1)
وقت نزول هذه السورة :
هناك قولان في ذلك :
أحدهما- أن فتح مكة كان سنة ثمان في رمضان ، ونزلت هذه السورة سنة عشر ، وروي أنه عاش بعد نزول هذه السورة سبعين يوما ، وتوفي في ربيع الأول سنة عشر ، ولذلك سميت سورة التوديع.
والقول الثاني- أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة ، وهو وعد لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن ينصره على أهل مكة ، وأن يفتحها عليه ، ونظيره قوله تعالى : إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص 28/ 85]. وقوله : إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ يقتضي الاستقبال ، إذ لا يقال فيما وقع : إذا جاء وإذا وقع.
وعلى هذا القول يكون الإخبار بفتح مكة قبل وقوعه إخبارا بالغيب معجزا ، فهو من أعلام النبوة (2) .
والظاهر القول الأول ، بدليل ما رويِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : إِنَّ " هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِمِنًى ، وَهُوَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ حَتَّى خَتَمَهَا ؛ فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ الْوَدَاعُ . . . . . " الْحَدِيثَ (3) ، ثم نزلت الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة : 5/ 3] فعاش بعدهما النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانين يوما. ثم نزلت آية الكلالة (آخر سورة النساء) ، فعاش بعدها خمسين يوما. ثم نزل لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة 9/ 128] فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما. ثم نزل : وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة 2/ 281] فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما.وقال مقاتل : سبعة أيام (4) .
__________
(1) - مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الصَّنْعَانِيِّ (9437 ) صحيح مرسل
(2) - تفسير الرازي : 32/ 155
(3) - الْمَطَالِبُ الْعَالِيَةُ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ (3884 ) ضعيف
(4) - تفسير القرطبي : 20/ 233(1/1129)
لكن قال الرازي : الأصح هو أن السورة نزلت قبل فتح مكة (1) .
قلت : وهذا هو الراجح لأن الحديث لم يصح
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - تفسير الرازي - (17 / 281)(1/1130)
فتح مكة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... نَصْرُ اللهِ ... نصر النبي - صلى الله عليه وسلم - على أعدائه
1 ... الفَتْحُ ... فتح مكة
2 ... فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا ... في الإسلام جماعات جماعات
3 ... فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ... نزه ربك عن الشرك مع الحمد
3 ... وَاسْتَغْفِرْهُ ... اطلب منه المغفرة والتوبة
3 ... تَوَّابًا ... يقبل توبة عباده ...
المعنى الإجمالي:
كان المؤمنون أيام قلتهم وفقرهم وكثرة عدد عدوهم وقوته ، يمر الضجر بنفوسهم ويقضّ مضاجعهم ، وكان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يحزن ويضيق صدره ،لتكذيب قومه له على وضوح الحق وسطوع البرهان ، كما قال تعالى مخاطبا رسوله :«فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً » وقال :« فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ، إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ » وقال :« قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ. فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ » .وفى هذا القلق والضجر استبطاء لنصر اللّه للحق الذي بعث به نبيّه ، بل فيه سهو عن وعد اللّه بتأييد دينه ، كما جاء فى قوله : « وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ » ؟
هذا الضجر ليس بنقص يعاب به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لكن اللّه يعدّه على أقرب عباده إليه ، كما قالوا : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وقد يراه النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رجع إلى نفسه وخرج من غمرة شدته ذنبا يتوب إلى اللّه منه ويستغفره ، ومن ثم ورد الأمر الإلهى بالاستغفار مما كان منه من حزن وضجر فى أوقات الشدة حين يجىء الفتح والنصر. (1)
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - شديد الحرص على إيمان الناس وخاصة قريش والعرب ، والنبي كبشر لا يعلم الغيب ولذا كان قلقا ضجرا بعض الشيء على الدعوة ، فأتت هذه السورة تبشره وتذكره بأن هذا
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 257)(1/1131)
كان الأولى أن تبتعد عنه ، وهذا من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين فقد يكون الشيء حسنة عندك وهو عند غيرك لمم - صغير من الذنوب - يصح الاستغفار منه.وإذا جاء نصر اللّه وعونه وهو لا بد حاصل ، وجاء الفتح للبلاد المغلقة والقلوب المقفلة إذا جاء هذا وذاك ، ورأيت الناس يدخلون في دين اللّه جماعات كثيرة إذا حصل هذا فالواجب مقابلته بالشكر والثناء على اللّه بما هو أهله ، إذا حصل هذا فسبح ربك وقدسه تقديسا ، ونزهه تنزيها يليق بجنابه ، سبحه حامدا له فعله الجميل ذاكرا له صفاته المناسبة وأسماءه الحسنى ، واستغفر لذنبك واطلب المغفرة مما قد تكون ألممت به وهو لا يليق بك كخاتم الأنبياء والمرسلين ، استغفر اللّه إنه كان توابا كثير القبول لتوبة عباده ، إنه يقبل التوبة ويعفو عن السيئة ، ويعلم ما نفعل ، والخطاب في السورة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولكل من يصلح له الخطاب.
روى أن هذه السورة كانت بمثابة نعى اللّه لنبيه ، فإنه إذا حصل هذا فقد أدى محمد - صلى الله عليه وسلم - رسالته كاملة ، وإذا أداها فسيلحق بالرفيق الأعلى ، ولقد فهم هذا المعنى بعض الصحابة وبكى على رسول اللّه. (1)
التفسير والبيان :
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ أي إذا تحقق لك يا محمد نصر اللَّه وعونه وتأييده على من عاداك وهم قريش ، وفتح عليك مكة ، وتحققت لك الغلبة ، وإعزاز أمرك ، فسبّح اللَّه تعالى أي نزهه حامدا له جل وعلا زيادة في عبادته والثناء عليه لزيادة إنعامه عليك. وفائدة قوله : نَصْرُ اللَّهِ مع أن النصر لا يكون إلا من اللَّه : هو أنه نصر لا يليق إلا باللَّه ، ولا يليق أن يفعله إلا اللَّه ، أو لا يليق إلا بحكمته. والمراد تعظيم هذا النصر. وقوله : جاءَ نَصْرُ اللَّهِ مجاز ، أي وقع نصر اللَّه.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاطِمَةَ فَقَالَ :« قَدْ نُعِيَتْ إِلَىَّ نَفْسِى ». فَبَكَتْ فَقَالَ :« لاَ تَبْكِى ، فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِى لاَحِقٌ بِى ». فَضَحِكَتْ فَرَآهَا بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْنَ : يَا فَاطِمَةُ رَأَيْنَاكِ بَكَيْتِ ثُمَّ ضَحِكْتِ . قَالَتْ : إِنَّهُ أَخْبَرَنِى أَنَّهُ قَدْ نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ فَبَكَيْتُ ، فَقَالَ لِى :« لاَ تَبْكِى ، فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِى لاَحِقٌ بِى ». فَضَحِكْتُ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَجَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً ، وَالإِيمَانُ يَمَانٍ ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ ». (2)
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 914)
(2) - سنن الدارمى(80) صحيح(1/1132)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا » (1) .
ورَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً أي أبصرت الناس من العرب وغيرهم يدخلون في دين اللَّه الذي بعثك به ، جماعات فوجا بعد فوج ، بعد أن كانوا في بادئ الأمر يدخلون واحدا واحدا ، واثنين اثنين ، فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام.
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ، إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً أي إذا فتحت مكة وانتشر الإسلام ، فاشكر اللَّه على نعمه ، بالصلاة له ، وبتنزيهه عن كل ما لا يليق به ، وعن أن يخلف وعده الذي وعدك به بالنصر ، واقرن الحمد بالتسبيح ، أي اجمع بينهما ، فإن ذلك النصر والفتح يقتضي الحمد للَّه على عظيم منّته وفضله ، وما منحك من الخير.
واطلب أيضا من اللَّه المغفرة لك تواضعا للَّه ، واستقصارا لعملك ، وتعليما لأمتك ، وكذا اسأله المغفرة لمن تبعك من المؤمنين ما كان منهم من القلق والخوف لتأخر النصر ، فإن اللَّه سبحانه من شأنه التوبة على المستغفرين له ، يتوب عليهم ويرحمهم بقبول توبتهم ، وهو كثير القبول لتوبة عباده ، حتى لا ييأسوا ويرجعوا بعد الخطأ.
عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ مَا صَلَّى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةً بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) إِلاَّ يَقُولُ فِيهَا « سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى » (2) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ : سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، قَالَ : سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ " (3)
وعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِهِ : سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي قَالَتْ : فَكَانَ يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ. (4)
ومضات :
{ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } أي : فنزِّه ربك عن أن يهمل الحق ويدعه للباطل يأكله ، وعن أن يخلف وعده في تأييده ، وليكن هذا التنزيه بواسطة حمده والثناء عليه بأنه القادر الذي لا يغلبه غالب ، والحكيم الذي إذا أمهل الكافرين ليمتحن قلوب المؤمنين ، فلن يضيع أجر العاملين ولا يصلح عمل المفسدين . والبصير بما في قلوب المخلصين والمنافقين ، فلا يذهب عليه رياء المفسدين ،
__________
(1) - صحيح البخارى (2783 )
(2) - صحيح البخارى (4967 )
(3) - المستدرك للحاكم (3983) حسن
(4) - صحيح ابن حبان - (5 / 256) (1930) صحيح(1/1133)
والبصير بما في قلوب المخلصين والمنافقين ، فلا يذهب عليه رياء المرائين { وَاسْتَغْفِرْهُ } أي : اسأله أن يغفر لك ولأصحابك ما كان من القلق والضجر والحزن ، لتأخر زمن النصر والفتح . والاستغفار إنما يكون بالتوبة الخالصة . والتوبة من القلق إنما تكون بتكميل الثقة بوعد الله ، وتغليب هذه الثقة على خواطر النفس التي تحدثها الشدائد ، وهو وإن كان مما يشق على نفوس البشر ، ولكن الله علم أن نفس نبيه - صلى الله عليه وسلم - قد تبلغ ذلك الكمال ؛ فلذلك أمره به ، وكذلك تقاربه قلوب الكمّل من أصحابه وأتباعه عليه السلام . والله يتقبل منهم
إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } أي : إنه سبحانه لا يزال يوصف بأنه كثير القبول للتوبة ، لأنه ربٌّ يربي النفوس بالمحن ، فإذا وجدتْ الضعف أنهضها إلى طلب القوة ، وشدد همها بحسن الوعد ، ولا يزال بها حتى تبلغ الكمال ، وهي في كل منزلة تتوب عن التي قبلها ، وهو سبحانه يقبل توبتها فهو التواب الرحيم . وكأن الله يقول : إذا حصل الفتح وتحقق النصر وأقبل الناس على الدين الحق ، فقد ارتفع الخوف وزال موجب الحزن ، فلم يبق إلا تسبيح الله وشكره والنزوع إليه عما كان من خواطر النفس ، فلن تعود الشدة تأخذ نفوس المخلصين ما داموا على تلك الكثرة في ذلك الإخلاص . ومن هذا أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأمر قد تم ولم يبق له إلا أن يسير إلى ربه ، فقال فيما روي عنه : < إنه قد نعيت إليه نفسه > . هذا ملخص ما أورده الإمام في تفسيره .
تنبيهات :
الأول : قال ابن كثير : المراد بالفتح هاهنا فتح مكة قولاً واحداً ؛ فإن أحياء العرب كانت تتلوّم بإسلامها فتح مكة ، يقولون : إن ظهر على قومه فهو نبيّ . فلما فتح الله عليه مكة ، دخلوا في دين الله أفواجاً ، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيماناً ، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهِر للإسلام ولله الحمد والمنة . وقد روى البخاري في" صحيحه" عن عمرو بن سلمة : كنا بماءٍ ممرَّ الناس ، وكان يمرُ بنا الركبان فنسألهم : ما للناس ؟ ما للناس ؟ ما هذا الرجل ؟ فيقولون : يزعم أن الله تعالى أرسله أوحى إليه ، أو أوحى الله بكذا ، فكنت أحفظ ذلك الكلام وكأنما يُغزى في صدري . وكانت العرب تَلَوَّمُ بإسلامهم الفتح ، فيقولون : اتركوه وقومه ، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق . فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم . . . . الحديث .
الثاني : قال الرازي : إذا حملنا الفتح على فتح مكة ، فللناس في وقت النزول هذه السورة قولان :
أحدهما : أن فتح مكة كان سنة ثمان . ونزلت هذه السورة سنة عشر ، وروي أنه < عاش بعد نزول هذه السورة سبعين يوماً > ؛ ولذلك سميت سورة التوديع .(1/1134)
ثانيهما : أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة ، وهو وعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينصره على أهل مكة وأن يفتحها عليه . ونظيره { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } [ القصص : 85 ] ، وقوله : { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } يقتضي الاستقبال ؛ إذ لا يقال فيما وقع : { إِذَا جَاء } و : إذا وقع ، وإذا صح القول صارت هذه الآية من جملة المعجزات ؛ من حيث إنه خبر وجد مخبره بعد حين مطابقاً له ؛ والإخبار عن الغيب معجزة . انتهى .
قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " : ولأبي يعلى ، من حديث ابن عمر : نزلت هذه السورة في أوسط أيام التشريق ، في حجة الوداع < فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه الوداع > .
ثم قال : وسئلت عن قول" الكشاف" : أن سورة النصر نزلت في حجة الوداع أيام التشريق ، فكيف صدرت بـ : إذا الدالة على الاستقبال ؟ فأجبت بضعف ما نقله . وعلى تقدير صحته ، فالشرط لم يتكمل بالفتح ؛ لأن مجيء الناس أفواجاً لم يكن كمل ، فبقية الشرط مستقبل .
وقد أورد الطيبي السؤال ، وأجاب بجوابين :
أحدهما : أن إذا قد ترد بمعنى إذ كما في قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً } [ الجمعة : 11 ] الآية .
ثانيهما : أن كلام الله قديم . وفي كل من الجوابين نظر لا يخفى . انتهى كلامه .
الثالث : قال الشهاب : المراد بالناس العرب . فـ أل عهدية . أو المراد الاستغراق العرفيّ والمراد عبدة الأصنام منهم ؛ لأن نصارى تغلب لم يسلموا في حياته - صلى الله عليه وسلم - وأعطوا الجزية .
الرابع : روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن نزلت عليه : { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } إلا يقول فيها : < سبحانك ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي > .
وفيه عنها أيضاً : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : < سبحانك اللهم ربَّنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي > ، يتأول القرآن .
قال الحافظ ابن حجر : معنى يتأول القرآن ، يجعل ما أمر به من التسبيح والتحميد والاستغفار ، في أشرف الأوقات والأحوال .
وقال ابن القيم في " الهدى " كأنه أخذه من قوله تعالى : { وَاسْتَغْفِرْهُ } لأنه كان يجعل الاستغفار في خواتم الأمور ؛ فيقول إذا سلم من الصلاة : < أستغفر الله > ثلاثاً . وإذا خرج من الخلاء قال : < غفرانك > . وورد الأمر بالاستغفار عند انقضاء المناسك : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ } [ البقرة : 199 ] الآية . (1)
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 336)(1/1135)
عبارة الآيات واضحة. والخطاب فيها موجه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما عليه الجمهور بدون خلاف. وقد ذكرنا ما ورد في صدد نزولها في المقدمة فلا ضرورة للإعادة.
وواجب التسبيح للّه وحمده واستغفاره أصلي غير منوط بوقت. وليس الذي هنا بسبيل ذلك كما هو المتبادر وإنما هو على سبيل تلقين توكيد وجوبه إذا ما أتمّ اللّه على نبيه نعمته ويسّر له الفتح والنصر وأقبل الناس على دين اللّه أفواجا.
وكل هذا خطير يستوجب مضاعفة ذلك الواجب من دون ريب ، والآيات بهذا الاعتبار تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين كجماعات بمقابلة نعم اللّه عزّ وجلّ بالشكر والحمد والاستغفار وبخاصة إذا كانت عامة متصلة بمصلحة المسلمين ونصرهم وتوطد أمرهم وانتشار دين اللّه وكلمته. ثم لكل مسلم إذا ما صار في ظرف من الظروف موضع رعاية اللّه وعنايته في تحقيق أمر خطير في دينه ودنياه.
وأسلوب الآيات توقيتي إذا صح التعبير ، أي أنه يوجب التسبيح والاستغفار حينما يجيء نصر اللّه وفتحه ويدخل الناس في دين اللّه أفواجا. غير أن روحها يلهم أن ذلك الواجب قد وجب وأن ذلك المجيء قد جاء. والروايات والأحاديث التي أوردناها في صدد نزولها تؤيد ذلك كما هو المتبادر.
ومعظم المفسرين على أن الفتح المذكور في السورة هو فتح مكة حتى إنهم جعلوا تفسيرها وسيلة لإيراد قصة هذا الفتح. ولقد تمّ هذا الفتح في رمضان في السنة الثامنة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الحديد في حين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتقل إلى الرفيق الأعلى في أوائل السنة الحادية عشرة.
والروايات التي أوردناها في المقدمة ذكر فيها أن السورة قد نزلت قبل وفاته بمدة قصيرة أقل من ثلاثة أشهر وهذا يجعلنا نرجح أن يكون ما عنته الآيات ليس فتح مكة وحسب بل مجموعة الانتصارات والفتوحات الضخمة التي يسرها اللّه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى قبيل وفاته والتي بلغت ذروتها بفتح مكة الذي شرحنا قصته في سورة الحديد وبغزوة تبوك الكبرى التي شرحنا قصتها في سورة التوبة وبفتح الطائف التي ظلت مستعصية إلى السنة الهجرية التاسعة والتي لم تقتض حكمة التنزيل أن يشار إليها في القرآن ثم بسبيل الوفود التي أخذت تتدفق من جميع أنحاء جزيرة العرب على المدينة المنورة خلال السنتين التاسعة والعاشرة لمبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم - والدخول في دين اللّه أفواجا واستمر تدفقها إلى قبيل وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم بتوطد سلطان النبي والإسلام في جميع أنحاء الجزيرة العربية يمنها وتهامتها وحجازها وشرقها وشمالها مما ذكرنا بعض فصوله في سياق تفسير سورة التوبة ومما أطنبت به كتب السيرة والتاريخ القديمة ، وإعلان كون المشركين نجسا وحظر دخولهم المسجد الحرام ، وحج النبي - صلى الله عليه وسلم - على رأس حشد عظيم من(1/1136)
المسلمين روي أنه بلغ أربعين ألفا أو أكثر - وهذا رقم عظيم في ذلك الوقت - حتى هتف اللّه تعالى بالمؤمنين أو هتف النبي - صلى الله عليه وسلم - مرددا هتاف اللّه - الذي نزل قبل هذا اليوم على ما محصناه في سياق أوائل سورة المائدة - الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [3].
وحجة الوداع المشار إليها قد تمّت في أواخر السنة الهجرية العاشرة. فلقد فتح اللّه تعالى على رسوله مكة في رمضان في السنة الثامنة. ولم يكن الشرك قد اندحر بالمرة عن ربوعها. وكان المشركون ما يزالون يقومون بطقوس حجهم فيها.
فلم تشأ حكمة اللّه ورسوله أن يحج النبي - صلى الله عليه وسلم - حجته التامة والمشركون شركاء في حجه. ولما كانت مكة وما جاورها قد دخلت في سلطانه فقد عيّن وزيره الصدّيق أبا بكر رضي اللّه عنه أميرا على الحجّ في السنة التاسعة وأمره أن يعلن للملأ حظر دخول منطقة المسجد الحرام على المشركين وبراءة اللّه ورسوله منهم على ما شرحناه في سورة التوبة. فلما كانت السنة العاشرة خرج على رأس حشد عظيم من المسلمين من أهل المدينة وقبائلها ليحج بالناس حجة لا يشهدها إلّا المسلمون وهي التي عرفت بحجة الوداع لأنه مات - صلى الله عليه وسلم - بعدها بمدة قصيرة ونزلت فيها هذه السورة التي احتوت نعيا له وسميت سورة التوديع بسبب ذلك. وقد وافاه إلى مكة حشود عظيمة أخرى من المسلمين من مختلف أنحاء الجزيرة فكان أعظم حجّ تمّ في عهده بل نعتقد أنه كان أعظم حجّ وقع إلى عهده. وإذا كان عدد الذين اشتركوا في غزوة تبوك بلغ ثلاثين ألفا كما ذكرنا في سياق سورة التوبة فلا مبالغة في تخمين عدد الذين شهدوا هذا الحج بضعف هذا العدد وهو رقم عظيم جدّا في ذلك الوقت.
وخبر حجة الوداع ورد مطولا بطرق مختلفة في كتب الحديث والسيرة والتاريخ القديمة مرويّا عن التابعين من أصحاب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - . وقد روى مسلم وأبو داود حديثا طويلا فيه وصف شائق لموكب الحجّ وكثير من أفعال وأقوال ومواقف رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - التعليمية والتوضيحية والتشريعية والتهذيبية. فرأينا إيراده برمته. وهو مروي عن صاحب رسول اللّه جابر بن عبد اللّه في أيام شيخوخته جوابا على سؤال من أحد التابعين. وهذا نصه «1» «إن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين لم يحجّ «2» ثم أذّن في الناس في العاشرة أن رسول اللّه حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتمّ برسول اللّه ويعمل مثل عمله. وخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس «3» محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول اللّه كيف أصنع؟ قال : اغتسلي واستثفري «4» بثوب وأحرمي. فصلّى رسول اللّه في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مدّ بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول اللّه بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن(1/1137)
وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به. فأهلّ لبّيك اللّهمّ لبّيك لبّيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. وأهلّ الناس بهذا الذي يهلّون به فلم يردّ رسول اللّه عليهم شيئا منه. ولزم رسول اللّه تلبيته. قال جابر : لسنا ننوي إلّا الحج لسنا نعرف العمرة «5» حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ : وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة : 125] فجعل المقام بينه وبين البيت وكان يقرأ في الركعتين قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ : إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة : 158] ابدأوا بما بدأ اللّه فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحّد اللّه وكبّره وقال : «لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلّا اللّه وحده. أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات. ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبّت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل عليها كما فعل على الصفا. حتى إذا كان آخر طوافه على المروة قال :
«لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى وجعلتها عمرة. فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة ، فقام سراقة بن مالك فقال : يا رسول اللّه العامنا هذا أم لأبد؟ فشبّك رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أصابعه واحدة في الأخرى وقال :
دخلت العمرة في الحج ، مرتين. لا بل لأبد أبد» «1». وقدم عليّ من اليمن ببدن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجد فاطمة ممن حلّ ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت فأنكر عليها فقالت : إن أبي أمرني بهذا ، قال : فكان عليّ يقول بالعراق «2» فذهبت إلى رسول اللّه محرّشا على فاطمة للذي صنعت مستفتيا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكرت عنه فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها فقال : صدقت صدقت ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قلت : اللّهمّ إني أهلّ بما أهلّ به رسولك قال : فإن معي الهدي فلا تحلّ. قال : فكان جماعة الهدي الذي قدم به عليّ من اليمن والذي أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة. قال : فحلّ الناس كلهم وقصّروا إلّا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كان معه هدي. فلما كان يوم التروية «1» توجّهوا إلى منى فأهلّوا بالحج وركب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فصلّى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبّة من شعر تضرب له بنمرة «2» فسار رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولا تشكّ قريش إلّا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت تصنع في الجاهلية «3» فأجاز رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عرفة فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له «4» فأتى بطن الوادي «5» فخطب الناس وقال : «إن دماءكم وأموالكم «6» حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كل شيء من(1/1138)
أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع. ودماء الجاهلية موضوعة. وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن سبيعة بن الحارث «7» كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل «8». وربا الجاهلية موضوع. وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كلّه.
اتقوا اللّه في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان اللّه واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه.
ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه. فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح «9». ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب اللّه. وأنتم تسألون عني. فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها «1» إلى الناس اللّهمّ اشهد ثلاث مرات. ثم أذن ثم أقام فصلّى الظهر ثم أقام فصلّى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم ركب حتى أتى الموقف «2» فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس. وأردف أسامة خلفه ودفع رسول اللّه وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله «3» ويقول أي يشير بيده اليمنى أيها الناس السكينة السكينة كلّما أتى حبلا من الحبال «4» أرخى لها قليلا حتى تصعد إلى المزدلفة فصلّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبّح بينهما شيئا.
ثم اضطجع رسول اللّه حتى طلع الفجر وصلّاه حين تبيّن له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا اللّه وكبّره وهلّله ووحّده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن العباس وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما ، فلما دفع رسول اللّه مرّت به ظعن «5» يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع النبي يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر فحوّل رسول اللّه يده إلى الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه حتى أتى بطن محسر «6» فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبّر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف «7» رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى عليّا فنحر ما غبر وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها. ثم ركب رسول اللّه فأفاض إلى البيت وصلّى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال انزعوا بني عبد المطلب فلو لا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم «1» فناولوه دلوا فشرب منه».
وروى الشيخان وأحمد عن ابن عباس حديثا فيه بعض أقوال لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في حجة وداعه جاء فيه : «إنّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوم النحر فقال يا أيها الناس أيّ يوم هذا قالوا يوم(1/1139)
حرام. قال فأيّ بلد هذا قالوا بلد حرام. قال فأيّ شهر هذا قالوا شهر حرام قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا فأعادها مرارا ثم رفع رأسه فقال اللّهمّ هل بلّغت اللّهمّ هل بلّغت فليبلّغ الشاهد الغائب. لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض. قال ابن عباس فو الذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته» «2».
وفي رواية «وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر بين الجمرات في حجّته التي حجّ بها وقال هذا يوم الحجّ الأكبر. وطفق يقول اللّهمّ اشهد. وودّع الناس فقالوا هذه حجّة الوداع» «3».
وفي كل من سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد «4» فصل طويل مسلسل الرواة إلى أحد أصحاب رسول اللّه أو تابعيهم متطابق مع هذا الحديث مع بعض زيادات مهمة فيها تعليم وتشريع وتهذيب. فمما جاء في فضله في طبقات ابن سعد أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حينما شاهد الكعبة عند قدومه إلى مكة قال : «اللّهمّ زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وزد من عظّمه ممن حجّه واعتمره تشريفا وتكريما ومهابة وتعظيما وبرّا» وأنه وقف بالهضاب في عرفات وقال : «كل عرفة موقف إلا بطن عرفة». وحينما جاء إلى المزدلفة قال : «كل المزدلفة موقف إلا بطن محسر» وأنه بعد نحر الهدي حلق رأسه وأخذ شاربه وعارضيه وقلّم أظفاره وأمر بشعره وأظفاره أن تدفن ثم أصاب الطيب ولبس القميص ونادى مناديه «إن أيام منى هي أيام أكل وشرب» ثم أقام ثلاث ليال في مكة وقال : إنما هن ثلاث يقيمهن المهاجر بعد الصدر. ثم ودّع البيت وانصرف راجعا إلى المدينة. وروي في الفصل جواب لأنس بن مالك على سؤال عمّا إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أهلّ بالعمرة والحجّ معا أم أفرد؟
فقال إنه أهلّ بهما معا. وهذا هو المستفاد من الحديث الطويل السابق. ومما ورد في الفصل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل للمسلمين الخيار بالإفراد بين العمرة والحجّ أو القران بينهما. وقال لمن سألوه : من لم يكن معه هدي فليجعلها عمرة. وتمتّعوا بالعمرة إلى الحج. وأنه دخل الكعبة بعد أن خلع نعليه ولما عاد إلى أهله قال لعائشة فعلت أمرا ليتني لم أفعله دخلت البيت ولعلّ الرجل من أمتي لا يقدر على أن يدخله فينصرف وفي نفسه حزازة. إنما أمرنا بالطواف ولم نؤمر بالدخول. وقال حين وقف في عرفات «الحجّ عرفات أو يوم عرفة. من أدرك ليلة جمع «1» قبل الصبح فقد تمّ حجّه» وقال في موقف آخر «أيام منى ثلاثة فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه. وإنها ليست أيام صيام إنما هي أيام أكل وشرب وذكر» ومما روي من أقواله في خطبة الوداع «إن اللّه قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث فلا يجوز لوارث وصية. ألا وإن الولد للفراش وللعاهر الحجر. ألا ومن ادّعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه رغبة عنهم فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين. يا أيها الناس اسمعوا وأطيعوا وإن أمّر عليكم عبد(1/1140)
حبشي مجدع إذا أقام فيكم كتاب اللّه. أرقّاءكم أرقّاءكم. أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون.
وإن جاءوا بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد اللّه ولا تعذبوهم. ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب فلعلّ بعض من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه» وقال لبعض المسلمين حين رآه يتشدد في اختيار الجمرات «إيّاكم والغلوّ في الدين إنما أهلك من كان قبلكم. بالغلوّ في الدين».ومما رواه ابن هشام من زيادة في خطبته : «أيها الناس إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا. ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم. فاحذروه على دينكم. أيها الناس إنما النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم اللّه فيحلوا ما حرم اللّه ويحرموا ما أحل اللّه. وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات والأرض. وإن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ورجب مضر الذي بين جمادى ورجب. أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا. من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه. أيها الناس لتعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين أخوة. فلا يحلّ لامرىء من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه. فلا تظلمن أنفسكم. ألا إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبدا. أمرا بينا. كتاب اللّه وسنّة نبيه. وهتف في آخر خطبته اللّهمّ هل بلّغت فهتف الناس نعم فقال اللّهمّ فاشهد» ومما رواه ابن هشام وفيه تعليم لمناسك الحج أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - خرج لخمس بقين من ذي القعدة. وأن عائشة رضي اللّه عنها حاضت وبكت وقالت واللّه لوددت أني لم أخرج معكم عامي هذا فقال لا تقولن ذلك فإنك تقضين كلّ ما يقضى الحج. إلا أنك لا تطوفين بالبيت «1». وإن النبي حلّ كل من كان لا هدي له معه وحل نساءه بعمرة. ولم يحلّ هو معهم وقال إني أهديت ولبّدت فلا أحلّ حتى أنحر هديي وأن هدي رسول اللّه كان من البقر وقد نحره يوم النحر. وأن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه رجع من بعثه الذي بعثه به إلى اليمن أثناء الحجّ فأمره النبي أن يطوف ويحل كما فعل أصحابه. فقال له إني أهللت يا رسول اللّه كما أهللت فأعاد عليه القول فقال يا رسول اللّه إني قلت حين أحرمت اللّهمّ إني أهلّ بما أهلّ به نبيك وعبدك ورسولك. فقال فهل معك من هدي قال لا فأشركه رسول اللّه في هديه وثبت على إحرامه. وإن رسول اللّه قال حين وقف على المرتفع الذي وقف عليه هذا الموقف ثم قال وكل عرفة موقف. وقال حين وقف على هضبة صبيحة المزدلفة هذا الموقف ثم قال وكل المزدلفة موقف. ولما نحر بالمنحر بمنى قال هذا المنحر وكل منى منحر.
وهكذا كانت هذه الحجّة المباركة من أعظم مشاهد الرسالة المحمدية وتتويجا رائعا لها.(1/1141)
وأما وفاته - صلى الله عليه وسلم - فقد كانت على أشهر الروايات «1» في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة عن ثلاث وستين سنة «2». ولا تذكر الروايات المرض الذي مات به. وكل ما جاء فيها أنه ألمّت به حمّى رافقها صداع. وأن العباس عمّه رضي اللّه عنه ظنّ أنها ذات الجنب ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ما كان اللّه ليقذفني بهذا الداء. ولم يطل مرضه إلّا نحو أسبوعين. ولما شعر بثقل وجعه استأذن من نسائه بالانتقال إلى بيت عائشة تحقيقا لفكرة العدل بينهن فأذنّ له حيث مات في بيتها ودفن فيه وهو المكان المدفون فيه إلى اليوم على التحقيق صلوات اللّه وسلامه عليه.
ومما رواه ابن هشام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج في جوف الليل مع أبي مويهبة مولاه وقال له إني أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فلما وقف بين أظهرهم قال السلام عليكم يا أهل المقابر. ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه.
أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها والآخرة شرّ من الأولى ثم قال يا أبا مويهبة. إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة فخيّرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فقال أبو مويهبة بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة قال لا واللّه يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة.
ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف فبدأ برسول اللّه وجعه الذي قبضه اللّه فيه. ولقد خرج في بعض مرضه عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر فصلّى على أصحاب أحد واستغفر لهم فأكثر من الصلاة عليهم. ثم قال : يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرا فإنّ الناس يزيدون وإن الأنصار على هيئتها لا تزيد وإنهم كانوا عيبتي التي أويت إليها فأحسنوا إلى محسنيهم وتجاوزوا عن مسيئيهم. ثم قال أيها الناس : إن عبدا من عباد اللّه خيّره اللّه بين الدنيا وما عنده فاختار ما عنده ، ففهمها أبو بكر فبكى وقال بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا فقال على رسلك يا أبا بكر ثم قال انظروا هذه الأبواب اللافظة في المسجد فسدّوها إلّا باب أبي بكر فإني لا أعلم أحدا كان أفضل من الصحبة عندي يدا منه. وإني لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع اللّه بيننا عنده «1».
ولما اشتد برسول اللّه الوجع وجاء بلال يدعوه إلى الصلاة فقال مروا من يصلي بالناس فخرج فإذا عمر في الناس وكان أبو بكر غائبا فقلت قم يا عمر فصلّ بالناس فقام فلما كبّر سمع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - صوته وكان رجلا مجهرا فقال فأين أبو بكر يأبى اللّه ذلك والمسلمون. يأبى اللّه ذلك والمسلمون. ثم بعث إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلّى عمر الصلاة فصلّى بالناس. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد هيأ جيشا وعين لقيادته أسامة بن زيد ليذهب إلى مؤتة في البلقاء لينتقم لجيش ذهب بقيادة أبي أسامة في السنة السابعة الهجرية واستشهد أبوه مع عدد من المسلمين فاستبطأ حركة سير الجيش(1/1142)
وسمع أن بعض الناس ينتقدون قيادة أسامة لأنه لا يزال فتى يافعا. فخرج مرة أخرى عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أيها الناس أنفذوا بعث أسامة. فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله. وإنه لخليق بالإمارة. وإن كان أبوه لخليقا بها ووصف له بعضهم دواء يسقونه إياه وهو غائب عن وعيه من الحمّى فقال عمّه لألدنّه (أي لأسقينه الدواء بالقوة) فلدّوه فلما أفاق قال من صنع بي هذا قالوا عمك. فقال العباس هذا دواء أتى به نساء جئن من الحبشة. قال ولم فعلتم ذلك؟ فقال عمّه خشينا يا رسول اللّه أن يكون بك ذات الجنب. فقال إن ذلك لداء ما كان اللّه ليقذفني به. لا يبق في البيت أحد إلّا لدّ إلّا عمي فلدّوا عقوبة لهم بما صنعوا به. وفي يوم الاثنين الذي قبض فيه خرج إلى الناس وهم يصلّون الصبح بإمامة أبي بكر فكاد المسلمون يفتتنون في صلاتهم حين رأوه فرحا به فتبسم صلوات اللّه عليه فرحا من هيئتهم في صلاتهم. وتفرجوا له (أوسعوا له) فأشار أن اثبتوا. وشعر أبو بكر بالحركة فعرف أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأراد أن يتأخر له فأشار له أن يبقى ثم صلى جالسا إلى جانبه وقال أنس راوي هذا إنه لم ير رسول اللّه أحسن هيئة منه في تلك الساعة وقد أقبل على الناس يكلمهم بصوت مرتفع فقال : «يا أيها الناس سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم. وإني واللّه ما تمسكون علي بشي ء. إني لم أحلّ إلّا ما أحلّ القرآن.
ولم أحرّم إلّا ما حرّم القرآن» وقد اطمأن أبو بكر واستأذنه بالذهاب إلى بيته في محلة السنح قائلا له إني أراك بفضل اللّه ونعمته قد أصبحت بخير فأذن له. غير أن الضحاء لم يكد يشتد حتى توفاه اللّه.
ومما رواه ابن هشام متسلسلا إلى عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ آخِرُ مَا عَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ قَالَ « لاَ يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ » (1) .. وآخر كلمة سمعتها منه لما حضرته الوفاة قوله «بل الرفيق الأعلى» قالت ففهمت أن اللّه تعالى خيّره فاختاره لأنه كان يقول إن اللّه لم يقبض نبيا حتى يخيّره. وما كان إلّا أن يختار اللّه علينا. وكان آخر ما فعله أنه رأى عود أراك في يد قريب لعائشة فنظر إليه فعرفت أنه يحبّ أن يستنّ فمضغته له حتى لان ثم أعطته إياه فاستنّ كأشد ما رأته يستنّ بسواك قط «1». ومما رواه ابن هشام مسلسلا إلى عبد اللّه بن عباس أن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه خرج من عند رسول اللّه في وجعه فسأله الناس كيف أصبح رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال أصبح بحمد اللّه بارئا فأخذ العباس بيده وقال له : أحلف باللّه لقد عرفت الموت في وجه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب. فانطلق بنا إلى رسول اللّه فإن كان هذا الأمر فينا عرفناه ولئن كان في غيرنا أمرناه فأوصى بنا الناس. فقال عليّ إني واللّه لا
__________
(1) - مسند أحمد (27107) صحيح(1/1143)
أفعل. واللّه لئن منعناه لا يؤتيناه أحد بعد. فتوفي رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حين اشتد الضّحاء من ذلك اليوم. كان مما رواه ابن هشام أنه لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - قام عمر فقال إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول اللّه قد توفي. وإن رسول اللّه ما مات. ولكنه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران. فقد غاب أربعين ليلة عن قومه ثم رجع إليهم بعد أن قيل مات. واللّه ليرجعن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات. وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد وعمر يكلم الناس فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول اللّه وهو مسجى في ناحية البيت عليه برد حبرة فأقبل حتى كشف عن وجهه ثم قبّله وقال بأبي أنت وأمي. أما الموتة التي كتب اللّه عليك فقد ذقتها ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا. ثم ردّ البردة على وجهه ثم خرج وعمر يكلّم الناس فقال : على رسلك يا عمر أنصت فأبى إلّا أن يتكلّم ، فأقبل على الناس فلما سمعوا كلامه أقبلوا عليه فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد اللّه فإن اللّه حي لا يموت. ثم تلا قول اللّه : وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) [آل عمران ]. فو اللّه لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ وأخذها الناس عن أبي بكر فإنما هي في أفواههم. قال أبو هريرة : قال عمر : فو اللّه ما هو إلّا أن سمعت أبا بكر تلاها حتى عقرت ووقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قد مات. وقد تولى غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليّ بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب والفضل بن عباس وقثم بن العباس وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - رضوان اللّه عليهم. ولم يجردوه بتاتا بل أبقوا قميصه عليه وغسلوه من تحته. ثم كفن في ثلاثة أثواب ثوبين صحاريين «1» وبرد حبرة أدرج فيه إدراجا. ثم وضع على سريره. وأدخل الناس عليه للصلاة أرسالا. فصلّى عليه الرجال حتى إذا فرغوا أدخل النساء ثم الصبيان. ولم يؤمّ الناس أحد. واختلفوا في محل دفنه فقال أبو بكر سمعت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقول : «ما قبض نبي إلّا دفن حيث يقبض» فدفن في بيت عائشة وسط الليل ليلة الأربعاء. وقد تولّى دفنه عليّ بن أبي طالب والفضل بن عباس وقثم بن عباس وشقران مولى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - رضوان اللّه عليهم.
وما تقدم كلّه مقتبس من ابن هشام. وكثير منه وارد في تاريخ الطبري. وفي هذا بعض روايات لم ترد في ابن هشام. وهي مسلسلة الرواة إلى أحد أصحاب رسول اللّه. من ذلك عن عائشة والفضل بن عباس أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - اشتد به الوجع فقال أهريقوا عليّ من سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد عليهم فأقعدناه في مخضب ثم صببنا عليه الماء حتى قال حسبكم حسبكم ثم خرج وقد عصب رأسه وأخذ الفضل بن العباس بيده حتى جلس على المنبر(1/1144)
وأمر بنداء الناس فاجتمعوا فقال أما بعد أيها الناس فإني أحمد إليكم اللّه الذي لا إله إلا هو وإنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه. ألا وإن الشحناء ليست من طبعي ولا من شأني. ألا وإن أحبّكم إليّ من أخذ مني حقا إن كان له أو حللني فلقيت اللّه وأنا طيّب الناس. وقد أرى أن هذا غير مغن عني حتى أقوم فيكم مرارا.
ثم نزل فصلى الظهر ورجع فجلس على المنبر فعاد لمقالته الأولى فقام رجل فقال يا رسول اللّه إنّ لي عندك ثلاثة دراهم قال أعطه يا فضل ثم قال يا أيها الناس من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة فقام رجل فقال يا رسول اللّه عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل اللّه. قال ولم غللتها؟ قال كنت إليها محتاجا ، قال خذها منه يا فضل. ثم قال أيها الناس من خشي من نفسه شيئا فليقم أدع له فقام رجل فقال يا رسول اللّه إني لكذاب إني لفاحش وإني لنؤوم فقال اللّهمّ ارزقه صدقا وإيمانا وأذهب عنه النوم إذا أراد. ثم قام رجل فقال واللّه يا رسول اللّه إني لكذاب وإني لمنافق. وما من شيء إلا قد جنيته فقام عمر بن الخطاب فقال فضحت نفسك أيها الرجل فقال النبي يا ابن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة. اللّهمّ ارزقه صدقا وإيمانا وصيّر أمره إلى خير.
ومن ذلك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : نَعَى إِلَيْنَا نَبِيُّنَا وَحَبِيبُنَا بِأَبِي هُوَ نَفْسَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ ، فَلَمَّا دَنَا الْفِرَاقُ جَمَعَنَا فِي بَيْتِ أَمِّنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْنَا فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ وَتَشَدَّدَ فَقَالَ : " مَرْحَبًا بِكُمْ حَيَّاكُمُ اللَّهُ ، رَحِمَكُمُ اللَّهُ ، آوَاكُمُ اللَّهُ ، نَصَرَكُمُ اللَّهُ ، رَفْعَكُمُ اللَّهُ ، نَفَعَكُمُ اللَّهُ ، هَدَاكُمُ اللَّهُ ، رَزَقَكُمُ اللَّهُ ، وَفَّقَكُمُ اللَّهُ ، سَلَّمَكُمُ اللَّهُ ، قَبِلَكُمُ اللَّهُ ، أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ ، وَأُوصِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِكُمْ ، وَأَسْتَخْلِفْهُ عَلَيْكُمْ ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ، لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لِي وَلَكُمْ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ، وَقَالَ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ " ثُمَّ قَالَ : " قَدْ دَنَا الْأَجَلُ وَالْمُنْقَلَبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، وَإِلَى جَنَّةِ الْمَأْوَى ، وَإِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى ، وَالْكَأْسِ الْأَوْفَى ، وَالْحَظِّ وَالْعَيْشِ الْمُهَنَّى " قُلْنَا : فَمَنْ يُغَسِّلُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " رِجَالُ أَهْلِ بَيْتِي ، الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى " قُلْنَا : وَكَيْفَ نُكَفِّنُكَ ؟ قَالَ : " فِي ثِيَابِي هَذِهِ إِنْ شِئْتُمْ أَوْ فِي حُلَّةٍ يَمَانِيَةٍ أَوْ فِي بَيَاضٍ مِصْرَ " قُلْنَا : فَمَنْ يُصَلِّي عَلَيْكَ مِنَّا ؟ فَبَكَيْنَا وَبَكَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ قَالَ : " مَهْلًا غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ وَجَزَاكُمْ عَنْ نَبِيِّكُمْ خَيْرًا إِذَا غَسَّلْتُمُونِي وَكَفَّنْتُمُونِي فَضَعُونِي عَلَى سَرِيرِي فِي بَيْتِي هَذَا عَلَى شَفِيرِ قَبْرِي ، ثُمَّ اخْرُجُوا عَنِّي سَاعَةً فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ جَلِيسَيْ وَخَلِيلِي جِبْرِيلُ ، ثُمَّ مِيكَائِيلُ ، ثُمَّ إِسْرَافِيلُ ، ثُمَّ مَلَكُ الْمَوْتِ مَعَ جُنُودِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ، ثُمَّ ادْخُلُوا عَلَيَّ فَوْجًا فَوْجًا ، فَصَلُّوا عَلَيَّ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ، وَلَا تُؤْذُونِي بِتَزْكِيَةٍ وَلَا ضَجَّةٍ(1/1145)
وَلَا رَنَّةٍ ، وَلْيَبْدَأْ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ رِجَالُ أَهْلِ بَيْتِي وَنِسَاؤُهُمْ ، ثُمَّ أَنْتُمْ ، ثُمَّ اقْرَأُوا عَنِّي السَّلَامَ كَثِيرًا مَنْ غَابَ مِنْ أَصْحَابِي فَإِنِّي قَدْ سَلَّمْتُ عَلَى مَنْ تَابَعَنِي عَلَى دِينِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " قُلْنَا : فَمَنْ يُدْخِلُكَ فِي قَبْرِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " أَهْلِي مَعَ مَلَائِكَةٍ كَثِيرٍ يَرَوْنَكُمْ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ " (1) ومن ذلك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّهُ قَالَ يَوْمُ الْخَمِيسِ ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ ثُمَّ بَكَى حَتَّى خَضَبَ دَمْعُهُ الْحَصْبَاءَ فَقَالَ اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَعُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَقَالَ « ائْتُونِى بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا » . فَتَنَازَعُوا وَلاَ يَنْبَغِى عِنْدَ نَبِىٍّ تَنَازُعٌ فَقَالُوا هَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ « دَعُونِى فَالَّذِى أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِى إِلَيْهِ » . وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلاَثٍ « أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ » . وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ . وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ سَأَلْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ . فَقَالَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ . وَقَالَ يَعْقُوبُ وَالْعَرْجُ أَوَّلُ تِهَامَةَ (2) . . (3)
__________
(1) - الدُّعَاءُ لِلطَّبَرَانِيِّ (1121 ) حسن
(2) - صحيح البخارى (3053 )
قَوْله : ( عَنْ اِبْن عَبَّاس يَوْم الْخَمِيس وَمَا يَوْم الْخَمِيس ) مَعْنَاهُ : تَفْخِيم أَمْره فِي الشِّدَّة وَالْمَكْرُوه فِيمَا يَعْتَقِدهُ اِبْن عَبَّاس ، وَهُوَ اِمْتِنَاع الْكِتَاب ، وَلِهَذَا قَالَ اِبْن عَبَّاس : الرَّزِيَّة كُلّ الرَّزِيَّة مَا حَال بَيْن رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وَبَيْن أَنْ يَكْتُب هَذَا الْكِتَاب ، هَذَا مُرَاد اِبْن عَبَّاس ، وَإِنْ كَانَ الصَّوَاب تَرْك الْكِتَاب كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( دَعُونِي فَاَلَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْر ) مَعْنَاهُ دَعُونِي مِنْ النِّزَاع وَاللَّغَط الَّذِي شَرَعْتُمْ فِيهِ ، فَاَلَّذِي أَنَا فِيهِ مِنْ مُرَاقَبَة اللَّه تَعَالَى وَالتَّأَهُّب لِلِقَائِهِ وَالْفِكْر فِي ذَلِكَ وَنَحْوه أَفْضَل مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ .
قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَة الْعَرَب ) قَالَ أَبُو عُبَيْد : قَالَ الْأَصْمَعِيّ : جَزِيرَة الْعَرَب مَا بَيْن أَقْصَى عَدَن الْيَمَن إِلَى رِيف الْعِرَاق فِي الطُّول ، وَأَمَّا فِي الْعَرْض فَمِنْ جُدَّة وَمَا وَالَاهَا إِلَى أَطْرَاف الشَّام . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : هِيَ مَا بَيْن حَفَر أَبِي مُوسَى إِلَى أَقْصَى الْيَمَن فِي الطُّول ، وَأَمَّا فِي الْعَرْض فَمَا بَيْن رَمْل يَرِين إِلَى مُنْقَطِع السَّمَاوَة . وَقَوْله : ( حَفَر أَبِي مُوسَى ) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَفَتْح الْفَاء أَيْضًا ، قَالُوا : وَسُمِّيَتْ جَزِيرَة لِإِحَاطَةِ الْبِحَار بِهَا مِنْ نَوَاحِيهَا وَانْقِطَاعهَا عَنْ الْمِيَاه الْعَظِيمَة ، وَأَصْل الْجُزُر فِي اللُّغَة الْقِطَع ، وَأُضِيفَتْ إِلَى الْعَرَب لِأَنَّهَا الْأَرْض الَّتِي كَانَتْ بِأَيْدِيهِمْ قَبْل الْإِسْلَام ، وَدِيَارهمْ الَّتِي هِيَ أَوْطَانهمْ وَأَوْطَان أَسْلَافهمْ . وَحَكَى الْهَرَوِيُّ عَنْ مَالِك أَنَّ جَزِيرَة الْعَرَب هِيَ الْمَدِينَة ، وَالصَّحِيح الْمَعْرُوف عَنْ مَالِك أَنَّهَا مَكَّة وَالْمَدِينَة وَالْيَمَامَة وَالْيَمَن ، وَأَخَذَ بِهَذَا الْحَدِيث مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَغَيْرهمَا مِنْ الْعُلَمَاء ، فَأَوْجَبُوا إِخْرَاج الْكُفَّار مِنْ جَزِيرَة الْعَرَب ، وَقَالُوا : لَا يَجُوز تَمْكِينهمْ مِنْ سُكْنَاهَا . وَلَكِنَّ الشَّافِعِيّ خَصَّ هَذَا الْحُكْم بِبَعْضِ جَزِيرَة الْعَرَب وَهُوَ الْحِجَاز ، وَهُوَ عِنْده مَكَّة وَالْمَدِينَة وَالْيَمَامَة وَأَعْمَالهَا دُون الْيَمَن وَغَيْره مِمَّا هُوَ مِنْ جَزِيرَة الْعَرَب بِدَلِيلٍ آخَر مَشْهُور فِي كُتُبه وَكُتُب أَصْحَابه . قَالَ الْعُلَمَاء : وَلَا يُمْنَع الْكُفَّار مِنْ التَّرَدُّد مُسَافِرِينَ فِي الْحِجَاز ، وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْإِقَامَة فِيهِ أَكْثَر مِنْ ثَلَاثَة أَيَّام . قَالَ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ : إِلَّا مَكَّة وَحَرَمهَا فَلَا يَجُوز تَمْكِين كَافِر مِنْ دُخُوله بِحَالٍ ، فَإِنْ دَخَلَهُ فِي خُفْيَة وَجَبَ إِخْرَاجه ، فَإِنْ مَاتَ وَدُفِنَ فِيهِ نُبِشَ وَأُخْرِجَ مَا لَمْ يَتَغَيَّر . هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَجَمَاهِير الْفُقَهَاء .
وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَة دُخُولهمْ الْحَرَم ، وَحُجَّة الْجَمَاهِير قَوْل اللَّه تَعَالَى { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِد الْحَرَام بَعْد عَامهمْ هَذَا } وَاللَّهُ أَعْلَم .
وَقَوْله - صلى الله عليه وسلم - ( وَأَجِيزُوا الْوَفْد بِنَحْوِ مَا كُنْت أُجِيزهُمْ ) قَالَ الْعُلَمَاء : هَذَا أَمْر مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - بِإِجَازَةِ الْوُفُود وَضِيَافَتهمْ وَإِكْرَامهمْ تَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ ، وَتَرْغِيبًا لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُؤَلَّفَة قُلُوبهمْ وَنَحْوهمْ وَإِعَانَة عَلَى سَفَرهمْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : قَالَ الْعُلَمَاء سَوَاء كَانَ الْوَفْد مُسْلِمِينَ أَوْ كُفَّارًا ؛ لِأَنَّ الْكَافِر إِنَّمَا يَفِد غَالِبًا فِيمَا يَتَعَلَّق بِمَصَالِحِنَا وَمَصَالِحهمْ .
قَوْله : ( وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثَة ، أَوْ قَالَهَا فَأُنْسِيتهَا ) السَّاكِت اِبْن عَبَّاس ، وَالنَّاسِي سَعِيد بْنُ جُبَيْر ، قَالَ الْمُهَلَّب : الثَّالِثَة هِيَ تَجْهِيز جَيْش أُسَامَة - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : وَيَحْتَمِل أَنَّهَا قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَد " ، فَقَدْ ذَكَرَ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ مَعْنَاهُ مَعَ إِجْلَاء الْيَهُود مِنْ حَدِيث عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ .
وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَوَائِد سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، مِنْهَا : جَوَاز كِتَابَة الْعِلْم ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذِهِ الْمَسْأَلَة مَرَّات ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ جَاءَ فِيهَا حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ ؛ فَإِنَّ السَّلَف اِخْتَلَفُوا فِيهَا ثُمَّ أَجْمَعَ مَنْ بَعْدهمْ عَلَى جَوَازهَا ، وَبَيَّنَّا تَأْوِيل حَدِيث الْمَنْع .
وَمِنْهَا : جَوَاز اِسْتِعْمَال الْمَجَاز لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( أَكْتُب لَكُمْ ) أَيْ آمُر بِالْكِتَابَةِ ، وَمِنْهَا : أَنَّ الْأَمْرَاض وَنَحْوهَا لَا تُنَافِي النُّبُوَّة ، وَلَا تَدُلّ عَلَى سُوء الْحَال .شرح النووي على مسلم - (6 / 26)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (9 / 575)(1/1146)
قوله تعالى : « إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً ».
إذا ظرف ، شرطىّ ، لما يستقبل من الزمان .. وهذا يعنى أن ما بعدها لم يتحقق بعد ، وهو إذا كان وعدا من اللّه سبحانه وتعالى ، فإن تحققه أمر لا شك فيه ، وهو واقع موقع اليقين من المؤمنين قبل أن يتحقق.
ونصر اللّه والفتح ، هو نصر دين اللّه ، بنصر النبي والمؤمنين على المشركين ، ومن اجتمعوا معهم على حرب النبىّ والمؤمنين ، والوقوف فى وجه دين اللّه ، الذي يدعو إليه رسول اللّه .. والفتح ، هو فتح مكة ، التي كان مشركوها هم القوة المحركة لكل عدوان على النبىّ والمؤمنين .. فإذا فتحت كان فتحها هو النصر المبين ، والفتح العظيم ..
وهذا يعنى أن هذه السورة ، نزلت قبل فتح مكة ، فكانت من أنباء الغيب ، ومن البشريات التي بشر بها النبي والمسلمون ، فى وسط هذا الصراع الدائر بينه وبين المشركين ..
وتكاد الأخبار التي يرويها المفسرون ـ تجمع على أن هذه السورة كانت من أواخر ما نزل من القرآن ، وأنها نزلت بعد سورة الفتح ، وقبيل وفاة النبي صلوات اللّه وسلامه عليه بأيام ، قيل عنها فى أكثر الروايات إنها كانت ثمانين يوما!! وهذا ما نخالفهم فيه.
فالقرآن الكريم صريح فى أن قوله تعالى : « إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً » هو وعد ، يتحقق فى زمن مستقبل .. فهذا ما ينطق به صريح النظم القرآنى .. ولن يعدل بنا شىء عن الأخذ بمنطوق الآية الكريمة. ولهذا فإنا نقول ـ فى ثقة(1/1147)
واطمئنان ، وفى قطع ويقين : إن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة ، وفى أشد مواقف النبي حرجا وضيقا ، وهو فى مواجهة أهل الشرك والضلال ـ فكانت مددا من أمداد السماء ، وزادا من عند اللّه ، يتزود به النبي وأصحابه ، فيما امتحنوا به فى أنفسهم وأموالهم .. إنها طاقة من النور السماوي ، فى وسط هذا الظلام الكثيف ، يرى المؤمنون على ضوئها وجه المستقبل المشرق ، الذي وعدهم اللّه فيه بالنصر ، والفتح! وقوله تعالى : « فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً ».
والتسبيح أولا ، لأنه المطلوب فى مقام الشكر ، على هذه النعمة العظيمة ، بالنصر والفتح .. ثم الاستغفار ثانيا ، مما وقع من تقصير فى حق اللّه على مسيرة الجهاد ، حتى جاء يوم النصر ، والفتح ..
فعلى مسيرة الجهاد ، وفى أوقات الشدة والضيق ، وفى مواقع الهزيمة ، وفقد الأحباب والأعزاء ، تتغير مواقف المجاهدين ، وتحوم حول مشاعرهم خواطر تهز إيمانهم ، على درجات مختلفة ، حسب ما فى النفوس من إيمان ، وما فى القلوب من يقين ..
فالنفس البشرية ـ أيا كانت من وثاقة الإيمان باللّه ـ تعرض لها فى الشدائد والمحن ، عوارض ، من الخواطر ، والتصورات ، لا ترضاها لدينها ، وإيمانها بربها فى ساعة اليسر ، وفى أوقات السلام والأمن .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا » (110 : يوسف) وقوله تعالى عن النبي وأصحابه : « وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ : مَتى نَصْرُ اللَّهِ ؟ » (214 : البقرة) ويقول سبحانه عن المؤمنين فى غزوة الأحزاب : « إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا » (10 : الأحزاب) ـ وقد صرح المنافقون والذين فى قلوبهم مرض من المؤمنين ـ صرحوا عن ظنونهم باللّه يومئذ ، فقالوا ما ذكره اللّه تعالى عنهم من قولهم : « ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً » (12 : الأحزاب).
فدعوة النبي إلى الاستغفار ، هى دعوة له ، وللمؤمنين معه ـ من باب أولى ـ إلى لقاء اللّه تعالى تائبين مستغفرين ، بعد أن يتم اللّه عليهم نعمة النصر والفتح ، ويبلغ بهم منزل السلامة والأمن .. وإنه ليس فى هذا الاستغفار إلا مراجعة لما وقع فى النفوس من ظنون باللّه عند بعض المؤمنين ، أو ضجر من الصبر على البلاء عند بعض آخر ، أو شعور بشىء من الأسى والحزن عند فريق ثالث ..
وهكذا وذلك فى مسيرتهم على طريق الضرّ والأذى ، إلى أن لقيهم نصر اللّه والفتح.
وقوله تعالى : « إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً » أي كثير التوبة على عباده ، واسع المغفرة لذنوبهم .. وفى المبالغة فى التوبة دلالة على كثرتها ، والدلالة على كثرتها ، دلالة على كثرة ذنوب العباد ، وما(1/1148)
وقع لهم فى مسيرتهم على الجهاد ، مما ينبغى أن يتطهر منه المجاهدون ، وأن يصفّو حسابهم معه بالتوبة والاستغفار ، بعد أن رأوا ما رأوا من قدرة اللّه ، ومن إحسانه وفضله عليهم .. وهذا مثل قوله تعالى : « لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ » (117 : التوبة) (1)
هذه السورة الصغيرة . . كما تحمل البشرى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجاً؛ وكما توجهه - صلى الله عليه وسلم - حين يتحقق نصر الله وفتحه واجتماع الناس على دينه إلى التوجه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار . .
كما تحمل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - البشرى والتوجيه . . تكشف في الوقت ذاته عن طبيعة هذه العقيدة وحقيقة هذا المنهج ، ومدى ما يريد أن يبلغ بالبشرية من الرفعة والكرامة والتجرد والخلوص ، والانطلاق والتحرر . . هذه القمة السامقة الوضيئة ، التي لم تبلغها البشرية قط إلا في ظل الإسلام . ولا يمكن أن تبلغها إلا وهي تلبي الهدف العلوي الكريم .
وقد وردت روايات عدة عن نزول هذه السورة نختار منها رواية الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق ، قال : قالت عائشة : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر في آخر أمره من قوله : « سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه » قال : « إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي ، وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره إنه كان تواباً » فقد رأيتها . . { إذا جاء نصر الله والفتح ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا «( ورواه مسلم من طريق داود بن أبي هند بهذا النص ) . .
وقال ابن كثير في التفسير : والمراد بالفتح ها هنا فتح مكة . قولاً واحداً . فإن أحياء العرب كانت تتلوم ( أي تنتظر ) بإسلامها فتح مكة يقولون : إن ظهر على قومه فهو نبي ، فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجاً ، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيماناً ، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مُظهر للإسلام ولله الحمد والمنة ، وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال : لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة يقولون : دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي . . » الحديث « . .
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1699)(1/1149)
فهذه الرواية هي التي تتفق مع ظاهر النص في السورة : { إذا جاء نصر الله والفتح . . الخ } فهي إشارة عند نزول السورة إلى أمر سيجيء بعد ذلك ، مع توجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يعمله عند تحقق هذه البشارة وظهور هذه العلامة .
وهناك رواية أخرى عن ابن عباس؛ لا يصعب التوفيق بينها وبين هذه الرواية التي اخترناها ..
قال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه ، فقال : لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر : إنه ممن علمتم .
فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم . فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم فقال : ما تقولون في قول الله عز وجل : { إذا جاء نصر الله والفتح } ؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا . وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً . فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس؟ « فقلت لا . فقال : ما تقول؟ فقلت : هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه له . قال : { إذا جاء نصر الله والفتح } فذلك علامة أجلك { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً } . فقال عمر ابن الخطاب : لا أعلم منها إلا ما تقول ( تفرد به البخاري ) .
فلا يمتنع أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين رأى علامة ربه أدرك أن واجبه في الأرض قد كمل ، وأنه سيلقى ربه قريباً . فكان هذا معنى قول ابن عباس : هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه له . . الخ . .
ولكن هناك حديث رواه الحافظ البيهقي بإسناده عن ابن عباس كذلك : قال : لما نزلت : { إذا جاء نصر الله والفتح } . . دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة وقال : » إنه قد نعيت إليّ نفسي « فبكت . ثم ضحكت . وقالت أخبرني : أنه نعيت إليه نفسه فبكيت ، ثم قال : » اصبري فإنك أول أهلي لحوقاً بي « فضحكت .
ففي هذا الحديث تحديد لنزول السورة . فكأنها نزلت والعلامة حاضرة . أي إنه كان الفتح قد تم ودخول الناس أفواجاً قد تحقق . فلما نزلت السورة مطابقة للعلامة علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أجله . . إلا أن السياق الأول أوثق وأكثر اتساقاً مع ظاهر النص القرآني . وبخاصة أن حديث بكاء فاطمة وضحكها قد روي بصورة أخرى تتفق مع هذا الذي نرجحه . . عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : » دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة عام الفتح فناجاها ، فبكت ، ثم ناجاها فضحكت . قالت : فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألتها عن بكائها وضحكها . قالت : أخبرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يموت ، فبكيت ، ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران . فضحكت . . ( أخرجه الترمذي ) .(1/1150)
فهذه الرواية تتفق مع ظاهر النص القرآني ، ومع الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأخرجه مسلم في صحيحه . من أنه كانت هناك علامة بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وربه هي : { إذا جاء نصر الله والفتح .. } فلما كان الفتح عرف أن قد قرب لقاؤه لربه فناجى فاطمة رضي الله عنها بما روته عنها أم سلمة رضي الله عنها .
ونخلص من هذا كله إلى المدلول الثابت والتوجيه الدائم الذي جاءت به هذه السورة الصغيرة . . فإلى أي مرتقى يشير هذا النص القصير :{ إذا جاء نصر الله والفتح ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ، فسبح بحمد ربك واستغفره ، إنه كان تواباً } . .
في مطلع الآية الأولى من السورة إيحاء معين لإنشاء تصور خاص ، عن حقيقة ما يجري في هذا الكون من أحداث ، وما يقع في هذه الحياة من حوادث . وعن دور الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودور المؤمنين في هذه الدعوة . وحدّهم الذي ينتهون إليه في هذا الأمر . . هذا الإيحاء يتمثل في قوله تعالى : { إذا جاء نصر الله . . } . . فهو نصر الله يجيء به الله : في الوقت الذي يقدره . في الصورة التي يريدها . للغاية التي يرسمها . وليس للنبي ولا لأصحابه من أمره شيء ، وليس لهم في هذا النصر يد . وليس لأشخاصهم فيه كسب . وليس لذواتهم منه نصيب . وليس لنفوسهم منه حظ! إنما هو أمر الله يحققه بهم أو بدونهم . وحسبهم منه أن يجريه الله على أيديهم ، وأن يقيمهم عليه حراساً ، ويجعلهم عليه أمناء . . هذا هو كل حظهم من النصر ومن الفتح ومن دخول الناس في دين الله أفواجاً . .
وبناء على هذا الإيحاء وما ينشئه من تصور خاص لحقيقة الأمر يتحدد شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه بإزاء تكريم الله لهم ، وإكرامهم بتحقيق نصره على أيديهم . إن شأنه ومن معه هو الاتجاه إلى الله بالتسبيح وبالحمد والاستغفار في لحظة الانتصار .
التسبيح والحمد على ما أولاهم من منة بأن جعلهم أمناء على دعوته حراساً لدينه . وعلى ما أولى البشرية كلها من رحمة بنصره لدينه ، وفتحه على رسوله ودخول الناس أفواجاً في هذا الخير الفائض العميم ، بعد العمى والضلال والخسران .
والاستغفار لملابسات نفسية كثيرة دقيقة لطيفة المدخل : الاستغفار من الزهو الذي قد يساور القلب أو يتدسس إليه من سكرة النصر بعد طول الكفاح ، وفرحة الظفر بعد طول العناء . وهو مدخل يصعب توقيه في القلب البشري . فمن هذا يكون الاستغفار .
والاستغفار مما قد يكون ساور القلب أو تدسس إليه في فترة الكفاح الطويل والعناء القاسي ، والشدة الطاغية والكرب الغامر . . من ضيق بالشدة ، واستبطاء لوعد الله بالنصر ، وزلزلة كالتي قال عنها في موضع آخر : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من(1/1151)
قبلكم مستهم البأسآء والضرآء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } فمن هذا يكون الاستغفار .
والاستغفار من التقصير في حمد الله وشكره .
فجهد الإنسان ، مهما كان ، ضعيف محدود ، وآلاء الله دائمة الفيض والهملان . . { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } فمن هذا التقصير يكون الاستغفار . .
وهناك لطيفة أخرى للاستغفار لحظة الانتصار . . ففيه إيحاء للنفس وإشعار في لحظة الزهو والفخر بأنها في موقف التقصير والعجز . فأولى أن تطامن من كبريائها ، وتطلب العفو من ربها . وهذا يصد قوى الشعور بالزهو والغرور . .
ثم إن ذلك الشعور بالنقص والعجز والتقصير والاتجاه إلى الله طلباً للعفو والسماحة والمغفرة يضمن كذلك عدم الطغيان على المقهورين المغلوبين . ليرقب المنتصر الله فيهم ، فهو الذي سلطه عليهم ، وهو العاجز القاصر المقصر . وإنها سلطة الله عليهم تحقيقاً لأمر يريده هو . والنصر نصره ، والفتح فتحه ، والدين دينه ، وإلى الله تصير الأمور .
إنه الأفق الوضيء الكريم ، الذي يهتف القرآن بالنفس البشرية لتتطلع إليه ، وترقى في مدارجه ، على حدائه النبيل البار . الأفق الذي يكبر فيه الإنسان لأنه يطامن من كبريائه ، وترف فيه روحه طليقة لأنها تعنو لله!
إنه الانطلاق من قيود الذات ليصبح البشر أرواحاً من روح الله . وليس لها حفظ في شيء إلا رضاه . ومع هذا الانطلاق جهاد لنصرة الخير وتحقيق الحق؛ وعمل لعمارة الأرض وترقية الحياة؛ وقيادة للبشرية قيادة رشيدة نظيفة معمرة ، بانية عادلة خيرة ، . . الاتجاه فيها إلى الله .
وعبثاً يحاول الإنسان الانطلاق والتحرر وهو مشدود إلى ذاته ، مقيد برغباته ، مثقل بشهواته . عبثاً يحاول ما لم يتحرر من نفسه ، ويتجرد في لحظة النصر والغنم من حظ نفسه ليذكر الله وحده .
وهذا هو الأدب الذي اتسمت به النبوة دائماً ، يريد الله أن ترتفع البشرية إلى آفاقه ، أو تتطلع إلى هذه الآفاق دائماً . .
كان هذا هو أدب يوسف عليه السلام في اللحظة التي تم فيها كل شيء ، وتحققت رؤياه : { ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً ، وقال : يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً . وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجآء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي . إن ربي لطيف لما يشآء ، إنه هو العليم الحكيم } وفي هذه اللحظة نزع يوسف عليه السلام . نفسه من الصفاء والعناق والفرحة والابتهاج ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر . كل دعوته وهو في أبهة السلطان وفي فرحة تحقيق الأحلام : { رب قد آتيتني(1/1152)
من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث ، فاطر السماوات والأرض ، أنت وليي في الدنيا والآخرة ، توفني مسلماً ، وألحقني بالصالحين } وهنا يتوارى الجاه والسلطان ، وتتوارى فرحة اللقاء وتجمع الأهل ولمة الإخوان ، ويبدو المشهد مشهد إنسان فرد يبتهل إلى ربه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه ، وأن يلحقه بالصالحين عنده . من فضله ومنه وكرمه . .
وكان هذا هو أدب سليمان عليه السلام وقد رأى عرش ملكه سبأ حاضراً بين يديه قبل أن يرتد إليه طرفه : { فما رآه مستقراً عنده قال : هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ، ومن كفر فإن ربي غني كريم } وهذا كان أدب محمد - صلى الله عليه وسلم - في حياته كلها ، وفي موقف النصر والفتح الذي جعله ربه علامة له . . انحنى لله شاكراً على ظهر دابته ودخل مكة في هذه الصورة . مكة التي آذته وأخرجته وحاربته ووقفت في طريق الدعوة تلك الوقفة العنيدة . . فلما أن جاءه نصر الله والفتح ، نسي فرحة النصر وانحنى انحناءة الشكر ، وسبح وحمد واستغفر كما لقنه ربه ، وجعل يكثر من التسبيح والحمد والاستغفار كما وردت بذلك الآثار . وكانت هذه سنته في أصحابه من بعده ، رضي الله عنهم أجمعين .
وهكذا ارتفعت البشرية بالإيمان بالله ، وهكذا أشرقت وشفت ورفرفت ، وهكذا بلغت من العظمة والقوة والانطلاق . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- مشروعية نعي الميت إلى أهله ولكن بدون إعلان وصوت عال .
2- وجوب الشكر عند تحقق النعمة ومن ذلك سجدة الشكر ، فل نعمة من اللَّه تعالى تستوجب الشكر والحمد والثناء على اللَّه بما هو أهل له ، ومن أجلّ النّعم على نبي اللَّه وأمته تحقيق النصر والغلبة على الأعداء ، وفتح مكة عاصمة العرب والإسلام ، ومقر البيت الحرام أو الكعبة المشرفة قبلة المسلمين.
وتوج اللَّه سبحانه هذه النعمة العظمى بنعمة كبري أخرى هي دخول العرب وغيرهم في دين الإسلام جماعات ، فوجا بعد فوج. وذلك لما فتحت مكة ، قالت العرب : أمّا إذا ظفر محمد بأهل الحرم ، وقد كان اللَّه أجارهم من أصحاب الفيل ، فليس لكم به يدان ، أي طاقة. فكانوا يسلمون أفواجا : أمّة أمّة.
3- مشروعية قول سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي في الركوع والسجود .
4-لهذا ختم اللَّه هذه السورة بأمر اللَّه نبيه بالإكثار من الصلاة ، والتسبيح للَّه ، أي تنزيه اللَّه عن كل ما لا يليق به ولا يجوز عليه ، والحمد للَّه على ما آتاه من الظفر والفتح ، وسؤال اللَّه
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3995)(1/1153)
الغفران مع مداومة الذكر ، واللَّه كثير القبول للتوبة على المسبّحين والمستغفرين ، يتوب عليهم ويرحمهم ، ويقبل توبتهم.
والأمة أولى بذلك ، فإذا كان - صلى الله عليه وسلم - ، وهو معصوم ، يؤمر بالاستغفار ، فما الظن بغيره ؟
روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ « سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ». قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَاكَ تُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ. فَقَالَ « خَبَّرَنِى رَبِّى أَنِّى سَأَرَى عَلاَمَةً فِى أُمَّتِى فَإِذَا رَأَيْتُهَا أَكْثَرْتُ مِنْ قَوْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ. فَقَدْ رَأَيْتُهَا (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) فَتْحُ مَكَّةَ ( وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) ». (1) .
5- دين اللَّه هو الإسلام لقوله تعالى : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران 3/ 19] وقوله : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ [آل عمران 3/ 85].
6- قال جمهور الفقهاء وكثير من المتكلمين : إن إيمان المقلّد صحيح لأنه تعالى حكم بصحة وإيمان أولئك الأفواج ، وجعله من أعظم المنن على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولو لم يكن إيمانهم صحيحا ، لما ذكره في هذا المجال.
7- أمر اللَّه تعالى بالتسبيح أولا ثم بالحمد ثم بالاستغفار لأنه قدم الاشتغال بما يلزم للخالق وهو التسبيح والتحميد على الاشتغال بالنفس. وقدم الأمر بالتسبيح حتى لا يتبادر إلى الذهن أن تأخير النصر سنين لإهمال مثلا ، فاللَّه ينزّه ويقدّس عن إهمال الحق. وأتى بالاستغفار حتى لا يفكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاشتغال بالانتقام ممن آذاه.
8- الآية تدل على فضل التسبيح والتحميد ، حيث جعل كافيا في أداء ما وجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته من شكر نعمة النصر والفتح.
9- اتفق الصحابة على أن هذه السورة دلت على أنه نعي لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - .
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ « إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ » . فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا . فَعَجِبْنَا لَهُ ، وَقَالَ النَّاسُ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ ، يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ وَهْوَ يَقُولُ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا . فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ الْمُخَيَّرَ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمَنَا بِهِ . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَىَّ فِى صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً
__________
(1) - صحيح مسلم(1116)(1/1154)
مِنْ أُمَّتِى لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ ، إِلاَّ خُلَّةَ الإِسْلاَمِ ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِى الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلاَّ خَوْخَةُ أَبِى بَكْرٍ » (1) .
وقد عرفوا ذلك لأن الأمر بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقا دليل على أن أمر تبليغ الدعوة قد تم وكمل ، وذلك يوجب الموت لأنه لو بقي بعد ذلك ، لكان كالمعزول عن الرسالة ، وهو غير جائز. ثم إن الأمر بالاستغفار تنبيه على قرب الأجل.
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى (3904 ) -الخوخة : الباب الصغير(1/1155)
سورة المسد
مكيّة ، وهي خمس آيات
تسميتها :
سميت سورة المسد لقوله تعالى في آخرها : فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ أي في عنق أم جميل زوجة أبي لهب حبل مفتول من ليف. وسميت أيضا سورة تَبَّتْ لقوله تعالى في مطلعها : تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ أي هلكت وخسرت يدا أبي لهب ، كما سميت سورة أبي لهب ، أو سورة اللهب.
وقال ابن عاشور :
سميت هذه السورة في أكثر المصاحف ( سورة تبَّت ) وكذلك عنونها الترمذي في ( جامعه ) وفي أكثر كتب التفسير ، تسمية لها بأول كلمة فيها .
وسميت في بعض المصاحف وبعض التفاسير ( سورة المَسَد ) . واقتصر في ( الإِتقان ) على هذين .
وسماها جمع من المفسرين ( سورة أبي لهب ) على تقدير : سورة ذِكْر أبي لهب . وعنونها أبو حيان في ( تفسيره ) ( سورة اللهب ) ولم أره لغيره .
وعنونها ابن العربي في ( أحكام القرآن ) ( سورة ما كان من أبي لهب ) وهو عنوان وليس باسم .وهي مكية بالاتفاق .وعدّت السادسة من السور نزولاً ، نزلت بعد سورة الفاتحة وقبل سورة التكوير .وعدد آيها خمس .
روي أن نزولها كان في السنة الرابعة من البعثة . وسبب نزولها على ما في ( الصحيحين ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ صَعِدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّفَا ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ « يَا صَبَاحَاهْ » فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ قَالُوا مَا لَكَ قَالَ « أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ أَوْ يُمَسِّيكُمْ أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِى » . قَالُوا بَلَى . قَالَ « فَإِنِّى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » . فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ ( تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ ). (1)
ووقع في ( الصحيحين ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا فَهَتَفَ « يَا صَبَاحَاهْ » . فَقَالُوا مَنْ هَذَا ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ . فَقَالَ « أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِىَّ » . قَالُوا مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا . قَالَ « فَإِنِّى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » . قَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ مَا جَمَعْتَنَا إِلاَّ لِهَذَا ثُمَّ قَامَ فَنَزَلَتْ ( تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ ) (2) .
__________
(1) - صحيح البخارى (4801) - تب : خسر
(2) - صحيح البخارى (4971 )(1/1156)
ومعلوم أن آية : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ( من سورة الشعراء ، وهي متأخرة النزول عن سورة تبت ، وتأويل ذلك أن آية تشبه آية سورة الشعراء نزلت قبل سورة أبي لهب لما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) صَعِدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِى « يَا بَنِى فِهْرٍ ، يَا بَنِى عَدِىٍّ » . لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَنْظُرَ مَا هُوَ ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ « أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِى تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِىَّ » . قَالُوا نَعَمْ ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقًا . قَالَ « فَإِنِّى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » . فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ ( تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ) (1)
فتعين أن آية سورة الشعراء تشبه صدر الآية التي نزلت قبل نزول سورة أبي لهب . (2)
مناسبتها لما قبلها :
هناك تقابل بين هذه السورة والسورة التي قبلها ، ففي السورة السابقة النصر ذكر اللَّه تعالى أن جزاء المطيع حصول النصر والفتح في الدنيا ، والثواب الجزيل في الآخرة ، وفي هذه السورة ذكر أن عاقبة العاصي الخسار في الدنيا والعقاب في الآخرة أو العقبى.
وقال الخطيب : " كانت سورة « النصر » ـ كما قلنا ـ مددا من أمداد السماء ، تحمل بين يديها هذه البشريات المسعدة للنبىّ وللمؤمنين ، وتريهم رأى العين عزّة الإسلام ، وغلبته ، وتخلع عليهم حلل النصر ، وتعقد على جبينهم إكليل الفوز والظفر.
وتحت سنابك خيل الإسلام المعقود بنواصيها النصر ، والتي هى على وعد من اللّه به ـ حطام هذا الطاغية العنيد الذي يمثّل ضلال المشركين كلّهم ، ويجمع فى كيانه وحده ، سفههم ، وعنادهم ، وما كادوا به للنبىّ والمؤمنين ..إنه أبو لهب .. وامرأته حمالة الحطب .. " (3)
ما اشتملت عليه السورة :
سورة المسد مكية ، وتسمى سورة اللهب ، وسورة تبت ، وقد تحدثت عن هلاك " أبي لهب " عدو الله ورسوله ، الذي كان شديد العداوة لرسول الله( - صلى الله عليه وسلم - ) ، ، يترك شغله ويتبع الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، ليفسد عليه دعوته ، ويصد الناس عن الأيمان به ، وقد توعدته السورة في الآخرة ، بنار موقدة
__________
(1) - صحيح البخارى (4770)
(2) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 599) وانظر التفسير الوسيط للقرآن الكريم لطنطاوي - (15 / 533)
(3) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1702)(1/1157)
يصلاها ويشوى بها ، وقرنت زوجته به في ذلك ، واختصتها بلون من العذاب شديد ، هو حبل من ليف تجذب به في النار ، زيادة في التنكيل والدمار. (1)
تضمنت هذه السورة المكية بالإجماع الكلام عن مصير أبي لهب عبد العزّى بن عبد المطلب ، عمّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومصير زوجته أم جميل أروى بنت حرب بن أمية ، أخت أبي سفيان ، وهو هلاك أبي لهب عدو اللَّه تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا ، ودخوله نار جهنم لشدة إيذائه النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاداته له ، وصدّه الناس عن الإيمان به.
وكذلك زوجته شريكة معه في هذا العقاب لأنها كانت عونا لزوجها على كفره وجحوده وعناده ، فتكون يوم القيامة عونا عليه في عذابه في نار جهنم.
وقال دروزة : " فيها دعاء على أبي لهب وإنذار له ولامرأته بالنار. ورواية سبب نزولها لا تتسق مع رواية تبكير نزولها. ورواية تبكير نزولها أكثر اتساقا مع مضمونها. ولعلها تلهم أن يكون موقف أبي لهب وامرأته من أبكر وأول مواقف الصدّ والمناوأة التي واجهها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان لهذا الموقف أشد الأثر في نفس النبي وسير الدعوة. (2)
مقصودها البت والقطع الحتم بخسران الكافر ولو كان أقرب الخلق إلى أعظم الفائزين ، اللازم عنه أن شارع الدين له من العظمة ما يقصر عنه الوصف ، فهو يفعل ما يشاء لأنه لا كفو - له أصلا ، حثا على التوحيد من سائر العبيد ولذلك بين سورة الإخلاص المقرون بضمان النصر وكثرة الأنصار ، واسمها تبت واضح الدلالة على ذلك بتأمل السورة على هذه الصورة ) بسم الله ( الجبار المتكبر المضل الهاد ) الرحمن ( الذي عم الولي والعدو بنعمة البيان بعد الإكرام بالإيجاد ) الرحيم ( الذي خص بالتوفيق أهل الوداد . (3)
أبو لهب ( واسمه عبد العزى بن عبد المطلب ) هو عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما سمي أبو لهب لإشراق وجهه ، وكان هو وامرأته « أم جميل » من أشد الناس إيذاء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللدعوة التي جاء بها . .
وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ : إِنِّي لَمَعَ أَبِي ، شَابٌّ ، أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتْبَعُ الْقَبَائِلَ ، وَوَرَاءَهُ رَجُلٌ أَحْمَرُ وَضِيءٌ ذُو جُمَّةٍ ، يَقِفُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْقَبِيلَةِ يَقُولُ : " يَا بَنِي فُلَانٍ ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ، آمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَنْ تُصَدِّقُونِي وَتَمْنَعُونِي ، حَتَّى أُنَفِّذَ عَنِ اللَّهِ مَا بَعَثَنِي بِهِ " . فَإِذَا فَرَغَ مِنْ مَقَالَتِهِ ، قَالَ الْآخَرُ مِنْ خَلْفِهِ : يَا بَنِي فُلَانٍ ، إِنَّ هَذَا يُرِيدُ مِنْكُمْ أَنْ تَسْلَخُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى ، وَحُلَفَاءَكُمْ مِنَ الْحَيِّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 533)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 495)
(3) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 567)(1/1158)
أَقْيَشَ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ ، فَلَا تَسْمَعُوا لَهُ ، وَلَا تَتَّبِعُوهُ ، فَقُلْتُ لِأَبِي : مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ : هَذَا عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ .. (رواه الإمام أحمد) (1) .
فهذا نموذج من نماذج كيد أبي لهب للدعوة وللرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وكانت زوجته أم جميل في عونه في هذه الحملة الدائبة الظالمة . ( وهي أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان ) . .
ولقد اتخذ أبو لهب موقفه هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ اليوم الأول للدعوة . أخرج البخاري بإسناده عن ابن عباس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى البطحاء ، فصعد الجبل فنادى : « يا صباحاه » فاجتمعت إليه قريش ، فقال : « أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم؟ أكنتم مصدقي؟ » قالوا : نعم . قال : « فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد » . فقال أبو لهب . ألهذا جمعتنا؟ تباً لك . فأنزل الله { تبت يدا أبي لهب وتب . . } الخ . وفي رواية فقام ينفض يديه وهو يقول : تباً لك سائر اليوم! ألهذا جمعتنا؟! فأنزل الله السورة .
ولما أجمع بنو هاشم بقيادة أبي طالب على حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لم يكونوا على دينه ، تلبية لدافع العصبية القبلية ، خرج أبو لهب على إخوته ، وحالف عليهم قريشا ، وكان معهم في الصحيفة التي كتبوها بمقاطعة بني هاشم وتجويعهم كي يسلموا لهم محمداً - صلى الله عليه وسلم - .
وكان قد خطب بنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقية وأم كلثوم لولديه قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما حتى يثقل كاهل محمد بهما!
وهكذا مضى هو وزوجته أم جميل يثيرانها حرباً شعواء على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى الدعوة ، لا هوادة فيها ولا هدنة .
وكان بيت أبي لهب قريباً من بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان الأذى أشد . وقد روي أن أم جميل كانت تحمل الشوك فتضعه في طريق النبي؛ وقيل : إن حمل الحطب كناية عن سعيها بالأذى والفتنة والوقيعة .
نزلت هذه السورة ترد على هذه الحرب المعلنة من أبي لهب وامرأته . وتولى الله سبحانه عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - أمر المعركة! (2)
سبب النزول :
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الصَّفَا فَنَادَى : " " يَا صَبَاحَاهُ " " ، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ ، فَقَالَ : " " إِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنِّي أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ
__________
(1) - مسند أحمد (16025 ) ضعيف
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 4000)(1/1159)
العَدُوَّ مُمَسِّيكُمْ أَوْ مُصَبِّحُكُمْ أَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي ؟ " " فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ : أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا ؟ تَبًّا لَكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ : " (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214] ( وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) , قَالَ: وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللهِ، خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَى الصَّفَا فَصَعِدَ عَلَيْهِ ثُمَّ نَادَى: " يَا صَاحِبَاهُ " قَالَ: فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَبَيْنَ رَجُلٍ يَجِيءُ وَبَيْنَ رَجُلٍ يَبْعَثُ رَسُولَهُ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي قُصَيٍّ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، يَا بَنِي، يَا بَنِي، أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِسَفْحِ الْجِبَالِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَصَدَّقْتُمُونِي ؟ " قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : " فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ " فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكُمْ سَائِرَ الْيَوْمِ، مَا دَعَوْتُمُونَا إِلَّا لِهَذَا قَالَ: فَنَزَلَتْ: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [المسد: 1] قَالَ أَبُو أُسَامَةَ: هَكَذَا قَرَأَ الْأَعْمَشُ، قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا " (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا فَهَتَفَ « يَا صَبَاحَاهْ ». فَقَالُوا مَنْ هَذَا الَّذِى يَهْتِفُ قَالُوا مُحَمَّدٌ. فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَقَالَ « يَا بَنِى فُلاَنٍ يَا بَنِى فُلاَنٍ يَا بَنِى فُلاَنٍ يَا بَنِى عَبْدِ مَنَافٍ يَا بَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ » فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَقَالَ « أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً تَخْرُجُ بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِىَّ ». قَالُوا مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا. قَالَ « فَإِنِّى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ». قَالَ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ أَمَا جَمَعْتَنَا إِلاَّ لِهَذَا ثُمَّ قَامَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَقَدْ تَبَّ. (3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء] وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. قَالَ : وَهُنَّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللهِ ، خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَى الصَّفَا ، فَصَعِدَ عَلَيْهَا ، ثُمَّ نَادَى : يَا صَبَاحَاهُ ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَبَيْنَ رَجُلٍ يَجِيءُ ، وَبَيْنَ رَجُلٍ يَبْعَثُ رَسُولَهُ ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، يَا بَنِي فِهْرٍ ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ، يَا بَنِي ، يَا بَنِي أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَصَدَّقْتُمُونِي ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ : تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ ، أَمَا دَعَوْتُمُونَا إِلاَّ لِهَذَا ، ثُمَّ قَامَ ، فَنَزَلَتْ : {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد] ، وَقَدْ تُبَّ ، وَقَالُوا : مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا. (4)
__________
(1) - سنن الترمذى(3689 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ - تب : خسر
(2) - أخبار مكة للفاكهي(1379 ) صحيح
(3) - صحيح مسلم (529 )
(4) - صحيح ابن حبان - (14 / 487) (6550) صحيح(1/1160)
وعَنْ رَجُلٍ ، مِنْ هَمْدَانَ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ بْنُ زَيْدٍ ، أَنَّ امْرَأَةَ أَبِي لَهَبٍ ، كَانَتْ تُلْقِي فِي طَرِيقِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الشَّوْكَ ، فَنَزَلَتْ : تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ " (1)
وعَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَارِبِيِّ ، قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ ، وَهُوَ يَقُولُ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا " ، وَرَجُلٌ يَتْبَعُهُ يَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ ، وَقَدْ أَدْمَى عُرْقُوبَيْهِ وَكَعْبَيْهِ ، وَهُوَ يَقُولُ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، لَا تُطِيعُوهُ ، فَإِنَّهُ كَذَّابٌ ، فَقُلْتُ : مَنْ هَذَا ؟ قِيلَ : هَذَا غُلَامُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ . قُلْتُ : فَمَنْ هَذَا الَّذِي يَتْبَعُهُ يَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ ؟ قَالَ : هَذَا عَبْدُ الْعُزَّى أَبُو لَهَبٍ " (2)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (35520 ) حسن مرسل
(2) - صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ( 6680 ) صحيح(1/1161)
جزاء أبي لهب وامرأته
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... تَبَّتْ يَدَا ... أي خسرت ، وخابت وضل سعيه وعمله
1 ... أَبِي لَهَبٍ ... عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، اسمه عبدالعزى بن عبدالمطلب وسمي أبو لهب لإشراق وجهه وكنيته أبو عتيبة
1 ... وَتَبَّ ... أي خسر هو بذاته إذ هو من أهل النار .
2 ... مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ ... أي لن يغني عنه ماله من عذاب الله شيئا
2 ... وَمَا كَسَبَ ... أي لن يغني عنه ولده كذلك من عذاب الله شيئا .
3 ... سَيَصْلَى نَارًا ... يدخل النار ذات اللهب
3 ... ذَاتَ لَهَبٍ ... توقد ولها ألسنة اللهيب
4 ... امْرَأَتُهُ ... أي زوجته أم جميل واسمها أروى بنت حرب أخت أبي سفيان
4 ... حَمَّالَةَ الحَطَبِ ... كانت تلقي الشوك في طريق النبي ، فهي يوم القيامة عونا على زوجها في عذابه .
5 ... فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ... أي في عنقها حبل من مسد في النار .
6 ... من مسد ... حبل من حديد فتل فتلاً محكماً . ...
المعنى الإجمالي:
هلك أبو لهب وخسر خسرانا شديدا ، وهذا دعاء عليه ، وقد هلك وخسر بالفعل بدليل قوله تعالى ثانيا : وَتَبَّ ما أغنى عن أبى لهب ماله ، ولا نفعه كسبه وعمله ، ولم ينفعه شيء من ذلك في تثبيط دعوة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقد كان أبو لهب عم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم واسمه عبد العزى ، وكان من ألد أعدائه ، يسير وراء النبي فإذا قال شيئا كذبه ، ولهذا ذكر اللّه جزاءه فقال : سيصلى نارا لا يعرف قدرها ولا وصفها إلا خالقها ، نارا ذات لهب ، سيصلى هو وامرأته أذم حمالة الحطب.
روى أنها كانت تضع الشوك في طريق رسول اللّه بعد جمعه لهذا السبب ، وقيل : إنها كانت تسعى جاهدة في إيقاع العداوة بين النبي والناس ، وتحمل حطب نار الفتنة ، وتوقد بينهم نار العداوة ، وقد زاد سبحانه في تبشيع صورتها بقوله : في جيدها حبل من مسد ، وقد كان لها(1/1162)
قلادة حلفت لتبيعنها في الإنفاق ضد رسول اللّه ، فأعقبها اللّه بدلها حبلا في جيدها : حبلا محكما ليوضع في عنقها ، وهي في نار جهنم ، وقيل : إن المعنى على تحقيرها وتصويرها بصورة الحاطبات الممتهنات إذلالا لكبريائها هي وزوجها. (1)
التفسير والبيان :
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ ، وَتَبَّ (2) أي هلكت يداه وخسرت وخابت ، وهو مجاز عن جملته ، أي هلك وخسر ، وهذا دعاء عليه بالهلاك والخسران. ثم قال : وَتَبَّ أي وقد وقع فعلا هلاكه ، وهذا خبر من اللَّه عنه ، فقد خسر الدنيا والآخرة. وأبو لهب : عم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واسمه عبد العزّى بن عبد المطلب ، وقد كان كثير الأذى والبغض والازدراء لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ولدينه.
ثم أخبر اللَّه تعالى عن حال أبي لهب في الماضي ، فقال : ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ أي لم يدفع عنه يوم القيامة ما جمع من المال ، ولا ما كسب من الأرباح والجاه والولد ، ولم يفده ذلك في دفع ما يحل به من الهلاك ، وما ينزل به من عذاب اللَّه ، بسبب شدة معاداته لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، وصدّه الناس عن الإيمان به ، فإنه كان يسير وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا قال شيئا كذّبه.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ رَبِيعَةُ بْنُ عِبَادٍ مِنْ بَنِي الدِّيلِ ، وَكَانَ جَاهِلِيًّا قَالَ : رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي سُوقِ ذِي الْمَجَازِ ، وَهُوَ يَقُولُ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا " . وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ ، وَوَرَاءَهُ رَجُلٌ وَضِيءُ الْوَجْهِ ، أَحْوَلُ ذُو غَدِيرَتَيْنِ يَقُولُ : إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ يَتْبَعُهُ حَيْثُ ذَهَبَ ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ ، فَذَكَرُوا لِي نَسَبَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَقَالُوا لِي : هَذَا عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ
وفي رواية عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادٍ الدُّؤَلِيِّ ، وَكَانَ جَاهِلِيًّا فَأَسْلَمَ ، قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، قَالَ : فَقُلْتُ : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ يَذْكُرُ النُّبُوَّةَ ، قُلْتُ : مَنْ هَذَا الَّذِي يُكَذِّبُهُ ؟ قَالُوا : هَذَا عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ ، قَالَ أَبُو الزِّنَادِ : فَقُلْتُ لِرَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادٍ : إِنَّكَ يَوْمَئِذٍ كُنْتَ صَغِيرًا ، قَالَ : لَا وَاللَّهِ إِنِّي يَوْمَئِذٍ لَأَعْقِلُ ، أَنِّي لَأَزْفِرُ الْقِرْبَةَ يَعْنِي أَحْمِلُهَا " (3) .
والفرق بين المال والكسب : أن الأول رأس المال ، والثاني هو الربح.
ثم ذكر اللَّه تعالى عقابه في المستقبل ، فقال : سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ أي سيذوق حرّ نار جهنم ذات اللهب المشتعل المتوقد ، أو سوف يعذب في النار الملتهبة التي تحرق جلده ، وهي نار
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 916)
(2) - لم يقل في أول هذه السورة قل كما في سورة الكافرين ، حتى لا يشافه عمه بما يزيد في غضبه ، رعاية للحرمة ، وتحقيقا لمبدأ الرحمة.
(3) - مُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (18692 ) حسن(1/1163)
جهنم. قال أبو حيان : والسين للاستقبال ، وإن تراخى الزمان ، وهو وعيد كائن إنجازه لا محالة ، وإن تراخى وقته (1) .
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ أي وتصلى امرأته أيضا نارا ذات لهب ، وهي أم جميل ، أروى بنت حرب ، أخت أبي سفيان ، كانت تحمل الشوك والغضى ، وتطرحه بالليل على طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : المراد أنها كانت تمشي بالنميمة ، فيقال للمشاء بالنمائم ، المفسد بين الناس : يحمل الحطب بينهم ، أي يوقد بينهم النائرة ، ويورّث الشر ، وهذا رأي الكثيرين.
قال أبو حيان : والظاهر أنها كانت تحمل الحطب ، أي ما فيه شوك ، لتؤذي بإلقائه في طريق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، لتعقرهم ، فذمت بذلك ، وسميت حمالة الحطب.
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ أي في عنقها حبل مفتول من الليف ، من مسد النار ، أي مما مسّد من حبالها أي فتل من سلاسل النار. وقد صورها اللَّه في حالة العذاب بنار جهنم بصورة حالتها في الدنيا عند النميمة ، وحينما كانت تحمل حزمة الشوك وتربطها في جيدها ، ثم تلقيها في طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن كل مجرم يعذب بما يجانس حاله في جرمه. وقيل : صورها اللَّه في الدنيا بصورة حطّابة ممتهنة احتقارا لها ، وإيذاء لها ولزوجها.
ولما سمعت أم جميل هذه السورة أتت أبا بكر ، وهو مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ، وبيدها فهر (حجر) فقالت : بلغني أن صاحبك هجاني ، ولأفعلنّ وأفعلنّ ، وأعمى اللَّه تعالى بصرها عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، فروي أن أبا بكر رضي اللَّه تعالى عنه قال لها : هل تري معي أحدا ؟ فقالت : أتهزأ بي ؟ لا أرى غيرك (2) .
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ إِلَى وَامْرَأَتُهُ حَمَالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ قَالَ : فَقِيلَ لِامْرَأَةِ أَبِي لَهَبٍ : إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ هَجَاكِ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَلَأِ فَقَالَتْ : يَا مُحَمَّدُ عَلَى مَا تَهْجُونِي ؟ قَالَ : فَقَالَ : " إِنِّي وَاللَّهِ مَا هَجَوْتُكِ مَا هَجَاكِ إِلَّا اللَّهُ " قَالَ : فَقَالَتْ : هَلْ رَأَيْتَنِي أَحْمِلُ حَطَبًا أَوْ رَأَيْتَ فِيَ جِيدِي حَبْلًا مِنْ مَسَدٍ ؟ ثُمَّ انْطَلَقَتْ ، فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيَّامًا لَا يُنَزَّلُ عَلَيْهِ فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ : يَا مُحَمَّدُ مَا أَرَى صَاحِبَكَ إِلَّا قَدْ وَدَّعَكَ وَقَلَاكَ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى " " (3)
ومضات :
__________
(1) - البحر المحيط : 8/ 526
(2) - البحر المحيط : 8/ 526 وما بعدها ، تفسير ابن كثير : 4/ 564 وما بعدها.
(3) - الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (3906 ) وقال :هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا حَدَّثَنَاهُ هَذَا الشَّيْخُ إِلَّا أَنِّي وَجَدْتُ لَهُ عِلَّةً "(1/1164)
قال ابن كثير : وكانت زوجته من سادات نساء قريش ، وهي أم جميل ، واسمها أروى بنت حرب بن أمية ، وهي أخت أبي سفيان وعمة معاوية ، وكانت عوناً لزوجها على كفره وجحوده وعناده .
{ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } قال الإمام رحمه الله : أي : في عنقها حبل من الليف ، أي : أنها في تكليف نفسها المشقة الفادحة ، للإفساد بين الناس وتأريث نيران العداوة بينهم ، بمنزلة حامل الحطب الذي في عنقه حبل خشن ، يشدّ به ما حمله إلى عنقه ، حتى يستقل به . وهذه أشنع صورة تظهر بها امرأة تحمل الحطب ، وفي عنقها حبل من الليف ، تشد به الحطب إلى كاهلها ، حتى تكاد تختنق به .
وقال أيضاً : قد أنزل الله في أبي لهب وفي زوجته هذه السورة ، ليكون مثلاً يعتبر به من يعادي ما أنزل الله على نبيِّه ؛ مطاوعة لهواه وإيثاراً لما ألفه من العقائد والعوائد والأعمال ، واغتراراً بما عنده من الأموال ، وبما له من الصولة أو من المنزلة في قلوب الرجال ، وأنه لا تغني عنه أمواله ولا أعماله شيئاً ، وسيصلى ما يصلى . نسأل الله العافية . (1)
في آيات السورة دعاء على أبي لهب بالهلاك والخسران ، وتقرير بأنه لن يغني عنه ماله وما كسبه شيئا ، وأنه سيصلى نارا عظيمة هو وامرأته حمالة الحطب التي سوف يكون في جيدها حبل من مسد ، تقاد به.
والروايات مجمعة على أن أبا لهب هذا هو عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن اسمه عبد العزى وأن امرأته هي أم جميل أخت أبي سفيان «1» والمرجح أن كنية «أبي لهب» هي كنية قرآنية على سبيل الهجو فصارت له علما.
ولقد روى الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال : «لمّا نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء/ 214] خرج رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حتّى صعد الصفا فهتف يا صباحاه فاجتمعوا إليه فقال أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقيّ؟ قالوا : ما جرّبنا عليك كذبا. قال : فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد. قال أبو لهب تبا لك ما جمعتنا إلّا لهذا ، ثم قام فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد/ 1]» «2».
وإلى هذا الحديث الذي أورده أيضا الطبري والمفسرون الآخرون «3» رووا روايات أخرى كسبب نزول السورة منها «أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [214] جمع أقاربه فدعاهم إلى الإسلام فقال له أبو لهب تبا لك سائر اليوم ألهذا دعوتنا؟» ومنها : «أن أبا لهب قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ماذا أعطى يا محمد إن آمنت بك؟ قال : كما يعطى المسلمون. فقال : ما لي عليهم
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 342)(1/1165)
فضل. قال : وأيّ فضل تبتغي؟ قال : تبا لهذا من دين أن أكون أنا وهؤلاء سواء فأنزل اللّه سورة تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [1]».
ونلحظ في صدد الرواية الأولى والثانية أنهما تقتضيان أن تكون سورة المسد نزلت بعد سورة الشعراء التي منها آية : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ مع أن الروايات مجمعة تقريبا على وضع سورة المسد كسادس سورة أو خامس سورة في ترتيب النزول بينما تأتي سورة الشعراء كرابعة وأربعين أو خامسة وأربعين في هذا لترتيب «1» أي أنها نزلت بعد سورة المسد بثلاث سنين على الأقل. وروح آية وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ تلهم أنها لم تنزل مبكرة «2». لذلك فنحن نتوقف في الروايات ، وإشراك امرأة أبي لهب مما يقوي صواب توقفنا إن شاء اللّه.
ولقد ذكرت الروايات «3» أن إحدى بنات النبي كانت مخطوبة أو زوجة لعتبة بن أبي لهب وأن بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مجاورا لبيت أبي لهب. فمما يمكن أن يرد على البال بقوة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اتصل بعمه عقب نزول الوحي عليه في أول من اتصل بهم ودعاه في أول من دعا. فالرجل عمه وجار بيته وصهره ، ولعله كان يكثر التردد على بيته. ومن المعقول أن يفاتحه قبل الناس وأن يفضي إليه بأمره وأن يطلب منه التصديق والتعضيد ولعله كان واثقا كل الثقة بأنه سيقابل بالحسنى والإجابة ، وبأنه واجد في عمه العضد القوي والسند الأمين. فلم يلبث أن خاب أمله فقوبل أسوأ مقابلة ، وكان من عمه وزوجته أشد موقف في الأذى والعناد والتعطيل ، والقطيعة حتى لقد روي «4» أن أبا لهب كان يسير وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلما رآه يكلم أحدا جاء إليه وقال له : أنا عمه فلا تصدقه فإنه ذاهب العقل ، وأن زوجته كانت تضع الأقذار أمام بيته وتشيع عنه الإشاعات السيئة. وأن الزوجين حملا ابنهما على تطليق بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - . وعمومة أبي لهب للنبي - صلى الله عليه وسلم - مما يزيد في شدة موقفه في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي الغرباء كما هو بدهي. ونعت امرأة أبي لهب بحمالة الحطب يلهم أنها كانت ذات تأثير قوي في الموقف فيزداد شدة ولعلها كانت تقوي زوجها وتنفخ في روحه كلما أنست فيه جنوحا إلى الفتور والتروي ، بسبب ما كان يربطه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من روابط العصبية التي كانت تقاليدها شديدة الرسوخ في بيئة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكان تأثيرها عاملا قويا في شذوذ هذا العم عن سائر أعمامه وسائر أفراد عشيرته الذين كانوا يحمون النبي - صلى الله عليه وسلم - وينصرونه بقوة العصبية برغم أن أكثرهم ظلوا في العهد المكي نائين عن اعتناق الإسلام.
وإذا صحت رواية كون أم جميل هي أخت أبي سفيان - وليس هناك ما ينفيها - فلا يبعد أن يكون موقفها متأثرا بموقف أخيها الذي كان من أبرز الزعماء وذوي الشأن في قريش والذي كانت لأسرته المكانة البارزة في مكة ، والذي ظل هو وأسرته يناوئون النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو عشرين سنة أي إلى فتح مكة في العام الثامن من الهجرة مناوأة عنيفة ، وقد قاد زعيمهم أبو سفيان الجيوش التي غزت المدينة دار هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين. ولا يبعد أن تكون فكرة النضال(1/1166)
الأسروي بين الأسرة الأموية صاحبة الشأن والبروز في مكة والأسرة الهاشمية التي ترشحت للبروز والخلود بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحركته حافزا أو مقويا لموقف أبي سفيان المناوىء من النبي - صلى الله عليه وسلم - وموقف أخته زوجة أبي لهب منه أيضا.
وأبو لهب وامرأته هما الشخصان الوحيدان اللذان اختصهما القرآن بالذكر وسوء الدعاء وبصراحة ، وسجل عليهما اللعنة الخالدة على مرّ الدهور. ولا شك في أن هذا يدل على أن موقفهما كان شديد الأثر في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - وسير دعوته وخاصة في أول أمرها فاستحقا من أجله هذا التخصيص.
وإننا لنرجو أن تكون هذه البيانات والتوجيهات هي المتسقة مع حقيقة الموقف لأنها هي المتسقة مع روح الآيات ومضمونها وإشراك زوجة أبي لهب ثم مع رواية تبكير نزول السورة. (1)
« أبو لهب » ـ كما أشرنا من قبل ، كان أبرز معلم من معالم الجاهلية ، التي واجهتها الدعوة الإسلامية ، بما كان عليه هذا الجهول من طيش طاغ ، وضلال مبين ..
ومع أنه كان عمّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان مما تقضى به التقاليد العربية الجاهلية الانتصار للقريب ، ظالما أو مظلوما ، كما كان ذلك شأنهم ـ فإن هذا الشقي كان من أسفه السفهاء على النبي ، وأشدهم عدوانا عليه ، وأكثرهم أذى له ، حتى إنه ـ وعلى غير تقاليد الجاهلية ـ يدخل معه امرأته فى هذه العداوة ، ويجرها جرّا إلى تلك المعركة التي يخوضها ضد النبىّ ، ولهذا كان لرجل الوحيد من قريش الذي ذكره القرآن باسمه ، وأعلن فى العالمين عداوته للّه ، وغضب اللّه عليه ، ووقوع بأسه وعذابه به ، وذلك ليكون لعنة على كل لسان إلى يوم الدين ، لا يذكر اسمه إلا ذكر مدموغا باللعنة ، مرجوما بالشماتة والازدراء ، تتبعه امرأته مشدودة إليه بحبل من مسد ، كما كانت مشدودة إليه فى الدنيا بحبل عداوتهما للنبى ، وحسدهما له ..
وقوله تعالى : « تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ». التب : القطع للشىء .. وهو كالبت .. ولفظه يدل على القطع والحسم ، ويحكى الصوت الذي يحدث عند فصل الشيء عن الشيء ..
والمفسرون مجمعون على أن هذا دعاء على أبى لهب من اللّه سبحانه وتعالى ، بقطع يديه ، أي قطع القوى العاملة فيه ، الممكّنة له من الشر والعدوان ، وهما يداه اللتان يبطش بهما ، إذ كان اليد دائما هى مظهر آثار الإنسان ، بها يأخذ ، وبها يعطى .. فإذا ذهبت اليد اليمنى ، قامت اليسرى مقامها ، فإذا ذهبت اليدان أصبح الإنسان معطل الحركة ، عاجزا عن أن يحصّل خيرا ، أو يتناول خيرا ، أشبه بالطائر الذي فقد جناحيه ، إنه هالك لا محالة ، ولهذا جاء بعد ذلك قوله تعالى : « وتب » أي هلك هو ، بعد أن قطعت يداه ..والرأى عندنا ـ واللّه أعلم ـ أن
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 495)(1/1167)
هذا الخبر على حقيقته ، وأنه خبر مطلق ، لم يخرج عن حقيقته إلى الدعاء .. فأبو لهب قد وقع عليه الهلاك فعلا ، وحل به البلاء منذ اتخذ من النبي ، ومن الدعوة الإسلامية ، هذا الموقف الأثيم الضال .. لقد ركب الطريق الذي لا نجاة لسالكه ، ولا سلامة لسائر فيه ، وكذلك امرأته التي ركبت معه هذا الطريق ، وعلقت فيه حبالها بحباله ..
والإخبار بالماضي عما لم يقع بعد ، إشارة تحقق وقوعه ، وأنه وإن لم يقع فهو فى حكم الواقع ، إذ تقدمته أسبابه ، وقامت علله ، التي تدفع به دفعا إلى الواقع المحتوم .. وفى هذا الخبر إلفات للأنظار إلى هذا الطاغية الأثيم ، وهو يلبس رداء الهلاك والضياع ، على حين لا يزال شبحا يتحرك بين الناس .. إنه أشبه بالمحكوم عليه بالموت ، ينتظر ساعة التنفيذ فيه!! وقوله تعالى : « ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ ».
هو تعقيب على هذا الخبر ، فقد هلك أبو لهب ، ونزل به ما نزل من هوان وخسران ، دون أن ينفعه هذا المال الذي جمعه ، واعتز به ، ولا هؤلاء الأبناء الذين اشتد ظهره بهم .. لقد تخلى عنه ماله وولده جميعا ، وتركوه لمصيره الذي هو صائر إليه .. إنه فى قيد الهلاك وهو بين أيديهم .. فهل يستطيع أحد أن يمد يده إلى نجاته ؟ إنه بين مخالب عقاب محلق به فى السماء .. إن سقط من بين مخالبه هلك ، وإن مضى به هلك!! وما كسبه أبو لهب ، هو أولاده ، لأن الولد من كسب أبيه ، ومن تثميره ، كما يقول النابغة الذبياني.
مهلا فداء لك الأقوام كلّهم وما أثمر من مال ومن ولد
قيل إن أبا لهب قد أصيب بداء يسمى العدسة ـ ولعله الطاعون ـ وكانت العرب تخشى هذا الداء ، وتتحاشى المصاب به ، وكان ذلك بعد غزوة بدر ببضعة أيام ، فلما مات بدائه هذا ، لم يقترب أحد من أبنائه لمواراته فى التراب ، خوفا من هذا الداء ، بل ألقوا عليه الحجارة من بعيد حتى أخفوا جثته ، وكأنهم يرجمونه ، ويشيعونه بهذه الرجوم ، وهم يذرفون الدمع الحزين عليه!!
وقوله تعالى : « سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ ».. هذا وعيد من اللّه سبحانه وتعالى لما سيلقى أبو لهب فى الآخرة ، بعد أن عرف مصيره فى الدنيا ، وأن كل ما كان يكيد به للنبى ، قد ردت سهامه إليه ، فرأى بعينيه فى الدنيا ، كيف حلت الهزيمة بقريش يوم بدر ، وكيف قتل صناديدها ، وأسر زعماؤها .. وفى وصف النار بأنها ذات لهب ، إشارة إلى شؤم هذا الاسم الذي تسمى به ، أو الكنية التي تكنّى بها « أبو لهب ».. فقد ولد ، وهو يلبس هذا الثوب الناري ، الذي جعل منه وقودا يشتعل ، ويتلهب ، وكأنه شارة من شارات جهنم ذات اللهب التي يلقاها فى الآخرة ، ويصلى جحيمها .. إنه من لهب ، وإلى اللهب ..(1/1168)
وقوله تعالى : « وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ »..معطوف على فاعل « سيصلى » أي سيصلى هو نارا ذات لهب ، وستصلى امرأته معه هذا النار ، ذات اللّهب ..
وقوله تعالى : « حَمَّالَةَ الْحَطَبِ » منصوب على الذّم ، بفعل محذوف قصد به التخصيص للصفة الغالبة عليها ، وتقديره : أعنى ، أو أقصد .. حمالة الحطب.
و« حَمَّالَةَ الْحَطَبِ » أي حمالة الفتنة ، التي تؤجج بها نار العداوة ، وتسعى بها بين الناس ، لتثير النفوس على النبي ، وتهيج عداوة المشركين له .. فقد كانت امرأة أبى لهب ـ واسمها أم جميل بنت حرب ، أخت أبى سفيان ـ كانت أشدّ نساء قريش عداوة للنبى ، وسلاطة لسان ، وسوء قالة فيه ، كما كان ذلك شأن زوجها أبى لهب من بين مشركى قريش كلهم .. وهكذا تتآلف النفوس الخبيثة ، وتنزاوج ، وتتوافق ، وتتجاذب! وقيل حمالة الحطب : أي حمالة الذنوب ، التي أشبه بالحطب الذي يتخذ وقودا ، والذي يتعرض لأية شرارة تعلق به فتأنى على كل ما اتصل من أثاث وغيره ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ » (31 : الأنعام).
وانظر إلى الإعجاز القرآنى فى وصف امرأة أبى لهب ، وسعيها بالفتنة ، وإغراء الصدور على النبي ـ بأنها حمالة الحطب .. فهذا الحطب الذي تحمله ، مع مجاورته للهب الذي هو كيان زوجها كله ، لا بد أن يشتعل يوما ، وقد كان ..فأصبح الرجل وزوجه وقودا لنار جهنم ..
وانظر مرة أخرى إلى هذا الإعجاز فى التفرقة بين « أبى لهب » وحمالة الحطب .. إنه هو الذي أوقد فيها هذه النار ، بما تطاير من شرره إلى هذا الحطب الذي تحمله ، وهو الذي أوقع بها هذا البلاء .. إنها كانت تحمل حطبا ، وحسب .. وهذا الحطب ـ وإن كان من وقود النار ـ إلا أنه قد يسلم منها ، لو لم يخالطها ، ويعلق بها .. وأما وقد خالطها « أبو لهب » فلا بد أن تشتعل ، وتحترق! وقوله تعالى : « فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ».
الجيد : العنق ، والجيد من محاسن المرأة ، وسمى جيدا من الجودة ، وفيه تضع المرأة أجمل ما تنزين به من حلى وجواهر ..والمسد : الليف ، أو ما يشبهه ، مما تتخذ منه الحبال ..
وفى تعليق هذا الحبل فى جيد أم جميل ، تصوير بليغ معجز لشناعة هذه المرأة ، وفى تشويه خلقها .. فما أبشع « جيد » امرأة كان من شأنه أن يتحلى بعقد من كريم الجواهر ، يشدّ إليه حبل من ليف .. إنه إهانة لعزيز ، وإذلال لكريم .. وإن الإهانة للعزيز ، والإذلال للكريم ، لأقتل للنفس ، وأنكى للقلب ، من إهانة المهين ، وإذلال الذليل! فكلمة « جيد » هنا مقصودة لذاتها ، إنه يراد بها ما لا يراد بلفظ رقبة ، أو عنق .. إنها تنزل امرأة من عقائل قريش ، ومن بيوتاتها المعدودة فيها ، لتلقى بها فى عرض الطريق ، وهى تحمل على ظهرها حزم الحطب ، وتشدها إلى جيدها بحبل من ليف!! ولهذا فزعت المرأة ، وولولت حين سمعت هذا الوصف(1/1169)
الذي وصفها القرآن الكريم به ، فخرجت ـ كما يقول الرواة ـ فى جنون مسعور ، تستعدى قريشا على النبي الذي هجاها ـ كما تزعم ـ هذا الهجاء الفاضح ، وعرضها عارية على الملأ! وحق للمرأة أن تفزع وأن نجنّ ، فلقد كانت هذه الصورة التي رسمها القرآن لها ، وعرضها هذا العرض المذل المهين لها ، حديث قريش ـ نسائها ورجالها ـ ومادة تندرها ، ومعابثها ، زمنا طويلا ..وأكثر من هذا ..
فإن النظم الذي جاءت عليه السورة الكريمة ، قد جاء فى صورة تغرى بأن تكون أغنية يتغنى بها الولدان ، ويحدو بها الركبان ، ويتناشد بها الرعاة ..
إنها تصلح أن تكون ـ فى نظمها ـ غناء ، أو نشيدا ، أو حداء .. ولا نحسب إلا أنها كانت ، بعد أيام قليلة من نزولها ، نشيدا مرددا فى طرقات مكة ، على ألسنة الصبيان ، وفى البوادي على أفواه الرعاة ، والحداة ، وأنها قد أخذت صورا وأشكالا من الأوزان ، والأنغام ، التي تولدت من نظمها العجيب المعجز ..
وهكذا ، يمكن أن تتوالد منها الصور ، وتتعدد! وفى الإخبار عن أبى لهب وامرأته بأنهم من أهل النار ، وفى مواجهتهم بهذا الخبر ، ثم موتهم بعد هذا على الكفر ـ فى هذا إعجاز من إعجاز القرآن ، الذي ساق أبا لهب وامرأته إلى النار وهما حيان يرزقان .. ولو أن أبا لهب آمن باللّه ـ ولو حتى عن نفاق ـ لأقام حجة قاطعة على كذب النبي ، وافتراء ما جاء به ، لأن النار التي توعدها اللّه إنما هى لكفره ، فلو أعلن الإيمان لما كان لهذا الوعيد حجة عليه ، بل كان حجة على القرآن بأنه مفترى. ولكن أنّى يكون هذا ، وقد قضى اللّه بعذابه فى جهنم ، ونزل القرآن بالخبر القاطع بهذا ؟
إنها كلمة واحدة كانت تخرج من فم أبى لهب أو امرأته ، بإعلان إسلامهما ، فيقضى بها على محمد ودعوته .. وهذه معجزة متحدية من معجزات القرآن ، الذي أمسك لسان الرجل والمرأة عن أن ينطقا بهذه الكلمة ، بكلمة الإسلام ، فى أوضح صورة ، وأكملها وأصرحها ، كما جاءت بها سورة « الإخلاص ».
وتلك شهادة قائمة على الدهر ، بأن هذا القرآن كلام اللّه ، وأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. (1)
{ تبت يدا أبي لهب وتب } . . والتباب الهلاك والبوار والقطع . { وتبت } الأولى دعاء . و { تب } الثانية تقرير لوقوع هذا الدعاء . ففي آية قصيرة واحدة في مطلع السورة تصدر الدعوة وتتحقق ، وتنتهي المعركة ويسدل الستار!
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1703)(1/1170)
فأما الذي يتلو آية المطلع فهو تقرير ووصف لما كان .{ ما أغنى عنه ماله وما كسب } . . لقد تبت يداه وهلكتا وتب هو وهلك . فلم يغن عنه ماله وسعيه ولم يدفع عنه الهلاك والدمار .
ذلك كان في الدنيا . أما في الآخرة فإنه : { سيصلى ناراً ذات لهب } . . ويذكر اللهب تصويراً وتشخيصاً للنار وإيحاء بتوقدها وتلهبها .
{ وامرأته حمالة الحطب } . . وستصلاها معه امرأته حالة كونها حمالة للحطب . . وحالة كونها : { في جيدها حبل من مسد } . . أي من ليف . . تشد هي به في النار . أو هي الحبل الذي تشد به الحطب . على المعنى الحقيقي إن كان المراد هو الشوك . أو المعنى المجازي إن كان حمل الحطب كناية عن حمل الشر والسعي بالأذى والوقيعة .
وفي الأداء التعبيري للسورة تناسق دقيق ملحوظ مع موضوعها وجوها ، نقتطف في بيانه سطوراً من كتاب : « مشاهد القيامة في القرآن » نمهد بها لوقع هذه السورة في نفس أم جميل التي ذعرت لها وجن جنونها :« أبو لهب . سيصلى ناراً ذات لهب . . وامرأته حمالة الحطب . ستصلاها وفي عنقها حبل من مسد » . .تناسق في اللفظ ، وتناسق في الصورة . فجهنم هنا ناراً ذات لهب . يصلاها أبو لهب! وامرأته تحمل الحطب وتلقيه في طريق محمد لإيذائه ( بمعناه الحقيقي أو المجازي ) . . والحطب مما يوقد به اللهب . وهي تحزم الحطب بحبل . فعذابها في النار ذات اللهب أن تغل بحبل من مسد . ليتم الجزاء من جنس العمل ، وتتم الصورة بمحتوياتها الساذجة : الحطب والحبل . والنار واللهب . يصلى به أبو لهب وامرأته حمالة الحطب!
« وتناسق من لون آخر . في جرس الكلمات ، مع الصوت الذي يحدثه شد أحمال الحطب وجذب العنق بحبل من مسد . اقرأ : { تبت يدا أبي لهب وتب } تجد فيها عنف الحزم والشد! الشبيه بحزم الحطب وشده .
والشبيه كذلك بغل العنق وجذبه . والتشبيه بجو الحنق والتهديد الشائع في السورة « .
» وهكذا يلتقي تناسق الجرس الموسيقي ، مع حركة العمل الصوتية ، بتناسق الصور في جزيئاتها المتناسقة ، بتناسق الجناس اللفظي ومراعاة النظير في التعبير ، ويتسق مع جو السورة وسبب النزول . ويتم هذا كله في خمس فقرات قصار ، وفي سورة من أقصر سور القرآن « .
هذا التناسق القوي في التعبير جعل أم جميل تحسب أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد هجاها بشعر . وبخاصة حين انتشرت هذه السورة وما تحمله من تهديد ومذمة وتصوير زري لأم جميل خاصة . تصوير يثير السخرية من امرأة معجبة بنفسها ، مدلة بحسبها ونسبها . ثم ترتسم لها هذه الصورة : { حمالة الحطب . في جيدها حبل من مسد } ! في هذا الأسلوب القوي الذي يشيع عند العرب!(1/1171)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَذُكِرَ لِي : أَنّ أُمّ جَمِيلٍ : حَمّالَةَ الْحَطَبِ حِينَ سَمِعَتْ نَزَلَ فِيهَا ، وَفِي زَوْجِهَا مِنْ الْقُرْآنِ أَتَتْ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ مِنْ حِجَارَةٍ فَلَمّا وَقَفَتْ عَلَيْهِمَا أَخَذَ اللّهُ بِبَصَرِهَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَا تَرَى إلّا أَبَا بَكْرٍ ، فَقَالَتْ يَا أَبَا بَكْرٍ : أَيْنَ صَاحِبُك ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنّهُ يَهْجُونِي ، وَاَللّهِ لَوْ وَجَدْته لَضَرَبْتُ بِهَذَا الْفِهْرِ فَاهُ أَمَا وَاَللّهِ إنّي لَشَاعِرَةٌ ثُمّ قَالَتْ
مُذَمّمًا عَصَيْنَا ... وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا
وَدِينَهُ قَلَيْنَا ثُمّ انْصَرَفَتْ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللّهِ أَمَا تَرَاهَا رَأَتْك ؟ فَقَالَ مَا رَأَتْنِي ، لَقَدْ أَخَذَ اللّهُ بِبَصَرِهَا عَنّي .. (1)
وروى الحافظ أبو بكر البزار عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ جَاءَتِ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ : لَوْ تَنَحَّيْتَ لاَ تُؤْذِيكَ بِشَيْءٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّهُ سَيُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا فَأَقْبَلَتْ حَتَّى وَقَفَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ ، فَقَالَتْ : يَا أَبَا بَكْرٍ ، هَجَانَا صَاحِبُكَ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لاَ وَرَبِّ هَذِهِ الْبِنْيَةِ مَا يَنْطِقُ بِالشِّعْرِ وَلاَ يَتَفَوَّهُ بِهِ فَقَالَتْ : إِنَّكَ لَمُصَدَّقٌ ، فَلَمَّا وَلَّتْ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : مَا رَأَتْكَ ، قَالَ : لاَ مَا زَالَ مَلَكٌ يَسْتُرُنِي حَتَّى وَلَّتْ " (2) .
فهكذا بلغ منها الغيظ والحنق ، من سيرورة هذا القول الذي حسبته شعراً ( وكان الهجاء لا يكون إلا شعراً ) مما نفاه لها أبو بكر وهو صادق! ولكن الصورة الزرية المثيرة للسخرية التي شاعت في آياتها ، قد سجلت في الكتاب الخالد ، وسجلتها صفحات الوجود أيضاً تنطق بغضب الله وحربه لأبي لهب وامرأته جزاء الكيد لدعوة الله ورسوله ، والتباب والهلاك والسخرية والزراية جزاء الكائدين لدعوة الله في الدنيا ، والنار في الآخرة جزاء وفاقاً ، والذل الذي يشير إليه الحبل في الدنيا والآخرة جميعاً . . (3)
ما ترشد إليه الآياتُ
1 - الدعاء على أبي لهب بالهلاك و الخسران.
2 - بيان حكم الله بهلاك أبي لهب وأنه سيموت كافرا أو يدخل النار وهذا من علم الغيب كشفه الله للمسلمين عن مصير أبي لهب وزوجته وقد كان .
3 - لا يغني المال ولا الولد عن العبد شيئا من عذاب الله .
4 - لا يجوز إيذاء المسلمين .
__________
(1) - السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث - (1 / 206) وسيرة ابن هشام - (1 / 355)
(2) - مسند البزار - (1 / 33) (15(م) ) صحيح
(3) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 4001)(1/1172)
5 - لا تغني القرابة من النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدا إذا كان كافرا مشركا .
6- أوضحت السورة نوع عذاب أبي لهب وزوجته أم جميل ، ومآلهما في الدارين لشدة عداوتهما لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - .
أما الآيات الأولى في أبي لهب فقد تضمنت الإخبار عن الغيب من ثلاثة أوجه :
أحدها- الإخبار عنه بالتباب والخسار ، وبوقوع ذلك فعلا.
وثانيها- الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده ، وبوقوع ذلك فعلا.
وثالثها- الإخبار عنه بأنه من أهل النار ، وقد كان كذلك لأنه مات على الكفر.
وتكليف أبي لهب بالإيمان في حد ذاته لا مانع منه ، وإن كان اللَّه قد علم أنه لا يؤمن ، وأخبر أيضا أنه لا يؤمن وأنه من أهل النار ، قال الآمدي : أجمع الكل على جواز التكليف بما علم اللَّه أنه لا يكون عقلا ، وعلى وقوعه شرعا ، كالتكليف بالإيمان لمن علم اللَّه أنه لا يؤمن كأبي جهل (1) . وأيد ذلك الرازي في تفسيره » .
والخلاصة : أنه كلف بتصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقط ، لا تصديقه وعدم تصديقه ، حتى يجتمع النقيضان (2) .
وأما الآيتان الأخيرتان : فتصفان عذاب أم جميل بأنها مع زوجها تصلى نار جهنم وتذوق حرها وتتلظى بلهبها ، وأنها هالكة في الدنيا ، ومعذبة في الآخرة بحبل من نار ، وسلاسل من نار جهنم تطوقها ، لإيذائها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنها كانت في غاية العداوة له ، ولإفسادها بين الناس بالنميمة وتأجيج نار العداوة بينهم.
قال الضحاك وغيره : كانت تعيّر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفقر ، وهي تحتطب في حبل ، تجعله في جيدها من ليف ، فخنقها اللَّه جل وعزّ به في الدنيا ، فأهلكها ، وهو في الآخرة حبل من نار.
7- قال العلماء : في هذه السورة معجزة ظاهرة ودليل واضح على النبوة ، فإنه منذ نزل قوله تعالى : سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ ، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ، فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان ، لم يقيض لهما أن يؤمنا ، ولا واحد منهما ، لا ظاهرا ولا باطنا ، ولا سرا ولا علنا ، فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة الباطنة على النبوة الظاهرة (3) .
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - الإحكام في أصول الأحكام للآمدي : 1/ 73
(2) - تفسير الرازي : 32/ 171
(3) - تفسير ابن كثير : 4/ 565(1/1173)
سورة الإخلاص
مكيّة ، وهي أربع آيات
تسميتها :
سميت بأسماء كثيرة أشهرها سورة الإخلاص لأنها تتحدث عن التوحيد الخالص للَّه عز وجل ، المنزه عن كل نقص ، المبرأ من كل شرك ، ولأنها تخلّص العبد من الشرك ، أو من النار. وسميت أيضا سورة التفريد أو التجريد أو التوحيد أو النجاة أو الولاية لأن من قرأها صار من أولياء اللَّه ، أو المعرفة ، وتسمى كذلك سورة الأساس لاشتمالها على أصول الدين.
وقال ابن عاشور :
" المشهور في تسميتها في عهد النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وفيما جرى من لفظه وفي أكثر ما روي عن الصحابة تسميتُها ( سورة قل هو الله أحد ) .
روى الترمذي عن أبي هريرة ، وروى أحمد عن أبي مسعود الأنصاري وعن أم كلثوم بنت عقبة ( أن رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) قال : ( قل هو الله تعدِل ثلث القرآن ) وهو ظاهر في أنه أراد تسميتها بتلك الجملة لأجل تأنيث الضمير من قوله : ( تَعدل ) فإنه على تأويلها بمعنى السورة .
وقد روي عن جمع من الصحابة ما فيه تسميتها بذلك ، فذلك هو الاسم الوارد في السنة .
ويؤخذ من حديث البخاري عن إبراهيم عن أبي سعيد الخدري ما يدل على أن رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) قال : ( اللَّهُ الواحد الصمد ) ثُلُثُ القرآن فذكر ألفاظاً تخالف ما تقرأ به ، ومحمله على إرادة التسمية . وذكر القرطبي أن رجلاً لم يسمه قرأ كذلك والناس يستمعون وادعى أن ما قرأ به هو الصواب وقد ذمه القرطبي وسبّه .
وسميت في أكثر المصاحف وفي معظم التفاسير وفي ( جامع الترمذي ) : ( سورة الإخلاص ) واشتهر هذا الاسم لاختصاره وجمعه معاني هذه السورة لأن فيها تعليم الناس إخلاص العبادة لله تعالى ، أي سلامة الإعتقاد من الإِشراك بالله غَيره في الإِلاهية .
وسميت في بعض المصاحف التونسية ( سورة التوحيد ) لأنها تشتمل على إثبات أنه تعالى واحد .
وفي ( الإِتقان ) أنها تسمى ( سورة الأساس ) لاشتمالها على توحيد الله وهو أساس الإِسلام . وفي ( الكشاف ) : روى أبي وأنس عن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) أُسَّتْ السماوات السبع والأرضون السبع على ) قل هو الله أحد . يعني ما خلقت إلا لتكون دلائل على توحيد الله ومعرفة صفاته .
وذكر في الكشاف ( : أنها وسورة الكافرون تسمياننِ المقشقشتين ، أي المبرئتين من الشرك ومن النفاق .(1/1174)
وسماها البقاعي في ( نظم الدرر ) ( سورة الصمد ) ، وهو من الأسماء التي جمعها الفخر . وقد عقد الفخر في ( التفسير الكبير ) فصلاً لأسماء هذه السورة فذكر لها عشرين اسماً بإضافة عنوان سورة إلى كل اسم منها ولم يذكر أسانيدها فعليك بتتبعها على تفاوت فيها وهي : التفريد ، والتجريد ( لأنه لم يذكر فيها سوى صفاته السلبية التي هي صفات الجلال ) ، والتوحيد ( كذلك ) ، والإخلاص ( لما ذكرناه آنفاً ) ، والنجاة ( لأنها تنجي من الكفر في الدنيا ومن النار في الآخرة ) ، والولاية ( لأن من عرف الله بوحدانيته فهو من أوليائه المؤمنين الذين لا يتولون غير الله ) والنِّسبة ( لما روي أنها نزلت لما قال المشركون : أنسُب لنا ربك ، كما سيأتي ) ، والمعرفة ( لأنها أحاطت بالصفات التي لا تتم معرفة الله إلا بمعرفتها ) والجَمال ( لأنها جمعت أصول صفات الله وهي أجمل الصفات وأكمَلها ، ولما روي أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قال : ( إن الله جميل يحب الجمال ) فسألوه عن ذلك فقال : أحد صمد لم يلد ولم يولد ) ، والمُقَشْقِشَة ( يقال : قشقش الدواءُ الجرب إذا أبرأه لأنها تقشقش من الشرك ، وقد تقدم آنفاً أنه اسم لسورة الكافرون أيضاً ) ، والمعوِّذة ( لقول النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) لعثمان بن مظعون وهو مريض فعوّذه بها وبالسورتين اللتين بعدها وقال له : ( تعوّذ بها ) . والصمد ( لأن هذا اللفظ خص بها ) ، والأساس ( لأنها أساس العقيدة الإسلامية ) والمانعة ( لما روي : أنها تمنع عذابَ القبر ولفحات النار ) والمَحْضَرْ ( لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قُرئت ) . والمنفِّرة ( لأن الشيطان ينفر عند قراءتها ) والبرّاءة ( لأنها تبرِّىءُ من الشرك ) ، والمُذَكِّرة ( لأنها تذكر خالص التوحيد الذي هو مودَع في الفطرة ) ، والنور ( لما روي : أن نور القرآن قل هو الله أحد ) ، والأمان ( لأن من اعتقد ما فيها أمن من العذاب ) .وبضميمة اسمها المشهور : ( قل هو الله أحد ( تبلغ أسماؤها اثنين وعشرين . وقال الفيروز آبادي في ( بصائر التمييز ) : إنها تسمى الشافية فتبلغ واحداً وعشرين اسماً .
وهي مكية في قول الجمهور ، وقال قتادة والضحاك والسدي وأبو العالية والقرظي : هي مدنية ونسب كلا القولين إلى ابن عباس .
ومنشأ هذا الخلاف الاختلاف في سبب نزولها فروى الترمذي عن أبيّ بن كعب ، وروَى عبيد العطار عن ابن مسعود ، وأبو يعلى عن جابر بن عبد الله : ( أن قريشاً قالوا للنبيء ( - صلى الله عليه وسلم - ) ( انْسُبْ لنا ربك ) فنزلت قل هو الله أحد إلى آخرها ) فتكون مكية .
وروى أبو صالح عن ابن عباس : ( أن عامر بن الطفيل وأرْبَد بن ربيعة ( أخا لبيد ) أتيا النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) فقال عامر : إِلاَمَ تدعونا ؟ قال : إلى الله ، قال : صفه لنا أمن ذهب هُو ، أم من فضة ، أم من حديد ، أم من خشب ؟ ( يحسب لجهله أن الإِلاه صنم كأصنامهم من معدن أو خشب أو حجارة ) فنزلت هذه السورة ، فتكون مدنية لأنهما ما أتياه إلا بعد الهجرة .(1/1175)
وقال الواحدي : ( إن أحبار اليهود ( منهم حُيَيْ بن أخطب وكعب بن الأشرف ) قالوا للنبيء ( - صلى الله عليه وسلم - ) صِف لنا ربّك لعلنا نؤمن بك ، فنزلت ) .
والصحيح أنها مكية فإنها جمعت أصل التوحيد وهو الأكثر فيما نزل من القرآن بمكة ، ولعل تأويل من قال : إنها نزلت حينما سأل عامر بن الطفيل وأربدُ ، أو حينما سأل أحبارُ اليهود ، أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قرأ عليهم هذه السورة ، فظنها الراوي من الأنصار نزلت ساعتئذ أو لم يضبط الرواة عنهم عبارتهم تمام الضبط .
قال في ( الإِتقان ) : وجمع بعضهم بين الروايتين بتكرر نزولها ثم ظهر لي ترجيح أنها مدنية كما بينته في ( أسباب النزول ) اه .
وعلى الأصح من أنها مكية عُدّت السورة الثانية والعشرين في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الناس وقبل سورة النجم .
وآياتها عند أهل العدد بالمدينة والكوفة والبصرة أربع ، وعند أهل مكة والشام خمس باعتبار ) لم يلد ( آية ) ولم يولد ( آية . " (1)
مناسبتها لما قبلها :
المناسبة بينها وبين ما قبلها واضحة ، فسورة الكافرين للتبرؤ من جميع أنواع الكفر والشرك ، وهذه السورة لإثبات التوحيد للَّه تعالى ، المتميز بصفات الكمال ، المقصود على الدوام ، المنزه عن الشريك والشبيه ، ولذا قرن بينهما في القراءة في صلوات كثيرة ، كركعتي الفجر والطواف ، والضحى ، وسنة المغرب ، وصلاة المسافر.
وقال الخطيب : " كانت عداوة أبى لهب وزوجه للنبىّ ، ممثلة فى عداوتهما لدعوة التوحيد التي كانت عنوان رسالة النبىّ ، صلوات اللّه وسلامه عليه ، وكلمته الأولى إلى قومه .. وقد ساقت هذه الكلمة أبا لهب وزوجه ، ومن تبعهما فى جحود هذه الكلمة ، والتنكر لها ـ ساقتهم إلى هذا البلاء الذي لقياه فى الدنيا ، وإلى هذا العذاب الأليم فى جهنم المرصودة لهما فى الآخرة ..
وسورة « الإخلاص » وما تحمل من إقرار بإخلاص وحدانية اللّه من كل شرك ـ هى مركب النجاة لمن أراد أن ينجو بنفسه من هذا البلاء ، وأن يخرج من تلك السفينة الغارقة التي ركبها أبو لهب وزوجه ، ومن اتخذ سبيله معهما من مشركى قريش ومشركاتها .. وها هوذ النبي الكريم ، يؤذّن فى القوم ، بسورة الإخلاص ، ومركب الخلاص. " (2)
مكية. وآياتها أربع آيات ، وهي سورة التوحيد والتنزيه للّه - سبحانه وتعالى - وهذا هو الأصل الأول والركن الركين للإسلام لذلك ورد أنها تعدل ثلث القرآن في ثواب قراءتها إذ
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 609)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1710)(1/1176)
الأصول العامة ثلاثة : التوحيد ، تقرير الحدود وأعمال الخلق ، وذكر أحوال يوم القيامة ، ولا حرج على فضل اللّه الذي يهب لمن يقرؤها بتدبر وتفهم مثل ما يهبه لقارئ ثلث القرآن. (1)
ما اشتملت عليه السورة :
سورة الإخلاص مكية ، وقد تحدثت عن صفات الله جل وعلا الواحد الأحد ، الجامع لصفات الكمال ، المقصود على الدوام ، الغني عن كل ما سواه ، المتنزه عن صفات النقص ، وعن المجانسة والمماثلة ، وردت على النصارى القائلين بالتثليث ، وعلى المشركين الوثنئين ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، الذين جعلوا لله الذرية والبنين. (2)
وفيها إثبات وحدانية الله تعالى .
وأنه لا يقصد في الحوائج غيره وتنزيهه عن سمات المحدثات .
وإبطال أن يكون له ابن .
وإبطال أن يكون المولود إلاهاً مثل عيسى عليه السلام .
والأحاديث في فضائلها كثيرة وقد صح أنها تعدل ثلث القرآن . وتأويل هذا الحديث مذكور في شرح ( الموطأ ) و ( الصحيحين ) . (3)
في السورة تقرير العقيدة الإسلامية بذات اللّه بأسلوب حاسم وقطعي ووجيز.
وأسلوبها عام التوجيه والتقرير. وهناك روايات تذكر أنها مدنية وأخرى تذكر أنها مكية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي مكيتها ، كما أنها مكية في التراتيب الكاملة المروية الأخرى. ومن أسمائها «الصمد» وبذلك يتم الاتساق في تسميتها مع أسلوب تسمية السورة بصورة عامة.
ولقد روى البخاري وأبو داود عن أبي سعيد : «أن رجلا سمع رجلا يقرأ قل هو اللّه أحد يردّدها فلما أصبح جاء إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له وكأنّ الرجل يتقالّها فقال رسول اللّه والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن» «2». وروى الشيخان والترمذي عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «أ يعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن. قالوا وكيف يقرأ في ليلة ثلث القرآن قال قل هو اللّه أحد تعدل ثلث القرآن» «3». وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
«احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن فحشد من حشد فخرج نبيّ اللّه فقرأ قل هو اللّه أحد ثم دخل فقال بعضنا لبعض إني أرى هذا خبرا جاءه من السماء فذاك الذي أدخله ثم خرج نبيّ اللّه
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 918)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 536)
(3) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 612)(1/1177)
فقال إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن ألا إنها تعدل ثلث القرآن» «4». وروى مسلم حديثا جاء فيه : «بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا على سريّة فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بقل هو اللّه أحد فلما رجعوا ذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال سلوه لأيّ شيء يصنع ذلك فسألوه فقال لأنها صفة الرحمن فأنا أحبّ أن أقرأ بها فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أخبروه أنّ اللّه يحبّه» «1».
وروى الترمذي عن أنس قال : «كان رجل من الأنصار يؤمّهم في مسجد قباء فكان كلّما أمّهم في الصلاة قرأ بقل هو اللّه أحد ثم يقرأ سورة أخرى معها وكان يصنع ذلك في كلّ ركعة فكلّمه أصحابه إمّا أن تقرأ بها وإمّا أن تدعها وتقرأ بسورة أخرى فقال ما أنا بتاركها ، إن أحببتم أن أؤمّكم بها فعلت وإن كرهتم تركت ، وكانوا يرونه أفضلهم فلما أتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبروه الخبر فقال يا فلان ما يمنعك مما يأمرك به أصحابك وما يحملك أن تقرأ هذه السورة في كل ركعة؟ فقال : يا رسول اللّه إني أحبّها. فقال : إن حبّها أدخلك الجنة» «2».
وروى الترمذي عن أبي هريرة قال : «أقبلت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمع رجلا يقرأ قل هو اللّه أحد اللّه الصمد فقال رسول اللّه وجبت قلت وما وجبت قال الجنة» «3».
وروى الترمذي عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «من قرأ كلّ يوم مائتي مرة قل هو اللّه أحد محي عنه ذنوب خمسين سنة إلّا أن يكون عليه دين» «4». وروى الإمام أحمد عن أنس بسند حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «من قرأ قل هو اللّه أحد عشر مرات بنى اللّه له بيتا في الجنة» «5». وروى النسائي عن معاذ بن عبد اللّه عن أبيه قال : «أصابنا عطش وظلمة فانتظرنا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ليصلّي بنا فخرج فقال قل قلت ما أقول قال قل هو اللّه أحد والمعوّذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثا يكفك كلّ شي ء» «6».
حيث ينطوي في الأحاديث تنويه بفضل هذه السورة وحثّ على قراءتها من حكمتها المتبادرة ما انطوت فيه من إعلان الإيمان بوحدة اللّه التامة المنزّهة عن كل شائبة. (1)
مقصودها بيان الحقيقة الذات الأقدس ببيان اختصاصه بالاتصاف بأقصى الكمال للدلالة على صحيح الإعتقاد للإخلاص في التوحيد بإثبات الكمال ، ونفي الشوائب النقص والاختلال ، المثمر لحسن الأقوال والأفعال ، وثبات اللجاء والاعتماد في جميع الأحوال ، وعلى ذلك دل اسمها الإخلاص الموجب للخلاص ، وكذا الأساس والمقشقشة ، قال في القاموس : المقشقشتان الكافرون والإخلاص أي المبرئتان من النفاق والشرك كما يقشقش الهناء الجرب ، الهناء : القطران ، وقال الإمام عبد الحق في كتابه الواعي : كما يبرئ المريض من علته إذا برئ منها - انتهى. وهو مأخوذ من القش بمعنى الجمع ، فسميتا بذلك لأنها تتبعنا النفاق بجميع أنواعه ،
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 68)(1/1178)
وكذا الشرك والكفر فجمعتاله ونفتاه بذلك لأنها تتبعنا النفاق بجميع أنواعه ، وكذا الشرك والكفر فجمعناه ونفتاه عن قارئهما حق القراءة ، وقد تقدم الكلام على هذا الاسم مبسوطا في براءة وكذا اسمها " قل هو الله أحد " دال على مقصوزدها بتأمل جميع السورة وما دعت إليه من معاني التبرئة اليسيرة الكثيرة ، وهذه السورة أعظم مفيد للتوحيد في القرآن ، قال الرازي : والتوحيد مقام يضيق عنه نطاق النطق لأنك إذا أخبرت عن الحق فهنالك مخبر عنه ومخبر به مجموعهما ، وذلك ثلاث ، فالعقل يعرفه ولكن النطق لا يصل إليه سئل الجنيد عن التوحيد فقال : معنى تضمحل فيه الرسوم وتتشوش فيه العلوم ويكون الله كما لم يزل وقال الجنيد أيضا : أشرف كلمة في التوحيد ما قاله الصديق رضي الله عنه : سبحانه من لم يجعل لخلقه سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته ) بسم الله ( الذي له جميع الكمال بالجلال والجمال ) الرحمن ( الذي أفاض منت طوله على جميع الموجودات عموم الأفضال ) الرحيم ( الذي خص أهل وداده من نور الإنعام بالإتمام والإكمال . (1)
فضلها :
وردت أحاديث كثيرة في فضل هذه السورة ، وأنها تعدل في ثواب قراءتها ثلث القرآن لأن كل ما جاء في القرآن بيان لما أجمل فيها ولأن الأصول العامة للشريعة ثلاثة : التوحيد ، وتقرير الحدود والأحكام ، وبيان الأعمال ، وقد تكفلت ببيان التوحيد والتقديس.
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ رَجُلاً سَمِعَ رَجُلاً يَقْرَأُ ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ » . (2)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : أَنَّ رَجُلاً سَمِعَ رَجُلاً يَقْرَأُ : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص : ] يُرَدِّدُهَا ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، فَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ. (3)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ رَجُلاً ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي أُحِبُّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ. (4)
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 575)
(2) - صحيح البخارى(5013 )
(3) - صحيح ابن حبان - (3 / 71) (791) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (3 / 72) (792) حسن(1/1179)
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ رضى الله عنه قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ « أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِى لَيْلَةٍ » . فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ « اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ » (1)
وعَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ ، فَكَانَ يَقْرَأُ لأَصْحَابِهِ فِي صَلاَتِهِمْ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : سَلُوهُ لأَيِّ شَيْءٍ صَنَعَ هَذَا ؟ فَسَأَلُوهُ ، فَقَالَ : أَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ. (2)
وعَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ رَجُلاً كَانَ يَلْزَمُ قِرَاءَةَ : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص : ] فِي الصَّلاَةِ مَعَ كُلِّ سُورَةٍ ، وَهُوَ يَؤُمُّ بِأَصْحَابِهِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ ، فَقَالَ : إِنِّي أُحِبُّهَا ، قَالَ : حُبُّهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ. (3)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي زَمَنِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ يُرَدِّدُهَا لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فُلَانٌ قَامَ اللَّيْلَةَ يَقْرَأُ مِنَ السَّحَرِ { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [الإخلاص: 2] يُرَدِّدُهَا لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا، كَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ " (4)
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " أمَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ كُلَّ لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، نَحْنُ أَعْجَزُ وَأَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَزَّأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَجَعَلَ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ جُزْءًا مِنَ الْقُرْآنِ " (5)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " احْتَشِدُوا فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، فَقَرَأَ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ حَتَّى خَتَمَهَا " (6)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " احْشُدُوا فَإِنِّي أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثلث القرآن، فَحَشَدُوا فَخَرَجَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ثُمَّ دَخَلَ " فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: إِنَّا لنَرَى هَذَا خَبَرًا
__________
(1) - صحيح البخارى(5015)
(2) - صحيح ابن حبان - (3 / 73) (793) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (3 / 74) (794) حسن
(4) - شعب الإيمان - (4 / 139) (2302 ) صحيح
(5) - شعب الإيمان - (4 / 141) (2304 ) صحيح
(6) - شعب الإيمان - (4 / 142) (2305) صحيح(1/1180)
جَاءَهُ مِنَ السَّمَاءِ فَذَلِكَ الَّذِي أَدْخَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللهِ فَقَالَ: " إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ أَلَا وَإِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ " (1)
وعَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ مَوْلَى آلِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَقُولُ: أَقْبَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ: { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [الإخلاص: 2] فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " وَجَبَتْ " فَسَأَلْتُهُ مَاذَا يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: " الْجَنَّةُ " قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَذْهَبَ إِلَى الرَّجُلِ فَأُبَشِّرَهُ، ثُمَّ فَرِقْتُ أَنْ يَفُوتَنِي الْغَدَاءُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَآثَرْتُ الْغَدَاءَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى الرَّجُلِ فَوَجَدْتُهُ قَدْ ذَهَبَ " (2)
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ، فَكَانَ يَخْتِمُ بِ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ هَذَا ؟ " فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ " (3)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَؤُمُّهُمْ بِقُبَاءَ فَكَانَ إِذَا افْتَتَحَ سُورَةً قَرَأَ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ثُمَّ يَقْرَأُ بِالسُّورَةِ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ كُلِّهَا، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا أَنَا بِتَارِكِهَا إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ وَإِلَّا فَلَا، وَكَانَ مِنْ أَفْضَلِهِمْ، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " يَا فُلَانُ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ ؟ ومَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ ؟ " فَقَالَ: حُبُّهَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " حُبُّهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ " (4)
وعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِرَجُلٍ: " لِمَ تَلْزَمُ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ؟ " قَالَ الرَّجُلُ: أُحِبُّهَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ حُبَّهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ " (5)
وعَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ مِائَتَيْ مَرَّةٍ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُ مِائَتَيْ سَنَةٍ " (6)
وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ؟ " فَلَمَّا أَنْ رَأَى أَنَّهُ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ، قَالَ: " يَقْرَأُ اللهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ فَإِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ
__________
(1) - شعب الإيمان - (4 / 142) (2306 ) صحيح
(2) - شعب الإيمان - (4 / 143) (2307 ) صحيح
(3) - شعب الإيمان - (4 / 144) (2308 ) صحيح
(4) - شعب الإيمان - (4 / 145) (2309 ) صحيح
(5) - شعب الإيمان - (4 / 146) (2310 ) صحيح
(6) - شعب الإيمان - (4 / 147) (2311 ) ضعيف(1/1181)
كَانَ لَهُ عِدْلُ نَسَمَةٍ، وَمَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ وَرِقٍ أَوْ مَنِيحَةَ لَبَنٍ أَوْ هدى زقَاقًا كَانَ لَهُ كَعِدْلِ نَسَمَةٍ " قَالَ زَائِدَةُ: قَالَ مَنْصُورٌ: كُلُّ وَاحِدٍ خَيْرٌ مِنْ نَسَمَةٍ (1)
وعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ مِائَتَيْ مَرَّةٍ غُفِرَ لَهُ - يَعْنِي ذُنُوبَ مِائَتَيْ سَنَةٍ - " (2)
وعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ قَرَأَ فِي يَوْمٍ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ مِائَتَيْ مَرَّةٍ كُتِبَ لَهُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ حَسَنَةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ " وفي رواية وَقَالَ فِيهِ: " وَمَحَى عَنْهُ ذُنُوبَ خَمْسِينَ سَنَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ " ولَمْ يَذْكُرِ الْعَدَدَ الَّذِي يُكْتَبُ لَهُ " (3)
وقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ مِنَ اللَّيْلِ فَنَامَ عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ مِائَةَ مَرَّةٍ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَقُولُ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلُّ: يَا عَبْدِي ادْخُلِ الْجَنَّةَ عَلَى يَمِينِكَ " (4)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ عَلَى طَهَارَةٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَطُهْرِهِ لِلصَّلَاةِ يَبْدَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمَحَا عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَرَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ، وَبَنَى لَهُ مِائَةَ قَصْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَرَفَعَ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ مِثْلَ عَمَلِ بَنِي آدَمَ، وَكَأَنَّمَا قَرَأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَاً وَثَلَاثِينَ مَرَّةً، وَهِيَ بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ، وَمَحْضَرةُ الْمَلَائِكَةِ، وَمُنَفِّرَةٌ لِلشَّيْطَانِ وَلَهَا دَوِيٌّ حَوْلَ الْعَرْشِ بِذِكْرِ صَاحِبِهَا حَتَّى يَنْظُرَ اللهُ إِلَيْهِ، فَإِذَا نَظَرَ اللهُ إِلَيْهِ لَمْ يُعَذِّبْهُ أَبَدًا "
وفي رواية عَنْ أَنَسٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ مِائَتَيْ مَرَّةٍ غُفِرَ لَهُ خَطِيئَةُ خَمْسِينَ سَنَةً إِذَا اجْتَنَبَ أَرْبَعَ خِصَالٍ الدِّمَاءَ، وَالْأَمْوَالَ، وَالْفُرُوجَ، وَالْأَشْرِبَةَ " " تَفَرَّدَ بِهِ الْخَلِيلُ بْنُ مُرَّةَ وَهُوَ مِنَ الضُّعَفَاءِ الَّذِينَ يُكْتَبُ حَدِيثُهُمْ " (5)
وعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالُوا: " يَا رَسُولَ اللهِ انْسِبْ لَنَا رَبَّكَ فَنَزَلَ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ إِلَى آخِرِهَا " (6)
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ غَازِيًا بِتَبُوكَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَلْ لَكَ فِي جِنَازَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْمُزَنِيِّ ؟ قَالَ: " نَعَمْ " قَالَ جِبْرِيلُ: بِيَدِهِ هَكَذَا فَفَرَجَ لَهُ عَنِ الْجِبَالِ وَالْآكَامِ فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْشِي وَمَعَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعَ جِبْرِيلَ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ حَتَّى صَلَّى عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا جِبْرِيلُ بِمَ بَلَغَ
__________
(1) - شعب الإيمان - (4 / 148) (2313 ) فيه جهالة
(2) - شعب الإيمان - (4 / 149) (2315 ) ضعيف
(3) - شعب الإيمان - (4 / 150) (2316 ) ضعيف
(4) - شعب الإيمان - (4 / 151) (2317 ) ضعيف
(5) - شعب الإيمان - (4 / 151) (2318 ) ضعيف
(6) - شعب الإيمان - (4 / 152) (2319) حسن(1/1182)
مُعَاوِيَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ هَذَا ؟ " قَالَ: بِكَثْرَةِ قِرَاءَتِهِ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ كَانَ يَقْرَؤُهَا قَائِمًا وَقَاعِدًا وَرَاقِدًا وَمَاشِيًا وَرَاكِبًا فَبِهَذَا بَلَغَ مَا بَلَغَ " (1)
وقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْعَلَاءُ الثَّقَفِيُّ : سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - غَزْوَةِ تَبُوكَ فَطَلَعَتِ الشَّمْسُ ذَاتَ يَوْمٍ وَنَحْنُ بِتَبُوكَ بِنُورٍ وَشُعَاعٍ وَضِيَاءٍ لَمْ نَرَهَا قَبْلَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَعَجَّبُ مِنْ ضِيَائِهَا وَنُورِهَا إِذْ أتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْوَحْيِ قَالَ: فَقَالَ لِجِبْرِيلَ: " مَا لِلشَّمْسِ طَلَعَتْ ولَهَا ضِيَاءٌ وَنُورٌ وَشُعَاعٌ لَمْ أَرَهَا طَلَعَتْ فِيمَا مَضَى ؟ " قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَاتَ الْيَوْمَ مُعَاوِيَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ اللَّيْثِيُّ، فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " بِمَ ذَاكَ يَا جِبْرِيلُ ؟ " قَالَ: كَانَ يُكْثِرُ تِلَاوَةَ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمَاشِيًا وَآنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَهَلْ لَكَ يَا نَبِيَّ اللهِ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ ثُمَّ تَرْجِعَ فَأَقْبِضَ لَكَ الْأَرْضَ ؟ فَفَعَلَ فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ رَجَعَ (2)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: " رَمَقْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عِشْرِينَ لَيْلَةً أَوْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَوْ شَهْرًا فَلَمْ أَسْمَعْهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ إِلَّا بِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ " (3)
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " نِعْمَ السُّورَتَانِ هُمَا تُقْرَآنِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ " (4)
وعَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ يَرْفَعُهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقَرَأَ فِيهِمَا قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ثَلَاثِينَ مَرَّةً بُنِيَ لَهُ أَلْفُ قَصْرٍ مِنَ الذَّهَبِ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَرَأَهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ بُنِيَ لَهُ مِائَةُ قَصْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَرَأَهَا إِذَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ أَصَابَ أَهْلَهُ وَجِيرَانَهُ مِنْهَا خَيْرٌ " (5)
سبب النزول :
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، أَنَّ المُشْرِكِينَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ فَالصَّمَدُ : الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُولَدُ إِلَّا سَيَمُوتُ ، وَلَيْسَ
__________
(1) - شعب الإيمان - (4 / 153) (2320 ) هَذَا مُرْسَلٌ وَقَدْ رُوِّينَاهُ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَفِي الْجَنَائِزِ مِنَ السُّنَنِ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ مَوْصُولَيْنِ، وَهَذَا الْمُرْسَلُ شَاهِدٌ لَهُمَا وَقَوْلُهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ يُرِيدُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
(2) - شعب الإيمان - (4 / 154) (2321) ضعيف
(3) - شعب الإيمان - (4 / 154) (2322 ) حسن
(4) - شعب الإيمان - (4 / 155) (2323 ) صحيح
(5) - شعب الإيمان (2324 ) ضعيف(1/1183)
شَيْءٌ يَمُوتُ إِلَّا سَيُورَثُ ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَمُوتُ وَلَا يُورَثُ : وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ قَالَ : " " لَمْ يَكُنْ لَهُ شَبِيهٌ وَلَا عِدْلٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " (1)
وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، " أَنَّ الْمُشْرِكِينَ ، قَالُوا : يَا مُحَمَّدُ ، انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ قال : الصمد : الذي لم يلد ، وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُولَدُ إِلَّا سَيَمُوتُ ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يَمُوتُ إِلَّا سَيُورَثُ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمُوتُ وَلَا يُورَثُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ قَالَ : لَمْ يَكُنْ لَهُ شَبِيهٌ ، وَلَا عَدْلٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " (2)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : " انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ " عَزَّ وَجَلَّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ إِلَى آخِرِهَا " (3)
وعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: "ذُكِرَ لَنَا هَذِهِ الآيَةُ، نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، وَحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، رَجُلَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، لَقِيَا قُرَيْشاً بِالْمَوْسِمِ، فَقَالَ لَهُمُ الْمُشْرِكُونَ: نَحْنُ أَهْدَى أَمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابَهُ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: " أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً " ". (4)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ الْيَهُودَ ، جَاءَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ ، فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ ، صِفْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي بَعَثَكَ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ فَيَخْرُجُ مِنْهُ وَلَمْ يُولَدْ فَيَخْرُجُ مِنْ شَيْءٍ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ وَلَا شَبَهٌ . فَقَالَ : " هَذِهِ صِفَةُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَتَقَدَّسَ عُلُوًّا كَبِيرًا " (5)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - سنن الترمذى (3690) حسن
(2) - الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (3946 ) صحيح
(3) - السَّنَّةُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ (1076 ) حسن
(4) - تفسير ابن أبي حاتم - (4 / 201) (5497) صحيح مرسل
(5) - الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ لِلْبَيْهَقِيِّ (596 ) حسن(1/1184)
سورة التوحيد والتنزيه للَّه عز وجل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ... قل ياأيها النبي لمن سألك عن ربك أن الله أحد
1 ... أَحَدٌ ... هو الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا شبيه ولا ند له
2 ... الصَّمَدُ ... السيد الذي تتجه إليه الخلائق في حوائجهم على الدوام والذي لا يأكل ولا يشرب الغني بنفسه والباقي بعد خلقه .
3 ... لَمْ يَلِدْ ... أي ليس له ولد
3 ... وَلَمْ يُولَدْ ... ليس له والد وليس له صاحبة ولا أم
4 ... وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا ... أي ليس له مثيل ولا شبيه ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير . المعنى الإجمالي:
هذا هو الأساس الأول ، والمهمة الأولى التي جاء إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - فشمر عن ساعد الجد ، وأخذ يدعو الناس إلى التوحيد ، وعبادة اللّه الواحد لهذا أمر في هذه السورة بأن يقول للناس : هو اللّه أحد.
قل لهم يا محمد : الخبر الحق المؤيد بالصدق ، والبرهان القاطع هو اللّه أحد ، فاللّه واحد في ذاته ليس مركبا ولا متعددا ، واحد في صفاته فليس لغيره صفة تماثله ، وواحد في أفعاله فليس لغيره فعل يدانى فعله أو يشبهه.
ولعل تصدير الكلام بضمير الشأن - هو - للتنبيه من أول الأمر على فخامة الكلام الآتي ، ولبيان أنه من الخطورة والروعة ما يجعلك تبحث عنه وتلتفت إليه. وذلك أن الضمير يدعوك إلى ترقب ما بعده ، فإذا جاء تفسيره وتوضيحه تمكن في النفس أى تمكن ، ولعلك تسأل : أما كان الأولى أن يقال : اللّه الأحد بدل أحد ؟ والجواب على ذلك : أن المقصود إثبات أن اللّه - جل جلاله - واحد ليس متعددا في ذاته ، ولو قيل اللّه الأحد لأفادت العبارة أنهم يعتقدون الوحدانية ويشكون في ثبوتها للّه. مع أن المقصود نفى العدد لأنهم كانوا يعتقدونه ولهذا قال : اللّه أحد اللّه الصمد ، أى : ليس فوقه أحد ولا يحتاج إلى أحد ، بل هو وحده الذي يحتاج إليه كل ما عداه ، إليه وحده يلجأ الخلق في الشدائد والأزمات جل جلاله وتباركت آلاؤه.
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وهذا تنزيه للّه عن أن يكون له ولد أو بنت أو والد أو أم ، أما كونه لا ولد له فهذا رد على المشركين الذين يقولون : الملائكة بنات اللّه ، وعلى النصارى واليهود الذين(1/1185)
يقولون : العزير والمسيح أبناء اللّه ، ولم يكن اللّه مولودا كما قالت النصارى : المسيح ابن اللّه ثم عبدوه كأبيه ، أما استحالة أن يكون له ولد فإن الولد يقتضى انفصال جزء من أبيه وهذا بلا شك يقتضى التعدد والحدوث ومشابهة المخلوقات ، على أنه غير محتاج إلى الولد فهو الذي خلق الكون وهو الذي فطر السموات والأرض وهو الذي يرثهما.
أما استحالة كونه مولودا فهي من البديهيات الظاهرة لاحتياج الولد إلى والد ووالدة ، وإلى ثدي ومرضعة ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ نعم ما دام واحدا في ذاته ليس متعددا ، وليس والدا لأحد ولا مولودا لأحد ، فليس يشبه أحدا من خلقه ، وليس له مثيل أو نظير أو ند أو شريك سبحانه وتعالى عما يشركون.
وهذه السورة مع وجازتها ردت على مشركي العرب وعلى النصارى واليهود كما مر وأبطلت مذهب المانوية القائلين بالنور والظلمة ، وعلى النصارى القائلين بالتثليث ، وأبطلت مذهب الصابئة الذين يعبدون النجوم والأفلاك ، وردت على مشركي العرب الذين زعموا أن غيره يقصد عند الحوائج ، وأن له شريكا تعالى اللّه عن ذلك كله.
وتسمى هذه السورة سورة الإخلاص ، لأنها تضمنت إثبات وحدانية اللّه ، وأنه لا شريك له ، وأنه هو المقصود وحده في قضاء الحوائج ، وأنه لم يلد ولم يولد ، وأنه لا مثيل له ولا نظير ، وهذا يقتضى الإخلاص في عبادة اللّه وحده ، أو الاتجاه إليه وحده. (1)
التفسير والبيان :
قُلْ : هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ أي قل أيها الرسول لمن سألك عن صفة ربك ونسبته : هو اللَّه أحد ، أي واحد في ذاته وصفاته ، لا شريك له ، ولا نظير ولا عديل. وهذا وصف بالوحدانية ونفي الشركاء. والمعنى : هو اللَّه الذي تعرفونه وتقرّون بأنه خالق السموات والأرض وخالقكم ، وهو واحد متوحد بالألوهية ، لا يشارك فيها. وهذا نفي لتعدد الذات.
اللَّهُ الصَّمَدُ أي الذي يصمد إليه في الحاجات ، أي يقصد ، فهو المقصود في جميع الحاجات لأنه القادر على تحقيقها ، والمعنى : هو اللَّه الذي يقصد إليه كل مخلوق ، لا يستغني عنه أحد ، وهو الغني عنهم. وهذا إبطال لاعتقاد مشركي العرب وأمثالهم بوجود الوسائط والشفعاء.
قال ابن عباس في تفسير الصمد : يعني الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم ، وهو السيد الذي قد كمل في سؤدده ، والشريف الذي قد كمل في شرفه ، والعظيم الذي قد كمل في عظمته ، والحليم الذي قد كمل في حلمه ، والعليم الذي قد كمل في علمه ، والحكيم الذي قد
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 918)(1/1186)
كمل في حكمته ، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد ، وهو اللَّه سبحانه ، هذه صفته ، لا تنبغي إلا له ، ليس له كفء ، وليس كمثله شيء ، سبحان اللَّه الواحد القهار.
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ أي لم يصدر عنه ولد ، ولم يصدر هو عن شيء لأنه لا يجانسه شيء ، ولأنه قديم غير محدث ، لا أول لوجوده ، وليس بجسم وهذا نفي للشبه والمجانسة ، ووصف بالقدم والأولية ، ونفي الحدوث.
وفي الجملة الأولى نفي لوجود الولد للَّه ، ورد على المشركين الذين زعموا أن الملائكة بنات اللَّه ، وعلى اليهود القائلين : عزير ابن اللَّه ، وعلى النصارى الذين قالوا : المسيح ابن اللَّه ، وفي الجملة الثانية نفي لوجود الوالد ، وسبق العدم.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أي ليس للَّه أحد يساويه ، ولا يماثله ، ولا يشاركه في شي ء. وهذا نفي لوجود الصاحبة ، وإبطال لما يعتقد به المشركون العرب من أن للَّه ندّا في أفعاله ، حيث جعلوا الملائكة شركاء للَّه ، والأصنام والأوثان أندادا للَّه تعالى.
وللسورة نظائر في آيات أخرى ، مثل قوله تعالى : بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ ،وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الأنعام 6/ 101] أي هو مالك كل شيء وخالقه ، فكيف له من خلقه نظير ؟ ، وقوله : وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مريم 19/ 92- 95] وقوله : وَقالُوا : اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ، سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء 21/ 26- 27].
جاء في صحيح البخاري عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ ، يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ » (1) . .
وروى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « قَالَ اللَّهُ كَذَّبَنِى ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَشَتَمَنِى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّاىَ فَزَعَمَ أَنِّى لاَ أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّاىَ فَقَوْلُهُ لِى وَلَدٌ ، فَسُبْحَانِى أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا » . (2) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « قَالَ اللَّهُ كَذَّبَنِى ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَشَتَمَنِى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّاىَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِى كَمَا بَدَأَنِى ، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَىَّ مِنْ إِعَادَتِهِ ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّاىَ فَقَوْلُهُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ، وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِى كُفْأً أَحَدٌ » . (3)
__________
(1) - صحيح البخارى (7378 )
(2) - صحيح البخارى (4482 )
(3) - صحيح البخارى(4974)(1/1187)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي ، وَيَشْتُمُنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتُمَنِي ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ : لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي ، أَوَ لَيْسَ أَوَّلُ خَلْقٍ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ : اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا. وَأَنَا اللَّهُ الأَحَدُ الصَّمَدُ ، لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ. (1)
ومضات :
قال الإمام : ونكّر الخبر لأن المقصود أن يخبر عن الله بأنه واحد ، لا بأنه لا واحد سواه . فإن الوحدة تكون لكل واحد ، تقول : لا أحد في الدار ، بمعنى لا واحد من الناس فيها . والذي كان يزعمه المخاطبون هو التعدد في ذاته ، فأراد نفي ذلك بأنه أحد . وهو تقرير لخلاف ما يعتقد به أهل الأصلين من المجوس ، وما يعتقده القائلون بالثلاثة ، منهم ومن غيرهم . وسيأتي لابن تيمية كلام آخر في سر إيثاره بالتنكير .
{ اللَّهُ الصَّمَدُ } أي : الذي يُصمَد إليه في الحوائج ، ويُقصد إليه في الرغائب . إذ ينتهي إليه منتهى السؤدد ، قاله الغزاليّ في " المقصد الأسنى " . وهكذا قال ابن جرير : الصمد عند العرب هو السيد الذي يصمد إليه ، الذي لا أحد فوقه ، وكذلك تسمى أشرافها . ومنه قول الشاعر :
~ألا بَكََرَ النَّاعي بخَيْرَيْ أَسَدْ بعَمْرِو بن مسعودٍ وبالسَّيِّدِ الصَّمَدْ
قال الشهاب : فهو فَعَل بمعنى مفعول ، وصمد بمعنى قصد . فيتعدى بنفسه وباللام وإلى .
وقال ابن تيمية رحمه الله : وفي الصمد للسلف أقوال متعددة ، قد يظن أنها مختلفة وليست كذلك ، بل كلها صواب والمشهور منها قولان :
أحدهما : أن الصمد هو الذي لا جوف له .
والثاني : أنه السيد الذي يُصمد إليه في الحوائج .
والأول هو قول أكثر السلف من الصحابة والتابعين وطائفة من أهل اللغة .
والثاني قول طائفة من السلف والخلف وجمهور اللغويين .
ثم توسع رحمه الله في مأخذ ذلك واشتقاقه والمأثور فيه ، إلى أن قال :وإنما أدخل اللام في { الصَّمَدُ } ولم يدخلها في { أَحَدٌ } لأنه ليس في الموجودات ما يسمى أحداً في الإثبات مفرداً غير مضاف ، ولم يوصف به شيء من الأعيان إلا الله وحده . وإنما يستعمل في غير الله في النفي وفي الإضافة وفي العدد المطلق ، وأما اسم الصمد فقد استعمله أهل اللغة في حق المخلوقين ،
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 500) (267) صحيح(1/1188)
كما تقدم ، فلم يقل : صمد ، بل قال : { اللَّهُ الصَّمَدُ } فبين أنه المستحق لأن يكون هو الصمد دون ما سواه ؛ فإنه المستوجب لغايته
على الكمال ، والمخلوق وإن كان صمداً من بعض الوجوه ، فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه ، فإنه يقبل التفرق والتجزئة ، وهو أيضاً محتاج إلى غيره ، فإن كل ما سوى الله محتاج إليه من كل وجه ، فليس أحد يصمد إليه كلُّ شيء ولا يصمد هو على شيء إلا الله ، وليس في المخلوقات إلا ما يقبل أن يتجزأ ويتفرق وينقسم وينفصل بعضه من بعض ، والله سبحانه هو الصمد الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك ، بل حقيقة الصمدية وكمالها له وحده واجبة لازمة ، لا يمكن عدم صمديته بوجه من الوجوه ، كما لا يمكن تثنية أحديته بوجه من الوجوه . وقال أبو السعود : وتكرير الاسم الجليل للإشعار بأن من لم يتصف بذلك فهو بمعزل من استحقاق الألوهية . وتعرية الجملة على العاطف لأنها كالنتيجة للأولى ، بيَّن أولاً ألوهيته عزَّ وجلّ المستتبعة لكافة نعوت الكمال ، ثم أحديته الموجبة تنزهه عن شائبة التعدد والتركيب بوجه من الوجوه ، وتوهم المشاركة في الحقيقة وخواصها ، ثم صمديته المقتضية لاستغنائه الذاتيّ عما سواه ، وافتقار جميع المخلوقات إليه في وجودها وبقائها وسائر أحوالها ؛ تحقيقاً للحق وإرشاداً لهم إلى سننه الواضح ، ثم صرح ببعض ما يندرج فيما تقدم ، بقوله سبحانه : { لَمْ يَلِدْ } نصيباً على إبطال زعم المفترين في حق الملائكة والمسيح ؛ ولذلك ورد النفي على صيغة الماضي ، أي : لم يصدر عنه ولد ؛ لأنه لا يجانسه شيء ليمكن أن يكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا ، كما نطق به قوله تعالى :{ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ } [ الأنعام : 101 ] ، ولا يفتقر إلى ما يعينه أو يخلفه ؛ لاستحالة الحاجة والفناء عليه سبحانه . انتهى .
وقال ابن تيمية : وقد شمل ما أخبر به سبحانه من تنزيهه وتقديسه عما أضافوه إليه من الولادة كلَّ أفرادها ، سواء سموها حسية أو عقلية ، كما تزعمه الفلاسفة الصابئون من تولد العقول العشرة والنفوس الفلكية التسعة التي هم مضطربون فيها ، هل هي جواهر أو أعراض ؟ وقد يجعلون العقول بمنزلة الذكور والنفوسَ بمنزلة الإناث ، ويجعلون ذلك آباءهم وأمهاتهم وآلهتهم وأربابهم القريبة ، وذلك شبيه بقول مشركي العرب وغيرهم ، الذين جعلوا له بنين وبنات ، قال تعالى : { وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاءٍَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } [ الأنعام : 100 ] ، وقال تعالى : { أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الصافات : 151 - 152 ] ، وكانوا يقولون : الملائكة بنات الله . كما يزعم هؤلاء أن النفوس هي الملائكة ، وهي متولدة عن الله ، فقال تعالى : { وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } [ النحل : 57 ] ، والآيات في هذا كثيرة .
وقوله :(1/1189)
{ وَلَمْ يُولَدْ } نفي لإحاطة النسب من جميع الجهات ، فهو الأول الذي لم يتقدمه والد كان منه ، وهو الآخر الذي لم يتأخر عنه ولد يكون عنه . قال الإمام : قوله { وَلَمْ يُولَدْ } يصرح ببطلان ما يزعمه بعض أرباب الأديان من أن ابناً لله يكون إلهاً ، ويُعبد عبادة الإله ، ويُقصد فيه الإله ، بل لا يَستحي الغالون منهم أن يعبِّروا عن والدته بأم الإله القادرة ؛ فإن المولود حادث ولا يكون إلا بمزاج ، وهو لا يسلم من عاقبة الفناء ، ودعوى أنه أزلي مع أبيه ، مما لا يمكن تعقلهُ ؛ فهو سبحانه منزَّه عن ذلك .
{ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } أي : ولم يكن أحد يكافئه أي : يماثله من صاحبة أو غيرها . وقال الإمام : الكفؤ معناه المكافئ والمماثل في العمل والقدرة . وهو نفي لما يعتقده بعض الوثنيين في الشيطان مثلاً . فقد نفى بهذه السورة جميع أنواع الشرك ، وقرَّر جميع أصول التوحيد والتنزيه . وقال ابن جرير : الكفؤ والكفئ والكفاء في كلام العرب واحد ، وهو المثل والشبه .
وقرئ : { كُفُواً } بضم الكاف والفاء وقلب الهمزة واواً . وقرئ بتسكين الفاء وهمزها ، وهما قراءتان معروفتان ، ولغتان مشهورتان . و { لَّهُ } صلة لـ : { كُفُواً } قدمت عليه ، مع أن حقها التأخر عنه ؛ للاهتمام بها ، لأن المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى . وأما تأخير اسم كان فلمراعاة الفواصل .
فوائد من هذه السورة :
الأولى : قال الشهاب : فإن قلت المأمور : { قُلُ } من شأنه إذا امتثل أن يتلفظ بالمقول وحده ، فلِم كانت { قُلْ } من المتلوّ فيه وفي نظائره في القراءة ؟ قلت : المأمور به سواء كان معيناً أم لا ، مأمور بالإقرار بالمقول ، فأثبت القول ليدل على إيجاب مقوله ولزوم الإقرار به على مرّ الدهور .
الثانية : قال الإمام ابن تيمية : احتج بقوله تعالى :
{ اللَّهُ الصَّمَدُ } من أهل الكلام المحدث من يقول : الرب- تعالى- جسم . كبعض الذين وافقوا هشام بن الحكم ومحمد بن كرام وغيرهما ، قالوا : هو صمد ، والصمد الذي لا جوف له . وهذا إنما يكون في الأجسام المصمتة ، فإنها لا جوف لها ، كما في الجبال والصخور وما يصنع من عواميد الحجارة ؛ ولهذا قيل في تفسيره : إنه الذي لا يخرج منه شيء ولا يدخل فيه شيء ولا يأكل ولا يشرب . ونفي هذا لا يعقل إلا عما هو جسم .
وقالوا : أصل الصمد : الاجتماع ، ومنه تصميد المال . وهذا إنما يعقل في الجسم المجتمع . وأما النفاة فقالوا : الصمد الذي لا يجوز عليه التفرق والانقسام ، وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والانقسام .(1/1190)
وقالوا أيضاً : الأحد الذي لا يقبل التجزؤ والانقسام . وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والتجزؤ والانقسام . وقالوا : إذا قلتم : هو جسم كان مركباً مؤلفاً من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة . وما كان مركباً مؤلفاً من غيره كان مفتقراً إليه ، وهو سبحانه صمد ، والصمد الغني عمن سواه ، فالمركب لا يكون صمداً . انتهى .
وقال الرازي : قد استدل القوم من جهَّال المشبهة بهذه الآية في أنه تعالى جسم ، وهذا باطل لأنا بينا أن كونه أحداً ينافي كونه جسماً . فمقدمة هذه الآية دالة على أنه لا يمكن أن يكون المراد من الصمد هذا المعنى ، ولأن الصمد بهذا التفسير صفة الأجسام المتضاغظة ، وتعالى الله عن ذلك . فإذن يجب أن يحمل ذلك على مجازه ؛ وذلك لأن الجسم الذي يكون كذلك ، يكون عديم الانفعال والتأثر عن الغير ، وذلك إشارة إلى كونه سبحانه واجباً لذاته ممتنع التغير في وجوده وبقائه وجميع صفاته . انتهى .
وأقول : التصحيح في تأويل الصمد ما ذكرناه أولاً ، وهو ما حكاه ابن جرير وغيره عن العرب في معناه . وإذا تحقق هذا ، فلا يعول على هذا الثاني ولا لوازمه .
الثالثة : قال ابن تيمية : كما يجب تنزيه الرب عن كل نقص وعيب ، يجب أن تنزيهه عن أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفات الكمال الثابتة له ، وهذان النوعان يجمعان التنزيه الواجب لله ، وهذه السورة دلت على النوعين ، فقوله :{ أَحَدٌ } من قوله :{ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } ينفي المماثلة والمشاركة . وقوله : صمد يتضمن جميع صفات الكمال ، فالنقائص جنسُها منفيٌّ عن الله تعالى ، وكل ما اختص به المخلوق فهو من النقائص التي يجب تنزيه الرب عنها . بخلاف ما يوصف به الرب ، ويوصف العبد بما يليق به مثل العلم والقدرة والرحمة ونحو ذلك ، فإن هذه ليست نقائص بل ما ثبت لله من هذه المعاني ، فإنه يثبت لله على وجه لا يقاربه فيه أحد من المخلوقات ، فضلاً عن أن يماثله فيه ، بل ما خلقه الله في الجنة من المآكل والمشارب والملابس لا يماثل ما خلقه في الدنيا وإن اتفقا في الاسم ، فكلاهما مخلوق . فالخالق تعالى أبعد في مماثلة المخلوقات من المخلوقات إلى المخلوق . وقد سمَّى الله نفسَه عليماً حليماً رؤوفاً رحيماً سميعاً بصيراً عزيزاً ملِكاً جباراً متكبراً ، وسمَّى أيضا بعض مخلوقاته بهذه الأسماء ، مع العلم أنه ليس المسمى بهذه الأسماء من المخلوقين مماثلاً للخالق جلَّ جلاله في شيء من الأشياء .
الرابعة : قدمنا ما ورد في الحديث من أن < سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن > .
وقد ذكروا في ذلك وجوها ، منها ما قاله أبو العباس بن سريج : أن القرآن أنزل على ثلاثة أقسام : ثلث منها للأحكام ، وثلث منها وعد ووعيد ، وثلث منها الأسماء والصفات . وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات . وقال الغزالي في " جواهر القرآن" : مهمات القرآن هي(1/1191)
معرفة الله ومعرفة الآخرة ومعرفة الصراط المستقيم ، فهذه المعارف الثلاثة هي المهمة ، والباقي توابع . وسورة الإخلاص تشتمل على واحدة من الثلاث ، وهي معرفة الله ، وتقديسه وتوحيده عن مشارك في الجنس والنوع . وهو المراد بنفي الأصل والفرع والكفؤ . قال : والوصف بالصمد يشعِر بأنه السيد الذي لا يقصد في الوجود للحوائج سواه . نعم ، ليس فيها حديث الآخرة والصراط المستقيم ، فلذلك تعدل ثلث القرآن ، أي : ثلث الأصول من القرآن كما قال : < الحج عرفة > أي : هو الأصل والباقي تبعٌ .
وقال ابن القيم في " زاد المعاد " : < كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في سنة الفجر والوتر بسورتي الإخلاص والكافرون > وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل ، وتوحيد المعرفة والإرادة ، وتوحيد الاعتقاد والقصد ؛ فسورة الإخلاص متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة ، وما يجب إثباته للرب تعالى من الأحدية المنافية لمطلق الشرِكة بوجه من الوجوه . والصمدية المثبتة له جميعَ صفات الكمال الذي لا يلحقه نقصٌ بوجه من الوجوه ، ونفي الولد والوالد الذي هو من لازم الصمدية وغناه وأحديته ، ونفي الكفؤ المتضمن لنفي الشبيه والمثيل والنظير ، فتضمنت هذه السورة إثبات كلَّ كمال له ، ونفي كل نقص عنه ، ونفي إثبات شبيه أو مثل له في كماله ونفي مطلق الشريك عنه ، وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي الذي يباين صاحبه جميع فرق الضلال والشرك ؛ ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن ، فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء ، والإنشاء ثلاثة : أمر ، ونهي ، وإباحة . والخبر نوعان : خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه ، وخبر عن خلقه ؛ فأخلصت سورة الإخلاص الخبر عنه وعن أسمائه وصفاته فعدلت ثلث القرآن ، وخلَّصت قارئها المؤمن من الشرك العلمي ، كما خلّصت سورة { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } من الشرك العملي الإرادي القصدي .
ولما كان العلم قبل العمل وهو إمامه وقائده وسائقه والحاكم عليه ومنزِلُه منازله ، كانت سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تعدل ثلث القرآن ، والأحاديث بذلك تكاد تبلغ مبلغَ التواتر ، و { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } تعدل ربع القرآن ، وفي الترمذي : من رواية ابن عباس رضي الله عنهما ، يرفعه:
< { إِذَا زُلْزِلَتِ } تعدل نصف القرآن و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تعدل ثلث القرآن و { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } تعدل ربع القرآن > رواه الحاكم في المستدرك ، وقال : صحيح الإسناد .
ولما كان الشرك العملي الإرادي أغلب على النفوس لأجل متابعتها هواها ، وكثير منها ترتكبه مع علمها بمضرته وبطلانه ، لِما لها فيه من نيل الأغراض ، وإزالته وقلعه منها أصعب وأشد من قلع الشرك العلمي وإزالته ؛ لأن هذا يزول بالعلم والحجة ، ولا يمكن صاحبه أن يعلم الشيء على غير ما هو عليه ، بخلاف شرك الإرادة والقصد ، فإن صاحبه يرتكب ما يدله العلم على بطلانه وضرره لأجل غلبة هواه واستيلاء سلطن الشهوة والغضب على نفسه ؛ فجاء من(1/1192)
التأكيد والتكرار في سورة : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } المتضمنة لإزالت الشرك العملي ما يجيء مثله في سورة : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }
ولمّا كان القرآن شطرين : شطراً في الدنيا وأحكامها ومتعلقاتها والأمور الواقعة فيها من أفعال المكلفين وغيرها ، وشطراً في الآخرة وما يقع فيها ، وكانت سورة { إِذَا زُلْزِلَتِ } قد أخلصت من أولها وأخرها لهذا الشطر ، فلم يذكر إلا الآخرة ، وما يكون من أحوال الأرض وسكانها ، كانت تعدل نصف القرآن فأحْرِ بهذا الحديث أن يكون صحيحاً . والله أعلم .
الخامسة : قال ابن تيمية : سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أكثرهم على أنها مكية ، وقد ذكر في أسباب نزولها سؤال المشركين بمكة ، وسؤال الكفار من أهل الكتاب اليهود بالمدينة ، ولا منافاة ؛ فإن الله أنزلها بمكة أولا ، ثم لما سئل نحو ذلك أنزلها مرة أخرى ، وهذا مما ذكر طائفة من العلماء . وقالوا : إن الآية أو السورة قد تنزل مرتين وأكثر من ذلك ؛ فما يذكر من أسباب النزول المتعددة قد يكون جميعه حقّاً ، والمراد بذلك أنه إذا حدث سبب يناسبها ، نزل جبريل فقرأها عليه ، ليعلمه أنها تتضمن جواب ذلك السبب ، وإن كان الرسول يحفظها قبل ذلك . انتهى .
وقد تقدم في مقدمة هذا التفسير ومواضع أُخَر منه تحقيق البحث في معنى النزول بما يدفع المنافاة في أمثال هذا ، فراجعه .
ولهذه السورة الشريفة تفاسير على حدة ، من أمثلها كتابان لشيخ الإسلام ابن تيمية : أحدهما في تفسيرها ، والثاني في سر كونها تعدل ثلث القرآن ، فاحتفظ بهما . والله الهادي . (1)
قوله تعالى : « قُلْ » أمر من اللّه سبحانه وتعالى للنبى بالقول ، قولا مطلقا ..
وماذا يقول ؟ .
يقول « هُوَ » ! ومن هو هذا الطلق أيضا ، الذي لا تحدّه حدود ، ولا تقيده قيود ؟
ـ « اللَّهُ أَحَدٌ » !.ولفظ الجلالة ـ « اللّه » ـ من الألوهة ، وهو اسم الذات ، الجامع لأسماء اللّه تعالى وصفاته كلّها ..
و« أحد » صفة للّه سبحانه ، بمعنى الأحد معرفا بأل ، لأنه فى مقابل :
« اللَّهُ الصَّمَدُ » فأحد ، وإن كان نكرة لفظا ، هو معرفة دلالة ومعنى ، لأنه إذ قيل « أحد » لم ينصرف الذهن إلى غيره ، فإذا قيل « أحد » كان معناه الأحد ، الذي ليس وراءه ثان أو ثالث ، أو رابع ..
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 344)(1/1193)
فاستغنى بهذا عن التعريف ، لأن التعريف إنما يراد به الدلالة على المعرّف دون أفراد جنسه المشاركة له ، فإذا انحصر الجنس كله فى فرد واحد ، لم يكن ثمة داعية إلى تعريفه ، إذ كان أعرف من أن يعرّف.
فاللّه ، هو الأحد ، الذي لا يشاركه فى هذا الوصف موصوف .. فالأحدية هى الصفة التي لا يشارك اللّه سبحانه فيها أحد ، كما أن « اللّه » هو اسم الذات الذي لا يسمّى به أحد سواه.
والأحديّة هى الصفة التي تناسب الألوهة ، وهى الصفة التي تناسب كل صفة من صفات اللّه سبحانه ..
فاللّه ـ سبحانه ـ واحد فى ذاته ، واحد فى صفاته ..
فالكريم ، هو اللّه وحده ، والرحيم هو اللّه وحده ، والرحمن هو اللّه وحده ، والغفور هو اللّه وحده ، والشّكور هو اللّه وحده ، والعليم هو اللّه وحده .. وهكذا ، كل صفة من صفات الكمال ، قد تفردّ بها اللّه ـ سبحانه ـ وحده ، لا ينازعه فيها أحد ..
وفى وصف اللّه سبحانه وتعالى بأحد ، دون واحد ، تحقيق لمعنى التفرّد ، لأن الأحد لا يتعدد ، على حين أن الواحد يتعدد ، باثنين ، وثلاثة ، وأربعة ، إلى ما لا نهاية من الأعداد ..
يقول الإمام « الطبرسي » فى تفسيره [مجمع البيان فى تفسير القرآن ] :
« قيل إنما قال « أحد » ولم يقل « واحد » لأن الواحد يدخل فى الحساب ، ويضمّ إليه آخر .. وأما الأحد فهو الذي لا يتجزأ ، ولا ينقسم فى ذاته ، ولا فى معنى صفاته ، ويجوز أن يجعل للواحد ثان ، ولا يجوز أن يجعل للأحد ثان ..
لأن الأحد يستوعب جنسه ، بخلاف الواحد .. ألا ترى أنك لو قلت فلان لا يقاومه واحد ، جاز أن يقاومه اثنان ، وإذا قلت : لا يقاومه أحد لم يجز أن يقاومه اثنان ، ولا أكثر .. فهو أبلغ .. »
ويقول الطبرسي :
قال الإمام الباقر : « اللّه » : معناه المعبود الذي أله الخلق عن إدراك ماهيته ، والإحاطة بكيفيته ، وتقول العرب : أله الرجل إذا تحيّر فى الشيء فلم يحط به علما ، ودله ، إذا فزع .. » فمعنى قوله « اللّه أحد » أي المعبود الذي يأله الخلق عن إدراكه ، والإحاطة بكيفيته .. وهو فرد بألوهيته ، متعال عن صفات خلقه ..
وقوله تعالى : « اللَّهُ الصَّمَدُ »..
اختلف فى معنى الصمد ، وكل ما قيل فى معناه يرجع إلى تمجيد اللّه سبحانه وتعظيمه ، وتفرده بالخلق والأمر ..
وفى تعريف طرفى الجملة ، إفادة لمعنى الحصر ، أي حصر الصمدية فى اللّه سبحانه وتعالى وحده ..(1/1194)
قيل إن أهل البصرة ، كتبوا إلى الإمام الحسين ، رضى اللّه عنه يسألون عن معنى « الصمد » ، فكتب إليهم بقول : « أما بعد ، فلا تخوضوا فى القرآن ، ولا تجادلوا فيه ، ولا تكلّموا فيه بغير علم ، فقد سمعت جدّى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقول : « من قال فى القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار » وإن اللّه قد فسر سبحانه الصمد ، فقال : « لَمْ يَلِدْ ، وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ »..
وقوله تعالى : « لَمْ يَلِدْ ، وَلَمْ يُولَدْ ».
أي أنه سبحانه منزه عن أن يكون له ولد ، لأن الولد يدلّ على والد ، والوالد هو مولود لوالد. وهكذا فى سلسلة لا تنتهى. ثم إن الولد يماثل الوالد ، وقد يفوقه ، ويربى عليه ، فى قوته ، وعلمه ..
يقول الإمام الطبرسي فى معنى « لم يلد » : أي لم يخرج منه شىء كثيف ، كالولد ، ولا سائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين ، ولا شىء لطيف كالنّفس ، ولا تنبعث منه البدوات ، كالسّنة والنوم ، والخطرة والغم ، والحزن والبهجة ، والضحك والبكاء ، والخوف والرجاء ، والرغبة والسآمة ، والجوع والشّبع ، تعالى أن يخرج منه شىء ، وأن يتولد منه شىء .. كثيف أو لطيف ».
وفى قوله تعالى : « وَلَمْ يُولَدْ » يقول الطبرسي أيضا : « أي ولم يتولد هو من شىء ، ولم يخرج من شىء ، كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها ، كالشىء من الشيء ، والدابة ، والنبات من النبات ، والماء من الينابيع ، والثمار من الأشجار .. ولا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها ، كالبصر من العين ، والسمع من الأذن ، والشم من الأنف ، والذوق من الفم ، والكلام من اللسان ، والمعرفة والتمييز من القلب ، والنار من الحجر .. لا ، بل هو اللّه « الصمد » الذي لا من شىء ، ولا فى شىء ، ولا على شىء .. مبدع الأشياء وخالقها ، ومنشىء الأشياء بقدرته .. فذلكم اللّه الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ .. »
ويروى أن الإمام عليا ـ كرم اللّه وجهه ـ سئل عن تفسير هذه السورة ، فقال : « قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ » بلا تأويل عدد .. « الصمد » بلا تبعيض بدد ..
« لم يلد » فيكون موروثا هالكا « ولم يولد » فيكون إلها مشاركا « وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ » من خلقه.
وقوله تعالى : « وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ».كفء الشيء : عديله ، ومماثله ، قيمة ، ووزنا ، وقدرا.(1/1195)
فاللّه سبحانه وتعالى ، متعال عن الشبيه ، والنظير ، والكفء والمثيل .. وهذا ما ينفى عن اللّه سبحانه وتعالى أن يلد ، وأن يولد ، لأن التوالد إنما يكون بين الأشباه والنظائر ، وإذ قد انتفى عن أن يكون للّه سبحانه شبيه أو نظير ، فقد انتفى عنه أن يكون والدا ، وأن يكون مولودا .. تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا .. (1)
هذه السورة الصغيرة تعدل ثلث القرآن كما جاء في الروايات الصحيحة . قال البخاري : حدثنا إسماعيل : حدثني مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن الرحمن بن أبي صعصعة ، عن أبيه ، عن أبي سعد ، « أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ : { قل هو الله أحد } يرددها . فلما أصبح جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له وكأن الرجل يتقالها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : والذي نفسي بيده ، إنها لتعدل ثلث القرآن » .
وليس في هذا من غرابة . فإن الأحدية التي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعلنها : { قل هو الله أحد } هذه الأحدية عقيدة للضمير ، وتفسير للوجود ، ومنهج للحياة . . وقد تضمنت السورة من ثم أعرض الخطوط الرئيسية في حقيقة الإسلام الكبيرة . .
{ قل هو الله أحد } . . وهو لفظ أدق من لفظ « واحد » . . لأنه يضيف إلى معنى « واحد » أن لا شي ء غيره معه . وأن ليس كمثله شيء .
إنها أحدية الوجود . . فليس هناك حقيقة إلا حقيقته . وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده . وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي ، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية .
وهي من ثم أحدية الفاعلية . فليس سواه فاعلاً لشيء ، أو فاعلاً في شيء ، في هذا أصلاً . وهذه عقيدة في الضمير وتفسير للوجود أيضاً . .
فإذا استقر هذا التفسير ، ووضح هذا التصور ، خلص القلب من كل غاشية ومن كل شائبة ، ومن كل تعلق بغير هذه اللذات الواحدة المتفردة بحقيقة الوجود وحقيقة الفاعلية .
خلص من التعلق بشيء من أشياء هذا الوجود إن لم يخلص من الشعور بوجود شيء من الأشياء أصلاً! فلا حقيقة لوجود إلا ذلك الوجود الإلهي . ولا حقيقة لفاعلية الإرادة الإلهية . فعلام يتعلق القلب بما لا حقيقة لوجوده ولا لفاعليته!
وحين يخلص القلب من الشعور بغير الحقيقة الواحدة ، ومن التعلق بغير هذه الحقيقة . . فعندئذ يتحرر من جميع القيود ، وينطلق من كل الاوهاق . يتحرر من الرغبة وهي أصل قيود كثيرة ،
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1711)(1/1196)
ويتحرر من الرهبة وهي أصل قيود كثيرة . وفيم يرغب وهو لا يفقد شيئاً متى وجد الله؟ ومن ذا يرهب ولا وجود لفاعلية إلا لله؟
ومتى استقر هذا التصور الذي لا يرى في الوجود إلا حقيقة الله ، فستصحبه رؤية هذه الحقيقة في كل وجود آخر انبثق عنها - وهذه درجة يرى فيها القلب يد الله في كل شيء يراه . ووراءها الدرجة التي لا يرى فيها شيئاً في الكون إلا الله . لأنه لا حقيقة هناك يراها إلا حقيقة الله .
كذلك سيصحبه نفي فاعلية الأسباب . ورد كل شيء وكل حدث وكل حركة إلى السبب الأول الذي منه صدرت ، وبه تأثرت . . وهذه هي الحقيقة التي عني القرآن عناية كبيرة بتقريرها في التصور الإيماني . ومن ثم كان ينحي الأسباب الظاهرة دائماً ويصل الأمور مباشرة بمشيئة الله : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } { وما النصر إلا من عند الله } { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } وغيرها كثير . .
وبتنحية الأسباب الظاهرة كلها ، ورد الأمر إلى مشيئة الله وحدها ، تنسكب في القلب الطمأنينة ، ويعرف المتجه الوحيد الذي يطلب عنده ما يرغب ، ويتقي عنده ما يرهب ، ويسكن تجاه الفواعل والمؤثرات والأسباب الظاهرة التي لا حقيقة لها ولا وجود!
وهذه هي مدارج الطريق التي حاولها المتصوفة ، فجذبتهم إلى بعيد! ذلك أن الإسلام يريد من الناس أن يسلكوا الطريق إلى هذه الحقيقة وهم يكابدون الحياة الواقعية بكل خصائصها ، ويزاولون الحياة البشرية ، والخلافة الأرضية بكل مقوّماتها ، شاعرين مع هذا أن لا حقيقة إلا الله . وأن لا وجود إلا وجوده . وأن لا فاعلية إلا فاعليته . . ولا يريد طريقاً غير هذا الطريق!
من هنا ينبثق منهج كامل للحياة ، قائم على ذلك التفسير وما يشيعه في النفس من تصورات ومشاعر واتجاهات : منهج لعبادة الله وحده . الذي لا حقيقة لوجود إلا وجوده ، ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعليته ، ولا أثر لإرادة إلا إرادته .
ومنهج للاتجاه إلى الله وحده في الرغبة والرهبة . في السراء والضراء . في النعماء والبأساء . وإلا فما جدوى التوجه إلى غير موجود وجوداً حقيقياً ، وإلى غير فاعل في الوجود أصلاً؟!
ومنهج للتلقي عن الله وحده . تلقي العقيدة والتصور والقيم والموازين ، والشرائع والقوانين والأوضاع والنظم ، والآداب والتقاليد . فالتلقي لا يكون إلا عن الوجود الواحد والحقيقة المفردة في الواقع وفي الضمير .
ومنهج للتحرك والعمل لله وحده . . ابتغاء القرب من الحقيقة ، وتطلعاً إلى الخلاص من الحواجز المعوقة والشوائب المضللة . سواء في قرارة النفس أو فيما حولها من الأشياء والنفوس . ومن بينها حاجز الذات ، وقيد الرغبة والرهبة لشيء من أشياء هذا الوجود!(1/1197)
ومنهج يربط مع هذا بين القلب البشري وبين كل موجود برباط الحب والأنس والتعاطف والتجاوب . فليس معنى الخلاص من قيودها هو كراهيتها والنفور منها والهروب من مزاولتها . . فكلها خارجة من يد الله؛ وكلها تستمد وجودها من وجوده ، وكلها تفيض عليها أنوار هذه الحقيقة . فكلها إذن حبيب ، إذ كلها هدية من الحبيب!
وهو منهج رفيع طليق . . الأرض فيه صغيرة ، والحياة الدنيا قصيرة ، ومتاع الحياة الدنيا زهيد ، والانطلاق من هذه الحواجز والشوائب غاية وأمنية . . ولكن الانطلاق عند الإسلام ليس معناه الاعتزال ولا الإهمال ، ولا الكراهية ولا الهروب . . إنما معناه المحاولة المستمرة ، والكفاح الدائم لترقية البشرية كلها ، وإطلاق الحياة البشرية جميعها . . ومن ثم فهي الخلافة والقيادة بكل أعبائهما ، مع التحرر والانطلاق بكل مقوماتهما .كما أسفلنا .
إن الخلاص عن طريق الصومعة سهل يسير . ولكن الإسلام لا يريده . لأن الخلافة في الأرض والقيادة للبشر طرف من المنهج الإلهي للخلاص . إنه طريق أشق ، ولكنه هو الذي يحقق إنسانية الإنسان . أي يحقق انتصار النفخة العلوية في كيانه . . وهذا هو الانطلاق . انطلاق الروح إلى مصدرها الإلهي ، وتحقيق حقيقتها العلوية . وهي تعمل في الميدان الذي اختاره لها خالقها الحكيم . .
من أجل هذا كله كانت الدعوة الأولى قاصرة على تقرير حقيقة التوحيد بصورتها هذه في القلوب ، لأن التوحيد في هذه الصورة عقيدة للضمير ، وتفسير للوجود ، ومنهج للحياة . وليس كلمة تقال باللسان أو حتى صورة تستقر في الضمير . إنما هو الأمر كله ، والدين كله؛ وما بعده من تفصيلات وتفريعات لا يعدو أن يكون الثمرة الطبيعية لاستقرار هذه الحقيقة بهذه الصورة في القلوب .
والانحرافات التي أصابت أهل الكتاب من قبل ، والتي أفسدت عقائدهم وتصوراتهم وحياتهم ، نشأت أول ما نشأت عن انطماس صورة التوحيد الخالص . ثم تبع هذا الانطماس ما تبعه من سائر الانحرافات .
على أن الذي تمتاز به صورة التوحيد في العقيدة الإسلامية هو تعمقها للحياة كلها ، وقيام الحياة على أساسها ، واتخاذها قاعدة للمنهج العملي الواقعي في الحياة ، تبدو آثاره في التشريع كما تبدو في الاعتقاد سواء . وأول هذه الآثار أن تكون شريعة الله وحدها هي التي تحكم الحياة . فإذا تخلفت هذه الآثار فإن عقيدة التوحيد لا تكون قائمة ، فإنها لا تقوم إلا ومعها آثارها محققة في كل ركن من أركان الحياة . .
ومعنى أن الله أحد : أنه الصمد . وأنه لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفواً أحد . . ولكن القرآن يذكر هذه التفريعات لزيادة التقرير والإيضاح : { الله الصمد } . . ومعنى الصمد اللغوي :(1/1198)
السيد المقصود الذي لا يقضى أمراً إلا بإذنه . والله سبحانه هو السيد الذي لا سيد غيره ، فهو أحد في ألوهيته والكل له عبيد . وهو المقصود وحده بالحاجات ، المجيب وحده لأصحاب الحاجات . وهو الذي يقضي في كل أمر بإذنه ، ولا يقضي أحد معه . . وهذه الصفة متحققة ابتداء من كونه الفرد الأحد .
{ لم يلد ولم يولد } . . فحقيقة الله ثابتة أبدية أزلية ، لا تعتورها حال بعد حال . صفتها الكمال المطلق في جميع الأحوال . والولادة انبثاق وامتداد ، ووجود زائد بعد نقص أو عدم ، وهو على الله محال . ثم هي تقتضي زوجية . تقوم على التماثل . وهذه كذلك محال . ومن ثم فإن صفة { أحد } تتضمن نفي الوالد والولد . .
{ ولم يكن له كفواً أحد } . . أي لم يوجد له مماثل أو مكافئ . لا في حقيقة الوجود ، ولا في حقيقة الفاعلية ، ولا في أية صفة من الصفات الذاتية . وهذا كذلك يتحقق بأنه { أحد } ولكن هذا توكيد وتفصيل . . وهو نفي للعقيدة الثنائية التي تزعم أن الله هو إله الخير وأن للشر إلهاً يعاكس الله بزعمهم ويعكس عليه أعماله الخيرة وينشر الفساد في الأرض .
وأشهر العقائد الثنائية كانت عقيدة الفرس في إله النور وإله الظلام ، وكانت معروفة في جنوبي الجزيرة العربية حيث للفرس دولة وسلطان!!
هذه السورة إثبات وتقرير لعقيدة التوحيد الإسلامية ، كما أن سورة « الكافرون » نفي لأي تشابه أو التقاء بين عقيدة التوحيد وعقيدة الشرك . . وكل منهما تعالج حقيقة التوحيد من وجه . وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستفتح يومه في صلاة سنة الفجر بالقراءة بهاتين السورتين . . وكان لهذا الافتتاح معناه ومغزاه . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته .
2- تقرير التوحيد والنبوة .
3- بطلان نسبه الولد إلى الله تعالى .
4- وجوب عبادته تعالى وحده لا شريك له فيها ، إذ هو الله ذو الألوهية على خلقه دون سواه .
5- تضمنت هذه السورة الموجزة إثباتا ونفيا في آن واحد.
فقد أبانت أن اللَّه تعالى واحد في ذاته وحقيقته ، منزه عن جميع أنحاء التركيب ، ونفت عنه كل أنواع الكثرة بقوله : اللَّهُ أَحَدٌ.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 4002)(1/1199)
وأوضحت أن اللَّه غني بذاته كريم رحيم ، تحتاج إليه جميع الخلائق في قضاء الحوائج ، متصف بجميع صفات الكمال ، ونعوت الجلال ، ونفت عنه كل أنواع الاحتياج إلى الآخرين بقوله : اللَّهُ الصَّمَدُ.
وقررت أن اللَّه أحد فرد ، ليس له شيء من جنسه ، ولم يلد أحدا ، وليس له لاحق يماثله ، ونفت عن نفسه المجانسة والمشابهة بقوله : لَمْ يَلِدْ.
وكذلك هو قديم أولي أزلي غير مسبوق بالعدم ، فلا والد له ، ولا سابق له ، ونفت عنه الحدوث والأولية بقوله : وَلَمْ يُولَدْ.
وهو سبحانه أيضا لا مقارن له في الوجود ، ولا شبيه له ولا نظير ولا صاحبة ولا نديد ، ونفى عن ذاته العلية الأنداد والأشباه بقوله : وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.
وكل إثبات تقرير لعقيدة الإسلام القائمة على التوحيد والتنزيه والتقديس ، وكل نفي رد على أصحاب العقائد الباطلة كالثنوية القائلين بوجود إلهين اثنين للعالم وهما النور والظلمة ، والنصارى القائلين بالتثليث ، والصابئة القائلين بعبادة الأفلاك والنجوم ، واليهود الذين يقولون : عزير ابن اللَّه ، والمشركين القائلين بأن الملائكة بنات اللَّه.
فقوله : أَحَدٌ يبطل مذهب الثنوية ، وقوله : اللَّهُ الصَّمَدُ تبطل مذهب من أثبت خالقا سوى اللَّه لأنه لو وجد خالق آخر ، لما كان الحق مصمودا إليه في طلب جميع الحاجات ، وقوله : لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ يبطل مذهب اليهود في عزير ، والنصارى في المسيح ، والمشركين في أن الملائكة بنات اللَّه.
وقوله : وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ يبطل مذهب المشركين حيث جعلوا الأصنام أكفاء للَّه وشركاء.
6- قال العلماء : هذه السورة في حق اللَّه تعالى ، مثل سورة الكوثر في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لكن الطعن في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان بسبب أنهم قالوا : إنه أبتر لا ولد له ، وهنا الطعن بسبب أنهم أثبتوا للَّه ولدا لأن عدم الولد في حق الإنسان عيب ، ووجود الولد عيب في حق اللَّه تعالى ، ولهذا السبب قال هنا : قُلْ ليدفع عن اللَّه ، وفي سورة إنا أعطيناك لم يقل (قل) وإنما قال اللَّه ذلك مباشرة ، حتى يدفع بنفسه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - (1) .
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - تفسير الرازي 32/ 185(1/1200)
سورة الفلق
مكيّة ، وهي خمس آيات
مكيتها أو مدنيتها :
هذه السورة وسورة الناس مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر وهو رأي الأكثرين ، ومدنية في رواية عن ابن عباس وقتادة وجماعة ، قيل : وهو الصحيح.
تسميتها :
سميت هذه السورة سورة الفلق ، لافتتاحها بقوله تعالى : قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ والْفَلَقِ الشق وفصل الشيء عن بعضه ، وهو يشمل كل ما انفلق من حب ونوى ونبات عن الأرض ، وعيون ماء عن الجبال ، ومطر عن السحاب ، وولد عن الأرحام ، ومنه : فالِقُ الْإِصْباحِ [الأنعام 6/ 96] ، وفالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى [الأنعام 6/ 95].
وقال ابن عاشور :
سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه السورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} . روى النسائي عن عقبة بن عامر قال: اتبعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو راكب فوضعت يدي على قدمه فقلت: أقرئني يا رسول الله سورة هود وسورة يوسف، فقال: "لن تقرأ شيئا أبلغ عند الله من {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} .
وهذا ظاهر في أنه أراد سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} لأنه كان جوابا على قول عقبة: أقرأني سورة هود الخ، ولأنه عطف على قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] ولم يتم سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} .
عنونها البخاري في "صحيحه" "سورة قل أعوذ برب الفلق" بإضافة سورة إلى أول جملة منها.
وجاء في بعض كلام الصحابة تسميتها مع سورة الناس "المعوذتين". روى أبو داود والترمذي وأحمد عن عقبة بن عامر قال أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ بالمعوذات بكسر الواو المشددة وبصيغة الجمع بتأويل الآيات المعوذات، أي آيات السورتين وفي رواية بالمعوذتين في دبر كل صلاة. ولم يذكر أحد من المفسرين أن الواحدة منهما تسمى المعوذة بالإفراد، وقد سماها ابن عطية سورة المعوذة الأولى، فإضافة سورة إلى المعوذة من إضافة المسمى إلى الاسم، ووصف السورة بذلك مجاز يجعلها كالذي يدل الخائف على المكان الذي يعصمه من مخيفه أو كالذي يدخله المعاذ.
وسميت في أكثر المصاحف ومعظم كتب التفسير "سورة الفلق".(1/1201)
وفي "الإتقان": أنها وسورة الناس تسميان المشقشقتين بتقديم الشينين على القافين من قولهم خطيب مشقشق اه. أي مسترسل القول تشبيها له بالفحل الكريم من الإبل يهدر بشقشقة وهي كاللحم يبرز من فيه إذا غضب ولم أحقق وجه وصف المعوذتين بذلك.
وفي "تفسير القرطبي" و"الكشاف" أنها وسورة الناس تسميان المشقشقتين بتقديم القاف على الشينين زاد القرطبي: أي تبرئان من النفاق، وكذلك قال الطيبي، فيكون اسم المقشقشة مشتركا بين أربع سور هذه، وسورة الناس، وسورة براءة، وسورة الكافرون.
واختلف فيها أمكية هي أم مدنية، فقال جابر بن زيد والحسن وعطاء وعكرمة: مكية، ورواه كريب عن ابن عباس. وقال قتادة: هي مدنية، ورواه أبو صالح عن ابن عباس.
والأصح أنها مكية لأن رواية كريب عن ابن عباس مقبولة بخلاف رواية أبي صالح عن ابن عباس ففيها متكلم.
وقال الواحدي: قال المفسرون إنها نزلت بسبب أن لبيد بن الأعصم سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وليس في "الصحاح" أنها نزلت بهذا السبب، وبنى صاحب الإتقان عليه ترجيح أن السورة مدنية وسنتكلم على قصة لبيد بن الأعصم عند قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4].
وقد قيل: أن سبب نزولها والسورة بعدها: أن قريشا ندبوا، أي ندبوا من اشتهر بينهم أنه يصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعينه فأنزل الله المعوذتين ليتعوذ منهم بهما، ذكره الفخر عن سعيد بن المسيب ولم يسنده.
وعدت العشرين في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة الفيل وقبل سورة الناس.
وعدد آياتها خمس بالاتفاق.
واشتهر عن عبد الله بن مسعود في "الصحيح" أنه كان ينكر أن تكون المعوذتان من القرآن ويقول: إنما أمر رسول الله أن يتعوذ بهما، أي ولم يؤمر بأنهما من القرآن. وقد أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على القراءة بهما في الصلاة وكتبا في مصاحفهم، وصح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ بهما في صلاته.
والغرض منها تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمات للتعوذ بالله من شر ما يتقى شره من المخلوقات الشريرة، والأوقات التي يكثر فيها حدوث الشر، والأحوال التي يستر أحوال الشر من ورائها لئلا يرمى فاعلوها بتبعاتها، فعلم الله نبيه هذه المعوذة ليتعوذ بها، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ بهذه السورة وأختها ويأمر أصحابه بالتعوذ بهما فكان التعوذ بهما من سنة المسلمين.. (1)
مناسبتها لما قبلها :
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 623)(1/1202)
لما أبان اللَّه تعالى أمر الألوهية في سورة الإخلاص لتنزيه اللَّه عما لا يليق به في ذاته وصفاته ، أبان في هذه السورة وما بعدها وهما المعوذتان ما يستعاذ منه باللَّه من الشر الذي في العالم ، ومراتب مخلوقاته الذين يصدون عن توحيد اللَّه ، كالمشركين وسائر شياطين الإنس والجن ، وقد ابتدأ في هذه السورة بالاستعاذة من شر المخلوقات ، وظلمة الليل ، والسحرة ، والحسّاد ، ثم ذكر في سورة الناس الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن لذا سميت السور الثلاثة (الإخلاص وما بعدها) في الحديث بالمعوّذات. وقدمت الفلق على الناس لمناسبة الوزان في اللفظ لفواصل الإخلاص مع مقطع تَبَّتْ.
وقال الخطيب : " تقرر فى سورة « الإخلاص » ما ينبغى أن يكون عليه مفهوم المخلوقين للخالق سبحانه وتعالى ، من تفرده بالألوهية ، وتنزيهه أن يكون والدا أو مولودا ، وعن أن تكون له نسبة إلى المخلوقات ، إلا نسبة الدلالة على قدرته وحكمته ، وعلمه ، وأنها جميعها مفتقرة إليه فى وجودها ، وفى بقائها ، وأنه سبحانه لا مثيل له ، ولا شبيه ، ولا كفء ولا ندّ ..
هذا ما أمر اللّه سبحانه النبي أن يؤمن به أولا ، ثم أن يؤذن به فى الناس ..
ثم جاءت بعد هذا سورتا المعوذتين ، « الفلق » و« الناس » تقرران هذه الحقيقة ، وتؤكدانها فى مجال التطبيق العملي لآثارها ، وذلك بدعوة النبىّ والناس جميعا أن يعوذوا بربهم ، وأن يستظلوا بحمى ربوبيته من كل ما يسوءهم ، أو ما يتوقع أن يعرض له بسوء ، فذلك هو الإيمان باللّه سبحانه ، والإقرار بسلطانه القائم على هذا الوجود ، وأنه وحده الذي تتجه الوجوه كلها إليه فى السراء والضراء .. فهو سبحانه القادر على كل شىء ، وهو سبحانه الذي بيده مقاليد كل شىء .. أما المخلوقون فهم جميعا على سواء فى الحاجة إلى اللّه ، وفى الافتقار إليه ، غنيهم وفقيرهم ، قويهم وضعيفهم : « يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ »
« إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ »..
وقد صدّرت سورة الإخلاص ، والمعوذتين بعدها ، بقوله تعالى : « قل » وهذا الأمر بالقول داخل فى مقول القول الذي يقوله النبي ، ويقوله كل من يتأسّون به ، فمطلوب من النبي ، ومن المؤمنين أن يقولوا : « قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ .. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ .. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ».. فهذا الأمر بالقول ، هو قرآن متعبد به ، وهو يعنى أن القرآن كلمات اللّه ، وأنه لا تبديل لكلمات اللّه ، وأن هذه الكلمات قد انطبعت فى قلب النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه ، فهو يقرؤها من كتاب قلبه كما أنزلت عليه ، دون تبديل فيها .. فإذا قيل له ـ صلوات اللّه وسلامه عليه : « قُلْ سُبْحانَ رَبِّي ».. قال : « قُلْ سُبْحانَ رَبِّي »..
وإذا قيل له « قُلْ : إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ » قال : « قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ » وإذا قيل له : « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ » ؟(1/1203)
قال : « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ .. » وهكذا.وقد عرضنا هذا الموضوع فى مبحث خاص ، عند تفسير سورة « الجن ». " (1)
ما اشتملت عليه السورة :
سورة الفلق مكية ، وفيها تعليم للعباد أن يلجأوا إلى حمى الرحمن ، ويستعيذوا بجلاله وسلطانه ، من شر مخلوقاته ، ومن شر الليل إذا أظلم ، لما يصيب النفوس فيه من الوحشة ، ولإنتشار الأشرار والفجار فيه ، ومن شر كل حاسد وساحر ، وهي إحدى المعوذتين اللتين كان ( - صلى الله عليه وسلم - ) يعوذ نفسه بهما. (2)
في السورة تعليم رباني بالاستعاذة باللّه من أسباب المخاوف والهواجس في معرض تدعيم وحدة اللّه ونبذ ما سواه. وبعض الروايات تذكر أنها مكية وبعضها تذكر أنها مختلف في مكيتها ومدنيتها ، ومعظم روايات ترتيب النزول تسلكها في سلك السور المكية المبكرة في النزول ، وأسلوبها يسوغ ترجيح مكيتها وتبكير نزولها.
ولقد روى البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت : «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوّذتين وينفث فلما اشتدّ وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها» «1». وروى البخاري عنها أيضا : «أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوى إلى فراشه كلّ ليلة جمع كفّيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما قل هو اللّه أحد وقل أعوذ بربّ الفلق وقل أعوذ بربّ الناس ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده. يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات» «2». وروى مسلم والترمذي عن عقبة بن عامر قال : «قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : ألم تر آيات أنزلت عليّ الليلة لم ير مثلهنّ قطّ قل أعوذ بربّ الفلق وقل أعوذ بربّ الناس» «3». وروى أبو داود والنسائي عن عقبة أيضا قال : «كنت أقود لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في السفر ناقته فقال لي يا عقبة ألا أعلّمك خير سورتين قرئتا فعلّمني قل أعوذ بربّ الفلق وقل أعوذ بربّ الناس» «1». وروى الاثنان نفسهما عن عقبة كذلك قال : «بينا أنا أسير مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بين الجحفة والأبواء إذ غشيتنا ريح وظلمة شديدة فجعل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يتعوّذ بالمعوّذتين ويقول يا عقبة تعوّذ بهما فما تعوّذ متعوّذ بمثلهما قال وسمعته يؤمّنا بهما في الصلاة» «2». وروى الترمذي بسند حسن عن عقبة أيضا قال : «أمرني رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ بالمعوّذتين في دبر كلّ صلاة» «3».
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1716)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 538)(1/1204)
والمتبادر أن ما احتوته السورتان من بث السكينة والطمأنينة في النفس وتعليم اللجوء إلى اللّه تعالى وحده والاستعاذة به في ظروف المخاوف والأزمات النفسية المتنوعة من الحكمة المنطوية في الأحاديث ، وهي حكمة مستمرة الفائدة لاستمرار دواعيها. (1)
سبب نزول المعوذتين :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : " مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأُخِّذَ عَنِ النِّسَاءِ وَعَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَهَبَطَ عَلَيْهِ مَلَكَانِ وَهُوَ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ ، فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : مَا شَكْوُهُ ؟ قَالَ : طُبَّ ، يَعْنِي سُحِرَ ، قَالَ : وَمَنْ فَعَلَهُ ؟ قَالَ لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ الْيَهُودِيُّ قَالَ : فَفِي أَيِّ شَيْءٍ جَعَلَهُ ؟ ، قَالَ : فِي طَلْعَةٍ ، قَالَ : فَأَيْنَ وَضَعَهَا ؟ قَالَ : فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ تَحْتَ صَخْرَةٍ ، قَالَ : فَمَا شِفِاؤُهُ ؟ قَالَ : تُنْزَحُ الْبِئْرُ ، وَتُرْفَعُ الصَّخْرَةُ ، وَتُسْتَخْرَجُ الطَّلْعَةُ ، وَارْتَفَعَ الْمَلَكَانِ ، فَبَعَثَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَعَمَّارٍ فَأَمَرَهُمَا أَنْ يَأْتِيَا الرَّكِيَّ فَيَفْعَلَا الَّذِي سُمِعَ ، فَأَتَيَاهَا وَمَاؤُهَا كَأَنَّهُ قَدْ خُضِبَ بِالْحِنَّاءِ ، فَنَزَحَاهَا ثُمَّ رَفَعَا الصَّخْرَةَ فَأَخْرَجَا طَلْعَةٍ ، فَإِذَا بِهَا إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً ، وَنَزَلَتْ هَاتَانِ السُّورَتَانِ : قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ ، حَتَّى انْحَلَّتِ الْعُقَدُ وَانْتَشَرَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلنِّسَاءِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ " (2)
فضلهما :
عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ ، قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ وَالنَّاسُ يَعْتَقِبُونَ ، وَفِي الظَّهْرِ قِلَّةٌ ، فَحَانَتْ نَزْلَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَنَزْلَتِي ، فَلَحِقَنِي مِنْ بَعْدِي ، فَضَرَبَ مَنْكِبَيَّ ، فَقَالَ : " قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " ، فَقُلْتُ : أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَرَأْتُهَا مَعَهُ ، ثُمَّ قَالَ : " قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَرَأْتُهَا مَعَهُ ، قَالَ : " إِذَا أَنْتَ صَلَّيْتَ فَاقْرَأْ بِهِمَا " (3)
وعَنْ رَجُلٍ ، قَالَ : كَانَ فِي مَسِيرٍ وَفِي الظُّهْرِ قِلَّةٌ وَالنَّاسُ يَعْتَقِبُونَ فَحَانَتْ نَزْلَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَزْلَتِي فَلَحِقَنِي مِنْ بَعْدِي فَضَرَبَ مَنْكِبَيَّ ، وَقَالَ : " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ فَقُلْتُ : قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَرَأْتُهَا مَعَهُ ثُمَّ قَالَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَرَأْتُهَا معه فقال : " إِذَا صَلَّيْتُ فَاقْرَأْ بِهِمَا ؛ فَإِنَّكَ لَنْ تَقْرَأَ بِمِثْلِهِمَا " (4)
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 45)
(2) - الطَّبَقَاتُ الْكُبْرَى لِابْنِ سَعْدٍ (1792) ضعيف
(3) - مُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (19885 ) صحيح
(4) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي(6636) صحيح(1/1205)
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ يُنْزَلْ عَلَيَّ مِثْلُهُنَّ : الْمُعَوِّذَتَيْنِ " (1)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ " يَعْنِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ " (2)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ، قَالَ : بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ الْجُحْفَةِ ، وَالْأَبْوَاءِ ، إِذْ غَشِيَتْنَا رِيحٌ ، وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَعَوَّذُ بِأَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، وَأَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ، وَيَقُولُ : " يَا عُقْبَةُ ، تَعَوَّذْ بِهِمَا فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا " ، قَالَ : وَسَمِعْتُهُ يَؤُمُّنَا بِهِمَا فِي الصَّلَاةِ " (3)
وعن ابْنِ عَابِسٍ الْجُهَنِيِّ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا ابْنَ عَامِرٍ ، أَلَا أُخْبِرُكُ بِأَفْضَلِ مَا تَعَوَّذَ بِهِ الْمُتَعَوِّذُونَ ؟ " قُلْتُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " (4)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِىِّ قَالَ : كُنْتُ أَقُودُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَاقَتَهُ فَقَالَ لِى :« يَا عُقْبَةُ أَلاَ أُعَلِّمُكَ خَيْرَ سُورَتَيْنِ قُرِئَتَا؟ ». فَقُلْتُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَقْرَأَنِى ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) وَ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) فَلَمْ يَرَنِى أُعْجِبْتُ بِهِمَا ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ الْغَدَاةَ فَقَرَأَ بِهِمَا فَقَالَ لِى :« يَا عُقْبَةُ كَيْفَ رَأَيْتَ؟ ». (5)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ رَأَى فِي عُنُقِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ سَيْرًا فِيهِ تمائمُ فَمَدَّهُ مَدًّا شَدِيدًا حَتَّى قَطَعَ السَّيْرَ، وَقَالَ:"إِنَّ آلَ عَبْدِ اللَّهِ لأَغْنِيَاءُ عَنِ الشِّرْكِ"، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ التُّوَلَةَ، وَالتَّمَائِمَ، وَالرُّقَى لَشِرْكٌ"، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: إِنَّ أَحَدَنَا لَتَشْتَكِي رَأْسُهَا فَيَسْتَرْقِي فَإِذَا اسْتَرْقَتْ ظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ نَفَعَهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ:"إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَخُشُّ فِي رَأْسِهَا فَإِذَا اسْتَرْقَتْ خَنَسَ فَإِذَا لَمْ تَسْتَرْقِ خَنَسَ، فَلَوْ أَنَّ إِحْدَاكُنَّ تَدْعُو بِمَاءٍ فَتَنْضَحُهُ فِي رَأْسِهَا وَوَجْهِهَا، ثُمَّ تَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ تَقْرَأُ: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" [الإخلاص: 1]، "وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ" [الفلق: 1]، "وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ" [الناس: 1] نَفَعَهَا ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ". (6)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - الْمُعْجَمُ الْأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ(2761 ) حسن
(2) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلْبَيْهقِيِّ (3767 ) صحيح
(3) - سُنَنُ أَبِي دَاوُدَ (1286 ) صحيح
(4) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (6624 ) صحيح
(5) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (2 / 394) (4218) صحيح
(6) - المعجم الكبير للطبراني - (8 / 89) (8772 ) حسن(1/1206)
الاستعاذة من شرّ المخلوقات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... أَعُوذُ ... أتحصن وألتجئ وأستجير
1 ... الفَلَقِ ... الصبح
2 ... مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ... من شر جميع المخلوقات من الإنس والجن والحيوان والجماد
3 ... غَاسِقٍ ... الليل أو القمر
3 ... إِذَا وَقَبَ ... الليل إذا أظلم أو القمر إذا غاب أو دخل في الكسوف
4 ... النَفَّاثَاتِ ... السواحر اللوائي ينفثن : أي يتفلن إذا سحرن ورقين ونفثن في العقد
4 ... العُقَدِ ... جمع عقدة التي يعقدنها عند السحر
5 ... حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ... إذا أظهر حسده وأعمله
المعنى الإجمالي:
روى أن بعض اليهود سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - فمرض رسول اللّه ثلاث ليال ، واشتد عليه ذلك حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله ، ثم أتاه جبريل فأخبره بالسحر وبموضعه الذي وضع فيه ، وتلا عليه المعوذتين ، وجيء بالسحر ، وقرأ المعوذتين فكأنما نشط من عقال ، ورجعت إليه طبيعته.
وهذه رواية لا أظن أنها صادقة ، كما حقق ذلك بعض العلماء ، وإنما هي من مفتريات اليهود ، ليشككوا الناس في النبي - صلى الله عليه وسلم - وليلصقوا به السحر ، مع أن اللّه يقول : وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ.
قل لهم يا محمد : إنى أعوذ برب الكائنات كلها ، التي تنشأ عن فلق الأرض أو السماء ، أعوذ به وأستجير من كل شر وأذى يصيبني في نفسي وأهلى أو دعوتي وصحبي وأعوذ بك من شر الليل إذا غسق. وغشى كل كائن ووقب ، فإن ظلامه ستار لكل معتد أثيم ، وأعوذ بك من النفاثات في العقد التي يعقدونها ، كما ورد ذلك سابقا ، ولكن الأولى أن يكون المعنى : أعوذ بك من شر النمامين المقطعين لروابط المحبة ، وعلى ذلك فالنفاثة تاؤه للمبالغة لا للتأنيث - هو الساعى بالنميمة الذي يعمل فكره في إيقاع المكروه بالمحسود ، وهو يعمل جاهدا على ذلك ،(1/1207)
ولا سبيل لإرضائه ، فلم يكن إلا أن نتوجه إلى اللّه أن يقينا شره ، ويحفظنا من سوئه ، وهو على كل شيء قدير. (1)
التفسير والبيان :
قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ أي قل أيها النبي : ألجأ إلى اللَّه ، وأستعيذ بربّ الصبح لأن الليل ينفلق عنه ، أو بربّ كل ما انفلق عن جميع ما خلق اللَّه ، من الحيوان ، والصبح ، والحبّ ، والنوى ، وكل شيء من نبات وغيره ، أعوذ باللَّه خالق الكائنات من شرّ كل ما خلقه اللَّه سبحانه من جميع مخلوقاته. وفيه إشارة إلى أن القادر على إزالة الظلمة عن وجه الأرض قادر على دفع ظلمة الشرور والآفات عن العبد.
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَعَوَّذُ مِنْ عَيْنِ الْجَانِّ وَعَيْنِ الإِنْسِ فَلَمَّا نَزَلَتِ الْمُعَوِّذَتَانِ أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَى ذَلِكَ. (2) .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَعَوَّذُ مِنْ عَيْنِ الْجَانِّ، وَعَيْنِ الْإِنْسِ , فَلَمَّا نَزَلَتِ الْمُعَوِّذَتَانِ أَخَذَهُمَا , وَتَرَكَ مَا سِوَى ذَلِكَ (3)
وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا مَرِضَ قَرَأَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَيَنْفُثُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَلَمَّا ثَقُلَ جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ بِهِمَا وَأَمْسَحُ بِيَمِينِهِ الْتِمَاسَ بَرَكَتِهَا (4) .
وبعد أن عمم الاستعاذة من جميع المخلوقات ، خصص بالذكر ثلاثة أصناف تنبيها على أنها أعظم الشرور ، وأهم شيء يستعاذ منه ، وهي :
1- وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ أي وأعوذ باللَّه من شرّ الليل إذا أقبل لأن في الليل مخاوف ومخاطر من سباع البهائم ، وهوام الأرض ، وأهل الشرّ والفسق والفساد.
2- وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ أي وأعوذ باللَّه من شرّ النفوس أو النساء الساحرات لأنهن كنّ ينفثن (أي ينفخن مع ريق الفم) في عقد الخيوط ، حين يسحرن بها. والنّفث : النفخ بريق ، وقيل : النفخ فقط. قال أبو عبيدة : إنهن بنات لبيد بن الأعصم اليهودي اللاتي سحرن النّبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 921)
قلت : وإنكاره لحديث السحر لا يقبل لأنه صحيح
(2) - سنن النسائى (5511 ) صحيح
(3) - شرح مشكل الآثار - (7 / 340) (2902 ) صحيح
(4) - مسند أحمد -(26189 ) صحيح
وانظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (4 / 10074) رقم الفتوى 29821 لا مانع من طلب الرقية المشروعة تاريخ الفتوى : 07 محرم 1424(1/1208)
3- وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ أي وأعوذ باللَّه من شرّ كل حاسد إذا حسد : وهو الذي يتمنى زوال النعمة التي أنعم اللَّه بها على المحسود.
ومضات :
ثم خص تعالى مخلوقات أُخَر بالاستعاذة من شرها ، لظهور ضررها وعسر الاحتياط منها ؛ فلا بد من الفزع إلى الله والاستنجاد بقدرته الشاملة على دفع شرها ، فقال سبحانه : { وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } قال ابن جرير : أي : ومن شر السواحر اللاتي ينفثن في عُقد الخيط حين يَرقين عليها ، وبه قال أهل التأويل ، فعن مجاهد : الرقي في عقد الخيط . وعن طاوس : ما من شيء أقرب إلى الشرك من رقية المجانين ، ومثله عن قتادة والحسن . وقال الزمخشري : النفاثات النساء أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقداً في خيوط ويَنفثن عليها ويرقين . والنفث : النفخ مع ريق ، ولا تأثير لذلك ، اللهم إلا إذا كان ثَمَّ إطعام شيء ضار أو سقيه أو إشمامه ، أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه ، ولكن الله عز وجل قد يفعل عند ذلك فعلاً على سبيل الامتحان الذي يتميز به الثبت على الحق من الحشوية والجهلة من العوام ، فينسبه الحشوية والرّعاع إليهن وإلى نفثهن . والثابتون بالقول الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ولا يعبؤون به .
فإن قلت : فما معنى الاستعاذة من شرهن ؟ قلت : فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يستعاذ من عملهن الذي هو صنعة السحر ، ومن إثمهن في ذلك .
والثاني : أن يستعاذ من فتنتهن الناس بسحرهن وما يخدعنهم به من باطلهن .
الثالث : أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهن . انتهى .
وفي الآية تأويل آخر ، وهو اختيار أبي مسلم رحمه الله ، قال : النفاثات النساء ، والعقد عزائم الرجال وآراؤهم ، مستعار من عقد الحبال ، والنفث وهو تليين العقدة من الحبل بريق يقذفه عليه ليصير حبلهُ سهلاً . فمعنى الآية : أن النساء لأجل كثرة حبِّهن في قلوب الرجال يتصرفن في الرجال يحولنهم من رأي إلى رأي ومن عزيمة إلى عزيمة ؛ فأمر الله رسوله بالتعوذ من شرهن . كقوله : { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } [ التغابن : 14 ] ، فكذلك عظم الله كيدهن فقال : { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [ يوسف : 28 ] .
تنبيه :
قال الشهاب : نقل في " التأويلات " عن أبي بكر الأصم أنه قال : إن حديث < سحره صلوات الله عليه > ، المروي هنا ، متروك لِما يلزم من قول الكفرة أنه مسحور . وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه . ونقل الرازي عن القاضي أنه قال : هذه الرواية باطلة ، وكيف يمكن القول بصحتها ، والله تعالى يقول : { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [ المائدة : 67 ] وقال :(1/1209)
{ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [ طه : 69 ] ولأن تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة ؛ ولأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا إلى ضرر جميع الأنبياء والصالحين ، ولقدروا على تحصيل الملك العظيم لأنفسهم ، وكلُّ ذلك باطلٌ ، ولكان الكفار يعيرونه بأنه مسحور . فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوة ، ولحصل فيه - عليه السلام - ذلك العيب . ومعلوم أن ذلك غير جائز . انتهى . ولا غرابة في أن لا يقبل هذا الخبر لما برهن عليه ، وإن كان مخرَّجاً في الصحاح ؛ وذلك لأنه ليس كل مخرج فيها سالماً من النقد ، سنداً أو معنى ، كما يعرفوه الراسخون . على أن المناقشة في خبر الآحاد معروفة من عهد الصحابة .
قال الإمام الغزالي في " المستصفى " : ما من أحد من الصحابة إلا وقد ردَّ خبر الواحد ، كردِّ عليٍّ رضي الله عنه خبر أبي سنان الأشجعي في قصة بروع بنت واشق ، وقد ظهر منه أنه كان يحلف على الحديث . وكردِّ عائشة خبر ابن عمر في < تعذيب الميت ببكاء أهله عليه > ، وظهر من عمر نهيه لأبي موسى وأبي هريرة عن الحديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأمثال ذلك مما ذكر . أورد الغزالي ذلك في مباحث : خبر الآحاد في معرفة شبه المخالفين فيه ، وذكر رحمه الله في مباحث الإجماع إجماعَ الصحابة على تجويز الخلاف للآحاد ، لأدلة ظاهرة قامت عندهم
وقال الإمام ابن تيمية في " المسودة " : الصواب أن من رد الخبر الصحيح كما كانت الصحابة ترده ، لاعتقاده غلط الناقل أو كذبه ، لاعتقاد الراد أن الدليل قد دل على أن الرسول لا يقول هذا ، فإن هذا لا يكفر ولا يفسق ، وإن لم يكن اعتقاده مطابقاً ، فقد رد غير واحد من الصحابة غير واحد من الأخبار التي هي صحيحة عند أهل الحديث . انتهى
وقال العلامة الفناري في " فصول البدائع " : ولا يضلل جاحد الآحاد ، والمسألة معروفة في الأصول ، وإنما توسعت في نقولها لأني رأيت من متعصبة أهل الرأي مَن أكبر ردَّ خبر رواه مثل البخاري ، وضلل منكره ؛ فعلمت أن هذا من الجهل بفنِّ الأصول ، لا بأصول مذهبه ، كما رأيت عن الفناري . ثم قلت : العهد بأهل الرأي أن لا يقيموا للبخاري وزناً ، وقد ردوا المئين من مروياته بالتأويل والنسخ ، فمتى صادقوه حتى يضللوا من رد خبراً فيه ؟ وقد برهن على مدعاه . وقام يدافع عن رسول الله ومصطفاه .
وبعد ، فالبحث في هذا الحديث شهير قديماً وحديثاً ، وقد أوسع المقال فيه شراح " الصحيح " وابن قتيبة في شرح " تأويل مختلف الحديث " والرازي . والحق لا يخفى على طالبه . والله أعلم . (1)
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 357)(1/1210)
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ...).الفلق : جميع الخلق ، لأن كل مخلوق يتولد من غيره ، وينفلق عنه ، كما تنفلق الحبّة عن الشجرة ، والكمّ عن الزّهرة ، والزّهرة عن الثمرة ، والرّحم عن الجنين .. وهكذا مما نعلم من المخلوقات .. ومنه قوله تعالى : « إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى » وقوله تعالى : « فالِقُ الْإِصْباحِ » لأن الإصباح يخرج من أحشاء الظلام ، كما يخرج الجنين من رحم الأمّ.
والاستعاذة : التعوذ ، واللّجأ إلى من يستعاذ به طلبا للحماية ، ودفعا للسوء ، والمكروه.
والغاسق : اللّيل وظلامه المائج فيه .. والغسق ظلمة الليل ..
وأصل الغسق ، السّيلان ، والتدفق ، يقال غسقت القرحة إذا جرى صديدها وتدفق ، ومنه « الغسّاق » وهو صديد أهل النار.
والوقوب ، والوقب : الدخول ، ومنه النّقرة ، لأنه يدخل فيها غيرها من الأشياء ، والغاسق إذا وقب ، أي الليل إذا هجم ، ودخل على النهار فأجلاه عن مكانه.
والنفاثات : من النّفث ، وهو النّفخ بالفم فى الشيء .. وهو جمع نفّاثة مبالغة فى النّفث ، أي كثير النّفث ، مثل علّامة ، وفهّامة .. ويجوز أن يكون جمع مؤنث ..
والعقد : جمع عقدة ، وهى ما يعقد بها على الشيء ، لربطه ، وإحكامه ، ومنه اليمين المنعقدة ، وهى التي تقع عن نية وقصد ، ومنه عقد البيع الذي يتم بين المتبايعين ، وعقدة النكاح التي تتمّ بين الزوجين.وقوله تعالى : « قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ». الخطاب للنبىّ - صلى الله عليه وسلم - ، ولكل متابع له ، مستجيب لدعوته ..
أي اجعل ـ أيها النبىّ ـ عيادك ، ولجأك متعلّقا بربّ المخلوقات ، مقصورا عليه وحده.
والعياذ ، إنما يكون من الشرور ، والمكاره ، التي يلقاها الإنسان على طريق حياته ، وهى تتوارد على الإنسان من المخلوقات ، سواء أكانت من عالم الأحياء أو غير الأحياء ، ، وسواء أكانت منظورة ، معلومة ، أو خفية مجهولة .. ولهذا جاء قوله تعالى : « مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ ».
فهذا هو المستعاذ باللّه من شرّه ، وهو المخلوقات على إطلاقها.
والمخلوقات كلها للّه سبحانه ، وهى من صنعة يده ، وهو وحده سبحانه القادر على دفع شرّها ، وردّ بأسها ، سواء أكانت من قوى الطبيعة ، أو من الحيوان أو الإنسان ..
وليست المخلوقات شرّا. وإنما هى خير فى ذاتها ، وفى نظام الوجود العام ، الذي يأخذ فيه كل مخلوق مكانه من بنائه ، ولو أخلى مكانه لاختلّ نظام الوجود واضطربت مسيرته.
ومن جهة نظر الإنسان إلى المخلوقات ، فإنه ليس كل المخلوقات شرّا ، بل إن معظمها هو خير ، يعيش فيه ، وبنعم به ، وحتى ما يراه هو من بعض المخلوقات شرّا خالصا ، ليس بالشرّ(1/1211)
الخالص ، وأنه لو أنعم النظر فيه لوجد بعض الخير قائما إلى جانب هذا الشر .. فالمخلوقات خيرها كثير ، وشرها بالإضافة إلى الإنسان فى ذاته ، قليل.
فالمستعاذ منه هو هذا الشر القليل إلى جانب الخير الكثير ، والمراد بالاستعاذة من هذا الشر ، هو أن يلقى الإنسان المخلوقات فى خيرها الخالص ، دون شرها ، الذي يستعيذ باللّه منه.
وقد يكون للإنسان ، أو الحيوان حيلة فى دفع بعض الشرّ ، فليحتل حيلته ، وليبذل وسعه ، ولكن هذا لا يمنع الإنسان العاقل من أن يجعل معاذه هو اللّه سبحانه ، كما أن معاذه باللّه ، لا يحمله على تعطيل ملكانه وقواه ، فنلك وسائل أودعها الخالق جلّ وعلا فيه ، وهى داخلة فى الاستعاذة باللّه ، واللّجأ إليه .. فما يملكه الإنسان من قدرات على دفع ما يدفع به من شرور ، ومكاره ، هى أسلحة من عند اللّه سلّحه بها ، فلا يعظلها ، وليذكر فضل المنعم بها عليه ، فإنها عند المؤمن استعاذة باللّه.
وليس الشرّ المستعاذ باللّه منه ، هو شرّ فى ذاته ، لأن اللّه سبحانه ما خلق شرّا ، وإنما هو شرّ إضافىّ ، أو نسبىّ ، وذلك بالإضافة إلى من وقع عليه ، والذي يعدّه شرّا بالنسبة له هو ، ولكنه فى النظام العام للوجود ، هو خير مطلق ، كما قلنا.
وأما الشر المستعاذ به ، فهو شر يقع من احتكاك الموجودات بعضها ببعض ، أشبه بالشرر المتطاير من احتكاك الزناد بالصّوان ، بل هو أشبه بآلام المخاض لميلاد حياة متجددة فى الحياة! فالإنسان فى ذاته يشعر بآلام المرض ، والجوع ، ويجد لذعة الحرمان والفقر ، ومرارة فقد الأحباب والأعزاء ، وخيبة الآمال ، وضياع الفرص ـ إلى غير ذلك مما يساء به الإنسان ، ويألم منه ، ويعده شرا مقيسا بمقياس ذاته. مضبوطا على تلقيات مشاعره له ، وإحساسه به .. وهذا كله غير منكور ، ومن حقّ الإنسان أن يلجأ إلى حمى ربه ، وأن يستعيذ به ، وأن يطلب منه اللطف والعافية ..والمستعيذ باللّه اللّاجئ إلى حماه ، عن إيمان وثيق ، وعن معرفة تامة ، بما للّه سبحانه وتعالى ، من علم ، وحكمة ، وقدرة ، وسلطان ـ يجد نفسه دائما فى هذا الحمى العزيز الذي لا ينال ، وتحت ظل هذا السلطان القوى الذي لا يغلب ، وأن هذه الشرور التي استعاذ بربه منها ، قد انصرفت عنه جملة ، أو خفّت وطأتها ، وذلك حين يعيد النظر فى هذه الشرور على ضوء هذه المشاعر الجديدة التي لقى بها ربه ، وفوض إليه فهيا أمره ـ فيرى كثيرا من هذه الشرور أوهاما وتخيلات ، كما يرى كثير منها أقرب إلى الخير منها إلى الشر ، ثم ما كان منها شرّا خالصا ـ فى تقديره ـ يصبح فى ظل التفويض للّه ، والتسليم لحكمه ، مستساغ الطعم ، خفيف الحمل ، لما يرى من حسن المثوبة عند اللّه ، على ما أصابه ، وصبر عليه ، محتسبا عند اللّه أجره .(1/1212)
قوله تعالى : « وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ ». فى لآية السابقة كانت الاستعاذة باللّه ، استعاذة عامة من جميع الشرور التي ترد على الإنسان من المخلوقات كلها ..
وفى قوله تعالى : « وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ » ـ وما بعدها من الآيات إلى آخر السورة ، استعاذة من شرور بعض المخلوقات ، البادي شرها ..
فالليل حين يهجم على الكائنات ، ويحتوى الإنسان ، يثير فيه كثيرا من المخاوف ، التي تطل عليه من وراء هذا العالم المجهول ، المحجب بهذا الستار الكثيف من الظلام .. من عدوّ متربص ، أو حيوان مفترس ، أو حشرة سامة ، ونحو هذا ..
وفى الليل ، وفى وحشة الظلام ، والسكون ، والوحدة ـ تطرق الإنسان همومه ووساوسه ، وتتوارد عليه آلامه وأشجانه ، فيبيت مؤرقا يئن تحت وطأة هذه الهموم ، وتلك الوساوس .. ومن هنا كثرت مناجاة الناس لليل ، وشكايتهم له ، وبثهم إياه ما توارد عليهم فيه من هموم ، وما طرقهم من غائبات الذكريات الموجعة ..
يقول امرؤ القيس :
وليل كموج البحر أرخى سدوله علىّ بأنواع الهموم ليبتلى
ويقول النابغة الذبياني :
كلينى لهمّ يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنقض وليس الذي يرعى النجوم بآيب
فالليل ، هو الليل ، بوحشته ، وتوارد الهموم على صدور الناس فيه ، ولن يتغير هذا الوجه من الليل ، ولن يتحول إلى نهار بما أطلع الإنسان فيه من شموس وأقمار ، من مولدات الكهرباء .. إن لظلامه سلطانا ، يتسلل من هذه الثياب المصطنعة من النور ، إلى داخل الإنسان ، فيجتم على صدره ، وينسكب فى مشاعره.
وقوله تعالى : « وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ ».. النفث فى العقد : هو السعى بين الناس بالوشاية والنميمة ، فتنحل بذلك عقد الإخاء ، والمودة بينهم ..
وأصل النفث فى الشيء النفخ فيه .. ومنه يقال للحية نفثت سمومها أي ألقت بها من فمها فى جسد الضحية التي وقعت لها ..
وهذه استعاذة باللّه من شر جزئى ، من شرور المخلوقات ، وهو الشر الذي الذي ينجم من مثيرى الفتن والفلاقل ، ومن مهيجى النفوس وإيقاد نار العداوة بين الناس ، فتنحلّ بذلك روابط الإخاء بينهم ، وتنفك عقد التواصل والتراحم بين المتواصلين والمتراحمين .. وإن أكثر ما يقع بين الناس من شر ، وما يقوم بينهم من صراع ، هو من حصاد هؤلاء النفاثين فى العقد ، من الرجال والنفاثات فيها من النساء ، ابتغاء الفتنة ، وتمزيق الوحدة ، وتشتيت الشمل ..(1/1213)
وإذ كانت الكلمة هنا هى الأداة العاملة فى هذا المجال ، فى إيغار الصدور ، وإثارة النفوس ، وبلبلة المشاعر ، وتعكير صفو العواطف ، بالحديث الكاذب والقلة المفتراة ، والشائعة المضللة ـ فقد نصح اللّه سبحانه وتعالى لنا ، بالاستفادة من شر تلك الأفواه الآثمة التي تنفث سمومها فى العقد الموثّقة بيننا وبين أهلنا ، وأصدقائنا ، أبناء مجتمعنا الذي نعيش فيه ..
والنصيحة هنا ذات شقين : أن نأخذ حذرنا من هؤلاء الساعين بالنميمة ، المتنقلين بين الناس بالفتنة ، فنحذرهم كما نحذر الحيات والأفاعى ، ونعوذ باللّه من شرهم ، ونستعين به سبحانه على ردّ كيدهم ، ودفع أذاهم ، واللّه سبحانه وتعالى يقول : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ » (6 : الحجرات) .. ومن جهة أخرى ، نحذر من أنفسنا أن توردنا هذا المورد ، وأن تدفع بنا إلى هذا الطريق الذي يلبسنا ثوب الشر الذي يستعاذ باللّه منه ..
وفى الاستعاذة باللّه من النفاثات ، استعاذة ضمنية أيضا من النفاثين ، إذ كانت النساء فى هذا المجال أكثر من الرجال عددا ، وأثرا ، وإذ كان غالبا وراء كل رجل يثير فتنة ، امرأة تغريه بها ، وتدفع به إليها ، وحسبنا أن نذكر هنا امرأة أبى لهب حمالة الحطب ، والعهد بها قريب ..
وقيل النفاثات : النفوس الخبيثة ، والأرواح الفاسدة. سواء تعلقت بالرجال أو بالنساء ..
هذا ، وفى هذا التعبير عن إفساد ما بين الناس من روابط ، بكلمة « النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ » ـ إعجاز من إعجاز النظم القرآنى ..
والذي يتأمل هذا اللفظ المعجز يجد :
أولا : أن كلمة النّفث تشير إلى هذا الشبه بين فم هذا الذي يسعى بين الناس بالكلمة الآثمة الفاجرة ، وبين الحية التي تنفث سمومها فتصيب بها من الناس مقتلا ..
وثانيا : أن هذا النفث المنطلق من فم هذا الإنسان ، يصدر عن صدر ملىء بالعداوة والبغضاء للناس جميعا .. أشبه بتلك العداوة المتوارثة بين الحية والناس.
وثالثا : أن كلمة « العقد » وهى الروابط القائمة بين الناس ، هى حياة لهم أشبه بتلك الحياة السارية فى أبدانهم ، وأن حلها يفسد هذه الحياة ، كما يفسد حياتهم نفث الأفاعى فيهم ..
ورابعا : ان النفث فى العقد المادية ، من حبال ونحوها ، من شأنه أن يلين من صلابتها ، وأن يعين على حلها ، وكذلك الشأن فى العقد المعنوية ، من روابط الأخوة والمودة بين الناس ، فإن النفث فيها بالنميمة موهن لها ، وممهد لحلّها .. وقوله تعالى : « وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ » والحسد ، فى الأعمّ الأغلب هو الدافع إلى كل عداوة ، الموقد لكل فتنة ، المغرى بالكذب والافتراء على الناس ، لحلّ عقد الوئام والوفاق بينهم ، ولنزع هذه البسمة التي تعلو الشفاه بين المتحابّين ، ولإطفاء إشراقة البشاشة والرضا التي تفيض من وجوه أهل النعمة والرضا ..(1/1214)
فالحسد ـ وهو ما يجده الحاسد فى قلبه ضيق وحسرة ، حين يرى فى يد أحد خيرا ليس فى يده ، ثم لا يهدأ له بال ، ولا تستريح له نفس ، حتى يغرب وجه هذا الخير ـ هو داء يغتال كل معانى الإنسانية فى الإنسان ، فيصبح عداوة متحركة فى الناس ، ترميهم برجوم من العداوة والبغضاء ، وتنفث فيهم سموم الحقد والضغينة ، حتى يميت أو يموت.
كالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله ..
والحسد ـ وليس غيره ـ هو الذي أغرى أهل الكتاب ـ وخاصة اليهود ـ بهذا الموقف الضال الآثم ، من رسالة رسول اللّه ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ وكتمانهم الحق عن علم بأنه رسول اللّه ، وأنه الذي يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل ، كما يقول سبحانه وتعالى فيهم : « يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ » (71 : آل عمران) ويقول سبحانه وتعالى عنهم : « الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ » (146 : البقرة) ويقول جل شأنه فيهم أيضا : « وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً ، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ » (109 : البقرة).
وفى نار الحسد التي تأججت فى صدور اليهود ، ذابت كلّ معالم الحق الذي كان معهم من أمر النبي ، فكفروا به ، واتخذوا طريق الضلال مركبا إلى عذاب الجحيم ..
والحسد ـ وليس غيره ـ هو الذي أغرق مشركى قريش فى الضلال ، وأغراهم بهذا الموقف اللئيم الآئم الذي وقفوه من النبي ، حتى كان عمه أبو لهب هو وامرأته من أشدّ الناس حسدا له ، وتصديا لدعوته ، وتشنيعا عليه ، وكان من مقولات المشركين ما ذكره اللّه عنهم من قولهم : « أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا » ؟ (25 : القمر) .. « لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ » (31 : الزخرف) « أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ ؟ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ » (24 : القمر) وقوله تعالى : « إِذا حَسَدَ » ـ هو قيد للاستعاذة باللّه من الشر الذي ينقدح من صدر الحاسد ، فتشتعل ناره ، وتعلق بمن حسده ..
أما الحسد الساكن ، الذي لم ينضبح بعد ، ولم يتحرك من صدر صاحبه ، ولم يبلغ من القوة بحيث يأخذ صورة عملية ، أبعد من دائرة الخواطر والمشاعر ـ أما هذا الحسد ، فهو طبيعة غالبة فى الناس ، قلّ أن يسلم منه قلب ، أو تخلو منه نفس .. فما أكثر ما يمد الإنسان بصره إلى ما عند الناس ، مما ليس فى يده ، من مال ، أو علم ، أو صحة ، أو شباب ، أو جمال ، أو بنين ، أو نحو هذا ، مما ترغب فيه النفوس ، وتتداعى عليه الآمال ، وما أكثر ما تتولد مشاعر الحسد من المحروم إلى حيث مواطن هذه المحبّبات إلى النفوس ، ثم يجد من دينه ، أو عقله ، أو مروءته ما يردّه عن موقف الحسد ، ثم لا تلبث هذه المشاعر أن تزول وتختفى ..(1/1215)
فهذا الحسد الذي لا يجد من صاحبه قلبا مفتوحا له ، أو نفسا راضية عنه ، هو حسد قد تولى صاحبه دفعه عن الناس ، وأطفأ ناره قبل أن تمتد إلى أحد ، ومن هنا لم يكن وراءه شر يستعاذ به منه ..
هذا ، وقد تكرر لفظ « شر » أربع مرات ، مضافا فى كل مرة إلى جهة خاصة غير الجهات الثلاث ، وذلك لأن الشر الناجم من كل جهة منها مختلف عن غيرها ..
[النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وحديث السحر]
هذا ما يفهم من منطوق آيات اللّه فى قوله تعالى : « وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ ».. وهو فهم يتفق مع سياق السورة ، ومع سورة الإخلاص التي سبقتها ، وسورة الناس التي جاءت بعدها ، والتي كان من ثلاثتها خاتمة كتاب اللّه على ترتيبه فى المصحف ، الذي رتبت سورة بتوقيف من اللّه تعالى ، على ما وقع فى يقيننا.
ولكن بعض المفسرين قد ذهب فى فهم هاتين الآيتين فهما آخر ، إذ زعم أن سورتى الفلق ، والناس نزلتا على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ليسترقى بهما من السحر الذي أصابه ، والذي كان قد صنعه به رجل يهودى ، يدعى لبيد بن الأعصم .. وقد استند هؤلاء المفسرون فى هذا على ما جاء فى صحيحى البخاري ومسلم وغيرهما من كتب الحديث ، من حديث هذا السحر الذي يقال إنه أصاب رسول اللّه صلوات اللّه وسلامه عليه.
روى البخاري ، عن هشام بن عروة بن الزبير ، عن أبيه. ، عن عائشة ـ رضى اللّه عنها ـ قالت : « سحر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ، رجل من بنى زريق ، يقال له لبيد بن الأعصم ، حتى كان رسول اللّه ، - صلى الله عليه وسلم - ، يخيّل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله .. حتى إذا كان ذات يوم ، أو ذات ليلة ، وهو عندى ، دعا اللّه ، ودعاه ، ثم قال : يا عائشة .. أشعرت أن اللّه أفتانى فيما أستفتيه فيه ؟
أتانى رجلان ، فجلس أحدهما عند رأسى ، والآخر عند رجلى ، ثم قال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟ فقال : مطبوب! قال من طبّه ؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي ، من بنى زريق! قال فى أي شى ء ؟ قال فى مشط ومشاطة ، وجفّ طلع تخلة ذكر! قال : فأين هو ؟ قال فى بئر ذروان! .. فأتاها رسول اللّه صلى اللّه عليه فى ناس من أصحابه ، فنظر إليها ، وعليها نخل ، ثم رجع إلى عائشة ، فقال : واللّه لكأن ماءها نقاعة الحنّاء ، وكأنّ رءوس ، نخلها الشياطين » قلت يا رسول اللّه أفأخرجته ؟ قال : لا .. أما أنا فقد عافانى اللّه وشفانى ، وخشيت أن أثير على الناس منه شرا .. فأمر بها ـ أي البئر ـ فدفنت ».
أي ردمت هذا حديث يرويه البخاري عن السيدة عائشة.(1/1216)
ويروى البخاري ، أيضا عن هشام بن عروة بن الزبير ، عن أبيه عن عائشة رضى اللّه عنها ، قال : كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ، سحر حتى كان يرى أنه يأتى النساء ولا يأتيهن ـ وهذا أشدّ ما يكون من السحر ، إذا كان كذا ـ فقال يا عائشة : أعلمت أن اللّه أفتانى فيما أستفتيه فيه ؟ أتانى رجلان ، فقعد أحدهما عند رأسى ، والآخر عند رجلى فقال الذي عند رأسى للآخر : ما بال الرجل ؟ قال : مطبوب ، قال : ومن طبه ؟ قال لبيد بن الأعصم ، رجل من بنى زريق ، حليف ليهود ، كان منافقا.
قال : وفيم ؟ قال فى مشط ومشاطة ؟ قال : وأين ؟ قال : فى جفّ طلعة ذكر ، تحت راعوفة فى بئر ذى أروان .. قالت : فأنى النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ البئر حتى استخرجه ، فقال هذه البئر التي أريتها ، وكأن ماءها نقاعة الحنّاء ، وكأن نحلها رءوس الشياطين .. »
وفى حديث ثالث يرويه البخاري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى اللّه ، عنها .. قالت : « سحر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ، حتى إنه ليخيّل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله ، حتى إذا كان ذات يوم وهو عندى ، دعا اللّه ودعاه ، ثم قال : « أشعرت يا عائشة أن اللّه قد أفنانى فيما أستفتيه فيه ؟ » قلت : وما ذاك يا رسول اللّه ؟ قال : « جاءنى رجلان ..
فجلس أحدهما عند رأسى ، والآخر عند رجلى ، ثم قال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟ قال مطبوب ؟ قال : ومن طبّه ؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي من بنى زريق! قال : فى ماذا ؟ قال : فى مشط ومشاطة وجف لطلعة ذكر. قال فأين هو ؟ قال : فى بئر ذى أروان « 2 ».
قالت : فذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - فى ناس من أصحابه إلى البئر ، فنظر إليها ، وعليها نخل ثم رجع إلى عائشة ، فقال : واللّه لكأن ماءها نقّاعة الحنّاء « 3 » ، ولكأن نخلها رءوس الشياطين .. قلت : يا رسول اللّه ، أفأخرجته ؟ قال : لا ..أمّا أنا فقد عافانى اللّه ، وشفانى ، وخشيت أن أثير على الناس منه شرّا ..وأمر بها فدفنت ». هذا ما رواه البخاري من حديث السّحر ، ومثله ما رواه مسلم ـ والروايات الثلاث للحديث متقاربة اللفظ والمعنى .. وهى تشير إلى أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قد وقع تحت تأثير السّحر من رجل يهودىّ ، وأن هذا التأثير قد بلغ به حدّا يخيّل إليه فيه أنه يفعل الشيء وما فعله ، وأنه يأتى النساء ولا يأتيهن.
وفى مسند الإمام أحمد عن إبراهيم بن خالد عن معمر عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت : لبث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ستة أشهر يرى أنه يأتى النساء ولا يأتى ، فأتاه ملكان فجلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ..
الحديث » وفى تفسير الثعلبي قال ابن عباس وعائشة، رضي الله عنهما: كان غلام من اليهود يخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدبَّت إليه اليهود، فلم يزالوا به حتى أخذ مُشَاطة رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدة أسنان من مُشطه، فأعطاها اليهود، فسحروه فيها. وكان الذي تولى ذلك رجل منهم -يقال له: [لبيد] بن(1/1217)
أعصم-ثم دسها في بئر لبني زُرَيق، ويقال لها: ذَرْوان، فمرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتثر شعر رأسه، ولبث ستة أشهر يُرَى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، وجعل يَذُوب ولا يدري ما عراه. فبينما هو نائم إذ أتاه ملكان فَقَعَد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: ما بال الرجل؟ قال: طُبَ. قال: وما طُبَ؟ قال: سحر. قال: ومن سحره؟ قال: لبيد بن أعصم اليهودي. قال: وبم طَبَه؟ قال: بمشط ومشاطة. قال: وأين هو؟ قال: في جُفَ طلعة تحت راعوفة في بئر ذَرْوَان -والجف: قشر الطلع، والراعوفة: حجر في أسفل البئر ناتئ يقوم عليه الماتح -فانتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مذعورًا، وقال: "يا عائشة، أما شعرت أن الله أخبرني بدائي؟ ". ثم بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليا والزبير وعمار بن ياسر، فنزحوا ماء البئر كأنه نُقاعة الحناء، ثم رفعوا الصخرة، وأخرجوا الجف، فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان من مشطه، وإذا فيه وتر معقود، فيه اثنتا عشرة عقدة مغروزة بالإبر. فأنزل الله تعالى السورتين، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خفة حين انحلت العقدة الأخيرة، فقام كأنما نَشطَ من عقال، وجعل جبريل، عليه السلام، يقول: باسم الله أرْقِيك، من كل شيء يؤذيك، من حاسد وعين الله يشفيك. فقالوا: يا رسول الله، أفلا نأخذ الخبيث نقتله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أما أنا فقد شفاني الله، وأكره أن يثير على الناس شرًا" . (1)
والذي ينظر فى هذه الأحاديث ، وتلك الأخبار يتردّد كثيرا فى قبولها ، أو الوقوف عندها ، إذ كانت تضع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فى الموضع الذي يجور على كماله ، وينتقص من عصمته ..
وقد كان ذلك مثار بحث وخلاف بين العلماء ، فردّ كثير منهم هذه الأحاديث وأبى أن يقبلها ، جاعلا عصمة النبىّ فوق كل اعتبار ، رافعا مقام النبوّة فوق كلّ مقام .. على حين نجد كثيرا من العلماء ، قد انبرى للدفاع عن كتب السنة الصحاح ، وما ورد فيها من أحاديث ، محاولا سدّ باب الطعن فيها ، بتخريج مثل هذه الأحاديث على وجه يمكن قبولها عليه ، ولو ركب فى هذا مركب التعسّف فى التأويل والتخريج .. والانتصار للسنّة ، ولكتب الصحاح الحاملة لها ، أمر يحرص عليه كلّ مسلم ، ويلتقى عنده المسلمون جميعا بلا خلاف .. ولكن حين يكون الموقف كهذا الذي نحن بين يديه ، تختلف وجهات النظر ، ويكون فى المسلمين من يؤثر الجمع بين قبول الحديث وبين الجهة التي يتعلق بها هذا الحديث ، محاولا تعليل ذلك وتبريره ، على حين يكون فى المسلمين من يؤثر مقام النبوّة وتنزيهها عن عوارض النقص ، على كل خبر يساق ، أو حديث يروى . وممن ردّ حديث السّحر ، والأخبار المتصلة ، به من المفسّرين ، الإمام الطبرسي ، فنراه يقول تعقيبا على هذا الحديث المروىّ عن السيدة عائشة ـ رضى اللّه عنها ـ
__________
(1) - الكشف والبيان ـ موافق للمطبوع - (10 / 338) وتفسير ابن كثير - (8 / 538)
هكذا أورده بلا إسناد، وفيه غرابة، وفي بعضه نكارة شديدة، ولبعضه شواهد مما تقدم، والله أعلم.(1/1218)
: « وهذا لا يجوز ، لأن من وصف بأنه مسحور ، فكأنه قد خبل عقله ، وقد أبى اللّه سبحانه وتعالى ذلك فى قوله تعالى : « إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا » (47 ـ 48 : الإسراء).
« ولكن الذي يمكن أن يكون ـ هو أن « اليهودىّ » أو بناته ، قد اجتهدوا فى ذلك فلم يقدروا عليه ، وأطلع اللّه نبيّه - صلى الله عليه وسلم - على ما فعلوه من التمويه ، حتى استخرج ، وكان ذلك دلالة على صدقه ..
« ثم كيف يجوز أن يكون المرض من فعلهم ، ولو قدروا على ذلك لقتلوه ـ أي النبىّ ـ وقتلوا كثيرا من المؤمنين » ؟ .
وهذا الذي يتلمّسه الإمام الطبرسي لقبول الخبر بقوله : « ولكن الذي يمكن أن يكون ـ هو أن اليهودىّ أو بناته اجتهدوا فى ذلك فلم يقدروا عليه ، وأطلع اللّه نبيّه على ما فعلوه من التمويه ، حتى استخرج ، وكان بذلك دلالة على صدقه .. »..
نقول هذا القول لا تقوم منه حجة على صحة الحديث وقبوله ، وذلك :
أولا : أن الخبر المروي يقول : إن لبيد بن الأعصم هو الذي سحر النبي صل اللّه عليه وسلم ، ولم يجر لبناته ذكر فى الحديث على تعدد الروايات التي روى بها ..والخبر وحدة واحدة ، فإما أن يقبل كله ، أو يردّ كله ..
وثانيا : إذا كان ما فعله لبيد هذا ، هو من قبيل التمويه .. فما الحكمة فى أن يطلع اللّه نبيه عليه ؟ ولم يحرص النبي على استخراجه من البئر إذا لم يكن له أثر ؟
وأي دلالة على صدق النبي فى استخراج شىء لا أثر له فى واقع الحياة ؟
ويقول الإمام محمد عبده ، تعقيبا على حديث السحر :
« وقد قال كثير من المقلدين الذين لا يعقلون ما هى النبوة ، ولا ما يجب لها :
« إن الخبر بتأثير السحر فى النفس الشريفة ـ يقصدون نفس النبي ـ قد صحّ ، فيلزم الاعتقاد به .. وعدم التصديق به من بدع المبتدعين ، لأنه ضرب من ضروب السحر ، وقد جاء القرآن بصحة السحر » !.
ويعلق الإمام محمد عبده على هذه المقولة بقوله :
«فانظر كيف ينقلب الدين الصحيح ، والحق الصريح فى نظر المقلد ـ بدعة ؟ نعوذ باللّه! « يحتج بالقرآن على ثبوت السحر « 1 » ، ويعرض عن القرآن فى نفيه السحر عنه - صلى الله عليه وسلم - ، وعدّه من افتراء المشركين « 2 » عليه ويؤول القرآن فى هذا ، ولا يؤول فى تلك ، مع أن الذي قصده المشركون ظاهر ، لأنهم كانوا يقولون : إن الشيطان يلابسه ـ عليه السلام ـ وملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم ، وضرب من ضروبه ، وهو بعينه أثر السحر الذي نسب إلى(1/1219)
لبيد بن الأعصم .. فإنه ـ أي السحر الذي سحره بن الأعصم ـ قد خالط عقله (أي عقل النبي) وإدراكه فى زعمهم ..ثم يقول الإمام محمد عبده :
« والذي يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به ، وأنه كتاب اللّه بالتواتر عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - ، فهو الذي يجب الاعتقاد بما يثبته ، وعدم الاعتقاد بما ينفيه.
« وقد جاء ـ أي القرآن ـ بنفي السحر عنه ، عليه السلام ، حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له ، إلى المشركين أعدائه ، ووبخهم على زعمهم هذا .. فإذن ليس هو بمسحور قطعا.
« وأما الحديث ـ على فرض صحته ـ فهو آحاد ، والآحاد لا يؤخذ بها فى باب العقائد .. وعصمة النبي من تأثير السحر فى عقله ، عقيدة من العقائد ، لا يؤخذ فى نفيها عنه إلا باليقين ، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن والمظنون ..
ثم يقول الإمام .. « على أن الحديث الذي يصل إلينا عن طريق الآحاد ، إنما يحصّل الظنّ عند من صحّ عنده .. أما من قامت له الأدلة على أنه غير صحيح ، فلا تقوم به عليه حجة ..
ثم يقول الإمام : « وعلى أي حال ، فلنا ، بل علينا أن نفوض الأمر فى الحديث ، ولا نحكّمه فى عقيدتنا ، ونأخذ بنص الكتاب ، وبدليل العقل .. فإنه إذا خولط النبي فى عقله ـ كما زعموا ـ جاز عليه أن يظن أنه بلّغ شيئا وهو لم يبلغه ، أو أن شيئا نزل عليه وهو لم ينزل عليه .. والأمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان .. »
والإمامان الجليلان ـ الطبرسي ، ومحمد عبده ـ يقفان هذا الموقف من حديث السحر ، وبين يديهما هذه المقولات الكثيرة التي تنتصر لهذا الحديث وتدفع يد المعارضين له ، بل وترميهم بالكفر ، والإلحاد ..
يقول القاضي عياض فى كتابه : « الشفا ، بتعريف حقوق المصطفى » فى التعليق على حديث السحر : « اعلم وفقنا اللّه وإياك أن هذا الحديث صحيح متفق عليه ، وقد طعنت فيه الملحدة ، وتندّرت به ، لسخف عقولها ، وتلبيسها على أمثالها إلى التشكيك فى الشرع ، وقد نزه اللّه الشرع والنبىّ ، عما يدخل فى أمره لبسا. وإنما السحر مرض من الأمراض ، وعارض من العلل ، يجوز عليه ـ أي على النبي ـ كأنواع الأمراض ، مما لا ينكر ، ولا يقدح فى نبوته ..
« وأما ما ورد من أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله ، فليس فى هذا ما يدخل عليه داخلة فى شىء من تبليغه أو شريعته ، أو يقدح فى صدقه ، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا ، وإنما هذا فيما طروّه عليه فى أمر دنياه التي لم يبعث بسببها ، ولا فضّل من أجلها ، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر ، فغير بعيد أن يخيل له من أمورها ما لا حقيقة له ، ثم ينجلى عنه كما كان!! ثم يقول القاضي عياض : « فقد استبان لك من مضمون هذه الروايات ،(1/1220)
أنه إنما تسلط على ظاهره ، وجوارحه ، لا على قلبه ، واعتقاده وعقله ، وأنه إنما أثّر فى بصره ، وحبسه عن وطء نسائه وطعامه ، وأضعف جسمه وأمرضه ..
ويكون معنى قوله : « يخيل إليه أنه أنى أهله ولا يأتيهن » أي يظهر له من نشاطه ، ومتقدم عادته القدرة على النساء ، فإذا دنا منهن أصابته أخذة السحر فلم يقدر على إتيانهن ، كما يعترى من أخذ وامترض. »
وينقل الآلوسى فى تفسيره روح المعاني عن الإمام المازري قوله تعليقا على هذا الحديث :
« قد أنكر هذا الحديث المبتدعة ، من حيث أنه يحطّ منصب النبوة ويشكك فيها ، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع. « وأجيب ، بأن الحديث صحيح ، وهو غير مراغم للنص « 1 » ، ولا يلزم عليه حطّ منصب النبوة والتشكيك فيها ، لأن الكفار أرادوا بقولهم « مسحور » أنه مجنون ، وحاشاه .. ولو سلّم إرادة ظاهره ، فهو من قبيل هذه القصة ، أو مرادهم أن السحر أثّر فيه ، وأن ما يأتيه من الوحى ، من تخيلات السحر ، وهو كذب أيضا ، لأن اللّه تعالى ، عصمه فيما يتعلق بالرسالة ، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث عليه الصلاة والسلام بسببها ، وهى مما يعرض للبشر ، فغير بعيد أن يخيل إليه من ذلك ما لا حقيقة له .. وقد قيل إنه كان يخيل إليه أنه وطىء زوجاته وليس بواطىء .. وقد يخيل لإنسان مثل هذا فى المنام ، فلا يبعد تخيله فى اليقظة ».
وهذا ـ كما ترى ـ دفاع متهافت ، فإن التسلط على البدن والجوارح ، من شأنه أن يجوز على التفكير ، وأن يفسد الرؤية الصحيحة للأمور ، كما حدث ذلك فيما دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى تصوراته ، كما يقول الحديث!!
وأما ابن قيم الجوزية ، فيعلق على حديث السحر بقوله : « هذا الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث ، متلقّى منهم بالقبول ..لا يختلفون فى صحته ، وقد اعتاص على كثير من أهل الكلام وغير هم ، وأنكروه أشد الإنكار ، وقابلوه بالتكذيب ، وصنف فيه بعضهم مصنفا منفردا ، حمل فيه على هشام ـ ابن عروة بن الزبير ـ راوى الحديث عن السيدة عائشة ـ وكان غاية من أحسن القول فيه (أي فى هشام) ، أن قال : « غلط ، واشتبه عليه الأمر » ولم يكن من هذا شىء ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز أن يسحر ، فإنه ـ أي لو سحر ـ يكون تصديقا لقول الكفار : « إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً » قالوا ـ أي الذين يردون هذا الحديث ـ : وهذا كما قال فرعون : « وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً » وكما قال قوم صالح له : « إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ » « (153 : الشعراء) وكما قال قوم شعيب له : « إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ » (185 : الشعراء) « قالوا ـ أي الذين يردّون هذا الحديث : « فالأنبياء لا يجوز عليهم أن يسحروا ، فإن ذلك ينافى حماية اللّه لهم ، وعصمتهم من الشياطين ».(1/1221)
ثم يقول ابن القيم :
« وهذا الذي قاله هؤلاء ، مردود عند أهل العلم .. فإن هشاما من أوثق الناس وأعلمهم ، ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بما يوجب ردّ حديثه ..
« فما للمتكلمين وما لهذا الشأن ؟ وقد رواه غير هشام عن عائشة .. وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث ، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة .. ؟
ويقول ابن القيم :
« والسحر الذي أصابه (صلوات اللّه وسلامه عليه) كان مرضا عارضا ، شفاه اللّه منه. ولا نقص فى ذلك ولا عيب بوجه ما ، فإن المرض يجوز على الأنبياء ، وكذلك الإغماء ، فقد أغمى عليه - صلى الله عليه وسلم - فى مرضه ، ووقع حين انفكت قدمه ، وجحش شقّه « 1 » ، وهذا من البلاء ، الذي يزيده اللّه به رفعة فى درجاته ، ونيل كرامته .. وأشد الناس بلاء الأنبياء ، فابتلوا من أممهم بما ابتلوا به ، من القتل والضرب ، والشتم ، والحبس .. فليس ببدع أن يبتلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعض أعدائه بنوع من السحر ، كما ابتلى بالذي رماه فشجّه ، وابتلى بالذي ألقى عليه السلام السّلا « 2 » وهو ساجد ، وغير ذلك ، فلا نقص عليهم ـ أي الأنبياء ـ ولا عار فى ذلك ، بل هذا من كمالهم وعلو درجاتهم عند اللّه ثم يقول :
« وأما قولكم : إن سحر الأنبياء ينافى حماية اللّه لهم .. فإنه سبحانه كما يحميهم ويصونهم ، ويحفظهم ويتولاهم ، فإنه يبتليهم بما شاء من أذى الكفار ، ليستوجبوا كمال كرامته ، وليتأسّى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس فرأوا ماجرى على الرسل والأنبياء ـ صبروا وتأسوا بهم ، ولتمتلئ صاع الكفار ، فيستوجبوا ما أعد لهم من النكال العاجل ، والعقوبة الآجلة ، فيمحقهم اللّه بسبب بغيهم وعدوانهم ، فيعجل تطهير الأرض منهم .. فهذا من بعض حكمته تعالى فى ابتلاء أنبيائه ورسله ، بإيذائهم من أقوامهم ، وله الحكمة البالغة ، والنعمة السابغة ، لا إله غيره ، ولا رب سواه ».
وهذا ـ كما ترى ـ دفاع متهافت أيضا ، فإن ما يبتلى اللّه سبحانه أنبياءه به من صنوف الابتلاء من أقوامهم ، إنما هو فى عناد هؤلاء الأقوام ، وفى ضلالهم وتأبيهم على قبول الخير ، وهذا ما لا يمسّ الأنبياء شىء منه .. وأما ما عرض للرسول من إغماء ونحوه ، فقد كان أمرا عارضا لا يتجاوز لحظة من عمر يوم أو ليلة ..
أما أن يمتد هذا المعارض ستة أشهر أو سنة ، فهذا ما يقطع النبىّ عن رسالته ، ويعزله من مقام النبوة.
ويقول ابن حزم فى كتابه المحلّى تعقيبا على حديث السحر :(1/1222)
« فهذا خبر صحيح .. وقد عرّف اللّه تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - من سحره ، فلم يقتله » !! ومن عجب أن عالما فقيها مجتهدا ، واسع الأفق كابن القيم ، وأن عالما كبيرا عرف بنفاذ البصيرة ، واحترام العقل كابن حزم ـ من عجب أن يكون هذا موقف هذين العالمين الجليلين من حديث السحر ، يغلب عليهما فيه ما تواردت عليه مقولات العلماء ، من قبوله ، والاحتجاج إليه .. ولا أدلّ على ذلك من أن ابن القيم يتحدث فى موقف آخر عن السحر ، فيقول ـ فيما ينقله عنه ابن حجر فى شرح هذا الحديث من البخاري ـ يقول : « قال ابن القيم : من أنفع الأدوية وأقوى ما يوجد من النشرة ـ أي استخراج السحر ، وإبطال عمله ـ مقاومة السحر ـ الذي هو من تأثيرات الأرواح الخبيثة ـ بالأدوية الإلهية ، من الذّكر والدعاء ، لا يخل به « 1 » ـ كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له .. قال (أي ابن القيم) :
« وسلطان تأثير السحر ، هو فى القلوب الضعيفة ، ولهذا غالب ما يؤثّر ، فى النساء ، والصبيان والجهال ، لأن الأرواح الخبيثة ، إنما تنشط على أرواح من تلقاه مستعدة لما يناسبها » هذا ما يقرره ابن القيم هنا من تمكن الأرواح الخبيثة ، التي يقع من آثارها ما يسعى السحر ، حسب رأيه .. وهو يرى أن هذه الأرواح الخبيثة لا سلطان لها إلا على الأرواح النازلة ، الضعيفة ، كأرواح الصبيان والجهال .. فكيف يقبل ـ مع هذا ـ قول ، بأن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ـ قد سحر ؟ وكيف يكون هذا قولا لابن القيم نفسه ؟ ينزل هذا بالنبيّ وبمقامه العظيم إلى مستوى الصبيان والجهال ؟
ويردّ ابن حجر على ما نقله ـ ملخصا ـ من قول ابن القيم ، فيقول :
«و يعكّر عليه ـ أي يؤخذ على قوله هذا ـ حديث الباب (أي الباب الذي ورد فيه حديث السحر). وجواز السحر على النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ مع عظيم مقامه ، وصدق توجهه ، وملازمة ورده (أي ذكر اللّه) ثم يقول ابن حجر : « ولكن يمكن الانفصال عن ذلك ـ أي الرد على قول ابن القيم ـ بأن الذي ذكره محمول على الغالب ، وإنما وقع به - صلى الله عليه وسلم - ـ لبيان تجويز ذلك »..
هذا هو جانب من موقف المنكرين لهذا الحديث ، والمدافعين عنه.
وهناك كثير من العلماء ، آثروا العافية ، وأعفوا أنفسهم من أن يكونوا طرفا فى هذه القضية ، وهؤلاء هم جماعة من أئمة المفسرين ، لم يشاؤا أن يعرضوا لحديث السحر ، عند تفسير هم لسورة « الفلق » بل نظروا فى قوله تعالى : « وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ » ـ نظروا فيه نظرا مجانبا لحديث السحر ، فلم يشيروا إلى هذا الحديث من قريب أو بعيد ، مع أن هذا هو موضعه الذي يشار إليه فيه .. وهذا يعنى أنهم فى موقف توقّف إزاء هذا الحديث ، وأنهم يميلون إلى ردّه ، أكثر من ميلهم إلى قبوله .. ومن هؤلاء الأئمة المفسرين الذين وقفوا هذا(1/1223)
الموقف من حديث السحر : الزمخشري ، والطبري ، والقرطبي ، والنّسفى .. هناك إذن ثلاثة مواقف للعلماء من هذا الحديث ، حديث السحر ..
موقف من يردّه ، ويأبى التسليم به ، تنزيها لمقام النبوة ، وتأكيدا لعصمة النبي ..
وموقف من ينصر هذا الحديث ، ويحاول تخريجه على ما يحفظ للنبوة مقامها ، ويبقى على النبي عصمته ..
وموقف من تجنب الخوض فى هذه المعركة ، مهاجما أو مدافعا ، فلم يعرض لهذا الحديث بإشارة من قريب أو من بعيد ..
وإنى إذ أسأل نفسى أىّ موقف من هذه المواقف أنحاز إليه ، وآخذ مكانى فيه ، ما دمت قد أقحمت نفسى فى زمرة العلماء الدارسين لكتاب اللّه ـ لأجدنى محمولا حملا لا شعوريا على التوقف فى هذا الحديث ، ثم على تركه وعدم الأخذ به .. وذلك لأمور :
أولهما : أنه ليس حديثا يروى عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ـ يريد به أمرا من أوامر الدين ، أو نهيا من نواهيه ، أو يبغى به نصحا أو إرشادا مما يتصل بالشريعة وأحكامها وآدابها..
فهذا الحديث ـ إن صح ـ لا يعدو أن يكون خبرا عن حال من أحوال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ، الخاصة به ، والتي لا يطلع عليها غير خاصة أهله كالسيدة عائشة رضى اللّه عنها .. فهذا الحديث ـ إن صح ـ لم يرد إلا عن السيدة عائشة ، وهذا يعنى أن هذا العارض الذي عرض للنبى ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ لم يكن له أي أثر خارج بيت الرسول ، وخارج صلته بالسيدة عائشة بالذات ، والتي قيل إن رسول اللّه حبس عنها ستة أشهر ، وفى بعض الروايات سنة .. ولو كان هذا العارض الذي عرض للنبىّ ذا أثر فى غير هذه الدائرة الضيقة المحدودة ، لا شهر أمره ، ولكان حدثا من الأحداث التي يهتز لها كيان المجتمع الإسلامى كله ، بل ولطارت أنباؤه خارج الجزيرة العربية ، ولكان حديثا جاريا على ألسنة المسلمين وأعداء المسلمين فى كل مكان ، ولعاش فى أجيال الأمة المسلمين زمنا ممتدا ، لا ينقطع الحديث عنه
أما أن يكون حديث آحاد ، لا يمسك به إلا آل الزبير عن السيدة عائشة ، فهذا ما لا يتسع منطق الحياة لقبوله ، إلا أن يكون مما يتصل بالعلاقة الزوجية بين النبي ، وبين السيدة عائشة وحدها .. ، فلا تطلع عليه إلّا هى ومن كان قريبا منها كأبناء أختها صفية ، من زوجها الزبير بن العوام.
وثانيها : أن القرآن الكريم يقول للنبى الكريم : « وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ »..
وهذا وعد من اللّه سبحانه وتعالى بحفظ النبىّ ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ مما يكيد له به أعداؤه ، سواء أكان ذلك فيما يتصل بجسده ، أو عقله ، أو مشاعره ..(1/1224)
فاللّه سبحانه قد تولى حراسة النبي حراسة مطلقة ، بحيث لا يخلص إليه من الناس أذى ، أو يصل إليه منهم سوء ..
ولهذا قال النبىّ ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ حين تلقى هذه الآية ـ قال لمن كان يتولى حراسته من أصحابه تطوعا : « يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمنى اللّه عزّ وجلّ » فهل يعقل بعد هذا ، أن يتولى اللّه سبحانه وتعالى حراسة النبي ، وأن يخبره بهذا ، ثم لا يدفع عنه هذا الكيد الذي يقال إن لبيد بن الأعصم كاده له ، وأصابه به فى أقتل مقاتله ، وهو عقله ؟ .. وكم امتدت هذه البلوى ؟ لقد قيل إنها ستة أشهر ، وقيل سنة كاملة!! ..
وماذا يبقى من النبي ـ بل من أي إنسان ـ إذا أصيب فى عقله ، واختلط فى تفكيره ، حتى ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله ، ويأتى أزواجه وهو لا يأتيهن ؟
أما كان من الجائز ، بل من الواقع الذي لا يمكن توقيه ـ أن يحدث النبي ـ وحاشاه ـ فى شرع اللّه حدثا ، فيقول ـ وهو لا يدرى ـ ما يحسبه المؤمنون المتلقون عنه ـ أنه قرآن أو سنة ، وهو ليس بقرآن ولا سنة ، فيأخذون به ويقيمون دينهم عليه ؟ أم ترى أن المسلمين ـ وقد عرفوا ما بالنبي ـ عزلوه عن النبوة خلال تلك المدة ، فلم يسمعوا ما يقول ، ولم يقبلوه منه ؟ وكيف واللّه سبحانه وتعالى يقول : « وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا » ؟
(7 : الحشر) أمسلمون بلا نبىّ ، والنبي فيهم ؟ أم نبى ولا مسلمون ، والمسلمون ألوف ، وألوف بين يديه .. ؟
وثالثها : المعروف المؤكد من سيرة الرسول أنه كان إمام المسلمين فى الصلوات الخمس ، فى الحضر ، وفى السفر ـ فهل كان النبىّ خلال هذا العارض الذي عرض له ـ وقد امتدّ أشهرا ـ هل كان يقيم للمسلمين صلاتهم دون أن يختلط عليه أمر الصلاة ، فى أقوالها ، وأفعالها ؟ وكيف كان يمكن أن يتحقق من أنه جالس ، أو قائم ، أو راكع ، أو ساجد .. وهو فى حال يحيّل إليه فيها أنه يفعل الشيء ولا يفعله ؟
لقد كان الرسول صلوات اللّه عليه حريصا على أن يقيم للمسلمين صلاتهم حتى فى مرض موته ، فكان يتحامل على نفسه ، ويمضى إلى المسجد ـ لا تكاد تحمله قدماه ـ مستندا من جانبيه على صاحبين من صحابته ، حتى ثقل عليه المرض فى اليومين الأخيرين من حياته فى هذه الدنيا ، فأمر أبا بكر بأن يصلّى بالناس .. وإذن فالمقطوع به ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقطعه عارض أبدا عن الصلاة بأصحابه غير عارض مرض الموت فى يوميه الأخيرين .. وإذن فأين ، ومتى ، كان هذا العارض الذي دخل على النبىّ من السّحر ، والذي أدار تفكيره ، وقلب موازين الأمور بين يديه ؟ وهل كان هذا العارض ، ولم يشهد المسلمون أثرا له فى أقوال النبىّ وأفعاله فى الصلاة ؟ ولم إذن يأخذ هذا الوصف ؟ ولم إذن يكون له فى حياة النبىّ ذكر ؟(1/1225)
فإذا قلنا إن النبىّ ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ لم يسحر ، ولم يمسسه سوء ، فى جسده ، أو عقله ، قام بين أيدينا أكثر من شاهد يصدّق هذا القول ويؤكده ..
فأولا : عصمة النبوّة ، تلك العصمة التي لا تتحقق إلا بالسلامة المطلقة فى العقل أولا ، وفى الجسد ثانيا.
وثانيا : ما وعد اللّه به نبيّه الكريم فى قوله سبحانه : « وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ».
وثالثا : الواقع المحسوس الذي قامت عليه حياة الرسول فى أصحابه ، وأنه كان يقيم لهم صلاتهم ، فى الحضر والسفر ، فى السلم والحرب ، لم يتخلف عن هذا يوما واحدا ، أو فريضة واحدة ، إلا فى اليومين الأخيرين من حياته ..
هذا ما ينبغى أن يتقرر ويتأكد ، وما يجب أن نقيم عليه إيماننا باللّه ، وبرسول اللّه ..
هذا وقد يلقانا من يقول : كيف تتصدى لخبر ورد فى البخاري ، وفى مسلم وفى كتب السنة الصحاح ؟ وكيف تشك فيه وتتردد فى قبوله ؟ إن ذلك إن سلّم لك به كان معناه إهدار السنة ، ووضع مصادرها الموثّقة موضع الاتهام!! ونقول : كلا : إننا نحترم كتب السنة ، وننزل أصحابها من نفوسنا منزلة الإعزاز والإجلال ، ونكبر جهادهم المبرور فى جمع السنّة المطهرة وحفظها ..
ولكن هذه قضية ، ورفع مقام هذه الكتب فوق مقام القرآن الكريم ، وإنزاله على حكمها ، مما يخالف صريح محكم آياته ـ قضية أخرى ..
ولقد صحّ منا العزم ، ونحن نكتب هذه السطور الأخيرة من تفسير كتاب اللّه ، أن نلتقى بكتب السنّة فى دراسة ، نرجو أن يوفقنا اللّه فيها ، وأن يعيننا عليها ، وأن يسدد خطانا على طريق الحق إلى سنة رسول اللّه ، صلوات اللّه وسلامه عليه ، التي هى وحي من عند اللّه ، وبيان شارح لكتاب اللّه .. « رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ .. » (1)
هذه السورة والتي بعدها توجيه من الله سبحانه وتعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ابتداء وللمؤمنين من بعده جميعاً ، للعياذ بكنفه ، واللياذ بحماه ، من كل مخوف : خاف وظاهر ، مجهول ومعلوم ، على وجه الإجمال وعلى وجه التفصيل . . وكأنما يفتح الله سبحانه لهم حماه ، ويبسط لهم كنفه ، ويقول لهم ، في مودة وعطف : تعالوا إلى هنا . تعالوا إلى الحمى . تعالوا إلى مأمنكم الذي تطمئنون فيه . تعالوا فأنا أعلم أنكم ضعاف وأن لكم أعداء وأن حولكم مخاوف وهنا . . هنا الأمن
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1718)(1/1226)
والطمأنينة والسلام . .ومن ثم تبدأ كل منهما بهذا التوجيه . { قل : أعوذ برب الفلق } . . { قل : أعوذ برب الناس } . .
وفي قصة نزولها وقصة تداولها وردت عدة آثار ، تتفق كلها مع هذا الظل الذي استروحناه ، والذي يتضح من الآثار المروية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استروحه في عمق وفرح وانطلاق : عن عقبة ابن عامر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم يُر مثلهن قط؟ قل : أعوذ برب الفلق وقل : أعوذ برب الناس » .
وعن جابر رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « اقرأ يا جابر . قلت ماذا بأبي أنت وأمي؟ قال : اقرأ . قل أعوذ برب الفلق . وقل أعوذ برب الناس » فقرأتهما . فقال : « اقرأ بهما فلن تقرأ بمثلهما » .وعن ذر بن حبيش قال : سألت أبي بن كعب رضي الله عنه عن المعوذتين . قلت : يا أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا ( وكان ابن مسعود لا يثبتهما في مصحفه ثم ثاب إلى رأي الجماعة وقد أثبتهما في المصحف ) فقال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : « قيل لي : قل . فقلت » فنحن نقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكل هذه الآثار تشي بتلك الظلال الحانية الحبيبة . .
وهنا في هذه السورة يذكر الله سبحانه نفسه بصفته التي بها يكون العياذ من شر ما ذكر في السورة . { قل أعوذ برب الفلق } . . الفلق من معانيه الصبح ، ومن معانيه الخلق كله . بالإشارة إلى كل ما يفلق عنه الوجود والحياة ، كما قال في الأنعام : { إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي } وكما قال : { فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً } وسواء كان هو الصبح فالاستعاذة برب الصبح الذي يؤمّن بالنور من شر كل غامض مستور ، أو كان هو الخلق فالاستعاذة برب الخلق الذي يؤمّن من شر خلقه ، فالمعنى يتناسق مع ما بعده ..
{ من شر ما خلق } . . أي من شر خلقه إطلاقاً وإجمالاً . وللخلائق شرور في حالات اتصال بعضها ببعض . كما أن لها خيراً ونفعاً في حالات أخرى . والاستعاذة بالله هنا من شرها ليبقى خيرها . والله الذي خلقها قادر على توجيهها وتدبير الحالات التي يتضح فيها خيرها لا شرها!
{ ومن شر غاسق إذا وقب } . . والغاسق في اللغة الدافق ، والوقب النقرة في الجبل يسيل منها الماء . والمقصود هنا غالباً هو الليل وما فيه . الليل حين يتدفق فيغمر البسيطة . والليل حينئذ مخوف بذاته . فضلاً على ما يثيره من توقع للمجهول الخافي من كل شيء : من وحش مفترس يهجم . ومتلصص فاتك يقتحم . وعدو مخادع يتمكن . وحشرة سامة تزحف . ومن وساوس وهواجس وهموم وأشجان تتسرب في الليل ، وتخنق المشاعر والوجدان ، ومن شيطان تساعده(1/1227)
الظلمة على الانطلاق والإيحاء . ومن شهوة تستيقظ في الوحدة والظلام . ومن ظاهر وخاف يدب ويثب ، في الغاسق إذا وقب!
{ ومن شر النفاثات في العقد } . . والنفاثات في العقد : السواحر الساعيات بالأذى عن طريق خداع الحواس ، خداع الأعصاب ، والإيحاء إلى النفوس والتأثير والمشاعر . وهن يعقدن العقد في نحو خيط أو منديل وينفثن فيها كتقليد من تقاليد السحر والإيحاء!
والسحر لا يغير من طبيعة الأشياء؛ ولا ينشئ حقيقة جديدة لها . ولكنه يخيل للحواس والمشاعر بما يريده الساحر . وهذا هو السحر كما صوره القرآن الكريم في قصة موسى عليه السلام : سورة طه { قالوا : يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى . قال : بل ألقوا . فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى . فأوجس في نفسه خيفة موسى . قلنا : لا تخف إنك أنت الأعلى . وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى . . } وهكذا لم تنقلب حبالهم وعصيهم حيات فعلاً ، ولكن خيل إلى الناس وموسى معهم أنها تسعى إلى حد أن أوجس في نفسه خيفة ، حتى جاءه التثبيت . ثم انكشفت الحقيقة حين انقلبت عصا موسى بالفعل حية فلقفت الحبال والعصي المزروة المسحورة .
وهذه هي طبيعة السحر كما ينبغي لنا أن نسلم بها . وهو بهذه الطبيعة يؤثر في الناس ، وينشئ لهم مشاعر وفق إيحائه . . مشاعر تخيفهم وتؤذيهم وتوجههم الوجهة التي يريدها الساحر ، وعند هذا الحد نقف في فهم طبيعة السحر والنفث في العقد . . وهي شر يستعاذ منه بالله ، ويلجأ منه إلى حماه .
وقد وردت روايات بعضها صحيح ولكنه غير متواتر أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة قيل أياماً ، وقيل أشهراً . . حتى كان يخيل إليه أنه يأتي النساء وهو لا يأتيهن في رواية ، وحتى كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله في رواية ، وأن السورتين نزلتا رقية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما استحضر السحر المقصود كما أخبر في رؤياه وقرأ السورتين انحلت العقد ، وذهب عنه السوء .
ولكن هذه الروايات تخالف أصل العصمة النبوية في الفعل والتبليغ ، ولا تستقيم مع الاعتقاد بأن كل فعل من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - وكل قول من أقواله سنة وشريعة ، كما أنها تصطدم بنفي القرآن عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه مسحور ، وتكذيب المشركين فيما كانوا يدعونه من هذا الإفك . ومن ثم تستبَعد هذه الروايات . . وأحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في أمر العقيدة . والمرجع هو القرآن . والتواتر شرط للأخذ بالأحاديث في أصول الاعتقاد . وهذه الروايات ليست من المتواتر . فضلاً على أن نزول هاتين السورتين في مكة هو الراجح . مما يوهن أساس الروايات الأخرى .(1/1228)
{ ومن شر حاسد إذا حسد } . .والحسد انفعال نفسي إزاء نعمة الله على بعض عباده مع تمني زوالها . وسواء أتبع الحاسد هذا الانفعال بسعي منه لإزالة النعمة تحت تأثير الحقد والغيظ ، أو وقف عند حد الانفعال النفسي ، فإن شراً يمكن أن يعقب هذا الانفعال .
ونحن مضطرون أن نطامن من حدة النفي لما لا نعرف من أسرار هذا الوجود ، وأسرار النفس البشرية ، وأسرار هذا الجهاز الإنساني . فهنالك وقائع كثيرة تصدر عن هذه الأسرار ، ولا نملك لها حتى اليوم تعليلاً . . هنالك مثلاً ذلك التخاطر على البعد . وفيه تتم اتصالات بين أشخاص متباعدين . اتصالات لا سبيل إلى الشك في وقوعها بعد تواتر الأخبار بها وقيام التجارب الكثيرة المثبتة لها . ولا سبيل كذلك لتعليلها بما بين أيدينا من معلومات . وكذلك التنويم المغناطيسي . وقد أصبح الآن موضعاً للتجربة المتكررة المثبتة . وهو مجهول السر والكيفية . . وغير التخاطر والتنويم كثير من أسرار الوجود وأسرار النفس وأسرار هذا الجهاز الإنساني . .
فإذا حسد الحاسد ، ووجه انفعالاً نفسياً معيناً إلى المحسود فلا سبيل لنفي أثر هذا التوجيه لمجرد أن ما لدينا من العلم وأدوات الاختبار ، لا تصل إلى سر هذا الأثر وكيفيته . فنحن لا ندري إلا القليل في هذا الميدان . وهذا القليل يُكشف لنا عنه مصادفة في الغالب ، ثم يستقر كحقيقة واقعة بعد ذلك!
فهنا شر يستعاذ منه بالله ، ويستجار منه بحماه .
والله برحمته وفضله هو الذي يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأمته من ورائه إلى الاستعاذة به من هذه الشرور . ومن المقطوع به أنهم متى استعاذوا به وفق توجيهه أعاذهم . وحماهم من هذه الشرور إجمالاً وتفصيلاً .
وقد روى البخاري بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - « كان إذا آوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ، ثم نفث فيهما ، وقرأ فيهما ، { قل هو الله أحد } . و { قل : أعوذ برب الفلق } . و { قل : أعوذ برب الناس } . ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ، يبدأ بهما على رأسه ووجهه . وما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات » . . وهكذا رواه أصحاب السنن . . (1)
قلت : حديث السحر صحيح ولا يجوز رده لأي سبب كان :
وأما ماورد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من تبليغه أو شريعته، أو يقدح في صدقه لقيام الدليل، والإجماع على عصمته من هذا،
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 4006)(1/1229)
وإنما هذا فيما يجوز طروه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث بسببها، ولا فضّل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها مالا حقيقة له، ثم ينجلي عنه كما كان، وأيضًا فقد فسر هذا الفصل الحديث الآخر من قوله حتى يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتيهن، وقد قال سفيان: هذا أشدّ مايكون من السحر، ولم يأت فى خبر منها أنه نقل عنه في ذلك قول بخلاف ماكان أخبر أنه فعله ولم يفعله، وإنما كانت خواطر وتخيلات، وقد قيل: إن المراد بالحديث أنه كان يتخيل الشيء أنه فعله وما فعله، لكنه تخييل لا يعتقد صحته، فتكون اعتقاداته كلها على السداد، وأقواله على الصحة، هذا ما وقفت عليه لأئمتنا من الأجوبة عن هذا الحديث مع ما أوضحنا من معنى كلامهم وزدناه بيانًا من تلويحاتهم، وكل وجه منها مقنع لكنه قد ظهر لي في الحديث تأويل أجلى وأبعد من مطاعن ذوي الأضاليل، يستفاد من نفس الحديث، وهو أن عبدالرزاق قد روى هذا الحديث عن ابن المسيب وعروة بن الزبير وقال فيه عنهما: سحر يهود بني زريق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجعلوه في بئر حتّى كاد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن ينكر بصره ثمّ دلّه الله على ما صنعوا فاستخرجه من البئر.
وروي نحوه عن الواقدي وعن عبدالرحمن بن كعب وعمر بن الحكم وذكر عن عطاء الخراساني عن يحيى بن يعمر : حبس رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن عائشة سنةً فبينا هو نائم أتاه ملكان، فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه... الحديث.
قال عبدالرزاق: حبس رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن عائشة خاصّةً سنةً حتّى أنكر بصره.
وروى محمد بن سعد عن ابن عباس: مرض رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فحبس عن النّساء والطّعام والشّراب فهبط عليه ملكان. وذكر القصة.
فقد استبان لك من مضمون هذه الروايات أن السحر إنما تسلط على ظاهره وجوارحه لا على قلبه واعتقاده وعقله، وأنّه إنما أثّر في بصره وحبسه عن وطء نسائه وطعامه، وأضعف جسمه وأمرضه.
ويكون معنى قوله: (يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتيهن)، أي: يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة على النساء فإذا دنا منهن أصابته أخذة السحر فلم يقدر على إتيانهن كما يعتري من أخذ واعترض، ولعله لمثل هذا أشار سفيان بقوله: وهذا أشد ما يكون من السحر، ويكون قول عائشة في الرواية الأخرى: إنّه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله، من باب ما اختل من بصره، كما ذكر في الحديث، فيظن أنه رأى شخصًا من بعض أزواجه أو شاهد فعلاً من غيره، ولم يكن على ما يخيل إليه لما أصابه في بصره وضعف نظره، لا لشيء طرأ عليه في ميزه،(1/1230)
وإذا كان هذا لم يكن فيما ذكر من إصابة السحر له وتأثيره فيه ما يدخل لبسًا ولا يجد به الملحد المعترض أنسًا. اهكلامه رحمه الله.
وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (ج10 ص226): قال المازري: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع، إذ يحتمل على هذا أنه يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم وأنه يوحى إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء.
قال المازري: وهذا كله مردود، لأن الدليل على صدق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى، وعلى عصمته في التبليغ والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ولا كانت الرسالة من أجلها، فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين. قال: وقد قال بعض الناس إن المراد بالحديث أنه كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطأهن، وهذا كثيًرا ما يقع تخيله للإنسان في المنام، فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة.
قلت: وهذا قد ورد صريحًا في رواية ابن عيينة في الباب الذى يلي هذا ولفظه: (حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن) وفي رواية الحميدي: (أنه يأتي أهله ولا يأتيهم).
قال الداودي: يرى بضم أوله، أي: يظن، وقال ابن التين: ضبطت يرى بفتح أوله.
قلت: وهو من الرأي لا من الرؤية، فيرجع إلى معنى الظن، وفي مرسل يحيى بن يعمر عند عبدالرزاق: سحر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن عائشة حتى أنكر بصره. وعنده في مرسل سعيد بن المسيب: حتّى كاد ينكر بصره.
قال عياض: فظهر بهذا أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه، لا على تمييزه ومعتقده.
قلت: ووقع في مرسل عبدالرحمن بن كعب عند ابن سعد: فقالت أخت لبيد بن الأعصم: أن يكن نبيًا فسيخبر، وإلا فسيذهله هذا السحر حتى يذهب عقله.
قلت: فوقع الشق الأول، كما في هذا الحديث الصحيح، وقد قال بعض العلماء: لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت فلا يبقى على هذا للملحد حجة.
وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد بالتخييل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته من الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فتر عن ذلك، كما هو شأن المعقود، ويكون قوله في الرواية الأخرى: حتى كاد ينكر بصره، أي: صار كالذي أنكر بصره بحيث أنه إذا(1/1231)
رأى الشيء يخيل إليه أنه على غير صفته، فإذا تأمّله عرف حقيقته، ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه في خبر من الأخبار أنه قال قولا فكان بخلاف ما أخبر به.
وقال المهلب: صون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده فقد مضى في الصحيح: أنّ شيطانًا أراد أن يفسد عليه صلاته فأمكنه الله منه.
فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يدخل نقصًا على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض من ضعف عن الكلام أو عجز عن بعض الفعل أو حدوث تخيل لا يستمر بل يزول ويبطل الله كيد الشياطين.
واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث: ((أما أنا فقد شفاني الله)) . وفي الاستدلال بذلك نظر، لكن يؤيد المدعى أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في "الدلائل" فكان يدور ولا يدري ما وجعه، وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد: مرض النّبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأخذ عن النّساء والطّعام والشّراب فهبط عليه ملكان. الحديث.
قال عبدالرحمن المعلمي في "الأنوار الكاشفة" ص(249): وذكر (يعني أبا رية) كلامًا للشيخ محمد عبده في حديث: أنّ يهوديًا سحر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أقول: النظر في هذا في مقامات:
المقام الأول: ملخص الحديث أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في فترة من عمره ناله مرض خفيف، ذكرت عائشة أشد أعراضه بقولها: (حتى كان يرى أنه يأتي أهله ولا يأتيهم) وفي رواية: (حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن).
وفي أخرى: (يخيل إليه كان يفعل الشيء وما فعله). والرواية الأولى فيما يظهر أصح الروايات، فالأخريان محمولتان عليها.
وفي "فتح الباري" (ج10 ص193): قال بعض العلماء: (لا يلزم من أنه يظن أنه فعل الشيء و لم يكن فعله، أن يجزم بفعله ذلك وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت).
أقول: وفي سياق الحديث ما يشهد لهذا، فإن فيه شعوره صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك المرض ودعاءه ربه أن يشفيه.
فالذي يتحقق دلالة الخبر عليه أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في تلك الفترة يعرض له خاطر أنه قد جاء إلى عائشة وهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم عالم أنه لم يجئها، ولكنه كان يعاوده ذاك الخاطر على خلاف عادته، فتأذّى صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ذلك، وليس في حمل الحديث على هذا تعسف ولا تكلف.(1/1232)
المقام الثاني: في الحديث عن عائشة: حتّى إذا كان ذات يوم وهو عندي، لكنّه دعا ودعا، ثمّ قال: ((يا عائشة أشعرت أنّ الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان)).(أي: ملكان -كما في رواية أخرى- في صورة رجلين)... فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرّجل؟ فقال: مطبوب، قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أيّ شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجفّ طلع نخلة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان)) فأتاها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ناس من أصحابه، فجاء، قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: ((قد عافاني الله، فكرهت أن أثير على النّاس شرًّا فأمرت بها فدفنت)).
ومحصل هذا أن لبيد أراد إلحاق ضرر بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فعمل عملاً في مشط ومشاطة، الخ. فهل من شأن ذلك أن يؤثر، قد يقال: لا ولكن إذا شاء الله تعالى خلق الأثر عقبه والأقرب أن يقال: نعم بإذن الله، والإذن هنا خاص. وبيانه أن الأفعال التى من شأنها أن تؤثر ضربان: الأول: ما أذن الله تعالى بتأثيره إذنًا مطلقًا ثم إذا شاء منعه، وذلك كالاتصال بالنار مأذون فيه بالإحراق إذنًا مطلقًا قلما أراد الله تعالى منعه، قال: {يانار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم}.
الضرب الثاني: ما هو ممنوع من التأثير منعًا مطلقًا، فإذا اقتضت الحكمة أن يمكّن من التأثير رفع المنع فيؤثر، وقوله تعالى في السحر: {وما هم بضارّين به من أحد إلاّ بإذن الله} يدل أنه من الضرب الثاني وأن المراد بالإذن، الإذن الخاص، والحكمة في مصلحة الناس تقتضى هذا، والواقع في شئونهم يشهد له، وإذا كان هذا حاله فلا غرابة في خفاء وجه التأثير علينا.
المقام الثالث: النظر في كلام الشيخ محمد عبده وفيه ثلاث قضايا: القضية الأولى: قال: (فعلى صحته هو آحاد والآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد).
أقول: أما صحته فثابتة بإثبات أئمة الحديث لها فإن أراد الصحة فى نفس الأمر فهب أنا لا نقطع بها ولكنا نظنها ظنًا غالبًا، وعلى كلا الحالتين فواضعو تلك القاعدة لا ينكرون أنه يفيد الظن، ومن أنكر ذلك فهو مكابر، وإذا أفاد الظن فلا مفر من الظن وما يترتب على الظن، فلم يبق إلا أنه لا يفيد القطع، وهذا حق في كل دليل لا يفيد إلا الظن.
القضية الثانية: أنّه مناف للعصمة في التبليغ، قال: فإنه قد خالط عقله وإدراكه في زعمهم، فإنه إذا خولط في عقله كما زعموا جاز عليه أن يظن أنه بلغ شيئًا وهو لم يبلغه أو أنّ شيئًا ينْزل عليه وهو لم ينْزل عليه.أقول: أما المتحقق من معنى الحديث كما قدمنا في المقام الأول، فليس فيه ما يصح أن يعبر عنه بقولك: خولط في عقله. وإنما ذاك خاطر عابر ولو فرض أنه بلغ الظن فهو في أمر خاص من أمور الدنيا، لم يتعده إلى سائر أمور الدنيا فضلاً عن أمور الدين، ولا يلزم من حدوثه في ذاك الأمر جوازه في ما يتعلق بالتبليغ بل سبيله سبيل ظنه أن النخل لا(1/1233)
يحتاج إلى التأبير، وظنه بعد أن صلى ركعتين أنه صلى أربعًا وغير ذلك من قضايا السهو في الصلاة، وراجع ص(18-19) وفي القرآن ذكر غضب موسى على أخيه هارون وأخذه برأسه لظنه أنه قصر، مع أنه لم يقصر، وفيه قول يعقوب لبنيه لما ذكروا له ما جرى لابنه الثاني: { بل سوّلت لكم أنفسكم أمرًا} يتهمهم بتدبير مكيدة مع أنّهم كانوا حينئذ أبرياء صادقين. وقد يكون من هذا بعض كلمات موسى للخضر. وانظر قوله تعالى في يونس: {فظنّ أن لن نقدر عليه}.
القضية الثالثة: الحديث مخالف للقرآن في نفيه السحر عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعده من افتراء المشركين عليه، مع أن الذي قصده المشركون ظاهر لأنّهم كانوا يقولون: إن الشيطان يلابسه عليه السلام، وملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم، وضرب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر الذي ينسب إلى لبيد... وقد جاء بنفي السحر عنه عليه السلام، حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له إلى المشركين أعدائه، ووبّخهم على زعمهم هذا، فإذًا هو ليس بمسحور قطعًا.
أقول: كان المشركون يعلمون أنه لا مساغ لأن يزعموا أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم يفتري -أي: يتعمّد- الكذب على الله عز وجل فيما يخبر به عنه، ولا لأنه يكذب في ذلك مع كثرته غير عامد فلجأوا إلى محاولة تقريب هذا الثاني بزعم أنه له اتصال بالجن، وأن الجن يلقون إليه ما يلقون فيصدقهم ويخبر الناس بما ألقوه إليه، هذا مدار شبهتهم وهو مرادهم بقولهم: به جنّة. مجنون، كاهن، ساحر، مسحور، شاعر، كانوا يزعمون أنّ للشعراء قرناء من الجن تلقي إليهم الشعر، فزعموا أنه شاعر، أي: أنّ الجن تلقي إليه كما تلقي إلى الشعراء ولم يقصدوا أنه يقول الشعر، أو أنّ القرآن شعر.
إذا عرف هذا فالمشركون أرادوا بقولهم: {إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحورًا} أنّ أمر النبوة كله سحر، وأن ذلك ناشئ عن الشياطين استولوا عليه -بزعمهم- يلقون إليه القرآن ويأمرونه وينهونه، فيصدقهم في ذلك كله ظانًا أنه أنما يتلقى من الله وملائكته، ولا ريب أن الحال التي ذكر في الحديث عروضها له صلى الله عليه وعلى آله وسلم لفترة خاصة ليست هي هذه التي زعمها المشركون ولا هي من قبيلها في شيء من الأوصاف المذكورة، إذن تكذيب القرآن وما زعمه المشركون لا يصح أن يؤخذ منه نفيه لما في الحديث.
فإن قيل: قد أطلق على تلك الحالة أنه سحر ففي الحديث عن عائشة سحر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجل... والسحر من الشياطين، وقد قال الله تعالى للشيطان: {إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان}.
قلت: أما الذى أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الملك فإنما سماها طبًا كما مر في الحديث، وقد أنشد ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" (ج3 ص408):(1/1234)
فإن كنت مطبوبًا فلا زلت هكذا وإن كنت مسحورًا فلا برأ للسحر
وأقل ما يدل عليه هذا أن الطب أخص من السحر، وأنّ من الأنواع التي يصاب بها الإنسان ويطلق عليها سحرًا ما يقال له: طب. وما لا يقال طب، وعلى كل حال فالذي ذكر في الحديث ليس من نوع ما زعمه المشركون ولا هو من ملابسة الشيطان، وإنما هو أثر نفس الساحر وفعله، وقد قدمت أن وقوع أثر ذلك نادر، فلا غرابة في خفاء تفسيره وهذا يغني عما تقدم. اهـ
ابن مفلح في "الآداب الشرعية" كما تقدم.والخطابي كما تقدم (1)
وللشيخ الفاضل أحمد شاكر رحمه الله كلام حسن في توجعه من بعض معاصريه في تهجّمه على كتب السنة بالهوى، قال رحمه الله في الكلام على حديث أبي هريرة: ((إذا وقع الذباب في إناء أحدكم)) (2) : وهذا الحديث مما لعب فيه بعض معاصرينا ممن علم وأخطأ وممن علم وعمد إلى عداء السنة وممن جهل وتجرّأ.
فمنهم من حمل على أبي هريرة وطعن في روايته وحفظه، بل منهم من جرؤ على الطعن في صدقه فيما يروي حتى غلا بعضهم فزعم أن في الصحيحين أحاديث غير صحيحة، إن لم يزعم أنّها لا أصل لها، بما رأوا من شبهات في نقد بعض الأئمة لأسانيد قليلة فيهما، فلم يفهموا اعتراض أولئك المتقدمين الذين أرادوا بنقدهم أنّ بعض أسانيدهما خارجة عن الدرجة العليا من الصحة التى التزمها الشيخان لم يريدوا أنّها أحاديث ضعيفة قط.
ومن الغريب أن هذا الحديث بعينه -حديث الذباب- لم يكن مما إستدركه أحد من أئمة الحديث على البخاري، بل هو عندهم جميعًا مما جاء على شرطه في أعلى درجات الصحة.
ومن الغريب أيضًا أنّ هؤلاء الذين حملوا على أبي هريرة على علم كثير منهم بالسنة وسعة اطلاعهم رحمهم الله، غفلوا أو تغافلوا عن أنّ أبا هريرة رضى الله عنه لم ينفرد بروايته بل رواه أبوسعيد الخدري أيضًا عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند أحمد في "المسند" (11207،11666) والنسائي (ج2 ص193) وابن ماجة (ج2 ص185) والبيهقي (ج1 ص253) بأسانيد صحاح، ورواه أنس بن مالك أيضًا، كما ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج5 ص 38) وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، ورواه الطبراني في "الأوسط" وذكره الحافظ في "الفتح" (ج10 ص213) وقال: أخرجه البزار ورجاله ثقات.
فأبوهريرة لم ينفرد برواية هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولكنه انفرد بالحمل عليه منهم بما غفلوا أنه رواه اثنان غيره من الصحابة.
__________
(1) - وكما في "شرح السنة للبغوي" (ج6 ص279) .
(2) - (ج12 ص124) من تحقيق المسند(1/1235)
والحق أنه لم يعجبهم هذا الحديث لما وقر في نفوسهم من أنه ينافي المكتشفات الحديثة من المكروبات ونحوها، وعصمهم إيمانهم عن أن يجرؤا على المقام الأسمى فاستضعفوا أباهريرة.
والحق أيضًا أنّهم آمنوا بهذه المكتشفات الحديثة أكثر من إيمانهم بالغيب ولكنهم لا يصرحون ثم اختطوا لأنفسهم خطةً عجيبةً: أن يقدموها على كل شيء وأن يؤلوا القرآن بما يخرجه عن معنى الكلام العربي إذا ما خالف ما يسمونه (الحقائق العلمية) وأن يردوا من السنة الصحيحة ما يظنون أنه يخالف حقائقهم هذه، افتراءً على الله وحبًا في التجديد، بل إن منهم لمن يؤمن ببعض خرافات الأوربيين، وينكر حقائق الإسلام أو يتأولها، فمنهم من يؤمن بخرافات استحضار الأرواح، وينكر وجود الملائكة والجن بالتأول العصري الحديث، ومنهم من يؤمن بأساطير القدماء وما ينسب إلى القديسين والقديسات، ثم ينكر معجزات رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلها، ويتأول ما ورد في الكتاب والسنة من معجزات الأنبياء السابقين يخرجونها عن معنى الإعجاز كله وهكذا وهكذا.. وفي عصرنا هذا صديق لنا كاتب قدير أديب جيد الأداء، واسع الأطلاع، كنا نعجب بقلمه وعلمه واطلاعه، ثم بدت منه هنات وهنات على صفحات الجرائد والمجلات في الطعن على السنة والازراء برواتها من الصحابة فمن بعدهم، يستمسك بكلمات للمتقدمين فى أسانيد معينة يجعلها -كما يصنع المستشرقون- قواعد عامة يوسع من مداها ويخرج بها عن حدها الذي أراده قائلوها، وكانت بيننا في ذلك مساجلات شفوية ومكاتبات خاصة، حرصًا مني على دينه وعلى عقيدته.
ثم كتب في إحدى المجلات -منذ أكثر من عامين- كلمةً على طريقته التي ازداد فيها إمعانًا وغلوًا، فكتبت له كتابًا طويلاً في شهر جمادى الأولى سنة (1370) كان مما قلت له فيه من غير أن أسميه هنا، أو أسمي المجلة التى كتب فيها قلت له: وقد قرأت لك منذ أسبوعين تقريبًا كلمة في مجلة... لم تدع فيها ما وقر في قلبك من الطعن في روايات الحديث الصحيحة، ولست أزعم أني أستطيع إقناعك أو أرضي إحراجك بالإقلاع عما أنت فيه.
وليتك -يا أخي- درست علوم الحديث وطرق روايته، دراسةً وافيةً غير متأثر بسخافات (فلان) رحمه الله وأمثاله، ممن قلدهم وممن قلدوه، فأنت تبحث وتنقّب على ضوء شيء استقر في قلبك من قبل، لا بحثًا حرًا خاليًا من الهوى، وثق أني لك ناصح أمين، لا يهمني ولا يغضبني أن تقول في السنة ما تشاء فقد قرأت من مثل كلامك أضعاف ما قرأت، ولكنك تضرب الكلام بعضه ببعض، وثق -يا أخي- أن المستشرقين فعلوا مثل ذلك في السنة، فقلت مثل قولهم وأعجبك رأيهم، إذ صادف منك هوىً، ولكنك نسيت أنّهم فعلوا مثل ذلك وأكثر منه في القرآن نفسه، فما ضار القرآن ولا السنة شيء مما فعلوا، وقبلهم قام المعتزلة وكثير من أهل الرأي والأهواء، ففعلوا بعض هذا أو كله، فما زادت السنة إلا ثبوتًا كثبوت الجبال، وأتعب هؤلاء(1/1236)
رؤوسهم وحدها وأوهموها، بل لم نر فيمن تقدّمنا من أهل العلم من اجترأ على ادعاء أن في الصحيحين أحاديث موضوعة فضلاً عن الإيهام والتشنيع الذى يطويه كلامك، فيوهم الأغرار أن أكثر ما في السنة موضوع، هذا كلام المستشرقين، غاية ما تكلم فيه العلماء نقد أحاديث فيهما بأعيانها لا بادّعاء وضعها والعياذ بالله، ولا بادّعاء ضعفها، إنما نقدوا عليهما أحاديث ظنوا أنّها لا تبلغ في الصحة الذروة العليا التي التزمها كل منهما.
وهذا مما أخطاء فيه كثير من الناس، ومنهم أستاذنا السيد رشيد رضا رحمه الله، على علمه بالسنة وفقهه، ولم يستطع قط أن يقيم حجته على ما يرى، وأفلتت منه كلمات يسمو على علمه أن يقع فيها، ولكنه كان متأثرًا أشد الأثر بجمال الدين ومحمد عبده وهما لا يعرفان في الحديث شيئًا، بل كان هو بعد ذلك أعلم منهما وأعلى قدمًا وأثبت رأيًا، لولا الأثر الباقي في دخيلة نفسه، والله يغفر لنا وله.
وما أفضت لك في هذا إلا خشيةً عليك من حساب الله، أما الناس في هذا العصر فلا حساب لهم، ولا يقدّمون في ذلك ولا يؤخرون، فإن التربية الإفرنجية الملعونة جعلتهم لا يرضون القرآن إلا على مضض، فمنهم من يصرح، ومنهمم من يتأول القرآن والسنة ليرضي عقله الملتوي، لا ليحفظهما من طعن الطاعنين فهم على الحقيقة لا يؤمنون ويخشون أن يصرحوا فيلتوون وهكذا هم، حتى يأتي الله بأمره، فاحذر لنفسك من حساب الله يوم القيامة، وقد نصحتك وما آلوت والحمد لله.
وأما الجاهلون الأجرياء فإنّهم كثر في هذا العصر، ومن أعجب ما رأيت من سخافاتهم وجرأتهم أن يكتب طبيب في إحدى المجلات الطبية فلا يرى إلا أن هذا الحديث لم يعجبه، وأنه ينافي علمه، وأنه رواه مؤلف اسمه البخاري، فلا يجد مجالاً إلا الطعن في هذا البخاري ورميه بالافتراء والكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم . وهو لا يعرف عن البخاري هذا شيئًا، بل لا أظنه يعرف اسمه ولا عصره ولا كتابه، إلا أنه روى شيئًا يراه هو بعلمه الواسع غير صحيح فافترى عليه ما شاء، مما سيحاسب عليه بين يدي الله حسابًا عسيرًا.
ولم يكن هؤلاء المعترضون المجترئون أول من تكلم في هذا، بل سبقهم من أمثالهم الأقدمون، ولكن أولئك كانوا أكثر أدبًا من هؤلاء. فقال الخطابي في "معالم السنن" رقم(3695) من "تهذيب السنن": وقد تكلم في هذا الحديث بعض من لا خلاق له. وقال: كيف يكون هذا ؟ وكيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي الذبابة، وكيف تعلم ذلك من نفسها حتى تقدم جناح الداء وتؤخر جناح الشفاء وما أربها في ذلك.
قلت: (القائل الخطابي): وهذا سؤال جاهل أو متجاهل، وإن الذى يجد نفسه ونفوس عامة الحيوان قد جمع فيها بين الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وهي أشياء متضادة إذا تلاقت(1/1237)
تفاسدت، ثم يرى أن الله سبحانه قد ألّف بينها وقهرها على الاجتماع، وجعل منها قوى الحيوان التى بها بقاؤها وصلاحها لجدير أن لا ينكر اجتماع الداء والشفاء في جزءين من حيوان واحد، وأن الذى ألهم النحلة أن تتخذ البيت العجيب الصنعة وأن تعسل فيه وألهم الذرة أن تكتسب قوتها وتدخره لأوان حاجتها إليه، هو الذي خلق الذبابة وجعل لها الهداية إلى أن تقدم جناحًا وتؤخر جناحًا لما أراد الله من الابتلاء الذي هو مدرجة التعبد، والامتحان الذي هو مضمار التكليف، وفي كل شيء عبرة وحكمة وما يذّكر إلا أولوا الألباب.
وأما المعنى الطبي فقال ابن القيم -في شأن الطب القديم- في "زاد المعاد" (ج3 ص210-211): واعلم أن في الذباب قوة سمية، يدل عليها الورم والحكة العارضة من لسعه، وهى بمنْزلة السلاح فإذا سقط فيما يؤذية اتقاه بسلاحه فأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله في جناحه الآخر من الشفاء، فيغمس كله في الماء والطعام، فيقابل المادة السمية بالمادة النافعة، فيزول ضررها، وهذا طب لا يهتدى إليه كبار الأطباء وأئمتهم، بل هو خارج من مشكاة النبوة، ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفق يخضع لهذا إلعلاج ويقر لمن جاء به بأنه أكمل الخلق على الإطلاق، وأنه مؤيد بوحي إلهي خارج عن القوى البشرية.
وأقول -في شأن الطب الحديث- إن الناس كانوا ولا يزالون تقذر أنفسهم الذباب، وتنفر مما وقع فيه من طعام أو شراب، ولا يكادون يرضون قربانه، وفي هذا من الإسراف -إذا غلا الناس فيه- شيء كثير ولا يزال الذباب يلح على الناس في طعامهم وشرابهم، وفي نومهم ويقظتهم، وفي شأنهم كله، وقد كشف الأطباء والباحثون عن المكروبات الضارة والنافعة وغلو غلوًا شديدًا في بيان ما يحمل الذباب من مكروبات ضارة، حتى لقد كادوا يفسدون على الناس حياتهم لو أطاعوهم طاعة حرفيّة تامة، وإنا لنرى بالعيان أن أكثر الناس تأكل مما سقط عليه الذباب، وتشرب فلا يصيبهم شيء إلا في القليل النادر، ومن كابر في هذا فإنما يخدع الناس ويخدع نفسه، وإنا لنرى أيضًا أن ضرر الذباب شديد حين يقع الوباء العام لا يماري في ذلك أحد، فهناك إذن حالان ظاهرتان بينهما فروق كبيرة، أما حال الوباء فمما لاشك فيه أن الاحتياط فيها يدعو إلى التحرز من الذباب وأضرابه مما ينقل المكروب أشد التحرز، وأما إذا عدم الوباء وكانت الحياة تجري على سننها فلا معنى لهذا التحرز، والمشاهدة تنفي ما غلا فيه من إفساد كل طعام أو شراب وقع عليه الذباب، ومن كابر في هذا فانما يجادل بالقول لا بالعمل، ويطيع داعي الترف والتأنّق وما أظنه يطبّق ما يدعو إليه تطبيقًا دقيقًا، وكثير منهم يقولون ما لا يفعلون.اهـ(1/1238)
وتعلم السحر كفر قال الله تعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلّمان من أحد حتّى يقولا إنّما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارّين به من أحد إلاّ بإذن الله ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون}.
وقال البخاري رحمه الله (ج5 ص393): حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله قال حدثنا سليمان بن بلال عن ثور بن زيد المدني عن أبي الغيث عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((اجتنبوا السّبْع الموبقات)) قالوا: يا رسول الله وما هنّ؟ قال: ((الشّرك بالله، والسّحر، وقتل النّفس الّتي حرّم الله إلا بالحقّ، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم، والتّولّي يوم الزّحْف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)). والحديث ليس صريحًا في أنّ متعلّم السحر كافر، وتكفي الآية، ويستأنس بالحديث معها. والله أعلم. (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1 - وجوب التعوذ بالله والالتجاء إلى الله من كل مخوف لا يقدر المرء على رده لخفائه أو لعدم القدرة عليه .
2 – السحر له حقيقة وهو كفرٌ وحدُّ الساحر ضربُه بالسيف .
3 - تحريم الحسد وهو داء خطير .
4- الغبطة ليست من الحسد .
5- دلت السورة الكريمة على تعليم الناس كيفية الاستعاذة من كل شرّ في الدنيا والآخرة ، من شر الإنس والجن والشياطين وشرّ السباع والهوام وشرّ النار وشرّ الذنوب ، والهوى ، وشرّ العمل ، وغير ذلك من سائر المخلوقات ، حتى المستعيذ نفسه.
6- لا مانع يمنع من نزول السورة ليستعيذ بها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، والحديث صحيح ، ولا يتنافى مع النص القرآني ، واقتصر فعل السحر بالنّبي - صلى الله عليه وسلم - على مجرد كونه قد صار في بعض أمور الدنيا في حالة صداع خفيف ، وهو معنى التخيل في الحديث ، وقد يحدث تخيل في اليقظة كالمنام ، ولم يؤثر في ملكاته العقلية على الإطلاق ، كما لم يؤثر فيما يتعلق بالوحي والرسالة لأن اللَّه عصمه من أي سوء ، أو اختلاط فكري ، أو اضطراب عصبي ، كما قال تعالى : وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] (2) .
__________
(1) - انظر كتاب : ردود أهل العلم على الطاعنين في حديث السحر -جمعها أبوعبدالرحمن مقبل بن هادي الوادعي
(2) - انظر تفسير الألوسي : 30/ 283(1/1239)
7- خصص اللَّه تعالى في إرشادنا وتعليمنا الاستعاذة من أصناف ثلاثة : هي أولا الليل إذا عظم ظلامه لأن في الليل كما ذكر الرازي تخرج السباع من آجامها ، والهوام من مكانها ، ويهجم السارق والمكابر ، ويقع الحريق ، ويقل فيه الغوث ، وينبعث أهل الشرّ على الفساد.
وثانيا- الساحرات اللائي ينفثن (ينفخن) في عقد الخيط حين يرقين عليها ، شبه النفخ كما يعمل من يرقي.
وثالثا- الحاسد الذي يحسد غيره ، أي يتمنى زوال نعمة المحسود ، وإن لم يصرّ للحاسد مثلها. وهذا مذموم ، أما الغبطة أو المنافسة فهي مباحة لأنها تمني مثل النعمة وإن لم تزل عن صاحبها
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضى الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِى اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِى الْحَقِّ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهْوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا » (1) . أي لا غبطة.
وعَنْ سَالِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ ، وَآنَاءَ النَّهَارِ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً ، فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ آنَاءَ اللَّيْلِ ، وَآنَاءَ النَّهَارِ. (2)
قال العلماء : الحاسد لا يضرّ إلا إذا ظهر حسده بفعل أو قول ، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشرّ بالمحسود ، فيتبع مساوئه ، ويطلب عثراته. والحسد أول ذنب عصي اللَّه به في السماء ، وأول ذنب عصي به في الأرض ، فحسد إبليس آدم ، وحسد قابيل هابيل. والحاسد ممقوت مبغوض مطرود ملعون.
وقال العلماء أيضا : لا يضرّ السحر والعين والحسد ونحو ذلك بذاته ، وإنما بفعل اللَّه وتأثيره ، وينسب الأثر إلى هذه الأشياء في الظاهر فقط ، قال اللَّه تعالى عن السحر : وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة 2/ 102] ، وبالرغم من انعدام تأثير هذه الأشياء في الحقيقة ومنها الأمراض المعدية كالطاعون والسل ، فإنه يطلب شرعا الحذر والاحتياط وتجنب هذه الأسباب الظاهرية بقدر الإمكان ، عملا بفعل عمر والصحابة في طاعون عمواس ، والأمر باتقاء العين ، والفرار من المجذوم.
8- أجاز أكثر العلماء الاستعانة بالرّقى أو الرّقية لأن النّبي - صلى الله عليه وسلم - اشتكى ، فرقاه جبريل عليه السلام ، فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ فَقَالَ « نَعَمْ ». قَالَ
__________
(1) - صحيح البخارى(1409 )
(2) - صحيح ابن حبان - (1 / 333) (5)(1/1240)
بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ يُؤْذِيكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللَّهُ يَشْفِيكَ بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ. (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا مِنَ الْأَوْجَاعِ كُلِّهَا ، وَمَنَ الْحُمَّى هَذَا الدُّعَاءَ : " بِسْمِ اللَّهِ الْكَبِيرِ ، أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ مِنْ شَرِّ كُلِّ عِرْقٍ نَعَّارٍ ، وَمِنْ شَرِّ حَرِّ النَّارِ " (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:مَنْ دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ، فَقَالَ عِنْدَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ إِلا عُوفِي. (3)
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أَتَى مَرِيضًا - أَوْ أُتِىَ بِهِ - قَالَ « أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ ، اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِى لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا » . (4)
وعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : كُنْتُ أُعَوِّذُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِدُعَاءِ كَانَ جِبْرِيلُ يُعَوِّذُهُ بِهِ إِذَا مَرِضَ : أَذْهِبِ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ ، تَنْزِلُ الشِّفَاءَ لاَ شَافِيَ إِلاَّ أَنْتَ ، اشْفِ شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا فَلَمَّا كَانَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ ، جَعَلْتُ أَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : ارْفَعِي يَدَكِ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَنْفَعُنِي فِي الْمُدَّةِ. (5)
وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَاطِبٍ : انْصَبَّتْ عَلَى يَدَيْ مَرَقَةٌ ، فَأَحْرَقَتْهَا ، فَذَهَبَتْ بِي أُمِّي إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ فِي الرَّحْبَةِ ، فَأَحْفَظُ أَنَّهُ قَالَ : أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ وَأَكْثَرُ عِلْمِي أَنَّهُ قَالَ : أَنْتَ الشَّافِي لاَ شَافِيَ إِلاَّ أَنْتَ. (6)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعَوِّذُ حَسَنًا وَحُسَيْنًا : أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ , ثُمَّ يَقُولُ - صلى الله عليه وسلم - : كَانَ إِبْرَاهِيمُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ يُعَوِّذُ بِهِ ابْنَيْهِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ." (7)
وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِى الْعَاصِ أَنَّهُ أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ عُثْمَانُ وَبِى وَجَعٌ قَدْ كَادَ يُهْلِكُنِى قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « امْسَحْهُ بِيَمِينِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَقُلْ أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ ». قَالَ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا كَانَ بِى فَلَمْ أَزَلْ آمُرُ بِهِ أَهْلِى وَغَيْرَهُمْ. (8)
__________
(1) - صحيح مسلم (5829 )
(2) - جَامِعُ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ (375 ) فيه ضعف
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (10 / 140) (12106 ) صحيح
(4) - صحيح البخارى(5675 )
(5) - صحيح ابن حبان - (7 / 229) (2962) صحيح
(6) - صحيح ابن حبان - (7 / 241) (2976) صحيح
(7) - صحيح ابن حبان - (3 / 291) (1012) حسن
(8) - سنن أبى داود (3893 ) صحيح(1/1241)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا غَزَا أَوْ سَافَرَ فَأَدْرَكَهُ اللَّيْلُ قَالَ :« يَا أَرْضُ رَبِّى وَرَبُّكِ اللَّهُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّكِ وَشَرِّ مَا فِيكِ وَشَرِّ مَا خُلِقَ فِيكِ وَشَرِّ مَا دَبَّ عَلَيْكِ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ كُلِّ أَسَدٍ وَأَسْوَدَ وَحَيَّةٍ وَعَقْرَبٍ وَمِنْ سَاكِنِ الْبَلَدِ وَمِنْ شَرِّ وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ». (1) .
وعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَىِّ شَىْءٍ كَانَ يُوتِرُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ مَعْنَاهُ قَالَ وَفِى الثَّالِثَةِ بِ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ. (2) .
والأصح جواز النّفث عند الرّقى ، بدليلما روى الأئمة عن عائشة : أن النّبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفث في الرّقية.
وأجاز الإمام الباقر تعليق التعويذ على الصبيان.وأما النهي عن الرّقى فهو وارد على الرّقى المجهولة التي لا يفهم معناها. (3)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (5 / 253) (10620) صحيح
(2) - سنن أبى داود (1426 ) صحيح
(3) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 477)(1/1242)
سورة الناس
مدنيّة ، وهي ست آيات
تسميتها :
سميت سورة الناس لافتتاحها بقول اللَّه تبارك وتعالى : قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ .. وتكررت كلمة النَّاسِ فيها خمس مرات. وقد نزلت مع ما قبلها ، وهي مكية عند الأكثر ، وقيل : مدنية كما تقدم. وعرفنا وجه مناسبتها لما سبقها.
وهي آخر سورة في القرآن ، وقد بدئ بالفاتحة التي هي استعانة باللَّه وحمد له ، وختم بالمعوذتين للاستعانة باللَّه أيضا.
وقال ابن عاشور :
" تقدم عند تفسير أول سورة الفلق أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) سمى سورة الناس :( قل أعوذ برب الناس )
وتقدم في سورة الفلق أنها وَسورة الناس تسميان ( المعوذتين ) ، و ( المشقشقتين ) بتقديم الشينين على القافين ، وتقدم أيضاً أن الزمخشري والقرطبي ذكر أنهما تسميان ( المقشقشتين ) بتقديم القافين على الشينين ، وعنونها ابن عطية في ( المحرر الوجيز ) ( سورة المعوذة الثانية ) بإضافة ( سورة ) إلى ( المعوذة ) من إضافة الموصوف إلى الصفة ، وعنونهما الترمذي ( المعوذتين ) ، وعنونها البخاري في ( صحيحه ) ( سورة قل أعوذ برب الناس ) .
وفي مصاحفنا القديمة والحديثة المغربية والمشرقية تسمية هذه السورة ( سورة الناس ) وكذلك أكثر كتب التفسير .وهي مكية في قول الذين قالوا في سورة الفلق إنها مكية ، ومدنية في قول الذين قالوا في سورة الفلق إنها مدنية . والصحيح أنهما نزلتا متعاقبتين ، فالخلاف في إحداهما كالخلاف في الأخرى ،وقال في ( الإِتقان ) : إن سبب نزولها قصة سِحر لبيد بن الأعصم ، وأنها نزلت مع ( سورة الفلق ) وقد سبقه إلى ذلك القرطبي والواحدي ، وقد علمتَ تزييفه في سورة الفلق .وعلى الصحيح من أنها مكية فقد عُدت الحادية والعشرين من السور ، نزلت عقب سورة الفلق وقبل سورة الإِخلاص . وعدد آيها ست آيات ، وذكر في ( الإِتقان ) قولاً : إنها سبع آيات وليس مَعزُوّاً لأهل العدد .
وفيها إرشاد للنبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) لأن يتعوذ بالله ربه من شر الوسواس الذي يحاول إفساد عمل النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وإفساد إرشاده الناس ويلقي في نفوس الناس الإِعراض عن دعوته . وفي هذا الأمر إيماء إلى أن الله تعالى معيذه من ذلك فعاصمه في نفسه من تسلط وسوسة الوسواس عليه ، ومتمم دعوته حتى تعمّ في الناس . ويتبع ذلك تعليم المسلمين التعوذ بذلك ، فيكون لهم من هذا التعوذ(1/1243)
ما هو حَظهم من قابلية التعرض إلى الوسواس ، ومع السلامة منه بمقدار مراتبهم في الزلفى . " (1)
ما اشتملت عليه السورة :
* سورة الناس مكية ، وهي ثاني المعوذتين ، وفيها الإستجارة والإحتماء برب العالمين ، من شر أعدى الأعداء ، إبليس وأعوانه من شياطين الإنس والجن ، الذين يغوون الناس بأنواع الوسوسة والإغواء.
* وقد ختم الكتاب العزيز بالمعوذتين وبدىء بالفاتحة ، ليجمع بين حسن البدء ، وحسن الختم ، وذلك غاية الحسن والجمال ، لأن العبد يستعين بالله ويلتجىء إليه ، من بداية الأمر إلى نهايته. (2) في السورة تعليم بالاستعاذة من وسوسة الموسوسين وشرهم إنسا كانوا أم جنا. وبعض الروايات تذكر أنها مكية وبعضها تذكر أنها مختلف في مكيتها ومدنيتها ومعظم روايات ترتيب النزول تسلكها في سلك السور المكية المبكرة في النزول. وأسلوبها يسوغ ترجيح مكيتها وتبكير نزولها. ولقد أوردنا الأحاديث النبوية التي تذكر تعوذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه السور وأمره بذلك ونوهنا بما في ذلك من حكمة في مطلع تفسير السورة السابقة فنكتفي بهذه الإشارة. (3)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 631)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 539)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 59)(1/1244)
الاستعاذة من شرّ شياطين الإنس والجنِّ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... أَعُوذُ ... أتحصن وألتجئ وأستجير
1 ... بِرَبِّ النَّاسِ ... خالقهم ومالكهم
2 ... مَلِكِ النَّاسِ ... سيد الناس ومالكهم وخالقهم
3 ... إِلَهَ النَّاسِ ... أي معبود الناس بحق إذ لا معبود بحق سواه
4 ... مِن شَرِّ الوَسْوَاسِ ... أي من شر الشيطان وهو إبليس يوسوس في الصدور وفي القلوب
4 ... الخَنَّاسِ ... فإذا ذكر الله خنس أي كف عن الوسوسة وتأخر عن القلب عند ذكر الله تعالى
5 ... فِي صُدُورِ النَّاسِ ... أي في قلوبهم وصدورهم عند الغفلة عن ذكر الله تعالى
6 ... مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ ... من شيطان الجن ومن شيطان الإنس ...
المعنى الإجمالي:
قل لهم : إنى ألجأ إلى اللّه وأستعيذ به ليحفظنى من شر الذي يوسوس لي ، أعوذ برب الناس الذي رباهم وتعهدهم في صغرهم وضعفهم ، وقد ملك أمرهم وتولى شأنهم فهو المالك للناس ، وهو إلههم وهم عبيده ، فهو أحق بالعبودية والخضوع والتوجه إليه ، واللّه سبحانه لأنه خلق الناس ورباهم وملك أمرهم وتولاهم فهو يستعاذ به فيعيذ ويستنصر به فينصر ، ويلجأ إليه من شر الذي يوسوس في النفس ، فيزين لها فعل القبيح ، ويصور الشر بصورة الخير ، هو الوسواس الكثير الرجوع إذا زجر ، سواء كان من الجنة أى : الخلق المستتر ، وهم جند إبليس وأبناؤه ، أم كان من الإنس كقرناء السوء ، وقانا اللّه شر شياطين الجن والإنس ، إنه سميع مجيب ، وهو على كل شيء قدير ، واللّه سبحانه وتعالى يعلمنا ويرشدنا إلى كيفية الاستعاذة به من كل سوء ومكروه ظاهر وباطن. واللّه أعلم. (1)
التفسير والبيان :
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 923)(1/1245)
قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ، مَلِكِ النَّاسِ ، إِلهِ النَّاسِ أي قل أيها الرسول : ألجأ وأستعين باللَّه مربي الناس ومتعهدهم بعنايته ورعايته ، وخالقهم ومدبر أمرهم ومصلح أحوالهم ، وله الملك التام والسلطان القاهر ، وهو الإله المعبود الذي يعبده الناس ، واسم الإله خاص باللَّه لا يشاركه فيه أحد ، أما الملك فقد يكون إلها وقد لا يكون.
وهذه صفات ثلاث للَّه عزّ وجلّ : الربوبية ، والملك ، والألوهية ، فهو ربّ كل شيء ، ومليكه ، وإلهه ، فجميع الأشياء مخلوقة له ، مملوكة ، عبيد له. وإنما قدم الربوبية لمناسبتها للاستعاذة ، فهي تتضمن نعمة الصون والحماية والرعاية ، ثم ذكر الملكية لأن المستعيذ لا يجد عونا له ولا غوثا إلا مالكه ، ثم ذكر الألوهية لبيان أنه المستحق للشكر والعبادة دون سواه.
والسبب في تكرار لفظ النَّاسِ هو مزيد البيان والإظهار ، والتنويه بشرف الناس مخلوقات اللَّه تعالى ، وقال : « ربّ الناس » مع أنه ربّ جميع المخلوقات ، فخصّ الناس بالذّكر للتشريف ، ولأن الاستعاذة لأجلهم.
مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ أي ألجأ إلى اللَّه وأحتمي من شرّ الشيطان ذي الوسوسة ، الكثير الخنوس أي الاختفاء والتأخر ، بذكر اللَّه ، فإذا ذكر الإنسان اللَّه تعالى خنس الشيطان وانقبض ، وإذا لم يذكر اللَّه انبسط على القلب. قال ابن عباس في هذه الآية : الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، فإذا ذكر اللَّه خنس.
وقد سلط اللَّه الشيطان على الناس إلا من عصمه اللَّه ، للمجاهدة والفتنة والاختبار ،ثبت في الصحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ ». قَالُوا وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « وَإِيَّاىَ إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِى عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلاَ يَأْمُرُنِى إِلاَّ بِخَيْرٍ ». (1)
وثبت في الصحيح عَنْ عَلِىِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَىٍّ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَزُورُهُ وَهْوَ مُعْتَكِفٌ فِى الْمَسْجِدِ فِى الْعَشْرِ الْغَوَابِرِ مِنْ رَمَضَانَ ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً مِنَ الْعِشَاءِ ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ ، فَقَامَ مَعَهَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْلِبُهَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ الَّذِى عِنْدَ مَسْكَنِ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِهِمَا رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ نَفَذَا ، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « عَلَى رِسْلِكُمَا ، إِنَّمَا هِىَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ » . قَالاَ سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ . وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا . قَالَ « إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنِ ابْنِ آدَمَ مَبْلَغَ الدَّمِ ، وَإِنِّى خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِى قُلُوبِكُمَا » (2) .
__________
(1) - صحيح مسلم (7286)
(2) - صحيح البخارى (6219 ) -تنقلب : ترجع إلى بيتها -يقلب : يردها إلى منزلها -نفذ : مضى(1/1246)
وروى الحافظ أبو يعلي الموصلي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ خَطْمَهُ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ ، فَإِنْ ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ ، وَإِنْ نَسِيَ الْتَقَمَ قَلْبَهُ فَذَلِكَ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ (1)
وعَنْ رَجُلٍ قَالَ كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَثَرَتْ دَابَّتُهُ فَقُلْتُ تَعِسَ الشَّيْطَانُ . فَقَالَ « لاَ تَقُلْ تَعِسَ الشَّيْطَانُ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ تَعَاظَمَ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الْبَيْتِ وَيَقُولَ بِقُوَّتِى وَلَكِنْ قُلْ بِسْمِ اللَّهِ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ تَصَاغَرَ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الذُّبَابِ ». (2)
وفيه دلالة على أن القلب متى ذكر اللَّه تصاغر الشيطان وغلب ، وإن لم يذكر اللَّه تعاظم وغلب.
ثم أبان موضع وسوسته ، فقال : الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ أي الذي يلقي خواطر السوء والشرّ في القلوب ، وإنما ذكر الصدور لأنها تحتوي على القلوب ، والخواطر محلها القلب ، كما هو المعهود في كلام العرب.
ثم بيّن اللَّه تعالى أن الذي يوسوس نوعان : جني وإنسي ، فقال : مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أي أن ذلك الموسوس إما شيطان الجن ، فيوسوس في صدور الناس ، كما تقدم ، وإما شيطان الإنس ، ووسوسته في صدور الناس : أنه يري نفسه كالناصح المشفق ، فيوقع في الصدر كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة ، فيجعله فريسة وسوسة الشيطان الجني. وهذا يدل على أن الوسواس قد يكون من الجن وقد يكون من الناس ، كما جاء في قوله تعالى : وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام 6/ 112] أي ليست العداوة قهرية جبرية ، وإنما بما أودع اللَّه فيهم من قدرة الاختيار ، فمنهم من يختار الإصغاء لوسوسة الشياطين ، ومنهم من يحذر عداوتهم ووسوستهم.
ومضات :
وقال الإمام : إنما جعل الوسوسة في الصدور ، على ما عهد في كلام العرب من أن الخواطر في القلب ، والقلب مما حواه الصدر عندهم ، وكثيراً ما يقال : إن الشك يحوك في صدره ، وما الشك إلا في نفسه وعقله ، وأفاعيل العقل في المخ ، وإن كان يظهر لها أثر في حركات الدم وضربات القلب وضيق الصدر أو انبساطه .
وقوله تعالى : { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } بيان للذي يوسوس على أنه ضربان : ضرب من الجِنَّة وهم الخلق المستترون الذين لا نعرفهم ، وإنما نجد في أنفسنا أثراً ينسب إليهم ، وضرب من الإنس كالمضلِّلين من أفراد الْإِنْسَاْن ، كما قال تعالى :
__________
(1) - مسند أبي يعلى الموصلي (4301) صحيح لغيره
(2) - سنن أبى داود (4984 ) صحيح(1/1247)
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً } [ الأنعام : 112 ] ، وإيحاؤهم هو وسوستهم .
قال ابن تيمية : فإن قيل : فإن كان أصل الشر كلّه من الوسواس الخناس ، فلا حاجة إلى ذكر الاستعاذة من وسواس الناس ، فإنه تابع لوسواس الجن ؟ قيل : بل الوسوسة نوعان : نوع من الجن ، ونوع من نفوس الإنس . كما قال :
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } [ ق : 16 ] ، فالشر من الجهتين جميعاً . والإنس لهم شياطين كما للجن شياطين .
وقال أيضاً : الذي يوسوس في صدور الناس نفسه لنفسه ، وشياطين الجن وشياطين الإنس ، فليس من شرط الموسوس أن يكون مستتراً عن البصر ، بل قد يشاهد .
لطائف :
الأولى : قال ابن تيمية : إنما خص الناس بالذكر ؛ لأنهم المستعيذون ، فيستعيذون بربهم الذي يصونهم ، وبملكهم الذي أمرهم ونهاهم وبإلههم الذي يعبدونه من شر الذي يحلُّ بينهم وبين عبادته ، ويستعيذون أيضاً من شر الوسواس الذي يحصل في نفوس منهم ومن الجِنَّة ؛ فإنه أصل الشر الذي يصدر منهم والذي يرد عليهم .
وقال الناصر : في التخصيص جرى على عادة الاستعطاف . فإنه معهُ أتمّ الثانية : تكرر المضاف إليه وهو : الناس باللفظ الظاهر ؛ لمزيد الكشف والتقرير والتشريف بالإضافة ، فإن الإظهار أنسب بالإيضاح المسوق لهُ عطف البيان ، وأدل على شرف الْإِنْسَاْن . وقيل : لا تكرار لجواز أن يراد بالعام بعض أفرادهُ ؛ فـ : الناس الأول بمعنى الأجنة والأطفال المحتاجين للتربية ، والثاني الكهول والشبان ، لأنهم المحتاجون لمن يسوسهم ، والثالث الشيوخ لأنهم المتعبدون المتوجهون لله .
قال الشهاب : وفيه تأمّل .
الثالثة : في تعداد الصفات العليا هنا إشارة إلى عِظَم المستعاذ منه ، وأن الآفة النفسانية أعظم من المضار البدنية ، حيث لم يكرر ذلك المستعاذ به في السورة قبلُ ، وكررهُ هنا إظهاراً للاهتمام في هذه دون تلك . نقله الشهاب .
الرابعة : قال ابن تيمية : الوسواس من جنس الحديث والكلام ؛ ولهذا قال المفسرون في قوله :{ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } قالوا : ما تحدث به نفسه . وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : < إن الله تجاوز لأمتي ما تحدِّث به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به > ، وهو نوعان : خبر وإنشاء ، فالخبر إما عن ماض وإما عن مستقبل ، فالماضي يذكره والمستقبل يحدثه بأن يفعل هو أموراً ، أو أن أموراً ستكون بقدر الله أو فعل غيره ؛ فهذه الأمانيّ والمواعيد الكاذبة ، والإنشاء أمر ونهي وإباحة .(1/1248)
الخامسة : قال ابن تيمية : الفرق بين الإلهام المحمود وبين الوسوسة المذمومة هو الكتاب والسنة ، فإن كان مما ألقى في النفس مما دل الكتاب والسنة على أنهُ تقوى لله ، فهو من الإلهام المحمود ، وإن كان مما دلّ على أنهُ فجور ، فهو من الوسواس المذموم ، وهذا الفرق مطرد لا ينقض .
وقد ذكر أبو حازم في الفرق بين وسوسة النفس والشيطان ، فقال : ما كرهتهُ نفسك لنفسك فهو من الشيطان ؛ فاستعِذ بالله منه ، وما أحبَّتهُ نفسك لنفسك فهو من نفسك فانهها عنهُ .
السادسة : قال الإمام الغزالي في " الإحياء " في بيان تفصيل ما ينبغي أن يحضر في القلب عند كلِّ ركن وشرط من أعمال الصلاة ، ما مثاله : وإذا قلت :
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فاعلم أنه عدوك ومرصد لصرف قلبك عن الله عز وجل ؛ حسداً لك على مناجاتك مع الله عز وجل وسجودك له ، مع أنه لعن بسبب سجدة واحدة تركها ولم يوفَّق لها ، وإنَّ استعاذتك بالله سبحانه منه بترك ما يحبه ، بما يحب الله عز وجل لا بمجرد قولك ؛ فإن من قصده سبُعٌ أو عدوٌّ ليفترسه أو ليقتله فقال :
أعوذ منك بهذا الحصن الحصين- وهو ثابت على مكانه ذلك- لا ينفعه ، بل لا يفيده إلا بتبديل المكان ، فكذلك من يتبع الشهوات التي هي محابُّ الشيطان ومكاره الرحمن ، فلا يغنيه مجرد القول ، فليقترن قوله بالعزم على التعوذ بحصن الله عز وجل عن شر الشيطان ، وحصنه : لا إله إلا الله إذ قال عز وجل فيما أخبر عنه نبينا - صلى الله عليه وسلم -
: < ولا إله إلا الله حصني ، فمن دخل حصني أمن من عذابي > . والمتحصن به من لا معبود له سوى الله سبحانه ، فأما من اتخذ إلهه هواه ، فهو في ميدان الشيطان لا في حصن الله عز وجل . انتهى .
وملخصه أن التعوذ ليس هو مجرد القول ، بل القول عبارة عما كان للمتعوذ من ابتعاده بالفعل عما يتعوذ منه ، فكان ترجمة لحالهم . وهذا المعنى كان يلوح لي من قبل أن أراه في كلام حجَّة الإسلام ، حتى رأيته فحمدت الله على الموافقة .
السابعة : قال الإمام الغزالي في " الإحياء " أيضاً ، في بيان تسلط الشيطان على القلب بالوسواس : ومعنى الوسوسة وسبب غلبتها ، ما مثاله : اعلم أن القلب في مثال قبَة مضروبة لها أبواب تنصبُّ إليه الأحوالُ من كل باب ، ومثالهُ أيضاً مثال هدف تنصبُّ إليه السهام من الجوانب . أو هو مثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف السور المختلفة فتتراءى فيها صورة بعد صورة ولا يخلو عنها . أو مثال حوض تصبُّ فيه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة إليه . وإنما مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب في كل حال ، إما من الظاهر فالحواس الخمس ، وإما من الباطن فالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة من مزاج الْإِنْسَاْن ، فإنه إذا أدرك(1/1249)
بالحواس شيئاً حصل منه أثر في القلب ، وكذلك إذا هاجت الشهوة مثلاً بسبب كثرة الأكل وسبب قوة المزاج ، حصل منها في القلب أثر ، وإن كف عن الإحساس فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وينتقل الخيال من شيء إلى شيء ، وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال آخر .
والمقصود أن القلب في التغير والتأثر دائماً من هذه الأسباب ، وأخص الآثار الحاصلة في الخواطر ، وأعني الخواطر ما يحصل فيه من الأفكار والأذكار ، وأعني به إدراكاته علوماً ، إما على سبيل التجدد وإما على سبيل التذكر ؛ فإنها تسمى خواطر من حيث إنها تخطر بعد أن كان القلب غافلاً عنها .
والخواطر هي المحركات للإرادات ، فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور المنوي بالبال لا محالة . فمبدأ الأفعال الخواطر . ثم الخاطر يحرك الرغبة ، والرغبة تحرك العزم ، والعزم يحرك النية ، والنية تحرك الأعضاء . والخواطر المحركة للرغبة تنقسم إلى ما يدعو للشر ، أعني إلى ما يضر في العاقبة ، وإلى ما يدعو إلى الخير ، أعني إلى ما ينفع في الدار الآخرة . فهما خاطران مختلفان . فافتقرا إلى اسمين مختلفين . فالخاطر المحمود يسمى إلهاماً والخاطر المذموم ، أعني الداعي إلى الشر ، يسمى وسواساً . ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر حادثة ، ثم أن كل حادث فلابد له من محدث ، ومهما اختلفت الحوادث دلَّ ذلك على اختلاف الأسباب ، هذا ما عرف من سنة الله تعالى في ترتيب المسببات على الأسباب . فمهما استنارت حيطان البيت بنور النار ، وأظلم سقفه واسودّ بالدخان ، علمت أن سبب السواد غير سبب الاستنارة ، وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان : فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكاً ، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطاناً . واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخبر يسمى توفيقاً ، والذي به يتهيأ لقبول وسواس الشيطان يسمى إغوائاً وخذلاناً . فإن المعاني المختلفة تفتقر إلى أسامٍ مختلفة ، والملك عبارة عن خلق خلقه الله تعالى ، شأنه إفاضة الخير وإفادة العلم وكشف الحق والوعد بالخير والأمر بالمعروف ، وقد خلقه وسخره لذلك . والشيطان عبارة عن خلق شأنهُ ضد ذلك ، وهو الوعد بالشر والأمر بالفحشاء والتخويف عند الهم بالخير بالفقر ؛ فالوسوسة في مقابلة الإلهام . والشيطان في مقابلة الملك ، والتوفيق في مقابلة الخذلان .
ثم قال الغزالي : ولا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذِكر سوى ما يوسوس به ؛ لأنه إذا خطر في القلب ذكر شيء انعدم منه ما كان من قبل . ولكن كل شيء سوى الله تعالى وسوى ما يتعلق به ، فيجوز أيضاً أن يكون مجالاً للشيطان . وذكر الله تعالى هو الذي يؤمن جانبه ويعلم أنه ليس للشيطان فيه مجال ، ولا يعالج الشيء إلا بضده . وضد جميع وساوس الشيطان ذكر(1/1250)
الله بالاستعاذة والتبرؤ عن الحَوْل والقوة ، وهو معنى قولك : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وذلك لا يقدر عليه إلا المتَّقون الغالب عليهم ذِكْرُ الله تعالى ، وإنما الشيطان يطوف عليهم في أوقات الفلتات على سبيل الخلسة . قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [ الأعراف : 201 ] .
ثم قال : فالوسوسة هي هذه الخواطر ، والخواطر معلومة ؛ فإذن الوسواس معلوم بالمشاهدة ، وكل خاطر فله سبب ، ويفتقر إلى اسم يعرّفه ، فاسم سببهُ الشيطان ، ولا يتصور أن ينفك عنه آدميّ ، وإنما يختلفون بعصيانه ومتابعته ؛ فقد اتضح بهذا النوع من الاستبصار معنى الوسوسة والإلهام ، والملك والشيطان والتوفيق والخذلان . انتهى . (1)
كان العياذ فى سورة « الفلق » بربّ « الفلق » ، أي رب المخلوقات جميعها ..
وهنا فى سورة الناس ، يأتى الأمر بالاستعاذة ، بربّ الناس ، من الناس ، وهم بعض ما خلق اللّه سبحانه وتعالى.
وقد وصف اللّه سبحانه وتعالى فى هذه السورة ، بثلاث صفات : أنه سبحانه « رب الناس » أي مربيهم ، والقائم عليهم بعد خلقهم .. وأنه جلّ شأنه : « مَلِكِ النَّاسِ » أي مالك أمرهم ، وباسط سلطانه عليهم ، وأنه سبحانه « إِلهِ النَّاسِ » أي سيدهم ، وهم عبيده ، يتصرف فيهم كيف يشاء ، بماله من سلطان عليهم ..
وقد يقال : إن صفة الألوهية يقوم لها السلطان المطلق على المألوهين من غير داعية إلى ربوبية ، أو ملك .. فما داعية ذكر الربوبية والملك هنا ؟
والجواب ـ واللّه أعلم ـ أن ذكر الربوبية بيان لفضل اللّه وإحسانه على عباده ، وأنه لم يملكهم إلا وقد خلع عليهم خلع الربوبية ، فرباهم ، ونشّأهم ، وأمدّهم بكل ما هم فى حاجة إليه .. فملكهم بإحسانه وفضله ، قبل أن يملكهم بجبروته وقهره .. وفى ذكر الملك ، إشارة إلى أن اللّه سبحانه إنما يربّى ما يملك ، ويتصرف فيما هو له ..
فإذا قامت الألوهية على الناس بعد هذا بسلطانها ، لم يكن هذا السلطان سلطان قهر وجبريّة ، وإنما هو سلطان فضل وإحسان ، سلطان المالك فيما ملك.
وقد جاءت هذه الصفات الثلاث للّه سبحانه على هذا الترتيب : الربوبية فالملك ، فالألوهية ، لتكشف عما للّه سبحانه فى الناس من سلطان متمكن ، قائم على العدل والإحسان .. فهو سبحانه المربّى والمنشئ لهم .. وقد يربّى المربّى ، وينشّىء المنشئ ولا يملك ما ربّاه ونشّأه .. ولكن اللّه سبحانه ، هو المربى ، وهو المالك لما يربى .. ثم إنه قد يربى المربى ، ويملك ما يرّبيه ،
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 361)(1/1251)
ولكن لا يقوم له سلطان متمكن على ما يربيه ويملكه ، فقد يخرج عن يده لسبب أو لآخر .. ولكن اللّه سبحانه هو المربى والمالك لما يربى ، والإله القائم بسلطانه المطلق على ما ربّى وما ملك! وفى تخصيص الناس بالاستعاذة منهم ، وفى جعل هذا فى سورة خاصة بهم تسمى سورة « الناس » ـ فى هذا إشارة إلى أن الناس ، من بين المخلوقات التي يعرفونها ، هم الذين يفعلون الشر ، بما ركب فيهم من إرادة عاملة ، قادرة على أن تتجه نحو الخير ، أو الشر ..
فكل مخلوق ـ فيما يرى الإنسان ويعلم ـ قائم على فطرة ، لا يتحول عنها ، ولا يأخذ طريقا غير طريقها الذي أقامها اللّه سبحانه وتعالى عليه.
ومن هنا ، ترى جميع المخلوقات ، التي تعايشنا على هذه الأرض تحكمها طبيعة واحدة ، فى كل جنس من أجناسها ، أو نوع من أنواعها فأفراد الجنس الواحد ، أو النوع الواحد ، كلها على طريق سواء ، فى حياتها ، لا يختلف فرد عن فرد ، ولا تشذّ جماعة عن جماعة ، فى أي مكان وأي زمان ..
فالنملة الواحدة ، هى النمل جميعه ، والنحلة الواحدة ، هى النحل كله ، والغراب الواحد ، هو الغربان جميعها ، والذئب الواحد ، هو الذئاب كلها ..
وهكذا ، كل فرد فى جنسه ، يحمل تاريخ الجنس كله ، لا تحتاج فى التعرف على هذا الجنس إلى أكثر من التعرف على فرد منه .. فى أي مكان وفى أي زمان.
ومن هنا كان من الممكن رصد الشرور الناجمة من بعض الحيوان ، والعمل على توقّيها ، وأخذ الحذر منها .. فإنه إذا عرف الشرّ أمكن توقّيه ، وسدّ المنافذ التي ينفذ منها ..
وليس كذلك الإنسان .. فكل إنسان عالم وحده ، له وجوده الذاتي ، وله عقله ، وإدراكه ، وتصوراته ، ومنازعه ، وخيره ، وشرّه .. وهيهات أن يلتقى إنسان مع إنسان لقاء مطابقا فى جميع الوجوه ، ظاهرا وباطنا ..
ولهذا فإنه لا يمكن رصد شرور الناس ، بل إنه لا يمكن رصد شرّ إنسان واحد ، ولا رسم الحدود التي يقف عندها .. ومن هنا كانت الاستعاذة من الناس ، على هذا الوجه الخاص ، لأن الشرور التي تقع منهم ، بل من أىّ واحد منهم ، كثيرة لا تحصى ، متعددة متنوعة ، لا تحصر .. ولعل هذا هو بعض السر فى تكرار لفظ « الناس » ثلاث مرات فى مطلع السورة ، فهم ليسوا ناسا وحسب ، بل هم ناس ، وناس ، وناس .. إنهم فى مجموعهم ، أخيار ، وأشرار ، وخليط من أخيار وأشرار .. وهم فى أفرادهم : خير ، وشر ، وخليط من الخير والشر ..
فالإنسان يحسن ، ويسىء ، ويقف موقفا بين الإساءة والإحسان. قوله تعالى : « مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ » هو بيان للمستعاذ منه ، برب الناس ، ملك الناس ، إله الناس ..(1/1252)
والوسواس الخناس : هو ما يطرق الإنسان من وساوس وظنون ، مما تسوّل له به نفسه ، من منكرات ، وما يزين له به إخوان السوء ، وما يغريه به أهل الضلال من مفاسد ، وآثام ..
وتسمية هذه الطوارق المنكرة ، وتلك الواردات المضلّة ، بالوسواس ، لأنها تدخل على الإنسان فى مسارّة ومخافتة ، وتلقاه من وراء عقله ، وفى غفلة من ضميره .. إنها توسوس له ، وتهمس فى صدره ، دون أن يحضرها عقله ، أو تشهدها حواسه ..
وهذا واضح إذا كان هذا الوسواس من ذات الإنسان نفسه ، ومن نزغات شيطانه.
أما إذا كان هذا الوسواس من شيطان من شياطين الإنس ، فإن الوسوسة تكون بينه وبين من يوسوس له ، بمعزل عن أعين الناس ، وعن أسماعهم ، حتى لا يروا ولا يسمعوا هذا السوء الذي يوسوس به ، ولا هذا المنكر الذي يدعو إليه ..
وهكذا المنكرات والآثام ، لا يدعى إليها علانية ، كما لا يأتيها مقترفوها علانية .. إنها لا تتمشّى إلا فى الظلام ، ولا يلتقى بها أصحابها المتعاملون بها ـ من داعين بها ومدعوين إليها ـ إلا فى تلصص ومسارقة .. وفى وصف الوسواس « بالخناس »
إشارة إلى أنه يخنس ، أي يغيب شخصه ويتلاشى وجوده ، وهو يؤدى مهمته بما يوسوس به ، فلا يرى المستمع له ظلا لشخصه ، ولا يحسّ وجودا لذاته ، وإنما الذي يتمثل له فى تلك الحال هو شخوص ما يوسوس له به ، ووجوه ما يدعو إليه .. فالموسوس ـ لكى يؤدى دوره على أتمّ وجه ـ ينبغى أن يغيب شخصه ، وأن يختفى وجوده ، حتى يخلى المكان لما يوسوس به ، فلا يشغل الموسوس إليه بشىء عنه ، ولا يتمشى فى صدره شىء غير تلك الوسوسة ..
وفى قوله تعالى : « الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ » وفى جعل الوسوسة فى الصدور ، مع أنها تكون فى الآذان ـ إشارة إلى أن هذه الوسوسة إنما تتدسس إلى الصدور ، دون أن تشعر بها الآذان ، وأنها لا تحدث أثرها السيّء إلا إذا أخذت مكانها من الصدور ، أي القلوب ، ووقعت منها موقعا .. على خلاف الآذان ، فإن كثيرا من وساوس السوء تطرقها ، ثم لا تجد لها من أصحابها أذنا صاغية ، فتسقط ميتة ، وتدرج فى أكفان الريح! وقوله تعالى : « مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ » « من » هنا بيانية ، تكشف عن وجه الوسواس الخناس ، وهو أنه إما أن يكون إنسانا ، أو شيطانا .. من عالم الإنس ، أو عالم الجن ..
والوسواس الخناس ـ كما قلنا ـ كائن لا يكاد يرى شخصه ، حين يوسوس ، حيث يتدسس إلى من يوسوس إليه خفية ، ويدخل عليه من حيث لا يشعر ..
ولهذا جمع اللّه سبحانه وتعالى بين الوسواس من عالم الإنس ، والوسواس من عالم الجن .. فالإنسان الذي يوسوس للناس بالسوء ، ويغريهم به.(1/1253)
هو شيطان ، فى خفاء شخصه ، وفى عداوته للإنسان ، وفيما يحمل إليه من شر ، وإن على الإنسان أن يحذر هذا الوسواس من الناس كما يحذر الشيطان ..
وعبّر عن الشيطان هنا بلفظ الجن ، للدلالة على خفائه ، وعدم إمكان وقوع العين عليه ، وإن كان له لمة يعرفها المؤمن ، ونخسة يشعر بها ، ويعلم أنها من وارداته ..
وعالم الجن ، أو الشيطان ، وإن يكن غير منظور لنا ، فإن علينا الإيمان به ، وأنه يعيش معنا على هذه الأرض ، ويرانا من حيث لا تراه ، كما يقول تعالى عن الشيطان : « إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ » (27 : الأعراف) وهذا العالم غير المرئي ، هو عدوّ لنا ، متربص بنا ، أشبه بجراثيم الأمراض التي لا ترى بالعين المجردة ، وإن كان يمكن رؤيتها بأجهزة خاصة ، كما يمكن أن يرى الشيطان لكثير من المؤمنين بعين البصيرة لا الإبصار ، فلنحذر هذا العدو الراصد ، كما نحذر الوباء ، كما يقول سبحانه : « إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا » (6 : فاطر) وإنه ليس علينا أن نبحث عن كنه الشيطان ، ولا عن حياته الخاصة فى عالمه ، ولا عن طعامه ، شرابه ، ونزاوجه ، وتوالده .. وإنما الذي علينا أن نعلمه ، هو أنه عدوّ غير مرئىّ لنا ، وأنه يتدسس إلى مشاعرنا ، ومدركاتنا ، وعواطفنا ، ويحاول جاهدا أن يؤثر فيها ، وأن يخرج بها عن جادّة الحق والخير ، إلى طريق الغواية والضلال ، فيزين لنا الشر ، فنراه خيرا ، والضلال ، فتراه هدى! والشيطان ، ليس هو النفس الأمارة بالسوء ، كما يرى ذلك بعض الناس ، وإنما هو كائن له وجوده المستقل خارج العالم الإنسانى ، وله حياته الخاصة ، شأنه فى هذا شأن الكائنات والعوالم غير المرئية التي تعيش معنا ، كالجراثيم ، والهواء ، بل والإنسان الذي يلبس ثوب الوسواس .. فإنه شيطان غير مرئى.
وهو ـ أي الشيطان ـ مخاطب خطابا مستقلا من اللّه سبحانه وتعالى ، كما هو شأن الإنسان ، وهو محاسب ، ومجازى على ما يعمل ، وفى هذا يقول اللّه تعالى : « وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ ، وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً .. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ » (64 ـ 65 الإسراء) ويقول سبحانه : « وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً » 112 :
الأنعام) .. ويقول جل شأنه : « وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً » (6 : الجن) .. وقد سخر اللّه بعض الجن لسليمان ـ عليه السلام ـ كما سخر له الريح .. فقال تعالى : « وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ » (82 الأنبياء) وقال سبحانه : « يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ » (13 : سبأ).(1/1254)
فالشيطان أو الجن ، عالم غير منظور ، يقابل عالم الإنسان المنظور ، وبين العالمين احتكاك أشبه بالاحتكاك الذي يقع بين الإنسان والإنسان ، وفى احتكاك الإنسان بالإنسان يتولد خير وشر .. أما احتكاك الشيطان بالإنسان ، فلا يتولد منه إلا شر محض .. كما يتولد الشر من احتكاك الإنسان بالإنسان فى مجال العداوة والبغضاء .. وليس بين الشيطان والإنسان إلا عداوة دائمة متصلة ، وليس يرد على الإنسان من الشيطان إلا السوء الخالص ، والشر الصريح ، كما يقول سبحانه .. « إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا .. إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ ». (6 : فاطر) فاللهم احفظنا من وساوس النفس وأهوائها ، ومن كيد الشيطان وزغانه ، واجعل لنا من لدنك وليّا ، واجعل لنا من لدنك نصيرا ، حتى نستقيم على طريقك القويم ، ونبلغ بعونك وتوفيقك ما يرضيك عنّا ، ويدخلنا فى عبادك الصالحين فى الدنيا والآخرة .. « رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ». (1)
في آيات السورة أمر رباني موجه للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالاستعاذة باللّه من وسوسة الإنس والجن وإغرائهم وإغوائهم.
وهي مثل سابقتها في معرض تعليم المسلمين الاستعاذة باللّه وحده ونبذ ما سواه من كل وسوسة ظاهرة وخفية من جن وإنس.
والمتبادر أن المقصود من وسوسة الإنس هو ما يحاوله ويقوم به ذوو الأخلاق السيئة والسرائر الفاسدة من إغراء وإغواء وإيحاء وتلقين بالشرور والمنكرات والبغي وإقامة العثرات في سبيل الخير والصلاح والحق والبر.
أما وسوسة الجنة فالمقصود منها كما هو المتبادر أيضا وسوسة تلك العناصر الخفية التي توسوس في صدور الناس وتغريهم بالشر والفساد والمنكرات والبغي والكفر وعبادة غير اللّه وجحود نعمته. وتزينه لهم وتمنعهم عن الإيمان والخير والمعروف والبر ، والتي سماها القرآن بأسماء إبليس وجنوده وذريته وقبيله والشيطان والشياطين ، مما هو مستفيض في فصول القرآن المكية والمدنية استفاضة تغني عن التمثيل.
وروح الآيات تلهم أن السامعين يعرفون ما يفعله الوسواس الخناس من الجنة والناس.
وقد تضمنت السورة أهدافا جليلة وتلقينات بليغة. فالوساوس سواء أكانت تلك التي تأتي من أعماق النفس وعناصر الشر الخفية أم تلك التي تأتي عن طريق وألسنة الشر وأعوان السوء من البشر من شأنها أن تثير مختلف الهواجس ونوازع الشر والإثم ، وتسبب نتائج خطيرة في
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1746)(1/1255)
علاقات الناس ببعضهم ، وتزلزل فكرة الخير والمعروف والثقة والتضامن والسكينة والطمأنينة فيهم. فالأمر بالاستعاذة باللّه منها ومن شر مسببيها يتضمن التحذير والتنبيه والتنديد من جهة ، والدعوة إلى الازورار عن الموسوسين ونبذهم من جهة ، وتلقين تغليب نوازع الخير وإقامة الناس علاقاتهم فيما بينهم على أساس الروح الطيبة والنية الحسنة وحسن الظن والتواثق من جهة ، وعدم الاستسلام لسوء الظن الذي تثيره الوساوس وعدم الإصغاء إلى كل كلمة يقولها المرجفون والدساسون وكل خبر يذيعونه وعدم الاندماج فيما ينصبونه من مكايد ويحيكونه من مؤامرات من جهة.
وبعض الروايات تذكر أنها نزلت مع سورة الفلق في مناسبة حادث سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة. وقد علقنا على هذا الحادث في سياق السورة السابقة. ولا تبدو صلة ظاهرة بين هذه السورة وبين الحادث المذكور. بل إن روايات نزول السورتين متتابعتين وفي ظرف واحد تبعد السورتين معا عن ذلك الحادث. ومعظم روايات ترتيب السور تسلك هذه السورة كما تسلك السورة السابقة في سلك السور المكية المبكرة في النزول. وروح السورة وأسلوبها يجعلان النفس مطمئنة إلى ذلك ولا سيما أن مضمونها عام شامل ، وفيها صورة لما كان يجري بين الكفار إزاء الدعوة النبوية حيث كان زعماؤهم يبثون الدعاية والوساوس ضدها ويكيدون لها ويتآمرون عليها ليلا ونهارا على ما حكته آيات قرآنية مكية عديدة أوردنا أمثلة منها في المناسبات السابقة. هذا إلى ما ذكرته آيات كثيرة مكية ومدنية من وساوس الشيطان وإبليس اللذين عنتهما كلمة «الجنة» في السورة على الأرجح ونزغاتهما وإغراءاتهما للكفار وتزيينهما لهم مواقف الجحود والعناد والبغي مثل ما جاء في آية سورة فصلت هذه : وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وآية سورة ص هذه : قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) «1».
وآية سورة فاطر هذه : إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) ومثل آية سورة العنكبوت هذه : وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وآيات سورة المؤمنون هذه : وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98). وآية سورة الكهف هذه :
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50).
وبمناسبة ورود كلمة الْجِنَّةِ لأول مرة نقول : إن هذه الكلمة وبعض متشابهاتها وتفرعاتها اللفظية مثل جن وجنين تنطوي على معنى الاستتار والخفاء في اللغة العربية. وهذا يسوغ القول(1/1256)
إن معنى الخفي والمستور وغير المرئي بالنسبة إلى الجن والجنة مما كان مستقرا ومفهوما في أذهان العرب قبل الإسلام. ولعل مما يصح قوله أن إطلاق التسمية مقتبس من المعنى اللغوي الذي يمكن أن تكون صيغته الفصحى متطورة عن جذر قديم أطلق على العناصر الخفية الشريرة التي كان الاعتقاد بوجودها طورا بشريا عاما مشتركا بين الأمم منذ أقدم الأزمنة ومن جملتهم العرب قبل الإسلام في مختلف أطوارهم كما هو الشأن إزاء العناصر الخفية الخيرة. ولقد كان لأهل الكتاب الذين كان العرب يتصلون بهم في جزيرتهم وخارجها عقائد متطورة فيهم فمن المحتمل كثيرا أن يكون ذلك قد تسرب إلى العرب فأدخل تطورا ما على عقائدهم فيهم أيضا.
ولقد احتوى القرآن آيات كثيرة حول الجن وماهيتهم أولا وحول عقائد العرب فيهم ثانيا.
ومجمل ما جاء عن ماهيتهم أنهم مخلوقات نارية على ما تفيده آية سورة الحجر هذه : وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وآية سورة الرحمن هذه :
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) وأنهم طوائف وطبقات على ما تفيده آية سورة الجن هذه التي تحكي أقوالهم : وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) ، وأن منهم طبقة إبليس وذريته الذين يوسوسون للناس ويزينون لهم الشر والإثم والتمرد على اللّه على ما تفيده آيات سورتي ص والكهف التي أوردناها قبل قليل ، وأن منهم من ينزل على الناس ويلقون إليهم ببعض الأقوال والأخبار والأفكار على ما تفيده آيات سورة الشعراء هذه : هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223)
وأن منهم من كان يصعد إلى السماء ويحاول استراق السمع على ما تفيده آيات سورة الجن هذه : وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وأن منهم من كان تحت تسخير سليمان عليه السلام يعملون له ما يشاء ويقومون بأعمال أضخم من أعمال البشر على ما تفيده آيات سورة سبأ هذه : وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ [13] وآيات سورة ص هذه : فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) وأن منهم من سمع القرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا به وذهبوا إلى قومهم مبشرين ومنذرين به كما تفيده آيات سورة الجن هذه : قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وآيتا سورة(1/1257)
الأحقاف هذه : وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) وأنهم صائرون إلى ما هو صائر إليه الإنس من الحياة الأخروية ومنازلها جنة ونارا وكرامة وهوانا وفق أعمالهم كما تفيده آية سورة الأعراف هذه : وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) وآية سورة الأحقاف هذه : يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وأنهم إلى ذلك كله عناصر خفية لا يمكن رؤيتها ولا الشعور بماديتها عادة على ما تفيده آية سورة الأعراف هذه : يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)
أما مجمل ما جاء في القرآن عن عقائد العرب في الجن فهو أنهم كانوا يعتقدون أن بينهم وبين اللّه نسبا وصهرا على ما تفيده آية سورة الصافات هذه : وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) وأنهم كانوا يتجهون إليهم ويشركونهم مع اللّه في العبادة والدعاء على ما تفيده آية سورة سبأ هذه : قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) وآية سورة الأنعام هذه : وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ [100] وأنهم كانوا يرونهم مصدر خوف وشر ويعوذون بهم اتقاء شرهم على ما تفيده آية سورة الجن هذه : وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) ولعل بشراكهم إياهم مع اللّه وعبادتهم لهم جاءت من هذا الخوف ومن الاعتقاد بقدرتهم على الأذى والضرر. وأنهم كانوا يخالطون الناس في عقولهم فيكون من ذلك الجنون وأعراضه على ما تفيده آية سورة المؤمنون هذه : أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وأنهم ينزلون على بعض الناس ويوحون إليهم ويوسوسون في صدور الناس على ما تفيده آية سورة التكوير هذه : وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) وآية سورة الشعراء هذه : وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وآية سورة الأعراف هذه : إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30).
فالصورة القرآنية عن الجن سواء أكانت بما جاء عن ماهيتهم وأعمالهم أم حكاية عن عقائد العرب فيهم هي صورة مخلوقات خفية غير مرئية ولا محسوسة المادة عادة ، فائقة القدرة متسلطة على البشر تثير فيهم الخوف والفزع ، وتؤثر في أفكارهم وتوجههم توجيها ضارّا فاسدا باستثناء بعضهم الذين كانوا يؤمنون باللّه ويخشونه.(1/1258)
وهذه الصورة تتفق في بعض الخطوط مع الصورة القرآنية للملائكة وتختلف عنها في بعض ، فهم سواء في الخفاء وعدم المادية والقدرة الفائقة. مفترقون من حيث كون الجن ناريين ومبعث خوف وقلق ومصدر شر وأذى ، ومن حيث كون غالبيتهم موضع سخط اللّه ونقمته لشرورهم وتمردهم على اللّه ، ومن حيث كون اتصالهم وتعاونهم مع ذوي النيات السيئة والأفكار الخبيثة والأخلاق المنحرفة ، في حين أن الملائكة مبعث طمأنينة وسكينة ومصدر أمن وخير وعون ورجاء ومختصون من اللّه مكرمون لديه ، يقومون بخدمته ويسبحون باسمه ويخضعون لأمره ويخشونه ، وفي حين أن اتصالهم مع الأنبياء والرسل الذين لهم الكرامة عند اللّه.
وكما قلنا بالنسبة للملائكة نقول بالنسبة للجن إن وجودهم في نطاق قدرة اللّه وإن لم تدرك عقول الناس مداه. وإن التصديق به واجب إيماني غيبي لأن نصوص القرآن قطعية في ذلك.
وذكر الجن بالأساليب المتنوعة التي ذكروا بها في القرآن ماهية وعقائد وصورا لم يرد في كتب اليهود والنصارى المنسوبة إلى الوحي الرباني كما هو شأن الملائكة ، ولذلك فإن هذا الأسلوب من خصوصيات القرآن أيضا.
ولعل ما كان من عقائد العرب في الجن وما كان من صور في أذهانهم لهم هو من حكمة هذه الخصوصية كما هو الشأن بالنسبة للملائكة أيضا. وعلى كل حال فإن مما هو جدير بالتنبيه أن القرآن وهو يذكر الجن بما يذكر ويتحدث عنهم بما يتحدث إنما يذكر ويتحدث عن مخلوقات وكائنات يعتقد العرب بها ويعترفون بوجودها بما يقارب ما جاء فيه. وهذه مسألة مهمة في صدد كل ما جاء عن الجن ، لأن الكلام عما هو معروف ومعترف به هو أقوى أثرا ونفوذا كما لا يخفى.ومما يتبادر أن ما ورد عن الجن والشياطين وإبليس من صور قرآنية بغيضة ومن حملات على الكفار في سياقها متصل بما في أذهان العرب عنهم ، وبسبيل تقرير كون الانحراف عن الحق والمكابرة فيه والاستغراق في الإثم والخبائث والانصراف عن دعوة اللّه هو من تلقيناتهم ووساوسهم ، ومظهرا من مظاهر الانحراف نحوهم ، وبسبيل التحذير من الاندماغ بهم لما في ذلك من مهانة ومسبة.
ومن هنا يأتي الكلام قويا ملزما ولاذعا ، ويقوم البرهان على أن ذلك من الوسائل التدعيمية لأهداف القرآن وأسس الدعوة الإسلامية.
وهذا ملموح أيضا على ما هو المتبادر من آيات سورتي الجن والأحقاف التي تخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - باستماع الجن للقرآن ، فآيات سورة الجن تفيد أن الذين استمعوا القرآن منهم ممن كانوا يعتقدون أن اللّه ولدا وصاحبة كما ترى فيها : قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وآيات سورة الأحقاف تفيد أن(1/1259)
الذين استمعوا هم من المتدينين بالديانة الموسوية على ما تفيده الآيات [29 - 30] التي أوردناها قبل قليل ، والصورة الأولى متصلة من ناحية بعقائد العرب المشركين ومن ناحية بعقيدة النصارى حيث يلمح أن هذا وذاك ينطويان من جهة ما على قصد التدعيم للرسالة المحمدية بالإخبار بأن بعض طوائف الجن الذين يدينون بالديانة الموسوية والديانة العيسوية وبعقائد العرب والذين لهم في أذهان العرب تلك الصورة الهائلة قد آمنوا بهذه الرسالة حينما سمعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يتلو القرآن «1».
ولقد تزيد المفسرون المطولون في صدد ماهية الجن وأوردوا أقوالا متنوعة عنهم بسبيل ذلك «2» معظمها مغرب وغير موثق. ولما كان القرآن إنما ذكر الجن في معرض التنديد والتحذير والموعظة والتدعيم والتمثيل ، ثم لما كان الجن كائنات غيبية إيمانية لا يصح الكلام فيها إلّا في نطاق ما جاء عنها في القرآن أو السنة النبوية الثابتة فإن من الواجب ملاحظة ذلك الهدف من جهة والوقوف عند الحد الذي وقف عنده القرآن من جهة أخرى فضلا عن انتفاء أي طائل في إرسال الكلام عنهم والتزيد فيه خارج ذلك. (1)
الاستعاذة في هذه السورة برب الناس ، ملك الناس ، إله الناس . والمستعاذ منه هو : شر الوسواس الخناس ، الذي يوسوس في صدور الناس ، من الجنة والناس .
والاستعاذة بالرب ، الملك ، الإله ، تستحضر من صفات الله سبحانه ما به يدفع الشر عامة ، وشر الوسواس الخناس خاصة .
فالرب هو المربي والموجه والراعي والحامي . والملك هو المالك الحاكم المتصرف . والإله هو المستعلي المستولي المتسلط . . وهذه الصفات فيها حماية من الشر الذي يتدسس إلى الصدور . . وهي لا تعرف كيف تدفعه لأنه مستور .
والله رب كل شيء ، وملك كل شيء ، وإله كل شيء . ولكن تخصيص ذكر الناس هنا يجعلهم يحسون بالقربى في موقف العياذ والاحتماء .
والله برحمة منه يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأمته إلى العياذ به والالتجاء إليه ، مع استحضار معاني صفاته هذه ، من شر خفي الدبيب ، لا قبل لهم بدفعه إلا بعون من الرب الملك الإله . فهو يأخذهم من حيث لا يشعرون ، ويأتيهم من حيث لا يحتسبون . والوسوسة : الصوت الخفي . والخنوس : الاختباء والرجوع . والخناس هو الذي من طبعه كثرة الخنوس .
وقد أطلق النص الصفة أولاً : { الوسواس الخناس } . . وحدد عمله : { الذي يوسوس في صدور الناس } . ثم حدد ماهيته : { من الجنة والناس } . . وهذا الترتيب يثير في الحس اليقظة
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 59)(1/1260)
والتلفت والانتباه لتبين حقيقة الوسواس الخناس ، بعد إطلاق صفته في أول الكلام؛ ولإدراك طريقة فعله التي يتحقق بها شره ، تأهبا لدفعه أو مراقبته!
والنفس حين تعرف بعد هذا التشويق والإيقاظ أن الوسواس الخناس يوسوس في صدور الناس خفية وسراً ، وأنه هو الجنة الخافية ، وهو كذلك الناس الذين يتدسسون إلى الصدور تدسس الجنة ، ويوسوسون وسوسة الشياطين . . النفس حين تعرف هذا تتأهب للدفاع ، وقد عرفت المكمن والمدخل والطريق!
ووسوسة الجنة نحن لا ندري كيف تتم ، ولكنا نجد آثارها في واقع النفوس وواقع الحياة . ونعرف أن المعركة بين آدم وإبليس قديمة قديمة؛ وأن الشيطان قد أعلنها حرباً تنبثق من خليقة الشر فيه ، ومن كبريائه وحسده وحقده على الإنسان! وأنه قد استصدر بها من الله إذناً ، فأذن فيها سبحانه لحكمة يراها! ولم يترك الإنسان فيها مجرداً من العدة . فقد جعل له من الإيمان جُنة ، وجعل له من الذكر عدة ، وجعل له من الاستعاذة سلاحاً . . فإذا أغفل الإنسان جنته وعدته وسلاحه فهو إذن وحده الملوم!
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله تعالى خنس ، وإذا غفل وسوس » .
وأما الناس فنحن نعرف عن وسوستهم الشيء الكثير .
ونعرف منها ما هو أشد من وسوسة الشياطين!
رفيق السوء الذي يتدسس بالشر إلى قلب رفيقه وعقله من حيث لا يحتسب ومن حيث لا يحترس ، لأنه الرفيق المأمون!
وحاشية الشر التي توسوس لكل ذي سلطان حتى تتركه طاغية جباراً مفسداً في الأرض ، مهلكاً للحرث والنسل!
والنمام الواشي الذي يزين الكلام ويزحلقه ، حتى يبدو كأنه الحق الصراح الذي لا مرية فيه .
وبائع الشهوات الذي يتدسس من منافذ الغريزة في إغراء لا تدفعه إلا يقظة القلب وعون الله .
وعشرات من الموسوسين الخناسين الذين ينصبون الأحابيل ويخفونها ، ويدخلون بها من منافذ القلوب الخفية التي يعرفونها أو يتحسسونها . . وهم شر من الجنة وأخفى منهم دبيباً!
والإنسان عاجز عن دفع الوسوسة الخفية . ومن ثم يدله الله على عدته وجنته وسلاحه في المعركة الرهيبة!
وهناك لفتة ذات مغزى في وصف الوسواس بأنه { الخناس } . . فهذه الصفة تدل من جهة على تخفيه واختبائه حتى يجد الفرصة سانحة فيدب ويوسوس . ولكنها من جهة أخرى توحي بضعفه أمام من يستيقظ لمكره ، ويحمي مداخل صدره . فهو سواء كان من الجنة أم كان من الناس إذا(1/1261)
ووجْه خنس ، وعاد من حيث أتى ، وقبع واختفى . أو كما قال الرسول الكريم في تمثيله المصور الدقيق : « فإذا ذكر الله تعالى خنس ، وإذا غفل وسوس » .
وهذه اللفتة تقوي القلب على مواجهة الوسواس . فهو خناس . ضعيف أمام عدة المؤمن في المعركة .
ولكنها من ناحية أخرى معركة طويلة لا تنتهي أبداً . فهو أبداً قابع خانس ، مترقب للغفلة . واليقظة مرة لا تغني عن اليقظات . . والحرب سجال إلى يوم القيامة؛ كما صورها القرآن الكريم في مواضع شتى ، ومنها هذه الصورة العجيبة في سورة الإسراء :
{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ، فسجدوا إلا إبليس ، قال : أأسجد لمن خلقت طيناً؟ قال : أرأيتك هذا الذي كرّمتَ علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكنَّ ذريته إلا قليلاً . قال : اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزآؤكم جزاء موفوراً . واستفزِزْ من استطعت منهم بصوتك ، وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ، وشاركهم في الأموال والأولاد ، وعدهم ، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً . إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . وكفى بربك وكيلا } وهذا التصوُّر لطبيعة المعركة ودوافع الشر فيها سواء عن طريق الشيطان مباشرة أو عن طريق عملائه من البشر من شأنه أن يشعر الإنسان أنه ليس مغلوباً على أمره فيها . فإن ربه وملكه وإلهه مسيطر على الخلق كله . وإذا كان قد أذن لإبليس بالحرب ، فهو آخذ بناصيته . وهو لم يسلطه إلا على الذين يغفلون عن ربهم وملكهم وإلههم . فأما من يذكرونه فهم في نجوة من الشر ودواعيه الخفية . فالخير إذن يستند إلى القوة التي لا قوة سواها ، وإلى الحقيقة التي لا حقيقة غيرها . يستند إلى الرب الملك الإله . والشر يستند إلى وسواس خناس ، يضعف عن المواجهة ، ويخنس عند اللقاء ، وينهزم أمام العياذ بالله . .
وهذا أكمل تصور للحقيقة القائمة عن الخير والشر . كما أنه أفضل تصور يحمي القلب من الهزيمة ، ويفعمه بالقوة والثقة والطمأنينة . .
والحمد لله أولاً وأخيراً . وبه الثقة والتوفيق . . وهو المستعان المعين . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1 - وجوب الاستعاذة بالله تعالى من شيطان الجن وشيطان الإنس .
2 - هذه ثلاث صفات من صفات الرب عز وجل الربوبية والملك والألوهية فهو رب كل شيء وإلهه ومليكه .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 4010)(1/1262)
3 - كان - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بالله تعالى فيقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه ، وكان أحياناً يزيد فيه فيقول : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان ....
علّمنا اللَّه تعالى في هذه السورة رحمة بنا كيفية الاستعاذة من شياطين الإنس والجن ، وعرفنا أنه بصفاته الثلاث : الربوبية ، والملك ، والألوهية ، يحمي المستعيذ من شرور الشيطان وأضراره في الدين والدنيا والآخرة. ومعنى الربوبية يدل على مزيد العناية وحرص المربي.
وإنما ذكر أنه بِرَبِّ النَّاسِ وإن كان ربّا لجميع الخلق ، لأمرين :
أحدهما- لأن الناس معظّمون ، فأعلم بذكرهم أنه ربّ لهم ، وإن عظموا.
الثاني- لأنه أمر بالاستعاذة من شرّ الناس فأعلم بذكرهم أنه هو الذي يعيذ منهم (1) . ثم ذكر صفتي الملك والألوهية ليبين للناس أنه ملكهم الحقيقي ، وإن كان لهم ملوك ، وأنه إلههم ومعبودهم ، لا معبود لهم سواه ، وأنه الذي يجب أن يستعاذ به ، ويلجأ إليه ، دون الملوك والعظماء.
أوضحت السورة أن الموسوس إما شيطان الجن ، وإما شيطان الإنس. قال الحسن : هما شيطانان أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس ، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية. وقال قتادة : إن من الجنّ شياطين ، وإن من الإنس شياطين ، فتعوّذ باللَّه من شياطين الإنس والجن.
ويلاحظ أن المستعاذ به في سورة (الفلق) مذكور بصفة واحدة وهي أنه « ربّ الفلق » ، والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات ، وهي « الغاسق » والنَّفَّاثاتِ و « الحاسد » . وأما في هذه السورة فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاث : وهي الرّب والملك والإله ، والمستعاذ منه آفة واحدة ، وهي الوسوسة ، وسبب التفرقة : أن المطلوب في السورة الأولى سلامة النفس والبدن ، والمطلوب في هذه السورة سلامة الدين ، ومضرة الدين ، وإن قلّب ، أعظم من مضارّ الدنيا وإن عظمت (2) .
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - تفسير القرطبي : 20/ 260
(2) - تفسير الرازي : 32/ 199(1/1263)
أهم المراجع والمصادر
1. أيسر التفاسير لأسعد حومد
2. أيسر التفاسير للجزائري
3. التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية
4. التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع
5. التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع
6. التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع
7. التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع
8. التفسير الوسيط للقرآن الكريم لطنطاوي
9. التفسير والمفسرون ــ للدكتور محمد حسين الذهبى رحمه الله
10. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
11. الدر المنثور للسيوطي
12. الكشاف للزمخشري
13. الكشف والبيان ـ موافق للمطبوع
14. تفسير ابن أبي حاتم
15. تفسير ابن كثير - دار طيبة
16. تفسير البحر المحيط ـ موافق للمطبوع
17. تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع
18. تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة
19. تفسير الفخر الرازى ـ موافق للمطبوع
20. تفسير القرآن للعثيمين
21. تفسير القرطبي ـ موافق للمطبوع
22. صفوة التفاسير ـ للصابونى
23. في ظلال القرآن
24. كلمات القرآن للشيخ غازي الدروبي
25. محاسن التأويل تفسير القاسمي
26. نظم الدرر ـ موافق للمطبوع
27. أحكام القرآن لابن العربي
28. أسباب نزول القرآن
29. الإتقان في علوم القرآن للسبوطي
30. البرهان في علوم القرآن
31. التبيان في آداب حملة القرآن
32. شرح مقدمة التفسير لابن تيمية
33.(1/1264)
لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي
34. مباحث في علوم القرآن للشيخ صبحي الصالح
35. مقدمة في أصول التفسير
36. مناهل العرفان في علوم القرآن
37. أخبار مكة للفاكهي (272)
38. اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة
39. الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم
40. الترغيب والترهيب للمنري
41. السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة
42. السنن الكبرى للبيهقي- المكنز
43. المدخل إلى السنن الكبرى
44. المستدرك للحاكم مشكلا
45. المعجم الأوسط للطبراني
46. المعجم الصغير للطبراني
47. المعجم الكبير للطبراني
48. جامع الأصول في أحاديث الرسول
49. دلائل النبوة للبيهقي
50. سنن أبي داود - المكنز
51. سنن ابن ماجه- المكنز
52. سنن الترمذى- المكنز
53. سنن الدارقطنى- المكنز
54. سنن الدارمى- المكنز
55. سنن النسائي- المكنز
56. شرح مشكل الآثار (321)
57. شعب الإيمان (458)
58. صحيح ابن حبان
59. صحيح البخاري
60. صحيح مسلم- المكنز
61. كشف الأستار
62. مجمع الزوائد
63. مسند أبي عوانة مشكلا
64. مسند أبي يعلى الموصلي
65. مسند أحمد - المكنز
66. مسند البزار كاملا
67.(1/1265)
مسند الحميدي - المكنز
68. مسند عبد بن حميد
69. مصنف ابن أبي شيبة
70. مصنف عبد الرزاق مشكل
71. معرفة الصحابة لأبي نعيم (430)
72. موسوعة السنة النبوية
73. موطأ مالك- المكنز
74. فتح الباري لابن حجر
75. أخلاق النبي لأبي الشيخ الأصبهاني
76. أخلاق حملة القرآن للآجري
77. الجامع الصغير وزيادته
78. السلسلة الصحيحة
79. السلسلة الضعيفة
80. الجامع الصغير وزيادته
81. السلسلة الصحيحة
82. السلسلة الضعيفة
83. صحيح وضعيف سنن أبي داود
84. صحيح وضعيف سنن ابن ماجة
85. صحيح وضعيف سنن الترمذي
86. صحيح وضعيف سنن النسائي
87. بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخيار للكلاباذي
88. شرح النووي على مسلم
89. فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2
90. أبحاث هيئة كبار العلماء
91. الفتاوى الكبري لابن تيمية
92. الموسوعة الفقهية الكويتية
93. فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة
94. مجموع الفتاوى لابن تيمية
95. أبوبكر الصديق رضي الله عنه شخصيته وعصره
96. السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث
97. زاد المعاد في هدي خير العباد
98. سيرة ابن هشام
99. برنامج قالون
100. المكتبة الشاملة 3(1/1266)
الفهرس العام
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.(1/1267)
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.(1/1268)
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.(1/1269)
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.(1/1270)
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.(1/1271)
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.(1/1272)
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.(1/1273)
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.(1/1274)
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.(1/1275)
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
ما ترشد إليه الآياتُ ... 862
وعيد الكفار ووعد الأبرار وجزاء الفريقين ... 870
ما ترشد إليه الآياتُ ... 879
سورة الزلزلة ... 887
تسميتها : ... 887
مناسبتها لما قبلها : ... 888
ما اشتملت عليه السورة : ... 888
سبب نزولها : ... 890
فضلها : ... 890
أمارة القيامة والجزاء على الخير والشر ... 893
ما ترشد إليه الآياتُ ... 913
مقاصد هذه السورة ... 915
سورة العاديات ... 916
تسميتها : ... 916
مناسبتها لما قبلها : ... 916
ما اشتملت عليه السورة : ... 917(1/1276)
جحود النعم والبخل لحب الخير وإهمال الاستعداد للآخرة ... 920
ما ترشد إليه الآياتُ ... 931
سورة القارعة ... 932
تسميتها : ... 932
مناسبتها لما قبلها : ... 932
ما اشتملت عليه السورة : ... 932
أهوال القيامة وأماراتها وميزان الحساب فيها ... 934
ومضات : ... 936
ما ترشد إليه الآياتُ ... 941
سورة التكاثر ... 947
تسميتها : ... 947
مناسبتها لما قبلها : ... 948
ما اشتملت عليه السورة : ... 948
سبب نزول السورة : ... 949
التفاخر في الدنيا والسؤال عن الأعمال ... 950
ومضات : ... 956
7- حُكْمُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ : ... 961
سورة العصر ... 964
تسميتها : ... 964
مناسبتها لما قبلها : ... 964
ما اشتملت عليه السورة : ... 965
فضلها : ... 965
أصول السعادة والشقاء ... 967
ومضات : ... 973
ما ترشد إليه الآياتُ ... 990
سورة الهمزة ... 992
تسميتها : ... 992
مناسبتها لما قبلها : ... 992
ما اشتملت عليه السورة : ... 992(1/1277)
الطعّان العيّاب للناس وجزاؤه ... 995
ومضات : ... 997
ما ترشد إليه الآياتُ ... 1002
سورة الفيل ... 1004
تسميتها : ... 1004
مناسبتها لما قبلها : ... 1005
ما اشتملت عليه السورة : ... 1006
أضواء من التاريخ على قصة أصحاب الفيل : ... 1006
قصة أصحاب الفيل ... 1021
ومضات : ... 1027
ما ترشد إليه الآياتُ ... 1036
سورة قريش ... 1038
تسميتها : ... 1038
مناسبتها لما قبلها : ... 1038
ما اشتملت عليه السورة : ... 1039
فضلها وسبب نزولها : ... 1040
التذكير بنعم اللَّه على قريش ... 1041
ومضات : ... 1043
ما ترشد إليه الآياتُ ... 1055
سورة الماعون ... 1057
مكيتها أو مدنيتها : ... 1057
تسميتها : ... 1057
مناسبتها لما قبلها : ... 1058
ما اشتملت عليه السورة : ... 1058
سبب نزول الآية 4 فما بعدها : ... 1060
الكافر المنكر الجزاء الأخروي والمنافق المرائي بعمله وعقاب كل منهما ... 1061
ومضات : ... 1063
ما ترشد إليه الآياتُ ... 1072
سورة الكوثر ... 1077(1/1278)
مكيتها أو مدنيتها : ... 1077
تسميتها : ... 1078
مناسبتها لما قبلها : ... 1078
ما اشتملت عليه السورة : ... 1078
فضل السورة : ... 1080
سبب نزول السورة : ... 1080
المنح المعطاة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ... 1082
ومضات : ... 1084
الكلام عن حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - ... 1091
الأحاديث الواردة فيه ... 1092
الذين يردون الحوض والذين يطردون عنه ... 1094
ما ترشد إليه الآياتُ ... 1096
سورة الكافرون ... 1097
تسميتها : ... 1097
مناسبتها لما قبلها : ... 1097
ما اشتملت عليه السورة : ... 1098
سبب النزول : ... 1100
فضلها : ... 1101
البراءة من الشرك والكفر وأعمال المشركين ... 1103
ومضات : ... 1105
ما ترشد إليه الآياتُ ... 1119
سورة النصر ... 1121
تسميتها : ... 1121
مناسبتها لما قبلها : ... 1123
ما اشتملت عليه السورة : ... 1123
فضلها : ... 1126
سبب نزول السورة : ... 1127
وقت نزول هذه السورة : ... 1129
فتح مكة ... 1131(1/1279)
ومضات : ... 1133
ما ترشد إليه الآياتُ ... 1153
سورة المسد ... 1156
تسميتها : ... 1156
ما اشتملت عليه السورة : ... 1157
سبب النزول : ... 1159
جزاء أبي لهب وامرأته ... 1162
ومضات : ... 1164
ما ترشد إليه الآياتُ ... 1172
سورة الإخلاص ... 1174
تسميتها : ... 1174
مناسبتها لما قبلها : ... 1176
ما اشتملت عليه السورة : ... 1177
فضلها : ... 1179
سبب النزول : ... 1183
سورة التوحيد والتنزيه للَّه عز وجل ... 1185
ومضات : ... 1188
ما ترشد إليه الآياتُ ... 1199
سورة الفلق ... 1201
مكيتها أو مدنيتها : ... 1201
تسميتها : ... 1201
مناسبتها لما قبلها : ... 1202
ما اشتملت عليه السورة : ... 1204
سبب نزول المعوذتين : ... 1205
فضلهما : ... 1205
الاستعاذة من شرّ المخلوقات ... 1207
ومضات : ... 1209
قلت : حديث السحر صحيح ولا يجوز رده لأي سبب كان : ... 1229
ما ترشد إليه الآياتُ ... 1239(1/1280)
سورة الناس ... 1243
تسميتها : ... 1243
ما اشتملت عليه السورة : ... 1244
الاستعاذة من شرّ شياطين الإنس والجنِّ ... 1245
ومضات : ... 1247
ما ترشد إليه الآياتُ ... 1262
أهم المراجع والمصادر ... 1264(1/1281)