وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِى الْعِيدَيْنِ وَفِى الْجُمُعَةِ بِ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) وَ (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) وَرُبَّمَا اجْتَمَعَا فِى يَوْمٍ وَاحِدٍ فَيَقْرَأُ بِهِمَا. قَالَ وَفِى الْبَابِ عَنْ أَبِى وَاقِدٍ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (1)
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِى الْعِيدَيْنِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ بِ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) وَ(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) وَرُبَّمَا اجْتَمَعَا فِى يَوْمٍ وَاحِدٍ فَقَرَأَ بِهِمَا. " السنن الكبرى للبيهقي (2)
وعنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِى الْوِتْرِ بِ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) وَ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وَ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)" سنن النسائى (3)
وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: " أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَفِي الثَّانِيَةِ بِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَةِ بِ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، وَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ، فَإِذَا سَلَّمَ وَفَرَغَ قَالَ عِنْدَ فَرَاغِهِ: " سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يُطِيلُ فِي آخِرِهِنَّ " شرح مشكل الآثار (4)
وعَنْ عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ:"أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُوتِرُ بِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى".المعجم الكبير للطبراني (5)
وعَنْ عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّهُ كَانَ:"يَقْرَأُ فِي الْوِتْرِ: "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى"[الأعلى آية 1] وَ"قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ"[الكافرون آية 1] و"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ"[الإخلاص آية 1] " المعجم الكبير للطبراني. (6)
وعَنْ عَلِيٍّ ، " أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُحِبُّ : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى " تهذيب الآثار (7) .
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - سنن الترمذى (536 ) صحيح
(2) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (3 / 294) (6414) صحيح
(3) - سنن النسائى (1742) صحيح
(4) - شرح مشكل الآثار - (11 / 371) (4503 ) و السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة - (1 / 387) (1436 ) صحيح
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (13 / 121) (14940 ) صحيح
(6) - المعجم الكبير للطبراني - (13 / 121) (14941 ) حسن
(7) - تهذيب الآثار (1609 ) ضعيف(1/461)
تنزيه اللَّه تعالى وقدرته وتحفيظه القرآن لنبيه
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)
سبب النزول : نزول الآية (6) : سَنُقْرِئُكَ :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْوَحْيِ لَمْ يَفْرُغْ حَتَّى يُزَمَّلَ مِنَ الْوَحْيِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَأَوَّلِهِ مَخَافَةَ أَنْ يُغْشَى عَلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ : لِمَ تَفْعَلُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : " مَخَافَةَ أَنْ أَنْسَى " ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى " (1)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... سَبِّحِ ... نزه اسم ربك الأعلى
1 ... الأَعْلَى ... فوق كل شيء
2 ... خَلَقَ فَسَوَّى ... خلق كل شئ فأتقن خلقه
3 ... قَدَّرَ فَهَدَى ... قدر كل شئ ووجهه إلى ما خلق له
4 ... أَخْرَجَ المَرْعَى ... أنبت الكلأ والعشب
5 ... غُثَآءً ... يابسا
5 ... أَحْوَى ... أسود
5 ... غُثَاءً أَحْوَى ... هشيما متغيرا ( ابن عباس )
6 ... سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى ... لا تنس القرآن ( بإذننا )
7 ... إِلاَّ مَا شَآءَ اللهُ ... إلا ما شئنا أن تنساه
8 ... ونُيَسِّرُكَ لليُسْرىَ ... نصرفك للطريقة اليسرى وللشريعة الميسرة
المعنى الإجمالي:
أمر سبحانه رسوله أن ينزه اسمه عن كل ما لا يليق به واسم اللّه ما يعرف به ، واللّه إنما يعرف بصفاته من نحو كونه عالما قادرا حكيما ، وهذا الاسم هو الذي يوصف بأنه ذو الجلال والإكرام ، وهو المراد بالوجه فى قوله : « وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ » وهو المذكور فى قوله : « وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها » أي علمه رسوم الأشياء وما تعرف به.
__________
(1) -التفسير المنير فى العقيدة والشريعة والمنهج ج 30 ، ص : 189و الْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ ( 12483 ) ضعيف جدا(1/462)
فاللّه يأمرنا بتسبيح هذا الاسم أي تنزيهه عن أن نصفه بما لا يليق به من شبه المخلوقات ، أو ظهوره فى واحد منها بعينه ، أو اتخاذه شريكا أو ولدا له ، فلا تتجه عقولنا إليه إلا بأنه خالق الكائنات وهو الذي أوجدها وسوّاها ، وأنه هو الذي أخرج المرعى ثم جعله جافّا حتى لفظه السيل بجانب الوادي. (1)
سبح اسم ربك ، ونزهه من كل نقص ، واسم به عما لا يليق به من شبه المخلوقات أو اتخاذ الشركاء والأنصاب ، والاسم : ما به يعرف الشيء ، واللّه يعرف بصفاته ، أما ذاته المقدسة فتعالت عن الأوهام والعقول ، فالبشر يعرفون اللّه بأنه هو العالم القادر المريد الواحد الأحد ، الفرد الصمد المنزه عن كل نقص ، المتعالي عن الشريك والصاحبة والولد ، جل شأنه وتقدس اسمه ، وهذا الاسم - أى : الصفات التي بها يعرف - هو الذي وصف بأنه ذو الجلال والإكرام ، وهو الذي يجب علينا تنزيهه وتقديسه لأنه هو الذي خلق الخلق ، فسواه ووضعه على نظام محكم متقن ، لا تفاوت فيه ولا خلل ، حتى ما في هذا الكون من سموم وآفات وجراثيم ، كل ذلك لكمال النظام وتمام العمل وحسن التقدير ، وهو الذي قدر لكل كائن ما ينفعه وما يصلحه ، فهداه إليه وأرشده إلى الانتفاع به ، أرشده إليه بطبعه وما أودع فيه من غرائز واتجاهات ، وهو الذي أخرج المرعى ، وأنبت النبات ، الذي هو الغذاء للإنسان والحيوان ، ثم بعد أن أنبت النبات جعله هشيما باليا مائلا إلى السواد ليكون غذاء للحيوان ، وفي هذا إشارة إلى جواز الحياة بعد الموت ، وهو الذي تفضل فأنعم على البشر كله بإنزال القرآن ، على النبي - صلى الله عليه وسلم - ووعده بأنه سيقرئه القرآن وأنه لا ينساه إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
إلا إذا شاء اللّه فالكل منه وإليه ، وخاضع لأمره إنه يعلم الجهر والإعلان وما هو أخفى من الخفاء ، وهو يوفقك للشريعة السمحة السهلة التي لا يصعب قبولها وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى .
إذا كان الأمر كما ذكر من وجوب تنزيه الحق - تبارك وتعالى - عن كل نقص لأنه خلق الخلق فسواه ، وقدر له كل ما يصلح به وهداه إليه بطبعه وغريزته ، وأنعم بالنبات أخضره ويابسه ، وأنزل القرآن هدى للناس ، ووعد بحفظه ، وأنه يسر لنا شريعة سهلة سمحة.
إذا كان الأمر كذلك فذكر يا محمد الناس بالقرآن وعظهم واعلم أن الناس نوعان فريق تنفعه الموعظة ، وفريق لا تنفعه ، وسيذكر بها ويتعظ من في قلبه نوع من الخشية للّه ، والإيمان بالغيب ، وسيتجنبها الشقي المغلق القلب الذي لا يؤمن باللّه ولا بالغيب.
__________
(1) - تفسير المراغي ، ج 30 ، ص : 121(1/463)
وهذا سيصلى نارا ذات لهب ، النار الكبرى التي تكون يوم القيامة : أما نار الدنيا فمهما كانت فهي صغرى! ثم هو فيها لا يموت بل يظل معذبا عذابا شديدا ولا هو فيها يحيى حياة سعيدة : حياة يحبها.. (1)
التفسير والبيان :
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أي نزّه اللَّه عن كل ما لا يليق به ، بقولك : « سبحان ربي الأعلى » . قال القرطبي : والأولى أن يكون الاسم هو المسمى (2) .
وقال أبو حيان : الظاهر أن التنزيه يقع على الاسم ، أي نزهه عن أن يسمى به صنم أو وثن ، فيقال له : ربّ أو إله ، وإذا كان قد أمر بتنزيهه اللفظ أن يطلق على غيره ، فهو أبلغ ، وتنزيه الذات أحرى ، وقيل : الاسم هنا بمعنى المسمى ، فالاسم : صلة زائدة ، والمراد الأمر بتنزيه اللَّه تعالى (3) . والمراد بالأعلى : أن اللَّه هو العالي والأعلى والأجل والأعظم من كل ما يصفه به الواصفون ، كما يوصف بالكبير والأكبر.
عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ ،قال : لَمَّا نَزَلَتْ : فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ، قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ "
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ : فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ، قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ، قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ "المستدرك للحاكم (4) .
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ : {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة] ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ ، فَلَمَّا نَزَلَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى] ، قَالَ : اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ."صحيح ابن حبان (5)
ثم وصف ذلك الاسم الأعلى بصفات تكون دليلا على وجود الرب وقدرته لمن أراد معرفته ، فقال :
1- الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى أي الذي خلق الكائنات جميعها ، ومنها الإنسان ، وسوّى كل مخلوق في أحسن الهيئات ، فعدل قامته ، وناسب بين أجزائه ، وجعلها متناسقة محكمة غير متفاوتة ولا مضطربة ، للدلالة على إتقانها من إله حكيم مدبر عالم.
__________
(1) - التفسير الواضح ، ج 3 ، ص : 855
(2) - تفسير القرطبي : 20/ 14
(3) - البحر المحيط : 8/ 458
(4) - المستدرك للحاكم(817و818) وقال :هَذَا حَدِيثٌ حِجَازِيٌّ صَحِيحُ
(5) - صحيح ابن حبان - (5 / 225) (1898) حسن(1/464)
2- وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى والذي قدر لكل مخلوق ما يصلح له ، فهداه إليه ، وعرّفه وجه الانتفاع به ، أو قدّر أجناس الأشياء ، وأنواعها ، وصفاتها ، وأفعالها ، وأقوالها ، وآجالها ، فهدى كل واحد منها إلى ما يصدر عنه وينبغي له ، ويسره لما خلقه له ، وألهمه أمور دينه ودنياه ، وقدّر أرزاق الخلق وأقواتهم ، وهداهم لمعايشهم إن كانوا إنسان ، ولمراعيهم إن كانوا وحشا ، وخلق المنافع في الأشياء ، وهدى الإنسان لوجه استخراجها منه (1) .
ونظير الآية كقوله تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لفرعون : رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه 20/ 50] أي قدر قدرا ، وهدى الخلائق إليه ، كما ثبت في صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ - قَالَ - وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ». (2) .
والخلاصة : أن التقدير : عبارة عن التصرف في الأجزاء الجسمية ، وتركيبها على وجه خاص لأجله يستعد لقبول تلك القوى.
والهداية : عبارة عن خلق تلك القوى في تلك الأعضاء ، بحيث تكون كل قوة مصدرا لفعل معين ، ويحصل من مجموعها إتمام المصلحة.
3- وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى ، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى أي والذي أنبت العشب وما ترعاه الدواب من النبات الأخضر ، وأنبت جميع أصناف النبات والزروع ليأكلها الإنسان.
ثم جعل ذلك المرعى بعد أن كان أخضر ، غثاء أحوى ، أي باليا هشيما جافا ، أسود بعد اخضراره لأن الكلأ إذا يبس اسودّ.
وبما أن التسبيح الذي أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي يليق به هو الذي يرتضيه لنفسه ، حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على معرفته وحفظه بقراءة ما أنزله اللَّه تعالى عليه من القرآن ، فوعده ربه وبشره بأنه سيقرئه من القرآن ما فيه تنزيهه وأنه لا ينسى ، فقال : سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ، إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي سنجعلك يا محمد قارئا ، بأن نلهمك القراءة ، فلا تنسى ما تقرؤه ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه جبريل بالقرآن ، لم يفرغ جبريل من آخر الآية حتى يتكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأولها ، مخافة أن ينساها ، فنزلت هذه الآية ، فألهمه اللَّه وعصمه من نسيان القرآن.
ونظير الآية قوله : وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه 20/ 114] وقوله : لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [القيامة 75/ 16- 17].
__________
(1) - فتح القدير للشوكاني
(2) - صحيح مسلم- المكنز(6919 )(1/465)
ثم قال : إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي إنك ستحفظ القرآن المنزل إليك ، ولا تنساه ، إلا ما شاء اللَّه أن تنساه ، فإن أراد أن ينسيك شيئا ، فعل. وقيل : المراد بالاستثناء ما يقع من النسخ ، أي لا تنسى ما نقرئك إلا ما يشاء اللَّه رفعه أو نسخه ، مما نسخ تلاوته ، فلا عليك أن تتركه.
والمعنى الأول أصح قال قتادة : كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لا ينسى شيئا إلا ما شاء اللَّه. قال أبو حيان : الظاهر أنه استثناء مقصود ، وكذلك قال الألوسي : والظاهر أن النسيان على حقيقته.
ثم أكد اللَّه تعالى الوعد بالإقراء وعدم النسيان إلا ما شاء اللَّه أن ينسيه لمصلحة ، فقال : إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى أي يعلم ما يجهر به العباد وما يخفونه من أقوالهم وأفعالهم ، لا يخفى عليه من ذلك شي ء. ومن الجهر : كل ما يفعله الإنسان أويقوله علانية ، وَما يَخْفى : كل ما يسرّه بينه وبين نفسه ، مما لا يعلمه إلا اللَّه تعالى ، فالذي وعدك بأنه سيقرؤك ويحفّظك عالم بالجهر والسرّ.وهذا على الرأي بأن قوله : إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ يعني النسخ : يعد تعليلا للنسخ ، وإذا كان كذلك ، كان وضع الحكم ورفعه واقعا بحسب مصالح المكلفين.
ونظير الآية كثير ، مثل قوله تعالى : إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ ، وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ [الأنبياء 21/ 110].
ثم بشره ببشارة أخرى وهو تيسيره ، أي توفيقه للأيسر في أحكام الدين والشريعة ، فقال : وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى أي نسهل عليك أفعال الخير وأقواله ، ونشرع لك شرعا سهلا سمحا ، ونوفقك للطريقة اليسرى والشريعة السمحة في الدين والدنيا ، فلا نشرع لك إلا الأيسر ، ولا تختار لأمتك إلا الأسهل الذي لا يصعب على النفوس تحمله والقيام به.
ومضات :
{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } أي : نزِّه ربك عما يصفه به المشركون من الولد والشريك ونحوهما ، كقوله : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ الصافات : 180 ] ، فالاسم صلة . وسِرُّ إيراده أن المنوَّه به إذا كان في غاية العظمة ، كثيراً ما تضاف ألفاظ التفخيم إلى اسمه ، فيقال : سبح اسمه ومجد ذكره ، كما يقال : سلام على المجلس العالي . هذا ما ذكروه . وثمة وجه آخر وهو أن الحق تعالى إنما يعرف بأسمائه الحسنى ، لاستحالة اكتناه ذاته العلية ، فأقحم تنبيهاً على ذلك . ومما يؤيده ما ذكر من الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة أنهم < كانوا إذا قرؤوا ذلك قالوا : سبحان ربي الأعلى > ، كما رواه ابن جرير وغيره .
وذهب بعضهم إلى أن المراد تنزيه اسم الله وتقديسه أن يسمى به شيء سواه ، كما كان يفعل المشركون من تسميتهم آلهتهم ، بعضها اللات وبعضها العزى ، حكاه ابن جرير ؛ فالإسناد على ظاهره ، وهذا ما اعتمده الإمام ابن حزم في " الفِصَل " حيث رد على من استدل بهذه الآية في أن الاسم عين المسمى ، ذهاباً إلى أن من الممتنع أن يأمر الله عز وجل بأن يسبح غيره .(1/466)
فقال ابن حزم رحمه الله : وأما قوله تعالى : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } فهو على ظاهره دون تأويل ؛ لأن التسبيح في اللغة التي بها نزل القرآن وبها خاطبنا الله عز وجل ، هو تنزيه الشيء عن السوء ، وبلا شك أن الله تعالى أمرنا أن ننزه اسمه الذي هو كلمة مجموعة من حروف الهجاء ، عن كل سوء حيث كان من كتاب أو منطوقاً به . ووجه آخر وهو أن معنى قوله تعالى : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } ومعنى قوله تعالى : { إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [ الواقعة : 95 - 96 ] ، معنى واحد ، وهو أن يسبح الله تعالى باسمه . ولا سبيل إلى تسبيحه تعالى ولا إلى دعائه ولا إلى ذكره إلا بتوسط اسمه ؛ فكلا الوجهين صحيح . وتسبيح الله تعالى وتسبيح اسمه كل ذلك واجب بالنص . ولا فرق بين قوله تعالى : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } وبين قوله { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } [ الطور : 48 - 49 ] .
والحمد بلا شك هو غير الله ، وهو تعالى يسبح بحمده كما يسبح باسمه ، ولا فرق ؛ فبطل تعلقهم بهذه الآية . انتهى كلامه .
وقد يقال : فرق بين الآيتين ، فإن الباء في { بِحَمْدِ رَبِّكَ } للملابسة ، ولا كذلك هي في { بِاسْمِ رَبِّكَ } ومع اتساع اللفظ الكريم للأوجه كلها ، فالأظهر هو الأول لما أيده من الأخبار ولآية { فَسَبِّحْهُ } وآية { سُبْحَانَ رَبِّكَ } والله أعلم . (1)
الخطاب في الآيات موجه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تضمنت :
1- أمره بتقديس اسم ربّه الأعلى الذي يستحق كل تقديس وتنزيه. فهو الذي خلق كل شيء وسوّاه على أتم وجه. وهو الذي رتب وحسب في الخلق كل أمر.
وأودع في خلقه قابلية الهدى. وهو الذي أنبت النبات ثم جعله جافا متكسرا أسود اللون بالناموس الذي أودعه في الكون بعد ما كان أخضر لينا.
2- وتنبيها له بأنه سيوحى إليه بالقرآن ويعلمه إياه ، فلا ينسى منه شيئا إلّا ما شاء اللّه فهو العليم بكل شيء ظاهر وخفي وبمقتضيات كل حال ، وبأنه سييسره في أسهل السبل وأيسرها ، وبأن عليه أن يدعو الناس إليها ويذكرهم لعل الذكرى تنفعهم وهذه مهمته.
3- وتقريرا بأن الناس إزاء الذكرى فريقان : تقي صالح وشقي آثم. فالأول هو الذي يخشى العاقبة فيتقبل الدعوة وينتفع بالذكرى ، والثاني هو الذي لا يخشى العاقبة فيعرض عن الدعوة والذكرى ، فيكون جزاؤه النار الهائلة التي لا يموت فيها فيستريح ، ولا يأمل الخلاص منها والحياة الآمنة المطمئنة.
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 197)(1/467)
وليس في الآيات إشارة إلى موقف خاص لمكذبين ومناوئين ، وإنما هي بسبيل عرض عام للدعوة ومهمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسلوب رصين وهادىء معا.
وبمناسبة الأمر بتسبيح اللّه تعالى في مفتتح السورة نقول إن الأوامر القرآنية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين بتسبيح اللّه تعالى قد تكررت كثيرا. منها ما فيه أمر بالتسبيح في أوقات معينة ، ومنها ما فيه أمر بالتسبيح مطلقا أو في كل وقت. ومنها ما فيه أمر بالتسبيح باسم اللّه أو التسبيح بحمد اللّه. ومن السنن النبوية الصحيحة المعمول بها بدون انقطاع صيغة (سبحان اللّه العظيم) في كل ركوع من كل صلاة وصيغة (سبحان ربي الأعلى) في كل سجود من كل صلاة. حيث تتساوق السنة النبوية مع الأوامر القرآنية.
والتسبيح هو تقديس وتنزيه وذكر للّه عز وجل وثناء عليه بما هو أهله. بحيث يسوغ القول إن الأوامر القرآنية والنبوية بمواصلة تسبيح اللّه تعالى قد هدفت إلى جعل المسلم يديم ذكر اللّه في كل وقت مقدسا منزها مثنيا حامدا مستعيذا. ولا شك في أن المسلم الذي يداوم على ذلك بصدق وقلب وإيمان يظل مستشعرا باللّه عز وجل مراقبا جانبه في كل ما يفعل أو يريد أن يفعل فيجعله ذلك حريصا على تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه. ويكون له بذلك وسيلة عظمى من وسائل التربية الروحية والأخلاقية والاجتماعية.
ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة فيها صيغ التسبيح بسبيل تعليم المسلمين وبيان لما في التسبيح من ثواب وقربى عند اللّه عز وجل. فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : «كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك اللهمّ اغفر لي» وما رواه مسلم وأبو داود والنسائي عنها أيضا : «أنه كان يقول في ركوعه وسجوده سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح» . وما رواه الترمذي وأبو داود عن عبد اللّه قال : «قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاث مرات فقد تمّ ركوعه وذلك أدناه وإذا سجد فقال في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات فقد تمّ سجوده وذلك أدناه» وما رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن جويرية : «أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها بكرة حين صلّى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال ما زلت على الحال التي فارقتك عليها قالت نعم قال لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهنّ : سبحان اللّه وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته» .
وما رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة قال : «قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - : من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان اللّه وبحمده مئة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلّا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه» . وما رواه أبو داود : «كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يعلّم بعض بناته(1/468)
فيقول قولي حين تصبحين سبحان اللّه وبحمده ولا قوة إلّا به ، ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن أعلم أن اللّه على كلّ شيء قدير وأنّ اللّه قد أحاط بكلّ شيء علما ، فإنه من قالهنّ حين يصبح حفظ حتى يمسي ومن قالهنّ حين يمسي حفظ حتى يصبح» . وما رواه أبو داود كذلك عن ابن عباس قال : «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من قال حين يصبح فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ إلى تُخْرَجُونَ أدرك ما فاته في يومه ذلك ومن قالهنّ حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته» .
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الانتفاع بالتسبيح رهن بالإخلاص فيه وعدم اقتصاره على الحركة اللسانية التي لا يستشعر صاحبها بما فيه من تذكير وتنبيه وحافز على مراقبة اللّه عز وجل وتقواه. واللّه أعلم. (1)
وأسماء اللّه تعالى ، هى صفاته الموصوف بها ، وهى وإن كانت مما قد نصف به ذواتنا ، من العلم ، والسمع ، والبصر ، والقدرة ، وغيرها ، إلا أن للّه سبحانه كمال هذه الصفات ، كمالا مطلقا ، على حين أن ما نتداوله نحن من هذه الصفات هو فى حدود وجودنا المحدود ، فيقال فلان حفيظ ، وعليم ، وقادر ، وكريم ، وهو فى هذه الصفات كائن بشرى محدود ، واتصافه بها إنما هو بالإضافة إلى غيره ، ممن هو أقل منه حفظا ، أو علما ، أو قدرة ، أو كرما ..
فالتسبيح باسم اللّه ، هو ذكره سبحانه بكل ما له من الأسماء الحسنى ، كما يقول سبحانه : « وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها » (180 : الأعراف) والمراد بالتسبيح باسم اللّه ، هو التسبيح لذاته سبحانه وتعالى .. ولكن الذات العلية لا يمكن تصورها ، وإنما الذي يمكن تصوره ـ مهما بالغنا فى هذا التصور ـ هو ما تتصف به الذات من صفات الكمال التي تتجلى فى أسمائه الحسنى.
ولما كانت هذه السورة ـ سورة الأعلى ـ من أوائل ما نزل من القرآن ، فقد كان النبي الكريم يحرص أشد الحرص على أن يحفظ حفظا موثّقا كلّ ما يتلقى من وحي .. فلما حمى الوحى وبدأت آيات اللّه تنزيل عليه تباعا ، خشى أن يثقل على حافظته حفظ ما يوحى إليه ، ولهذا كان يسمع الآية من جبريل عليه السلام فيعيد تكرارها على لسانه حتى يثبت حفظها فى قلبه ، فنزل عليه قوله تعالى : « لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ » (16 ـ 19 : القيامة) .. ثم جاء قوله تعالى : « سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ » .. وذلك ليقطع على النبىّ كل خاطر يخطر له من أن شيئا مما نزل عليه من آيات اللّه ، يكون فى معرض النسيان يوما ما ..
__________
(1) - التفسير الحديث ، ج 1 ، ص : 512(1/469)
وفى قوله تعالى : « إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ » ـ إشارة إلى أن هذا الحكم المطلق المؤيد بعدم النسيان ، هو رهن بمشيئة اللّه ، وأن مشيئة اللّه مطلقة لا يقيدها شى ء ..
فلو شاء سبحانه أن يذهب بما حفظ النبىّ من آيات اللّه لذهب به ، ولكنه ، سبحانه لم يشأ ، فهى مشيئة مقيدة بمشيئة ، وكلا المشيئتين من اللّه ، وإلى اللّه .. وهذا مثل قوله تعالى : « وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ » (86 : الإسراء) ولكنه سبحانه وتعالى لم يشأ هذه المشيئة! وبذلك يظل النبىّ مع هذا الوعد الكريم من ربه ، على ثقة واطمئنان ، بأن ما يتلقى من آيات ربه ، سيكون محفوظا فى صدره ، ثم هو فى الوقت نفسه لا يخلى نفسه من معاناة الحفظ ، والتلاوة ، ومراجعة ما حفظ ، وذلك ليعطى وجوده حقه من الطلب والمعاناة ، وإلا ـ وحاشاه ـ كان أشبه بآلة مسجلة ، تملأ ، ثم تدار ، لتفرغ ما ملئت به ..
ولهذا كان من بعض حكمة اللّه سبحانه فى نزول القرآن منجما ، ما أشار إليه سبحانه فى قوله تعالى : « كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ » وذلك بمعايشة كلمات اللّه ، وقتا كافيا ، تقرّ فيه فى صدر النبىّ ، وتثبت بالحفظ ، والمراجعة والمعاناة ..
والدليل على ما ذهبنا إليه ، ما ثبت من تاريخ القرآن ، من أن النبىّ عليه الصلاة والسلام ، كان يعرض على جبريل كلّ عام ما نزل عليه من القرآن ، فلما كانت السنة التي توفى فيها النبىّ ، عرض على جبريل القرآن كله ، مرتين ، وقيل ثلاث مرات ، وذلك لتأكيد ما حفظ النبىّ وتوثيقه ..
وهذا يعنى أن سنن اللّه الكونية ـ وهى من مشيئته وحكمته ـ قائمة أبدا ، وأن الأخذ بالأسباب مطلوب فى كل حال ، ومع كل مخلوق ، حسب وجوده فى عالمه ..
ولهذا كان من بعض حكمة اللّه سبحانه فى نزول القرآن منجما ، ما أشار إليه سبحانه فى قوله تعالى : « كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ » وذلك بمعايشة كلمات اللّه ، وقتا كافيا ، تقرّ فيه فى صدر النبىّ ، وتثبت بالحفظ ، والمراجعة والمعاناة ..
والدليل على ما ذهبنا إليه ، ما ثبت من تاريخ القرآن ، من أن النبىّ عليه الصلاة والسلام ، كان يعرض على جبريل كلّ عام ما نزل عليه من القرآن ، فلما كانت السنة التي توفى فيها النبىّ ، عرض على جبريل القرآن كله ، مرتين ، وقيل ثلاث مرات ، وذلك لتأكيد ما حفظ النبىّ وتوثيقه ..
وهذا يعنى أن سنن اللّه الكونية ـ وهى من مشيئته وحكمته ـ قائمة أبدا ، وأن الأخذ بالأسباب مطلوب فى كل حال ، ومع كل مخلوق ، حسب وجوده فى عالمه ..(1/470)
وقوله تعالى : « إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى » هو تأكيد لهذا الوعد مع الاستثناء ، وأن اللّه سبحانه ، الذي وعد النبىّ بألا ينسى ما يحفظ ، هو عالم الجهر والسر ، وهو سبحانه الذي يملك خطرات النفوس ، وخلجات الصدور ، فيتصرف فيها كيف يشاء ..
وقوله تعالى : «وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى » .. أي واللّه سبحانه وتعالى لا يشقّ عليك أيها النبىّ ، ولا يكلفك ما لا تطيق ، فهو ميسر لك أمرك جميعه ، ومن أولى دلائل اليسر أنه أعانك على حفظ القرآن وتثبيته فى صدرك ، فلا يذهب شى ء منه .. ومن تيسيره عليك أنه جعل الشريعة التي أنت داع إليها وقائم بها شريعة يسر وسماحة ، لا حرج فيها ، ولا إعنات ، كما يقول سبحانه : « وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » .. (78 : الحج) قوله تعالى : «فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى » ..أي وبهذه الشريعة السمحاء ادع الناس إليها ، وذكّر بها ، ووجه القلوب والعقول إلى اللّه بها ..
وقوله تعالى : « إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى » ـ إشارة إلى أن يذكّر النبىّ ما وجد للذكرى نفعا ، والذكرى لا تخلو من نفع أبدا ، فإنها إذا لم تجد فى الناس من يستجيب لها ، وينتفع بها ، فإنها واجدة فيهم أيضا من يستجيب وينتفع ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ » (55 : الذاريات).
وهذا يعنى أن النبىّ - صلى الله عليه وسلم - لا يتخلّى عن مهمة التذكير أبدا ..
فقيد الأمر بالتذكير ، بنفع الذكرى قيد لازم ، ومن لزوم هذا القيد أن يكون النبىّ مذكّرا بدعوته دائما ، لأن مع كل ذكرى نفعا ، وما دام النفع معها ، فهى مطلوبة من النبىّ أبدا ، وهو مذكر أبدا ..
وقد اضطرب المفسرون فى تأويل هذه الآية ، وفى تأويل القيد الوارد عليها فى هذا الشرط : « إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى » ، وبدا لهم من ذلك أن النبىّ لا يذكّر إلا فى حال يكون فيها للذكرى نفع ، فإن لم يكن فيها نفع ، فلا تذكير!! والنبىّ مطلوب منه أن يذكّر دائما نفعت الذكرى أو لم تنفع .. فكيف يتفق هذا الدوام ، مع هذا القيد ، وهو التذكير فى حال النفع وحده؟
وقد ذهب المفسرون مذاهب شتى فى حل هذا الإشكال ، وخرجوه على وجوه قلّبت فيها مذاهب النحو ، واللغة ، على جميع وجوهها ، دون أن يحصلوا من ذلك على طائل ، نستريح له ونطمئن إليه ..وقد رأيت كيف كانت نظرتنا إلى الآية .. فلعلك تجد فيها ما تطمئن إليه وتستريح له . (1)
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ، ج 16 ، ص : 1528(1/471)
إن هذا الافتتاح ، بهذا المطلع الرخي المديد ، ليطلق في الجو ابتداء أصداء التسبيح ، إلى جانب معنى التسبيح . وإن هذه الصفات التي تلي الأمر بالتسبيح : { الأعلى الذي خلق فسوى . والذي قدر فهدى . والذي أخرج المرعى . فجعله غثاء أحوى } . . لتحيل الوجود كله معبداً يتجاوب جنباته بتلك الأصداء؛ ومعرضاً تتجلى فيه آثار الصانع المبدع : { الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى } . .
والتسبيح هو التمجيد والتنزيه واستحضار معاني الصفات الحسنى لله ، والحياة بين إشعاعاتها وفيوضاتها وإشراقاتها ومذاقاتها الوجدانية بالقلب والشعور . وليست هي مجرد ترديد لفظ : سبحان الله! . . و { سبح اسم ربك الأعلى } . . تطلق في الوجدان معنى وحالة يصعب تحديدها باللفظ ، ولكنها تتذوق بالوجدان . وتوحي بالحياة مع الإشراقات المنبثقة من استحضار معاني الصفات .
والصفة الأولى القريبة في هذا النص هي صفة الرب . وصفة الأعلى . . والرب : المربي والراعي ، وظلال هذه الصفة الحانية مما يتناسق مع جو السورة وبشرياتها وإيقاعاتها الرخية . . وصفة الأعلى تطلق التطلع إلى الآفاق التي لا تتناهى؛ وتطلق الروح لتسبح وتسبح إلى غير مدى . . وتتناسق مع التمجيد والتنزيه ، وهو في صميمه الشعور بصفة الأعلى . .
والخطاب هنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتداء . وهذا الأمر صادر إليه من ربه . بهذه الصيغة : { سبح اسم ربك الأعلى } . . وفيه من التلطف والإيناس ما يجل عن التعبير . وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذا الأمر ، ثم يعقب عليه بالاستجابة المباشرة ، قبل أن يمضي في آيات السورة ، يقول : { سبحان ربي الأعلى } . . فهو خطاب ورده . وأمر وطاعته . وإيناس ومجاوبته . . إنه في حضرة ربه ، يتلقى مباشرة ويستجيب . في أنس وفي اتصال قريب . وحينما نزلت هذه الآية قال : « اجعلوها في سجودكم » وحينما نزلت قبلها : { فسبح باسم ربك العظيم } قال : « اجعلوها في ركوعكم » . فهذا التسبيح في الركوع والسجود كلمة حية ألحقت بالصلاة وهي دافئة بالحياة . لتكون استجابه مباشرة لأمر مباشر . أو بتعبير أدق . . لإذن مباشر . . فإذن الله لعباده بأن يحمدوه ويسبحوه إحدى نعمه عليهم وأفضاله . إنه إذن بالاتصال به سبحانه في صورة مقربة إلى مدارك البشر المحدودة . صورة تفضل الله عليهم بها ليعرفهم ذاته . في صفاته . في الحدود التي يملكون أن يتطلعوا إليها . وكل إذن للعباد بالاتصال بالله في أي صورة من صور الاتصال ، هو مكرمة له وفضل على العباد .
{ سبح اسم ربك الأعلى } . . { الذي خلق فسوى . والذي قدر فهدى } . .الذي خلق كل شيء فسواه ، فأكمل صنعته ، وبلغ به غاية الكمال الذي يناسبه . . والذي قدر لكل مخلوق وظيفته(1/472)
وغايته فهداه إلى ما خلقه لأجله ، وألهمه غاية وجوده؛ وقدر له ما يصلحه مدة بقائه ، وهداه إليه أيضاً . .
وهذه الحقيقة الكبرى ماثلة في كل شيء في هذا الوجود؛ يشهد بها كل شيء في رحاب الوجود . من الكبير إلى الصغير . ومن الجليل إلى الحقير . . كل شيء مسوى في صنعته ، كامل في خلقته . معد لأداء وظيفته . مقدر له غاية وجوده ، وهو ميسر لتحقيق هذه الغاية من أيسر طريق . . وجميع الأشياء مجتمعة كاملة التناسق ، ميسرة لكي تؤدي في تجمعها دورها الجماعي؛ مثلما هي ميسرة فرادى لكي تؤدي دورها الفردي .
الذرة بمفردها كاملة التناسق بين كهاربها وبروتوناتها وإلكتروناتها ، شأنها شأن المجموعة الشمسية في تناسق شمسها وكواكبها وتوابعها . . وهي تعرف طريقها وتؤدي مثلها وظيفتها . .
والخلية الحية المفردة كاملة الخلقة والاستعداد لأداء وظائفها كلها ، شأنها شأن أرقى الخلائق الحية المركبة المعقدة .
وبين الذرة المفردة والمجموعة الشمسية؛ كما بين الخلية الواحدة وأرقى الكائنات الحية ، درجات من التنظيمات والتركيبات كلها في مثل هذا الكمال الخلقي ، وفي مثل هذا التناسق الجماعي ، وفي مثل هذا التدبير والتقدير الذي يحكمها ويصرفها .
. والكون كله هو الشاهد الحاضر على هذه الحقيقة العميقة . .
هذه الحقيقة يدركها القلب البشري جملة حين يتلقى إيقاعات هذا الوجود؛ وحين يتدبر الأشياء في رحابه بحس مفتوح . وهذا الإدراك الإلهامي لا يستعصي على أي إنسان في أية بيئة ، وعلى أية درجة من درجات العلم الكسبي ، متى تفتحت منافذ القلب ، وتيقظت أوتاره لتلقي إيقاعات الوجود .
والملاحظة بعد ذلك والعلم الكسبي يوضحان بالأمثلة الفردية ما يدركه الإلهام بالنظرة الأولى . . وهناك من رصيد الملاحظة والدراسة ما يشير إلى طرف من تلك الحقيقة الشاملة لكل ما في الوجود .
يقول العالم ( ا . كريسي موريسون ) رئيس أكاديمية العلوم بنيورك في كتابه : « الإنسان لا يقوم وحده »
« إن الطيور لها غريزة العودة إلى الموطن . فعصفور الهزاز الذي عشش ببابك يهاجر جنوباً في الخريف . ولكنه يعود إلى عشه في الربيع التالي . وفي شهر سبتمبر تطير أسراب من معظم طيورنا إلى الجنوب . وقد تقطع في الغالب نحو ألف ميل فوق أرض البحار . ولكنها لا تضل طريقها . وحمام الزاجل إذا تحير من جراء أصوات جديدة عليه في رحلة طويلة داخل قفص ، يحوم برهة ثم يقصد قدماً إلى موطنه دون أن يضل . . والنحلة تجد خليتها مهما(1/473)
طمست الريح ، في هبوبها على الأعشاب والأشجار ، كل دليل يرى . وحاسة العودة إلى الوطن هذه هي ضعيفة في الإنسان ، ولكنه يكمل عتاده القليل منها بأدوات الملاحة . ونحن في حاجة إلى هذه الغريزة ، وعقولنا تسد هذه الحاجة . ولا بد أن للحشرات الدقيقة عيوناً ميكروسكوبية ( مكبرة ) لا ندري مبلغها من الإحكام؛ وأن للصقور بصراً تلسكوبياً ( مكبراً مقرباً ) . وهنا أيضاً يتفوق الإنسان بأدواته الميكانيكية فهو بتلسكوبه يبصر سديماً بلغ من الضعف أنه يحتاج إلى مضاعفة قوة إبصاره مليوني مرة ليراه . وهو بمكروسكوبه الكهربائي يستطيع أن يرى بكتريا كانت غير مرئية ( بل كذلك الحشرات الصغيرة التي تعضها! ) . »
« وأنت إذا تركت حصانك العجوز وحده ، فإنه يلزم الطريق مهما اشتدت ظلمة الليل . وهو يقدر أن يرى ولو في غير وضوح . ولكنه يلحظ اختلاف درجة الحرارة في الطريق وجانبيه ، بعينين تأثرتا قليلاً بالأشعة تحت الحمراء التي للطريق . والبومة تستطيع أن تبصر الفأر الدافئ اللطيف وهو يجري على العشب البارد مهما تكن ظلمة الليل . ونحن نقلب الليل نهاراً بإحداث إشعاع في تلك المجموعة التي نسميها الضوء » . .
. . « إن العاملات من النحل تصنع حجرات مختلفات الأحجام في المشط الذي يستخدم في التربية . وتعد الحجرات الصغيرات للعمال ، والأكبر منها لليعاسيب ( ذكور النحل ) وتعد غرفة خاصة للملكات الحوامل . والنحلة الملكية تضع بيضاً غير مخصب في الخلايا المخصصة للذكور ، وبيضاً مخصباً في الحجرات الصحيحة المعدة للعاملات الإناث والملكات المنتظرات .
والعاملات اللائي هن إناث معدلات بعد أن انتظرن طويلاً مجيء الجيل الجديد ، تهيأن أيضاً لإعداد الغذاء للنحل الصغير بمضغ العسل واللقح ومقدمات هضمه . ثم ينقطعن عن عملية المضغ ومقدمات الهضم عند مرحلة معينة من تطور الذكور والإناث ، ولا يغذين سوى العسل واللقح . والإناث اللاتي يعالجن على هذا الشكل يصبحن عاملات « . .
» أما الإناث اللاتي في حجرات الملكة ، فإن التغذية بالمضغ ومقدمات الهضم تستمر بالنسبة لهن . وهؤلاء اللاتي يعاملن هذه المعاملة الخاصة يتطورن إلى ملكات نحل ، وهن وحدهن اللائي ينتجن بيضاً مخصباً . وعملية تكرار الإنتاج هذه تتضمن حجرات خاصة ، وبيضاً خاصاً ، كما تتضمن الأثر العجيب الذي لتغيير الغذاء ، وهذا يتطلب الانتظار والتمييز وتطبيق اكتشاف أثر الغذاء! وهذه التغيرات تنطبق بوجه خاص على حياة الجماعة ، وتبدو ضرورية لوجودها . ولا بد أن المعرفة والمهارة اللازمتين لذلك قد تم اكتسابهما بعد ابتداء هذه الحياة الجماعة ، وليستا بالضرورة ملازمتين لتكوين النحل ولا لبقائه على الحياة . وعلى ذلك فيبدو أن النحل قد فاق الإنسان في معرفة تأثير الغذاء تحت ظروف معينة! «(1/474)
» والكلب بما أوتي من أنف فضولي يستطيع أن يحس الحيوان الذي مر . وليس ثمة من أداة من اختراع الإنسان لتقوي حاسة الشم الضعيفة لديه . ومع هذا فإن حاسة الشم الخاصة بنا على ضعفها قد بلغت من الدقة أنها يمكنها أن تتبين الذرات المكروسكوبية البالغة الدقة « . .
» وكل الحيوانات تسمع الأصوات التي يكون كثير منها خارج دائرة الاهتزازات الخاصة بنا ، وذلك بدقة تفوق كثيراً حاسة السمع المحدودة عندنا . وقد أصبح الإنسان يستطيع بفضل وسائله أن يسمع صوت ذبابة تطير على بعد أميال ، كما لو كانت فوق طبلة أذنه . ويستطيع بمثل تلك الأدوات أن يسجل وقع شعاع شمسي! «
» إن إحدى العناكب المائية تصنع لنفسها عشاً على شكل منطاد ( بالون ) من خيوط العنكبوت . وتعلقه بشيء ما تحت الماء . ثم تمسك ببراعة فقاعة هواء في شعر جسمها ، وتحملها إلى الماء ، ثم تطلقها تحت العش . ثم تكرر هذه العملية حتى ينتفخ العش . وعندئذ تلد صغارها وتربيها ، آمنة عليها من هبوب الهواء . فها هنا نجد طريقة النسج ، بما يشمله من هندسة وتركيب وملاحة جوية! «
وسمك » السلمون « الصغير يمضي سنوات في البحر ، ثم يعود إلى نهره الخاص به . والأكثر من ذلك أنه يصعد إلى جانب النهر الذي يصب عنده النهير الذي ولد فيه . . فما الذي يجعل السمك يرجع إلى مكان مولده بهذا التحديد؟ إن سمكة السلمون التي تصعد في النهر صعداً إذا انقلت إلى نهير آخر أدركت تواً أنه ليس جدولها . فهي لذلك تشق طريقها خلال النهر ، ثم تحيد ضد التيار ، قاصدة إلى مصيرها!
» وهناك لغز أصعب من ذلك يتطلب الحل ، وهو الخاص بثعابين الماء التي تسلك عكس هذا المسلك ، فإن تلك المخلوقات العجيبة متى اكتمل نموها ، هاجرت من مختلف البرك والأنهار .
وإذا كانت في أوربا قطعت آلاف الأميال في المحيط قاصدة كلها إلى الأعماق السحيقة جنوبي برمودا . وهناك تبيض وتموت . أما صغارها تلك التي لا تملك وسيلة لتعرف بها أي شيء سوى أنها في مياه قفرة فإنها تعود أدراجها وتجد طريقها إلى الشاطئ الذي جاءت منه أمهاتها . ومن ثم إلى كل نهر أو بحيرة أو بركة صغيرة . ولذا يظل كل جسم من الماء آهلاً بثعابين البحار . لقد قاومت التيارات القوية ، وثبتت للأمداد والعواصف ، وغالبت الأمواج المتلاطمة على كل شاطئ . وهي الآن يتاح لها النمو . حتى إذا اكتمل نموها دفعها قانون خفي إلى الرجوع حيث كانت بعد أن تتم الرحلة كلها . فمن أين ينشأ الحافز الذي يواجهها لذلك؟ لم يحدث قط أن صيد ثعبان ماء أمريكي في المياه الأوربية ، أو صيد ثعبان ماء أوربي في المياه الأمريكية . والطبيعة تبطئ في إنماء ثعبان الماء الأوربي مدة سنة أو أكثر لتعوض من زيادة(1/475)
مسافة الرحلة التي يقطعها ( إذ إن مسافته أطول من مسافة زميله الأمريكي ) ترى هل الذرات والهباءات إذا توحدت معاً في ثعبان ماء يكون لها حاسة التوجيه وقوة الإرادة اللازمة للتنفيذ؟!
. . « وإذا حمل الريح فراشة أنثى من خلال نافذة إلى علية بيتك ، فإنها لا تلبث حتى ترسل إشارة خفية . وقد يكون الذكر على مسافة بعيدة . ولكنه يتلقى هذه الإشارة ويجاوبها ، مهما أحدثت أنت من رائحة بعملك لتضليلهما . ترى هل لتلك المخلوقة الضئيلة محطة إذاعة . وهل لذكر الفراشة جهاز راديو عقلي ، فضلاً عن السلك اللاقط للصوت ( إيريال ) ؟ أتراها تهز الأثير فهو يتلقى الاهتزاز؟! »
. . « إن التليفون والراديو هما من العجائب الآلية . وهما يتيحان لنا الاتصال السريع . ولكنا مرتبطون في شأنهما بسلك ومكان . وعلى ذلك لا تزال الفراشة متفوقة علينا من هذه الوجهة »
« والنبات يتحايل على استخدام وكلاء لمواصلة وجوده دون رغبة من جانبهم! كالحشرات التي تحمل اللقح من زهرة إلى أخرى ، والرياح ، وكل شيء يطير أو يمشي ، ليوزع بذوره . وأخيراً أوقع النبات الإنسان ذا السيادة في الفخ! فقد حسن الطبيعة وجازته بسخاء . غير أنه شديد التكاثر؛ حتى أصبح مقيداً بالمحراث ، وعليه أن يبذر ويحصد ويخزن ، وعليه أن يربي ويهجن ، وأن يشذب ويطعم . وإذا هو أغفل هذه الأعمال كانت المجاعة نصيبه ، وتدهورت المدنية ، وعادت الأرض إلى حالتها الفطرية! » . .
« وكثير من الحيوانات هي مثل » سرطان البحر « الذي إذا فقد مخلباً عرف أن جزءاً من جسمه قد ضاع ، وسارع إلى تعويضه بإعادة تنشيط الخلايا وعوامل الوراثة؛ ومتى تم ذلك كفت الخلايا عن العمل ، لأنها تعرف بطريقة ما أن وقت الراحة قد حان! »
« وكثير الأرجل المائي إذا انقسم إلى قسمين استطاع أن يصلح نفسه عن طريق أحد هذين النصفين .
وأنت إذا قطعت رأس دودة الطعم تسارع إلى صنع رأس بدلاً منه . ونحن نستطيع أن ننشط التئام الجروح ، ولكن متى يتاح للجراحين أن يعرفوا كيف يحركون الخلايا لتنتج ذراعاً جديدة ، أو لحماً أو عظاماً أو أظافر أو أعصاباً؟ إذا كان ذلك في حيز الإمكان؟! «
» وهناك حقيقة مدهشة تلقي بعض الضوء على لغز هذا الخلق من جديد : فإن الخلايا في المراحل الأولى من تطورها ، إذا تفرقت ، صار لكل منها القدرة على خلق حيوان كامل . ومن ثم فإنه إذا انقسمت الخلية الأولى إلى قسمين ، وتفرق هذان ، تطور منهما فردان . وقد يكون في ذلك تفسير لتشابه التوأمين . ولكنه يدل على أكثر من ذلك . وهو أن كل خلية في البداية يمكن أن تكون فرداً كاملاً بالتفصيل . فليس هناك شك إذن ، في أنك أنت ، في كل خلية ونسيج! « . .(1/476)
ويقول في فصل آخر :
» إن جوزة البلوط تسقط على الأرض ، فتحفظها قشرتها السمراء الجامدة ، وتتدرج في حفرة ما من الأرض ، وفي الربيع تستيقظ الجرثومة ، فتنفجر القشرة ، وتزدرد الطعام من اللب الشبيه بالبيضة الذي اختفت فيه « الجينات » ( وحدات الوراثة ) وهي تمد الجذور في الأرض ، وإذا بك ترى فرخاً أو شتلة ( شجيرة ) وبعد سنوات شجرة! وإن الجرثومة بما فيها من جينات قد تضاعفت ملايين الملايين ، فصنعت الجذع والقشرة وكل ورقة وكل ثمرة ، مماثلة لتلك التي لشجرة البلوط التي تولدت عنها . وفي خلايا مئات السنين قد بقي من ثمار البلوط التي لا تحصى نفس ترتيب الذرات تماماً الذي أنتج أول شجرة بلوط منذ ملايين السنين « .
وفي فصل ثالث يقول : » وكل خلية تنتج في أي مخلوق حي يجب أن تكيف نفسها لتكون جزءاً من اللحم . أو أن تضحي بنفسها كجزء من الجلد الذي لا يلبث حتى يبلى . وعليها أن تصنع ميناء الأسنان ، وأن تنتج السائل الشفاف في العين ، أو أن تدخل في تكوين الأنف أو الأذن . ثم على كل خلية أن تكيف نفسها من حيث الشكل وكل خاصية أخرى لازمة لتأدية مهمتها . ومن العسير أن نتصور أن خلية ما هي ذات يد يمنى أو يسرى . ولكن إحدى الخلايا تصبح جزءاً من الأذن اليمنى ، بينما الأخرى تصبح جزءاً من الأذن اليسرى . «
. . » وإن مئات الآلاف من الخلايا تبدو كأنها مدفوعة لأن تفعل الشيء الصواب في الوقت الصواب . وفي المكان الصواب «!
وفي فصل رابع ... . « في خليط الخلق قد أتيح لكثير من المخلوقات أن تبدي درجة عالية من أشكال معينة من الغريزة أو الذكاء أو ما لا ندري . فالدبور مثلاً يصيد الجندب النطاط ، ويحفر حفرة في الأرض ، ويخز الجندب في المكان المناسب تماماً حتى يفقد وعيه ، ولكنه يعيش كنوع من اللحم المحفوظ . . وأنثى الدبور تضع بيضاً في المكان المناسب بالضبط ، ولعلها لا تدري أن صغارها حين تفقس يمكنها أن تتغذى ، دون أن تقتل الحشرة التي هي غذاؤها ، فيكون ذلك خطراً على وجودها . ولا بد أن الدبور قد فعل ذلك من البداية وكرره دائماً ، وإلا ما بقيت زنابير على وجه الأرض . . والعلم لا يجد تفسيراً لهذه الظاهرة الخفية ، ولكنها مع ذلك لا يمكن أن تنسب إلى المصادفة! »
« وإن أنثى الدبور تغطي حفرة في الأرض ، وترحل فرحاً ، ثم تموت . فلا هي ولا أسلافها قد فكرت في هذه العملية ، وهي لا تعلم ماذا يحدث لصغارها ، أو أن هناك شيئاً يسمى صغاراً . . بل إنها لا تدري أنها عاشت وعملت لحفظ نوعها! »
. . « وفي بعض أنواع النمل يأتي العملة منه بحبوب صغيرة لإطعام غيرها من النمل في خلال فصل الشتاء . وينشئ النمل ما هو معروف » بمخزن الطحن « وفيه يقوم النمل الذي(1/477)
أوتي أفكاكاً كبيرة معدة للطحن ، بإعداد الطعام للمستعمرة . وهذا هو شاغلها الوحيد . وحين يأتي الخريف ، وتكون الحبوب كلها قد طحنت ، فإن » أعظم خير لأكبر عدد « يتطلب حفظ تلك المؤونة من الطعام . وما دام الجيل الجديد سينتظم كثيراً من النمل الطحان؛ فإن جنود النمل تقتل النمل الطاحن الموجود . ولعلها ترضي ضميرها الحشري بأن ذلك النمل قد نال جزاءه الكافي ، إذ كانت له الفرصة الأولى في الإفادة من الغذاء أثناء طحنه! »
« وهناك أنواع من النمل تدفعها الغريزة أو التفكير ( واختر منهما ما يحلو لك ) إلى زرع أعشاش للطعام فيما يمكن تسميته » بحدائق الأعشاش « . وتصيد أنواعاً معينة من الدود والأرق أو اليرق ( وهي حشرات صغيرة تسبب آفة الندوة العسلية ) فهذه المخلوقات هي بقر النمل وعنزاتها! ومنها يأخذ النمل إفرازات معينة تشبه العسل ليكون طعاماً له » .
« والنمل يأسر طوائف منه ويسترقها . وبعض النمل حين يصنع أعشاشه ، يقطع الأوراق مطابقة للحجم المطلوب . وبينما يضع بعض عملة النمل الأطراف في مكانها ، تستخدم صغارها التي وهي في الدور اليرقي تقدر أن تغزل الحرير لحياكتها معاً! وربما حرم طفل النمل عمل شرنقة لنفسه ، ولكنه قد خدم الجماعة! »
« فكيف يتاح لذرات المادة التي تتكون منها النملة ، أن تقوم بهذه العمليات المعقدة؟ »
« لا شك أن هناك خالقاً أرشدها إلى كل ذلك » .. انتهى . .
أجل . لا شك أن هناك خالقاً أرشدها ، وأرشد غيرها من الخلائق . كبيرها وصغيرها . إلى كل ذلك . . إنه { الأعلى الذي خلق فسوى ، والذي قدر فهدى } . .
وهذه النماذج التي اقتطفناها من كلام ذلك العالم ليست سوى طرف صغير من الملاحظات التي سجلها البشر في عوالم النبات والحشرات والطيور والحيوان . ووراءها حشود من مثلها كثيرة . . وهذه الحشود لا تزيد على أن تشير إلى جانب صغير من مدلول قوله تعالى : { الذي خلق فسوى . والذي قدر فهدى } . . في هذا الوجود المشهود الذي لا نعرف عنه إلا أقل من القليل . ووراءه عالم الغيب الذي ترد لنا عنه لمحات فيما يحدثنا الله عنه؛ بالقدر الذي يطيقه تكويننا البشري الضعيف!
وبعد عرض هذا المدى المتطاول ، من صفحة الوجود الكبيرة ، وإطلاق التسبيح في جنباته ، تتجاوب به أرجاؤه البعيدة ، يكمل التسبيحة الكبرى بلمسة في حياة النبات لها إيحاؤها ولها مغزاها :{ والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى } .
والمرعى كل نبات . وما من نبات إلا وهو صالح لخلق من خلق الله . فهو هنا أشمل مما نعهده من مرعى أنعامنا . فالله خلق هذه الأرض وقدر فيها أقواتها لكل حي يدب فوق ظهرها أو يختبئ في جوفها ، أو يطير في جوها .والمرعى يخرج في أول أمره خضراً ، ثم يذوي فإذا(1/478)
هو غثاء ، أميل إلى السواد فهو أحوى ، وقد يصلح أن يكون طعاماً وهو أخضر ، ويصلح أن يكون طعاماً وهو غثاء أحوى . وما بينهما فهو في كل حالة صالح لأمر من أمور هذه الحياة ، بتقدير الذي خلق فسوى وقدر فهدى .
والإشارة إلى حياة النبات هنا توحي من طرف خفي ، بأن كل نبت إلى حصاد وأن كل حي إلى نهاية . وهي اللمسة التي تتفق مع الحديث عن الحياة الدنيا والحياة الأخرى . . { بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى } . . والحياة الدنيا كهذا المرعى ، الذي ينتهي فيكون غثاء أحوى . . والآخرة هي التي تبقى .
وبهذا المطلع الذي يكشف عن هذا المدى المتطاول من صفحة الوجود الكبيرة . . تتصل حقائق السورة الآتية في سياقها ، بهذا الوجود؛ ويتصل الوجود بها ، في هذا الإطار الجميل . والملحوظ أن معظم السور في هذا الجزء تتضمن مثل هذا الإطار . الإطار الذي يتناسق مع جوها وظلها وإيقاعها تناسقاً كاملاً .
بعدئذ يجيء بتلك البشرى العظيمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمته من ورائه : { سنقرئك فلا تنسى إلا ما شآء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ونيسرك لليسرى . فذكر إن نفعت الذكرى } . . وتبدأ البشرى برفع عناء الحفظ لهذا القرآن والكد في إمساكه عن عاتق الرسول - صلى الله عليه وسلم - : { سنقرئك فلا تنسى } . . فعليه القراءة يتلقاها عن ربه ، وربه هو المتكفل بعد ذلك بقلبه ، فلا ينسى ما يقرئه ربه .
وهي بشرى للنبي - صلى الله عليه وسلم - تريحه وتطمئنه على هذا القرآن العظيم الجميل الحبيب إلى قلبه . الذي كان يندفع بعاطفة الحب له ، وبشعور الحرص عليه ، وبإحساس التبعة العظمى فيه . . إلى ترديده آية آية وجبريل يحمله إليه ، وتحريك لسانه به خيفة أن ينسى حرفاً منه . حتى جاءته هذه البشائر المطمئنة بأن ربه سيتكفل بهذا الأمر عنه .
وهي بشرى لأمته من ورائه ، تطمئن بها إلى أصل هذه العقيدة . فهي من الله . والله كافلها وحافظها في قلب نبيها . وهذا من رعايته سبحانه ، ومن كرامة هذا الدين عنده ، وعظمة هذا الأمر في ميزانه .
وفي هذا الموضع كما في كل موضع يرد فيه وعد جازم ، أو ناموس دائم ، يرد ما يفيد طلاقة المشيئة الإلهية من وراء ذلك ، وعدم تقيدها بقيد ما ولو كان هذا القيد نابعاً من وعدها وناموسها . فهي طليقة وراء الوعد والناموس . ويحرص القرآن على تقرير هذه الحقيقة في كل موضع كما سبق أن مثلنا لهذا في الظلال ومن ذلك ما جاء هنا :{ إلا ما شاء الله } . . فهو الاحتراس الذي يقرر طلاقة المشيئة الإلهية ، بعد الوعد الصادق بأنه لا ينسى . ليظل الأمر في(1/479)
إطار المشيئة الكبرى ، ويظل التطلع دائماً إلى هذه المشيئة حتى فيما سلف فيه وعد منها . ويظل القلب معلقاً بمشيئة الله حياً بهذا التعلق أبداً . .
{ إنه يعلم الجهر وما يخفى } . . وكأن هذا تعليل لما مر في هذا المقطع من الإقرار والحفظ والاستثناء . . فكلها ترجع إلى حكمة يعلمها من يعلم الجهر وما يخفى؛ ويطلع على الأمر من جوانبه جميعاً ، فيقرر فيه ما تقتضيه حكمته المستندة إلى علمه بأطراف الأمر جميعاً .
والبشرى الثانية الشاملة :{ ونيسرك لليسرى } . .
بشرى لشخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبشرى لأمته من ورائه . وتقرير لطبيعة هذا الدين ، وحقيقة هذه الدعوة ، ودورها في حياة البشر ، وموضعها في نظام الوجود . . وإن هاتين الكلمتين : { ونيسرك لليسرى } ، لتشتملان على حقيقة من أضخم حقائق هذه العقيدة ، وحقائق هذا الوجود أيضاً . فهي تصل طبيعة هذا الرسول بطبيعة هذه العقيدة بطعبية هذا الوجود . الوجود الخارج من يد القدرة في يسر . السائر في طريقه بيسر . المتجه إلى غايته بيسر . فهي انطلاقة من نور؛ تشير إلى أبعاد وآماد وآفاق من الحقيقة ليس لها حدود . .
إن الذي ييسره الله لليسرى ليمضي في حياته كلها ميسراً . يمضي مع هذا الوجود المتناسق التركيب والحركة والاتجاه . . إلى الله . . فلا يصطدم إلا مع المنحرفين عن خط هذا الوجود الكبير وهم لا وزن لهم ولا حساب حين يقاسون إلى هذا الوجود الكبير يمضي في حركة يسيرة لطيفة هينة لينة مع الوجود كله ومع الأحداث والأشياء والأشخاص ، ومع القدر الذي يصرف الأحداث والأشياء والأشخاص .
اليسر في يده . واليسر في لسانه . واليسر في خطوه . واليسر في عمله واليسر في تصوره . واليسر في تفكيره . واليسر في أخذه للأمور . واليسر في علاجه للأمور . اليسر مع نفسه واليسر مع غيره .
وهكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل أمره . . ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما كما روت عنه عائشة رضي الله عنها وكما قالت عنه : « كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خلا في بيته ألين الناس ، بساماً ضحاكاً » وفي صحيح البخاري : « كانت الأمة تأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنطلق به حيث شاءت »!
وفي هديه - صلى الله عليه وسلم - في اللباس والطعام والفراش وغيرها ما يعبر عن اختيار اليسر وقلة التكليف ألبتة
جاء في زاد المعاد لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن قيم الجوزية ، عن هديه - صلى الله عليه وسلم - في « ملابسه » : كانت له عمامة تُسمى: السحاب، كساها علياً، وكان يلبَسُها ويلْبَسُ تحتها القَلَنسُوة. وكان يلبَس القلنسُوة بغير عمامة، ويلبَسُ العِمامة بغير قلنسُوة. وكان إذا اعتم، أرخى عِمامته بين كتفيه، كما رواه مسلم في "صحيحه" عن عمرو بن حريث قال: "رأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على المنبرِ(1/480)
وَعَلَيهِ عِمَامَة سَوْدَاءُ قَدْ أرخَى طَرفَيهَا بينَ كَتِفَيْهِ".وفي مسلم أيضاً، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "دَخَلَ مَكَّة وَعَلَيْهِ عمَامَةٌ سَودَاء". ولم يذكر في حديث جابر: ذؤابة، فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائماً بين كتفيه. وقد يقال: إنه دخل مكة وعليه أهبةُ القتال والمِغفَرُ على رأسه، فلبسَ في كل مَوطِنٍ ما يُناسبه.
وكان شيخنا أبو العباس ابن تيمية قدَّس الله روحه في الجنَّة، يذكر في سبب الذُّؤابة شيئاً بديعاً، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما اتخذها صبيحة المنام الذي رآه في المدينة، لما رأى ربَّ العزَّة تبارك وتعالى، فقال: "يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأُ الأَعلَى؟ قُلْتُ: لاَ أَدْرِي، فَوضع يَدَهُ بَيْن كَتِفَيَّ فَعَلِمْت مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض الحديث" ، وهو في الترمذي، وسئل عنه البخاري، فقال صحيح. قال: فمن تلك الحال أرخى الذؤابة بين كتفيه، وهذا مِن العلم الذي تنكره ألسنةُ الجهال وقلوبُهم، ولم أرَ هذه الفائدة في إثبات الذؤابة لغيره. ولبس القميص وكان أحبَّ الثياب إليه، وكان كُمُّه إلى الرُّسُغ، ولبس الجُبَّةَ والفَروج وهو شبه القَباء، والفرجية، ولبس القَباء أيضاً، ولبس في السفر جُبة ضَيِّقَةَ الكُمَّين، ولبس الإِزار والرداء. قال الواقدي: كان رداؤه وبرده طولَ ستة أذرع في ثلاثة وشبر، وإزاره من نسج عُمان طول أربعة أذرع وشبر في عرض ذراعين وشبر. (1) .
وفي فصل آخر قال : « والصواب أن أفضل الطرق طريقُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي سنها، وأمر بِها، ورغَّب فيها، وداوم عليها، وهي أن هديَه في اللباس: أن يلبس ما تيسر مِنَ اللباس، من الصوف تارة، والقطن تارة، والكتان تارة.
ولبس البرود اليمانية، والبردَ الأخضر، ولَبسَ الجبة، والقَباء، والقميص، وا لسراويل، والإِزار، والرداء، والخف، والنعل، وأرخى الذؤابة من خَلْفِه تارة، وتركها تارة.وكان يتلحى بالعمامة تحت الحنك.
وكان إذا استجدَّ ثوباً، سماه باسمه، وقال: "اللهمَّ أَنتَ كَسَوتَنِي هذا القَمِيصَ أَو الرِّدَاءِ أَوِ العِمَامَةَ، أَسْألُكَ خَيرَهُ وَخَيرَ مَا صنعَ لَهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ ما صنعَ لَهُ ".
وكان إذا لبس قميصه، بدأ بميامِنه. ولبس الشعر الأسود، كما روى مسلم في "صحيحه" عن عائشة قالت: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّل مِنْ شَعَر أَسْوَدَ.
وفي "الصحيحين" عن قتادة قلنا لأنس: أيُّ اللباسِ كان أحبَّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال: "الحِبَرَة". والحبرة: برد من برود اليمن فإن غالب لباسهم كان مِن نسج اليمن، لأنها قريبة منهم، وربما لبسوا ما يُجلب مِن الشَّام ومصر، كالقباطي المنسوجة من الكتان التي كانت تنسجها القبطُ. وفي "صحيح النسائي" عن عائشة أنها جعلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - بُردة من صوف، فلبسها، فلما عَرِق، فوجد
__________
(1) - زاد المعاد في هدي خير العباد - (1 / 135)(1/481)
رِيحَ الصوف، طرحها، وكان يُحبُ الرّيحَ الطَّيِّب. وفي "سنن أبي داود" عن عبد الله بن عباس قال: لَقَدْ رأيتُ عَلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الحُلَلِ. وفي "سنن النسائي" عن أبي رِمْثَةَ قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَخطُبُ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخضَرَانِ. والْبُرد الأخضر: هو الذي فيه خطوط خضر، وهو كالحلة الحمراء سواء، فمن فهم مِن الحُلة الحمراء الأحمر البحت، فينبغي أن يقول: إِنَّ البرد الأخضر كان أخضرَ بحتاً، وهذا لا يقولُه أحد.
وكانت مِخَدَّتُه - صلى الله عليه وسلم - من أَدَمٍ حَشوُهَا لِيف، فالذين يمتنعون عما أباح اللهُ مِن الملابس والمطاعم والمناكح تزهُّداً وتعبُّداً، بإزائهم طائفةٌ قابلوهم، فلا يلبَسُون إلا أشرفَ الثياب، ولا يأكلون إلا ألينَ الطعام، فلا يرون لَبِسَ الخَشنِ ولا أكله تكبُّراً وتجبُّراً، وكلا الطائفتين هديُه مخالِفٌ لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولهذا قال بعض السلف: كانوا يكرهون الشهرتين من الثياب: العالي، والمنخفضِ. (1) » . .
وقال في هديه في الطعام : « وكذلك كان هديُه - صلى الله عليه وسلم - ، وسيرتُه في الطعام، لا يردُّ موجوداً، ولا يتكلف مفقوداً، فما قُرِّبَ إليه شيءٌ من الطيبات إلا أكله، إلا أن تعافَه نفسُه، فيتركَه من غير تحريم، وما عاب طعاماً قطُّ، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه، كما ترك أكل الضَّبِّ لمَّا لَمْ يَعْتَدْهُ ولم يحرمه على الأمة، بل أُكِلَ على مائدته وهو ينظر.
وأكل الحلوى والعسل، وكان يُحبهما، وأكل لحم الجزور، والضأن، والدجاج، ولحم الحُبارى، ولحم حِمار الوحش، والأرنب، وطعام البحر، وأكل الشواء، وأكل الرُّطبَ والتمرَ، وشرب اللبنَ خالصاً ومشوباً، والسويق، والعسل بالماء، وشرب نقيع التمر، وأكل الخَزِيرَة، وهي حَسَاء يتخذ من اللبن والدقيق، وأكل القِثَّاء بالرُّطَبِ، وأكل الأَقِطَ، وأكل التمر بالخبز، وأكل الخبز بالخل، وأكل الثريد، وهو الخبز باللحم، وأكل الخبز بالإِهالة، وهى الودك، وهو الشحم المذاب، وأكل من الكَبِدِ المَشوِيَّةِ، وأكل القَدِيد، وأكلَ الدُّبَّاء المطبوخةَ، وكان يُحبُّها وأكلَ المسلُوقةَ، وأكلَ الثريدَ بالسَّمْن، وأكلَ الجُبنَ، وأكلَ الخبز بالزيت، وأكل البطيخ بالرُّطَبِ، وأكل التمر بِالزُّبْدِ، وكان يُحبه، ولم يكن يردُّ طَيِّباً، ولا يتكلفه.
بل كان هديه أكلَ ما تيسر، فإن أعوزه، صَبَرَ حتى إنه ليربِطُ على بطنه الحجر من الجوع، ويُرى الهلالُ والهلالُ والهلالُ، ولا يُوقد في بيته نارٌ. وكان معظمُ مطعمه يوضع على الأرض في السُّفرة، وهي كانت مائدَته، وكان يأكل بأصابعه الثلاث، ويلعَقُها إذا فرغ، وهو أشرفُ ما يكون من الأكلة، فإن المتكبِّرَ يأكل بأصبع واحدة، والجَشِعُ الحريصُ يأكل بالخمس، ويدفع بالراحة.
__________
(1) - زاد المعاد في هدي خير العباد - (1 / 143(1/482)
وكان لا يأكل مُتكِئاً، والاتكاء على ثلاثة أنواع، أحدها: الاتكاء على الجنب، والثاني: التربُّع، والثالث: الاتكاء على إحدى يديه، وأكله بالأخرى، والثلاث مذمومة.
وكان يسمى الله تعالى على أول طعامه، ويحمده في آخره فيقول عند انقضائه: "الْحَمْدُ للهِ حَمداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلاَ مُوَدَّع وَلاَ مُسْتَغْنَىَ عَنْه رَبُّنَا". وربما قال: "الْحَمْدُ للهِ الَّذِي يُطْعِمُ وَلاَ يُطعَمُ، مَنَّ عَلَينَا فَهَدَانَا، وَأَطعَمَنَا وَسَقَانَا، وَكلَّ بَلاَءٍ حَسَنٍ أَبْلاَنا، الحَمد للهِ الَّذِي أَطْعَمَ مِنَ الطًعَام، وَسَقَى مِنَ الشَّرابِ، وَكَسَا مِنَ الْعُريَ، وَهَدَى، منَ الضَّلاَلَةِ، وَبَصَّرَ مِنَ العَمَى، وَفضَّلَ عَلَى كَثِير مِمَّن خَلَقَ تَفْضِيلاً، الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ".
وربما قال: " الْحَمد للَّهِ الَّذِي أَطعَمَ وَسَقَى، وَسَوَّغَهُ".
وكان إذا فرغ مِن طعامه لَعِقَ أصابعه، ولم يكن لهم مناديلُ يمسحون بها أيديهم، ولم يكن عادتهم غسلَ أيديهم كلما أكلوا. (1) .
وقال عن هديه في نومه وانتباهه : كان ينامُ على الفراش تارة، وعلى النِّطع تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة، وعلى السرير تارة بين رِمَالهِ، وتارة على كِساء أسود. قال عبَّاد بن تميم عن عمه: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رِجليه على الأخرى.
وكان فراشه أَدَماً حشوُه لِيف. وكان له مِسْحٌ ينام عليه يثنى بثَنيتين، وثُني له يوماً أربع ثنيات، فنهاهم عن ذلك وقال: " رُدُّوه إلَى حَالِهِ الأَوَلِ، فَإنَّه مَنَعَنِي صَلاَتِي اللَّيْلَة ". والمقصود أنه نام على الفراش، وتغطى باللحاف، وقال لنسائه: "مَا أَتَانِي جِبْريلُ وَأَنَا في لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ غَيْرَ عَائِشَة".
وكانت وسادتُه أَدَماً حشوها ليف.وكان إذا أوى إلى فراشه للنوم قال: "بِاسمِك اللهُمَّ أَحْيَا وَأَموتُ".وكان يجمع كفَّيْهِ ثم ينفُث فيهما، وكان يقرأ فيهما: { قُلْ هُو اللهُ أَحَدٌ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأُ بهما على رأسه، ووجهه، وما أقبلَ مِنْ جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات. وكان ينام على شِقه الأيمن، ويضع يده اليمنى تحت خده الأيمن، ثم يقول: " اللهُمَّ قِني عَذَابَكَ يَوْمَ تَبعَثُ عِبَادَكَ ". وكان يقول إذا أوى إلى فراشه: "الحمدُ للهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لاَ كَافِيَ له وَلاَ مُؤْويَ" ذكره مسلم. وذكر أيضاً أنه كان يقول إذا أوى الى فراشه: " اللهم رب السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، وَرَب العَرْشِ العَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كلِّ شَيءٍ، فَالِقَ الحَبَ وَالنَّوى، منزلَ التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ، وَالفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ أَنتَ آخِذ بِنَاصِيتِهِ، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيسَ قَبْلَكَ شَيءٌ، وَأَنتَ الآخِرُ،
__________
(1) - زاد المعاد في هدي خير العباد - (1 / 147)(1/483)
فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيءٌ، وَأَنتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شيءٌ، وَأَنْتَ البَاطِنُ، فَلَيْسَ دُونَكَ شَيءٌ، اقضِ عَنَّا الدَّينَ، وَأَغْنِنَا مِنَ الفقْرِ".
وكان إذا استيقظ من منامه في الليل قال: "لاَ إلَه إِلاَّ أَنْتَ سبحَانَكَ، اللهمَ إنِّي أستغْفِركَ لِذَنبِي، وَأَسْأَلُكَ رَحمَتَكَ، اللهُمَّ زِدْني عِلماً، وَلاَ تُزِغ قَلبي بَعْدَ إِذ هَدَيتَني، وَهَبْ لي مِن لَدنكَ رَحْمَةَ، إِنَّكَ أَنتَ الْوَهاب ".
وكان إذا انتبه من نومه قال: "الْحَمْدُ لله الَّذِيَ أَحيَانَا بَعدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النّشُور ". ثم يتسوَّك، وربما قرأَ العشر الآيات من آخر (آل عمران ) من قوله: {إنَ في خَلْقِ السَّموَاتِ والأَرْضِ...} إِلى آخرها [آل عمران:190-200] وقال: "اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَاواتِ والأَرْض وَمَنْ فِيهنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيَمُ السَّمَاوَاتِ والأَرضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْد، أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقُّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبيّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللهُمَّ لَكَ أَسلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لي مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ إِلَهي، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ".
وكان ينام أول الليل، ويقوم آخره، وربما سهر أول الليل في مصالح المسلمين، وكان تنامُ عيناه، ولا ينامُ قلبُه. وكان إذا نام، لم يُوقظوه حتى يكونَ هو الذي يستقيظ. وكان إذا عرَّس بليل، اضطجع على شقه الأيمن، وإذا عرَّس قبيل الصبح، نصب ذراعه، ووضع رأسه على كفه، هكذا قال الترمذي. وقال أبو حاتم في "صحيحه": كان إذا عرَّس بالليل، توسد يمينه، وإذا عرَس قبيل الصبح، نصب ساعده، وأظن هذا وهماً، والصواب حديث الترمذي.
وقال أبو حاتم: والتعريس إنما يكون قُبيل الصبح. (1) . .
وأحاديثه التي تحض على اليسر والسماحة والرفق في تناول الأمور وفي أولها أمر العقيدة وتكاليفها كثيرة جداً يصعب تقصيها . من هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : » إن هذا الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه « ( أخرجه البخاري ) . . » لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد عليهم . . « ( أخرجه أبو داود ) . . » إن المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى « ( أخرجه البخاري ) . . » يسروا ولا تعسروا « ( أخرجه الشيخان ) .
وفي التعامل : » رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى « ( أخرجه البخاري ) » المؤمن هين لين « ( أخرجه البيهقي ) » المؤمن يألف ويؤلف « ( أخرجه الدارقطني ) . » إن أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم « ( أخرجه الشيخان ) .
__________
(1) - زاد المعاد في هدي خير العباد - (1 / 155)(1/484)
ومن اللمحات العميقة الدلالة كراهيته - صلى الله عليه وسلم - للعسر والصعوبة حتى في الأسماء وسمات الوجوه ، مما يوحي بحقيقة فطرته وصنع ربه بها وتيسيره لليسرى انطباعاً وتكويناً . . عن سعيد ابن المسيب عن أبيه رضي الله عنه أنه جاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما اسمك؟ قال : حَزْن ( أي صعب وعر ) قال : بل أنت سهل . قال : لا أغير اسماً سمانيه أبي! قال ابن المسيب رحمه الله : » فما زالت فينا حزونة بعد «! ( أخرجه البخاري ) . . » وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير اسم عاصية وسماها جميلة « ( أخرجه مسلم ) . ومن قوله : » إن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق « ( أخرجه الترمذي ) . .
فهو الحس المرهف الذي يلمح الوعورة والشدة حتى في الأسماء والملامح فينفر منها ، ويميل بها إلى اليسر والهوادة!
وسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلها صفحات من السماحة واليسر والهوادة واللين والتوفيق إلى اليسر في تناول الأمور جميعاً .
وهذا مثل من علاجه للنفوس ، يكشف عن طريقته - صلى الله عليه وسلم - وطبيعته :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا ، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَعِينُهُ فِي شَيْءٍ ، فَأَعْطَاهُ شَيْئًا ، ثُمَّ قَالَ : أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ ؟ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ : لَا ، وَلَا أَجْمَلْتَ قَالَ : فَغَضِبَ الْمُسْلِمُونَ ، وَقَامُوا إِلَيْهِ ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ كُفُّوا . قَالَ عِكْرِمَةُ : قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى الْأَعْرَابِيِّ ، فَدَعَاهُ إِلَى الْبَيْتِ ، فَقَالَ : إِنَّكَ جِئْتَنَا فَسَأَلْتَنَا ، فَأَعْطَيْنَاكَ ، فَقُلْتَ : مَا قُلْتَهُ ، فَزَادَهُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا ، ثُمَّ قَالَ : أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ ؟ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ : نَعَمْ ، فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خَيْرًا ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّكَ كُنْتَ جِئْتَنَا فَسَأَلْتَنَا ، فَأَعْطَيْنَاكَ ، وَقُلْتَ مَا قُلْتَ ، وَفَى أَنْفُسِ أَصْحَابِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَقُلْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَا قُلْتَ بَيْنَ يَدَيَّ ، حَتَّى تُذْهِبَ مِنْ صُدُورِهِمْ مَا فِيهَا عَلَيْكَ . قَالَ : نَعَمْ . قَالَ عِكْرِمَةُ : قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَوْ الْعَشِيُّ ، جَاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا كَانَ جَاءَ فَسَأَلَنَا ، فَأَعْطَيْنَاهُ ، وَقَالَ مَا قَالَ ، وَإِنَّا دَعَوْنَاهُ إِلَى الْبَيْتِ فَأَعْطَيْنَاهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ ، أَكَذَلِكَ ؟ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ : نَعَمْ ، فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خَيْرًا . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَلَا إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ فَشَرَدَتْ عَلَيْهِ ، فَاتَّبَعَهَا النَّاسُ ، فَلَمْ يَزِيدُوهَا إِلَّا نُفُورًا ، فَنَادَاهُمْ صَاحِبُ النَّاقَةِ : خَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ نَاقَتِي ، فَأَنَا أَرْفَقُ بِهَا وَأَعْلَمُ ، فَتَوَجَّهَ لَهَا صَاحِبُ النَّاقَةِ بَيْنَ يَدَيْهَا وَأَخَذَ لَهَا مِنْ قُمَامِ الْأَرْضِ ، فَرَدَّهَا هَوْنًا هَوْنًا هَوْنًا حَتَّى جَاءَتْ وَاسْتَنَاخَتْ وَشَدَّ عَلَيْهَا ، وَإِنِّي لَوْ تَرَكْتُكُمْ حَيْثُ قَالَ الرَّجُلُ مَا قَالَ ، فَقَتَلْتُمُوهُ ، دَخَلَ النَّارَ " (1) .
__________
(1) - أَخْلَاقُ النَّبِيِّ لِأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ (170 ) ضعيف(1/485)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : جَاءَ أَعْرَابِيُّ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَعْطِنِي ، فَإِنَّكَ لَا تُعْطِي مِنْ مَالِكِ وَلَا مِنْ مَالِ أَبِيكَ ، وَأَغْلَظَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَوَثَبَ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا : يَا عَدُوَّ اللَّهِ تَقُولُ هَذَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فَقَالَ : " عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَّا أَمْسَكْتُمْ " . فَدَعَاهُ فَدَخَلَ بَيْتَهُ فَأَعْطَاهُ فَقَالَ : " أَرَضِيتَ ؟ " قَالَ : لَا ، ثُمَّ أَعْطَاهُ أَيْضًا ، فَقَالَ : " أَرَضِيتَ ؟ " قَالَ : لَا ، ثُمَّ أَعْطَاهُ الثَّالِثَةَ ، فَقَالَ : " أَرَضِيتَ ؟ " قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَاخْرُجْ إِلَى أَصْحَابِي فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّكَ قَدْ رَضِيتَ ؛ فَإِنَّ فِي قُلُوبِهِمْ عَلَيْكَ شَيْئًا ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَتَدْرُونَ مَا مَثَلِي وَمَثَلُ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ ؟ ، مَثَلُ رَجُلٍ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ ، مَعَهُ زَادُهُ وَرَاحِلَتُهُ فَنَفَرَتْ رَاحِلَتُهُ فَاتَّبَعَهَا النَّاسُ ، فَمَا زَادُوهَا إِلَّا نُفُورًا ، فَقَالَ : دَعُونِي فَإِنِّي أَعْلَمُ بِنَاقَتِي مِنْكُمْ ، فَعَمَدَ إِلَى قُمَامِ الْأَرْضِ - يَعْنِي الْحَشِيشَ - فَجَعَلَ يَقُولُ لَهَا : هُوِّي هُوِّي ، حَتَّى رَجَعَتْ ، فَأَنَاخَهَا فَحَمَلَ عَلَيْهَا زَادَهُ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى مَتْنِهَا ، فَلَوْ تَرَكْتُكُمْ حِينَ قَالَ مَا قَالَ فَقَتَلْتُمُوهُ ، دَخَلَ النَّارَ فَمَا زِلْتُ حَتَّى فَعَلْتُ مَا فَعَلْتُ وَقَالَ مَا قَالَ " (1)
فهكذا كان أخذه - صلى الله عليه وسلم - للنفوس الشاردة . بهذه البساطة ، وبهذا اليسر ، وبهذا الرفق وبهذا التوفيق . . والنماذج شتى في سيرته كلها . وهي من التيسير لليسرى كما بشره ربه ووفقه في حياته وفي دعوته وفي أموره جميعاً . .
هذه الشخصية الكريمة الحبيبة الميسرة لليسرى كانت كذلك لكي تحمل إلى البشرية هذه الدعوة . فتكون طبيعتها من طبيعتها ، وحقيقتها من حقيقتها ، وتكون كفاء للأمانة الضخمة التي حملتها بتيسير الله وتوفيقه على ضخامتها . . حيث تتحول الرسالة بهذا التيسير من عبء مثقل ، إلى عمل محبب ، ورياضة جميلة ، وفرح وانشراح . .
وفي صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وصفة وظيفته التي جاء ليؤديها ورد في القرآن الكريم : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } فقد جاء - صلى الله عليه وسلم - رحمة للبشرية . جاء ميسراً يضع عن كواهل الناس الأثقال والأغلال التي كتبت عليهم ، حينما شددوا فشدد عليهم .
وفي صفة الرسالة التي حملها ورد : { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } { وما جعل عليكم في الدين من حرج } { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم } فقد جاءت هذه الرسالة ميسرة في حدود الطاقة لا تكلف الناس حرجاً ولا مشقة . وسرى هذا اليسر في روحها كما سرى في تكاليفها
__________
(1) - أَمْثَالُ الْحَدِيثِ لِأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ (226 ) ضعيف(1/486)
{ فطرة الله التي فطر الناس عليها } وحيثما سار الإنسان مع هذه العقيدة وجد اليسر ومراعاة الطاقة البشرية ، والحالات المختلفة للإنسان ، والظروف التي يصادفها في جميع البيئات والأحوال . . العقيدة ذاتها سهلة التصور . إله واحد ليس كمثله شيء . أبدع كل شيء ، وهداه إلى غاية وجوده . وأرسل رسلاً تذكر الناس بغاية وجودهم ، وتردهم إلى الله الذي خلقهم . والتكاليف بعد ذلك كلها تنبثق من هذه العقيدة في تناسق مطلق لا عوج فيه ولا انحراف . وعلى الناس أن يأتوا منها بما في طوقهم بلا حرج ولا مشقة : « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه » . والمنهي عنه لا حرج فيه في حالة الضرورة : { إلا ما اضطررتم إليه } وبين هذه الحدود الواسعة تنحصر جميع التكاليف . . ومن ثم التقت طبيعة الرسول بطبيعة الرسالة ، والتقت حقيقة الداعي بحقيقة الدعوة . في هذه السمة الأصيلة البارزة . وكذلك كانت الأمة التي جاءها الرسول الميسر بالرسالة الميسرة . فهي الأمة الوسط ، وهي الأمة المرحومة الحاملة للرحمة . الميسرة الحاملة لليسر . . تتفق فطرتها هذه مع فطرة هذا الوجود الكبير . .
وهذا الوجود بتناسقه وانسياب حركته يمثل صنعة الله من اليسر والانسياب الذي لا تصادم فيه ولا احتكاك . . ملايين الملايين من الأجرام تسبح في فضاء الله وتنساب في مداراتها متناسقة متجاذبة . لا تصطدم ولا تضطرب ولا تميد . . وملايين من الخلائق الحية تجري بها الحياة إلى غاياتها القريبة والبعيدة في انتظام وفي إحكام .
وكل منها ميسر لما خلق له ، سائر في طريقه إلى غاية . وملايين الملايين من الحركات والأحداث والأحوال تتجمع وتتفرق وهي ماضية في طريقها كنغمات الفرقة العازفة بشتى الآلات ، لتجتمع كلها في لحن واحد طويل مديد!
إنه التوافق المطلق بين طبيعة الوجود ، وطبيعة الرسالة ، وطبيعة الرسول ، وطبيعة الأمة المسلمة . . صنعة الله الواحد ، وفطرة المبدع الحكيم .
{ فذكر إن نفعت الذكرى } . .لقد أقرأه فلا ينسى ( إلا ما شاء الله ) ويسره لليسرى . لينهض بالأمانة الكبرى . . ليذكر . فلهذا أعدّ ، ولهذا بُشر . . فذكر حيثما وجدت فرصة للتذكير ، ومنفذاً للقلوب ، ووسيلة للبلاغ . ذكر { إن نفعت الذكرى } . . والذكرى تنفع دائماً ، ولن تعدم من ينتفع بها كثيراً كان أو قليلاً . ولن يخلو جيل ولن تخلو أرض ممن يستمع وينتفع ، مهما فسد الناس وقست القلوب وران عليها الحجاب . .(1/487)
وحين نتأمل هذا الترتيب في الآيات ، ندرك عظمة الرسالة ، وضخامة الأمانة ، التي اقتضت للنهوض بها هذا التيسير لليسرى ، وذلك الإقراء والحفظ وتكفل الله بهما؛ كي ينهض الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعبء التذكير ، وهو مزود بهذا الزاد الكبير . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- ينبغي للإنسان تعظيم اللَّه وتمجيده وتنزيهه عن كل ما لا يليق به من صفات النقص في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه.
ويستحب للقارئ إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أن يقول : « سبحان ربي الأعلى » قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - و جماعة من الصحابة والتابعين.
وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب هذه السورة ، وأكثر السلف كانوا يواظبون على قراءتها في التهجد ، ويتعرفون بركتها.والمقصود بالآية تنزيه اللَّه وتسبيحه بذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه ، حتى ولو سلمنا أن كلمة اسْمَ ليست صلة زائدة ، فإن تسبيح اسمه ، أي تنزيهه عما لا يليق ، معناه بذاته تعالى وصفاته ، أو بأفعاله ، أو بأحكامه ، فإن العقائد الباطلة والمذاهب الفاسدة لم تنشأ إلا من هذه الفكرة ، وهي : هل الاسم نفس المسمى أم لا ؟. .
2- مشروعية قول سبحان ربّي الأعلى عند قراءة هذه الآية سبح اسم ربك الأعلى .
3- استحباب التسبيح بها في السجود في كل سجدة من الصلاة سبحان ربي الأعلى ثلاثا فأكثر
4- مشروعية قراءة هذه السورة في الوتر فيقرأ في الركعة الأولى بالفاتحة والأعلى وفي الثانية بالفاتحة والكافرون ، وفي ركعة الوتر بالفاتحة والصمد أو الصمد والمعوذتين .
5- وصف اللَّه تعالى نفسه بصفات كمال ثلاث : هي أنه الذي خلق جميع الخلائق ، وجعلها متناسبة الأجزاء ، متناسقة التركيب ، وجعل الإنسان في أحسن تقويم.
وقدر لكل مخلوق ما يصلح له ، فهداه إليه وأرشده لسلوكه ، وعرّفه وجه الانتفاع به.
وأنبت العشب وأخرج النبات والزرع ، ثم صيّره باليا هشيما جافا أسود.
وهذه الأوصاف تدل على كمال القدرة الإلهية وتمام الحكمة والعلم.
6- بشر اللَّه تعالى نبيه ببشارتين :
الأولى- أن يقرأ عليه جبريل الوحي بالقرآن ، وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ ، فيحفظه ولا ينساه ، إلا ما شاء اللَّه أن ينسى ، ولكنه لم ينس شيئا منه بعد نزول هذه الآية.
والثانية- التوفيق لأعمال الخير ، وتشريع الشريعة اليسرى ، وهي الحنيفية السمحة السهلة.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3883)(1/488)
7- إن اللَّه تعالى يعلم تمام العلم كل ما يجهر به الإنسان وهو الإعلان من القول والعمل ، وكل ما يخفيه ، وهو السر ، لذا شرع لعباده ما فيه الخير والمصلحة ، ورفع عنهم كل ما فيه مشقة وعسر ، وحماهم من كل ما فيه ضرر وشر ومفسدة.
- - - - - - - - - - -(1/489)
التذكير وتزكية النفس والعمل للآخرة
قال تعالى :
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
المناسبة :
بعد التبشير بالبشارتين السابقتين : وهما حفظ القرآن وعدم نسيانه ، والتيسير والتوفيق للشريعة السهلة السمحة ، ولأعمال الخير ، أمر اللَّه نبيه بتذكير الخلق بما ينفعهم في دينهم ودنياهم ، ودعوتهم إلى الحق ، وبيّن من ينتفع بالذكرى وهو من يخاف اللَّه ، ومن يعرض عنها وهو من يعصي اللَّه ، ويكون في قعر جهنم.
وبعد وعيد المعرضين عن العظة بالقرآن ، ذكر اللَّه تعالى وعد من طهر نفسه من الكفر والشرك والرذائل ، وندّد بمن يؤثر الدنيا على الآخرة ، مع أن الخير في تفضيل الآخرة على الدنيا ، وأخبر بأن أصول الدعوات الدينية واحدة ، فما في القرآن من عظات هو ما في صحف إبراهيم وموسى.
المفردات :
9 ... فَذَكِّرْ إِنْ نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ... عظ الناس بهذا القرآن حيث تنفع الموعظة
10 ... سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ... سيتعظ بهذا القرآن من يخاف الله
11 ... وَيَتَجَنَّبُهَا ... يترك الذكرى جانبا فلا يلتفت إليها
11 ... الأَشْقَى ... الكافر
12 ... النَّارُ الكُبْرَى ... نار الآخرة
13 ... لا يمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى ... لا يموت فيستريح ولا يحيا فيهنأ
14 ... أَفْلَحَ ... فاز
14 ... تَزَكَّى ... تطهر وأخرج زكاة ماله
15 ... ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ ... على كل حال
15 ... فَصَلَّى ... الصلوات الفرائض والنوافل ودعاء الله
16 ... تُؤْثِرُونَ ... تفضلون
19 ... صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ ... عشر صحف
19 ... وَمُوسَى ... التوراة التي أنزلت على موسى(1/490)
المعنى الإجمالي:
بعد أن ذكر وعيد الذين أعرضوا عن النظر فى الدلائل التي تدل على وجود اللّه ووحدانيته وإرسال الرسل وعلى البعث والحساب - أتبعه بالوعد لم ن زكى نفسه وطهرها من أدران الشرك والتقليد للآباء والأجداد - بالفوز بالفلاح والظفر بالسعادة فى دنياه وآخرته.
ثم ذكر أن من طبيعة النفوس حبّ العاجلة ، وتفضيلها على الآجلة ، ولو فكروا قليلا لا ستبان لهم أن الخير كل الخير فى تفضيل الثانية على الأولى.
ثم أرشد إلى أن أسس الدعوة الدينية فى كل الأديان واحدة ، فما فى القرآن هو ما فى صحف إبراهيم وموسى. (1)
ولا عجب في ذلك ، قد أفلح من تطهر من دنس المعاصي ورجس عبادة الهوى والأصنام قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ قد أفلح من زكى نفسه ، وقد خاب من دساها ودنسها بالمعاصي ، قد أفلح الذي طهر نفسه ، وذكر اسم ربه فخشع له وخضع ، ذكر ربه فوجل قلبه ، واضطربت نفسه ، وفاضت عينه ، فقام بالعمل الصالح الذي ينفعه بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وهذا إشارة إلى الداء الكامن ، والسبب الحقيقي في معصية العاصي وكفر الكافر ، والسبب هو إيثار الدنيا على الآخرة ، وحب العاجلة الفانية ، فحسب الدنيا رأس كل خطيئة حبها ، بمعنى أنك تعبدها وتتفانى في خدمتها ، مع أن الآخرة خير بلا شك منها ، وهي أبقى لك ، فلن تأخذ من دنياك إلا ما قدمته يداك من صالح الأعمال ، والآخرة خير وأبقى.
ولا تظنوا أن محمدا أتى بالجديد. لا. إن هذا - الشرع المحمدي - لفي الكتب الأولى ، كتب إبراهيم وموسى ، إذ الكل متفق على توحيد اللّه ، وتنزيهه وإثبات البعث وتصديق الرسل (2)
التفسير والبيان :
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى ، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى أي عظ يا محمد الناس بالقرآن ، وأرشدهم إلى سبل الخير ، واهدهم إلى شرائع الدين ، وذكّر حيث تنفع الذكرى ، والناس نوعان : فريق تنفعه الموعظة ، وفريق لا تنفعه ، وإنما الذي ينتفع ويتعظ بما تبلّغه يا محمد من كان يخاف اللَّه تعالى بقلبه ، ويعلم أنه ملاقيه.
وأما من أصر على الكفار والعناد ، وتمادى في الجحود والإنكار ، فلا فائدة في تذكيره.
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 127)
(2) - التفسير الواضح ، ج 3 ، ص : 857(1/491)
قال ابن كثير : ومن هاهنا يؤخذ الأدب في نشر العلم ، فلا يضعه عند غير أهله (1) ، أخرج مسلّم عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ ، قَالَ : مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةٌ ". (2) .
وعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَلِيًّا ، عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ : أَيُّهَا النَّاسُ أَتُرِيدُونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ ، وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ " الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى (3)
وعَنْ أَبِي حَيَّانَ ، قَالَ : كَانَ عِيسَى يَقُولُ : " نَحْنُ كَالطَّبِيبِ الْعَلِيمِ ، يَضَعُ دَوَاءَهُ حَيْثُ يَنْفَعُ " (4) .
وقوله : سَيَذَّكَّرُ .. إيماء إلى أن ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - صار من الوضوح بحيث لا يحتاج إلا إلى التذكير فحسب. والخلاصة : أن التذكير مشروط بالانتفاع.
وهناك اتجاه آخر في تفسير الآية ، وهو أن التذكير مطلوب ، وإن لم ينفع ، ولا يكون التعليق بالشرط في قوله : إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى مرادا ، وإنما هو لتصوير وبيان الواقع ، مثل آيات كثيرة أخرى ، منها قوله تعالى : وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [النور 24/ 33]. قال الرازي : إن الناس في أمر المعاد ثلاثة أقسام : القاطع بصحته ، والمتردد فيه ، والجاحد له ، والفريقان الأولان ينتفعان بالتذكير والتخويف.
وكثير من المعاندين إنما يجحدون باللسان فقط ، فتبين أن أكثر الخلق ينتفعون بالوعظ ، والمعرض نادر ، وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير ، فلهذا وجب تعميم التذكير ، وإن كان لا ينتفع بالتذكير إلا البعض الذين علم اللَّه انتفاعهم به ، ونحن لا نعلمهم ، فبعد أن أمر اللَّه نبيه بالتذكير ، بيّن في قوله : سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى الذي تنفعه الذكرى من هو (5) .
ثم أوضح اللَّه تعالى من الناحية الواقعية عدم جدوى التذكير بالنسبة للمعاندين ، فقال : وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى أي ويتجنب الذكرى ويبعد عنها الأشقى من الكفار ، لعناده وإصراره على الكفر باللَّه ، وانهماكه في معاصيه.
لذا فإنه يقاسي حر نار جهنم ويدخلها ويذوق وبالها ، فهي النار العظيمة ، ونار الدنيا هي النار الصغرى ، أو أن النار الكبرى : دركات جهنم ، كما قال تعالى : إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء 4/ 145].
__________
(1) - تفسير ابن كثير : 4/ 500
(2) - صحيح مسلم- المكنز (14 ) مرسل
(3) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ(497 ) وصحيح البخارى- المكنز (127 )
(4) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (735 )
(5) - التفسير الكبير للرازي : 31/ 144- 145 ، غرائب القرآن : 30/ 77(1/492)
والذي يصلى النار الكبرى يخلد في عذابها ، فلا يموت فيها ، فيستريح مما هو فيه من العذاب ، ولا يحيا حياة طيبة هنيئة ينتفع أو يسعد بها ، كما قال تعالى : لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها [فاطر 35/ 36].
وسبب تخصيص الكافر بالذكر : أن الفاسق لم يتجنب التذكير بالكلية ، فيكون القرآن ساكتا عن الشقي الذي هو أهل الفسق.
وبعد وعيد الأشقياء الذين أعرضوا عن ذكرى القرآن ، ذكر وعد السعداء الذين يعنون بتزكية نفوسهم وتطهيرهم من الشرك والتقليد في العبادة ودنس الرذائل ، فقال تعالى : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى أي قد فاز ونجا من العذاب من تطهّر من الشرك ، فآمن باللَّه ووحّده وعمل بشرائعه ، وتعهد نفسه بالتزكية والتهذيب والتطهير من الرذائل والمفاسد والأخلاق الوضيعة ، وتابع ما أنزل اللَّه تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وذكر بلسانه اسم ربه بالتوحيد والإخلاص ، وتذكر ربه العظيم في قلبه ، فأقام الصلوات الخمس المفروضة في أوقاتها ، ابتغاء رضوان اللَّه ، وطاعة لأمر اللَّه ، وامتثالا لشرع اللَّه ، كما قال تعالى : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ ، وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال 8/ 2].
وروى أبو بكر البزار عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } قَالَ : مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ، وَخَلَعَ الأَنْدَادَ ، وَشَهِدَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ " { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } قَالَ : هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا. (1) .
ثم وبّخ المؤثرين الدنيا ، المهملين أمر الآخرة ، فقال : بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى أي لا تفعلون ما أمرتم به سابقا ، بل تؤثرون اللذات الفانية في الدنيا ، والآخرة ونعيمها أفضل وأدوم من الدنيا ، وثواب اللَّه في الدار الآخرة خير من الدنيا وأبقى ، فإن الدنيا دار فانية ، والآخرة شريفة باقية ، فكيف يؤثر عاقل ما يفنى على ما يبقى ، ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلد ؟ !!
أخرج الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ " (2) .
وأخرج أحمد عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى ». (3) .
__________
(1) - كشف الأستار - (3 / 80) (2284) وهو ضعيف جدا
(2) - شعب الإيمان - (13 / 185) (10154 ) ومسند أحمد - المكنز (25153) صحيح
(3) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (3 / 370) (6751) والمستدرك للحاكم (7853) وصحيح ابن حبان - (2 / 486) (709) ومسند أحمد - المكنز (20227) حسن لغيره(1/493)
ثم أبان اللَّه تعالى وحدة الشرائع في أصولها وآدابها العامة ، فقال : إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى،أي إن كل ما ذكر من فلاح من تزكى ، وما بعده من تذكر اسم اللَّه ، وإيثار الناس للدنيا ، ثابت في صحف إبراهيم العشر وكذا صحف موسى العشر غير التوراة ، فقد تتابعت كتب اللَّه عز وجل أن الآخرة خير وأبقى من الدنيا.
والمراد أن ذلك مذكور بالمعنى لا باللفظ في صحف جميع الأنبياء التي منها صحف إبراهيم وموسى ، فمعنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف ، فهو في الأولى وفي آخر الشرائع ، وتقدير الآية : إن هذا لفي الصحف الأولى التي منها صحف إبراهيم وموسى. وإنما خصت هذه الصحف بالذكر لشهرتها بين العرب. ونظير الآية قوله : وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء 26/ 196].
و عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، جَالِسٌ وَحْدَهُ ، قَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّ لِلْمَسْجِدِ تَحِيَّةً ، وَإِنَّ تَحِيَّتَهُ رَكْعَتَانِ ، فَقُمْ فَارْكَعْهُمَا ، قَالَ : فَقُمْتُ فَرَكَعْتُهُمَا ، ثُمَّ عُدْتُ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّكَ أَمَرْتَنِي بِالصَّلاَةِ ، فَمَا الصَّلاَةُ ؟ قَالَ : خَيْرُ مَوْضُوعٍ ، اسْتَكْثِرْ أَوِ اسْتَقِلَّ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : إِيمَانٌ بِاللَّهِ ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ إِيمَانًا ؟ قَالَ : أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَسْلَمُ ؟ قَالَ : مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَأَيُّ الصَّلاَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : طُولُ الْقُنُوتِ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَمَا الصِّيَامُ ؟ قَالَ : فَرْضٌ مُجْزِئٌ ، وَعِنْدَ اللهِ أَضْعَافٌ كَثِيرَةٌ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ ، وَأُهْرِيقَ دَمُهُ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : جَهْدُ الْمُقِلِّ يُسَرُّ إِلَى فَقِيرٍ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَأَيُّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : آيَةُ الْكُرْسِيِّ ثُمَّ ، قَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ ، مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ مَعَ الْكُرْسِيِّ إِلاَّ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلاَةٍ وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلاَةِ عَلَى الْحَلْقَةِ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، كَمِ الأَنْبِيَاءُ ؟ قَالَ : مِائَةُ أَلْفٍ وَعِشْرُونَ أَلْفًا قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، كَمِ الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَ : ثَلاَثُ مِائَةٍ وَثَلاَثَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا ،قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَنْ كَانَ أَوَّلُهُمْ ؟ قَالَ : آدَمُ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ، وَكَلَّمَهُ قِبَلاً ثُمَّ ، قَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ أَرْبَعَةٌ سُرْيَانِيُّونَ : آدَمُ ، وَشِيثُ ، وَأَخْنُوخُ وَهُوَ إِدْرِيسُ ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ ، وَنُوحٌ وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ : هُودٌ ، وَشُعَيْبٌ ، وَصَالِحٌ ، وَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، كَمْ كِتَابًا أَنْزَلَهُ اللَّهُ ؟ قَالَ : مِائَةُ كِتَابٍ ، وَأَرْبَعَةُ كُتُبٍ ، أُنْزِلَ عَلَى شِيثٍ خَمْسُونَ صَحِيفَةً ، وَأُنْزِلَ عَلَى أَخْنُوخَ ثَلاَثُونَ صَحِيفَةً ، وَأُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَشَرُ صَحَائِفَ ، وَأُنْزِلَ عَلَى مُوسَى قَبْلَ التَّوْرَاةِ(1/494)
عَشَرُ صَحَائِفَ ، وَأُنْزِلَ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالْقُرْآنُ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا كَانَتْ صَحِيفَةُ إِبْرَاهِيمَ ؟ قَالَ : كَانَتْ أَمْثَالاً كُلُّهَا : أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُسَلَّطُ الْمُبْتَلَى الْمَغْرُورُ ، إِنِّي لَمْ أَبْعَثْكَ لِتَجْمَعَ الدُّنْيَا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ ، وَلَكِنِّي بَعَثْتُكَ لِتَرُدَّ عَنِّي دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ، فَإِنِّي لاَ أَرُدُّهَا وَلَوْ كَانَتْ مِنْ كَافِرٍ ،وَعَلَى الْعَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ أَنْ تَكُونَ لَهُ سَاعَاتٌ : سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ ، وَسَاعَةٌ يَتَفَكَّرُ فِيهَا فِي صُنْعِ اللهِ ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا لِحَاجَتِهِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ ، وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لاَ يَكُونَ ظَاعِنًا إِلاَّ لِثَلاَثٍ : تَزَوُّدٍ لِمَعَادٍ ، أَوْ مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ ، أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ ، وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ ، مُقْبِلاً عَلَى شَأْنِهِ ، حَافِظًا لِلِسَانِهِ ، وَمَنْ حَسَبَ كَلاَمَهُ مِنْ عَمَلِهِ ، قَلَّ كَلاَمُهُ إِلاَّ فِيمَا يَعْنِيهِ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَمَا كَانَتْ صُحُفُ مُوسَى ؟ قَالَ : كَانَتْ عِبَرًا كُلُّهَا : عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ ، ثُمَّ هُوَ يَفْرَحُ ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ ، ثُمَّ هُوَ يَضْحَكُ ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ هُوَ يَنْصَبُ ، عَجِبْتُ لِمَنْ رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا ، ثُمَّ اطْمَأَنَّ إِلَيْهَا ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ غَدًا ثُمَّ لاَ يَعْمَلُ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَوْصِنِي ، قَالَ : أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ ، فَإِنَّهُ رَأْسُ الأَمْرِ كُلِّهِ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، زِدْنِي ، قَالَ : عَلَيْكَ بِتِلاَوَةِ الْقُرْآنِ ، وَذِكْرِ اللهِ ، فَإِنَّهُ نُورٌ لَكَ فِي الأَرْضِ ، وَذُخْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، زِدْنِي : قَالَ : إِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ ، فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ ، وَيَذْهَبُ بِنُورِ الْوَجْهِ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، زِدْنِي ، قَالَ : عَلَيْكَ بِالصَّمْتِ إِلاَّ مِنْ خَيْرٍ ، فَإِنَّهُ مَطْرَدَةٌ لِلشَّيْطَانِ عَنْكَ ، وَعَوْنٌ لَكَ عَلَى أَمْرِ دِينِكَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، زِدْنِي ، قَالَ : عَلَيْكَ بِالْجِهَادِ ، فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، زِدْنِي ، قَالَ : أَحِبَّ الْمَسَاكِينَ وَجَالِسْهُمْ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ زِدْنِي ، قَالَ : انْظُرْ إِلَى مَنْ تَحْتَكَ وَلاَ تَنْظُرْ إِلَى مَنْ فَوْقَكَ ، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تُزْدَرَى نِعْمَةُ اللهِ عِنْدَكَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ زِدْنِي ، قَالَ : قُلِ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ زِدْنِي ، قَالَ : لِيَرُدَّكَ عَنِ النَّاسِ مَا تَعْرِفُ مِنْ نَفْسِكَ وَلاَ تَجِدْ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَأْتِي ، وَكَفَى بِكَ عَيْبًا أَنْ تَعْرِفَ مِنَ النَّاسِ مَا تَجْهَلُ مِنْ نَفْسِكَ ، أَوْ تَجِدَ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَأْتِي ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِي ، فقَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ لاَ عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ ، وَلاَ وَرَعَ كَالْكَفِّ ، وَلاَ حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ." (1)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ وَحْدَهُ ، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ : " يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّ لِلْمَسْجِدِ تَحِيَّةً ، وَإِنَّ تَحِيَّتَهُ رَكْعَتَانِ ، فَقُمْ فَارْكَعْهَا " ، قَالَ : فَقُمْتُ فَرَكَعْتُهَا ثُمَّ عُدْتُ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ أَمَرْتَنِي بِالصَّلَاةِ ، فَمَا الصَّلَاةُ ؟ قَالَ : " خَيْرُ مَوْضُوعٍ اسْتُكْثِرَ أَوِ اسْتُقِلَّ "
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : " إِيمَانٌ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ "
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 76) (361) حسن لغيره(1/495)
قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُهُمْ إِيمَانًا ؟ قَالَ : " أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا "
قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَسْلَمُ ؟ قَالَ : " مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ "
قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : " مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ "
قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : " طُولُ الْقُنُوتِ "
قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا الصِّيَامُ ؟ قَالَ : " فَرْضٌ مُجْزًى ، وَعِنْدَ اللَّهِ أَضْعَافٌ كَثِيرَةٌ "
قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : " مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ ، وَأُهْرِيقَ دَمُهُ "
قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : " أَغْلَاهَا ثَمَنًا ، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ رَبِّهَا "
قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : " جَهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ يُسِرُّ إِلَى فَقِيرٍ "
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ آيَةٍ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكَ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : " آيَةُ الْكُرْسِيِّ " ، ثُمَّ قَالَ : " يَا أَبَا ذَرٍّ مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ مَعَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلَقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ ، وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ "
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الْأَنْبِيَاءُ ؟ قَالَ : " مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا " ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الرُّسُلُ ؟ قَالَ : " ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةُ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا " ، قُلْتُ : كَثِيرٌ طَيِّبٌ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ كَانَ أَوَّلَهُمْ ؟ قَالَ : " آدَمُ " ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ ؟ قَالَ : " نَعَمْ ، خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ، ثُمَّ سَوَّاهُ قِبَلًا " . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَنَسٍ : " ثُمَّ كَلَّمَهُ قِبَلًا " ، ثُمَّ قَالَ : " يَا أَبَا ذَرٍّ أَرْبَعَةٌ سِرْيَانِيُّونَ : آدَمُ ، وَشِيثٌ ، وَخَنُوخٌ - وَهُوَ إِدْرِيسُ - وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ ، وَنُوحٌ . وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ : هُوَدُ ، وَصَالِحٌ ، وَشُعَيْبٌ ، وَنَبِيُّكَ يَا أَبَا ذَرٍّ "
قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؟ قَالَ : " مِائَةُ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةُ كُتُبٍ ، أَنْزَلَ عَلَى شِيثٍ خَمْسُونَ صَحِيفَةً ، وَأَنْزَلَ عَلَى خَنُوخٍ ثَلَاثُونَ صَحِيفَةً ، وَأَنْزَلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَشْرَ صَحَائِفَ ، وَأَنْزَلَ عَلَى مُوسَى قَبْلَ التَّوْرَاةِ عَشْرَ صَحَائِفَ ، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفُرْقَانَ "
قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا كَانَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ ؟ قَالَ : " كَانَتْ أَمْثَالًا كُلُّهَا : أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُسَلَّطُ الْمُبْتَلَى الْمَغْرُورُ ، فَإِنِّي لَمْ أَبْعَثْكَ لِتَجْمَعَ الدُّنْيَا بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ ، وَلَكِنْ بَعَثْتُكَ لِتَرُدَّ عَنِّي دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ، فَإِنِّي لَا أَرُدُّهَا وَلَوْ كَانَتْ مِنْ كَافِرٍ ، وَكَانَ فِيهَا أَمْثَالُ : عَلَى الْعَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ أَنْ تَكُونَ لَهُ سَاعَاتٌ : سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَسَاعَةً يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ ، وَسَاعَةً يُفَكِّرُ فِيهَا فِي صُنْعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَسَاعَةً يَخْلُو فِيهَا بِحَاجَتِهِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ ، وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَكُونَ ظَاعِنًا إِلَّا لِثَلَاثٍ : تَزَوُّدٍ لِمَعَادٍ ، أَوْ مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ ، أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ ، وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ ، حَافِظًا لِلِسَانِهِ ، وَمَنْ حَسَبَ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ "(1/496)
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا كَانَ صُحُفُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ؟ قَالَ : " كَانَتْ عِبَرًا كُلُّهَا : عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ ثُمَّ هُوَ يَفْرَحُ ، عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ وَهُوَ يَضْحَكُ ، عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ لِلْقَدَرِ ثُمَّ هُوَ يَنْصِبُ ، عَجِبْتُ لِمَنْ رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا ثُمَّ اطْمَأَنَّ إِلَيْهَا ، عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ غَدًا ثُمَّ لَا يَعْمَلُ "
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي ، قَالَ : أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ ؛ فَإِنَّهُ رَأْسُ الْأَمْرِ كُلِّهِ "
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : " عَلَيْكَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّهُ نُورٌ لَكَ فِي الْأَرْضِ ، وَذِكْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ "
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : " إِيَّاكَ وَكَثْرَةِ الضَّحِكِ ؛ فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ ، وَيَذْهَبُ بِنُورِ الْوَجْهِ "
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : " عَلَيْكَ بِالصَّمْتِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ ، فَإِنَّهُ مَطْرَدَةٌ لِلشَّيْطَانِ عَنْكَ ، وَعَوْنٌ لَكَ عَلَى أَمْرِ دِينِكَ "
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : " إِيَّاكَ وَكَثْرَةِ الضَّحِكِ ؛ فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ ، وَيَذْهَبُ بِنُورِ الْوَجْهِ "
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : " عَلَيْكَ بِالْجِهَادِ ؛ فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي "
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : " حِبَّ الْمَسَاكِينَ وَجَالِسْهُمْ "
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : " انْظُرْ إِلَى مَنْ تَحْتَكَ ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ فَوْقَكَ ، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرِي نِعْمَةَ اللَّهِ عِنْدَكَ "
قُلْتُ : زِدْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " صِلْ قَرَابَتَكَ وَإِنْ قَطَعُوكَ "
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : " لَا تَخَفْ فِي اللَّهِ تَعَالَى لَوْمَةَ لَائِمٍ "
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : " قُلِ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا "
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : " يَرُدُّكَ عَنِ النَّاسِ مَا تَعْرِفُ مِنْ نَفْسِكَ ، وَلَا تَجِدُ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَأْتِي ، وَكَفَى بِهِ عَيْبًا أَنْ تَعْرِفَ مِنَ النَّاسِ مَا تَجْهَلُ مِنْ نَفْسِكَ ، أَوْ تَجِدُ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَأْتِي " ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِي فَقَالَ : " يَا أَبَا ذَرٍّ لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ ، وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ ، وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ " (1)
__________
(1) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ(548 ) حسن لغيره
وقال :السِّيَاقُ لِلْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ وَرَوَاهُ الْمُخْتَارُ بْنُ غَسَّانَ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ . وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ ، عَنِ الْقَاسِمِ ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ . وَرَوَاهُ عُبَيْدُ بْنُ الْحَسْحَاسِ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ . وَرَوَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ ، عَنِ ابْنِ عَائِذٍ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، بِطُولِهِ . وَرَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، بِطُولِهِ . تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْعَبْشَمِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ أَيُّوبَ ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ ، ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْعَبْشَمِيُّ ، مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ ، ثنا ابْنُ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ جَالِسٌ ، فَاغْتَنَمْتُ خَلْوَتَهُ ، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ ، وَزَادَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لِي فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِمَّا كَانَ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ؟ قَالَ : " يَا أَبَا ذَرٍّ اقْرَأْ : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى إِلَى آخِرِ السُّورَةِ قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِلرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - مُلَازِمًا وَجَلِيسًا ، وَعَلَى مُسَاءَلَتِهِ وَالِاقْتِبَاسِ مِنْهُ حَرِيصًا ، وَلِلْقِيَامِ عَلَى مَا اسْتَفَادَ مِنْهُ أَنِيسًا ، سَأَلَهُ عَنِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ ، وَسَأَلَهُ عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِ تَعَالَى ، وَسَأَلَهُ عَنْ أَحَبِّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَسَأَلَهُ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ : أَتُرْفَعُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ أَمْ تَبْقَى ؟ وَسَأَلَهُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى عَنْ مَسِّ الْحَصَا فِي الصَّلَاةِ(1/497)
ومضات :
قوله تعالى : «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى » ..الذين لا تنفعهم الذكرى ، هم الأشقياء الذين غلبت عليهم شقوتهم فلم تخشع قلوبهم لذكر اللّه وما نزل من الحق .. فكان مصيرهم النار ، لا يموتون فيها ولا يحيون .. ذلك ، على حين قد أفلح من تزكى ، أي تطهر من أوضار الكفر والضلال ، فآمن باللّه ، وذكر اسم ربه ، وأقام الصلاة.
وقوله تعالى : « وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى » ـ إشارة إلى أن الصلاة مرتبة على ذكر اللّه ، فمن لم يذكر اللّه سبحانه ، ويستحضر جلاله وعظمته فيما يذكر من أسمائه وصفاته ـ لا يخشع قلبه للّه ، ولا يصلّى له ..
وفى ذكر الصلاة على أنها الأثر المترتب على ذكر اللّه ـ إشارة إلى أن الصلاة ، بما فيها من ولاء ، وخشوع ، وركوع ، وسجود ، هى أكمل الوسائل وأعظم القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه ، ومن هنا كانت رأس العبادات ..
وملاك الطاعات .. وهى شريعة كل نبى ، ودعوة كل رسول إلى قومه ، بعد الإيمان باللّه .. فيقول سبحانه عن إسماعيل : « وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا » (55 : مريم) ويقول سبحانه على لسان عيسى : «وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا » (31 : مريم).
وفى ذكر اللّه سبحانه وتعالى بالربوبية من بين أسمائه الكريمة كلها ـ إشارة إلى أن الذي يذكر الإنسان اسمه ، هو مرييه ، ومنشئه ، والمنعم عليه بالإيجاد ، والخلق على هذه الصورة السوية.
قوله تعالى : «بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى » .هو إضراب عن هذا الخبر : « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى » ـ حيث لم يستجب له معظم الناس ، ولم يدخل فيه أكثرهم ، إذ قد آثروا(1/498)
الحياة الدنيا على الآخرة ، وشغلوا بها عن ذكر اللّه ، وإقامة الصلاة على تمامها وكمالها ، فى إخلاص ، وخشوع ، وإخلاء القلب لها من هموم الحياة وشواغلها ..
فإن الصلاة إذا لم تستوف أركانها ، ولم يدخل فيها المصلى بعد ذكر اللّه ، واستحضار جلاله وعظمته ـ كانت مجرد حركات ، يخشع لها قلب ، ولا تنتعش بها روح!! إنها إن لم تكن نفاقا مع الناس ، كانت نفاقا مع الإنسان ونفسه واختيانا من الإنسان للأمانة التي اؤتمن عليها ، ليؤديها إلى روحه ، وقلبه ، غذاء وضياء! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى وصف المنافقين : « وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا » (142 : النساء).
وهؤلاء الذين قصروا فى ذكر اللّه ، وفى الصلاة القائمة على ذكر اللّه ، قد بخسوا أنفسهم ، لأنهم آثروا الفانية على الباقية ، اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ، « وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى » .
قوله تعالى : «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى » .الإشارة هنا إلى ما تحدثت به الآيات السابقة ، من أن من آثر الحياة الدنيا ، واستغواه غيّها وضلالها ، فإن النار مأواه ، وأن من ذكر اسم ربه فصلى ، فإنه من أهل الفوز والفلاح ـ فهذا الذي تحدثت به الآيات هو من الحقائق الكبرى الخالدة ، التي حملتها كتب الأنبياء السابقين ، ومنهم إبراهيم وموسى ..
وفى اختيار إبراهيم وموسى من بين الأنبياء والرسل ، إشارة إلى أن إبراهيم هو أبو الأنبياء ، وشريعته من الشرائع الأولى ، وعلى امتدادها جاءت شريعة موسى ، ثم شريعة الإسلام .. (1)
وفي هذه الآيات :
1- تقرير توكيدي لفلاح ونجاة الذين يتزكون ويذكرون ربهم ويصلّون له.
2- وخطاب موجه إلى السامعين فيه تنبيه بأنهم يؤثرون الحياة الدنيا ، في حين أن الآخرة هي خير وأبقى لهم ، وبأن هذه الدعوة التي يدعوهم إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست بدعا وإنما هي حلقة من سلسلة دعوة أنبياء اللّه الأولين والكتب المنزلة عليهم وخاصة كتب موسى وإبراهيم.
والآيات متصلة بسابقاتها اتصالا وثيقا ، وفيها ذكر مصير الذي ينتفع بالذكرى ويخشى العاقبة وتتمة للكلام عنه بعد ذكر مصير الشقي الذي يعرض عنها.
وكلمة «تزكى» تحتمل في الآية معنى التطهير أو أداء الزكاة غير أن تلازم ذكر الصلاة والزكاة في جلّ المواضع القرآنية قد يسوّغ الترجيح بأن المقصد هنا هو زكاة المال. وإذا صح هذا كانت الدعوة إلى الزكاة والحثّ عليها قد لازما الأمر بالصلاة والحث عليها منذ بدء الدعوة. وقد يفسّر هذا الموقف المتجهم الذي وقفه الأغنياء بالإجمال من الدعوة منذ بدئها.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ، ج 16 ، ص : 1535(1/499)
وأسلوب الدعوة إلى الزكاة إذا صح الترجيح هو أسلوب الحث والترغيب.
وهذا هو المتسق مع ظروف العهد المكي وخاصة مع ظروف أوائله. وهذا الأسلوب ملموح في الدعوة إلى الصلاة أيضا ، وهو ملموح في المواضيع المماثلة في جميع السور المكية.
وروح آيات السورة وأسلوبها يلهمان أن الخطاب في الآية [16] لم يوجه لفريق خاص بقصد التثريب والتنديد وإنما هو موجه إلى الناس جميعا بقصد تقرير الطبيعة الغالبة فيهم وهي إيثار النفع العاجل على الآجل ، وبقصد تنبيههم إلى ما هو خير وأبقى استهدافا لإقبالهم على الاستجابة للدعوة.
وليس في الآية بطبيعة الحال حظر الاستمتاع بالحياة الدنيا إذا ما استجاب الناس للدعوة وقرنوا العمل للدنيا والآخرة معا.
وفي آيات سورة الأعراف هذه : يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) تأييد صريح لما نقرره.
وفي سورة المائدة آية نهت المسلمين عن تحريم طيبات ما أحله اللّه لهم على أنفسهم بدون تجاوز على الحدود المعقولة. وهي هذه : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وكان هذا النهي في مناسبة جنوح بعض المسلمين إلى الرهبانية والتقشف والامتناع عن النساء ولذائذ العيش. وحلفهم على ذلك وقد فرض اللّه لهم تحلة لأيمانهم في آية أخرى بعد هذه الآية وهي : لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(89) وفي هذا تدعيم آخر كما هو واضح.
وإبراهيم وموسى عليهما السلام يذكران في القرآن هنا لأول مرة. ثم تكرر ذكرهما كثيرا وبحفاوة عظيمة في سور عديدة مكية ومدنية.
وقد ذكر إبراهيم عليه السلام وسيرته وأولاده وأحفاده في سفر التكوين أول أسفار العهد القديم المتداولة اليوم بشيء غير قليل من الإسهاب. ويستفاد من ذلك أنه هاجر من بلاد أور الكلدانيين(1/500)
أو حاران إلى أرض كنعان التي صارت تعرف بفلسطين بأمر اللّه عز وجل هو وزوجته ساره وابن أخيه لوط عليهم السلام.
فاستقروا ونموا فيها وكانوا موحدين مخلصين للّه ومحل تجلياته وعنايته وشاخ ومات ودفن في فلسطين.
وفي السور الأخرى شيء من سيرتهم ، منه ما يتطابق مع ما ورد في السفر المذكور ومنه ما لا يتطابق أو ما لم يذكر فيه على ما سوف ننبه عليه في مناسبات أخرى.
وفي كتب التفسير روايات كثيرة ومسهبة عنهم مروية عن بعض أصحاب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وتابعيهم وعلماء الأخبار في الصدر الإسلامي الأول. منها المتطابق مع ما جاء في سفر التكوين ومنها غير المتطابق. وفيها على كل حال دلالة على أن ذكرهم كان متداولا بنطاق واسع في بيئة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة ومصدر ذلك على ما هو المتبادر الكتابيون الذين كانوا في هذه البيئة وبنوع خاص الاسرائيليون الذين ينتسبون إليهم بالأبوة. على أن لإبراهيم عليه السلام مقاما خاصا عند العرب يأتي مما كان متواترا حتى بلغ مبلغ اليقين من أن القرشيين والعدنانيين الذين يتفرع الأولون منهم كانوا يتداولون نسبتهم بالأبوة إليه من ناحية إسماعيل ابنه البكر عليهما السلام. ونسبة الكعبة وتقاليد الحج المتنوعة إليه أيضا. وفي القرآن آيات فيها تأييد وترديد لذلك منها آيات سورة البقرة هذه : وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وآية سورة الحج هذه : وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) وهذه : وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ... [78].
وقد ذكر موسى في سفر الخروج ثاني أسفار العهد القديم والأسفار التالية له المتداولة اليوم بإسهاب. وهو من نسل إبراهيم على ما يستفاد من أسفار العهد القديم ومن القرآن معا. وكثير(1/501)
مما ورد في القرآن عنه متطابق مع ما ورد في أسفار هذا العهد ، ومنه غير المتطابق أيضا. وفي كتب التفسير روايات كثيرة عنه مروية عن بعض أصحاب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وتابعيهم وعلماء الأخبار في الصدر الإسلامي الأول منها ما هو المتطابق مع هذه الأسفار ومنها غير المتطابق. وفيها على كل حال دلالة على أن ذكره كان متداولا بنطاق واسع في بيئة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة.
ومصدر ذلك على ما هو المتبادر الكتابيون الذين كانوا في هذه البيئة وبنوع خاص الإسرائيليون.
ونكتفي بهذه اللمحة عنه لأن ذكره هنا جاء خاطفا وسوف نعود إلى ذكره بتوسع أكثر في المناسبات التي ذكر فيها بتوسع أكثر.
والإشارة الواردة في الآيتين الأخيرتين [18- 19] هي أولى الإشارات إلى كتب اللّه الأولى التي فسرت في الآية [19] بصحف إبراهيم وموسى. والإشارة خاطفة يمكن أن تؤيد أولية ذكر هذه الكتب وأسلوبها يمكن أن يدل على أن السامعين لا يجهلون أن هناك كتبا إلهية نزلت على أنبيائه ومنهم إبراهيم وموسى عليهما السلام. ولقد كان في الحجاز جاليات نصرانية ويهودية وكانوا يتداولون الأسفار المنسوبة إلى اللّه وإلى الأنبياء ولا بد من أن السامعين كانوا يعرفون ذلك من طريقهم.
والمتبادر أن المقصود من تعبير (صحف موسى) هو ما أوحاه اللّه إليه من تعليقات وتشريعات. وقد ذكر ذلك بصراحة في آيات عديدة مكية ومدنية غير أنه عبر عنه بتعبير «الكتاب» الذي أنزله اللّه هدى للناس وآتاه اللّه موسى هدى لبني إسرائيل وبتعبير التوراة التي فيها نور وهدى يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار مما أوردنا أمثلة منه في تعليق آخر في سورة المدثر.
ولقد كتب موسى عليه السلام ما بلغه اللّه إليه في سفر سمي التوراة وكتاب الشريعة وفي ألواح. ولكن ذلك لم يصل إلينا وكان يتداوله اليهود في الأزمنة القديمة على ما ذكر في بعض الأسفار المتداولة اليوم . والمتبادر أن ذلك هو ما قصد بصحف موسى.
أما ما في أيدي اليهود والنصارى اليوم مما يسمى بالعهد القديم والمؤلف من مجموعة كبيرة من الأسفار والتي في بعضها تشريعات وأحكام ربانية مبلغة من اللّه لموسى عليه السلام ومن موسى لبني إسرائيل والتي في بعضها تاريخ بني إسرائيل قبل موسى وبعده مع تاريخ أنبياء وأشخاص وأحداث شعوب أخرى قبله وبعده أيضا فإنها مكتوبة بأسلوب الحكاية وبأقلام كتاب عديدين في أزمنة مختلفة بعد موسى. وفيها كثير من التناقض والمفارقات والغلوّ وفيها أشياء كثيرة منسوبة إلى اللّه عز وجل وأنبيائه لا يمكن أن تكون صحيحة. ولا يصح أن توصف بوصف صحف موسى كما هو ظاهر. وسيأتي بيان أوفى عنها في مناسبة أخرى.(1/502)
أما صحف إبراهيم فليس هناك شيء عنها إلّا هذه الإشارة التي تفيد أن فيها ما قررته آيات سورة الأعلى من مبادئ. وإشارة مثلها في سورة النجم مع زيادة توضيحية هذا نصها : أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41).
وهناك حديث طويل أورده المفسر ابن كثير في سياق تفسير الآية [163] من سورة النساء مرويا عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء فيه : «إن عدد الصحف المنزّلة على إبراهيم عشر» ولكن الحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. وقد توقف بل طغى فيه بعض علماء الحديث على ما ذكره المفسر المذكور واللّه تعالى أعلم.
وذكر صحف إبراهيم وموسى في مقام عرض الدعوة وأهدافها يلهم أنه بسبيل تقرير كون الدعوة المحمدية وما يبشر وينذر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما هو متطابق مع دعوة الأنبياء السابقين وما أنزل عليهم واستمرار له. وهذا مما تكرر تقريره في القرآن كثيرا ، من ذلك آية سورة الشورى هذه : شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وآيات سورة النساء هذه : إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165).
ونرجح ، بل نعتقد أنه كان في أيدي اليهود في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسفار أو قراطيس فيها أخبار أخرى غير الواردة في سفر التكوين وهو أول أسفار العهد القديم المتداولة اليوم عن إبراهيم عليه السلام وملته كانوا يسمونها صحف إبراهيم لم تصل إلينا. ولقد ذكر في سور عديدة مثل مريم والشعراء والأنعام والأنبياء قصص رسالة إبراهيم لأبيه وقومه وما كان بينهم وبينه من جدل وحجاج حول عبادتهم للأصنام وما كان من تأجيجهم النار وإلقاء إبراهيم فيها. وهذه القصص لم ترد في سفر التكوين. ويتبادر لنا أن هذه القصص كانت في تلك الأسفار والقراطيس.
ولعل اختصاص صحف إبراهيم وموسى بالذكر في هذه السورة المبكرة متصل خاصة بما كان للنبيين الكريمين من صورة خطيرة في أذهان السامعين أكثر من غير هما. فقد كان في الحجاز(1/503)
جاليات يهودية كبيرة ذات تأثير في أهلها ، وكانت توراة موسى وشريعته وقصة رسالته إلى فرعون ومعجزاته مشهورة متداولة.
ولقد كان إبراهيم عليه السلام وملته الحنيفية وصلته بالكعبة وتقاليد الحج وأبوته- من طريق ابنه إسماعيل- للعدنانيين سكان الحجاز مما يشغل في أذهان العرب حيزا كبيرا مما احتوى القرآن آيات عديدة في صدده مثل آيات سورة البقرة هذه : وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 129) وآيات سورة الحج هذه : وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) وهذه : وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78).
وفحوى الآيات يلهم بقوة أن سامعيها من العرب كانوا يعرفون كثيرا مما احتوته ونوهت به ويعتقدون به ، وهناك روايات كثيرة تؤيد ذلك .
وأسلوب آيات السورة ومضمونها ونظمها يسوّغ القول بأنها من السور التي نزلت جملة واحدة ، وأنها من أوائل ما نزل وأنها سبقت سور القلم والمزمل والمدثر ، أو على الأقل سبقت ما جاء بعد مطالع هذه السور إذا صحت روايات أولية نزول هذه المطالع ، وسبقت كذلك آيات سورة العلق التي جاءت بعد مطلعها. ولعلها نزلت بعد سورة الفاتحة ، أو بعد مطلع سورة العلق. ويلحظ أن إحدى آيات السورة احتوت تعبير (سنقرئك) وأن السورة بدئت بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتسبيح اسم ربه الأعلى ، مما فيه شيء من التجانس بينها وبين مطلع سورة العلق ، وعلى كل(1/504)
حال فهي من القسم الذي كانت تعنيه تسمية القرآن في بدء الدعوة مثل سورة الفاتحة ، والذي احتوى عرض أهداف الرسالة المحمدية والدعوة إليها على ما هو المتبادر ، واللّه أعلم. (1)
فذكّر . . وسينتفع بالذكرى { من يخشى } . . ذلك الذي يستشعر قلبه التقوى ، فيخشى غضب الله وعذابه . والقلب الحي يتوجس ويخشى ، مذ يعلم أن للوجود إلهاً خلق فسوى ، وقدر فهدى ، فلن يترك الناس سدى ، ولن يدعهم هملاً؛ وهو لا بد محاسبهم على الخير والشر ، ومجازيهم بالقسط والعدل . ومن ثم فهو يخشى . فإذا ذُكر ذكر ، وإذا بُصر أبصر ، وإذا وعظ اعتبر .
{ ويتجنبها الأشقى } . . يتجنب الذكرى ، فلا يسمع لها ولا يفيد منها . وهو إذن { الأشقى } الأشقى إطلاقاً وإجمالاً . الأشقى الذي تتمثل فيه غاية الشقوة ومنتهاها . الأشقى في الدنيا بروحه الخاوية الميتة الكثيفة الصفيقة ، التي لا تحس حقائق الوجود ، ولا تسمع شهادتها الصادقة ، ولا تتأثر بموحياتها العميقة . والذي يعيش قلقاً متكالباً على ما في الأرض كادحاً لهذا الشأن الصغير! والأشقى في الآخرة بعذابها الذي لا يعرف له مدى :{ الذي يصلى النار الكبرى . ثم لا يموت فيها ولا يحيا } . .
والنار الكبرى هي نار جهنم . الكبرى بشدتها ، والكبرى بمدتها ، والكبرى بضخامتها . . حيث يمتد بقاؤه فيها ويطول . فلا هو يموت فيجد طعم الراحة؛ ولا هو يحيا في أمن وراحة . إنما هو العذاب الخالد ، الذي يتطلع صاحبه إلى الموت كما يتطلع إلى الأمنية الكبرى!
وفي الصفحة المقابلة نجد النجاة والفلاح مع التطهر والتذكر :{ قد أفلح من تزكى . وذكر اسم ربه فصلى } . .
والتزكي : التطهر من كل رجس ودنس ، والله سبحانه يقرر أن هذا الذي تطهر وذكر اسم ربه ، فاستحضر في قلبه جلاله : { فصلى } . . إما بمعنى خشع وقنت . وإما بمعنى الصلاة الاصطلاحي ، فكلاهما يمكن أن ينشأ من التذكر واستحضار جلال الله في القلب ، والشعور بمهابته في الضمير . . هذا الذي تطهر وذكر وصلى { قد أفلح } يقينا . أفلح في دنياه ، فعاش موصولاً ، حي القلب ، شاعراً بحلاوة الذكر وإيناسه . وأفلح في أخراه ، فنجا من النار الكبرى ، وفاز بالنعيم والرضى . .
فأين عاقبة من عاقبة؟ وأين مصير من مصير؟
وفي ظل هذا المشهد . مشهد النار الكبرى للأشقى . والنجاة والفلاح لمن تزكى ، يعود بالمخاطبين إلى علة شقائهم ، ومنشأ غفلتهم ، وما يصرفهم عن التذكر والتطهر والنجاة والفلاح
__________
(1) - التفسير الحديث ، ج 1 ، ص : 518(1/505)
، ويذهب بهم إلى النار الكبرى والشقوة العظمى :{ بل تؤثرون الحياة الدنيا . والآخرة خير وأبقى } . .
إن إيثار الحياة الدنيا هو أساس كل بلوى . فعن هذا الإيثار ينشأ الإعراض عن الذكرى؛ لأنها تقتضيهم أن يحسبوا حساب الآخرة ويؤثروها . وهم يريدون الدنيا ، ويؤثرونها . .
وتسميتها { الدنيا } لا تجيء مصادفة . فهي الواطية الهابطة إلى جانب أنها الدانية : العاجلة : { والآخرة خير وأبقى } . . خير في نوعها ، وأبقى في أمدها .
وفي ظل هذه الحقيقة يبدو إيثار الدنيا على الآخرة حماقة وسوء تقدير . لا يقدم عليهما عاقل بصير .
وفي الختام تجيء الإشارة إلى قدم هذه الدعوة ، وعراقة منبتها ، وامتداد جذورها في شعاب الزمن ، وتوحد أصولها من وراء الزمان والمكان :{ إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى } . .
هذا الذي ورد في هذه السورة وهو يتضمن أصول العقيدة الكبرى . هذا الحق الأصيل العريق . هو الذي في الصحف الأولى . صحف إبراهيم وموسى .
ووحدة الحق ، ووحدة العقيدة ، هي الأمر الذي تقتضيه وحدة الجهة التي صدر عنها . ووحدة المشيئة التي اقتضت بعثة الرسل إلى البشر . . إنه حق واحد ، يرجع إلى أصل واحد . تختلف جزئياته وتفصيلاته باختلاف الحاجات المتجددة ، والأطوار المتعاقبة . ولكنها تلتقي عند ذلك الأصل الواحد . الصادر من مصدر واحد . . من ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- المطلوب تذكير الناس وموعظتهم ، سواء نفعت الذكرى أم لم تنفع ، ولكنها في النهاية لا تنفع إلا المؤمنين الذين يخشون اللَّه ربهم ، قال الحسن البصري : الذكرى تذكرة للمؤمن ، وحجة على الكافر. وقال الجرجاني : التذكير واجب وإن لم ينفع.
2- يتجنب الذكرى عادة ويبعد عنها الشقي في علم اللَّه الكافر ، الذي يصلى ويدخل النار الكبرى ، أي العظمى ،وهي السفلى من أطباق النار ، أو أن نار جهنم هي الكبرى ، والصغرى نار الدنيا.
وإذا دخلها الكافر خلّد فيها إلى الأبد ، فلا يموت فيستريح من العذاب ، ولا يحيا حياة تنفعه..
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3894)(1/506)
3- قد نجا وفاز كل من تطهر من الشرك بالإيمان ، وجنّب نفسه رذائل الأخلاق ، وعمل بما يرضي ربه من الأعمال الصالحات ، وذكر ربه بلسانه وقلبه فصلى الفرائض.
4- يؤثر بعض الناس أو أغلبهم الدنيا ، ويترك الاستعداد للآخرة ، والآية : بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى إشارة إلى الزجر عن الالتفات إلى الدنيا ، والترغيب في الآخرة وفي ثواب اللَّه تعالى ، وهذه أمور لا يجوز أن تختلف باختلاف الشرائع..
5- الشرائع الإلهية متفقة في أصولها الاعتقادية والأخلاقية وتوجيه العبادة الخالصة للَّه عز وجل ، وهذه نماذج من وحدة الشرائع : وجوب تزكية النفس وتطهيرها من الشرك والكفر ودنس الرذائل ، ووجوب التذكر الدائم للَّه عز وجل وإقامة الصلوات المفروضة في أوقاتها ، وضرورة الاستعداد للآخرة وإيثار ثوابها على ملذات الدنيا الفانية.
بل إن ما في السورة كله من التوحيد والنبوة والوعد والوعيد كان ثابتا في صحف الأنبياء الأقدمين لأنها قواعد كلية لا تتغير بتغير الأزمان..
6- ما في السورة كلها من التوحيد والنبوة والوعد والوعيد كان ثابتا في صحف الأنبياء الأقدمين لأنها قواعد كلية لا تتغير بتغير الأزمان.
7- احتج بعض العلماء بقوله تعالى : وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى على أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسماء اللَّه عز وجل ، والمسألة خلافية بين الفقهاء.
واحتجوا بها أيضا على وجوب تكبيرة الافتتاح ،واحتج أبو حنيفة رحمه اللَّه بالآية على أن تكبيرة الافتتاح ليست من الصلاة لأن الصلاة معطوفة عليها ،والعطف يستدعي المغايرة. وأجيب بما روي عن ابن عباس : أن المراد ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه ، فصلى له.
- - - - - - - - - - -(1/507)
سورة الغاشية
مكيّة ، وهي ست وعشرون آية
تسميتها :
سميت سورة الغاشية ،لافتتاحها بقوله تعالى : هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ والغاشية : من أسماء يوم القيامة ، وهي الداهية التي تغشى الناس بأهوالها ، والاستفهام للتهويل وتفخيم شأنها.
قال ابن عاشور : " سميت في المصاحف والتفاسير "سورة الغاشية". وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من "جامعه"، لوقوع لفظ {الْغَاشِيَةِ} في أولها.
وثبت في السنة تسميتها {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ، ففي "الموطأ" أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير بم كان رسول الله يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة? قال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . وهذا ظاهر في التسمية لأن السائل سأل عما يقرأ مع سورة الجمعة فالمسؤول عنه السورة الثانية، وبذلك عنونها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه".
وربما سميت "سورة هل أتاك" بدون كلمة {حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . وبذلك عنونها ابن عطية في "تفسيره" وهو اختصار.
وهي مكية بالاتفاق.وهي معدودة السابعة والستين في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الذاريات وقبل سورة الكهف. وآياتها ست وعشرون.
أغراضها
اشتملت هذه السورة على تهويل يوم القيامة وما فيه من العقاب قوم مشوهة حالتهم، ومن ثواب قوم ناعمة حالتهم وعلى وجه الإجمال المرهب أو المرغب.
والإيماء إلى ما يبين ذلك الإجمال كله بالإنكار على قوم لم يهتدوا بدلالة مخلوقات من خلق الله وهي نصب أعينهم، على تفرده بالإلهية فيعلم السامعون أن الفريق المهدد هم المشركون.
وعلى إمكان إعادته بعض مخلوقاته خلقا جديدا بعد الموت يوم البعث.
وتثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - على الدعوة إلى الإسلام وأن لا يعبأ بإعراضهم.
وأن وراءهم البعث فهم راجعون إلى الله فهو مجازيهم على كفرهم وإعراضهم. " (1)
مناسبتها لما قبلها :
هذه السورة تفصيل وتبسيط لما جاء في سورة الأعلى من أوصاف المؤمن والكافر والجنة والنار إجمالا ، فلما قال تعالى في الأعلى : سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى إلى قوله : وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الآيات : 10- 17] فصل ذلك في هذه السورة
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 260)(1/508)
بقوله : عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ، تَصْلى ناراً حامِيَةً .. [الآيات : 2- 7] ثم ذكر صفات وأحوال المؤمنين في الآيات : [8- 16]. ولما قال تعالى في الأعلى : وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى أبان صفة الجنة في الآيات السابقة أكثر من صفة النار ، تحقيقا لمعنى الخيرية.
ما اشتملت عليه السورة :
* سورة الغاشية مكية ، وقد تناولت موضوعين أساسيين وهما :
1 - القيامة وأحوالها وأهوالها ، وما يلقاه الكافر فيها من العناء والبلاء ، وما يلقاه المؤمن فيها من السعادة والهناء [ هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية الآيات
2 - الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين ، وقدرته الباهرة ، في خلق الإبل العجيبة والسماء البديعة ، والجبال المرتفعة ، والأرض الممتدة الواسعة ، وكلها شواهد على وحدانية الله وجلال سلطانه [ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت ] الآيات .
* وختمت السورة الكريمة بالتذكير برجوع الناس جميعا إلى الله سبحانه للحساب والجزاء (1) .
السورة فصلان متناظران ، أحدهما في الإنذار بيوم القيامة ووصف مصير وحالة المؤمنين والكفار فيه. وثانيهما في لفت نظر الناس إلى بعض مشاهد الخلق والكون الدالة على ربوبية اللّه وقدرته فيه معنى التنديد بالكفار مع بيان مهمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكونها للتبليغ والتذكير وليست لإكراه الناس.
وأسلوب السورة ومضمونها مما يسوغ القول إنها من السور التي نزلت دفعة واحدة. (2)
ختمت سورة « الأعلى » بالحديث عن الآخرة ، وعن أنها الحياة الخالدة الباقية ، التي تستحق أن يعمل الإنسان لها ، ويؤثرها على الدنيا ، إيثار الحقّ على الباطل ، والعظيم على الحقير ، والباقي على الفاني .. ولكن حب الدنيا قد غلب على أكثر الناس ، فصرفوا همهم كله إلى الدنيا ، ولم يعطوا الحياة الآخرة شيئا من وجودهم ، فجاءوا إلى يوم القيامة ، مفلسين معدمين ، ليس فى أيديهم زاد لها ، بل كل ما يحملون هو أوزار وآثام ، وضلالات .. فكان الحديث عن الغاشية ، وهى القيامة ، وعن أهوالها ، تذكيرا للناس بها ، وتنبيها لهم إلى ما يلقى المجرمون فيها من عذاب ونكال .. (3)
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 482)
(2) - التفسير الحديث ، ج 5 ، ص : 45
(3) - التفسير القرآني للقرآن ، ج 16 ، ص : 1537(1/509)
هذه السورة واحدة من الإيقاعات العميقة الهادئة . الباعثة إلى التأمل والتدبر ، وإلى الرجاء والتطلع ، وإلى المخافة والتوجس ، وإلى عمل الحساب ليوم الحساب!
وهي تطوّف بالقلب البشري في مجالين هائلين : مجال الآخرة وعالمها الواسع ، ومشاهدها المؤثرة . ومجال الوجود العريض المكشوف للنظر ، وآيات الله المبثوثة في خلائقه المعروضة للجميع . ثم تذكرهم بعد هاتين الجولتين بحساب الآخرة ، وسيطرة الله ، وحتمية الرجوع إليه في نهاية المطاف . . كل ذلك في أسلوب عميق الإيقاع ، هادئ ، ولكنه نافذ . رصين ولكنه رهيب! (1)
فضلها :
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ ، وَفِي الْجُمُعَةِ بـ : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ، وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدَانِ فِي يَوْمٍ قَرَأَ بِهِمَا فِيهِمَا." مصنف ابن أبي شيبة (2) .
وعَنْ سَمُرَةََ ، قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ بـ : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَ {هَلْ أَتَاك حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. مصنف ابن أبي شيبة (3)
وعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ ، سَأَلَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ : بِمَ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ مَعَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ ؟ قَالَ : {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. مسند أحمد (4) .
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3895)
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (14 / 264) (37627) صحيح
(3) - مصنف ابن أبي شيبة - (14 / 265) (37629) صحيح
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 279) (18381) 18571 و"مسلم"3/16(1985)(1/510)
هول القيامة وأحوال أهل النار
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... الغَاشِيَةِ ... القيامة ، تغشي الناس وتعميهم
2 ... خَاشِعَةٌ ... ذليلة
3 ... عَامِلَةٌ ... عملت بالمعاصي
3 ... نَاصِبَةٌ ... تعبة بالأغلال وشاق الأعمال يوم القيامة
4 ... تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ... تلفحها نار شديدة الحرارة
5 ... عَيْنٍ آنِيَةٍ ... عين بلغت غايتها في الحرارة
6 ... ضَرِيعٍ ... شجرة ذات شوك لاطئه بالأرض وهو من شجر النار
7 ... لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ... لا يدفع جوعا
المعنى الإجمالي:
هل سمعت قصة ذلك اليوم العظيم ؟! إنه يوم يغشى الناس بالعذاب ، ويغشى فيه وجوههم النار ، يوم يفترق فيه الناس إلى الفريقين ، فريق وجوهه يغشاها العذاب خاشعة ذليلة مما رأته من الإهانة والذل وقد كانت في الدنيا تعمل وتتعب ، ولكنها لم تأخذ شيئا وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ثم هي تقاسى النار وحرها بما قدمت من سيّئ الأعمال ، وهي تسقى من عين شديدة الحرارة ، إذا عطشت ، حتى إذا خوت بطونهم وأحسوا بالجوع والحرمان جيء لهم بطعام من ضريع ، لا يسمن لحما ، ولا يدفع جوعا ، فلا غناء فيه ولا فائدة.وقانا اللّه شرها - فهي فوق ما يتصور العقل ، نار وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين. (1)
التفسير والبيان :
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ؟ أي هل بلغك يا محمد حديث القيامة وعلمت خبره ، وسميت غاشية : لأنها تغشى الخلائق بأهوالها وأفزاعها ، والمراد : لم يأتك سابقا حديث هذه الداهية ، وقد أتاك الآن فاستمع ، فلا يراد من التعبير حقيقة الاستفهام ، وإنما يراد منه تشويق السامع إلى استماعه ، وتعجيبه مما سيذكر بعده. والمعنى : قد جاءك يا محمد حديث الغاشية.
__________
(1) - التفسير الواضح ، ج 3 ، ص : 858(1/511)
ثم ذكر أحوال الناس فيه وانقسامهم إلى فريقين : أشقياء وسعداء ، وبدأ بوصف الأشقياء لأن مبني السورة على التخويف ، كما ينبئ عنه لفظ الغاشية ، فقال : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ، عامِلَةٌ ناصِبَةٌ أي أصحاب وجوه ، والمراد بالوجه الذات ، أي أصحابها ، وأصحاب الوجوه وهم الكفار ، تكون في ذلك اليوم ذليلة خاضعة لما هي فيه من العذاب ، ونسب الخشوع والذل إلى الوجوه لأن أثره يظهر عليها ، ونظير ذلك قوله تعالى : وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [السجدة 32/ 12] وقوله : وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ ، يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى 42/ 45].
وقد كان أصحابها في الدنيا يعملون عملا كثيرا ، ويتعبون أنفسهم في العبادة ، ولا أجر لهم عليها لما هم عليه من الكفر والضلال والإيمان باللَّه تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - شرط قبول الأعمال. والآية في القسّيسين وعبّاد الأوثان وكل مجتهد نشط في كفره (1) .
ثم ذكر جزاء هؤلاء في يوم القيامة : تَصْلى ناراً حامِيَةً ، تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ، لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ أي تدخل تلك الوجوه نارا شديدة الحرارة ، وتقاسي حرها ، وتعذب بها ، لخسارة أعمالها ، وتسقى إذا عطشوا من ماء عين أي ينبوع ، آنية ، أي متناهية في حرها ، فهي لا تطفئ لهم عطشا.
وليس لهم طعام يتغذون به إلا الضريع : وهو شوك يابس شديد المرارة والضر ، يقال له في لغة أهل الحجاز الشّبرق إذا كان رطبا ، فإذا يبس فهو الضريع ، وهو سم ، وشر الطعام ، وأبشعه وأخبثه.
ولا يحصل به مقصود ولا يندفع به محذور ، فلا يسمن آكله ، ولا يدفع عنه الجوع. وإنما قدم المشروب على الضريع المطعوم لأن الماء لأهل النار أهم ، ويغلب عليهم العطش إذا أثر فيهم حر النار.
وهناك طعام آخر لأهل النار وهو الغسلين والزقّوم ، قال تعالى : وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة 69/ 36] وقال : إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان 44/ 43- 44].
عن أبي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ ، يَقُولُ : مَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِدَيْرِ رَاهِبٍ فَنَادَاهُ : يَا رَاهِبُ يَا رَاهِبُ . قَالَ : فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ فَجَعَلَ عُمَرُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَبْكِي ، قَالَ : فَقِيلَ لَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا يُبْكِيكَ مِنْ هَذَا ؟ قَالَ : " ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ : عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ فَذَلِكَ الَّذِي أَبْكَانِي " (2) .
__________
(1) - البحر المحيط : 8/ 462
(2) - الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (3886 ) فيه انقطاع(1/512)
وقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَفْصٍ الْقُرَشِيُّ ، قَالَ : بَعَثَ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْمُنْكَدِرِ بِمَالٍ ، فَجَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَجَعَلَ عُمَرُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَبْكِي , ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ ، فَلَمَّا رَأَى عُمَرَ يَبْكِي ، جَلَسَ يَبْكِي لِبُكَائِهِ , ثُمَّ جَاءَ مُحَمَّدٌ ، فَجَلَسَ يَبْكِي لِبُكَائِهِمَا , فَاشْتَدَّ بُكَاؤُهُمْ جَمِيعًا . فَبَكَى الرَّسُولُ أَيْضًا لِبُكَائِهِمْ , ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِهِ ، فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ , فَأَرْسَلَ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَسْتَعْلِمُ عِلْمَ ذَلِكَ الْبُكَاءِ , فَجَاءَ رَبِيعَةُ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِمُحَمَّدٍ ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ : سَلْهُ ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِبُكَائِهِ مِنِّي . فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ رَبِيعَةُ ، فَقَالَ : يَا أَخِي مَا الَّذِي أَبْكَاكَ مِنْ صِلَةِ الْأَمِيرِ لَكَ ؟ قَالَ : إِنِّي وَاللَّهِ خَشِيتُ أَنْ تَغْلِبَ الدُّنْيَا عَلَى قَلْبِي , فَلَا يَكُونَ لِلْآخِرَةِ فِيهِ نَصِيبٌ ، فَذَاكَ الَّذِي أَبْكَانِي . قَالَ : فَأَمَرَ بِالْمَالِ ، فَتُصُدِّقَ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ , فَجَاءَ رَبِيعَةُ ، فَأَخْبَرَ الْأَمِيرَ بِذَلِكَ ، فَبَكَى وَقَالَ : هَكَذَا وَاللَّهِ يَكُونُ الْخَيْرُ " (1)
ومضات :
{ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } قال القاشاني : أي : تعمل دائباً أعمالاً صعبة تتعب فيها ، كالهوي في دركات النار ، والارتقاء في عقباتها ، وحمل مشاق الصور والهيئات المتعبة المثقلة من آثار أعمالها . أو عاملة من استعمال الزبانية إياها في أعمال شاقة فادحة من جنس أعمالها التي ضريت بها في الدنيا ، وأتعابها فيها من غير منفعة لهم منها إلا التعب والعذاب . وجوز أن يكون { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } إشارة إلى عملهم في الدنيا ، أي : عملت ونصبت في أعمال لا تجدي عليها في الآخرة . فيكون بمنزلة حابطة أعمالها . أو جعلت أعمالها هباءً منثوراً كما يدل عليه آيات أخر ، ويؤيده مقابلة هذه الآية ، لقوله في أهل الجنة { لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } وذلك السعي هو الذي كان في الدنيا . والله أعلم (2)
ابتدأت آيات السورة بسؤال موجه إلى المخاطب السامع أو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه معنى التنبيه والاسترعاء وتعظيم الأمر المسئول عنه عما إذا كان قد علم ما سوف يكون في يوم القيامة الذي يدهم الناس. وبدء السورة بالسؤال مما جرى عليه النظم في مطالع سور عديدة مرّت أمثلة منه.
ثم أخذت الآيات تصف حالة الناس في ذلك اليوم : فهناك وجوه يظهر عليها الذل والهوان والتعب والإجهاد تلفحها النار الحامية ولا يكون لأصحابها إلا الماء الشديد الحرارة شرابا ، وإلّا الضريع وأمثاله من النباتات التي تعافها الحيوانات طعاما لا تسمن ولا تغني من جوع. وهناك وجوه ناعمة وأثر السرور بالرفاه والرغد. قد رضي أصحابها عن سعيهم في الدنيا وتمتعوا بثوابه. فهم في الجنات العاليات ، لا يسمعون فيها لغو الكلام ورذله ، فيها العيون الجارية والأسرّة المنصوبة والأكواب الموضوعة والنمارق المصفوفة والزرابي المبثوثة.
__________
(1) - الرِّقَّةُ وَالْبُكَاءُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (62 )
(2) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 205)(1/513)
وواضح أن الآيات قد استهدفت التذكير بالآخرة والوعيد للكافرين والبشرى للمؤمنين والأوصاف مستمدة من مألوفات السامعين في الدنيا. لإثارة الخوف في الكافرين والغبطة في المؤمنين بما يعرفونه ويتأثرون به إقبالا وارتياحا ورغبة أو انقباضا واشمئزازا بالإضافة إلى حقيقة الآخرة الإيمانية.
ويلحظ هنا أيضا صور للحياة الأخروية مغايرة لصور أخرى في آيات أخرى ، ولقد علقنا على التباين والتنوع في هذه الصور بما رأينا فيه الكفاية في المناسبات المماثلة السابقة وبخاصة في سياق تفسير سورة فصلت فلا نرى ضرورة إلى إعادة أو زيادة.
هذا ، ويلحظ أن السور السابقة انتهت بإنذار الظالمين الكافرين باليوم الموعود وأن هذه السورة بدأت بوصف ما يكون الناس عليه في ذلك اليوم حيث يمكن أن يكون في ذلك قرينة على صحة ترتيب نزول هذه السورة بعد تلك. (1)
قوله تعالى : « هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ؟ » سؤال ، يراد به تشويق المسئول إلى المسئول عنه ، وإثارة الرغبة عنده فى التطلع إليه ، والبحث عن جواب له.
وما يكاد المسئول يبحث فى خاطره عن جواب هذا السؤال ، حتى يرد عليه الجواب من خارج ، فيلتقى مع ما تردد فى خاطره من أجوبة عليه .. فإذا كان ما وقع فى خاطره صحيحا ، التقى مع هذا الجواب الوارد عليه التقاء متمكنا ، وعانقه عناق الغائب المنتظر ، وإلا أخذ الجواب الصحيح ، وأقامه مقام مالم يصح من خواطره ، وتصوراته ..
والغاشية : ما يغشى الناس فى هذا اليوم ، من أهوال ، وما يطلع عليهم فيه من شدائد .. وأصله من الغشي ، وهو السطو والهجوم ..
« وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ، عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ».هذا هو مطلع حديث الغاشية ، وهذا هو الجواب على السؤال عنها .. إن ما تحدّث به الغاشية عن نفسها ليس كلاما ، وإنما هو أفعال وأحداث .. ومن أحداثها ، تلك الوجوه الخاشعة .. وخشوعها هو خشوع ذلة ، وضراعة ، ومهانة ، وليس خشوع تقوى وتوقير وإجلال .. فللذل خشوع انكسار ، وامتهان ، تموت معه العواطف ، والمشاعر ، كما يقول تعالى فى أصحاب النار : « وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ».وفى قوله تعالى : « عامِلَةٌ ناصِبَةٌ » ـ إشارة إلى هذا الرهق الذي غشى تلك الوجوه الخاشعة ، لأن أصحابها فى نصب دائم ، وعمل مضن لا ينقطع ، من موقفهم موقف المساءلة ، والحساب ، وعرض مخازيهم عليهم ، إلى وضع الأغلال فى أعناقهم ، إلى
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 46)(1/514)
سحبهم على وجوههم فى جهنم ، إلى صرخات الويل والثبور التي تملأ الآفاق من حولهم ، فكل هذا وكثير غيره من الأهوال ، تنطبع على وجوههم آثاره ، قتاما وعبوسا ، ورهقا ..
وقوله تعالى : « تَصْلى ناراً حامِيَةً. تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ».هو صفة لهذه الوجوه ، وما يرد عليها من مساءات .. إنها « تَصْلى ناراً حامِيَةً »
أي تعذب بنار حامية .. وفى وصف النار بأنها حامية ، إشارة إلى أنها نار ذات صفة خاصة ، على خلاف المعهود من نار الدنيا .. فكل نار ، حامية ، وهذا الوصف الوارد على النار ، يعطى وصفا جديدا لها.
وهذه الوجوه أيضا ، تسقى من ماء حار ، يغلى فى البطون كغلى الحميم.وإسناد هذه الأفعال إلى الوجوه ، لأن الوجوه ، هى عنوان الذات الإنسانية ، وهى وحدها التي تحدّث عن ذات الإنسان ، وتدل عليه .. فالناس يتشابهون أجسادا ، ولكن الذي يفرق بين إنسان وإنسان هو الوجه الذي يجعل لكل إنسان صورته التي يعرف بها بين الناس .. إن الوجه هو الذات الإنسانية بكل مشخصاتها ومقوماتها ، ولهذا كان له هذا الشأن فى موقف الحساب والجزاء ، وما يلقى الإنسان هناك من نعيم أو عذاب ، إن كل صور العذاب والآلام تنطبع عليه ..
قوله تعالى : َيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ »..
عدل هنا عن الحديث إلى الوجوه ، واتّجه به إلى أصحابها ، لأن الطعام لا يساق إلى الوجوه وإنما يساق إلى البطون ، ثم تنطبع آثاره على الوجوه ..
وفى هذا ما يعطى كل جزء من أجزاء الجسد نصيبه من هذا العذاب. فالعذاب الذي يقع على جزء من الجسد ، يشيع فى الجسد كله ، فإذا كان كل جزء من الجسد واقعا تحت لون من ألوان العذاب يتناسب مع طبيعته ، كان ذلك أنكى وآلم ، حيث يتحول الإنسان تحت وطأة هذا العذاب إلى طاقات كثيرة متعددة ، يصبّ فيها العذاب الذي يحتوى كل ذرة فيها ، ولعل هذا من بعض ما يشير إليه قوله تعالى : « يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ » (69 : الفرقات).والضريع ، كما يدل عليه لفظه ، طعام غثّ ردىء ، لا تتولد عنه إلا الضراعة ، والذلة ، والمهانة ..وقد اختلف المفسّرون فى معنى « الضريع » والفصيلة الذي ينتمى إليه من فصائل النبات .. وقال كل ذى رأى برأيه فيه ، وتكاف له التأويل والتخريج ..
والرأى ـ واللّه أعلم ـ أنه من طعام أهل النار ، لا يعرف له شبيه فى الحياة الدنيا ، ولهذا وصفه اللّه سبحانه بأنه « لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ » أي أنه لا تتقبله الأجسام ، ولا تتفاعل معه ، كما أنه لا يشبع جوع الجياع ..(1/515)
ولو كان معروفا عند العرب ، لما وصف هذا الوصف الكاشف!. (1)
(هل أتاك حديث الغاشية ?) . . ثم يعرض شيئا من حديث الغاشية:
(وجوه يومئذ خاشعة . عاملة ناصبة . تصلى نارا حامية . تسقى من عين آنية . ليس لهم طعام إلا من ضريع . لا يسمن ولا يغني من جوع) . .
إنه يعجل بمشهد العذاب قبل مشهد النعيم ; فهو أقرب إلى جو(الغاشية) وظلها . . فهناك:يومئذ وجوه خاشعة ذليلة متعبة مرهقة ; عملت ونصبت فلم تحمد العمل ولم ترض العاقبة , ولم تجد إلا الوبال والخسارة , فزادت مضضا وإرهاقا وتعبا , فهي:(عاملة ناصبة) . . عملت لغير الله , ونصبت في غير سبيله . عملت لنفسها وأولادها . وتعبت لدنياها ولأطماعها . ثم وجدت عاقبة العمل والكد . وجدته في الدنيا شقوة لغير زاد . ووجدته في الآخرة سوادا يؤدي إلى العذاب . وهي تواجه النهاية مواجهة الذليل المرهق المتعوس الخائب الرجاء !
ومع هذا الذل والرهق العذاب والألم:(تصلى نارا حامية) وتذوقها وتعانيها .
(تسقى من عين آنية) . . حارة بالغة الحرارة . . (ليس لها طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع) . . والضريع قيل:شجر من نار في جهنم . استنادا إلى ما ورد عن شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم . وقيل:نوع من الشوك اللاطئ بالأرض , ترعاه الإبل وهو أخضر , ويسمى "الشبرق" فإذا جني صار اسمه "الضريع" ولم تستطع الإبل مذاقه فهو عندئذ سام ! فهذا أو ذاك هو لون من ألوان الطعام يومئذ مع الغسلين والغساق وباقي هذه الألوان التي لا تسمن ولا تغني من جوع !
وواضح أننا لا نملك في الدنيا أن ندرك طبيعة هذا العذاب في الآخرة . إنما تجيء هذه الأوصاف لتلمس في حسنا البشري أقصى ما يملك تصوره من الألم , الذي يتجمع من الذل والوهن والخيبة ومن لسع النار الحامية , ومن التبرد والارتواء بالماء الشديد الحرارة ! والتغذي بالطعام الذي لا تقوى الإبل على تذوقه , وهو شوك لا نقع فيه ولا غناء . . من مجموعة هذه التصورات يتجمع في حسنا إدراك لأقصى درجات الألم . وعذاب الآخرة بعد ذلك أشد . وطبيعة لا يتذوقها إلا من يذوقها والعياذ بالله ! (2)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- القيامة يوم رهيب ، يغشى الناس فيه غاشية شديدة من الأهوال والمخاوف.
2- تكون وجوه الكفار في ذلك اليوم ذليلة بالعذاب ، خاضعة للعقاب ، وقد كان أصحابها في الدنيا يعملون ويتعبون أنفسهم لأن الآخرة ليست دار عمل ، مثل عبدة الأوثان وأصحاب
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1537)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3896)(1/516)
الصوامع والرهبان وغيرهم ، خشعت وجوههم للَّه ، وعملت ونصبت في أعمالها من غير نفع لهم في الآخرة لأن أعمالهم مبنية على غير أساس من الدين الحنيفي القائم على التوحيد الخالص والإخلاص الكامل للَّه عز وجل ، واللَّه تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا له ، قال تعالى واصفا عمل هؤلاء : قُلْ : هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا : الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ، أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ ، فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ، فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ، ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا ، وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً [الكهف 18/ 103- 106]..
3- ومكانهم هو النار الشديدة الحر ، ومشروبهم هو مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أي من ينبوع ماء متناه في الحرارة ، ومطعومهم الضريع الذي لا يسمن آكله ، ولا يدفع الجوع عنه. جاء في الخبر عن ابن عباس : (الضريع : شيء يكون في النار يشبه الشّوك ، أمرّ من الصبر ، وأنتن من الجيفة ، وأشد حرّا من النار) (1) .
وقال العلماء : إن للنار دركات ، وأهلها على طبقات فمنهم من طعامه الزّقوم ، ومنهم من طعامه غسلين ، ومنهم من طعامه ضريع ، ومنهم من شرابه الحميم ، ومنهم من شرابه الصّديد : لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر 15/ 44]. ووجود النبت في النار ليس ببدع من قدرة اللَّه ، كوجود بدن الإنسان والعقارب والحيات فيها.
قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية : لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ قال المشركون على سبيل التعنت : إن إبلنا لتسمن بالضّريع ، فنزلت : لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ أي ليس فيه منفعة الغذاء ، ولا الاسمان ودفع الجوع.
وهذا دليل على أن طعامهم ليس من جنس طعام الإنس ، ولكن من جنس الشوك الذي ترعاه الإبل ما دام رطبا ، فإذا يبس ، نفرت عنه لأنه سم قاتل.
ودليل أيضا على تكذيب اللَّه لهم في قولهم : « يسمن الضريع » .
4- إن وصف أحوال النار على النحو المذكور يستدعي الفرار منه ، وإبعاد النفس عن موجبات هذا العذاب ، من العقيدة الفاسدة ، والعمل الخاسر ، ولا عقيدة صحيحة إلا بتوحيد اللَّه والإيمان بالقرآن والرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولا عمل مقبول إلا على وفق ما جاء به الإسلام. ولا أقول هذا لأني مسلم ، وإنما هذا الذي صح دليله...
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - تفسير القرطبي : 20/ 30(1/517)
أحوال المؤمنين المخلصين أهل الجنة
قال تعالى :
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
المناسبة :
بعد بيان وعيد الكفار الأشقياء ، وبيان حالهم ومكانهم وطعامهم وشرابهم ، ذكر اللَّه تعالى أحوال المؤمنين السعداء ، وما وعدهم به ربهم ، واصفا ثوابهم وأهل الثواب ، ثم وصف دار الثواب ، لترغيب الناس بأعمالهم ، وتشويقهم لما يلاقونه من فضل ربهم.
المفردات :
8 ... نَاعِمَةٍ ... حسنة نضرة
9 ... لِسَعْيِهَا ... لعملها الصالحات
9 ... رَاضِيَةُ ... رضيت لما رأت من الثواب
11 ... لاغِيَةً ... كلمة قبيحة ، فاحشة ، باطلة ( لسان العرب )
11 ... لاتَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً ... قائلة لغوا ( غريب القرآن )
12 ... عَيْنٌ جَارِيَةٌ ... عيون الماء السارحة ( أنهار الجنة )
13 ... سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ... سرر عالية
14 ... أَكْوَابٌ ... أقداح
14 ... مَوْضُوعَةٌ ... معدة بين أيديهم
15 ... نَمَارِقُ ... الوسائد
16 ... زَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ... الطنافس ، البسط
16 ... مَبُْوثَةٌ ... مفروشة هنا وهناك مبسوطة
المعنى الإجمالي:
وأما الفريق الثاني ، فهو فريق أهل الجنة ، وجوه - يومئذ تدخلها ناعمة - ذات بهجة وحسن نادر ناضرة ، وهي - أى : أصحابها - لسعيها في الدنيا راضية ، فرحة مستبشرة لأنها أدت عملها ، وقامت بواجبها ، وهي في جنة عالية المكان والوصف أو عالية البناء والركن ، لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما ، بل هو الحديث العذب ، والفاكهة الحلوة ، التي لا عبث فيها ولا مجون.(1/518)
انظر إلى وصف أهل الجنة بالسرور والرضا عن أعمالهم في الدنيا ، وأنهم في جنة مرتفعة ، ثم هم لا يسمعون لغوا فيها ، كما نرى عند الأغنياء والمترفين ، في تلك الجنة العالية عيون لا ينقطع ماؤها ولا ينضب معينها. وفيها سرر مرفوعة قد أعدت للجلوس عليها أو النوم ، وفيها أكواب موضوعة لاستخدامها وتناول المشروب بها وفيها نمارق ووسائد قد صفت على الأرائك والمقاعد ، وفيها البسط الجميلة المنقوشة كالزرابى المبثوثة ، وفي الواقع فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون. (1)
التفسير والبيان :
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ ، لِسَعْيِها راضِيَةٌ أي ووجوه يوم القيامة ذات نعمة وبهجة ونضرة وحسن ، يعرف النعيم فيها ، أو متنعمة ، كما قال تعالى : تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين 83/ 24] وهي وجوه السعداء ، لما شاهدوا من عاقبة أمرهم ، وقبول عملهم ، فهي لعملها الذي عملته في الدنيا راضية ، أي رضيت عملها لأنها قد أعطيت من الأجر من أرضاها ، كما قال تعالى : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَرَضُوا عَنْهُ [البينة 98/ 8].
والخلاصة : أن اللَّه تعالى وصف أهل السعادة والثواب بوصفين :
أحدهما- في ظاهرهم وهو قوله : ناعِمَةٌ أي ذات بهجة وحسن ، أو متنعمة.
والثاني- في باطنهم وهو قوله : لِسَعْيِها راضِيَةٌ.
ثم وصف دار الثواب وهي الجنة بسبعة أوصاف :
1- 2- فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ، لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً أي إن أصحاب الوجوه الناعمة وهم المؤمنون السعداء في جنة رفيعة المكان ، بهية الوصف ، آمنة الغرفات لأن الجنة منازل ودرجات بعضها أعلى من بعض ، كما أن النار دركات بعضها أسفل من بعض.
ولا تسمع في كلام أهل الجنة كلمة لغو وهذيان لأنهم لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد اللَّه تعالى على ما رزقهم من النعيم الدائم ، ولأن الجنة منزل أحباب اللَّه ، ومنازل الصفاء لا تتعكر باللغو والكذب والبهتان ، كما قال تعالى : لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ [الطور 52/ 23] وقال : لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً [مريم 19/ 62] وقال : لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا : سَلاماً سَلاماً [الواقعة 56/ 25- 26].
3- 4- فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ ، فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ أي في الجنة ينبوع أو عين ماء تجري مياهها وتتدفق بأنواع الأشربة المستلذة الصافية ، وليس المراد بها عينا واحدة باعتبارها نكرة في سياق الإثبات ، وإنما هذا جنس ، يعني فيها عيون جاريات.
__________
(1) - التفسير الواضح ، ج 3 ، ص : 858(1/519)
وفيها أسرة عالية مفروشة بما هو ناعم الملمس ، كثيرة الفرش ، مرتفعة السّمك ، إذا جلس عليها المؤمن استمتع بها ورأى رياض الجنة ونعيمها ، كما قال تعالى : وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الواقعة 56/ 34].وفي ذلك غاية التشريف والتكريم.
5- 7- وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ ، وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ ، وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ أي وفيها أواني الشرب وأقداح الخمر غير المسكرة معدة مرصودة بين أيديها ، يشربون منها متى أرادوا ، وفيها ووسائد (مخدات) مصفوفة بعضها إلى بعض ، للجلوس عليها أو الاستناد إليها ، وفيها بسط مبسوطة في المجالس ، وطنافس (سجّاد) لها خمل رقيق ناعم ، مفرّقة في المجالس ، كثيرة ، تغري بالجلوس عليها ، ويستمتع الناظر إليها ، وفيها معاني الأبهة والفخامة.
ومضات :
قوله تعالى : « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً »..
وهذا من حديث الغاشية أيضا ..فإذا كان من معارض يومها ، وجوه خاشعة ، عاملة ، ناصبة ـ فإن من معارضها ، كذلك ، وجوه ناعمة ، لسعيها راضية ، فى جنة عالية ..
والوجوه الناعمة ، هى التي ترى عليها نضرة النعيم ، وبشاشة الرضوان ، فترقرق على صفحتها وضاءة البشاشة ، ويجرى فى أديمها رونق البهاء ، والصفا ..
ولم تعطف هذه الوجوه على ما قبلها ، مع أنها من حديث الغاشية ، ليكون ذلك عزلا لها عن تلك الوجوه المنكرة ، العاملة ، الناصبة ، التي تصلى نارا حامية ..
فهذه وجوه ، وتلك وجوه ، ولا جامعة بينهما ، إذ فريق فى الجنة وفريق فى السعير ..
وقوله تعالى : « لسيعها راضية ».
. أي راضية لأجل سعيها الذي قدمته بين يديها .. فاللام هنا للتعليل ..وقوله تعالى : « فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ » حال من ضمير الوجوه فى قوله تعالى : « راضية ».
. والجنة العالية : أي عالية القدر ، عظيمة الشأن ..
وقوله تعالى : « لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً » صفة لهذه الجنة العالية ، التي علا مقامها وارتفع قدرها عن أن يطوف بها طائف من الهذر أو اللغو ..
واللاغية : الكلمة التي لا يعتد بها ، لإسفافها وسقوطها ..
وقوله تعالى : « فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ ». . وحيث كان الماء كانت الحياة ، وكان الخصب ، والخير ، وكانت البهجة والمسرة ..
قوله تعالى : « فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ »..
هو عرض لما فى هذه الجنة العالية من ألوان النعيم .. ففيها سرر مرفوعة ، أي عالية القدر ، وأكواب موضوعة ، أي معدة للشاربين ، وفيها « نَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ » أي وسائد ، قد صفّ(1/520)
بعضها إلى جانب بعض ، ليتكىء عليها الجالسون على هذا النعيم .. واحدتها نمرقة .. وفى هذه الجنة « زرابى مبثوثة » أي بسط متناثرة على أرض هذه الجنة ، كأنها النجوم .. (1)
فهنا وجوه يبدو فيها النعيم . ويفيض منها الرضى . وجوه تنعم بما تجد ، وتحمد ما عملت . فوجدت عقباه خيراً ، وتستمتع بهذا الشعور الروحي الرفيع . شعور الرضى عن عملها حين ترى رضى الله عنها . وليس أروح للقلب من أن يطمئن إلى الخير ويرضى عاقبته ، ثم يراها ممثلة في رضى الله الكريم . وفي النعيم . ومن ثم يقدم القرآن هذا اللون من السعادة على ما في الجنة من رخاء ومتاع ، ثم يصف الجنة ومناعمها المتاحة لهؤلاء السعداء :{ في جنة عالية } . . عالية في ذاتها رفيعة مجيدة . ثم هي عالية الدرجات . وعالية المقامات . وللعلو في الحس إيقاع خاص .
{ لا تسمع فيها لاغية } . . ويطلق هذا التعبير جواً من السكون والهدوء والسلام والاطمئنان والود والرضى والنجاء والسمر بين الأحباء والأوداء ، والتنزه والارتفاع عن كل كلمة لاغية ، لا خير فيها ولا عافية . . وهذه وحدها نعيم . وهذه وحدها سعادة . سعادة تتبين حين يستحضر الحس هذه الحياة الدنيا ، وما فيها من لغو وجدل وصراع وزحام ولجاج وخصام وقرقعة وفرقعة . وضجة وصخب ، وهرج ومرج . ثم يستسلم بعد ذلك لتصور الهدوء والأمن والسلام الساكن والود الرضي والظل الندي في العبارة الموحية : { لا تسمع فيها لاغية } وألفاظها ذاتها تنسم الروح والندى وتنزلق في نعومة ويسر ، وفي إيقاع موسيقي ندي رخي! وتوحي هذه اللمسة بأن حياة المؤمنين في الأرض وهم ينأون عن الجدل واللغو ، هي طرف من حياة الجنة ، يتهيأون بها لذلك النعيم الكريم .
وهكذا يقدم الله من صفة الجنة هذا المعنى الرفيع الكريم الوضيء . ثم تجيء المناعم التي تشبع الحس والحواس . تجيء في الصورة التي يملك البشر تصورها . وهي في الجنة مكيفة وفق ما ترتقي إليه نفوس أهل الجنة . مما لا يعرفه إلا من يذوقه!
{ فيها عين جارية } . . والعين الجارية : الينبوع المتدفق . وهو يجمع إلى الري الجمال . جمال الحركة والتدفق والجريان . والماء الجاري يجاوب الحس بالحيوية وبالروح التي تنتفض وتنبض! وهو متعة للنظر والنفس من هذا الجانب الخفي ، الذي يتسرب إلى أعماق الحس .
{ فيها سرر مرفوعة } . . والارتفاع يوحي بالنظافة كما يوحي بالطهارة . . { وأكواب موضوعة } . . مصفوفة مهيأة للشراب لا تحتاج إلى طلب ولا إعداد { ونمارق مصفوفة } . .
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1540)(1/521)
والنمارق الوسائد والحشايا للاتكاء في ارتياح! { وزرابي مبثوثة } . . والزرابي البسط ذات الخمل « السجاجيد » مبثوثة هنا وهناك للزينة وللراحة سواء!
وكلها مناعم مما يشهد الناس له أشباها في الأرض . وتذكر هذه الأشياء لتقريبها إلى مدارك أهل الأرض . أما طبيعتها وطبيعة المتاع بها فهي موكولة إلى المذاق هناك . للسعداء الذين يقسم الله لهم هذا المذاق!
ومن اللغو الدخول في موازنات أو تحقيقات حول طبيعة النعيم أو طبيعة العذاب في الآخرة . فإدراك طبيعة شيء ما متوقف على نوع هذا الإدراك . وأهل الأرض يدركون بحس مقيد بظروف هذه الأرض وطبيعة الحياة فيها . فإذا كانوا هناك رفعت الحجب وأزيلت الحواجز وانطلقت الأرواح والمدارك ، وتغيرت مدلولات الألفاظ ذاتها بحكم تغير مذاقها ، وكان ما سيكون ، مما لا نملك أن ندرك الآن كيف يكون!
إنما نفيد من هذه الأوصاف أن يستحضر أقصى ما يطيقه من صور اللذاذة والحلاوة والمتاع . وهو ما نملك تذوقه ما دمنا هنا . حتى نعرف حقيقته هناك.حين يكرمنا الله بفضله ورضاه . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- وصف اللَّه تعالى أهل السعادة والثواب ، ودار الثواب بأوصاف جميلة رائعة الجمال والمتعة ، لإغراء الناس بها وترغيبهم في الحصول عليها إذا عملوا عمل أصحابها المستحقين لها.
أما أهل الثواب فلهم صفتان : ظاهرية وباطنية ، فوجوه المؤمنين ذات نعمة وبهجة ونضرة ، ولعملها الذي عملته في الدنيا راضية في الآخرة ، حيث أعطيت الجنة بعملها.
وأما دار الثواب فلها صفات سبع كما تقدم :
الأولى- في جنة عالية ، أي مرتفعة ، وعالية القدر لأن فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
الثانية- لا تسمع فيها كلاما ساقطا غير مرضي ، ولا تسمع فيها كلمة لغو.
الثالثة- فيها عين شراب جارية على وجه الأرض ، من غير أخدود ، وتجري لهم كلما أرادوا ، بماء مندفق وبأنواع الأشربة اللذيذة من خمر وعسل ولبن.
الرابعة- فيها سرر عالية المكان ، مرتفعة السماء.
الخامسة- فيها أكواب ، أي كيزان لا عرى لها ، أو أباريق وأوان ، والإبريق : هو ما له عروة وخرطوم ، والكوب : إناء ليس له عروة ولا خرطوم.
السادسة- فيها نمارق ، أي وسائد مصفوفة واحدة إلى جنب الأخرى.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3897)(1/522)
السابعة- فيها البسط المبسوطة ، والطنافس التي لها خمل رقيق ، والكثيرة المتفرقة في المجالس.
2- الجنة عالية ، أي مرتفعة ، وعالية القدر لأن فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
3- الجنة لا تسمع فيها كلاما ساقطا غير مرضي ، ولا تسمع فيها كلمة لغو.
4-- الجنة فيها عين شراب جارية على وجه الأرض ، من غير أخدود ، وتجري لهم كلما أرادوا ، بماء متدفق وبأنواع الأشربة اللذيذة من خمر وعسل ولبن.
5- في الجنة ما عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
- - - - - - - - - - -(1/523)
إثبات قدرة اللَّه تعالى على البعث
قال تعالى :
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
أسباب نزول الآية 17 أفلا ينظرون إلى الإبل :
عَنْ قَتَادَةَ ، قَالَ : " لَمَّا نَعَتَ اللَّهُ مَا فِي الْجَنَّةِ ، عَجِبَ مِنْ ذَلِكَ أَهْلُ الضَّلَالَةِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ فَكَانَتِ الْإِبِلُ مِنْ عَيْشِ الْعَرَبِ وَمِنْ خَوَلِهِمْ " (1)
المناسبة :
بعد أن حكم اللَّه تعالى بمجيء يوم القيامة ، وقسم الناس فيها إلى فريقين :
أشقياء وسعداء ، وو صف أحوال الفريقين ، أقام الدليل على وجوده ووحدانيته و قدرته بما يشاهدونه من آثار القدرة من السماء العالية ، والأرض التي يسكنون فيها ، والإبل التي ينتفعون بها في نقل الأحمال والانتفاع بلحومها وأوبارها وألبانها ، والجبال الراسيات التي ترشد السالكين ، فيستدلون بذلك على قدرته تعالى على بعث الأجساد والمعاد وصحة عقيدة التوحيد.
ثم أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يذكّرهم بهذه الأدلة والبراهين وأمثالها ، لينظروا فيها ، وليصبر على معارضتهم ، فإنما بعث لذلك دون غيره.
المفردات :
17 ... أَفَلا يَنْظُُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيفَ خُلِقَتْ ... أفلا يعتبرون بخلق الإبل
18 ... وَإلى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ... رفعت السماء بغير أعمدة
19 ... وَإِلَى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ... الجبال نصبت نصبا ثابتا لا يتحرك
20 ... سُطِحَتْ ... بسطت
21 ... فَذَكِّرْ ... ذكر بنعم الله
22 ... بِمُسَيْطِرٍ ... بمسلط
25 ... إِيَابَهُم ... رجوعهم
المعنى الإجمالي:
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ(34372 ) صحيح مرسل(1/524)
بعد أن ذكر سبحانه مجىء يوم القيامة ، وبين أن الناس حينئذ صنفان أشقياء وسعداء وأن الأشقياء يكونون فى غاية الذل والهوان ، وأن السعداء يكونون يومئذ مستبشرين بادية على وجوههم علائم المسرة - أعقب هذا بإقامة الحجة على الجاحدين المنكرين لذلك ، وتوجيه أنظارهم إلى آثار قدرته فيما بين أيديهم ، وما يقع تحت أبصارهم من سماء تظلّ ، وأرض تقلّ ، وإبل ينتفعون بها فى حلّهم وترحالهم ، ويأكلون من لحومها وألبانها ويلبسون من أوبارها ، وجبال تهديهم فى تلك الفيافي والقفار.
أخرج عبد بن حميد فى آخرين عن قتادة قال : لما نعت اللّه تعالى ما فى الجنة تعجب من ذلك أهل الضلالة ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآيات. (1)
ولا عجب في هذا!! أنسوا فلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت إنها خلقت على شكل بديع يدل على أن خالقها عليم بها بصير ، أ رأيت إلى عنقها وطوله وإلى خفها وحافرها كيف أعد للسير في الصحراء وإلى معدتها وكيف وضعت على شكل يسهل معه حفظ الماء أياما ، أو لم ينظروا إلى السماء وما فيها كيف رفعت وعلقت في الهواء مع سرعة دورانها وشدة تجاذبها ، أو لم ينظروا إلى الجبال كيف نصبت كالأعلام يهتدى بها السارى ، ويلجأ إليها الخائف ، ويقصدها المتنزه والمصطاف ، أو لم ينظروا إلى الأرض كيف سطحت وبسطت ، ومهدت للعيش عليها ، أما جمع الإبل والسماء والجبال والأرض في سلك واحد فتلك هي أهم المرئيات عند العربي المخاطب بالقرآن الكريم ألا يدل ذلك كله على أنه قادر على كل شيء ، إذا كان الأمر كذلك فذكر يا محمد هؤلاء الناس ، واحملهم على النظر في ملكوت اللّه لعلهم يتفكرون ، ولا تأس عليهم ، إنما أنت مذكر فقط ، لست على قلوبهم مسيطرا ، إنما الذي يملك القلوب هو اللّه وحده ، فهو الذي يقدر على إلجائهم إلى الإيمان ، ولست عليهم مسلطا إلا من تولى وأعرض فسيسلطك اللّه عليه : أو المعنى : لست مستوليا عليهم لكن من تولى وأعرض فإن اللّه معذبه العذاب الأكبر ، لأن إليه إيابهم ، ثم إن عليه حسابهم. (2)
التفسير والبيان :
يأمر اللَّه تعالى عباده بالنظر في مخلوقاته الدالة على قدرته وعظمته ووجوده وتوحيده ، فيقول:
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ؟ أي كيف يصح للمشركين إنكار البعث والمعاد واستبعاد وقوع ذلك ، وهم يشاهدون الإبل التي هي غالب مواشيهم وأكبر المخلوقات في بيئتهم ، كيف خلقها اللَّه على هذا النحو البديع ، من عظم الجثة ، ومزيد القوة ، وبديع الأوصاف ، فهي خلق عجيب ، وتركيب غريب ، ومع ذلك تلين للحمل الثقيل ، وتنقاد للولد الصغير ، وتؤكل ، وينتفع
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 136)
(2) - التفسير الواضح ، ج 3 ، ص : 858(1/525)
بوبرها ، ويشرب لبنها ، وتصبر على الجوع والعطش. وبدأ تعالى التنبيه بها لأن غالب دواب العرب كانت الإبل ، وأيضا مرافق الإبل أكثر من مرافق الحيوانات الأخر فهي مأكولة ، ولبنها مشروب ، وتصلح للحمل والركوب ، وقطع المسافات البعيدة عليها ، والصبر على العطش ، وقلة العلف ، وكثرة الحمل ، وهي معظم أموال العرب.
وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وألا يشاهدون السماء كيف رفعت فوق الأرض بلا عمد؟ كما قال تعالى : أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ؟ [ق 50/ 6].
وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ أي جعلت منصوبة قائمة مرفوعة على الأرض ، فإنها ثابتة راسية لئلا تميد الأرض بأهلها ، والنظر إليها مبعث هيبة وتعجب ، ويستفيد من وجودها وتسلسلها السالكون في البراري والقفار ، والأعجب من هذا أن كثيرا من الينابيع المائية تنبع منها ، وفيها منافع كثيرة ومعادن وفيرة ، ويقتطع منها أحجار ضخمة ، ورخام ذو ألوان مختلفة بديعة.
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ كيف بسطت ومدّت ومهّدت ، ليستقر عليها ساكنوها ، وينتفعوا بما فيهامن خيرات ومعادن دفينة ، وما تخرجه من نباتات وزروع وأشجار متنوعة ، بها قوام الحياة والمعيشة.
وتسطيح الأرض إنما هو بالنسبة للناظر والمقيم عليها ، ولا يعني ذلك أنها ليست بكرة لأن الكرة - كما ذكر الرازي - إذا كانت في غاية العظمة يكون كل قطعة منها كالسطح (1)
وإنما ذكرت هذه المخلوقات دون غيرها لأنها أقرب الأشياء إلى الإنسان الناظر فيها ، فهو يشاهد صباح مساء بعيره ، ويرى السماء التي تظلله ، والجبال التي تجاوره ، والأرض التي تقلّه.
ثم أمر اللَّه نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالتذكير بهذه الأدلة ، فقال : فَذَكِّرْ ، إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ أي فذكر يا محمد الناس بما أرسلت به إليهم ، وعظهم وخوفهم ، والفت نظرهم إلى ضرورة التأمل بهذه الأدلة والبراهين وأمثالها الدالة على قدرة اللَّه على كل شيء ، ومنها البعث والمعاد ، وليس عليك إلا التذكير فقط ، فإنما بعثت لهذا الغرض ، ولا سلطان ولا سيطرة لك عليهم لحملهم على أن يؤمنوا باللَّه وبرسالتك ، ولجبرهم على ما تريد ، فإن آمنوا فقد اهتدوا ، وإن أعرضوا فقد ضلوا وكفروا ، كما قال سبحانه : فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد 13/ 40].
__________
(1) - التفسير الكبير : 31/ 157 - 158(1/526)
وقوله : لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ تأكيد لمهمة التذكير فقط ، وتقرير لها ، ونظير الآية قوله : أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟ [يونس 10/ 99] وقوله : وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق 50/ 45].
روى مسلم عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَإِذَا قَالُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ». ثُمَّ قَرَأَ (إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) (1) .
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ أي لكن من تولى عن الوعظ والتذكير ، وكفر بالحق بقلبه ولسانه ، فيعذبه اللَّه في الآخرة عذاب جهنم الدائم ، عدا عذاب الدنيا من قتل وأسر
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز (137 )
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ : إِنَّمَا أَنْتَ وَاعِظ . وَلَمْ يَكُنْ - صلى الله عليه وسلم - أُمِرَ إِذْ ذَاكَ إِلَّا بِالتَّذْكِيرِ ، ثُمَّ أُمِرَ بَعْد بِالْقِتَالِ . وَالْمُسَيْطِر : الْمُسَلَّط وَقِيلَ : الْجَبَّار . قِيلَ : الرَّبّ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيث بِطُرُقِهِ مُشْتَمِل عَلَى أَنْوَاع مِنْ الْعُلُوم وَجُمَل مِنْ الْقَوَاعِد وَأَنَا أُشِير إِلَى أَطْرَاف مِنْهَا مُخْتَصَرَة ؛ فَفِيهِ أَدَلّ دَلِيل عَلَى شَجَاعَة أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَتَقَدُّمه فِي الشَّجَاعَة وَالْعِلْم عَلَى غَيْره . فَإِنَّهُ ثَبَتَ لِلْقِتَالِ فِي هَذَا الْمَوْطِن الْعَظِيم الَّذِي هُوَ أَكْبَرَ نِعْمَة أَنْعَمَ اللَّه تَعَالَى بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْد رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، وَاسْتَنْبَطَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مِنْ الْعِلْم بِدَقِيقِ نَظَرِهِ وَرَصَانَة فِكْرِهِ مَا لَمْ يُشَارِكهُ فِي الِابْتِدَاء بِهِ غَيْره . فَلِهَذَا وَغَيْره مِمَّا أَكْرَمَهُ اللَّه تَعَالَى بِهِ أَجْمَع أَهْل الْحَقّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَل أُمَّة رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - . وَقَدْ صَنَّفَ الْعُلَمَاء رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ فِي مَعْرِفَة رُجْحَانه أَشْيَاء كَثِيرَة مَشْهُورَة فِي الْأُصُول وَغَيْرهَا .
وَمِنْ أَحْسَنهَا كِتَاب ( فَضَائِل الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ ) لِلْإِمَامِ أَبِي الْمُظَفَّر مَنْصُور بْن مُحَمَّد السَّمْعَانِيّ الشَّافِعِيّ . وَفِيهِ جَوَاز مُرَاجَعَة الْأَئِمَّة وَالْأَكَابِر وَمُنَاظَرَتهمْ لِإِظْهَارِ الْحَقّ . وَفِيهِ أَنَّ الْإِيمَان شَرْطه الْإِقْرَار بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ اِعْتِقَادهمَا وَاعْتِقَاد جَمِيع مَا أَتَى بِهِ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - . وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ - صلى الله عليه وسلم - بِقَوْلِهِ : " أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ، وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْت بِهِ " وَفِيهِ وُجُوب الْجِهَاد . وَفِيهِ صِيَانَة مَال مَنْ أَتَى بِكَلِمَةِ التَّوْحِيد وَنَفْسه وَلَوْ كَانَ عِنْد السَّيْف . وَفِيهِ أَنَّ الْأَحْكَام تَجْرِي عَلَى الظَّاهِر ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَتَوَلَّى السَّرَائِر . وَفِيهِ جَوَاز الْقِيَاس وَالْعَمَل بِهِ . وَفِيهِ وُجُوب قِتَال مَانِعِي الزَّكَاة أَوْ الصَّلَاة أَوْ غَيْرهمَا مِنْ وَاجِبَات الْإِسْلَام قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا لِقَوْلِهِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : " لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا أَوْ عَنَاقًا " . وَفِيهِ جَوَاز التَّمَسُّك بِالْعُمُومِ لِقَوْلِهِ : " فَإِنَّ الزَّكَاة حَقّ الْمَال " . وَفِيهِ وُجُوب قِتَال أَهْل الْبَغْي . وَفِيهِ وُجُوب الزَّكَاة فِي السِّخَال تَبَعًا لِأُمَّهَاتِهَا وَفِيهِ اِجْتِهَاد الْأَئِمَّة فِي النَّوَازِل . وَرَدّهَا إِلَى الْأُصُول ، وَمُنَاظَرَة أَهْل الْعِلْم فِيهَا ، وَرُجُوع مَنْ ظَهَرَ لَهُ الْحَقّ إِلَى قَوْل صَاحِبه . وَفِيهِ تَرْكُ تَخْطِئَة الْمُجْتَهِدِينَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْفُرُوع بَعْضهمْ بَعْضًا . وَفِيهِ أَنَّ الْإِجْمَاع لَا يَنْعَقِد إِذَا خَالَفَ مِنْ أَهْل الْحَلّ وَالْعَقْد وَاحِد ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور ، وَخَالَفَ فِيهِ بَعْض أَصْحَاب الْأُصُول . وَفِيهِ قَبُول تَوْبَة الزِّنْدِيق ، وَقَدْ قَدَّمْت الْخِلَاف فِيهِ وَاضِحًا . وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ ، وَلَهُ الْحَمْد وَالنِّعْمَة وَالْفَضْل وَالْمِنَّة ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَة .شرح النووي على مسلم - (1 / 94)(1/527)
واغتنام مال لأنه إذا كان لا سلطان لك عليهم ، فإن اللَّه هو المسيطر عليهم ، لا يخرجون عن قبضته وقوته وسلطانه.
عَنْ أَبِي خَالِدٍ ، قَالَ : مَرَّ أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ ، عَلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَسَأَلَهُ عَنْ أَلْيَنِ كَلِمَةٍ سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ : كُلُّكُمْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ شَرَدَ عَلَى اللَّهِ شِرَادَ الْبَعِيرِ عَلَى أَهْلِهِ " الحاكم (1)
وأخرج الإمام أحمد عَنْ عَلِيِّ بْنِ خَالِدٍ : أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ مَرَّ عَلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَلْيَنِ كَلِمَةٍ سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " أَلَا كُلُّكُمْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ شَرَدَ عَلَى اللَّهِ شِرَادَ الْبَعِيرِ عَلَى أَهْلِهِ " (2)
وقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَيْسَرَةَ الْحَضْرَمِيُّ : سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ : لاَ يَدْخُلُ النَّارَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ إِلاَّ مَنْ شَرَدَ عَلَى اللهِ شِرَادَ الْبَعِيرِ. " (3)
ثم أكد اللَّه تعالى وقوع البعث والحساب والعذاب ، فقال :إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ أي إن إلينا مرجعهم ومصيرهم ،ونحن نحاسبهم على أعمالهم بعد رجوعهم إلى اللَّه بالبعث ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشرّ ، فلا مفر للمعرضين ، ولا خلاص للمكذبين من العقاب.
وفائدة تقديم الظرف أو الجار والمجرور في الموضعين الحصر والتشديد بالوعيد ، أي ليس مرجعهم إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام وإيفاء جزاء كل طائفة ، وأن حسابهم ليس بواجب إلا عليه بمقتضى الحكمة البالغة ، وهو الذي يحاسب على الصغير والكبير (4) .
ومضات :
الضمائر في الآيات عائدة إلى الكفار على ما تلهمه عبارتها. وقد احتوت :
1 - تساؤلا ينطوي على التنديد والتعجب عما إذا لم يكونوا يرون في خلق الإبل وارتفاع السماء وانتصاب الجبال وتسطيح الأرض من عجائب شاهدة على وجود اللّه وعظمته وقدرته.
2 - وأمرا للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يستمر في التذكير والإنذار وتقريرا تطمينيا له بأن هذا هو قصارى مهمته. فهو مذكر وليس مسؤولا عن جحودهم وكفرهم أو مكلفا بالسيطرة عليهم وإجبارهم على الإيمان.
3 - واستدراكا بأن ذلك لا يعني عدم مسؤولية المعرضين عن دعوة اللّه الكافرين برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهم سينالهم عذاب اللّه الأكبر الذي سوف يكون مرجعهم إليه وحسابهم عليه.
__________
(1) - المستدرك للحاكم (184) صحيح
(2) - مسند أحمد - المكنز (22883 ) صحيح
(3) - مصنف ابن أبي شيبة - (13 / 358) (35876) صحيح
(4) - تفسير الكشاف : 3/ 334 ، تفسير الرازي : 31/ 160(1/528)
والآيات وإن بدت فصلا مستقلا عن الفصل السابق فالمتبادر أيضا أنها ليست منقطعة عنه ، فقد احتوى ذلك الفصل وصف مصائر الناس في يوم القيامة فجاء هذا الفصل للتنديد بالجاحدين منهم الذين يتغافلون عن مشاهد عظمة اللّه وقدرته ويتصاممون عن الدعوة إليه ويكفرون بنبيه وإنذارهم وتهوين موقفهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي الاستدراك الذي احتوته الآية [23] وعيد من جهة وتطمين للنبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة أخرى.
ومما يحسن لفت النظر إليه أن المشاهد التي احتوتها الآيات من المشاهد الواقعة تحت حسّ المخاطبين ونظرهم والمالئة أذهانهم بعظمتها ونفعها. وهو مما جرى عليه النظم القرآني لأنه أرعى إلى الانتباه وأدعى إلى النفوذ.
ومما يلحظ أن أسلوب الآيات المطمئنة للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمقررة بأنه ليس مسيطرا ولا جبارا ولا مسؤولا عن الناس وبأن قصارى مهمته التذكير والتبليغ قد تكرر في سور عديدة سابقة وفي السورة السابقة لهذه السورة مباشرة ما يدل على ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ظل يشعر به من ألم وحزن من عدم استجابة معظم الناس وما كان قد ظل يكلف نفسه به من جهد يكاد يفوق الطاقة البشرية إلى حد الأذى والشقاء في سبيل هدايتهم وإقناعهم.
تعليق على ما روي وقيل في صدد الآيتين إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
أولا : قال المفسرون : إن هذه الآيات نسخت بآيات القتال ومثل هذا قيل في سياق آيات مماثلة أو قريبة مرّ تفسيرها. وقد علقنا على هذا في سورتي المزمل والكافرون بما يغني عن التكرار.
ثانيا : روى الترمذي في سياق تفسير الآيتين حديثا عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلا اللّه فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها وحسابهم على اللّه ثم قرأ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) . وليس في الحديث ما يفيد أنه صدر عند نزول الآيتين ، بل إنه يمكن القول بجزم أنه صدر في العهد المدني وبعد تشريع القتال. غير أن استشهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالآيتين يفيد أنه أراد أن يقول إن حساب الناس بعد أن يقولوا لا إله إلا اللّه ويعصموا بها دماءهم وأموالهم إلّا بحقها هو على اللّه وليس هو مسيطرا عليهم حتى يحاسبهم على غير ذلك. وفي هذا تلقين جليل المدى بكون الناس موكولين إلى دينهم وتقواهم وخشيتهم من اللّه فيما يكون منهم من أعمال غير معروفة. وأنه ليس للسلطان أن يتعقب الناس لاستكشاف خباياهم وأسرارهم إذا لم يكن دليل على ضرر محقق على أحد أو على أمن الناس والمصلحة العامة ، أما ما فيه ضرر محقق فهو ما عنته الجملة (إلّا بحقه) من الحديث حيث يكون للسلطان حقّ في عمل ما يجب عمله للقصاص والزجر واستيفاء الحق لصاحبه من المبطل الباغي.(1/529)
ولقد روى هذا الحديث البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود بدون ذكر صلته بالآيتين أو الاستشهاد فيه بالآيتين. وروي كذلك في مناسبة قتال أبي بكر رضي اللّه عنه للممتنعين عن الزكاة ، وعلقنا على ذلك في سور المزمل والكافرون بما يغني عن التكرار ويزيل اللبس في الحديث موضوعيا. (1)
قوله تعالى : «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ »..هو إلفات لهؤلاء المشركين المكذبين بالغاشية ، إلى قدرة اللّه سبحانه وتعالى ، تلك القدرة القادرة على أن تعيدهم إلى الحياة بعد الموت ، وأن تردّهم إلى اللّه سبحانه ، للحساب والجزاء ..
وفى إلفاتهم إلى الإبل ، وإلى ضخامتها ، وقوتها ، وما أودع الخالق فيها من قوى قادرة على حمل الأثقال ، والمشي فى الرمال ، وإلى الصبر على الجوع والعطش ـ كل هذا يكشف عن صانع عظيم ، عليم ، حكيم ، خلق فسوى ، وقدر فهدى ..
ولأن أول ما يلفت النظر إلى الإبل ، هو قاماتها العالية ، ورقابها المرفوعة ، فقد ناسب ذلك أن يلفتوا إلى السماء ، وإلى هذا العلو الشاهق الذي لا حدود له ..
« وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ».. كذلك ناسب أيضا أن يلفتوا إلى الجبال ، وقد مدت رقابها فوق الأرض كأنها رقاب الإبل ، أو أسنمتها .. « وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ».
. ثم إن الشأن ليس فى رفع الشيء وعلوه ، فما رفع الشيء إلا لحكمة ، كما أنه ما خفض شىء إلا لحكمة .. فهذه الأرض المبسوطة الممدودة ، لو كانت كلها أسنمة كأسنمة الإبل ، أو رقابا كرقابها ، لما أمكن الانتفاع بها ، والسير فيها .. فهى مع ارتفاع بعض أجزائها ، قد انبسط بعض أجزائها الأخرى ، لتكون مهادا للناس ، وبساطا ممدودا .. وبهذا تذلّل لهم وتستجيب لحركتهم عليها .. « هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ » (15 : الملك).
وقوله تعالى : « فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ».هو دعوة إلى النبي الكريم أن يعرض هذه الآيات التي تحدثت عن قدرة اللّه سبحانه ، وعن حكمته ، ليكون فيها تذكرة لمن يتذكر ، وعبرة لمن يعتبر ..
فوظيفة النبىّ ، هى التذكير باللّه ، وإلفات العقول والقلوب إلى قدرته ، وعلمه ، وحكمته ، وإلى ماله سبحانه من نعم سابغة على عباده ..
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 47)(1/530)
وقوله تعالى : « لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ » أي لست أيها النبي بمتسلط على الناس ، تقهرهم بسلطان قوى ، وبقوة قاهرة ، على أن يؤمنوا باللّه ، ويستجيبوا لما تدعوهم إليه .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ » (45 : ق).
وفى هذا إطلاق للإنسان ، وتحرير لذاته وشخصيته من أي سلطان ، إلا سلطان عقله وضميره ، وفى هذا تكريم للإنسان ، واعتراف بمكانه فى الوجود ، وأنه لا وصاية عليه من أحد حتى الأنبياء والرسل .. إنهم ليسوا أوصياء عليه ، وإنما هم هداة يرفعون لعينيه مشاعل الهدى فى طريق حياته ، فإن شاء سار فى الطريق الذي يكشف عنه هذا النور ، وإن شاء أخذ الطريق الذي اختاره له عقله ، وارتضاه ضميره .. ولو كان كفرا وضلالا ، فتلك مشيئته التي شاءها لنفسه!.
قوله تعالى : « إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ». إلا هنا استثناء من عموم الأحوال التي تدخل فى السيطرة الواقع عليها النفي .. أي لست مسيطرا على الناس إلا فى حال واحدة ، وهى حال من تولى وكفر ، فإنه فى هذه الحال واقع تحت سلطان العذاب الذي أنذرته به .. وهذا العذاب فى يد اللّه ، يعذب به هؤلاء الذين تولوا وكفروا .. فالسلطان الواقع على الإنسان هنا ، هو سلطان اللّه سبحانه ، وليس الرسول إلا منذرا بهذا السلطان ، محذرا منه ..
والعذاب الأكبر ، هو عذاب يوم القيامة .. ووصف العذاب بهذه الصفة التي تحصر غاية العذاب وصوره كلها فيه ـ لأن كل ما عرفه الناس فى الدنيا من عذاب ، هو عذاب دون هذا العذاب قدرا وأثرا .. فهو العذاب الأكبر كبرا مطلقا ، لا حدود له.
وقوله تعالى : «إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ »..أي أن هؤلاء الذين تولوا وكفروا ، ولا يفلتون من هذا الذي أنذروا به ـ إنهم سيعودون إلى اللّه ، وسيحاسبون على ما اجترحوا من آثام .. وليس وراء هذا الحساب إلا العذاب الأليم .. العذاب الأكبر! وأنهم إذا كانوا قد خرجوا من سلطان النبىّ ، فإنهم لن يخرجوا من سلطان اللّه الذي يلقاهم بهذا العذاب ..
والإياب الرجوع إلى المكان الذي خرج منه الإنسان .. كالمسافر يئوب من سفره .. وفى هذا إشارة إلى أن البعث هو عودة إلى الحياة التي فارقها الإنسان فى رحلته التي بدأت بالموت .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى .. » (8 : العلق). (1)
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } الآيات ؛ لبعد البعير عن خياله في مقام النظر ، ثم لبعده في خياله عن السماء ، وبعد خلقه عن رفعها ، وكذا البواقي . لكن إذا وفاهُ حقهُ بتيقظه لما عليه تقلبهم في حاجاتهم ، جاء الاستحلاء ؛ وذلك إذا نظر أن أهل الوبر ، إذا كان مطعمهم ومشربهم
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1542)(1/531)
وملبسهم من المواشي ، كانت عنايتهم مصروفة لا محالة إلى أكثرها نفعاً وهي الإبل ، ثم إذا كان انتفاعهم بها لا يتحصل إلا بأن ترعى وتشرب ، كان جلّ مرمى غرضهم نزول المطر ، وأهم مسارح النظر عندهم السماء ، ثم إذا كانوا مضطرين إلى مأوى يؤويهم وإلى حصن يتحصنون فيه ، ولا مأوى ولا حصن إلا الجبال .
لنا جبلٌ يحتلُّه من نجيرهُ منيعٌ يردُّ الطرفَ وهو كليلُ
فما ظنك بالتفات خاطرهم إليها ؟ ثم إذا تعذر طول مكثهم في منزل - ومن لأصحاب مواش بذاك - كان عقد الهمة عندهم بالتنقل من أرض إلى سواها من عزم الأمور ، فعند نظره هذا ، أيرى البدوي إذا أخذ يفتش عما في خزانة الصور له ، لا يجد صورة الإبل حاضرة هناك أو لا يجد صورة السماء لها مقارنة ، أو تعوزه صورة الجبال بعدهما ، أو لا تنصّ إليه صورة الأرض تليها بعدهن ؟ لا ، وإنما الحضري ، حيث لم تتآخذ عنده تلك الأمور ، وما جمع خيالهُ تلك الصور على ذلك الوجه وإذا تلا الآية قبل أن يقف على ما ذكرت ، ظن النسق بجهله معيباً للعيب فيه . انتهى . (1)
وتنتهي هذه الجولة في العالم الآخر ، فيؤوب منها إلى هذا الوجود الظاهر . الحاضر . الموحي بقدرة القادر وتدبير المدبر ، وتميز الصنعة ، وتفرد الطابع . الدال على أن وراء التدبير والتقدير أمراً بعد هذه الحياة ، وشأناً غير شأن الأرض . وخاتمة غير خاتمة الموت : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ، وإلى السماء كيف رفعت ، وإلى الجبال كيف نصبت ، وإلى الأرض كيف سطحت؟ } . .وتجمع هذه الآيات الأربعة القصار ، أطراف بيئة العربي المخاطب بهذا القرآن أول مرة . كما تضم أطراف الخلائق البارزة في الكون كله . حين تتضمن السماء والأرض والجبال والجمال ( ممثلة لسائر الحيوان ) على مزية خاصة بالإبل في خلقها بصفة عامة وفي قيمتها للعربي بصفة خاصة .
إن هذه المشاهد معروضة لنظر الإنسان حيثما كان . . السماء والأرض والجبال والحيوان .
. وأياً كان حظ الإنسان من العلم والحضارة فهذه المشاهد داخلة في عالمه وإدراكه . موحية له بما وراءها حين يوجه نظره وقلبه إلى دلالتها .
والمعجزة كامنة في كل منها . وصنعة الخالق فيها معلمة لا نظير لها . وهي وحدها كافية لأن توحي بحقيقة العقيدة الأولى . ومن ثم يوجه القرآن الناس كافة إليها :
{ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟ } . . والإبل حيوان العربي الأول . عليها يسافر ويحمل . ومنها يشرب ويأكل . ومن أوبارها وجلودها يلبس وينزل . فهي مورده الأول للحياة . ثم إن
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 208)(1/532)
لها خصائص تفردها من بين الحيوان . فهي على قوتها وضخامتها وضلاعة تكوينها ذلول يقودها الصغير فتنقاد ، وهي على عظم نفعها وخدمتها قليلة التكاليف . مرعاها ميسر ، وكلفتها ضئيلة ، وهي أصبر الحيوان المستأنس على الجوع والعطش والكدح وسوء الأحوال . . ثم إن لهيئتها مزية في تناسق المشهد الطبيعي المعروض كما سيجيء . .
لهذا كله يوجه القرآن أنظار المخاطبين إلى تدبر خلق الإبل؛ وهي بين أيديهم ، لا تحتاج منهم إلى نقلة ولا علم جديد . . { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟ } . . أفلا ينظرون إلى خلقتها وتكوينها؟ ثم يتدبرون : كيف خلقت على هذا النحو المناسب لوظيفتها ، المحقق لغاية خلقها ، المتناسق مع بيئتها ووظيفتها جميعاً! إنهم لم يخلقوها . وهي لم تخلق نفسها ، فلا يبقى إلا أن تكون من إبداع المبدع المتفرد بصنعته ، التي تدل عليه ، وتقطع بوجوده؛ كما تشي بتدبيره وتقديره .
{ وإلى السماء كيف رفعت؟ } . . وتوجيه القلب إلى السماء يتكرر في القرآن . وأولى الناس بأن يتوجهوا إلى السماء هم سكان الصحراء . حيث للسماء طعم ومذاق ، وإيقاع وإيحاء ، كأنما ليست السماء إلا هناك في الصحراء!
السماء بنهارها الواضح الباهر الجاهر . والسماء بأصيلها الفاتن الرائق الساحر . والسماء بغروبها البديع الفريد الموحي . والسماء بليلها المترامي ونجومها المتلألئة وحديثها الفاتر . والسماء بشروقها الجميل الحي السافر .
هذه السماء . في الصحراء . . أفلا ينظرون إليها؟ أفلا ينظرون إليها كيف رفعت؟ من ذا رفعها بلا عمد؟ ونثر فيها النجوم بلا عدد؟ وجعل فيها هذه البهجة وهذا الجمال وهذا الإيحاء؟ إنهم لم يرفعوها وهي لم ترفع نفسها . فلا بد لها من رافع ولا بد لها من مبدع . لا يحتاج الأمر إلى علم ولا إلى كد ذهن . فالنظرة الواعية وحدها تكفي . .
{ وإلى الجبال كيف نصبت؟ } . . والجبال عند العربي بصفة خاصة ملجأ وملاذ ، وأنيس وصاحب ، ومشهدها يوحي إلى النفس الإنسانية بصفة عامة جلالاً واستهوالاً . حيث يتضاءل الإنسان إلى جوارها ويستكين ، ويخشع للجلال السامق الرزين . والنفس في أحضان الجبل تتجه بطبيعتها إلى الله؛ وتشعر أنها إليه أقرب ، وتبعد عن واغش الأرض وضجيجها وحقاراتها الصغيرة . ولم يكن عبثاً ولا مصادفة أن يتحنث محمد - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء في جبل ثور . وأن يتجه إلى الجبل من يريدون النجوة بأرواحهم فترات من الزمان!
والجبال هنا { كيف نصبت } لأن هذه اللمحة تتفق من الناحية التصويرية مع طبيعة المشهد كما سيجيء .(1/533)
{ وإلى الأرض كيف سطحت؟ } . . والأرض مسطوحة أمام النظر ، ممهدة للحياة والسير والعمل ، والناس لم يسطحوها كذلك . فقد سحطت قبل أن يكونوا هم . . أفلا ينظرون إليها ويتدبرون ما وراءها ، ويسألون : من سطحها ومهدها هكذا للحياة تمهيداً؟
إن هذه المشاهد لتوحي إلى القلب شيئاً . بمجرد النظر الواعي والتأمل الصاحي . وهذا القدر يكفي لاستجاشة الوجدان واستحياء القلب . وتحرك الروح نحو الخالق المبدع لهذه الخلائق .
ونقف وقفة قصيرة أمام جمال التناسق التصويري لمجموعة المشهد الكوني لنرى كيف يخاطب القرآن الوجدان الديني بلغة الجمال الفني ، وكيف يعتنقان في حس المؤمن الشاعر بجمال الوجود . .
إن المشهد الكلي يضم مشهد السماء المرفوعة والأرض المبسوطة . وفي هذا المدى المتطاول تبرز الجبال { منصوبة } السنان لا راسية ولا ملقاة ، وتبرز الجمال منصوبة السنام . . خطان أفقيان وخطان رأسيان في المشهد الهائل في المساحة الشاسعة . ولكنها لوحة متناسقة الأبعاد والاتجاهات! على طريقة القرآن في عرض المشاهد ، وفي التعبير بالتصوير على وجه الإجمال .
والآن بعد الجولة الأولى في عالم الآخرة ، والجولة الثانية في مشاهد الكون المعروضة ، يلتفت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوجهه إلى حدود واجبه وطبيعة وظيفته ، ويلمس قلوبهم اللمسة الأخيرة الموقظة : { فذكر إنما أنت مذكر . لست عليهم بمسيطر . إلا من تولى وكفر . فيعذبه الله العذاب الأكبر . إن إلينا إيابهم . ثم إن علينا حسابهم } . .
فذكر بهذا وذاك . ذكرهم بالآخرة وما فيها . وذكرهم بالكون وما فيه . إنما أنت مذكر . هذه وظيفتك على وجه التحديد . وهذا دورك في هذه الدعوة ، ليس لك ولا عليك شيء وراءه . عليك أن تذكر . فإنك ميسر لهذا ومكلف إياه .
{ لست عليهم بمسيطر } . . فأنت لا تملك من أمر قلوبهم شيئاً . حتى تقهرها وتقسرها على الإيمان . فالقلوب بين أصابع الرحمن ، لا يقدر عليها إنسان .
فأما الجهاد الذي كتب بعد ذلك فلم يكن لحمل الناس على الإيمان . إنما كان لإزالة العقبات من وجه الدعوة لتبلغ إلى الناس . فلا يمنعوا من سماعها . ولا يفتنوا عن دينهم إذا سمعوها . كان لإزالة العقبات من طريق التذكير . الدور الوحيد الذي يملكه الرسول .
وهذا الإيحاء بأن ليس للرسول من أمر هذه الدعوة شيء إلا التذكير والبلاغ يتكرر في القرآن لأسباب شتى . في أولها إعفاء أعصاب الرسول من حمل هم الدعوة بعد البلاغ ، وتركها لقدر الله يفعل بها ما يشاء . فإلحاح الرغبة البشرية بانتصار دعوة الخير وتناول الناس لهذا الخير ، إلحاح عنيف جداً يحتاج إلى هذا الإيحاء المتكرر بإخراج الداعية لنفسه ولرغائبه هذه من مجال(1/534)
الدعوة ، كي ينطلق إلى أدائها كائنة ما كانت الاستجابة ، وكائنة ما كانت العاقبة . فلا يعني نفسه بهمّ من آمن وهمّ من كفر .
ولا يشغل باله بهذا الهم الثقيل حين تسوء الأحوال من حول الدعوة ، وتقل الاستجابة ، ويكثر المعرضون والمخاصمون .
ومما يدل على إلحاح الرغبة البشرية في انتصار دعوة الله وتذوق الناس لما فيها من خير ورحمة ، هذه التوجيهات المتكررة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو من هو تأدباً بأدب الله ومعرفة لحدوده ولقدر الله . . ومن ثم اقتضى إلحاح هذه الرغبة هذا العلاج الطويل المتكرر في شتى الأحيان.
ولكن إذا كان هذا هو حد الرسول ، فإن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد . ولا يذهب المكذبون ناجين ، ولا يتولون سالمين . إن هنالك الله وإليه تصير الأمور : { إلا من تولى وكفر . فيعذبه الله العذاب الأكبر } . .
وهم راجعون إلى الله وحده قطعاً ، وهو مجازيهم وحده حتماً . وهذا هو الإيقاع الختامي في السورة في صيغة الجزم والتوكيد .
{ إن إلينا إيابهم . ثم إن علينا حسابهم } . .بهذا يتحدد دور الرسول في هذه الدعوة . ودور كل داعية إليها بعده . . إنما أنت مذكر وحسابهم بعد ذلك على الله . ولا مفر لهم من العودة إليه ، ولا محيد لهم من حسابه وجزائه . غير أنه ينبغي أن نفهم أن من التذكير إزالة العقبات من وجه الدعوة لتبلغ إلى الناس وليتم التذكير . فهذه وظيفة الجهاد كما تفهم من القرآن ومن سيرة الرسول سواء ، بلا تقصير فيها ولا اعتداء . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- ذكّر اللَّه تعالى الناس بصنعته وقدرته ، وأنه قادر على كل شيء ، بعد أن ذكر أمر أهل الدارين ، فتعجب الكفار من ذلك ، فكذبوا وأنكروا. وقد ذكّرهم بخلق الإبل لأنها كثيرة في العرب ، وبخلق السماء ورفعها عن الأرض بلا عمد ، وبخلق الجبال الراسيات المنصوبة على الأرض ، بحيث لا تزول ، وبخلق الأرض كيف بسطت ومدت ومهدت لأهلها كي يستطيعوا العيش عليها بقرار وأمان.
2- أمر اللَّه تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بتذكير قومه وعظتهم وتخويفهم ، وطمأنه بأنه مجرد واعظ ، ليس بمسلّط عليهم ، فيقتلهم ، أو يجبرهم على الإيمان برسالته.
وهذا فقط في العهد المكي كما هو معلوم ، وفي العهد المدني اختلف باتفاق المفسرين والفقهاء والمحدثين .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3898)(1/535)
3- المرجع إلى الله فلابد من طاعته للنجاة من العذاب .
4- تضمنت السورة في خاتمتها ما يصلح للوعد والوعيد والترغيب والترهيب ، فإن مصير جميع الناس ورجوعهم بعد الموت إلى اللَّه عز وجل ، وحسابهم إليه وحده.
والحساب وإن كان حقا للَّه تعالى ، ولا يجب على المالك أن يستوفي حق نفسه ، إلا أنه تعالى جعل الحساب واجبا عليه ، إما بحكم وعده الذي لا خلف فيه ، وإما بمقتضى الحكمة والعدل ، فإنه لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم ، لكان ذلك شبيها بكونه تعالى راضيا بذلك الظلم ، وتعالى اللَّه عنه ، فلهذا السبب كانت المحاسبة واجبة (1) ..
5- حذر اللَّه تعالى من مخالفة دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورسالته ، فأنذر كل من تولى عن الوعظ والتذكير بالعذاب الأكبر في الآخرة ، وهو عذاب جهنم الدائم ، ووصف العذاب بالأكبر لأنهم عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والأسر والقتل.
وهذا على أن الاستثناء منقطع ، وقيل : هو استثناء متصل ، والمعنى : لست بمسلط إلا على من تولى وكفر ، فأنت مسلّط عليه بالجهاد ، واللَّه يعذبه بعد ذلك العذاب الأكبر ، فلا نسخ في الآية على هذا التقدير.
والأظهر في رأي بعض المفسرين أن يكون الاستثناء متصلا ، لا باعتبار الحال ، فإن السورة مكية ، ولكن بالنظر إلى الاستقبال ، أي إلا المصرّين على الإعراض والكفر ، فإنك تصير مأمورا بقتالهم ، مستوليا عليهم بالغلبة والقهر (2) .
والظاهر لدي أن يكون الاستثناء منقطعا ، أي لست بمصيطر ولا بمستول عليهم ، ولكن من تولى وكفر ، فإن للَّه الولاية والقهر عليه ، فهو يعذبه العذاب الأكبر في الآخرة ، بعد العذاب الأصغر في الدنيا وهو القتل والسبي ، كما قال تعالى : وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة 32/ 21]. وهذا ما سار عليه أغلب المفسرين ، مشيرين إلى القول الثاني بصيغة (قيل) المفيدة للتضعيف.
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - تفسير الرازي : 31/ 160
(2) - غرائب القرآن : 30/ 85(1/536)
سورة الفجر
مكيّة ، وهي ثلاثون آية
تسميتها :
سميت سورة الفجر ، لافتتاحها بقوله تعالى : وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وهو قسم عظيم بفجر الصبح المتبلج نوره كل يوم على أن الكفار سيعذبون حتما.
قال ابن عاشور : " لم يختلف في تسمية هذه السورة "سورة الفجر" بدون الواو في المصاحف والتفاسير وكتب السنة.
وهي مكية باتفاق سوى ما حكى ابن عطية عن أبي عمرو الداني أنه حكى عن بعض العلماء وأنها مدنية.
وقد عدت العاشرة في عداد نزول السور. نزلت بعد سورة الليل وقبل سورة الضحى.
وعدد آيها اثنتان وثلاثون عند أهل العدد بالمدينة ومكة عدوا قوله: {وَنَعَّمَهُ} [الفجر: 15] منتهى آية، وقوله: {رِزْقَهُ} [الفجر: 16]، منتهى آيه. ولم يعدها غيرهم منتهى آية، وهي ثلاثون عند أهل العدد بالكوفة والشام وعند أهل البصرة تسع وعشرون.
فأهل الشام عدوا {بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 23]، منتهى آية. وأهل الكوفة عدوا {فِي عِبَادِي} [الفجر: 29]، منتهى آية.
أغراضها
حوت من الأغراض ضرب المثل لمشركي أهل مكة في إعراضهم عن قبول رسالة ربهم بمثل عاد وثمود وقوم فرعون.
وإنذارهم بعذاب الآخرة.
وتثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - مع وعده باضمحلال أعدائه.
وإبطال غرور المشركين من أهل مكة إذ يحسبون أن ما هم فيه من النعيم علامة على أن الله أكرمهم وأن ما فيه المؤمنون من الخصاصة علامة على أن الله أهانهم.
وأنهم أضاعوا شكر الله على النعمة فلم يواسوا ببعضها على الضعفاء وما زادتهم إلا حرصا على التكثر منها.
وأنهم يندمون يوم القيامة على أن لم يقدموا لأنفسهم من الأعمال ما ينتفعون به يوم لا ينفع نفس مالها ولا ينفعها إلا إيمانها وتصديقها بوعد ربها. وذلك ينفع المؤمنين بمصيرهم إلى الجنة. " (1)
مناسبتها لما قبلها :
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 275)(1/537)
تتعلق السورة الكريمة بما قبلها من وجوه ثلاثة :
1- إن القسم الصادر في أولها كالدليل على صحة ما ختمت به السورة التي قبلها من قوله جل جلاله : إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ.
2- تضمنت السورة السابقة قسمة الناس إلى فريقين : أشقياء وسعداء ، أصحاب الوجوه الخاشعة ، وأصحاب الوجوه الناعمة ، واشتملت هذه السورة على ذكر طوائف من الطغاة : عاد وثمود وفرعون الذين هم من الفريق الأول ، وطوائف من المؤمنين المهتدين الشاكرين نعم اللَّه ، الذين هم في عداد الفريق الثاني ، فكان الوعد والوعيد حاصلا في السورتين.
3- إن جملة أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ .. في هذه السورة مشابهة لجملة : أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ... في السورة المتقدمة.
ما اشتملت عليه السورة :
* سورة الفجر مكية ، وهي تتحدث عن أمور ثلاثة رئيسية هي :
1- ذكر قصص بعض الأمم المكذبين لرسل الله ، كقوم عاد ، وثمود ، وقوم فرعون ، وبيان ما حل بهم من العذاب والدمار ، بسبب فجورهم وطغيانهم [ ألم تر كيف فعل ربك بعاد ؟ إرم ذات العماد ؟ التي لم يخلق مثلها في البلاد ] ؟ الأيآت
2 - بيان سنة الله تعالى في ابتلاء العباد في هذه الحياة ، بالخير والشر ، والغنى والفقر ، وطبيعة الإنسان في حبه الشديد للمال [ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه . فيقول ربي أكرمن ، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن . . ] الآيات
3 - ذكر الدار الآخرة وأهوالها وشدائدها ، وانقسام الناس يوم القيامة ، إلى سعداء وأشقياء وبيان مآل النفس الشريرة ، والنفس الكريمة الخيرة [ كلا إذا دكت الأرض دكا دكا ، وجاء ربك والملك صفا صفا ، وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ] إلى نهاية السورة الكريمة
قال الله تعالى : [ والفجر وليال عشر . . . ] إلى قوله [ فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ] من أول آية إلى آية (30) نهاية السورة الكريمة (1)
تحتوي السورة تذكيرا بعذاب اللّه الذي حل بالطغاة المتمردين من الأمم السابقة كعاد وثمود وفرعون وإنذارا لأمثالهم ، وتنديدا بحب المال والاستغراق فيه ، واستباحة البغي والظلم في سبيله ، وعدم البر باليتيم والمسكين ، ودحضا لظن أن اليسر والعسر في الرزق اختصاص من اللّه بقصد التكريم والإهانة. وفيها تصوير مشهد ما يكون من مصير البغاة يوم القيامة وحسرتهم
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 485)(1/538)
، وتنويه بالمؤمنين ذوي النفوس المطمئنة وبشرى لهم برضاء اللّه وجنته. وأسلوب السورة عام العرض والتوجيه مما يدل على تبكيرها بالنزول. وفصولها وآياتها منسجمة مما يدل على نزولها جملة واحدة أو متتابعة. (1)
هذه السورة في عمومها حلقة من حلقات هذا الجزء في الهتاف بالقلب البشري إلى الإيمان والتقوى واليقظة والتدبر . . ولكنها تتضمن ألواناً شتى من الجولات والإيقاعات والظلال . ألواناً متنوعة تؤلف من تفرقها وتناسقها لحناً واحداً متعدد النغمات موحد الإيقاع!
في بعض مشاهدها جمال هادئ رفيق ندي السمات والإيقاعات ، كهذا المطلع الندي بمشاهده الكونية الرقيقة ، وبظل العبادة والصلاة في ثنايا تلك المشاهد . . { الفجر . وليال عشر . والشفع والوتر . والليل إذا يسر . . } .
وفي بعض مشاهدها شد وقصف . سواء مناظرها أو موسيقاها كهذا المشهد العنيف المخيف : { كلا . إذا دكت الأرض دكاً دكاً . وجاء ربك والملك صفاً صفاً . وجيء يومئذ بجهنم . يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى . يقول : يا ليتني قدمت لحياتي . فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد } . . وفي بعض مشاهدها نداوة ورقة ورضى يفيض وطمأنينة . تتناسق فيها المناظر والأنغام ، كهذا الختام : { يا أيتها النفس المطمئنة ، ارجعي إلى ربك راضية مرضية . فادخلي في عبادي وادخلي جنتي } . .
وفيها إشارات سريعة لمصارع الغابرين المتجبرين ، وإيقاعها بين بين . بين إيقاع القصص الرخي وإيقاع المصرع القوي : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد . إرم ذات العماد . التي لم يخلق مثلها في البلاد . وثمود الذين جابوا الصخر بالواد . وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد . فصب عليهم ربك سوط عذاب . إن ربك لبالمرصاد } .
وفيها بيان لتصورات الإنسان غير الإيمانية وقيمه غير الإيمانية . وهي ذات لون خاص في السورة تعبيراً وإيقاعاً : { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول : ربي أكرمن . وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول : ربي أهانن . . } .
ثم الرد على هذه التصورات ببيان حقيقة حالهم التي تنبع منها هذه التصورات . وهي تشمل لونين من ألوان العبارة والتنغيم : { كلا . بل لا تكرمون اليتم . ولا تحاضون على طعام المسكين . وتأكلون التراث أكلاً لما ، وتحبون المال حباً جماً } . .
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 531)(1/539)
ويلاحظ أَن هذا اللون الأخير هو قنطرة بين تقرير حالهم وما ينتظرهم في مآلهم . فقد جاء بعده : { كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً . . . الخ } . . فهو وسط في شدة التنغيم بين التقرير الأول والتهديد الأخير!
ومن هذا الاستعراض السريع تبدو الألوان المتعددة في مشاهد السورة . وإيقاعاتها في تعبيرها وفي تنغيمها . . كما يبدو تعدد نظام الفواصل وتغير حروف القوافي . بحسب تنوع المعاني والمشاهد . فالسورة من هذا الجانب نموذج واف لهذا الأفق من التناسق الجمالي في التعبير القرآني . فوق ما فيها عموماً من جمال ملحوظ مأنوس! (1)
فضلها :
عن جَابِرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ - رضى الله عنه - كَانَ يُصَلِّى مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ يَأْتِى قَوْمَهُ فَيُصَلِّى بِهِمُ الصَّلاَةَ ، فَقَرَأَ بِهِمُ الْبَقَرَةَ - قَالَ - فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلاَةً خَفِيفَةً ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا فَقَالَ إِنَّهُ مُنَافِقٌ . فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ ، فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا ، وَنَسْقِى بِنَوَاضِحِنَا ، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا الْبَارِحَةَ ، فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ فَتَجَوَّزْتُ ، فَزَعَمَ أَنِّى مُنَافِقٌ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ - ثَلاَثًا - اقْرَأْ ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ) و( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ) وَنَحْوَهَا » صحيح البخارى (2) .
وعَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ ، وَأَبِي صَالِحٍ ، قَالَا : عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : صَلَّى مُعَاذٌ صَلَاةً ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَصَلَّى مَعَهُ فَطَوَّلَ ، فَصَلَّى فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ انْصَرَفَ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا ، فَقَالَ : مُنَافِقٌ ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَسَأَلَ الْفَتَى ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، جِئْتُ أُصَلِّي مَعَهُ فَطَوَّلَ عَلَيَّ ، فَانْصَرَفْتُ وَصَلَّيْتُ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ ، فَعَلَفْتُ نَاضِحِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمُعَاذٍ : " أَفَتَّانًا يَا مُعَاذُ ، فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَالْفَجْرِ ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ؟ " السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (3) .
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3902)
(2) - صحيح البخارى- المكنز(6106 )
(3) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي(10293 ) صحيح(1/540)
حتمية عذاب الكفار وجزاء بعضهم في الدنيا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... وَالفَجْرِ ... فجر كل يوم
2 ... لَيَالٍ عَشْرٍ ... عشر ذي الحجة أو الليالي العشر من رمضان
3 ... الشَّفْع ... اثنان والوتر واحد ، والصلاة المكتوبة منها شفع ومنها وتر
4 ... وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ... إذا أقبل
5 ... حِجْرٍ ... عقل
6 ... عَادٍ ... عاد الأولى اسم قبيلة عاد من ولد سام بن نوح
7 ... إِرَمَ ... اسم والد عاد - عاد بن إرم
7 ... ذَاتِ العِمَادِ ... الرجال الطول : طول الواحد منهم إثنا عشر ذراعا
9 ... جَابُوا الصَّخْرَ ... حفروه واتخذوه بيوتا
10 ... فِرْعَون ... اسم لقب لملوك مصر
10 ... الأَوْتَادِ ... التي يربط بها الرجل للعذاب
11 ... طَغَوْا فِي البِلادِ ... ظلموا العباد
12 ... الفَسَادَ ... الشرك والقتل
13 ... سَوْطَ عَذَابٍ ... ضربا من العذاب
14 ... لَبِالمِرْصَادِ ... يرصد أعمال العباد ليجازيهم
المعنى الإجمالي:
أقسم الحق - تبارك وتعالى - بالفجر ساعة يظهر فيه الضوء مطاردا للظلام بجحافله ، وقت ينفسخ الصبح وإسفاره ، لينشق النهار فينتشر الناس والحيوان ، والطير والوحوش يبتغى الكل رزقا من عند اللّه وفضلا ، وأقسم كذلك بالليالي العشر من كل شهر ، ولا يزال الظلام فيها يغالب القمر وضوءه حتى يغلبه فيسدل على الكون حجبه وأستاره ، وأقسم بالشفع من الليالى والوتر منها ، وأقسم بالليل بأستاره التي تستر الكون فيختفى النهار ، ويظهر الشفق في الأفق ،(1/541)
أقسم بهذا كله ليلفت النظر إلى عجائب الكون وآثار قدرة اللّه لعلهم يتفكرون ، أقسم ليقعن الكفار في قبضة القوى القادر ، وليعذبهم عذابا شديدا كما عذب غيرهم من الأمم التي كذبت وكفرت ، وكان عاقبة أمرها خسرا ، وها هي ذي أخبارهم بالإجمال. ألم تر كيف فعل ربك بعاد بعد أن أرسل لها هودا فكذبته وكفرت باللّه. وإرم لقبها ، وكانت تسكن الخيام وتتخذ البيوت من الشعر إلا أنها كانت رفيعة العماد ، قوية الجناب ، لم يكن يضاهيها أحد ، ولم يخلق مثلها في البلاد قوة وعددا. وقد ذكر اللّه أخبار عاد ، وثمود ، وفرعون ، بالتفصيل في سور أخرى كالحاقة وغيرها.
أما ثمود فكانوا ينحتون من الجبال بيوتا حالة كونهم فارهين ، وكانوا يقطعون الصخر وينحتونه لبناء مساكنهم ، وهذه شهادة لهم بقوة العمل وسعة الفكر ، وأما فرعون وما أدراك ما فرعون ؟ إنه ملك مصر وصاحب الحول والطول الذي كان يقول : أنا ربكم الأعلى ، وكان قومه قد برعوا في فن الهندسة والعمارة حتى بنوا الأهرام وأقاموا التماثيل والمسلات ، وما أروع التعبير بقوله : ذِي الْأَوْتادِ فتلك أبنية ثابتة شامخة ثبوت الأوتاد في الأرض ، وإذا نظرنا إلى الهرم وجدناه أشبه ما يكون بالوتد المقلوب ، هؤلاء جميعا طغوا وبغوا وتجاوزوا الحد في البلاد ، ونشأ عن ذلك أنهم أكثروا فيها الفساد ، فأنزل اللّه عليهم من العقوبات والعذاب الدنيوي ما يشبه ضرب السياط المتتابعة المتتالية ، وما أدق قوله تعالى : فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ حيث شبه اللّه ما أوقعه بهم من أنواع المهلكات وأصناف العذاب بضرب السياط الذي يكون في أشد العقوبات واللّه - جل جلاله - إنما يعذب الأمم جزاء لما كانوا يعملون إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ فهو يجازى المسيء على إساءته ، ولا يفوته واحد منهم ، ولن يعجزه أحد في الأرض ولا في السماء ، فاطمئنوا أيها المسلمون فغدا يلقى كل جزاءه ، واحذروا أيها المشركون فهؤلاء كانوا أشد منكم قوة وأكثر حجما. (1)
التفسير والبيان :
وَالْفَجْرِ ،وَلَيالٍ عَشْرٍ أي قسما من اللَّه بالفجر ، أي الصبح الذي يظهر فيه الضوء ، وينبلج النور لأنه وقت انفجار الظلمة عن الليل ، كل يوم ، وما يترتب عليه من اليقظة والاستعداد لجلب المنافع وتحقيق المصالح بالانتشار في الأرض وطلب الرزق من الإنسان والحيوان ، كما في قوله تعالى : وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير 81/ 18] ، وقوله : وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ [المدثر 74/ 34].وقيل : المراد : القسم بصلاة الفجر.
وقسما بالليالي العشر من ذي الحجة ذات الفضيلة:
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 860)(1/542)
عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللهِ مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو، وَنَحْنُ نَطُوفُ بِالْبَيْتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ " . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : " وَلَا الْجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ " (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ " يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : " وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ " (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ قَالَ : وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ، ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ. (3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: " مَا مِنْ أَيَّامٍ فِيهِنَّ الْعَمَلُ أَحَبُّ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ "، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ؟، قَالَ: " وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ "، إِلَّا رَجُلٌ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ " (4) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : " مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللهِ وَلَا أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي الْعَشْرِ الْأَضْحَى "، قِيلَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ؟، قَالَ: " وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ "، قَالَ: " وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ " (5)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَا مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامٌ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ، وَإِنَّ صِيَامَ يَوْمٍ مِنْهَا لَيُعَدُّ بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَلَيْلَةٍ مِنْهَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ !.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ، يَعْنِي الْعَشْرَ، قِيلَ: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْهُ بِشَيْءٍ.
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : مَا مِنْ أَيَّامٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ عَشَرِ ذِي الْحِجَّةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا مِثْلُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: إِلا مَنْ عَفَّرَ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ.
__________
(1) - أخبار مكة للفاكهي - (1 / 328) (670 ) صحيح
(2) - أخبار مكة للفاكهي - (1700) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (2 / 30) (324) صحيح
(4) - شعب الإيمان - (5 / 307) (3473 ) صحيح
(5) - شعب الإيمان - (5 / 309) (3476 ) صحيح(1/543)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلا الْعَمَلُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ، فَأَكْثِرُوا فِيهَا مِنَ التَّهْلِيلِ، وَالتَّحْمِيدِ، يَعْنِي: أَيَّامَ الْعَشْرِ.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَا مِنْ عَمِلٍ أَرْجَا عِنْدَ اللَّهِ وَلا أَعْظَمَ مَنْزِلَةً مِنْ خَيْرٍ عُمِلَ بِهِ فِي الْعَشْرِ مِنَ الأَضْحَى فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ؟ قَالَ: وَلا مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ! (1)
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ أي والزوج والفرد من كل الأشياء ، ومنها هذه الليالي ، أي بما حوته من زوج وفرد.
وقيل : الشفع يوم النحر لأنه عاشر الأيام ، والوتر يوم عرفة لأنه تاسع الأيام ، وقيل : الشفع : يوما التشريق الأول والثاني اللذان يجوز التعجل فيهما بالنفر من منى ، والوتر : اليوم الثالث.
وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ وقسما بالليل إذا جاء وأقبل ثم ذهب وأدبر ، كقوله تعالى : وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر 74/ 33] ، وقوله : وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ ، [التكوير 81/ 17] أي أقبل ظلامه ، أو أدبر ، فكما في إقبال الصبح من عظيم النفع ، في الظلام نفع أيضا ، حيث تهدأ النفوس ، وتستريح من عناء العمل ، ثم في ذهابه نفع أيضا حيث يستعان بالراحة التي ارتاحها الجسم للعمل في النهار ، ومجابهة المتاعب والأعمال.
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أي أليس في القسم بهذه الأشياء قسم مقنع لكل ذي عقل أو لبّ ؟ والحجر : العقل ، فمن كان ذا عقل ولبّ ، علم أن ما أقسم اللَّه به من هذه الأشياء حقيق بأن يقسم به.
ثم ذكر اللَّه تعالى بعض قصص الأمم السالفة للمثل والعبرة ، فقال : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ أي ألم تعلم أيها الإنسان المخاطب ، كيف أهلك اللَّه قبيلة عاد الأولى ، وهم ولد عاد بن حوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام ، وتلقب أيضا بإرم ، فإرم : اسم آخر لعاد الأولى ، كما قال تعالى : وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى [النجم 53/ 50] ، ويقال لمن بعدهم عاد الأخرى. ومساكنهم الأحقاف بلاد الرمال بين عمان وحضرموت ، ونبيهم هود عليه السلام.
وقد كانوا أهل عمد وخيام عالية في الربيع ، ثم يرجعون إلى منازلهم إذا هاج النبت ، وكانوا طوال القامة ، ذوي أجسام قوية شديدة ، وأشد الناس في زمانهم خلقة ، وأقواهم بطشا ، ولم يوجد في البلاد كلها مدينة محكمة البنيان ذات أعمدة طوال منحوتة كمدينتهم ، والصواب لم يوجد مثل تلك القبيلة في الطول والشدة والقوة كما قال تعالى : وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ
__________
(1) - مسند أبي عوانة (2425 -2429 ) صحيح(1/544)
قَوْمِ نُوحٍ ، وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً ، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأعراف 7/ 69] ، وقال سبحانه : فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَقالُوا : مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ ، هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصّلت 41/ 15].
وجواب القسم المبدوء به في أول السورة محذوف تقديره : لتعذبن يا كفار أهل مكة وأمثالكم ، وقد دلّ على الجواب هذه الآية : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ؟ وما بعدها.
وضمير لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها على الصواب عائد على القبيلة ، أي لم يخلق مثل عاد تلك القبيلة في البلاد ، يعني في زمانهم ، وليس على العماد لارتفاعها كما قال ابن زيد لأنه لو كان المراد ذلك لقال : التي لم يعمل مثلها في البلاد ، وإنما قال : لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (1) .
وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ أي وقبيلة ثمود قوم صالح عليه السلام الذين قطعوا الصخر ونحتوه ، وبنوا بالأحجار بيوتا يسكنون فيها ، وقصورا وأبنية عظيمة ، في الحجر ما بين الشام والحجاز ، أو وادي القرى ، كما جاء في قوله تعالى : وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ [الشعراء 26/ 149] ، وقوله سبحانه : وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ [الحجر 15/ 82].
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ أي وحاكم مصر في عهد موسى عليه السلام ، الذي هو صاحب المباني العظيمة ، ومنها الأهرام التي بناها الفراعنة لتكون قبورا لهم ، وسخّروا في بنائها شعوبهم. وقيل : الأوتاد : الجنود والعساكر والجموع والجيوش التي تشدّ ملكه.
والتعبير بالأوتاد عن الأبنية يشير إلى هياكلهم العظيمة التي لها شكل الأوتاد المقلوبة ، فهي عريضة القاعدة ، ثم تصير رفيعة دقيقة في رأسها.
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ أي هؤلاء الذين سبق ذكرهم وهم عاد وثمود وفرعون الذين تجاوزوا في بلادهم الحدّ في الظلم والجور ، وتمردوا وعتوا ، واغتروا بقوتهم ، وأكثروا الفساد فيها بالكفر والمعاصي وظلم العباد.
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ أي فأنزل اللَّه تعالى على تلك الطوائف نوعا من العذاب الشديد ، مشبها ما أوقعه بهم بالسوط المؤلم الذي يستعمل في تطبيق العقوبات. وقد ذكر نوع عقوباتهم تفصيلا في سورة الحاقة [الآيات : 5- 10].
ثم ذكر اللَّه تعالى سبب العذاب وهو الجريمة ، فقال : إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أي إن اللَّه يرصد عمل كل إنسان ، فلا يفوته شيء ، حتى يجازيه عليه بالخير خيرا ، وبالشر شرّا ، ولا يهمل منه شيئا قلّ أو كثر ، صغر أو كبر. والمرصاد : المكان الذي يرقب فيه الرصد.
__________
(1) - تفسير ابن كثير : 4/ 507(1/545)
والغرض من تكرار هذه القصص في مواضع مختلفة من القرآن الكريم هو التذكير بها ، والعظة والعبرة منها ، إما بالاستدلال على قدرته تعالى ، وإما ببيان قهره العباد ، وإما بإنذارهم وتخويفهم ، ليدركوا أن ما جرى على شخص أو قوم ، يجري على النظير والمثيل.
تنبيه هام حول مدينة عاد :
عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قِلَابَةَ ، أَنَّهُ خَرَجَ فِي طَلَبِ إِبِلٍ لَهُ نَشَزَتْ ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي صَحَارِي عَدَنِ أَبْيَنَ وَالشَّجَرُ تُظِلُّهُ فِي تِلْكَ الْفَلَوَاتِ إِذْ وَقَعَ عَلَى مَدِينَةٍ فِي تِلْكَ الْفَلَوَاتِ عَلَيْهَا حِصْنٌ حَوْلَ ذَلِكَ الْحِصْنِ قُصُورٌ كَثِيرَةٌ ، وَأَعْلَامٌ طِوَالٌ ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا ظَنَّ أَنَّ فِيهَا أَحَدًا يَسْأَلُهُ عَنْ إِبِلِهِ ، فَإِذَا لَا خَارِجَ يَخْرُجُ مِنْ بَابِ حِصْنِهَا ، وَلَا دَاخِلٌ يَدْخُلُ مِنْهُ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ نَزَلَ عَنْ نَاقَتِهِ وَ عَقَلَهَا ، ثُمَّ اسْتَلَّ سَيْفَهُ وَدَخَلَ مِنْ بَابِ الْحِصْنِ ، فَلَمَّا خَلَفَ الْحِصْنَ إِذَا هُوَ بِبَابَيْنِ عَظِيمَيْنِ لَمْ يُرَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ أَعْظَمُ مِنْهُمَا ، وَلَا أَطْوَلُ ، وَإِذَا خَشَبُهُمَا مُحْمِرٌّ ، وَفِي ذَيْنِكَ الْبَابَيْنِ مَسَامِيرُ مِنْ يَاقُوتٍ أَبْيَضَ ، وَيَاقُوتٍ أَحْمَرَ يُضِيئُ ذَانِكَ الْبَابَانِ فِيمَا بَيْنَ الْحِصْنِ وَالْمَدِينَةِ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الرَّجُلُ أَعْجَبَهُ ، وَتَعَاظَمَهُ الْأَمْرُ ، فَفَتَحَ أَحَدَ الْبَابَيْنِ وَدَخَلَ ، فَإِذَا هُوَ بِمَدِينَةٍ لَمْ يَرَ الرَّاءُونَ مِثْلَهَا قَطُّ ، وَإِذَا هِيَ قُصُورٌ : قُصُورٌ عَلَى كُلِّ قَصْرٍ مُعَلَّقٍ تَحْتَهُ أَعْمِدَةٌ مِنْ زَبَرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ ، وَمِنْ فَوْقِ كُلِّ قَصْرٍ مِنْهَا غُرَفٌ ، وَفَوْقَ الْغُرَفِ غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ ، وَالزَّبَرْجَدِ ، وَكُلُّ مَصَارِيعِ تِلْكَ الْقُصُورِ ، وَتِلْكَ الْغُرَفِ مِثْلُ مِصْرَاعَيْ بَابِ الْمَدِينَةِ مِنْ حَجَرٍ ، كُلُّهَا مُفَصَّصَةٌ بِالْيَاقُوتِ الْأَبْيَضِ ، وَالْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ ، مُتَقَابِلَةٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ، يُنَوَّرُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ، مَفْرُوشَةٌ كُلُّهَا تِلْكَ الْقُصُورُ ، وَتِلْكَ الْغُرَفُ بِاللُّؤْلُؤِ ، وَبَنَادِقٍ مِنْ مِسْكٍ وَزَعْفَرَانٍ ، فَلَمَّا عَايَنَ الرَّجُلُ مَا عَايَنَ ، وَلَمْ يَرَ فِيهَا أَحَدًا ، وَلَا أَثَرَ أَحَدٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ ، بِنَاءً لَمْ يَسْكُنْهُ أَحَدٌ ، وَلَمْ يَرَ أَثَرًا لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا عَصًا حَدِيدَةً أَهَالَهُ ذَلِكَ وَأَفْزَعَهُ ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْأَزِقَّةِ ، فَإِذَا هُوَ بِالشَّجَرِ فِي كُلِّ زُقَاقٍ مِنْهَا قَدْ أَثْمَرَتْ تِلْكَ الْأَشْجَارُ كُلُّهَا ، وَإِذَا تَحْتَ تِلْكَ الْأَشْجَارِ أَنْهَارٌ مُطَّرِدَةٌ يَجْرِي مَاؤُهَا مِنْ قَنَوَاتٍ مِنْ فِضَّةٍ ، كُلُّ قَنَاةٍ مِنْهَا أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الشَّمْسِ ، تَجْرِي تِلْكَ الْقَنَوَاتُ تَحْتَ الْأَشْجَارِ ، وَدَاخَلَ الرَّجُلَ الْعَجَبُ مِمَّا رَأَى ، وَقَالَ : وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَقِّ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِثْلَ هَذِهِ في الدُّنْيَا ، وَإِنَّ هَذِهِ لِلْجَنَّةُ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، مَا بَقِيَ مِمَّا وَصَفَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى شَيْءٌ إِلَّا وَهُوَ فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ هَذِهِ الْجَنَّةُ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَدْخَلَنِيهَا ، سَاهِرٌ عَلَى ذَلِكَ يُوامِرُ نَفْسَهُ وَيَتَدَبَّرُ رَأْيَهُ ، إِذْ دَعَتْهُ نَفْسُهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ لُؤْلُؤِهَا ، وَيَاقُوتِهَا وَ زَبَرْجَدِهَا ، ثُمَّ يَخْرُجُ حَتَّى يَأْتِيَ بِلَادَهُ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهَا ، فَفَعَلَ فَحَمَلَ مَعَهُ مِنْ لُؤْلُؤِهَا وَمِنْ بَنَادِقِ الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقْلَعَ مِنْ زَبَرْجَدِهَا شَيْئًا ، وَلَا مِنْ يَاقُوتِهَا لِأَنَّهَا مُثَبَّتَةٌ فِي أَبْوَابِهَا وَجُدْرَانِهَا ، وَكَانَ ذَلِكَ اللُّؤْلُؤُ وَالْبَنَادِقُ مِنَ الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ مَنْثُورًا فِي تِلْكَ الْغُرَفِ ، وَالْقُصُورِ كُلِّهَا ، فَأَخَذَ مَا أَرَادَ وَخَرَجَ إِلَى نَاقَتِهِ ، فَحَلَّ(1/546)
عَقْلَهَا وَرَكِبَهَا ، ثُمَّ سَارَ رَاجِعًا يَقْفُو أَثَرَ نَاقَتِهِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْيَمَنِ ، فَأَظْهَرَ مَا كَانَ مَعَهُ ، فَأَعْلَمَ النَّاسَ أَمَرَهُ ، وَمَا كَانَ مِنْ قِصَّتِهِ ، وَبَاعَ بَعْضَ اللُّؤْلُؤِ ، وَكَانَ ذَلِكَ اللُّؤْلُؤُ قَدِ اصْفَرَّ مِنْ طُولِ مُرُورِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَزَلْ أَمْرُ ذَلِكَ الرَّجُلِ يَنْمَى وَيَخْرُجُ حَتَّى بَلَغَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَأَرْسَلَ رَسُولًا وَكَتَبَ إِلَى صَاحِبِ صَنْعَاءَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَبْعَثَ لَهُ الرَّجُلَ لَيَسْأَلَهُ عَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ ، فَخَرَجَ بِهِ رَسُولُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مِنَ الْيَمَنِ حَتَّى قَدِمَ بِهِ الشَّامَ ، وَأَمَرَ صَاحِبَ صَنْعَاءَ الرَّجُلَ أَنْ يَخْرُجَ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ مَتَاعِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ ، فَسَارَ الرَّجُلُ وَرَسُولُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، حَتَّى قَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ ، فَخَلَّى بِهِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَسَأَلَهُ عَمَّا رَأَى وَعَايَنَ ، فَقَصَّ عَلَيْهِ أَمْرَ الْمَدِينَةِ ، وَمَا رَأَى فِيهَا شَيْئًا شَيْئًا ، فَأَعْظَمَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ وَأَنْكَرَ مَا حَدَّثَهُ وَقَالَ : " مَا أَظُنُّ مَا تَقُولُ حَقًّا ؟ " فَقَالَ الرَّجُلُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، هِيَ مِنْ مَتَاعِهَا الَّذِي هُوَ مَفْرُوشٌ فِي قُصُورِهَا وَغُرَفِهَا وَبُيُوتِهَا . قَالَ : " مَا هُوَ ؟ " قَالَ : اللُّؤْلُؤُ وَبَنَادِقُ الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ : " هَاتِ حَتَّى أَرَاهُ " . فَأَرَاهُ لُؤْلُؤًا أَصْفَرَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنَ اللُّؤْلُؤِ ، وَأَرَاهُ تِلْكَ الْبَنَادِقَ ، فَشَمَّهَا مُعَاوِيَةُ فَلَمْ يَجِدْ لَهَا رِيحًا ، فَأَمَرَ بِدَقِّ بُنْدُقَةٍ مِنْ تِلْكَ الْبَنَادِقِ ، فَسَطَعَ رِيحُهَا مِسْكًا وَزَعْفَرَانًا فَصَدَّقَهُ مُعَاوِيَةُ عِنْدَ ذَلِكَ وَقَالَ : " كَيْفَ لِي حَتَّى أَعْلَمَ مَا اسْمُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ ؟ وَمَنْ بَنَاهَا ؟ وَلِمَنْ كَانَتْ ؟ فَواللَّهِ ، مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُعْطِيَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَمَا مَلَكَ سُلَيْمَانُ مِثْلَ هَذِهِ الْمَدِينَةَ " . فَقَالَ بَعْضُ جُلَسَاءِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ خَبَرَ هَذِهِ الْمَدِينَةِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا فِي زَمَانِنَا هَذَا إِلَّا عِنْدَ كَعْبِ الْأَحْبَارِ ، فَإِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ ، وَيَأْمُرَ بِأَنْ يَغِيبَ عَنْهُ هَذَا الرَّجُلُ ، فَإِنَّهُ سَيُخْبِرُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَمْرِهَا ، وَأَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ ، إِنْ كَانَ دَخَلَهَا ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَدِينَةِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَسْتَطِيعُ هَذَا الرَّجُلُ دُخُولَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ دُخُولُهُ إِيَّاهَا ، فَابْعَثْ إِلَى كَعْبٍ فَإِنَّهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحَدًا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَعْلَمَ مِنْهُ ، وَلَا مَنْ مَضَى مِنَ الدَّهْرِ ، وَلَا يَكُونُ مِنْ بَعْدِ الْيَوْمِ إِلَّا هُوَ فِي التَّوْرَاةِ مُفَسَّرًا مَنْسُوبًا مَعْرُوفًا مَكَانُهُ ، فَلْيَبْعَثْ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ، فَإِنَّهُ سَيَجِدُ خَبَرَهَا عِنْدَهُ ، فَأَرْسَلَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى كَعْبِ الْأَحْبَارِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ : " يَا أَبَا إِسْحَاقَ ، إِنِّي دَعَوْتُكَ لِأَمْرٍ رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ عِنْدَكَ " . قَالَ كَعْبٌ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ ، فَسَلْنِي عَمَّا بَدَا لَكَ ؟ قَالَ : " أَخْبِرْنِي يَا أَبَا إِسْحَاقَ ، هَلْ بَلَغَكَ أَنَّ فِي الدُّنْيَا مَدِينَةً مَبْنِيَّةً بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَعُمُدُهَا زَبَرْجَدٌ وَيَاقُوتٌ وَحَصْبَاءُ ، قُصُورُهَا وَغُرَفُهَا اللُّؤْلُؤُ ، فِيهَا أَجِنَّتُهَا وَأَنْهَارُهَا فِي الْأَزِقَّةِ تَحْتَ الْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ ؟ " قَالَ كَعْبٌ : وَالَّذِي نَفْسُ كَعْبٍ بِيَدِهِ لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنِّي سَأُوَسَّدُ يَمِينِي قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَنِي أَحَدٌ عَنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ وَمَا فِيهَا وَلِمَنْ هِيَ ؟ ، وَلَكِنْ أُخْبِرُكَ بِهَا ، وَمَنْ بَنَاهَا ؟ ، وَلِمَنْ هِيَ ؟ : أَمَّا تِلْكَ الْمَدِينَةُ ، فَهِيَ حَقٌّ كَمَا بَلَغَ(1/547)
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَعَلَى مَا وُصِفَ لَهُ ، وَأَمَّا صَاحِبُهَا الَّذِي بَنَاهَا ، فَشَدَّادُ بْنُ عَادٍ ، وَأَمَّا الْمَدِينَةُ فَإِرَمُ ذَاتُ الْعِمَادِ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - : إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَهِيَ كَمَا وُصِفَ لَكَ لَمْ يُبْنَ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ . فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : " حَدِّثْنَا بِحَدِيثِهَا يَا أَبَا إِسْحَاقَ ، يَرْحَمُكَ اللَّهُ تَعَالَى " . قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : أُخْبِرُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّ عَادًا الْأُولَى لَيْسَ عَادَ قَوْمِ هُودٍ ، وَلَكِنْ عَادٌ الْأُولَى إِنَّمَا هُوَ هُودٌ ، وَقَوْمُ هُودٍ وَلَدُ ذَلِكَ ، فَكَانَ عَادٌ لَهُ ابْنَانِ : فَسَمَّى أَحَدَهُمَا شَدِيدًا ، وَالْآخَرَ شَدَّادًا ، فَهَلَكَ عَادٌ فَبَغَيَا ، وَتَجَبَّرَا ، وَمَلَكَا فَقَهَرَا كُلَّ الْبِلَادِ ، وَأَخَذَاهَا عَنْوَةً وَقَسْرًا حَتَّى دَانَ لَهُمَا جَمِيعُ الْقَبَائِلِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ فِي زَمَانِهِمَا إِلَّا وَهُوَ فِي طَاعَتِهِمَا ، لَا فِي مَشْرِقِ الْأَرْضِ ، وَلَا فِي مَغْرِبِهَا ، وَإِنَّهُ لَمَّا صَفَا لَهُمَا ذَلِكَ ، وَقَرَّ قَرَارُهُمَا مَاتَ شَدِيدٌ وَبَقِيَ شَدَّادٌ ، فَمَلَكَ وَحْدَهُ ، وَلَمْ يُنَازِعْهُ أَحَدٌ ، وَدَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا كُلُّهَا بِأَسْرِهَا ، فَكَانَ مُولَعًا بِقِرَاءَةِ الْكُتُبِ الْأُولَى الْفَانِيَةِ ، وَكُلَّمَا مَرَّ فِيهِ بِذِكْرِ الْجَنَّةِ ، وَمَا سَمِعَ مِمَّا فِيهَا مِنَ الْبُنْيَانِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ دَعَتْهُ نَفْسُهُ أَنْ يُقَلِّدَ تِلْكَ الصِّفَةَ فِي الدُّنْيَا عُتُوًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِبْرًا ، فَلَمَّا وَقَرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ ، وَالَّذِي يُرِيدُ أَمَرَ بِصَنْعَةِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ، وَأَمَرَ عَلَى صُنْعِهَا مِائَةَ قَهْرَمَانٍ ، مَعَ كُلِّ قَهْرَمَانٍ أَلْفٌ مِنَ الْأَعْوَانِ . قَالَ : انْطَلِقُوا إِلَى أَطْيَبِ فَلَاةٍ فِي الْأَرْضِ وَأَوْسَعِهَا ، فَاعْمَلُوا لِي فِيهَا مَدِينَةً مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ ، وَيَاقُوتٍ وَزَبَرْجَدٍ وَلُؤْلُؤٍ تَحْتَ تِلْكَ الْمَدِينَةِ أَعْمِدَةٌ مِنْ زَبَرْجَدٍ ، وَعَلَى الْمَدِينَةِ قُصُورٌ ، وَمِنْ فَوْقِ الْقُصُورِ غُرَفٌ ، وَمِنْ فَوْقِ الْغُرَفِ غُرَفٌ ، وَاغْرِسُوا تَحْتَ الْقُصُورِ فِي أَزِقَّتِهَا أَصْنَافَ الثِّمَارِ كُلَّهَا ، وَأَجْرُوا فِيهَا الْأَنْهَارَ حَتَّى يَكُونَ تَحْتِ الْأَشْجَارِ ، فَإِنِّي أَسْمَعُ فِي الْكِتَابِ صِفَةَ الْجَنَّةِ ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَجْعَلَ مِثْلَهَا فِي الدُّنْيَا ، أَتَعَجَّلُ سُكْنَاهَا . فَقَالَ لَهُ قَهَارِمَتُهُ - وَكَانُوا مِائَةَ قَهْرَمَانٍ - تَحْتَ يَدِ كُلِّ قَهْرَمَانٍ مِنْهُمْ أَلْفٌ مِنَ الْأَعْوَانِ : كَيْفَ لَنَا أَنْ نَقْدِرَ عَلَى مَا وَصَفْتَ لَنَا مِنَ الزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ وَاللُّؤْلُؤِ ، وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تَبْنِي مِنْهُ مَدِينَةً مِنَ الْمَدَائِنِ كَمَا وَصَفْتَ لَنَا ؟ مَتَى نَقْدِرُ عَلَى هَذَا الذَّهَبِ كُلِّهِ وَهَذِهِ الْفِضَّةِ ؟ فَقَالَ لَهُمْ شَدَّادٌ : أَلَيْسَ تَعْلَمُونَ أَنَّ مُلْكَ الدُّنْيَا كُلِّهَا بِيَدِي ؟ قَالُوا : بَلَى . قَالَ : فَانْطَلِقُوا إِلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَعْدِنٍ مِنْ مَعَادِنِ الزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ ، أَوْ بَحْرٍ فِيهِ لُؤْلُؤٌ ، أَوْ مَعْدِنُ ذَهَبٍ ، أَوْ فِضَّةٍ ، وَوَكِّلُوا بِهِ مِنْ كُلِّ قَوْمٍ رَجُلًا يُخْرِجُ لَكُمْ مَا كَانَ فِي كُلِّ مَعْدِنٍ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ ، ثُمَّ انْطَلِقُوا ، فَانْظُرُوا إِلَى مَا كَانَ فِي أَيْدِي النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ ، فَخُذُوهُ سِوَى مَا يَأْتِيكُمْ بِهِ أَصْحَابُ الْمَعَادِنِ ، فَإِنَّ مَعَادِنَ الدُّنْيَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، وَمَا فِيهَا مِمَّا لَا تَعْلَمُونَ بِهِ أَكْثَرُ ، وَأَعْظَمُ مِمَّا كُلِّفْتُمْ مِنْ صَنْعَةِ هَذِهِ الْمَدِينَةِ . قَالَ : فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ ، فَكَتَبَ مِنْهُ إِلَى كُلِّ مَلِكٍ فِي الدُّنْيَا يَأْمُرُهُ أَنْ يَجْمَعَ مَا فِي بِلَادِهِ مِنْ جَوْهَرِهَا ، وَيَحْفُرَ مَعَادِنَهَا ، فَانْطَلَقَ أُولَئِكَ الْقَهَارِمَةُ ، فَبَعَثُوا بِكَلِّ كِتَابٍ إِلَى مَلِكٍ مِنْ تِلْكَ الْمُلُوكِ ، وَأَخَذَ كُلُّ مَلِكٍ مَا يَجِدُ فِي يَدَيْهِ فِي مُلْكِهِ عَشْرَ سِنِينَ حَتَّى بَعَثَ إِلَى فَعَلَةِ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ بِمَا قَبْلَهُ مِمَّا سَأَلَهُ مِنَ الزَّبَرْجَدِ ، وَالْيَاقُوتِ وَاللُّؤْلُؤِ ، وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَأَخَذَ الْقَوْمُ فِي(1/548)
طَلَبِهِمْ لَهُ مَوَاضِعَ ، كُلَّمَا أَرَادُوا وَضَعَهُ لَهُمْ مِنَ الْبَسَاتِينَ بَسَاتِينِ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ، وَإِجْرَاءِ الْأَنْهَارِ وَغَرْسِ الْأَشْجَارِ ، وَحُدُودِهَا عَلَى مَا وَصَفَ لَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ " . فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ : " يَا أَبَا إِسْحَاقَ ، وَكَمْ كَانَ عَدَدُ تِلْكَ الْمُلُوكِ الَّتِي كَانَتْ إِرَمُ ؟ " قَالَ : كَانَتْ مِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ مَلِكًا قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ ، كُلُّ مَلِكٍ مِنْهُمْ عَلَى حِدَةٍ ، وَمَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَرَاجِ . فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ : " أَتْمِمْ حَدِيثَكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ " . قَالَ : فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْفَعَلَةُ وَالْقَهَارِمَةُ ، فَتَبَدَّدُوا فِي الصَّحَارِي لِيَجِدُوا مَا يُوَافِقُهُ فَلَمْ يَجِدُوا ذَلِكَ حَتَّى وَقَفُوا عَلَى صَحْرَاءَ عَظِيمَةٍ نَقِيَّةٍ مِنَ الْجِبَالِ وَالتِّلَالِ ، فَإِذَا هُمْ بِعُيُونٍ مُطَّرِدَةٍ فَقَالُوا : هَذِهِ صِفَةُ إِرَمَ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا فَعَمَدُوا ، فَأَخَذُوا بِقَدْرِ الَّذِي أَمَرَهُمْ مِنَ الْعَرْضِ وَالطُّولِ ، ثُمَّ جَعَلُوا ذَلِكَ بِحُدُودٍ مَحْدُودَةٍ ، ثُمَّ عَمَدُوا إِلَى مَوَاضِعِ الْأَزِقَّةِ الَّتِي فِيهَا الْحُدُودُ ، فَأَجْرَوْا فِيهَا قَنَوَاتِ تِلْكَ الْأَنْهَارِ ، ثُمَّ وَضَعُوا الْأَسَاسَ مِنْ صُخُورِ الْجَزَعِ الْيَمَانِي ، وَعَبَّوْا طِينَ ذَلِكَ الْأَسَاسِ مِنْ مُرٍّ وَلُبَانٍ ، وَمَحْلَبٍ ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِمَّا وَضَعُوا مِنَ الْأَسَاسِ ، وَأَجْرَوُا الْقَنَوَاتِ ، وَأُرْسِلَتْ إِلَيْهِمُ الْمُلُوكُ بِالزَّبَرْجَدِ ، وَالْيَاقُوتِ وَالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ وَاللُّؤْلُؤِ ، وَالْجَوْهَرِ ، كُلُّ مَلِكٍ قَدْ عَمِلَ مَا كَانَ فِي مَعْدِنِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ بَعَثَ بِالْعُمُدِ مَفْرُوغٌ مِنْهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَعَثَ بِالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ مَفْرُوغٌ مِنْهُ مَصْنُوعًا ، فَدَفَعُوهُ إِلَى تِلْكَ الْقَهَارِمَةِ وَالْوُزَرَاءِ ، فَأَقَامُوا فِيهَا حَتَّى فَرَغُوا مِنْ بِنَائِهَا ، وَهِيَ عَلَى تِلْكَ الْعُمُدِ ، وَهِيَ قُصُورٌ مِنْ فَوْقِ الْقُصُورِ غُرَفٌ ، وَمِنْ فَوْقِ الْغُرَفِ غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَالزَّبَرْجَدِ ، وَالْيَاقُوتِ الَّتِي بَعَثَ بِهَا الْمُلُوكُ . فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : " يَا أَبَا إِسْحَاقَ ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسِبُهُمْ قَدْ أَقَامُوا فِي بِنَائِهَا زَمَانًا مِنَ الدَّهْرِ ؟ " قَالَ : نَعَمْ ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنِّي لَأَجِدُ مَكْتُوبًا فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُمْ أَقَامُوا فِي بِنَائِهَا ، وَمَا أَجَّلَهُمُ الْمُلُوكُ فِي الَّذِي أَمَرَهُمْ مِنْ حَمْلِ مَا فِي الدُّنْيَا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ زَبَرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ ، وَلُؤْلُؤٍ وَذَهَبٍ وَفِضَّةٍ حَتَّى فَرَغُوا مِنْهَا ، أَجِدُهُ مَكْتُوبًا ثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ . قَالَ مُعَاوِيَةُ : " وَكَمْ كَانَ عُمْرُ شَدَّادِ بْنِ عَادٍ صَاحِبُهَا ؟ " قَالَ : كَانَ عُمْرُهُ تِسْعَمِائَةِ سَنَةٍ . قَالَ مُعَاوِيَةُ : " يَا أَبَا إِسْحَاقَ ، لَقَدْ أَخْبَرْتَنَا عَجَبًا ، فَحَدِّثْنَا " . قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّمَا سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى : إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ الَّتِي لَمْ يُعْمَلْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ، لِلَّذِي فِيهَا مِنَ الزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ ، وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا مَدِينَةٌ بِالزَّبَرْجَدِ غَيْرُهَا وَلَا يَاقُوتٌ غَيْرُهَا ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ قَالَ كَعْبٌ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّهُمْ لَمَّا أَتَوْهُ فَأَخْبَرُوهُ بِفَرَاغِهِمْ مِنْهَا قَالَ : انْطَلِقُوا فَاجْعَلُوا عَلَيْهَا حِصْنًا ، وَاجْعَلُوا حَوْلَ الْحِصْنِ أَلْفَ قَصْرٍ عِنْدَ كُلِّ قَصْرٍ أَلْفُ عَلَمٍ ، يَكُونُ فِي قَصْرٍ مِنْ تِلْكَ الْقُصُورِ ، وَزِيرٌ مِنْ وُزَرَائِي ، وَيَكُونُ فَوْقَ كُلِّ عَلَمٍ مِنْهَا نَاطُورٌ قَالَ : فَرَجَعُوا ، فَعَمِلُوا تِلْكَ الْقُصُورَ وَالْأَعْلَامَ وَالْحِصْنَ ، ثُمَّ أَتَوْهُ ، فَأَخْبَرُوهُ بِالْفَرَاغِ مِمَّا أَمَرَهُمْ بِهِ . قَالَ : فَأَمَرَ أَلْفَ وَزِيرٍ مِنْ أَهْلِ خَاصَّتِهِ ، وَمَنْ يَثِقُ بِهِ أَنْ يَتَهَيَّأُوا إِلَى النَّقْلَةِ إِلَى إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ، وَأَمَرَ لِتِلْكَ الْأَعْلَامِ بِرِجَالٍ يَسْكُنُونَهَا ، وَيُقِيمُونَ فِيهَا لَيْلَهُمْ وَنَهَارَهُمْ ، وَأَمَرَ لَهُمْ بِالْعَطَاءِ وَالْأَرْزَاقِ ، وَالْجِهَازِ إِلَى تِلْكَ الْأَعْلَامِ ، قَالَ :(1/549)
وَأَمَرَ الْمَلِكُ مَنْ أَرَادَ مِنْ نِسَائِهِ ، وَخَدَمِهِ بِالْجِهَازِ إِلَى إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ، فَأَقَامُوا فِي جَهَازِهِمْ إِلَيْهَا عَشْرَ سِنِينَ ، فَسَارَ الْمَلِكُ بِمَنْ أَرَادَ ، وَخَلَفَ مِنْ قَوْمِهِ فِي عَدَنِ أَبْيَنَ ، وَالشُّجَرَاءُ كُثْرٌ مِمَّا سَارَ ، فَلَمَّا اسْتَقَلَّ وَسَارَ إِلَيْهَا لِيَسْكُنَهَا ، وَبَلَغَهَا إِلَّا مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ ، وَعَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ صَيْحَةً مِنَ السَّمَاءِ ، فَأَهْلَكَتْهُمْ جَمِيعًا ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، وَلَمْ يَدْخُلْ إِرَمَ ذَاتَ الْعِمَادِ ، وَلَا مَنْ كَانَ مَعَهُ ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى السَّاعَةِ ، فَهَذِهِ صِفَةُ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَسَيَدْخُلُهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَانِكَ هَذَا وَيَرَى مَا فِيهَا ، وَيُحَدِّثُ بِمَا فِيهَا ، وَلَا يُصَدَّقُ . قَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ : " يَا أَبَا إِسْحَاقَ ، هَلْ تَصِفُهُ ؟ " قَالَ : نَعَمْ ، هُوَ رَجُلٌ أَحْمَرُ أَشْقَرُ قَصِيرٌ ، عَلَى حَاجِبِهِ خَالٌ ، وَعَلَى عُنُقِهِ خَالٌ ، يَخْرُجُ ذَلِكَ الرَّجُلُ فِي طَلَبِ إِبِلٍ لَهُ فِي تِلْكَ الصَّحَارِي ، فَيَقَعُ عَلَى إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ فَيَدْخُلُهَا وَيَحْمِلُ مِمَّا فِيهَا ، وَالرَّجُلُ جَالِسٌ عِنْدَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَالْتَفَتَ كَعْبٌ فَرَأَى ذَلِكَ الرَّجُلَ ، فَقَالَ : هَذَا ذَلِكَ الرَّجُلُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَاسْأَلْهُ عَمَّا حَدَّثْتُكَ بِهِ ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : يَا أَبَا إِسْحَاقَ ، هَذَا مِنْ خَدَمِي ، وَلَمْ يُبَالِ حَتَّى قَالَ : فَقَدْ دَخَلَهَا ، وَإِلَّا فَسَيَدْخُلُهَا ، وَسَيَدْخُلُهَا أَهْلُ هَذَا الدِّينِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ . فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ : " لَقَدْ فَضَّلَكَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَبَا إِسْحَاقَ عَلَى غَيْرِكَ مِنَ الْعُلَمَاءِ ، وَلَقَدْ أُعْطِيتَ مِنْ عِلْمِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ " . فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي التَّوْرَاةِ لِعَبْدِهِ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامُ ، تَفْسِيرًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَشِدَّةٌ وَوَعِيدٌ ، وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ، وَشِدَّةٌ وَوَعِيدًا " (1)
قال ابن خلدون : وهذه المدينة لم يسمع لها خبر من يومئذ في شيء من بقاع الأرض ، وصحارى عدن التي زعموا أنها بنيت فيها هي في وسط اليمن وما زآل عمرانه متعاقباً والأدلاء تقص طرقهُ من كل وجه . ولم ينقل عن هذه المدينة خبر ولا ذكرها أحد من الأخباريين ولا من الأمم ، ولو قالوا : إنها درست فيما درس من الآثار لكان أشبهُ ، إلا أن ظاهر كلامهم أنها موجودة ، وبعضهم يقول : إنها دمشق ، بناء على أن قوم عاد ملكوها . وقد انتهى الهذيان ببعضهم إلى أنها غائبة ، وإنما يعثر عليها أهل الرياضة والسحر . مزاعم كلها أشبهُ بالخرافات . والذي حمل المفسرين على ذلك ما اقتضته صناعة الإعراب في لفظه : { ذَاتِ الْعِمَادِ } أنها صفة { إِرَمَ } وحملوا العماد على الأساطين ؛ فتعين أن يكون بناء ، ورشح لهم ذلك قراءة ابن الزبير : عاد إرم على الإضافة من غير تنوين . ثم وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة التي هي أقرب إلى الكذب المنقولة في عداد المضحكات ، وإلا فالعماد هي عماد الأخبية بل الخيام . وإن أريد بها الأساطين ، فلا بدع في
__________
(1) - الْعَظَمَةُ لِأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ (954 ) وفيه انقطاع وجهالة وهو من الإسرائليات الممجوجة(1/550)
وصفهم بأنهم أهل بناء وأساطين على العموم ، بما اشتهر من قوتهم ، لا أنه بناء خاص في مدينة معينة أو غيرها . وإن أضيفت ، كما في قراءة ابن الزبير ، على إضافة الفصيلة إلى القبيلة ، كما تقول : قريش كنانة وإلياس مضر ، وربيعة نزار . وأي ضرورة إلى هذا المحمل البعيد الذي تمحلت لتوجيهه لأمثال هذه الحكايات الواهية التي ينزه كتاب الله عن مثلها لبعدها عن الصحة ؟ انتهى . وسبقه الحافظ ابن كثير في تفسيره حيث قال : ومن زعم أن المراد بقوله : {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } مدينة إما دمشق أو اسكندرية ، ففيه نظر ؛ فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا إن جعل { إِرَمَ } بدلاً أو عطف بيان ؟ فإنه لا يتسق الكلام حينئذ . ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد ، وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يردّ ، لا أن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم
قال : وإنما نبهت على ذلك لئلا يغتر بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عند هذه الآية ، من ذكر مدينة يقال لها : { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } مبنية بلبن الذهب والفضة إلخ ؛ فإن هذا كله من خرافات الإسرائيلين ، من وضع بعض زنادقتهم ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس إن صدقهم في جميع ذلك . وحكاية عبد الله بن قلابة الأعرابي ليس يصح إسنادها ، ولو صح إلى ذلك الأعرابي ، فقد يكون اختلق ذلك ، أو أنه أصابه نوع من الهوس والخبال ، فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج ، وليس كذلك ، وهذا مما يقطع بعدم صحته ، وهذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة والطامعين والمتخيلين ، ومن وجود مطالب تحت الأرض فيها قناطير الذهب والفضة وألوان الجواهر واليواقيت واللآلئ والإكسير الكبير ، لكن عليها موانع تمنع من الوصول إليها والأخذ منها ، فيحتالون على أموال الأغنياء والضعفة والسفهاء ، فيأكلونها بالباطل في صرفها في بخاخير وعقاقير ، ونحو ذلك من الهذيانات ، ويطنزون بهم ، والله سبحانه وتعالى الهادي للصواب . انتهى . (1)
ومضات :
في الآيات الأربع الأولى أقسام ربانية بالفجر والليل الذي يجري حتى ينتهي إلى الفجر والنهار وبالليال العشر المباركة وبالشفع والوتر. أما جواب القسم فقيل إنه في جملة إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ حيث يعني أن اللّه يقسم إنه بالمرصاد للطغاة الجاحدين كما فعل بأمثالهم السابقين المذكورين. وقيل إنه محذوف مقدر بأن ما يسمعه الناس من الإنذار حقّ لا ريب فيه أو بأن اللّه الذي هو بالمرصاد للطغاة الجاحدين ليعذبنهم أو ليقتصن منهم كما فعل بأمثالهم .
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 215)(1/551)
والآية الخامسة توكيد رباني بأن فيما فعله اللّه في الأولين وفي قسمه بأنه بالمرصاد للطغاة الجاحدين مقنعا لذوي العقول والبصائر.
والأسلوب الاستفهامي الذي جاءت فيه الآية السادسة وما بعدها يلهم أن أخبار عاد وثمود وفرعون وآثارهم والعذاب الرباني الذي حل فيهم غير مجهول عند سامعي القرآن كما يلهم أن ذكرهم هو في معرض التذكير والإنذار والموعظة.
وبهذا يستحكم جواب القسم والإنذار الذي انطوى فيه ، وهذا وذاك هو هدف القصص القرآنية.
ولقد وردت إشارة خاطفة إلى فرعون في سورة المزمل. وأسلوبها يلهم ذينك الأمرين معا. وحكمة ذلك ظاهرة. فالسامع يتأثر بالقصص التي يعرفها أو يعرف عنها شيئا أكثر مما لا يعرفه. وقصة فرعون مع بني إسرائيل وموسى مفصلة في سفر الخروج من أسفار التوراة. ولا بد من أن العرب كانوا يعرفون كثيرا منها من طريق الكتابيين الذين كانوا بينهم ، والذين كانت هذه الأسفار متداولة عندهم.
ولقد رجحنا أن الأوتاد هي الأهرام المصرية لأنها جاءت مع ذكر فرعون. ولقد كان تجار الحجاز يصلون في رحلاتهم التجارية إلى مصر بطريق شرق الأردن وفلسطين على ما تلهم آيات في سورة الصافات التي تذكر الحجازيين بما رأوه من آثار تدمير اللّه سدوم وعمورة بلدي لوط في غور أريحا ، وهي هذه : وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) ولقد ذكرت الروايات اسم عمرو بن العاص من جملة من زاروا مصر قبل إسلامه. والمتبادر أن الأهرام وهولها ومماثلتها للجبال مما كان يتحدث به الزوار.
أما قصص عاد وثمود فليست واردة في أسفار أهل الكتاب المتداولة. وهي في صدد قومين عربيين قديمين. وأسلوب الآيات يلهم أن السامعين لا يجهلونها و أنها وصلت إليهم منقولة من جيل إلى جيل. وفي سورة العنكبوت آية قد يكون فيها دليل على أن من سامعي القرآن من زار مساكن عاد وثمود ورأى أطلالها وخرائبها وسمع أن اللّه تعالى قد دمرها بعذابه بسبب تكذيب أهليها لرسوليهم هود وصالح عليهما السلام وهي هذه : وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وبلاد عاد هي في جنوب اليمن مما يعرف اليوم ببلاد حضرموت وبلاد ثمود هي في شمال الجزيرة العربية وعلى طريق بلاد الشام مما يعرف اليوم ببلاد مداين صالح. وكانت القوافل الحجازية التجارية تمرّ بمداين صالح في طريقها إلى بلاد الشام ومصر كما كانت تصل إلى بلاد حضرموت في رحلتها الشتوية إلى اليمن.(1/552)
ولقد تكررت قصص فرعون وثمود وعاد في القرآن مرارا ، مسهبة حينا ومقتضبة حينا حسب حكمة التنزيل بسبب تكرر المناسبات والمواقف على ما شرحناه في سورة القلم.
وفي القصص الواردة في السور الأخرى بيانات كثيرة عنهم وعن أنبيائهم ومواقفهم منهم ونكال اللّه عليهم. وفي كتب التفسير بيانات كثيرة على هامشها أيضا معزوة إلى علماء الصدر الإسلامي الأول حيث يفيد هذا أن الحديث في هذه القصص مما كان يجري في بيئة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعصره متصلا بالأجيال السابقة. ومما يؤيد القول بمعرفة أهل هذه البيئة والعصر أشياء كثيرة منها.
ونكتفي الآن بما قلناه على أن نعلق بما يقتضي في المناسبات الآتية إن شاء اللّه.
والمتبادر أن ما احتوته الآيات هنا عنهم هو بسبيل التنويه بما كانوا عليه من قوة وبسطة ، وبسبيل تقرير أنهم لم يعجزوا اللّه حينما طغوا وتجبروا فصبّ عليهم عذابه ونكّل بهم ، وبسبيل البرهنة على قدرته على كل من يسير في طريقهم من التجبر والطغيان والتمرد على اللّه ، وكل هذا متصل بأهداف القصص القرآنية كما هو واضح.
هذا ، والآيات لا تحتوي إشارة إلى موقف معين للمكذبين والجاحدين.
ولذلك يصح أن يقال إنها بسبيل الإنذار والتذكير والتحذير من الطغيان والفساد والتمرد على اللّه ودعوته بصورة عامة. وفي هذا ما هو واضح من التلقين الجليل المستمر المدى. (1)
هذا القسم في مطلع السورة يضم هذه المشاهد والخلائق . ذات الأرواح اللطيفة المأنوسة الشفيفة : { والفجر } . . ساعة تنفس الحياة في يسر ، وفرح ، وابتسام ، وإيناس ودود ندي ، والوجود الغافي يستيقظ رويداً رويداً ، وكأن أنفاسه مناجاة ، وكأن تفتحه ابتهال!
{ وليال عشر } أطلقها النص القرآني ووردت فيها روايات شتى . . قيل هي العشر من ذي الحجة ، وقيل هي العشر من المحرم . وقيل هي العشر من رمضان . . وإطلاقها هكذا أوقع وأندى . فهي ليال عشر يعلمها الله . ولها عنده شأن . تلقي في السياق ظل الليلات ذات الشخصية الخاصة . وكأنها خلائق حية معينة ذوات أرواح ، تعاطفنا ونعاطفها من خلال التعبير القرآني الرفاف!
{ والشفع والوتر } . . يطلقان روح الصلاة والعبادة في ذلك الجو المأنوس الحبيب . جو الفجر والليالي العشر . . « ومن الصلاة الشفع والوتر » ( كما جاء في حديث أخرجه الترمذي ) وهذا المعنى هو أنسب المعاني في هذا الجو . حيث تلتقي روح العبادة الخاشعة ، بروح الوجود الساجية! وحيث تتجاوب الأرواح العابدة مع أرواح الليالي المختارة ، وروح الفجر الوضيئة .
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 533)(1/553)
{ والليل إذا يسر } . . والليل هنا مخلوق حي ، يسري في الكون ، وكأنه ساهر يجول في الظلام! أو مسافر يختار السرى لرحلته البعيدة! يا لأناقة التعبير! ويا لأنس المشهد! ويا لجمال النغم! ويا للتناسق مع الفجر ، والليالي العشر . والشفع والوتر!
إنها ليست ألفاظاً وعبارات . إنما هي أنسام من أنسام الفجر ، وأنداء مشعشعة بالعطر! أم إنه النجاء الأليف للقلب؟ والهمس اللطيف للروح؟ واللمس الموحي للضمير؟
إنه الجمال . . الجمال الحبيب الهامس اللطيف . الجمال الذي لا يدانيه جمال التصورات الشاعرية الطليقة . لأنه الجمال الإبداعي ، المعبر في الوقت ذاته عن حقيقة .
ومن ثم يعقب عليه في النهاية : { هل في ذلك قسم لذي حجر } ؟ وهو سؤال للتقرير . إن في ذلك قسماً لذي لب وعقل . إن في ذلك مقنعاً لمن له إدراك وفكر . ولكن صيغة الاستفهام مع إفادتها التقرير أرق حاشية . فهي تتناسق مع ذلك الجو الهامس الرقيق!
أما المقسم عليه بذلك القسم ، فقد طواه السياق ، ليفسره ما بعده ، فهو موضوع الطغيان والفساد ، وأخذ ربك لأهل الطغيان والفساد ، فهو حق واقع يقسم عليه بذلك القسم في تلميح يناسب لمسات السورة الخفيفة على وجه الإجمال : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد ، إرم ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد؟ وثمود الذين جابوا الصخر بالواد؟ وفرعون ذى الأوتاد؟ . . الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد ، فصب عليهم ربك سوط عذاب؟ إن ربك لبالمرصاد } .
وصيغة الاستفهام في مثل هذا السياق أشد إثارة لليقظة والالتفات . والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ابتداء . ثم هو لكل من تتأتى منه الرؤية أو التبصر في مصارع أولئك الأقوام ، وكلها مما كان المخاطبون بالقرآن أول مرة يعرفونه؛ ومما تشهد به الآثار والقصص الباقية في الأجيال المتعاقبة ، وإضافة الفعل إلى { ربك } فيها للمؤمن طمأنينة وأنس وراحة .
وبخاصة أولئك الذين كانوا في مكة يعانون طغيان الطغاة ، وعسف الجبارين من المشركين ، الواقفين للدعوة وأهلها بالمرصاد .
وقد جمع الله في هذه الآيات القصار مصارع أقوى الجبارين الذين عرفهم التاريخ القديم . . مصرع : « عاد إرم » وهي عاد الأولى . وقيل : إنها من العرب العاربة أو البادية . وكان مسكنهم بالأحقاف وهي كثبان الرمال . في جنوبي الجزيرة بين حضرموت واليمن . وكانوا بدواً ذوي خيام تقوم على عماد . وقد وصفوا في القرآن بالقوة والبطش ، فقد كانت قبيلة عاد هي أقوى قبيلة في وقتها وأميزها : { التي لم يخلق مثلها في البلاد } في ذلك الأوان . .
{ وثمود الذين جابوا الصخر بالواد } . . وكانت ثمود تسكن بالحجر في شمال الجزيرة العربية بين المدينة والشام . وقد قطعت الصخر وشيدته قصوراً؛ كما نحتت في الجبال ملاجئ ومغارات . .(1/554)
{ وفرعون ذي الأوتاد } . . وهي على الأرجح الأهرامات التي تشبه الأوتاد الثابتة في الأرض المتينة البنيان . وفرعون المشار إليه هنا هو فرعون موسى الطاغية الجبار .
هؤلاء هم { الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد } . . وليس وراء الطغيان إلا الفساد . فالطغيان يفسد الطاغية ، ويفسد الذين يقع عليهم الطغيان سواء . كما يفسد العلاقات والارتباطات في كل جوانب الحياة . ويحول الحياة عن خطها السليم النظيف ، المعمر الباني ، إلى خط آخر لا تستقيم معه خلافة الإنسان في الأرض بحال . .
إنه يجعل الطاغية أسير هواه ، لأنه لا يفيء إلى ميزان ثابت ، ولا يقف عند حد ظاهر ، فيفسد هو أول من يفسد؛ ويتخذ له مكاناً في الأرض غير مكان العبد المستخلف؛ وكذلك قال فرعون . . { أنا ربكم الأعلى } عندما أفسده طغيانه ، فتجاوز به مكان العبد المخلوق ، وتطاول به إلى هذا الادعاء المقبوح ، وهو فساد أي فساد .
ثم هو يجعل الجماهير أرقاء أذلاء ، مع السخط الدفين والحقد الكظيم ، فتتعطل فيهم مشاعر الكرامة الإنسانية ، وملكات الابتكار المتحررة التي لا تنمو في غير جو الحرية . والنفس التي تستذل تأسن وتتعفن ، وتصبح مرتعاً لديدان الشهوات الهابطة والغرائز المريضة . وميداناً للانحرافات مع انطماس البصيرة والإدراك . وفقدان الأريحية والهمة والتطلع والارتفاع ، وهو فساد أي فساد . .
ثم هو يحطم الموازين والقيم والتصورات المستقيمة ، لأنها خطر على الطغاة والطغيان . فلا بد من تزييف للقيم ، وتزوير في الموازين ، وتحريف للتصورات كي تقبل صورة البغي البشعة ، وتراها مقبولة مستساغة . . وهو فساد أي فساد .
فلما أكثروا في الأرض الفساد ، كان العلاج هو تطهير وجه الأرض من الفساد :{ فصب عليهم ربك سوط عذاب . إن ربك لبالمرصاد } . .
فربك راصد لهم ومسجل لأعمالهم . فلما أن كثر الفساد وزاد صب عليهم سوط عذاب ، وهو تعبير يوحي بلذع العذاب حين يذكر السوط ، وبفيضه وغمره حين يذكر الصب . حيث يجتمع الألم اللاذع والغمرة الطاغية ، على الطغاة الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد .
ومن وراء المصارع كلها تفيض الطمأنينة على القلب المؤمن وهو يواجه الطغيان في أي زمان وأي مكان . ومن قوله تعالى : { إن ربك لبالمرصاد } تفيض طمأنينة خاصة . فربك هناك . راصد لا يفوته شيء . مراقب لا يند عنه شيء . فليطمئن بال المؤمن ، ولينم ملء جفونه . فإن ربه هناك! . . بالمرصاد . . للطغيان والشر والفساد!
وهكذا نرى هنا نماذج من قدر الله في أمر الدعوة ، غير النموذج الذي تعرضه سورة البروج لأصحاب الأخدود . وقد كان القرآن ولا يزال يربي المؤمنين بهذا النموذج وذاك . وفق(1/555)
الحالات والملابسات . ويعد نفوس المؤمنين لهذا وذاك على السواء . لتطمئن على الحالين . وتتوقع الأمرين ، وتكل كل شيء لقدر الله يجريه كما يشاء .
{ إن ربك لبالمرصاد } . . يرى ويحسب ويحاسب ويجازي ، وفق ميزان دقيق لا يخطئ ولا يظلم ولا يأخذ بظواهر الأمور لكن بحقائق الأشياء . . (1)
التحذير من الدخول على ديار الظالمين :
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ ، يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِ الْحِجْرِ : لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ الْمُعَذَّبِينَ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ ، فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ.
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِ الْحِجْرِ : لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ الْمُعَذَّبِينَ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ ، فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ.
وعَنْ نَافِعٍ ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ ، أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْحِجْرَ أَرْضَ ثَمُودَ فَاسْتَقَوْا مِنْ آبَارِهَا وَعَجَنُوا بِهِ الْعَجِينَ ، فَأَمَرَهُمْ أَنَ يُهْرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا وَأَنْ يَعْلِفُوا الإِبِلَ الْعَجِينَ ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَرِدُهَا النَّاقَةُ.
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَزَلَ عَامَ تَبُوكَ بِالْحِجْرِ عِنْدَ بُيُوتِ ثَمُودَ ، فَاسْتَقَى النَّاسُ مِنَ الآبَارِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا ثَمُودُ ، فَنَصَبُوا الْقُدُورَ وَعَجَنُوا الدَّقِيقَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اكْفَؤُوا الْقُدُورَ ، وَاعْلِفُوا الْعَجِينَ الإِبِلَ ، ثُمَّ ارْتَحَلَ حَتَّى نَزَلَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهُ النَّاقَةُ ، وَقَالَ : لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ عُذِّبُوا فَيُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ." صحيح ابن حبان (2)
وعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا مَرَّ بِالْحِجْرِ سَجَّى ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِهِ ، وَاسْتَحَثَّ رَاحِلَتَهُ ، ثُمَّ قَالَ : " لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ الَّذِينَ ظَلَمُوا إِلَّا أَنْ تَدْخُلُوهَا وَأَنْتُمْ بَاكِينَ ، مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ " . قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : فَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَدْخُلُوهَا عَلَيْهِمْ وَهِيَ بُيُوتُهُمْ ، فَكَيْفَ يَدْخُلُونَ قُبُورَهُمْ ؟ قَالَ : وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَبْرِ أَبِي رِغَالٍ ، وَإِنَّمَا كَانَ قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ صَنَمًا ظَاهِرًا ، أَرَى قَالَ : مِنْ ذَهَبٍ قَالَ : وَقَدْ كُنَّا مَعَ مَسْلَمَةَ فِي جَيْشٍ فِي أَرْضِ التُّرْكِ فَدُلَّ عَلَى بَيْتِ شَيْءٍ لَيْسَ بِقَبْرٍ فِيهِ مَيِّتٌ ، وَفِيهِ سِلَاحٌ ، فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سِلَاحًا كَثِيرًا ، وَآنِيَةً مَوْضُوعَةً عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، فَأَمَرَ فَبِيعَ بِنَحْوٍ مِنْ سَبْعِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ ، فَمَا عُرِفَ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِهِمْ
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : نَزَلَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى بِئْرِ ثَمُودَ ، فَاسْتَقَوْا وَاعْتَجَنُوا مِنْهَا فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُهَرِيقُوا مَا فِي أَسْقِيَتِهِمْ ، وَيَعْلِفُوا عَجِينَهُمُ الْإِبِلَ ،
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3904)
(2) - صحيح ابن حبان - (14 / 80) (6200-6203) صحيح(1/556)
وَيَنْزِلُوا عَلَى بِئْرٍ صَالِحٍ ، فَيَسْتَقُوا مِنْهَا الْفَزَارِيُّ قَالَ : سَأَلْتُ سُفْيَانَ عَنْ نَبْشِ الْقُبُورِ يُدَلُّونَ فِيهَا عَلَى الشَّيْءِ ، قَالَ : يُكْرَهُ . قُلْتُ : وَمَا يُكْرَهُ مِنْهُ ؟ قَالَ : هَلْ بَلَغَكَ أَنَّ أَحَدًا فَعَلَهُ مِمَّنْ مَضَى ؟ قُلْتُ : لَا ، قَالَ : فَلَا يُعْجِبُنِي . قُلْتُ : فَمَا حَالُ مَا أُصِيبَ فِي الْخَرِبِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَ : مَا أُصِيبَ فِي أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ ، مِمَّا أَحْرَزُوا مِنْ بِلَادِ الْعَدُوِّ ، فَمَنْ أَصَابَهُ وَهُوَ وَحْدَهُ ، أَوْ مَعَ جَيْشٍ ، أَوْ رِكَازٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ رِكَازٌ ، فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً بَعْدَ الْخُمُسِ ، وَمَا أَصَابُوا مِنْ ذَلِكَ فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ تَحْتَ الْأَرْضِ أَوْ فَوْقَهَا ، مِنْ رِكَازٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَهُوَ مَغْنَمٌ بَيْنَ أَصْحَابِهِ ، وَبَيْنَ الْجَيْشِ هُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ بَعْدَ الْخُمُسِ . وَمَا وُجِدَ مِنْ شَيْءٍ فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ ، وَلَا يُدْرَى لِلْمُسْلِمِينَ هُوَ أَوْ لِلْعَدُوِّ ؟ فَلْيُعَرِّفْهُ ، فَإِنْ عُرِفَ وَإِلَّا جُعِلَ فِي الْمَقْسَمِ . وَمَا وُجِدَ فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ ، وَيُعْرَفُ أَنَّهُ لِمُسْلِمٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ ، فَإِنْ وُجِدَ صَاحِبُهُ وَإِلَّا تُصُدِّقَ بِهِ عَنْهُ . قَالَ : سَأَلْتُ الْأَوْزَاعِيَّ عَمَّا وُجِدَ فِي الْقُبُورِ إِذَا نُبِشَتْ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فِيمَا الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ أَغْلَبُ ، قَالَ : هُوَ لِمَنْ وَجَدَهُ ، هُوَ رِكَازٌ فِيهِ الْخُمُسُ قُلْتُ : ذَلِكَ فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ ، وَهُوَ مَعَ جَيْشٍ ، قَالَ : هُوَ مَغْنَمٌ بِمَنْزِلَةِ أَمْوَالِ الْعَدُوِّ وَفِيهِ الْخُمُسُ . وَالَّذِي أَصَابَهُ وَالْجَيْشُ فِيهِ شُرَكَاءُ ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَصَابَهُ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ ، وَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ نَفَّلَهُ مِنْهُ وَفِيهِ الْخُمُسُ قُلْتُ : شَيْءٌ وُجِدَ فِي الْبَحْرِ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ مِنْ جَوْهَرٍ أَوْ لُؤْلُؤٍ ؟ قَالَ : هُوَ لِمَنْ وَجَدَهُ دُونَ الْجَيْشِ بَعْدَ الْخُمُسِ ، وَلَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الرِّكَازِ قُلْتُ : فَمَا وُجِدَ مِنْهُ مِنْ حُلِيٍّ مُصَاغٍ ؟ قَالَ : هُوَ بِمَنْزِلَةِ أَمْوَالِ الْعَدُوِّ قُلْتُ : فَمَا يَمْنَعُ مَا وُجِدَ فِي الْقُبُورِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِمَّا لَيْسَ مِنْ أَمْوَالِ الْعَدُوِّ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَا وُجِدَ فِي الْبَحْرِ مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ لِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ فِي الْقُبُورِ ؟ قَالَ : لَيْسَ هَذَا مِثْلَ هَذَا ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَلَيْسَ ذَاكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ . قُلْتُ : أَرَأَيْتَ الرِّكَازَ مَا هُوَ ؟ قَالَ : مَا وُجِدَ تَحْتَ الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ مِمَّا لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ ، فَهُوَ رِكَازٌ ، وَفِيهِ الْخُمُسُ . وَإِنَّمَا مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الرِّكَازَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، ثُمَّ أَخَذُوا بَعْدُ مِنَ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ . قُلْتُ : أَفَتَرَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ ؟ قَالَ : مَا أَرَى بِهِ بَأْسًا . قُلْتُ : فَالْفَخَّارُ ، وَالزُّجَاجُ الْفِرْعَوْنِيُّ ، وَنَحْوُ مَا يُوجَدُ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَ : مَا أُعِدُّ هَذَا رِكَازًا . قُلْتُ : فَمَا وُجِدَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، وَفِي التُّلُولِ فَجَرَتْ عَلَيْهِ السُّيُولُ أَوْ حَسِرَتْ عَنْهُ الرِّيَاحُ وَيَظْهَرُ ؟ قَالَ : هُوَ رِكَازٌ قَالَ : مَا كَانَ ظَاهِرًا لِلنَّاسِ فَتُرِكَ عَلَى حَالِهِ نَحْوَ الْأَصْنَامِ الْمُذَهَّبَةِ ، وَالْعُمُدِ فِيهِ الرَّصَاصُ الظَّاهِرُ ، هَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِرِكَازٍ ، إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَفِيهِمْ يُجْعَلُ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِهِ ، فَإِذَا أَذِنَ فِيهِ لِأَحَدٍ فَهُوَ لَهُ ، لَا خَمْسَ عَلَيْهِ فِيهِ " (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
__________
(1) - السِّيَرُ لِأَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ (2 ) صحيح مرسل والثاني صحيح(1/557)
1- فضل الليالي العشر من أول ذي الحجة إلى العاشر منه .
2- بيان مظاهر قدرة الله في إهلاك الأمم العاتية والشعوب الظالمة مستلزم لقدرته تعالى على البعث والجزاء والتوحيد والنبوة وهو ما أنكره أهل مكة .
3- التحذير من عذاب الله ونقمه فإِنه تعالى بالمرصاد فليحذر المنحرفون عن سبيل الله والحاكمون بغير شرعه والعاملون بغير هداه أن يصب عليهم سوط عذاب .
4- وفيه إشارة إلى أن عذاب الدنيا بالنسبة إلى عذاب الآخرة كالسوط بالنسبة إلى القتل مثلا ، ثم أشار إلى عذاب الآخرة أو إليه مع عذاب الدنيا بقوله : إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أي يمهل ولكنه لا يهمل ، ويرصد عمل كل إنسان حتى يجازيه به.
5-حتمية عذاب الكفار ،فقد أقسم اللَّه تعالى بالفجر أي الصبح أو بصلاة الفجر ، وبالليالي العشر من ذي الحجة ، وبالشفع والوتر أي الزوج والفرد من الأشياء كلها لأن الموجودات لا تخلو من هذين القسمين ، فتكون كقوله : فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ [الحاقة 69/ 38- 39] ، وبالليل إذا يسري أي يمضي كقوله : وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر 74/ 33] والمراد عموم الليل كله ، أقسم اللَّه بهذه الأشياء على أنه ليعذبن الكفار.
وإقسام اللَّه تعالى بهذه الأمور ينبئ عن شرفها ، وأن فيها فوائد دينية ودنيوية ، مثل كونها دلائل باهرة على التوحيد ، أو توجب الحثّ على الشكر (1) .
قال القرطبي : قد يقسم اللَّه تعالى بأسمائه وصفاته لعلمه ، ويقسم بأفعاله لقدرته كما قال تعالى : وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الليل 92/ 3] ويقسم بمفعولاته ، لعجائب صنعه كما قال : وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشمس 91/ 1] ، وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس 91/ 5] ، وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ [الطارق 86/ 1] (2) .
6- أكّد اللَّه تعالى ما أقسم به وأقسم عليه بقوله : هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أي بل في ذلك مقنع لذي لبّ وعقل ، فالمراد بالاستفهام تقرير أن هذه المذكورات لشرفها وعظم شأنها يحق أن يؤكد بمثلها المقسم عليه ، وهو تعذيب الكفار ، كمن ذكر حجة باهرة ، ثم قال : هل فيما ذكرته حجة ؟ يريد أنه لا حجة فوق هذا. ومن هنا قال بعضهم : فيه دليل على أنه تعالى أراد ربّ هذه الأشياء ، ليكون غاية في القسم.
7- ذكر اللَّه تعالى للعبرة ، ولتسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - قصة ثلاث فرق على سبيل الإجمال لأنهم أعلام في القوة والشدة والتجبر ، وهم عاد الأولى أو إرم ذات الأبنية المرفوعة على العمد ، ومعنى
__________
(1) - تفسير الرازي : 31/ 161
(2) - تفسير القرطبي : 20/ 41(1/558)
إرم : القديمة ، والتي لم يخلق مثل تلك القبيلة في زمنها في البلاد ، قوة وشدة ، وعظم أجساد ، وطول قامة.
وثمود قوم صالح عليه السلام الذين قطعوا الصخر ونحتوه ، وبنوا به البيوت العظيمة بوادي القرى ، قال المفسرون : أول من نحت الجبال والصور والرخام :
ثمود ، فبنوا من المدائن ألفا وسبع مائة مدينة كلها من الحجارة ، ومن الدور والمنازل ألفي ألف وسبع مائة ألف ، كلها من الحجارة.
وفرعون حاكم مصر ذو الأوتاد أي صاحب الأبنية الشاهقة ، أو الجنود الكثيرة أو الأوتاد الأربعة لتعذيب الناس.
8- هؤلاء الطوائف الثلاث : عاد وثمود وفرعون طغوا في البلاد ، أي تجاوزوا الحدّ في الظلم والعدوان ، وتمرّدوا وعتوا ، فأكثروا فيها الفساد ، أي الجور والأذى ، فعاقبهم اللَّه عقابا شديدا ، وصبّ عليهم سوط عذاب ، أي أفرغ عليهم وألقى نوعا من العذاب الشديد عليهم لأن الجزاء من جنس العمل.
- - - - - - - - - - -(1/559)
توبيخ الإنسان على قلة اهتمامه بالآخرة وفرط تماديه في الدنيا
قال تعالى :
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
المناسبة :
بعد أن بيّن اللَّه تعالى أنه بمرصد من أعمال بني آدم ، يراقبهم ويجازيهم ، عقّبه بتوبيخ الإنسان على قلة اهتمامه بأمر الآخرة ، وفرط تماديه في إصلاح المعاش الدنيوي ، كأنه قيل : إن اللَّه يؤثر الآخرة ويرغّب فيها ، وأما الإنسان فلا يهمه إلا الدنيا ولذاتها وشهواتها ، فإذا صار في راحة قال : ربي أكرمني ورفعني ، وإن فقد الراحة قال : ربي أهانني وأذلني.
وبعد بيان خطأ الإنسان في تصوره واعتقاده هذا ، زجر الناس عن تقصيرهم وارتكابهم المنكرات ، ونبّه لما هو شرّ من ذلك ، وهو أنه يكرمهم بكثرة المال ، ثم لا يؤدون حق اللَّه فيه ، فلا يحسنون إلى اليتامى والمساكين ، ويتناهبون الميراث دون إعطاء النساء والصبيان حقوقهم ، ويحصرون على جمع المال حرصا شديدا " (1)
المفردات :
15 ... أَكْرَمَهُ ... بالمال والجاه
16 ... قَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ... ضيقه وقلله
16 ... أَهَانَنِ ... أذلني بالفقر
17 ... كَلاَّ ... ليس الأمر كذلك
19 ... التُّرَاثَ ... الميراث
19 ... أَكْلاً لَمَّا ... أكلا شديدا
20 ... حُبًّا جَمًّا ... حبا كثيرا عظيماً
المعنى الإجمالي:
بعد أن ذكر سبحانه أنه لا يفوته من شأن عباده شىء.
وأنه يأخذ كل مذنب بذنبه - أردف ذلك ذكر شأن من شئون الإنسان ، وبين أنه لا يهتم إلا بأمور الدنيا وشهواتها ، فإذا أنعم اللّه عليه وأوسع له فى الرزق ظن أنه قد اصطفاه ورفعه على من سواه وجنبه منازل العقوبة ، فيذهب مع هواه ويفعل ما يشتهى ، ولا يبالى أ كان ما يصنع
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 230)(1/560)
خيرا أم شرا ، فيطغى ويفسد فى الأرض ، وإذا ضيق عليه الرزق (وقد يكون ذلك لتمحيص قلبه بالإخلاص أو لتظهر قوة صبره ، فإن الفقر لا يزيد ذوى العزائم إلا شكرا) يقول ربى قد أهاننى ، ومن أهانه اللّه وصغرت قيمته لديه لم يكن له عناية بعمله ، فكيف يؤاخذه بما يصدر منه من شر ، أو يكافئه على ما يصنع من خير ، فلا شكره يكافأ بإحسان ، ولا كفره يجازى بعقوبة ، فينطلق يكسب عيشه بأى وسيلة عنّت له ، ولا تحجزه شريعة ، ولا يقف أمام قانون ، ويسلك سبيل الجبارين ، ويبخس الحقوق ، ويفسد نظم المجتمع ، ولا تزال أحوال الناس هكذا كما وصف اللّه فأرباب السلطان يظنون أنهم فى أمن من عقاب ربهم ولا يذكرونه إلا بألسنتهم ، ولا يعرف له سلطان على قلوبهم ، والفقراء الأذلاء صغرت نفوسهم عند أنفسهم ، لا يبالون ماذا يفعلون ؟ (1)
التفسير والبيان :
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ، فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ ، فَيَقُولُ : رَبِّي أَكْرَمَنِ أي إن الإنسان مخطئ في تفكيره أنه إذا امتحنه ربّه واختبره بالنعم ، فأكرمه بالمال ، ووسع عليه الرزق ، فيقول : ربي أكرمني وفضلني واصطفاني ورفعني وعافاني من العقوبة ، معتقدا أن ذلك هو الكرامة ، فرحا بما نال ، وسرورا بما أعطي ، غير شاكر اللَّه على ذلك ، ولا مدرك أن ذلك امتحان له من ربّه.
والمراد بالإنسان الجنس ، وليس الكافر فقط ، ويوجد هذا في كثير من أهل الإسلام « 1 » .
والمقصود من الآية أن اللَّه ينكر على الإنسان ويوبخه في اعتقاده أنه إذا وسع اللَّه عليه في الرزق ليختبره فيه ، كان ذلك إكراما من اللَّه له ، وليس كذلك ، بل هو ابتلاء وامتحان ، كما قال تعالى : أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون 23/ 55- 56].
ونظيره أيضا قوله تعالى في صفة الكفار : يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الروم 30/ 7] ، وقوله أيضا : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ [الحج 22/ 10].
والخلاصة : أن الغنى والثروة أو الجاه والسلطة ليس دليلا على رضا اللَّه عن العبد لأن ذلك لا قيمة له عند اللَّه تعالى.
ثم ذكر الجانب الآخر وهو أن الفقر والتقتير ليس دليلا على سخط اللَّه على العبد ، فقال : وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ ، فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ، فَيَقُولُ : رَبِّي أَهانَنِ أي وأما إذا ما اختبره وامتحنه بالفقر
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 146)(1/561)
والتقتير ، وضيّق عليه رزقه ولم يوسعه له ، فيقول : ربي أهانني وأذلني. وهذا خطأ أيضا فلا يصح أن يعتقد أن ذلك إهانة له وإذلال لنفسه.
فالإنسان مخطئ في الحالين لأن سعة الرزق لا تدل على أحقية العبد لها ، بدليل ما نشاهده من غنى الكفار وثروة الفساق والعصاة.
وضيق الرزق ليس دليلا على عدم الاستحقاق ، بدليل ما نراه من فقر بعض الأنبياء وأكابر المؤمنين والصلحاء والعلماء.
والكرامة عند اللَّه للطائع الموفق لعمل الآخرة ، والإهانة والخذلان عند اللَّه للعاصي غير الموفق للطاعة وعمل أهل الجنة ، وليست سعة الدنيا كرامة ورفعة ، ولا ضيقها إهانة ومذلة ، وإنما الغنى اختبار للغني هل يشكر ، والفقر اختبار له هل يصبر (1) .
ونظرا للخطأ في الحالين ردع اللَّه الإنسان بقوله : كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي ردع وزجر للإنسان القائل في الحالتين السابقتين ما قال ، فليس الأمر كما زعم ، فإن اللَّه تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب ، ويضيق على من يحب ومن لا يحب ، وإنما المدار في ذلك على طاعة اللَّه في كل من الحالين ، فإذا كان غنيا ، شكر اللَّه على نعمته ، وإذا كان فقيرا صبر.
وبعد أن ذمّهم على قبح الأقوال ، ذمّهم على قبح الأفعال الذي هو شرّ من سابقه ، وهو أنه يكرمهم بكثرة المال ، ثم لا يؤدون حق اللَّه فيه ، فأنتم أيها الأغنياء الموسرون لا تكرمون اليتيم ولا تحسنون إليه ، ولا تحضون أنفسكم أو غيركم على إطعام المساكين ، ولا يحث بعضكم بعضا على صلة الفقراء ، ولا تأمرون بعضكم بعضا بالإحسان إلى المحتاجين.
وفي قوله : بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ أمر بإكرام الأيتام ، كما جاء في الحديث الذي روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ". (2) .
وروى أبو داود عَنْ سَهْلٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِى الْجَنَّةِ ». وَقَرَنَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَالَّتِى تَلِى الإِبْهَامَ." (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: " السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمَسَاكِينَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ وكَالْقَائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ وَكَالصَّائِمِ الَّذِي لَا يُفْطِرُ " (4)
__________
(1) - فتح القدير للشوكاني.
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (19 / 421) (1011 ) وسنن ابن ماجه (3810 ) فيه لين
(3) - سنن أبى داود (5152) صحيح
(4) - شعب الإيمان - (13 / 387) (10518-10519 ) صحيح(1/562)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَشَارَ مَالِكٌ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى " (1)
فترك إكرام اليتيم : ترك برّه ، ودفعه عن حقه الثابت له في الميراث ، وأخذ ماله منه.
وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا ، وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا أي وإنكم تأكلون الميراث أكلا شديدا ، وجمعا من أي جهة حصل ، من حلال أو حرام.
وتحبون المال حبّا كثيرا فاحشا ، والجمّ : الكثير ، قال بعضهم : إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا وأيّ عبد لك لا ألّما والخلاصة : أنكم تؤثرون الدنيا على الآخرة ، واللَّه يحب السعي للآخرة ، وترك الإفراط والمغالاة والتمادي في حبّ الدنيا وملذاتها.
ومضات :
إن الكلام السابق اشتمل على وصف ما كانت تتمتع به الأمم الممثَّل بها مما أنعم الله عليها به من النعم ، وهم لاهون عن دعوة رُسُل الله ، ومعرضون عن طلب مرضاة ربهم ، مقتحمون المناكر التي نُهوا عنها ، بطرون بالنعمة ، معجَبون بعظمتهم فعقب ذكر ما كانوا عليه وما جازاهم الله به عليه من عذاب في الدنيا ، باستخلاص العِبرة وهو تذكير المشركين بأن حالهم مماثل لحال أولئك تَرفاً وطغياناً وبطراً ، وتنبيهُهم على خطاهم إذْ كانت لهم من حال الترف والنعمة شبهةٌ توهَّموا بها أن الله جعلهم محل كرامة ، فحسبوا أن إنذار الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) إياهم بالعذاب ليس بصدق لأنه يخالف ما هو واقع لهم من النعمة ، فتوهموا أنّ فعل الله بهم أدلّ على كرامتهم عنده مما يخبر به الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) أن الله أمرهم بخلاف ما هم عليه ، ونفوا أن يَكون بعد هذا العالم عالم آخر يضاده ، وقصروا عطاء الله على ما عليه عباده في هذه الحياة الدنيا ، فكان هذا الوهَم مُسوِّلاً لهم التذكيب بما أنذروا به من وعيد ، وبما يسر المؤمنون من ثواب في الآخرة ، فحصروا جزاء الخير في الثروة والنعمة وقصروا جزاء السوء على الخصاصة وقَتْر الرزق . وقد تكرر في القرآن التعرض لإِبطال ذلك كقوله : ( أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ( ( المؤمنون : 55 ، 56 ) . وقد تضمن هذا الوهَم أصولاً انبنى عليها ، وهي : إنكار الجزاء في الآخرة ، وإنكار الحياة الثانية ، وتوهم دوام الأحوال .
ففاء التفريع مرتبطة بجملة : ( إن ربك لبالمرصاد ( ( الفجر : 14 ) بما فيها من العموم الذي اقتضاه كونها تذييلاً .
والمعنى : هذا شأن ربك الجاري على وفق علمه وحكمته .
__________
(1) - صحيح مسلم (7660 )(1/563)
فأما الإنسان الكافر فيتوهم خلاف ذلك إذ يحسب أن ما يناله من نعمة وسَعَة في الدنيا تكريماً من الله له ، وما يناله من ضيق عيش إهانَةً أهانه الله بها .
وهذا التوهم يستلزم ظنهم أفعال الله تعالى جارية على غير حكمة قال تعالى : ( ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ ( ( فصلت : 50 ) .
فأعلم الله رسوله ( - صلى الله عليه وسلم - ) والمؤمنين بالحقيقة الحق ونبههم لتجنب تخليط الدلائل الدقيقة السامية ، وتجنب تحكيم الواهمة والشاهية ، وذكرهم بأن الأحوال الدنيوية أعراض زائلة ومتفاوتة الطول والقصر ، وفي ذلك كله إبطال لمعتقد أهل الشرك وضلالهم الذي كان غالباً على أهل الجاهلية ولذلك قال النابغة في آل غسان الذين لم يكونوا مشركين وكانوا متدينين بالنصرانية :
مَجَلَّتُهم ذَاتُ الإلاه ودينُهم قَويم فَمَا يَرْجُونَ غَيْرَ العَوَاقِب
وَلا يَحْسَبُون الخَيْرَ لا شَرَّ بعدَه ولا يحسبُون الشرَّ ضَرْبَةَ لازِبِ
وقد أعقب الله ذلك بالردع والإبطال بقوله : ( كلا ). فمناط الردع والإبطال كِلا القولين لأنهما صادران عن تأويل باطل وشبهة ضالّة كما ستعرفه عند قوله تعالى : ( فأكرمه ونعمه ).
واقتصار الآية على تقتير الرزق في مقابلة النعمة دون غير ذلك من العلَللِ والآفات لأن غالب أحوال المشركين المتحدث عنهم صحة المزاج وقوة الأبدان فلا يهلكون إلا بقتل أو هَرم فيهم وفي ذويهم ، قال النابغة :
تَغْشَى مَتَالِفَ لا يُنْظِرْنَكَ الهَرَمَا
ولم يعرج أكثر المفسرين على بيان نَظْم الآية واتصالها بما قبلها عدا الزمخشري وابنَ عطية .
وقد عرف هذا الإعتقاد الضال من كلام أهل الجاهلية ، قال طرفة :
فلو شاءَ ربّي كنتُ قيسَ بنَ عاصم ولو شَاء رَبي كنتُ عَمْرَو بنَ مَرْثَدِ
فأصبحتُ ذا مال كثيرٍ وطاف بي بَنُون كرامٌ سَادَة لمُسَوَّد
وجعلوا هذا الغرور مقياساً لمراتب الناس فجعلوا أصحاب الكمال أهل المظاهر الفاخرة ، ووصموا بالنقص أهل الخصاصة وضعفاء الناس ، لذلك لما أتى الملأ من قريش ومن بني تميم وفزارة للنبيء ( - صلى الله عليه وسلم - ) وعنده عَمَّار ، وبلالٌ ، وخبابٌ ، وسالمٌ ، مولَى أبي حذيفة ، وصُبَيح مولى أُسَيْد ، وصُهَيْبٌ ، في أناس آخرين من ضعفاء المؤمنين قالوا للنبيء أطْرُدهم عنك فَلَعلّك إن طردتهم أن نتبعك . وقالوا لأبي طالب : لو أن ابن أخيك طَرد هؤلاء الأعْبُدَ والحُلَفَاءَ كان أعظمَ له في صدُورنا وأدلى لاتِّباعنا إياه . وفي ذلك نزل قوله تعالى : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم الآية كما تقدم في سورة الأنعام .(1/564)
فنبه الله على خطإ اعتقادهم بمناسبة ذكر مُماثِلِهِ ممَّا اعتقده الأمم قبلهم الذي كان موجباً صَب العذاب عليهم ، وأعْلَمهم أن أحوال الدنيا لا تُتخذ أصلاً في اعتبار الجزاء على العمل ، وأن الجزاء المطرد هو جزاء يوم القيامة .
واعلم أن من ضلال أهل الشرك ومن فتنة الشيطان لبعض جهلة المؤمنين أن يخيل إليهم ما يحصل لأحد بجعل الله من ارتباط المسببات بأسبابها والمعلولات بعللها فيضعوا ما يصادف نفع أحدهم من الحوادث موضع كرامة من الله للذي صادفْته منافع ذلك ، تحكيماً للشاهية ومحبةِ النفس ورجْماً بالغيب وافتيَاتاً على الله ، وإذا صادف أحدَهم من الحوادث ما جلبَ له ضرّاً تخيّله بأوهامه انتقاماً من الله قصدَه به ، تشاؤماً منهم .
فهؤلاء الذين زعموا ما نالهم من نعمة الله إكراماً من الله لهم ليسوا أهلاً لكرامة الله .
وهؤلاء الذين توهموا ما صادفهم من فتور الزرق إهانة من الله لهم ليسوا بأحط عند الله من الذين زعموا أن الله أكرمهم بما هم فيه من نعمة .
فذلك الإعتقاد أوجب تغلغل أهل الشرك في إشراكهم وصرَفَ أنظارهم عن التدبر فيما يخالف ذلك ، وربما جرت الوساوس الشيطانية فتنةً من ذلك لبعض ضعفاء الإِيمان وقصار الأنظار والجهال بالعقيدة الحق كما أفصح أحمد بن الرّاوندي . عن تزلزل فهمهم وقلة علمهم بقوله :
كم عاقللٍ عاقللٍ أعْيَتْ مذاهبُه وجَاهِللٍ جاهللٍ تلقاه مرزوقاً
هذا الذي تَرك الأَفْهام حائرةً وصيَّر العالِم النحرير زنديقاً
وذلك ما صرف الضالين عن تطلب الحقائق من دلائلها ، وصرفهم عن التدبر فيما يُنِيل صاحبه رضى الله وما يوقع في غضبه ، وعِلْم الله واسع وتصرفاتُه شتّى وكلها صادرة عن حكمة ) ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ( ( البقرة : 255 ) . فقد يأتي الضر للعبد من عدة أسباب وقد يأتي النفع من أخرى . وبعض ذلك جار في الظاهر على المعتاد ، ومنه ما فيه سمة خرق العادة . فربما أتت الرزايا من وجوه الفوائد ، والموفق يتيقظ لِلأمَاراتتِ قال تعالى : ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ( ( الأنعام : 44 ) وقال : ( وما أرسلنا في قرية من نبيء إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ( ( الأعراف : 94 ، 95 ) وقال : ( أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ( ( التوبة : 126 ) .
وتصرفات الله متشابهة بعضها يدل على مراده من الناس وبعضها جار على ما قدَّره من نظام العالم وكلٌّ قد قضاه وقدَّره وسبق علمه به ورَبَط مسبباتِه بأسبابه مباشرةً أو بواسطة أو وسائط والمتبصر يأخذ بالحيطة لنفسه وقومِه ولا يقول على الله ما يمليه عليه وهَمه ولم تنهَضْ دلائله ،(1/565)
ويُفوِّض ما أشكل عليه إلى علم الله . وليس مثلُ هذا المحكيّ عنهم من شأن المسلمين المهتدين بهدي النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) والمتبصرين في مجاري التصرفات الربانية . وقد نجد في بعض العوامّ ومن يشبههم من الغافلين بقايا مت اعتقاد أهل الجاهلية لإِيجاد التخيلات التي تمليها على عقولهم فالواجب عليهم أن يتعظوا بموعظة الله في هذه الآية .
لا جرم أن الله قد يعجل جزاء الخير لبعض الصالحين من عباده كما قال : ( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنُحْيِينَّه حياة طيبة ( ( النحل : 97 ) . وقد يعجّل العقاب لمن يغضب عليه من عباده . وقد حكَى عن نوح قولَه لقومه : ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ( ( نوح : 10 12 ) وقال تعالى : ( وأَلَّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً ( ( الجن : 16 ) . ولهذه المعاملة علامات أظهرها أن تجري على خلاف المألوف كما نرى في نصر النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) والخلفاءِ على الأمم العظيمة القاهرة . وتلك مواعيد من الله يحققها أو وعيد منه يحيق بمستحقيه .
فالمفصل هنا أحوال الإِنسان الجاهِل فُصّلت إلى حاله في الخفض والدعة وحاله في الضنك والشدة فالتوازن بين الحالين المعبَّر عنهما بالظرفين في قوله : ( إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ( الخ وفي قوله : ( وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه ( الخ . وهذا التفصيل ليس من قبيل تبيين المُجمل ولكنه تمييز وفصْل بين شيئين أو أشياء تشتبه أو تختلط .
وقد تقدم ذكر ( أمّا ) عند قوله تعالى : ( فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم الآية في سورة البقرة .
والابتلاء : الاختبار ويكون بالخير وبالضرّ لأن في كليهما اختباراً لثبات النفس وخُلق الأناة والصبر قال تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة ( ( الأنبياء : 35 ) وبذكر الابتلاء ظهر أن إكرام الله إياه إكرام ابتلاء فيقع على حالين ، حال مرضية وحال غير مرضية وكذلك تقتير الرزق تقتير ابتلاء يقتضي حالين أيضاً . قال تعالى : ( ليبلوني أأشكر أم أكفر ( ( النمل : 40 ) وقال : ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة ( ( الأنبياء : 35 ) والأشهر أنه الإِختبار بالضر وقد استعمل في هذه الآية في المعنيين .
والمعنى : إذا جَعَلَ ربُّه ما يناله من النعمة أو من التقتير مظهراً لحاله في الشكر والكفر ، وفي الصبر والجزع ، توهَّم أن الله أكرمه بذلك أو أهانه بهذا .
والإِكرام : قال الراغب : أن يُوصَل إلى الإِنسان كرامة ، وهي نفع لا تلحق فيه غضاضة ولا مذلة ، وأن يُجعل ما يوصل إليه شيئاً كريماً ، أي شريفاً قال تعالى : ( بل عباد مكرمون ( ( الأنبياء : 26 ) ، أي جعلهم كراماً اه يريد أن الإِكرام يطلق على إعطاء المكرمة ويطلق على جعل الشيء كريماً في صنفه فيصدق قوله تعالى : ( فأكرمه ( بأن يصيب الإِنسان ما هو نفع لا(1/566)
غضاضة فيه ، أو بأن جُعل كريماً سيداً شريفاً . وقوله : ( فأكرمه ( من المعنى الأول للإِكرام وقوله : ( فيقول ربي أكرمني ( من المعنى الثاني له في كلام الراغب واعلم أن قوله : ( ونعمه ( صريح في أن الله ينعم على الكافرين إيقاظاً لهم ومعاملة بالرحمة ، والذي عليه المحققون من المتكلمين أن الكافر مُنعَم عليه في الدنيا ، وهو قول الماتريدي والباقِلاني . وهذا مما اختلف فيه الأشعري والماتريدي والخُلف لفظي .
كَلاّ ( زجر عن قول الإِنسان ) ربي أكرمن ( عند حصول النعمة . وقوله : ( ربيَ أهانني ( عندما يناله تقتير ، فهو ردع عن اعتقاد ذلك فمناط الردع كِلاَ القولين لأن كل قول منهما صادر عن تأول باطل ، أي ليست حالة الإنسان في هذه الحياة الدنيا دليلاً على منزلته عند الله تعالى . وإنما يُعرَف مراد الله بالطرق التي أرشد الله إليها بواسطة رسله وشرائعه ، قال تعالى : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً إلى قوله : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً ( في سورة الكهف ( 103 105 ).فرب رجل في نعمة في الدنيا هو مسخوط عليه ورب أشعَث أغبر مطرود بالأبواب لو أقسم على الله لأبَرَّهُ.
فمناط الردع جعل الإِنعام علامة على إرادة الله إكرام المنعم عليه وجعل التقتير علامة على إرادة الإِهانة ، وليس مناطه وقوع الكرامة ووقوع الإِهانة لأن الله أهان الكافرَ بعذاب الآخرة ولو شاء إهانته في الدنيا لأجل الكفر لأهان جميع الكفرة بتقتير الرزق .
وبهذا ظهر أن لا تنافي بين إثبات إكرام الله تعالى الإِنسان بقوله : ( فأكرمه ( وبين إبطال ذلك بقوله : ( كلا ( لأن الإِبطال وارد على ما قصده الإِنسان بقوله : ( ربي أكرمن ( أن ما ناله من النعمة علامةٌ على رضى الله عنه .
فالمعنى : أن لشأن الله في معاملته الناس في هذا العالم أسراراً وعِللاً لا يُحاط بها ، وأن أهل الجهالة بمعزل عن إدراك سرها بأقْيسة وهمية ، والاستناد لمألوفات عادية ، وأن الأولى لهم أن يتطلبوا الحقائق من دلائلها العقلية ، وأن يعرفوا مراد الله من وحيه إلى رسله . وأن يحذروا من أن يحيدوا بالأدلة عن مدلولها . وأن يستنتجوا الفروع من غير أصولها .
وأما أهل العلم فهم يضعون الأشياء مواضعها ، ويتوسمون التوسم المستند إلى الهدي ولا يخلطون ولا يخبطون . (1)
في الآيتين الأوليين :
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 324)(1/567)
1 - عرض لصورة من تفكير الإنسان وتلقّيه في حالتي الغنى والفقر والنعيم والبؤس. ففي الأولى يظن أن اللّه إنما يسّر له ذلك عناية به ورفعا لقدره واهتماما لشأنه. وفي الثانية يظن أن اللّه إنما اختصه بذلك حطّا من قدره وإهانة له في نظر الناس.
2 - تقرير بأن ذلك ليس كما يظن الإنسان في حاليه. ونفي ردعي لهذا الظن. وإنما هو امتحان رباني ، ليظهر موقفه من اللّه والناس في حالتي اليسر والعسر والنعيم والبؤس.
وفي الآيات الأربع التالية تأنيب ردعي وتكذيبي :
1 - للذين يحتقرون اليتيم ولا يرعون حقه.
2 - وللذين يضنون على المساكين وخاصة بما هم في حاجة إليه من الطعام الذي فيه حفظ حياتهم ، ولا يحض بعضهم بعضا على ذلك.
3 - وللذين يشتد فيهم الشره إلى المال ويحبونه حبّا يملك عليهم مشاعرهم ويجعلهم يستبيحون أكل الميراث ، دون تفريق بين حقّ وباطل وحلال وحرام.
ولقد روى الطبري عن حرملة بن عمران أنه سمع عمر مولى غفرة يقول : إذا سمعت اللّه يقول (كلا) فإنما يقول للمخاطب (كذبت) وتطبيقا على هذا يكون ما ذكرناه مما انطوى في الآيات الأربع بمثابة تكذيب لقول القائلين.
ويبدو لأول وهلة أن هذا الفصل منفصل عن الفصل السابق. غير أن الصلة تلمح بينهما حين التروي. فالفصل الأول بسبيل التذكير بما كان من بغي بعض الأمم والملوك السابقين وطغيانهم وفسادهم في الأرض ونكال اللّه فيهم ، وقد احتوى قسما ربانيا بأن اللّه بالمرصاد لأمثالهم دائما. وهذا الفصل بسبيل بيان ما يدور في أذهان الناس - ومنهم السامعون - من ظنون خاطئة في حالتي يسرهم وعسرهم فيها غرور وسوء أدب نحو اللّه. وما يقدم عليه الناس - ومنهم السامعون - من بغي على الفئات الفقيرة والضعيفة وحرمان لهم من مقومات الحياة ونعم اللّه التي أنعم عليهم. وازدرائهم ، وما ينبعث في نفوس الناس - ومنهم السامعون - من حب شديد للمال يجعلهم لا يفرقون في سبيله وخاصة في الميراث بين حلال وحرام. ويلمح في حرف الفاء التعقيبي أو التفسيري - الذي بدىء به الفصل الثاني واللّه أعلم - قصد تشميل قسم اللّه بأنه بالمرصاد للناس الذين حكى هذا الفصل ظنونهم الخاطئة وغرورهم وسوء أدبهم نحو اللّه وعدم شكرهم له ، وازدرائهم باليتيم وحرمانهم المساكين من مقومات الحياة ، واستغراقهم في حب المال ذلك الاستغراق الذي يجعلهم لا يفرقون في سبيله بين حلال وحرام.
ومع أن كلمة الإنسان مطلقة ، والخطاب في صدد عدم إكرام اليتيم وعدم الحض على طعام المسكين وحب المال حبا شديدا وأكل الميراث أكلا ذريعا موجه إلى السامعين إطلاقا فالمتبادر أن المقصودين بالتنديد هم الذين يظنون تلك الظنون الخاطئة ، ويفعلون هذه الأفعال الكريهة.(1/568)
ويلمح أن الآيات الأربع الأخيرة قد جاءت على أسلوب الحكيم ، فالآيتان السابقتان لها تعرضان إلى الخطأ في تفكير الناس في حالتي السعة والضيق واليسر والعسر ، مع تقريرهما أن ذلك امتحان رباني. فجاءت الآيات تلفت نظرهم إلى خطيئات أخرى هم واقعون فيها وتندد بهم من أجلها وتكذبهم في أقوالهم وتعليلاتهم.
ولقد انطوى فيها تلقينات جليلة مستمرة المدى. فالمرء ينبغي ألّا تبطره النعمة واليسار فيخرج عن حده بالخيلاء والغرور وزعم اختصاص اللّه إياه بالحظوة ، كما أنه لا ينبغي أن يداخله غم ويأس إذا ما حل فيه ضيق وعسر فيعتبر ذلك نقمة وإهانة اختصه اللّه بهما. فكثيرا ما يكون في الثروة والرخاء بلاء ، وكثيرا ما يكون في الفقر والخصاصة راحة نفس وسلامة دين وعرض. ومن الواجب أن يرى كل من الفريقين كذلك أنهما إزاء اختبار رباني وأن على الميسور أن يشكر اللّه ويقوم بواجبه نحوه ونحو الناس وخاصة ضعفاءهم وذوي الحاجة منهم وأن على المعسر أن يصبر ويصابر. ومن تلقيناتها تقرير كون الغنى والفقر عرضين تابعين لنواميس الكون ومن جملتها قابليات الناس وظروفهم التي لا تبقى على وتيرة واحدة. ولا يصح أن يظن ظانّ أنهما اختصاص رباني بقصد التكريم والإهانة ورفع القدر أو حطه.
ومن تلقيناتها كذلك أن جعل المال أكبر الهمّ وقصارى المطلب واستباحة البغي والظلم في سبيل الحصول عليه وحرمان المحتاجين والضعفاء من المساعدة والعطف والبر بتأثير حب المال من الأخلاق الذميمة التي يجب على الإنسان وعلى المسلم من باب أولى اجتنابها والترفع عنها. ويلفت النظر بخاصة إلى الآيات وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) التي جاءت بعد الآيات : كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) [17 - 18] التي تنطوي على تنديد لاذع لمن يفعل ما جاء فيها حيث يلمح فيها إيذان قرآني بكراهية الاستكثار من حيازة المال والحرص الشديد عليه وعدم إنفاقه على المحتاجين والفقراء. ولهذا دلالة خطيرة المدى ولا سيما أنه بدأ منذ أوائل التنزيل القرآني واستمر يتكرر إلى آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي نزل فيه آيات سورة التوبة هذه التي كانت من أواخر ما نزل : وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35).
وهناك أحاديث كثيرة تتساوى في التلقين المنطوي في الآيات بالنسبة للأمر الأخير بخاصته. منها حديث رواه البخاري عن أبي ذرّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «إنّ المكثرين هم المقلّون يوم القيامة إلّا من أعطاه اللّه خيرا فنفخ فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا» . وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «تعس عبد الدينار والدّرهم والقطيفة(1/569)
والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض» . وحديث رواه الترمذي ومسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافا وقنّعه اللّه. وفي رواية طوبى لمن هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافا وقنع» . وحديث رواه الترمذي والإمام أحمد عن كعب بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشّرف لدينه» وحديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال : «قدم أبو عبيدة بمال من البحرين وانتظر بعض الصحابة فقال رسول اللّه لهم واللّه ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم» . وحديث رواه الترمذي عن كعب بن عياض عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «إنّ لكلّ أمّة فتنة وفتنة أمتي المال» . وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «لو كان لي مثل أحد ذهبا لسرّني ألا تمرّ بي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلّا شيئا أرصده لدين» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب اللّه على من تاب» . وحديث رواه الشيخان عن أبي سعيد جاء فيه : «إنّ هذا المال حلوة من أخذه بحقّه ووضعه في حقّه فنعم المعونة هو ، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع» .
وبمناسبة التنديد في الآية [17] بالذين لا يكرمون اليتيم نقول إن القرآن المكي والمدني معا قد احتوى آيات كثيرة بلغ عددها اثنتين وعشرين في صدد العناية باليتيم وتكريمه وحفظ ماله وإعطائه حقه وعدم معاملته بالعنف والقسوة والنهي عن أكل ماله وأذيته والتحايل عليه. والإنفاق والتصدق على فقراء اليتامى وتخصيص نصيب لهؤلاء في موارد الدولة الإسلامية الرسمية ، وبعبارة أخرى جعل ذلك من واجبات هذه الدولة أسوة بالمسكين ولأنه على الأرجح من نوعه لا يسأل الناس ولا يفطن له فيتصدق عليه ، حيث يدل هذا على عظم عناية حكمة التنزيل به طيلة زمن التنزيل في مكة والمدينة. نورد منها الأمثلة الآتية :
1 - أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) الماعون [1 - 7].
2 - فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) الضحى [9].
3 - فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) البلد [11 - 16].
4 - وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ الإسراء [34].(1/570)
5 - فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) الروم [38].
6 - يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) البقرة [215].
7 - وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ الأنفال [41].
8 - وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) النساء [2].
9 - إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) النساء [10].
10 - ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ الحشر [10].
ولما كان اليتيم على الأكثر ضعيفا فاقد المعين والكافل والمنفق فالعناية القرآنية به متسقة مع روح البرّ والحق والعدل التي انطوت في المبادئ القرآنية والدعوة الإسلامية منذ البدء كما هو شأن البر بالمساكين على ما مر شرحه في سياق سورة المدثر.
ولعل في كثرة ما جاء في حق اليتيم صورة لما كان اليتيم معرضا له قبل البعثة من صنوف الهضم والأذى والإهمال والحرمان. وفي آيات الإسراء المكية والنساء المدنية ما يفيد أنه كان الذين يترك لهم آباؤهم مالا منهم معرضين لضياع إرثهم وأكله من قبل الأوصياء والأولياء فاقتضت حكمة التنزيل أن توالى الحث والنهي والإنذار في شأنه بأساليب متنوعة وأحيانا بأساليب قارعة. ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة في البر والعناية باليتيم. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن سهل بن سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «أنا وكافل اليتيم في الجنّة هكذا وقال بإصبعيه السّبابة والوسطى» . وحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - اجتنبوا السبع الموبقات. قيل يا رسول اللّه وما هنّ؟ قال الشرك باللّه والسّحر وقتل النفس التي حرّم اللّه إلّا بالحقّ وأكل الرّبا وأكل مال اليتيم والتولّي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» . وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «من قبض يتيما من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله اللّه الجنة البتة إلا أن يعمل ذنبا لا يغفر له».
وهناك حديث أورده ابن كثير في سياق الآية [10] من سورة النساء أخرجه ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، حَدِّثْنَا مَا رَأَيْتَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِكَ . قَالَ : " انْطُلِقَ(1/571)
بِي إِلَى خَلْقٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ كَثِيرٍ ، رِجَالٌ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ لَهُ مِشْفَرَانِ كَمِشْفَرِ الْبَعِيرِ ، وَهُوَ مُوَكَّلٌ بِهِمْ رِجَالٌ يَفُكُّونَ لُحَى أَحَدِهِمْ ، ثُمَّ يُجَاءُ بِصَخْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَتُقْذَفُ فِي فِي أَحَدِهِمْ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أَسْفَلِهِ ، وَلَهُ خُوَارٌ , وَصُرَاخٌ ، فَقُلْتُ : يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ " قَالَ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا "» (1) .
وحديث آخر أورده المفسر نفسه في صحيح ابن حبان عَنْ أَبِي بَرْزَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَوْمٌ مِنْ قُبُورِهِمْ تَأَجَّجُ أَفْوَاهُهُمْ نَارًا فَقِيلَ : مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : أَلَمْ تَرَ اللَّهَ يَقُولُ {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء] الآيَةَ.. (2)
حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر الخطير كما هو في كل أمر آخر.
وفي الآيات تنديد بمن لا يحض على طعام المسكين. ولقد سبق مثل هذا في آية سورة المدثر وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار. (3)
قال الإمام : وإنما ذكر التحاض على الطعام ، ولم يكتف بالإطعام فيقول : لم تطعموا المسكين ؛ ليصرح لك بالبيان الجلي أن أفراد الأمة متكافلون ، وأنه يجب أن يكون لبعضهم على بعض عطف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مع التزام كلٍّ لما يأمر به ، وابتعاده عما ينهى عنه .
لطيفة : قال القاشاني : في دلالة قوله تعالى : { فَأَمَّا الْإِنْسَاْن } أي : الْإِنْسَاْن يجب أن يكون في مقام الشكر أو الصبر بحكم الإيمان ، لحديث : < الإيمان نصفان نصف : صبر ، ونصف شكر > لأن الله تعالى إما يبتليه بالنعم والرخاء ، فعليه أن يشكره باستعمال نعمته فيما ينبغي من إكرام اليتيم وإطعام المسكين وسائر مراضيه . ولا يكفر نعمته بالبطر والافتخار فيقول : أن الله أكرمني لاستحقاقي وكرامتي عنده ، ويترفهُ في الأكل ويحتجب بمحبة المال وبمنع المستحقين ، أو بالفقر وضيق الرزق فيجب عليه أن يصبر ولا يجزع ولا يقول : إن الله أهانني ، فربما كان ذلك إكراماً له بأن لا يشغلهُ بالنعمة عن المنعم ، ويجعل ذلك وسيلة له في التوجه إلى الحق والسلوك في طريقه لعدم التعلق ، كما أن الأول ربما كان استدراجاً منه . انتهى . (4)
__________
(1) - تَفْسِيرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (4926) وهو أبو هارون العبدي وهو متروك
(2) - صحيح ابن حبان - (12 / 377) (5566) وفيه زياد بن المنذر وهو متروك
وانظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (4 / 5986) رقم الفتوى 25857 عذاب أكلة ألربا وأموال اليتامى تاريخ الفتوى : 07 شوال 1423
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 536)
(4) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 220)(1/572)
ففى الحال التي يفيض اللّه سبحانه وتعالى فيها المال على الإنسان ، ويسوق إليه الكثير منه ، لا يرى أن ذلك ابتلاء واختبار ، كما يرى ذلك عباد اللّه المتقون ، وكما يقول سبحانه على لسان سليمان عليه السلام : « هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ »
؟ (40 : النمل) ـ بل إنه يرى أن ذلك الإحسان المسوق إليه من عند اللّه ، هو حقّ اقتضاه من اللّه سبحانه ، لما يرى فى نفسه من ميزات استحق بها هذا الإحسان دون الناس ، فيقول كما يقول أهل الزيغ والضلال ، فيما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله : « وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى » (50 : فصلت).
فالإنسان ضعيف أمام سلطان المال ، وتسلطه عليه ، فإذا لم يحضّ نفسه على مراقبة اللّه ، وإذا لم يقم على نفسه وازعا يزعه من غلبة الهوى ، استبدت به شهوة المال ، وصرفته عن اللّه ، وأرته الحياة الآخرة سرابا خادعا ، لا ينبغى له أن يدع هذا الحاضر الذي بين يديه ، ويتعلق بهذا السراب الخادع الذي لا يدرى ما وراءه!! والإنسان هنا ، هو مطلق الإنسان ، إلا من عصم اللّه ، وهم قليل ..
وفى قوله تعالى : « ابْتَلاهُ رَبُّهُ » إشارة إلى أن هذا المال المسوق إلى الإنسان ، وتلك النعم التي ملأ اللّه بها يديه ، هو ابتلاء وامتحان له من اللّه ، يكشف به عن شكره أو كفره ، وأن ذلك ليس لميزة امتاز بها على الناس ، فكما يبتلى اللّه أولياءه بالمال ، يبتلى أعداءه به أيضا ، فيعطى كلّا من الأولياء والأعداء ما يشاء .. أما الأولياء فيحمدون ، ويشكرون ، وأما الأعداء فيزدادون كفرا وعنادا .. واللّه سبحانه وتعالى يقول : « وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ » (35 : الأنبياء)
وفى قوله تعالى : « فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ » ـ إشارة إلى أن الابتلاء بالإعطاء والمنح ، هو ـ عند من يعرف قدره ، ويحسن استقباله ـ فضل وإكرام من اللّه ، وإنه لجدير بالعاقل ألا ينزع عن نفسه هذا الثوب الذي كساه اللّه إياه ، ويلبس نفسه لباس الشقاء والبلاء ..
فالذين أنعم اللّه عليهم من عباده المكرمين بالملك والجاه والمال والسلطان ـ يرون فضل اللّه عليهم ، وإحسانه إليهم ، فلا يكون همّهم إلا إفراغ جهدهم كله فى القيام بواجب الشكر للّه ، والحمد للّه ، أن أكرمهم بهذا العطاء ، وعافاهم من المنع والحرمان. وفى هذا يقول سليمان عليه السلام : « يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ » (16 : النمل).
إنه يهتف من أعماقه ، محدّثا بنعمة اللّه عليه ، داعيا الناس أن يشهدوا عليه ، وهو بين يدى نعم اللّه السوابغ عليه ، وأنه إذا لم يقم فى مقام الشاكرين للّه ، فليعدّوه جاحدا ، بل وليخرجوا عن(1/573)
سلطانه الذي مكن اللّه سبحانه وتعالى به على الناس .. ويقول سليمان فى موضع آخر ، وقد رأى عرش ملكة سبأ ما ثلا بين يديه : « هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ؟ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ » (40 : النمل).
هكذا النفوس الكريمة الطيبة ، تستقبل الإحسان بالإحسان ، وتتلقىّ الخير بالخير ..
بل إنها لتضيق بالإحسان ، وتراه حملا ثقيلا عليها ، إذا هى وجدت ضعفا عن القيام بشكره .. يقول الشاعر مخاطبا أحد ممدوحيه الذين أضعفوا عطاياهم له ، وأضفوا إحسانهم عليه يقول :
لا تسدينّ إلىّ عارفة حتى أقوم بشكر ما سلفا
أنت الذي جللتنى مننا أوهت قوى ظهرى فقد ضعفا
وهذا وإن كان شعرا ، وكان للخيال منه مكان ـ فإنه يقوم على أصل أصيل من مشاعر الفطرة الإنسانية السليمة ، التي لم يفسدها الهوى ، ولم يغلبها الطبع الحيواني المتوحش الكامن فى الإنسان ..
فالمال نعمة من نعم اللّه ، وإحسان من إحسانه ، وإنه لمن الغبن لمن أنعم اللّه به عليه ، بفضله وإحسانه ، أن يشترى به عداوة اللّه ، وأن يفتح به إلى جهنم بابا من أبوابها!! فالمال نعمة ، يمكن أن ينال بها العاقل طيبات الحياة الدنيا ، وحسن ثواب الآخرة ..
ولكنه حين يقع ليد الأغبياء المغرورين ، يكون عليهم وبالا ، وشقاء ، فى الدنيا والآخرة جميعا .. وفى « قارون » شاهد عبرة وعظة! وقوله تعالى : « وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ »..قدر عليه رزقه : أي ضيّقه عليه ، ولم يوسع له فيه ، بالنسبة لما يراه فى غيره من الناس ..
وفى هذه الحال يحاجّ هذا الإنسان الغافل الكفور ـ يحاجّ ربّه ، ويلقاه متسخطا متبرما ، متّهما خالقه بأنه لم يعرف قدره ، ولم يؤد له ما هو جدبر به ، وأنه ليس أقلّ من فلان ، وفلان ، من أصحاب الغنى والثراء!! وهذا ضلال مود بأهله ، ومورد إياهم موارد التهلكة ..
فالامتحان بالفقر ، والضيق ، والشدة ، كالامتحان بالغنى ، والثراء والنعم.
فإذا كان الامتحان بالغنى يضع الإنسان أمام شهوات عارمة ، وأهواء غالبة ، تحتاج لقهرها إلى رصيد عظيم من العزم ، وقوة الإرادة ـ فإن الامتحان بالفقر والشدة ، يضع الإنسان أمام عدوّ يريد أن نزعزع إيمانه ، ويغتال صبره لحكم ربه ، ورضاه بما قضى اللّه فيه.
قوله تعالى : « كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ، وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا ، وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا ».
هو رد على ما يقوم فى نفوس كثير من الناس من تلك المفاهيم الخاطئة فيما يبتليهم اللّه سبحانه وتعالى به ، من غنى أو فقر ، فليست التوسعة فى الرزق ، بالتي تعطى العبد حجة بأنه من(1/574)
المكرمين عند اللّه ، وليس التضييق فى الرزق ، بالذي يدلّ على إهانة اللّه سبحانه لمن قدر عليه رزقه .. إن هذا وذاك ، امتحان وابتلاء ، وليس كما يظن الجاهلون بأن اللّه إنما يرزق الناس فى الدنيا بحسب مكانتهم عنده ، فيوسّع على أوليائه ، ويضيّق على أعدائه ، وأن هؤلاء الذين أفقرهم اللّه ، لو كانوا من المكرمين عنده لما ضيق عليهم فى الرزق ، ولما وضعهم بموضع الحاجة إلى الأغنياء ، وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى فضح منطقهم الفاسد ، إذ يقول سبحانه على لسانهم : « أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ » ؟ (47 : يس) ..
وكلا .. فإن هذا منطق ضالّ ، ورأى فاسد سقيم!! ولقد أحالهم هذا الفهم الضال إلى حيوانات ، لا تعرف غير ما تملأ به بطنها من طعام ، فلقد جفّت فيهم عواطف الإنسانية ، وانتزعت من قلوبهم مشاعر الرحمة ..فلم يكرموا اليتيم ، كما أكرمهم اللّه ، ولم يحسنوا إلى الفقير ، كما أحسن اللّه إليهم.
بل اغتالوا حق اليتيم ، ولم يمدّوا أيديهم بإحسان إلى مسكين ، وأكلوا ما يرثون أكلا جامعا ، غير مستبقين شيئا لما افترض اللّه سبحانه وتعالى عليهم فى هذا الميراث الذي جاءهم من غير كدّو لا عمل ، فهو ليس لهم وحدهم ، وإنما هو أشبه بلقطة يلتقطونها من عرض الطريق ، وأن من حق من يحضرهم وهم يمدون أيديهم إلى هذا المال أن ينال نصيبا منه ، إذا كان من أهل العوز والحاجة ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً » (8 : النساء) .. والمراد بالقسمة هنا قسمة الميراث .. والمراد برزق أولى القربى واليتامى والمساكين من هذا الميراث ـ هو إعطاؤهم نصيبا منه ، غير مقدّر بقدر محدود ، وإنما هو فضل وإحسان .. ولقد أنكروا هذا الحق ، وأكلوا الميراث كله!! وفى قوله تعالى : « أَكْلًا لَمًّا » إشارة إلى أنهم أكلوا ما لهم من حق فى هذا الميراث ، مع مالذوى القربى واليتامى والمساكين من حق فيه ، وجمعوا هذا إلى ذاك ، وأكلوه جميعه. (1)
فأما الإنسان فتخطئ موازينه وتضل تقديراته ، ولا يرى إلا الظواهر ، ما لم يتصل بميزان الله :{ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه ، فيقول : ربي أكرمن . وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول : ربي أهانن } . .فهذا هو تصور الإنسان لما يبتليه الله به من أحوال ، ومن بسط وقبض ، ومن توسعة وتقدير . . يبتليه بالنعمة والإكرام . بالمال أو المقام . فلا يدرك أنه الابتلاء ، تمهيداً للجزاء . إنما يحسب هذا الرزق وهذه المكانة دليلاً على استحقاقه عند الله للأكرام ، وعلامة على اصطفاء الله له واختياره . فيعتبر البلاء جزاء والامتحان نتيجة! ويقيس
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1555)(1/575)
الكرامة عند الله بعرض هذه الحياة! ويبتليه بالتضييق عليه في الرزق ، فيحسب الابتلاء جزاء كذلك ، ويحسب الاختبار عقوبة ، ويرى في ضيق الرزق مهانة عند الله ، فلو لم يرد مهانته ما ضيق عليه رزقه . .
وهو في كلتا الحالتين مخطئ في التصور ومخطئ في التقدير . فبسط الرزق أو قبضه ابتلاء من الله لعبده . ليظهر منه الشكر على النعمة أو البطر . ويظهر منه الصبر على المحنة او الضجر . والجزاء على ما يظهر منه بعد . وليس ما أعطي من عرض الدنيا أو منع هو الجزاء . . وقيمة العبد عند الله لا تتعلق بما عنده من عرض الدنيا . ورضى الله أو سخطه لا يستدل عليه بالمنح والمنع في هذه الأرض . فهو يعطي الصالح والطالح ، ويمنع الصالح والطالح . ولكن ما وراء هذا وذلك هو الذي عليه المعول . إنه يعطي ليبتلي ويمنع ليبتلي . والمعول عليه هو نتيجة الابتلاء!
غير أن الإنسان حين يخلو قلبه من الإيمان لا يدرك حكمة المنع والعطاء . ولا حقيقة القيم في ميزان الله . . فإذا عمر قلبه بالإيمان اتصل وعرف ما هنالك . وخفت في ميزانه الأعراض الزهيدة ، وتيقظ لما وراء الابتلاء من الجزاء ، فعمل له في البسط والقبض سواء . واطمأن إلى قدر الله به في الحالين؛ وعرف قدره في ميزان الله بغير هذه القيم الظاهرة الجوفاء!
وقد كان القرآن يخاطب في مكة أناساً يوجد أمثالهم في كل جاهلية تفقد اتصالها بعالم أرفع من الأرض وأوسع أناساً ذلك ظنهم بربهم في البسط والقبض .
وذلك تقديرهم لقيم الناس في الأرض . ذلك أن المال والجاه عندهم كل شيء . وليس وراءهما مقياس! ومن ثم كان تكالبهم على المال عظيماً ، وحبهم له حباً طاغياً ، مما يورثهم شراهة وطمعاً . كما يورثهم حرصاً وشحاً . . ومن ثم يكشف لهم عن ذوات صدورهم في هذا المجال ، ويقرر أن هذا الشره والشح هما علة خطئهم في إدراك معنى الابتلاء من وراء البسط والقبض في الأرزاق .
{ كلا . بل لا تكرمون اليتيم ، ولا تحاضون على طعام المسكين . وتأكلون التراث أكلاً لما ، وتحبون المال حباً جما } . .كلا ليس الأمر كما يقول الإنسان الخاوي من الإيمان . ليس بسط الرزق دليلاً على الكرامة عند الله . وليس تضييق الرزق دليلاً على المهانة والإهمال . إنما الأمر أنكم لا تنهضون بحق العطاء ، ولا توفون بحق المال . فأنتم لا تكرمون اليتيم الصغير الذي فقد حاميه وكافله حين فقد أباه ، ولا تتحاضون فيما بينكم على إطعام المسكين . الساكن الذي لا يتعرض للسؤال وهو محتاج! وقد اعتبر عدم التحاض والتواصي على إطعام المسكين قبيحاً مستنكراً . كما يوحي بضرورة التكافل في الجماعة في التوجيه إلى الواجب وإلى الخير العام . وهذه سمة الإسلام .. . إنكم لا تدركون معنى الابتلاء . فلا تحاولون النجاح فيه ،(1/576)
بإكرام اليتيم والتواصي على إطعام المسكين ، بل أنتم على العكس تأكلون الميراث أكلاً شرهاً جشعاً؛ وتحبون المال حباً كثيراً طاغياً ، لا يستبقي في نفوسكم أريحية ولا مكرمة مع المحتاجين إلى الإكرام والطعام .
وقد كان الإسلام يواجه في مكة كما ذكرنا من قبل حالة من التكالب على جمع المال بكافة الطرق ، تورث القلوب كزازة وقساوة . وكان ضعف اليتامى مغرياً بانتهاب أموالهم وبخاصة الإناث منهم في صور شتى؛ وبخاصة ما يتعلق بالميراث ( كما سبق بيانه في مواضع متعددة في الظلال ) كما كان حب المال وجمعه بالربا وغيره ظاهرة بارزة في المجتمع المكي قبل الإسلام . وهي سمة الجاهليات في كل زمان ومكان! حتى الآن!
وفي هذه الآيات فوق الكشف عن واقع نفوسهم ، تنديد بهذا الواقع ، وردع عنه ، يتمثل في تكرار كلمة { كلا } كما يتمثل في بناء التعبير وإيقاعه ، وهو يرسم بجرسه شدة التكالب وعنفه : { وتأكلون التراث أكلاً لما . وتحبون المال حباً جما! } . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- النظرية المادية لم تكن حديثة عهد إذ عرفها الماديون في مكة من مشركي قريش قبل أربعة عشر قرنا .
2- وجوب إكرام اليتامى والحض على إطعام الجياع من فقراء ومساكين .
3- وجوب اعطاء المواريث لمستحقيها ذكورا أو اناثا صغاراً أو كباراً .
4- التنديد بحب المال الذي يحمل على منع الحقوق ، ويزن الأمور بميزانه قوة وضعفا .
5- يخطئ الإنسان في فهم حال الغنى والفقر ، فليس الغنى وبسط الرزق دليلا على الإكرام والتفضيل والاصطفاء ، كما أن الفقر ليس دليلا على الإهانة والإذلال.
فالكرامة عند اللَّه والهوان ليس بكثرة الحظ في الدنيا وقلته ، وإنما الكرامة عنده أن يكرم اللَّه العبد بطاعته وتوفيقه ، المؤدي إلى حظ الآخرة ، وإن وسّع عليه في الدنيا حمده وشكره.
واللَّه لا يريد من عبده إلا الطاعة والسعي للعاقبة الآخرة ، وأما الإنسان فلا يريد ذلك ، ولا يهمه إلا الدنيا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها.
6- أكّد تعالى المعنى السابق بكلمة كَلَّا للرد على سوء فهم الإنسان ، وزجرا وردعا له عن اعتقاده وتصوره السابق ، فليس الأمر كما يظنّ ، بأن الغنى لفضله ، والفقر لهوانه ، وإنما الغنى والفقر من تقدير اللَّه وقضائه ، وعلى العبد أن يحمد اللَّه عزّ وجلّ على الفقر والغنى.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3905)(1/577)
عَنْ قَتَادَةَ ، قَوْلُهُ : وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ مَا أَسْرَعَ مَا كَفَرَ ابْنُ آدَمَ ، يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : كَلَّا إِنِّي لَا أُكْرِمُ مَنْ أَكْرَمْتُ بِكَثْرَةِ الدُّنْيَا ، وَلَا أُهِينُ مَنْ أَهَنْتُ بِقِلَّتِهَا ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أُكْرِمُ مَنْ أَكْرَمْتُ بِطَاعَتِي ، وَأُهِينُ مَنْ أَهَنْتُ بِمَعْصِيَتِي"
وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ أَنْكَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ حَمْدَ الْإِنْسَانِ رَبَّهُ عَلَى نِعَمِهِ دُونَ فَقْرِهِ ، وَشَكْوَاهُ الْفَاقَةَ وَقَالُوا : مَعْنَى الْكَلَامِ : كَلَّا ، أَيْ لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَكَذَا ، وَلَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْمَدَهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا ، عَلَى الْغِنَى وَالْفَقْرِوَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ : الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ قَتَادَةَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَالْآيَاتِ الَّتِي بَعْدَهَا ، عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَهَانَ مَنْ أَهَانَ بِأَنَّهُ لَا يُكْرِمُ الْيَتِيمَ ، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ، وَسَائِرُ الْمَعَانِي الَّتِي عَدَّدَ ، وَفِي إِبَانَتِهِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أَهَانَ مَنْ أَهَانَ ، الدَّلَالَةَ الْوَاضِحَةَ عَلَى سَبَبِ تَكْرِيمِهِ مَنْ أَكْرَمَ ، وَفِي تَبْيِينِهِ ذَلِكَ عُقَيْبَ قَوْلِهِ : فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنْ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنْ بَيَانٌ وَاضِحٌ عَنِ الَّذِي أَنْكَرَ مِنْ قَوْلِهِ مَا وَصَفْنَا " (1) .
7- أخبر اللَّه تعالى عما كان الناس يصنعونه من ترك برّ اليتيم ومنعه من الميراث ، وأكل ماله إسرافا وبدارا أن يكبروا ، وأنهم لا يأمرون أهليهم بإطعام مسكين يجيئهم ، وأكلهم ميراث اليتامى والنساء والصبيان أكلا شديدا وجمعا شاملا ، ومحبتهم المال حبّا جمّا ، كثيرا ، فقد كان أهل الشرك لا يورّثون النساء ولا الصبيان ، بل يأكلون ميراثهم مع ميراثهم ، وتراثهم مع تراثهم ، وكانوا يجمعون المال دون تفرقة بين الحلال والحرام.
وهذا ما يشيع الآن كثيرا في العالم ، بل بين المسلمين أنفسهم.
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (34492 ) صحيح(1/578)
حال الإنسان الحريص على الدنيا والمترفع عنها يوم القيامة
قال تعالى :
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
سبب النزول : نزول الآية (27) يا أيتها النفس:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ:" " يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً " ، قَالَ: نَزَلَتْ وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ، فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَحْسَنَ هَذَا ! فقال: أَمَا أَنَّهُ سَيُقَالُ لَكَ هَذَا"
وعَنْ سَعيِدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَرَأْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - :" " يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً " ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، رضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ هَذَا حَسَنٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :"أَمَا إِنَّ الْمَلَكَ سَيَقُولُ لَكَ هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ" (1)
المناسبة :
بعد أن أنكر اللَّه على الناس تصورهم عن الغنى والفقر ، وأفعالهم المنكرة ، بالحرص على الدنيا ، وإيثارها على الآخرة ، وترك المواساة منها ، وجمعها دون تفرقة بين حلال أو حرام ، ردعهم عن ذلك ، وأخبر عما يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة ، وأبان أنهم يندمون حين لا ينفع الندم : يَقُولُ : يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي فإن الآخرة دار جزاء لا دار عمل ، ثم ذكر تحسر المقصر في طاعة اللَّه يوم القيامة : يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى .
وبعد بيان حال هذا الإنسان الحريص على الدنيا ، ذكر اللَّه تعالى حال المؤمن المخلص المترفع عنها ، المتسامي بطبعه إلى مراتب الكمال ، فيكون جزاؤه دخول الجنان في زمرة الصالحين المقربين من عباد اللَّه تعالى.
المفردات :
21 ... دُكَّتِ الأَرْضُ ... زلزلت ، دقت
22 ... المَلَكُ صَفّا ً ... ... الملائكة صفوفا
23 ... جِيئَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ... الملائكة يجرون جهنم
23 ... يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ ... الكافر يتذكر ما قالت الرسل
23 ... أَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ... لاتنفعه الذكرى
__________
(1) - تفسير ابن أبي حاتم - (12 / 405) صحيح(1/579)
24 ... قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ... قدمت الأعمال الصالحة
27 ... النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ... النفس المؤمنة الآمنة
30 ... ادْخُلِي جَنَّتِي ... ادخلي دار كرامتي
المعنى الإجمالي:
بعد أن أنكر عليهم أقوالهم وادعاءهم أن الغنى إكرام لهم ، وأن الفقر إهانة لهم ، ونعى عليهم أفعالهم من حرصهم على الدنيا واستفراغ الجهد فى تحصيلها ، وتكالبهم على جمعها من حلال وحرام - أردفه بيان أن ما يزعمونه من أنهم لربهم ذاكرون مع فراغ قلوبهم من الرأفة بالضعفاء وامتلائها بحب المال والميل إلى الشهوات - زعم لا حقيقة له ، وإنما يتذكرون ربهم فى ذلك اليوم العظيم حين يشهدون الهول. ويعوزهم الحول ، ويظهر لهم مكانهم من النكال والوبال ، ولكن هذه الذكرى قد فات أوانها ، وانتهى إبّانها ، فإن الدار دار جزاء لا دار أعمال ، فلا يبقى فيها لأولئك الخاسرين إلا الحسرة والندامة ، وقول قائلهم :« لَي ْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي »
ويكون لهم من العذاب ما لا يقدر قدره ، ومن الإهانة ما يحل عن التشبيه والتمثيل.
وبعد أن ذكر حال الإنسان الذي خلّى وطبعه ، فاستولى عليه جشعه وحرصه على رغباته وشهواته ، حتى خرجت عن سلطان الحكمة والعقل ، ثم ذكر عاقبة أمره فى الآخرة - أعقب هذا بذكر حال الإنسان الذي ارتقى عن ذلك الطبع وسمت نفسه إلى مراتب الكمال ، فاطمأن إلى معرفة خالقه ، واستعلى برغائبه إلى المطامع الروحية ، ورغب عن اللذات الجسمانية ، فكان فى الغنى شاكرا لا يتناول إلا حقه ، وفى الفقر صابرا لا يمد يده إلى ما لغيره ، وبين أنه فى ذلك اليوم يكون بجوار ربه راضيا بعمله فى الدنيا ، مرضيا عنده ، يدخله فى زمرة الصالحين المكرمين من عباده. (1)
هذا هو الرب - سبحانه - مع المخلوقين ، فإن أردت أن تعرف الإنسان : فأما إذا ما ابتلاه بالخير في الدنيا أصابه الغرور ، وقال : إن اللّه أكرمنى ، ومن يكرمه اللّه في الدنيا فلا يعذبه في الآخرة مهما فعل من المعاصي ، وإذا ما ابتلاه بأن ضيق عليه رزقه يقول : ربي أهاننى ، ويظن أن من صغرت قيمته عند ربه لم يبال به ولا بعمله فتراه قد وقع في المعاصي وانخرط مع الجبارين ، فكأن الغنى والفقر امتحان لا ينجو منه إلا قليل ، لم يبتل اللّه الإنسان بالغنى لكرامته عنده ، وإلا لما رأيت كثيرا من الصالحين المقربين فقراء ليس عندهم ما يكفيهم كلا : لم تكن الدنيا دليلا على هذا وذاك ، وكان العرب يظنون أنهم على شيء يرضى اللّه ، وكانوا يتوهمون أنهم على دين أبيهم إبراهيم الخليل فرد اللّه عليهم بأنهم ليسوا على شيء بدليل أنهم لا
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 151)(1/580)
يكرمون اليتيم بل يأخذون ماله ظلما ، ولا يحسنون إليه ، ولا يحض بعضهم بعضا على إطعام المساكين ، فكرمهم للرياء والسمعة ، لا للإنسانية. وهم يأكلون الميراث أكلا بنهم وشدة ، ويحبون المال أيا كان حبا شديدا كثيرا ، أليس هذا دليلا على أن هؤلاء الكفار المغرورين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، وأنهم ليسوا على شيء يرضى اللّه ولا يرضى أحدا من أنبيائه.
كلا وألف كلا!! لا ينبغي أن تكونوا كما وصفكم القرآن ، ومن كان كذلك فإنه إذا دكت الأرض دكا وقامت القيامة قياما ، وجاء ربك - واللّه أعلم بكيفية المجيء ولكن نؤمن به « 1 » - والملك ...!! قاموا وأحدقوا بالناس جميعا - وخاصة الكفار - صفوفا صفوفا ، وجئ يومئذ بجهنم وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى « 2 » يوم إذ يحصل هذا فقط يتذكر الإنسان أنه أخطأ وأهمل ، وكذب وعصى ، ولكن هل ينفعه ذلك ؟ ! لا.
وأنى له الذكرى ؟ ! يقول الإنسان الذي عصى في الدنيا : يا ليتني قدمت عملا ينفعني في تلك الحياة الأبدية.
وكأنها هي الحياة فقط وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ « 3 » .
فيومئذ لا يعذب عذاب ربك أحد ، بل هو الذي يتولى العذاب وحده بلا شريك ولا يوثق أحدا من خلقه غيره ، وهذا لأن الأمر يومئذ أمره.
هذا شأن الإنسان المادي ، وهذا جزاؤه ونهايته في الآخرة.
أما الإنسان إذا صفت روحه وسمت عن الماديات ، كانت نهايته يوم القيامة سعيدة ، ويقال له : يا أيتها النفس المطمئنة الواثقة في اللّه وفي لقائه ، والمستيقنة بنور الحق الذي لا يخالجه شك ، أيتها النفس ارجعي إلى ربك ، وأحظي بشرف لقائه ورضوانه ، ارجعي إلى ربك راضية عن عملك في الدنيا مرضية عنك لأن من كان معها قد رضى عنها ، واللّه قد رضى عنها ، وذلك هو الفوز العظيم ، فادخلي أيتها النفس في عداد عبادي الصالحين المقربين لأنك عملت عملهم ، وادخلى جنتي.
والرجوع إلى اللّه تمثيل لكرامة بعض خلقه عنده وإلا فاللّه معنا حيث كنا. (1)
التفسير والبيان :
كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا أي زجرا وردعا لأقوالكم وأفعالكم هذه ، ولا ينبغي أن يكون هكذا عملكم في الحرص على الدنيا ، وترك المواساة منها ، وجمع الأموال فيها من حيث تتهيأ ، دون تفرقة بين حلال وحرام ، وتوهم ألا حساب ولا جزاء.
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 862)(1/581)
وسيأتي يوم القيامة وما يقع فيه من الأهوال الرهيبة ، وتظهر فيه أوصاف ثلاثة ، فتدكّ الأرض دكّا بعد دكّ ، أي تكسر وتدق ، وتتزلزل وتتحرك تحركا بعد تحريك ، وتهدّ جبالها حتى تستوي مع سطح الأرض ، فتسوّى الأرض والجبال ، ويقوم الناس من قبورهم. وقوله : دَكًّا دَكًّا يدل على تكرار الدكّ حتى صارت الجبال هباء منبثا.
وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا أي وجاء اللَّه سبحانه وتعالى لفصل القضاء بين عباده ، وتصدر أوامره وأحكامه بالجزاء والحساب ، وتظهر آيات قدرته وآثار قهره ، ويقف الملائكة مصطفين صفوفا للحراسة والحفظ والهيبة.
وهذه هي الصفة الثانية من صفات ذلك اليوم.
وَجِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ أي وكشفت للناظرين بعد غيبتها وتحجبها عنهم ، كما قال تعالى : وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشعراء 26/ 91] ، وقال أيضا : وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى [النازعات 79/ 36]. وهذه هي الصفة الثالثة من صفات ذلك اليوم.
يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى ، يَقُولُ : يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي أي في ذلك اليوم يندم الإنسان على ما قدّم في الدنيا من الكفر والمعاصي ، وعلى ما عمل من أعمال السوء ، وكيف تنفعه الذكرى ؟ أي لا تنفعه ، فقد فات الأوان ، وإنما كانت تنفعه الذكرى لو تذكر الحق قبل حضور الموت.
ويقول مبينا تذكره : يا ليتني قدمت الخير والعمل الصالح لحياتي الأخروية الدائمة الباقية ، فهي الحياة الأخيرة لأهل النار ولأهل الجنة جميعا. ويصح جعل اللام بمعنى الوقت ، أي وقت حياتي في الدنيا.
قال الرازي : فيه دليل على أن قبول التوبة على اللَّه لا يجب عقلا. والواقع أن الآية ليست في هذا الجانب ، لأنه لا يلزم من عدم قبول التوبة في الآخرة عدم قبولها في دار التكليف في الدنيا ، كإيمان اليأس.
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ ، وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ هذا جواب الشرط السابق في إِذا دُكَّتِ .. أي فيومئذ لا يتولى أحد تعذيب العصاة وحسابهم وجزاءهم ووثاقهم ، ولا يعذب أحد مثل عذاب اللَّه ، ولا يوثق أحد الكافر بالسلاسل والأغلال كوثاق اللَّه.
وفي هذا ترغيب بالعمل الصالح والإيمان ، وترهيب من الكفر والعصيان.
ثم ذكر حال الإنسان المترفع عن أطماعه وملذاته وشهواته في الدنيا وبشارة الأبرار ، فقال : يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ، فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي أي يقول اللَّه للمؤمن ، بذاته أو على لسان ملك : يا أيتها النفس الموقنة بالإيمان والحق وتوحيد اللَّه ، التي لا يخالجها شك في صدق عقيدتها ، وقد رضيت بقضاء اللَّه وقدره ، ووقفت عند حدود(1/582)
الشرع ، فتجيء يوم القيامة مطمئنة بذكر اللَّه ، ثابتة لا تتزعزع ، آمنة مؤمنة غير خائفة ، ارجعي إلى ثواب ربك الذي أعطاك. وإلى محل كرامته الذي منحك إياه ، راضية بهذا الثواب عما عملت في الدنيا ، وبما حكم اللَّه ، ومرضية عند اللَّه ، كما قال تعالى : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَرَضُوا عَنْهُ [البيّنة 98/ 8] وهذه هي صفة أرباب النفوس الكاملة.
فادخلي في زمرة عبادي الصالحين ، وكوني في جملتهم ، وادخلي معهم جنتي ، فتلك هي الكرامة لا كرامة سواها ، جعلنا اللَّه من أهلها ، والظاهر العموم ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت به الآية.
ومضات :
قال ابن كثير : أي : وجاء الرب ، تبارك وتعالى ، لفصل القضاء ، كما يشاء والملائكة بين يديه صفوفاً صفوفاً . . وسبقه ابن جرير على ذلك وعضدهُ بآثار عن ابن عباس وأبي هريرة والضحاك < في نزوله تعالى من السماء يومئذ في ظلل من الغمام ، والملائكة بين يديه ، وإشراق الأرض بنور ربها > . ومذهبُ الخلف في ذلك معروف ، من جعل الكلام على حذف مضاف ، للتهويل ، أي : جاء أمرهُ وقضاءهُ . أو استعارة تمثيلية لظهور آيات اقتداره وتبين آثار قهره وسلطانه .
قال الزمخشري : مثلت حاله في ذلك ، بحال الملك إذا حضر بنفسه ، ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره كلها ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم . انتهى .
وكأنّ الخلاف بين المذهبين لفظي ، إذ مبنى مذهب الخلف على أن الظاهر غير مراد . ويعنون بالظاهر ما للخلق مما يستحيل على الخالق ، فوجب تأويله . وأما السلف فينكرون أن معنى الظاهر منها ما للخلق ، بل هو ما يتبادر إلى فهم المؤمن الذي يعلم أن ذاته تعالى ، كما أنها لا تشبه الذوات ، فكذلك صفاتُ لا تشبه الصفات ؛ لأنها لا تكيف ولا تعلم بوجه ما ، فهي حقيقة النسبة إليه سبحانه على ما يليق به ، كالعلم والقدرة ، لا تمثيل ولا تعطيل .
قال الإمام ابن تيمية رضي الله عنه : واعلم أن من المتأخرين من يقول : إن مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به ، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد . وهذا لفظ مجمل ؛ فإن قولهُ ظاهرها غير مراد ، يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين ، مثل أن يراد بكون الله قبل وجه المصلّي ، أنه مستقر في الحائط الذي يصلي إليه ، و: إن الله معنا ، ظاهره أنه إلى جانبنا ، ونحو ذلك . فلا شك أن هذا غير مراد ، ومن قال : إن مذهب السلف أن هذا غير مراد ،فقد أصاب في المعنى ،لكن أخطأ في إطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث ؛ فإن هذا المجال ليس هو الظاهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع ، اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس فيكون القائل لذلك مصيباً بهذا الاعتبار ، معذوراً(1/583)
في هذا الإطلاق ، فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس ، وهو من الأمور النسبية . انتهى .
وقد بسط رحمه الله الكلام على ذلك في " الرسالة المدنية " وأوضح أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، يحتذي حذوه ويتبع فيه مثاله . فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية ، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية .
وقال رحمه الله في بعض فتاويه : نحن نقول بالمجاز الذي قام دليله ، وبالتأويل الجاري على نهج السبيل ، ولم يوجد في شيء من كلامنا وكلام أحد منا ، أنا لا نقول بالمجاز والتأويل ، والله عند لسان كل قائل ، ولكن ننكر من ذلك ما خالف الحق والصواب ، وما فتح به الباب ، إلى هدم السنة والكتاب واللحاق بمحرّفة أهل الكتاب ، والمنصوص عن الإمام أحمد وجمهور أصحابه ، أن القرآن مشتمل على المجاز . ولم يعرف عن غيره من الأئمة نص في هذه المسألة . وقد ذهب طائفة من العلماء من أصحابه وغيرهم ، كأبي بكر بن أبي داود ، وأبي الحسن الخرزيّ ، وأبي الفضل التميميّ ، وابن حامد ، فيما أظن ، وغيرهم ، إلى إنكار أن يكون في القرآن مجاز ؛ وإنما دعاهم إلى ذلك ما رأوه من تحريف المحرفين للقرآن بدعوى المجاز ؛ فقابلوا الضلال والفساد ، بحسم الموادّ . وخيار الأمور التوسط والاقتصاد . انتهى . (1)
في الآيات تنبيه زجري وردعي لما سوف يكون في يوم القيامة ، حيث تندك الأرض اندكاكا شديدا ، ويقف اللّه لمحاسبة الناس والملائكة من حوله صفوفا ، وتهيأ جهنم لمستحقيها. وحينذاك يتذكر الإنسان الذي اقترف الأفعال السيئة الباغية ويتمنى أن لو قدم بين يديه الخير والعمل الصالح. ولكن الذكرى لن تنفعه لأنه أضاع وقتها والتمني لن يغني عنه شيئا. وحينذاك يصير إلى العذاب ولن يكون له مفلت منه ، ولن يكون له فيه بديل ، ويوثق بالأغلال ولن يوثق محله بديل عنه.
أما المؤمنون الصالحون ذوو النفوس الطيبة المطمئنة بما قدمت فيهتف بهم بأن لهم من ربهم الرضاء التام ، وبأن مكانهم هو بين عباده الصالحين الأبرار وبأن منزلهم هو الجنة.
والصلة بين هذه الآيات وسابقاتها ملموحة حيث يتبادر أنها تعقيب عليها بقصد بيان ما يكون من مصير الذين يقترفون الأفعال السيئة التي ذكرت في الآيات السابقة بعض نماذجها ، وأسلوب الآيات عام مطلق أيضا مثل سابقاتها.
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 222)
وانظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (3 / 5379) رقم الفتوى 18960 معنى قول الله (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ) تاريخ الفتوى : 27 ربيع الثاني 1423(1/584)
ولقد تكررت في القرآن كثيرا حكاية ما سوف يصدر من الكفار ومقترفي الآثام من ندم وحسرة على ما فعلوه حينما يرون مصيرهم الرهيب يوم القيامة ، وقد مرّ مثل هذا في سورة المدثر بأسلوب آخر ، كما تكرر الإنذار بأنه لن يغني في الآخرة أحد عن أحد. والمتبادر أن هذا الأسلوب مع ما ينطوي عليه من حقيقة إيمانية مغيبة قد استهدف فيما استهدفه إثارة الندم والخوف في هذه الفئة وحملها على الارعواء قبل فوات الفرصة والندم حيث لا ينفع الندم.
ولقد تكرر في القرآن ذكر وقوف الناس بين يدي اللّه يوم القيامة أو مجيئه لذلك واصطفاف الملائكة حوله في مشهد الحساب والجزاء يوم القيامة بأساليب متنوعة. والمتبادر أن هذا مع وجوب الإيمان به وكونه في النص من قدرة اللّه ومع وجوب تنزيه اللّه عز وجل من مفهوم المجيء والرواح والوقوف والجلوس وغير ذلك من أفعال الخلق وصفاتهم قد استهدف التأثير بالسامعين لأنهم بخطورة المشهد القضائي الأخروي العظيم ، قد اعتادوا في الدنيا عقد مجالس قضائية لمحاكمة المجرمين وعقوباتهم. وقد يكون الشأن في هذا هو مثل وصف الجنة والنار بأوصاف اعتادها الناس في الدنيا للتقريب والتمثيل والتأثير في السامعين على ما شرحناه قبل.
ولهذا لا نرى طائلا من التزيد الذي يتزيده بعض المفسرين في صدد هذه المشاهد ، ونرى وجوب البقاء في حدود ما جاء عنها في القرآن والسنة الثابتة ، مع ملاحظة ذلك الهدف الذي ذكرناه والذي جاء وصف المشاهد الأخروية بأوصاف الدنيا من أجله.
ولقد أولنا جملة وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ بما أولناها به لأن هذا هو الأكثر ورودا من معناها.
والمتبادر أن الآيات الثلاث الأخيرة قد رمت إلى ذكر مصير الصالحين في الآخرة للمقابلة بمصير الآثمين الباغين مما جرى عليه الأسلوب القرآني كثيرا.
وهي قوية رائعة بهتافها وتلقينها وروحها ، حيث تنطوي على الإشارة بطمأنينة النفس وما سوف يلقاه صاحبها من التكريم والرضاء عند اللّه. ولعل مما تنطوي عليه ويتصل بموضوع الآيات السابقة وخاصة الآيتين [15 و16] تلقين التخلق بخلق الاطمئنان والرضى وعدم الاضطراب بتبدل ظروف الحياة عسرا ويسرا ، وكون هذا هو ما يجب أن يكون عليه الإنسان العاقل في حالتي العسر واليسر.
وهذا الخلق من أقوى المشجعات على مواجهة أحداث الحياة بقلب قوي ونفس رضية والتغلب على صعابها. ومن أوتيه فقد أوتي خيرا كثيرا وصار جديرا بهذا النداء الرباني المحبب النافذ إلى الأعماق. وواضح أن الآيات تلهم أن مثل هذا الخلق وأثره لا يكون إلا فيمن شع في نفسه الإيمان واستشعر بعظمة اللّه وقدرته الشاملة ، وأسلم النفس والأمر إليه ، ولم يتوان مع ذلك في القيام بواجبه نحوه ونحو الناس على كل حال.(1/585)
وآيات السورة وأسلوبها كما قلنا لا تحتوي مواقف جدل مع أشخاص بأعيانهم ، وهي بسبيل إنذار عام وتوجيه عام ونقد عام حيث يصح أن يقال عنها ما قلناه عن سورة الفاتحة والأعلى والليل.
واستطراد خاطف إلى تفسيرات الصوفية وتعليق عليها هذا وفي الجزء الثالث من كتاب التفسير والمفسرون لمحمد حسين الذهبي تفسير مروي عن الشيخ محيي الدين بن عربي الصوفي المشهور للآية وَادْخُلِي جَنَّتِي جاء فيه : «وادخلي جنتي التي هي ستري وليست جنتي سواك. فأنت تسترني بذاتك الإنسانية فلا أعرف إلّا بك كما أنك لا تكون إلّا بي فمن عرفك عرفني وأنا لا أعرف فأنت لا تعرف فإذا دخلت جنة دخلت نفسك فتعرف نفسك معرفة أخرى غير المعرفة التي عرفتها حين عرفت ربك بمعرفتك إياها فتكون صاحب معرفتين معرفة به من حيث أنت ومعرفة بك من حيث هو لا من حيث أنت. فأنت عبد رأيت ربا وأنت رب لمن له فيه أنت عبد وأنت رب وأنت عبد لمن له في الخطاب عهد ...» (1) .
والشطح في هذا التفسير ظاهر حيث تفسر كلمات القرآن الواضحة المعنى والمدى بتأويلات رمزية لا تتصل بهدف القرآن الذي هو دعوة الناس إلى الإيمان باللّه وحده واليوم الآخر وبرسالة رسوله وبما جاء في كتابه وسنة رسوله والالتزام به والوقوف عنده لأنه في ذلك صلاح بني الإنسان ونجاتهم في الدنيا والآخرة. وفي حين أن العبارات القرآنية قطعية الدلالة على أن خلق اللّه هو غير اللّه تعالى فإن الشيخ في شطحه حين يفسر الآية التي نحن في صددها يجعل اللّه تعالى وتنزه وخلقه شيئا واحدا متعدد الصور فلا يتورع من القول إن العبد رب للرب والرب عبد للعبد مما يقال له وحدة الوجود التي يستغرق فيها الصوفيون فيعمدون إلى تفسير آيات القرآن وفاقا لها مهما كانت المناسبة مفقودة ومهما كانت العبارات واضحة صريحة. ومهما كان فيما يقولونه شطح وشطط ومفارقة لغوية أو سبكية أو نظمية.
بل ومهما كان فيه كفر بواح. ولهم شعار خاص بهم أسوة بشعار غلاة الشيعة والباطنية فهؤلاء يعمدون إلى تغطية هذياناتهم وشطحاتهم بالقول إن لكل آية وجملة قرآنية ظاهرا وباطنا وإن الجوهري المهم هو الباطن الذي يمكن أن تتعدد وجوهه وأن لا يكون منطبقا على سياق أو مناسبة أو حاضر أو مستقبل أو لغة كما شرحنا ذلك قبل.
__________
(1) - ص 8 والمؤلف يعزو تفسير الآية هذا إلى كتاب للشيخ محيي الدين اسمه فصوص الحكم.
وقد اطلعنا على هذا الكتاب وفيه سبعة وعشرون فصلا عقد كل فصل على نبي أو شخص من أنبياء وأشخاص القرآن وفسر في كل فصل لبعض آيات اللّه وقصص الأنبياء والأشخاص تفسيرا من نوع هذا التفسير وفيه العجيب الغريب من الشطح إن لم نقل من الهذيان. ويعزى لهذا الشيخ تفسير اسمه الفتوحات المكية فيه مثل ذلك من الشطح على ما يستفاد من النبذ المنسوبة إليه.(دروزة)(1/586)
والصوفيون يعمدون إلى تغطية هذياناتهم وشطحاتهم بالقول إن للجمل القرآنية معنى حقيقيا ومعنى ظاهرا تشريعيا ويقولون إن الجوهري هو الحقيقة وإن الشريعة فيه هي شؤون ظاهرة تناسب عقول البسطاء من المسلمين وإن من السائغ أن لا يكون بين الحقيقة والشريعة توافق في المدى والمحتوى والمناسبات وسائر الوجوه والمجالات. وسنورد أمثلة أخرى من تفسيراتهم لتوكيد الصورة بقصد تنبيه المسلمين إلى نموذج آخر من النماذج الشاذة في تفسير كتاب اللّه تعالى وهو التفسير الصوفي ، وتحذيرهم من هذا النحو الذي لا سند له من عقل ونقل والذي يعمد إليه أفراد شاذون في خيالهم وعقولهم يزعمون لأنفسهم الإلهام والوحي أو يزعم لهم ذلك في حين أن اللّه تعالى قد أنزل الكتاب على رسوله ليكون للعالمين نذيرا وليخرج الناس من الظلمات إلى النور وليكون فيه هدى ورحمة لقوم يؤمنون وليهديهم به إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم اللّه عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين كما علمنا اللّه أن ندعوه وله الحمد أولا وآخرا.
ولقد تصدى لابن عربي وأمثاله المتصوفة القائلين بوحدة الوجود وكون كل ما في الكون من خلق وكل ما يفعله الخلق هي صور للّه كثير من العلماء في مختلف الحقب والبلاد الإسلامية ويندّدون بأقوالهم ويبينون ما فيها من تخريف وانحراف بل ودسائس على الإسلام لما فيه من شطح وهذيان ثم لما تؤدي إليه من إسقاط تكاليف الإسلام وإباحة كل محرم والتسوية بين اللّه والأوثان وبين المتقين والمجرمين والزناة واللصوص وبين الخير والشر والهدى والضلال والانحراف والاستقامة وإنكار لليوم الآخر وحسابه وثوابه وعقابه (1)
وقوله تعالى : « كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ، يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ».كلا ، هو ردّ على موقف هؤلاء الذين لا يكرمون اليتيم ، ولا يتحاضّون على طعام المسكين ، ويأكلون التراث أكلا لمّا ، ويحبون المال حبّا جمّا .. إن ذلك ليس هو طريق الفلاح والنجاة ، بل هو طريق الخسران ، والهلاك ، وإن ذلك ليبدو لهم جليّا وضحا « إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا » أي إذا جاء يوم القيامة ، وتبدلت معالم هذه الحياة الدنيا ، وذهب كل ما جمعوا فيها ، وما أقاموا من دور وقصور .. وفى التعبير عن يوم القامة ، بدكّ الأرض « دكا دكا » ـ إشارة إلى أن ما بين أيديهم من متاع الحياة الدنيا سيتحول إلى حطام وأنقاض ، فيكون بعضا من هذه الأرض التي لا يبقى على
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 544)
و«انظر كتاب مصرع التصوف أو تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي وتحذير العباد من أهل العناد ، تأليف العلامة برهان الدين البقاعي ، تحقيق وتعليق عبد الرحمن الوكيل ، مطبعة السنة المحمدية ، القاهرة 1373 ه - 1953 م».(1/587)
وجهها شىء ، مخلّفا وراءه الويل لهم ، والحساب العسير على ما أكلوا من حقوق ، وما ضيعوا من واجبات.
وقوله تعالى : « وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا » ـ أي جاء أمر اللّه وسلطانه ونصبت موازين الحساب ، ووقف الملائكة فى المحشر جندا حراسا ، ينفذون أمر اللّه ، ويسوقون أهل الضلال إلى النار ، وأهل الإيمان إلى الجنة ..
«ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ » (103 : هود) وقوله تعالى : « وَجِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ » ـ برزت جهنم لأهلها ، فهذا هو يومها ، ويوم المنذرين بها ، المعذبين فيها .. « وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى » (36 : النازعات) وقوله تعالى : « يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى » ـ أي فى هذا اليوم يعقل الإنسان كل شىء ، ويعلم عن يقين ما فاته علمه فى الدنيا من حق .. ولكن لا ننفعه الذكرى ، ولا يفيده العلم ، فقد طويت صحف الأعمال ، ولا سبيل إلى تدارك ما فات! وقوله تعالى : « يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي » إنه الندم الذي يملأ القلب حسرة وكمدا ، وإنه النظر اليائس المتحسر إلى سقاء الماء وقد أربق كل ما فيه ، فى وسط صحراء ليس فيها قطرة ماء!! وفى قوله « لحياتى » ـ إشارة إلى أن هذه الحياة ـ حياة الآخرة ـ هى حياة الإنسان حقا ، وأن الحياة الدنيا ليست إلا معبرا إلى هذه الحياة ..قوله تعالى : « فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ. وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ » ـ أي فى هذا اليوم لا يشهد الناس عذابا كهذا العذاب الذي يعذب اللّه به أهل الضلال ، ولا قيدا محكما وثيقا كهذا القيد الذي يقيدهم اللّه به ، فلا يجدون سبيلا للإفلات والهرب! والضمير فى عذابه ، يرجع إلى اللّه ، ومثله الضمير فى وثاقه.
وقوله تعالى : «يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً » هذا النداء الكريم ، الذي يدعو به اللّه سبحانه وتعالى أهل ودّه ، من وسط هذا البلاء الخالق ، المحيط بالناس يوم القيامة ـ هو قارب النجاة ، الذي يخفّ مسرعا إلى تلك السفينة الغارقة فى هذا البحر اللّجى ، فيحمل هؤلاء الذين أكرمهم اللّه بفضله وإحسانه ، فنجاهم من شر هذا اليوم ، ولقاهم نضرة وسرورا .. إن هذا النداء الذي يجىء على فجاءة وسط هذا البلاء ، لهو أوقع أثرا ، وأبلغ فى إدخال المسرة على النفس ، من أن يجىء مسبوقا بمقدمات تشير إليه ، وتبشّر به ..
والنفس المطمئنة ، هى النفس المؤمنة ، التي لا يستبد بها القلق فى أي حال من أحوالها ، فى السراء أو الضراء ، إنها فى حال واحدة أبدا من الرضا بما قسم اللّه لها .. ، فهى فى السراء شاكرة ، حامدة ، وفى الضراء صابرة راضية ، فلا الغنى يطغيها ، ويخرج بها عن طريق الاستقامة ، ولا الفقر يسخطها ، ويعدل بها عن الاطمئنان إلى قضاء اللّه فيها ، وحكمه عليها .. إنها نفس مطمئنة ثابتة ، على حال واحدة فى إيمانها باللّه ، ورضاها بما قسم لها .. وهذا الاطمئنان وذلك الرضا ، لا يجد هما إلا المؤمنون باللّه ، المتوكلون عليه ، المفوضون أمورهم(1/588)
إليه .. فالاطمئنان الذي تصيبه بعض النفوس ، ويكون صفة غالبة عليها ، هو ثمرة الإيمان الوثيق باللّه ، القائم على أصول ثابتة من المعرفة باللّه سبحانه وتعالى ، وما له جل شأنه من سلطان مطلق متمكن ، قائم على كل ذرة فى هذا الوجود ، وأنه لا يقع فى هذا الوجود شىء إلا بتقديره سبحانه ، وبمقتضى حكمته وعلمه ، وعدله.
وقد نودى الإنسان هنا بنفسه ولم يناد بذاته ، لأن النفس هى جوهره السماوي ، وهى التي كانت موطن الإيمان والاطمئنان .. وهى لهذا استحقت أن ترجع إلى ربها ، وأن تنزل منازل رضوانه ، إذ لم تغرق فى تراب الأرض ، ولم تضع معالمها فيه ، كما ضاعت نفوس الضالين والغاوين ..وقوله تعالى : « راضِيَةً مَرْضِيَّةً » أي راضية بما أرضاها اللّه سبحانه به من فضله ، مرضيّا عنها من ربها .. فالكلمتان حالان من أحوال النفس ، وقد دعيت من ربها إلى الرجوع إليه .. إنها ترجع إلى ربها ، وقد رضيت بما لقيها به ربّها من إكرام وإحسان ، وقد رضى ربها عنها بما قدمت من أعمال طيبة ..
فاللّه سبحانه وتعالى يرضى ويرضى ، يرضى عن عباده المحسنين ، ويرضيهم بإحسانه ، كما يقول سبحانه : « لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ».. وفى الجمع بين صفة الرضا للنفس ، والرضا من اللّه عنها ـ إشارة إلى أن هذا الرضا الذي تجده النفس هو رضا دائم متصل ، لأنه مستمد من رضا اللّه عنها ، وأنه ليس مجرد شعور يطرقها ، أو خاطر يطوف بها ، ثم يذهب هذا الشعور ، ويغيب هذا الخاطر ، مع موجات الخواطر ، والمشاعر التي تموج فى كيان الإنسان ..!! كلا إنه رضا لا ينقطع أبدا ..
وقوله تعالى : « فَادْخُلِي فِي عِبادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي » ـ هو دعوة إلى هذه النفس المطمئنة ، بعد أن عادت إلى ربها ، أن تأخذ مكانها بين عباده الذين أضافهم سبحانه وتعالى إليه ، وجعلهم فى مقام كرمه وإحسانه ، وأدخلهم جنته التي أعدها لهم ، فلتأخذ هى مكانها معهم من تلك الجنة ، ولتنعم بما ينعم به عباد اللّه المكرمون ، من نعيم لم تره عين ، ولم تسمع به أذن ، ولم يخطر على قلب بشر .. جعلنا اللّه منهم ، وألحقنا بهم ، إنه أهل التقوى وأهل المغفرة (1)
ودك الأرض ، تحطيم معالمها وتسويتها؛ وهو أحد الانقلابات الكونية التي تقع في يوم القيامة . فأما مجيء ربك والملائكة صفاً صفا ، فهو أمر غيبي لا ندرك طبيعته ونحن في هذه الأرض .
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1560)(1/589)
ولكنا نحس وراء التعبير بالجلال والهول . كذلك المجيء بجهنم . نأخذ منه قربها منهم وقرب المعذبين منها وكفى . فأما حقيقة ما يقع وكيفيته فهي من غيب الله المكنون ليومه المعلوم .
إنما يرتسم من وراء هذه الآيات ، ومن خلال موسيقاها الحادة التقسيم ، الشديدة الأسر ، مشهد ترجف له القلوب ، وتخشع له الأبصار . والأرض تدك دكاً دكا! والجبار المتكبر يتجلى ويتولى الحكم والفصل ، ويقف الملائكة صفاً صفا . ثم يجاء بجهنم فتقف متأهبة هي الأخرى!
{ يومئذ يتذكر الإنسان } . . الإنسان الذي غفل عن حكمة الابتلاء بالمنع والعطاء . والذي أكل التراث أكلاً لما ، وأحب المال حباً جما . والذي لم يكرم اليتيم ولم يحض على طعام المسكين . والذي طغى وأفسد وتولى . . يومئذ يتذكر . يتذكر الحق ويتعظ بما يرى . . ولكن لقد فات الأوان { وأنَّى له الذكرى؟ } . . ولقد مضى عهد الذكرى ، فما عادت تجدي هنا في دار الجزاء أحداً! وإن هي إلا الحسرة على فوات الفرصة في دار العمل في الحياة الدنيا!
وحين تتجلى له هذه الحقيقة : { يقول : يا ليتني قدمت لحياتي } . . يا ليتني قدمت شيئاً لحياتي هنا . فهي الحياة الحقيقية التي تستحق اسم الحياة . وهي التي تستأهل الاستعداد والتقدمة والادخار لها . يا ليتني . . أمنية فيها الحسرة الظاهرة ، وهي أقسى ما يملكه الإنسان في الآخرة!
ثم يصور مصيره بعد الحسرة الفاجعة والتمنيات الضائعة : { فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد } . . إنه الله القهار الجبار . الذي يعذب يومئذ عذابه الفذ الذي لا يملك مثله أحد . والذي يوثق وثاقه الفذ الذي لا يوثق مثله أحد . وعذاب الله ووثاقه يفصلهما القرآن في مواضع أخرى في مشاهد القيامة الكثيرة المنوعة في ثنايا القرآن كله ، ويجملهما هنا حيث يصفهما بالتفرد بلا شبيه من عذاب البشر ووثاقهم . أو عذاب الخلق جميعاً ووثاقهم . وذلك مقابل ما أسلف في السورة من طغيان الطغاة ممثلين في عاد وثمود وفرعون ، وإكثارهم من الفساد في الأرض ، مما يتضمن تعذيب الناس وربطهم بالقيود والأغلال . فها هو ذا ربك أيها النبي وأيها المؤمن يعذب ويوثق من كانوا يعذبون الناس ويوثقونهم . ولكن شتان بين عذاب وعذاب ، ووثاق ووثاق . . وهان ما يملكه الخلق من هذا الأمر ، وجل ما يفعله صاحب الخلق والأمر . فليكن عذاب الطغاة للناس ووثاقهم ما يكون . فسيعذبون هم ويوثقون ، عذاباً ووثاقاً وراء التصورات والظنون!
وفي وسط هذا الهول المروع ، وهذا العذاب والوثاق ، الذي يتجاوز كل تصور تنادى { النفس } المؤمنة من الملأ الأعلى : { يا أيتها النفس المطمئنة .
ارجعي إلى ربك راضية مرضية . فادخلي في عبادي . وادخلي جنتي } . .هكذا في عطف وقرب : { يا أيتها } وفي روحانية وتكريم : { يا أيتها النفس } . . وفي ثناء وتطمين . . { يا(1/590)
أيتها النفس المطمئنة } . . وفي وسط الشد والوثاق ، الانطلاق والرخاء : { ارجعي إلى ربك } ارجعي إلى مصدرك بعد غربة الأرض وفرقة المهد . ارجعي إلى ربك بما بينك وبينه من صلة ومعرفة ونسبة . . { راضية مرضية } بهذه النداوة التي تفيض على الجو كله بالتعاطف وبالرضى . . { فادخلي في عبادي } . . المقربين المختارين لينالوا هذه القربى . . { وادخلي جنتي } . . في كنفي ورحمتي . .إنها عطفة تنسم فيها أرواح الجنة . منذ النداء الأول : { يا أيتها النفس المطمئنة } . . المطمئنة إلى ربها . المطمئنة إلى طريقها . المطمئنة إلى قدر الله بها . المطمئنة في السراء والضراء ، وفي البسط والقبض ، وفي المنع والعطاء . المطمئنة فلا ترتاب . والمطمئنة فلا تنحرف . والمطمئنة فلا تتلجلج في الطريق . والمطمئنة فلا ترتاع في يوم الهول الرعيب . .
ثم تمضي الآيات تباعاً تغمر الجو كله بالأمن والرضى والطمأنينة ، والموسيقى الرخية الندية حول المشهد ترف بالود والقربى والسكينة .
ألا إنها الجنة بأنفاسها الرضية الندية ، تطل من خلايا هذه الآيات . وتتجلى عليها طلعة الرحمن الجليلة البهية . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- تقرير المعاد بعرض شبه تفصيلي ليوم القيامة .
2- بيان اشتداد حسرة المفرطين اليوم في طاعة الله تعالى وطاعة رسوله يوم القيامة .
3- لا يعذّب أحد كعذاب اللَّه ، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال أحد كوثاق اللَّه ، وهذه كناية ترجع إلى اللَّه تعالى ، في حق المجرمين من الخلائق ، تعني أن السلطان المطلق في الحساب والجزاء للَّه ، ولا يخرج أحد عن قبضة اللَّه وسلطانه.
4- أما النفس الزكية المطمئنة بالإيمان والعمل الصالح وبوعد اللَّه دون خوف ولا فزع ، فيقال لها : ارجعي إلى رضوان ربّك وجنته ، راضية بما أعطاك اللَّه من النعم ، مرضية عند اللَّه بما قدمت من عمل. وهذا الخطاب والنداء يكون عند الموت أو الاحتضار ، كما ذكر المفسرون ، وتتمة المقالة : فادخلي في زمرة عباد اللَّه الصالحين ، وادخلي جنتي دار الأبرار المقربين..
5- زجر اللَّه الناس وردعهم عن انكبابهم على الدنيا ، وجمعهم لها ، فإن من يفعل ذلك يندم يوم تدكّ الأرض ولا ينفع الندم.
6- وصف اللَّه يوم القيامة بصفات ثلاث هي :
الأولى- دكّ الأرض ، أي زلزلتها وتحريكها بشدة تحريكا بعد تحريك ، ومرة بعد مرة.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3906)(1/591)
الثانية- مجيء أمر اللَّه وقضائه وآياته العظيمة واصطفاف الملائكة صفوفا ، كقوله تعالى : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [البقرة 2/ 210].
الثالثة- بروز جهنم وانكشافها وظهورها للناس بعد احتجابها عنهم.
7- في يوم القيامة يتعظ الكافر ويتوب ، كما يتعظ من حرصه على الدنيا دون الآخرة ، ولكن من أين له الاتعاظ والتوبة والمنفعة ، وقد فرط فيها في الدنيا. ويقول نادما متأسفا : يا ليتني قدمت في الدنيا عملا صالحا لحياتي الأخيرة التي لا موت فيها.
8- إمرار الآيات والأحاديث المتعلقة بالصفات كما جاءت :
عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ الزُّهْرِيَّ عَنْ بَعْضِ الْأَخْبَارِ الْمُتَشَابَهَةِ ؟ فَقَالَ : " مِنَ اللَّهِ الْعِلْمُ ، وَعَلَى رَسُولِهِ الْبَلَاغُ ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ ، أَمِرُّوا أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا جَاءَتْ " وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ : سُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ قَوْلِهِ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ، كَيْفَ اسْتَوَى ؟ فَقَالَ : الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ ، وَمَا أَرَاكَ إِلَّا ضَالًّا . هَذَا مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ . قَالَ : وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّ الْإِيمَانَ بِمَا قَالَهُ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - فَرْضٌ ، وَالْبَحْثُ عَنْ مُتَشَابِهِ التَّنْزِيلِ ، وَأَخْبَارِ الرَّسُولِ وَاجِبٌ فِي الْأُصُولِ وَالْعُقُولِ فِرَارًا مِنْ تَعْطِيلِ الصِّفَاتِ وَآفَةِ التَّشْبِيهَاتِ . قَالَ : وَالْقُدْوَةُ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ عَلِيٌّ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمَنْ تَابَعَهُمَا مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْأَثَرِ . قَالَ : وَبِمَعْرِفَةِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ تَمَيَّزَ الْفَاضِلُ مِنَ الْمَفْضُولِ ، وَالْعَالِمُ مِنَ الْمُتَعَلِّمِ ، وَالْحَكِيمُ مِنَ الْمُتَعَجْرِفِ ، وَمَنْ أَمَرَّ الْأَحَادِيثَ عَلَى مَا جَاءَتْ حِينَ الْتَبَسَ عَلَيْهِ كُنْهُ مَعْرِفَتِهَا لَمْ يَرُدَّهَا رَاوٍ مُنْكِرٌ جَاحِدٌ ، بَلْ آَمَنَ وَاسْتَسْلَمَ ، وَانْقَادَ وَوَكَلَ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِلَى مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ . وَرَدُّ الْأَخْبَارِ وَالْمُتَشَابِهِ مِنَ الْقُرْآنِ طَرِيقٌ سَهْلٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ ، وَالسَّفِيهُ وَالْعَاقِلُ ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ فَضْلُ عِلْمِ الْعُلَمَاءِ ، وَعَقْلِ الْعُقَلَاءِ بِالْبَحْثِ وَالتَّفْتِيشِ وَاسْتِخْرَاجِ الْحِكْمَةِ مِنَ الْآيَةِ وَالسُّنَّةِ ، وَحَمْلِ الْأَخْبَارِ عَلَى مَا يُوَافِقُ الْأُصُولَ ، وَتُصَحِّحُهُ الْعُقُولُ . وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَصًّا نَظِيرُهُ قَالَ تَعَالَى فِي خَبَرِ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا إِلَى قَوْلِهِ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ وَقَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي . وَلَيْسَ الْجَرُّ إِلَيْكَ بِالْخُشُونَةِ وَالْغِلْظَةِ بِأَقَلَّ مِنَ الدَّفْعِ عَنْكَ بِالْخُشُونَةِ وَالْغِلْظَةِ ، وَهُوَ الصَّكُّ وَاللَّطْمُ ، دَفَعَ عَنْكَ بِغِلْظَةٍ وَخُشُونَةٍ فَمَا سِوَاهُ ، وَلَيْسَ هَارُونُ بِأَدْوَنَ مَنْزِلَةً مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا ، بَلْ هُوَ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْهُ ، وَأَعْلَى مَرْتَبَةً ، وَأَبَيْنَ فَضْلًا عِنْدَ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْأَثَرِ ؛ لِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - نَبِيٌّ مُرْسَلٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ، وَهُوَ مَعَ جَلِيلِ قَدْرِهِ فِي نُبُوَّتِهِ ، وَعُلُوِّ دَرَجَتِهِ فِي رِسَالَتِهِ أَخُو مُوسَى لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ ، وَأَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ(1/592)
. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " حَقُّ كَبِيرِ الْإِخْوَةِ عَلَى صِغِيرِهِمْ كَحَقِّ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ " . فَإِذَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَخَذَ بِرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَجَرَّهُ إِلَيْهِ بِعُنْفٍ وَغِلْظَةٍ حَتَّى اسْتَعْطَفَهُ عَلَيْهِ ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ ، فَقَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ، وَقَوْلُهُ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِي الْأَعْدَاءَ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ عَسَى كَانَ يَكُونُ مِنْهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا صَنَعَ بِهِ ، ثُمَّ لَمْ نَجِدْ فِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى عِتَابِ اللَّهِ إِيَّاهُ ، وَلَا عَلَى تَوْبَتِهِ مِنْهُ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ صَغِيرَةً أَوْ زَلَّةً لَظَهَرَ ذَلِكَ نَصًّا فِي الْكِتَابِ أَوْ دَلَالَةً ، كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى زَلَّاتِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَمُعَاتَبَتَهُ إِيَّاهُمْ عَلَيْهَا ، وَتَوْبَتَهُمْ مِنْهَا إِلَى اللَّهِ ، وَرُجُوعَهُمْ إِلَيْهِ ، وَاسْتِغَفَارَهُمْ إِيَّاهُ وَاعْتِرَافَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالظُّلْمِ لَهَا كَمَا قَالَ جَلَّ جَلَالُهُ فِي قِصَّةِ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ، هَذَا عِتَابُهُ لَهُمَا مِنْ إِمْلَالِهَا فِي الْآَيَاتِ ، وَقَالَ تَعَالَى فِي اعْتِرَافِهِمَا وَتَوْبَتِهِمَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ، وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي اعْتِرَافِهِ وَتَوْبَتِهِ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ، وَفِي قِصَّةِ دَاوُدَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرَ لَهُ ذَلِكَ ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَتْلِهِ الْقِبْطِيَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ، وَقَالَ تَعَالَى رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ، فَغَفَرَ لَهُ . فَلَوْ كَانَ جَرُّهُ أَخَاهُ إِلَيْهِ وَأَخْذُهُ بِرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ زَلَّةً مِنْهُ لَظَهَرَ اعْتِرَافُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَتَوْبَتُهُ إِلَى رَبِّهِ ، أَوْ مُعَاتَبَةُ اللَّهِ إِيَّاهُ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ دَلَّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ مَعْصِيَةً وَلَا زَلَّةً ، كَذَلِكَ صَكُّهُ مَلَكَ الْمَوْتِ وَلَطْمُهُ إِيَّاهُ لِأَنَّهُمَا عُنْفَانِ ، أَحَدُهُمَا بِالدَّفْعِ عَنْكَ ، وَالْآَخَرُ بِالْجَرِّ إِلَيكَ كَرِيمَيْنِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَحَدُهُمَا رَسُولٌ نَبِيٌّ ، وَالْآَخَرُ مَلَكٌ زَكِيٌّ ، وَكَمَا لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ عِتَابٌ وَلَا تَوْبَةٌ ، وَاعْتِرَافٌ فِي قِصَّةِ الْمَلَكِ فَمَا جَازَ فِي الْكِتَابِ مِنَ التَّأْوِيلِ سَاغَ ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - بِهَارُونَ مَعَ عَظِيمِ حُرْمَتِهِ لِنُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ وَأُخُوَّتِهِ وَقَرَابَتِهِ وَحَقِّ سِنِّهِ زَلَّةً ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَضِبَ لِلَّهِ لَا لِنَفْسِهِ ، وَكَانَتْ فِيهِ حَمِيَّةٌ وَغَضَبٌ وَعَجَلَةٌ وَحِدَّةٌ كُلُّهَا فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ . أَلَا يَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ، وَخَبَّرَ أَنَّ عَجَلَتَهُ كَانَ طَلَبًا لِرِضَاهُ ، كَذَلِكَ حِدَّتُهُ وَغَضَبُهُ عَلَى أَخِيهِ وَصَنِيعُهُ بِهِ ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ، فَكَانَتْ تِلْكَ الْحِدَّةُ مِنْهُ وَالْغَضَبُ فِيهِ صِفَةَ مَدْحٍ لَهُ لِأَنَّهَا كَانَتْ لِلَّهِ ، وَفِي اللَّهِ كَمَا كَانَتْ رَأْفَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَحْمَتُهُ فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ ، ثُمَّ كَانَ يَغْضَبُ حَتَّى يَحْمَرَّ وَجْهُهُ وَتَذَرَّ عُرُوقُهُ لِلَّهِ وَفِي اللَّهِ ، وَبِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ، وَقَالَ تَعَالَى أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ، وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي(1/593)
دِينِ اللَّهِ ، فَلَوْ كَانَتِ الْغِلْظَةُ وَالشِّدَّةُ فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ كَذَلِكَ الْغَضَبُ وَالْحِدَّةُ مِنْ مُوسَى لِلَّهِ وَفِي اللَّهِ ، وَالْجَمِيعُ صِفَةُ مَدْحٍ وَنَعْتُ ثَنَاءٍ . أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَدْحِهِ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِقَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَتَشْبِيهِهِ إِيَّاهُ بِإِبْرَاهِيمَ إِذْ يَقُولُ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ وَقَوْلِهِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ قَالَ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادَكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَدْحِهِ لَهُ فِي غِلْظَتِهِ وَشِدَّتِهِ فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ ، وَتَشْبِيهِهِ إِيَّاهُ بِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ قَالَ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا فَأَوْصَافُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْصَافُ مَدْحٍ ، وَنُعُوتُهُمْ نُعُوتُ ثَنَاءٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ . فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَكُّهُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ ، وَلَطْمُهُ إِيَّاهُ لَمْ يَكُنْ زَلَّةً ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِغَضَبِ نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ غَضَبًا لِلَّهِ ، وَشِدَّةً فِي أَمْرِ اللَّهِ ، وَحَمِيَّةً لِدِينِ اللَّهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَكَ أَتَاهُ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ . فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ مَلَكٌ رَسُولُ اللَّهِ ، كَمَا لَمْ يَعْرِفِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - جِبْرِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَ جَاءَهُ يَسْأَلُهُ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ حَتَّى قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : " هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ لَيُعَلِّمَكُمْ مَعَالِمَ دِينِكُمْ ، وَاللَّهِ مَا أَتَانِي فِي صُورَةٍ قَطُّ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُهُ فِيهَا إِلَّا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ " ، فَكَذَلِكَ مُوسَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَتَاهُ فِي صُورَةٍ لَمْ يَأْتِهِ فِيهَا قَبْلَهَا ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ ثُمَّ أَرَادَ قَبْضَ رُوحِهِ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ إِنْسَانٌ يُرِيدُ قَبْضَ رُوحِ كَلِيمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَصَكَّهُ وَلَطَمَهُ إِنْكَارًا لَهُ وَرَدًّا عَلَيْهِ أَنَّهُ مَلَكٌ ، وَأَنَّهُ لِلَّهِ رَسُولٌ أَنْكَرَ عَلَيْهِ إِدِّعَاءَهُ مَا لَيْسَ لِلْبَشَرِ مِنْ قَبْضِ أَرْوَاحِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَمَنِ ادَّعَى ذَلِكَ مِنَ الْبَشَرِ فَهُوَ كَاذِبٌ عَلَى اللَّهِ فَغَضِبَ لِلَّهِ فَصَكَّهُ وَلَطَمَهُ ، أَلَا تَرَى مِنْهُ لَمَّا عَادَ إِلَيْهِ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَبَبِ ثَوْرٍ وَأَنْ يَمُوتَ ، اخْتَارَ الْمَوْتَ اسْتِسْلَامًا لِلَّهِ وَرِضَاءً لِحُكْمِهِ ، وَتَصْدِيقًا لِرَسُولِهِ . وَأَمَّا فَقْؤُ عَيْنِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِعْلًا لِمُوسَى صلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَثَرِ لَطْمِهِ إِيَّاهُ وَصَكِّهِ لَهُ ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِعْلَ اللَّهِ تَعَالَى أَحْدَثَهُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي أَتَى الْمَلَكُ فِيهَا ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَنَا لَا يَفْعَلُ فِي غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ فِي نَفْسِهِ وَمَحَلِّ قَدْرَتِهِ ، وَمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَلَمٍ عِنْدَ الضَّرْبِ ، وَمَوْتٍ عِنْدَ قَطْعِ الْأَوْدَاجِ ، وَذَهَابِ السَّهْمِ بَعْدَ الرَّمْيِ ، وَالْإِحْرَاقِ عِنْدَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي الْحَطَبِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ، وَالْبَرَدِ فِي الثَّلْجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَظْهَرُ بَعْدَ حَرَكَاتِ الْمُحْدَثِ فِي نَفْسِهِ ، فَإِنَّهَا كُلَّهَا أَفْعَالُ اللَّهِ تَعَالَى أَحْدَثَهَا وَاخْتَرَعَهَا ، وَكَذَلِكَ الْإِحْرَاقُ عِنْدَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي الْحَطَبِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، وَالْبَرَدُ فِي الثَّلْجِ وَغَيْرُ ذَلِكَ كُلُّهَا أَفْعَالُ اللَّهِ تَعَالَى يُحْدِثُهَا وَيَخْتَرِعُهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ وَحِينَ يُرِيدُ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَثَرَ حَرَكَاتِ الْمُحْدَثِ فِي نَفْسِهِ ، وَالْفَقَاءُ إِنَّمَا حَلَّ فِي الصُّورَةِ لَا فِي الْمَلَكِ ؛ لِأَنَّ بِنْيَةَ الْمَلَائِكَةِ وَخَلْقَهُ لَيْسَتْ مِنَ الْأَمْشَاجِ وَالطَّبَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي تَقْبَلُ الْكَوْنَ وَالْفَسَادَ وَتَحُلُّهَا الْآَفَاتُ ، وَيُؤَثِّرُ فِيهَا أَفْعَالُ الْمُحْدَثِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُمْنُونَ ، وَلَا يَتَوَالَدُونَ ، وَلَا يَنَامُونَ ، وَلَا يَأْكُلُونَ ، وَلَا يَسْأَمُونَ ، وَلَا يَسْتَجِرُّونَ ، وَلَا يَفْقَرُونَ ، وَكُلُّ هَذِهِ آَفَاتٌ ، وَالْفَقْؤُ آَفَةٌ ، وَهُمْ لَا يُحِلُّهُمُ الْآَفَاتُ .(1/594)
فَالْآَفَةُ الَّتِي هِيَ الْفَقْؤُ إِنَّمَا حَلَّ فِي الصُّورَةِ الَّتِي جَاءَ الْمَلَكُ فِيهَا لَا فِي عَيْنِ الْمَلَكِ ، وَلَيْسَ الْمَلَائِكَةُ كَالنَّاسِ ، فَإِنَّ النَّاسَ إِنْسَانٌ بِصُورَتِهِ وَخَوَاصِّهِ ، وَلَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ إِنْسَانًا بِخَوَاصِّهِ دُونَ صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَةُ النَّاسِ ، فَإِنَّهُ وَإِنْ وُجِدَتْ خَوَاصُّهُ فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ ، وَلَمْ تُوجَدْ صُورَةُ الْإِنْسَانِ فَلَيْسَ ذَلِكَ النَّوْعُ إِنْسَانًا حَتَّى يُوجَدَ ثَلَاثَةُ الْإِنْسَانِ وَصُورَتُهُ وَخَوَاصُّهُ ، وَالْمَلَكُ مَلَكٌ بِخَوَاصِّهِ دُونَ صُورَتِهِ ؛ لِأَنَّ صُوَرَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ وَخَوَاصَّهُمْ وَاحِدَةٌ ، فَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِيهِمْ عَلَى صُورَةِ الْإِنْسَانِ ، وَمِنْهُمْ عَلَى صُورَةِ الطَّيْرِ ، وَمِنْهُمْ عَلَى صُورَةِ السِّبَاعِ ، وَمِنْهُمْ عَلَى صُورَةِ الْأَنْعَامِ ، وَكُلُّهُمْ مَلَائِكَةٌ وَلَهُمْ أَجْنِحَةٌ عَلَى أَعْدَادٍ مُتَفَاوِتَةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثَلَاثَ وَرُبَاعَ ثُمَّ قَالَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ، وَقِيلَ فِي حَمَلَةِ الْعَرْشِ إِنَّهُمْ أَمْلَاكٌ أَحَدُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْإِنْسَانِ ، يَشْفَعُ إِلَى اللَّهِ فِي أَرْزَاقِهِمْ ، وَالثَّانِي عَلَى صُورَةِ النَّسْرِ يَشْفَعُ إِلَى اللَّهِ فِي أَرْزَاقِ الطَّيْرِ ، وَالثَّالِثُ عَلَى صُورَةِ الْأَسَدِ يَشْفَعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَرْزَاقِ الْبَهَائِمِ وَدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُمْ ، وَالرَّابِعُ عَلَى صُورَةِ الثَّوْرِ يَشْفَعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَرْزَاقِ الْبَهَائِمِ ، وَدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُمْ يُصَدِّقُ ذَلِكَ " (1)
وقال البيهقي : " بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ، وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا .
عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ يَقُولُ : الْمَلَائِكَةُ يَجِيئُونَ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَجِيءُ فِيمَا يَشَاءُ ، وَهِيَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَهِيَ كَقَوْلِهِ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا . قُلْتُ : فَصَحَّ بِهَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ الْغَمَامَ إِنَّمَا هُوَ مَكَانُ الْمَلَائِكَةِ وَمَرْكَبُهُمْ ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا مَكَانَ لَهُ وَلَا مَرْكَبَ ، وَأَمَّا الْإِتْيَانُ وَالْمَجِيءُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحْدِثُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِعْلًا يُسَمِّيهِ إِتْيَانًا وَمَجِيئًا ، لَا بِأَنْ يَتَحَرَّكَ أَوْ يَنْتَقِلَ ، فَإِنَّ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ وَالِاسْتِقْرَارَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَحَدٌ صَمَدٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ إِتْيَانًا مِنْ حَيْثُ النُّقْلَةِ ، إِنَّمَا أَرَادَ إِحْدَاثَ الْفِعْلِ الَّذِي بِهِ خَرِبَ بُنْيَانُهُمْ وَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقَهُمْ ، فَسَمَّى ذَلِكَ الْفِعْلَ إِتْيَانًا ، وَهَكَذَا قَالَ فِي
__________
(1) - بَحْرُ الْفَوَائِدِ الْمُسَمَّى بِمَعَانِي الْأَخْيَارِ لِلْكَلَابَاذِيِّ (317 )(1/595)
أَخْبَارِ النُّزُولِ إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِعْلٌ يُحْدِثُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ يُسَمِّيهِ نُزُولًا بِلَا حَرَكَةٍ وَلَا نُقْلَةٍ ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " يَنْزِلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرُ فَيَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ " وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ ، ثنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ ، ثنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ ، ثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى ، قَالَ : قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ فَذَكَرَ بِمَعْنَاهُ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ
وقال سَعِيدُ بْنُ مَرْجَانَةَ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لِشَطْرِ اللَّيْلِ ـ أَوْ لَثُلُثِ اللَّيْلِ ـ الْأَخِيرِ فَيَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ؟ أَوْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ؟ ثُمَّ يَقُولُ : مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ عَدُومٍ وَلَا ظَلُومٍ ؟ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ
وعن الْأَغَرِّ ، قال : أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُمْهِلُ حَتَّى يَمْضِيَ ثُلُثَا اللَّيْلِ ثُمَّ يَهْبِطُ فَيَقُولُ : هَلْ مِنْ سَائِلٍ ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ مِنْ ذَنْبٍ ؟ " فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ ؟ فَقَالَ : " نَعَمْ " . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ ، وَقَالَ : " فَيَنْزِلُ " بَدَلَ قَوْلِهِ : " ثُمَّ يَهْبِطُ " . وَبِمَعْنَاهُ قَالَهُ مَنْصُورٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْأَغَرِّ أَبِي مُسْلِمٍ : " يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا "
وعَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " يَنْزِلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ فَيَقُولُ : هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ قَالَ : وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ " . لَفْظُ حَدِيثِ الْوَاسِطِيِّ وَهُوَ أَتَمُّ . وَقَدْ رُوِيَ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، وَرِفَاعَةَ بْنِ عَرَابَةَ ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، وَعَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَرُوِيَ فِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وقَالَ مُوسَى بْنُ دَاوُدَ : قَالَ لِي عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ : قَدِمَ عَلَيْنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مُنْذُ نَحْوٍ مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً ، قَالَ : فَقُلْتُ لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، إِنَّ عِنْدَنَا قَوْمًا مِنَ الْمُعْتَزَلَةِ يُنْكِرُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ . قَالَ : فَحَدَّثَنِي بِنَحْوٍ مِنْ عَشْرَةِ أَحَادِيثَ فِي هَذَا ، وَقَالَ : أَمَّا نَحْنُ فَقَدْ أَخَذْنَا دِينَنَا هَذَا عَنِ التَّابِعِينَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَهُمْ عَمَّنْ أَخَذُوا ؟
وقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ : دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فَقَالَ لِي : يَا أَبَا يَعْقُوبَ ، تَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ ؟ فَقُلْتُ لَهُ : وَيَقْدِرُ . فَسَكَتَ عَبْدُ اللَّهِ . قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ : سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ يَقُولُ : دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فَقَالَ لِي : يَا أَبَا(1/596)
يَعْقُوبَ ، تَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ ؟ فَقُلْتُ : أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ إِلَيْنَا نَبِيًّا ، نُقِلَ إِلَيْنَا عَنْهُ أَخْبَارٌ بِهَا نُحَلِّلُ الدِّمَاءَ ، وَبِهَا نُحَرِّمُ ، وَبِهَا نُحَلِّلُ الْفُرُوجَ ، وَبِهَا نُحَرِّمُ ، وَبِهَا نُبِيحُ الْأَمْوَالَ وَبِهَا نُحَرِّمُ ، فَإِنْ صَحَّ ذَا صَحَّ ذَاكَ ، وَإِنْ بَطَلَ ذَا بَطَلَ ذَاكَ . قَالَ : فَأَمْسَكَ عَبْدُ اللَّهِ
وعن ِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيِّ ، قال : جَمَعَنِي وَهَذَا الْمُبْتَدِعُ ـ يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ ـ مَجْلِسُ الْأَمِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فَسَأَلَنِي الْأَمِيرُ عَنْ أَخْبَارِ النُّزُولِ فَسَرَدْتُهَا ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ : كَفَرْتُ بِرَبٍّ يَنْزِلُ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ . فَقُلْتُ : آمَنْتُ بِرَبٍّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ . قَالَ فَرَضِيَ عَبْدُ اللَّهِ كَلَامِي وَأَنْكَرَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ . هَذَا مَعْنَى الْحِكَايَةِ
وعن إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، قال : دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ ، وَعِنْدَهُ مَنْصُورُ بْنُ طَلْحَةَ ، فَقَالَ لِي : يَا أَبَا يَعْقُوبَ ، إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ ؟ فَقُلْتُ لَهُ : تُؤْمِنُ بِهِ ؟ فَقَالَ طَاهِرٌ : أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذَا الشَّيْخِ ، مَا دَعَاكَ إِلَى أَنْ تَسْأَلَهُ عَنْ مِثْلِ هَذَا ؟ قَالَ إِسْحَاقُ : فَقُلْتُ لَهُ : إِذَا أَنْتَ لَمْ تُؤْمِنْ أَنَّ لَكَ رَبًّا يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ، لَسْتَ تَحْتَاجُ أَنْ تَسْأَلَنِيَ . قُلْتُ : فَقَدْ بَيَّنَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ أَنَّ النُّزُولَ عِنْدَهُ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ ، ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ يَجْعَلُهُ نُزُولًا بِلَا كَيْفٍ ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَعْتَقِدُ فِيهِ الِانْتِقَالَ وَالزَّوَالَ
وقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ : سَأَلَنِي ابْنُ طَاهِرٍ عَنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ـ يَعْنِي فِي النُّزُولِ ـ فَقُلْتُ لَهُ : النُّزُولُ بِلَا كَيْفٍ . قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ : هَذَا الْحَدِيثُ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي الصِّفَاتِ كَانَ مَذْهَبُ السَّلَفِ فِيهَا الْإِيمَانَ بِهَا ، وَإِجْرَاءَهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَنَفْيَ الْكَيْفِيَّةِ عَنْهَا .
وعَنِ الزُّهْرِيِّ ، وَمَكْحُولٍ ، قَالَا : امْضُوا الْأَحَادِيثَ عَلَى مَا جَاءَتْ
وقال الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ : سُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَتْ فِي التَّشْبِيهِ فَقَالُوا : أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفِيَّةٍ
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ ، كَيْفَ يَنْزِلُ ؟ فَقَالَ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ : ( كدخدَائ كارخويش كن ) يَنْزِلُ كَمَا يَشَاءُ .
وقال مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ : سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ . فَذَكَرَ حِكَايَةً قَالَ فِيهَا : فَقَالَ الرَّجُلُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، كَيْفَ يَنْزِلُ ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ : " كدخاي كارخويش كن " يَنْزِلُ كَيْفَ يَشَاءُ " .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِنَّمَا يَنْكِرُ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْحَدِيثِ مَنْ يَقِيسُ الْأُمُورَ فِي ذَلِكَ بِمَا يُشَاهِدُهُ مِنَ النُّزُولِ الَّذِي هُوَ نَزْلَةٌ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ ، وَانْتِقَالٌ مِنْ فَوْقٍ إِلَى تَحْتٍ ، وَهَذَا صِفَةُ الْأَجْسَامِ وَالْأَشْبَاحِ ، فَأَمَّا نُزُولُ مَنْ لَا يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ صِفَاتُ الْأَجْسَامِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَعَانِي غَيْرُ مُتَوَهَّمَةٍ فِيهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ قُدْرَتِهِ وَرَأْفَتِهِ بِعِبَادِهِ ، وَعَطْفِهِ عَلَيْهِمْ وَاسْتِجَابَتِهِ دُعَائِهِمْ(1/597)
وَمَغْفِرَتِهِ لَهُمْ ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ، لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى صِفَاتِهِ كَيْفِيَّةٌ ، وَلَا عَلَى أَفْعَالِهِ كِمِّيَّةٌ ، سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " .
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ : وَهَذَا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي أُمِرْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِظَاهِرِهِ ، وَأَنْ لَا نَكْشِفَ عَنْ بَاطِنِهِ ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فَقَالَ : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ الْآَيَةَ فَالْمُحْكَمُ مِنْهُ يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ وَالْعَمَلُ ، وَالْمُتَشَابِهُ يَقَعُ بِهِ الْإِيمَانُ وَالْعِلْمُ الظَّاهِرُ ، وَيُوكَلُ بَاطِنُهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ : وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّمَا حَظُّ الرَّاسِخِينَ أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا . وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَقَوْلِهِ : وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَالْقَوْلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ عِنْدَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ هُوَ مَا قُلْنَاهُ ، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَقَدْ زَلَّ بَعْضُ شُيُوخِ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِمَّنْ يُرْجَعُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِالْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ ، فَحَادَ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ حِينَ رَوَى حَدِيثَ النُّزُولِ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ ، فَقَالَ : إِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَيْفَ يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى السَّمَاءِ ؟ قِيلَ لَهُ : يَنْزِلُ كَيْفَ يَشَاءُ . فَإِنْ قَالَ : هَلْ يَتَحَرَّكُ إِذَا نَزَلَ ؟ فَقَالَ : إِنْ شَاءَ يَتَحَرَّكُ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَتَحَرَّكْ . وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ عَظِيمٌ ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِالْحَرَكَةِ ، لِأَنَّ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ يَتَعَاقَبَانِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِالْحَرَكَةِ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِالسُّكُونِ ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أَعْرَاضِ الْحَدَثِ ، وَأَوْصَافِ الْمَخْلُوقِينَ ، وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُتَعَالٍ عَنْهُمَا ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . فَلَوْ جَرَى هَذَا الشَّيْخُ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَلَمْ يُدْخِلْ نَفْسَهُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ لَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ بِهِ الْقَوْلُ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْخَطَأِ الْفَاحِشِ . قَالَ : وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا لِكَيْ يُتَوَقَّى الْكَلَامُ فِيمَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ ، فَإِنَّهُ لَا يُثْمِرُ خَيْرًا وَلَا يُفِيدُ رُشْدًا ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعِصْمَةَ مِنَ الضَّلَالِ ، وَالْقَوْلِ بِمَا لَا يَجُوزُ مِنَ الْفَاسِدِ وَالْمُحَالِ . وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ : قَدْ يَكُونُ النُّزُولُ بِمَعْنَى إِقْبَالٍ عَلَى الشَّيْءِ بِالْإِرَادَةِ وَالنِّيَّةِ ، وَكَذَلِكَ الْهُبُوطُ وَالِارْتِفَاعُ وَالْبُلوغُ وَالْمَصِيرُ ، وَأَشْبَاهُ هَذَا الْكَلَامِ ، وَذَكَرَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . قَالَ : وَلَا يُرَادُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا انْتِقَالٌ يَعْنِي بِالذَّاتِ ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ بِالْإِرَادَةِ وَالْعَزْمِ وَالنِّيَّةِ . قُلْتُ : وَفِيمَا قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ كِفَايَةٌ ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى مَعْنَاهُ الْقُتَيْبِيُّ فِي كَلَامِهِ ، فَقَالَ : لَا نُحَتِّمُ عَلَى النُّزُولِ مِنْهُ بِشَيْءٍ ، وَلَكِنَّا نُبَيِّنُ كَيْفَ هُوَ فِي اللُّغَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ . وَقَرَأْتُ بِخَطِّ الْأُسْتَاذِ أَبِي عُثْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ عَقِيبَ حَدِيثِ النُّزُولِ : قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ يَعْنِي الْحَمْشَاذِيَّ عَلَى إِثْرِ الْخَبَرِ : وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهِ : " يَنْزِلُ اللَّهُ " فَسُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْهُ فَقَالَ : يَنْزِلُ بِلَا كَيْفٍ . وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ : نُزُولُهُ إِقْبَالُهُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَنْزِلُ نُزُولًا يَلِيقُ بِالرُّبُوبِيَّةِ بِلَا كَيْفٍ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهُ مِثْلَ نُزُولِ الْخَلْقِ بِالتَّجَلِّي وَالتَّمَلِّي ، لِأَنَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ(1/598)
مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ مِثْلَ صِفَاتِ الْخَلْقِ ، كَمَا كَانَ مُنَزَّهًا عَنْ أَنْ تَكُونَ ذَاتُهُ مِثْلَ ذَاتِ الْغِيَرِ ، فَمَجِيئُهُ وَإِتْيَانُهُ وَنُزُولُهُ عَلَى حَسْبِ مَا يَلِيقُ بِصِفَاتِهِ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَكَيْفِيَّةٍ . ثُمَّ رَوَى الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ عُقَيْبَ حِكَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ حِينَ سُئِلَ عَنْ كَيْفِيَّةِ نُزُولِهِ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : " كد خداي كارخويش كن " يَنْزِلُ كَيْفَ يَشَاءُ . وَقَدْ سَبَقَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْحِكَايَةُ بِإِسْنَادِهِ وَكَتَبْتُهَا حَيْثُ ذَكَرَهَا أَبُو سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ . وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيَّ يَقُولُ : " حَدِيثُ النُّزُولِ قَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ وُجُوهٍ صَحِيحَةٍ " وَوَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ مَا يُصَدِّقُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَالْمَجِيءُ وَالنُّزُولُ صِفَتَانِ مَنْفِيَّتَانِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ، مِنْ طَرِيقِ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ، بَلْ هُمَا صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا تَشْبِيهٍ ، جَلَّ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الْمُعَطِّلَةُ لِصِفَاتِهِ وَالْمُشَبِّهَةُ بِهَا عُلُوًّا كَبِيرًا
وعَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : تَلَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ . قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَاحْذَرُوهُمْ " . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَمُسْلِمٌ (1)
مقاصد هذه السورة
تشتمل هذه السورة على مقاصد ستة :
(1) القسم على أن عذاب الكافرين لا محيص منه.
(2) ضرب المثل بالأمم البائدة كعاد وثمود.
(3) كثرة النعم على عبد ليست دليلا على إكرام اللّه له ، ولا البلاء دليلا على إهانته وخذلانه.
(4) وصف يوم القيامة وما فيه من أهوال.
(5) تمنى الأشقياء العودة إلى الدنيا.
(6) كرامة النفوس الراضية المرضية ، وما تلقاه من النعيم بجوار ربها. (2)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ لِلْبَيْهَقِيِّ (896-909 )
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 154)(1/599)
سورة البلد
مكيّة ، وهي عشرون آية.
تسميتها :
سميت سورة البلد لأن اللَّه تعالى أقسم في فاتحتها بالبلد الحرام (مكة) الذي شرفه اللَّه بالبيت العتيق ، وجعله قبلة المسلمين ، تعظيما لشأنه.
قال ابن عاشور : " سميت هذه السورة في ترجمتها عن "صحيح البخاري" "سورة لا أقسم" وسميت في المصاحف وكتب التفسير "سورة البلد". وهو إما على حكاية اللفظ الواقع في أولها لإرادة البلد المعروف وهو مكة.
وهي مكية وحكى الزمخشري والقرطبي الاتفاق عليه واقتصر عليه معظم المفسرين وحكى ابن عطية عن قوم: أنها مدنية. ولعل هذا قول من فسر قوله: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:2] أن الحل الإذن له في القتال يوم الفتح وحمل {وَأَنْتَ حِلٌّ} على معنى: وأنت الآن حل، وهو يرجع إلى ما روى القرطبي عن السدي وأبي صالح وعزي لابن عباس. وقد أشار في "الكشاف" إلى إبطاله بأن السورة نزلت بمكة بالاتفاق، وفي رده بذلك مصادرة، فالوجه أن يورد بأن في قوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} إلى قوله: {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:5-11] ضمائر غيبة يتعين عودها إلى الإنسان في قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] وإلا لخلت الضمائر عن معاد. وحكى في الإتقان قولا أنها مدنية إلا الآيات الأربع من أولها.
وقد عدت الخامسة والثلاثين في عدد نزول السور، نزلت بعد سورة ق وقبل سورة الطارق.
وعدد آيها عشرون آية.
أغراضها
حوت من الأغراض التنويه بمكة. وبمقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بها. وبركته فيها وعلى أهلها.
والتنويه بأسلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - من سكانها الذين كانوا من الأنبياء مثل إبراهيم وإسماعيل أو من أتباع الحنيفية مثل عدنان ومضر كما سيأتي.
والتخلص إلى ذم سيرة أهل الشرك. وإنكارهم البعث. وما كانوا عليه من التفاخر المبالغ فيه، وما أهملوه من شكر النعمة على الحواس، ونعمة النطق، ونعمة الفكر، ونعمة الإرشاد فلم يشكروا ذلك بالبذل في سبل الخير وما فرطوا فيه من خصال الإيمان وأخلاقه.
ووعيد الكافرين وبشارة الموقنين.. (1)
مناسبتها لما قبلها :
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 345)(1/600)
الإنسان الذي ابتلاه اللّه فأكرمه ونعمه ، فلم يحمد اللّه ، ولم يشكر له فضله وإحسانه ، والإنسان الذي قدر اللّه عليه رزقه ، فساء ظنّه باللّه ، وغيّر موقفه منه ـ هذا الإنسان ـ فى حاليه اللذين عرضتهما سورة « الفجر » ـ يرى فى أوضح صورة فى إنسان هذا البلد ، وهو مكة ، البلد الحرام الذي رفع اللّه قدره ، وجعله حرما آمنا ، يجبى إليه ثمرات كل شىء ، وجعله موضعا لأول بيت يعبد فيه على هذه الأرض ـ هذا الإنسان الذي يعيش فى هذا البلد الأمين ، كان جديرا به أن يكون أعرف الناس بربه ، وأرضاهم لحكمه ، ولكنه لم يرع حرمة هذا البلد ، فلم يكرم اليتيم ، ولم يحض على طعام المسكين ، وأكل التراث أكلا لما ، وأحب المال حبا جمّا ، أعماه عن طريق الحق ، وأضله عن سبيل الرشاد .. فهل هو بعد هذه النّذر عائد إلى ربه ، داخل فى عباده ؟ ذلك ما ستكشف عنه الأيام منه ، مع دعوة الحق التي يحملها رسول اللّه إليه .. فالمناسبة بين السورتين قريبة دانية. (1)
ترتبط السورة بما قبلها من وجهين :
1- ذم اللَّه تعالى في السورة السابقة (الفجر) من أحب المال ، وأكل التراث ، ولم يحض على طعام المسكين ، وذكر في هذه السورة الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة (إعتاق العبيد) والإطعام في يوم المسغبة (المجاعة).
2- ختم اللَّه تعالى السورة المتقدمة ببيان حال النفس المطمئنة في الآخرة ، وذكر هنا طريق الاطمئنان ، وحذّر من ضده وهو الكفر بآيات اللَّه ومخالفة أوامر الرحمن. (2)
ما اشتملت عليه السورة :
حوت من الأغراض التنويه بمكة . وبمُقام النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) بها . وبركته فيها وعلى أهلها .والتنويهَ بأسلاف النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) من سكانها الذين كانوا من الأنبياء مثل إبراهيم وإسماعيل أو من أتباع الحنيفية مثل عَدنان ومُضر كما سيأتي .
والتخلصَ إلى ذَم سيرة أهل الشرك . وإنكارهم البعث . وما كانوا عليه من التفاخر المبالغ فيه ، وما أهملوه من شكر النعمة على الحواس ، ونعمة النطق ، ونعمة الفكر ، ونعمة الإِرشاد فلم يشكروا ذلك بالبذل في سبل الخير وما فرطوا فيه من خصال الإِيمان وأخلاقه .
ووعيدَ الكافرين وبشارة الموقنين . (3)
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1564)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 155)
(3) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 345)(1/601)
* هذه السورة الكريمة مكية ، وأهدافها نفس أهداف السور المكية ، من تثبيت العقيدة والإيمان ، والتركيز على الإيمان بيوم الحساب والجزاء ، والتمييز بين الأبرار والفجار ، وطريق النجاة من عذاب النار .
* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالبلد الحرام ، الذي هو سكن النبي (ص) ، تعظيما لشأنه وتكريما لمقامه الرفيع عند ربه ، ولفتا لأنظار الكفار إلى أن إيذاء الرسول في البلد الأمين ، من أكبر الكبائر عند الله تعالى [ لا أقسم بهذا البلد . وأنت حل بهذا البلد . ووالد وما ولد ] الآيات .
* ثم تحدثت عن بعض كفار مكة ، الذين اغتروا بقوتهم ، فعاندوا الحق ، وكذبوا رسول الله وأنفقوا أموالهم في المباهاة والمفاخرة ، ظنا منهم أن إنفاق الأموال في حرب الإسلام يدفع عنهم عذاب الله ، وقد ردت عليهم الآيات بالحجة القاطعة والبرهان الساطع . [ أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ؟ يقول أهكلت مالا لبدا. . ] الآيات
* ثم تناولت أهوال القيامة وشدائدها ، وما يكون بين يدي الإنسان في الآخرة ، من مصاعب ومتاعب وعقبات ، لا يستطيع أن يقطعها ويجتازها إلا بالإيمان ، والعمل الصالح . [ فلا اقتحم العقبة ؟ وما أدراك ما العقبة ؟ فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة . . ] الآيات
* وختمت السورة الكريمة بالتفريق بين المؤمنين والكفار ، في ذلك اليوم العصيب ، وبينت مآل السعداء ، ومال الأشقياء ، في دار الخلد والكرامة [ ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك أصحاب الميمنة . . ] الآيات إلى نهاية السورة الكريمة (1)
في السورة تنديد بالذين يقفون موقف المشاقّة والمشاكسة ويتباهون بأموالهم غير حاسبين حساب العاقبة. وتقرير لقابلية الإنسان للاختيار بين الخير والشر.
وحثّ على الإيمان والتواصي بالصبر والمرحمة والمكرمات الأخرى وفي مقدمتها عتق الرقيق. وأسلوبها عام إجمالا. (2)
وهي تتضمن القسم على أن الإنسان في كبد. وأن المغرور يظن أن لن يقدر عليه أحد ، ثم بيان بعض نعم اللّه على الإنسان ، ثم دعوته لاقتحام العقبة ، مع بيان أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة. (3)
تضم هذه السورة الصغيرة جناحيها على حشد من الحقائق الأساسية في حياة الكائن الإنساني ذات الإيحاءات الدافعة واللمسات الموحية . حشد يصعب أن يجتمع في هذا الحيز الصغير في
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 489)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 253)
(3) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 864)(1/602)
غير القرآن الكريم ، وأسلوبه الفريد في التوقيع على أوتار القلب البشري بمثل هذه اللمسات السريعة العميقة . . (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3908)(1/603)
ابتلاء الإنسان بالتعب واغتراره بقوته وماله
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... البَلَدِ ... مكة المكرمة
2 ... وَأَنْتَ حِلٌّ ... أقسم الله تعالى بمكة البلد الحرام التي أحل الله فيها القتل والقتال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساعة من يوم الفتح
3 ... وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ... آدم وذريته
4 ... فِي كَبَدٍ ... نصب وشدة يعاني مصائب الدنيا وشدائد الآخرة
5 ... أَنْ لَّنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَد ... أي لن يقدر على سؤاله ومحاسبته أحد
6 ... مَالاً لُّبَدًا ... كثيرا وهو من التلبد : كأن بعضه على بعض
7 ... لَم يَرَهُ أَحَدٌ ... يظن أن الله لم يره ، بل الله رآه وعلم ما أنفق
المعنى الإجمالي:
أقسم سبحانه فى مستهل هذه السورة بالسماء ونجومها الثاقبة - إن النفوس لم تترك سدى ولم ترسل مهملة ، بل قد تكفل بها من يحفظها ويحصى أعمالها وهو اللّه سبحانه.
وفى هذا وعيد للكافرين وتسلية للنبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، فكأنه يقول لهم : لا تخزنوا لإيذاء قومكم لكم ، ولا يضق صدركم لأعمالهم ، ولا تظننّ أنا نهملهم ونتركهم سدى ، بل سنجازيهم على أعمالهم بما يستحقون ، لأنا نحصى عليهم أعمالهم ونحاسبهم عليها يوم يعرضون علينا « فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا » والعدّ إنما يكون للحساب والحزاء. (1)
ابتدأ اللّه هذه السورة الكريمة بعبارة تدل على القسم وتأكيده - كما بيناه في سورة القيامة وفي سورة التكوير وفي سورة الانشقاق - : أقسم بهذا البلد ، والمراد مكة المكرمة التي جعلت حرما آمنا جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ فيها الكعبة التي هي قبلة المسلمين ، وفيها مقام إبراهيم ، وفيها ظهور النور المحمدي الذي كان قياما للناس ، وأقسم بكل والد وما ولد من إنسان وحيوان ونبات ، أقسم بهذا كله على أن الإنسان خلق في تعب ومشقة ، ولعلك تسأل ما السر في قوله : وأنت حل بهذا البلد ؟ أى مكة ، وقد جعل معترضا بين ما أقسم به من هذا البلد
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 109)(1/604)
والوالد والولد وبين المقسم عليه ، فأقول لك : هذا تفخيم لمكة ورفع لشأنها ، أى : أقسم بهذا البلد ، والحال أن أهلها قد استحلوا إيذاءك وإيلامك - وهذا معنى : وأنت حل ، أى : مستحل لهم - فهم لم يرعوا حرمة بلدهم في معاملتك ، وفي هذا إيقاظ لضميرهم ، وتعنيف لهم على فعلهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولعلك تسأل : وما العلاقة بين القسم والمقسم عليه ؟ والجواب : أنه جاء تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهو في مكة وقد ناله ما ناله من تعب ومشقة ، وهذا المتعب مما يخفف عنه أن يعلم أن أفراد الإنسان كلهم في تعب ومشقة ، ولا تنس أن ذكر الوالد والولد مما يبشر أن مكة ستلد ما به تفخر الإنسانية كلها وتعتز :
وإن يكن هذا مع تعب ومشقة ، وكلنا يعرف ما يلاقي الولد والوالد في ذلك حتى البذرة في الأرض وعند الحصاد.
أيحسب الإنسان المغرور بقوته المتباهى بشدته رغم ما هو فيه من تعب ونصب أن لن يقدر عليه أحد ؟ ! وهذا نوع منه ، وذاك نوع آخر يقول : أهلكت مالا كثيرا ،وإن كان في الشر ، وهذا قول المفتونين بمالهم وغناهم ، أيظن أولئك أن اللّه لم يرهم ، إن اللّه يعلم ما أنفق ، ولا يقبل منه إلا الطيب.
يقول الشيخ محمد عبده - رحمه اللّه - في تفسيره : بعد أن أخبر اللّه - جل شأنه - بأن الإنسان قد خلق في كبد لام الجاهل المغرور على غروره حتى كأنه يظن أن لن يقدر عليه أحد. مع أن ما هو فيه من المكابدة كاف لإيقاظه من غفوته واعترافه بعجزه ، وبعد أن وبخ المرائين الذين ينفقون أموالهم طلبا للشهرة وحبا في الأحدوثة مع حسن النية ، أراد أن يبين لهؤلاء وأولئك أنه مصدر لأفضل ما يتمتعون به من البصر والنطق والعقل المميز بين الخير والشر. (1)
التفسير والبيان :
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ، وَوالِدٍ وَما وَلَدَ أي أقسم بالبلد الحرام وهو مكة ، تنبيها على كرامة أم القرى وشرفها عند اللَّه تعالى لأن فيها بيته الحرام قبلة المسلمين ، وهي بلد إسماعيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، وفيها مناسك الحج. وقوله : لا أُقْسِمُ قسم مؤكد وليس نفيا للقسم ، كقول العرب : لا واللَّه لا فعلت كذا ، ولا واللَّه ما كان كذا ، ولا واللَّه لأفعلن كذا.
أقسم بهذا البلد في حال كون الساكن فيها حلالا مقيما بها وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - وكل من دخله : وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران 3/ 97] تشريفا لك ، وتعظيما لقدرك لأنه قد صار بإقامتك فيه عظيما شريفا ، ولا شك أن الأمكنة تشرف بأهلها. والحل : الحلال.
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 865)(1/605)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ « لاَ هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا » . وَقَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ « إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ، فَهْوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأَحَدٍ قَبْلِى ، وَلَمْ يَحِلَّ لِى إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، فَهْوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ ، وَلاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا ، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهُ » . فَقَالَ الْعَبَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ الإِذْخِرَ ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ . قَالَ « إِلاَّ الإِذْخِرَ » (1) . .
والمراد أن مكة عظيمة القدر في كل حال ، حتى في حال اعتقاد الكفار أنك حلال لا حرمة لك ، فلا يرون لك من الحرمة ما يرونه لغيرك. وفي هذا تقريع وتوبيخ لهم.
وأقسم بكل والد ومولود من الإنسان والحيوان ، تنبيها على عظم آية التناسل والتوالد ، ودلالتها على قدرة اللَّه وحكمته وعلمه.
ثم ذكر المقسم عليه ، فقال : لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أي لقد خلقنا الإنسان مغمورا بالتعب والنصب ، وفي مكابدة المشاقّ والشدائد ، فهو لا يزال في تلك المكابدة بدءا من الولادة ، إلى المتاعب المعيشية والأمراض الطارئة ، ثم إلى الموت وما يتبعه في قبره والبرزخ وآخرته من شدائد ومتاعب وأهوال.
وفيه تثبيت لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، وحمله على احتمال مكائد أهل مكة ، وصبره على المشاق والمتاعب ، فذلك لا يخلو منه إنسان ، وفيه لوم لهم على عداوته.
ثم وبخ الإنسان على الاغترار بقوته ، فقال : أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ؟ أي أيظن ابن آدم أن لن يقدر عليه ، ولا ينتقم منه أحد ، فإن اللَّه هو القادر على كل شي ء.
ثم لام الإنسان على الإنفاق مراءاة ، فقال : يَقُولُ : أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً أي أنفقت مالا كثيرا مجتمعا بعضه على بعض. والمراد أن الإنسان يقول في يوم القيامة : أنفقت مالا كثيرا فيما كان يسميه أهل الجاهلية مكارم ، ويدعونه معالي ومفاخر.
ثم عابه على جهله ، فقال : أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ؟ أي أيظن الإنسان والمدعي النفقة في سبيل الخير أن اللَّه سبحانه لم يطلع عليه ، ولا يسأله عن ماله من أين كسبه ، وأين أنفقه ؟
ومضات :
__________
(1) - صحيح البخارى (3189 ) وصحيح مسلم - (3368 )
الخلى : النبات الرطب الرقيق ما دام رطبا -يختلى : يقطع -يعضد : يقطع -القين : الحداد والصائغ
انظر :فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (2 / 2647) رقم الفتوى 6164 حرمة مكة والمدينة دينية شرعية لاقدرية كونية تاريخ الفتوى : 23 رمضان 1421(1/606)
قال الشهاب : والحِل صفة مصدر بمعنى الحالّ على هذا الوجه . ولا عبرة بمن أنكره لعدم ثبوته في كتب اللغة . وقيل : معناه وأنت يستحل فيه حرمتك ، وتعرض لأذيتك . ففيه تعجيب من حالهم في عداوته ، وتعريض بتجميعهم وتفريقهم بأنه لا يستحل فيه الحَمام ، فكيف يستحل فيه دم مرشد الأنام ، عليه الصلاة والسلام ؟
وقيل : معناهُ وأنت حل به في المستقبل ، تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر ، إشارة إلى ما سيقع من فتح مكة وإحلالها له ساعة من نهار ، يقتل ويأسر ، مع أنها ما فتحت على أحد قبلهُ ، ولا أحلت له ؛ ففيه تسلية له ، ووعد بنصره ، وإهلاك عدوه . و الحل على هذين الوجهين ضد الحرمة ، وفيهما - كما قالوا - بعدٌ ، لاسيما إرادة الاستقبال في الوجه الأخير ، فإنه غير متبادر منه . وإنما كان الأول أولى لتشريفه عليه السلام ، بجعل حلوله به مناطاً لإعظامه ، مع التنبيه من أول الأمر على تحقق مضمون الجواب ، بذكر بعض موادّ المكايدة ، على نهج براعة الاستهلال ، وإنه كابد المشاق ، ولاقى من الشدائد ، في سبيل الدعوة إلى الله ، ما لم يكابده داع قبله ، صلوات الله عليه وسلامه .
وفيه تسلية للنبيّ صلوات الله عليه ، مما يكابدهُ من قريش ، من جهة أن الْإِنْسَاْن لم يخلق للراحة في الدنيا ، وأن كل من كان أعظم فهو أشد نصباً . هذا خلاصة ما قالوه .
وقال القاشاني : { فِي كَبَدٍ } أي : مكابدة ومشقة من نفسه وهواه ، أو مرض باطن وفساد قلب وغلظ حجاب ؛ إذ الكبد في اللغة غلظ الكبد الذي هو مبدأ القوة الطبيعية وفسادهُ وحجاب القلب وفسادهُ من هذه القوة ؛ فاستعير غلظ الكبد لغلظ حجاب القلب ومرض الجهل . (1)
في الآيات توكيد تقريري وتنديدي بأسلوب القسم لما جبل عليه الإنسان من طبيعة المشاقة والمكابدة ، والاعتداد بقوته وماله ظانا أنه لا يراه أحد ولا يقدر عليه أحد في حين أن اللّه قد جعل له عينين ولسانا وشفتين تشهد عليه ويستطيع بها أن يميّز الخير من الشر ، وفي حين أن اللّه بيّن له معالم طريقي الخير والشر ، وأن الأجدر به أن لا يغترّ ولا يعتدّ ولا يشاقق وأن يختار أفضل الطرق وأقومها.
وقد تفيد آية لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أن اللّه قد جبل الإنسان على هذا الطبع غير المستحب ، ولقد احتوى القرآن آيات عديدة أخرى تضمنت التنديد بالطبائع غير المستحبة في الإنسان بأسلوب قد يفيد أن اللّه قد خلق الإنسان على هذه الطبائع مثل آيات سورة المعارج هذه : إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) وآية سورة الإسراء هذه : وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا (11) وآية الكهف هذه :
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 226)(1/607)
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وآيات سورة العاديات هذه : إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) وآيات سورة الفجر هذه كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) ويلحظ أن الآيات جاءت في معرض التنديد والتقريع للناس بسبب هذه الطباع مما يثير تساؤلا عمّا إذا كان من المعقول أن يندد اللّه سبحانه بطبائع خلق الإنسان عليها؟ والمتبادر الذي يلهمه تنديد القرآن بهذه الطبائع ويلهمه سياق الآيات وروحها أن هذه الآيات صيغ أسلوبية مما اعتاد الناس أن يخاطبوا بعضهم بعضا بها وأن المقصد الحقيقي منها هو التنديد بما يبدو من كثير من الناس من مثل هذه الأخلاق والطبائع غير المستحبة ، وأنه لا ينبغي حملها على محمل قصد بيان أن اللّه قد خلق الإنسان أو تعمد خلقه على هذه الطبائع التي ندّد بها في مختلف المناسبات القرآنية ولا سيما أن اللّه سبحانه قد نبّه في سياق الآية التي نحن في صددها وفي المناسبات المماثلة أن اللّه بيّن للناس طريقي الخير والشرّ والتقوى والفجور ، وأوجد فيهم قابلية التمييز بينهما وجعلهم مسؤولين عن اختيارهم وسلوكهم إن خيرا فخير وإن شرا فشرّ مما مرّ منه أمثلة عديدة في المناسبات السابقة. (1)
والمراد بالحلّ ، هنا هو النبىّ ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ وأنّ المشركين لم يرعوا فيه حرمة القرابة ، ولا حرمة البلد الحرام الذي يأوى إليه ، بل أباحوا سبّه وشتمه ، وأطلقوا ألسنتهم بكل قالة سوء فيه ، بل وتجاوزوا هذا إلى التعرض له بالأذى المادي ، حتى لكادوا يرجمونه ..
وهنا ندرك بعض السر فى نفى القسم بالبلد الحرام .. لقد جعله المشركون بلدا غير حرام ، وغيّروا صفته التي له ، حتى لقد صار هذا البلد غير أهل لأن يقسم به من اللّه سبحانه ، لأن القسم من اللّه هو تشريف وتكريم لما يقسم به سبحانه ، وإن اللّه سبحانه لن يقسم بهذا البلد ما دام النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ لا ترعى له حرمة فى البلد الحرام .. فإن حرمة هذا البلد من حرمة النبي ، وأنه إنما أقيم من أول وجود للمجتمع الإنسانى ، ليستقبل دين اللّه وقد كمل ، وليكون مطلعا لخاتم المرسلين وقد ظهر.
وفى نفى القسم بالبلد الحرام ، تجريم للمشركين ، وتشنيع على جنايتهم الغليظة التي اقترفوها فى حق رسول اللّه ، وفى حق البلد الأمين ، وأن تلك الجناية الشنعاء قد امتدت آثارها إلى البلد الحرام ، فسلبته حرمته ، وأن اللّه سبحانه وتعالى رافع عنه هذه الحرمة ، حتى ينتقم لنبيه
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 254)(1/608)
الكريم من هؤلاء المجرمين ، ويردّ إليه اعتباره من التوقير والتكريم فى رحاب البلد الحرام. وعندئذ تعود للبلد حرمته!! وإنا لنذهب إلى أبعد من هذا ، فنقول إن رفع الحرمة عن البلد الحرام قد ظلّ معلقا هكذا إلى أن خرج منه النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ مهاجرا ثم عاد إليه فاتحا فى السنة الثامنة من الهجرة ، وأنه قد أبيح له من هذا البلد يوم الفتح ، ما كانحراما ، فأمر صلوات اللّه وسلامه عليه بقتل بعض المشركين ، وهم متعلقون بأستار الكعبة ، يومئذ ، وهم ابن خطل ، وميّس بن صبابة ، وغير هم وفى هذا يقول الرسول الكريم عن هذا البلد يوم الفتح : « إن اللّه حرم مكة ، يوم خلق السماوات والأرض ، فهى حرام إلى أن تقوم الساعة ، فلم تحل لأحد قبلى ، ولا تحل لأحد من بعدي ، ولم تحل لى إلا ساعة من نهار » وإنه ما إن يقرغ النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ من حساب هؤلاء المتاكيد الذين أمر بقتلهم فى المسجد الحرام ، بالبلد الحرام ، حتى تعود للبلد الحرام حرمته ويطّهر من الشرك والرجس ، ومن الأصنام وعبّاد الأصنام.
هذا ، ولا يفهم مما قلناه : من أن البلد الحرام ، قد رفعت عنه حرمته منذ أحل المشركون من النبي ما أحلّوا ـ لا يفهم من هذا ، أن ذلك بالذي ينقص من قدر هذا البلد ، أو يجور على شىء من مكانته ، وعلو مقامه .. فهو هو على ما شرفه اللّه به ، ورفع قدره ، ولكن رفع الحرمة عن هذا البلد ، هو عقاب لهؤلاء المشركين الذين آواهم هذا البلد ، وجعله حرما لهم .. فلما استباحوا حرمته ، باستباحة حرمة النبي ، عرّاهم اللّه من هذه الخلية الكريمة التي خلعها عليهم البلد الحرام ..! ولهذا أقسم اللّه سبحانه بهذا البلد الذي أبيحت حرمته من المشركين ، ووصفه بالبلد الأمين فى قوله تعالى : « وَالتِّينِ ، وَالزَّيْتُونِ ، وَطُورِ سِينِينَ ، وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ».
قوله تعالى : « وَوالِدٍ وَما وَلَدَ » ـ معطوف على قوله تعالى : « لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ »..
والمراد بالوالد وما ولد ـ واللّه أعلم ـ هو هذا التوالد الذي يقع بين الناس ..
فكل والد ، هو مولود ، وكل مولود ، سيكون والدا ، وبهذا ، يتصل النسل ، وتكثرا المخلوقات ، وتعمر الأرض ..
وفى عملية التوالد ، تتجلى قدرة الخالق جل وعلا ، وعلى مسرح هذه العملية مراد فسيح للدراسة ، والتأمل ، والبحث ، وجامعة علم غرير للعلماء والدارسين ، ومعلم من معالم الهدى واليقين للمؤمنين والمتوسمين ..
وفى نفس القسم بالوالد ، وما ولد (و هو الإنسان) ـ إشارة إلى أن الإنسان الذي كرمه اللّه سبحانه وتعالى ، ورفع قدره على كثير من المخلوقات ، كما رفع قدر هذا البلد الأمين على سائر البلدان ـ هذا الإنسان ، قد خلع هذا الثوب الكريم الذي ألبسه اللّه إياه ، وتخّلى عن(1/609)
المعاني الإنسانية الشريفة التي أودعها الخالق جل وعلا فيه ، فأحلّ حرمات اللّه ، واعتدى على حدوده ، وبهذا لم يصبح أهلا لأن يقسم اللّه به ، وأن يعرضه فى معرض التشريف والتكريم.
«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ » (4 ـ 6 : التين) ومن هنا ندرك بعض السر فى نفى القسم بالوالد وما ولد .. فإن اللّه سبحانه أقسم بكثير من مخلوقاته ، من سماء وأرض ، وما فى السماء ، من شمس وقمر ، ونجوم ، وما فى الأرض من تين وزيتون ، وخيل عادية ، ورياح عاصفة ، وغير هذا ، مما أقسم اللّه سبحانه وتعالى به ، من عوالم الجماد ، والنبات ، والحيوان.فهذه المخلوقات قائمة على ما خلقها اللّه سبحانه وتعالى عليه ، لم تخرج عن طبيعتها ، ولم تحد عن طريقها المرسوم لها ، على خلاف الإنسان ، الذي غير وبدل ، وانحرف عن سواء السبيل ..
وأما حين أقسم اللّه سبحانه وتعالى بالإنسان ، فإنما أقسم به فى فطرته التي أودعها اللّه سبحانه فيه ، تلك الفطرة التي جعلها اللّه تعالى أمانة بين يدى الإنسان ، فلم يرعها ، ولم يحفظها. وفى هذا يقول سبحانه : « وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ».
. فهذه النفس ، هى الفطرة التي فطر اللّه الناس عليها « فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها »..
والصورة الكاملة للإنسانية ، التي احتفظت بهذه الفطرة ، وزكتها التزكية المطلوبة لها ، هو رسول اللّه ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ وقد ألبسه اللّه سبحانه الشرف كله ، وتوجه بتاج العظمة على المخلوقات جميعها ، إذ أقسم به الحق جل وعلا ، مضافا إلى ذاته الكريمة ، فقال تعالى : « فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ » (92 ـ 93 : الحجر) ..
وقد وزنه اللّه سبحانه وتعالى بهذا القسم ، فرجح ميزانه ميزان السموات والأرض ، إذ أقسم بهما الحق جل وعلا مضافين إلى ذاته العلية فى قوله جل شأنه : « فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ » (23 : الذاريات) ..
ولكن شتان بين قسم اللّه سبحانه وتعالى بذاته مضيقا إليها الرسول الكريم ، فى مقام الخطاب ، وبين قسمه سبحانه بالسماء والأرض ، مضافتين إلى ذاته ـ جل وعلا ـ فى مقام الغيبة ..! فصلوات اللّه وسلامه عليك يا رسول اللّه ، صلاة تنال بها شفاعتك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم.قوله تعالى : « لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ »..هو جواب للقسم المطوىّ ، فى كيان القسم المنفي ..
والإنسان هو ثمرة من ثمرات التوالد بين الأحياء ، سواء فى هذا ، الوالد ، والولد ..والكبد : المعاناة والشدة ..
والظرف : « فى » هو المحتوى الذي يضم الإنسان ، وما يلاقى فيه من كبد ..(1/610)
فحياة الإنسان ـ كل إنسان ـ فى هذه الدنيا ، هى شدائد ، ومعاناة.
فما يسلم إنسان أبدا من هموم الحياة وآلامها ، النفسية ، أو الجسدية ، فكم يفقد الإنسان من صديق وحبيب ؟ وكم يتداعى على جسده من أمراض وعلل ؟ وكم ؟
وكم ؟ مما يطرق الناس من أحداث على مر الأيام ، وكر الليالى ؟ فالشباب يذبل ويولّى ، والقوة تتبدد وتصبح وهنا وضعفا ، وهذا الجسد الذي ملأ الدنيا حياة وحركة سيعصف به الموت يوما ، ويلقى به فى باطن الأرض ، جثة هامدة متعفنة ، لا تلبث أن تصير ترابا!.
فالإنسان وحده من بين المخلوقات ـ فيما نعلم ـ هو الذي تستبدّ به هذه المخاوف ، وتطرقه هذه التصورات ، على خلاف سائرا لأحياء التي تقطع مسيرتها فى الحياة ، فى غير قلق أو إزعاج من المستقبل الذي ينتظرها .. إنها لا تنظر إليه ، ولا تتصوره ، ولا تعيش فيه قبل أن يصبح واقعا ..
أما الإنسان ، فإنه يعيش فى المستقبل أكثر مما يعيش فى الواقع ، حتى إنه ليرى بعين الغيب فى يوم مولده ، ما هو مقبل عليه من آلام ومكابدات فى مستقبل حياته .. يقول ابن الرومي.
لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلّا فما يبكيه منها ، وإنها لأرحب مما كان فيه وأرغد
هذا هو الإنسان ، وتلك هى مسيرته فى الحياة ، فلا يفترنّ جاهل بقوته ، ولا يركننّ مغرور إلى ما بين يديه من مال وسلطان .. فكل زائل وقبض الريح! ..
قوله تعالى : « أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ » ؟
هو إلفات لهذا المغرور بقوته ، المعتزّ بسلطانه وجاهه ، المفتون بنفسه ، المتشامخ بذاته ، حتى ليحسب أن أحدا لن يقدر عليه ، ولن يسلبه شيئا مما معه ..
إنه أضعف من أن يثبت لنخسة من نخسات الحياة ، كما يقول سبحانه : « اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً » (54 : الروم) ويقول سبحانه : « وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً » (28 : النساء) وإن بعوضة تلسعه لتحرق جسده بالحمى ، وإن جرثومة تتدسس إلى كيانه لتهدّ بنيانه ، وتقوض أركانه!! ثم ما قوة هذا الإنسان ؟ أهو أقوى من خالقه الذي خلقه من نطفة ثم سواه رجلا ؟
فما أضعف الإنسان ، وما أخف وزنه ، إذا كان معياره قائما مع هذا الجسد ، دون أن يكون لروحه حساب ، أو لنفسه اعتبار! وقوله تعالى : « يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً » هكذا يقول الإنسان مباهيا مفاخرا بما أنفق من مال ..
واللبد : الكثير ، الذي جمع بعضه إلى بعض ، فكان أكداسا مكدسة ..(1/611)
وفيم أهلك هذا السفيه المغرور هذا المال الكثير ؟ أفي ابتناء محمدة ، أو اكتساب مكرمة ؟ أو إغاثة ملهوف ؟ أو إطعام جائع ؟ كلّا .. إنه لا يعرف وجها من هذه الوجوه ولا تنضح يده لها بدرهم ، من هذا المال الكثير الذي أهلكه .. إنه أهلكه فى مباذله ، وفى استرضاء شهواته ، وإشباع نزواته .. ولهذا فهو مال هالك ، ومهلك لمن أنفقه وهذا بعض السرّ فى قوله تعالى : « أهلكت » الذي يدل على أن هذا المال ذهب فى طريق الضياع والفساد.
وقوله تعالى : « أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ؟ » أي أيحسب هذا السفيه المفتون ، أن عين اللّه لا تراه ، ولا تكشف عن هذه الوجوه المنكرة التي يهلك فيها هذا المال اللبد ؟ وكلّا ، فإنه محاسب على هذا المال الذي أهلكه فى وجوه الضلال ، والبغي والعدوان .. (1)
تبدأ السورة بالتلويح بقسم عظيم ، على حقيقة في حياة الإنسان ثابتة : { لا أقسم بهذا البلد . وأنت حل بهذا البلد . ووالد ما ولد . لقد خلقنا الإنسان في كبد } .
والبلد هو مكة . بيت الله الحرام . أول بيت وضع للناس في الأرض . ليكون مثابة لهم وأمناً . يضعون عنده سلاحهم وخصوماتهم وعداواتهم ، ويلتقون فيه مسالمين ، حراماً بعضهم على بعض ، كما أن البيت وشجره وطيره وكل حي فيه حرام . ثم هو بيت إبراهيم والد إسماعيل أبي العرب والمسلمين أجمعين .
ويكرم الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - فيذكره ويذكر حله بهذا البلد وإقامته ، بوصفها ملابسة تزيد هذا البلد حرمة ، وتزيده شرفاً ، وتزيده عظمة . وهي إيماءة ذات دلالة عميقة في هذا المقام . والمشركون يستحلون حرمة البيت ، فيؤذون النبي والمسلمين فيه ، والبيت كريم ، يزيده كرماً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حل فيه مقيم . وحين يقسم الله سبحانه بالبلد والمقيم به ، فإنه يخلع عليه عظمة وحرمة فوق حرمته ، فيبدو موقف المشركين الذين يدعون أنهم سدنة البيت وأبناء إسماعيل وعلى ملة إبراهيم ، موقفاً منكراً قبيحاً من جميع الوجوه .
ولعل هذا المعنى يرشح لاعتبار : { ووالد وما ولد } . . إشارة خاصة إلى إبراهيم ، أو إلى إسماعيل عليهما السلام وإضافة هذا إلى القسم بالبلد والنبي المقيم به ، وبانيه الأول وما ولد . . وإن كان هذا الاعتبار لا ينفي أن يكون المقصود هو : والد وما ولد إطلاقاً . وأن تكون هذه إشارة إلى طبيعة النشأة الإنسانية ، واعتمادها على التوالد . تمهيداً للحديث عن حقيقة الإنسان التي هي مادة السورة الأساسية .
وللأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في هذا الموضع من تفسيره للسورة في « جزء عم » لفتة لطيفة تتسق في روحها مع روح هذه « الظلال » فنستعيرها منه هنا . . قال رحمه الله :
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1566)(1/612)
« ثم أقسم بوالد وما ولد ، ليلفت نظرنا إلى رفعة قدر هذا الطور من أطوار الوجود وهو طور التوالد وإلى ما فيه من بالغ الحكمة وإتقان الصنع ، وإلى ما يعانيه الوالد والمولود في إبداء النشء وتكميل الناشئ ، وإبلاغه حده من النمو المقدر له » .
« فإذا تصورت في النبات كم تعاني البذرة في أطوار النمو : من مقاومة فواعل الجو ، ومحاولة امتصاص الغذاء مما حولها من العناصر ، إلى أن تستقيم شجرة ذات فروع وأغصان ، وتستعد إلى أن تلد بذرة أو بذوراً أخرى تعمل عملها ، وتزين الوجود بجمال منظرها إذا أحضرت ذلك في ذهنك ، والتفت إلى ما فوق النبات من الحيوان والإنسان ، حضر لك من أمر الوالد والمولود فيهما ما هو أعظم ، ووجدت من المكابدة والعناء الذي يلاقيه كل منهما في سبيل حفظ الأنواع ، واستبقاء جمال الكون بصورها ما هو أشد وأجسم » .. انتهى . .
يقسم هذا القسم على حقيقة ثابتة في حياة الكائن الإنساني :{ لقد خلقنا الإنسان في كبد } . .
في مكابدة ومشقة ، وجهد وكد ، وكفاح وكدح . . كما قال في السورة الأخرى : { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } . .الخلية الأولى لا تستقر في الرحم حتى تبدأ في الكبد والكدح والنصب لتوفر لنفسها الظروف الملائمة للحياة والغذاء بإذن ربها وما تزال كذلك حتى تنتهي إلى المخرج ، فتذوق من المخاض إلى جانب ما تذوقه الوالدة ما تذوق . وما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون قد ضغط ودفع حتى كاد يختنق في مخرجه من الرحم!
ومنذ هذه اللحظة يبدأ الجهد الأشق والكبد الأمر . يبدأ الجنين ليتنفس هذا الهواء الذي لا عهد له به ، ويفتح فمه ورئتيه لأول مرة ليشهق ويزفر في صراخ يشي بمشقة البداية! وتبدأ دورته الهضمية ودورته الدموية في العمل على غير عادة! ويعاني في إخراج الفضلات حتى يروض أمعاءه على هذا العمل الجديد! وكل خطوة بعد ذلك كبد ، وكل حركة بعد ذلك كبد . والذي يلاحظ الوليد عندما يهم بالحبو وعندما يهم بالمشي يدرك كم يبذل من الجهد العنيف للقيام بهذه الحركة الساذجة .
وعند بروز الأسنان كبد . وعند انتصاب القامة كبد . وعند الخطو الثابت كبد . وعند التعلم كبد . وعند التفكر كبد . وفي كل تجربة جديدة كبد كتجربة الحبو والمشي سواء!
ثم تفترق الطرق ، وتتنوع المشاق؛ هذا يكدح بعضلاته . وهذا يكدح بفكره . وهذا يكدح بروحه . وهذا يكدح للقمة العيش وخرقة الكساء . وهذا يكدح ليجعل الألف ألفين وعشرة آلاف . . وهذا يكدح لملك أو جاه ، وهذا يكدح في سبيل الله . وهذا يكدح لشهوة ونزوة . وهذا يكدح لعقيدة ودعوة . وهذا يكدح إلى النار . وهذا يكدح إلى الجنة . . والكل يحمل حمله ويصعد الطريق كادحاً إلى ربه فيلقاه! وهناك يكون الكبد الأكبر للأشقياء . وتكون الراحة الكبرى للسعداء .(1/613)
إنه الكبد طبيعة الحياة الدنيا . تختلف أشكاله وأسبابه . ولكنه هو الكبد في النهاية . فأخسر الخاسرين هو من يعاني كبد الحياة الدنيا لينتهي إلى الكبد الأشق الأمرّ في الأخرى . وأفلح الفالحين من يكدح في الطريق إلى ربه ليلقاه بمؤهلات تنهي عنه كبد الحياة ، وتنتهي به إلى الراحة الكبرى في ظلال الله .
على أن في الأرض ذاتها بعض الجزاء على ألوان الكدح والعناء . إن الذي يكدح للأمر الجليل ليس كالذي يكدح للأمر الحقير .
ليس مثله طمأنينة بال وارتياحاً للبذل ، واسترواحاً بالتضحية ، فالذي يكدح وهو طليق من أثقال الطين ، أو للانطلاق من هذه الأثقال ، ليس كالذي يكدح ليغوص في الوحل ويلصق بالأرض كالحشرات والديدان! والذي يموت في سبيل دعوة ليس كالذي يموت في سبيل نزوة . . ليس مثله في خاصة شعوره بالجهد والكبد الذي يلقاه .
وبعد تقرير هذه الحقيقة عن طبيعة الحياة الإنسانية يناقش بعض دعاوى « الإنسان » وتصوراته التي تشي بها تصرفاته :{ أيحسب أن لن يقدر عليه أحد؟ يقول : أهلكت مالاً لبدا . أيحسب أن لم يره أحد؟ } .
إن هذا « الإنسان » المخلوق في كبد ، الذي لا يخلص من عناء الكدح والكد ، لينسى حقيقة حاله وينخدع بما يعطيه خالقه من أطراف القوة والقدرة والوجدان والمتاع ، فيتصرف تصرف الذي لا يحسب أنه مأخوذ بعمله ، ولا يتوقع أن يقدر عليه قادر فيحاسبه . . فيطغى ويبطش ويسلب وينهب ، ويجمع ويكثر ، ويفسق ويفجر ، دون أن يخشى ودون أن يتحرج . . وهذه هي صفة الإنسان الذي يعرى قلبه من الإيمان .
ثم إنه إذا دعي للخير والبذل ( في مثل المواضع التي ورد ذكرها في السورة ) { يقول : أهلكت مالاً لبداً } . . وأنفقت شيئاً كثيراً فحسبي ما أنفقت وما بذلت! { أيحسب أن لم يره أحد } ؟ وينسى أن عين الله عليه ، وأن علمه محيط به ، فهو يرى ما أنفق ، ولماذا أنفق؟ ولكن هذا « الإنسان » كأنما ينسى هذه الحقيقة ، ويحسب أنه في خفاء عن عين الله! (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- شرف مكة وحرمتها وعلو شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسمو مقامه وهو فيها وقد أحلها الله تعالى له ولم يحلها لأحد سواه .
2- شرف آدم وذريته الصالحين منهم .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3910)(1/614)
3- إعلان حقيقة وهي أن الإِنسان لا يبرح يعاني من أتعاب الحياة حتى الممات ثم يستقبل شدائد الآخرة إلى أن يقر قراره.
4- إن اللَّه قادر على كل شيء من الإنسان والحيوان والجماد والنبات ، عالم بقصد كل إنسان حين ينفق ما ينفق رياء وافتخارا وحبا للانتساب إلى المعالي والمكارم ، أو معاداة لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، ويرى كل أحد فيما يعمل ويجني ويكتسب وينفق.
5- أقسم اللَّه تعالى بالبلد الحرام- مكة أم القرى ، وبالوالد والمولود كآدم وذريته ، وكل أب وولده ، وما يتوالده الحيوان ، على أنه خلق الإنسان مغمورا في شدة وعناء من مكابدة الدنيا.
وللَّه أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته لتعظيمها ، والمراد تعظيم البلد الحرام المشتمل على البيت العتيق ، وكونه بلد إسماعيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، ووجود مناسك الحج فيه ومنشأ كل بركة وخير ، وتظل الحرمة لهذا البلد ، وإن اعتقد كفار مكة أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - حلال لهم ، لا حرمة له.
والقسم بالوالد والولد ونسلهم لأنهم أعجب ما خلق اللَّه تعالى على وجه الأرض لما فيهم من التّبيان والنطق والتدبير ، وفيهم الأنبياء والدّعاة إلى اللَّه تعالى.
6- وبخ اللَّه تعالى الإنسان على بعض الأفكار والاعتقادات والتصورات ، كظنه ألا قدرة لأحد عليه ، وإنفاقه المال الكثير مراءاة ، أو مضايقة من أداء الواجبات المالية الخيرية ، وجهله بأن اللَّه عالم به مطلع على جميع أقواله وأفعاله ، وسائله عن ماله من أين كسبه ، وفي أي شيء أنفقه ؟
- - - - - - - - - - -(1/615)
مبدأ الاختيار وطريق النجاة في الآخرة
قال تعالى :
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
المناسبة :
بعد توبيخ الإنسان وذمه على طبائع غريبة وعجيبة ، أقام اللَّه تعالى الدليل على كمال قدرته بخلق الأعين واللسان والشفتين والعقل المميز بين الخير والشر ، ومنحه الخيار للإنسان ليثبت ذاتيته ، ويتحرر من عبودية أهوائه وشهواته ، وليعرف البشر أنه تعالى مصدر لأفضل ما يتمتعون به من البصر والنطق والعقل.
ثم بيّن اللَّه تعالى أنه كان على الإنسان بعدئذ أن يشكر هذه النعم ، ويختار طريق الخير والسعادة ، فيبادر إلى الإيمان والعمل الصالح ، ومنه إعتاق أو تحرير الرقاب ، وإطعام الأيتام الأقارب والمساكين المحتاجين ، والتواصي بالرحمة على الناس ، وأدى اختيار الإنسان بالتالي إلى أن يكون من أحد الفريقين : أصحاب اليمين والسعادة ومآلهم إلى الجنة ، وأصحاب الشمال والشقاوة ومآلهم إلى النار. (1)
المفردات :
10 ... هَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ... بينا له طريق الخير وطريق الشر
11 ... فلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ ... أي لم يقتحمها ، أو : أفلا سلك طريق النجاة
11 ... العَقَبَةُ ... النجاة من النار
12 ... فَكُّ رَقَبَةٍ ... عتق رقبة ، فإذا فعل فقد نجا من النار
14 ... مَسْغَبَةٍ ... مجاعة - السغب : الجوع
15 ... مَقْرَبَةٍ ... قرابة
16 ... مَتْرَبَةٍ ... فقر : أي من شدة فقره كأنه التصق بالتراب
17 ... تَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ... يوصي بعضهم بعضا بالصبر
17 ... تَوَاصَوا بِالمَرْحَمَةِ ... يوصي بعضهم بعضا بالرحمة
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 249)(1/616)
19 ... المَشْأَمَةِ ... الشمال
20 ... مُؤْصَدَةٌ ... مغلقة
المعنى الإجمالي:
بعد أن وبخ سبحانه هؤلاء المرائين الذين ينفقون أموالهم طلبا للشهرة ، وحبّا فى الأحدوثة ، وأنّبهم على افتخارهم بما صنعوا مع خلوّ بواطنهم من حسن النية ، وبين لهم أن أفضل ما يتمتعون به من البصر والنطق والعقل المميز بين الخير والشر ، والنفع والضر هو منه سبحانه ، وهو القادر على سلبه منهم - أردفه بيان أنه كان عليهم أن يشكروا تلك النعم ، ويختاروا طريق الخير ، ويرجحوا سبيل السعادة ، فيفيضوا على الناس بشىء مما أفاض به عليهم ، وأفضل ذلك أن يعينوا على تحرير الأرقاء من البشر ، أو يواسوا الأيتام من أقاربهم حين العوز وعزة الطعام ، أو يطعموا المساكين الذين لا وسيلة لهم إلى كسب ما يقيمون به أودهم لضعفهم وعجزهم ، ثم هم مع ذلك يكونون صحيحى الإيمان ، صبورين على أذى الناس ، وعلى ما يصيبهم من المكاره فى سبيل الدعوة إلى الحق ، رحماء بعباده ، مواسين لهم حين الشدائد.
هذه هى الطريق التي كان من حق العقل أن يرشد إليها ، لكن الإنسان قد خدعه غروره فلم يقتحم هذه العقبة ، ولم يسلك هذه السبيل القويمة ، ولم يسر فيما يرشد إليه العقل السليم. (1)
أما كان الأجدر بالإنسان : وقد خلق اللّه له العين ليبصر بها ، واللسان والشفة ليتكلم وينطق بهما ، وهداه إلى طريق الخير والشر بما وهبه من عقل مميز ، وبما أرسل له من رسل وبما أنزل عليه من كتب ، وترك له بعد ذلك حرية الاختيار ، أما كان يجدر به أن يختار سبيل الخير ، وينأى بنفسه عن سبيل الشر ، ويصعد بها عن الدنايا ويقتحم العقبة التي في طريقه - وللإنسان عقبات من نفسه وشيطانه وهما أدنياه - وذلك بأن يكون جودا للّه فيفك الرقبة ويعتقها أو يعمل على ذلك بكل قواه ، أو يطعم في المجاعة والشدة يتيما ، والقريب أولى ، أو مسكينا يده ملصقة بالتراب لا يجد شيئا ، ثم كان بعد ذلك من المؤمنين الكاملين الذين يتواصون بالصبر على تحمل المكاره في سبيل اللّه ، ويتواصون أى : يوصى بعضهم بعضا بالرحمة على خلق اللّه ، لا تنس أن السورة تدور حول تسلية النبي ليتحمل أذى قومه.
أولئك - الموصوفون بما ذكر - هم أصحاب الميمنة السابقون السعداء في الآخرة ، أما من كفر بآيات ربه الكونية والقرآنية فأولئك هم أصحاب المشأمة : أصحاب الشمال الأشقياء الخالدون في جهنم كما يشير إلى ذلك قوله : عليهم نار مطبقة من كل جانب ، فلا خلاص لهم منها. (2)
التفسير والبيان :
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 161)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 867)(1/617)
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ، وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ أي ألم أمنحك أيها الإنسان الجاهل المغرور بقوتك ، المرائي بعملك بإنفاق المال طلبا للشهرة والسمعة ، أمنحك العينين اللتين تبصر بهما ، واللسان الذي تنطق به ، والشفتين اللتين تستر بهما ثغرك ، وتستعين بهما على الكلام وأكل الطعام ، وجمالا لوجهك وفمك ، والمراد أنني أنا اللَّه الذي منحتك القدرة على البصر والنطق أو الكلام.
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ أي ألم نبين لك ونعرفك طريق الخير والشر ، فأودعنا في فطرتك السليمة أداة التمييز بينهما ، وجعلنا لك من العقل والفكر ما تستطيع به إدراك محاسن الخير ، ومفاسد الشر وأبعاد كل منهما. وعبّر عن هذين الطريقين بالنجدين : وهما الطريقان المرتفعان ، للدلالة على صعوبتهما وعورتهما ، واحتياجهما إلى مجاهدة النفس لعبورهما بشدة وسرعة.
لذا أردفه ببيان وجوب اختيار الأفضل وشكر تلك النعم ، فقال تعالى : فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ، وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ أي فهلا نشط واخترق الموانع المانعة من طاعة اللَّه ، من تسويل النفس واتباع الهوى والشيطان ، وهلا جاهد نفسه لاجتياز الطريق الصعب ، وأي شيء أعلمك ما اقتحام العقبة ؟ استفهام للتفخيم والتعظيم.
ثم أرشد إلى طريق اقتحامها فقال : فَكُّ رَقَبَةٍ ، أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ، يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ ، أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ أي إن اقتحام العقبة ودخولها يكون بإعتاق الرقبة من العبودية ، وتخليصها من إسار الرق ، أو المعاونة عليه ، أو إطعام في يوم المجاعة الذي يعز فيه الطعام اليتيم القريب : وهو الصغير الذي فقد أباه ، وكان قريبا في نسبه من المطعم ، أو إطعام المسكين المحتاج الذي لا شيء له ، ولا قدرة على كسب المال لضعفه وعجزه ، كأنه ألصق يده بالتراب ، لفقد المال.
فمن حرر الرقبة أو أطعم اليتيم أو المسكين في يوم المجاعة ، كان طائعا للَّه ، نافعا عباده ، فهو من أصحاب اليمين. وهذا مثل ضربه اللَّه تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان.
قال الصاوي على الجلالين : إنما قيّد الإطعام بيوم المجاعة لأن إخراج المال فيه أشد على النفس. وقد يستدل بقوله : أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ للشافعي : أن المسكين أسوأ حالا من الفقير ، وأنه قد يكون بحيث يملك شيئا ، وإلا وقع قوله : ذا مَتْرَبَةٍ تكرارا. وقد استدل أبو حنيفة بتقديم العتق على أنه أفضل من الصدقة ، وعند بعضهم بالعكس لأن في الصدقة إنقاذ النفس من الهلاك فإن الغذاء قوام البدن ، وأما الفك فهو تخليص من القيد في الأغلب.
أخرج أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً فَهِىَ فِكَاكُهُ مِنَ النَّارِ ». (1) .
__________
(1) - مسند أحمد -(17789) صحيح(1/618)
وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ، قَالَ : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، عَلِّمْنِي عَمَلاً يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ ، قَالَ : لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ ، فَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ : أَعْتِقِ النَّسَمَةَ ، وَفُكَّ الرَّقَبَةَ ، قَالَ : أَوَ لَيْسَتَا بِوَاحِدَةٍ ؟ قَالَ : لاَ ، عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَفَرَّدَ بِعِتْقِهَا ، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعْطِي فِي ثَمَنِهَا ، وَالْمِنْحَةُ الْوَكُوفُ وَالْفَيْءُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْقَاطِعِ ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَاكَ ، فَأَطْعِمِ الْجَائِعَ ، وَاسْقِ الظَّمْآنَ ، وَمُرْ بِالْمَعْرُوفِ ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ ، فَكُفَّ لِسَانَكَ إِلاَّ مِنْ خَيْرٍ. (1)
وعَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ ، وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَانِ : صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ. (2) .
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ، وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي قام بالأفعال الخيرية السابقة بعد أن آمن باللَّه ورسوله وكتبه واليوم الآخر ، فإن هذه القربات إنما تنفع بشرط الإيمان ، فكان من جملة المؤمنين العاملين صالحا : المتواصين بالصبر على أذى ، وعلى الرحمة بهم ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ » (3) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ ». (4)
وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ لاَ يَرْحَمِ النَّاسَ لاَ يَرْحَمْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ». (5) .
وعن جَرِيرَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقُلْتُ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْإِسْلَامِ . فَقَبَضَ يَدَهُ وَقَالَ: " وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ " وَقَالَ: " إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ لَا يَرْحَمُهُ اللهُ " (6)
والصبر يكون أيضا على طاعة اللَّه ، وعن المعاصي ، وعلى المصائب والبلايا.
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 98) (374) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (8 / 133) (3344) صحيح لغيره
(3) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (9 / 41) (18362) صحيح
(4) - سنن الترمذى -(2049 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
الشجنة : شعبة فى غصن الشجرة والمراد قرابة مشتبكة كاشتباك العروق
(5) - صحيح مسلم -(6172 )
(6) - شعب الإيمان - (13 / 401) (10536 ) صحيح(1/619)
والرحمة على عباد اللَّه ترقق القلب ، ومن كان رقيق القلب ، عطف على اليتيم والمسكين ، واستكثر من فعل الخير بالصدقة.
ثم ذكر اللَّه تعالى جزاء هؤلاء مبشرا بهم ، فقال : أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أي أولئك المتصفون بهذه الصفات هم من أصحاب اليمين ، وهم أصحاب الجنة ، كما قال تعالى : وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ ؟ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ، وَماءٍ مَسْكُوبٍ ، وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ، لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ، وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الواقعة 56/ 27- 34].
ثم ذكر أضداد هؤلاء للمقارنة والعبرة ، فقال : وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ ، عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ أي والذين جحدوا بآياتنا التنزيلية والآيات الكونية الدالة على قدرتنا ، هم أصحاب الشمال ، وعليهم نار مطبقة مغلقة ، وأصحاب الشمال هم أهل النار المشؤومة كما قال تعالى : وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ .. [الواقعة 56/ 41- 44].
ومضات :
ومع ما قلناه في تأويل آية وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ فإنها تحتمل أن يكون قصد بها أو انطوى فيها إشارة إلى ما أودعه اللّه عزّ وجلّ في الإنسان من عقل يستطيع أن يميز به بين الخير والشرّ ويختار بينهما ، كما تحتمل أن يكون قصد بها أو انطوى فيها إشارة إلى ما في القرآن والدعوة النبوية من تبيان معالم الخير والشر والهدى والضلال والتقوى والفجور ، وهذا الاحتمال لا ينقض ما تضمنته الآيات على كل حال من تقرير قابلية الاختيار في الإنسان ومسؤوليته عن اختياره كما هو واضح.
ولقد روى الطبري حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في سياق الجملة جاء فيه : «إنما هما نجدان نجد الخير ونجد الشرّ فما جعل نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير».
والمتبادر أن الحديث ينطوي على سؤال تعجبي أو تنديدي للذي يحبّ نجد الشر أكثر من نجد الخير حيث يدعم هذا معنى قابلية الاختيار في الإنسان ومسؤوليته عن اختياره.
وقد ذكرنا معنيين لآيات أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وهما أن هذه الجوارح أوجدها اللّه في الإنسان لتشهد على أفعاله أو تجعله يميز بين الخير و الشر. والمعنى الأول قد ورد بصراحة في آيات أخرى مثل آية سورة النور هذه : يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) وآية سورة فصلت هذه : حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) مما سوف نعلّق عليه موضوعيا في مناسبة الآيات المذكورة.(1/620)
والآيات في جملتها قد احتوت تلقينات جليلة مستمرة المدى سواء في تنديدها بخلق المشاقة والمشاكسة أم بخلق التباهي بالمال والاعتداد بالنفس بحيث يظن المرء أنه أمنع من أن ينال بسوء وأقوى من أن يقدر عليه أحد ، وكذلك في تذكيرها ما في الإنسان من مواهب وقوى أودعها اللّه فيه من الواجب أن يستعملها في ما هو الأفضل والأقوم والأهدى. (1)
الضمير في «اقتحم» مصروف كما هو المتبادر إلى الإنسان الذي نددت الآيات السابقة به والآيات بهذا الاعتبار متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب واستطراد حيث تضمنت تحريضا إيجابيّا على ما هو الأولى عمله بدلا من التباهي بالمال والاعتداد بالنفس وهو أن يقتحم الصعب ويتغلب على ما في نفسه من طباع فينفق ماله في تحرير الرقاب وإطعام فقراء اليتامى والأقارب والمعوزين في أيام المجاعات فإن من يقدم على هذه المكرمات ويكون في الوقت نفسه مؤمنا باللّه عز وجل متضامنا مع المؤمنين في الصبر على المكاره والخطوب وفي المرحمة بالمحتاجين إليها كان ميمون العاقبة فائزا سعيدا في الآخرة. أما الكافرون بآيات اللّه المبتعدون عن مكارم الأفعال والأخلاق فإنهم سيكونون من أهل الشؤم الخاسرين الذين سوف يلقون في النار وتغلق عليهم أبوابها فتكون مأواهم الخالد.
والمتبادر أن فكّ الرقاب وإطعام المساكين والبرّ بالأيتام لم تورد في الآيات على سبيل الحصر بما يجب على الإنسان الإقدام عليه من المكرمات ، ولكن تخصيصها بالذكر يدل على أنها من المكرمات المسلّم بأهميتها عند عامة السامعين ، ووصفها بالعقبة الشديدة تنويه بخطورتها كما هو واضح.
التلازم بين العمل الصالح والإيمان أيضا
ويلحظ أن الآيات قد قرنت إلى هذه المكرمات الخطيرة واجب اجتماعها مع الإيمان باللّه والتضامن مع المؤمنين في التواصي بالصبر والمرحمة. وفي هذا توكيد لما قرره القرآن المرة بعد المرة من التلازم الذي لا بدّ منه بين الإيمان والعمل الصالح. فلن تنفع أفعال الخير وحدها صاحبها في الآخرة إذا لم يكن مؤمنا باللّه عزّ وجلّ قائما بواجباته نحوه مما نبهت عليه بعض آيات قرآنية مثل آيات سورة هود هذه مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) ومما شرحنا حكمته في مناسبة سابقة.
وواضح أن الآيات وهي تنعى على الإنسان الذي تتمثل فيه الطبائع المكروهة وتحرضه على الإقدام على المكرمات بدلا منها مع الإيمان باللّه بأسلوبها القوي تتضمن تلقينا مستمر المدى.
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 256)(1/621)
تعليق على موضوع الرقيق وموقف القرآن منه وحثّه على عتقه
وبمناسبة الإشارة إلى فكّ الرقاب والحثّ عليه في هذه الآيات لأول مرة نقول إن طبقة الرقيق كانت موجودة في كل مكان في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وما قبله وليس وجودها خاصا بالمجتمع العربي. ولقد ورد في القرآن آيات عديدة تتضمن عنهم أمورا كثيرة. وقد كان الرقيق كالمال المقوّم يتصرف فيه صاحبه كما يشاء بيعا و شراء وهبة واستثمارا وشراكة. وكان من المعتاد أن تستفرش الإماء من قبل سادتهن بدون عقد على أن يكون أبناؤهن أحرارا. أما النسل الذي يكون من تزاوج العبيد والإماء فيظلّ رقيقا . ولقد عالج القرآن أمر الرقيق من حيث الموقف الواقعي فحثّ على تحريره وحسن معاملته بمختلف الأساليب والمناسبات كما وضع مبدأ إلغائه عن طريق المنّ والفداء للأسرى حيث كان أسرى الحرب هم منشأ الرقّ على الأغلب عند العرب وغيرهم. فمن ذلك آية في سورة الإنسان تنوّه بالذين يطعمون الأسير وهي : وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) وآية في سورة النساء تأمر بالإحسان في معاملتهم في جملة من تأمر بالإحسان في معاملته وهي : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [36] وفي سورة النور آية تأمر بالاستجابة إلى المماليك الذين يرغبون شراء أنفسهم وهي : وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ [33] وقد جعل اللّه عتق الرقاب كفارة عن القتل الخطأ وعن المظاهرة وعن اليمين في هذه الآيات : وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [92] من سورة النساء ووَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا من سورة المجادلة [3] ولا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [89] من سورة المائدة. وفي سورة البقرة آية حثّت على الإنفاق في سبيل تحرير الرقاب وهي لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ [177]. وقد جعل اللّه في الزكاة نصيبا لعتق الرقاب كذلك كما جاء في آية سورة التوبة هذه : إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [60] وآية سورة محمد هذه : فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها [4] تكاد تكون منطوية على إلغاء الأسر حيث تأمر بإطلاق سراح الأسرى بالفداء أو بالمنّ بدون فداء. وإذا كان هناك مأثورات نبوية تجيز استرقاق الأسرى(1/622)
وقتلهم فالمستفاد منها أن النبي فعل ذلك في ظروف خاصة وكان أكثر ما فعل الطريقتين القرآنيتين على ما سوف نشرحه في مناسبتها. ومن الوسائل التي جعلتها الشريعة الإسلامية وسيلة إلى تحرير الرقاب ولادة الأمة من سيدها فإنها تسمى أم ولد وتصبح معتقة بعد وفاة سيدها ولا يصح عليها بيع ولا هبة. وقد روى أحمد وابن ماجه حديثا في ذلك جاء فيه : «قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أيّما امرأة ولدت من سيّدها فهي معتقة عن دبر منه» . وكذلك العبد الذي يعلن سيده عتقه بعد موته فيسمى المدبر ولا يصح عليه بيع ولا هبة ويكون معتقا حال وفاة سيده على ما ذكره الفقهاء استنادا إلى الآثار .
وهناك أحاديث نبوية عديدة في الحثّ على عتق الرقاب. من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال : «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أيّما رجل أعتق امرأ مسلما استنقذ اللّه بكل عضو منه عضوا منه من النار». وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي ذرّ جاء فيه : «أنّ أبا ذرّ سأل النبي أي الرقاب أفضل فقال أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها» . وحديث رواه أبو داود والترمذي أن رسول اللّه قال : «أيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلما فإنّ اللّه جاعل وقاء كلّ عظم من عظامه عظما من عظام محرره من النار وأيّما امرأة أعتقت امرأة مسلمة فإنّ اللّه جاعل وقاء كل عظم من عظامها عظما من عظام محررها من النار» . وحديث رواه أبو داود عن واثلة بن الأسقع قال : «أتينا رسول اللّه في صاحب لنا قد أوجب يعني النار بالقتل فقال أعتقوا عنه يعتق اللّه بكلّ عضو منه عضوا من النار» . وحديث رواه الإمام أحمد عن البرّاء بن عازب قال : «جاء أعرابي إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول اللّه علّمني عملا يدخلني الجنّة فقال لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة. أعتق النسمة وفكّ الرقبة. فقال يا رسول اللّه أو ليستا واحدة؟ قال : لا. إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها ، وفكّ الرقبة أن تعين في عتقها» . وحديث رواه الطبري بطرقه عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : «من أعتق رقبة مؤمنة فهي فداؤه من النار» . حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر الخطير كما هو الأمر في كلّ شأن.
وهناك إلى هذا أحاديث نبوية عديدة توجب إحسان معاملة الأرقاء طالما احتفظوا بصفتهم من ذلك حديث رواه مسلم عن عبادة بن الوليد قال : «خرجت أنا وأبي فلقينا أبا اليسر صاحب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ومعه غلام وعلى أبي اليسر بردة ومعافريّ وعلى غلامه بردة ومعافريّ فقلت له يا عمّي لو أنك أخذت بردة غلامك و أعطيته معافريّك وأخذت معافريّه وأعطيته بردتك فكان عليك حلّة وعليه حلّة .فمسح رأسي وقال : اللهمّ بارك فيه يا ابن أخي بصر عيناي هاتان وسمع أذناي هاتان ووعاه قلبي هذا وأشار إلى مناط قلبه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون وكان أن أعطيته من متاع الدنيا أهون عليّ من أن يأخذ من(1/623)
حسناتي يوم القيامة» . وحديث رواه الترمذي عن أبي مسعود قال : «كنت أضرب غلاما لي فسمعت صوتا من خلفي اعلم أبا مسعود مرّتين للّه أقدر عليك منك عليه. فالتفتّ فإذا هو النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول اللّه هو حرّ لوجه اللّه.
قال : أما لو لم تفعل للفعتك النار أو لمستك النار» . وحديث رواه الترمذي أيضا عن ابن عمر قال : «جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول اللّه كم تعفو عن الخادم؟
فصمت ، فأعاد الكلام فصمت ، فلما كان في الثالثة قال : في كلّ يوم سبعين مرّة» . وحديث رواه الترمذي كذلك عن أبي ذرّ قال : «قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من لاءمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذّبوا خلق اللّه» . وحديث رواه مسلم وأبو داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «من لطم مملوكه أو ضربه فكفّارته أن يعتقه» . حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر أيضا.
و ورود الحثّ على فكّ الرقاب في سورة مبكرة في النزول بالأسلوب القوي الذي جاء في الآيات التي نحن بصددها يدلّ على أن الدعوة الإسلامية قد استهدفت منذ بدئها معالجة أمر الرقيق الذي كان موجودا واقعا على خير الوجوه وهو العتق والتحرير مما هو متسق مع أهداف هذه الدعوة من الخير والحق والعدل والفضائل الأخلاقية والاجتماعية والتسوية بين الناس والقضاء على الاستعلاء الطبقي والعنصري التي تضمنتها الآيات القرآنية منذ بدء التنزيل وفي مختلف أدواره.
وعلى صحة تفسير (أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة) بالذين يعطون كتب أعمالهم في الآخرة بيمينهم أو شمالهم نقول إن هذا الموضوع قد ورد في آيات عديدة بصيغ أصرح فجاء في سورة الإسراء : يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وفي سورة الحاقة : يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) وفي سورة الانشقاق : يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12).(1/624)
وهناك حديث يرويه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء فيه : «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات. فأمّا عرضتان فجدال ومعاذير فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» . وحديث أورده ابن كثير في سياق تفسير آيات الإسراء المارّ ذكرها وأخرجه الحافظ البزار عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس ما يمنع نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يرد في الكتب الخمسة جاء فيه : «يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمدّ له في جسمه ويبيّض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤة تتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهمّ آتنا بهذا وبارك لنا فيه فيأتيهم فيقول لهم أبشروا فإن لكل رجل منكم مثل هذا.
وأما الكافر فيسودّ وجهه ويمدّ له في جسمه ويراه أصحابه فيقولون نعوذ باللّه من هذا اللهمّ لا تأتنا به. فيأتيهم فيقولون اللهمّ أخزه فيقول أبعدكم اللّه فإن لكلّ رجل منكم مثل هذا».
وما دام ورد هذا في القرآن بصراحة فيجب الإيمان به ، وهو متصل بما اقتضته حكمة اللّه أن تكون عليه المشاهد الأخروية من مألوفات الدنيا على ما شرحناه في مناسبات سابقة. ولعلّ من حكمة وروده بالأسلوب الذي جاء به التبشير والترغيب والترهيب والتحذير. وفي الأحاديث التي أوردناها ما يدعم ذلك واللّه تعالى أعلم.
ولقد كان العرب على ما روته روايات كثيرة يتشاءمون من الطير الذي يمرّ من جانب شمالهم إذا ما اعتزموا رحلة أو أمرا ويسمونه بالبارح ويلغون أو يترددون في تنفيذ ما اعتزموا عليه وإنهم كانوا يتفاءلون بالطير الذي يمر من جانب يمينهم ويسمونه بالسانح ويمضون في تنفيذ ما اعتزموا عليه برغبة وشوق. ولقد روى مسلم وأبو داود عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله» . وروى الأربعة عن عمر بن أبي سلمة قال : «كنت غلاما في حجر رسول اللّه وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا غلام سمّ اللّه وكل بيمينك مما يليك فما زالت تلك طعمتي بعد» . فلعل إعطاء الكفار المجرمين كتبهم بشمالهم كعلامة على الشؤم الذي ألمّ بهم وإعطاء المؤمنين كتبهم بيمينهم كعلامة على اليمن الذي ألمّ بهم متصل بهذه الصورة الدنيوية اتساقا مع حكمة اللّه التي نوّهنا بها. واللّه تعالى أعلم. (1)
إن الإنسان يغتر بقوته ، والله هو المنعم عليه بهذا القدر من القوة . ويضن بالمال . والله هو المنعم عليه بهذا المال . ولا يهتدي ولا يشكر ، وقد جعل له من الحواس ما يهديه في عالم المحسوسات : جعل له عينين على هذا القدر من الدقة في تركيبهما وفي قدرتهما على الإبصار . وميزه بالنطق ، وأعطاه أداته المحكمة : { ولساناً وشفتين } . . ثم أودع نفسه خصائص
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 258)(1/625)
القدرة على إدراك الخير والشر ، والهدى والضلال ، والحق والباطل : { وهديناه النجدين } . . ليختار أيهما شاء ، ففي طبيعته هذا الاستعداد المزدوج لسلوك أي النجدين . والنجد الطريق المرتفع . وقد اقتضت مشيئة الله أن تمنحه القدرة على سلوك أيهما شاء ، وأن تخلقه بهذا الازدواج طبقاً لحكمة الله في الخلق ، وإعطاء كل شيء خلقه ، وتيسيره لوظيفته في هذا الوجود
وهذه الآية تكشف عن حقيقة الطبيعة الإنسانية؛ كما أنها تمثل قاعدة « النظرية النفسية الإسلامية » هي والآيات الأخرى في سورة الشمس : { ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } ( وسنرجئ عرضها بشيء من التفصيل إلى الموضع الآخر في سورة الشمس لأنه أوسع مجالاً ) .
هذه الآلاء التي أفاضها الله على الجنس الإنسان في خاصة نفسه ، وفي صميم تكوينه ، والتي من شأنها أن تعينه على الهدى : عيناه بما تريان في صفحات هذا الكون من دلائل القدرة وموحيات الإيمان؛ وهي معروضة في صفحات الكون مبثوثة في حناياه . ولسانه وشفتاه وهما أداة البيان والتعبير؛ وعنهما يملك الإنسان أن يفعل الشيء الكثير . والكلمة أحياناً تقوم مقام السيف والقذيفة وأكثر؛ وأحياناً تهوي بصاحبها في النار كما ترفعه أو تخفضه . في هذه النار . . « عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر ، فأصبحت يوماً قريباً منه ، ونحن نسير ، فقلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ، ويباعدني عن النار . قال : » سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه : تعبد الله ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير؟ قلت : بلى يا رسول الله . قال : الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ، وصلاة الرجل في جوف الليل شعار الصالحين . ثم تلا قوله تعالى : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع . . . . . } . ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت : بلى يا رسول الله . قال : رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد . ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت : بلى يا رسول الله . قال : كف عليك هذا ، وأشار إلى لسانه . قلت : يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال : ثكلتك أمك! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال : على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟ « رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه .
وهدايته إلى إدراك الخير والشر ، ومعرفة الطريق إلى الجنة والطريق إلى النار ، وإعانته على الخير بهذه الهداية . .
هذه الآلاء كلها لم تدفع هذا » الإنسان « إلى اقتحام العقبة التي تحول بينه وبين الجنة . هذه العقبة التي يبينها الله له في هذه الآيات :{ فلا اقتحم العقبة . . وما أدراك ما العقبة؟ فك رقبة .(1/626)
أو إطعام في يوم ذي مسغبة ، يتيماً ذا مقربة ، أو مسكيناً ذا متربة . ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة . أولئك أصحاب الميمنة } . .
هذه هي العقبة التي يقتحمها الإنسان إلا من استعان بالإيمان هذه هي العقبة التي تقف بينه وبين الجنة . لو تخطاها لوصل! وتصويرها كذلك حافز قوي ، واستجاشة للقلب البشري ، وتحريك له ليقتحم العقبة وقد وضحت ووضح معها أنها الحائل بينه وبين هذا المكسب الضخم . . { فلا اقتحم العقبة } ! ففيه تحضيض ودفع وترغيب!
ثم تفخيم لهذا الشأن وتعظيم : { وما أدراك ما العقبة! } .. إنه ليس تضخيم العقبة ، ولكنه تعظيم شأنها عند الله ، ليحفز به « الإنسان » إلى اقتحامها وتخطيها؛ مهما تتطلب من جهد ومن كبد . فالكبد واقع واقع . وحين يبذل لاقتحام العقبة يؤتي ثمره ويعوض المقتحم عما يكابده ، ولا يذهب ضياعاً وهو واقع واقع على كل حال!
ويبدأ كشف العقبة وبيان طبيعتها بالأمر الذي كانت البيئة الخاصة التي تواجهها الدعوة في أمسّ الحاجة إليه : فك الرقاب العانية؛ وإطعام الطعام والحاجة إليه ماسة للضعاف الذين تقسو عليهم البيئة الجاحدة المتكالبة ، وينتهي بالأمر الذي لا يتعلق ببيئة خاصة ولا بزمان خاص ، والذي تواجهه النفوس جميعاً ، وهي تتخطى العقبة إلى النجاة : { ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة } . .
وقد ورد أن فك الرقبة هو المشاركة في عتقها ، وأن العتق هو الاستقلال بهذا . . وأياً ما كان المقصود فالنتيجة الحاصلة واحدة .
وقد نزل هذا النص والإسلام في مكة محاصر؛ وليست له دولة تقوم على شريعته . وكان الرق عاماً في الجزيرة العربية وفي العالم من حولها . وكان الرقيق يعاملون معاملة قاسية على الإطلاق . فلما أن أسلم بعضهم كعمار بن ياسر وأسرته ، وبلال بن رباح ، وصهيب . . وغيرهم رضي الله عنهم جميعاً اشتد عليهم البلاء من سادتهم العتاة ، وأسلموهم إلى تعذيب لا يطاق . وبدا أن طريق الخلاص لهم هو تحريرهم بشرائهم من سادتهم القساة ، فكان أبو بكر رضي الله عنه هو السابق كعادته دائماً إلى التلبية والاستجابة في ثبات وطمأنينة واستقامة . .
قال ابن إسحاق : « وكان بلال مولى أبي بكر رضي الله عنهما لبعض بني جمح مولدا من مولديهم وكان صادق الإسلام ، طاهر القلب ، وكان أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة؛ ثم يأمرهم بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى . فيقول وهو في ذلك البلاء : أحد أحد . . »(1/627)
« حتى مر به أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوماً وهم يصنعون ذلك به وكانت دار أبي بكر في بني جمح . فقال لأمية بن خلف ، ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟ قال : أنت الذي أفسدته فأنقذه مما ترى . فقال أبو بكر : أفعل . عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى ، على دينك » أعطيكه به . قال : قد قبلت . قال : هو لك . فأعطاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه غلامه ذلك وأخذه وأعتقه .
« ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب . بلال سابعهم : عامر بن فهيرة ( شهد بدراً وقتل يوم بئر معونة شهيداً ) وأم عبيس ، وزنيرة .
( وأصيب بصرها حين أعتقها ، فقالت قريش : ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى! فقالت : كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى وما تنفعان . فرد الله بصرها ) وأعتق النهدية وابنتها ، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول : والله لا أعتقكما أبداً . فقال أبو بكر رضي الله عنه حلٌ يا أم فلان ( أي تحللي من يمينك ) فقالت : حل! أنت أفسدتهما فأعتقهما . قال فبكم هما؟ قالت : بكذا وكذا . قال : قد أخذتهما وهما حرتان . أرجعا إليها طحينها . قالتا : أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؟ قال : ذلك إن شئتما .« ومر بجارية بني مؤمل هي من بني عدي وكانت مسلمة ، وكان عمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام وهو يومئذ مشرك وهو يضربها ، حتى إذا مل قال : إني أعتذر إليك ، إني لم أتركك إلا ملالة! فتقول : كذلك فعل الله بك! فابتاعها أبو بكر فأعتقها » .
قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن عبد الله بن أبي عتيق ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن بعض أهله ، قال : قال أبو قحافة لأبي بكر : يا بني إني أراك تعتق رقاباً ضعافاً . فلو أنك إذا فعلت ما فعلت أعتقت رجالاً جُلدا يمنعونك ويقومون دونك! قال : فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا أبت إني إنما أريد ما أريد لله . . . « . .
لقد كان رضي الله عنه يقتحم العقبة وهو يعتق هذه الرقاب العانية . . لله . . وكانت الملابسات الحاضرة في البيئة تجعل هذا العمل يذكر في مقدمة الخطوات والوثنيات لاقتحام العقبة في سبيل الله .
{ أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتمياً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة } . .والمسغبة : المجاعة ، ويوم المجاعة الذي يعز فيه الطعام هو محك لحقيقة الإيمان . وقد كان اليتيم يجد في البيئة الجاهلية المتكالبة الخسف والغبن . ولو كان ذا قربى . وقد حفل القرآن بالوصية باليتيم . مما يدل على قسوة البيئة من حول اليتامى . وظلت هذه الوصايا تتوالى حتى في السور المدنية بمناسبة تشريعات الميراث والوصاية والزواج . وقد مر منها الكثير في سورة النساء خاصة . . وفي سورة البقرة وغيرهما . وكذلك إطعام المسكين ذي المتربة أي اللاصق بالتراب من بؤسه(1/628)
وشدة حاله في يوم المسغبة يقدمه السياق القرآني خطوة في سبيل اقتحام العقبة ، لأنه محك للمشاعر الإيمانية من رحمة وعطف وتكافل وإيثار ، ومراقبة لله في عياله ، في يوم الشدة والمجاعة والحاجة . وهاتان الخطوتان : فك الرقاب وإطعام الطعام كانتا من إيحاءات البيئة الملحة ، وإن كانت لهما صفة العموم ، ومن ثم قدمها في الذكر . ثم عقب بالوثبة الكبرى الشاملة :{ ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر ، وتواصوا بالمرحمة } ..
و { ثم } هنا ليست للتراخي الزمني ، إنما هي للتراخي المعنوي باعتبار هذه الخطوة هي الأشمل والأوسع نطاقاً والأعلى أفقاً . وإلا فما ينفع فك رقاب ولا إطعام طعام بلا إيمان . فالإيمان مفروض وقوعه قبل فك الرقاب وإطعام الطعام . وهو الذي يجعل للعمل الصالح وزناً في ميزان الله . لأنه بمنهج ثابت مطرد . فلا يكون الخير فلتة عارضة ترضية لمزاج متقلب ، أو ابتغاء محمدة من البيئة أو مصلحة .
وكأنما قال : فك رقبة . أو إطعام في يوم ذي مسغبة ، يتيماً ذا مقربة ، أو مسكيناً ذا متربة . . وفوق ذلك كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة . فثم هنا لإفادة معنى الفضل والعلو .
والصبر هو العنصر الضروري للإيمان بصفة عامة ، ولاقتحام العقبة بصفة خاصة . والتواصي به يقرر درجة وراء درجة الصبر ذاته . درجة تماسك الجماعة المؤمنة ، وتواصيها على معنى الصبر ، وتعاونها على تكاليف الإيمان . فهي أعضاء متجاوبة الحس . تشعر جميعاً شعوراً واحداً بمشقة الجهاد لتحقيق الإيمان في الأرض وحمل تكاليفه ، فيوصي بعضها بعضاً بالصبر على العبء المشترك؛ ويثبت بعضها بعضاً فلا تتخاذل؛ ويقوي بعضها بعضاً فلا تنهزم . وهذا أمر غير الصبر الفردي . وإن يكن قائماً على الصبر الفردي . وهو إيحاء بواجب المؤمن في الجماعة المؤمنة . وهو ألا يكون عنصر تخذيل بل عنصر تثبيت ، ولا يكون داعية هزيمة بل داعية اقتحام؛ ولا يكون مثار جزع بل مهبط طمأنينة .
وكذلك التواصي بالمرحمة . فهو أمر زائد على المرحمة . إنه إشاعة الشعور بواجب التراحم في صفوف الجماعة عن طريق التواصي به ، والتحاض عليه ، واتخاذه واجباً جماعياً فردياً في الوقت ذاته ، يتعارف عليه الجميع ، ويتعاون عليه الجميع .
فمعنى الجماعة قائم في هذا التوجيه . وهو المعنى الذي يبرزه القرآن كما تبرزه أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهميته في تحقيق هذا الدين . فهو دين جماعة ، ومنهج أمة ، مع وضوح التبعة الفردية والحساب الفردي فيه وضوحاً كاملاً . .(1/629)
وأولئك الذين يقتحمون العقبة كما وصفها القرآن وحددها { أولئك أصحاب الميمنة } . . وهم أصحاب اليمين كما جاء في مواضع أخرى . أو أنهم أصحاب اليمين والحظ والسعادة . . وكلا المعنيين متصل في المفهوم الإيماني .
{ والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة . عليهم نار مؤصدة } . .ولم يحتج هنا إلى ذكر أوصاف أخرى لفريق المشأمة غير أن يقول : { والذين كفروا بآياتنا } . . لأن صفة الكفر تنهي الموقف . فلا حسنة مع الكفر . ولا سيئة إلا والكفر يتضمنها أو يغطي عليها . فلا ضرورة للقول بأنهم الذين لا يفكون الرقاب ولا يطعمون الطعام ، ثم هم الذين كفروا بآياتنا . . فإذا كفروا فما هو بنافعهم شيء من ذلك حتى لو فعلوه!
وهم أصحاب المشأمة . أي أصحاب الشمال أو هم أصحاب الشؤم والنحس . . وكلاهما كذلك قريب في المفهوم الإيماني . وهؤلاء هم الذين بقوا وراء العقبة لم يقتحموها!
{ عليهم نار مؤصدة } . . أي مغلقة . . إما على المعنى القريب . . أي أبوابها مغلقة عليهم وهم في العذاب محبوسون . وإما على لازم هذا المعنى القريب؛ وهو أنهم لا يخرجون منها . فبحكم إغلاقها عليهم لا يمكن أن يزايلوها . . وهذان المعنيان متلازمان . .
هذه هي الحقائق الأساسية في حياة الكائن الإنساني ، وفي التصور الإيماني . تعرض في هذا الحيز الصغير . بهذه القوة وبهذا الوضوح . . وهذه خاصية التعبير القرآني الفريد . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- التنديد بمن ينفق ماله في معصية الله ورسوله ، والنصح له بالإِنفاق في الخير فإِنه أجدى له ، وأنجى من عذاب الله .
2- بيان أن عقبة عذاب الله يوم القيامة تقتحم وتجتاز بالإِنفاق في سبيل الله وبالإِيمان والعمل الصالح والتواصي به .
3- التنديد بالكفر والوعيد الشديد لأهله .
4- ذكر اللَّه تعالى للمقابلة والمقارنة والعظة أصحاب الشمال بعد أصحاب اليمين ، والفريق الأول هم الذين كفروا بالقرآن ، وهم الذين يأخذون كتبهم بشمائلهم ، ومصيرهم إلى النار التي تطبق وتغلق أبوابها عليهم.
5- جيء بآيات أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ، وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ ، وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ للتذكير بنعم اللَّه تعالى على الإنسان من البصر والنطق والجمال والعقل والفكر المميز بين الحق والباطل وبيان طريقي الخير والشر ، وللدلالة على كمال قدرة اللَّه تعالى ، ولبيان مبدأ اختيار الإنسان للإيمان والكفر
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3910)(1/630)
أو السعادة والشقاوة أو الخير والشر ، كما قال تعالى : إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ، إِمَّا شاكِراً ، وَإِمَّا كَفُوراً [الدهر 76/ 3].
6- إن هذه النعم تقتضي الشكر عليها والاستعداد للنجاة في الآخرة ، بالإيمان والعمل الصالح الشامل للتواصي بالصبر على التكاليف الشرعية ، بطاعة اللَّه وعن معصيته وعلى البلايا والمحن ، والتواصي بالمرحمة على الخلق أي التعاطف والتراحم ، وتحرير الرقاب (العبيد) وإطعام اليتامى والأرامل والمساكين.
وإخراج المال في وقت القحط والضرورة والجوع أثقل على النفس ، وأوجب للأجر ، لذا قال : ذِي مَسْغَبَةٍ كقوله : وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة 2/ 177] وقوله : وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً [الدهر 76/ 8].
والإيمان شرط قبول هذه الأعمال الخيرية ، وإنما أخر للترقية من الأدنى إلى الأعلى ، والترتيب ذكري ، لا زماني.
وهؤلاء أصحاب اليمين أهل الجنة ، وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم.
ويلاحظ أنه ذكر في باب الكمال أمرين : فك الرقبة والإطعام ، والإيمان ، وفي باب التكميل شيئين : التواصي بالصبر على الوظائف الدينية ، والتواصي بالتراحم ، وكل من النوعين مشتمل على تعظيم أمر اللَّه ، والشفقة على خلق اللَّه ، إلا أنه في الأول قدم جانب الخلق ، وفي الثاني قدم جانب الحق (1) .
مقاصد هذه السورة
تشتمل هذه السورة على خمسة مقاصد :
(1) ما ابتلى به الإنسان فى الدنيا من النصب والتعب.
(2) اغترار الإنسان بقوته.
(3) نكران الن عم التي أنعم اللّه بها عليه من العينين واللسان والعقل والفكر
(4) سبل النجاة الموصلة إلى السعادة.
(5) كفران الآيات سبيل الشقاء. (2)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - تفسير الرازي : 31/ 187 ، غرائب القرآن : 30/ 102
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 164)(1/631)
سورة الشمس
مكيّة ، وهي خمس عشرة آية.
تسميتها :
سميت سورة الشمس لافتتاحها بالقسم الإلهي بالشمس المنيرة المضيئة لآفاق النهار.
وقال ابن عاشور : " سميت هذه السورة في المصاحف وفي معظم كتب التفسير "سورة الشمس" بدون واو وكذلك عنونها الترمذي في جامعه بدون واو في نسخ صحيحة من "جامع الترمذي" ومن "عارضة الأحوذي" لابن العربي.
وعنونها البخاري سورة "والشمس وضحاها" بحكاية لفظ الآية، وكذلك سميت في بعض التفاسير وهو أولى أسمائها لئلا تلتبس على القارئ بسورة إذا الشمس كورت المسماة سورة التكوير.
ولم يذكرها في "الإتقان" مع السور التي لها أكثر من اسم.
وهي مكية بالاتفاق.
وعدت السادسة والعشرين في عدد نزول السور نزلت بعد سورة القدر، وقبل سورة البروج.
وآياتها خمس عشرة آية في عدد جمهور الأمصار، وعدها أهل مكة ست عشرة آية.
أغراضها
تهديد المشركين بأنهم يوشك أن يصيبهم عذاب بإشراكهم وتكذيبهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم كما أصاب ثمودا بإشراكهم وعتوهم على رسول الله إليهم الذي دعاهم إلى التوحيد.
وقدم لذلك تأكيد الخبر بالقسم بأشياء معظمة وذكر من أحوالها ما هو على بديع صنع الله تعالى الذي لا يشاركه فيه غيره فهو دليل على أنه المنفرد بالإلهية والذي لا يستحق غيره الإلهية وخاصة أحوال النفوس ومراتبها في مسالك الهدى والضلال والسعادة . (1)
مناسبتها لما قبلها :
أشارت سورة « البلد » إلى الإنسان ، وإلى ما أودع اللّه سبحانه وتعالى فيه من قوى تميز بين الخير والشر ، إذ يقول سبحانه : « وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ »..
وفى سورة « الشمس » بيان شارح للنجدين ، إذ يقول سبحانه : « وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها » ثم أشارت الآيات بعد هذا إلى موقف الإنسان من هذين النجدين ، إذ يقول جل شأنه : « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ».. فالمناسبة بين السورتين ظاهرة. (2)
ترتبط السورة بما قبلها من وجهين :
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 365)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1581)(1/632)
1- ختم اللَّه سبحانه سورة البلد بتعريف أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ، ثم أوضح المراد من الفريقين في سورة الشمس بعمل كل منهما حيث قال : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها.
2- أبان اللَّه تعالى في آخر آيات السورة السابقة مصير أو مآل الكفار في الآخرة وهو النار ، وذكر تعالى في أواخر هذه السورة عقاب بعض الكفار في الدنيا ، وهو الهلاك ، فاختتمت السابقة بشيء من أحوال الكفار في الآخرة ، واختتمت هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا. (1)
ما اشتملت عليه السورة :
تهديدُ المشركين بأنهم يوشك أن يصيبهم عذاب بإشراكهم وتكذيبهم برسالة محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) كما أصاب ثمودا بإشراكهم وعتوِّهم على رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) الذي دعاهم إلى التوحيد .
وقُدِّم لذلك تأكيد الخبر بالقَسم بأشياء معظمة وذكر من أحوالها ما هو دليل على بديع صنع الله تعالى الذي لا يشاركه فيه غيره فهو دليل على أنه المنفرد بالإلاهية والذي لا يستحق غيره الإِلاهية وخاصة أحوال النفوس ومراتبها في مسالك الهدى والضلال والسعادة والشقاء . (2)
* إبتدأت السورة الكريمة بالقسم بسبعة أشياء من مخلوقات الله جل وعلا ، فأقسم تعالى بالشمس وضوئها الساطع ، وبالقمر إذا أعقبها وهو طالع ، ثم بالنهار إذا جلا ظلمة الليل بضيائه ، وبالليل إذا غطى الكائنات بظلامه ، ثم بالقادر الذي أحكم بناء السماء بلا عمد ، وبالأرض الذي بسطها على ماء جمد ، وبالنفس البشرية التي كملها الله ، وزينها بالفضائل والكمالات ، أقسم بهذه الأمور على فلاح الإنسان ونجاحه إذا اتقى الله ، وعلى شقاوته وخسرانه إذا طغى وتمرد ، وفسق وفجر .
* ثم ذكر تعالى قصة [ ثمود ] قوم صالح حين كذبوا رسولهم ، وطغوا وبغوا في الأرض وعقروا الناقة التي خلقها الله تعالى من صخر أصم معجزة لرسوله صالح عليه السلام ، وما كان من أمر هلاكهم الفظيع الذي بقى عبرة لمن يعتبر ، وهو نموذج لكل كافر فاجر ، مكذب لرسل الله [ كذبت ثمود بطغواها . إذ انبعث أشقاها . فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها . فكذبوه فعقروها . . ] الآيات.
* وقد ختمت السورة الكريمة بأنه تعالى لا يخاف عاقبة إهلاكهم وتدميرهم ، لأنه [ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ] ولهذا قال سبحانه : [ فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها ] . (3)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 255)
(2) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 365)
(3) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 492)(1/633)
في السورة توكيد بفلاح المتقين الصالحين وخسران المنحرفين الضالين.
وتذكير بحادث ناقة ثمود ونكال اللّه فيهم لتمردهم وطغيانهم. وتقرير لقابلية اكتساب الخير والشر في الإنسان وإيداع اللّه فيه تلك القابلية وإقداره على هذا الاكتساب. وهي عرض عام لأهداف الدعوة ، وليس فيها مواقف حجاج وردود ، مما يمكن أن يدل على أنها نزلت قبل الفصول التي ذكرت فيها مثل ذلك (1)
هذه السورة القصيرة ذات القافية الواحدة ، والإيقاع الموسيقي الموحد ، تتضمن عدة لمسات وجدانية تنبثق من مشاهد الكون وظواهره التي تبدأ بها السورة والتي تظهر كأنها إطار للحقيقة الكبيرة التي تتضمنها السورة . حقيقة النفس الإنسانية ، واستعداداتها الفطرية ، ودور الإنسان في شأن نفسه ، وتبعته في مصيرها . . هذه الحقيقة التي يربطها سياق بحقائق الكون ومشاهده الثابتة .
كذلك تتضمن قصة ثمود ، وتكذيبها بإنذار رسولها ،وعقرها للناقة ،ومصرعها بعد ذلك وزوالها وهي نموذج من الخيبة التي تصيب من لا يزكي نفسه ، فيدعها للفجور ، ولا يلزمها تقواها كما جاء في الفقرة الأولى في السورة :{ قد أفلح من زكاها . وقد خاب من دساها } (2) . .
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 138)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3915 )(1/634)
جزاء إصلاح النفس وإهمالها
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... وَضُحَاهَا ... نهارها
2 ... إِذَا تَلاهَا ... طلع بعد غروب الشمس
3 ... إِذَا جَلاَّهَا ... أضاءها
4 ... إِذَا يَغْشَاهَا ... يغشى الشمس حتى تظلم
5 ... وَمَا بَنَاهَا ... ومن بناها وهو الله عز وجل الذي خلقها
6 ... وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ... ومن بسطها ووطأها
7 ... وَمَا سَوَّاهَا ... والذي عدل أعضاءها ومنحها قواها
8 ... فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ... فبين لها الخير والشر
9 ... أَفْلَحَ ... فاز بالنجاة من النار ودخول الجنة
9 ... مَنْ زَكَّاهَا ... الذي طهر نفسه من الذنوب
10 ... خَابَ ... خسر الآخرة ونفسه وأهله
10 ... مَنْ دَسَّاهَا ... دس نفسه أي أخفاها بالفجور والمعصية
المعنى الإجمالي:
أقسم الحق - تبارك وتعالى - بالشمس على أنها كوكب سيار مع ضخامتها وكبر حجمها وقوة ضوئها ، وبضحاها ، أى : ضوئها وحرها ، وهما مصدر الحياة ، ومبعث الحركة ، ومنبع نور الكون في النهار والليل ، وأقسم بالقمر إذا تلاها في ارتباط مصالح الناس به ، وتبيين المواقيت ، وإضاءة الكون ، ومن هنا كان حساب السنين إما بالسنة الشمسية أو بالسنة القمرية ، والقمر يتلو الشمس ولأنه يستمد نوره منها ، والغريب أن هذا الرأى لبعض العلماء القدامى ، وجاء العلم مؤيدا له ، وأقسم بالنهار إذا جلاها ، أى : أظهر الشمس وأتم نورها ، والنهار من الشمس ، وكلما كان أجلى كانت الشمس كذلك لأن قوة الأثر تدل على قوة المؤثر فصح بهذا قوله - جل شأنه - : وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها ترى أن اللّه أقسم بالضوء الذي يعم الكون عن طريق مباشر كما في الشمس أو عن طريق غير مباشر كما في القمر ، وبالنهار الذي هو زمانه ، ثم بعد ذلك(1/635)
أقسم بالليل إذا يغشى الشمس ويستر ضوءها عنا فالنهار يظهرها ، والليل يسترها ، فسبحان من خلق هذا ، وإذا كانت الشمس يجليها النهار ويسترها الليل هل يعقل أن تعبد وتكون إلها ؟ ! وأقسم بالسماء وعوالمها وقد بناها اللّه وأحكم رباطها ، وقوى جاذبيتها فلا ترى فيها خللا ولا عوجا لأنها صنعة الحكيم القادر. وأقسم بالأرض وما طحاها ، أى : بسطها في نظر العين ووسعها ليعيش عليها الخلق ، وأقسم بالنفس والذي سواها وأحكم أمرها ومنحها القوى والغرائز التي تستكمل بها الحياة ، فترتب على ذلك أن خلق لها عقلا يميز بين الخير والشر وذلك من تمام التسوية ، وأقدرها على فعل المعصية التي تهلكها والخير الذي ينجيها ويقيها من السوء ، قد أفلح من زكاها ونماها وأعلاها. وقد خاب وخسر من دساها حتى جعلها في عداد نفوس الحيوانات. فإن الإنسان يرتفع عن الحيوان بتحكم العقل والسمو بالنفس عن مزالق الشهوات ، أما إذا انحط إلى المعاصي وحكم الشهوة في نفسه كان هو والحيوان سواء. ويصدق عليه : أنه دسى نفسه وأنقص مرتبتها وجعلها في عداد نفوس الحيوانات التي تحكمها شهوتها لا عقلها. (1)
التفسير والبيان :
أقسم اللَّه تعالى في مطلع هذه السورة بسبعة أشياء ، فقال :
1- 2- وَالشَّمْسِ وَضُحاها ، وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها أي أقسم بالشمس المضيئة نفسها ، سواء غابت أم طلعت لأنها شيء عظيم أبدعها اللَّه ، وأقسم بضوئها وضحاها وهو وقت ارتفاع الشمس بعد طلوعها إذا تم ضوؤها لأنه مبعث حياة الأحياء.
وأقسم بالقمر المنير إذا تبع الشمس في الطلوع بعد غروبها ، وبخاصة في الليالي البيض : وهي الليالي الثالثة عشرة إلى السادسة عشرة وقت امتلائه وصيرورته بدرا بعد غروب الشمس إلى الفجر. وهذا قسم بالضوء وقت الليل كله.
3- 4- وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها ، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أي وأقسم بالنهار إذا جلّى الشمس وكشفها وأظهر تمامها ، ففي اكتمال النهار كمال وضوح الشمس ، وأقسم بالليل إذا يغشى الشمس ويغطي ضوءها بظلمته ، فيزيل الضوء وتغيب الشمس ، وتظلم الدنيا في نصف الكرة الأرضية ، ثم تطلع في النصف الآخر.
وفي هذا التبدل والتغير رد على المشركين الذين يؤلهون الكواكب ، والثنوية الذين يقولون بأن للعالم إلهين اثنين : النور والظلمة لأن الإله لا يغيب ولا يتبدل حاله.
وبعد التنويه بعظم هذه الأشياء الكونية ، ذكر اللَّه تعالى صفات حدوثها ، فقال :
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 868)(1/636)
5- 6- وَالسَّماءِ وَما بَناها ، وَالْأَرْضِ وَما طَحاها أي وأقسم بالسماء وبناء اللَّه تعالى لها بالكواكب ، كأن كل كوكب لبنة في سقف أو قبّة تحيط بالأرض وأهلها. وأقسم بالأرض كوكب الحياة البشرية والذي بسطها من كل جانب ، وجعلها ممهدة موطأة للسكنى مثل قوله تعالى : وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات 79/ 30] أي بسطها ، والطحو كالدحو وهو البسط ، ثم مكّن الناس من الانتفاع بها ظاهرا بالنبات ، وباطنا بالمعادن والثروات. ونظير الآية : الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ، وَالسَّماءَ بِناءً [البقرة 2/ 22].
وختم الأشياء المحلوف بها بالنفس البشرية التي خلقت هذه الأشياء من أجلها ، وكونها أداة الانتفاع بها ووسيلة ترقي الحياة وتقدمها ، فقال :
7- وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها أي وأقسم بالنفس الإنسانية ، والذي خلقها سوية ، مستقيمة ، على الفطرة القويمة ، وتسويتها : إعطاء قواها بحسب حاجتها إلى تدبير البدن ، وهي الحواس الظاهرة والباطنة ، والقوى الطبيعية ، أي تعديل أعظائها ، وتزويدها بطاقات وقوى ظاهرية وباطنية متعددة ، وتحديد وظيفة لكل عضو فيها.
ثم إنه تعالى عرّف هذه النفس وأفهمها ما هو شر وفجور ، وما هو خير وتقوى ، وما فيهما من قبح وحسن ، لتمييز الخير من الشر ، كما قال تعالى : وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد 90/ 10] أي علمناه وعرفناه سلوك طريقي الخير والشر. ويعضده ما بعده : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها.
وهذا قول المعتزلة ، وقال أهل السنة : الضميران في قوله تعالى : فَأَلْهَمَها وقوله : وَهَدَيْناهُ للَّه تعالى ، والمعنى : قد سعدت نفس زكاها اللَّه تعالى ،وخلقها طاهرة ، وخابت نفس دسّاها اللَّه ، وخلقها كافرة فاجرة (1) .
والظاهر التفسير الأول ، بدليل ما قال ابن كثير : فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها : أي فأرشدها إلى فجورها وتقواها ، أي بيّن لها ذلك ، وهداها إلى ما قدّر لها (2) . وقال ابن عباس : فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها بيّن لها الخير والشر (3) . وهذا دليل على مبدأ الاختيار للإنسان.
ثم ذكر اللَّه تعالى جزاء ما تختاره النفس ، فقال : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها أي قد فاز بكل مطلوب ، وظفر بكل محبوب من زكى نفسه فهذبها ونمّاها وأعلاها بالتقوى والعمل الصالح ، وقد خسر من أضل نفسه وأغواها وأهملها وأخملها ، ولم يهذبها ، ولم يتعهدها بالطاعة والعمل الصالح. وهذا جواب القسم الذي افتتحت به السورة.
__________
(1) - وهذا قول سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومقاتل والكلبي
(2) - تفسير ابن كثير : 4/ 516
(3) - المرجع السابق ، وهذا أيضا قول مجاهد وقتادة والضحاك والثوري.(1/637)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقْرَأُ:" " فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا " ، قَالَ: اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا". (1)
روى الطبراني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا مَرَّ بِهَذِهِ الآيَةِ "وَنَفَسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا"[الشمس آية 7] وَقَفَ، ثُمَّ قَالَ:اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا وَخَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا. (2) .
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لا أَقُولُ لَكُمْ إِلا مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ ، وَالْكَسَلِ ، وَالْبُخْلِ ، وَالْجُبْنِ ، وَالْهَرَمِ ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ ، وَنَفَسٍ لا تَشْبَعُ ، وَقَلْبٌ لا يَخْشَعُ ، وَدُعَاءٌ لا يُسْتَجَابُ." (3)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ كَانَ إِذَا قِيلَ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ حَدِّثْنَا مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ لاَ أُحَدِّثُكُمْ إِلاَّ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَنَا بِهِ وَيَأْمُرُنَا أَنْ نَقُولَ « اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِى تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ وَمِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ وَدَعْوَةٍ لاَ تُسْتَجَابُ ». (4)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ إِلاَّ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ كَانَ يَقُولُ « اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَالْهَرَمِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِى تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا ». (5)
وروى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا فَقَدَتِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَضْجَعِهِ، فَلَمَسَتْهُ بِيَدِهَا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ وَهُوَ، يَقُولُ: "رَبِّ أَعْطِ نَفْسِى تَقْوَاهَا، زَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا.. (6)
ومضات :
__________
(1) - تفسير ابن أبي حاتم - (12 / 413) صحيح
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (9 / 315) (11028 ) حسن
(3) - الآحاد والمثاني -(2105) صحيح
(4) - سنن النسائى - (5555 ) صحيح
(5) - صحيح مسلم -(7081 )
(6) - غاية المقصد فى زوائد المسند 1 - (1 / 267) (803 ) ومسند أحمد - (26505) حسن(1/638)
قال الإمام : ولقلة أوقات الظُّلمة عبَّر في جانبها بالمضارع لا مفيد للحاق الشيء وعروضه متأخراً عما هو أصل في نفسه . أما النهار فإنه يجلي الشمس دائماً من أوله إلى آخره ؛ وذلك شأن له في ذاته ، ولا ينفك عنه إلا لعارض كالغيم أو الكسوف قليل العروض . . ولهذا عبَّر في جانبه بالماضي المفيد لوقوع المعنى من فاعله ، بدون إفادة أنه مما ينفك عنهُ . (1)
في السورة قسم رباني بما عدده من مظاهر الكون والخلق ونواميسها بأن المفلح السعيد من طهر نفسه باتباع الهدى وعمل الصالحات والتزام حدود اللّه ، وبأن الخاسر الشقي من أفسدها بالضلال والتمرد والأفعال المنكرة. وفيها كذلك تذكير بما كان من تكذيب ثمود لنبيهم وطغيانهم وجرأة أحدهم نتيجة لذلك على عقر ناقة اللّه دون أبوه بتحذير نبيهم وبما كان من نكال اللّه فيهم.
والسورة احتوت تقريرا عام التوجيه مستمر المدى لأهداف الدعوة في تطهير النفس والتسامي بها عن الإثم والغواية ، وتبشير المستقيمين بالفلاح والمنحرفين بالخسران. والإطلاق في كلمتي (زكاها ودساها) يمكن أن يتناول الطهارة الدينية والدنيوية أو الروحية والأخلاقية أو الفساد الديني والدنيوي أو الروحي والأخلاقي معا ، كما أن الفلاح والخيبة الواردين مع الكلمتين يمكن أن يتناولا الدنيا والآخرة معا ، وفي كل ذلك من جلال التلقين وشموله ما هو ظاهر.
وجملة وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) تعني نفس الإنسان دون الأحياء الأخرى كما هو ظاهر من مضامين الآيات الثلاث التالية لها.
ولما كان اللّه عز وجل قد خلق كل شيء وأحسن خلقه كما جاء في آيات أخرى منها آية سورة السجدة هذه : الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [7] فإن في ذكر الإنسان بما جاء في الآيات [7 - 10] معنى من معاني التنويه به وما اختصه اللّه به من إدراك وأودعه فيه من قابليات. ومعنى من معاني التنبيه على أنه ملزم دون غيره من الأحياء نتيجة لذلك بمسؤولية سلوكه. وفي هذا ما فيه من تكريم للإنسان وتحميله مسؤولية عن هذا التكريم. وقد تكررت هذه المعاني كثيرا في القرآن حيث ينطوي في ذلك خطورة ما تهدف إليه.
ولقد روى مسلم والترمذي عن عمران بن حصين قال : «إن رجلين من مزينة أتيا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقالا يا رسول اللّه أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه.
أشيء قضي عليهم ومضى أو فيما يستقبلون به. فقال لا بل شيء قضي عليهم.
وتصديق ذلك في كتاب اللّه عز وجل وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8)» حيث ينطوي في الحديث تفسير للآية مفاده أن ما يفعله الإنسان من خير وشر هو بقضاء رباني
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 233)(1/639)
سابق لا حيلة فيه. في حين أن الذي يتبادر بقوة من فحوى الآية وروحها أنها تتضمن تقرير كون اللّه عز وجل قد أودع في الناس قابلية فعل الخير والشر والهدى والضلال والتمييز والاختيار والسلوك. وفي الآيتين التاليتين لها تأييد قوي لذلك حيث احتوتا تنبيها تبشيريا وإنذاريا إلى نتائج استعمال هذه القابلية مع نسبة هذا الاستعمال للإنسان. وحيث يبدو من ذلك قصد التنبيه على التلازم والتلاحم بين الاختيار ونتائجه. وحيث يتسق هذا مع التقريرات القرآنية السابقة بتحميل الإنسان مسؤولية عمله واختياره. وقد تكرر هذا كله بعد هذه السورة بأساليب متنوعة على ما سوف ننبه إليه في مناسباته حتى ليصح أن يقال إنه من المبادئ القرآنية المحكمة ثم من الضوابط القرآنية التي يمكن أن يزول على ضوئها ما يبدو أحيانا من وهم المباينات والإشكالات في بعض العبارات القرآنية.
فإذا صح الحديث فيكون هناك حكمة نبوية ضاعت علينا. (1)
هذه أقسام عدّتها أحد عشر قسما ، أقسم اللّه سبحانه وتعالى بها ، مفتتحا السورة الكريمة .. الشمس ، وضحى الشمس ، والقمر ، والنهار ، والليل ، والسماء ، وبناؤها ، والأرض ، وبسطها. ثم النفس ، وما ركّب فيها ..
وفى هذه الأقسام نرى ستة منها متزاوجة ، متقابلة .. فالشمس يقابلها القمر ، والنهار يقابله الليل ، والسماء تقابلها الأرض .. ثم نرى الشمس ، والنهار ، والسماء ، يقابلها على التوالي : القمر ، والليل ، والأرض ..
وإذ نبحث عن مقابل للنفس ، لا نجد هذا المقابل ، الذي يستدعيه سياق النظم فى ظاهره ..
فإذا أمعنا النظر قليلا ، نجد أن النفس تضمّ فى كيانها شيئين متقابلين ، هما : الفجور والتقوى ، أو إن شئت فقل ، الشمس والقمر ، أو النهار والليل ، أو السماء والأرض ..
ففى كيان النفس ، نور وظلام ، ونهار وليل ، وعلوّ وسفل.
فإذا تعمقنا النظر ، وجدنا الشمس تمثل العقل ، والقمر يمثل الضمير ، الذي تستضىء بصيرته من العقل ، كما يستمد القمر نوره من الشمس .. وللعقل شروق وغروب. فإذا اتجه إلى الحق أسفر عن وجهه وكان نهارا مبصرا ، يتحرك الإنسان فيه على هدى وبصيرة .. وإذا اتجه إلى الباطل غربت شمسه ، وأطبق ليله ، وعمّيت على صاحبه السبل ، ودرست معالمها ..
ثم إذا أخذ الإنسان طريق الحق اتجه صعدا نحو معالم النور ، فكان أقرب إلى عالم السماء منه إلى عالم الأرض .. أما إذا ركب مركب الضلال ، فإنه يهبط منحدرا حتى تغوص أقدامه فى التراب ، وقد يتدلّى حتى يكون حشرة من حشرات الأرض ، أو دودة من ديدانها ..
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 139)(1/640)
وننظر فى أجزاء هذه الصورة التي رسمتها الآيات القرآنية للإنسان من داخل نفسه كما تحدثت عنها آيات الكتاب الكريم ..
« وَالشَّمْسِ وَضُحاها »..الواو هنا للقسم ، وما بعدها من واوات هى حرف عطف ، تعطف هذه الأقسام بعضها على بعض ..هكذا يكون الإنسان حين مولده .. إنه أشبه بالشمس فى إشراقه ووضاءته ..
إنه الإنسان فى أحسن تقويم ، كما خلقه الخالق جل وعلا ، قبل أن تنعقد فى سمائه سحب الضلالات ، وتهبّ عليه أعاصير الحياة محملة بالغثاء والتراب.
«وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها .. » هو الإنسان الذي خيمت عليه موروثات الآباء والأجداد فى بيئة الكفر والضلال ، فلعبت بعقله ، وحجبت شمس فكره ، ثم بقي معه بعد ذلك شىء من شعاع العقل ، يجده مندسّا فى ضميره ، مختزنا فى فطرته .. فيقف فى مفترق الطريق بين الهدى والضلال ، بين أن يرجع إلى عقله ، ويحتكم إلى رأيه ، أو ينساق مع هواه ، ويتّبع ما كان عليه آباؤه « وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها ».. فإذا غلب الرأى على الهوى ، وأخذ الإنسان طريق الحق ، عاد إلى العقل سلطانه ، وتجلت فى الإنسان آيات شمسة ، فأضاءت كل شىء حوله ..
« وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها »..وأما إذا غلب الهوى على الرأى ، وأخذ الإنسان طريق الباطل ، فقد غربت شمس العقل ، وعميت بصيرة الإنسان ، واشتمل عليه ليل دامس ، لا نجم فى سمائه ولا قمر ..
« وَالسَّماءِ وَما بَناها » والإنسان الذي أمسك بعقله ، واستجاب لسلطانه ، هو ـ كما قلنا ـ إلى عالم السماء أقرب منه إلى عالم الأرض .. إنه الإنسان الذي خلقه اللّه فى أحسن تقويم ..
« وَالْأَرْضِ وَما طَحاها » هو الإنسان الذي زهد فى عقله ، وأسلم زمامه لهواه ، فكان بعضا من هذه الأرض ..
إنه الإنسان الذي ردّه اللّه أسفل سافلين ..
« وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها » هى النفس الإنسانية على إطلاقها .. إنها مستعدة الهدى والضلال ، فاردة قلاعها إلى جهتى الخير والشر .. هكذا صاغها الخالق جل وعلا ، من النور والظلام ، من نفحات السماء ، ومن تراب الأرض. « فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها » أي آتاها اللّه سبحانه وتعالى القدرة على الاتجاه نحو اليمين أو الشمال ، نحو الخير أو الشر ، نحو الإيمان أو الكفر .. هكذا يرى الإنسان القدرة من نفسه على التحرك فى هذين الاتجاهين ..(1/641)
«قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ». . هو الواقع عليه هذه الأقسام ، فهو جوابها .. إن السعيد من الناس ، من زكّى نفسه وطهرها فحلصها من تراب الأرض ، وأطلق روحه من أسر المادة ، فحلّقت به فى عالم الحق والنور.
وإن الشقي من دسّى نفسه ، أي أخفاها ، وغطّى عليها بكثافة المادة وظلامها ، وعاش حبيسا داخل هذه القوقعة التي نسجها حول نفسه ، لا يرى ، ولا يسمع ، ولا يتحرك.
و« ما » فى قوله تعالى : « وَالسَّماءِ (وَ ما) بَناها ، وَالْأَرْضِ (وَ ما) طَحاها وَنَفْسٍ (وَ ما) سَوَّاها » هى « ما » المصدرية ، أي والشمس ، وبنائها ، والأرض وبسطها ، والنفس وتسوية خلقها ..
فقوله تعالى : « وَما بَناها » أي وما بنى السماء ، وأقامها من غير عمد .. وهو ما أودع اللّه سبحانه وتعالى فيها من قوى ممسكة بها ، ضابطة لنظامها ، حافظة لوجودها ..
وقوله تعالى : « وَما طَحاها » أي وما طحا الأرض ، أي بسطها ، وأمسك بها أن تميد .. وهو النظام الذي يمسك كيانها ويحفظ وجودها ..
وقوله تعالى : « وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها » أي وما سوى خلقها ، وأمدها بالقوى العالمة فيها ..
فالقسم هنا ، قسم بالشيء ، والصفة التي قام عليها .. وهذا يعنى مزيدا من التشريف والتكريم للشىء المقسم به إذ كان فى ذاته أهلا للقسم ، ثم كانت صفاته أهلا للقسم أيضا. (1)
يقسم الله سبحانه بهذه الخلائق والمشاهد الكونية ، كما يقسم بالنفس وتسويتها وإلهامها . ومن شأن هذا القسم أن يخلع على هذه الخلائق قيمة كبرى؛ وأن يوجه إليها القلوب تتملاها ، وتتدبر ماذا لها من قيمة وماذا بها من دلالة ، حتى استحقت أن يقسم بها الجليل العظيم .
ومشاهد الكون وظواهره إطلاقاً بينها وبين القلب الإنساني لغة سرية! متعارف عليها في صميم الفطرة وأغوار المشاعر . وبينها وبين الروح الإنساني تجاوب ومناجاة بغير نبرة ولا صوت ، وهي تنطق للقلب ، وتوحي للروح ، وتنبض بالحياة المأنوسة للكيان الإنساني الحي ، حيثما التقى بها وهو مقبل عليها ، متطلع عندها إلى الأنس والمناجاة والتجاوب والإيحاء .
ومن ثم يكثر القرآن من توجيه القلب إلى مشاهد الكون بشتى الأساليب ، في شتى المواضع . تارة بالتوجيهات المباشرة ، وتارة باللمسات الجانبية كهذا القسم بتلك الخلائق والمشاهد ، ووضعها إطاراً لما يليها من الحقائق . وفي هذا الجزء بالذات لاحظنا كثرة هذه التوجيهات واللمسات كثرة ظاهرة . فلا تكاد سورة واحدة تخلو من إيقاظ القلب لينطلق إلى هذا الكون ،
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1582)(1/642)
يطلب عنده التجاوب والإيحاء . ويتلقى عنه بلغة السر المتبادل ما ينطق به من دلائل وما يبثه من مناجاة!
وهنا نجد القسم الموحي بالشمس وضحاها . . بالشمس عامة وحين تضحى وترتفع عن الأفق بصفة خاصة . وهي أروق ما تكون في هذه الفترة وأحلى . في الشتاء يكون وقت الدفء المستحب الناعش . وفي الصيف يكون وقت الإشراق الرائق قبل وقدة الظهيرة وقيظها . فالشمس في الضحى في أروق أوقاتها وأصفاها . وقد ورد أن المقصود بالضحى هو النهار كله ، ولكنا لا نرى ضرورة للعدول عن المعنى القريب للضحى . وهو ذو دلالة خاصة كما رأينا .
وبالقمر إذا تلاها . . إذا تلا الشمس بنوره اللطيف الشفيف الرائق الصافي . . وبين القمر والقلب البشري ود قديم موغل في السرائر والأعماق ، غائر في شعاب الضمير ، يترقرق ويستيقظ كلما التقى به القلب في أية حال .
وللقمر همسات وإيحاءات للقلب ، وسبحات وتسبيحات للخالق ، يكاد يسمعها القلب الشاعر في نور القمر المنساب . . وإن القلب ليشعر أحياناً أنه يسبح في فيض النور الغامر في الليلة القمراء ، ويغسل أدرانه ، ويرتوي ، ويعانق هذا النور الحبيب ويستروح فيه روح الله .
ويقسم بالنهار إذا جلاها . . مما يوحي بأن المقصود بالضحى هو الفترة الخاصة لا كل النهار . والضمير في { جلاها } . . الظاهر أن يعود إلى الشمس المذكورة في السياق . . ولكن الإيحاء القرآني يشي بأنه ضمير هذه البسيطة . وللأسلوب القرآني إيحاءات جانبية كهذه مضمرة في السياق لأنها معهودة في الحس البشري ، يستدعيها التعبير استدعاء خفياً . فالنهار يجلي البسيطة ويكشفها . وللنهار في حياة الإنسان آثاره التي يعلمها . وقد ينسى الإنسان بطول التكرار جمال النهار وأثره . فهذه اللمسة السريعة في مثل هذا السياق توقظه وتبعثه للتأمل في هذه الظاهرة الكبرى .
ومثله : { والليل إذا يغشاها } . . والتغشية هي مقابل التجلية . والليل غشاء يضم كل شيء ويخفيه . وهو مشهد له في النفس وقع . وله في حياة الإنسان أثر كالنهار سواء .
ثم يقسم بالسماء وبنائها : { والسماء وما بناها } . . { وما } هنا مصدرية . ولفظ السماء حين يذكر يسبق إلى الذهن هذا الذي نراه فوقنا كالقبة حيثما اتجهنا ، تتناثر فيه النجوم والكواكب السابحة في أفلاكها ومداراتها . فأما حقيقة السماء فلا ندريها . وهذا الذي نراه فوقنا متماسكاً لا يختل ولا يضطرب تتحقق فيه صفة البناء بثباته وتماسكه . أما كيف هو مبني ، وما الذي يمسك أجزاءه فلا تتناثر وهو سابح في الفضاء الذي لا نعرف له أولاً ولا آخراً . . فذلك ما لا ندريه . وكل ما قيل عنه مجرد نظريات قابلة للنقض والتعديل . ولا قرار لها ولا ثبات . . إنما(1/643)
نوقن من وراء كل شيء أن يد الله هي تمسك هذا البناء : { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا . ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده } وهذا هو العلم المستيقن الوحيد!
كذلك يقسم بالأرض وطحوِها : { والأرض وما طحاها } . . والطحو كالدحو : البسط والتمهيد للحياة . وهي حقيقة قائمة تتوقف على وجودها حياة الجنس البشري وسائر الأجناس الحية . وهذه الخصائص والموافقات التي جعلتها يد الله في هذه الأرض هي التي سمحت بالحياة فيها وفق تقديره وتدبيره . وحسب الظاهر لنا أنه لو اختلت إحداها ما أمكن أن تنشأ الحياة ولا أن تسير في هذا الطريق الذي سارت فيه . . وطحو الأرض أو دحوها كما قال في الآية الأخرى : { والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها } وهو أكبر هذه الخصائص والموافقات . ويد الله وحدها هي التي تولت هذا الأمر . فحين يذكر هنا بطحو الأرض ، فإنما يذكر بهذه اليد التي وراءه . ويلمس القلب البشري هذه اللمسة للتدبر والذكرى .
ثم تجيء الحقيقة الكبرى عن النفس البشرية في سياق هذا القسم ، مرتبطة بالكون ومشاهده وظواهره . وهي إحدى الآيات الكبرى في هذا الوجود المترابط المتناسق : { ونفس وما سواها . فألهما فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها . وقد خاب من دساها } . .
وهذه الآيات الأربع ، بالإضافة إلى آية سورة البلد السابقة : { وهديناه النجدين } وآية سورة الإنسان : { إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً } تمثل قاعدة النظرية النفسية للإسلام . . وهي مرتبطة ومكملة للآيات التي تشير إلى ازدواج طبيعة الإنسان ، كقوله تعالى في سورة « ص » : { إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين . فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } كما أنها مرتبطة ومكملة للآيات التي تقرر التعبة الفردية : كقوله تعالى في سورة المدثر : { كل نفس بما كسبت رهينة } والآيات التي تقرر أن الله يرتب تصرفه بالإنسان على واقع هذا الإنسان ، كقوله تعالى في سورة الرعد : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ومن خلال هذه الآيات وأمثالها تبرز لنا نظرة الإسلام إلى الإنسان بكل معالمها . .
إن هذا الكائن مخلوق مزدوج الطبيعة ، مزدوج الاستعداد ، مزدوج الاتجاه ونعني بكلمة مزدوج على وجه التحديد أنه بطبيعة تكوينه ( من طين الأرض ومن نفخة الله فيه من روحه ) مزود باستعدادات متساوية للخير والشر ، والهدى والضلال . فهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شر . كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر سواء . وأن هذه القدرة كامنة في كيانه ، يعبرعنها القرآن بالإلهام تارة : { ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها } . . ويعبر عنها بالهداية تارة : { فهديناه النجدين } فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد . . والرسالات والتوجيهات والعوامل الخارجية إنما توقظ هذه الاستعدادات وتشحذها وتوجهها هنا أو هناك . ولكنها لا تخلقها خلقاً . لأنها مخلوقة فطرة ، وكائنة طبعاً ، وكامنة إلهاماً .(1/644)
وهناك إلى جانب هذه الاستعدادات الفطرية الكامنة قوة واعية مدركة موجهة في ذات الإنسان . هي التي تناط بها التبعة . فمن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها وتنمية استعداد الخير فيها ، وتغليبه على استعداد الشر . . فقد أفلح . ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها فقد خاب : { قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } . .
وهنالك إذن تبعة مترتبة على منح الإنسان هذه القوة الواعية القادرة على الاختيار والتوجيه . توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير وفي حقل الشر سواء . فهي حرية تقابلها تبعة ، وقدرة يقابلها تكليف ، ومنحة يقابلها واجب . .
ورحمة من الله بالإنسان لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي ، ولا للقوة الواعية المالكة للتصرف ، فأعانه بالرسالات التي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة ، وتكشف له عن موحيات الإيمان ، ودلائل الهدى في نفسه وفي الآفاق من حوله ، وتجلو عنه غواشي الهوى فيبصر الحق في صورته الصحيحة . . وبذلك يتضح له الطريق وضوحاً كاشفاً لا غبش فيه ولا شبهة فتتصرف القوة الواعية حينئذ عن بصيرة وإدراك لحقيقة الاتجاه الذي تختاره وتسير فيه .
وهذه في جملتها هي مشيئة الله بالإنسان . وكل ما يتم في دائرتها فهو محقق لمشيئة الله وقدره العام .
هذه النظرة المجملة إلى أقصى حد تنبثق منها جملة حقائق ذات قيمة في التوجيه التربوي : فهي أولاً ترتفع بقيمة هذا الكائن الإنساني ، حين تجعله أهلاً لاحتمال تبعة اتجاهه ، وتمنحه حرية الاختيار ( في إطار المشيئة الإلهية التي شاءت له هذه الحرية فيما يختار ) فالحرية والتبعة يضعان هذا الكائن في مكان كريم ، ويقرران له في هذا الوجود منزلة عالية تليق بالخليقة التي نفخ الله فيها من روحه وسواها بيده ، وفضلها على كثير من العالمين .
وهي ثانياً تلقي على هذا الكائن تبعة مصيره ، وتجعل أمره بين يديه ( في إطار المشيئة الكبرى كما أسلفنا ) فتثير في حسه كل مشاعر اليقظة والتحرج والتقوى . وهو يعلم أن قدر الله فيه يتحقق من خلال تصرفه هو بنفسه : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } وهي تبعة ثقيلة لا يغفل صاحبها ولا يغفو!
وهي ثالثاً تشعر هذا الإنسان بالحاجة الدائمة للرجوع إلى الموازين الإلهية الثابتة ، ليظل على يقين أن هواه لم يخدعه ، ولم يضلله ، كي لا يقوده الهوى إلى المهلكة ، ولا يحق عليه قدر الله فيمن يجعل إلهه هواه . وبذلك يظل قريباً من الله ، يهتدي بهديه ، ويستضيء بالنور الذي أمده به في متاهات الطريق!(1/645)
ومن ثم فلا نهاية لما يملك هذا الإنسان أن يصل إليه من تزكية النفس وتطهيرها ، وهو يغتسل في نور الله الفائض ، ويتطهر في هذا العباب الذي يتدفق حوله من ينابيع الوجود . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- بيان مظاهر القدرة الإِلهية في الآيات التي أقسم بها الرب تعالى ، فقد أقسم اللَّه تعالى بسبعة أشياء : لقد أفلح وفاز من زكى نفسه بالطاعة ، وخسرت نفس أهملها صاحبها وتركها تنغمس في المعصية.
والأشياء السبعة : هي الشمس وضوؤها وإشراقها ، وهو قسم ثان ، والقمر إذا تبع بالطلوع الشمس بعد غروبها ، فاستوى واستدار ، وكان مثلها في الضياء والنور ، والنهار إذا جلّى أو كشف الشمس ، أي أبان بضوئه جرمها ، والليل إذا يغشى الشمس ، أي يذهب بضوئها عند غروبها ، والسماء وبنيانها وبانيها وهو اللَّه ، والأرض ومن طحاها أي بسطها ، والنفس الإنسانية وتسويتها ومن سوّاها وهو اللَّه عز وجل ، بأن عدّلها وزوّدها بالأعضاء المتناسبة ، وبالقوى العضلية والفكرية والحسية ، وعرّفها طريق الفجور والتقوى ، وسلوك سبيل الخير والشر ، والطاعة والمعصية.
وقد أقسم اللَّه عز وجل بهذه المخلوقات لما فيها من عجائب الصنعة الدالة عليه ، وأراد أن ينبه عباده دائما بأن يذكر في القسم أنواع مخلوقاته المتضمنة للمنافع العظيمة ، حتى يتأمل المكلف فيها ، ويشكر عليها لأن الذي يقسم اللَّه تعالى به يحصل له وقع في القلب ، فتكون الدواعي إلى تأمله أقوى (2)
2- بيان بما يكون به الفلاح ، وما يكون به الخسران .
3- الترغيب في الإِيمان والعمل الصالح والترهيب من الشرك والمعاصي
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3915)
(2) - تفسير الرازي : 31/ 188(1/646)
العظة بقصة ثمود
قال تعالى :
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
المناسبة :
بعد الحلف بأشياء عظيمة على فوز من زكّى نفسه وهذبها وطهرها من الذنوب ، وخيبة وخسار من أهملها وتركها تعيث في الأرض فسادا بفعل المعاصي ، وترك فعل الخير ، وعظهم اللَّه تعالى بقصة ثمود ، لقربها من ديار العرب ، ليحذروا معاندة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبه ، وإلا حلّ بهم ما حلّ بأمثالهم من الأمم السابقة.
المفردات :
11 ... بِطَغْوَاهَا ... بطغيانها وعدوانها
12 ... انْبَعَثَ أَشْقَاهَا ... قام مسرعا يعقر الناقة وهو قُدار بن سالف
13 ... نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا ... احذروا قتلها ونصيبها من الماء
14 ... فَدَمْدَمَ عَلَيهِمْ ... أطبق عليهم العذاب فأهلكهم
14 ... فَسَوَّاهَا ... سَّوى عليهم العذاب فلم يفلت منهم أحد
15 ... وَلا يَخَاُف عُقْبَاهَا ... ولا يخاف الرب تبعة إهلاكهم
المعنى الإجمالي:
جرت عادة القرآن أن يذكر بعض أخبار الأمم السابقة وما كان منهم مع رسلهم وما قابلوه به من التكذيب والإيذاء ، ثم يذكر ما جرت به سنته سبحانه من الإيقاع بالمكذبين ، وأخذهم بظلمهم وبما عملوا مع أنبيائهم ، ليكون فى ذلك سلوة للرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه لم يلق إلا ما لقى إخوانه الأنبياء ، ولم يكابد من قومه إلا مثل ما كابدوا ، وليكون فى ذلك تخويف لأولئك المكذبين الذين يعاندون رسول اللّه ويلحفون فى تكذيبه ، بأنهم إذا استمروا على ذلك حاق بهم مثل ما حاق بالأمم السالفة ونالوا من الجزاء مثل ما نالوا. (1)
أقسم اللّه بذلك كله والمقسم عليه محذوف لتذهب فيه النفس إلى كل مذهب ، وتقديره : لتبعثن ، أو ليحاسبن المسيء على إساءته ، والمحسن على إحسانه ، وربما كان هذا هو الظاهر والدليل عليه هو ذكر قصة ثمود هنا ، وقيل : إن الجواب (قد أفلح من زكاها) واللام حذفت منه ، وقصة ثمود مع نبيهم صالح ذكرت قبل هذا.
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 170)(1/647)
كذبت ثمود بسبب طغيانهم حين انبعث أشقاهم الذي عقر الناقة ، فقال لهم رسول اللّه صالح : احذروا ناقة اللّه وسقياها ، وأطبق عليهم العذاب ، ولم يترك منهم أحدا لأنهم رضوا عن فعل صاحبهم ، واللّه لا يخاف عاقبة ما فعل بهم ، لأنه عادل في حكمه وقوى قادر في عمله. (1)
التفسير والبيان :
يخبر اللَّه تعالى عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم صالحا عليه السلام ، بسبب ما كانوا عليه من الطغيان والبغي ، فيقول : كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها ، إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها أي كذبت قبيلة ثمود نبيها صالحا عليه السلام بسبب طغيانها وبغيها ، فإنه الذي حملها على التكذيب.
والطغيان : مجاوزة الحد في المعاصي.
وذلك حين قام أشقى ثمود ، وهو قدار بن سالف ، أحيمر ثمود ، فعقر الناقة ، بتحريض قومه ورضاهم بما يفعل ، فكان عقرها دليلا على تكذيبهم جميعا لنبيهم ، وبرهانا على صدق رسالته إذ حلّ بهم العذاب الذي أوعدهم به.
ونظير الآية : فَنادَوْا صاحِبَهُمْ ، فَتَعاطى فَعَقَرَ [القمر 54/ 29]. وكان أشقى ثمود عزيزا فيهم ، شريفا في قومه ، نسيبا رئيسا مطاعا ، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ وَهُوَ يَذْكُرُ النَّاقَةَ ، وَمَنْ عَقَرَهَا ، فَقَالَ : {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس] انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَارِمٌ عَزِيزٌ مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ ، مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ , ثُمَّ ذَكَرَ النِّسَاءَ ، فَقَالَ : أَلاَ لِمَ يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ، وَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُهَا فِي آخِرِ يَوْمِهِ ؟ , ثُمَّ وَعَظَهُمْ فِي الضَّحِكِ مِنَ الضَّرْطَةِ ، فَقَالَ : أَلاَ لِمَ يَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ ؟. (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا، يَذْكُرُ النَّاقَةَ وَالَّذِي عَقَرَهَا، فَقَالَ : "إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَارِمٌ عَزِيزٌ مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ، مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ". (3)
ثم يذكر اللَّه تعالى ما توعدهم به رسولهم على فعلهم ، فيقول : « فقال لهم رسول اللَّه : ناقة اللَّه ، وسقياها » أي فقال لهم أي للجماعة الأشقياء النبي صالح عليه السلام : ذروا ناقة اللَّه واحذروا التعرض لها أو أن تمسوها بسوء ، واتركوها وتناولها شربها من الماء المخصص لها ، فإن لها شرب يوم ، ولكم شرب يوم معلوم ، ولا تتعرضوا لها يوم شربها.
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها أي فكذبوه في تحذيره إياهم من العذاب ، ولم يبالوا بما أنذرهم به من العقاب ، فعقر الأشقى الناقة ، وجميع قومه رضوا بما فعل. أو كذبوه فيما جاءهم به ، فأعقبهم ذلك أن عقروا الناقة التي أخرجها اللَّه لهم من الصخرة آية لهم وحجة عليهم.
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 869)
(2) - صحيح ابن حبان - (13 / 111) (5794) صحيح
(3) - تفسير ابن أبي حاتم - (6 / 99) (8705) صحيح(1/648)
ثم يبين ما عوقبوا به ، فيقول : فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ ، فَسَوَّاها ، وَلا يَخافُ عُقْباها أي فأطبق عليهم العذاب وأهلكهم ، وغضب عليهم فدمر عليهم ، فسوّى الدمدمة عليهم ، وعمّهم بها ، أي فجعل العقوبة نازلة عليهم على السواء ، فاستوت على صغيرهم وكبيرهم. قال قتادة : بلغنا أن أحيمر ثمود لم يعقر الناقة حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم ، وذكرهم وأنثاهم ، فلما اشترك القوم في عقرها ، دمدم اللَّه عليهم بذنبهم ، فسواها.
وقد فعل اللَّه ذلك بهم ، وأهلكهم ، غير خائف هذا الأشقى من عاقبة ولا تبعة ، أي فإنه تجرأ على عقر الناقة دون أن يخاف الذي عقرها عاقبة إهلاك قومه ، وعاقبة ما صنع ، والمراد بذلك أنه أقدم على عقرها ، وهو كالآمن من نزول الهلاك به وبقومه.
وقال ابن عباس : لا يخاف اللَّه من أحد تبعة. قال ابن كثير : وهذا القول أولى لدلالة السياق عليه. وقال أبو حيان : الظاهر عود الضمير إلى أقرب مذكور ، وهو رَبُّهُمْ أي لا درك عليه تعالى في فعله بهم ، لا يسأل عما يفعل ، قال ابن عباس والحسن ، وفيه ذم لهم وتعقبة لآثارهم. والمراد أن اللَّه لا يخاف عاقبة ما فعل بهم لأنه عادل في حكمه. وقال الزمخشري : ولا يخاف اللَّه عاقبتها وتبعتها ، كما يخاف كل معاقب من الملوك ، فيبقي بعض الإبقاء. ويجوز أن يكون الضمير لثمود ، على معنى : فسوّاها بالأرض أو في الهلاك ، ولا يخاف عقبى هلاكها.
وعَنْ قَتَادَةَ،"أَنَّ ثَمُودَاً، لَمَّا عَقَرُوا النَّاقَةَ، تَغَامَزُوا وَقَالُوا : عَلَيْكُمُ الْفَصِيلُ، فَصَعِدَ الْفَصِيلُ الْقَارَةَ جَبَلاً، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمًا اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَقَالَ : يَا رَبِّ أُمِّي، يَا رَبِّ أُمِّي، يَا رَبِّ أُمِّي، فَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الصَّيْحَةُ عِنْدَ ذَلِكَ". (1)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ : "فَانْطَلَقُوا، فَرَصَدُوا النَّاقَةَ حَتَّى صَدَرَتْ عَنِ الْمَاءِ، وَقَدْ كَمَنَ لَهَا قِدَارٌ فِي أَصْلِ الصَّخْرَةِ عَلَى طَرِيقِهَا، وَكَمَنَ لَهَا مِصْدَعٌ فِي أَصْلِ أُخْرَى، فَمَرَّتْ عَلَى مِصْدَعٍ، فَرَمَاهَا بِسَهْمٍ، فَانْتَظَمَ بِهِ عَضَلَةَ سَاقِهَا، قَالَ : فَشَدَّ يَعْنِي قِدَارٌ عَلَى النَّاقَةِ بِالسَّيْفِ، فَكَشَفَ عُرْقُوبَهَا، فَخَرَّتْ وَرَغَتْ رُغَاةً وَاحِدًا تُحَذِّرُ سُقْبَهَا، ثُمَّ طَعَنَ فِي لَبَّتِهَا فَنَحَرَهَا، وَانْطَلَقَ سُقْبُهَا حَتَّى أَتَى جَبَلاً مَنِيعًا، ثُمَّ أَتَى صَخْرَةً فِي رَأْسِ الْجَبَلِ، فَرَغَا ثُمَّ لاذَ بِهَا، فَأَتَاهُمْ صَالِحٌ : فَلَمَّا رَأَى النَّاقَةَ قَدْ عُقِرَتْ بَكَى، ثُمَّ قَالَ : انْتَهَكْتُمْ حُرْمَةَ اللَّهِ، فَأَبْشِرُوا بِعَذَابِ اللَّهِ وَنِقْمَتِهِ". (2)
ومضات :
الناقة المذكورة قد وصفت بناقة اللّه وهذا يعني أنها معجزة ربانية ظهرت على يد نبي ثمود جوابا على تحديهم. وقد تكرر ذكرها في مواضع عديدة من القرآن المكي. والمفسرون يذكرون استنادا إلى الروايات أن الناقة خرجت من بطن صخرة ، كما يذكرون بيانات كثيرة عن جسمها
__________
(1) - تفسير ابن أبي حاتم - (6 / 100) (8706) صحيح مرسل
(2) - تفسير ابن أبي حاتم - (6 / 100) (8707)(1/649)
وكيفية شربها وحلبها ومقامها ورغائها والمؤامرة على عقرها ونهاية أمرها وعن تدمير مساكن ثمود وإبادة أهلها . غير أن كل ما جاء في القرآن عنها أنها آية من آيات اللّه وأن نبي ثمود وهو صالح عليه السلام اشترط عليهم أن يتحاموها ويمكنوها من نصيبها من الشراب وأن يجعلوا لشرابها يوما خاصا فلم يوفوا بشرطهم ثم عقروها وأصروا على الكفر والعناد فأخذتهم الرجفة ودمرت منازلهم وحلّ عليهم عذاب اللّه ونقمته كما جاء في قصة ثمود في سور الأعراف وهود والشعراء والنمل. والذي نراه إزاء الناقة وغيرها من معجزات اللّه التي أظهرها اللّه على يد رسله والمحكية في القرآن ، والتي هي في نطاق قدرة اللّه عز وجل ، هو الإيمان بما جاء في القرآن عنها والوقوف عند ذلك دون تزيد ولا تخمين ، والتحفظ إزاء ما توسع فيه الرواة توسعا جلّه غير قائم على أساس وثيق. والمرجح إن لم نقل المحقق أن أخبار ثمود وناقتهم على الوجه الذي ورد في القرآن أو ما يقاربه مما كان متداولا عند العرب قبل الإسلام ... وفي آية سورة العنكبوت هذه : وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) دليل على ذلك فجاء ذكرهم بسبيل التذكير والإنذار بعاقبة مثل عاقبتهم لمن يطغى ويتمرد على اللّه ودعوته ، على ما هو ظاهر في أسلوب الآيات هنا وفي كل مكان آخر وردت فيه القصة. ولعل ما أورده المفسرون استنادا إلى الروايات قد يكون دليلا على ذلك التداول. ويضاف إلى هذا وهو بسبيل ذلك أيضا أن في مساكن ثمود التي تعرف اليوم بمداين صالح أطلالا مدمرة وأن عرب الحجاز كانوا يمرون بها في طريقهم إلى بلاد الشام.
هذا ، وليس في السورة إشارة إلى موقف تكذيب معين أو موقف حجاج ولجاج. وهي عرض لأهداف الدعوة عرضا عاما وإنذار للناس بعاقبة كعاقبة قوم ثمود التي يعرفونها إذا طغوا وتمردوا على اللّه بصورة عامة ، ولذلك نرجح أنها من أوائل ما نزل من القرآن ، وتصح أن تسلك في سلك القسم الذي كانت تعنيه تسمية القرآن كالفاتحة والأعلى والليل واللّه أعلم. (1)
وقوله تعالى : « كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها ».هو عرض للمواجهة الضالة التي اتجه إليها أهل الضلال ، مؤثرين إياها على طريق الحق والهدى .. إنهم لم يزكّوا أنفسهم ، ولم يرتفعوا بالجانب الطيب المشرق منها ، بل آثروا جانب الفجور ، وأفردوا قلوع سفينتهم فى اتجاه ريحه العاصفة.
«ثمود » ، هم قوم صالح عليه السلام ، دعاهم نبيهم إلى الإيمان باللّه فبهتوه ، وكذبوه .. « قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 141)(1/650)
تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ » (62 : هود) وقد توعدهم نبيهم بالعذاب ، وأنذرهم به ، ووضع بين أيديهم آية من آيات اللّه ، هى الناقة ، وجعل وقوع العذاب الذي أنذروا به رهنا بأن يتعرضوا لتلك الناقة بسوء : « وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ ، فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ » (64 ـ 65 هود) وقوله تعالى : « بطغواها » أي بسيب طغواها ، أي بطغيانها ، ومجاوزتها الحد فى العدوان على حرمات اللّه ـ كان تكذيبها برسول اللّه وبآيات اللّه ..
وقوله تعالى : « إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها » أي ولقد بلغت ثمود غاية الطغيان والعدوان ، حين « انبعث أشقاها » أي اندفع هذا الشقي من أبنائها فى جنون صارخ ، نحو الناقة ، يريد عقرها ، فلم يقف فى طريقه أحد ، ولم ينصح له ناصح ، بل تركوه يمضى إلى حيث سوّلت له نفسه ، عقر الناقة ، فعقرها ، فعمهم البلاء ، جميعا ، وكان صاحبهم هذا أشقى هؤلاء الأشقياء الذين تركوه ، ولم يأخذوا على يده ..
قوله تعالى : « فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها » أي حين رأى صالح ما يريد هذا الشقي بالناقة من سوء ، حذّر القوم من أن يرتكبوا هذه الحماقة المهلكة .. فقال لهم : « ناقة اللّه » أي احذروا ناقة اللّه ، وإياكم أن تمسوها بسوء ، أو تعرضوا لها يوم شربها ، وأن تمنعوها السّقيا فى يومها المرسوم لها .. وقوله تعالى : «فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها »..
أي أنهم لم يستمعوا نصح صالح لهم ، ولم يصدقوا ما أنذرهم به ، ولم يأخذوا على يد هذا الشقي ، بل تركوه حتى عقر الناقة! وقوله تعالى : « فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ » أي أخذهم اللّه جميعا بالعذاب ، فلم يبق منهم باقية بسبب هذا الجرم الغليظ الذي كان منهم ..
والدمدمة : الإهلاك لجماعى ، الذي لا يبقى ولا يذر ..
وقوله تعالى : « فسواها » أي أطبق عليهم الأرض ، فلم يبق لهم ولا لديارهم أثر عليها ، بل سويت الدور بالأرض ، كأن لم يكن عليها شىء ..والضمير وهو « ها » فى قوله تعالى « فسواها » يعود إلى الأرض ، التي يشير إليها قوله تعالى : « فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ » لأن الدمدمة ، أي التسوية مما يفعل بالأرض ، لا بالناس.
وقوله تعالى : « وَلا يَخافُ عُقْباها »..أي أن اللّه سبحانه فعل بهم ما فعل ، واقتلعهم من الأرض اقتلاعا ، دون أن يحول بينه وبين ما فعل بهم حائل ، أو يحاسبه محاسب .. إنه فعل ذلك بعدله وقوته ، وسلطانه ، الذي لا معقب عليه ..
وذكر الخوف هنا تمثيل ، يراد منه الإشارة إلى هذا التدمير الشامل ، المتمكن ، فإن الذي يخاف عاقبة أمر لا تتسلط عليه يده تسلطا كاملا ، بل يحول بينه وبين تصرفه المطلق فيه ، خوف الحساب والجزاء ، ممن يحاسبه ويجازيه ..(1/651)
وتعالى اللّه سبحانه عن ذلك علوا كبيرا .. (1)
قال الشهاب : أي : لا يخاف عاقبتها كما يخاف الملوك عاقبة ما تفعله ؛ فهو استعارة تمثيلية لإهانتهم وأنهم أذلاء عند الله . فالضمير في { يَخَافُ } لله وهو الأظهر . ويجوز عوده للرسول - صلى الله عليه وسلم - أي : أنه لا يخاف عاقبة إنذاره لهم وهو على الحقيقة ، كما إذا قيل : الضمير للأشقى ، أي : أنه لا يخاف عاقبة فعله الشنيع . والواو الحال أو الاستئناف .
قال ابن القيم في " مفتاح دار السعادة " : المقصود أن الآية أوجبت لهم البصيرة فآثروا الضلالة والكفر عن علم ويقين ؛ ولهذا - والله أعلم - ذكر قصتهم من بين قصص سائر الأمم في سورة { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } لأنه ذكر فيها انقسام النفوس إلى الزكية الراشدة المهتدية وإلى الفاجرة الضالة الغاوية . وذكر فيها الأصلين : القدر والشرع . فقال : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [ الشمس : 8 ] ، فهذا قدره وقضاؤه ثم قال : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [ الشمس : 9 ] ، فهذا أمره ودينه . وثمود هداهم فاستحبوا العمى على الهدى . فذكر قصتهم ليبين سوء عاقبة من آثر الفجور على التقوى ، والتدسية على التزكية . والله أعلم . (2)
وقد وردت قصة ثمود ونبيها صالح عليه السلام في مواضع شتى من القرآن . وسبق الحديث عنها في كل موضع . وأقربها ما جاء في هذا الجزء في سورة « الفجر » فيرجع إلى تفصيلات القصة هناك .
فأما في هذا الموضع فهو يذكر أن ثمود بسبب من طغيانها كذبت نبيها ، فكان الطغيان وحده هو سبب التكذيب . وتمثل هذا الطغيان في انبعاث أشقاها . وهو الذي عقر الناقة . وهو أشدها شقاء وأكثرها تعاسة بما ارتكب من الإثم . وقد حذرهم رسول الله قبل الإقدام على الفعلة فقال لهم . احذروا أن تمسوا ناقة الله أو أن تمسوا الماء الذي جعل لها يوماً ولهم يوماً كما اشترط عليهم عند ما طلبوا منه آية فجعل الله هذه الناقة آية ولا بد أنه كان لها شأن خاص لا نخوض في تفصيلاته ، لأن الله لم يقل لنا عنه شيئاً فكذبوا النذير فعقروا الناقة .
والذي عقرها هو هذا الأشقى . ولكنهم جميعاً حملوا التبعة وعُدوا أنهم عقروها ، لأنهم لم يضربوا على يده ، بل استحسنوا فعلته . وهذا مبدأ من مبادئ الإسلام الرئيسية في التكافل في التبعة الاجتماعية في الحياة الدنيا . لا يتعارض مع التبعة الفردية في الجزاء الأخروي حيث لا تزر وازرة وزر أخرى . على أنه من الوزر إهمال التناصح والتكافل والحض على البر والأخذ على يد البغي والشر .
عندئذ تتحرك يد القدرة لتبطش البطشة الكبرى : { فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها } . .
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1586)
(2) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 236)(1/652)
والدمدمة الغضب وما يتبعه من تنكيل . واللفظ ذاته . . { دمدم } يوحي بما وراءه ، ويصور معناه بجرسه ، ويكاد يرسم مشهداً مروعاً مخيفاً! وقد سوى الله أرضهم عاليها بسافلها ، وهو المشهد الذي يرتسم بعد الدمار العنيف الشديد . .
{ ولا يخاف عقباها } . . سبحانه وتعالى . . ومن ذا يخاف؟ وماذا يخاف؟ وأنى يخاف؟ إنما يراد من هذا التعبير لازمه المفهوم منه . فالذي لا يخاف عاقبة ما يفعل ، يبلغ غاية البطش حين يبطش . وكذلك بطش الله كان : إن بطش ربك لشديد . فهو إيقاع يراد إيحاؤه وظله في النفوس . .
وهكذا ترتبط حقيقة النفس البشرية بحقائق هذا الوجود الكبيرة ، ومشاهدة الثابتة ، كما ترتبط بهذه وتلك سنة الله في أخذ المكذبين والطغاة ، في حدود التقدير الحكيم الذي يجعل لكل شيء أجلاً ، ولكل حادث موعداً ، ولكل أمر غاية ، ولكل قدر حكمة ، وهو رب النفس والكون والقدر جميعاً . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- بيان أن نجاة العبد من النار ودخوله الجنة متوقف على زكاة نفسه وتطهيرها من أوضار الذنوب والمعاصي ، وأن شقاء العبد وخسرانه سببه تدنيسه نفسه بالشرك والمعاصي وكل هذا من سنن الله تعالى في الأسباب والمسببات .
2- التحذير من الطغيان وهو الإِسراف في الشر والفساد فإِنه مهلك ومدمر وموجب للهلاك والدمار في الدنيا والعذاب في الآخرة .
3- تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتخفيف عنه إذ كذبت قبل قريش ثمود وغيرها من الأمم كأصحاب مدين وقوم لوط وفرعون .
4- انذرا كفار قريش عاقبة الشرك والتكذيب والمعاصي من الظلم والاعتداء .
5-هذا خبر قاطع من اللَّه العلي القدير ، أخبرنا به عن قبيلة ثمود التي تجاوزت الحد بطغيانها وهو خروجها عن الحد في العصيان. وذلك حين نهض أشقاها لعقر الناقة ، واسمه قدار بن سالف.
ولكنّ رسولهم صالحا عليه السلام حذرهم عاقبة فعلهم ، وقال لهم : احذروا عقر ناقة اللَّه ، وذروها ، كما قال : هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ، فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ، وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ ، فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [الأعراف 7/ 73] وذروها وشربها المخصص لها في يومها. فإنهم لما
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3919)(1/653)
اقترحوا الناقة ، وأخرجها اللَّه لهم من الصخرة ، جعل لهم شرب يوم من بئرهم ، ولها شرب يوم مكان ذلك ، فشقّ عليهم.
وكذبوا صالحا عليه السلام في قوله لهم : « إنكم تعذّبون إن عقرتموها » فعقرها الأشقى ، وأضيف العقر إلى الكل بقوله : فَعَقَرُوها لأنهم رضوا بفعله.
والجرم وهو العقر وتكذيب النبي يستدعيان بلا شك عقابا صارما ، فكان العقاب أن أهلكهم اللَّه ، وأطبق عليهم العذاب بذنبهم الذي هو الكفر والتكذيب.
والعقر ، وسوّى عليهم الأرض ، أو سوى الدمدمة والإهلاك عليهم لأن الصيحة أهلكتهم فأتت على صغيرهم وكبيرهم.و العبرة من ذلك أن اللَّه فعل بهم ما فعل غير خائف أن تلحقه تبعة الدمدمة من أحد ، كما قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد. وهاء عُقْباها ترجع إلى الفعلة. وقال السدّي والضحاك والكلبي : ترجع إلى العاقر ، أي لم يخف الذي عقرها عقبى ما صنع.
مقاصد هذه السورة
اشتملت هذه السورة على مقصدين :
(1) الإقسام بالمخلوقات العظيمة على أن من طهر نفسه بالأخلاق الفاضلة فقد أفلح وفاز ، وأن من أغواها ونقصها حقها بجهالته وفسوقه فقد خاب.
(2) ذكر ثمود مثلا لمن دسى نفسه فاستحق عقاب اللّه الذي هو له أهل. (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 172)(1/654)
سورة الليل
مكيّة ، وهي إحدى وعشرون آية
تسميتها :
سميت سورة الليل لافتتاحها بإقسام اللَّه تعالى بالليل إذا يغشى ، أي يغطي الكون بظلامه ، ويستر الشمس والنهار والأرض والوجود بحجابه.
قال ابن عاشور : " سميت هذه السورة في معظم المصاحف وبعض كتب التفسير سورة الليل بدون واو، وسميت في معظم كتب التفسير سورة والليل بإثبات الواو، وعنونها البخاري والترمذي سورة "والليل إذا يغشى".
وهي مكية في قول الجمهور، واقتصر عليه كثير من المفسرين، وحكى ابن عطية عن المهدوي أنه قيل: إنها مدنية، وقيل بعضها مدني، وكذلك ذكر الأقوال في الإتقان، وأشار إلى أن ذلك لما روي من سبب نزول قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل:5] إذ روي أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري في نخلة كان يأكل أيتام من ثمرها وكانت لرجل من المنافقين فمنعهم من ثمرها فاشتراها أبو الدحداح بنخيل فجعلها لهم وسيأتي.
وعدت التاسعة في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة الأعلى وقبل سورة الفجر.
وعدد آيها عشرون.
احتوت على بيان شرف المؤمنين وفضائل أعمالهم ومذمة المشركين ومساويهم وجزاء كل.
وأن الله يهدي الناس إلى الخير فهو يجزي المهتدين بخير الحياتين والضالين بعكس ذلك.
وأنه أرسل رسوله - صلى الله عليه وسلم - للتذكير بالله وما عنده فينتفع من يخشى فيفلح ويصدف عن الذكرى من كان شقيا فيكون جزاؤه النار الكبرى وأولئك هم الذين صدهم عن التذكر إيثار حب ما هم فيه في هذه الحياة.
وأدمج في ذلك الإشارة إلى دلائل قدرة الله تعالى وبديع صنعه (1)
مناسبتها لما قبلها :
ختمت سورة « الشمس » بهذا العذاب الذي أوقعه اللّه سبحانه بثمود ، فغشيهم العذاب واشتمل عليهم ، ولفّهم برداء أسود كئيب ..
وبدئت سورة « الليل » بالقسم بالليل إذا يغشى ، فكان ظلام هذا الليل كفنا آخر لثمود ، يصحبهم فى قبورهم التي ابتلعنهم ، ويقيم عليهم راية سوداء تحوّم عليهم ، كما تحوّم الغربان على الجيف!! (2)
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 333)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1589)(1/655)
وفي التفسير المنير :
"لما ذكر في سورة الشمس قبلها : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ذكر هنا من الأوصاف ما يحصل به الفلاح ، وما تحصل به الخيبة بقوله تعالى : فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى .. فهي كالتفصيل لما قبلها.
ولما كانت سورة الليل نازلة في بخيل ، افتتحت بالليل الذي هو ظلمة.
ما اشتملت عليه السورة :
في السورة تصنيف الناس حسب أعمالهم ، وتنويه بصالح العمل وأصحابه ، وتنديد بسيء العمل وأصحابه وإنذارهم. وفيها تنويه بمن يتزكّى بماله ، وتنديد بالبخل والمنع. وأسلوبها كسابقتها من حيث دلالته على احتوائها عرضا عاما للدعوة وعلى تبكير نزولها قبل غيرها الذي احتوى مشاهد ومواقف حجاجية وتكذيبية. وبين السورتين من التوافق في المبنى والأسلوب والجرس ما يلهم أنهما نزلتا متتابعتين. (1)
* سورة الليل مكية ، وهي تتحدث عن سعي الإنسان وعمله ، وعن كفاحه ونضاله في هذه الحياة ، ثم نهايته إلى النعيم أو إلى الجحيم.
* إبتدأت السورة الكريمة بالقسم بالليل إذا غشي الخليقة بظلامه ، وبالنهار إذا أنار الوجود بإشراقه وضيائه ، وبالخالق العظيم الذي أوجد النوعين الذكر والأنثى ، أقسم على أن عمل الخلائق مختلف ، وطريقهم متباين [ والليل إذا يغشى ، والنهار إذا تجلى ، وما خلق الذكر والأنثى ، إن سعيكم لشتى ] الآيات.
* ثم وضحت السورة سبيل السعادة ، وسبيل الشقاء ، ورسمت الخط البياني لطالب النجاة ، وبينت أوصاف الأبرار والفجار ، وأهل الجنة وأهل النار [ فأما من أعطى وإتقى ، وصدق بالحسنى ، فسنيسره لليسرى ، وأما من بخل واستغنى ، وكذب بالحسنى ، فسنيسره للعسرى ] الآيات.
* ثم نبهت إلى اغترار بعض الناس بأموالهم التي جمعوها ، وثرواتهم التي كدسوها ، وهي لا تنفعهم في يوم القيامة شيئا ، وذكرتهم بحكمة الله في توضيحه لعباده طريق الهداية وطريق الضلالة [ وما يغني عنه ماله إذا تردى ، إن علينا للهدى ، وإن لنا للآخرة والأولى ] الآيات .
* ثم حذرت أهل مكة من عذاب الله وانتقامه ، ممن كذب بآياته ورسله ، وأنذرهم من نار حامية ، تتوهج من شدة حرها ، لا يدخلها ولا يذوق سعيرها إلا الكافر الشقي ، المعرض عن هداية الله [ فأنذرتكم نارا تلظى ، لا يصلاها إلا الأشقى ، الذي كذب وتولى.
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 525)(1/656)
* وختمت السورة بذكر نموذج للمؤمن الصالح ، الذي ينفق ماله في وجوه الخير ، ليزكي نفسه ويصونها من عذاب الله ، وضربت المثل بأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، حين اشترى بلالا وأعتقه في سبيل الله [ وسيجنبها الأتقى ، الذي يؤتي ماله يتزكى ، وما لأحد عنده من نعمة تجزى ، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ، ولسوف يرضى ] . (1)
مقصودها الدلالة على مقصود الشمس ، وهو التصرف التام في النفوس بإثبات كمال القدرة بالاختيار باختلاف الناس في السعي مع اتحاد مقاصدهم ، وزهي الوصول إلى الملاذ من شهوة البطن والفرج وما يتبع ذكلك من الراحة ، واسمها الليل أوضح ما فيها على ذلك بتأمل القسم والجواب ، والوقوع من ذلك على الصواب ، وأيضا ليل نفسه دال على ذلك لأنه على غير مراد النفس بما فيه من الظلام والنوم الذي هو أخو الموت ، وذلك مانع عن أكثر المرادات ، ومقتضى لأكثر المضادات ) بسم الله ( الذي له العظمة الظاهرة والحكمة الباهرة ) الرحمن ( الذي شملت نعمته إيجاده وبيانه المتواترة ) الرحيم ( الذي خص من أراده بما يرضيه ، فجعله حامده وشاكره . (2)
في إطار من مشاهد الكون وطبيعة الإنسان تقرر السورة حقيقة العمل والجزاء . ولما كانت هذه الحقيقة منوعة المظاهر : { إن سعيكم لشتى . فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى . وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } . . وكانت العاقبة كذلك في الآخرة مختلفة وفق العمل والوجهة : { فأنذرتكم ناراً تلظى . لا يصلاها إلا الأشقى . الذي كذب وتولى . وسيجنبها الأتقى ، الذى يؤتي ماله يتزكى . . } .
لما كانت مظاهر هذه الحقيقة ذات لونين ، وذات اتجاهين . . كذلك كان الإطار المختار لها في مطلع السورة ذا لونين في الكون وفي النفس سواء : { والليل إذا يغشى . والنهار إذا تجلى } . . { وما خلق الذكر والأنثى } . . وهذا من بدائع التناسق في التعبير القرآني . (3)
فضلها :
قَالَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ : سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِىَّ يَقُولُ : أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ لَهُ وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ فَوَافَقَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يُصَلِّى الْمَغْرِبَ ، فَتَرَكَ نَاضِحَيْهِ وَأَقْبَلَ إِلَى مُعَاذٍ لَيُصَلِّىَ مَعَهُ ، فَقَرَأَ مُعَاذٌ الْبَقَرَةَ ، أَوِ النِّسَاءَ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ ، وَبَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذًا نَالَ مِنْهُ . فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَشَكَا إِلَيْهِ مُعَاذًا فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« أَفَاتِنٌ أَنْتَ أَوْ قَالَ أَفَتَّانٌ أَنْتَ ثَلاَثَ مِرَارٍ . فَلَوْلاَ صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 495)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 445)
(3) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3920)(1/657)
رَبِّكَ الأَعْلَى ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى فَإِنَّهُ يُصَلِّى وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ ، وَذُو الْحَاجَةِ وَالضَّعِيفُ » (1) . .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَؤُمُّ قَوْمَهُ فَدَخَلَ حَرَامٌ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَسْقِىَ نَخْلَهُ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ لِيُصَلِّىَ مَعَ الْقَوْمِ فَلَمَّا رَأَى مُعَاذًا طَوَّلَ تَجَوَّزَ فِى صَلاتِهِ، وَلَحِقَ بِنَخْلِهِ يَسْقِيهِ، فَلَمَّا قَضَى مُعَاذٌ الصَّلاةَ، قِيلَ لَهُ: إِنَّ حَرَامًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمَّا رَآكَ طَوَّلْتَ تَجَوَّزَ فِى صَلاَتِهِ وَلَحِقَ بِنَخْلِهِ يَسْقِيهِ، قَالَ: إِنَّهُ لَمُنَافِقٌ أَيَعْجَلُ عَنِ الصَّلاةِ مِنْ أَجْلِ سَقْىِ نَخْلِهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ حَرَامٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمُعَاذٌ عِنْدَهُ، فَقَالَ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ، إِنِّى أَرَدْتُ أَنْ أَسْقِىَ نَخْلاً لِى، فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ لأُصَلِّىَ مَعَ الْقَوْمِ، فَلَمَّا طَوَّلَ تَجَوَّزْتُ فِى صَلاتِى، وَلَحِقْتُ بِنَخْلِى أَسْقِيهِ، فَزَعَمَ أَنِّى مُنَافِقٌ، فَأَقْبَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مُعَاذٍ، فَقَالَ: "أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ لا تُطَوِّلْ بِهِمُ اقْرَأْ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَنَحْوِهِمَا. (2)
وعَنْ جَابِرٍ ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ الْعِشَاءَ ، فَطَوَّلَ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - " اقْرَأْ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ، وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ " (3)
وعَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : صَلَّى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ الْأَنْصَارِيُّ بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْعِشَاءِ ، فَطَوَّلَ عَلَيْهِمْ ، فَانْصَرَفَ رَجُلٌ مِنَّا فَصَلَّى ، فَأُخْبِرَ مُعَاذُ عَنْهُ ، فَقَالَ : إِنَّهُ مُنَافِقٌ ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ ، دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَخْبَرَهُ مَا قَالَ لَهُ مُعَاذٌ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " أَتُرِيدُ أَنْ تَكُونَ فَتَّانًا يَا مُعَاذٌ ؟ إِذَا صَلَّيْتَ بِالنَّاسِ ، فَاقْرَأْ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ، وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ " (4)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (3 / 116) (5477) صحيح
(2) - غاية المقصد فى زوائد المسند 1 - (1 / 241) (706) صحيح
(3) - سُنَنُ ابْنِ مَاجَهْ (840 ) صحيح
(4) - سُنَنُ ابْنِ مَاجَهْ (989 ) صحيح(1/658)
اختلاف مسعى الناس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
أسباب نزول الآية 5 فما بعدها فأما من أعطى :
عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قَالَ أَبُو قُحَافَةَ لِأَبِي بَكْرٍ : أَرَاكَ تُعْتَقُ رِقَابًا ضِعَافًا فَلَوْ أَنَّكَ إِذْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ أَعْتَقَتْ رِجَالًا جَلْدًا يَمْنَعُونَكَ وَيَقُومُونَ دُونَكَ . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : " يَا أَبَتِ إِنِّي إِنَّمَا أُرِيدُ مَا أُرِيدُ لِمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِيهِ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى " (1)
وعَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ قَالَ : قَالَ أَبُو قُحَافَةَ لِابْنِهِ أَبِي بَكْرٍ : يَا بُنَيَّ ، إِنِّي أَرَاكَ تُعْتِقُ رِقَابًا ضِعَافًا ، فَلَوْ أَنَّكَ إِذْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ أَعْتَقْتَ رِجَالًا جُلْدًا يَمْنَعُونَكَ وَيَقُومُونَ دُونَكَ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا أَبَتِ ، إِنِّي أُرِيدُ مَا أُرِيدُ ، قَالَ : فَيُتَحَدَّثُ مَا نَزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ إِلَّا فِيهِ ، وَفِيمَا قَالَ أَبُوهُ : فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ، وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ، إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ، وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى ، فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ، لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ، وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ، وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ، وَلَسَوْفَ يَرْضَى . (2)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ... أقسم الله تعالى بالليل يغطي الخليقة بظلامه
2 ... وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ... ظهر بضيائه وإشراقه
3 ... وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى ... ومن خلق الذكر والأنثى وهو الله سبحانه وتعالى
4 ... إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ... إن عملكم لمختلف منه الحسن ومنه السيء
5 ... مَنْ أَعْطَى ... حق الله في المال وأنفق في سبيل الله
5 ... وَاتَّقَى ... اجتنب الشرك والمعاصي
__________
(1) - الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (3903 ) حسن
(2) - فَضَائِلُ الصِّحَابَةِ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (61 ) حسن(1/659)
6 ... وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى ... بالملة الحسنى وهي الإسلام
7 ... فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ... نيسره للخير وللعمل الصالح
8 ... وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ... بخل بماله واستغنى عن ربه
9 ... وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى ... بالجزاء في الدار الآخرة فلم يؤمن
10 ... فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعًُسْرَى ... لطريق الشر
11 ... تَرَدَّى ... سقط في جهنم فهلك
المعنى الجملي:
أقسم سبحانه بما أقسم بأن سعى البشر مختلف ، فأقسم :
(1) بالليل الذي يأوى فيه كل حيوان إلى مستقره ، ويسكن عن الاضطراب إذ يغشاه النوم الذي فيه راحة لبدنه وجسمه.
(2) بالنهار الذي يتحرك فيه الناس لمعاشهم ، وفيه تغدو الطير من أو كارها وتخرج الهوامّ من أجحارها.
(3) بالقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى وميّز بين الجنسين مع أن المادة
التي تكوّنا منها واحدة ، والمحل الذي تكوّنا فيه واحد ، وفى ذلك دليل على تمام العلم وعظيم القدرة كما قال : « يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ » . (1)
أقسم الحق - تبارك وتعالى - بالليل إذا يغشى هذا الكون بجحافله ، لا يفلت منه شيء ، والليل الذي يستر الكل بظلامه ، ويواريه تحت جنحه فيسكن الكون ، ويموت الحي ميتة صغرى ، وأقسم بالنهار إذا تجلى وانكشف بطلوع الشمس فانكشف بظهوره كل شيء ، ودبت الحياة في الحي ، واستيقظ الكل يسعى وراء العيش ، بعد طول الهجود والنوم. فسبحانك يا رب جعلت الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ، وماذا كان الحال لو أن الليل كان دائما أو النهار ؟ ! وأقسم بالذي خلق الزوجين الذكر والأنثى من المنى مع أن الماء واحد ، والمكان واحد ، ولكنه - جل جلاله - يهب لمن يشاء إناثا ، ويهب لمن يشاء الذكور ، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما ، سبحان اللّه خلق الليل والنهار ، والضوء والظلام ، والذكر والأنثى ، على أن المادة واحدة في الجميع ، ثم أقسم بهذا كله على أن سعيكم أيها الناس لمختلف نوعا وجنسا وغاية ونهاية ، قل كل يعمل على شاكلته أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 173)(1/660)
أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ؟ لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ . أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ؟ .
فأما من أعطى بعض ما عنده وبذل ما في وسعه ، واتقى اللّه ومحارمه ، ونهى النفس عن الهوى ، وصدق بالحسنى والفضيلة تصديقا قلبيا مقرونا بالعمل الخالص فاللّه يجزيه ويهديه وييسر له الخصلة اليسرى والفعلة الطيبة لأن قلبه قد ملئ بالنور ، واعتاد الخير ، وأما من بخل بما عنده واستغنى به عن الناس ، فلم يعمل لهم خيرا ولم ينظر لهم ، لأنه مغرور بما عنده ، وكذب بالفضيلة فاللّه يجزيه ولا يهديه ، وييسره دائما للفعلة العسرى التي فيها حتفه وهلاكه ، فكان الأول من أهل الجنة ، وكان الثاني من أهل النار.
من صدق بالحسنى وعمل لها فأعطى واتقى. يسره اللّه لأيسر الخطتين وأسهلهما في أصل الخلقة وهي خطة تكميل النفس بالكمال وفعل الصالحات لتسعد بمزاياها في الدنيا والآخرة ، وهذا - كما يقولون - أصل العادة التعود ، فإذا تعودت أولا فعل الخير أصبح عادة لك بتيسير اللّه وهذا معنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى والعكس صحيح فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى لأن من مرنت نفسه على فعل الشر ، واستشرى معها الفساد فإن اللّه - على حسب سنته - يسهل له تلك الخطة العسرى وهي الخطة التي يحط فيها الإنسان من نفسه ويرتمى في أحضان الرذيلة ، أو إذا تردى في قبره وسقط ، فماذا يغنى عنه ماله ؟ ! (1)
التفسير والبيان :
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى ، وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي أقسم بالليل حين يغطي بظلامه كل ما كان مضيئا ، وبالنهار متى ظهر وانكشف ووضح ، لزوال ظلمة الليل ، والقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى من جميع الأجناس ، من الناس وغيرهم ، كقوله تعالى : وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً [النبأ 78/ 8].
ولم يذكر مفعول يَغْشى للعلم به ، وقيل : يغشى النهار ،أو الخلائق أو الأرض أو كل شيء بظلمته.
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى هذا هو المحلوف عليه جواب القسم ، أي إن أعمال العباد مختلفة متباعدة ، فمن فاعل خيرا ، ومن فاعل شرا ، وبعض الأعمال ضلال وبعضها هدى ، وبعضها يوجب الجنة ، وبعضها يوجب النار.
ويقرب من هذه الآية قوله تعالى : لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر 59/ 20] وقوله : أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً ، لا يَسْتَوُونَ [السجدة 32/
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 871)(1/661)
18] وقوله : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ [الجاثية 45/ 21].
ثم فصل أحوال الناس وقسمتهم فريقين ، فقال : فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى أي فأما من بذل ماله في وجوه الخير ، واتقى محارم اللَّه التي نهى عنها ، وصدق بموعود اللَّه الذي وعده عوضا عن الإيمان والنفقة الخيرية ، فإنا نسهل عليه كل ما كلّف به من الأفعال والتروك ، ونهيئه للخطة السهلة التي تؤدي به إلى الخير ، ونيسر له الإنفاق في سبيل الخير والعمل بطاعة اللَّه.
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى ، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى ، وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى أي وأما من بخل بماله ، فلم يبذله في سبل الخير ، واستغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة ، وزهد في الأجر والثواب وفضل اللَّه ، وكذّب بالجزاء في الدار الآخرة ، فسنهيئه للخصلة العسرى والطريقة الصعبة التي لا تنتج إلا شرا ، حتى تتعسر عليه أسباب الخير والصلاح ، ويضعف عن فعلها ، حتى يصل إلى النار ، ولا يغني عنه شيئا ماله الذي بخل به ، إذا سقط في جهنم.
ويلاحظ أن التيسير والبشارة في الأصل على الشيء المفرح والسّاتر ، لكن إذا جمع في الكلام بين خير وشر ، جاء التيسير والبشارة فيهما جميعا.
أخرج البخاري عَنْ عَلِىٍّ - رضى الله عنه - قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فِى جَنَازَةٍ فَقَالَ « مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ » . فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نَتَّكِلُ فَقَالَ « اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ » . ثُمَّ قَرَأَ ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ) إِلَى قَوْلِهِ ( لِلْعُسْرَى ) ..
وعَنْ عَلِىٍّ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - . أَنَّهُ كَانَ فِى جَنَازَةٍ فَأَخَذَ عُودًا يَنْكُتُ فِى الأَرْضِ فَقَالَ « مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ أَوْ مِنَ الْجَنَّةِ » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نَتَّكِلُ قَالَ « اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ) الآيَةَ . (1)
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، كَانَ فِي جِنَازَةٍ فَأَخَذَ عُودًا ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ فِي الأَرْضِ ، فقَالَ : مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ ، فقَال رَجُلٌ : أَلاَ نَتَّكِلُ ؟ فقَالَ : اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ ثُمَّ قَرَأَ : {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل : ]. (2)
ومضات :
__________
(1) - صحيح البخارى (4945 و4946) - ينكت : يضرب
(2) - صحيح ابن حبان - (2 / 45) (334) صحيح(1/662)
قال الإمام : وإنما أقسم بذاته بهذا العنوان ، لما فيه من الإشعار بصفة العلم المحيط بدقائق المادة وما فيها ، والإشارة إلى الإبداع في الصنع ؛ إذ لا يعقل أن هذا التخالف بين الذكر والأنثى ، في الحيوان ، يحصل بمحض الاتفاق من طبيعة لا شعور لها بما تفعل ، كما يزعم بعض الجاحدين ، فإن الأجزاء الأصلية في المادة متساوية النسبة إلى كون الذكر أو كون الأنثى ، فتكوين الولد من عناصر واحدة تارةً ذكراً وتارةً أنثى ، دليل على أن واضع هذا النظام عالم بما يفعل ، محكم فيما يضع ويصنع . انتهى (1) .
الخطاب في الآيات موجه إلى السامعين بأسلوب مطلق وتقريري. وقد تضمنت :
1 - قسما ربانيا بالليل إذا خيم والنهار إذا انجلى ، وما خلق اللّه من ذكر وأنثى إن الناس في سلوكهم وأعمالهم أنواع. منهم المؤمن باللّه والمتصدق بماله والمصدق بوعود اللّه الحسنى في الدنيا والآخرة. وهذا ييسره اللّه في السبيل اليسرى التي فيها النجاة والسعادة. ومنهم البخيل الذي يستشعر الغنى عن غيره وربه ، البخيل بماله الجاحد لوعود اللّه الحسنى في الدنيا والآخرة. وهذا ييسره اللّه في السبيل العسرى التي فيها الهلاك والخسران ولن يغني عنه ماله ويقيه السقوط والتردي في ذلك المصير الرهيب.
2 - وتقريرا ربانيا بأن ما للناس على اللّه هو أن يبين لهم طريق الهدى والخير ويدلهم عليه ويحذرهم من طريق الضلال والشر ، وبأن أمر الدنيا والآخرة في يده وهو المتصرف فيهما تصرفا مطلقا.
والآيات كما هو ظاهر بسبيل الدعوة العامة للناس. وليس فيها مواقف ومشاهد حجاجية وتكذيبية. وفيها مبادئ هذه الدعوة بإيجاز بليغ وهي الإيمان باللّه وتصديق وعود اللّه والعمل الصالح ونفع الغير ومساعدتهم وعدم البخل بالمال بسبيل ذلك مع التنبيه على أن هذا المال لن يغني عنه شيئا إذا لم يستجب للدعوة و يلتزم بمبادئها. فمن فعل ذلك فهو ناج سعيد ومن فعل العكس فهو خاسر شقي.
وقد انطوى فيها حكمة إرسال اللّه الرسل للناس ليبين لهم بلسانهم معالم الهدى. كما انطوى فيها تقرير كون الناس موكولين بعد ذلك إلى اختيارهم للطريق التي يسيرون فيها ومستحقين للنتائج التي تترتب على هذا الاختيار في الدنيا والآخرة معا. وكل هذا مما تكرر تقريره بحيث يعد من المبادئ القرآنية المحكمة.
ولقد روى الشيخان والترمذي في سياق هذه الآيات حديثا عن علي بن أبي طالب قال : «كنّا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بقيع الغرقد في جنازة فقال ما منكم من أحد إلّا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 238)(1/663)
الجنة. قالوا يا رسول اللّه أفلا نتّكل على كتابنا وندع العمل. قال اعملوا فكلّ ميسّرّ لما خلق له. أمّا من كان من أهل السعادة فييسّر لعمل أهل السعادة. وأمّا من كان من أهل الشقاء فييسّر لعمل أهل الشّقاء ثم قرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) [الليل/ 5 - 7]» . والحديث ينطوي على إيذان بعلم اللّه عز وجل الأزلي بمصير كل إنسان في الآخرة وليس في كون اللّه عز وجل قد قدر على الناس مصائرهم الأخروية بقطع النظر عن أعمالهم التي يستحقون هذه المصائر بسببها كما هو المتبادر. وهذا ما ينطوي في الآيات أيضا حين إمعان النظر فيها. حيث يربط الآيات والحديث السعادة والشقاء بالعمل فمن عمل عمل أهل السعادة سعد ومن عمل عمل أهل الشقاء شقي.
وهذا الموضوع متصل بناحية ما بموضوع القدر الذي سوف نبحثه بحثا وافيا في مناسبة أكثر ملاءمة.
وجملة وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى التي جمع فيها من الذكر والأنثى في القسم قرينة على نظرة اللّه تعالى المتساوية لهما وتسوغ القول إن ما جاء بعدها من الإشارة إلى أعمال الناس من خير وشر وتيسير اللّه لهم وفقها يشمل الذكر والأنثى معا. وإن صح استنتاجنا ونرجو أن يكون صحيحا فيكون أول تقرير قرآني لمبدأ تكليف الذكر والأنثى على السواء تكليفا متساويا بكل ما يتصل بشؤون الدين والدنيا ولمبدأ ترتيب نتائج سعي كل منهما وفقا لما يكون من نوع هذا السعي من خير وشر ونفع وضرّ وهدى وضلال. وأول تقرير قرآني لتساوي الذكر والأنثى في القابليات التي يختار كل منهما عمله وطريقه بها. ولقد تكرر تقرير كل ذلك كثيرا وبأساليب متنوعة وفي القرآن المكي والمدني معا.
ومن ذلك آيتان مهمتان في بابهما في سورة الأحزاب وهما : إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73). وجمهور المؤولين والمفسرين على أن كلمة «الأمانة» تعني هنا التكليف أي ما رسمه اللّه للإنسان من واجبات ونهاه عنه من محظورات. والإنسان في الآية الأولى مطلق أريد به الإنسان الذي يمثله الذكر والأنثى معا بدليل الآية الثانية التي احتوت إنذارا للمنافقات والمشركات اللاتي ينحرفن عن التكليف أسوة بالمنافقين والمشركين وبشرى للمؤمنات اللاتي يلتزمن حدود اللّه المرسومة أسوة بالمؤمنين على قدم المساواة ، وفي ذلك ما فيه من روعة وجلال. (1)
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 526)(1/664)
قال الإمام : وإنما أقسم بذاته بهذا العنوان ، لما فيه من الإشعار بصفة العلم المحيط بدقائق المادة وما فيها ، والإشارة إلى الإبداع في الصنع ؛ إذ لا يعقل أن هذا التخالف بين الذكر والأنثى ، في الحيوان ، يحصل بمحض الاتفاق من طبيعة لا شعور لها بما تفعل ، كما يزعم بعض الجاحدين ، فإن الأجزاء الأصلية في المادة متساوية النسبة إلى كون الذكر أو كون الأنثى ، فتكوين الولد من عناصر واحدة تارةً ذكراً وتارةً أنثى ، دليل على أن واضع هذا النظام عالم بما يفعل ، محكم فيما يضع ويصنع . انتهى .
قال الإمام : الخطة العسرى هي الخطة التي يحط فيها الْإِنْسَاْن من نفسه ، ويغض من حقها وينزل بها إلى حضيض البهيمية ، ويغمسها في أوحال الخطيئة . وهي أعسر الخطتين على الْإِنْسَاْن ، لأنه لا يجد معيناً عليها ، لا من فطرته ولا من الناس . (1)
قوله تعالى : « وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى » قسم بالليل حين يغشى ظلامه الكائنات ، ويغطّى سواده وجه الأرض ..
وبدء السورة بهذا القسم ـ كما قلنا ـ هو أشبه براية سوداء تحوّم على مواطن ثمود ، التي دمدم اللّه عليها ، كما تحوم الغربان على الرمم .. ثم إنه من جهة أخرى ، يمثل الجانب الأعظم من جانبى الإنسانية ، جانبى الكفر والإيمان ، والضلال ، والهدى ، والظلام والنور .. فأغلب الناس على ضلال ، وقليل منهم المهتدون ، كما يقول سبحانه : « وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ » (103 : يوسف) وفى التعبير بفعل المستقبل « يغشى » عن ظلام الليل ـ إشارة إلى أن الظلام عارض دخيل ، يعرض للنور الذي هو أصل الوجود ، كما يعرض الضلال للفطرة الإنسانية التي خلقها اللّه تعالى صافية لا شية فيها.
وقوله تعالى : « وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى » معطوف على قوله تعالى : « وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ».. وهو قسم بالنهار إذا ظهر ، وتجلّى على الوجود ضوءه ..وفى تقديم الليل على النهار ، إشارة إلى هذا الظلام الذي كان منعقدا فى أفق الحياة الإنسانية حين كانت ثمود تتحرك بطغيانها على الأرض ، فلما دمدم اللّه عليهم الأرض ، ورمى فى أحشائها بهذا الظلام ـ عاد إلى الحياة صفاؤها ، وطلع نهارها!!
وقوله تعالى : « وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى » : معطوف على قوله تعالى : « وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى » و« ما » هنا مصدرية .. أي وخلق الذكر والأنثى ، وما أودع الخالق فى كلّ منهما من آيات علمه ، وحكمته ، ورحمته ..
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 238)(1/665)
والذكر والأنثى ، هو مطلق كل ذكر ، وكل أنثى ، فى عالم المخلوقات ..والذكر والأنثى تتم دورة الحياة وتعاقب الأجيال ، كما بالليل والنهار يتولد الزمن ، وبتكاثر نسله من الليالى والأيام! وقوله تعالى : « إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى » هو جواب القسم ، وهو المقسم عليه ..
والسعى : العمل فى كل وجه من وجوه الحياة .. « وشتّى » أي شتيت مختلف الوجوه ، متغاير الألوان .. فلكل إنسان وجهته التي هو مولّيها ، وطريقه الذي يسلكه ، وهيهات أن يتطابق إنسان وإنسان تطابقا تاما ، حتى ولو أخذا وجها واحدا ، ودانا بدين واحد ..
ففى الناس المؤمن والكافر ، وفى الناس المنافق الذي يجمع بين الكفر ولإيمان .. والمؤمنون ، درجات ، ومنازل ، والكافرون ، أنماط وصور ، والمنافقون وجوه وأشكال ..
واختلاف سعى الناس ، أمر بدهىّ ، يراه كل إنسان : المؤمنون والكافرون ، والمحسنون والمسيئون جميعا .. فكل ذى عينين يشهد أن الناس طرائق قدد ، وإلّا لاجتمعوا على عقيدة واحدة ، ومذهب واحد ، واتجاه واحد ، فيما يأخذون أو يدعون من أمور .. هذه بديهة لا تحتاج إلى توكيد ـ فلم جاءت الآيات القرآنية مؤكدة لها بهذا القسم ؟
والجواب على هذا ، هو أن التوكيد بالقسم وإن وقع على المقسم عليه ، وهو اختلاف سعى الناس ـ إلا أن المنظور إليه هو ما وراء هذا الاختلاف فى المسعى ، وهو أن هناك محسنين ومسيئين .. وهذا أمر يدعو العاقل إلى أن ينظر إلى نفسه وأن يفتش عن مكانه فى المحسنين أو المسيئين ، إذ كل إنسان عند نفسه أنه محسن ، وحتى المحسن حقيقة ، يقدر أن إحسانه مطلق لا تقع منه إساءة ، وهذا غير واقع ، فالمحسن ليس سعيه كله قائما على ميزان الإحسان ، بل إن سعيه مختلف ، فيه الحسن ، وفيه السيّء ، فلا ينبغى أن يسوّى حساب أعماله بينه وبين نفسه على ميزان الإحسان دائما .. بل يجب أن ينظر فى كل عمل ، ويعرضه على ميزان الحق ، والعدل ، والخير ، فإن اطمأن إليه ، ورضى عنه ، أمضاء ، وإلا عدل عنه. قوله تعالى : « فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ».والناس فى عمومهم ، يدخلون تحت وصفين عامّين : مؤمنون وكافرون ، أو محسنون ومسيئون ..
فأما من أعطى ، أي أنفق فى سبيل اللّه ، وفى وجوه الخير والإحسان ، متّقيا بذلك ربّه ، خائفا عذابه ، طامعا فى ثوابه « وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى » أي مؤمنا بما للعمل الطيب من قدر ، معتقدا أنه العمل الأفضل والأحسن ، لا أن يكون ما يصدر منه من أعمال الخير تلقائيا ، وعفوا ، لا تشده إليه إرادة صادقة ، أو قصد محسوب حسابه ، مقدرة آثاره .. وهذا يعنى أن الأعمال إنما تحكمها النيات الباعثة لها ، الداعية إليها .. أما العمل الذي لا تنعقد عليه نية ، ولا ينطلق من إرادة ، فإنه سهم طائش ، ورمية من غير رام .. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم بقوله :
« إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرى ما نوى »..(1/666)
وفى إطلاق الفعل « أعطى » من قيد الشيء المعطى ـ إشارة إلى أمرين :
أولهما : أن ما يعطى لا بد أن يكون شيئا طيبا نافعا لأن الإعطاء يقابله الأخذ ، والإعطاء والأخذ لايتّمان إلا برغبة متبادلة بين المعطى والآخذ .. والآخذ لا يأخذ إلا ما ينفعه ويرضيه ..
والأمر الآخر الذي يشير إليه إطلاق الفعل ، هو أنه لا حدود للإعطاء ، قلّة أو كثرة ، كما يقول سبحانه : « ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ».. (91 : التوبة) وقوله تعالى : « فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى » أي أن من أخذ طريق الحق ، وشدّ عزمه عليه ، وصرف همه نحوه ، يسّر اللّه له طريقه ، وأعانه على المضي فيه ، لأنه طريق اللّه ، ومن كان على طريق اللّه ، لم يحرم عونه ، وتوفيقه .. وقوله تعالى : « وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى ».
وعلى عكس هذا من يبخل بماله ، ويضنّ ببذله فى سبيل اللّه ، وفى وجوه الخير ، ومن وراء هذا البخل تكذيب بالإحسان ، وبخس لقدره ، واعتقاد بعدم جدواه ـ من يفعل هذا ، فهو على طريق الضلال ، يرصده عليه شيطان يغريه ويغويه ، ويدفع به دفعا على هذا الطريق .. وهذا يعنى أن اللّه سبحانه وتعالى ييسّر لكل إنسان طريقه الذي يضع قدمه عليه .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » (39 : الأنعام) أي من يشأ اللّه إضلاله ، أخلى بينه وبين نفسه ، على طريق الضلال ، وقيض له شيطانا ، فهو له قرين ، ورفيق ، على هذا الطريق كما يقول سبحانه : « وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ » (36 : الزخرف) .. ومن يشأ اللّه هدايته أقام وجهه على طريق الهدى ، وزوده بالزاد الطيب الذي يعينه على مواصلة السير فيه .. وفى هذا يقول الرسول الكريم : « اعملوا فكلّ ميسر لما خلق له .. »
والعسرى : ضد اليسرى .. وهى من العسر ، والتعقيد ، بخلاف اليسرى فإنها من اليسر والسهولة .. وسميت طريق الضلال « عسرى » لأنها طريق مظلم ، لا معلم من معالم الهدى فيه ، وإن صاحبه ليظل يخبط فى ظلام ، ويتردّى فى معاثر حتى يرد مورد الهالكين .. أما طريق الهدى ، فهى طريق واضحة المعالم ، لا يضل سالكها أبدا .. « أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » (22 : الملك)
وقوله تعالى : « وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى » أي أن الذي يخل بماله ، وضمن بالإنفاق منه فى وجوه الخير ، لن ينفعه هذا المال الذي أمسكه ، ولن يجد منه عونا ، إذا هو تردّى فى هاوية الجحيم!. (1)
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1590)(1/667)
يقسم الله سبحانه بهاتين الآيتين : الليل والنهار . مع صفة كل منهما الصفة المصورة للمشهد . { والليل إذا يغشى } . . { والنهار إذا تجلى } . . الليل حين يغشى البسيطة ، ويغمرها ويخفيها . والنهار حين يتجلى ويظهر ، فيظهر في تجلية كل شيء ويسفر . وهما آنان متقابلان في دورة الفلك ، ومتقابلان في الصورة ، ومتقابلان في الخصائص ، ومتقابلان في الآثار . . كذلك يقسم بخلقه الأنواع جنسين متقابلين : { وما خلق الذكر والأنثى } . . تكملة لظواهر التقابل في جو السورة وحقائقها جميعاً .
والليل والنهار ظاهرتان شاملتان لهما دلالة توحيان بها إيحاء للقلب البشري؛ ولهما دلالة كذلك أخرى عند التدبر والتفكر فيهما وفيما وراءهما . والنفس تتأثر تأثراً تلقائياً بتقلب الليل والنهار . الليل إذا يغشى ويعم ، والنهار إذا تجلى وأسفر . ولهذا التقلب حديث وإيحاء . حديث عن هذا الكون المجهول الأسرار ، وعن هذه الظواهر التي لا يملك البشر من أمرها شيئاً . وإيحاء بما وراء هذا التقلب من قدرة تدير الآونة في الكون كما تدار العجلة اليسيرة! وبما هنالك من تغير وتحول لا يثبت أبداً على حال .
ودلالتهما عند التدبر والتفكر قاطعة في أن هنالك يداً أخرى تدير هذا الفلك ، وتبدل الليل والنهار . بهذا الانتظام وهذا الاطراد وهذه الدقة . وأن الذي يدير الفلك هكذا يدير حياة البشر أيضاً . ولا يتركهم سدى ، كما أنه لا يخلقهم عبثاً .
ومهما حاول المنكرون والمضلون أن يلغوا في هذه الحقيقة ، وأن يحولوا الأنظار عنها ، فإن القلب البشري سيظل موصولاً بهذا الكون ، يتلقى إيقاعاته ، وينظر تقلباته ، ويدرك تلقائياً كما يدرك بعد التدبر والتفكر ، أن هنالك مدبراً لا محيد من الشعور به ، والاعتراف بوجوده من وراء اللغو والهذر ، ومن وراء الجحود والنكران!
وكذلك خلقة الذكر والأنثى . . إنها في الإنسان والثدييات الحيوانية نطفة تستقر في رحم . وخلية تتحد ببويضة . ففيم هذا الاختلاف في نهاية المطاف؟ ما الذي يقول لهذه : كوني ذكراً ، ويقول لهذه : كوني أنثى؟ .. إن كشف العوامل التي تجعل هذه النطفة تصبح ذكراً ، وهذه تصبح أنثى لا يغير من واقع الأمر شيئاً . . فإنه لماذا تتوفر هذه العوامل هنا وهذه العوامل هناك؟ وكيف يتفق أن تكون صيرورة هذه ذكراً ، وصيرورة هذه أنثى هو الحدث الذي يتناسق مع خط سير الحياة كلها ، ويكفل امتدادها بالتناسل مرة أخرى؟
مصادفة؟! إن للمصادفة كذلك قانوناً يستحيل معه أن تتوافر هذه الموافقات كلها من قبيل المصادفة . . فلا يبقى إلا أن هنالك مدبراً يخلق الذكر والأنثى لحكمة مرسومة وغاية معلومة . فلا مجال للمصادفة ، ولا مكان للتلقائية في نظام هذا الوجود أصلاً .(1/668)
والذكر والأنثى شاملان بعد ذلك للأنواع كلها غير الثدييات . فهي مطردة في سائر الأحياء ومنها النبات . . قاعدة واحدة في الخلق لا تتخلف . لا يتفرد ولا يتوحد إلا الخالق سبحانه الذي ليس كمثله شيء . .
هذه بعض إيحاءات تلك المشاهد الكونية ، وهذه الحقيقة الإنسانية التي يقسم الله سبحانه بها ، لعظيم دلالتها وعميق إيقاعها . والتي يجعلها السياق القرآني إطاراً لحقيقة العمل والجزاء في الحياة الدنيا وفي الحياة الأخرى . .
يقسم الله بهذه الظواهر والحقائق المتقابلة في الكون وفي الناس ، على أن سعي الناس مختلف وطرقهم مختلفة ، ومن ثم فجزاؤهم مختلف كذلك؛ فليس الخير كالشر ، وليس الهدى كالضلال . وليس الصلاح كالفساد ، وليس من أعطى واتقى كمن بخل واستغنى ، وليس من صدق وآمن كمن كذب وتولى . وأن لكل طريقاً ، ولكل مصيراً ، ولكل جزاء وفاقاً : { إن سعيكم لشتى . فأما من أعطى واتقى ، وصدق بالحسنى ، فسنيسره لليسرى . وأما من بخل واستغنى ، وكذب بالحسنى ، فسنيسره للعسرى ، وما يغني عنه ماله إذا تردى } . .
إن سعيكم لشتى . . مختلف في حقيقته . مختلف في بواعثه . مختلف في اتجاهه . مختلف في نتائجه . . والناس في هذه الأرض تختلف طبائعهم ، وتختلف مشاربهم ، وتختلف تصوراتهم ، وتختلف اهمتاماتهم ، حتى لكأن كل واحد منهم عالم خاص يعيش في كوكب خاص .
هذه حقيقة . ولكن هناك حقيقة أخرى . حقيقة إجمالية تضم أشتات البشر جميعاً . وتضم هذه العوامل المتباينة كلها . تضمها في حزمتين اثنتين . وفي صفين متقابلين . تحت رايتين عامتين : { من أعطى واتقى وصدق بالحسنى } . . و { من بخل واستغنى وكذب بالحسنى } . .
من أعطى نفسه وماله . واتقى غضب الله وعذابه . وصدق بهذه العقيدة التي إذا قيل { الحسنى } كانت اسماً لها وعلماً عليها .
ومن بخل بنفسه وماله . واستغنى عن الله وهداه . وكذب بهذه الحسنى . .
هذان هما الصفان اللذان يلتقي فيهما شتات النفوس ، وشتات السعي ، وشتات المناهج ، وشتات الغايات . ولكل منهما في هذه الحياة طريق . . ولكل منهما في طريقه توفيق!
{ فأما من أعطى واتقى ، وصدق بالحسنى . . فسنيسره لليسرى } . .
والذي يعطي ويتقي ويصدق بالحسنى يكون قد بذل أقصى ما في وسعه ليزكي نفسه ويهديها . عندئذ يستحق عون الله وتوفيقه الذي أوجبه سبحانه على نفسه بإرادته ومشيئته .
والذي بدونه لا يكون شيء ، ولا يقدر الإنسان على شيء .
ومن يسره الله لليسرى فقد وصل . . وصل في سر وفي رفق وفي هوادة . . وصل وهو بعد في هذه الأرض . وعاش في يسر . يفيض اليسر من نفسه على كل ما حوله وعلى كل من(1/669)
حوله . اليسر في خطوه . واليسر في طريقه . واليسر في تناوله للأمور كلها . والتوفيق الهادئ المطمئن في كلياتها وجزئياتها . وهي درجة تتضمن كل شيء في طياتها . حيث تسلك صاحبها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وعد ربه له : { ونيسرك لليسرى } . .
{ وأما من بخل واستغنى . وكذب بالحسنى . . فسنيسره للعسرى . وما يغني عنه ماله إذا تردى } . .والذي يبخل بنفسه وماله ، ويستغني عن ربه وهداه ، ويكذب بدعوته ودينه . . يبلغ أقصى ما يبلغه إنسان بنفسه من تعريضها للفساد . ويستحق أن يعسر الله عليه كل شيء ، فييسره للعسرى! ويوفقه إلى كل وعورة! ويحرمه كل تيسير! ويجعل في كل خطوة من خطاه مشقة وحرجاً ، ينحرف به عن طريق الرشاد . ويصعد به في طريق الشقاوة . وإن حسب أنه سائر في طريق الفلاح . وإنما هو يعثر فيتقي العثار بعثرة أخرى تبعده عن طريق الله ، وتنأى به عن رضاه . . فإذا تردى وسقط في نهاية العثرات والانحرافات لم يغن عنه ماله الذي بخل به ، والذي استغنى به كذلك عن الله وهداه . . { وما يغني عنه ماله إذا تردى } . . والتيسير للشر والمعصية من التيسير للعسرى ، وإن أفلح صاحبها في هذه الأرض ونجا . . وهل أعسر من جهنم؟ وإنها لهي العسرى! .
هكذا ينتهي المقطع الأول في السورة . وقد تبين طريقان ونهجان للجموع البشرية في كل زمان ومكان . وقد تبين أنهما حزبان ورايتان مهما تنوعت وتعددت الأشكال والألوان . وأن كل إنسان يفعل بنفسه ما يختار لها! فييسر الله له طريقه : إما إلى اليسرى وإما إلى العسرى . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- بيان عظمة الله وقدرته وعلمه الموجبة لربوبيته المقتضية لعبادته وحده دون سواه .
2- تقرير القضاء والقدر وهو أن كل انسان ميسر لما خلق له من سعادة أو شقاء .
3- لا يفيد هذا البخيل ماله إذا مات أو صار في القبر أو سقط في جهنم
4- تقرير أن التوفيق للعمل بالطاعة أو المعصية يتوقف حسب سنَّة الله تعالى على رغبة العبد وطلبه ذلك والحرص عليه واختياره على غيره وتسخير النفس والجوارح له .
5- أقسم اللَّه عز وجل بالليل حينما يغطّي كل شيء بظلامه ، وبالنهار إذا انكشف ووضح وظهر ، وبالذي خلق الذكر والأنثى فيكون قد أقسم بنفسه عز وجل ، على أن عمل الناس مختلف في الجزاء ، فبعضهم مؤمن وبر ، وكافر وفاجر ، ومطيع وعاص ، وبعضهم في هدى أو في ضلال ، وبعضهم ساع في فكاك نفسه من النار ، وبعضهم بائع نفسه فموبقها في
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3923)(1/670)
المعاصي ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ، عَنْ أبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ النَّاسُ غَادِيَانِ فَمُشْتَرٍ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا وَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُهْلِكُهَا " (1) .
وعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا النَّارُ أَوْلَى بِهِ ، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ ، النَّاسُ غَادِيَانِ : فَغَادٍ فِي فَكَاكِ نَفْسِهِ فَمُعْتِقُهَا ، وَغَادٍ مُوبِقُهَا ، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ ، الصَّلَاةُ قُرْبَانٌ ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ ، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يَذْهَبُ الْجَلِيدُ عَلَى أَخْبَرَنَا أَبُو يَعْلَى ، قَالَ : حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ أَبِي جَمِيلَةَ ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ بَشِيرٍ ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ ، إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ وَدَمٌ نَبَتَا عَلَى سُحْتٍ النَّارُ أَوْلَى بِهِ ، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ ، النَّاسُ غَادِيَانِ : فَغَادٍ فِي فَكَاكِ نَفْسِهِ فَمُعْتِقُهَا ، وَغَادٍ مُوبِقُهَا ، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ ، الصَّلَاةُ قُرْبَانٌ ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ ، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يَذْهَبُ الْجَلِيدُ عَلَى الصَّفَا " (2)
ثم أوضح سبحانه معنى اختلاف الأعمال المذكور من العاقبة المحمودة والمذمومة ، والثواب والعقاب ، وذكر فريقين :
الأول- من بذل ماله في سبيل اللَّه ، وأعطى حق اللَّه عليه ، واتقى المحارم والمنكرات ، وصدّق بوعد اللَّه بالعوض على عطائه ، فاللَّه يهيئ له الطريق اليسرى السهلة للوصول إلى غايته ، ويرشده لأسباب الخير والصلاح ، حتى يسهل عليه فعلها.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا ، وَيَقُولُ الآخَرُ : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا " (3) .
والثاني- من ضنّ بما عنده ، فلم يبذل خيرا ، وكذلك بتعويض اللَّه ، فاللَّه يسهل طريقه للشر ، ويعسّر عليه أسباب الخير والصلاح ، حتى يصعب عليه فعلها.
قال العلماء : ثبت بهذه الآية : وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ .. وبقوله تعالى : وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة 2/ 3] وقوله : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [البقرة 2/ 274] إلى غير ذلك من الآيات أن الجود من مكارم الأخلاق ، والبخل من أرذلها ، والجواد : هو الذي يعطي في موضع العطاء ، والبخيل : هو الذي يمنع في موضع العطاء ، فكل من استفاد بما يعطي أجرا
__________
(1) - الْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ (15042 ) صحيح لغيره
(2) - صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ (5658 ) صحيح
(3) - صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ (1385 ) وصَحِيحُ مُسْلِمٍ (1752 )(1/671)
وحمدا ، فهو الجواد ، وكل من استحق ذما أو عقابا ، فهو البخيل ، والمسرف المذموم ، وهو من المبذّرين الذين جعلهم اللَّه إخوان الشياطين ، وأوجب الحجر عليهم (1) .
ولا يفيد هذا البخيل ماله إذا مات أو صار في القبر أو سقط في جهنم.
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - تفسير القرطبي : 20/ 84- 85(1/672)
قد أعذر من أنذر
قال تعالى :
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
سبب النزول : نزول الآية (17) وَسَيُجَنَّبُهَا :
وعَنْ عُرْوَةَ،"أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ أَعْتَقَ سَبْعَةً كُلَّهُمْ يُعَذَّبَ فِي اللَّهِ، بِلالًا، وَعَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ، وَالنَّهْدِيَّةَ وَابْنَتَهَا، وَزِنِّيرَةَ، وَأُمَّ عِيسَى، وَأَمَةَ بَنِي الْمُؤَمِّلِ، وَفِيهِ نَزَلَتْ: " وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى " ، إِلَى آخَرِ السُّورَةِ". (1)
سبب النزول : نزول الآية (19) وما لأحد
عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ : وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى "
وعَنْ قَتَادَةَ ، فِي قَوْلِهِ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى قَالَ : نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ ، أَعْتَقَ نَاسًا لَمْ يَلْتَمِسْ مِنْهُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ، سِتَّةً أَوْ سَبْعَةً ، مِنْهُمْ بِلَالٌ ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ " (2)
المناسبة :
بعد أن عرّف اللَّه تعالى أن سعي الناس شتى في العواقب ، وبيّن ما للمحسن من اليسرى وما للمسيء من العسرى ، أخبر أنه قد قام بما عليه من البيان والدلالة ، والترغيب والترهيب ، والإرشاد والهداية ، وأعلم أنه مالك الدنيا والآخرة ، ولا يزيد في ملكه اهتداء الناس ، ولا يضره ترك اهتداءهم بهداه ، ويعطي ما يشاء لمن يشاء ، فتطلب سعادة الدارين منه.
ثم أنذر الناس جميعا بعذاب النار ، وأبان من يصلاها ويحترق بها ، ومن يبعد عنها ويسلّم من عذابها ، وقد أعذر من أنذر. (3)
المفردات :
12 ... إِنَّ عَلَينَا لَلْهُدَى ... أن نبين الحلال والحرام
13 ... وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى ... لنا ملك الدنيا والآخرة
14 ... فَأَنْذَرْتُكُمْ ... خوفتكم
__________
(1) - تفسير ابن أبي حاتم - (12 / 421) والدر المنثور - (10 / 282)
(2) - الْبَحْرُ الزَّخَّارُ مُسْنَدُ الْبَزَّارِ (1952 ) وجَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (34798 و34799 ) الأول حسن والثاني صحيح مرسل
(3) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 275)(1/673)
14 ... نَارًا تَلَظَّى ... تتوقد و تلتهب
15 ... لا يَصْلاهَا ... لا يدخلها ويحترق بها
17 ... وَسَيُجَنَّبُهَا ... سيبعد عن النار
18 ... يَتَزَكَّى ... يتطهر من الذنوب
19 ... تُجْزَى ... تكافأ
المعنى الإجمالي:
بعد أن بين سبحانه أن سعى الخلائق مختلف فى نفسه وعاقبته ، وأرشد إلى أن المحسن فى عمله يوفقه اللّه إلى أعمال البر ، وأن المسيء فيه يسهل له الخذلان - أردفه أنه قد أعذر إلى عباده بتقديم البيان الذي تنكشف معه أعمال الخير والشر جميعا ، ووضح السبيل أمام كل سالك ، فإن شاء سلك سبيل الخير فسلم وسعد ، وإن أراد ذهب فى طريق الشر فتردّى فى الهاوية.
روى أن الآيات نزلت فى أبى بكر رضى اللّه عنه. وقد كان من أمره أن بلال ابن رباح عليه الرضوان ، وكان مولى لعبد اللّه بن جدعان - جاء إلى الأصنام وسلح عليها ، فشكا كفار مكة إلى مولاه فوهبه لهم ، ووهب لهم مائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم فجعلوا يعذبونه ويخرجونه إلى الرمضاء ، وكان يقول وهم يعذبونه : أحد أحد وكان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يمر به وهو يعذب فيقول له : ينجيك أحد أحد ، ثم أخبر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر رضى اللّه عنه بما يلقى بلال فى اللّه ، فحمل أبو بكر رطلا من ذهب وابتاعه من المشركين وأعتقه ، فقال المشركون : ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده ، فنزل قوله : « وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى » الآيات. (1)
ولكن كيف يحاسب اللّه العبد على ذنب أطلق له الإرادة فيه ومكنه من عمله! والجواب تكفل به القرآن فقال ما معناه : إن علينا وقد خلقنا الإنسان للعبادة ، أى : ليحرز الثواب في الدنيا والآخرة أن نهديه وندله على طريق الخير والشر ، ونطلق اختياره ، ونمكنه من العمل ، وهذا تقويم له وتشريف ، فمن يعمل بعد ذلك خيرا يثب عليه أو شرا يجاز عليه ، وهذا كقوله تعالى : وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ وإن للّه الآخرة والأولى ، واللّه أنذركم أيها الناس نارا تلتهب وتحترق بشدة فاحذروها. فإنه لا يصلاها ولا يحترق بها إلا الشقي المبالغ في الكفر أو المعصية ولم يتب ، وهو الذي كذب باللّه وكفر. وتولى عن الحق وأعرض عنه ، ولم يرجع إليه في لحظة من اللحظات ، وسيبعد عنها التقى المبالغ في التقوى والهداية الذي يؤتى ماله يتزكى به لوجه اللّه ، وليس لأحد عنده من نعمة أو يد يجازيه عليها لكن كل عمله وصدقته ابتغاء وجه اللّه ورضوانه وهذا الصنف سيعطيه اللّه في الدنيا والآخرة حتى يرضى. ألم يبين اللّه لكم أيها الناس طريق
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 178)(1/674)
الخير وطريق الشر ونهاية كل ، فمن يعمل بعد ذلك مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذررة شرّا يره ، على أن العقل وحده وطبيعة الإنسان قد تدرك أصل الخير والشر. (1)
التفسير والبيان :
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى أي علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال ، والحلال من الحرام ، والحق من الباطل ، والخير من الشر ، من طريق الأنبياء وإنزال الكتب التي فيها تشريع الأحكام ، وتبيان العقائد والعبادات والأخلاق وأنظمة المعاملات.
وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى أي لنا كل ما في الآخرة ، وكل ما في الدنيا ، نتصرف به كيف نشاء ، فمن أراد شيئا من الدارين ، فليطلبه منا ، نهب ونعطي ما نشاء لمن نشاء ، ولا يضرنا ترك الاهتداء بهدانا ، ولا يزيد في ملكنا اهتداؤهم ، بل نفع ذلك وضره عائدان عليكم أيها الناس. ومن ملك الدنيا والآخرة وكان هو المتصرف فيهما ، كان هديه وشرعه هو الذي يجب اتباعه.
ثم حذر من سلوك طريق النار ، فقال : فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى ، لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى ، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى أي لقد خوفتكم نارا عظيمة شديدة تتوهج وتتلهب ، لا يدخلها ويذوق حرها إلا الكافر الذي كذب الحق الذي جاءت به الرسل ، وكذب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به عن ربه ، وأعرض عن الإيمان باللَّه واتباع شرائعه وأحكامه ، وطاعة أوامره.
وأبان سبيل النجاة من النار ، فقال : وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ، الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى أي وسيباعد عن النار المتقي للكفر والمعاصي اتقاء بالغا ، قال الواحدي كما مر : الأتقى أبو بكر الصديق في قول جميع المفسرين ، أي إنها نزلت فيه ، وإلا فحكمها عام.
وهذا الأتقى هو الذي ينفق ماله ويعطيه في وجوه الخير ، طالبا أن يكون عند اللَّه زكيا متطهرا نقيا من الذنوب ، لا يريد بذلك رياء ولا سمعة ، ولا مديحا وثناء من الناس.
عن النُّعْمَانَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَجُلٌ تُوضَعُ فِى أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَةٌ يَغْلِى مِنْهَا دِمَاغُهُ » . (2)
وعن أبي إِسْحَاقَ قال: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ وَهْوَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَجُلٌ تُوضَعُ فِى أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ يَغْلِى مِنْهُمَا دِمَاغُهُ ». (3)
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَنْتَعِلُ بِنَعْلَيْنِ مِنْ نَارٍ يَغْلِى دِمَاغُهُ مِنْ حَرَارَةِ نَعْلَيْهِ ».
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 872)
(2) - صحيح البخارى (6561 ) -الأخمص : باطن القدم الذى يتجافى عن الأرض عند الوطء
(3) - صحيح مسلم (538 )(1/675)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِى مِنْهُمَا دِمَاغُهُ ». (1)
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلاَنِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِى مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِى الْمِرْجَلُ مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا وَإِنَّهُ لأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا » (2) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ يَدْخُلُ النَّارَ إِلاَّ شَقِىٌّ ».
قِيلَ وَمَنِ الشَّقِىُّ قَالَ « الَّذِى لاَ يَعْمَلُ بِطَاعَةٍ وَلاَ يَتْرُكُ لِلَّهِ مَعْصِيَةً ». (3) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ مَنْ أَبَى ». قَالُوا وَمَنْ يَأْبَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « مَنْ أَطَاعَنِى دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ أَبَى ». (4)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، إِلاَّ مَنْ أَبَى » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ « مَنْ أَطَاعَنِى دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ أَبَى » (5) . .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَتَدْخُلُنَّ الْجَنَّةَ كُلُّكُمْ إِلاَّ مَنْ أَبَى وَشَرَدَ عَلَى اللهِ كَشِرَادِ الْبَعِيرِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَمَنْ يَأْبَى أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ : مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى. (6)
ثم ذكر صفة الإخلاص في العمل ، فقال : وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ، وَلَسَوْفَ يَرْضى » أي لا يتصدق بماله مقابل نعمة لأحد من الناس عليه ، يكافئه عليها ، وإنما يريد بذلك طلب رضوان اللَّه ومثوبته ، لا لمكافأة نعمة ، وتاللَّه لسوف يرضى بما نعطيه من الكرامة والجزاء العظيم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ مِنْ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ دُعِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَلِلْجَنَّةِ أَبْوَابٌ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ
__________
(1) - صحيح مسلم(536و537 )
(2) - صحيح مسلم (539 ) -المرجل : القِدر من النحاس أو الحجارة
(3) - مسند أحمد -( 8825) حسن
(4) - مسند أحمد -(8962) صحيح
(5) - صحيح البخارى (7280 )
(6) - صحيح ابن حبان - (1 / 197) (17) صحيح
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : طَاعَةُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هِيَ الاِنْقِيَادُ لِسُنَّتِهِ بِتَرْكِ الْكَيْفِيَّةِ وَالْكَمِّيَّةِ فِيهَا ، مَعَ رَفْضِ قَوْلِ كُلِّ مَنْ قَالَ شَيْئًا فِي دِينِ اللهِ جَلَّ وَعَلاَ بِخِلاَفِ سُنَّتِهِ دُونَ الاِحْتِيَالِ فِي دَفْعِ السُّنَنِ بِالتَّأْوِيلاَتِ الْمُضْمَحِلَّةِ ، وَالْمُخْتَرَعَاتِ الدَّاحِضَةِ.(1/676)
أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ ضَرُورَةٍ مِنْ أَيُّهَا دُعِيَ فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْهَا كُلِّهَا فَقَالَ: " نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ " وَفِي رِوَايَةِ الدَّبَرِيِّ قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ ضَرُورَةٍ مِنْ أَيُّهَا دُعِيَ فَهَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلِّهَا أَحَدٌ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: " نَعَمْ، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ وَالْبَاقِي سَوَاءٌ "، غَيْرَ أَنَّهُ قَدَّمَ ذِكْرَ الصَّدَقَةِ عَلَى الْجِهَادِ وَالصِّيَامِ " (1) .
ومضات :
هذه الآيات معقبة على الآيات الأولى وفيها إنذار للسامعين الذين وجهت إليهم الدعوة بأسلوب تقريري بالنار المتوهجة المعدة للأشقياء الذين يكذبون الدعوة ويعرضون عنها. أما الذين يتقون اللّه بالإيمان والعمل الصالح ويعطون أموالهم زكاة ابتغاء وجه ربهم ورضائه ، ودون أن يكون مقابلة لأحد له عليهم نعمة سابقة أو يد سالفة فيجنبونها ، ويكون لهم من اللّه ما فيه رضاؤهم وطمأنينتهم.
وآيات السورة كسابقتها تماما من حيث هي عرض عام للدعوة وتبشير وإنذار بأسلوب آخر هو أيضا هادىء ورصين ورائع. وقد احتوت مثلها تلقينات جليلة.
ففيها حث على تقوى اللّه بالإيمان والعمل الصالح والإنفاق في وجوه البر دون غاية من غايات الدنيا المألوفة وتنويه بجلال هذا العمل. وتلقين بأن المال إنما يفيد صاحبه إذا هو اتجه في طريق الصلاح والخير وأنفقه بسخاء في وجوه البر ابتغاء وجه اللّه. وأنه شر على صاحبه إذا أثار فيه الغرور والاعتداء وبخل به ولم ينتفع به غيره.
وقد جاءت الدعوة فيها إلى إعطاء المال زكاة بصراحة ، وهذا يدعم ترجيحنا من أن تعبير «تزكى» في السورة السابقة قد قصد به زكاة المال.
وهكذا يتوالى في المجموعات القرآنية الأولى الحث على الإنفاق والزكاة وفعل الخير ابتغاء وجه اللّه ورضائه فحسب ، والتنديد بالبخل والغرور بالغنى والمال والتمسك بأعراض الدنيا وشهواتها والإعراض عن الخير والبر ، مما ينطوي فيه أن ذلك من أهم أهداف ومبادئ الدعوة بعد الإيمان باللّه واليوم الآخر وعبادة اللّه وحده. وفي هذا ما فيه من بالغ الروعة والجلال. فالمال من أعز الأشياء على أصحابه. والمعوزون أكثر من الميسورين دائما كما أن كل مشروع خيري وإصلاحي عام يحتاج إلى المال في أول ما يحتاج.
وقد روى المفسرون أن الآيات [17 - 21] نزلت في حق أبي بكر رضي اللّه عنه لكثرة ما أنفقه وخاصة في شراء أرقاء المسلمين الذين كان مالكوهم الكفار يعذبونهم. غير أن وحدة وزن
__________
(1) - شعب الإيمان - (5 / 133) (3193 ) صحيح(1/677)
الآيات السابقة لها وأسلوب آيات السورة وتماسكها يجعلنا نرجح نزولها جملة واحدة وكونها بسبيل عرض عام للدعوة وأهدافها. وهذا لا ينفي رواية إنفاق أبي بكر رضي اللّه عنه وإنقاذه الأرقاء المعذبين من المؤمنين.
وقد رأينا ابن كثير يقول بعد ذكر رواية نزولها في حق أبي بكر : إنه ولا شك داخل فيها بسبب كثرة ما أنفقه ولكن لفظها لفظ العموم. والسورة من أبكر ما نزل كما قلنا. وقد نزلت فيما نعتقد قبل أن ينشب حجاج ونضال بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه الأولين وبين الكفار. ومن المحتمل أن يكون أبو بكر فعل ما فعل بتأثير ما احتوته من حث وتنويه وأن يكون أصحاب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قد رأوا في فعله مطابقة تامة للآيات فنوهوا به في مناسبتها ، فكان هذا أصل الرواية.
ولقد استعظم مفسرو الشيعة ما روي من أن الآيات [17 - 21] في حق أبي بكر رضي اللّه عنه فنفوا ذلك وقالوا إنها مع الآيات [5 - 7] في حق علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، والهوى الحزبي بارز على هذا القول وهذا مثال آخر من أمثلة كثيرة سوف نوردها في مناسباتها (1) .
هذا ، ويلحظ شيء من التوافق اللفظي بين آيات هذه السورة وآيات السورة السابقة كما يلحظ توافق أسلوبي وهدفي أيضا. وهذا وذلك يلهمان صحة ترتيب تتابعهما في النزول ووحدة ظروف نزولهما وكون هذه كتلك من أولى السور نزولا ومما كان يعنيه لفظ القرآن في بدء الأمر مثلها. (2)
وقوله تعالى : «إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى » أي إن علينا أن نبين للإنسان طريق الهدى ، ونكشف له عنه ، بما أودعنا فيه من عقل ، وما بعثنا إليه من رسل ، وما أنزلنا من كتب .. فهذه كلها أنوار كاشفة تكشف للإنسان عن وجه الحق والخير ، وعن وجوه الضلال والشر ..
ثم إن للإنسان أن يختار الطريق الذي يسلكه ..
فالهدى ، غير الهداية .. ولهذا جاء النظم القرآنى : « إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى » ولو جاء هكذا : « إن علينا للهدآية » لكان على اللّه أن يهدى الناس جميعا ، وأن يكون ذلك على سبيل القهر والإلزام ، وهذا مالم يقع فى حكمة اللّه ، ولم يكن من تدبيره سبحانه وتعالى .. بل جعل اللّه للإنسان كسبا يكسبه بإرادته ، وعملا بعمله باختياره ، حتى يحقق وجوده كإنسان ، ويثبت ذاتيته كخليفة اللّه على الأرض .. وبهذا يستأهل الثواب والعقاب! ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها » (13 : السجدة) .. وهذا لا يتعارض مع ماللّه سبحانه من مشيئة مطلقة غالبة .. ولكنّ مشيئة اللّه تدور فى فلكها مشيئة الإنسان ، التي بها يقضى فى أموره ،
__________
(1) - التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 224.
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 529)(1/678)
ويأخذ الطريق الذي يختاره ويرضاه.فالإنسان ـ فيما يرى نفسه ـ مطلق المشيئة ، وإن كان مقيدا ، حرّ الإرادة ، وإن كان مجبرا ..
وقوله تعالى : « وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى »..للمفسرون مجمعون على أن الآخرة ، هى الحياة الآخرة ، وأن الأولى هى الحياة الدنيا ..
والرأى عندنا ـ واللّه أعلم ـ أن الآخرة والأولى ، هما اليسرى والعسرى ، اللتان أشار إليهما سبحانه وتعالى فى الآيات السابقة .. وفى ذلك إشارة إلى أن اختيار الإنسان لليسرى أو العسرى ، وإن بدا أنه اختيار مطلق ، هو مقيد بمشيئة اللّه ، محكوم بإرادته ، إذ كلّ مردّه إلى اللّه ، فى واقع الأمر ، وكلّ صائر إلى حكمه ، وما قضى به فى عباده : « وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ » (29 : التكوير) .. ربّ العالمين « مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » (39 : الأنعام) ..
وقوله تعالى : « فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى »..وهذا مما أشار إليه سبحانه وتعالى فى قوله : « إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ». . ومن هذا الهدى ما أنذر اللّه به عباده ، على يد رسله ، من عذاب أليم فى الآخرة ، لمن رأى الضلال ، وسلك مسالكه ، ورأى الهدى ، فحاد عنه ، وصرف نفسه عن طريقه .. وقوله تعالى : « وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى »..
والسلامة من هذا البلاء ، والنجاة من ذلك العذاب ، إنما هى لمن اتقى اللّه ، وخاف عذابه ، وأنفق المال طالبا زكاة نفسه ، وتطهيرها ، مبتغيا بذلك وجه ربه الأعلى ، المالك كلّ شىء ، القائم على كل شىء ، لا يريد بما أنفق جزاء ولا شكورا من أحد من عباد اللّه .. فمن فعل ذلك ابتغاء وجه اللّه ، أرضاه للّه وأقرّ عينه بما عمل .. إنه أرضى ربه ، فكان حقّا على اللّه أن يرضيه ..
وفى لفظ « الأشقى » و« الأتقى » ما يفيد المبالغة فى كل من الشّقوة والتقوى ، وفى هذا ما يدعو الشقي إلى التخفف مما يزيد فى شقوته ، حتى لا يزداد بذلك عذابه ، كما يدعو التقىّ أن يزداد فى تقواه ما استطاع ، حتى يزداد بذلك بعدا من النار ، وقربا من الجنة .. (1)
لقد كتب الله على نفسه فضلاً منه بعباده ورحمة أن يبين الهدى لفطرة الناس ووعيهم . وأن يبينه لهم كذلك بالرسل والرسلات والآيات ، فلا تكون هناك حجة لأحد ، ولا يكون هناك ظلم لأحد : { إن علينا للهدى } . .
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1595)(1/679)
واللمسة الثانية هي التقرير الجازم لحقيقة السيطرة التي تحيط بالناس ، فلا يجدون من دونها موئلاً : { وإن لنا للآخرة والأولى } .. فأين يذهب من يريد أن يذهب عن الله بعيداً؟!
وتفريعاً على أن الله كتب على نفسه بيان الهدى للعباد ، وأن له الآخرة والأولى داري الجزاء والعمل . تفريعاً على هذا يذكرهم أنه أنذرهم وحذرهم وبين لهم : { فأنذرتكم ناراً تلظى } . . وتتسعر . . هذه النار المتسعرة { لا يصلاها إلا الأشقى } . . أشقى العباد جميعاً . وهل بعد الصلي في النار شقوة؟ ثم يبين من هو الأشقى . إنه : { الذي كذب وتولى } . . كذب بالدعوة وتولى عنها . تولى عن الهدى وعن دعوة ربه له ليهديه كما وعد كل من يأتي إليه راغباً .
{ وسيجنبها الأتقى } . . وهو الأسعد في مقابل الأشقى . . ثم يبين من هو الأتقى : { الذي يؤتي ماله يتزكى } . . الذي ينفق ماله ليتطهر بإنفاقه ، لا ليرائي به ويستعلي . ينفقه تطوعاً لا رداً لجميل أحد ، ولا طلباً لشكران أحد ، وإنما ابتغاء وجه ربه خالصاً . . ربه الأعلى . .
{ وما لأحد عنده من نعمة تجزى . إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } . .ثم ماذا؟ ماذا ينتظر هذا الأتقى ، الذي يؤتي ماله تطهراً ، وابتغاء وجه ربه الأعلى؟ إن الجزاء الذي يطالع القرآن به الأرواح المؤمنة هنا عجيب . ومفاجئ . وعلى غير المألوف .
{ ولسوف يرضى } .إنه الرضى ينسكب في قلب هذا الأتقى . إنه الرضى يغمر روحه . إنه الرضى يفيض على جوارحه . إنه الرضى يشيع في كيانه . إنه الرضى يندي حياته . .
ويا له من جزاء! ويا لها من نعمة كبرى!
{ ولسوف يرضى } . . يرضى بدينه . ويرضى بربه . ويرضى بقدره . ويرضى بنصيبه . ويرضى بما يجد من سراء وضراء . ومن غنى وفقر . ومن يسر وعسر . ومن رخاء وشدة . يرضى فلا يقلق ولا يضيق ولا يستعجل ولا يستثقل العبء ، ولا يستبعد الغاية . . إن هذا الرضى جزاء جزاء أكبر من كل جزاء جزاء يستحقه من يبذل له نفسه وماله من يعطي ليتزكى . ومن يبذل ابتغاء وجه ربه الأعلى .
إنه جزاء لا يمنحه إلا الله . وهو يسكبه في القلوب التي تخلص له ، فلا ترى سواه أحداً .
{ ولسوف يرضى } . .يرضى وقد بذل الثمن . وقد أعطى ما أعطى . .إنها مفاجأة في موضعها هذا . ولكنها المفاجأة المرتقبة لمن يبلغ ما بلغه الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ، وما لأحد عنده من نعمة تجزى ، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى . .{ ولسوف يرضى } (1) . .
ما ترشد إليه الآياتُ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3923)(1/680)
1- بيان أن الله تعالى متكفل بطريق الهدى فأرسل الرسل وأنزل الكتاب فأبان الطريق وأوضح السبيل .
2- بيان أن لله تعالى وحده الدنيا والآخرة فمن أرادهما أو إحداهما فليطلب ذلك من الله تعالى فالآخرة تطلب بالإِيمان والتقوى والدنيا تطلب باتباع سنن الله تعالى في الحصول عليها .
3- بيان فضل أبي بكر الصديق وأنه مبشر بالجنة في هذه الآية الكريمة
4- اقتضت حكمة اللَّه تعالى ورحمته بعباده أن يبين لهم كل ما هو رشاد وهداية موصلة إلى جنته ورضاه ، وقد تعهد اللَّه عز وجل بذلك لبيان أحكام الحلال والحرام ، والطاعة والمعصية.
5- للَّه تعالى ملك الدنيا والآخرة ، وهو المتصرف فيهما ، ومانح ثوابهما ، يعطي ما يشاء لمن يشاء ، فمن طلبهما من غير مالكهما ومن غير المتصرف فيهما ، فقد أخطأ الطريق. ولا يضره عصيان العاصين ، ولا ينفعه طاعة المطيعين ، وإنما يعود ضره أو نفعه إليهم.
6- حذر اللَّه تعالى بعد هذه البيانات الوافية من نار جهنم التي تتوهج وتتوقد ، ولا يجد صلاها وهو حرها على الدوام إلا الشقي الكافر الذي كذّب نبي اللَّه محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، وأعرض عن الإيمان.
7- سيكون بعيدا من النار المتقي المعاصي ، الخائف من عذاب اللَّه ، وصفة الأتقى أو المتقي : هو الذي يعطي ماله طالبا أن يكون عند اللَّه زاكيا طاهرا متطهرا من الآثام والذنوب ، لا يطلب بذلك رياء ولا سمعة ، ولا مكافأة لأحد ، بل يتصدق به مبتغيا به وجه اللَّه تعالى ، قاصدا ثوابه ورضاه ، ولسوف يرضى عن اللَّه ، ويرضى اللَّه عنه ، فيكون راضيا مرضيا. وهو وعد كريم من رب رحيم.
والخلاصة : أن كلا من الأتقى والأشقى يشمل قسمين ، فالأتقى : يشمل المؤمن البار الذي ابتعد عن الفواحش كلها ، والمؤمن الذي يذنب أحيانا فيتوب ويندم ، وثواب كل منهما الجنة.
والأشقى : يشمل الكافر الجاحد باللَّه وبرسله وبما أنزل عليه ، والمسلم الذي آمن في قلبه باللَّه ورسله ، ولكنه يصر على بعض المعاصي والسيئات ولا يتوب منها ، وهذا دليل على نقص تصديقه ، بدليل ما روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (1)
__________
(1) - شعب الإيمان - (1 / 142) (34 ) وصحيح البخارى (5578 ) وصحيح مسلم(211)
قال البيهقي : وَإِنَّمَا أَرَادَ - وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - وَهُوَ مُؤْمِنٌ مُطْلَقُ الْإِيمَانِ لَكِنَّهُ نَاقِصُ الْإِيمَانِ بِمَا ارْتَكَبَ مِنَ الْكَبِيرَةِ وَتَرَكَ الِانْزِجَارَ عَنْهَا، وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَكْفِيرًا بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ - كما مَضَى شَرْحُهُ - وَكُلُّ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ وَرَدَ فِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى مَنْ تَرَكَ فَرِيضَةً أَوِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ نُقْصَانُ الْإِيمَانِ فَقَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء: 48] وَذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنَ الْأَخْبَارِ، وَالْآثَارِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ، وَذَكَرَ الْحَلِيمِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - هَهُنَا آثَارًا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّاعَاتِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَأَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْإِيمَانِ، وَنَحْنُ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَنُشِيرُ إِلَى طَرَفٍ مِنْهَا هَهُنَا بِمَشِيئَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ "(1/681)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرُ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهَا أَبْصَارَهُمْ وَهُوَ حِينَ يَنْتَهِبُهَا مُؤْمِنٌ فَقُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ مَا هَذَا ؟ فَقَالَ : عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْبَلاَغُ ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ." (1)
والأول مخلّد في النار ، والثاني معذب فيها على وفق مشيئة اللَّه ، ثم يخرج إلى الجنة. وأما صفة الأتقى والأشقى فهو كلام وارد على سبيل المبالغة.
قال الزمخشري : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين ، وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين ، فقيل :الْأَشْقَى وجعل مختصا بالصلي ، كأن النار لم تخلق إلا له ، وقيل :الْأَتْقَى وجعل مختصا بالنجاة ، كأن الجنة لم تخلق إلا له. وقيل : هما أبو جهل أو أمية بن خلف ، وأبو بكر رضي اللَّه عنه (2) .
أخرج الإمام أحمد وابن ماجه وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : « لا يدخل النار إلا من شقي ، قيل : ومن الشقي ؟ قال :الذي لا يعمل للَّه تعالى طاعة ، ولا يترك للَّه تعالى معصية » .
مقاصد هذه السورة
(1) بيان أن الناس فى الدنيا فريقان :
(1) فريق يهيئه اللّه للخصلة اليسرى ، وهم الذين أعطوا الأموال لمن يستحقها ، وصدقوا بما وعد اللّه من الإخلاف على من أنفقوا.
(2) فريق يهيئه اللّه للخصلة المؤدية إلى العسر والشدة ، وهم الذين بخلوا بالأموال واستغنوا بالشهوات ، وأنكروا ما وعد اللّه به من ثواب الجنة.
(ب) الجزاء فى الآخرة لكل منهما وجعله إما جنة ونعيما ، وإما نارا وعذابا أليما. (3)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 414) (186) صحيح
(2) - الكشاف : 3/ 344
(3) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 182)(1/682)
سورة الضحى
مكيّة ، وهي إحدى عشرة آية
تسميتها :
سميت سورة الضحى تسمية لها باسم فاتحتها ، حيث أقسم اللَّه بالضحى :
وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس ، تنويها بهذا الوقت المهم الذي هو نور ، ولأنها نزلت في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فافتتحت بالضحى. ولما كانت سورة الليل نازلة في بخيل ، افتتحت بالليل.
وقال ابن عاشور :
سميت هذه السورة في أكثر المصاحف وفي كثير من كتب التفسير وفي "جامع الترمذي" "سورة الضحى" بدون الواو.
وسميت في كثير من التفاسير وفي "صحيح البخاري" "سورة والضحى" بإثبات الواو.
ولم يبلغنا عن الصحابة خبر صحيح في تسميتها. وهي مكية بالاتفاق.
وعدت هذه السورة حادية عشرة في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة الفجر وقبل سورة الانشراح.وعدد آيها إحدى عشرة آية. وهي أول سورة في قصار المفصل.
أغراضها
إبطال قول المشركين إذ زعموا أن ما يأتي من الوحي للنبي - صلى الله عليه وسلم - قد انقطع عنه.
وزاده بشارة بأن الآخرة خير له من الأولى على معنيين في الآخرة والأولى. وأنه سيعطيه ربه ما فيه رضاه. وذلك يغيض المشركين.
ثم ذكره الله بما حفه به من ألطافه وعنايته في صباه وفي فتوته وفي وقت اكتهاله وأمره بالشكر على تلك النعم بما يناسبها مع نفع لعبيده وثناء على الله بما هو أهله. (1)
مناسبتها لما قبلها :
أقسم سبحانه فى سورة « الليل » ، بالليل إذا يغشى ، وبالنهار إذا تجلى ..وبدأ بالقسم بالليل ، ثم أعقبه بالقسم بالنهار ..
وهنا يقسم اللّه سبحانه بالنهار أولا « والضحى » ثم بالليل ثانيا .. « ولليل إذا سجى » وبهذا يتوازن الليل والنهار ، فيقدّم أحدهما فى موضع ويقدم الآخر فى موضع ، ولكل من التقديم والتأخير فى الموضعين مناسبته .. وقد أشرنا من قبل إلى المناسبة فى تقديم الليل على النهار فى سورة الليل ، وسترى هنا المناسبة فى تقديم النهار على الليل .. (2)
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 347)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1598)(1/683)
ومناسبتها لما قبلها - أنه ذكر فى السابقة « وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى » ولما كان سيد الأتقين رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عقب ذلك سبحانه بذكر نعمه عزّ وجل عليه. (1)
ما اشتملت عليه السورة :
* سورة الضحى مكية ، وهي تتناول شخصية النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) الأعظم ، ، وما حباه الله به من الفضل والإنعام في الدنيا والآخرة ، ليشكر الهن على تلك النعم الجليلة ، التي أنعم الله بها عليه
* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم على جلالة قدر الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) وأن ربه لم يهجره ولم يبغضه كما زعم المشركون ، بل هو عند الهن رفيع القدر ، عظيم الشأن والمكانة [ والضحى ، والليل إذا سجى ، ما ودعك ربك وما قلى ، وللأخرة خير لك من الأولى ] .
* ثم بشرته بالعطاء الجزيل في الآخرة ، وما أعده الله تعالى لرسوله من أنواع الكرامات ، ومنها الشفاعة العظمى [ ولسوف يعطيك ربك فترضى ] .
* ثم ذكرته بما كان عليه في الصغر ، من اليتم ، والفقر ، والفاقة ، والضياع ، فآواه ربه وأغناه ، وأحاطه بكلأه وعنايته [ ألم يجدك يتيما فآوى ، ووجدك ضالا فهدى ، ووجدك عائلا فأغنى ] .
* وختمت السورة بتوصيته ( - صلى الله عليه وسلم - ) بوصايا ثلاث ، مقابل تلك النعم الثلاث ، ليعطف على اليتيم ، ويرحم المحتاج ، ويمسح دمعة البائس المسكين [ فأما اليتيم فلا تقهر ، وأما السائل فلا تنهر ، وأما بنعمة ربك فحدث ] وهو ختم يتناسق فيه جمال اللفظ ، مع روعة البيان ، في أروع صور الإبداع والجلال . (2)
هذه السورة بموضوعها ، وتعبيرها ، ومشاهدها ، وظلالها وإيقاعها ، لمسة من حنان. ونسمة من رحمة.
وطائف من ود. ويد حانية تمسح على الآلام والمواجع ، وتنسم بالروح والرضى والأمل. وتسكب البرد والطمأنينة واليقين.
إنها كلها خالصة للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - كلها نجاء له من ربه ، وتسرية وتسلية وترويح وتطمين.
كلها أنسام من الرحمة وأنداء من الود ، وألطاف من القربى ، وهدهدة للروح المتعب ، والخاطر المقلق ، والقلب الموجوع.
ورد في روايات كثيرة أن الوحي فتر عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وأبطأ عليه جبريل - عليه السلام - فقال المشركون : ودع محمدا ربه! فأنزل اللّه تعالى هذه السورة ..
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 182)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 498)(1/684)
والوحي ولقاء جبريل والاتصال باللّه ، كانت هي زاد الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - في مشقة الطريق.
وسقياه في هجير الجحود. وروحه في لأواء التكذيب. وكان - صلى اللّه عليه وسلم - يحيا بها في هذه الهاجرة المحرقة التي يعانيها في النفوس النافرة الشاردة العصية العنيدة. ويعانيها في المكر والكيد والأذى المصبوب على الدعوة ، وعلى الإيمان ، وعلى الهدى من طغاة المشركين.
فلما فتر الوحي انقطع عنه الزاد ، وانحبس عنه الينبوع ، واستوحش قلبه من الحبيب. وبقي للهاجرة وحده.
بلا زاد. وبلا ري. وبغير ما اعتاد من رائحة الحبيب الودود. وهو أمر أشد من الاحتمال من جميع الوجوه ..
عندئذ نزلت هذه السورة. نزل هذا الفيض من الود والحب والرحمة والإيناس والقربى والأمل والرضى والطمأنينة واليقين ..
«ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى . وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى . وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى » ..
وما تركك ربك من قبل أبدا ، وما قلاك من قبل قط ، وما أخلاك من رحمته ورعايته وإيوائه ..
« أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ؟ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ؟ وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى ؟» ..ألا تجد مصداق هذا في حياتك؟ ألا تحس مسّ هذا في قلبك؟ ألا ترى أثر هذا في واقعك؟
لا. لا .. «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى » .. وما انقطع عنك بره وما ينقطع أبدا .. «وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى » .. وهناك ما هو أكثر وأوفى : «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى »! ومع هذه الأنسام اللطيفة من حقيقة الأمر وروحه .. الأنسام اللطيفة في العبارة والإيقاع .. وفي الإطار الكوني الذي وضعت فيه هذه الحقيقة :«وَالضُّحى . وَاللَّيْلِ إِذا سَجى » ..
«لقد أطلق التعبير جوا من الحنان اللطيف ، والرحمة الوديعة ، والرضى الشامل ، والشجى الشفيف :«ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى . وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى . وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى » .. «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ؟ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ؟ وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى ؟» .. ذلك الحنان. وتلك الرحمة. وذاك الرضى.
وهذا الشجى : تنسرب كلها من خلال النظم اللطيف العبارة ، الرقيق اللفظ ، ومن هذه الموسيقى السارية في التعبير. الموسيقى الرتيبة الحركات ، الوئيدة الخطوات ، الرقيقة الأصداء ، الشجية الإيقاع .. فلما أراد إطارا لهذا الحنان اللطيف ، ولهذه الرحمة الوديعة ، ولهذا الرضى الشامل ،(1/685)
ولهذا الشجى الشفيف ، جعل الإطار من الضحى الرائق ، ومن الليل الساجي. أصفى آنين من آونة الليل والنهار. وأشف آنين تسري فيهما التأملات.
وتتصل الروح بالوجود وخالق الوجود. وتحس بعبادة الكون كله لمبدعه ، وتوجهه لبارئه بالتسبيح والفرح والصفاء. وصوّرهما في اللفظ المناسب. فالليل هو «اللَّيْلِ إِذا سَجى » ، لا الليل على إطلاقه بوحشته وظلامه.
الليل الساجي الذي يرق ويسكن ويصفو ، وتغشاه سحابة رقيقة من الشجى الشفيف ، والتأمل الوديع. كجو اليتم والعيلة. ثم ينكشف ويجلي مع الضحى الرائق الصافي .. فتلتئم ألوان الصورة مع ألوان الإطار. ويتم التناسق والاتساق» .
إن هذا الإبداع في كمال الجمال ليدل على الصنعة. صنعة اللّه التي لا تماثلها صنعة ، ولا يتلبس بها تقليد! (1)
وفي هذه السورة تطمين النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم ترك اللّه إياه. وتذكير له بما كان من أفضاله عليه ، وحثه على البر باليتيم والسائل والتحدث بنعمة اللّه. وأسلوبها ومضمونها يلهمان أنها نزلت في ظروف أزمة نفسية ألمّت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأن نزولها كان في عهد مبكر من الدعوة. وفيها إشارة إلى نشأة النبي - صلى الله عليه وسلم - في طفولته وحاله الاقتصادية والروحية في شبابه. (2)
والقارئ لها ، يرى بوضوح أنها نزلت في فترة تأخر نزول الوحى فيها على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن المشركين قد أشاعوا الشائعات الكاذبة حول سبب تأخر الوحى ، فنزلت هذه السورة الكريمة ، لتخرس ألسنتهم. ولتبشر النبي - صلى الله عليه وسلم - برضا ربه - تعالى - عنه ، ولتسوق جانبا من نعم خالقه عليه ، ولترشده - بل وترشد أمته في شخصه - بالمداومة على مكارم الأخلاق ، التي من مظاهرها : العطف على اليتيم ، والإحسان إلى السائل ، وعدم كتمان نعم اللّه - تعالى - . (3)
مقصودها الدلالة على آخر الليل بأن أتقى الأتقياء الذي هو الأتقى على الإطلاق في عين الرضا دائما ، لا ينفك عنها في الدنيا والآخرة ، لما تحلى به من صفات الكمال التي هي الإيصال للمقصود بما لها من النور المعنوي كالضحى بما له من النور الحسي الذي هو أشرف ما في النهار وقد علم بهذا أن اسمها أدل ما فيها على مقصودها ) بسم الله ( المعز لمن أراد ، الكريم البر الودود ذي الجلال والإكرام ) الرحمن ( الذي عمن بنعمته الإيجاد الخاص والعام ) الرحيم ( الذي أعلى أهل وده فخصهم بإتمام الإنعام . (4)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3925)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 549)
(3) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم لطنطاوي - (15 / 425)
(4) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 452)(1/686)
فضلها :
فَصْلٌ فِي اسْتِحْبَابِ التَّكْبِيرِ عِنْدَ الْخَتْمِ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا } [الإسراء: 106] وَأَتْبَعَ ذَلِكَ تَوْبِيخَ الْكُفَّارِ عَلَى تَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ بِالْقُرْآنِ، وَمَدَحَ الْعُلَمَاءَ بِالتَّخَشُّعِ لِلَّهِ تَعَالَى جَدُّهُ إِذَا سَمِعُوهُ قَالَ: { قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ } [الإسراء: 110] فَكَأَنَّ ظَاهِرَ ذَلِكَ ادْعُوا اللهَ إِذَا قَرَأْتُمُ الْقُرْآنَ، وَأَنَّ مَعْنَى لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ: أَيْ بِقِرَاءَتِكَ الْقُرْآنَ أَوْ بِدُعَائِكَ الَّذِي تَدْعُو بِهِ إِذَا فَرَغْتَ، ثُمَّ قَالَ: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } [الإسراء: 111] كَمَا أَمَرَ بِالْحَمْدِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَمْدَ مُسْتَحَبٌّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ مُسْتَحَبًّا، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ عِبَادَةٌ تَنْقَسِمُ إِلَى أَبْعَاضٍ مَعْدُودَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَكَأَنَّهُ كَصِيَامِ الشَّهْرِ وَقَدْ أَمَرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ إِذَا أَكْمَلُوا الْعِدَّةَ أَنْ يُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاهُمْ فبِالْقِيَاسِ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يُكَبِّرَ قَارِئٌ إِذَا أَكْمَلَ عِدَّةَ السُّورَةِ وَاللهُ أَعْلَمُ قَالَ الْحَلِيمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: " وَقَدْ يَخْرُجُ الْجَوَابُ فِي التَّكْبِيرِ عَلَى مَعْنًى، وَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِهِ فِي سُورَةِ الضُّحَى فَيُكَبِّرَ عَنْ كُلِّ سُورَةٍ فَإِذَا قَرَأَ سُورَةَ النَّاسِ وَخَتَمَ كَبَّرَ " قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: " وَالْأَصْلُ فِيهِ "
مَا روي عن عِكْرِمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، مَوْلَى بَنِي شَيْبَةَ يَقُولُ: قَرَأْتُ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمَكِّيِّ فَلَمَّا بَلَغْتُ الضُّحَى قَالَ لِي: " كَبِّرْ حَتَّى تَخْتِمَ " فَإِنِّي قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ كَثِيرٍ فَأَمَرَنِي بِذَلِكَ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مُجَاهِدٍ فَأَمَرَنِي بِذَلِكَ، قَالَ: إِنَّهُ قَرَأَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَأُخْبِرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى ابْنِ كَعْبٍ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أبو خُزَيْمَةَ رَحِمَهُ اللهُ: " أَنَا خَائِفٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَسْقَطَ ابْنُ أَبِي بَزَّةَ أَوْ عِكْرِمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ مِنْ هَذَا الْإِسْنَادِ شِبْلًا، يَعْنِي ابْنَ إِسْمَاعِيلَ وَابْنَ كَثِيرٍ "
قَالَ: الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ :وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْكُدَيْمِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُسْطَنْطِينَ فَلَمَّا بَلَغْتُ الضُّحَى قَالَ: " كَبِّرْ مَعَ خَاتِمَةِ كُلِّ سُورَةٍ حَتَّى تَخْتِمَ " فَإِنِّي قَرَأْتُ عَلَى شِبْلِ بْنِ عَبَّادٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ كَثِيرٍ فَأَمَرَانِي بِذَلِكَ وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى مُجَاهِدٍ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُ مُجَاهِدٌ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، وقال أَخْبَرَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ "، فَإِنْ كَانَ الْكُدَيْمِيُّ حَفِظَهُ فَفِيهِ تَصْحِيحٌ لِرِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ قَدْ سَمِعَهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا إِلَّا أَنَّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ زِياَدَةُ سَنَدٍ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ رَوَاهُ مَوْقُوفًا وَسَنَدُهُ مَعْرُوفٌ (1) وَقَدْ قَالَ عِكْرِمَةَ بْنَ سُلَيْمَانَ: قَرَأْتُ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُسْطَنْطِينَ فَلَمَّا بَلَغْتُ الضُّحَى قَالَ لِي: " كَبِّرْ عِنْدَ خَاتِمَةِ كُلِّ سُورَةٍ حَتَّى تَخْتِمَ الْقُرْآنَ " فَإِنِّي
__________
(1) - شعب الإيمان - (3 / 424) (1912 ) ضعيف(1/687)
قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ كَثِيرٍ فَلَمَّا بَلَغْتُ الضُّحَى قَالَ لِي: كَبِّرْ حَتَّى تَخْتِمَ، وأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى مُجَاهِدٍ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُ مُجَاهِدٌ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُ أُبَيٌّ " أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَهُ بِذَلِكَ "شعب الإيمان (1)
وقال عِكْرِمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ: قَرَأْتُ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُسْطَنْطِينَ فَلَمَّا بَلَغْتُ إِلَى وَالضُّحَى قَالَ: " كَبِّرْ مَعَ خَاتِمَةِ كُلِّ سُورَةٍ " فَإِنِّي قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ كَثِيرٍ فَأَمَرَنِي بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى مُجَاهِدٍ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي مُجَاهِدٌ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَخْبَره أَنَّهُ " قَرَأَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ "
قَالَ الْحَلِيمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: " وَصِفَةُ التَّكْبِيرِ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّهُ كُلَّمَا خَتَمَ سُورَةً وَقَفَ وَقْفَةً ثُمَّ قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ وَوَقَفَ وَقْفَةً ثُمَّ ابْتَدَأَ السُّورَةَ الَّتِي تَلِيهَا إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ كَبَّرَ كَمَا كَبَّرَ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ أَتْبَعَ التَّكْبِيرَ الْحَمْدَ، وَالتَّصْدِيقَ وَالصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالدُّعَاءَ " قَالَ أَحْمَدُ: " وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي دُعَاءِ الْخَتْمِ حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَقَدْ تَسَاهَلَ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي قَبُولِ مَا وَرَدَ مِنَ الدَّعَوَاتِ وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، مَتَى مَا لَمْ تَكُنْ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ يُعْرَفُ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ أَوِ الْكَذِبِ فِي الرِّوَايَةِ " (2)
وعَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، قَالَ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنٍ يَذْكُرُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ " إِِذَا خَتَمَ الْقُرْآنَ حَمِدَ اللهَ بِمَحَامِدِهِ وَهُوَ قَائِمٌ ثُمَّ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ }، لَا إِلَهَ إِِلَّا اللهُ، وَكَذَبَ الْعَادِلُونَ بِاللهِ وَضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَذَبَ الْمُشْرِكُونَ بِاللهِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْمَجُوسِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ، وَمَنِ ادَّعَى لِلَّهِ وَلَدًا أَوْ صَاحِبَةً أَوْ نِدًّا أَوْ شَبِيهًا أَوْ مِثْلًا أَوْ سَمِيًّا أَوْ عَدْلًا، فَأَنْتَ رَبُّنَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ نَتَّخِذَ شَرِيكًا فِيمَا خَلَقْتَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَ { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا } [الكهف: 2] قَرَأَهَا إِِلَى قَوْلِهِ: { إِِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } [الكهف: 5]، { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ }، الْآيَةَ، وَ { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } الْآيَتَيْنِ، وَ { الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } [النمل: 59]، بَلِ اللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأَحْكَمُ وَأَكْرَمُ وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ
__________
(1) - شعب الإيمان - (3 / 427) (1913 ) والمستدرك للحاكم(5325) ضعيف
(2) - شعب الإيمان - (3 / 428) (1914 ) ضعيف
وراجع كتابي (( حكم العمل بالحديث الضعيف ))(1/688)
مِمَّا يُشْرِكُونَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ صَدَقَ اللهُ وَبَلَّغَتْ رُسُلُهُ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، اللهُمَّ صَلِّ عَلَى جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ وَالْمُرْسَلِينَ وَارْحَمْ عِبَادَكَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِمْ لَنَا بِخَيْرٍ، وَافْتَحْ لَنَا بِخَيْرٍ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَانْفَعْنَا بِالْآيَاتِ وَالذَّكَرِ الْحَكِيمِ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، ثُمَّ إِِذَا افْتَتَحَ الْقُرْآنَ قَالَ: مِثْلَ هَذَا وَلَكِنْ لَيْسَ أَحَدٌ يُطِيقُ مَا كَانَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُطِيقُ " (1)
وعَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَلَمَّا خَتَمَهَا قَالَ: " اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ " قُلْتُ لعَبْدِ الْكَرِيمِ: كَمْ مَرَّةً ؟ قَالَ: عَشْرًا أَوْ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَرَأَ الَّذِي بَعْدَهَا فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ لَمْ يَقُلِ ابْنُ عَبْدَانَ: الْبَقَرَةُ، وَقَالَ: " اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ " وَقَالَ: سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَرَأَ الَّتِي بَعْدَهَا، فَلَمَّا خَتَمَهَا قَالَ: نَحْوًا في ذَلِكَ حَتَّى بَلَغَ سَبْعًا " (2)
قَال ابْنُ عَلاَّنَ : يُسَنُّ الإِْسْرَارُ فِي سَائِرِ الأَْذْكَارِ ، إِلاَّ فِي الْقُنُوتِ لِلإِْمَامِ ، وَالتَّلْبِيَةِ ، وَتَكْبِيرِ لَيْلَتَيِ الْعِيدِ ، وَعِنْدَ رُؤْيَةِ الأَْنْعَامِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ ، وَبَيْنَ كُل سُورَتَيْنِ مِنَ الضُّحَى إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ ، وَذِكْرِ السُّوقِ ، وَعِنْدَ صُعُودِ الْهَضَبَاتِ ، وَالنُّزُول مِنَ الشُّرُفَاتِ . (3)
قال ابن كثير : " فهذه سُنة تفرد بها أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزي، من ولد القاسم بن أبي بزة، وكان إمامًا في القراءات، فأما في الحديث فقد ضَعَّفَه أبو حاتم الرازي وقال: لا أحدث عنه، وكذلك أبو جعفر العقيلي قال: هو منكر الحديث. لكن حكى الشيخ شهاب الدين أبو شامة في شرح الشاطبية عن الشافعي أنه سمع رجلا يكبر هذا التكبير في الصلاة، فقال له: أحسنت وأصبت السنة. وهذا يقتضي صحة هذا الحديث.
ثم اختلف القراء في موضع هذا التكبير وكيفيته، فقال بعضهم: يكبر من آخر " وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى " وقال آخرون: من آخر " وَالضُّحَى " وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول: الله أكبر ويقتصر، ومنهم من يقول الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر.
وذكر الفراء في مناسبة التكبير من أول سورة "الضحى" : أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفتر تلك المدة [ثم] جاءه الملك فأوحى إليه: " وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى " السورة بتمامها، كبر فرحًا وسرورًا. ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف، فالله أعلم" (4)
__________
(1) - شعب الإيمان - (3 / 431) (1915) ضعيف
(2) - شعب الإيمان - (3 / 432) (1916 ) ضعيف
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (16 / 194) والفتوحات الربانية 3 / 31 - 32 .
(4) - تفسير ابن كثير - دار طيبة - (8 / 423)
وشيخ الإسلام -ابن تيمية- قد تكلم على هذا التكبير كلاما شديدا في الفتاوى (13/417-419) ، وانظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (2/310) ومرويات دعاء ختم القرآن لبكر أبو زيد (ص6) .(1/689)
سبب النزول : نزول الآية (1) وما بعدها :
عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ جُنْدَبًا ، يَقُولُ : " اشْتَكَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً - أَوْ لَيْلَتَيْنِ - فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ ، فَقَالَتْ : يَا مُحَمَّدُ مَا أُرَى شَيْطَانَكَ إِلَّا قَدْ تَرَكَكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى " صَحِيحُ الْبُخَارِيّ (1)
وعَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ جُنْدُبًا الْبَجَلِيَّ ، يَقُولُ : أَبْطَأَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : قَدْ وُدِّعَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى].
وعَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ جُنْدُبًا ، يَقُولُ : اشْتَكَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ ، فَقَالَتْ : يَا مُحَمَّدُ مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلاَّ قَدْ تَرَكَكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى]. (2)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ إِلَى وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ، قَالَ : فَقِيلَ لامْرَأَةِ أَبِي لَهَبٍ : إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ هَجَاكِ ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَلأِ ، فَقَالَتْ : يَا مُحَمَّدُ ، عَلَى مَا تَهْجُونِي ؟ قَالَ : فَقَالَ : إِنِّي وَاللَّهِ مَا هَجَوْتُكِ مَا هَجَاكِ إِلاَّ اللَّهُ ، قَالَ : فَقَالَتْ : هَلْ رَأَيْتَنِي أَحْمِلُ حَطَبًا أَوْ رَأَيْتَ فِيَ جِيدِي حَبْلا مِنْ مَسَدٍ ؟ ثُمَّ انْطَلَقَتْ ، فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيَّامًا لاَ يُنَزَّلُ عَلَيْهِ ، فَأَتَتْهُ ، فَقَالَتْ : يَا مُحَمَّدُ ، مَا أَرَى صَاحِبَكَ إِلاَّ قَدْ وَدَّعَكَ وَقَلاكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى " (3)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - صَحِيحُ الْبُخَارِيّ(4983 )
(2) - صحيح ابن حبان - (14 / 523) (6565و6566) صحيح
(3) - المستدرك للحاكم(3945) حسن ، وأعله بعلة خفية(1/690)
نعم اللَّه تعالى على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
سبب نزول الآية 3 ولسوف :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : عُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا هُوَ مَفْتُوحٌ عَلَى أُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ كَفْرًا كَفْرًا ، فَسُرَّ بِذَلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ أَلْفَ قَصْرٍ ، فِي كُلِّ قَصْرٍ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنَ الْوِلْدَانِ وَالْخَدَمِ " (1)
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ ، عَنْ أَبِيهِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، قَالَ : " عُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا هُوَ مَفْتُوحٌ عَلَى أُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ كُفْرًا كُفْرًا فَسُرَّ بِذَلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى قَالَ : فَأَعْطَاهُ فِي الْجَنَّةِ أَلْفَ قَصْرٍ فِي كُلِّ قَصْرٍ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَالْخَدَمِ " (2)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... وَالضُّحَى ... قسم بالضحى وما جعل فيه من الضياء
2 ... وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ... سكن وأظلم وادلهم
3 ... مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ ... ما تركك
3 ... وَمَا قَلَى ... وما أبغضك
6 ... يَتِيمًا ... فاقد الأب قبل ولادتك والأم قبل الاحتلام
6 ... فَآوَى ... آواه فضمه إلى جده ثم إلى عمه
7 ... ضَآلّاً ... لا تعرف دينا
8 ... عَائِلاً ... فقيرا ( عال الرجل إذا افتقر )
8 ... فَأَغْنَى ... غنى النفس وغنى اليد ( من مال خديجة )
9 ... فَلا تَقهَرْ ... لا تذله ولا تهنه ولا تأخذ ماله
10 ... فَلا تَنْهَرْ ... فلا تزجره
__________
(1) - الْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ (10505 ) والمعجم الأوسط للطبراني (583 ) حسن
(2) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ(3920 ) حسن(1/691)
11 ... وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ... اذكر ما أنعم الله به عليك فهو شكر لله تعالى
المعنى الإجمالي:
أجمع الرواة على أن سبب نزول هذه السورة حدوث فترة فى نزول الوحى على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وأنه حزن لذلك حزنا شديدا حتى غدا مرارا إلى الجبال ليتردّى من شواهقها ، وأنه ما كان يمنعه إلا تمثل الملك له وإخباره إياه أنه رسول اللّه حقّا.
وإنما حزن لهذه الفترة خيفة أن يكون ذلك من غضب أو قلى من ربه له ، بعد أن ذاق حلاوة الاتصال به ، وشاهد من جمال الأنس بالوحى ما يثير لواعج شوقه إلى التزوّد منه ، وقد كان يعلم أنه بشر ، لا فضل له على غيره إلا بهذا القرب الذي يعلو به على من عداه ، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - شديد الحرص على تكميل نفسه وإعدادها لتحمل ما هى بسبيله من أعباء الرسالة.
لا جرم يكون حزنه لهذه الفترة شديدا ، وأن يتوجس منه خيفة ، ولا عجب أن يدعوه ذلك إلى التفكير فيما كان يفكر فيه ، وأن يهمّ بتنفيذه.
ومن ثم نزلت هذه السورة حاملة له أجمل البشرى ، ملقية فى نفسه الطمأنينة ، معدّدة ما أنعم اللّه به عليه ، وكأنه تعالى يقول لرسوله : إن من أنعم عليك بكذا وكذا لم يكن ليتركك ولا ينساك بعد أن هيأك لحمل أمانته ، وأعدّك للاضطلاع بأعباء رسالته ، فلا تحزن على ما كان من فترة الوحى عنك ، ولا يكن فى صدرك حرج منها ، فما ذلك إلا لتثبيت قلبك ، وتقوية نفسك على احتمال مشاقّها. (1)
وبعد أن ذكر رضاه عن رسوله ، ووعده له أن يمنحه من المراتب والدرجات ما يرضيه ، ويثلج قلبه - أردف ذلك بيان أن هذا ليس عجبا منه جل شأنه ، فقد أنعم عليه بالنعم الجليلة قبل أن يصير رسولا فكيف يتركه بعد أن أعده لرسالته ،ثم نهاه عن أمرين : قهر اليتيم وزجر السائل ، لما لهما من أكبر الأثر فى التعاطف والتعاون فى المجتمع ، ولما فيهما من الشفقة بالضعفاء وذوى الحاجة ، ثم أمره بشكره على نعمه المتظاهرة عليه باستعمال كل منها فى موضعها وأداء حقها. (2)
أقسم الحق - تبارك وتعالى - بالضحى ساعة ارتفاع الشمس أو النهار ، وساعة امتلاء الكون بالحياة والضوء والحرارة ، وأقسم بالليل إذا سكن وهدأ كل ما فيه بعد حركة واضطراب. أقسم بهذا وذاك على أنه ما تركك يا محمد وما كرهك ، وكيف ذلك وأنت الحبيب المختار والرسول الأمين ، وخاتم الأنبياء والمرسلين.
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 182)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 185)(1/692)
ولقد اتصل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الأمين جبريل حينما بعث ، وهذا الاتصال لأنه بين ملك وبشر كان شديدا على النبي - صلى الله عليه وسلم - إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ لهذا فتر الوحى وانقطع لتطمئن نفس الرسول ويتجدد عزمه ، وتقوى نفسه على ملاقاة جبريل ، فيبحث عنه ويطلبه ، فكانت فترة الوحى تأديبا وتطمينا وإصلاحا.
ولقد تاقت نفسه الشريفة إلى ملاقاة ربه عن طريق جبريل واشتاق إلى ذلك. ومع الشوق قلق وخوف. فأراد الحق أن يطمئن الرسول على ما يطلب بذكر ما صنعه معه.
وتبشيره بمستقبل زاهر ، وأن هذه الفترة لم تكن عن ترك ولا بغض وأقسم له على ذلك.
ولعلك تسأل عن العلاقة بين القسم بالضحى والليل وبين المقسم عليه ؟ والجواب أن الوحى وانقطاعه للاستجمام والتقوية والاطمئنان كان أشبه بالضحى وما فيه من حركة وحياة ثم ما يعقبه من ليل يسكن فيه الكون ليستجم ويستعد لكفاح وحياة أخرى سعيدة.
والضحى والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما تركك عن غضب عليك. واعلم أن الآخرة - أى : الأيام المستقبلة الآتية - خير بلا شك من أيامك هذه ، فثق أن دعوتك وحياتك تنتقل من طور إلى طور أحسن ، وإن يكن في ذلك نوع من التعب والمشقة ، ولسوف يعطيك ربك من توارد الوحى الذي تطلبه لإرشاد قومك ، وهداية العالم ما به ترضى وتطمئن ، ولا عجب في ذلك ولا غرابة ، ألم يجدك يتيما فآواك وأيدك ورعاك ، وقد ولد النبي يتيما إذ مات أبوه وهو في بطن أمه ، فلما ولد عطف اللّه قلب جده عليه فرعاه وحنا عليه حنوا كثيرا ، ثم لما مات جده عبد المطلب كفله عمه أبو طالب بأمر من جده ، وكان شديد الحرص عليه كثير العطف والحماية له.
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ذا روح قوية نقية طاهرة فكان يرى أن قومه على ضلال ، وأن الأديان المحيطة بهم كاليهودية ، فأصابته حيرة من أمره ، وفر من هذا المجتمع ، وحبب إليه الخلاء والمكث في الغار حتى أنقذه اللّه من حيرته ، وهداه إلى أسمى شريعة وأعظم دين : وهذه الحيرة التي كان فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - هي التي عبر عنها القرآن بالضلال ، وإلا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - نشأ طاهرا مطهرا لم يدنس نفسه بالسجود إلى صنم ، ولم يقترف فاحشة أبدا ، بل ذهب مرة ليستمع إلى حفل فيه غناء فنام حتى أيقظته الشمس ، وهو الملقب بالأمين ، وقد كان فقيرا - لم يرث عن أبيه إلا ناقة وجارية - فأغناه اللّه بالقناعة ، وجعله عزوفا عن الدنيا ، وأدر عليه بعض المال من تجارته في مال خديجة ، إذا كان الأمر كذلك وقد غمرك اللّه بفضله يا محمد ، فأما اليتيم(1/693)
فلا تقهره أبدا ، وأنت سيد الأيتام وزعيمهم ، وأما السائل فلا تنهره ، وقد كنت ضالا فهداك اللّه ، وأما بنعمة ربك فحدث بالإنفاق ، وقد كنت فقيرا فأغناك اللّه. (1)
التفسير والبيان :
وَالضُّحى ، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى أي قسما بالضحى : وقت ارتفاع الشمس أول النهار ، والمراد به النهار ، لمقابلته بالليل ، وبالليل إذا سكن وغطى بظلمته النهار مثلما يسجّى الرجل بالثوب ، ما قطعك ربك قطع المودّع ، وما تركك ، ولم يقطع عنك الوحي ، وما أبغضك وما كرهك ، كما يزعم بعضهم أو تتوهم في نفسك. وهذه الواقعة تدل على أن القرآن من عند اللَّه إذ لو كان من عنده لما توقف.
ثم بشره بأن مستقبله أفضل من ماضيه ، فقال : ولَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى أي وللدار الآخرة خير لك من هذه الدار ، إذا فرض انقطاع الوحي وحصل الموت ، وكذلك فإن أحوالك الآتية خير لك من الماضية ، وأن كل يوم تزداد عزا إلى عز ، ومنصبا إلى منصب ، فلا تظن أني قليتك ، بل تكون كل يوم يأتي أسمى وأرفع ، فإني أزيدك رفعة وسموا ، وإن شرف الدنيا يصغر عنده كل شرف ، ويتضاءل بالنسبة إليه كل مكرمة في الدنيا.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : دَخَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَرَ فِي جَنْبِهِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ فِرَاشًا أَوْثَرَ مِنْ هَذَا ؟ فَقَالَ : " يَا عُمَرُ مَا لِي وَلِلدُّنْيَا ، وَمَا لِلدُّنْيَا وَلِي ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ ، فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرْكَهَا " (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : نَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلَا آذَنْتَنَا فَبَسَطْنَا تَحْتَكَ أَلْيَنَ مِنْهُ ؟ فَقَالَ : " مَا لِي وَلِلدُّنْيَا ؟ إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ ، فَقَالَ تَحْتَ شَجَرَةٍ ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرْكَهَا " (3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : دَخَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَوِ اتَّخَذْتَ فِرَاشًا أُوثِرَ مِنْ هَذَا ، فَقَالَ : " مَالِي وَلِلدُّنْيَا وَمَا لِلدُّنْيَا وَمَالِي ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ ، فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا " (4)
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 874)
(2) - صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ (6458 ) صحيح
(3) - مُسْنَدُ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ (5169 ) صحيح
(4) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ (1431) صحيح(1/694)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَا لِي وَلِلدُّنْيَا , وَمَا لِلدُّنْيَا وَلِي ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ , مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ , ثُمَّ رَاحَ وَتَرْكَهَا " (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غُرْفَةٍ كَأَنَّهَا بَيْتُ حَمَامٍ وَهُوَ نَائِمٌ عَلَى حَصِيرٍ وَقَدْ أَثَّرَ بِجَنْبِهِ فَبَكَيْتُ فَقَالَ : " مَا يُبْكِيكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ ؟ " فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ ، فَقَالَ لِي : " لَا تَبْكِ يَا عَبْدَ اللَّهِ ، فَإِنَّ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةَ ، وَمَا أَنَا وَالدُّنْيَا ؟ وَمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ نَزَلَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا " (2)
وقال عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: اعْتَزَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءَهُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهُوَ مُضْطَجِعً عَلَى حَصِيرٍ، فَجَلَسْتُ فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَارَهُ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَنَظَرْتُ بِبَصَرِي فِي خِزَانَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوَ الصَّاعِ وَمِثْلُهَا قَرَظًا فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ، وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ، قَالَ: فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ فَقَالَ: " مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ " قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ وَمَالِي لَا أَبْكِي وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ، وَهَذَهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى وَذَلكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللهِ وَصَفْوَتُهُ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ، فَقَالَ: " يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ وَلَهُمُ الدُّنْيَا "
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوِ اتَّخَذْتَ فِرَاشًا أُوثِرَ مِنْ هَذَا، فَقَالَ: " مَالِي وَلِلدُّنْيَا وَمَا لِلدُّنْيَا وَمَالِي، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ ، فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا "
وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهِ عَنْهُ , أَنَّهُ جَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ , وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ , وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوغًا , وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ , فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَكَيْتُ , فَقَالَ: " مَا يُبْكِيكَ ؟ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ , إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ عَلَى مَا هُمَا , وَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ , فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمَا الدُّنْيَا وَلَكَ الْآخِرَةُ ؟ " (3)
__________
(1) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ(10029 ) صحيح
(2) - الزُّهْد لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ (176 ) صحيح
(3) - صحيح البخارى ( 2468 و89 ، 4913 ، 4914 ، 4915 ، 5191 ، 5218 ، 5843 ، 7256 ، 7263 ) وصحيح مسلم (3764-3768) وشعب الإيمان - (3 / 48) (1377 و1378 و9926)(1/695)
وبشره بعطاء جزيل فقال : وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى أي ولسوف يمنحك ربك عطاء جزيلا ونعمة كبيرة في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فهو الفتح في الدين ، وأما في الآخرة فهو الثواب والحوض والشفاعة لأمتك ، فترضى به. وهذا دليل على تحقيق العلو والسمو في الدارين ، فيعلو دينه على كل الأديان ، ويرتفع قدره على جميع الأنبياء والناس بالشفاعة العظمى يوم العرض الأكبر يوم القيامة. وإنما أتى بحرف التوكيد والتأخير ، ليفيد بأن العطاء كائن لا محالة ، وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة.
ثم عدد اللَّه تعالى نعمه على رسوله - صلى الله عليه وسلم - قبل إرساله ، وكأنه قال : ما تركناك وما قليناك قبل أن اخترناك واصطفيناك ، فتظن أنا بعد الرسالة نهجرك ونخذلك ، فقال : أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ، وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى أي ألم يجدك ربك يتيما لا أب لك ، فجعل لك مأوى تأوي إليه ، وهو بيت جدك عبد المطلب وعمك أبي طالب ، فإنه فقد أباه وهو في بطن أمه ، أو بعد ولادته ، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب ، وله من العمر ست سنين ، ثم كان في كفالة جده عبد المطلب ، إلى أن توفي ، وله من العمر ثمان سنين ، فكفله عمه أبو طالب ، ثم لم يزل يحوطه وينصره بعد أن ابتعثه اللَّه على رأس أربعين سنة.
ووجدك غافلا عن أحكام الشرائع حائرا في معرفة أصح العقائد ، فهداك لذلك ، كما قال تعالى : وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا الآية [الشورى 42/ 52].
ووجدك فقيرا ذا عيال لا مال لك ، فأغناك بربح التجارة في مال خديجة ، وبما منحك اللَّه من البركة والقناعة ، أخرج الشيخان عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ » (1) . .
وعَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " قَالَ جِبْرِيلُ - صلى الله عليه وسلم - : يَا مُحَمَّدُ عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ ، وَأَحِبَّ مَنْ أَحْبَبْتَ فَإِنَّكَ مَفَارِقُهُ ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ لَاقِيهِ " (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ وَالْمَسْأَلَةَ « الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى ، فَالْيَدُ الْعُلْيَا هِىَ الْمُنْفِقَةُ ، وَالسُّفْلَى هِىَ السَّائِلَةُ » . (3)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ ». (4) .
__________
(1) - صحيح البخارى (6446 ) وصحيح مسلم (2467 ) - العَرض : متاع الدنيا وحطامها
(2) - مُسْنَدُ الطَّيَالِسِيِّ (1853 ) حسن
(3) - صحيح البخارى -(1429 )
(4) - صحيح مسلم (2473 )(1/696)
وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ , عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا فَكَتَبْتُهُ فَأَعْجَبَنِي , فَلَمَّا حَفِظْتُهُ مَحَوْتُهُ , قَالَ: " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا فَصَبَرَ عَلَيْهِ " (1)
روى ابن جرير عَنْ قَتَادَةَ ، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى قَالَ : كَانَتْ هَذِهِ مَنَازِلَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى " (2) .
ثم أمره ربه ببعض الأخلاق الاجتماعية وبشكره على هذه النعم ، فقال :
1- فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ أي كما كنت يتيما فآواك اللَّه ، فلا تستذل اليتيم وتهنه وتتسلط عليه بالظلم لضعفه ، بل أدّه حقه ، وأحسن إليه ، وتلطف به ، واذكر يتمك. لذا كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يحسن إلى اليتيم ويبره ويوصي باليتامى خيرا.
2- وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ أي وكما كنت ضالا ، فهداك اللَّه ، فلا تنهر السائل المسترشد في العلم ، وطلب المال ، ولا تزجره ، بل أجبه أورد عليه ردا جميلا.
3- وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ أي تحدث بنعمة ربك عليك ، واشكر هذه النعمة وهي النبوة والقرآن ، وما ذكر في الآيات ، والتحدث بنعمة اللَّه شكر ، فكما كنت عائلا فقيرا ، فأغناك اللَّه ، فتحدث بنعمة اللَّه عليك ،قَالَ شَقِيقٌ قَالَ :كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُكْثِرُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ : رَبَّنَا أَصْلِحْ بَيْنَنَا ، وَاهْدِنَا سَبِيلَ الْإِسْلَامِ ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ، وَاصْرِفْ عَنَّا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهْرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُلُوبِنَا وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا ، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ ، مُثْنِينَ بِهَا ، قَائِلِينَ بِهَا ، وَأَتْمِمْهَا عَلَيْنَا " (3)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا هَذَا الْكَلَامَ : " اللَّهُمَّ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا ، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ، وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ لَنَا وَمَا بَطَنَ ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُلُوبِنَا وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا ، وَتُبْ عَلَيْنَا ؛ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ ، مُثْنِينَ بِهَا قَائِلِيهَا ، وَأَتِمَّهَا عَلَيْنَا " (4)
وعَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ إِذَا دَعَا لِأَصْحَابِهِ ، قَالَ : " اللَّهُمَّ اهْدِنَا ، وَيَسِّرْ هُدَاكَ لَنَا ، اللَّهُمَّ يَسِّرْنَا لِلْيُسْرَى ، وَجَنِّبْنَا الْعُسْرَى ، وَاجْعَلْنَا مِنْ أُولِي النُّهَى ، اللَّهُمَّ لَقِّنَا نَضْرَةً وَسُرُورًا
__________
(1) - شعب الإيمان - (12 / 547) (9863 ) صحيح
(2) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (34827 ) صحيح مرسل
(3) - الْأَدَبُ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ (649 ) صحيح
(4) - الْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ (10275 ) صحيح(1/697)
، وَاكْسُنَا سُنْدُسًا وَحَرِيرًا ، وَحَلِّنَا أَسَاوِرَ إِلَهَ الْحَقِّ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ مُثْنِينَ بِهَا قَائِلِيهَا ، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ " (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ ، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ ، وَيُعَلِّمُنَا مَا لَمْ يَكُنْ يُعَلِّمُنَا كَمَا يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ : " اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا ، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ، وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهْرَ مِنْهَا وَمَا بَطْنَ ، اللَّهُمَّ احْفَظْنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَأَزْوَاجِنَا ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ ، مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْكَ ، قَابِلِينَ بِهَا ، فَأَتْمِمْهَا عَلَيْنَا " (2)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ " (3)
ومضات :
{ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } أي : يعطيك من فواضل نعمه في العقبى حتى ترضى ، وهذه عِدةٌ كريمة شاملة لما أعطاه الله تعالى في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين ، وظهور الأمر وإعلاء الدين ، بالفتوح الواقعة في عصره عليه الصلاة والسلام ، وفي أيام خلفائه الراشدين وغيرهم من ملوك الإسلام ، وفشوّ دعوته في مشارق الأرض ومغاربها ، ولِما ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها إلا الله تعالى . وبالجملة فهذه الآية جامعة لوجوه الكرامة وأنواع السعادة وشتات الإنعام في الدارين ، حيث أجملهُ ووكلهُ إلى رضاهُ وهذا غاية الإحسان والإكرام .
قال في "المواهب اللدنية " : وأما ما يغترُّ به الجهال من أنه < لا يرضى واحداً من أمته في النار > ، أو لا يَرضى أن يدخل أحد من أمته النار ، فهو من غرور الشيطان لهم ، ولعبه بهم ؛ فإنه صلوات الله عليه وسلامه يرضى بما يرضى به ربه تبارك وتعالى ، وهو سبحانه وتعالى يُدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة ، وقد ولع الحشوية بتقوية أمثال هذه الآثار المفتراة تغريراً للجهال وتزييناً لموارد الضلال . ولا حول ولا قوة إلا بالله .
{ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } أي : بشكرها وإظهار آثارها فيرغب فيما لديه منها ، ويحرص على أن تصدر المحاويج عنها . وهذا هو سر الأمر بالتحدث بها . وفي الآية تنبيه على أدب عظيم وهو التصدي للتحدث بالنعمة وإشهارها ، حرصاً على التفضل والجود والتخلق بالكرم ، وفراراً من رذيلة الشح الذي رائده كتم النعمة والتمسكن والشكوى .
__________
(1) - مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ (28946 ) صحيح
(2) - صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ (1001 ) صحيح
(3) - شعب الإيمان - (11 / 375) (8696 ) صحيح(1/698)
قال الإمام : من عادة البخلاء أن يكتموا مالهم ، لتقوم لهم الحجة في قبض أيديهم عن البذل ، فلا تجدهم إلا شاكين من القل . أما الكرماء فلا يزالون يظهرون بالبذل ما آتاهم الله من فضله ويجهرون بالحمد لما أفاض عليهم من رزقه . فلهذا صح أن يجعل التحديث بالنعمة كناية عن البذل وإطعام الفقراء وإعانة المحتاجين . فهذا من قوله : {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } أي : إنك لما عرفت بنفسك ما يكون فيه الفقير ، فأوسع في البذل على الفقراء . وليس القصد هو مجرد ذكر الثروة ، فإن هذا من الفجفجة التي يتنزه عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يعرف عنه في امتثال هذا الأمر أنه كان يذكر ما عنده من نقود وعروض ، ولكن الذي عرف منه أنه كان < ينفق ما عنده ويبيت طاوياً > . وقد يقال : أن المراد من النعمة النبوة ، ولكن سياق الآيات يدل على أن هذه الآية مقابلة لقوله :{ وَوَجَدَكَ عَائِلاً } فتكون النعمة بمعنى الغنى ، ولو كانت بمعنى النبوة ، لكانت مقابلة لقوله :{ وَوَجَدَكَ ضَالّاً } وقد علمت الحق في مقابله . والله أعلم . (1)
قوله تعالى : «وَالضُّحى . وَاللَّيْلِ إِذا سَجى . ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى » الضحى ، أول النهار وشبابه ، حيث تعلو الشمس على أفقها الشرقي ، فتبسط ضوءها على الوجود ..
« وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ».. سجا الليل ، يسجو ، سجوّا ، وسجوّا ، أي سكن ، وهدأ ، حيث تسكن فيه حركة الحياة ، كما يسكن موج البحر ، وينطوى صخبه وهديره ، وهذا يعنى الدخول فى الليل إلى حدّ استوائه ، كالدخول فى النهار إلى وقت الضحى ، حيث يسفر وجه النهار على تمامه وكماله ..
قيل إن هذه السورة نزلت بعد فترة انقطع فيها الوحى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حتى لقد اتخذ المشركون من ذلك مادة للسخرية من النبي ، وأن ربّه ـ الذي يقول إنه يوحى إليه بما يحدثهم به ـ قد قلاه ، أي هجره ، كرها له وبغضا!!
وفى القسم بالضحى ، إشارة إلى مطلع شمس النبوة ، وأن مطلعها لا يمكن أن يقف عند حد الضحى الذي بلغته فى مسيرتها ، بل لا بد أن تبلغ مداها ، وأن تتم دورتها .. فالشمس فى مسيرتها ، لا يمسكها شىء إذا طلعت.
وفى القسم بالليل بعد الضحى ، وإلى سجوّ هذا الليل وسكونه ـ إشارة أخرى إلى أن فترة انقطاع الوحى ، ليست إلا فترة هدوء ، واستجمام يجمع فيها النبي نفسه ، ويلمّ فيها خواطره ، بعد هذا النور الغامر الذي بهره ، وهز أعماق نفسه .. وإن بعد هذا الليل الهادئ الوادع نهارا ، مشرقا وضيئا .. فهكذا يجرى نظام السكون ، على ما أقامه الصانع الحكيم.
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 245)(1/699)
يقول الأستاذ الإمام محمد عبده : « وليس فى نسق السورة ما يشير إلى أن المشركين أو غير هم بغرض من الخطاب .. ومن أين كان للمشركين أن يعلموا فترة الوحى ، فيقولوا أو يطعنوا ، ولكن ذلك كان شوق النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - إلى مثل ما رأى وما فهم عن اللّه ، وما ذاق من حلاوة الاتصال بوحيه .. وكل شوق يصحبه قلق ، وكل قلق يشوبه خوف »..
وهذا ما نقول به ، ونرضى عنه .. وقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل جبريل ، لم لا يداوم الاتصال به ويكثر من الوحى إليه ، فنزل قوله تعالى : « وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ .. » (64 : مريم) وقوله تعالى : « ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى » هو المقسم عليه ، وهو أن اللّه سبحانه لم يودع النبي ، وداعا لا لقاء بعده ، بل إن اللّه معه ، فى كل لحظة من لحظات حياته ، ومع كل نفس من أنفاس صدره.
وأن انقطاع الوحى فى تلك الفترة لم يكن عن قلى وهجر من اللّه سبحانه وتعالى له ، فهو الحبيب إلى ربه ، المجتبى إليه من خلقه ..
وفى توكيد الخبر بالقسم ، مزيد من فضل اللّه ورحمته ، للنبى الكريم ، ورفع لمنزلة النبىّ عند ربّه ، حتى لينزل منزلة الحبيب من حبيبه.
وقوله تعالى : . « وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى » الآخرة ، خاتمة أمر النبي مع النبوة ، والأولى ، مبدأ أمره معها ..
أي أن آخرة أمر النبي مع رسالته ، خير من أولها .. فإذا بدأت رسالته بهذا العناء المتصل ، الذي واجهه من عناد قومه ، ومن تأتيهم عليه ، وتكذيبهم له ، وملا حقته هو والمؤمنون معه بالأذى ، والضر ، وبالحرب والقتال ـ فإن خاتمة هذه الرسالة ستكون نصرا مؤزّرا له ، وفتحا عظيما الدعوة ، وخزيا وإذ لا لا للضالين المعاندين .. قوله تعالى : « وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى » أي ولسوف يلقاك ربك بالعطايا والمنن ، حتى تقر عينك ، وينشرح صدرك ، وذلك بما ينزل عليك من آيات ربك ، وبما يحقق لدعوتك من نصر وتمكين.
وقوله تعالى : « أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ، وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى » هذا من بعض ما أعطى اللّه النبي ، فيما مضى ، ولسوف يعطيه أكثر وأكثر فيما يستقبل من الحياة ..
فإذا نظر النبي إلى نفسه ، من مولده إلى يومه هذا الذي لقيته فيه تلك الآيات ـ وجد أنه ولد يتيما ، فكفله اللّه ، وأنزله من جده عبد المطلب ، وعمه أبى طالب ، منزلة أعز الأبناء وأحبهم إلى آبائهم .. ثم إذا نظر مرة ثانية إلى شبابه ، وجد أنه كان قلق النفس ، منزعج الضمير ، مما كان يرى من الحياة الضالة التي يعيش فيها قومه ، ولم يكن يدرى كيف يجد لنفسه سكنا ، ولقلبه اطمئنانا وسط هذا الجوّ الخانق ، فهداه اللّه إلى الخلوة إلى نفسه فى غار حراء ، والابتعاد عن قومه ، والانقطاع إلى ربه متحنّثا متعبدا ، متأملا متفكرا .. وقد ظل هذا شأنه إلى أن جاءه(1/700)
وحي السماء ، فسكب السكينة فى قلبه ، والطمأنينة فى نفسه .. إنه صلوات اللّه وسلامه عليه ، كان يرى أن ما عليه قومه ليس مما يدين به عاقل ، أو تستقيم به حياة العقلاء ، ولم يكن يدرى ـ صلوات اللّه وسلامه عليه يغير من مسيرتهم الضالة ، ولا كيف يقيم هو نفسه هو على شريعة يبشّر بها فى الناس ، كما يقول سبحانه : « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ .. » (52 : الشورى) ثم إذا أعاد النبي النظر إلى نفسه مرة ثالثة ، وجد أنه كان فقيرا عائلا ، أي كثير العيال ، فأغناه اللّه ، وسدّ حاجة عياله ، من مال زوجه ، وأم أبنائه ، السيدة خديجة رضى اللّه عنها .. وفى هذا ما يشير إلى فضل السيدة خديجة ، وإلى أنها نعمة من نعم اللّه على النبي .. هذا كله يراه النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ من نفسه ، ماضيا ، وحاضرا ..
قوله تعالى : « فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ »..هو تعقيب على هذا الإحسان الذي أفاضه اللّه وما سيفيضه على نبيه ، وأن من حق هذا الإحسان أن يقابل بالحمد والشكران للّه رب العالمين .. وقد صرف اللّه سبحانه وتعالى هذا الحمد ، وذلك الشكران إلى الضعفاء ، والمحتاجين من عباده ، فيكون حمده وشكره ، بالإحسان إليهم ، والرعاية لهم .. فلا نهر لليتيم ، ولا كسر لخاطره ، ولا ترك لمرارة اليتم تنعقد فى فمه .. وإن أولى الناس برعاية اليتيم ، وجبر خاطره ، من عرف اليتم ، ثم كفله اللّه .. وإنه لا نهر أي لا زجر للسائل ، وهو من يقف موقف من يسأل ، عما هو محتاج إليه ، من طعام يسد به جوعه ، أو علم يغذى به عقله ، أو هدى يعرف به طريق الخلاص لروحه ..
فإن السائل ضعيف أمام المسئول ، ومن حقه على القوى أن يتلطف معه ،ويرفق به .. إنه أشبه بالضالّ الذي لا يعرف الطريق ، والمسئول هو موضع أمله ، ومعقد رجائه ، فى أن يخرجه من هذا الضلال ، وأن يقيمه على الطريق المستقيم ..
وأولى الناس بهذا من عرف الحيرة ، ونشد وجه الهداية ، فأصابها وقدرها قدرها ..
وقوله تعالى : « وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ».نعمة اللّه هنا ، هو القرآن الكريم ، وهو من أجلّ وأعظم ما أنعم اللّه به على النبي ، وهو نعمة عامة شاملة ، وإنه لمطلوب من النبي أن ينفق منها على الناس ، وأن يسعهم جميعا فيها ..
فهى نعمة سابغة ، لا تنفد على الإنفاق. فليحدّث النبي الناس بها ، وليكثر من هذا التحديث بها ، والإنفاق منها : « فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى » (9 : الأعلى) .. « فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ » (45 : ق) .. « فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ » (21 : الغاشية) .. فهذا التحديث بالقرآن ، هو(1/701)
التذكير به ، وفى التذكير به هدى ورحمة للناس ، حيث يجدون فى آياته شفاء الصدور ، وجلاء البصائر ، وروح النفوس. (1)
جميع آيات السورة موجهة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومعانيها واضحة. وفي آياتها الخمس الأولى قسم رباني في معرض التوكيد والتطمين. وفي آياتها الثلاث الأخيرة تعليمه ما يجب عليه إزاء نعم اللّه من الشكر وإزاء اليتيم من الرعاية وإزاء السائل من كلمة الخير والمساعدة.
ومع احتمال انصراف الآية الرابعة إلى الحياة الأخروية فإن من المحتمل أيضا أن يكون قصد بها تطمين النبي - صلى الله عليه وسلم - وتبشيره بنجاح الدعوة ، وبأن مستقبلها سيكون خيرا من بدئها وقد تساعد الآية الخامسة على تدعيم هذا التوجيه حيث تلهم أن ما احتوته من الوعد والبشرى بإعطاء اللّه له حتى يرضى هما بالنسبة لظروف الحياة الدنيا أقوى منهما بالنسبة للحياة الأخروية.
ومع أن الخطاب في الآيات موجه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الأوامر الربانية الواردة في الآيات الثلاث الأخيرة متسقة مع المبادئ والأهداف التي احتواها القرآن منذ بدء تنزيله ، وتلقينها شامل لجميع المؤمنين. ويلحظ أن الفصول القرآنية السابقة قد احتوت ما يماثل هذه الأوامر ، وقد استمرت الفصول القرآنية على ذكرها مما له مغزى جليل ينطوي على عظمة أهداف الرسالة المحمدية في صدد البرّ بالفقراء والرأفة بالضعفاء والتحدث بنعمة اللّه قولا وفعلا. ويتبادر لنا أن هذا كان من الأسباب القوية التي جعلت أغنياء مكة وزعماءها يتحالفون ضدّ الدعوة ويشتدون في مناوأتها ، ويستمرون في ذلك طيلة العهد المكي والشطر الأكبر من العهد المدني.
ولقد روى المفسرون أن هذه السورة نزلت بعد فترة من نزول الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - والروايات متنوعة ومتعددة في ذلك. منها ما هو في مدة هذه الفترة حيث تتراوح حسب اختلاف الروايات بين يومين وبين ثلاث سنين. ومنها ما هو في أسبابها وأثرها حيث روي فيما روي أن السيدة خديجة أم المؤمنين رضي اللّه عنها قالت له حينما فتر عنه الوحي : ما أرى إلّا أن ربك قلاك ، وأن مثل هذا القول صدر عن امرأة أبي لهب في معرض السخرية والشماتة ، وأن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت له ما أرى شيطانك إلّا تركك فإني لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث ، وأن المشركين أو بعضهم قالوا لما عرفوا خبر الفترة إن محمدا قد ودّع وأن السورة لم تلبث أن نزلت بعد هذه الأقوال ، وحيث روي أن اليهود سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذي القرنين وأهل الكهف والروح فقال لهم : سأخبركم غدا ولم يقل إن شاء اللّه ففتر الوحي عنه ، فلما جاءه بعد الفتور بهذه السورة قال له يا جبريل ما جئت حتى اشتقت إليك ، فقال : إني كنت أشد شوقا إليك ولكني عبد مأمور ، وحيث روي أنه كان للحسن أو الحسين في بيته جرو فلما نزل الوحي بالسورة
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1599)(1/702)
وسأله النبي عن فتوره قال له : إنا لا ندخل بيتا فيه كلب! ومن الروايات ما هو في وقت نزول السورة حيث روي أن الفترة كانت بعد نزول آيات سورة العلق الأولى ، وأن سورة الضحى هي أول ما نزل بعد هذه الآيات. ومنها ما هو في عدد فترات الوحي حيث روي أنها لم تكن مرة واحدة وإنما تكررت قصيرة حينا وطويلة حينا. وقد روي فيما روي كذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حزن حزنا شديدا من الفترة حتى همّ بأن يلقي نفسه من شاهق الجبل .
ومعظم الروايات غير موثق ومنها ما لا يمكن التسليم به لتعارضه مع وقت نزول السورة خاصة مثل رواية الفترة بسبب عدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إن شاء اللّه حينما سأله اليهود عن المسائل الثلاث وقال لهم سأخبركم غدا. لأن احتكاك النبي - صلى الله عليه وسلم - باليهود وأسئلتهم التعجيزية له كانت في العهد المدني ولم ترد رواية وثيقة عن مثل ذلك في العهد المكي فضلا عن أن نزول قصص أهل الكهف وذي القرنين والسؤال عن الروح إنما كان في أواسط العهد المكي ، ومثل رواية الفترة بسبب جرو الحسن أو الحسين رضي اللّه عنهما في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن السبطين الشريفين من مواليد المدينة ، ومثل رواية قول خديجة رضي اللّه عنها للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ما أرى ربك إلّا قلاك ، لأن المأثور أنها كانت تشجعه وتثبته وتبثّ في نفسه الثقة والقوة والعزيمة على ما أوردنا بعض ذلك في مناسبة سابقة ومثل رواية استمرار الفترة ثلاث سنين لأن هذا لو وقع لكان غيّر مجرى تاريخ الدعوة لأن من شأنه أن يثير القلق بل والشكّ حتى في نفوس المؤمنين المخلصين الذين استجابوا للدعوة والتفوا حول النبي - صلى الله عليه وسلم - .
والموثق من الروايات والتي يبدو عليها سمة الصحة وصدق الاحتمال هي رواية فتور الوحي ليلتين أو ثلاثا وقول امرأة للنبي - صلى الله عليه وسلم - إني أرى شيطانك قد تركك ، فما لبثت السورة أن نزلت وقد جاءت هذه الرواية في حديث للبخاري ومسلم ، ورواية إبطاء الوحي عن النبي أياما وقول المشركين أن محمدا قد ودّع فما لبثت السورة أن نزلت ، وقد جاءت هذه الرواية في حديث لمسلم والترمذي «.
وعلى كل فيمكن القول بشيء من القطعية والجزم استلهاما من سورة الضحى واستئناسا بالروايات الكثيرة المتواترة :
1 - إن الوحي قد فتر أياما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أوائل عهد الدعوة.
2 - وإن الفترة قد أثارت في نفسه حزنا وأزمة وخوفا من أن يكون اللّه قد تخلّى عنه بعد أن سار في الدعوة شوطا ما.
3 - وإن المشركين أو بالأحرى الذين قادوا حركة المعارضة لدعوته والذين أظهروا عداء شديدا له استغلوا ذلك وقالوا في سخرية وشماتة إن ربّه قد قلاه وودعه ، وإن منهم من عيّره(1/703)
بذلك مواجهة ، وإن ذلك قد زاد من حزنه وأزمته حتى نزلت السورة التي احتوت تثبيتا وتطمينا وردا على الشامتين.
ومن الجدير بالذكر أن في القرآن قرائن قد تدل على أن الوحي فتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أواسط العهد المكي على ما سوف ننبه عليه في مناسباته. غير أن ذلك لم يحدث في النبي - صلى الله عليه وسلم - أزمة ، ولم يتعرض بمناسبة ذلك لحملة كما كان شأن هذه المرة مما هو طبيعي ، لأن هذه المرة كانت في مبادئ الدعوة وخطواتها الأولى.
والمتمعن في آيات السورة الأولى وهي تؤكد للنبي - صلى الله عليه وسلم - عدم ترك ربّه إياه يلمس صميمية رائعة تملأ النفس إعجابا فيما أثارته الفترة من قلق في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - وتنمّ عن يقينه العميق بأنه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ، وبأن ما كان يبلغه من الآيات والفصول القرآنية هو وحي اللّه ، فإذا أوحي إليه بشيء تلاه وإذا فتر عنه الوحي أعلن ذلك ، وإذا لم يتل على الناس شيئا جديدا في ظرف ما فلأنه لم يوح إليه بشيء جديد. فقد علمه اللّه أن يعلن للناس أنه ليس عنده خزائن اللّه ولا يعلم الغيب ولا يزعم أنه ملك كما جاء في سورة الأنعام هذه : قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [50] وآية سورة الأعراف هذه : قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) وقد أمره اللّه أن يعلن أنه لا يبلغ إلّا ما يوحى إليه ولا يستطيع أن يغير ويبدل فيه كما جاء في آية يونس هذه : وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15).
وفي الآيات [6 و7 و8] إشارة إلى ما كانت عليه ظروف النبي - صلى الله عليه وسلم - في نشأته الشخصية والروحية وحاله الاقتصادية منذ طفولته إلى أن أكرمه اللّه بالنبوة ، فأشير فيها إلى يتمه في عهد طفولته ، وفقره في عهد فتوته وشبابه ، ثم حيرته الروحية في الاتجاه الذي يتجه إليه في دينه وعبادته ومبادئه. وقد قررت أن اللّه قد حماه في عهد يتمه حيث كان اليتيم معرضا للإرهاق والقهر والضياع فجعل له مأوى أمينا ، ويسّر له في عهد شبابه من بسطة العيش واليسر ما جعله في غنى عن التكسب وفي راحة من عناء المعيشة وهمها ، ونقّى نفسه ووجّهه إلى سبيل الهدى القويم فأنقذه من حيرته.
والروايات تكاد تكون متواترة إلى حد اليقين بأنه كان له من جده عبد المطلب أولا ومن عمه أبي طالب بعده من البرّ والرأفة والحماية والعناية في طفولته وشبابه ثم من عمّه بعد بعثته من النصر والعطف ما ضمن له النشأة الصالحة ثم الحرية والمنعة.(1/704)
كذلك فإن الروايات تكاد تكون متواترة إلى حدّ اليقين بأن حاله الاقتصادية قد تحسنت وانتهى ما كان يعانيه من متاعب العيش بزواجه من السيدة خديجة رضي اللّه عنها الشريفة في قومها ، الغنية في مالها القوية في خلقها وعقلها وروحها ، المتنعمة في معيشتها ، وكان من أثر ذلك أن اطمأنت نفسه وأخذ يفرغ قلبه وذهنه لما كانت نفسه مستعدة له من الاستغراق في آلاء اللّه ومظاهر الكون والتفكير فيما عليه قومه من ضلال في التقاليد والعقائد ، وتمكن من القيام باعتكافات روحية كانت خديجة رضي اللّه عنها تشجعه عليها وتهيىء له ما يحتاج إليه فيها على ما جاء في الحديث الذي رواه الشيخان عن عائشة والذي أوردناه في سياق سورة العلق ، حتى كان مظهر اختصاص اللّه إياه بالرسالة العظمى حينما بلغ أشده واستوى.
ولقد كانت السيدة خديجة رضي اللّه عنها عطوفة عليه بارة به ، ومن أقوى المشجعين المثبتين له الذابّين عنه المصدقين به ، مما يمكن أن يدل على أنها قد أدركت بفراستها القابليات العظمى التي تميز بها والاستعداد الروحي الذي ظهرت آثاره عليه ، والأخلاق الكريمة التي تحلى بها فلم يكد يخبرها بأمر الوحي حتى تيقنت صدقه ونفت ما طاف في ذهنه من خوف وهتفت بتلك الكلمات المأثورة الخالدة : «كلا إن اللّه لن يخزيك. فإنك تفعل المعروف. وتقري الضيف. وتحمل الكل. وتعين على نوائب الدهر» على ما أوردناه من حديث للبخاري في سياق سورة القلم.
وأما عن حيرته فقد كان إزاء ما عليه قومه من تقاليد وطقوس وأخلاق وعادات وعقائد في موقف المنقبض المتشكك منذ عهد شبابه على ما ذكرته الروايات»
كما كان في مثل هذا الموقف إزاء ما كان عليه أهل الكتاب من اختلاف ونزاع وشذوذ من دون شك ولا سيما حينما كان يسمع اليهود يقولون ليست النصارى على شي ء ، وحينما كان يسمع النصارى يقولون ليست اليهود على شي ء ، ويرى الخلاف والنزاع يشتدان بينهم إلى درجة الاقتتال مما أشارت إليه آية البقرة هذه : وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وآية البقرة هذه أيضا : وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ [253]. فكانت تعتلج في نفسه الأفكار وتقوم في صدره الشكوك في صواب ما يرى ، ويسلم نفسه إلى التفكير في آلاء اللّه وعظمة الكون والاعتكافات الروحية ، فلم يلبث أن صفت نفسه وشعّ في قلبه نور الحقيقة الإلهية العظمى واهتدى إليها بإلهام اللّه فجعلها الهدف الذي يستهدفه والاتجاه الذي يتجه إليه.(1/705)
ولقد روت الروايات أنه أخذ ينشأ في بيئة النبي - صلى الله عليه وسلم - طبقة من العقلاء داخلهم الشك مثله في صواب ما عليه العرب والكتابيون ، وأخذوا يبحثون مثله عن الطريق الأقوم والسبيل الحق ويتجهون مثله إلى الحقيقة الإلهية العظمى وحدها ، ومنهم من كان اعتزم الطواف للبحث عن ملّة إبراهيم ليسير عليها وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - التقى ببعض هؤلاء قبل البعثة.
فمن الممكن أن يقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في عهد حيرته هذا من هذه الطبقة وإنه كان مثل أفرادها يود أن يتعرف على حدود ملة إبراهيم ويسير في سبيلها عن يقين ، ثم كان له من صفاء النفس وذكاء العقل وقوة القلب وعظيم الخلق وعيمق الاستغراق ما جعله يمتاز عليهم فكان مصطفى اللّه من بينهم ، فأتم اللّه إيمانه وأنار بصيرته وأنقذه من حيرته إلى اليقين واختصه بالنبوة وانتدبه للمهمة العظمى التي أوحي إليها فيما بعد بآيات الأحزاب هذه : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48).
ولقد نصت الآيات القرآنية على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عهد نبوته لم يكن يدري من أمر نبوته ومهمته شيئا ، ولم يكن يرجو أن ينزل عليه كتاب كما جاء في آية سورة القصص هذه : وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [86] وفي آية سورة الشورى هذه : وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) وفي آية سورة يونس هذه : قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16). وهذا يجعلنا نقول إن هذا الدور الذي قضاه منذ شبابه إلى اكتمال نضجه ونزول الوحي عليه كان دور استعداد وتأهل روحي ، وهو الدور الذي يمكن أن يطلق عليه دور الحيرة والذي عنته الآية الكريمة : وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى فيما يتبادر لنا مما يجعلنا نعتقد أن كلمة ضَالًّا لم تعن السير في سبيل الضلالة والشرك والتقاليد الجاهلية والوثنية التي كان عليها العرب ، وأن كلمة فَهَدى لم تعن أن اللّه أخرجه من هذا النطاق بعد أن ارتكس فيه ، وإنما عنت الأولى ما كان في نفسه من حيرة وتململ وتوقان إلى ساحل اليقين ، كما عنت الأخرى ما كان من اليقين الذي وصل إليه فاطمأنت به نفسه.
وفي سورة الأنعام آيات يمكن الاستئناس بها لما قررناه بوجه عام ولما أشرنا إليه في صدد ملة إبراهيم والرغبة في الاهتداء إليها واتباعها بوجه خاص وهي : قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي(1/706)
وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) وقوة التلقين والدلالة في هذه الآيات قوية أخّاذة.
هذا ولقد روى بعض المفسرين في سياق آية وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) أنها إشارة إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تاه في طفولته في جبال مكة فقلق عليه جده وبحث عنه طويلا حتى وجده ولم يصب بسوء. ونحن نشك في الرواية كل الشك ، لأنّ الحادث الذي ذكرته أتفه من أن يكون موضوع ذكر وتذكير ، فضلا عن عدم وثوقها وعن التوجيه الصحيح الذي قررناه والذي تسنده آيات القرآن. (1)
يقسم الله سبحانه بهذين الآنين الرائقين الموحيين . فيربط بين ظواهر الكون ومشاعر النفس . ويوحي إلى القلب البشري بالحياة الشاعرة المتجاوبة مع هذا الوجود الجميل الحي ، المتعاطف مع كل حي . فيعيش ذلك القلب في أنس من هذا الوجود ، غير موحش ولا غريب فيه فريد . . وفي هذه السورة بالذات يكون لهذا الأنس وقعه . فظل الأنس هو المراد مده . وكأنما يوحي الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - منذ مطلع السورة ، أن ربه أفاض من حوله الأنس في هذا الوجود ، وأنه من ثم غير مجفوّ فيه ولا فريد!
وبعد هذا الإيحاء الكوني يجيء التوكيد المباشر : { ما ودعك ربك وما قلى } . . ما تركك ربك ولا جفاك كما زعم من يريدون إيذاء روحك وإيجاع قلبك وإقلاق خاطرك . . وهو { ربك } وأنت عبده المنسوب إليه ، المضاف إلى ربوبيته ، وهو راعيك وكافلك . .
وما غاض معين فضله وفيض عطائه . فإن لك عنده في الآخرة من الحسنى خيراً مما يعطيك منها في الدنيا : { وللآخرة خير لك من الأولى } . . فهو الخير أولاً وأخيراً . .
وإنه ليدخر لك ما يرضيك من التوفيق في دعوتك ، وإزاحة العقبات من طريقك ، وغلبة منهجك ، وظهور حقك . . وهي الأمور التي كانت تشغل باله - صلى الله عليه وسلم - وهو يواجه العناد والتكذيب والأذى والكيد . . والشماتة . . { ولسوف يعطيك ربك فترضى } . .
ويمضي سياق السورة يذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما كان من شأن ربه معه منذ أول الطريق . ليستحضر في خاطره جميل صنع ربه به ، ومودته له ، وفيضه عليه ، ويستمتع باستعادة مواقع الرحمة والود والإيناس الإلهي . وهو متاع فائق تحييه الذكرى على هذا النحو البديع : { ألم يجدك يتيماً فآوى؟ ووجدك ضالاً فهدى . ووجدك عائلاً فأغنى؟ } ..
انظر في واقع حالك ، وماضي حياتك . . هل ودعك ربك وهل قلاك حتى قبل أن يعهد إليك بهذا الأمر؟ ألم تحط يتمك رعايته؟ ألم تدرك حيرتك هدايته؟ ألم يغمر فقرك عطاؤه؟
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 550)(1/707)
لقد ولدت يتيماً فآواك إليه ، وعطف عليك القلوب حتى قلوب عمك أبي طالب وهو على غير دينك!
ولقد كنت فقيراً فأغنى الله نفسك بالقناعة ، كما أغناك بكسبك ومال أهل بيتك ( خديجة رضي الله عنها ) عن أن تحس الفقر ، أو تتطلع إلى ما حولك من ثراء!
ثم لقد نشأت في جاهلية مضطربة التصورات والعقائد ، منحرفة السلوك والأوضاع ، فلم تطمئن روحك إليها . ولكنك لم تكن تجد لك طريقاً واضحاً مطمئناً . لا فيما عند الجاهلية ولا فيما عند أتباع موسى وعيسى الذين حرفوا وبدلوا وانحرفوا وتاهوا . . ثم هداك الله بالأمر الذي أوحى به إليك ، وبالمنهج الذي يصلك به .
والهداية من حيرة العقيدة وضلال الشعاب فيها هي المنة الكبرى ، التي لا تعدلها منة؛ وهي الراحة والطمأنينة من القلق الذي لا يعدله قلق؛ ومن التعب الذي لا يعدله تعب ، ولعلها كانت بسبب مما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعانيه في هذه الفترة ، من انقطاع الوحي وشماتة المشركين ووحشة الحبيب من الحبيب . فجاءت هذه تذكره وتطمئنه على أن ربه لن يتركه بلا وحي في التيه وهو لم يتركه من قبل في الحيرة والتيه!
وبمناسبة ما ذكره ربه بإيوائه من اليتم ، وهدايته من الحيرة وإغنائه من العيلة . . يوجهه ويوجه المسلمين من ورائه إلى رعاية كل يتيم ، وإلى كفاية كل سائل ، وإلى التحدث بنعمة الله الكبرى عليه ، وفي أولها : الهداية إلى هذا الدين :{ فأما اليتيم فلا تقهر . وأما السائل فلا تنهر . وأما بنعمة ربك فحدث } . .
وهذه التوجيهات إلى إكرام اليتيم والنهي عن قهره وكسر خاطره وإذلاله ، وإلى إغناء السائل مع الرفق به والكرامة ، كانت كما ذكرنا مراراً من أهم إيحاءات الواقع في البيئة الجاحدة المتكالبة ، التي لا ترعى حق ضعيف ، غير قادر على حماية حقه بسيفه! حيث رفع الإسلام هذه البيئة بشرعة الله إلى الحق والعدل ، والتحرج والتقوى ، والوقوف عند حدود الله ، الذي يحرس حدوده ويغار عليها ويغضب للاعتداء على حقوق عباده الضعاف الذين لا يملكون قوة ولا سيفا يذودون به عن هذه الحقوق .
وأما التحدث بنعمة الله وبخاصة نعمة الهدى والإيمان فهو صورة من صور الشكر للمنعم . يكملها البر بعباده ، وهو المظهر العملي للشكر ، والحديث الصامت النافع الكريم . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1 - مكانة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3926)(1/708)
2 - النعم التي أنعم الله سبحانه بها على رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
3 - وجوب معاملة اليتيم بلطف والتلطف مع السائل للعلم أو المال .
4 - التحدث بما أنعم الله به عليك شكرا للنعمة ، والصلاة في جوف الليل شكرٌ .
5- أدّب اللَّه نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بأن يتعامل مع الخلق مثل معاملة اللَّه معه
6- أقسم اللَّه بالضحى ، أي بالنهار ، وبالليل إذا سكن ، على أنه ما ترك نبيه وما أبغضه منذ أحبه. قال ابن جريج : احتبس عنه الوحي اثني عشر يوما. وقال ابن عباس : خمسة عشر يوما. وقيل : خمسة وعشرين يوما. وقال مقاتل : أربعين يوما.
قال الرازي : هذه الواقعة تدل على أن القرآن من عند اللَّه ، إذ لو كان من عنده لما امتنع (1) . كما تقدم.
7- بشر اللَّه نبيه ببشارتين عظيمتين :
الأولى- أنه جعل أحواله الآتية خيرا له من الماضية ، ووعده بأنه سيزيده كل يوم عزا إلى عز ، وجعل ما عنده في الآخرة حين مرجعه إليه ، خيرا له مما عجل له من الكرامة في الدنيا.
والثانية- أنه سيعطيه غاية ما يتمناه ويرتضيه في الدنيا بالنصر والتفوق وغلبة دينه على الأديان كلها ، وفي الآخرة بالثواب والحوض والشفاعة.
والخلاصة : آية وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ ... عدة كريمة شاملة لما أعطاه اللَّه عز وجل في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين ، وظهور الأمر وإعلاء الدين بالفتوحات وانتشار الدعوة في المشارق والمغارب ، ولما ادخر له عليه السلام في الآخرة من الكرامات التي لا يعلمها إلا هو عز وجل.
عَنْ مُجَاهِدٍ , فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ قَالَ : " لَمْ تَكُنِ النَّافِلَةُ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , خَاصَّةً مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ , فَمَا عَمِلَ مِنْ عَمَلٍ مَعَ الْمَكْتُوبَاتِ فَهُوَ نَافِلَةٌ لَهُ سِوَى الْمَكْتُوبَةِ , مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ فِي كَفَّارَةِ الذُّنُوبِ , وَالنَّاسُ يَعْمَلُونَ مَا سِوَى الْمَكْتُوبَةِ فِي كَفَّارَةِ ذُنُوبِهِمْ , فَلَيْسَ لِلنَّاسِ نَوَافِلُ إِنَّمَا هِيَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - "
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَضَائِلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَثِيرَةٌ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , وَقَدْ وَعْدَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ سَيُعْطِيهِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْكَرَامَاتِ حَتَّى يَرْضَى وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى " الشَّرِيعَةُ لِلْآجُرِّيِّ (2)
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ : حَدَّثَنِي رَجُلٌ ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ ، سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " تُمَدُّ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِعَظَمَةِ الرَّحْمَنِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ، وَلَا يَكُونُ فِيهَا لِأَحَدٍ إِلَّا مَوْضِعُ قَدَمِهِ ، فَأَكُونُ
__________
(1) - تفسير الرازي : 31/ 210
(2) - الشَّرِيعَةُ لِلْآجُرِّيِّ (1092 ) صحيح(1/709)
أَوَّلَ مَنْ يُدْعَى فَأَجِدُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِمًا عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ ، لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا رَأَى اللَّهُ قَبْلَهَا قَالَ : فَأَقُولُ : يَا رَبِّ إِنَّ هَذَا جَاءَنِي فَزَعَمَ أَنَّكَ أَرْسَلْتَهُ إِلَيَّ قَالَ وَجِبْرِيلُ سَاكِتٌ قَالَ فَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ : صَدَقَ أَنَا أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكَ حَاجَتَكَ ؟ فَأَقُولُ : يَا رَبِّ إِنِّي تَرَكْتُ عِبَادًا مِنْ عِبَادِكَ قَدْ عَبَدُوكَ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ ، وَذَكَرُوكَ فِي شُعَبِ الْآكَامِ يَنْتَظِرُونَ جَوَابَ مَا أَجِيءُ بِهِ مِنْ عِنْدِكَ ، فَيَقُولُ : أَمَا إِنِّي لَا أَخْزِيكَ فِيهِمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا" (1)
وقَالَ حَرْبُ بْنُ سُرَيْجٍ الْبَزَّارُ : قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ، جُعِلْتُ فِدَاكَ ، أَرَأَيْتَ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ الَّتِي يَتَحَدَّثُ بِهَا أَهْلُ الْعِرَاقِ ، أَحَقٌّ هِيَ ؟ قَالَ : شَفَاعَةُ مَاذَا ؟ قَالَ : شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : حَقٌّ وَاللَّهِ ، إِي وَاللَّهِ ، لَحَدَّثَنِي عَمِّي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ ، عنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " أَشْفَعُ لِأُمَّتِي ، حَتَّى يُنَادِيَنِي رَبِّي ، فَيَقُولُ : أَرَضِيتَ يَا مُحَمَّدُ ؟ ، فَأَقُولُ : رَبِّ رَضِيتُ " ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ ، فَقَالَ : إِنَّكُمْ تَقُولُونَ ، مَعْشَرَ أَهْلِ الْعِرَاقِ : إِنَّ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ قَرَأَ إِلَى قَوْلِهِ جَمِيعًا قُلْتُ : إِنَّا لَنَقُولُ ذَلِكَ ، قَالَ : وَلَكِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ نَقُولُ ، وَإِنَّ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى " " (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى قَالَ : " رِضَاهُ أَنْ تُدْخِلَ أُمَّتَهُ كُلَّهُمُ الْجَنَّةَ " (3)
وورد في صحيح مسلم عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَلَا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } [إبراهيم: 36]، وَقَالَ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } [المائدة: 118] الْآيَةَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: " اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي، وَبَكَى قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ " (4) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَلاَ قَوْلَ اللهِ فِي إِبْرَاهِيمَ : {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم] الآيَةَ ، وَقَالَ عِيسَى : {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ}
__________
(1) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ (307 ) صحيح
(2) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (3805 ) و التَّوْحِيدُ لِابْنِ خُزَيْمَةَ (386 ) حسن صحيح
(3) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ (1426) ضعيف
(4) - صحيح مسلم (520 )(1/710)
[المائدة] ، إِلَى آخِرِ الآيَةِ ، قَالَ اللَّهُ : يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ ، وَقُلْ لَهُ إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ ، وَلاَ نَسُوؤُكَ.
وفي رواية عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَلاَ قَوْلَ اللهِ جَلَّ وَعَلاَ فِي إِبْرَاهِيمَ : {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم] ، وَقَالَ عِيسَى : {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة] فَرَفَعَ يَدَيْهِ ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي ، وَبَكَى ، فَقَالَ اللَّهُ : يَا جِبْرِيلُ ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وَرَبُّكَ أَعْلَمُ ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيهِ ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، فَقَالَ اللَّهُ : يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ ، فَقُلْ : إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلاَ نَسُوؤُكَ." (1)
8- عدد اللَّه تعالى نعمه ومننه على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر منها في السورة ثلاثا هي الإيواء بعد اليتم ، والهدى بعد الغفلة ، والإغناء بعد الفقر.
أما الإيواء فقد تكفله بعد موت أبيه وأمه جده عبد المطلب ، ثم عمه أبو طالب فكفله وآزره ، ودفع عنه الأذى.
وأما الهدى فهو بيان القرآن والشرائع ، فهداه اللَّه إلى أحكام القرآن وشرائع الإسلام ، بعد الجهل بها والغفلة عنها. وليس معنى الضلالة الكفر أو كونه على دين قومه لأن الأنبياء معصومون عن ذلك. واتفق جمهور العلماء على أنه - صلى الله عليه وسلم - ما كفر باللَّه لحظة واحدة. وقالت المعتزلة : هذا غير جائز عقلا ، لما فيه من التنفير.
وأما الإغناء فهو الإمداد بالفضل والمال والرزق بالتجارة في مال خديجة رضي اللَّه عنها. وفي زمان الرسالة أغناه بمال أبي بكر ، ثم بمال الأنصار بعد الهجرة ، ثم بالغنيمة.
والحكمة في اختيار اليتم له : أن يعرف قدر اليتامى ، ويقوم بحقهم وصلاح أمرهم. ثم إن اليتم والفقر نقص في حق الناس عادة ، فلما صار محمد عليه الصلاة والسلام نبيا ورسولا ، وأكرم الخلق ، مع هذين الوصفين ، كان ذلك قلبا للعادة ، فكان من جنس المعجزات.
9- أدّب اللَّه نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بأن يتعامل مع الخلق مثل معاملة اللَّه معه ، فأمره بألا يظلم اليتيم ، ويدفع إليه حقه ، ويذكر أنه كان يتيما مثله. ودلت الآية على طلب اللطف باليتيم وبره والإحسان إليه .
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، " أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ قَالَ : كُنْ لِلْيَتِيمِ كَالْأَبِ الرَّحِيمِ ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ كَمَا تَزْرَعُ تَحْصُدُ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ الصَّالِحَةَ لِبَعْلِهَا فِي الْجَمَالِ ، كَالْمَلِكِ الْمُتَوَّجِ بِالتَّاجِ الْمُخَوَّصِ بِالذَّهَبِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ السُّوءَ لِبَعْلِهَا كَالْحِمْلِ الثَّقِيلِ عَلَى ظَهْرِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ ، وَأَنَّ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (16 / 216) (7234و7235) صحيح(1/711)
خُطْبَةَ الْأَحْمَقِ فِي نَادِي الْقَوْمِ كَالْمُغَنِّي عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ ، وَلَا تَعِدْ أَخَاكَ ، ثُمَّ لَا تُنْجِزُ لَهُ ، فَإِنَّهُ يُورِثُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةً ، مَا أَحْسَنَ الْعِلْمَ بَعْدَ الْجَهْلِ ، وَمَا أَقْبَحَ الْفَقْرَ بَعْدَ الْغِنَاءِ ، وَمَا أَقْبَحَ الضَّلَالَةَ بَعْدَ الْهُدَى " (1)
وعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبْزَى قَالَ : قَالَ دَاوُدُ : " كُنَّ لِلْيَتِيمِ كَالْأَبِ الرَّحِيمِ ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ كَمَا تَزْرَعُ كَذَلِكَ تَحْصُدُ ، مَا أَقْبَحَ الْفَقْرَ بَعْدَ الْغِنَى ، وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ - أَوْ أَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ - الضَّلَالَةُ بَعْدَ الْهُدَى ، وَإِذَا وَعَدْتَ صَاحِبَكَ فَأَنْجِزْ لَهُ مَا وَعَدْتَهُ ، فَإِنْ لَا تَفْعَلْ يُورِثُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ ، وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ صَاحِبٍ إِنْ ذَكَرْتَ لَمْ يُعِنْكَ ، وَإِنْ نَسِيتَ لَمْ يُذَكِّرْكَ " (2)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى ، أَوِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، قَالَ : " قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : كُنْ لِلْيَتِيمِ كَالْأَبِ الرَّحِيمِ . ثُمَّ ذَكَرَ الْبَاقِيَ ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَمَّالِ كَالْمَلِكِ الْمُتَوَّجِ ، وَقَالَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَزَادَ : وَلَا تَعِدْ أَخَاكَ ثُمَّ لَا تُنْجِزْ لَهُ فَإِنَّهُ يُورِثُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةً ، وَمَا أَحْسَنَ الْعِلْمَ بَعْدَ الْجَهْلِ ، وَمَا أَقْبَحَ الْفَقْرَ بَعْدَ الْغِنَى ، وَمَا أَقْبَحَ الضَّلَالَةَ بَعْدَ الْهُدَى " (3)
وعَنْ قَتَادَةَ ، قَالَ : كُنْ لِلْيَتِيمِ كَالْأَبِ الرَّحِيمِ وَرُدَّ الْمِسْكِينَ بِرَحْمَةٍ وَلِينٍ" (4)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَجُلاً شَكَا إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ :« إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فَأَطْعِمِ الْمَسَاكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ » (5) .
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ : أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى سَلْمَانَ أَنَّ رَجُلاً شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَسْوَةَ قَلْبَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلينَ قَلْبُكَ فَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ وَأَطْعِمْهُ ». (6)
وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: " أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ كَهَاتَيْنِ إِذَا اتَّقَى " وَأَشَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِأُصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ (7)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (8)
__________
(1) - جَامِعُ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ (1202) صحيح مقطوع
(2) - الْأَدَبُ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ (138 ) صحيح مقطوع
(3) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ (10599 ) صحيح مقطوع
(4) - النَّفَقَةُ عَلَى الْعِيَالِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (608 ) حسن
(5) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (4 / 60) (7345) حسن لغيره
(6) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (4 / 60) (7346) حسن لغيره
(7) - شعب الإيمان - (13 / 386) (10515) صحيح لغيره
(8) - شعب الإيمان - (13 / 385) (10514) و(البخاري) 7/68(5304)(1/712)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ ، أَوْ كَالَّذِي يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ النَّهَارَ.
- وفي رواية : السَّاعِى عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَأَحْسِبُهُ قَالَ : كَالْقَائِمِ لاَ يَفْتُرُ ، وَكَالصَّائِمِ لاَ يُفْطِرُ." رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ (1) .
ونهى اللَّه تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن زجر السائل وعن إغلاظ القول له ، وأمره بأن يردّه ببذل يسير ، أو ردّ جميل ، وأن يتذكر فقره.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : " لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدُكُمُ السَّائِلَ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ قُلْبَانِ مِنْ ذَهَبٍ " الضُّعَفَاءُ الْكَبِيرِ لِلْعُقَيْلِيِّ (2) .
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " أَعْطُوا السَّائِلَ ، وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ " مُوَطَّأُ مَالِكٍ (3)
وعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَعْطُوا الْأَجِيرَ حَقَّهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ , وَأَعْطُوا السَّائِلَ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ " الْأَمْوَالُ لِابْنِ زَنْجُوَيْهِ (4)
وأمر اللَّه تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بشكر نعمة اللَّه عليه وهي النبوة والرسالة ، وإنزال القرآن الكريم عليه. ويكون الشكر بنشر ما أنعم اللَّه عليه ، والتحدث بنعم اللَّه ، والاعتراف بها شكر لها.
ويلاحظ أنه تعالى نهاه عن شيئين وأمره بواحد : نهاه عن قهر اليتيم جزاء لما أنعم به عليه في قوله : أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى . ونهاه عن نهر السائل في مقابلة قوله : وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى . وأمره بتحديث نعمة ربه ، وهو في مقابلة قوله : وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى .
قال العلماء المحققون : التحديث بنعم اللَّه تعالى جائز مطلقا ، بل مندوب إليه إذا كان الغرض أن يقتدي به غيره ، أو أن يشيع شكر ربه بلسانه ، وإذا لم يأمن على نفسه الفتنة والإعجاب ، فالستر أفضل.
__________
(1) - شعب الإيمان - (13 / 387) (10518 ) والمسند الجامع - (17 / 1112) (14053)
وانظر : الموسوعة الفقهية الكويتية - (45 / 255) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (8 / 8250) رقم الفتوى 59947 المدة التي ينال المرء فيها أجر كفالة اليتيم كاملا تاريخ الفتوى : 04 صفر 1426
وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (9 / 621) رقم الفتوى 60719 مسألة في الحضانة والإنفاق على الأولاد بعد وفاة الأب تاريخ الفتوى : 15 ربيع الأول 1426
(2) - الضُّعَفَاءُ الْكَبِيرِ لِلْعُقَيْلِيِّ (368 ) ضعيف
(3) - مُوَطَّأُ مَالِكٍ (1832 ) صحيح لغيره
(4) - الْأَمْوَالُ لِابْنِ زَنْجُوَيْهِ (1678و1679 ) صحيح لغيره(1/713)
وإنما أخر التحديث تقديما لمصلحة المخلوقات على حق اللَّه لأن اللَّه غني وهم المحتاجون ، ولهذا رضي لنفسه بالقول فقط.
مقاصد هذه السورة
اشتملت هذه السورة على أربعة مقاصد :
(1) أن اللّه ما قلا رسوله ولا تركه.
(2) وعد رسوله بأنه سيكون فى مستأنف أمره خيرا من ماضيه.
(3) تذكيره بنعمه عليه فيما مضى وأنه سيواليها عليه.
(4) طلب الشكر منه على هذه النعم. (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 188)(1/714)
سورة الشرح
مكيّة ، وهي ثماني آيات.
تسميتها :
سميت سورة الشرح أو الانشراح أو أَلَمْ نَشْرَحْ لافتتاحها بالخبر عن شرح صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - أي تنويره بالهدى والإيمان والحكمة ، وجعله فسيحا رحيبا واسعا ، كقوله تعالى : فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ ، يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام 6/ 125].
قال ابن عاشور : " سميت في معظم التفاسير وفي "صحيح البخاري" و"جامع الترمذي" سورة ألم نشرح ، وسميت في بعض التفاسير سورة الشرح ومثله في بعض المصاحف المشرقية تسمية بمصدر الفعل الواقع فيها من قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] وفي بعض التفاسير تسميتها سورة الانشراح.
وهي مكية بالاتفاق.
وقد عدت الثانية عشرة في عداد نزول السور، نزلت بعد سةدورة الضحى بالاتفاق وقبل سورة العصر.
وعن طاووس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان ألم نشرح من سورة الضحى. وكانا يقرءانهما بالركعة الواحدة لا يفصلان بينهما يعني في الصلاة المفروضة وهذا شذوذ مخالف لما اتفقت عليه الأمة من تسوير المصحف الإمام.
وعدد آيها ثمان.
أغراضها
احتوت على ذكر عناية الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بلطف الله له وإزالة الغم والحرج عنه، وتفسير ما عسر عليه، وتشريف قدره لينفس عنه، فمضمونها شبيه بأنه حجة على مضمون سورة الضحى تثبيتا له بتذكيره سالف عنايته به وإنارة سبيل الحق وترفيع الدرجة ليعلم أن الذي ابتدأه بنعمته ما كان ليقطع عنه فضله، وكان ذلك بطريقة التقرير بماض يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم.
واتبع ذلك بوعده بأنه كلما عرض له عسر فسيجد من أمره يسرى كدأب الله تعالى في معاملته فليتحمل متاعب الرسالة ويرغب إلى الله عونه.. (1)
مناسبتها لما قبلها :
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 359)(1/715)
هي شديدة الاتصال بسورة الضحى ، لتناسبهما في الجمل والموضوع لأن فيهما تعداد نعم اللَّه تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، مع تطمينه وحثه على العمل والشكر ، حيث قال في السورة السابقة : أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى .. وأضاف هنا وعطف : أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ...
ولهذا ذهب بعض السلف إلى أنهما سورة واحدة بلا بسملة بينهما ، والأصح المتواتر كونهما سورتين ، وإن اتصلتا معنى.
وما عدد اللّه - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بعض نعمه العظيمة عليه في سورة الضحى ، جاءت سورة الشرح ، لتسوق نعما أخرى منه - تعالى - عليه - صلى الله عليه وسلم - حاثا إياه على شكره ، ليزيده منها. (1)
وقال المراغي :
" وهي شديدة الاتصال بما قبلها حتى روى عن طاوس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان : هما سورة واحدة ، وكانا يقرآنهما فى الركعة الواحدة ، وما كانا يفضلان بينهما بالبسملة ، ولكن المتواتر كونهما سورتين وإن كانتا متصلتين معنى ، إذ فى كل منهما تعداد النعم وطلب الشكر عليها. " (2)
ولما أمره - صلى الله عليه وسلم - آخر الضحى بالتحديث بنعمته التي أنعمها عليه فصلها في هذه السورة فقال مثبتاً لها في استفهام إنكاري مبالغة في إثباتها عند من ينكرها والتقرير بها مقدماً المنة بالشرح في صورته قبل الإعلام بالمغفرة كما فعل ذلك في سورة الفتح الذي هو نتيجة الشرح , لتكون البشارة بالإكرام أولاً لافتاً القول إلى مظهر العظمة تعظيماً للشرح. (3)
ما اشتملت عليه السورة :
* سورة الإنشراح مكية ، وهي تتحدث عن مكانة الرسول الجليلة ، ومقامه الرفيع عند الهص تعالى ، وقد تناولت الحديث عن نعم الهن العديدة على عبده ورسوله محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) وذلك بشرح صدره بالإيمان ، وتنوير قلبه بالحكمة والعرفان ، وتطهيره من الذنوب والأوزار ، وكل ذلك بقصد التسلية لرسول الله( - صلى الله عليه وسلم - )عما يلقاه من أذى الكفار الفجار ، وتطييب خاطره الشريف بما منحه الله من الأنوار [ ألم نشرح لك صدرك ، ووضعنا عنك وزرك ، الذي أنقض ظهرك ] ؟ الآيات .
* ثم تحدثت عن إعلاء منزلة الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، ورفع مقامه في الدنيا والآخرة ، حيث قرن اسمه ، باسم اله تعالى [ ورفعنا لك ذكرك ] الآيات .
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم لطنطاوي - (15 / 435)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 188)
(3) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 686)(1/716)
* وتناولت السورة دعوة الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) وهو بمكة يقاسي مع المؤمنين الشدائد والأهوال من الكفرة المكذبين ، فآنسه بقرب الفرج ، وقرب النصر على الأعداء [ فإن مع العسر يسرا ، إن مع العسر يسرا ] الآيات . وختمت بالتذكير للمصطفى ( - صلى الله عليه وسلم - ) بواجب التفرغ لعبادة الله ، بعد إنتهائه من تبليغ الرسالة ، شكرا لله على ما أولاه من النعم الجليلة [ فإذا فرغت فانصب ، وإلى ربك فارغب ] وهو ختام كريم ، لنبى عظيم . (1)
في السورة تطمين لنفس النبي - صلى الله عليه وسلم - وتذكيره بعناية اللّه به. وبينها وبين سابقتها تماثل حتى لكأنها امتداد لها وحتى لقد روي أن السورتين سورة واحدة غير أن المتواتر أنهما سورتان ، تفصل بينهما بسملة مثل سائر السور. (2)
مقصودها تفصيل ما في آخر الضحى من النعمة ، وبيان ان المراد بالتحديث ببها هو شكرها بالنصب في عبادة الله والرغبة إليه بتذكر إحسانه وعظيم رحمته بوصف الربوبية وامتنانه ، وعلى ذلك دل اسمها الشرح ) بسم الله ( الذي جل أمره وتعالى جده ولا إله غيره فعظم ما له من إنعام ) الرحمن ( الذي أفاض جوده على سائر خلقه لأنه ذو الجلال والإكرام ) الرحيم ( الذي إلى أهل حضرته بخاص رحمته في مقامات الاختصاص إلى أعلى مقام . (3)
نزلت هذه السورة بعد سورة الضحى . وكأنها تكملة لها . فيها ظل العطف الندي . وفيها روح المناجاة الحبيب . وفيها استحضار مظاهر العناية . واستعراض مواقع الرعاية . وفيها البشرى باليسر والفرج . وفيها التوجيه إلى سر اليسر وحبل الاتصال الوثيق . .
{ ألم نشرح لك صدرك؟ ووضعنا عنك وزرك . الذي أنقض ظهرك؟ ورفعنا لك ذكرك؟ }
وهي توحي بأن هناك ضائقة كانت في روح الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمر من أمور هذه الدعوة التي كلفها ، ومن العقبات الوعرة في طريقها؛ ومن الكيد والمكر المضروب حولها . . توحي بأن صدره - صلى الله عليه وسلم - كان مثقلاً بهموم هذه الدعوة الثقيلة ، وأنه كان يحس العبء فادحاً على كاهله . وأنه كان في حاجة إلى عون وزاد ورصيد . .
ثم كانت هذه المناجاة الحلوة ، وهذا الحديث الودود! (4)
فضلها :
قَالَ الْحَسَنُ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَبْشِرُوا أَتَاكُمُ الْيُسْرُ ، لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ "
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 501)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 558)
(3) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 460)
(4) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3929)(1/717)
وعَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا مَسْرُورًا فَرِحًا وَهُوَ يَضْحَكُ ، وَهُوَ يَقُولُ : " لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ ، لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا " (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيّ(34841و 34842 ) صحيح مرسل(1/718)
نعم اللَّه على نبيه وما أمره به
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... أَلَمْ نَشْرَحْ ... استفهام تقريري
1 ... نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ... نورنا صدرك وجعلناه فسيحا
1 ... نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ... شققناه فأخرجنا منه الغل والحسد وملأناه رأفة ورحمة
2 ... وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ... ما كان من تبعات الجاهلية
3 ... الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ... أثقله حتى سمع صوته
4 ... رَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ... أعليناه فأصبحت تذكر معي في الأذان والتشهد
5 ... مَعَ العُسْرِ يُسْرًا ... مع الشدة السهولة
7 ... فَإِذَا فَرَغْتَ ... من الصلاة
7 ... فَانْصَبْ ... فاجتهد في الدعاء
8 ... وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ ... اجعل رغبتك ونيتك إلى الله عز وجل
المعنى الإجمالي:
قر يا محمد واعترف - بهذه الحقيقة التي لا ينكرها أحد - بأنا شرحنا لك صدرك ، وجعلناه يتسع لكل ما يصادفه ، شرحنا صدرك للقيام بالدعوة خير قيام وتحمل أعبائها بنفس راضية وقلب مطمئن ، وقد كان الرسول يضيق صدره بما يقولون. ويتألم مما يفعلون إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ.
وهذه الدعوة العامة الشاملة التي جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو بها العرب الجاهلين والناس أجمعين ، هذه الدعوة عبء ليس بالخفيف بل عبء من أشد ما يكون ، وحمل تنوء به كواهل الفطاحل ، وينقض لأجله ظهور الأكابر ، ولكن اللّه بما تعهد به لنبيه المصطفى من الآيات والإرشادات ، والتوجيهات قد وضع عنه وزره الذي أثقل ظهره لو لا لطف اللّه.
ولقد رفع له ذكره ، وهل هناك رفعة أعلى من اقتران اسمه باسم اللّه في الأذان والتكبير ، والدعاء والصلاة ، ألم يجعل اللّه طاعة رسوله من طاعته ، وحبه من محبته ؟(1/719)
وأى مكانة أرفع من أن يكون له في كل ركن في الأرض أتباع وأنصار يدينون للنبي بالطاعة والولاء ؟
ألم تر إلى الصحابة وهم يتسابقون إلى مجلسه والتمتع بحلو حديثه ، والاستشفاء بمخالفاته ؟ تلك بعض نعمه على رسوله ، واللّه أعلم بغيرها.
نعم ما قد شرح اللّه صدره ، ووضع عنه وزره ، ورفع له ذكره ليس في الأرض فقط ، بل عند سدرة المنتهى ، عند جنة المأوى ، وكان هذا كله بعد أن لحق بالنبي ما لحق من أذى قومه وعنتهم ، حتى ضاق صدره ، ولا عجب في ذلك ، فإن مع العسر يسرا : وانظر إلى قوله : مع العسر ، ثم إلى قوله : يسرا ، أى : بالتنكير ، وكما يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : لن يغلب عسر يسرين ،أما العسر الذي كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة فهو الفقر وقلة الصديق ، وقوة العدو وشدة مقاومته ، وقد جاءهم اليسر فكثر المال والصديق ، وضعف قوة العدو ، وأما قوة المؤمنين الذين اشترى اللّه منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل اللّه ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، يحبون إخوانهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، إن قتلوا فهم الشهداء ، وإن عاشوا فهم السعداء ، فقد كانت - ولا تزال - مضرب الأمثال.
وهل كل عسر يعقبه يسر كما هو ظاهر في القرآن ؟ الظاهر - واللّه أعلم - أنه كذلك متى سار صاحب العسر على سنن اللّه الكونية ، فتذرع بالصبر ، واستعد للمقاومة وصابر نفسه وصبر على المكروه ، وعمل على التخلص منه ، عند ذلك يرزق اليسر ، بأى شكل وعلى أى وجه ، أما إذا حقت كلمة اللّه فإن صاحب العسر يتخبط في سيره ، فينطبق عليه قوله تعالى : كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ والأمر كله أولا وأخيرا للّه ، والمشاهد أن مع العسر يسرا ، ولكن اليسر يختلف تبعا لحكم يعلمها اللّه ، وانظر إلى التربية القرآنية ، وإلى النصيحة الإلهية للحبيب المصطفى ، وكذلك كل فرد يريد أن يهتدى بنور القرآن. فإذا فرغت من أى عمل خير فانصب في غيره واعمل على تحقيقه بتوفيق اللّه ، وإلى اللّه وحده فارغب ، وعليه وحده فتوكل ، فإنه نعم المولى ، ونعم النصير. (1)
التفسير والبيان :
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ أي قد شرحنا لك صدرك لقبول النبوة ، وتحمل أعبائها ، وحفظ الوحي. قال الرازي : وقد استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار ، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه ، فكأنه قيل : شرحنا لك صدرك. والأولى أن يقال كما بينا : الاستفهام تقريري ، يراد به إثبات الشرح.
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 876)(1/720)
والمراد بشرح الصدر تنويره وجعله فسيحا وسيعا رحيبا ، كقوله تعالى : فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام 6/ 125] (1) . وقال أبو حيان : شرح الصدر : تنويره بالحكمة وتوسيعه لتلقي ما يوحى إليه ، وهو قول الجمهور ، والأولى العموم لهذا ولغيره من مقاساة الدعاء إلى اللَّه تعالى وحده ، واحتمال المكاره من إذاية الكفار (2) . والأكثرون على أن الشرح أمر معنوي.
وقيل : المراد بذلك شرح صدره ليلة الإسراء ، كما رواه الترمذي عن مالك بن صعصعة. قال ابن كثير : ولكن لا منافاة ، فإن من جملة شرح صدره : الذي فعل بصدره ليلة الإسراء ، وما نشأ عنه من الشرح المعنوي أيضا (3) .
وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ جَرِيئًا عَلَى أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَشْيَاءَ لَا يَسْأَلُهُ عَنْهَا غَيْرُهُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا أَوَّلُ مَا رَأَيْتَ مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ ؟ فَاسْتَوَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسًا وَقَالَ : " لَقَدْ سَأَلْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ ، إِنِّي لَفِي صَحْرَاءَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ وَأَشْهُرٍ ، وَإِذَا بِكَلَامٍ فَوْقَ رَأْسِي ، وَإِذَا بِرَجُلٍ يَقُولُ لِرَجُلٍ : أَهُوَ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَاسْتَقْبَلَانِي بِوُجُوهٍ لَمْ أَرَهَا لِخَلْقٍ قَطُّ ، وَأَرْوَاحٍ لَمْ أَجِدْهَا مِنْ خَلْقٍ قَطُّ ، وَثِيَابٍ لَمْ أَرَهَا عَلَى أَحَدٍ قَطُّ ، فَأَقْبَلَا إِلَيَّ يَمْشِيَانِ ، حَتَّى أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَضُدِي ، لَا أَجِدُ لِأَخْذِهِمَا مَسًّا ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : أَضَجِعْهُ . فَأَضْجَعَانِي بِلَا قَصْرٍ وَلَا هَصْرٍ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : افْلِقْ صَدْرَهُ . فَهَوَى أَحَدُهُمَا إِلَى صَدْرِي فَفَلَقَهَا فِيمَا أَرَى بِلَا دَمٍ وَلَا وَجَعٍ ، فَقَالَ لَهُ : أَخْرِجِ الْغِلَّ وَالْحَسَدَ . فَأَخْرَجَ شَيْئًا كَهَيْئَةِ الْعَلَقَةِ ، ثُمَّ نَبَذَهَا فَطَرَحَهَا ، فَقَالَ لَهُ : أَدْخِلِ الرَّحْمَةَ وَالرَّأْفَةَ . فَإِذَا مِثْلُ الَّذِي أَخْرَجَ شَبِيهَ الْفِضَّةِ ، ثُمَّ هَزَّ إِبْهَامَ رِجْلِي الْيُمْنَى فَقَالَ : اغْدُ وَاسْلَمْ . فَرَجَعْتُ بِهَا أَغْدُو بِهَا رِقَّةً عَلَى الصَّغِيرِ وَرَحْمَةً عَلَى الْكَبِيرِ " . رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بن أحمد (4) .
عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « بَيْنَا أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ - وَذَكَرَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ - فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ، فَشُقَّ مِنَ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ الْبَطْنِ ، ثُمَّ غُسِلَ الْبَطْنُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ، وَأُتِيتُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ الْبُرَاقُ ، فَانْطَلَقْتُ مَعَ جِبْرِيلَ حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ . قِيلَ مَنْ مَعَكَ قِيلَ مُحَمَّدٌ . قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ . قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ ، وَلَنِعْمَ الْمَجِىءُ جَاءَ . فَأَتَيْتُ عَلَى آدَمَ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ مَرْحَبًا بِكَ مِنِ ابْنٍ وَنَبِىٍّ . فَأَتَيْنَا السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ ، قِيلَ
__________
(1) - تفسير ابن كثير : 4/ 524
(2) - البحر المحيط : 8/ 487
(3) - تفسير ابن كثير : المرجع السابق
(4) - المسند الجامع - (1 / 151) (85) فيه جهالة(1/721)
مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ . قِيلَ مَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - . قِيلَ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ . قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ ، وَلَنِعْمَ الْمَجِىءُ جَاءَ . فَأَتَيْتُ عَلَى عِيسَى وَيَحْيَى فَقَالاَ مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِىٍّ . فَأَتَيْنَا السَّمَاءَ الثَّالِثَةَ ، قِيلَ مَنْ هَذَا قِيلَ جِبْرِيلُ . قِيلَ مَنْ مَعَكَ قِيلَ مُحَمَّدٌ . قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ . قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ وَلَنِعْمَ الْمَجِىءُ جَاءَ . فَأَتَيْتُ يُوسُفَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، قَالَ مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِىٍّ فَأَتَيْنَا السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ ، قِيلَ مَنْ هَذَا قِيلَ جِبْرِيلُ . قِيلَ مَنْ مَعَكَ قِيلَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - . قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قِيلَ نَعَمْ . قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ ، وَلَنِعْمَ الْمَجِىءُ جَاءَ . فَأَتَيْتُ عَلَى إِدْرِيسَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ مَرْحَبًا مِنْ أَخٍ وَنَبِىٍّ . فَأَتَيْنَا السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ ، قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ . قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قِيلَ مُحَمَّدٌ . قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ . قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ ، وَلَنِعْمَ الْمَجِىءُ جَاءَ . فَأَتَيْنَا عَلَى هَارُونَ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِىٍّ .
فَأَتَيْنَا عَلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ ، قِيلَ مَنْ هَذَا قِيلَ جِبْرِيلُ . قِيلَ مَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - . قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ مَرْحَبًا بِهِ ، وَلَنِعْمَ الْمَجِىءُ جَاءَ . فَأَتَيْتُ عَلَى مُوسَى ، فَسَلَّمْتُ { عَلَيْهِ } فَقَالَ مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِىٍّ . فَلَمَّا جَاوَزْتُ بَكَى . فَقِيلَ مَا أَبْكَاكَ قَالَ يَا رَبِّ ، هَذَا الْغُلاَمُ الَّذِى بُعِثَ بَعْدِى يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَفْضَلُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِى . فَأَتَيْنَا السَّمَاءَ السَّابِعَةَ ، قِيلَ مَنْ هَذَا قِيلَ جِبْرِيلُ . قِيلَ مَنْ مَعَكَ قِيلَ مُحَمَّدٌ . قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ مَرْحَبًا بِهِ ، وَنِعْمَ الْمَجِىءُ جَاءَ . فَأَتَيْتُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ مَرْحَبًا بِكَ مِنِ ابْنٍ وَنَبِىٍّ ، فَرُفِعَ لِىَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ ، فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ فَقَالَ هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يُصَلِّى فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ، إِذَا خَرَجُوا لَمْ يَعُودُوا إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ ، وَرُفِعَتْ لِى سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى فَإِذَا نَبِقُهَا كَأَنَّهُ قِلاَلُ هَجَرٍ ، وَوَرَقُهَا كَأَنَّهُ آذَانُ الْفُيُولِ ، فِى أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ ، فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ فَقَالَ أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَفِى الْجَنَّةِ ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ النِّيلُ وَالْفُرَاتُ ، ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَىَّ خَمْسُونَ صَلاَةً ، فَأَقْبَلْتُ حَتَّى جِئْتُ مُوسَى ، فَقَالَ مَا صَنَعْتَ قُلْتُ فُرِضَتْ عَلَىَّ خَمْسُونَ صَلاَةً . قَالَ أَنَا أَعْلَمُ بِالنَّاسِ مِنْكَ ، عَالَجْتُ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ ، وَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ . فَرَجَعْتُ فَسَأَلْتُهُ ، فَجَعَلَهَا أَرْبَعِينَ ، ثُمَّ مِثْلَهُ ثُمَّ ثَلاَثِينَ ، ثُمَّ مِثْلَهُ فَجَعَلَ عِشْرِينَ ، ثُمَّ مِثْلَهُ فَجَعَلَ عَشْرًا ، فَأَتَيْتُ مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ ، فَجَعَلَهَا خَمْسًا ، فَأَتَيْتُ مُوسَى فَقَالَ مَا صَنَعْتَ قُلْتُ جَعَلَهَا خَمْسًا ، فَقَالَ مِثْلَهُ ، قُلْتُ سَلَّمْتُ بِخَيْرٍ ، فَنُودِىَ إِنِّى قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِى وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِى ، وَأَجْزِى الْحَسَنَةَ عَشْرًا » (1) . .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ فَشَقَّ قَلْبَهُ ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً ، فَقَالَ : هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ
__________
(1) - صحيح البخارى (3207 ) وصحيح مسلم (434 ) -المراق : ما رق من البطن ولان(1/722)
زَمْزَمَ ، ثُمَّ لَأَمَهُ ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ - يَعْنِي ظِئْرَهُ - فَقَالُوا : إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ فَاسْتَقْبَلُوهُ مُنْتَقِعَ اللَّوْنِ. قَالَ أَنَسٌ : قَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - ."
وفي رواية عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ ، فَأَخَذَهُ ، فَصَرَعَهُ ، فَشَقَّ قَلْبَهُ ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً ، فَقَالَ : هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ ، فَجَاءَهُ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ - يَعْنِي ظِئْرَهُ - فَقَالَ : إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ ، فَاسْتَقْبَلُوهُ مُنْتَقِعَ اللَّوْنِ.قَالَ أَنَسٌ : كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - . (1)
والخلاصة من حديث شق الصدر : أن جبريل عليه السلام أتى محمدا - صلى الله عليه وسلم - في صغره ، وشق صدره ، وأخرج قلبه وغسله وأنقاه من المعاصي ، ثم ملأه علما وإيمانا ، ووضعه في صدره.
وقد طعن بعضهم في هذه الرواية لأن هذه الواقعة حدثت في حال الصغر ،وذلك من المعجزات ، فلا يجوز أن تتقدم نبوته ، ولأن تأثير الغسل في إزالة أوساخ الأجسام ، والمعاصي ليست بأجسام ، فلا يكون للغسل فيها أثر ، ولأنه لا يصح أن يملأ القلب علما ، بل اللَّه تعالى يخلق فيه العلوم.
وأجاب الإمام فخر الدين الرازي عن ذلك بأن هذا يسمى الإرهاص ، وهو مقدمات النبوة وبشائرها ، ومثله في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - كثير ، ولا يبعد أن يكون غسل الدم الأسود من قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - علامة للقلب الذي يميل إلى المعاصي ، ويحجم عن الطاعات ، فإذا أزالوه كان ذلك كالعلامة على كون صاحبه معصوما ، مواظبا على الطاعات ، محترزا عن السيئات ، وأيضا فلأن اللَّه تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد (2) .
وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ أي حططنا عنك ما كنت تتصور من وجود ذنوب ومعاص أثقلت كاهلك ، وأتعبت نفسك ، سواء قبل النبوة أم بعدها مما تفعله خلاف الأولى ، وهو لا يتفق مع سمو قدرك ، ورفعة منزلتك ، وعلو شأنك ، كالإذن لبعض المنافقين بالتخلف عن الجهاد في موقعة تبوك ، وقبول الفداء من أسرى بدر ، والعبوس في وجه الأعمى.
و قيل : المراد حططنا عنك حمل أعباء النبوة والرسالة ، فسهلناها عليك ، حتى تيسرت لك.
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (14 / 243) (6334و6336) وصحيح مسلم -(431 )
المخيط : الإبرة -الظئر : المرضعة غير ولدها ويقع على الرجل والمرأة -العلقة : الدم الغليظ المنعقد -لأمه : ضم بعضه إلى بعض -المنتقع : المتغير اللون
(2) - تفسير الرازي : 32/ 2
قلت : إذا صح الخبر لا يجوز ردُّهُ إلا إذا كان هناك خبر أقوى منه وعجزنا عن الجمع بينهما(1/723)
وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ أي جعلنا ذكرك مرفوعا عاليا في الدنيا والآخرة ، بالنبوة وختم الرسالات بك ، وإنزال القرآن العظيم عليك ، وتكليف المؤمنين بالقول بعد « أشهد أن لا إله إلا اللَّه » : « أشهد أن محمدا رسول اللَّه » سواء في الأذان أم في التشهد أم في الخطبة وغيرها ، وأمرهم بالصلاة والسلام عليه ، وأمر اللَّه بطاعته ، وجعل طاعته طاعة للَّه تعالى.
عَنْ قَتَادَةَ ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ رَفَعَ اللَّهُ ذِكْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَلَيْسَ خَطِيبٌ ، وَلَا مُتَشَهِّدٌ ، وَلَا صَاحِبُ صَلَاةٍ ، إِلَّا يُنَادِي بِهَا : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ " (1) .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : " أَتَانِي جِبْرِيلُ ، فَقَالَ : إِنَّ رَبِّي وَرَبَّكَ يَقُولُ لَكَ : " كَيْفَ رَفَعْتُ ذِكْرَكَ ؟ " ، قَالَ : اللَّهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : " إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي " (2) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " سَأَلْتُ اللَّهَ مَسْأَلَةً وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ سَأَلْتُهُ ذَكَرْتُ رُسُلَ رَبِّي فَقُلْتُ : يَا رَبِّ ، سَخَّرْتَ لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ ، وَكَلَّمْتَ مُوسَى فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَلَمْ أَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَيْتُكَ وَضَالًّا فَهَدَيْتُكَ وَعَائِلًا فَأَغْنَيْتُكَ ؟ قَالَ : فَقُلْتُ : نَعَمْ . فَوَدِدْتُ أَنْ لَمْ أَسْأَلْهُ " (3) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ مَسْأَلَةً , وَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ سَأَلْتُهُ إِيَّاهَا ، قُلْتُ : يَا رَبِّ , إِنَّهُ قَدْ كَانَ قَبْلِي رُسُلٌ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُحيِي الْمَوْتَى ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَخَّرْتَ لَهُ الرِّيحَ . قَالَ : أَلَمْ أَجِدْكَ ضَالًّا فَهَدَيْتُكَ ؟ . قُلْتُ : بَلَى يَا رَبِّ . قَالَ : أَلَمْ أَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَيْتُكَ ؟ قُلْتُ : بَلَى يَا رَبِّ قَالَ : أَلَمْ أَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ؟ أَلَمْ أَضَعْ عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ؟ أَلَمْ أَرْفَعْ لَكَ ذِكْرَكَ ؟ قُلْتُ : بَلَى يَا رَبِّ " قَالَ : فَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ سَأَلْتُهُ " (4)
وعَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ قَالَ : لَا أُذْكَرُ إِلَّا ذُكِرْتَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ ذِكْرَهُ عِنْدَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ ، وَالْآذَانِ ، وَيُحْتَمَلُ : ذِكْرُهُ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ ، وَعِنْدَ الْعَمَلِ بِالطَّاعَةِ وَالْوُقُوفِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ " (5)
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (34839 ) صحيح
(2) - صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ (3451 ) حسن
(3) - الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ(3905 ) صحيح
(4) - وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ مَسْأَلَةً , وَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ سَأَلْتُهُ إِيَّاهَا ، قُلْتُ : يَا رَبِّ , إِنَّهُ قَدْ كَانَ قَبْلِي رُسُلٌ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُحيِي الْمَوْتَى ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَخَّرْتَ لَهُ الرِّيحَ . قَالَ : أَلَمْ أَجِدْكَ ضَالًّا فَهَدَيْتُكَ ؟ . قُلْتُ : بَلَى يَا رَبِّ . قَالَ : أَلَمْ أَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَيْتُكَ ؟ قُلْتُ : بَلَى يَا رَبِّ قَالَ : أَلَمْ أَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ؟ أَلَمْ أَضَعْ عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ؟ أَلَمْ أَرْفَعْ لَكَ ذِكْرَكَ ؟ قُلْتُ : بَلَى يَا رَبِّ " قَالَ : فَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ سَأَلْتُهُ "
(5) - دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ (2992) صحيح(1/724)
وبعد التذكير بهذه النعم ، ذكر اللَّه تعالى أن ذلك جار على وفق سنته ، من إيراد اليسر بعد العسر ، فقال ردّا على المشركين الذين كانوا يعيرون رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بالفقر : فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً أي إن مع ذلك العسر المذكور سابقا يسرا ، وإن مع الضيق فرجا ، وقد أكّد تعالى ذلك في الجملة الثانية. وفي هذا بشارة لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وتسلية له أنه سيبدل حاله من فقر إلى غنى ، ومن ضعف إلى عزة وقوة ، ومن عداوة قومه إلى محبتهم. والأظهر أن المراد باليسرين : الجنس ، ليكون وعدا عاما لجميع المكلفين في كل عصر ، ويشمل يسر الدنيا ويسر الآخرة ، ويسر العاجل والآجل.
قال الفراء والزجاج : العسر مذكور بالألف واللام ، وليس هناك معهود سابق ، فينصرف إلى الحقيقة ، فيكون المراد بالعسر في اللفظين شيئا واحدا. وأما اليسر فإنه مذكور على سبيل التنكير ، فكان أحدهما غير الآخر.
يؤيد ذلك ما رواه الحاكم عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ حُصِرَ بِالشَّامِ وَقَدْ تَأَلَّبَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ : " سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ مَا يَنْزِلُ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مَنْزِلَةِ شِدَّةٍ إِلَّا يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ بَعْدَهَا فَرَجًا وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " قَالَ : فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ : " سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ إِلَى آخِرِهَا قَالَ : فَخَرَجَ عُمَرُ بِكِتَابِهِ فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَرَأَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، ثُمَّ قَالَ : يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ ، إِنَّمَا يُعَرِّضُ بِكُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنِ ارْغَبُوا فِي الْجِهَادِ " (1) .
وعَنِ الْحَسَنِ ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلّ : إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ، قَالَ : خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا مَسْرُورًا فَرِحًا وَهُوَ يَضْحَكُ ، وَهُوَ يَقُولُ : لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ ، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" (2)
ثم أمره ربه بمهام تتناسب مع مقامه ومع شكر هذه النعم السابقة واللاحقة من اليسر والظفر ، فقال : فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ أي إذا فرغت من تبليغ الدعوة ، أو من الجهاد ، أو مشاغل الدنيا وعلاقاتها ، فأتعب نفسك في العبادة ، واجتهد في الدعاء ، واطلب من اللَّه حاجتك ، وأخلص لربّك النيّة والرغبة. وهذا دليل على طلب الاستمرار في العمل الصالح والخير والمثابرة على الطاعة لأن استغلال الوقت مطلوب شرعا ، وإن اللَّه يكره العبد البطال.
__________
(1) - الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (3133 ) صحيح
(2) - المستدرك للحاكم (3950) صحيح مرسل(1/725)
وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ أي أقبل على اللَّه ، واجعل رغبتك إلى اللَّه وحده ، وتضرع إليه راهبا من النار ، راغبا في الجنة ، ولا تطلب ثواب عملك إلا من اللَّه ، فإنه الجدير بالتوجه والتضرع إليه ، وبالتوكل عليه.
ومضات :
عن مجاهد : أي : لا أذْكَر إلا ذكرتَ معي . قال الشهاب وهذا - أي : المأثور عن مجاهد - إن أخذ كلية خالف الواقع ؛ فإنه كم ذكر الله وحده ! وكم ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحده ! وإن عيِّن موضعاً فهو ترجيح بلا مرجح ، وإن جعلت القضية مهملة ، فلا يخفى ما في الإهمال من الركاكة .
قال : وقد أمعنت فيه النظر فلم أر ما يثلج الصدر ، ويردّ السائل غير صفر ، حتى لاح لي أن الجواب الحق أن يقال : الذكر محمول على الذِّكر في مجامع العبادة ومشاهدها ؛ فإن ذكره - صلى الله عليه وسلم - مقرون بذكره فيها في الواقع في الصلوات والخطب ، فلا ترى مشهداً من مشاهد الإسلام إلا وهو كذلك ، فلا ينفك ذكره - صلى الله عليه وسلم - عن ذكره تعالى في يوم من الأيام ، ولا ليلة من الليالي بل ولا في وقت من الأوقات المعتدّ بها ، فتتجه الكلية . فإن قلت : من أين لك هذا التقييد ، فهل هو إلا ترجيح من غير مرجح ؟ قلت : المقام ناطق بهذا القيد ؛ فإن المراد التنويه بذكره - صلى الله عليه وسلم - وإشاعة قدره الدال على ُقربه - صلى الله عليه وسلم - من ربه ، كقرب اسمه من اسمه ، وإنما يكون هذا بذكره في المحافل والمشاهد والجوامع والمساجد ، وأيُّ إشاعة أقوى من الآذان ؟ لا في الأسواق والطرق التي يطرح فيها كل ذكر .
ثم قال : واعلم أن تحقيق هذا المقام ما قالهُ الإمام الشافعيّ في أول " رسالته الجديدة " وبينهُ السبكيّ في تعليقه على الرسالة فقال رحمه الله تعالى : قال الإمام رضي الله تعالى عنه ، عن مجاهد في تفسير الآية : لا أذْكر إلا ذكِرت معي : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله . قال الشافعي : يعني ذكره عند الإيمان بالله والأذان ، ويحتمل ذكرهُ عند تلاوة القرآن وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية .
قال السبكيّ : هذا الاحتمال من الشافعيّ جيد جداً ، وهو مبني على أن المراد بالذكر ، الذكر بالقلب ، وهو صحيح ، فعلى هذا يعم ؛ لأن الفاعل للطاعة أو الكافّ عن المعصية امتثالاً لأمر الله تعالى به ، ذاكراً للنبي - صلى الله عليه وسلم - بقلبه ؛ لأنه المبلغ لها عن الله ، هذا أعم من الذكر باللسان ، فإنه مقصور على الإسلام والأذان والتشهد والخطبة ونحوها . قال الشافعيّ : فلم تُمْسِ بنا نعمة ظهرت ولا بطنت ، نلنا بها حظاً في دِين أو دنيا ، أو رُفع عنا بها مكروه فيهما أو في واحد منهما ، إلا ومحمد - صلى الله عليه وسلم - سببها ؛ فعلم من هذا أنه إن أبقى العموم والحصر على ظاهره ، حمل(1/726)
الذكر القلبيّ فيشمل كل موطن من مواطن العبادة والطاعة ، فإن العاقل المؤمن إذا ذكر الله ، تذكر من دل على معرفته وهداهُ إلى طاعته ، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما قيل :
~فأنت باب الله أي : امرئ أتاهُ من غيرك لا يدخل ؟
ولك أن تقول : المراد برفع ذكره تشريفه - صلى الله عليه وسلم - بمقارنته لذكره في شعائر الدين الظاهرة ، وأولها كلمتا الشهادة ، وهما أساس الدِّين ثم الأذان والصلاة والخطب ، فالحصر إضافيّ . انتهى كلام الشهاب .
وقوله تعالى : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } إشارة إلى أن الذي منحهُ - صلوات الله عليه - من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر ، بعد ضيق الأمر واستحكام حلقات الكرب في أول السير ، كان على ما جرت به سنتهُ تعالى في هذا النوع من الخليقة ، وهو أن مع العسر يسراً ؛ ولهذا وصل العبارة بالفاء التي لبيان السبب . وأل في { الْعُسْرِ } للاستغراق ولكنه استغرق بالمعهود عند المخاطبين من أفراده أو أنواعه ، فهو العسر الذي يعرض من الفقر والضعف وجهل الصديق وقوة العدوّ ، وقلة الوسائل إلى المطلوب ونحو ذلك مما هو معهود ومعروف ، فهذه الأنواع من العسر مهما اشتدت ، وكانت النفس حريصة على الخروج منها طالبة لكشف شدتها ، واستعملت من وسائل الفكر والنظر والعمل على ما من شأنه أن يعدّ لذلك في معروف العقل ، واعتصمت بعد ذلك بالتوكل على الله حتى لا تضعفها الخيبة لأول مرة ، ولا يفسخ عزيمتها ما تلاقيه عند الصدمة الأولى ؛ فلا ريب في أن النفس تخرج منها ظافرة . وقد كان هذا حال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن ضيق الأمر عليه كان يحمله على الفكر والنظر ، حتى آتاه الله ما هو أكبر من ذلك ، وهو الوحي والنبوة ، ثم لم تكسر مقاومات قومه شيئاً من عزمه ، بل ما زال يلتمس الغنى في الفقر ، والقوة في الضعف ، حتى أوتي من ذلك ما زعزع أركان الأكاسرة والقياصرة وترك منه لأمته ما تمتعت به أعصاراً طوالاً . أفاده الإمام رحمه الله .
وقال ابن جرير : اجعل نيتك ورغبتك إليه دون من سواه من خلقه ؛ إذ كان هؤلاء المشركون من قومك قد جعلوا رغبتهم في حاجاتهم إلى الآلهة والأنداد . والأظهر عندي - اعتماداً على ما صححناه من أن الآية مدنية وأنها من أواخر ما نزل - أن يكون معنى قوله تعالى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ } أي : فرغت من مقارعة المشركين ، وظفرت بأمنيتك منهم ، بمجيء نصر الله والفتح ، فانصب في العبادة والتسبيح والاستغفار ، شكراً لله على ما أنعم ، وأرغب إليه خاصة ابتغاءً لمرضاته ؛ فتكون الآيتان بمعنى سورة : { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } ثم رأيت ابن جرير نقل مثله عن ابن زيد عن أبيه قال : فإذا فرغت من الجهاد ، جهاد العرب وانقطع جهادهم ، فانصب لعبادة الله وإليه فارغب . وهو ظاهر . نعم لفظ الآية عام فيما أثرناه جميعهُ ،(1/727)
إلا أن السياق والنظائر - وهو أهم ما يرجع إليه - يؤيد ما قاله ابن زيد واعتمدناه . والله أعلم (1) .
آيات هذه السورة موجهة كذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كسابقتها. وقد احتوت تذكيرا بما كان من عناية اللّه به وتطمينا وتثبيتا له أو حثا على عبادة اللّه والتقرب إليه.
وقد ذكرت بعض الروايات أنها وسورة الضحى سورة واحدة وأن طاوسا وعمر بن عبد العزيز من التابعين كانا يتلوانهما معا بدون فصل بالبسملة. غير أن المتواتر المتصل بمصحف عثمان رضي اللّه عنه الذي هو على ترتيب المصحف الذي كتب في خلافة أبي بكر رضي اللّه عنه ، والذي نعتقد أنه الترتيب المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهما سورتان تفصل بينهما بسملة. والمتبادر أن التماثل والتعاقب بين السورتين مما جعل بعض التابعين إذا صحت الرواية يقولان إنهما سورة واحدة.
وهذا التماثل والتعاقب يلهمان أن هذه السورة بمثابة استمرار لسابقتها ظرفا وسياقا وموضوعا ، أو أنها نزلت في ظرف أزمة نفسية ثانية ، ألمت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أزمة فترة الوحي مما كان يلاقيه من قومه من عناء وعسر. وأسلوبها أسلوب تطميني محبب. فاللّه الذي شرح صدره وخفف الوزر الذي كان شديدا عليه ورفع ذكره مما هو معترف به منه ، لا يمكن أن يدعه وشأنه ، ولا أن يجعل عسره مستمرّا ، وعليه أن يتجلد ويصبر ، فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا.
والمتبادر أن شرح الصدر قد قصد به ما أنعم اللّه على النبي - صلى الله عليه وسلم - من الهدى واليقين. وأن وضع الوزر قد قصد به إنقاذه من دور حيرته النفسية ، وأن رفع الذكر قد قصد به ما كان من اختصاصه بالنبوة العظمى.
وفي التوكيد مرتين بأنه سيكون مع العسر يسرا ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلقى صدا وعسرا شديدين ، وأنه كان يعتلج في نفسه بسبب ذلك همّ وغمّ وقلق.
وفيه بشرى وتطمين بأن الأمر سينتهي إلى اليسر والنجاح. ومثل هذه البشرى قد جاءت في السورة السابقة بأسلوب الوعد بأن اللّه سوف يعطيه حتى يرضى ، وأن النهاية ستكون خيرا من البداية.
ومما لا شك فيه أنه كان لهذا التوكيد وكذلك للأمر بالاتجاه في الفراغ والخلوات حالما يفرغ من عمله اليومي أثر في استشعار النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسكينة وقوة النفس والروح ، وأن ذلك قد ساعده أعظم مساعدة على مواجهة الصعاب ، والاستخفاف بالعقبات والاستغراق في الدعوة والاندفاع فيها ، والثبات والصبر حتى تمّ له النصر الموعود وتبدل العسر يسرا ، وصارت كلمة اللّه هي العليا.
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 250)(1/728)
وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى دون ريب ، حيث يمد كل صاحب دعوة إلى سبيل اللّه والخير العام بقوة الروح ، وسكينة النفس وطمأنينة القلب والاندفاع فيما هو بسبيله ، واقتحام صعابه وعقباته وتحمل العناء ، راضيا مطمئنا إلى أن يصل إلى هدفه ، ويكون له بعد العسر يسر إذا ما تشبع قلبه بالإيمان ، وامتلأ بعظمة اللّه واتجه إليه وحده واستصغر كل ما عداه. (1)
{ ألم نشرح لك صدرك؟ } . . ألم نشرح صدرك لهذه الدعوة؟ ونيسر لك أمرها؟ . ونجعلها حبيبة لقلبك ، ونشرع لك طريقها؟ وننر لك الطريق حتى ترى نهايته السعيدة!
فتش في صدرك ألا تجد فيه الروْح والانشراح والإشراق والنور؟ واستعد في حسك مذاق هذا العطاء ، وقل : ألا تجد معه المتاع مع كل مشقة والراحة مع كل تعب ، واليسر مع كل عسر ، والرضى مع كل حرمان؟
{ ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك } . . ووضعنا عنك عبئك الذي أثقل ظهرك حتى كاد يحطمه من ثقله . . وضعناه عنك بشرح صدرك له فخف وهان . وبتوفيقك وتيسيرك للدعوة ومداخل القلوب . . وبالوحي الذي يكشف لك عن الحقيقة ويعينك على التسلل بها إلى النفوس في يسر وهوادة ولين .
ألا تجد ذلك العبء الذي أنقض ظهرك؟ ألا تجد عبئك خفيفاً بعد أن شرحنا لك صدرك؟
{ ورفعنا لك ذكرك } . . رفعناه في الملأ الأعلى ، ورفعناه في الأرض ، ورفعناه في هذا الوجود جميعاً . . رفعناه فجعلنا اسمك مقروناً باسم الله كلما تحركت به الشفاه :
« لا إله إلا الله . محمد رسول الله » . . وليس بعد هذا رفع ، وليس وراء هذا منزلة . وهو المقام الذي تفرد به - صلى الله عليه وسلم - دون سائر العالمين . .
ورفعنا لك ذكرك في اللوح المحفوظ ، حين قدر الله أن تمر القرون ، وتكر الأجيال ، وملايين الشفاه في كل مكان تهتف بهذا الاسم الكريم ، مع الصلاة والتسليم ، والحب العميق العظيم .
ورفعنا لك ذكرك . وقد ارتبط بهذا المنهج الإلهي الرفيع . وكان مجرد الاختيار لهذا الأمر رفعة ذكر لم ينلها أحد من قبل ولا من بعد في هذا الوجود . .
فأين تقع المشقة والتعب والضنى من هذا العطاء الذي يمسح على كل مشقة وكل عناء؟
ومع هذا فإن الله يتلطف مع حبيبه المختار ، ويسري عنه ، ويؤنسه ، ويطمئنه ويطلعه على اليسر الذي لا يفارقه :{ فإن مع العسر يسرا .إن مع العسر يسرا } . .
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 558)(1/729)
إن العسر لا يخلو من يسر يصاحبه ويلازمه . وقد لازمه معك فعلاً . فحينما ثقل العبء شرحنا لك صدرك ، فخف حملك ، الذي أنقض ظهرك . وكان اليسر مصاحباً للعسر ، يرفع إصره ، ويضع ثقله .
وإنه لأمر مؤكد يكرره بألفاظه : { فإن مع العسر يسرا . إن مع العسر يسرا } . . وهذا التكرار يشي بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان في عسرة وضيق ومشقة ، اقتضت هذه الملاحظة ، وهذا التذكير ، وهذا الاستحضار لمظاهر العناية ، وهذا الاستعراض لمواقع الرعاية ، وهذا التوكيد بكل ضروب التوكيد . . والأمر الذي يثقل على نفس محمد هكذا لا بد أنه كان أمراً عظيماً . .
ثم يجيء التوجيه الكريم لمواقع التيسير ، وأسباب الانشراح ، ومستودع الري والزاد في الطريق الشاق الطويل :{ فإذا فرغت فانصب . وإلى ربك فارغب } . .
إن مع العسر يسرا . . فخذ في أسباب اليسر والتيسير . فإذا فرغت من شغلك مع الناس ومع الأرض ، ومع شواغل الحياة . . إذا فرغت من هذا كله فتوجه بقلبك كله إذن إلى ما يستحق أن تنصب فيه وتكد وتجهد . . العبادة والتجرد والتطلع والتوجه . . { وإلى ربك فارغب } . . إلى ربك وحده خالياً من كل شيء حتى من أمر الناس الذين تشتغل بدعوتهم . . إنه لا بد من الزاد للطريق . وهنا الزاد . ولا بد من العدة للجهاد . وهنا العدة . . وهنا ستجد يسرا مع كل عسر ، وفرجاً مع كل ضيق . . هذا هو الطريق!
وتنتهي هذه السورة كما انتهت سورة الضحى ، وقد تركت في النفس شعورين ممتزجين : الشعور بعظمة الود الحبيب الجليل الذي ينسم على روح الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ربه الودود الرحيم . والشعور بالعطف على شخصه - صلى الله عليه وسلم - ونحن نكاد نلمس ما كان يساور قلبه الكريم في هذه الآونة التي اقتضت ذلك الود الجميل .
إنها الدعوة . هذه الأمانة الثقيلة وهذا العبء الذي ينقض الظهر . وهي مع هذا وهذا مشرق النور الإلهي ومهبطه ، ووصلة الفناء بالبقاء ، والعدم بالوجود! (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- بيان ما أكرم الله تعالى به رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - من شرح صدره ومغفرة ذنوبه ورفع ذكره
فهذه باقة أخرى من نعم اللَّه على نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، بالإضافة لما ذكر في سورة الضحى السابقة ، وهي :
أولا- شرح الصدر ، أي جعله فسيحا رحيبا ، قويا عظيما لتحمل أعباء النبوة والرسالة.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3930)(1/730)
وثانيا- حطّ الذنوب والمعاصي التي تعد ثقيلة وكبيرة بالنسبة لقدره ومنزلته ، وإلا فهي ليست ذنوبا على الحقيقة لأن الأنبياء معصومون منها ، ولم يسجد لصنم أو وثن قط ، ولم يصدر عنه كفر أصلا قبل النبوة. وهذا يستدعي كمال عقله وروحه ، وتبرئته من الوزر الذي ينشأ عن النفس والهوى ، وهو معصوم منهما.
وثالثا- رفع ذكره وإعلاء شأنه ومقامه في الدنيا والآخرة وتنزيه مقامه عن كل وصم ، قال ابن عباس : يقول له : لا ذكرت إلا ذكرت معي في الأذان ، والإقامة ، والتشهد ، ويوم الجمعة على المنابر ، ويوم الفطر ، ويوم الأضحى ، وأيام التشريق ، ويوم عرفة ، وعند الجمار ، وعلى الصفا والمروة ، وفي خطب النكاح ، وفي مشارق الأرض ومغاربها.
ولو أن رجلا عبد اللَّه جلّ ثناؤه ، وصدّق بالجنة والنار وكل شيء ، ولم يشهد أن محمدا رسول اللَّه ، لم ينتفع بشيء ، وكان كافرا (1) .2- بيان أن انشراح صدر المؤمن للدين واتساعه لتحمل الأذى في سبيل الله نعمة عظيمة .
3- بيان أن مع العسر يسرا دائما وأبدا ، ولن يغلب عسر يسرين فرجاء المؤمن في الفرح دائم ، فقد جعل اللَّه تيسيرا ورحمة على العباد يسرين مع كل عسر ، قال قوم : إن من عادة العرب إذا ذكروا اسما معرّفا ، ثم كرروه ، فهو هو ، وإذا نكّروه فهو غيره ، وهما اثنان ، ليكون أقوى للأمل ، وأبعث على الصبر.
4- الحثّ على المواظبة على العمل الصالح واستدامته ، وعلى عمل الخير والإقبال على فعله ، فعلى العاقل ألا يضيع أوقاته في الكسل والدعة ، ويحرص بكل قواه على تحصيل ما ينفعه في الدارين.
5- التوكل على اللَّه وحده ، والرغبة إليه والتضرع لوجهه الكريم ، فإنه أهل التوجه والضراعة ، ولا يطلب ثواب العمل الصالح إلا منه سبحانه.
قال ابن العربي : روي عن شريح أنه مرّ بقوم يلعبون يوم عيد ، فقال : ما بهذا أمر الشارع. وفيه نظر فإن الحبش كانوا يلعبون بالدّرق والحراب في المسجد يوم العيد ، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ وَتَضْرَبَانِ بِالدُّفِّ ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :(( دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ )) (2) ..
وليس يلزم الدّؤوب على العمل ، بل هو مكروه للخلق (3) .
__________
(1) - تفسير القرطبي : 20/ 106- 107
(2) - مجلس من أمالي أبي نعيم (9) صَحِيحٌ ثَابِتٌ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ ، غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ .
(3) - أحكام القرآن : 4/ 1938(1/731)
مقاصد هذه السورة
تشتمل هذه السورة الكريمة على أربعة مقاصد :
(1) تعداد ما أنعم به على رسوله من النعم.
(2) وعده له بإزالة ما نزل به من الشدائد والمحن.
(3) أمره بالمداومة على الأعمال الصالحة.
(4) التوكل عليه وحده ، والرغبة فيما عنده. (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 192)(1/732)
سورة التين
مكيّة ، وهي ثماني آيات
تسميتها :
سميت سورة التين لأن اللَّه تعالى أقسم في مطلعها بالتين والزيتون ، لما فيهما من خيرات وبركات ، ومنافع : وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ...
وقال ابن عاشور :
" سميت في معظم كتب التفسير ومعظم المصاحف "سورة والتين" بإثبات الواو تسمية بأول كلمة فيها. وسماها بعض المفسرين "سورة التين" بدون الواو لأن فيها لفظ "التين" كما قالوا "سورة البقرة" وبذلك عنونها الترمذي وبعض المصاحف.
وهي مكية عند أكثر العلماء قال ابن عطية: ل أعرف في ذلك خلافا بين المفسرين، ولم يذكرها في "الإتقان" في عداد السور المختلف فيها. وذكر القرطبي عن قتادة أنها مدنية، ونسب أيضا إلى ابن عباس، والصحيح عن ابن عباس أنه قال: هي مكية.
وعدت الثامنة والعشرين في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة البروج وقبل سورة الإيلاف.
وعدد آياتها ثمان. (1)
مناسبتها لما قبلها :
ذكر اللَّه تعالى في السورة المتقدمة حال أكمل الناس خلقا وخلقا ، وأنه أفضل العالم ، ثم ذكر في هذه السورة حال النوع الإنساني وما ينتهي إليه أمره من التدني ودخول جهنم إن عادى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، أو دخول الجنة إن آمن به وعمل صالحا.
وقال الخطيب :
" ختمت سورة « الانشراح » بالدعوة إلى الكد والنصب ، فى الحياة الدنيا ، ليبنى الإنسان بذلك دار مقامه فى الآخرة ، ويعمرها بما يساق إليه فيها من نعيم اللّه ورضوانه.
وبدئت سورة « التين » بهذه الأقسام من اللّه سبحانه وتعالى ، لتقرير حقيقة الإنسان وتذكيره بوجوده ، وأن اللّه سبحانه خلقه فى أحسن تقويم ، وأودع فيه القوى التي تمكّن له من الاحتفاظ بهذه الصورة الكريمة ، وأن يبلغ أعلى المنازل عند اللّه ، ولكن ميل الإنسان إلى حب العاجلة ، قد أغراه باقتطاف الذات الدانية له من دنياه ، دون أن يلتفت إلى الآخرة ، أو يعمل لها ، فردّ إلى أسفل سافلين .. وقليل هم أولئك الذين عرفوا قدر أنفسهم ، فعلوا بها عن هذا الأفق الضيق ، ونظروا إلى ماوراء هذه الدنيا. " (2)
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 370)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1612)(1/733)
ما اشتملت عليه السورة :
تضمنت هذه السورة المكية بيان أمور ثلاثة متعلقة بالإنسان وعقيدته :
1- تكريم النوع الإنساني ، حيث خلق اللَّه الإنسان في أحسن صورة وشكل ، منتصب القامة ، سويّ الأعضاء ، حسن التركيب : وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ .. [1- 4].
2- بيان انحدار مستوى الإنسان وزجّ نفسه في نيران جهنم بسبب كفره باللَّه تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنكاره البعث والنشور ، بالرغم من توافر الأدلة القاطعة على قدرة اللَّه عزّ وجلّ بخلق الإنسان في أحسن تقويم : ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [5].
واستثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [6].
3- إعلان مبدأ العدل المطلق في ثواب المؤمنين ، وتعذيب الكافرين : فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ، أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ [7- 8].
وقال ابن عاشور :
" احتوت هذه السورة على التنبيه بأن الله خلق الإنسان على الفطرة المستقيمة ليعلموا أن الإسلام هو الفطرة كما قال في الآية الأخرى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] وأن ما يخالف أصوله بالأصالة أو بالتحريف فساد وضلال، ومتبعي ما يخالف الإسلام أهل ضلالة.
والتعريض بالوعيد للمكذبين بالإسلام.
والإشارة بالأمور المقسم بها إلى أطوار الشرائع الأربعة إيماء إلى أن الإسلام جاء مصدقا لها وأنها مشاركة أصولها لأصول دين الإسلام.
والتنويه بحسن جزاء الذين اتبعوا الإسلام في أصوله وفروعه.
وشملت الامتنان على الإنسان بخلقه على أحسن نظام في جثمانه ونفسه." (1)
في السورة تنويه بتكوين الإنسان ومواهبه ، وتنبيه إلى ما يمكن أن يتردى إليه من الانحطاط بالانحراف عن الإيمان والعمل الصالح ، وتوكيد بالجزاء الأخروي واتساق ذلك مع عدل اللّه وحكمته ، والسورة عامة التوجيه والعرض.
وقد روت بعض الروايات أنها مدنية ، غير أن أكثر الروايات متفقة على مكيتها وأسلوبها يؤيد ذلك. (2)
فضلها :
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 370)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 163)(1/734)
عَنْ عَدِىٍّ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ فِى سَفَرٍ فَقَرَأَ فِى الْعِشَاءِ فِى إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ .صحيح البخارى (1)
وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ، فَقَرَأَ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ.
وعَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فَمَا سَمِعْتُ أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ .
وعَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ فَقَرَأَ فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. (2)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى(767 )
(2) - مسند أبي عوانة (1401 -1403) صحيح(1/735)
حال النوع الإنساني خلقا وعملا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
سبب نزول الآية 5 ثم رددناه :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ يَقُولُ : يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ، كَبِرَ حَتَّى ذَهَبَ عَقْلُهُ ، وَهُمْ نَفَرٌ رُدُّوا إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ سَفِهَتْ عُقُولُهُمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَهُمْ أَنَّ لَهُمْ أَجْرَهُمُ الَّذِي عَمِلُوا قَبْلَ أَنْ تَذْهَبَ عُقُولُهُمْ " (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : " مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا " وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا قَالَ:" إِلَّا الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ " (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ : لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ قَالَ : فِي أَعْدَلِ خَلْقٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ يَقُولُ : مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ يَقُولُ : " الَّذِينَ يُدْرِكُهُمُ الْكِبَرُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قَالَ : لَا يُؤْخَذُونَ بِعَمَلٍ عَمِلُوهُ فِي كِبَرِهِمْ " (3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قَالَ : رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قَالَ:رَجُلٌ كَانَ يَعْمَلُ فِي شَبِيبَتِهِ خَيْرًا فَكَبِرَ وَعَجَلَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ يُجْرَى عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْرِ مَا كَانَ يُجْرَى عَلَيْهِ فِي شَبِيبَتِهِ وَصِحَّتِهِ لَا يُمَنُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ " وَالسَّلَامُ " (4)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ... الثمرتان المعروفتان المباركتان اقسم الله بهما
2 ... وَطُورِ سِينِينَ ... جبل الطور الذي كلم الله سبحانه وتعالى عليه موسى عليه السلام
3 ... وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ ... مكة البلد الحرام من دخلها كان آمنا ، أو البلد الآمن
4 ... لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ ... آدم عليه السلام وذريته
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (34919 ) فيه لين
(2) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ (2592) صحيح
(3) - الزُّهْدُ الْكَبِيرُ لِلْبَيْهَقِيِّ (642 ) صحيح
(4) - الْجَامِعُ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي وَآدَابِ السَّامِعِ لِلْخَطِيِبِ الْبَغْدَادِيِّ (1934) صحيح(1/736)
4 ... في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ... في أجمل صورة
5 ... أَسْفَلَ سَافِلِينَ ... الهرم وهو أرذل العمر أو إلى النار إذا كفر
6 ... أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ... غير مقطوع بحلول الهرم
المعنى الإجمالي:
أقسم اللّه بالتين والزيتون ، وبطور سينين التي ناجى فيها موسى ربه ، وبهذا البلد الأمين ، وهو مكة التي يقاسى فيها النبي الأمرّين من قومه ، مع أنها البلد الأمين الذي يأمن صاحبه ومن دخل فيه من كل صوب ، بل يأمن فيها الطير والوحش والقاتل المطلوب ، ولكن ما المراد بالتين والزيتون ؟ هل هما الشجرتان المعروفتان ؟ وأقسم اللّه بهما لمزيد فضلهما ، ولمكانتهما الطيبة المعروفة ، غير أن النسق العام للقرآن البليغ يأبى ذلك ، ولهذا قيل : المراد بهما مكانهما ، وهما يكثران في الشام التي كان فيها السيد المسيح عليه السلام ، وعلى ذلك يكون القسم بهما للإشارة إلى المسيح وبطور سيناء للنبي موسى كليم اللّه ، وبهذا البلد الأمين لخاتم الأنبياء والمرسلين - عليه الصلاة والسلام - .
وبعض العلماء يقول : التين والزيتون موضعان في الشام ، وهذا يحتاج إلى تصديق الواقع له.
قد أقسم اللّه بهذه الأمكنة المقدسة لشرف من حل بها من الأنبياء والرسل لقد خلق الإنسان في أحسن تقويم ، أى : على أحسن حال وأكمل صورة ، ألا تراه وقد خلقه مستوى القامة مرفوع الرأس ، يأكل بيده ، قد وهبه العقل والتفكير ، والقدرة على تسخير غيره من الحيوان والنبات ، بل امتد عقله ، واتسع تفكيره إلى أن سخر الطبيعة وذللها لأغراضه ومنافعه ، والشواهد على ذلك كثيرة الآن.
ولعل السر في هذا القسم لفت أنظار الناس إلى أنفسهم ، وما ركب فيها من قوى وإدراك وعقول وتمييز ليصلوا بهذا إلى توحيد اللّه القوى القادر ، هذا الإنسان الذي خلقه ربه فأكرمه ونعمه ، وجعله يستولى على جميع العوالم ، قد كان في أول أمره ساذجا قليل الأطماع ، لم تتنبه فيه غرائز الشر ، ثم تنبهت فيه عوامل الشر ، وغرائز السوء حتى ظهر الحقد والحسد والتنازع والإفساد ، وكان القتال والنزاع والحروب. وأصبح الإنسان كالحيوان المفترس.
وضريت نفسه حتى صار أعظم اغتيالا لأخيه الإنسان من السباع ، وهذا معنى قوله : ثم رددناه أسفل سافلين ، ففطرة اللّه التي فطر الناس عليها تدعو إلى التراحم والتعاون وإيثار العدل والخلق الكامل ، ولكن الإنسان قد ينزع إلى الشر بعوامل البيئة التي تحرك فيه مصادر السوء. وحينئذ ينسى فطرته ، ويعود إلى حيوانيته. ويعمل عمل أهل النار ، فيكون أسفل من كل سافل وأشد من كل حيوان ضار.
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطير(1/737)
هذا هو الإنسان وطبعه وما جبل عليه ، فطرة سليمة حتى إذا حركت فيها عوامل الشر انقلب أشد من الحيوان ، إلا الذين امتلأت قلوبهم بالإيمان باللّه واليوم الآخر فإنهم يكبحون جماح نفوسهم ، ويردونها إلى الجادة والخير ، فيعملون العمل الصالح ابتغاء مرضاة اللّه ، وهؤلاء لهم أجر كريم غير مقطوع فلهم الحسنى في الدنيا ، ثم لهم الأجر الكامل في الآخرة.
عجبا لك أيها الإنسان! ما الذي يجعلك تكذب بيوم الدين بعد أن عرفت ذلك ؟ ! أليس اللّه بأحكم الحاكمين وأعدل العادلين. حيث أثاب الطائعين بالثواب الدائم وجازى المكذبين بالعقاب الصارم. (1)
التفسير والبيان :
والتِّينِ وَالزَّيْتُونِ أي قسما بالتين الذي يأكله الناس ، وبالزيتون الذي يعصرون منه الزيت ، فالمراد من التين والزيتون هذان الشيئان المشهوران ، قال ابن عباس : هو تينكم وزيتونكم هذا.
وهما كناية عن البلاد المقدسة التي اشتهرت بإنبات التين والزيتون. وإنما أقسم بالتين لأنه غذاء وفاكهة ودواء ، فهو غذاء لأنه طعام لطيف ، سريع الهضم ، لا يمكث في المعدة ، يلين الطبع ، ويقلل البلغم ، ويطهر الكليتين ، و يزيل ما في المثانة من الرمل ، ويسمّن البدن ، ويفتح مسام الكبد والطحال ، وهو خير الفواكه وأحمدها.
وكونه دواء لأنه يتداوى به في إخراج فضول البدن ، وفي الحديث الحسن الذي رواه ابن السني وأبو نعيم عن أبي ذر ، وضعفه السيوطي : « إنه يقطع البواسير ، وينفع من النّقرس » .
وكذلك الزيتون فاكهة وإدام ودواء ، يعصر منه الزيت الذي هو إدام غالب لبعض أهل البلاد ودهنهم ، ويدخل في كثير من الأدوية ، قال تعالى : يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ ، لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النور 24/ 35].
عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ " (2) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ طَيِّبٌ مُبَارَكٌ " (3)
وعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : ائْتَدِمُوا بِالزَّيْتِ ، وَادَّهِنُوا بِهِ ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ " (4)
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 879)
(2) - المستدرك للحاكم (3504) صحيح لغيره
(3) - المستدرك للحاكم (3505) صحيح لغيره
(4) - المستدرك للحاكم (7142) صحيح(1/738)
وعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ". (1)
وَطُورِ سِينِينَ هو الجبل الذي كلّم اللَّه عليه موسى بن عمران عليه السلام ، وهو طور سيناء.
وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ أي مكة المكرمة التي كرمها اللَّه بالكعبة المشرفة ، وبميلاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وإرساله فيه ، سمي أمينا لأنه آمن ومأمون فيه ، كما قال تعالى : وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران 3/ 97].
أقسم اللَّه سبحانه بهذه المواضع الثلاثة لأنها مهابط وحي اللَّه على أولي العزم من الرسل ، ومنها أضاءت الهداية للبشر. وجاء في آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة : جاء اللَّه من طور سيناء- يعني الذي كلم اللَّه عليه موسى بن عمران- وأشرق من ساعير- يعني جبل بيت المقدس الذي بعث اللَّه منه عيسى- واستعلن من جبال فاران- يعني جبال مكة التي أرسل اللَّه منها محمدا - صلى الله عليه وسلم - .
وذكرهم مخبرا عنهم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبهم في الزمان ، ولهذا أقسم بالأشرف ثم الأشرف منه ، ثم بالأشرف منهما.
ثم ذكر جواب القسم المحلوف عليه ، فقال : لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ أي أقسم بالأشياء الثلاثة المذكورة على أننا خلقنا الإنسان في أحسن صورة وأجمل شكل ، منتصب القامة ، سويّ الأعضاء ، حسن التركيب ، يأكل بيده ، يتميز بالعلم والفكر والكلام والتدبير والحكمة ، فصلح بذلك أن يكون خليفة مستخلفا في الأرض كما أراد اللَّه له.
والخلاصة : خلقناه في أحسن تعديل شكلا وانتصابا ، كما قال أكثر المفسرين.
ذكر القرطبي القصة التالية التي توضح حسن تقويم الإنسان ، فقال : كان عيسى بن موسى الهاشمي يحب زوجته حبّا شديدا ، فقال لها يوما : أنت طالق ثلاثا إن لم تكوني أحسن من القمر فنهضت واحتجبت عنه ، وقالت : طلقتني! وبات بليلة عظيمة ، فلما أصبح ، غدا إلى دار المنصور ، فأخبره الخبر ، وأظهر للمنصور جزعا عظيما ، فاستحضر الفقهاء واستفتاهم ، فقال جميع من حضر : قد طلّقت إلا رجلا واحدا من أصحاب أبي حنيفة ، فإنه كان ساكتا.
فقال له المنصور : مالك لا تتكلم ؟ فقال له الرجل : بسم اللَّه الرحمن الرحيم : وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ. لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. يا أمير المؤمنين ، فالإنسان أحسن الأشياء ، ولا شيء أحسن منه.
فقال المنصور لعيسى بن موسى : الأمر كما قال الرجل ، فأقبل على زوجتك. وأرسل أبو جعفر المنصور إلى زوجة الرجل : أن أطيعي زوجك ولا تعصيه ، فما طلقك.
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (14 / 173) (15940 ) صحيح لغيره(1/739)
ثم عقب القرطبي على هذا قائلا : فهذا يدلك على أن الإنسان أحسن خلق اللَّه باطنا وظاهرا ، جمال هيئة ، وبديع تركيب : الرأس بما فيه ، والصدر بما جمعه ، والبطن بما حواه ، والفرج وما طواه ، واليدان وما بطشتاه ،والرجلان وما احتملتاه. ولذلك قالت الفلاسفة : إنه العالم الأصغر إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه (1) .
لكنه غفل عن هذه المقومات ، وأهمل هذه الميزات ، وأخذ يعمل بهواه وشهواته ، لذا قال تعالى:ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ قيل : إلى النار التي هي أسفل الدرجات إن لم يطع اللَّه ويتبع الرسل ، والأولى أن يقال : رددناه إلى أرذل العمر ، وهو الهرم والضعف ، والخرف ونقص العقل ، بعد الشباب والقوة ، وجمال النطق ، وسلامة الفكر.
والقول الأول ، أي إلى النار بسبب كفر بعض الناس هو قول الحسن ومجاهد وأبي العالية وابن زيد وقتادة ، وعلى هذا يكون الاستثناء الآتي : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا .. استثناء متصلا.
والقول الثاني ، أي إلى أرذل العمر هو قول ابن عباس وعكرمة والضحاك والنخعي ، وعلى هذا يكون الاستثناء التالي منقطعا. وليس المعنى أن كل إنسان يعتريه هذا ، بل في الجنس من يعتريه ذلك. واختار ذلك ابن جرير.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي إلا الذين آمنوا باللَّه ورسله واليوم الآخر ، وعملوا صالح الأعمال من أداء الفرائض والطاعات ، فلهم ثواب على طاعاتهم دائم غير منقطع.
والمعنى كما أشرنا على التفسير الأول وكون الاستثناء متصلا : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بأن جمعوا بين الإيمان والعمل في حال الاستطاعة ، فلهم ثواب جزيل ، ينجون به من النار أسفل السافلين ، وهو الجنة دار المتقين.
والمعنى على التفسير الثاني وكون الاستثناء منقطعا وهو الراجح لدينا : لكن المؤمنين المتقين ، فإن اللَّه يكافئهم بثواب دائم غير منقطع ، بسبب صبرهم على ما ابتلوا به من الشيخوخة والهرم والمواظبة على الطاعات بقدر الإمكان ، مع ضعف البنية ، وفتور الأعضاء ، أي أنهم قد يردون إلى أرذل العمر كغيرهم ، لكن لهم أجرا كبيرا دائما على أفعالهم.
قال الألوسي : المتبادر من السياق الإشارة إلى حال الكافر يوم القيامة ، وأنه يكون على أقبح صورة وأبشعها ، بعد أن كان على أحسن صورة وأبدعها لعدم شكره تلك النعمة وعمله بموجبها (2) .
__________
(1) - تفسير القرطبي : 20/ 114
(2) - تفسير الألوسي : 30/ 476(1/740)
عن أبي مُوسَى قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا » (1) . .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُصَابُ بِبَلَاءٍ فِي جَسَدِهِ ، إِلَّا أَمَرَ اللَّهُ الْحَفَظَةَ الَّذِينَ يَحْفَظُونَهُ ، فَقَالَ : اكْتُبُوا لِعَبْدِي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ مِنَ الْخَيْرِ ، مَا كَانَ مَحْبُوسًا فِي وِثَاقِي " (2)
وَعَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ : أَنَّهُ رَاحَ إِلَى مَسْجِدِ دِمَشْقَ وَهَجَّرَ الرَّوَاحَ فَلَقِيَ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ [ الْأَنْصَارِيَّ ] وَالصَّنَايِحِيُّ مَعَهُ فَقُلْتُ : أَيْنَ تُرِيدَانِ يَرْحَمُكُمَا اللَّهُ ؟ فَقَالَا : نُرِيدُ هَاهُنَا إِلَى أَخٍ لَنَا مَرِيضٍ مِنْ مِصْرَ نَعُودُهُ ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُمَا حَتَّى دَخَلَا عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ فَقَالَا لَهُ : كَيْفَ أَصْبَحْتَ ؟ فَقَالَ : أَصْبَحْتُ بِنِعْمَةٍ فَقَالَ لَهُ شِدَادٌ : أَبْشِرْ بِكَفَّارَاتِ السَّيِّئَاتِ وَحَطِّ الْخَطَايَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنًا فَحَمِدَنِي عَلَى مَا ابْتَلَيْتُهُ فَاجْرُوا لَهُ كَمَا كُنْتُمْ تُجْرُوهُ لَهُ وَهُوَ صَحِيحٌ " . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْطَبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ (3) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قَالَ : رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قَالَ : رَجُلٌ كَانَ يَعْمَلُ فِي شَبِيبَتِهِ خَيْرًا فَكَبِرَ وَعَجَلَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ يُجْرَى عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْرِ مَا كَانَ يُجْرَى عَلَيْهِ فِي شَبِيبَتِهِ وَصِحَّتِهِ لَا يُمَنُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ " وَالسَّلَامُ " (4) .
ورأى بعضهم أن الاستثناء متصل حتى على القول الثاني ، فلا يردّ المؤمن المتقي إلى أرذل العمر ، بدليل ما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا " وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا } [التين: 6] قَالَ: " إِلَّا الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ " (5)
وعَنْ عِكْرِمَةَ ، قَالَ : مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ، ثُمَّ قَرَأَ : {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا}. (6)
__________
(1) - صحيح البخارى (2996 )
(2) - سُنَنُ الدَّارِمِيِّ(2736) صحيح
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (6 / 434) (6990 ) ومسند أحمد (17583) ومسند الشاميين للطبراني(1097) صحيح لغيره
(4) - الْجَامِعُ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي وَآدَابِ السَّامِعِ لِلْخَطِيِبِ الْبَغْدَادِيِّ (1934 ) حسن
(5) - شعب الإيمان - (4 / 234) (2450 ) حسن وصحح إرساله
(6) - مصنف ابن أبي شيبة - (15 / 446) (30578) صحيح(1/741)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : " مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا قَالَ : إِلَّا الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ " (1)
ثم وبّخ الكفار على التكذيب بالجزاء بعد البعث ، فقال : فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ؟ المراد : فأي شيء يلجئك بعد هذه البيانات والأدلة على قدرة اللَّه إلى أن تكون كاذبا ، بسبب تكذيب الجزاء لأن كل مكذّب بالحق فهو كاذب ؟ فإذا عرفت أيها الإنسان أن اللَّه خلقك في أحسن تقويم ، وأنه يردّك بسبب الكفر أسفل سافلين ، فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء ؟ لقد علمت البدأة ، وعرفت أن من قدر على البدأة ، فهو قادر على الرجعة بطريق أولى ، فأي شيء يحملك على التكذيب بالمعاد ، وقد عرفت هذا ؟
ثم أكّد ما سبق بقوله : أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ أي أما هو أحكم الحاكمين قضاء وعدلا ، الذي لا يجور ولا يظلم ، ومن عدله أن يقيم القيامة ، فينتصف للمظلوم في الدنيا ممن ظلمه ؟ ! أخرج الترمذي عن أبي هريرة مرفوعا : « فإذا قرأ أحدكم : وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ، فأتى على آخرها : أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فليقل : بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين » .
ومضات :
قوله تعالى : « وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ » اختلف فى معنى التين والزيتون ، وكثرت مقولات المفسرين فيهما ، ويرون عن ابن عباس أنه قال فيها : « هو تينكم الذي تأكلون ، وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت ، قال تعالى : « وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ » (40 : المؤمنون).
ويروى عن أبى ذرّ أنه أهدى إلى النبىّ - صلى الله عليه وسلم - سل من تين ، فقال : « كلوا » وأكل منه ، ثم قال : « لو قلت : إنّ فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه ، لأن فاكهة الجنة بلا عجم ، فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النّقرس ».. وقيل التين المسجد الحرام ، والزيتون المسجد الأقصى ، وقيل : هما جبلان بالشام .. وقيل كثير غير هذا.
ويرجّح القرطبي أنهما التين والزيتون على الحقيقة ، وقال : « لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل » !.
ولكن إذا أخذنا بالقول بأن التين والزيتون هما هاتان الثمرتان ـ لا نجد جامعة بين التين والزيتون ، وبين طور سينين والبلد الأمين .. وعادة القرآن أنه لا يجمع بين الأقسام إلا إذا كانت بينها علاقة تشابه أو تضادّ ، وهنا لا نجد علاقة واضحة بين هاتين الفاكهتين ، وبين
__________
(1) - الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (3912 ) وقال : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ "(1/742)
طور سينين والبلد الأمين ، اللهم إلا إذا قلنا : إن طور سيناء ينبت فيه التين والزيتون ، ويطيب ثمره ، فتكون العلاقة بينهما علاقة نسبة إلى المكان ، ويقوّى هذه النسبة أن القرآن الكريم أشار فى موضع آخر إلى منبت شجرة الزيتون ، وأن طور سيناء هو أطيب منبت لها ، إذ يقول سبحانه : « وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ ».
(20 : المؤمنون) وقيل : إن التين والزيتون فاكهتان ، ولكن لم يقسم بهما هنا لفوائدهما ، بل لما يذكّران به من الحوادث العظيمة التي لها آثارها الباقية وذلك أن اللّه سبحانه وتعالى أراد أن يذكّرنا بأربعة فصول من كتاب الإنسان الطويل ، من أول نشأته إلى مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فالتين ، إشارة إلى عهد الإنسان الأول ، فإن آدم ـ كما تقول التوراة ـ كان يستظل فى الجنة بشجر التين ، وعند ما بدت له ولزوجه سوءاتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق التين .. فهذا أول فصل من فصول حياة الإنسان ..
والزيتون ، إشارة إلى الفصل الثاني ، وهو عهد نوح ، وذلك أنه بعد أن فسد البشر ، وأهلك اللّه من أهلك بالطوفان ، ونجّى نوحا ومن معه فى السفينة ، واستقرت السفينة على اليابسة ـ نظر نوح ـ كما تقول التوراة ـ إلى ما حوله ، فرأى الحياة لا تزال تغطى وجه الأرض ، فأرسل حمامة تأتى له بدليل على انحسار المياه عن وجه الأرض ، فجاءت إليه وفى فمها وريقات من شجر الزيتون ، فعرف أن المياه بدأت تظهر على وجه الأرض من جديد! أما طور سينين ، فهو إشارة إلى الفصل الثالث من حياة الإنسان ، وهو ظهور الشريعة الموسوية ، وقد كانت تلك الشريعة دعوة لكثير من أنبياء اللّه ورسوله إلى عهد المسيح عليه السلام ، الذي كان خاتمة هذه الشريعة.
وأما البلد الأمين ـ وهو مكة ـ فقد كان مطلع الرسالة الخاتمة لما شرع اللّه للناس ، وبها يختم الفصل الأخير من حياة الإنسان على هذه الأرض ..
وهذه كلها أقوال متقاربة ، يمكن أن يؤخذ بأيّ منها ، أو بها جميعها.
[مسيرة الإنسان .. إلى أمام ، أم وراء ؟ ]
وقوله تعالى : « لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ».
هو جواب القسم ، وهو المقسم عليه ، لتوكيده ، وتقريره بالقسم.
وفى توكيد هذا الخبر ، وهو خلق الإنسان فى أحسن تقويم ـ إشارة إلى كثير ممن تشهد عليهم أفعالهم بأنهم ينكرون خلقهم القويم هذا ، ولا يعرفون قدره فينزلون إلى مرتبة الحيوان ، ويسلمون قياد وجودهم إلى شهواتهم البهيمية ، غير ملتفتين إلى ما أودع الخالق فيهم من عقل حمل أمانة أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها ، فضيع الإنسان هذه(1/743)
الأمانة ، ولا كها فى فمه كما تلوك البهيمة العشب .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ».
. فلقد ردّ الإنسان بهذه الغفلة عن وجوده الحقيقي ، إلى الوراء ، منكّسا فى خلقه ، حتى بلغ أدنى مراتب الحيوانية ، وصار وراء الحيوان الأعجم الذي تسيره طبيعته التي ركبت فيه ، على خلاف هذا الإنسان الذي غيّر فطرته ، وانتقل من عالم الإنسان إلى عالم الحيوان ، فلم يصبح حيوانا ، ولم يعد إنسانا! يقول الأستاذ الإمام محمد عبده عن الإنسان وخلقه فى أحسن تقويم ، ورده إلى أسفل سافلين : « وما أشبهه ـ أي الإنسان ـ فى حاله الأولى ـ بثمرة التين ، تؤكل كلها ، لا يرمى منها شىء .. والإنسان ـ أي فى حاله الأولى ـ كان صلاحا كله ، لم يشذّ عن الجماعة منه فرد ، تلك كانت أيام القناعة بما تيسر له من العيش ، وشدة الإحساس بحاجة كل فرد إلى الآخر فى تحصيله ، وفى دفع العوادي عن النفس .. تنّبهت الشهوات بعد ذلك وتخالفت الرغبات ، فنبت الحسد والحقد ، وتبعه التقاطع ، واستشرى الفساد بالأنفس ، حتى صارت الأمانة عند بعض الحيوان ، أفضل منها عند الإنسان ، فانحطت بذلك نفسه عن مقامها الذي كان لها بمقتضى الفطرة ، وقد كان ذلك ـ ولا يزال ـ حال أكثر الناس. فهذا قوله : « ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ » !
ونظرة الأستاذ الإمام هنا ، قائمة على أن الإنسان فى حال التذاجة والبدائية كان خيرا منه فى حال الحضارة والمدينة ، أو بمعنى آخر ، أنه كان فى حياة الغابة بين الحيوان ، لا يتكلف لحياته أكثر ممّا يتكلّف الحيوان ، حيث يأكل مما يأكل الحيوان ، ويسكن فى كهوف ، وأجحار كما يسكن الحيوان ـ كان فى هذه الحياة خيرا منه فى حياة المدن ، وما ولّد له عقله فيها من قوّى سخّر بها الطبيعة ، واستخرج منها كنوزها المودعة فى كيانها ، وأمسك بمفاتح أسرارها ، فاستضاء بالكهرباء ، واتخذ الهواء مركبا له ، بل وصعّد فى السماء حتى وضع قدميه على القمر ، وهو بسبيل أن يضع أقدامه على الكواكب الأخرى!! ولو صحّ هذا الذي يقوله الأستاذ الإمام ، لكان معناه أن الحياة الإنسانية تسير إلى الوراء ، وهذا ما لا تسير عليه الحياة ، ولا ما تقتضيه سنّة التطور فى الكائن الحىّ نفسه .. فالإنسان بدأ من طين ، ثم صار خلقا سويّا ، فى أطوار ينتقل فيها من أسفل إلى أعلى .. من التراب ، ثم النطفة ، ثم العلقة ، ثم المضغة .. ثم .. ثم .. إلى أن يكون طفلا ، ثم غلاما ، ثم شابّا ، ثم رجلا .. كذلك الشأن فى عالم النبات .. البذرة ، ثم النّبتة ، ثم الشجرة ، ثم الدّوحة العظيمة .. وهكذا .. حتى فى عالم الجماد.
وإنه لأولى من هذا أن تكون هذه النظرة مقصورة على الأفراد فى أنواعها ، لا على الأنواع فى أفرادها ، بمعنى أن الأفراد تدور فى فلك محدود يكون لها فيه شروق وغروب ، وصعود وهبوط ، وازدهار وذبول ، ونضج وعطب .. أما الأنواع ـ مع ما يقع فى أفرادها من تحول(1/744)
وتبدّل ـ فهى سائرة إلى الأمام أبدا ، متطورة إلى ما هو أحسن وأكمل .. وشاهد هذا الشرائع السماوية نفسها ، فما كملت شريعة السماء إلا فى الشريعة الإسلامية ، التي التقت مع الإنسان بعد هذه الدورات الطويلة الممتدة من مسيرة الحياة الإنسانية ـ فهذا هو معيار الإنسان ، ووزنه الذي يوزن به! ودورة الإنسان هذه على هذه الأرض هى دورة جزيئة فى فلك الوجود ، إذاغربت شمسه على هذه الأرض ، طلعت من جديد فى عالم آخر ، هو عالم الخلود!.
أما قوله تعالى : « ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ » ـ فهذا حكم على الإنسان فى أفراده ، لا فى نوعه ، فالإنسان ـ كفرد ـ يولد ـ فى أىّ زمن من أزمان الحياة الإنسانية « فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ » بما أودع الخالق فيه من عقل مبصر ، وفطرة سليمة ، ثم إن كثيرا من الناس يطفئون نور عقولهم بأيديهم ، ويغتالون فطرتهم بشهواتهم ، فيفسدون وجودهم الإنسانىّ ويردّون إلى عالم الحيوان ، وقليل منهم يحتفظون بوجودهم الإنسانىّ ـ عقلا وفطرة ـ فيكونون شاهدا قائما على أن الإنسان ـ فى كل زمن هو خليفة اللّه فى هذه الأرض ، وهو سيّد ما عليها من مخلوقات ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ».
. فهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، هم الإنسان ، وهؤلاء هم الإنسان الذي يتناول من ربّه أجره الإنسان كاملا فى الدنيا والآخرة ، وإنه لأجر يتكافأ مع هذا الخلق العظيم الذي خلق عليه فى أحسن تقويم ، لا يناله غيره من عالم الأحياء .. إنه أجر مقدّر بقدره محسوب بشرف خلقه .. أما من نزلوا عن هذا القدر وتخلّوا عن هذا الشرف ، فلهم الأجر الذي هم أهله : « يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ » وهل للأنعام إلا أن تسمّن ، وتذبح ، ثم تكون وقودا للبطون الجائعة ؟ .
إن الوجود فى تطور ، وفى نماء ، وهذا بعض ما يشير إليه قوله تعالى : «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ ».. (1 : فاطر) .. وإن نظرة فى تاريخ الإنسانية لترينا أن الإنسان فى أول ظهوره على هذا الكوكب الأرضى ، كان أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان ، يسكن الغابات والكهوف ، ويعيش عاريا أو شبه عار ، لا يستره إلا ورق الشجر أو نحوه ، كما لا تزال شواهد من هذا قائمة فى البيئات المتخلّفة ، كما فى الزنوج ، والهنود الحمر ..
فهذا الإنسان البدائى كان ـ ولا يزال ـ محكوما يغرائزه الحيوانية ..
أما هذا الإنسان الذي شهد عهد النبوّات ، فهو وليد حياة متطورة ، قطع الإنسان مسيرتها فى مئات الألوف من السنين ، حتى أصبح أهلا لأن يخاطب من السماء ، وأن تناط به التكاليف الشرعية ، وأن يكون محلّا للحساب ، والثواب ، والعقاب.
والنظرة التي ينظر بها إلى الإنسان على أن أمسه خير من يومه ، ويومه خير من غده ، وأنه سائر فى طريق يتدلّى به سلّما سلّما من السماء إلى الأرض ـ هذه النظرة خاطئة من وجوه :(1/745)
فأولا : أنها نظرة محصورة فى الوجود الذاتي للإنسان .. فالإنسان فى نظرته إلى نفسه يرى أن واقعه الذي يعيش فيه ، غير محقّق لرضاه عنه ، أيّا كان هذا الوجود ، وأيّا كان حظّه مما لم يظفر به غيره .. إنه يتطلع دائما إلى ما هو أفضل ..
وثانيا : وتأسيسا على هذا ، أن عدم رضا الإنسان عن واقعه ، وتطلعه إلى المستقبل الذي لا يجد فيه ما يرضيه ـ هذا التطلع ـ يشرف به على عالم مجهول ، لا يدرى ما سيطلع عليه منه ، فلا يجد إلا الماضي الذي يعيش فى ذكرياته ، وإنه حين ينظر إلى هذا الماضي لا يذكر منه إلّا ما كان موضع مسرّته ورضاه .. أما ما يسوءه منه فإنه يختفى من حياته ، ولهذا كان الحنين إلى الماضي رغبة منبعثة من صدور كل إنسان.
وثالثا : وتأسيسا على هذا أيضا ـ كان هذا الإحساس الذي يجده الإنسان دائما من تقديس الماضي وتمجيده ، وأنه بقدر ما يبعد الزمن فى أغوار الماضي ، بقدر تعدّد ما يلبس من أثواب التقديس والتمجيد.
فالحياة بخير ، والإنسانية فى طريقها من الأرض إلى السماء ، وليست فى هبوط من السماء إلى الأرض!! قوله تعالى : « فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ ».
الدّين هنا ، هو ما يدين به الإنسان لخالقه الذي خلقه فى أحسن تقويم ، وهو الاحتفاظ بهذه المنزلة العالية التي له فى عالم المخلوقات ، بما له من عقل مبصر ، ونظرة سليمة.
والمراد بالتكذيب ، هو إنكار هذا العقل ، وعدم الإصغاء إليه.
والتخلّي عن هذه الفطرة ، وتعطيل وظيفتها.
والاستفهام إنكارى ، بكشف عن حال أولئك الذين خرجوا عن إنسانيتهم تلك ، وتحوّلوا إلى دنيا الحيوان ، بلا عقل ، ولا قلب!!
وقوله تعالى : « أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ » هو إنكار بعد إنكار ، لمن زهدوا فيما أودع الخالق فيهم من آياته ، فردّوها ، وعرّوا أنفسهم منها ، كأنهم لا يرضون بما زيّنهم اللّه به ، وكأنهم يرون أن ما صنع اللّه بهم ليس على التمام والكمال ، فهم يزهدون فيه ، ويطلبون لأنفسهم ما هو أحكم وأكمل!! فالتكذيب بالدين لا يكون من إنسان عاقل رشيد ، وإنما يكون ممن سفه نفسه وجهل قدره! (1)
وهذه الأماكن الثلاثة ، أقسم الله بها في القرآن في قوله : { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } فأقسم بالتين والزيتون ، وهو الأرض المقدسة التي ينبت فيها ذلك ، ومنها بعث المسيح وأنزل عليه فيها الإنجيل ، وأقسم بطور سيناء وهو الجبل الذي كلم الله موسى
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1613)(1/746)
وناداهُ فيه من واديه الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة ، وأقسم بهذا البلد الأمين وهو مكة الذي أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل وأمهُ هاجر فيه . وهو الذي جعله الله حرماً آمناً ويتخطف الناس من حوله ، وجعله آمناً خلقاً وأمراً قدراً وشرعاً .
ثم قال ابن تيمية : فقوله تعالى : { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } إقسام منه بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة التي ظهر فيها نوره وهداهُ ، وأنزل فيها كتبه الثلاثة : التوراة والإنجيل والقرآن . كما ذكر الثلاثة في التوراة بقوله : جاء الله من طور سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلن من جبال فاران .
ولما كان ما في التوراة خبراً عنها ، أخبر بها على ترتيبها الزماني ، فقدم الأسبق فالأسبق وأما في القرآن ، فإنه أقسم بها تعظيماً لشأنها ؛ وذلك تعظيم لقدرته سبحانه وآياته وكتبه ورسله ، فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة ، فختمها بأعلى الدرجات ، فأقسم أولاً بالتين والزيتون ، ثم بطور سينين ، ثم بمكة ؛ لأن أشرف الكتب الثلاثة القرآن ثم التوراة ثم الإنجيل ، وكذلك الأنبياء فأقسم بها على وجه التدريج كما في قوله : {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } [ الذاريات : 1 - 4 ] ، فأقسم بطبقات المخلوقات طبقة بعد طبقة ، فأقسم بالرياح الذاريات ثم بالسحاب الحاملات للمطر فإنها فوق الرياح ، ثم بالجاريات يسراً ، وقد قيل : إنها السفن ، ولكن الأنسب أن تكون هي الكواكب المذكورة في قوله : { فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّس ِ *الْجَوَارِ الْكُنَّسِ } [ التكوير : 15 - 16 ] ، فسماها جوارٍ كما سمى الفلك جواري في قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ } [ الشورى : 32 ] ، والكواكب فوق السحاب ثم قال : { فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } [ الذاريات : 4 ] ، وهي الملائكة التي هي أعلى درجة من هذا كله .
واستظهر بعض المعاصرين أن قوله تعالى : { وَالتِّينِ } يعني به شجرة بوذا مؤسس الديانة البوذية ، التي تحرفت كثيراً عن أصلها الحقيقي ؛ لأن تعاليم بوذا لم تكتب في زمنه وإنما رويت كالأحاديث بالروايات الشفهية ، ثم كتبت بعد ذلك حينما ارتقى أتباعها .
ثم قال : والراجح عندنا ، بل المحقق إذا صح تفسيرنا لهذه الآية أنهُ كان نبياً صادقاً ويسمى : سكياموتي ، أو جوناما ، وكان في أول أمره يأوي إلى شجرة تين عظيمة وتحتها نزل عليه الوحي ، وأرسله الله رسولاً ، فجاءه الشيطان ليفتنه هناك فلم ينجح معه . ولهذه الشجرة شهرة كبيرة عند البوذيين ، وتسمى عندهم : التينة المقدسة ، وبلغتهم : أجابالا .
قال : ففي هذه الآية ذكر الله تعالى أعظم أديان البشر الأربعة الموحاة منه تعالى لهدايتهم ونفعهم في دينهم ودنياهم ، فالقسم فيها كالتمهيد لقوله بعده : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } إلى آخر السورة .(1/747)
قال : ولا يزال أهل الأديان الأربعة هم أعظم أمم الأرض وأكثرهم عدداً وأرقاهم . والترتيب في ذكرها في الآية هو باعتبار درجة صحتها بالنسبة لأصولها الأولى ، فبدأ تعالى بالقسم بالبوذية لأنها أقل درجة في الصحة وأشد الأديان تحريفاً عن أصلها ، كما يبدأ الْإِنْسَاْن بالقسم بالشيء الصغير ، ثم يرتقي للتأكيد إلى ما هو أعلى ، ثم النصرانية وهي أقل من البوذية تحريفاً ، ثم اليهودية وهو أصح من النصرانية ، ثم الإسلامية وهو أصحها جميعاً وأبعدها عن التحريف والتبديل ، بل إن أصولها : الكتاب والسنة العملية المتواترة ، لم يقع فيها تحريف مطلقاً . ومن محاسن هذه الآية الشريفة غير ذلك ، ذكر ديني الفضل : البوذية والمسيحية أولاً ، ثم ديني العدل : اليهودية والإسلامية ثانياً ؛ للإشارة إلى الحكمة بتربية الفضل والمسامحة مع الناس أولاً . ثم تربية الشدة والعدل . وكذلك بدأ الإسلام باللين والعفو ثم بالشدة والعقاب . ولا يخفى على الباحثين التشابه العظيم بين بوذا وعيسى ودينهما ، وكذلك التشابه بين موسى ومحمد ودينهما ؛ فلذا جُمع الأولان معاً والآخران كذلك ، وقدم البوذية على المسيحية لقدم الأولى ، كما قدم الموسوية على المحمدية لهذا السبب بعينه . ومن محاسن الآية أيضاً الرمز والإشارة إلى ديني الرحمة بالفاكهة والثمرة ، وإلى ديني العدل بالجبل والبلدة الجبلية : مكة ، وهي البلد الأمين . ومن التناسب البديع بين ألفاظ الآية أن التين والزيتون ينبتان كثيراً في أودية الجبال ، كما في جبل الزيتون بالشام وطور سيناء ، وهما مشهوران بها . فهذه الآية قسم بأول مهابط الوحي ، وأكرم أماكن التجلي الإلهي على أنبيائه الأربعة ، الذين بقيت شرائعهم للآن ، وأرسلهم الله لهداية الناس الذين خلقهم في أحسن تقويم . انتهى بحروفه . والله أعلم . (1)
الحقيقة الرئيسية التي تعرضها هذه السورة هي حقيقة الفطرة القويمة التي فطر الله الإنسان عليها ، واستقامة طبيعتها مع طبيعة الإيمان ، والوصول بها معه إلى كمالها المقدور لها . وهبوط الإنسان وسفوله حين ينحرف عن سواء الفطرة واستقامة الإيمان .
ويقسم الله سبحانه على هذه الحقيقة بالتين والزيتون ، وطور سينين ، وهذا البلد الأمين ، وهذا القسم على ما عهدنا في كثير من سور هذا الجزء هو الإطار الذي تعرض فيه تلك الحقيقة . وقد رأينا في السور المماثلة أن الإطار يتناسق مع الحقيقة التي تعرض فيه تناسقاً دقيقاً .
وطور سينين هو الطور الذي نودي موسى عليه السلام من جانبه . والبلد الأمين هو مكة بيت الله الحرام . . وعلاقتهما بأمر الدين والإيمان واضحة . . فأما التين والزيتون فلا يتضح فيهما هذا الظل فيما يبدو لنا .
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 258)(1/748)
وقد كثرت الأقوال المأثورة في التين والزيتون . . قيل : إن التين إشارة إلى طورتينا بجوار دمشق .
وقيل : هو إشارة إلى شجرة التين التي راح آدم وزوجه يخصفان من ورقها على سوآتهما في الجنة التي كانا فيها قبل هبوطهما إلى هذه الحياة الدنيا . وقيل : هو منبت التين في الجبل الذي استوت عليه سفينة نوح عليه السلام .
وقيل في الزيتون : إنه إشارة إلى طورزيتا في بيت المقدس . وقيل : هو إشارة إلى بيت المقدس نفسه . وقيل : هو إشارة إلى غصن الزيتون الذي عادت به الحمامة التي أطلقها نوح عليه السلام من السفينة لترتاد حالة الطوفان . فلما عادت ومعها هذا الغصن عرف أن الأرض انكشفت وأنبتت!
وقيل : بل التين والزيتون هما هذان الأكلان اللذان نعرفهما بحقيقتهما . وليس هناك رمز لشيء وراءهما . . أو أنهما هما رمز لمنبتهما من الأرض . .
وشجرة الزيتون أشير إليها في القرآن في موضع آخر بجوار الطور : فقال : { وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين } كما ورد ذكر الزيتون : { وزيتوناً ونخلاً } فأما « التين » فذكره يرد في هذا الموضع لأول مرة وللمرة الوحيدة في القرآن كله .
ومن ثم فإننا لا نملك أن نجزم بشيء في هذا الأمر . وكل ما نملك أن نقوله اعتماداً على نظائر هذا الإطار في السور القرآنية : إن الأقرب أن يكون ذكر التين والزيتون إشارة إلى أماكن أو ذكريات ذات علاقة بالدين والإيمان . أو ذات علاقة بنشأة الإنسان في أحسن تقويم ( وربما كان ذلك في الجنة التي بدأ فيها حياته ) . . كي تلتئم هذه الإشارة مع الحقيقة الرئيسية البارزة في السورة؛ ويتناسق الإطار مع الحقيقة الموضوعة في داخله . على طريقة القرآن . . .
فأما الحقيقة الداخلية في السورة فهي هذه : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم . ثم رددناه أسفل سافلين .إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون } . .
ومنها تبدو عناية الله بخلق هذا الإنسان ابتداء في أحسن تقويم . والله سبحانه أحسن كل شيء خلقه . فتخصيص الإنسان هنا وفي مواضع قرآنية أخرى بحسن التركيب ، وحسن التقويم ، وحسن التعديل . . فيه فضل عناية بهذا المخلوق .
وإن عناية الله بأمر هذا المخلوق على ما به من ضعف وعلى ما يقع منه من انحراف عن الفطرة وفساد لتشير إلى أن له شأناً عند الله ، ووزناً في نظام هذا الوجود . وتتجلى هذه العناية في خلقه وتركيبه على هذا النحو الفائق ، سواء في تكوينه الجثماني البالغ الدقة والتعقيد ، أم في تكوينه العقلي الفريد ، أم في تكوينه الروحي العجيب .(1/749)
والتركيز في هذا المقام على خصائصه الروحية . فهي التي تنتكس إلى أسفل سافلين حين ينحرف عن الفطرة ويحيد عن الإيمان المستقيم معها . إذ إنه من الواضح أن خلقته البدنية لا تنتكس إلى أسفل سافلين .
وفي هذه الخصائص الروحية يتجلى تفوق التكوين الإنساني . فهو مهيأ لأن يبلغ من الرفعة مدى يفوق مقام الملائكة المقربين . كما تشهد بذلك قصة المعراج . . حيث وقف جبريل عليه السلام عند مقام ، وارتفع محمد بن عبد الله الإنسان إلى المقام الأسنى .
بينما هذا الإنسان مهيأ حين ينتكس لأن يهوي إلى الدرك الذي لا يبلغ إليه مخلوق قط : { ثم رددناه أسفل سافلين } . . حيث تصبح البهائم أرفع منه وأقوم ، لاستقامتها على فطرتها ، وإلهامها تسبيح ربها ، وأداء وظيفتها في الأرض على هدى . بينما هو المخلوق في أحسن تقويم ، يجحد ربه ، ويرتكس مع هواه ، إلى درك لا تملك البهيمة أن ترتكس إليه .
{ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } . . فطرة واستعداداً . . { ثم رددناه أسفل سافلين } . . حين ينحرف بهذه الفطرة عن الخط الذي هداه الله إليه ، وبينه له ، وتركه ليختار أحد النجدين .
{ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } . . فهؤلاء هم الذين يبقون على سواء الفطرة ، ويكملونها بالإيمان والعمل الصالح ، ويرتقون بها إلى الكمال المقدر لها ، حتى ينتهوا بها إلى حياة الكمال في دار الكمال . { فلهم أجر غير ممنون } دائم غير مقطوع .
فأما الذين يرتكسون بفطرتهم إلى أسفل سافلين ، فيظلون ينحدرون بها في المنحدر ، حتى تستقر في الدرك الأسفل . هناك في جهنم ، حيث تهدر آدميتهم ، ويتمحضون للسفول!
فهذه وتلك نهايتان طبيعيتان لنقطة البدء . . إما استقامة على الفطرة القويمة . وتكميل لها بالإيمان ، ورفع لها بالعمل الصالح . . فهي واصلة في النهاية إلى كمالها المقدر في حياة النعيم . وإما انحراف عن الفطرة القويمة ، واندفاع مع النكسة ، وانقطاع عن النفخة الإلهية . . فهي واصلة في النهاية إلى دركها المقرر في حياة الجحيم .
ومن ثم تتجلى قيمة الإيمان في حياة الإنسان . . إنه المرتقى الذي تصل فيه الفطرة القويمة إلى غاية كمالها .
إنه الحبل الممدود بين الفطرة وبارئها . إنه النور الذي يكشف لها مواقع خطاها في المرتقى الصاعد إلى حياة الخالدين المكرمين .
وحين ينقطع هذا الحبل ، وحين ينطفئ هذا النور ، فالنتيجة الحتمية هي الارتكاس في المنحدر الهابط إلى أسفل سافلين ، والانتهاء إلى إهدار الآدمية كلية ، حين يتمحض الطين في الكائن البشري ، فإذا هو وقود النار مع الحجارة سواء بسواء!
وفي ظل هذه الحقيقة ينادى « الإنسان » :{ فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين؟ }.(1/750)
فما يكذبك بالدين بعد هذه الحقيقة؟ وبعد إدراك قيمة الإيمان في حياة البشرية؟ وبعد تبين مصير الذين لا يؤمنون ، ولا يهتدون بهذا النور ، ولا يمسكون بحبل الله المتين؟
{ أليس الله بأحكم الحاكمين؟ } . . أليس الله بأعدل العادلين حين يحكم في أمر الخلق على هذا النحو؟ أو . . أليست حكمة الله بالغة في هذا الحكم على المؤمنين وغير المؤمنين؟
والعدل واضح . والحكمة بارزة . . ومن ثم ورد في الحديث المرفوع عن أبي هريرة : « فإذا قرأ أحدكم { والتين والزيتون } فأتى آخرها : { أليس الله بأحكم الحاكمين؟ } . . فليقل . . بلى وأنا على ذلك من الشاهدين » . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1 - لا يخفى ما للتين والزيتون من منافع والزيتون شجرة مباركة .
2 - فضل الله تعالى على الإنسان في تركيبه الجميل ، وفضل الله سبحانه على المسلم باستمرار أجره عند العجز عن الطاعات التي كان يقوم بها حال القوة .
3 - من السنة قول "بلى وأنا على ذلك من الشاهدين " عند قراءة ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) ، قال إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَانْتَهَى إِلَى آخِرِهَا { أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ } [التين: 8] فَلْيَقُلْ: وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَمَنْ قَرَأَ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَانْتَهَى إِلَى { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } [القيامة: 40] فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَمَنْ قَرَأَ وَالْمُرْسَلَاتِ فَبَلَغَ { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } [المرسلات: 50] فَلْيَقُلْ: آمَنَّا بِاللهِ " شعب الإيمان (2)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3932)
(2) - شعب الإيمان - (3 / 440) (1929) فيه جهالة
وانظر :
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (4 / 614) رقم الفتوى 20571 يشرع للمصلي وغيره إذا مرَّ بآيات فيها سؤال أن يسأل تاريخ الفتوى : 26 جمادي الأولى 1423
وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (5 / 153) رقم الفتوى 30137 يستحب لمن مرت به آيات تضمنت أسئلة أن يجيب تاريخ الفتوى : 23 محرم 1424
وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (9 / 1132) رقم الفتوى 61326 المستحب لمن مرَّ بآية رحمة أو عذاب تاريخ الفتوى : 11 ربيع الأول 1426
وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (10 / 1154) رقم الفتوى 71335 السؤال عند آية الرحمة في صلاتي الفرض والنافلة تاريخ الفتوى : 01 محرم 1427(1/751)
4- أليس اللَّه أتقن الحاكمين صنعا في كل ما خلق ، وأنه أحكم الحاكمين قضاء بالحق وعدلا بين الخلق ؟ !
وفي هذا تقدير لمن اعترف من الكفار بالصانع القديم وهو اللَّه تعالى. وهو وعيد للكفار وأنه يحكم عليهم بما هم أهله.
5- أقسم اللَّه تعالى بمواضع ثلاثة مقدسة : هي أماكن نبات التين والزيتون ، التي هي مقام الأنبياء ومهبط الوحي ، وطور سيناء الذي كلم اللَّه عليه موسى ، ومكة البلد الحرام الآمن على أنه خلق جنس الإنسان في أحسن تقويم وهو اعتداله واستواء شبابه. ثم يرد بعض النوع الإنساني أسفل سافلين ، أي إلى أرذل العمر ، وهو الهرم بعد الشباب ، والضعف بعد القوة ، حتى يصير كالصبي في طوره الأول من أطوار الحياة.
قال ابن العربي : ولامتنان الباري سبحانه ، وتعظيم النعمة أو المنة في التين ، وأنه مقتات مدخر ، فلذلك قلنا بوجوب الزكاة فيه (1) .
6- استثنى اللَّه تعالى الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، فإنه تكتب لهم حسناتهم ، وتمحى عنهم سيئاتهم ، وهم الذين أدركهم الكبر ، لا يؤاخذون بما عملوه في كبرهم.
7- وبّخ اللَّه الكافر وألزمه الحجة بكفره بالجزاء بعد البعث بقوله فيما معناه : إذا عرفت أيها الإنسان أن اللَّه خلقك في أحسن تقويم ، وأنه يردّك إلى أرذل العمر ، وينقلك من حال إلى حال ، فما يحملك على أن تكذّب بالبعث والجزاء ، وقد أخبرك محمد - صلى الله عليه وسلم - به ؟
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - أحكام القرآن : 4/ 1939(1/752)
سورة العلق
مكيّة ، وهي تسع عشرة آية
تسميتها :
سميت سورة العلق ، وسورة اقرأ ، أو بِالْقَلَمِ لأن اللَّه سبحانه افتتحها بقوله : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. والعلق : الدم المتجمد على شكل الدودة الصغيرة.
وقال ابن عاشور :
" اشتهرت تسمية هذه السورة في عهد الصحابة والتابعين باسم "سورة اقرأ باسم ربك".روي في "المستدرك" عن عائشة: "أول سورة نزلت من القرآن اقرأ باسم ربك" فأخبرت عن السورة ب {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1]. وروي ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي رجاء العطاردي ومجاهد والزهري، وبذلك عنونها الترمذي.
وسميت في المصاحف ومعظم التفاسير "سورة العلق" لوقوع لفظ "العلق" في أوائلها، وكذلك سميت في بعض كتب التفسير.
وعنونها البخاري: "سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق".
وتسمى "سورة اقرأ"، وسماها الكواشي في "التخليص" "سورة اقرأ والعلق".
وعنونها ابن عطية وأبو بكر بن العربي "سورة القلم" وهذا اسم سميت به "سورة ن والقلم" ولكن الذين جعلوا اسم هذه السورة "سورة القلم" يسمون الأخرى "سورة ن". ولم يذكرها في "الإتقان" في عداد السور ذات أكثر من اسم.وهي مكية باتفاق.
وهي أول سورة نزلت في القرآن كما ثبت في الأحاديث الصحيحة الواضحة، ونزل أولها بغار حراء على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مجاور فيه في رمضان ليلة سبعة عشرة منه من سنة أربعين بعد الفيل إلى قوله: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5]. ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة عن عائشة. وفيه حديث عن أبي موسى الأشعري وهو الذي قاله أكثر المفسرين من السلف والخلف.
وعن جابر أول سورة المدثر، وتؤول بأن كلامه نص أن سورة المدثر أول سورة نزلت بعد فترة الوحي كما في "الإتقان" كما أن سورة الضحى نزلت بعد فترة الوحي الثانية.
وعدد آيها في عد أهل المدينة ومكة عشرون، وفي عد أهل الشام ثمان عشرة، وفي عد أهل الكوفة والبصرة تسع عشرة. " (1)
مناسبتها لما قبلها :
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 382)(1/753)
ومناسبتها لما قبلها - أنه ذكر هناك خلق الإنسان فى أحسن تقويم ، وذكر هنا خلق الإنسان من علق ، إلى أنه ذكر هنا من أحوال الآخرة ما هو كالشرح والبيان لما سلف. (1)
وذكر تعالى في هذه السورة من أحوال الآخرة بيانا توضيحيا لما ذكر في السورة السالفة.
كانت سورة « التين » مواجهة للإنسان فى خلقه القويم ، الجليل ، الذي خلقه اللّه عليه ، وأن هذا الإنسان إذا استطاع أن يحتفظ بهذا الخلق الكريم ، كان فى أعلى عليين .. أما إذا لم يحسن سياسة هذا الخلق ، ولم يحسن تدبيره فإنه يهوى إلى أسفل سافلين.
وتبدا سورة « العلق » بهذه الواجهة مع الإنسان فى أعلى منازله ، وأكرم وأشرف صورة له ، وهو رسول اللّه « محمد » صلوات اللّه وسلامه عليه ، مدعوّا من ربه إلى أكمل كمالات الإنسان ، وأكرم ما يتناسب مع كماله وشرفه ، وهو القراءة ، التي هى مجلى العقل ، ومنارة هديه ورشده.
وبهذا تكون المناسبة جامعة بين السورتين ، ختاما ، وبدءا. (2)
ما اشتملت عليه السورة :
* سورة العلق وتسمي (سورة إقرأ) مكية وهي تعالج القضايا الآتية :
أولا : موضوع بدء نزول الوحي على خاتم الأنبياء محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ).
ثانيا : موضوع طغيان الإنسان بالمال ، وتمرده على أوامر الله جل وعلا ثالثا : قصة الشقي " أبي جهل " ونهيه الرسول( - صلى الله عليه وسلم - ) ، عن الصلاة وما نزل في حقه
* إبتدات السورة ببيان فضل الله على رسوله الكريم ، بإنزاله هذا القران " المعجزة الخالدة " عليه ، وتذكيره بأول النعماء ، وهو يتعبد ربه بغار حراء ، حيث تنزل عليه الوحي بآيات الذكر الحكيم [ إقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . إقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم. علم الإنسان مالم يعلم ] . ثم تحدثت عن طغيان الإنسان في هذه الحياة بالقوة والثراء ، وتمرده على أوامر الله ، بسبب نعمة الغنى ، وكأن الواجب عليه أن يشكر ربه على أفضاله ، لا أن يجحد النعماء ، وذكرته بالعودة إلى ربه لينال الجزآء [ كلا إن الإنسان ليطغى ، أن رأه استغنى ، إن إلى ربك الرجعى
* ثم تناولت قصة الشقى " أبي جهل " فرعون هذه الأمة ، الذي كان يتوعد الرسول( - صلى الله عليه وسلم - ) ويتهدده ، وينهاه عن الصلاه ، انتصارا للأوثان والأصنام [ أرايت الذي ينهى5عبدا إذا صلى ] الآيات .
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 197)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1621)(1/754)
*وختمت السورة بوعيد ذلك الشقي الكافر ، بأشد العقاب إن إستمر على ضلاله وطغيانه ، كما أمرت الرسول الكريم ، بعدم الإصغاء إلى وعيد ذلك المجرم الأثيم [ كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ] إلى ختام السورة الكريمة [ كلا لا تطعه واسجد واقترب.
* وقد بدأت السورة بالدعوة إلى القراءة والتعلم ، وختمت بالصلاة والعبادة ، ليقترن العلم بالعمل ، ويتناسق البدء مع الختام ، في أروع صور البيان. (1)
وقال ابن عاشور :
" تلقين محمد - صلى الله عليه وسلم - الكلام القرآني وتلاوته إذ كان لا يعرف التلاوة من قبل.
والإيماء إلى أن علمه بذلك ميسر لأن الله الذي ألهم البشر العلم بالكتابة قادر على تعليم من يشاء ابتداء.
وإيماء إلى أن أمته ستصير إلى معرفة القراءة والكتابة والعلم.
وتوجيهه إلى النظر في خلق الله الموجودات وخاصة خلقه الإنسان خلقا عجيبا مستخرجا من علقة فذلك مبدأ النظر.
وتهديد من كذب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعرض ليصده عن الصلاة والدعوة إلى الهدى والتقوى.
وإعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله عالم بأمر من يناوونه وأنه قامعهم وناصر رسوله.
وتثبيت الرسول على ما جاءه من الحق والصلاة والتقرب إلى الله.
وأن لا يعبأ بقوة أعداءه لأن قوة الله تقهرهم. " (2)
تضع جميع تراتيب السور المروية هذه السورة أولى السور ترتيبا. والمتبادر أن ذلك بسبب كون الآيات الخمس الأولى منها هي أولى آيات القرآن نزولا على ما عليه الجمهور. لأن مضمون باقي الآيات وأسلوبها يدلان على أنه نزل بعد مدة ما من نزول آياتها الخمس الأولى ، على أن هذه المدة ليست طويلة على ما تلهم آيات السورة.
وفي الآيات الخمس الأولى أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة وتنويه بما ألهم اللّه الإنسان من العلم. وفي بقية الآيات حملة على باغ مغتر بماله وجاهه تصدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتثبيت للنبي في دعوته وموقفه وعدم المبالاة به. (3)
كيفية نزول هذه السورة- حديث بدء نزول الوحي :
نزل صدر هذه السورة أول ما نزل من القرآن الكريم ، أما بقية السورة فهو متأخر النزول ، بعد انتشار دعوته - صلى الله عليه وسلم - بين قريش ، وتحرشهم به وإيذائهم له.
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 506)
(2) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 382)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 315)(1/755)
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِى النَّوْمِ ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِىَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا ، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِى غَارِ حِرَاءٍ ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ . قَالَ « مَا أَنَا بِقَارِئٍ » . قَالَ « فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ اقْرَأْ . قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ . فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ اقْرَأْ . فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ . فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّالِثَةَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) » . فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضى الله عنها فَقَالَ « زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى » . فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ « لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِى » . فَقَالَتْ خَدِيجَةُ كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ . فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ - وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِىَّ ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِىَ - فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ . فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِى مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَ مَا رَأَى . فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعًا ، لَيْتَنِى أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَوَمُخْرِجِىَّ هُمْ » . قَالَ نَعَمْ ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِىَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا . ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّىَ وَفَتَرَ الْوَحْىُ .
وقَالَ ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِى النَّوْمِ ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ فَكَانَ يَلْحَقُ بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - قَالَ وَالتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِىَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِهَا ، حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهْوَ فِى غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا أَنَا بِقَارِئٍ » . قَالَ « فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجُهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِى . فَقَالَ اقْرَأْ . قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ . فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّانِيِةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجُهْدُ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى . فَقَالَ اقْرَأْ . قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ . فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجُهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِى . فَقَالَ ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) » . الآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ ( عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ « زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى(1/756)
» . فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ قَالَ لِخَدِيجَةَ « أَىْ خَدِيجَةُ مَا لِى ، لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِى » . فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ . قَالَتْ خَدِيجَةُ كَلاَّ أَبْشِرْ ، فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ . فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ وَهْوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِى أَبِيهَا ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِىَّ وَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِىَ فَقَالَتْ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ . قَالَ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِى مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَ مَا رَأَى . فَقَالَ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى ، لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعًا ، لَيْتَنِى أَكُونُ حَيًّا . ذَكَرَ حَرْفًا . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَوَمُخْرِجِىَّ هُمْ » . قَالَ وَرَقَةُ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ أُوذِىَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ حَيًّا أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا . ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّىَ ، وَفَتَرَ الْوَحْىُ ، فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . (1)
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّهَا قَالَتْ : أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ ، كَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْهُ مِثْلُ فَلَقِ الصُّبْحِ ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ فَكَانَ يَأْتِي جَبَلَ حِرَاءٍ فَيَتحْنَثُ وَهُوَ التَّعَبُّدُ حَتَّى فَاجَأَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ ، فَقَالَ : اقْرَأْ ، قَالَ : فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، قَالَ : فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ لِي : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ، قَالَ : فَرَجَعَ بِهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ ، فَقَالَ : زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، فَقَالَ : يَا خَدِيجَةُ ، مَا لِي ؟ فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ ، وَقَالَ : قَدْ خَشِيتِ عَلَيَّ ، فَقَالَتْ لَهُ : كَلا ، أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَصْدُقُ فِي الْحَدِيثِ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ، ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ وَهُوَ عَمُّ خَدِيجَةَ أَخُو أَبِيهَا ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْعَرَبِيَّةَ وَيُكْتَبُ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الإِنْجِيلِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ، فَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ ، قَالَتْ خَدِيجَةُ : أَيْ عَمُّ ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ ، قَالَ وَرَقَةُ بْنُ
__________
(1) - صحيح البخارى (3 و4953 ) وصحيح مسلم (422)
المؤزر : القوى - البوادر : جمع بادرة وهى اللحمة التى بين المنكب والعنق -جذعا : شابا فتيا -يتحنث : يتعبد -زمل : لف وغطى -المعدوم : الشىء المعدوم الذى لا يجدونه أو الفقير الذى صار كالمعدوم -فتر : انقطع -تقرى : تكرم الضيف وتقوم بحق ضيافته -تكسب : تعطى المال للفقير -الكل : أصله الثقل ويدخل فى حمل الكل الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال -الناموس : الوحى(1/757)
نَوْفَلٍ : يَا ابْنَ أَخِي ، مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَ مَا رَأَى ، فَقَالَ وَرَقَةُ : هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - " (1)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهُ ، أَنَّهَا قَالَتْ : كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ فَكَانَ يَخْلُو بِغَارٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ بِاللَّيَالِي أُولاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ فَيَتَزَوَّدَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى فَجَأَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ ، فَقَالَ : اقْرَأْ ، فَقَالَ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، قَالَ : فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ ، فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، قَالَ : فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ ، فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ ، فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [سورة العلقآية 1 - 5] ، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ ، فَقَالَ : زَمِّلُونِي ، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، قَالَ لِخَدِيجَةَ : أَيْ خَدِيجَةُ مَالِي ؟ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ ، فَقَالَ : لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : كَلا أَبْشِرْ وَاللَّهِ لا يَحْزُنُكَ اللَّهُ أَبَدًا ، وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ، فَانْطَلَقَتْ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِي أَبِيهَا ، وَكَانَ امْرَءًا تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : أَيْ عَمِّ ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ ، فَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ : يَا ابْنَ أَخِي ، مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَ مَا رَأَى ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى ، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا ، يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ فَقَالَ وَرَقَةُ : نَعَمْ ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلا عُودِي ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا بَلَغَنَا (2) ، فَغَدَا مِنْ أَهْلِهِ مِرَارًا لِكَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رؤوسِ شَوَاهِقِ جِبَالِ الْحَرَمِ ، فَكُلَّمَا أَوْفَى ذِرْوَةَ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ
__________
(1) - المستدرك للحاكم (4843) صحيح
(2) - قلت : هذه اللفظة لا تصح لأنها من بلاغات الزهري رحمه الله(1/758)
، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا ، فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ وَتَقِرُّ نَفْسُهُ وَيَرْجِعُ ، فَإِذَا طَالَ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ فَإِذَا أَوْفَى عَلَى ذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ." (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - مسند أبي عوانة (245) صحيح
انظر :
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (3 / 707) رقم الفتوى 11398 أمر جبريل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة مع أنه أمي تاريخ الفتوى : 24 شعبان 1422
وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (4 / 7646) رقم الفتوى 27397 ماهية عبادة النبي عليه الصلاة والسلام في حراء تاريخ الفتوى : 11 ذو القعدة 1423
وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (5 / 5788) رقم الفتوى 36049 بدء ظهور الدين الإسلامي تاريخ الفتوى : 16 صفر 1420
وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (7 / 960) رقم الفتوى 48330 المقصود بالليالي ذوات العدد تاريخ الفتوى : 15 ربيع الأول 1425
وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (9 / 987) رقم الفتوى 61151 بداية نزول الوحي على الرسول الكريم تاريخ الفتوى : 09 ربيع الأول 1426(1/759)
الحكمة في خلق الإنسان وتعليمه القراءة والكتابة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)
نزول الآية (6) :كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ .. :
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أَبُو جَهْلٍ هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ قَالَ فَقِيلَ نَعَمْ. فَقَالَ وَاللاَّتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ أَوْ لأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِى التُّرَابِ - قَالَ - فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّى زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ - قَالَ - فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلاَّ وَهُوَ يَنْكِصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِى بِيَدَيْهِ - قَالَ - فَقِيلَ لَهُ مَا لَكَ فَقَالَ إِنَّ بَيْنِى وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلاً وَأَجْنِحَةً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لَوْ دَنَا مِنِّى لاَخْتَطَفَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا ». قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لاَ نَدْرِى فِى حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ أَوْ شَىْءٌ بَلَغَهُ (كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) - يَعْنِى أَبَا جَهْلٍ - (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ) " (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ أَبُو جَهْلٍ : هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ، فَبِالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ ، فَأَتَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ. قَالَ : فَمَا فَجَأَهُمْ إِلاَّ أَنَّهُ يَتَّقِي بِيَدِهِ ، وَيَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ ، فَأَتَوْهُ ، فَقَالُوا : مَا لَكَ يَا أَبَا الْحَكَمِ ؟ قَالَ : إِنَّا بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلاً وَأَجْنِحَةً. قَالَ أَبُو الْمُعْتَمِرِ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ : {أَرَأَيْتَ الَّذِيَ يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق] إِلَى آخِرِهِ {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق] ، قَالَ قَوْمُهُ : {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق] قَالَ الْمَلاَئِكَةُ : {لاَ تُطِعْهُ} [العلق] ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِمَا أَمَرَهُ مِنَ السُّجُودِ فِي آخِرِ السُّورَةِ ، قَالَ : فَبَلَغَنِي عَنِ الْمُعْتَمِرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَوْ دَنَا مِنِّي لاَخْتَطَفَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا. (2)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
__________
(1) - صحيح مسلم (7243 )
وَلِهَذَا الْحَدِيث أَمْثِلَة كَثِيرَة فِي عِصْمَته - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَبِي جَهْل وَغَيْره ، مِمَّنْ أَرَادَ بِهِ ضَرَرًا ، قَالَ اللَّه تَعَالَى : { وَاَللَّه يَعْصِمك مِنْ النَّاس } وَهَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ بَعْد الْهِجْرَة . وَاَللَّه أَعْلَم "شرح النووي على مسلم - (9 / 175)
(2) - صحيح ابن حبان - (14 / 532) (6571)(1/760)
1 ... اقْرَأْ ... أوجد القراءة
1 ... بِاسْمِ رَبِّكَ ... بذكر اسم ربك
1 ... خَلَقَ ... خلق آدم من طين
2 ... خَلَقَ الإِْنسَانَ ... ذرية آدم
2 ... مِنْ عَلَقٍ ... جمع علقة وهي النطفة في الطورالثاني (قطعة من الدم الغليظ )
3 ... وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ... صيغة التفضيل لا يعادله كريم
4 ... عَلَّمَ بِالقَلَمِ ... علم الإنسان الكتابة بالقلم
5 ... عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ... علمه من العلوم التي لم يكن ليعرفها لولا الله سبحانه وتعالى
6 ... كَلا ... حقا
6 ... لِيَطْغَى ... ليتجاوز الحد في العصيان
7 ... أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ... حين يرى نفسه غنيا بالمال والولد والسلطان
8 ... الرُّجْعَى ... المرجع للجزاء يوم القيامة
المعنى الإجمالي:
إن صدر هذه السورة أول ما نزل من القرآن ، رحمة وهدى للناس ، وأول خطاب وجه إلى رسول اللّه من قبل الحق - تبارك وتعالى - كان أمرا بالقراءة وحديثا عن القلم والعلم ، أفلا يتدبر المسلمون هذا ويعملون على نشر العلم ويحملون لواءه ؟ ! فهذا نبيهم الأمى أمر بالقراءة وعمل على نشرها.
أما بقية السورة فالظاهر أنها نزلت بعد ذلك ، وأول سورة نزلت كاملة أم الكتاب - الفاتحة - وخلاصة معنى الآيات : كن قارئا - يا محمد - بعد أن لم تكن كذلك ، واتل ما أوحى إليك ولا تظن أن ذلك بعيد لأنك أمى لا تقرأ ولا تكتب ، ولا تتوهمن أن ذلك محال ، فاللّه الذي أبدع هذا الكون وخلق فسوى وقدر فهدى : وخلق الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات ، والمسيطر عليها ، والمتميز عنها بالعقل والتكليف وبعد النظر ، خلقه من قطعة دم جامدة لا حس فيها ولا حركة ولا شعور ، ثم بعد ذلك صار إنسانا كاملا في أحسن تقويم.
هو اللّه الذي يجعلك قادرا على القراءة ويهبك العلم بما لم تكن تعلم أنت ولا قومك منه شيئا ، وهو القادر على أن ينزل عليك القرآن لتقرأه على الناس على مكث وما كنت تدرى قبله ما الكتاب ولا الإيمان!!
اقرأ باسم ربك ، أى : بقدرته - فالاسم كما مر علم على الذات وبه تعرف ، واللّه يعرف بصفاته - الذي خلق كل مخلوق فسواه وعدله في أى صورة شاءها له - وقد خلق الإنسان من علق ، اقرأ يا محمد ، والحال أن ربك الأكرم من كل كريم. لأنه واهب الكرم والجود ، وهو(1/761)
القادر على كل موجود ، ولقد كرر الأمر بالقراءة لأنها تحصل للإنسان العادي بالتكرار. وتكون للمصطفى - صلى الله عليه وسلم - بتكرير الأمر ، وإذا كان اللّه أكرم من كل كريم ، أفيصعب عليه أن يهبك نعمة القراءة وحفظ القرآن وأنت لم تأخذ بأسبابها العادية ، اقرأ إن شئت قوله تعالى : إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [سورة القيامة آية 67] سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [سورة الأعلى آية 6].
اقرأ وربك الأكرم الذي علم الناس كيف يتفاهمون بالقلم مع بعد المسافة ، وطول الزمن ، وهذا بيان لمظهر من مظاهر القدرة والعلم عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ نعم لقد أودع اللّه في الإنسان من الغرائز والتفكير ما جعله يبحث ويستقصى ، ويجرب حتى وصل إلى معرفة أسرار الكون ، وطبائع الأشياء فاستخدم كل هذا له وسخره لإرادته خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة 29] وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة 31].
ترى أن اللّه أمر نبيه بالقراءة عامة وخاصة القرآن ثم بين له أن هذا أمر ممكن بالنسبة للّه الذي خلق الخلق ، وخلق الإنسان من علق ، وهو الكريم الذي لا يبخل وخاصة على رسوله ، وهو الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. (1)
التفسير والبيان :
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ أي اقرأ مبتدئا باسم ربّك ، أو مستعينا باسم ربّك ، الذي أوجد وخلق كل شي ء. وقد وصف اللَّه لنا نفسه بأنه الخالق للتذكير بأول النعم وأعظمها. والمراد : الأمر من اللَّه لنبيّه بأن يصير قارئا ، بقدرة اللَّه الذي خلقه وإرادته ، وإن لم يكن من قبل قارئا ولا كاتبا ، فمن خلق الكون قادر على أن يوجد فيه القراءة ، وإن لم يتعلمها سابقا.
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ أوجد بني آدم من قطعة دم جامد وهي العلقة ، التي هي طور من أطوار خلق الجنين ، فإنه يبدأ نطفة ، ثم يتحول بقدرة اللَّه إلى علقة : وهي كأنها قطعة من الدم الجامد ، ثم يكون مضغة : وهي كأنها قطعة لحم ، ثم يظهر فيها بقية التخليق من عظام ، فلحم ، فإنسان كامل الخلقة.
ويلاحظ أنه تعالى أطلق الخلق أولا ليتناول كل المخلوقات ، ثم خصّ الإنسان بالذّكر لشرفه ، أو لعجيب فطرته ، أو لأن الآية سيقت من أجله.
وإنما قال : باسم ربّك ، ولم يقل : باسم اللَّه كما في التسمية المعروفة : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لأن الربّ : من صفات الفعل ، واللَّه : من أسماء الذات ، وبما أنه أمره بالعبادة ، وصفات الذات لا تستوجب شيئا ، وإنما يستوجب العبادة صفات الفعل ، فكان ذلك أبلغ في الحثّ على
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 883)(1/762)
الطاعة ، والخلاصة : إنه لم يأت بلفظ الجلالة ، لما في لفظ الرّب من معنى الذي ربّاك ، ونظر في مصلحتك ، وجاء الخطاب ليدل على التأنيس والاختصاص ، أي ليس لك ربّ غيره.
وإنما أضاف ذاته إلى رسوله ، فقال : بِاسْمِ رَبِّكَ للدلالة على أنه له ،تصل إليه منفعته ، أما طاعة العبد فلا تحقق منفعة للَّه ، فإذا أتى بما طلبه منه من طاعة أو توبة ، أضافه إلى نفسه بوصف العبودية ، فقال : أَسْرى بِعَبْدِهِ [/ الإسراء 17/ 1].
وإنما ذكر قوله الَّذِي خَلَقَ بعد قوله : رَبِّكَ للاستدلال على أنه ربّه ، وهو الذي أوجده ، فصار موجودا بعد أن كان معدوما ، والخلق والإيجاد تربية ، وكذلك جاء بصفة الخالق ، أي المنشئ للعالم ، للإتيان بصفة لا يمكن للأصنام شركة فيها ، فيكون ردّا على العرب التي كانت تسمي الأصنام أربابا.
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ أي افعل ما أمرت به من القراءة ، وربّك الذي أمرك بالقراءة هو الأكرم من كل كريم ، ومن كرمه : تمكينك من القراءة وأنت أمّي. وإنما كرر كلمة اقْرَأْ للتأكيد ، ولأن القراءة لا تتحقق إلا بالتكرار والإعادة. وقوله : وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ لإزاحة المانع ، وإزالة العذر الذي اعتذر به النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل حين طلب منه بقوله : اقْرَأْ ، فقال : ما أنا بقارئ.
والأوجه : أن يراد بقوله الأول : اقْرَأْ : أوجد القراءة ، وبالثاني :استعن باسم ربّك.
ثم قرن القراءة بالكتابة ، فقال :الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي علّم الإنسان الكتابة بالقلم ، فهو نعمة عظيمة من اللَّه عزّ وجلّ ، وواسطة للتفاهم بين الناس كالتعبير باللسان ولولا الكتابة لزالت العلوم ، ولم يبق أثر لدين ، ولم يصلح عيش ، ولم يستقر نظام ، فالكتابة قيد العلوم والمعارف ، ووسيلة ضبط أخبار الأولين ومقالاتهم ، وأداة انتقال العلوم بين الأمم والشعوب ، فتبقى المعلومات ، ثم يبنى عليها ويزاد إلى ما شاء اللَّه ، فتنمو الحضارات ،وتسمو الأفكار ، وتحفظ الأديان ، وتنشر الهداية.َعَنْ ثُمَامَةَ قَالَ : قَالَ لَنَا أَنَسٌ : قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابَةِ . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ (1) .
لهذا بدأت دعوة الإسلام بالترغيب في القراءة والكتابة ، وبيان أنها من آيات اللَّه في خلقه ، ومن رحمته بهم ، وكانت معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - الخالدة ، وهو العربي الأميّ ، قرآنا يتلى ، وكتابا يكتب ، وأنه بذلك نقل أمته من حال الأميّة والجهل إلى أفق النور والعلم ، كما قال تعالى ممتنا بذلك : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ، وَيُزَكِّيهِمْ ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة 62/ 2].
__________
(1) - أخبار أصبهان (1809 ) وتقييد العلم للخطيب البغدادي (111) ومجمع الزوائد (681 ) وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ ، والحديث صحيح مرفوعاً لغيره(1/763)
ثم أبان عموم فضله وكثرة نعمه ، فقال : عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ أي علّم اللَّه الإنسان بالقلم كثيرا من الأمور ما لم يعلم بها ، فلا عجب أن يعلمك اللَّه أيها النبي القراءة ، وكثيرا من العلوم ، لنفع أمتك.
عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : " يَا حَمَلَةَ الْعِلْمِ اعْمَلُوا بِهِ ، فَإِنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَوَافَقَ عِلْمُهُ عَمَلَهُ ، وَسَيَكُونُ أَقْوَامٌ يَحْمِلُونَ الْعِلْمَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ ، يُخَالِفُ عَمَلُهُمْ عِلْمَهُمْ ، وَتُخَالِفُ سَرِيرَتُهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ ، يَجْلِسُونَ حِلَقًا فَيُبَاهِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ عَلَى جَلِيسِهِ أَنْ يَجْلِسَ إِلَى غَيْرِهِ وَيَدَعَهُ ، أُولَئِكَ لَا تَصْعَدُ أَعْمَالُهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ ، تِلْكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى " سُنَنُ الدَّارِمِيِّ (1)
وعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " جَالِسِ الْكُبَرَاءَ ، وَسَائِلِ الْعُلَمَاءَ ، وَخَالِطِ الْحُكَمَاءَ "
وفي رواية عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ : " وَخَالِلِ الْحُكَمَاءَ " (2)
__________
(1) - سُنَنُ الدَّارِمِيِّ (401 ) ضعيف
(2) - بَحْرُ الْفَوَائِدِ الْمُسَمَّى بِمَعَانِي الْأَخْيَارِ لِلْكَلَابَاذِيِّ (81 )
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : " جَالِسِ الْكُبَرَاءَ " أَيْ : ذَوُو الْأَسْنَانِ وَالشُّيُوخُ الَّذِينَ لَهُمْ تَجَارِبٌ ، وَقَدْ كَمُلَتْ عُقُولُهُمْ ، وَسَكَنَتْ حِدَّتُهُمْ ، وَكَمُلَتْ آدَابُهُمْ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : آرَاؤُهُمْ ، وَزَالَتْ عَنْهُمْ خِفَّةُ الصِّبَى ، وَحِدَّةُ الشَّبَابِ ، وَأَحْكَمُوا التَّجَارِبَ ، فَمَنْ جَالَسَهُمْ تَأَدَّبَ بِآدَابِهِمْ ، وَانْتَفَعَ بِتَجَارِبِهِمْ ، فَكَانَ سُكُونُهُمْ وَوَقَارُهُمْ حَاجِزًا لِمَنْ جَالَسَهُمْ ، وَزَاجِرًا لَهُمْ عَمَّا يَتَوَلَّدُ مِنْ طِبَاعِهِمْ ، وَيَتَبَرَّكُ بِهِمْ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ " ، وَقَدْ أَمَرَ بِتَوْقِيرِهِمْ بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا ، فَلَيْسَ مِنَّا " . وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ : " جَالِسِ الْكُبَرَاءِ " ، أَيِ : الْكُبَرَاءُ فِي الْحَالِ ، وَمَنْ لَهُ رُتْبَةٌ فِي الدِّينِ ، وَمَنْزِلَةٌ عِنْدَ اللَّهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَبِيرًا فِي السِّنِّ ، وَالْكَبِيرُ فِي الْحَالِ هُوَ جَمِيعُ عِلْمِ الْوِرَاثَةِ إِلَى عِلْمِ الدِّرَاسَةِ ، فَقَدْ قِيلَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ " ، فَقَدْ شَرَطَ لِوِرَاثَةِ هَذَا الْعِلْمِ الْعَمَلَ بِعِلْمِ الدِّرَاسَةِ الَّذِي هُوَ عِلْمُ الِاكْتِسَابِ ، وَهُوَ عِلْمُ الْأَحْكَامِ بَعْدَ أَحْكَامِ عِلْمِ التَّوْحِيدِ ، وَهَذَا عِلْمُ الدِّرَاسَةِ ، وَعِلْمُ الْوِرَاثَةِ : عِلْمُ آفَاتِ النَّفْسِ ، وَآفَاتِ الْعَمَلِ ، وَخِدَعِ النَّفْسِ ، وَغُرُورِ الدُّنْيَا ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِعِلْمِ الِاكْتِسَابِ وَرَّثَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ، وَهُوَ عِلْمُ الْإِفْهَامِ ، وَفِي نُسْخَةٍ " عِلْمُ الْإِلْهَامِ " ، وَالْفَرَاسَةِ الَّذِي هُوَ النَّظَرُ بِنُورِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : " اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ ؛ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " ، وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : " وَمَنْ وَرَّثَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْعِلْمَ ، فَهُوَ الَّذِي شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ " ، فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " النُّورُ إِذَا دَخَلَ الْقَلْبَ انْشَرَحَ وَانْفَتَحَ " ، فَقِيلَ : وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : " التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ ، وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ دُخُولِهِ ، وَمَنْ تَجَافَى عَنِ الدُّنْيَا كُشِفَ عَنْ سِرِّهِ الْحُجُبُ ، فَصَارَ الْغَيْبُ لَهُ شُهُودًا " قَالَ حَارِثَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا ، فَأَظْمَأْتُ نَهَارِي ، وَأَسْهَرْتُ لِيَلِي ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا "(1/764)
ثم ردع الإنسان على طغيانه حال الغنى ، فقال : كَلَّا ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى ، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى أي ارتدع وانزجر أيها الإنسان ، عن كفرك بنعمة اللَّه عليك ، وتجاوزك الحدّ في العصيان ، لأن رأيت نفسك مستغنيا بالمال والقوة والأعوان.
وقيل :المراد بالآية : حقا إن أمر الإنسان عجيب ، يستذل ويضعف حال الفقر ، ويطغى ويتجاوز الحدّ في المعاصي ويتكبّر ويتمرد حتى أحسّ بنفسه القدرة والثروة. وأكثر المفسرين على أن المراد بالإنسان هنا أبو جهل وأمثاله.
ثم أنذر بالعقاب في الآخرة ، فقال : إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى أي إن الرجوع والمصير إلى اللَّه وحده ، لا إلى غيره ، فهو الذي يحاسب كل إنسان على ماله من أين جمعه ، وأين صرفه.
ويلاحظ أن هذا الكلام جاء على طريقة الالتفات إلى خطاب الإنسان ، تهديدا له ، وتحذيرا من عاقبة الطغيان.
عَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : " مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ : مَنْهُومٌ فِي الْعِلْمِ لَا يَشْبَعُ مِنْهُ ، وَمَنْهُومٌ فِي الدُّنْيَا لَا يَشْبَعُ مِنْهَا ، فَمَنْ تَكُنِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ ، وَبَثَّهُ ، وَسَدَمَهُ ، يَكْفِي اللَّهُ ضَيْعَتَهُ ، وَيَجْعَلُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ ، وَمَنْ تَكُنِ الدُّنْيَا هَمَّهُ ، وَبَثَّهُ ، وَسَدَمَهُ ، يُفْشِي اللَّهُ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ ، وَيَجْعَلُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، ثُمَّ لَا يُصْبِحُ إِلَّا فَقِيرًا ، وَلَا يُمْسِي إِلَّا فَقِيرًا " (1)
وعَنْ عَوْنٍ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، " مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ : صَاحِبُ الْعِلْمِ ، وَصَاحِبُ الدُّنْيَا ، وَلَا يَسْتَوِيَانِ . أَمَّا صَاحِبُ الْعِلْمِ ، فَيَزْدَادُ رِضًا لِلرَّحْمَنِ ، وَأَمَّا صَاحِبُ الدُّنْيَا ، فَيَتَمَادَى فِي الطُّغْيَانِ ، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى قَالَ : وَقَالَ الْآخَرُ : إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ " (2)
وعَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ : مَنْهُومٌ فِي عِلْمٍ لَا يَشْبَعُ ، وَمَنْهُومٌ فِي دُنْيَا لَا يَشْبَعُ " (3) .
وعَنِ الْقَاسِمِ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : آفَةُ الْحَدِيثِ النِّسْيَانُ ، قَالَ : وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : مَنْهُوَمَانِ لَا يَشْبَعَانِ : طَالِبُ الْعِلْمِ وَصَاحِبُ الدُّنْيَا ، وَلَا يسْتَوِيَانِ ، أَمَّا صَاحِبُ الدُّنْيَا فَيتَمَادَى فِي الطُّغْيَانِ ، وَأَمَّا صَاحِبُ الْعِلْمِ فَيزْدَادُ رِضَا الرَّحْمَنِ ، قَالَ : ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ : إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ، وَقَالَ لِلْآخَرِ : إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ " (4)
ومضات :
__________
(1) - سُنَنُ الدَّارِمِيِّ (351 ) صحيح
(2) - سُنَنُ الدَّارِمِيِّ( 352 ) صحيح لغيره
(3) - الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (286 ) صحيح
(4) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (348 ) صحيح لغيره(1/765)
فِي بَيَانِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى - صلى الله عليه وسلم - أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ بَيَانُ أُصُولِ الدِّينِ وَهِيَ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى ثُبُوتِ الصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَى الْمُعَادِ إمْكَانًا وَوُقُوعًا . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ هَذَا الْأَصْلَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَأَنَّ الرَّسُولَ - صلى الله عليه وسلم - بَيَّنَ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ وَالسَّمْعِيَّةَ الَّتِي يَهْتَدِي بِهَا النَّاسُ إلَى دِينِهِمْ وَمَا فِيهِ نَجَاتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَنَّ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا أُصُولًا تُخَالِفُ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ هِيَ أُصُولُ دِينِهِمْ لَا أُصُولُ دِينِهِ . وَهِيَ بَاطِلَةٌ عَقْلًا وَسَمْعًا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَبَيَّنَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ قَاصِرُونَ أَوْ مُقَصِّرُونَ فِي مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ . فَطَائِفَةٌ قَدْ ابْتَدَعَتْ أُصُولًا تُخَالِفُ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ هَذَا وَهَذَا . وَطَائِفَةٌ رَأَتْ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةً فَأَعْرَضَتْ عَنْهُ وَصَارُوا يَنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ لِسَلَامَتِهِمْ مِنْ بِدْعَةِ أُولَئِكَ . وَلَكِنْ هُمْ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتَّبِعُوا السُّنَّةَ عَلَى وَجْهِهَا وَلَا قَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ . بَلْ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ مِنْ السَّمْعِيَّاتِ مِمَّا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ رَبِّهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ غَايَتُهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِلَفْظِهِ مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرٍ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ . بَلْ قَدْ يَقُولُونَ مَعَ هَذَا إنَّهُ نَفْسُهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَعْنَى مَا أَخْبَرَ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ هُوَ تَأْوِيلُ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ فَقَدْ لَا يَتَصَوَّرُونَ أَنَّهُ أَتَى بِالْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ كَالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِأَنَّهُ جَاءَ بِهَذَا مُجْمَلًا وَلَا يَعْرِفُ أَدِلَّتَهُ . بَلْ قَدْ يَظُنُّ أَنَّ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ كَالِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ عَلَى حُدُوثِ جَوَاهِرِهِ هُوَ دَلِيلُ الرَّسُولِ . وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي ذَلِكَ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْلَمَ بِالْعَقْلِ كَالْمُعَادِ وَحُسْنِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالصِّدْقِ وَقُبْحِ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ . وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ . وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَدِلَّ بِهَا . وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ بِالْعَقْلِ يَعْرِفُ الْمُعَادَ وَحُسْنَ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَحُسْنَ شُكْرِهِ وَقُبْحَ الشِّرْكِ وَكُفْرَ نِعَمِهِ كَمَا قَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَكُونُ هَذَا فِي فِطْرَتِهِ وَهُوَ يُنْكِرُ تَحْسِينَ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحَهُ إذَا صُنِّفَ فِي أُصُولِ الدِّينِ عَلَى طَرِيقَةِ الْنُّفَاةِ الْجَبْرِيَّةِ أَتْبَاعِ جَهْمٍ . وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي عَامَّةِ مَا يَقُولُهُ الْمُبْطِلُونَ يَقُولُونَ بِفِطْرَتِهِمْ مَا يُنَاقِضُ مَا يَقُولُونَهُ فِي اعْتِقَادِهِمْ الْبِدْعِيِّ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ الْجَدِّ الْأَعْلَى أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الْفَرَجِ ابْنَ الْجَوْزِيِّ يُنْشِدُ فِي مَجْلِسِ وَعْظِهِ الْبَيْتَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ :
هَبْ الْبَعْثَ لَمْ تَأْتِنَا رُسُلُهُ * * * وَجَاحِمَةُ النَّارِ لَمْ تُضْرَمْ
أَلَيْسَ مِنْ الْوَاجِبِ الْمُسْتَحَقِّ * * * حَيَاءُ الْعِبَادِ مِنْ الْمُنْعِمِ ؟
فَقَدْ صَرَّحَ فِي هَذَا بِأَنَّهُ مِنْ الْوَاجِبِ الْمُسْتَحَقِّ حَيَاءُ الْخَلْقِ مِنْ الْخَالِقِ الْمُنْعِمِ . وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ شُكْرَهُ وَاجِبٌ مُسْتَحَقٌّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَعِيدٌ وَلَا رِسَالَةٌ أَخْبَرَتْ بِجَزَاءِ .وَهُوَ يُبَيِّنُ ثُبُوتَ الْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَا عَذَابَ . وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ . وَنَتِيجَةُ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ انْخِفَاضُ الْمَنْزِلَةِ وَسَلْبُ كَثِيرٍ مِنْ النِّعَمِ الَّتِي كَانَ فِيهَا وَإِنْ كَانَ لَا يُعَاقَبُ بِالضَّرَرِ . وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْوُجُوبَ وَالِاسْتِحْقَاقَ يُعْلَمُ بِالْبَدِيهَةِ . فَتَارِكُ الْوَاجِبِ وَفَاعِلُ(1/766)
الْقَبِيحِ وَإِنْ لَمْ يُعَذَّبْ بِالْآلَامِ كَالنَّارِ فَيُسْلَبُ مِنْ النِّعَمِ وَأَسْبَابِهِ مَا يَكُونُ جَزَاءَهُ . وَهَذَا جَزَاءُ مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النِّعْمَةَ بَلْ كَفَرَهَا أَنْ يُسْلَبَهَا . فَالشُّكْرُ قَيْدُ النِّعَمِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْمَزِيدِ . وَالْكُفْرُ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ مُوجِبٌ لِلْعَذَابِ وَقَبْلَ ذَلِكَ يُنْقِصُ النِّعْمَةَ وَلَا يَزِيدُ . مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إرْسَالِ رَسُولٍ يَسْتَحِقُّ مَعَهُ النَّعِيمَ أَوْ الْعَذَابَ فَإِنَّهُ مَا ثَمَّ دَارٌ إلَّا الْجَنَّةُ أَوْ النَّارُ . قَالَ تَعَالَى { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ بَيَانَ هَذِهِ الْأُصُولِ وَقَعَ فِي أَوَّلِ مَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ . فَإِنَّ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ قِيلَ { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ . فَإِنَّ مَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ يُبَيِّنُ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } نَزَلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ وَأَنَّ " الْمُدَّثِّرَ " نَزَلَتْ بَعْدُ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي . فَإِنَّ قَوْلَهُ { اقْرَأْ } أَمْرٌ بِالْقِرَاءَةِ لَا بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَبِذَلِكَ صَارَ نَبِيًّا . وَقَوْلُهُ { قُمْ فَأَنْذِرْ } أَمْرٌ بِالْإِنْذَارِ وَبِذَلِكَ صَارَ رَسُولًا مُنْذِرًا . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ . فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ . ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَأْتِي غَارَ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ لِذَلِكَ . ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ . فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ : اقْرَأْ . قَالَ : مَا أَنَا بِقَارِئِ . قَالَ : فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : اقْرَأْ . فَقُلْت : مَا أَنَا بِقَارِئِ . فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : اقْرَأْ . فَقُلْت : مَا أَنَا بِقَارِئِ . فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةُ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } . فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ . فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خويلد فَقَالَ : " زَمِّلُونِي . زَمِّلُونِي " فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ . فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ لَقَدْ خَشِيت عَلَى نَفْسِي . فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : كَلَّا وَاَللَّهِ لَا يُخْزِيك اللَّهُ أَبَدًا إنَّك لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتُعِينَ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ . فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنِ عَمِّ خَدِيجَةَ . وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرِيَّ فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ . فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : يَا ابْنَ عَمٍّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيك . فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى ؟ . فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَ مَا رَأَى . فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى . يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إذْ يُخْرِجُك قَوْمُك . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ . قَالَ : نَعَمْ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْت بِهِ إلَّا(1/767)
عُودِي . وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُك أَنْصُرْك نَصْرًا مُؤَزَّرًا . } ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوَفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ سَمِعْت أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ : { فَبَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْت صَوْتًا فَرَفَعْت بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءِ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَجِئْت حَتَّى هَوَيْت إلَى الْأَرْضِ . فَجِئْت أَهْلِي فَقُلْت : زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُونِي . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } { قُمْ فَأَنْذِرْ } إلَى قَوْلِهِ { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } } . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ " الْمُدَّثِّرَ " نَزَلَتْ بَعْدَ تِلْكَ الْفَتْرَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ أَنْ عَايَنَ الْمَلَكَ الَّذِي جَاءَهُ بِحِرَاءِ أَوَّلًا . فَكَانَ قَدْ رَأَى الْمَلَكَ مَرَّتَيْنِ . وَهَذَا يُفَسِّرُ حَدِيثَ جَابِرٍ الَّذِي رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ كَمَا أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ { يَحْيَى بْن أَبِي كَثِيرٍ قَالَ : سَأَلْت أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ . قَالَ : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } . قُلْت : يَقُولُونَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } . فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ : سَأَلْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ وَقُلْت لَهُ مِثْلَ مَا قُلْت فَقَالَ جَابِرٌ : لَا أُحَدِّثُك إلَّا مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : جَاوَرْت بِحِرَاءِ ؛ فَلَمَّا قَضَيْت جِوَارِي هَبَطْت فَنُودِيت فَنَظَرْت عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْت عَنْ شَمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْت أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْت خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا . فَرَفَعْت رَأْسِي فَرَأَيْت شَيْئًا . فَأَتَيْت خَدِيجَةَ فَقُلْت دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا .
قَالَ : فَنَزَلَتْ { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } { قُمْ فَأَنْذِرْ } { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } } . فَهَذَا الْحَدِيثُ يُوَافِقُ الْمُتَقَدِّمَ وَإِنَّ " الْمُدَّثِّرَ " نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ هَبَطَ مِنْ الْجَبَلِ وَهُوَ يَمْشِي وَبَعْدَ أَنْ نَادَاهُ الْمَلَكُ حِينَئِذٍ . وَقَدْ بَيَّنَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ هَذَا الْمَلَكَ هُوَ الَّذِي جَاءَهُ بِحِرَاءِ وَقَدْ بَيَّنَتْ عَائِشَةُ أَنَّ { اقْرَأْ } نَزَلَتْ حِينَئِذٍ فِي غَارِ حِرَاءٍ . لَكِنْ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ أَنَّ { اقْرَأْ } نَزَلَتْ حِينَئِذٍ بَلْ عَلِمَ أَنَّهُ رَأَى الْمَلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَدْ يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُ مِنْهُ . لَكِنَّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ زِيَادَةَ عَلِمَ وَهُوَ أَمْرُهُ بِقِرَاءَةِ { اقْرَأْ } . وَفِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَمَّى هَذَا " فَتْرَةَ الْوَحْيِ " وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ " فَتْرَةُ الْوَحْيِ " . فَقَدْ يَكُونُ الزُّهْرِيُّ رَوَى حَدِيثَ جَابِرٍ بِالْمَعْنَى وَسَمَّى مَا بَيْنَ الرُّؤْيَتَيْنِ " فَتْرَةَ الْوَحْيِ " كَمَا بَيَّنَتْهُ عَائِشَةُ ؛ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ جَابِرٌ سَمَّاهُ " فَتْرَةَ الْوَحْيِ " فَكَيْفَ يَقُولُ إنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَكُنْ نَزَلَ ؟ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَالزُّهْرِيُّ عِنْدَهُ حَدِيثُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ؛ وَحَدِيثُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ ؛ وَهُوَ أَوْسَعُ عِلْمًا وَأَحْفَظُ مِنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ لَوْ اخْتَلَفَا . لَكِنْ يَحْيَى ذَكَرَ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا سَلَمَةَ عَنْ الْأُولَى فَأَخْبَرَ جَابِرٌ بِعِلْمِهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ مَا نَزَلَ قَبْلَ ذَلِكَ وَعَائِشَةُ أَثْبَتَتْ وَبَيَّنَتْ .
وَالْآيَاتُ آيَاتُ " اقْرَأْ " و" الْمُدَّثِّرُ " تُبَيِّنُ ذَلِكَ وَالْحَدِيثَانِ مُتَصَادِقَانِ مَعَ الْقُرْآنِ وَمَعَ دَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ هُوَ الْمُنَاسِبُ . وَإِذَا كَانَ أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } فَفِي الْآيَةِ الْأُولَى إثْبَاتُ الْخَالِقِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ . وَفِيهَا وَفِي الثَّانِيَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى إمْكَانِ النُّبُوَّةِ(1/768)
وَعَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - . أَمَّا الْأُولَى فَإِنَّهُ قَالَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } ثُمَّ قَالَ { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } . فَذَكَرَ الْخَلْقَ مُطْلَقًا ثُمَّ خَصَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ عَلَقٍ . وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ كُلِّهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْدُثُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ عَلَقٍ . وَهَؤُلَاءِ بَنُو آدَمَ . وَقَوْلُهُ الْإِنْسَانُ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ النَّاسِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ آدَمَ الَّذِي خُلِقَ مِنْ طِينٍ . فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ الدَّلِيلِ عَلَى الْخَالِقِ تَعَالَى وَالِاسْتِدْلَالُ إنَّمَا يَكُونُ بِمُقَدِّمَاتِ يَعْلَمُهَا الْمُسْتَدِلُّ . وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ دَلَالَةِ النَّاسِ وَهِدَايَتِهِمْ وَهُمْ كُلُّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ النَّاسَ يُخْلَقُونَ مِنْ الْعَلَقِ . فَأَمَّا خَلْقُ آدَمَ مِنْ طِينٍ فَذَاكَ إنَّمَا عُلِمَ بِخَبَرِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ بِدَلَائِلَ أُخَرَ . وَلِهَذَا يُنْكِرُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْكُفَّارِ الدَّهْرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ لَا يُقِرُّونَ بِالنُّبُوَّاتِ . وَهَذَا بِخِلَافِ ذِكْرِ خَلْقِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ . فَإِنَّ ذَاكَ ذِكْرُهُ لِمَا يُثْبِتُ النُّبُوَّةَ وَهَذِهِ السُّورَةُ أَوَّلُ مَا نَزَلَ وَبِهَا تَثْبُتُ النُّبُوَّةُ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا مَا عُلِمَ بِالْخَبَرِ بَلْ ذَكَرَ فِيهَا الدَّلِيلَ الْمَعْلُومَ بِالْعَقْلِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ لِمَنْ لَمْ يَرَ الْعَلَقَ . وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ الْعَلَقِ وَهُوَ جَمْعُ " عَلَقَةٍ " وَهِيَ الْقِطْعَةُ الصَّغِيرَةُ مِنْ الدَّمِ لِأَنَّ مَا قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ نُطْفَةً وَالنُّطْفَةُ قَدْ تَسْقُطُ فِي غَيْرِ الرَّحِمِ كَمَا يَحْتَلِمُ الْإِنْسَانُ وَقَدْ تَسْقُطُ فِي الرَّحِمِ ثُمَّ يَرْمِيهَا الرَّحِمُ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ عَلَقَةً . فَقَدْ صَارَ مَبْدَأً لِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَعُلِمَ أَنَّهَا صَارَتْ عَلَقَةً لِيُخْلَقَ مِنْهَا الْإِنْسَانُ . وَقَدْ قَالَ فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى } { ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى } { فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } فَهُنَا ذَكَرَ هَذَا عَلَى إمْكَانِ النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَكُونُ مِنْ التُّرَابِ . وَلِهَذَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } فَفِي الْقِيَامَةِ اسْتَدَلَّ بِخَلْقِهِ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَفِي الْحَجِّ ذَكَرَ خَلْقَهُ مِنْ تُرَابٍ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ . وَذِكْرُ أَوَّلِ الْخَلْقِ أَدَلُّ عَلَى إمْكَانِ الْإِعَادَةِ . وَأَمَّا هُنَا فَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْخَالِقِ تَعَالَى ابْتِدَاءً فَذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ وَهُوَ مِنْ الْعَلَقَةِ الدَّمُ يَصِيرُ مُضْغَةً وَهُوَ قِطْعَةُ لَحْمٍ كَاللَّحْمِ الَّذِي يُمْضَغُ بِالْفَمِ ثُمَّ تَخَلَّقَ فَتُصُوِّرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى { ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ } فَإِنَّ الرَّحِمَ قَدْ يَقْذِفُهَا غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ . فَبَيَّنَ لِلنَّاسِ مَبْدَأَ خَلْقِهِمْ وَيَرَوْنَ ذَلِكَ بِأَعْيُنِهِمْ . وَهَذَا الدَّلِيلُ وَهُوَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ مِنْ عَلَقٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ . فَإِنَّ النَّاسَ هُمْ الْمُسْتَدِلُّونَ وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ وَالْآيَةُ . فَالْإِنْسَانُ هُوَ الدَّلِيلُ وَهُوَ الْمُسْتَدِلُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } وَقَالَ { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } . وَهَذَا كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } .
وَهُوَ دَلِيلٌ يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ وَيَذْكُرُهُ كُلَّمَا تَذَكَّرَ فِي نَفْسِهِ وَفِيمَنْ يَرَاهُ مِنْ بَنِي جِنْسِهِ . فَيَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى الْمَبْدَأِ وَالْمُعَادِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا } { أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا } وَقَالَ تَعَالَى { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ(1/769)
قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } . وكذلك قَالَ زَكَرِيَّا لَمَّا تَعَجَّبَ مِنْ حُصُولِ وَلَدٍ عَلَى الْكِبَرِ فَقَالَ { أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا } { قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا } وَلَمْ يُقَلْ " إنَّهُ أَهْوَنَ عَلَيْهِ " كَمَا قَالَ فِي الْمَبْدَأِ وَالْمُعَادِ { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } . وقال سُبْحَانَهُ { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } بَعْدَ أَنْ قَالَ { الَّذِي خَلَقَ } . فَأَطْلَقَ الْخَلْقَ الَّذِي يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَخْلُوقٍ ثُمَّ عَيَّنَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ فَكَانَ كُلُّ مَا يُعْلَمُ حُدُوثُهُ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ { الَّذِي خَلَقَ } . وذكر بَعْدَ الْخَلْقِ التَّعْلِيمَ الَّذِي هُوَ التَّعْلِيمُ بِالْقَلَمِ وَتَعْلِيمُ الْإِنْسَانِ مَا لَمْ يَعْلَمْ . فَخَصَّ هَذَا التَّعْلِيمَ الَّذِي يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى إمْكَانِ النُّبُوَّةِ . وَلَمْ يُقَلْ هُنَا " هُدَى " فَيَذْكُرُ الْهُدَى الْعَامَّ الْمُتَنَاوَلَ لِلْإِنْسَانِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } وَكَمَا قَالَ مُوسَى { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } لِأَنَّ هَذَا التَّعْلِيمَ الْخَاصَّ يَسْتَلْزِمُ الْهُدَى الْعَامَّ وَلَا يَنْعَكِسُ . وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى إثْبَاتِ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ النُّبُوَّةَ نَوْعٌ مِنْ التَّعْلِيمِ . وَلَيْسَ جَعْلُ الْإِنْسَانِ نَبِيًّا بِأَعْظَمَ مِنْ جَعْلِهِ الْعَلَقَةَ إنْسَانًا حَيًّا عَالِمًا نَاطِقًا سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا قَدْ عَلِمَ أَنْوَاعَ الْمَعَارِفِ ؛ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيْهِ مِنْ إعَادَتِهِ . وَالْقَادِرُ عَلَى الْمَبْدَأِ كَيْفَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُعَادِ ؟ وَالْقَادِرُ عَلَى هَذَا التَّعْلِيمِ كَيْفَ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَاكَ التَّعْلِيمِ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَلَا يُحِيطُ أَحَدٌ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ ؟ وَقَالَ سُبْحَانَهُ أَوَّلًا { عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } فَأَطْلَقَ التَّعْلِيمَ وَالْمُعَلِّمَ فَلَمْ يَخُصَّ نَوْعًا مِنْ الْمُعَلِّمِينَ . فَيَتَنَاوَلُ تَعْلِيمَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كَمَا تَنَاوَلَ الْخَلْقَ لَهُمْ كُلَّهُمْ . وَذَكَرَ التَّعْلِيمَ بِالْقَلَمِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَعْلِيمَ الْخَطِّ وَالْخَطُّ يُطَابِقُ اللَّفْظَ وَهُوَ الْبَيَانُ وَالْكَلَامُ . ثُمَّ اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ الَّتِي فِي الْقَلْبِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ عِلْمٍ فِي الْقُلُوبِ . وَكُلُّ شَيْءٍ لَهُ حَقِيقَةٌ فِي نَفْسِهِ ثَابِتَةٌ فِي الْخَارِجِ عَنْ الذِّهْنِ ثُمَّ يَتَصَوَّرُهُ الذِّهْنُ وَالْقَلْبُ ثُمَّ يُعَبِّرُ عَنْهُ اللِّسَانُ ثُمَّ يَخُطُّهُ الْقَلَمُ . فَلَهُ وُجُودٌ عَيْنِيٌّ وَذِهْنِيٌّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَالْأَذْهَانِ وَاللِّسَانِ وَالْبَنَانِ . لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ هُوَ وَأَمَّا الثَّلَاثُ فَإِنَّهَا مِثَالٌ مُطَابِقٌ لَهُ . فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَالثَّلَاثَةُ مُعَلِّمَةٌ . فَذَكَرَ الْخَلْقَ وَالتَّعْلِيمَ لِيَتَنَاوَلَ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ فَقَالَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْمَاهِيَّاتِ هَلْ هِيَ مَجْعُولَةٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ مَاهِيَّةُ كُلِّ شَيْءٍ زَائِدَةٌ عَلَى وُجُودِهِ ؟ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيْنَ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَيْسَ إلَّا مَا يُتَصَوَّرُ فِي الذِّهْنِ وَيُوجَدُ فِي الْخَارِجِ . فَإِنْ أُرِيدَ الْمَاهِيَّةَ مَا يُتَصَوَّرُ فِي الذِّهْنِ . وَبِالْوُجُودِ مَا فِي الْخَارِجِ أَوْ بِالْعَكْسِ فَالْمَاهِيَّةُ غَيْرُ الْوُجُودِ إذَا كَانَ مَا فِي الْأَعْيَانِ مُغَايِرًا لِمَا فِي الْأَذْهَانِ . وَإِنْ أُرِيدَ بِالْمَاهِيَّةِ مَا فِي الذِّهْنِ أَوْ الْخَارِجِ أَوْ كِلَاهُمَا وَكَذَلِكَ بِالْوُجُودِ فَاَلَّذِي فِي الْخَارِجِ مِنْ الْوُجُودِ هُوَ الْمَاهِيَّةُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ وَكَذَلِكَ مَا فِي الذِّهْنِ مِنْ هَذَا هُوَ هَذَا لَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْئَانِ .(1/770)
وَهُوَ سُبْحَانَهُ عَلِمَ مَا فِي الْأَذْهَانِ وَخَلَقَ مَا فِي الْأَعْيَانِ وَكِلَاهُمَا مَجْعُول لَهُ . لَكِنَّ الَّذِي فِي الْخَارِجِ جَعَلَهُ جَعْلًا خِلْقِيًّا . وَاَلَّذِي فِي الذِّهْنِ جَعَلَهُ جَعْلًا تَعْلِيمِيًّا . فَهُوَ الَّذِي { خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } وَهُوَ { الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } . وَقَوْلُهُ { عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } يَدْخُلُ فِيهِ تَعْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ الْكَاتِبِينَ وَيَدْخُلُ فِيهِ تَعْلِيمُ كُتُبِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ . فَعَلَّمَ بِالْقَلَمِ أَنْ يَكْتُبَ كَلَامَهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ كَالتَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ بَلْ هُوَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ لِمُوسَى . وَكَوْنُ مُحَمَّدٍ كَانَ نَبِيًّا أُمِّيًّا هُوَ مِنْ تَمَامِ كَوْنِ مَا أَتَى بِهِ مُعْجِزًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ وَمِنْ تَمَامِ بَيَانِ أَنَّ تَعْلِيمَهُ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ تَعْلِيمٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } فَغَيْرُهُ يَعْلَمُ مَا كَتَبَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ عِلْمُ النَّاسِ مَا يَكْتُبُونَهُ وَعَلَّمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ بِمَا أَوْحَاهُ إلَيْهِ . وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ هُوَ آيَةٌ وَبُرْهَانٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ . { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى { فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1)
مطلع هذه السورة هو أول ما نزل من القرآن باتفاق
وقفت هنا أمام هذا الحادث الذي طالما قرأناه في كتب السيرة وفي كتب التفسير ، ثم مررنا به وتركناه ، أو تلبثنا عنده قليلاً ثم جاوزناه!
إنه حادث ضخم . ضخم جداً . ضخم إلى غير حد . ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته ، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا!
إنه حادث ضخم بحقيقته . وضخم بدلالته . وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعاً . . وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد بغير مبالغة هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل .
ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة؟
حقيقته أن الله جل جلاله ، العظيم الجبار القهار المتكبر ، مالك الملك كله ، قد تكرم في عليائه فالتفت إلى هذه الخليقة المسماة بالإنسان ، القابعة في ركن من أركان الكون لا يكاد يرى اسمه الأرض . وكرّم هذه الخليقة باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي ، ومستودع حكمته ، ومهبط كلماته ، وممثل قدره الذي يريده سبحانه بهذه الخليقة .
__________
(1) - مجموع الفتاوى لابن تيمية - (16 / 251)(1/771)
وهذه حقيقة كبيرة . كبيرة إلى غير حد . تتكشف جوانب من عظمتها حين يتصور الإنسان قدر طاقته حقيقة الألوهية المطلقة الأزلية الباقية .
ويتصور في ظلها حقيقة العبودية المحدودة الحادثة الفانية . ثم يستشعر وقع هذه العناية الربانية بهذا المخلوق الإنساني؛ ويتذوق حلاوة هذا الشعور؛ ويتلقاه بالخشوع والشكر والفرح والابتهال . . وهو يتصور كلمات الله ، تتجاوب بها جنبات الوجود كله ، منزّلة لهذا الإنسان في ذلك الركن المنزوي من أركان الوجود الضئيلة!
وما دلالة هذا الحادث؟
دلالته في جانب الله سبحانه أنه ذو الفضل الواسع ، والرحمة السابغة ، الكريم الودود المنان . يفيض من عطائه ورحمته بلا سبب ولا علة ، سوى أن الفيض والعطاء بعض صفاته الذاتية الكريمة .
ودلالته في جانب الإنسان أن الله سبحانه قد أكرمه كرامة لا يكاد يتصورها ، ولا يملك أن يشكرها . وأن هذه وحدها لا ينهض لها شكره ولو قضى عمره راكعاً ساجداً . . هذه . . أن يذكره الله ، ويلتفت إليه ، ويصله به ، ويختار من جنسه رسولاً يوحي إليه بكلماته . وأن تصبح الأرض . . مسكنه . . مهبطاً لهذه الكلمات التي تتجاوب بها جنبات الوجود في خشوع وابتهال.
فأما آثار هذا الحادث الهائل في حياة البشرية كلها فقد بدأت منذ اللحظة الأولى . بدأت في تحويل خط التاريخ ، منذ أن بدأت في تحويل خط الضمير الإنساني . . منذ أن تحددت الجهة التي يتطلع إليها الإنسان ويتلقى عنها تصوراته وقيمه وموازينه . . إنها ليست الأرض وليس الهوى . . إنما هي السماء والوحي الإلهي .
ومنذ هذه اللحظة عاش أهل الأرض الذين استقرت في أرواحهم هذه الحقيقة . . في كنف الله ورعايته المباشرة الظاهرة . عاشوا يتطلعون إلى الله مباشرة في كل أمرهم . كبيره وصغيره . يحسون ويتحركون تحت عين الله . ويتوقعون أن تمتد يده سبحانه فتنقل خطاهم في الطريق خطوة خطوة . تردهم عن الخطأ وتقودهم إلى الصواب . . وفي كل ليلة كانوا يبيتون في ارتقاب أن يتنزل عليهم من الله وحي يحدثهم بما في نفوسهم ، ويفصل في مشكلاتهم ، ويقول لهم : خذوا هذا ودعوا ذاك!
ولقد كانت فترة عجيبة حقاً . فترة الثلاثة والعشرين عاماً التالية ، التي استمرت فيها هذه الصلة الظاهرة المباشرة بين البشر والملأ الأعلى . فترة لا يتصور حقيقتها إلا الذين عاشوها . وأحسوها . وشهدوا بدأها ونهايتها . وذاقوا حلاوة هذا الاتصال . وأحسوا يد الله تنقل خطاهم في الطريق . ورأوا من أين بدأوا وإلى أين انتهوا . . وهي مسافة هائلة لا تقاس بأي مقياس من مقاييس الأرض . مسافة في الضمير لا تعدلها مسافة في الكون الظاهر ، ولا يماثلها بعد(1/772)
بين الأجرام والعوالم! المسافة بين التلقي من الأرض والتلقي من السماء . بين الاستمداد من الهوى والاستمداد من الوحي . بين الجاهلية والإسلام . بين البشرية والربانية ، وهي أبعد مما بين الأرض والسماء في عالم الأجرام!
وكانوا يعرفون مذاقها . ويدركون حلاوتها . ويشعرون بقيمتها ، ويحسون وقع فقدانها حينما انتقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى ، وانقطعت هذه الفترة العجيبة التي لا يكاد العقل يتصورها لولا أنها وقعت حقاً .
عن أنس رضي الله عنه قال : قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها نزورها كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها . فلما أتيا إليها بكت . فقالا لها : ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالت : بلى ، إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء . فهيجتهما على البكاء ، فجعلا يبكيان معها . . . ( أخرجه مسلم ) . .
ولقد ظلت آثار هذه الفترة تعمل في حياة البشر منذ تلك اللحظة إلى هذه اللحظة ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
لقد ولد الإنسان من جديد باستمداد قيمه من السماء لا من الأرض ، واستمداد شريعته من الوحي لا من الهوى .
لقد تحول خط التاريخ كما لم يتحول من قبل قط ، وكما لم يتحول من بعد أيضاً . وكان هذا الحدث هو مفرق الطريق . وقامت المعالم في الأرض واضحة عالية لا يطمسها الزمان ، ولا تطمسها الأحداث . وقام في الضمير الإنساني تصور للوجود وللحياة وللقيم لم يسبق أن اتضح بمثل هذه الصورة . ولم يجيء بعده تصور في مثل شموله ونصاعته وطلاقته من اعتبارات الأرض جميعاً ، مع واقعيته وملاءمته للحياة الإنسانية . ولقد استقرت قواعد هذا المنهج الإلهي في الأرض! وتبينت خطوطه ومعالمه . { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة } لا غموض ولا إبهام . إنما هو الضلال عن علم ، والانحراف عن عمد ، والالتواء عن قصد!
إنه الحادث الفذ في تلك اللحظة الفريدة . الحادث الكوني الذي ابتدأ به عهد في هذه الأرض وانتهى عهد . والذي كان فرقاناً في تاريخ البشر لا في تاريخ أمة ولا جيل ، والذي سجلته جنبات الوجود كله وهي تتجاوب به ، وسجله الضمير الإنساني . وبقي أن يتلفت هذا الضمير اليوم على تلك الذكرى العظيمة ولا ينساها . وأن يذكر دائماً أنه ميلاد جديد للإنسانية لم يشهده إلا مرة واحدة في الزمان . .
ذلك شأن المقطع الأول من السورة . فأما بقيتها فواضح أنها نزلت فيما بعد . فهي تشير إلى مواقف وحوادث في السيرة لم تجيء إلا متأخرة ، بعد تكليف الرسول - صلى الله عليه وسلم - إبلاغ الدعوة ،(1/773)
والجهر بالعبادة ، وقيام المشركين بالمعارضة . وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في السورة : { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى؟ } . . الخ
ولكن هناك تناسقاً كاملاً بين أجزاء السورة ، وتسلسلاً في ترتيب الحقائق التي تضمنتها بعد هذا المطلع المتقدم .
يجعل من السورة كلها وحدة منسقة متماسكة . .
{ اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم } . .إنها السورة الأولى من هذا القرآن ، فهي تبدأ باسم الله . وتوجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أول ما توجه ، في أول لحظة من لحظات اتصاله بالملأ الأعلى ، وفي أول خطوة من خطواته في طريق الدعوة التي اختير لها . . توجهه إلى أن يقرأ باسم الله : { اقرأ باسم ربك } . .
وتبدأ من صفات الرب بالصفة التي بها الخلق والبدء : { الذي خلق } .ثم تخصص : خلق الإنسان ومبدأه : { خلق الإنسان من علق } . . من تلك النقطة الدموية الجامدة العالقة بالرحم . من ذلك المنشأ الصغير الساذج التكوين . فتدل على كرم الخالق فوق ما تدل على قدرته . فمن كرمه رفع هذا العلق إلى درجة الإنسان الذي يُعلم فيتعلم : { اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم } . .
وإنها لنقلة بعيدة جداً بين المنشأ والمصير . ولكن الله قادر . ولكن الله كريم . ومن ثم كانت هذه النقلة التي تدير الرؤوس!
وإلى جانب هذه الحقيقة تبرز حقيقة التعليم . . تعليم الرب للإنسان { بالقلم } . . لأن القلم كان وما يزال أوسع وأعمق أدوات التعليم أثراً في حياة الإنسان . . ولم تكن هذه الحقيقة إذ ذاك بهذا الوضوح الذي نلمسه الآن ونعرفه في حياة البشرية . ولكن الله سبحانه كان يعلم قيمة القلم ، فيشير إليه هذه الإشارة في أول لحظة من لحظات الرسالة الأخيرة للبشرية . في أول سورة من سور القرآن الكريم . . هذا مع أن الرسول الذي جاء بها لم يكن كاتباً بالقلم ، وما كان ليبرز هذه الحقيقة منذ اللحظة الأولى لو كان هو الذي يقول هذا القرآن . لولا أنه الوحي ، ولولا أنها الرسالة!
ثم تبرز مصدر التعليم . . إن مصدره هو الله . منه يستمد الإنسان كل ما علم ، وكل ما يعلم . وكل ما يفتح له من أسرار هذا الوجود ، ومن أسرار هذه الحياة ، ومن أسرار نفسه . فهو من هناك . من ذلك المصدر الواحد ، الذي ليس هناك سواه .
وبهذا المقطع الواحد الذي نزل في اللحظة الأولى من اتصال الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالملأ الأعلى ، بهذا المقطع وضعت قاعدة التصور الإيماني العريضة . .(1/774)
كل أمر . كل حركة . كل خطوة . كل عمل . باسم الله . وعلى اسم الله . باسم الله تبدأ . وباسم الله تسير . وإلى الله تتجه ، وإليه تصير .
والله هو الذي خلق . وهو الذي علم . فمنه البدء والنشأة ، ومنه التعليم والمعرفة . . والإنسان يتعلم ما يتعلم ، ويعلم ما يعلم . . فمصدر هذا كله هو الله الذي خلق والذي علم . . { علم الإنسان ما لم يعلم } . .
وهذه الحقيقة القرأنية الأولى ، التي تلقاها قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اللحظة الأولى هي التي ظلت تصرف شعوره ، وتصرف لسانه ، وتصرف عمله واتجاهه ، بعد ذلك طوال حياته .
بوصفها قاعدة الإيمان الأولى .
قال الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية في كتابه : « زاد المعاد في هدي خير العباد » يلخص هَدْيه - صلى الله عليه وسلم - فى الذِّكْر :
كان النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - أكملَ الخلق ذِكْراً للّه عَزَّ وجَلَّ، بل كان كلامُه كُلُّهُ فى ذِكر الله وما والاه، وكان أمرُهُ ونهيُه وتشريعُه للأمة ذِكْراً منه لِلَّهِ، وإخبارُهُ عن أسماءِ الربِّ وصِفاتِه، وأحكامِهِ وأفعاله، ووعدِه ووعيده، ذِكراً منه له، وثناؤُه عليه بآلائه، وتمجيدُه وحمدُه وتسبيحُه ذكراً منه له، وسؤالُه ودعاؤه إياه، ورغبتُه ورهبتُه ذِكراً منه له، وسكوته وصمتُه ذِكراً منه له بقلبه، فكان ذاكراً للّه فى كل أحيانه، وعلى جميع أحواله، وكان ذِكْرُهُ لِلًَّهِ يجرى مع أنفاسه، قائماً وقاعداً وعلى جنبه، وفى مشيه وركوبه ومسيره، ونزولِه وظعنه وإقامته.
وكان إذا استيقظَ قال: "الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أحْيانَا بَعْدَ مَا أمَاتَنَا وإلَيْهِ النُّشُورُ".
وقالت عائشةُ: كان إذَا هَبَّ مِنَ اللَّيْلِ، كَبَّر اللهَ عَشْراً، وحَمِدَ الله عَشْراً، وقَالَ: "سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ" عَشْراً، "سُبْحَانَ المَلِكِ القُدُّوسِ" عَشْراً، واسْتَغْفَرَ اللهَ عَشْراً، وهَلَّلَ عَشْراً، ثُمَّ قَالَ: "اللهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ مِنْ ضِيقِ الدُّنيَا، وَضِيقِ يَوْمِ القِيَامَةِ" عَشْراً، ثُمَّ يَسْتَفْتِحُ الصلاة.
وقالت أَيْضاً: كَانَ إذا اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: "لاَ إلهَ إلاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ، اللهُمَّ أَسْتَغْفِرُكَ لِذَنْبِى، وَأَسْأَلُكَ رَحْمَتَكَ، اللهُمَّ زِدْنِى عِلَمَاً وَلاَ تُزِغْ قَلْبِى بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنِى، وَهَبْ لِى مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ " ذكرهما أبو داود
وأخبر أنَّ مَن استيقظَ من اللّيْل فَقَالَ: "لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَئٍ قَدِيرٌ، الحمدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَلاَ إلهَ إلاَّ اللهُ، واللهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ بِاللهِ} [العَلِىِّ العَظِيمِ]" - ثُمَّ قَالَ: "اللهُمَّ اغْفِر لِى - أَوْ دعا بدعاء آخر، - استُجِيبَ لَهُ، فإنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى، قُبِلَتْ صَلاَتُه" ذكره البخارى(1/775)
وقال ابنُ عباس عنه - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ مَبيتِهِ عِنْدَهُ: إنَّهُ لَمَّا اسْتَيْقَظَ، رَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ وَقَرَأَ العَشْرَ الآيَاتِ الخَواتِيمُ مِنْ سُورَةِ "آلِ عِمْرَانَ": {إنَّ فِى خَلْقِ السَّموَاتِ والأرْضِ} [آل عمران: 190] إلى آخِرِها.
ثم قال: " اللهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أنْتَ نُورُ السَّمَاواتِ والأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَقَوْلُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، ومُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌ، اللهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإلَيْكَ أنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِى مَا قَدَّمتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ إلهِى، لاَ إلهَ إلاَّ أنْتَ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ العَلِىِّ العَظِيمِ".
وقد قالت عائشةُ رضى الله عنها: كَانَ إذَا قَامَ مِنَ اللَّيلِ قال: " اللهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاواتِ والأرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، إهْدِنِى لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بإذنك، إنَّكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ".
ورُبَّمَا قالت: كان يفتتِحُ صلاتَهُ بِذَلكَ، وكانَ إذا أوتر، ختم وتره بعدَ فَراغِهِ بِقولِه: "سُبْحَانَ الملِكِ القُدُّوسِ" ثلاثاً، ويَمُدُّ بالثَّالِثَةِ صَوْتَه.
وكَانَ إذَا خَرجَ مِن بَيتِهِ يَقُولُ: "بسم الله، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، اللهُمَّ إنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أوْ أُضَلَّ، أَو أزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَىَّ" حَدِيث صحيح.
وقال - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ قَالَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ: بِسْمِ اللهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللهِ، يُقَالُ لَهُ: هُدِيتَ، وَكُفِيتَ، وَوُقِيتَ، وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ " حديث حسن
وقال ابنُ عباس عنه ليلةَ مبيته عِندهُ: إنَّهُ خرج إلى صَلاةِ الفجر وهُو يَقُولُ: "اللهُمَّ اجْعَلْ فِى قَلْبِى نُوراً، واجْعَلْ فِى لِسَانِى نُورَاً، وَاجْعَلْ فِى سَمْعِى نُورَاً، واجْعَلْ فِى بَصَرِى نُورَاً، واجْعَلْ مِنْ خَلْفِى نُورَاً، ومِنْ أمَامِى نُوراً، واجْعَلْ مِنْ فَوْقِى نُوراً، وَاجْعَلْ مِنْ تَحْتِى نُوراً، اللهُمَّ أعْظِمْ لِى نُوراً".
وقال فُضيل بن مرزوق، عَن عَطِيَّة العَوْفِى، عن أبى سعيدٍ الخُدْرِىِّ قال: قالَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : "مَا خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِهِ إلى الصَّلاَةِ فَقَالَ: اللهُمَّ إنِى أسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ، وَبِحَقِّ مَمْشَاىَ هذَا إلَيْكَ، فَإنِّى لَمْ أَخْرُجْ بَطَرَاً وَلاَ أشَراً، وَلاَ ريَاءً، وَلاَ سُمْعَةً، وَإنَّمَا خَرَجْتُ اتِّقَاءَ سُخْطِكَ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، أَسْأَلُكَ أنْ تُنْقِذَنِى مِنَ النَّارِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِى ذُنُوبِى، فَإنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ أنْتَ، إلاَّ وَكَّلَ اللهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، وَأَقْبَلَ اللهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ حَتَّى يَقْضِى صَلاتَه".
وذكر أبو داود عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا دخل المسجدَ قال : "أَعُوذُ بِاللهِ العَظِيمِ، وبِوَجْهِهِ الكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ القَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَإذَا قَالَ ذلِكَ قال الشَّيْطَانُ: حُفِظَ مِنِّى سَائِرَ اليَوْمِ".(1/776)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَلْيَقُلْ: اللهُمَّ افْتَحْ لِى أبْوَابَ رَحْمَتِكَ، فَإذَا خَرَجَ، فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ إنِّى أسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ".
وَذُكر عنه: "أنَّهُ كانَ إذَا دَخَلَ المَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَقُولُ: "اللهُمَّ اغْفِرْ لِى ذنوبى، وافْتَحْ لِى أبْوَابَ رَحْمَتِكَ، فَإذَا خَرَجَ صَلَّى عَلى مُحمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّم، ثُمَّ يَقُولُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِى ذُنُوبِى وَافْتَح لِى أبْوَابَ فَضْلِكَ ".
وكَانَ إذَا صلَّى الصُّبْحَ، جَلَسَ فى مُصلاَّه حَتَّى تطلُعَ الشَّمْسُ يَذْكُرُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.
وكان يقول إذَا أَصْبَحَ: "اللهُمَّ بِكَ أصْبَحْنَا، وَبِكَ أمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبكَ نَمُوتُ، وَإلَيْكَ النُّشُورُ" حديث صحيح
وكان يَقُولُ: "أصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ المُلْكُ لِلَّهِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ، رَبِّ أسْأَلُكَ خَيْرَ مَا فِى هذَا اليَوْم، وَخَيْرَ مَا بَعْدَهُ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ شرِّ هذَا اليَوْمِ، وَشرِّ مَا بَعْدَهُ، رَبِّ أعُوذُ بِكًَ مِنَ الكَسَلِ، وَسُوءِ الكِبَر، رَبِّ أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابٍ فى النَّارِ، وعَذَابٍ فى القَبْرِ، وإذَا أمْسَى قَالَ: أمْسَيْنَا وَأَمْسَى المُلْكُ لِلَّهِ..." إلى آخِرِهِ. ذكره مسلم
وقال له أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رضىَ اللهُ عنهُ: مُرْنى بِكَلِمَاتٍ أقُولُهُنَّ إذَا أصْبَحْتُ وإذَا أَمْسَيْتُ، قَالَ: قُلْ: "اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاواتِ والأرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَىءٍ وَمَلِيكَهُ وَمَالِكه، أشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلاَّ أنْتَ، أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ نَفْسِى، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكهِ، وأنْ أقْتَرِفَ عَلَى نَفسِى سُوءاً أوْ أَجُرَّهُ إلَى مُسْلِمٍ" قال: "قُلْهَا إذَا أَصْبَحْتَ وَإذَا أمْسَيْتَ، وإذَا أخَذْتَ مَضْجَعَكَ" حديث صحيح
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فى صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ: بِسْمِ اللهِ الَّذِى لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَىءٌ فى الأرْضِ وَلاَ فى السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ - ثَلاَتَ مَرَّاتٍ - إلاَّ لَمْ يَضُرَّهُ شَىْء " حديث صحيح
وقال: " مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِى: رَضِيتُ بِاللهِ رَبَّاً، وَبِالإسْلاَمِ دِينَاً، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيَّاً، كَانَ حَقَّاً عَلَى اللهِ أنْ يُرْضِيَهُ" صححه الترمذى والحاكم
وقال: "مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِى: اللهُمَّ إنِّى أصْبَحْتُ أُشْهِدُكَ، وَأُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وَمَلائِكَتَكَ، وَجَمِيعَ خَلْقِكَ، أنَّكَ أنتَ اللهُ الَّذِى لاَ إلَهَ إلاَّ أنْتَ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، أَعْتَقَ اللهُ رُبْعَهُ مِنَ النَّارِ، وَإنْ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ، أَعْتَقَ اللهُ نِصْفَهُ مِنَ النَّارِ، وإنْ قَالَهَا ثَلاثاً، أَعْتَقَ اللهُ ثَلاثَة أَرْبَاعِهِ مِنَ النَّارِ، وَإنْ قَالَهَا أرْبَعاً أَعْتَقَهُ اللهُ مِنَ النَّارِ " حديث حسن(1/777)
وقالَ: "مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: اللهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِى مِنْ نِعْمَةٍ أوْ بأحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ، فَمِنْكَ وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ، لَكَ الحَمْدُ، وَلَكَ الشُّكْرُ، فَقَدْ أدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ، وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حِيْنَ يُمْسِى، فَقَدْ أدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ" حديث حسن
وكَانَ يدعو حينَ يُصبح وحينَ يُمْسِى بهذِهِ الدعَواتِ: "اللهُمَّ إنِّى أسْأَلُكَ العَافِيَةَ فى الدُّنْيَا والآخِرَة، اللهُمَّ إنِّى أَسْأَلُكَ العَفْوَ وَالعَافِية فى دِينِى وَدُنْيَاىَ وَأهْلِى وَمَالِى، اللهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِى، وآمِنْ رَوْعَاتِى، اللهُمَّ احْفظْنِى مِنْ بَيْن يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِى، وَعَنْ يمينى وَعَنْ شِمَالِى، وَمِنْ فَوْقِى، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِى " صححه الحاكم
وقال: "إذَا أصْبَحَ أحَدُكُم، فَلْيَقُلْ: أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ المُلْكُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، اللهُمَّ إنِّى أَسْأَلُكَ خَيْرَ هذَا الْيَوْمِ: فَتْحَهُ وَنَصْرَهُ وَنُورَهُ وَبَرَكَتَه وَهِدَايَتَهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِيهِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهُ، ثُمَّ إذَا أمْسَى، فَلْيَقُلْ مِثْلَ ذلِكَ" حديث حسن
وذكرَ أبو داود عنه أنه قال لِبعض بناتِهِ: "قُولِى حِيْنَ تُصْبِحِينَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللهِ العَلِىِّ العَظِيمِ، مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأ لَمْ يَكُنْ، أعْلَمُ أنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَىْءٍ قديرٌ، وأنّ الله قَدْ أحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْماً، فَإنَّهُ مَنْ قَالَهُنَّ حِينَ يُصْبِحُ، حُفِظَ حَتَّى يُمْسِىَ، وَمَنْ قَالَهُنَّ حِينَ يُمْسِى حُفِظَ حَتَّى يُصْبِحَ ".
وقال لرجل من الأنصار: " ألاَ أُعَلِّمُكَ كَلاَماً إذَا قُلْتَهُ أذْهَبَ اللهُ هَمَّكَ، وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ"؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قالَ: "قُل إذَا أصْبَحْتَ وَإذَا أمْسَيْتَ: اللهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ والكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ وَالبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وقَهْرِ الرِّجَالِ" قال: فقلتُهن، فأذهب الله همِّى وقضًَى عنى دَيْنى.
وكان إذا أصبح قال: "أصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الإسْلاَمِ، وَكَلِمَةِ الإخْلاصِ، ودِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، وَمِلَّةِ أبِينَا إبْرَاهِيمَ حَنِيفاً مُسْلِماً، وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ".
هكذا فى الحديث: "ودين نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - " وقد استشكله بعضُهم وله حُكْمُ نظائِره كقوله فى الخُطَبِ والتشهُّد فى الصلاة: "أشهدُ أن محمداً رسولُ الله" فإنه - صلى الله عليه وسلم - مكلَّف بالإيمان بأنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خلقه، ووجوبُ ذلك عليه أعظمُ من وجوبه على المرسَل إليهم، فهو نبى إلى نفسه وإلى الأُمَّة التى هو منهم، وهو رسول الله إلى نفسه وإلى أُمَّته.
ويُذكَرُ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لِفاطمة ابنتهِ: "مَا يَمْنَعُكِ أنْ تَسْمَعِى مَا أُوصِيكِ بِهِ: أنْ تَقُولِى إذَا أصْبَحْتِ وَإذَا أمْسَيْتِ: يَا حَىٌُّ، يَا قَيُّومُ بك أستغيث، فأصلح لى شأنى، ولا تَكِلْنِى إلى نفسى طرفةَ عَيْنٍ".
ويُذكرُ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لِرجل شكا إليهِ إصابةَ الآفاتِ: "قُل: إذَا أصْبَحْتَ : بِسْمِ اللهِ عَلَى نَفْسِى، وَأَهْلِى وَمَالِى، فَإنَّهُ لا يَذْهَبُ عَلَيْكَ شَىءٌ".
ويُذكَر عنه أنه كان إذَا أصبح قالَ: "اللهُمَّ إنِّى أسْأَلُكَ عِلْماً نَافِعاً، وَرِزْقاً طَيِّباً، وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً".(1/778)
ويُذكر عنه - صلى الله عليه وسلم - : إن العبد إذا قالَ حِينَ يُصبِحُ ثلاثَ مرات : "اللهُمَّ إنِّى أَصْبَحْتُ مِنْكَ فى نِعْمَةٍ وَعَافِيَةٍ وَسِتْرٍ، فَأَتْمِمْ عَلَىَّ نِعْمَتَكَ وَعَافِيَتَكَ وَسِتْرَكَ فى الدُّنيَا والآخِرَةِ، وإذَا أمْسى، قالَ ذلِك، كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أنْ يُتِمَّ عَلَيْهِ".
وَيذكر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " مَنْ قَالَ فى كُلِّ يَوْمٍ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِى: حَسْبِىَ اللهُ لاَ إلَه إلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمُ - سَبْعَ مَرَّاتٍ - كَفَاهُ اللهُ مَا أهَمَّهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ".
ويُذكر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه من قالَ هذِهِ الكَلِمَاتِ فى أوَّلِ نَهَارِهِ، لَمْ تُصِبْهُ مُصِيبَةٌ حَتَّى يُمْسِىَ، وَمَنْ قَالَهَا آخِرَ نَهَارِهِ لَمْ تُصِبْهُ مُصِيبَةٌ حَتَّى يُصْبِحَ: "اللهُمَّ أَنْتَ رَبِّى، لاَ إله إلاَّ أنْتَ، عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَأنْتَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ العَلِىِّ العَظِيمِ، أعْلَمُ أنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، وَأنَّ اللهَ قَدْ أحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْماً، اللهُمَّ إنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِى، وَشَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، إنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" ، وقَد قِيلَ لأبى الدرداء: قدِ احترق بيتُك فقالَ: ما احترقَ، ولم يكن اللهُ عَزَّ وجَلَّ لِيفعل، لِكَلِمَاتٍ سمعتهُنَّ مِنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فذكرها.
وقالَ: "سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أنْ يَقُولَ العبدُ: اللهُمَّ أَنْتَ رَبِّى، لاَ إلهَ إلاَّ أنْتَ خَلَقْتَنِى وَأنَا عَبْدُكَ، وَأنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَىَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِى، فَاغْفِرْ لِى إنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُنُوبَ إلاَّ أَنْتَ، مَنْ قالَهَا حِينَ يُصْبِحُ موقِناً بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ، دَخَلَ الجَنَّةَ، ومَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِى مُوقِناً بِهَا، فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ، دَخَلَ الجَنَّةَ".
"ومَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِى : سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ - مِائَةَ مَرَّةٍ - لَمْ يَأْتِ أَحدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلاَّ أحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ، أوْ زَادَ عَلَيْهِ".
وَقَالَ: " مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ عَشْرَ مَرَّاتٍ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، ولَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ الله لَهُ بِهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمَحَا عَنْهُ بها عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَكَانَتْ كَعِدْل عَشْر رِقَابٍ، وَأَجَارهُ اللهُ يَوْمَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَإِذَا أمْسَى فَمِثْلُ ذلِكَ حَتَّى يُصْبِحَ".
وقال: "مَنْ قَالَ حِيْنَ يُصْبِحُ: لاَ إلَه إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ، فى الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدلَ عَشْر رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مائةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْ مِائَةُ سَيِّئَة، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذلِكَ حتى يُمْسِىَ، وَلَمْ يَأْتِ أحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أكْثَرَ مِنْهُ".
وفى "المسند" وغيرهِ أنه - صلى الله عليه وسلم - علَّم زيدَ بن ثابت، وأمره أن يتعَاهَدَ بهِ أهله فى كلِّ صباح: "لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالخَيْرُ فى يَدَيْكَ، وَمِنْكَ وَبِكَ وَإلَيْكَ، اللهُمَّ مَا قُلْتُ مِنْ قَوْلٍ، أوْ حَلَفْتُ مِنْ حَلِفٍ، أوْ نَذَرْتُ مِنْ نَذْرٍ، فَمَشِيئَتُكَ بَيْنَ يَدَىْ ذلِكَ كُلّه، ما شِئْتَ كَانَ، وَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِكَ، إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، اللهُمَّ مَا صَلَّيْتَ مِنْ صَلاَةٍ فَعَلَى مَنْ(1/779)
صَلَّيْتَ، وَمَا لَعَنْتَ مِنْ لَعْنَةٍ، فَعَلَى مَنْ لَعَنْتَ، أَنْتَ وَليى فى الدُّنْيَا والآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَألْحِقْنِى بالصَّالِحِينَ، اللهُمَّ فَاطِرَ السَّماواتِ والأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهادَةِ، ذَا الجَلاَلِ والإكْرَامِ. فَإنِّى أعْهَدُ إلَيْكَ فى هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأُشْهِدُكَ - وَكَفَى بِكَ شَهِيداً - بِأَنِّى أشْهَدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ أنْتَ وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ، لَكَ المُلْكُ، وَلَكَ الحَمْدُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَأَشْهَدُ أنَّ وَعْدَكَ حَقٌ، وَلِقَاءَكَ حَقٌ، وَالسَّاعَةُ حَقٌ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّكَ تَبْعَثُ مَنْ فى القُبُورِ، وَأشْهَدُ أنَّكَ إنْ تَكِلْنِى إلى نَفْسِى تَكِلْنِى إلى ضَعْفٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، وَإنِّى لاَ أثِقُ إلاَّ برَحْمَتِكَ، فَاغْفِرْ لِى ذُنُوبِى كُلَّهَا إنه لاَ يَغْفِرُ الذُنُوبَ إلاَّ أنْتَ، وَتُبْ عَلىَّ إنَّكَ أنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمٍُ". (1)
وهكذا كانت حياته كلها - صلى الله عليه وسلم - بدقائقها متأثرة بهذا التوجيه الإلهي الذي تلقاه في اللحظة الأولى .
وقام به تصوره الإيماني على قاعدته الأصيلة العريقة . .
ولقد كان من مقتضيات تلك الحقيقة : حقيقة أن الله هو الذي خلق . وهو الذي علم . وهو الذي أكرم . أن يعرف الإنسان . ويشكر . ولكن الذي حدث كان غير هذا ، وهذا الانحراف هو الذي يتحدث عنه المقطع الثاني للسورة : { كلا! إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى . إن إلى ربك الرجعى } . .
إن الذي أعطاه فأغناه هو الله . كما أنه هو الذي خلقه وأكرمه وعلمه . ولكن الإنسان في عمومه لا يستثنى إلا من يعصمه إيمانه لا يشكر حين يُعطى فيستغني؛ ولا يعرف مصدر النعمة التي أغنته ، وهو المصدر الذي أعطاه خلقه وأعطاه علمه . . ثم أعطاه رزقه . . ثم هو يطغى ويفجر ، ويبغي ويتكبر ، من حيث كان ينبغي أن يعرف ثم يشكر .
وحين تبرز صورة الإنسان الطاغي الذي نسي نشأته وأبطره الغنى ، يجيء التعقيب بالتهديد الملفوف : { إن إلى ربك الرجعى } فأين يذهب هذا الذي طغى واستغنى؟
وفي الوقت ذاته تبرز قاعدة أخرى من قواعد التصور الإيماني . قاعدة الرجعة إلى الله . الرجعة إليه في كل شيء وفي كل أمر ، وفي كل نية ، وفي كل حركة . فليس هناك مرجع سواه . إليه يرجع الصالح والطالح . والطائع والعاصي . والمحق والمبطل . والخير والشّرير . والغني والفقير . . وإليه يرجع هذا الذي يطغى أن رآه استغنى . ألا إلى الله تصير الأمور . . ومنه النشأة وإليه المصير . .
وهكذا تجتمع في المقطعين أطراف التصور الإيماني . . الخلق والنشأة . والتكريم والتعليم . . ثم . . الرجعة والمآب لله وحده بلا شريك : { إن إلى ربك الرجعى } . . (2)
__________
(1) - زاد المعاد في هدي خير العباد - (2 / 365)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3938)(1/780)
هذه الآيات هي على ما جاء في حديث رواه البخاري عن عائشة رضي اللّه عنها ، سنورده بعد قليل ، أولى الآيات القرآنية نزولا. ومع أن هناك روايات تذكر أن الآيات الأولى من سور أخرى مثل سور القلم والمدثر والمزمل وأن سورا أخرى مثل سورتي الفاتحة والضحى هي أول القرآن نزولا فإن أحاديث أولية هذه الآيات أقوى سندا كما أن مضمونها يلهم ترجيح هذه الأولية «1».
وليس في هذه الآيات الواضحة العبارة أمر بالدعوة. وإنما هي تنبيه وإعداد.
ولما كانت الآيات التالية لها تتضمن مشهدا من مشاهد تصدي بعض الطغاة للنبي عليه السلام حينما بدأ بدعوته وصلاته ، فإن المعقول أن تكون هذه الآيات قد نزلت وحدها ثم نزلت آيات أو سور قرآنية أخرى فيها أمر بالدعوة ومبادئها ، وأن تكون أولية السورة في ترتيب النزول هي بسبب أولية نزول هذه الآيات.
أول قرآن نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقد نزلت هذه الآيات على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلا في غار حراء أحد جبال مكة أثناء اعتكافه في هذا الغار في رمضان على ما ورد في حديث رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي اللّه عنها جاء فيه : «أوّل ما بدىء به رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصّبح. ثم حبّب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث - أي يتعبّد - فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزوّد لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتّى جاءه الحقّ وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال : «اقرأ» فقال : «ما أنا بقارئ» قال : «فأخذني فغطّني حتّى بلغ منّي الجهد ثم أرسلني». فقال : «اقرأ» ، فقلت : «ما أنا بقارئ» قال : «فأخذني فغطّني الثانية حتّى بلغ مني الجهد ثم أرسلني» فقال : «اقرأ» فقلت : «ما أنا بقارئ» فأخذني فغطّني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني» فقال : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حتى بلغ : ما لَمْ يَعْلَمْ» «. ونزول هذه الآيات ليلا وفي رمضان مؤيد بآيات قرآنية منها آية سورة البقرة هذه : شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [185] ، وآية سورة الدخان هذه : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) ، وآية سورة القدر هذه : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1).
والأمر بالقراءة قصد به تلاوة ما يلقى إليه كما قصد به تنبيهه - صلى الله عليه وسلم - إلى المهمة العظمى التي انتدب إليها ، وتعليمه أن يجعل اللّه هو الفكرة الرئيسية التي تشغل ذهنه ، وأن يذكره في كل أمر من أموره دون سواه كما هو المتبادر.(1/781)
وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى وشامل للناس جميعا بالانصراف عما سوى اللّه ، وبالارتفاع بالنفس الإنسانية إلى أفق لا تتأثر فيه بقوى الدنيا ومخاوفها ، ولا ترتبط في حياتها ومعايشها ومطالبها وآمالها بغير اللّه الربّ الأكرم.
والآيات إلى هذا تنطوي على تنويه بالقراءة والكتابة والعلم ، وبالإنسان الذي اختص وحده بالقابلية لهذه النعم ، وبدء القرآن بذلك يزيد في قوة هذا التنويه ، فكأنما أريد جعل هذه النعم في مقدمة نعم اللّه التي أنعمها على الإنسان ، وفي مقدمة ما يجب على الإنسان أن يشكر اللّه عليه ويسعى في اكتسابه.
والقرآن على هذا الاعتبار أعظم وأقوى ، وأول داع ديني إلى العلم والقراءة والكتابة. وتعبير الإنسان شامل للذكر والأنثى على السواء ، وهكذا تكون الدعوة القرآنية شاملة جنسي الإنسان.
وفي هذا من الجلال والروعة ما يعلو فوق كل مستوى ، وما يدل على عظمة براعة استهلال القرآن الكريم والدعوة الإسلامية وبعد مداها ، وقوة عناصر خلودها.
ولقد احتوت سور القرآن المكية والمدنية بعد هذه السورة آيات كثيرة جدا في التنويه بالكتاب والقرآن والعلم والعلماء والحثّ على العلم والتعلّم وبيان مسؤولية أهل العلم والذكر. وهو ما يزيد من جلال هذه البراعة وعظم مداها.
والمتبادر أنه لا يقصد بالإشارة إلى خلق الإنسان من علق تقرير حقيقة تشريحية ، ولا تخصيص الإنسان وحده بالخلق من علق دون غيره من الحيوان ، وإنما قصد التنبيه على مظهر من مظاهر قدرة اللّه في نواميسه على إخراج إنسان كامل في صورته وأعضائه وحواسه من شيء تافه في مظهره المادي ، وقد اختص الإنسان بالذكر لأنه موضوع الخطاب في الآيات ، وهذا أسلوب قرآني عام. وهو الأسلوب التنبيهي الموجه إلى مختلف الطبقات في المناسبات الملائمة بما تتناوله عقولهم وحواسهم ، وبقصد الموعظة والهداية.
وبناء على هذا فلا نرى محلا ولا ضرورة إلى الاستطراد إلى حقائق تشريحية عن خلق الإنسان وتكوينه لأن ذلك ليس من أهداف الجملة القرآنية ، ونرى وجوب الوقوف عند ما ذكرناه من هدفها على ما نبهنا عليه في المقدمة.
هذا ، ولقد تعددت السور التي تبدأ بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ببعض الأفعال والأقوال مما يمكن أن يعد أسلوبا من أساليب النظم القرآني في مطالع السور. (1)
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 315)(1/782)
قوله تعالى : « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ».يكاد إجماع العلماء والمفسرين ينعقد على أن هذه الآيات الخمس ، هى أول ما نزل من القرآن الكريم ، وأول ما استفتحت به الرسالة المحمدية.
وقد نزل بها جبريل على النبىّ وهو يتعبد فى غار حراء ، وقد فجئه الوحى بقوله تعالى : « اقرأ ».
ففى الصحيحين عن السيدة عائشة ، رضى اللّه عنها ، قالت : « أول ما بدىء به رسول اللّه ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبّب إليه الخلاء فكان يخلوا بغار حار ، يتحنث فيه الليالى ذوات العدد ، قبل أن يرجع إلى أهله ، ويتزود لمثل ذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى فجئه الحق ، وهو فى غار حراء ، فجاء الملك ، فقال : « اقرأ » فقال : « ما أنا بقارئ » قال فأخذنى فغطّنى حتى بلغ منى الجهد ، ثم أرسلنى ، فقال : « اقرأ » فقلت ما أنا بقارئ ، فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد ، ثم أرسلنى ، فقال : « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ».
هذه هى الآيات الخمس الأولى ، التي استفتح بها كتاب اللّه الذي نزل على النبىّ ..
والنبىّ ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ أمّى ، لا يقرأ ، وأمره بالقراءة ، إنما هو قراءة من هذا الكتاب السماوي ، الذي يقرأ منه جبريل ، فيقرىء النبىّ منه .. فهى قراءة متابعد لقارىء السماء ، جبريل ، من كتاب اللّه.
وقوله الملك لنبى : « اقرأ » هو دعوة إلى قراءة من كتاب ، والنبي صلوات اللّه وسلامه عليه ، لا يقرأ ، ثم إنه ليس هناك كتاب يقرؤه لو كان قارئا ..
ولهذا كان ردّ النبي : « ما أنا بقاري » ! .. وقد تكرر هذا الموقف بين جبريل ، وبين النبي ثلاث مرات : « اقرأ ».
. « ما أنا بقارئ! » أي لا أعرف القراءة ..
وفى هذا تنويه بشأن القراءة. وأنها السبيل إلى المعرفة والعلم ..
ثم إن الأمية ، وإن كانت حائلة بين المرء وبين أن يقرأ فى كتاب ، فإنها لا تحول بينه وبين العلم والمعرفة ، فهناك كتاب الوجود ، الذي يقرأ الإنسان آياته بالنظر المتأمل فيه ، والبصيرة النافذة إلى أسراره ، وعجائبه .. ثم هناك التلقي عن أهل العلم ، ممن يقرءون ويدرسون .. فليكن الإنسان قارئا أبدا ، على أي حال من أحواله ، قارئا بنفسه ، أو قارئا متابعا لغيره.
أما أمية النبي الكريم ، فهى أمية مباركة ، قد فتحت عليه خزائن علم اللّه ، إذ بعث اللّه سبحانه وتعالى إليه رسولا من عنده يقرأ عليه كتاب اللّه ، ويملا قلبه هدى ونورا منه ..(1/783)
ولهذا كان النبي قارئا ، فقرأ حين أقرأه جبريل : « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ».
وقوله تعالى : « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ » أي اقرأ بأمر ربك ، أي أن جبريل يقول : هذا الأمر الذي آمرك به ليس بأمرى ، وإنما هو بأمر ربك ، الذي يدعوك إلى أن تقرأ ما أفرئك إياه ، من كتاب ربك .. وهذا مثل قوله تعالى : « وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ » (27 : الكهف). وقوله تعالى : « فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ »(18 : القيامة).
وقوله تعالى : « الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ » ـ هو بيان لقدرة اللّه سبحانه وتعالى ، وأنه هو الخالق وحده لا شريك له ، وأنه هو الذي بقدرته خلق الإنسان ، هذا الخلق السوىّ « من علق » أي من دم لزج ، متجمد.
فالذى خلق الإنسان من هذا العلق ، وسوّاه على هذا الخلق ، لا يقف به عند هذا الحد ، بل هو سبحانه ، بالغ به منازل الكمال ، بما يفتح له من أبواب العلم والمعرفة ..
وقوله تعالى : « اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ » أي خذ ما أعطاك ربك من علم ، وما دعاك إليه من معرفة ، فإن ربك كريم واسع العطاء ، لا ينفد عطاؤه.
فقوله تعالى : « وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ » ـ جملة خبرية ، تقع موقع الحال من فاعل « اقرأ » وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أي اقرأ مستيقنا أن ربك هو الأكرم .. أي ذو الفضل العظيم ، والكرم الذي لا حدود له ..
وفى تعريف طرفى الجملة الخبرية ، ما يفيد القصر ، أي قصر صفة الكرم على اللّه وحده ..
وقوله تعالى : « الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ».. أي ومن كرمه سبحانه أنه جعل من القلم الذي هو قطعة جامدة من الحطب ، أو الخشب ، أداة للعلم والمعرفة ، ففتح به على الإنسان أبواب العلوم والمعارف ، وجعل من ثماره هذه الكتب التي حفظت ثمار العقول ، فكانت ميراثا للعلماء ، يرثها الخلف عن السلف ، وينميها ويثمرها العلماء جيلا بعد جيل .. وبهذا تعلم الإنسان ما لم يكن يعلم ، وبعلمه هذا المستفاد من سلفه ، فتح أبوابا جديدة من العلم يتلقاها عنه من بعده ، ويفعل فعله ، بما يفتح من أبواب جديدة للعلم .. وهكذا تتسع معارف الإنسان ، ويزداد علمه على مدى الأجيال ..
وهذا يعنى أن الإنسانية متطورة ، وسائرة نحو الأمام ، بما تتوارث أجيالها من ثمار العقول ، التي يتركها السلف للخلف ، جيلا بعد جيل ..
وهكذا يذهب الناس ، كأجساد ، وتبقى غراس عقولهم ، وثمار أفكارهم.
وقوله تعالى : « كَلَّا. إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ».هو رد على سؤال وارد على قوله تعالى : « عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ »..ومع أن هذه الآية وما بعدها ، قد نزلت بعد خمس الآيات(1/784)
التي افتتحت بها السورة بزمن ممتد ، إلا أن المناسبة جامعة بينها وبين ما قبلها ، وهذا هو السر فى سردها فى سياقها .. فقد قلنا : إن قوله تعالى : « كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى ، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى » ـ هو رد على سؤال وارد على قوله تعالى : « عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ».
. والسؤال هو : هل أدّى الإنسان حق هذه النعمة التي أنعمها اللّه عليه ؟ وهل كان له من علمه هذا الذي تعلمه ، نفع له ، وللناس معه ؟ والجواب على هذا : « كلّا ».
. فإن هذا العلم الذي فتح على الناس وجوه المنافع ، وملأ أيديهم من ثمرات الحياة ، بمامكن لهم به من الأرض ، وما سخر لهم من قوى الطبيعة ـ هذا العلم ، قد فتنهم سلطانه ، وأغرى بعضهم ببعض ، فاتخذوا منه سلاحا للبغى والعدوان ، والتسلط والقهر .. وبهذا طغى الإنسان ، وتجبر وظلم ، حين رأى نفسه بمنقطع عن الناس ، مستغنيا عنهم بجاهه وسلطانه ..
وهذا مما لا يعيب العلم ، ولا ينقص من قدره .. فإنه وإن يكن استحدث به الإنسان كثيرا من أدوات الإهلاك والتدمير ، فلقد استنبط منه ما لا يحصى من النعم الجليلة التي كشفت للإنسان عن فضل اللّه وإحسانه على الناس ، كما أقام من آيات اللّه شواهد ناطقة تشهد بجلاله ، وعظمته ، وحكمته ، وتضع الناس وجها لوجه أمام أسرار هذا الكون ، وما تنطوى عليه تلك الأسرار من سعة علم اللّه ، وعظمة جلاله وقدرته ..
وفرق كبير بين الإنسان البدائى ، وبين رجل العلم فى العصر الحديث ، فى موقفهما إزاء الوجود ، وفى نظرتهما إلى عظمة اللّه وقدرته .. فالبدائى ينظر إلى عوالم الوجود بنظر شارد تائه ، لا يبعد كثيرا عن نظر بعض الحيوانات أمام مشرق الشمس أو مغربها .. أما رجل العصر الحديث فإنه ينفذ بنظره إلى أعماق بعيدة فى الموجودات ، حيث يطلع على أسرار لانهاية لها ، يروعه جلالها ، ويبهره نظامها وإحكامها ..
وشتان بين الإنسان البدائى الذي خاف الطبيعة وظواهرها ، فعبدها ، وتخاضع بين يديها ، وبين الرجل العصرى ، الذي أمسك بزمام الطبيعة ، وسخرها لخدمته ، ونظر إليها نظرة السيد المالك لها .. ثم كان عليه بعد هذا أن يبحث عن السيد المالك له هو ، ولهذا الوجود كلّه .. وهو لا بد مستدل بعقله على خالق هذا الوجود وسيده ، وذلك هو الإيمان الذي لا زيغ معه ولا ضلال ..
ولعل هذا يفسر لنا كثرة الأنبياء والرسل فى الأزمان السالفة .. ثم قلّتهم شيئا فشيئا كلما تقدم الزمن ، وتقدم معه العقل الإنسانى ، الذي يقوم مقام الرسول فى الدعوة إلى اللّه ، والهداية إليه. ، ثم انقطاع الرسل والأنبياء بخاتم سيد الرسل ونبى الأنبياء ، محمد رسول اللّه ، بعد أن بلغت الإنسانية رشدها ..(1/785)
وقوله تعالى : « إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى ».هو تهديد لهذا الإنسان الذي جحد نعمة اللّه عليه ، واتخذ منها أسلحة يحارب بها الفضيلة ، ويقطع بها ما أمر اللّه به أن يوصل .. إن هذا الإنسان راجع إلى ربه يوما ، وسيلقى جزاء بغيه وعدوانه .. (1)
ووصف الرب بقوله تعالى : { الَّذِي خَلَقَ } لتذكير أول النعماء الفائضة عليه - صلى الله عليه وسلم - منه تعالى . والتنبيه على أن من قدر على خلق الْإِنْسَاْن على ما هو عليه من الحياة ، وما يتبعها من الكمالات العلمية والعملية ، من مادة لم تشم رائحة الحياة فضلاً عن سائر الكمالات ، قادر على تعليم القراءة للحي العالم المتكلم ، أي : الذي أنشأ الخلق واستأثر به أو خلق كل شيء
وقال الإمام : ترى من سياق الرواية التي قدمناها أن المتبادر من معنى الآية الأولى : كن قارئاً باسم الله من قبيل الأمر التكويني . فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قارئاً ولا كاتباً ؛ ولذلك كرر القول مراراً : < ما أنا بقارئ > . وبعد ذلك جاء الأمر الإلهي بأن يكون قارئاً وإن لم يكن كاتباً ، فإنهُ سينزل عليه كتاب يقرؤه وإن كان لا يكتبه . ولذلك وصف الرب بالذي خلق ، أي : الذي أوجد الكائنات التي لا يحيط بها الوصف ، قادر أن يوجد فيك القراءة وإن لم يسبق لك تعلمها ؛ لأنك لم تكن تدري ما الكتاب . فكأن الله يقول : كن قارئاً بقدرتي وبإرادتي . وإنما عبر بالاسم ، لأنه كما سبق في سورة سبّح ، دال على ما تعرف به الذات ، وخلق القراءة يلفتك إلى الذات وصفاتها جميعاً ، لأن القراءة علم في نفس حية ؛ فهي تخط ببالك من الله وجودهُ وعلمه وقدرته وإرادته .
أما إذا حملنا الأمر على التكليف وقلنا : إن المعنى أنك مأمور إذا قرأت أن تقرأ باسم الله - وهو خلاف المتبادر - فيكون معنى ذلك : إذا قرأت فاقرأ دائماً على أن تكون قراءتك عملاً تنفذه لله لا لغيره ، فلو فرض أنهُ قرأ وجعل قراءتهُ لله لا لأحد سواه ولم يذكر الاسم ، فهو قارئ باسم الله ، وإنما طلبت التسمية باللسان لتكون منبهة للضمير في بداية كل عمل ، إلى أن يرجع إلى الله في ذلك العمل . ويلاحظ أنه يعمل لاسمه لا لاسم غيره سبحانه . انتهى . وهو جيد .
قال الإمام : أي : ومن كان قادراً على أن يخلق من الدم الجامد إنساناً ، وهو الحيّ الناطق الذي يسود بعلمه على سائر المخلوقات الأرضية ، ويسخرها لخدمته ، يقدر أن يجعل من الْإِنْسَاْن الكامل مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - قارئاً ، وإن لم يسبق له تعلم القراءة . وجاء بهذه الآية بعد سابقتها ، ليزيد المعنى تأكيداً ، كأنه يقول لمن كرر القول أنه ليس بقارئ : أيقن أنك قد صرت قارئاًً بإذن ربك الذي أوجد الكائنات ، وما القراءة إلا واحدة منها . والذي أنشأ الْإِنْسَاْن خلقاً كاملاً من دم جامد
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1622)(1/786)
لا شكل فيه ولا صورة . وإنما القراءة صفة عارضة على ذلك الْإِنْسَاْن الكامل ، فهي أولى بسهولة الإيجاد ، ولما كانت القراءة من الملكات التي لا تكسبها النفس إلا بالتكرار ، والتعوّد على ما جرت به العادة في الناس ، ناب تكرار الأمر الإلهي عن تكرار المقروء ، في تصييرها ملكة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فلهذا كرر الأمر بقوله : { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } وجملة { وَرَبُّكُ } إلخ استئنافية لبيان أن الله أكرم من كل من يرتجي منه الإعطاء ، فيسيرٌ عليه أن يفيض عليك هذه النعمة ، نعمة القراءة من بحر كرمه . ثم أراد أن يزيده اطمئناناً بهذه الموهبة الجديدة ، فوصف مانحها بأنه { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } أي : أفهم الناس بواسطة القلم كما أفهمهم بواسطة اللسان . والقلم آلة جامدة لا حياة فيها ، ولا من شأنها في ذاتها الإفهام ؛ فالذي جعل من الجماد الميت الصامت آلة للفهم والبيان ، ألا يجعل منك قارئاً مبيّناً وتالياً معلماً وأنت إنسان كامل ؟ ثم أراد أن يقطع الشبهة من نفسه ، ويبعد عنه استغراب أن يقرأ ولم يكن قارئاً ، فقال : { عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } أي : أن الذي صدر أمرهُ بأن تكون قارئاً ، وأوجد فيك ملكة القراءة والتلاوة ، وسيبلغك فيها مبلغاً لم يبلغهُ سواك ، هو الذي علم الْإِنْسَاْن جميع ما هو متمتع به من العلم ، وكان في بدء خلقه لا يعلم شيئاً ، فهل يستغرب من هذا المعلِّم الذي ابتدأ العلم للإنسان ولم يكن سبق له علم بالمرة ، أن يعلمك القراءة وعندك كثير من العلوم سواها ونفسك مستعدة بها لقبول غيرها ؟ انتهى .
قال الإمام ابن القيم في " مفتاح دار السعادة " في مباحث عجائب الْإِنْسَاْن وما خلقه من الحكم : ثم تأمل نعمة الله على الْإِنْسَاْن بالبيانين : البيان النطقي والبيان الخطي ، وقد اعتد بهما سبحانه في جملة ما اعتد به من نعمة على العبد ، فقال في أول سورة أنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَق ٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَم ُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } فتأمل كيف جمع في هذه الكلمات مراتب الخلق كلها ، وكيف تضمنت مراتب الوجودات الأربعة بأوجز لفظ وأوضحه وأحسنه ، فذكر أولاً عموم الخلق وهو إعطاء الوجود الخارجي ، ثم ذكر ثانياً خصوص خلق الْإِنْسَاْن لأنه موضع العبرة . والآية فيه عظيمة ، ومن شهوده عما فيه محض تعداد النعم . وذكر مادة خلقه هاهنا من العلقة . وفي سائر المواضع يذكر ما هو سابق عليها .
أما مادة الأصل وهو التراب والطين أو الصلصال الذي كالفخار ، أو مادة الفرع وهو الماء المهين ، وذكر في هذا الموضع أول مبادئ تعلق التخليق وهو العلقة ؛ فإنه كان قبلها نطفة فأول انتقالها إنما هو إلى العلقة ، ثم ذكر ثالثاً التعليم بالقلم الذي هو من أعظم نعمه على عباده ؛ إذ به تخلد العلوم وتثبت الحقوق وتعلم الوصايا وتحفظ الشهادات ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين الناس ، وبه تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين ، ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض(1/787)
الأزمنة عن بعض ، ودرست السنن وتخبطت الأحكام ، ولم يعرف الخلف مذاهب السلف ، وكان معظم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم ، إنما يعتريهم من النسيان الذي يمحور صور العلم من قلوبهم ؛ فجعل لهم الكتاب وعاء حافظاً للعلم من الضياع ، كالأوعية التي تحفظ الأمتعة من الذهاب والبطلان ؛ فنعمة الله عز وجل بتعليم القلم بعد القرآن من أجلِّ النعم ، والتعليم به - وإن كان مما يخلص إليه الْإِنْسَاْن بالفطنة والحيلة - فإن الذي بلغ به ذلك وأوصله إليه عطية وهبها الله منه ، وفضل أعطاه الله إياه ، وزيادة في خلقه وفضله . فهو الذي علمه الكتابة ، وإن كان هو المتعلم ففعله فعل مطاوع لتعليم الذي علم بالقلم ، فإنه علمه فتعلّم كما أنه علمه الكلام فتكلم ، هذا ومن أعطاه الذهن الذي يعي به ، واللسان الذي يترجم به ، والبنان الذي يخطّ به ، ومن هيأ ذهنهُ لقبول هذا التعلم دون سائر الحيوانات ، ومن الذي أنطق لسانه وحرك بنانه ، ومن الذي دعم البنان بالكف ، ودعم الكف بالساعد ؛ فكم لله من آية نحن غافلون عنها في التعليم بالقلم ؛ فقف وقفة في حال الكتابة وتأمل حالك وقد أمسكت القلم وهو جماد ، ووضعته على القرطاس وهو جماد ، فتولد من بينهما أنواع الحكم وأصناف العلوم وفنون المراسلات والخطب والنظم والنثر ، وجوابات المسائل .
فمن الذي أجرى فلك المعاني على قلبك ، ورسمها في ذهنك ، ثم أجرى العبارات الدالة عليها على لسانك ، ثم حرك بها بنانك حتى صارت نقشاً عجيباً ، معناهُ أعجب من صورته ، فتقضي به مآربك وتبلغ به حاجة في صدرك ، وترسلهُ إلى الأقطار النائية والجهات المتباعدة ، فيقوم مقامك ، ويترجم عنك ، ويتكلم على لسانك ويقوم مقام رسولك ، ويجدي عليك ما لا يجدي من ترسلهُ ، سوى من علم بالقلم عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ؟ والتعليم بالقلم يستلزم المراتب الثلاثة : مرتبة الوجود الذهني والوجود اللفظي والوجود الرسمي ، فقد دل التعليم بالقلم أنه سبحانه هو المعطي لهذه المراتب .ودل قوله : { خَلَقَ } على أنه يعطي الوجود العيني . فدلت هذه الآيات - مع اختصارها ووجازتها وفصاحتها - على أن مراتب الوجود بأسرها مسندة إليه تعالى خلقاً وتعليماً . وذكر من صفاته ها هنا اسم { الْأَكْرَمُ } الذي هو فيه كل خير وكل كمال ، فله كل كمال وصفاً ، ومنه كل خير فعلاً . فهو { الْأَكْرَمُ } في ذاته وأوصافه وأفعاله ، وهذا الخلق والتعليم إنما نشأ من كرمه وبره وإحسانه ، لا من حاجة دعتهُ إلى ذلك ، وهو الغني الحميد .
قال الإمام : لا يوجد بيان أبرع ولا دليل أقطع على فضل القراءة والكتابة والعلم بجميع أنواعه من افتتاح الله كتابه وابتدائه الوحي بهذه الآيات الباهرات . فإن لم يهتد المسلمون بهذا الهدى ، ولم ينبههم النظر فيه إلى النهوض إلى تمزيق تلك الحجب التي حجبت عن أبصارهم نور العلم ، وكسر تلك الأبواب التي غلقها عليهم رؤساؤهم وحبسوهم بها في ظلمات من الجهل ، وإن لم يسترشدوا بفاتحة هذا الكتاب المبين ، ولم يستضيئوا بهذا الضياء الساطع ، فلا أرشدهم الله ابداً(1/788)
قال الرازي : في قوله : { بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } إشارة إلى الدلالة العقلية الدالة على كمال القدرة والحكمة والعلم والرحمة . وفي قوله : { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } إشارة إلى الأحكام المكتوبة التي لا سبيل على معرفتها إلا بالسمع ، فالأول كأنه إشارة إلى معرفة الربوبية . والثاني إلى النبوّة . وقدم الأول على الثاني تنبيهاً على أن معرفة الربوبية غنية عن النبوة ، وأما النبوة فإنها محتاجة إلى معرفة الربوبية . دلت الآية على قاعدة عظيمة في باب التموّل المحمود ، قررها الحكماء المصلحون ، وهو أن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير . قالوا : لأن إفراط الثروة مهلكة للأخلاق الحميدة في الْإِنْسَاْن ، كما نطقت به الآية الكريمة .
قال بعض الحكماء : التحول لأجل الحاجات وبقدرها ، محمود بثلاثة شروط ، وإلا كان حرص التمول من أقبح الخصال :
الشرط الأول : أن يكون إحراز المال بوجه مشروع حلال ، أي : إحرازه من بذل الطبيعة أو بالمعارضة أو في مقابل عمل .
والشرط الثاني : أن لا يكون في التمول تضييق على حاجات الغير ، كاحتكار الضروريات ، أو مزاحمة الصناع والعمال الضعفاء ، أو التغلب على المباحات ، مثل امتلاك الأراضي التي جعلها خالقها ممرحاً لكافة مخلوقاته . وهي أمهم ترضعهم لبن جهازاتها وتغذيهم بثمراتها وتؤويهم في حضن أجزائها .
الشرط الثالث : لجواز التمول هو أن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير ، وإلا فسدت الأخلاق . ولذلك حرمت الشرائع السماوية كلها ، والحكمة السياسية والأخلاقية والعمرانية أكل الربا ؛ وذلك لقصد حفظ التساوي والتقارب بين الناس في القوة المالية ؛ لأن الربا كسب بدون مقابل ماديّ ، ففيه معنى الغضب ، وبدون عمل ، ففيه الألفة على البطالة المفسدة للأخلاق ، وبدون تعرض لخسائر طبيعية كالتجارة والزراعة والأملاك . دع أن بالربا تربو الثروات ، فيختل التساوي بين الناس ، كما تقدم بيانه في أواخر سورة البقرة . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- تقرير الوحي الإِلهي وإثبات النبوة المحمدية .
2- مشروعية ابتداء القراءة بذكر اسم الله ولذا افتتحت سور القرآن ما عدا التوبة ببسم الله الرحمن الرحيم .
3- بيان لطور النطفة في الرحم إلى علقة ومنها يتخلق الإِنسان .
4- إعظام شأن الله تعالى وعظم كرمه فلا أحد يعادله في الكرم .
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 266)(1/789)
5- التنويه بشأن الكتابة والخط بالقلم إذ المعارف والعلوم لم تدون إلا بالكتابة والقلم .
6- بيان فضل الله تعالى على الإنسان في تعليمه ما لم يكن يعلم بواسطة الكتابة والخط .،فقد أمر اللَّه تعالى أيضا بتعلم القراءة والكتابة لأنهما أداة معرفة علوم الدين والوحي ، وإثبات العلوم السمعية ونقلها بين الناس ، وأساس تقدم العلوم والمعارف والآداب والثقافات ، ونمو الحضارة والمدنية.
7- بيان قدرة اللَّه تعالى بالخلق ، فهو الخالق ، والتنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة : قطعة دم جامد رطب غير جاف. وهذه الآيات الكريمات أول شيء نزل من القرآن ، وهن أول رحمة من اللَّه لعباده وأول نعمة أنعم اللَّه بها عليهم.
8- أمر اللَّه سبحانه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن يقرأ القرآن باسم ربّه الذي خلق ، واسم الذي علّم الإنسان ما لم يعلم.
9-من كرم اللَّه تعالى وفضله : أن الإنسان ما لم يكن يعلمه ، لينقله من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، فقد شرّفه وكرّمه بالعلم ، وبه امتاز أبو البرية آدم على الملائكة ، والعلم إما بالفكر والذهن ، وإما باللسان ، وإما بالكتابة بالبنان. قال قتادة : القلم نعمة من اللَّه تعالى عظيمة ، لو لا ذلك لم يقم دين ، ولم يصلح عيش.
وفضائل الكتابة والخط كثيرة ، فحيث منّ اللَّه على الإنسان بالخط والتعليم ، مدح ذاته بالأكرمية ، فقال : وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي علّم الإنسان بواسطة القلم ، أو علّمه الكتابة بالقلم.
مع أنه سبحانه حين عدد على الإنسان نعمة الخلق والتسوية وتعديل الأعضاء الظاهرة والباطنة ، وصف نفسه بالكرم قائلا : يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ، ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ ، فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار 82/ 6- 7].
عَنْ أَبِى حَفْصَةَ قَالَ قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لاِبْنِهِ يَا بُنَىَّ إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ اكْتُبْ. قَالَ رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ قَالَ اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ». يَا بُنَىَّ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّى ». (1) .
وقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ سُلَيْمٍ قَدِمْتُ مَكَّةَ فَلَقِيتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِى رَبَاحٍ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ يَقُولُونَ فِى الْقَدَرِ. قَالَ يَا بُنَىَّ أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ فَاقْرَإِ الزُّخْرُفَ. قَالَ فَقَرَأْتُ (حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِى أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ) فَقَالَ
__________
(1) - سنن أبى داود (4702 ) صحيح(1/790)
أَتَدْرِى مَا أُمُّ الْكِتَابِ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ فَإِنَّهُ كِتَابٌ كَتَبَهُ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَقَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الأَرْضَ فِيهِ إِنَّ فِرْعَوْنَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَفِيهِ (تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ) قَالَ عَطَاءٌ فَلَقِيتُ الْوَلِيدَ بْنَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلْتُهُ مَا كَانَ وَصِيَّةُ أَبِيكَ عِنْدَ الْمَوْتِ قَالَ دَعَانِى أَبِى فَقَالَ لِى يَا بُنَىَّ اتَّقِ اللَّهَ وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تَتَّقِىَ اللَّهَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ فَإِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ اكْتُبْ. فَقَالَ مَا أَكْتُبُ قَالَ اكْتُبِ الْقَدَرَ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الأَبَدِ ». (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : " إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلْقَهُ اللَّهُ الْقَلَمُ ، فَقَالَ لَهُ : اكْتُبْ ، فَقَالَ : وَمَا أَكْتُبُ ؟ فَقَالَ : الْقَدَرُ ، فَجَرَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ ، قَالَ : وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ فَارْتَفَعَ بُخَارُ الْمَاءِ فَفُتِقَتْ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ فَبُسِطَتِ الْأَرْضُ عَلَيْهِ ، وَالْأَرْضُ عَلَى ظَهْرِ النُّونِ فَاضْطَرَبَ النُّونُ فَمَادَتِ الْأَرْضُ ، فَأُثْبِتَتْ بِالْجِبَالِ ، فَإِنَّ الْجِبَالَ تَفْخَرُ عَلَى الْأَرْضِ " (2)
وكانت أمّية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم تعليمه من اللَّه أثبت لمعجزته بين العرب الأميين ، وأقوى في حجته.
10- أخبر اللَّه تعالى عن طبع ذميم في الإنسان وهو أنه ذو فرح وأشر ، وبطر وطغيان إذا رأى نفسه قد استغنى ، وكثر ماله.لذا هدده اللَّه وتوعده ووعظه ليضبط طغيانه ويوقف تهوره بإخباره بأنه إلى اللَّه المصير والمرجع ، وسيحاسب كل إنسان على ماله ، من أين جمعه ، وفيم صرفه وأنفقه.وأصل نزول الآية في أبي جهل عند أكثر المفسرين ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
11- أول السورة يدل على مدح العلم ، وآخرها يدل على مذمة المال ، وكفى بذلك مرغبا في الدين ، ومنفرا عن الدنيا والمال (3) .
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - سنن الترمذى (2308 ) صحيح
(2) - الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (3799 ) صحيح
(3) - تفسير الرازي : 32/ 9(1/791)
صور أخرى من الطغيان وتهديد الطغاة ووعيدهم
قال تعالى :
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
سبب نزول آية 11 أرأيت الذي ينهى
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ أَبُو جَهْلٍ : هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ؟ قَالَ فَقِيلَ : نَعَمْ ، فَقَالَ : وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ ، أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ ، قَالَ : فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي ، زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ ، قَالَ : فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ ، قَالَ : فَقِيلَ لَهُ : مَا لَكَ ؟ فَقَالَ : إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا " قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ، أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ، عَبْدًا إِذَا صَلَّى ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى - يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ - أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ، كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ ، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ، فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ، كَلَّا لَا تُطِعْهُ " (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ أَبُو جَهْلٍ : هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ، فَبِالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ ، فَأَتَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ. قَالَ : فَمَا فَجَأَهُمْ إِلاَّ أَنَّهُ يَتَّقِي بِيَدِهِ ، وَيَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ ، فَأَتَوْهُ ، فَقَالُوا : مَا لَكَ يَا أَبَا الْحَكَمِ ؟ قَالَ : إِنَّا بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلاً وَأَجْنِحَةً. قَالَ أَبُو الْمُعْتَمِرِ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ : {أَرَأَيْتَ الَّذِيَ يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق] إِلَى آخِرِهِ {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق] ، قَالَ قَوْمُهُ : {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق] قَالَ الْمَلاَئِكَةُ : {لاَ تُطِعْهُ} [العلق] ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِمَا أَمَرَهُ مِنَ السُّجُودِ فِي آخِرِ السُّورَةِ ، قَالَ : فَبَلَغَنِي عَنِ الْمُعْتَمِرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَوْ دَنَا مِنِّي لاَخْتَطَفَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا." (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي ، فَجَاءَهُ أَبُو جَهْلٍ ، فَنَهَاهُ أَنْ يُصَلِّيَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : أَرَأَيْتَ الَّذِيَ يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى إِلَى قَوْلِهِ : كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَقَالَ : لَقَدْ عَلِمَ أَنِّي أَكْثَرُ هَذَا
__________
(1) - صَحِيحُ مُسْلِمٍ (7243 )
(2) - صحيح ابن حبان - (14 / 532) (6571) صحيح(1/792)
الْوَادِي نَادِيًا ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ ، قَالَ دَاوُدُ : وَلَمْ أَحْفَظْهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَوَاللَّهِ لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ مَكَانِهِ "
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ أَبُو جَهْلٍ : هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ؟ قَالَ : فَقِيلَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَقَالَ : وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يُصَلِّي كَذَلِكَ ، لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتَهُ ، لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ ، قَالَ : فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ ، قَالَ : فَمَا فَجَأَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ ، وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ ؛ قَالَ : فَقِيلَ لَهُ : مَا لَكَ ؟ قَالَ : فَقَالَ : إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقًا مِنْ نَارٍ ، وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً ؛ قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا " قَالَ : وَأَنْزَلَ اللَّهُ ، لَا أَدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَمْ لَا : كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى أَرَأَيْتَ الَّذِيَ يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى يَعْنِي أَبَا جَهْلِ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ يَدْعُو قَوْمَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ الْمَلَائِكَةَ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ *
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ أَبُو جَهْلٍ : لَئِنْ عَادَ مُحَمَّدٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ لَأَقْتُلَنَّهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ حَتَّى بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ : لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ فَجَاءَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي ، فَقِيلَ لَهُ : مَا يَمْنَعُكُ ؟ قَالَ : " قَدِ اسْوَدَّ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنَ الْكَتَائِبِ " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَاللَّهِ لَوْ تَحَرَّكَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ" (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : " صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَجَاءَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ : أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذَا ؟ ، وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا بِهَا نَادٍ أَكْثَرُ مِنِّي ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَاللَّهِ لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ الزَّبَانِيَةُ " (2)
المناسبة :
بعد أن أبان سبحانه في مطلع السورة مظاهر القدرة الإلهية ، وعدد نعمه ومننه العظمى على الإنسان بتعليمه القراءة والكتابة وما لم يعلم ، ذكر السبب الحقيقي لكفر الإنسان وطغيانه وبغيه وهو حب الدنيا والثورة والاغترار بها ، مما شغله عن النظر في آيات اللَّه وشكر نعمه.
ثم ذكر صورا أخرى من طغيان الإنسان وهي النهي عن الصلاة والعبادة ، وهل يأمر بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان ؟ وتكذيبه بالحق والتولي عن الدين والإيمان.
وناسب بعد هذا تهديده ووعيده بالعقاب الشديد والنكال الأليم يوم العرض والحساب ، من غير أن يجد نصيرا ينصره أو معينا يمنعه من العذاب.
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ(34979 -34981) صحيح
(2) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي(10304) صحيح(1/793)
وختمت السورة بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم طاعة هذا الطاغية ، والإقبال على عبادة ربه ، والتقرب إليه بالطاعة. (1)
المفردات :
9،10 ... الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى ... أبو جهل عمرو بن هشام كان ينهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة
15 ... لَئِنْ لَّمْ يَنْتَهِ ... أبو جهل عن أذية ررسول الله - صلى الله عليه وسلم -
15 ... لِنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ ... لنأخذن بناصيته إلى النار
17 ... فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ... ليدع قومه ورجال مجلسه
18 ... سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةِ ... خزنة جهنم
19 ... كَلا ... ارتدع أيها الكاذب الكافر
المعنى الإجمالي:
بعد أن ذكر سبحانه فى مطلع السورة دلائل التوحيد الظاهرة ، ومظاهر القدرة الباهرة ، وعلامات الحكمة ، ودقة الصنع ، وكان ذلك كله بحيث يبتعد من العاقل ألا يلتفت إليه ، أتبعه جل شأنه ببيان السبب الحقيقي فى طغيان الإنسان وتكبر وتماديه ، وهو حبه للدنيا ، واشتغاله بها ، وجعلها أكبر همه ، وذلك يعمى قلبه ، ويجعله يغفل عن خالقه ، وما يجب له في عنقه من إجلال وتعظيم ، وقد كان ينبغى أن يكون حين الغنى والميسرة ، وكثرة الأعوان ، واتساع الجاه ، أشد حاجة إلى اللّه منه فى حال الفقر والمسكنة ، لأنه فى حال فقره لا يتمنى إلا سلامة نفسه وأعضائه ، أما فى حال الغنى فيتمنى ذلك ويتمنى سلامة مماليكه وأتباعه وأمواله.
ألا يعلم أنه راجع إلى ربه فمجازيه على ما يعمل ؟ وقد بلغ من حمقه أن يأمر وينهى ، وأنه يوجب على غيره طاعته ، ثم هو بعد ذلك يعرض عن طاعة ربه.
أما ينبغى له أن يهتدى ويشتغل بأمر نفسه ؟ فمن كان ذا عقل ورأى وثروة وجاه وأعوان ، واختار الهدى ، وتخلق بأخلاق المصلحين ، كان ذلك خيرا له ، وأجدى.
وإنا لننكلنّ به نكالا شديدا فى العاجلة ، ونهيننّه يوم العرض والحساب ، وليدع أمثاله من المغرورين ، فإنهم لن يمنعوه ، ولن ينصروه ثم ختم السورة بأمره بالتوفر على عبادة ربه فعلا وإبلاغا للناس ، مبتغيا بذلك القربى منه. (2)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 324)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 201)(1/794)
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى حقا إن الإنسان ليطغى ويتكبر ويتمادى في الإثم لأنه رأى نفسه قد استغنت عن الغير بكثرة المال والأولاد ، وما كان له ذلك! إن إلى ربك وحده الرجوع يوم القيامة فسوف يحاسبه على ذلك حسابا شديدا.
لعلك تسأل عن تناسق الآيات ؟ فأقول لك : لما ذكر اللّه فيما ذكر بعض مظاهر القدرة والعلم وكمال النعم التي أنعم بها على الإنسان ، ومقتضى ذلك ألا يكفر به أحد ، ولكن الإنسان كفر وبغى فأراد اللّه أن يبين السبب فقال ما معناه : إنه حب الدنيا والغرور بها والحرص عليها حتى تشغله عن النظر في الآيات الكبرى! بعد أن أمر اللّه نبيه بأن يتلو ما أوحى إليه من الكتاب وأبان له سبب كفر الإنسان ضرب له مثلا برأس من رءوس الكفر قيل : هو أبو جهل ، وإن كانت الآية عامة.
أخبرنى يا محمد عن الذي ينهى عبدا خاضعا للّه يصلى له ، ما شأنه ؟ إن شأنه لعجيب شخص يكفر ويعصى ربه ، ينهى عن الخير وخاصة الصلاة أخبرنى عن حاله لو كان من أصحاب اليمين ، وكان من السابقين المهتدين ثم يأمر بالتقوى والخير ما شأن هذا ؟ إن حاله يكون عجيبا لأنه يستحق المثوبة الكبرى في جنة المأوى.
أخبرنى إن كذب إنسان وأعرض عن الحق وتولى وأعطى نفسه كل ما تتمنى!! ألم يعلم هؤلاء بأن اللّه يرى ، قروا واعترفوا بأن اللّه يعلم الغيب والشهادة وسيجازى كلا على عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، ففروا أيها الناس إلى اللّه وتوبوا إليه واعملوا على مرضاته.
كلا : كلمة ردع وزجر لمن يعصى اللّه مطلقا ، فأقسم لئن لم ينته هؤلاء الكفار أو العصاة عن أفعالهم لنعذبنهم عذابا شديدا ، ولنذلنهم إذلالا يتناسب مع تكبرهم في الدنيا وما ذلك على اللّه بعزيز. لنجذبن تلك الناصية بشدة ، تلك الناصية التي طالما كذبت لغرورها بقوتها واعتقادها أنها تمتنع عن اللّه الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهذا كذب بلا شك ، وقد أخطأت لأنها تجاوزت حدها وأساءت إلى غيرها وخاصة الأبرار الصادقين ، سنفعل مع صاحبها كل إهانة فليدع أهل ناديه ليدفعوا عنه شيئا!! بل سندعو الزبانية ، أى : سيدعو اللّه زبانية جهنم يدفعونه دفعا لها يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [سورة الطور آية 13] وليس له شفيع ولا نصير.
كلا - ردع للكافر عن عمله - لا تطعه أيها الرسول واسجد للّه دائما وتقرب إليه بالعبادة فإنها الحصن والوقاية ، وطريق النجاح. (1)
التفسير والبيان :
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 885)(1/795)
أخبر اللَّه تعالى عن حالات قبيحة جدا من أحوال الطغاة وهي :
1- أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى ، عَبْداً إِذا صَلَّى ؟ أي أخبرني عن حال هذا الطاغية المغرور وهو أبو جهل وأمثاله ، كيف يجرأ على أن ينهى عبدا هو محمد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه عن أداء الصلاة والعبادة للَّه رب العالمين ، ويريد طاعته في عبادة الأوثان ، وترك عبادة الخالق الرزاق ؟ وتنكير كلمة عَبْداً يدل على كونه كاملا في العبودية. والمراد بالآية : ما أجهل من ينهى أشد الخلق عبودية عن الصلاة ، وذلك مذموم عند العقلاء.
وأخذ أبو حنيفة منه هذا الأدب الجميل حين قال أبو يوسف : أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع : اللهم اغفر لي ؟ فقال : يقول : ربنا لك الحمد ، ويسجد ، ولم يصرح بالنهي عن الدعاء (1) .
2- أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى ، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى ؟ أي أخبرني أيضا عن حال هذا الطاغية الناهي ، إن كان على طريق سديد فيما ينهى عنه من عبادة اللَّه تعالى ، أو هل هو آمر بالتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان ، كما يعتقد ؟
والأكثرون على أن الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا ، ليكون الكلام على نسق واحد. وقيل : الخطاب للكافر ، والمعنى : أرأيت يا كافر إن كانت صلاة هذا العبد المنهي هدى ، ودعاؤه إلى الدين أمرا بالتقوى ، أتنهاه مع ذلك ؟
والتقوى : الإخلاص والتوحيد والعمل الصالح الذي تتقى به النار. ويتصور هذا كأن الظالم والمظلوم حضرا عند الحاكم ، أحدهما المدعي ، والآخر المدعى عليه ، ثم خاطب هذا مرة ، أي في الكلام الأول : أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى وهذا مرة أي في الكلام الثاني : أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى ...
3- أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أي أخبرني يا محمد عن حال هذا الكافر أبي جهل إن كذب بدلائل التوحيد الظاهرة ، ومظاهر القدرة الباهرة ، وبما جاء به رسول اللَّه ، وأعرض عن الإيمان بدعوتك ؟ والجواب فيما دل عليه ما يأتي : ألم يعلم بعقله أن اللَّه يرى منه هذه الأعمال القبيحة ، وأنه سيجازيه ويحاسبه على جرائمه ؟
وهذا على رأي الأكثرين في أن الخطاب في أَرَأَيْتَ في المواضع الثلاثة للنبي - صلى الله عليه وسلم - . فإن كان الخطاب للكافر فالمراد بالآية الثالثة : إن كان محمد كاذبا أو متوليا عن الحق ، ألا يعلم أن خالقه يراه حتى ينتهي ، فلا يحتاج إلى نهيك ؟
__________
(1) تفسير الرازي : 32/ 21 ، غرائب القرآن : 30/ 136(1/796)
قال العلماء : هذه الآية وإن نزلت في حق أبي جهل ، إلا أن كل من ينهى عن طاعة اللَّه فهو شريك في وعيد أبي جهل.
ثم جاء الزجر والتهديد والوعيد بصيغ مختلفة مبالغ فيها ، وبعضها أشد من بعض :
1- أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى أي أما علم هذا الناهي لهذا المهتدي أن اللَّه يراه ويسمع كلامه ويطلع على أحواله ، وسيجازيه بها أتم الجزاء ، فكيف اجترأ على ما اجترأ عليه ؟ !
2- كَلَّا ، لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ، ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ أي ليرتدع وينزجر هذا الناهي عن البرّ والعبادة للَّه تعالى ، فواللَّه لئن لم ينته عما هو عليه ولم ينزجر عن الشقاق والعناد ، لنأخذن بناصيته ، ولنجرّنه إلى النار.
والناصية : شعر مقدم الرأس ، وصاحبها كاذب خاطئ مستهتر بفعل الخطايا والذنوب.
وفي هذا توعد شديد ، وتهديد أكيد عن طغيان هذا الطاغية.
3- فَلْيَدْعُ نادِيَهُ ، سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ أي فليدع هذا الناهي أهل ناديه أي قومه وعشيرته ، ليستنصر بهم ويعينوه ، والنادي : المجلس الذي يجتمع فيه القوم أو الأهل والعشيرة ، فإنه إن دعاهم لنصرته ، تعرض لسخط ربه وعقابه الأشد ، وسندعو له حينئذ الزبانية ، أي الملائكة الغلاظ الشداد ، ليأخذوه ويلقوه في نار جهنم. وفي هذا تحدّ بالغ.
قال الطبري : وَقَوْلُهُ : فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ : فَلْيَدْعُ أَبُو جَهْلٍ أَهْلَ مَجْلِسِهِ وَأَنْصَارَهُ ، مِنْ عَشِيرَتِهِ وَقَوْمِهِ ، وَالنَّادِي : هُوَ الْمَجْلِسُ وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ فِيمَا بَلَغَنَا ، لِأَنَّ أَبَا جَهْلٍ لَمَّا نَهَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْمَقَامِ ، انْتَهَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَغْلَظَ لَهُ ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ : عَلَامَ يَتَوَعَّدُنِي مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْوَادِي نَادِيًا ؟ فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ فَلْيَدْعُ حِينَئِذٍ نَادِيَهُ ، فَإِنَّهُ إِنْ دَعَا نَادِيَهُ ، دَعَوْنَا الزَّبَانِيَةَ ".
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ ، فَمَرَّ بِهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذَا ؟ وَتَوَعَّدَهُ ، فَأَغْلَظَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَانْتَهَرَهُ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ بِأَيِّ شَيْءٍ تُهَدِّدُنِي ؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَكْثَرُ هَذَا الْوَادِي نَادِيًا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَوْ دَعَا نَادِيَهُ ، أَخَذَتْهُ زَبَانِيَةُ الْعَذَابِ مِنْ سَاعَتِهِ
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي ، فَجَاءَهُ أَبُو جَهْلٍ ، فَنَهَاهُ أَنْ يُصَلِّيَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : أَرَأَيْتَ الَّذِيَ يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى إِلَى قَوْلِهِ : كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَقَالَ : لَقَدْ عَلِمَ أَنِّي أَكْثَرُ هَذَا الْوَادِي نَادِيًا ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ ، قَالَ دَاوُدُ : وَلَمْ أَحْفَظْهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَوَاللَّهِ لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ مَكَانِهِ "
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ أَبُو جَهْلٍ : هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ؟ قَالَ : فَقِيلَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَقَالَ : وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يُصَلِّي كَذَلِكَ ، لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتَهُ ، لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي(1/797)
التُّرَابِ ، قَالَ : فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ ، قَالَ : فَمَا فَجَأَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ ، وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ ؛ قَالَ : فَقِيلَ لَهُ : مَا لَكَ ؟ قَالَ : فَقَالَ : إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقًا مِنْ نَارٍ ، وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً ؛ قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا " قَالَ : وَأَنْزَلَ اللَّهُ ، لَا أَدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَمْ لَا : كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى أَرَأَيْتَ الَّذِيَ يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى يَعْنِي أَبَا جَهْلِ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ يَدْعُو قَوْمَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ الْمَلَائِكَةَ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ "
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ أَبُو جَهْلٍ : لَئِنْ عَادَ مُحَمَّدٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ لَأَقْتُلَنَّهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ حَتَّى بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ : لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ فَجَاءَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي ، فَقِيلَ لَهُ : مَا يَمْنَعُكُ ؟ قَالَ : " قَدِ اسْوَدَّ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنَ الْكَتَائِبِ " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَاللَّهِ لَوْ تَحَرَّكَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ "
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ أَبُو جَهْلٍ : لَئِنْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ ، لَآتِيَنَّهُ حَتَّى أَطَّأَ عَلَى عُنُقِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا " وَبِالَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى النَّادِي قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ " (1) .
4- كَلَّا ، لا تُطِعْهُ ، وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ أي إياك يا محمد أن تجامل هذا الطاغية في شيء ، أو تطيعه فيما دعاك إليه من ترك الصلاة كما قال : فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [القلم 68/ 8] ، وصل للَّه غير مكترث به ، ولا مبال بتهديده أو نهيه ، وتقرب إلى اللَّه سبحانه بالطاعة والعبادة ، فذلك يكسبك قوة وعزة ، ومنعة وهيبة في قلوب الأعداء ، والعبادة هي الحصن والوقاية ، وطريق النجاة والنجاح والنصر.
وقوله : كَلَّا ردع لأبي جهل عن قبائح أحواله وأفعاله. والمراد بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طاعة أبي جهل : قطع كل الصلات والعلاقات معه ، والمراد بالأمر بالسجود : أن يزداد غيظ الكافر.
وهذا تهكم بهذا الطاغية ، واستخفاف به ، وتعريض بأن اللَّه سبحانه وتعالى عاصم نبيه وحافظه.
ومضات :
قوله تعالى : « أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى »..وهذه صورة لهذا الإنسان الذي طغى ، حين رأى نفسه ذاقوة وسلطان .. إنه لا يؤمن باللّه ، ولا يقف موقف الأولياء منه ، بل إنه
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ(34978 -34982) صحيح(1/798)
ليحارب المؤمنين باللّه ، ويحول بينهم وبين أداء ما للّه سبحانه وتعالى عليهم من حق .. فجرم هذا الطاغية جرم مضاعف .. فلا هو يؤمن باللّه ، ولا يؤدى حق ربه عليه ، ولا يدع المؤمنين يؤدّون حق ربهم عليهم .. والاستفهام هنا تعجب من الأمر المستفهم عنه ، وتشنيع على فاعله ، ودعوة الناس إلى ضبطه وهو قائم على هذا المنكر ، متلبس به!!
وفى جعل فاصلة الآية الفعل : « ينهى » وفى قطع الفعل « ينهى » عن معموله ، وهو « عبدا إذا صلى » ـ فى هذا تشنيع على طغيان هذا الطاغية فإذا ..
استمع مستمع إلى قوله تعالى : « أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى » ـ وقع فى تفكيره لأول وهلة ، أن هذا الإنسان إنما ينهى عن منكر ، لأن هذا هو شأن ما ينهى عنه .. فإذا فاجأه الخبر بأن ما ينهى عنه هذا الآثم ، إنما هو الصلاة والولاء للّه رب العالمين اشتد إنكاره له ، وتضاعفت جريمته عنده ..
والنهى هنا بمعنى المنع ، لأن الذي يملك النهى عن فعل الشيء ، يملك منع المنهىّ عن فعله ، إذ النهى فى حقيقته لا يكون إلا من ذى سلطان متمكن ممن ينهاه ، ويقدر على منعه مما نهاه عنه.
وفى قوله تعالى : « عبدا » ـ إشارة إلى أن هذا المنهي عن الصلاة ، هو فى مقام العبودية والولاء لربه .. فهو عبد ، ولكنه سيد الأسياد جميعا فى هذه الدنيا ، إذ كان عبد اللّه رب العالمين ..
وقوله تعالى : « أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى . أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى ؟ » « أرأيت » هنا ، استفهام إنكارى ، بمعنى ماذا ترى من حال هذا الأثيم الذي ينهى عبدا عن الصلاة ، ويحول بينه وبينها ؟ ثم أرأيت لو أنه كان فى موقف آخر غير هذا الموقف ، فكان قائما على طريق الهدى ، مؤمنا بربه ، مواليا له ، آمرا بالبر والتقوى بدلا من نهيه عن البر والتقوى ؟ فاىّ حاليه كان خيرا له وأهدى سبيلا ؟ أحال الضلال ، والعمى ، والصد عن سبيل اللّه ، أم حال الاستقامة والهدى والدعوة إلى اللّه ؟ وشتان بين الظلام والنور ، والشر والخير ، والكفر والإيمان! وقوله تعالى :« أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى ».أي ثم ماذا ترى من حال هذا الضال ، وقد أبى أن يكون على الهدى أو يأمر بالتقوى ، بل كذب بآيات اللّه ، وتولى معرضا عمن دعاه إلى اللّه ، ورفع لعينيه مصابيح الهدى ؟ فأى إنسان هذا ؟ وبأى نظر ينظر ، وبأى عقل يفكر ويميز بين الخير والشر ؟ « أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى » ؟ أسفه نفسه حتى أنكر أن لهذا الوجود إلها قائما عليه ، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ؟ ألا يخاف بأس اللّه ؟ ألا يخشى عقابه ؟
وقوله تعالى : « كَلَّا .. لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ ». هو ردّ على هذا السؤال فى قوله تعالى : « أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى ».وكلا ، إنه لا يعلم بأن اللّه مطلع على كل(1/799)
شىء ، ولو كان يعلم هذا علما مستيقنا لخاف ربه وخشى بأسه ، ولكن ضلاله أعمى قلبه ، وأظلم بصيرته ، فلم يرى جلال اللّه ، ولم يشهد عظمته ، ولم يخش بأسه! وقوله تعالى : « لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ » هو وعيد وتهديد لهذا الضال إن لم ينزع عن ضلاله ، ويرعو عن غيه ، ويثوب إلى رشده ، ويؤمن بربه ، ويستقم على الهدى ـ لنسفعن بناصيته ، أي لنجرنّه من رأسه جرّا إلى جهنم كما يقول سبحانه : « يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ »..
وفى هذا امتهان أي امتهان ، وإذلال أي إذلال لهذا المتشامخ بأنفه ، المتطاول برأسه! وقوله تعالى : « ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ » أي هى رأس فارغة من كل خير ، حشوها الكذب والضلال ، ونبتها الخطيئة والإثم ، فكانت النار أولى بها ، حطبا ووقودا.
وقوله تعالى : « فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ ».أي ها نحن أولاء آخذون بناصية هذا العتلّ الأثيم إلى جهنم كما يؤخذ برأس الكبش من قرونه ، فليهتف بناديه أي أهل النادي الذي يأخذ مجلسه بينهم ، ويدير أحاديث الإثم والضلال عليهم .. أما نحن فسندعو الزبانية الذين يأخذون بناصيته إلى جهنم .. فهل من أصحابه من يخفّ له ، ويسعى إلى تخليصه من يد الزبانية ؟ هيهات هيهات .. لقد علقت أيديهم به ، ولن يفلت حتى يلقى به فى جهنم ، مع جماعة السوء الذين انضوى إليهم ، واعتزّ بهم ..
وقوله تعالى : « كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ »..هو رد على قوله تعالى : « أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى » أي لا تسمع لنهى هذا الغوى ، ولا تخش بأسه .. إنه مأخوذ بناصيته إلى جهنم بيد الزبانية .. وإذن فاسجد لربك واقترب منه بهذا السّجود .. كما يقول الرسول الكريم : « أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ».
والزبانية ، جمع زبنيه ، أو زبنى .. وأصله من الزّبن ، وهو الدفع ..
يقال زبنه ، أي دفعه ليزيله عن موضعه .. وهم ملائكة العذاب الموكلون بأهل النار يدعّونهم إلى جهنم دعّا ..
قيل إن هذه الآيات نزلت فى أبى جهل ، وقد كان يعترض النبىّ فى الصلاة ، ويترصد له ، ويتهدده كلما ألمّ بالبيت الحرام .. وقد جاء فى الخبر أن أبا جهل قال : لئن رأيت محمد يصلى عند الكعبة لأطأن عنقه .. فجاءه من يقول له : إن محمدا يصلى فى الكعبة ، فاتجه إليه يريد أن يفعل فعلته ، فما كاد يقارب النبىّ حتى رأى فحلا هائجا يريد أن ينقض عليه ، فولّى مذعورا مبهورا .. فلما رأى القوم منه ذلك ، سألوه ما به .. فقص عليهم ما رأى .. ولما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم -(1/800)
ذلك قال : « لو فعل لأخذته الملائكة » !! والخطاب مع هذا عام ، لكل من هو أهل للخطاب. (1)
قال الإمام : كلمة أرأيت صارت تستعمل في معنى أخبرني ، على أنها لا يقصد بها في مثل هذه الآية الاستخبار الحقيقيّ ، ولكن يقصد بها إنكار المستخبر عنها وتقبيحها . فكأنه يقول : ما أسخف عقل هذا الذي يطغى به الكبر فينهى عبداً من عبيد الله عن صلاته ، خصوصاً وهو في حالة أدائها .وقوله : { أَرَأَيْتَ أن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى } أي : أرأيت إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله ، أو كان آمراً بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان ، كما يعتقد ؟ وجواب الشرط محذوف دل عليه ما بعده ، أي : ألم يعلم بأن الله يرى . وعليه فالضمائر كلها لـ : { الَّذِي يَنْهَى } وجوز عود الضمير المستتر في { كَانَ } للعبد المصلي . وكذا في { أَمَرَ } أي : أرايت الذي ينهى عبداً يصلي ؟ والمنهيّ على الهدى آمر بالتقوى . والنهي مكذب متول ، فما أعجب من هذا !
وذهب الإمام رحمه الله ، في تأويل الآية إلى معنى آخر ، وعبارته : أما قوله :
{ أَرَأَيْتَ أن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى } فمعناه أخبرني عن حاله إن كان ذلك الطاغي على الهدى وعلى صراط الحق ، أو أمر بالتقوى مكان نهيه عن الصلاة ، أفما كان ذلك خيراً له وأفضل ؟
وقوله : { أَرَأَيْتَ أن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } أي : نبئني عن حاله إن كذب بما جاء به النبيون ، وتولى أي : أعرض عن العمل الطيب ، أفلا يخشى أن تحل به قارعة ويصيبه من عذاب الله ما لا قبل له باحتماله ؟ فجواب كل من الشرطين محذوف كما رأيت في تفسير المعنى وهو من الإيجاز المحمود ، بعد ما دل على المحذوف بقوله : { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } أي : أجهِِل أن الله يطلع على أمره ؟ فإن كان تقياً على الهدى أحسن جزاءه ، وإن كذب وتولى لم يفلت من عقوبته ، ثم إن ما يطيل به المفسرون في المفعول الثاني لفعل { أَرَأَيْتَ } الأولى ومفعوليها في الثانية والثالثة ، فهو مما لا معنى له ؟ لأن القرآن قدوة في التعبير ، وقد استعملها بمفعول واحد وبلا مفعول أصلاً بمعنى أخبرني . والجملة المستخبر عن مضمونها ، تسد مسد المفاعيل . انتهى كلامه رحمه الله .
قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " : إنما شدد الأمر - أمر الوعيد - في حق أبي جهل ولم يقع مثل ذلك لعقبة بن أبي معيط ، حيث طرح سَلَى الجزور على ظهره - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي - لأنهما وإن اشتركا في مطلق الأذية حال صلاته لكن زاد أبو جهل بالتهديد وبدعوة أهل طاعته
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1627)(1/801)
، وبوطء العنق الشريف . وفي ذلك من المبالغة ما اقتضى تعجيل العقوبة له ، لو فعل ذلك . وقد عوقب عقبه بدعائه - صلى الله عليه وسلم - وعلى من شاركه في فعله ، فقتلوا يوم بدر ، كأبي جهل .
وقال الإمام : ذكر الصلاة في الصورة لا يدل على أن بقيتها نزل بعد فرض الصلاة ، فقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه صلاة قبل أن تفرض الصلوات الخمس المعروفة .
وقال في " اللباب " : سجدة هذه السورة من عزائم سجود التلاوة عند الشافعيّ . فيسنّ للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءتها . يدل عليه ما روي عن أبي هريرة قال : < سجدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } و { إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ } > أخرجه مسلم في صحيحه . (1)
يمضي المقطع الثالث في السورة القصيرة يعرض صورة من صور الطغيان : صورة مستنكرة يعجب منها ، ويفظع وقوعها في أسلوب قرآني فريد .
{ أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى؟ أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى؟ أرأيت إن كذب وتولى؟ ألم يعلم بأن الله يرى؟ } .والتشنيع والتعجيب واضح في طريقة التعبير ، التي تتعذر مجاراتها في لغة الكتابة . ولا تؤدّى إلا في أسلوب الخطاب الحي . الذي يعبر باللمسات المتقطعة في خفة وسرعة!
{ أرأيت } ؟ أرأيت هذا الأمر المستنكر؟ أرأيته يقع؟ { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى؟ } .
أرأيت حين تضم شناعة إلى شناعة؟ وتضاف بشاعة إلى بشاعة؟ أرأيت إن كان هذا الذي يصلي ويتعرض له من ينهاه عن صلاته . . إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى؟ ثم ينهاه من ينهاه . مع أنه على الهدى ، آمر بالتقوى؟ .
أرأيت إن أضاف إلى الفعلة المستنكرة فعلة أخرى أشد نكراً؟ { أرأيت إن كذب وتولى؟ } .
هنا يجيء التهديد الملفوف كما جاء في نهاية المقطع الماضي : { ألم يعلم بأن الله يرى؟ } يرى تكذيبه وتوليه . ويرى نهيه للعبد المؤمن إذا صلى ، وهو على الهدى ، آمر بالتقوى .
يرى . وللرؤية ما بعدها! { ألم يعلم بأن الله يرى! } .
وأمام مشهد الطغيان الذي يقف في وجه الدعوة وفي وجه الإيمان ، وفي وجه الطاعة ، يجيء التهديد الحاسم الرادع الأخير ، مكشوفاً في هذه المرة لا ملفوفاً : { كلا . لئن لم ينته لنسفعن بالناصية . ناصية كاذبة خاطئة . فليدع ناديه . سندع الزبانية } .
إنه تهديد في إبانه . في اللفظ الشديد العنيف : { كلا . لئن لم ينته لنسفعن بالناصية } .
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 275)(1/802)
هكذا { لنسفعن } بهذا اللفظ الشديد المصور بجرسه لمعناه . والسفع : الأخذ بعنف . والناصية : الجبهة . أعلى مكان يرفعة الطاغية المتكبر . مقدم الرأس المتشامخ : إنها ناصية تستحق السفع والصرع : { ناصية كاذبة خاطئة } ! وإنها للحظة سفع وصرع . فقد يخطر له أن يدعو من يعتز بهم من أهله وصحبه : { فليدع ناديه } أما نحن فإننا { سندع الزبانية } الشداد الغلاظ . . والمعركة إذن معروفة المصير!
وفي ضوء هذا المصير المتخيل الرعيب . . تختم السورة بتوجيه المؤمن الطائع إلى الإصرار والثبات على إيمانه وطاعته . .
{ كلا . لا تطعه ، واسجد ، واقترب . } كلا! لا تطع هذا الطاغي الذي ينهى عن الصلاة والدعوة . واسجد لربك واقترب منه بالطاعة والعبادة . ودع هذا الطاغي . الناهي . دعه للزبانية!
ولقد وردت بعض الروايات الصحيحة بأن السورة عدا المقطع الأول منها قد نزلت في أبي جهل إذ مر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي عند المقام . فقال ( يا محمد . ألم أنهك عن هذا؟ وتوعده . فأغلظ له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتهره . . ) ولعلها هي التي أخذ فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخناقه وقال به : { أولى لك ثم أولى } فقال : يا محمد بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي نادياً ، فأنزل الله : { فليدع نادية . . . } وقال ابن عباس لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته . ولكن دلالة السورة عامة في كل مؤمن طائع عابد داع إلى الله . وكل طاغ باغ ينهى عن الصلاة ، ويتوعد على الطاعة ، ويختال بالقوة . . والتوجيه الرباني الأخير { كلا! لا تطعه واسجد واقترب } . .
وهكذا تتناسق مقاطع السورة كلها وتتكامل إيقاعاتها . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- بيان سبب نزول الآيات كلا إن الإِنسان ليطغى إلى آخر السورة .
2- بيان طبع الإِنسان إذا لم يهذب بالإِيمان والتقوى .
3- نصرة الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بالملائكة عيانا في المسجد الحرام .
4- تسجيل لعنة الله على فرعون هذه الأمة أبي جهل وأنه كان أظلم قريش لرسول الله وأصحابه .
5- مشروعية السجود عند تلاوة هذه السورة إذا قرأ فاسجد واقترب .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3943)(1/803)
6- وصف اللَّه تعالى أبا جهل وأمثاله من الطغاة المتمردين المتكبرين بأنه ينهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه عن عبادة اللَّه تعالى ، وأنه فيما يأمر به من عبادة الأوثان ليس على طريق سديدة ، ولا على منهج الهدى ، ولا من الآمرين بالتقوى ، أي التوحيد والإيمان والعمل الصالح ، وأنه في الحقيقة مكذب بكتاب اللَّه عز وجل ، ومعرض عن الإيمان.
7- هدد اللَّه تعالى هذا الطاغية بالحشر والنشر ، فإن اللَّه تعالى عالم بجميع المعلومات ، حكيم لا يهمل ، عالم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، فلا بد أن يجازي كل أحد بما عمل. وفي هذا تخويف شديد للعصاة ، وترغيب قوي لأهل الطاعة.
وهذه الآية ، وإن نزلت في حق أبي جهل ، فكل من نهى عن طاعة اللَّه ، فهو شريك أبي جهل في هذا الوعيد ، كما تقدم.
ولا يعترض عليه بالمنع من الصلاة في الدار المغصوبة ، والأوقات المكروهة لأن المنهي عنه غير الصلاة ، وهو المعصية.
كذلك لا يعترض عليه بمنع الزوجة عن صوم التطوع وعن الاعتكاف لأن ذلك لاستيفاء مصلحة الزوج بإذن اللَّه ، لا بغضا بعبادة ربه.
8- هل تمنع صلاة النافلة قبل صلاة العيد وبعدها؟
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ يَوْمَ الْفِطْرِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا ، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلَالٌ فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي خُرْصَهَا وَتُلْقِي سِخَابَهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْبَابِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : لَا يُصَلَّى قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا ، وَمِمَّنْ كَانَ لَا يُصَلِّي قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا ابْنُ عُمَرَ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَحُذَيْفَةَ ، وَابْنِ أَبِي أَوْفَى ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَرُوِّينَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ الْعِيدِ : لَيْسَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ صَلَاةٌ
وعَنْ نَافِعٍ ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ ، " لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَا بَعْدَهَا "
وعَنْ أَبِي التَّيَّاحِ ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ ، وَحُذَيْفَةَ كَانَا يَنْهَيَانِ النَّاسَ يَوْمَ الْعِيدِ عَنِ الصَّلَاةِ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ
وعَنِ الشَّعْبِيِّ ، قَالَ : " رَأَيْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى ، وَابْنَ عُمَرَ ، وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ، وَشُرَيْحًا ، وَابْنَ مَعْقِلٍ لَا يُصَلُّونَ قَبْلَ الْعِيدِ وَلَا بَعْدَهُ "
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنَّهُ قَالَ : " الصَّلَاةُ قَبْلَ الْعِيدِ ، لَيْسَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ صَلَاةٌ "
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ، أَنَّ عَلِيًّا ، كَانَ لَا يَتَطَوَّعُ قَبْلَ الْعِيدَيْنِ وَلَا بَعْدَهُمَا شَيْئًا وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَمَسْرُوقٍ ، وَالضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَالْقَاسِمِ ، وَسَالِمٍ ، وَمَعْمَرٍ ، وَابْنِ جُرَيْجٍ ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : لَا يُصَلَّى قَبْلُ وَلَا بَعْدُ ، وَحُكِي عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : رَأَى الْكُوفِيُّونَ(1/804)
الصَّلَاةَ بَعْدَهَا ، وَالْبَصْرِيُّونَ الصَّلَاةَ قَبْلَهَا ، وَالْمَدَنِيُّونَ لَا قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا ، وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا .
وَرَأَتْ طَائِفَةٌ أَنْ يُصَلَّى قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا هَذَا قَوْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
فعَنْ أَيُّوبَ ، قَالَ : رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ، وَالْحَسَنَ يُصَلِّيَانِ قَبْلَ الْعِيدِ "
وعَنْ قَتَادَةَ ، قَالَ : كَانَ أَنَسٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَالْحَسَنُ ، وَأَخُوهُ سَعِيدٌ ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ يُصَلُّونَ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَبَعْدَهُ وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَسَعِيدٍ ابْنِي أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ عَطَاءٌ : إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَصَلِّ .
وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ أَنْ يُصَلَّى بَعْدَهَا وَلَا يُصَلَّى قَبْلَهَا ، رُوِّينَا عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي يَوْمِ عِيدٍ : أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا صَلَاةَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ ، وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ الْعِيدَيْنِ أَرْبَعًا
وعَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمٍ ، قَالَ : لَمَّا خَرَجَ عَلِيٌّ إِلَى صِفِّينَ اسْتَعْمَلَ أَبَا مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيَّ عَلَى النَّاسِ ، فَكَانَ يَوْمُ عِيدٍ فَخَرَجَ أَبُو مَسْعُودٍ فَأَتَى الْجَبَّانَةَ وَالنَّاسُ بَيْنَ مُصَلٍّ وَقَاعِدٍ ، فَلَمَّا تَوَسَّطَهُمْ قَالَ : " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا صَلَاةَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ "
وعَنِ الشَّعْبِيِّ ، قَالَ : " كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُصَلِّي بَعْدَ الْعِيدَيْنِ أَرْبَعًا " وَمَنْ مَذْهَبُهُ أَنْ يُصَلَّى بَعْدَهَا وَلَا يُصَلَّى قَبْلَهَا عَلْقَمَةُ ، وَالْأَسْوَدُ وَمُجَاهِدٌ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَسَعِيدٌ ، وَالنَّخَعِيُّ إِبْرَاهِيمُ ، وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَحُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : اجْتَمَعَتِ الْعَامَّةُ عَلَى أَنْ لَا صَلَاةَ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى وَيُصَلِّي بَعْدُ . وَفِيهِ قَوْلٌ رَابِعٌ : وَهُوَ كَرَاهِيَةُ الصَّلَاةِ فِي الْمُصَلَّى قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا وَالرُّخْصَةُ فِي الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ الْمُصَلَّى ، هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَكَانَ إِسْحَاقُ يَقُولُ : وَالْفِطْرُ وَالْأَضْحَى لَيْسَ قَبْلَهُمَا صَلَاةٌ وَيُصَلِّي بَعْدَهُمَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ إِذَا رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ وَلَا يُصَلِّي فِي الْجَبَّانِ أَصْلًا ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَوْمَ الْفِطْرِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : الصَّلَاةُ مُبَاحٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَفِي كُلِّ وَقْتٍ إِلَّا فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا وَهِيَ وَقْتُ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَوَقْتُ غُرُوبِهَا ، وَوَقْتُ الزَّوَالِ ، وَقَدْ كَانَ تَطَوُّعُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ فِي بَيْتِهِ ، وَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ يَتَطَوَّعُونَ فِي مَسَاجِدِهِمْ ، فَالصَّلَاةُ جَائِزَةٌ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَبَعْدَهُ ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْظُرَ مِنْهُ شَيْئًا . وَلَيْسَ فِي تَرْكِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهِيَةِ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّ مَا هُوَ مُبَاحٌ لَا يَجُوزُ حَظْرُهُ إِلَّا بِنَهْيٍ يَأْتِي(1/805)
عَنْهُ ، وَلَا نَعْلَمُ خَبَرًا يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَبَعْدَهُ ، وَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ وَفِي سَائِرِ الْأَيَّامِ فِي الْبُيُوتِ أَحَبُّ إِلَيْنَا لِلْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ " (1)
9- سنية التخفيف بالصلاة وقراءة هذه السورة وأمثالها، فعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ ، أَنَّ آخِرَ كَلَامٍ كَلَّمَنِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ اسْتَعْمَلَنِي عَلَى الطَّائِفِ فَقَالَ : " خَفِّفِ الصَّلَاةَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى وَقَّتَ لِي اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وَأَشْبَاهَهَا مِنَ الْقُرْآنِ " مُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (2)
10- زاد اللَّه تعالى في الزجر والوعيد لذلك الطاغية أبي جهل وأمثاله : بأنه إن لم ينته عن أذى محمد ليأخذن اللَّه بناصيته (مقدم شعر رأسه) وليذلّنه ويجرّنه إلى نار السعير لأن ناصية أبي جهل كاذبة في قوله ، خاطئة في فعلها ، والخاطئ معاقب مأخوذ ، والمخطئ (3) غير مؤاخذ. والمراد أن صاحب تلك الناصية كاذب خاطئ ، كما يقال : نهاره صائم ، وليله قائم ، أي هو صائم في نهاره ، قائم في ليله.
11- تحدى اللَّه تعالى هذا الطاغية مع التهكم والتوبيخ بأن يطلب أهل مجلسه وعشيرته ، ليستنصر بهم ، فإنه إذا فعل أحضر اللَّه الزبانية الملائكة الغلاظ الشداد لإلقائه في نار السعير.
12- بالغ اللَّه تعالى في زجر هذا الكافر عن كبريائه ، ونفى قدرته على تحقيق تهديده ، وحقّره وأبان صغر شأنه وعجز نفسه ، فليس الأمر كما يظنه أبو جهل ، ولا تطعه يا محمد فيما دعاك إليه من ترك الصلاة ، وصل للَّه ، وتقرب إلى جنابه بالطاعة والتعبد.
وإنما عبّر عن الصلاة للَّه بقوله وَاسْجُدْ لما روى عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ ». (4) .
وإنما كان ذلك لأن السجود على الأرض نهاية العبودية والذلة ، وللَّه غاية العزة ، وله العزة التي لا مقدار لها ، فكلما بعدت من صفته ، قربت من جنته ، ودنوت من جواره في داره.
جاء في الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : كَشَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - السِّتَارَةَ ، وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ ، فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ. ثُمَّ قَالَ : أَلاَ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا وَسَاجِدًا ، أَمَّا الرُّكُوعُ ، فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ ، وَأَمَّا السُّجُودُ ، فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابُ لَكُمْ."صحيح ابن حبان. (5)
مقاصد هذه السورة
__________
(1) - الْأَوْسَطُ لِابْنِ الْمُنْذِرِ (2101-2110 ) صحيح
(2) - مُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ(17662 ) صحيح
(3) - الخاطئ : الآثم القاصد للذنب. والمخطئ : من أراد الصواب ، فصار إلى غيره.
(4) - صحيح مسلم (1111)
(5) - صحيح ابن حبان - (5 / 222) (1896) صحيح -قمن : خليق وجدير.(1/806)
تشتمل هذه السورة على المقاصد الآتية :
(1) حكمة اللّه فى خلق الإنسان ، وكيف رقاه من جرثومة صغيرة إلى أن بسط سلطانه على جميع العوالم الأرضية.
(2) إنه لكرمه وعظيم إحسانه علمه من البيان ما لم يعلم ، وأفاض عليه من العلوم ما جعل له القدرة على غيره مما فى الأرض.
(3) بيان أن هذه النعم على توافرها قد غفل عنها الإنسان ، فإذا رأى نفسه غنيا صلف وتجبر واستكبر. (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 203)(1/807)
سورة القدر
مكيّة ، وهي خمس آيات
تسميتها :
سميت سورة القدر أي العظمة والشرف تسمية لها بصفة ليلة القدر الذي أنزل اللَّه فيها القرآن ، فقال سبحانه : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أي في ليلة عظيمة القدر والشرف.
وقال ابن عاشور : " سميت هذه السورة في المصاحف التفسير وكتب السنة "سورة القدر" وسماها ابن عطية في "تفسيره" وأبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن" "سورة ليلة القدر".
وهي مكية في قول الجمهور وهو قول جابر بن زيد ويروى عن ابن عباس. وعن ابن عباس أيضا والضحاك أنها مدنية ونسبه القرطبي إلى الأكثر. وقال الواقدي: هي أول سورة نزلت بالمدينة ويرجحه أن المتبادر أنها تتضمن الترغيب في إحياء ليلة القدر وإنما كان ذلك بعد فرض رمضان بعد الهجرة.
وقد عدها جابر بن زيد الخامسة والعشرين في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة عبس وقبل سورة الشمس، فأما قولب من قالوا إنها مدنية فيقتضي أن تكون نزلت بعد المطففين وقبل البقرة.
وآياتها خمس في العدد المدني والبصري والكوفي وست في العد المكي والشامي. (1)
مناسبتها لما قبلها :
ختمت سورة « العلق » بقوله تعالى : « كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ » وجاءت بعد ذلك سورة القدر ، وفيها تنويه بشأن هذا القرآن الذي أنزل على النبي ، والذي هداه ربه ، وملأ قلبه إيمانا ويقينا بعظمته وجلاله .. وبهذا الإيمان الوثيق يتجه النبي إلى ربه لا يخشى وعيدا ، ولا يرهب تهديدا .. (2)
ومناسبتها لما قبلها - أن فى تلك أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن يقرأ القرآن باسم ربه الذي خلق ، واسم الذي علم الإنسان ما لم يعلم ، وفى هذه ذكر القرآن ونزوله وبيان فضله ، وأنه من عند ربه ذى العظمة والسلطان ، العليم بمصالح الناس وبما يسعدهم فى دينهم ودنياهم ، وأنه أنزله فى ليلة لها من الجلال والكمال ما قصته السورة الكريمة. (3)
ما اشتملت عليه السورة :
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 401)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1632)
(3) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 206)(1/808)
* سورة القدر مكية ، وقد تحدثت عن بدء نزول القرآن العظيم ، وعن فضل ليلة القدر ، على سأئر الأيام والشهور ، لا فيها من الأنوار والتجليات القدسية ، والنفحات الربانية ، التي يفيضها الباري جل وعلا على عباده المؤمنين ، تكريما لنزول القران المبين ، كما تحدثت عن نزول الملائكة الأبرار حتى طلوع الفجر ، فيا لها من ليلتة عظيمة القدر ، هي خير عند الها من ألف شهر. (1)
وقال ابن عاشور عن أغراضها :
" التنويه بفضل القرآن وعظمته بإسناد إنزاله إلى الله تعالى...
والرد على الذين جحدوا أن يكون القرآن منزلا من الله تعالى.
ورفع شأن الوقت الذي أنزل فيه ونزول الملائكة في ليلة إنزاله.
وتفضيل الليلة التي توافق ليلة إنزاله من كل عام.
ويستتبع ذلك تحرير المسلمين على تحين ليلة القدر بالقيام والتصدق. " (2)
في السورة تنويه بليلة القدر وتقرير إنزال القرآن فيها. وبعض الروايات تذكر أنها مدنية . غير أن جميع التراتيب المروية تسلكها في عداد السور المكية.
وأسلوبها ووضعها في المصحف بعد سورة العلق قد يؤيدان مكيتها وتبكيرها في النزول. (3)
معنى نزول القرآن في ليلة القدر :
معنى نزول القرآن في ليلة القدر ، مع العلم بأنه نزل منجّما مقسّطا على مدى ثلاث وعشرين سنة : أنه ابتدأ إنزاله ليلة القدر لأن بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت في رمضان.
وذلك لأن اللَّه تعالى قال في هذه السورة : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وقال في سورة الدخان : حم ، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ، إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ، أَمْراً مِنْ عِنْدِنا ، إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [1- 6].
وأما قوله تعالى في سورة البقرة : شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ ، وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [185] فمعناه أنه ابتدأ نزول القرآن في شهر رمضان المبارك.
وأما آية الأنفال : .. وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [41] فلا تعني تحديد موعد نزول القرآن ، وإنما تذكّر المؤمنين بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر في السابع عشر من رمضان من الآيات المتعلقة بأحكام القتال ، والملائكة ، والنصر. وسمي يوم بدر يوم الفرقان لأنه فرق فيه بين الحق والباطل.
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 509)
(2) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 401)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 129)(1/809)
وقال المراغي :
" أشار الكتاب الكريم إلى زمان نزول القرآن على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فى أربعة مواضع من كتابه الكريم ، والقرآن يفسر بعضه بعضا.
(1) فى سورة القدر : « إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ » .
(2) فى سورة الدخان : « حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ».
(3) فى سورة البقرة : « شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ » .
(4) فى سورة الأنفال : « وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » .
فآية القدر صريحة فى أن إنزال القرآن كان فى ليلة القدر ، وآية الدخان تؤكد ذلك وتبين أن النزول كان فى ليلة مباركة ، وآية البقرة ترشد إلى أن نزول القرآن كان فى شهر رمضان ، وآية الأنفال تدل على أن إنزال القرآن على رسوله كان فى ليلة اليوم المماثل ليوم التقاء الجمعين فى غزوة بدر ، التي فرق اللّه فيها بين الحق والباطل ، ونصر حزب الرحمن على حزب الشيطان ، ومن ذلك يتضح أن هده الليلة هى ليلة الجمعة لسبع عشرة خلت من شهر رمضان." (1)
سبب نزولها:
عَنْ مُجَاهِدٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَبِسَ السِّلَاحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَلْفَ شَهْرٍ قَالَ : فَعَجِبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ الَّتِي لَبِسَ فِيهَا ذَلِكَ الرَّجُلُ السِّلَاحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَلْفَ شَهْرٍ " (2)
وعَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى يُصْبِحَ ، ثُمَّ يُجَاهِدُ الْعَدُوَّ بِالنَّهَارِ حَتَّى يُمْسِيَ ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَلْفَ شَهْرٍ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ : لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ " قِيَامُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ " (3)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 206)
(2) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلْبَيْهقِيِّ (8010 ) صحيح مرسل
(3) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ(35005 ) حسن مرسل(1/810)
بدء نزول القرآن وفضائل ليلة القدر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... أَنْزَلْنَاهُ ... القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا
1 ... لَيْلَةِ القَدْرِ ... ليلة القضاء والحكم
3 ... خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ... خير من عبادة ألف شهر
4 ... الرُّوحُ ... جبريل عليه السلام
4 ... مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ... بكل أمور الرزق والآجال والخير والبركة
5 ... سَلامٌ هِيَ ... خير هي على أهل الإسلام
المعنى الإجمالي:
إن ربك أنزل القرآن - أى : بدأ نزوله - في ليلة مباركة كثيرة الخيرات والبركات لأن فيها نزلت الآيات البينات ،وهذه الليلة من رمضان لقول اللّه : شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ »
وهي ليلة القدر التي ابتدأ اللّه فيها بتقدير دينه الحنيف.
وتحديد دعوة رسوله الكريم ، وهي ليلة القدر والشرف والعزة والكرامة لأن اللّه أعلى فيها منزلة نبيه ، وشرف الإنسانية برسالة السماء الكبرى خاتمة الرسالات وقد جاء هذا التصريح بشرفها وعلو مكانتها حيث يقول اللّه : وما أدراك ما ليلة القدر ؟ لا أحد يعرف كنهها ، ولا يحيط أحد بفضلها إلا بما سأذكره عنها ، ليلة القدر خير من ألف شهر ، ولا غرابة فالليلة التي ابتدأ اللّه فيها نزول القرآن هي ليلة مباركة فيها يفرق ويفصل كل أمر حكيم لأنه من الحكيم الخبير ، أليست هذه الليلة خيرا من ألف شهر ، بل هي خير ليلة في الوجود ، وأسمى وقت في الزمن وبالطبع العمل فيها خير من العمل في غيرها ألف مرة.
واستأنف بيان بعض فضلها فقال : إنها تتنزل فيها الملائكة - وخاصة جبريل المكلف بالوحي - يتنزلون فيها بإذن ربهم من كل أمر حكيم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأول عهد النبي بشهود الملائكة وجبريل معهم كان في تلك الليلة التي تنزلت الملائكة من عالمها إلى عالم الأرض ، نزلوا بالوحي على رسول اللّه. وهذه الليلة ليلة سلام وأمان ولا غرابة ففيها ابتدأ نزول القرآن مصدر الإسلام ومبدأ السلام ،(1/811)
روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج ليخبر عن ليلة القدر فوجد رجلين يتنازعان فنسي الخبر. ليلة القدر مصدر السلام والأمان حتى مطلع الفجر (1)
التفسير والبيان :
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أي إننا نحن اللَّه بدأنا إنزال القرآن في ليلة القدر ، وهي الليلة المباركة ، كما قال اللَّه عز وجل : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدخان 44/ 3] وهي في شهر رمضان لقول اللَّه تعالى : شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة 2/ 185]. ثم أتممنا إنزاله بعد ذلك منجما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الحاجة وما تقتضيه الوقائع والحوادث ، تبيانا للحكم الإلهي فيها. قال الزمخشري رحمه اللَّه : عظّم اللَّه القرآن من ثلاثة أوجه :
أحدها- أن أسند إنزاله إليه ، وجعله مختصا به دون غيره ، والثاني- أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه ، والثالث- الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه (2) .
ثم ذكر اللَّه تعالى فضائل تلك الليلة ، فقال :
1- وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ؟ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ أي وما أعلمك ما ليلة القدر ؟ وهذا لتفخيم شأنها وتعظيم قدرها ، وبيان مدى شرفها ، وسميت بذلك لأن اللَّه تعالى يقدر فيها ما شاء من أمره إلى السنة القابلة ، أو لعظيم قدرها وشرفها. قال الزمخشري : معنى ليلة القدر : ليلة تقدير الأمور وقضائها ، من قوله تعالى : فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان 44/ 4].
وقدرها أيضا : أن العمل فيها ، وهي ليلة واحدة ، خير من العمل في ألف شهر.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَال : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ : قَدْ جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرٌ مُبَارَكٌ ، افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ ، يُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ، وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ.
ـ وفي رواية : أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ ، فَرَضَ اللهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ ، للهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ." أخرجه أحمد وغيره (3) .
وثبت في الصحيحين عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » (4) . .
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 886)
(2) - الكشاف : 3/ 351
(3) - المسند الجامع - (17 / 264) (13396) صحيح
(4) - صحيح البخارى(1901 ) وصحيح مسلم (1817)(1/812)
وعَنِ الزُّهْرِيِّ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ ، فَصَلَّى النَّاسُ ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ بِذَلِكَ ، فَكَثُرَ النَّاسُ ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمُ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ فَصَلَّى ، فَصَلَّوْا بِصَلاَتِهِ ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ بِذَلِكَ حَتَّى كَثُرَ النَّاسُ ، فَخَرَجَ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ ، فَصَلَّى فَصَلَّوْا بِصَلاَتِهِ ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ بِذَلِكَ ، فَكَثُرَ النَّاسُ حَتَّى عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ ، فَطَفِقَ النَّاسُ يَقُولُونَ : الصَّلاَةَ ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ حَتَّى خَرَجَ لِصَلاَةِ الْفَجْرِ ، فَلَمَّا قَضَى صَلاَةَ الْفَجْرِ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَتَشَهَّدَ ، ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ شَأْنُكُمُ اللَّيْلَةَ ، وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ صَلاَةُ اللَّيْلِ ، فَتَعْجِزُوا عَنْ ذَلِكَ ، وَكَانَ يُرَغِّبُهُمْ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِعَزِيمَةٍ ، يَقُولُ : مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ قَالَ : فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ كَذَلِكَ كَانَ فِي خِلاَفَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرٍ مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ ، حَتَّى جَمَعَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، فَقَامَ بِهِمْ فِي رَمَضَانَ ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فِي رَمَضَانَ. (1)
2- تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ أي تهبط الملائكة وجبريل من السموات إلى الأرض بكل أمر ومن أجل كل أمر قدّر في تلك الليلة إلى قابل .
ولا يفعلون شيئا إلا بإذن اللَّه لقوله تعالى : وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم 19/ 64]. والروح : هو جبريل عليه السلام خص بالذكر لزيادة شرفه ، فيكون من باب عطف الخاص على العام.
ومن فوائد نزول الملائكة : أنهم يرون في الأرض من أنواع الطاعات ما لم يروه في سكان السموات ، ويسمعون أنين العصاة الذي هو أحب إلى اللَّه من زجل المسبّحين ، فيقولون : تعالوا نسمع صوتا هو أحب إلى ربنا من تسبيحنا.
ولعل للطاعة في الأرض خاصية في هذه الليلة ، فالملائكة أيضا يطلبونها طمعا في مزيد الثواب ، كما أن الرجل يذهب إلى مكة لتصير طاعاته هناك أكثر ثوابا.
3- سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أي هذه الليلة المحفوفة بالخير بنزول القرآن وشهود الملائكة ، ما هي إلا سلامة وأمن وخير وبركة كلها ، لا شرّ فيها ، من غروب الشمس حتى وقت طلوع الفجر ، يستمر فيها نزول الخير والبركة ، ونزول الملائكة بالرحمة فوجا بعد فوج إلى طلوع الفجر.
ومضات :
بهذه الليلة وعظم شأنها وخيرها وشمولها ببركة اللّه وسلامه ، وتنزل الملائكة والروح فيها بأوامره وتبليغاته. والآيات لم تذكر القرآن غير أن جمهور المفسرين على أن ضمير الغائب في
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (6 / 284) (2543) صحيح(1/813)
«أنزلناه» عائد إليه ، وروح الآية تلهم ذلك كما أن آيات سورة الدخان هذه : حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) تؤيد ذلك.
ولقد روى المفسرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر يوما رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل اللّه ألف شهر فعجب المسلمون فأنزل اللّه السورة. كما رووا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر يوما أربعة من بني إسرائيل عبدوا اللّه ثمانين عاما لم يعصوه طرفة عين فعجب المسلمون فأتاه جبريل فقال يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر فقد أنزل اللّه خيرا من ذلك ثم قرأ عليه السورة.
وهذه الروايات لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. والذي يتبادر لنا استئناسا من بكور نزول السورة وترتيبها في المصحف بعد سورة العلق أنها نزلت بعد قليل من آيات سورة العلق الخمس الأولى للتنويه بحادث نزول أول وحي قرآني.
ولقد أورد المفسرون حديثا رواه الترمذي عن القاسم بن الفضل الحداني عن يوسف بن سعد قال : «قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال سوّدت وجوه المؤمنين أو يا مسوّد وجوه المؤمنين فقال لا تؤنّبني رحمك اللّه فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) الكوثر يا محمد يعني نهرا في الجنّة ونزلت : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) ، يملكها بعدك بنو أمية يا محمد. قال القاسم فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص» . ولقد علق الطبري على هذا بقوله إنها دعاو باطلة لا دلالة عليها من خبر وعقل. وذكر ابن كثير أن الترمذي وصف حديثه بالغريب وقال إنه لا يعرف إلّا عن طريق القاسم. ووصفه ابن كثير بأنه منكر جدا وقال : إن شيخنا الإمام الحافظ الحجة أبو الحجاج المزي قال عنه إنه منكر. ونبه على عدم انطباق مدة بني أمية على الألف شهر لأنها أكثر من ذلك بنحو تسع سنين. وفي هذا إظهار لكذب القاسم راوي الحديث في قوله إننا حسبناها فلم تزد ولم تنقص يوما. وقال ابن كثير فيما قاله إن السورة مكية ولم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - منبر في مكة.
والذي نعتقده أن الرواية من روايات الشيعة التي يخترعونها لتأييد مقالاتهم على ما نبهنا عليه في مناسبة سابقة مهما كان بين ما يروونه وبين فحوى العبارة القرآنية وسياقها مفارقة. وهذا يظهر قويا في هذه الرواية. ورواية الترمذي للرواية ليس من شأنها أن تجعلنا نتوقف في ذلك فاحتمال التدليس في ذلك وارد دائما.
ولعل ما قاله ابن كثير من أنه لم يكن في مكة منبر هو الذي جعل رواة الشيعة يروون رواية مدنية السورة لأن روايتهم تتسق بهذه الرواية.
ولقد قال الطبري إن أشبه الأقوال بظاهر التنزيل في معنى جملة لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) من قال : «عمل في ليلة القدر خير من عمل ألف شهر ليس فيها ليلة القدر» وروي عن(1/814)
مجاهد قولا جاء فيه أن معناها هو أن قيامها والعمل فيها خير من ألف شهر. ومع ما في هذا القول وذاك من وجاهة وصواب فإننا لا نزال نرجح أن الجملة قد جاءت بقصد التوكيد على ما في ليلة القدر من خير وبركة على سبيل التنويه والتعظيم بحدث الحادث العظيم الذي كان فيها ، واللّه أعلم.
ولقد أورد المفسرون في سياق هذه السورة روايات وأقوالا تتضمن فيما تتضمنه أن القرآن أنزل دفعة واحدة إلى سماء الدنيا ثم أخذ ينزل منجّما أي مفرقا ، وأن ما عنته هذه السورة هو هذا حيث قصدت جميع القرآن . ولقد أورد ابن كثير في سياق تفسير آية البقرة [185] عن الإمام أحمد حديثا رواه عن واثلة أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : «أنزلت صحف إبراهيم في أول رمضان والتوراة لست خلت منه والإنجيل لثلاث عشرة خلت منه». وأورد حديثا آخر رواه جابر بن عبد اللّه فيه زيادة عن الزبور وتعديل لوقت الإنجيل حيث جاء فيه : «إن الزبور نزل لثنتي عشرة خلت من رمضان والإنجيل لثماني عشرة خلت منه». والمتبادر أن الأحاديث بسبيل ذكر نزول هذه الكتب في هذه الأوقات دفعة واحدة. والأحاديث لم ترد في الكتب الخمسة ، ولقد روى بعضهم عن الشعبي أن الآية الأولى من سورة القدر تعني «إنّا ابتدأنا بإنزاله في ليلة القدر» . والنفس تطمئن بقول الشعبي هذا ، وبأن هذا السورة وآيات سورة الدخان التي أوردناها آنفا وآية سورة البقرة هذه : شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [185] قد عنت بدء نزول القرآن ، وبأن سورة القدر قد احتوت تنويها بعظم حادث بدء نزول القرآن وجلالة قدره ، وبخطورة الليلة التي شرّف اللّه قدرها ، بحدوث هذا الحادث العظيم فيها. أما إنزال القرآن جميعه دفعة واحدة إلى سماء الدنيا فليس عليه دليل من القرآن أو من الحديث الصحيح. ولا يبدو له حكمة كما لا يبدو أنه منسجم مع طبيعة الأشياء حيث احتوت معظم فصول القرآن صور السيرة النبوية المتنوعة في مكة أولا ثم في المدينة وكثيرا ما كانت تنزل في مناسبات أحداثها ، وهذا الذي قلناه ينطبق على رواية قتادة التي أوردها الطبري بالنسبة للكتب السماوية الأخرى.
ولقد أورد المفسرون ورواة الأحاديث أحاديث عديدة في صدد تعيين ليلة القدر. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن عائشة أيضا قالت : «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول تحرّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» . وحديث رواه الخمسة إلّا الترمذي جاء فيه : «قال ابن عمر إن رجالا من أصحاب النبي أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحرّيها فليتحرّها في السبع الأواخر». وحديث رواه الشيخان والترمذي عن عائشة قالت : «قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأخير من رمضان» . وحديث رواه الخمسة إلّا(1/815)
البخاري عن زرّ بن حبيش قال : «سألت أبيّ بن كعب فقلت إن أخاك ابن مسعود يقول من يقم الحول يصب ليلة القدر فقال رحمه اللّه أراد ألا يتكل الناس. أما إنّه قد علم أنها في رمضان وأنها في العشر الأواخر وأنها ليلة سبع وعشرين ثم حلف لا يستثني أنّها ليلة سبع وعشرين فقلت بأيّ شيء تقول ذلك يا أبا المنذر قال بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول اللّه أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها» . وحديث عن معاوية بن أبي سفيان رواه أبو داود وأحمد قال : «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة القدر ليلة سبع وعشرين»
ولما كانت آية البقرة تنصّ على نزول القرآن في شهر رمضان وآية القدر تنص على نزوله في ليلة القدر فيمكن أن يقال إن حادث أول وحي قرآني قد وقع في إحدى الليالي العشر الأخيرة من رمضان أو ليلة السابع والعشرين منه على التخصيص.
والتنويه القرآني بهذه الليلة قوي. وهي جديرة به لأن الحادث الذي وقع فيها أعظم حادث في تاريخ الإسلام. وإليه يرجع كل حادث فيه. وكل ذكرى من ذكرياته ، وكل خير وبركة من خيراته وبركاته ، وهو الجدير بأن يكون تاريخه موضع تنويه وإشادة وتكريم واحتفاء في كل جيل من أجيال الإسلام ، بل في كل جيل من أجيال البشر وفي كل مكان من الأرض. فالنبوة المحمدية التي بدأت به هي نبوة الخلود والبشرية جمعاء. والقرآن الذي بدئ بإنزاله على النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الليلة هو كتاب اللّه الخالد الذي فيه رحمة وهدى وشفاء لجميع الناس في كل مكان وزمان ، والذي احتوى ما فيه الكفاية لرجع أمور الدين والدنيا إلى نصابها الحق ولإقامة إخاء عام بين البشر. ونظام اجتماعي وسياسي واقتصادي مرتكز على قواعد الحق والعدل والحرية والمساواة والكرامة وهذا التاريخ هو التاريخ الوحيد المعروف في مثله من تاريخ الأنبياء وكتبهم. والقرآن هو الكتاب الوحيد الذي بقي في أيدي الناس كما بلغه النبي - صلى الله عليه وسلم - سليما تاما فوق كل مظنة. ومحمد - صلى الله عليه وسلم - هو النبي الوحيد الذي لم يدر حول وجوده وشخصيته وتاريخه ما دار حول غيره من الشكوك والأقوال.
وفيما احتوته السورة من الإشارة إلى نزول الملائكة وعلى رأسهم عظيمهم في هذه الليلة بأوامر اللّه وبركاته وشمولها بالسلام والتجليات الربانية قصد إلى بيان عظمة شأنها ورفعة قدرها أولا ، ودعوة ضمنية إلى المسلمين إلى إحيائها في كل عام اقتداء بالملائكة وتحصيلا للبركة الربانية فيها وتكريما للذكرى المقدسة التي انطوت فيها.
ولقد أثرت بعض الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خير هذه الليلة وبركتها ، والحث على تحريها وإحيائها منها حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة قال : «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه» . وحديث رواه الخمسة عن عائشة قالت : «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر شدّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله». ولفظ الترمذي : «كان يجتهد في العشر الأواخر(1/816)
ما لا يجتهد في غيرها» . وهذا متصل من دون ريب بالذكرى الجليلة. ومن الغريب أن يغفل المسلمون عن المعنى العظيم لهذه الذكرى وأن ينتهوا من أمرها إلى المعاني والأهداف المادية الخاصة فيما يدعون اللّه به كما هو السائد في الأوساط الإسلامية منذ قرون طويلة.
وقد يكون هنا مجال للتساؤل عما إذا كانت تسمية «ليلة القدر» هي تسمية قرآنية ونعتية طارئة ، القصد منها التنويه والحفاوة والتذكير بعظمة شأن الحادث الذي كان فيها ، أم أنها كانت معروفة قبل نزول القرآن. ولم نطلع على قول وثيق يساعد على النفي أو الإثبات. غير أن في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي اللّه عنها والذي أوردناه في سياق تفسير سورة العلق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخلو بغار حراء فيتحنّث أي يتعبد فيه الليالي ذوات العدد ، وأن الوحي نزل عليه هنا ما يمكن أن يكون دلالة ما إلى ما كان من معنى خطير لليالي ذوات العديد قبل البعثة. وما دام أن الوحي نزل عليه في إحدى هذه الليالي فمن الجائز أن تكون الليالي ذوات العدد هي الليالي العشر الأخيرة من رمضان أو أن هذه الليالي العشر منها. ولقد ذكرت الروايات أن التحنث في شهر رمضان كان معروفا وممارسا في أوساط مكة المتقية المتعبدة حيث يسوّغ هذا أن يقال إن الليالي ذوات العدد كانت من الأمور المعروفة في هذه الأوساط أيضا. ولقد صارت ليلة القدر علما على ليلة بعينها ، ووردت بمعنى هذه العلمية أحاديث عديدة مما مرت نصوصها ، ولقد ورد في سورة الدخان هذه الآيات : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ حيث يفيد هذا أن اللّه عز وجل قد جرت عادته على قضاء الأمور الخطيرة المحكمة في ليلة القدر. ففي كل هذا كما يتبادر لنا قرائن أو شبه قرائن على أن تسمية ليلة القدر ليست تسمية طارئة ونعتية أو تنويهية وحسب ، وأنها قد كان لها في أذهان بعض الأوساط المكية خطورة ما دينية الصفة.
وبمناسبة ورود تعبير «الروح» نقول إن هذه الكلمة قد وردت في القرآن كثير في سياق الإشارة إلى هبة نسمة الحياة لآدم والمسيح والناس مضافة إلى اللّه عز وجل كما في آيات سورة الحجر هذه : وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) وفي سورة الأنبياء هذه : وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) وفي آيات سورة السجدة هذه : الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (9). وقد وردت الكلمة أيضا في صدد الإشارة إلى وحي اللّه وأوامره ، وإلى الملك الذي كان ينزل بالقرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في آية سورة النحل هذه : يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) وفي آية غافر هذه : رَفِيعُ الدَّرَجاتِ(1/817)
ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) وآيات سورة الشعراء هذه موصوفا بالأمين : وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194). ووردت مطلقة بما يفيد أنها عظيم الملائكة كما جاء في آية سورة النبأ هذه : يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ووردت مضافة إلى القدس في سياق تنزيل القرآن كما جاء في آية سورة النحل هذه : قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) ووردت في آيات عديدة مضافة إلى القدس في صدد تأييد المسيح عليه السلام كما ترى في هذا المثال : وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ البقرة [87] والمتبادر أن المقصود من الكلمة هنا على ما تلهمه روح العبارة هو عظيم الملائكة. وفي سورة التحريم آية تلهم أن عظيم الملائكة هو جبريل وهي : إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) ولما كانت آيات النحل نعتت الملك الذي ينزل بالوحي القرآني بالروح ولما جاء في آية في سورة البقرة أن الذي ينزل بهذا الوحي هو جبريل وهي : قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) فيكون المقصود من الكلمة هنا هو جبريل عظيم الملائكة على ما هو المتبادر. وجمهور المفسرين على أن تسمية جبريل بروح القدس هي على اعتبار أنه روحاني الخلقة بدون تولد من أب وأم وأنه مطهر من الرجس واللّه تعالى أعلم.
ولما كان أمر الملائكة وحقيقتهم وأعمالهم من المسائل الغيبة الواجب الإيمان بها لأن القرآن قد قررها كما قلنا قبل فالواجب الإيمان بما جاء في صددهم في الآية دون تخمين وتزيد مع ذكر كون ذلك بسبيل التنويه بعظم شأن الليلة للحادث العظيم الذي كان فيها.
وندع التعليق على ما ورد في الآيات التي أوردناها في معرض التمثيل والتي تنسب الروح إلى اللّه عز وجل وتذكر نفخه بروحه في آدم ومريم والإنسان عامة إلى تفسير هذه الآيات في سورها. (1)
قوله تعالى : « إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ »..
الضمير فى « أنزلناه » يعود إلى القرآن الكريم ، وهو وإن لم يجر له ذكر سابق فى السورة ، إلا أنه مذكور بما له من إشعاع يملأ الوجود .. فإذا نزل شىء من عند اللّه ، فهو هذا القرآن ، أو فيض من فيض هذا القرآن ..
وليلة القدر ، هى الليلة المباركة ، التي أشار إليها سبحانه وتعالى بقوله :
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 130)(1/818)
« إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » (3 ـ 6 :
الدخان). وهى ليلة من ليالى رمضان ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : « شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ».
(185 : البقرة) ومعنى « أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ » أي ابتدأنا إنزاله فى ليلة القدر ، وهى الليلة التي افتتح فيها الوحى ، واتصل فيها جبريل بالنبي ، قائلا له : « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ».
وقد اختلف فى أي ليلة من ليالى رمضان ليلة القدر ، وأصح الأقوال أنها فى العشر الأواخر من رمضان .. واختلف كذلك أي ليلة هى فى الليالى العشر ، وأصح الأقوال كذلك أنها فى الليالى الفردية ، أي فى الليلة الحادية والعشرين ، أو الثالثة والعشرين ، أو الخامسة والعشرين أو السابعة والعشرين أو التاسعة والعشرين .. وأصح الأقوال هنا أنها الليلة السابعة والعشرون ، أي الليلة السابعة من العشر الأواخر من رمضان .. وهذا ما يروى عن ابن عباس من أنه قال : « هى سابعة تمضى أو سابعة تبقى من العشر الأواخر من رمضان ، وقد سئل فى هذا فقال : نظرت فى كتاب اللّه فرأيت أن اللّه سبحانه قد جعل خلق الإنسان فى سبع ، فقال تعالى : « وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً ، فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً. ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ » (12 ـ 14 : المؤمنون) ورأيت أن اللّه سبحانه وتعالى جعل رزقه فى سبع ، فقال تعالى : َأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ »
(27 ـ 32 : عبس) ورأيت أن اللّه خلق سبع سموات ، وسبع أرضين ، وسبعة أيام »..
هذا وقد استظهر بعضهم أنها الليلة السابعة والعشرون ، وذلك بأن عدد كلمات السورة من أولها إلى قوله تعالى : « هى » سبع وعشرون كلمة ..
وهذا يعنى أن كل كلمة تعدل ليلة من ليالى رمضان ، حتى إذا كانت ليلة القدر جاءت الإشارة إليها بقوله تعالى : « هى » أي هى هنا عند الكلمة السابعة والعشرين ، أو الليلة السابعة والعشرين ..
وفى محاولة تحديد هذه الليلة تكلف ، لا تدعو إليه الحاجة ، فهى ليلة من ليالى رمضان ، وكفى ، ولو أراد سبحانه وتعالى بيانها لبينها ، وإنما أراد سبحانه إشاعتها فى ليالى الشهر المبارك كله ، ليجتهد المؤمنون فى إحياء ليالى الشهر جميعه! ..
وسميت ليلة « القدر » بهذا الاسم ، لأنها ذات شأن عظيم ، وقدر جليل ، لأنها الليلة التي نزل فيها القرآن ، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ،إنها الليلة التي توزن فيها أقدار الناس حسب قربهم وبعدهم من كتاب اللّه ، ويفرق فيها بين المحقّين والمبطلين ..(1/819)
وقد أشار إليها اللّه سبحانه وتعالى فى سورة أخرى بقوله : « فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ » أي يبين فيها حكم اللّه فيما هو حلال أو حرام ، وحق أو باطل ، وهدى أو ضلال ، وذلك بما نزل فيها من آيات اللّه ..
وقوله تعالى : « وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ » ؟
تنويه بشأن هذه الليلة ، وتفخيم لقدرها ، وأنها ليلة لا يدرى أحد كنه ، عظمتها ، ولا حدود قدرها ..
قوله تعالى : « لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ».اختلف فى تحديد المفاضلة بين هذه الليلة وبين الألف شهر .. وقد تواردت على هذا مقولات وأخبار شتى ..
ونقول ـ واللّه أعلم ـ إنه ليس المراد من ذكر الألف شهر وزن هذه الليلة بهذا العدد من الأيام والليالى والسنين ، وأنها ترجح عليها فى ميزانها ، وإنما المراد هو تفخيم هذه الليلة وتعظيمها ، وأن ذكر هذا العدد ليس إلا دلالة على عظم شأنها ، إذ كان عدد الألف هو أقصى ما تعرفه العرب من عقود العدد.عشرة ، ومائة ، وألف ، ومضاعفاتها.وإذن فهى ليلة لا حدود لفضلها ، ولا عدل لها من أيام الزمن ولياليه ، وإن بلغت ما بلغت عدّا.
وقدر هذه الليلة ، إنما هو ـ كما قلنا ـ فى أنها كانت الظرف الذي نزل فيه القرآن ، والوعاء الذي حمل هذه الرحمة العامة إلى الإنسانية كلها .. إنها الليلة الولد التي بزغت فيها شمس الهدى ، على حين أنه قد تمضى مئات وألوف من الليالى عقيما لا تلد شيئا ينتفع به ، ولا تطلع على الناس ببارقة من خير يتلقونه منها : ..
إن شأن هذه الليلة فى الليالى ، شأن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فى الإنسانية ..
إنه ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ واحد الإنسانية ، ومجدها وشرفها ، وهى واحدة ليالى الزمن ، ومجده ، وشرفه .. فكان التقاؤها بالنبي على رأس الأربعين من عمره ـ وقد توجه ربه بتاج النبوة ـ كان ، التقاء جمع بين الزمن مختصرا فى ليلة ، وبين الإنسانية مختصرة فى إنسان ، هو رسول اللّه ..
وكان ذلك قدرا مقدورا من اللّه العزيز الحكيم.
وقوله تعالى : « تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ » أي يتنزل فيها جبريل عليه السلام ، الذي هو مختص بتبليغ الوحى ، والاتصال بالنبيّ .. أما الملائكة الذين يحفون به ، فهم وفد اللّه معه لحمل هذه الرحمة إلى رسول اللّه ، وإلى عباد اللّه .. وهم إنما يتنزلون بأمر اللّه كما يقول سبحانه : « وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ » (64 : مريم) فجبريل لم يكن ينزل وحده بالوحى ، وإنما كان ينزل فى كوكبة عظيمة من الملائكة تشريفا وتكريما ، لما يحمل إلى رسول اللّه من آيات اللّه ..(1/820)
يقول الأستاذ الإمام محمد عبده : « وإنما عبر بالمضارع فى قوله تعالى : « تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ » وقوله : « فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ » ـ مع أن المعنى ماض ، لأن الحديث عن مبدإ نزول الوحى ـ لوجهين :
الأول : لاستحضار الماضي ، ولعظمته على نحو ما فى قوله تعالى : « وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ » (214 : البقرة) .. فإن المضارع بعد الماضي يزيد الأمر تصويرا ..
والثاني : لأن مبدأ النزول كان فيها ، ولكن بقية الكتاب ، وما فيه من تفصيل الأوامر والأحكام ـ كان فيما بعد .. فكأنه يشير إلى أن ما ابتدأ فيها يستمر فى مستقبل الزمان ، حتى يكمل الدين » !! وقوله تعالى : « من كل أمر » أي تتنزل الملائكة حاملة من كل أمرمن أوامر اللّه ، ومن أحكامه ، ما يأذن اللّه لها به ، كما تقضى بذلك حكمته ..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » (4 ـ 5 : الدخان).
وقوله تعالى : « سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ».أي أنها ليلة ولد فيها الأمن والسلام .. من بدئها إلى ختامها .. فهى ليلة القرآن .. والقرآن من مبدئه إلى ختامه سلام وأمن كلّه ، ورسالة القرآن هى « الإسلام » الذي هو السلام ، والنجاة ، لمن طلب السلامة والنجاة.! (1)
قال الإمام : سميت ليلة القدر ، إما بمعنى ليلة التقدير ؛لأن الله تعالى ابتدأ فيها تقدير دِينه وتحديد الخطة لنبيه في دعوة الناس إلى ما ينقذهم مما كانوا فيه ، أو بمعنى العظمة والشرف ، من قولهم : فلان له قدر ، أي : له شرف وعظمة ؛ لأن الله قد أعلى فيها منزلة نبيه وشرّفه وعظّمه بالرسالة ، وقد جاء بما فيه الإشارة ، بل التصريح ، بأنها ليلة جليلة ؛ بجلالة ما وقع فيها من إنزال القرآن . فقال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ } أي : وما الذي يعلمك مبلغ شأنها ونباهة أمرها .
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } فكرر ذكرها ثلاث مرات . ثم أتى بالاستفهام الدالّ على أن شرفها ليس مما تسهل إحاطة العلم به ، ثم قال : إنها خير من ألف شهر لأنه قد مضى على الأمم آلاف من الشهور وهو يختبطون في ظلمات الضلال ؛ فليلة يسطع فيها نور الهدى خير من ألف شهر من شهورهم الأولى . ولك أن تقف في التفضيل عند النص ، وتفوض الأمر ، في تحديد ما فضلت عليه الليلة بألف شهر ، إلى الله تعالى ؛ فهو الذي يعلم سبب ذلك ولم يبينه لنا ، ولك أن تجري الكلام على عادتهم في التخاطب . وذلك في الكتاب كثير ، ومنه الاستفهام الواقع في هذه السور { وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ } فإنه جار على عادتهم في الخطاب ، وإلا
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1633)(1/821)
فالعليم الخبير لا يقع منه أن يستفهم عن شيء . فيكون التحديد بالألف لا مفهوم له ، بل الغرض منه التكثير ، وإن أقل عدد تفضله هو ألف شهر . ثم إن درجات فضلها على هذا العدد غير محصورة . فإذا قلت : إخفاء الصدقة خير من إظهارها ، لم تعين درجة الأفضلية ، وهي درجات فوق درجات وقد جاء في الكتاب في واقعة واحدة ، هي واقعة بدر أن الله أمد المؤمنين بألف من الملائكة ، أو بثلاثة آلاف ، أو بخمسة آلاف ، كما تراه في الأنفال وآل عمران ؛ فالعدد هناك لا مفهوم له ، كما هو ظاهر . فهي ليلة خير من الدهر إن شاء الله ، ثم استأنف لبيان بعض مزاياها فقال : { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا } يخبر جل شأنه أن أول عهد للنبي - صلى الله عليه وسلم - بشهود الملائكة كان في تلك الليلة ، تنزلت من عالمها الروحانيّ الذي لا يحدهُ حد ولا يحيط به مقدار ، حتى تمثلت لبصره - صلى الله عليه وسلم - ، والروح هو الذي يتمثل له مبلغاً للوحي ، وهو الذي سمّي في القرآن بجبريل . وإنما تظهر الملائكة والروح { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } أي : إنما تتجلى الملائكة على النفس الكاملة ، بعد أن هيأها الله لقبول تجليها .وليست تتجلى الملائكة لجميع النفوس كما هو معلوم ، فذلك فضل الله يختص به من يشاء . واختصاصه هو إذنه ومشيئته . ثم إن هذه الإذن مبدؤه الأوامر والأحكام ؛ لأن الله يجلي الملائكة على النفوس ، لإيحاء ما يريده منها . ولهذا قال : { مِّن كُلِّ أَمْرٍ } أي : أن الله يظهر الملائكة والروح لرسله عند كل أمر يريد إبلاغه إلى عباده ، فيكون الإذن مبتدئاً من الأمر على هذا المعنى . والأمر ها هنا هو الأمر في قوله :
{ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } [ الدخان : 4 - 5 ] ، فالكلام في الرسالة والأوامر والأحكام ، لا في شيء سواها ؛ ولهذا قال بعضهم : إن من ها هنا بمعنى الباء ، أي : بكل أمر . ولا حاجة إليه لما قلنا . وإنما عبر بالمضارع في قوله :
{ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ } وقوله : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } مع أن المعنى ماض ، لأن الحديث عن مبدأ نزول القرآن لوجهين :
الأول : لاستحضار الماضي لعظمته على نحو ما في قوله : { وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ } [ البقرة : 214 ] ، فإن المضارع بعد الماضي يزيد الأمر تصويراً .
والثاني : لأن مبدأ النزول كان فيها ، ولكن بقية الكتاب وما فيه من تفصيل الأوامر والأحكام كان فيما بعد ، فكأنه يشير إلى أن ما ابتدأ فيها يستمر في مستقبل الزمان حتى يكمل الدين . وقوله تعالى :{ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } أي : أنها كانت ليلة سالمة من كل شر وأذى . والإخبار عنها بالسلام نفسه - وهو الأمن والسلامة - للمبالغة في أنهُ لم يَشُبْها كدر ، بل فرَّج الله فيها عن نبيه كل كربة وفتح له فيها سبل الهداية ، فأناله بذلك ما كان يتطلع إليها الأيامَ والشهور الطوال .
تنبيهات :(1/822)
الأول : قدمنا أن ليلة القدر التي ابتدأ فيها نزول القرآن كانت في رمضان لآية { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } ولا إجماع في تعيين تلك الليلة ، بل في صحيح البخاري : أنها < رفعت > . أي : رفع العلم بتعيينها . وفي رواية فيه : < نسيتها أو أنسيتها > ، من قوله صلوات الله عليه . ولذا رغب في قيام رمضان كله رجاء موافقتها في ليلة منه . نعم الأقوى رواية أنها في < العشر الأخير من رمضان > لما كان من اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بالاعتكاف فيه وإحياء ليله وإيقاظ أهله . وقد ذهب ابن مسعود والشعبي والحسن وقتادة إلى أنها ليلة أربع وعشرين ، قال ابن حجر : وحجتهم حديث واثلة : أن القرآن نزل لأربع وعشرين من رمضان . وقد اضطربت أقوال السلف فيها - صحابة ًومن بعدهم - حتى أنافت على أربعين قولاً .قال الإمام : ثم الأخبار الصحيحة متضافرة على أنه في شهر رمضان ، ولا نعيّنها من بين لياليه . فقد اختلف فيها الروايات اختلافاً عظيماً ، وكتاب الله لم يعينها ، وما ورد في الأحاديث من ذكرها ، إنما قصد به حث المؤمنين على إحيائها بالعبادة ؛ شكراً لله تعالى على ما هداهم بهذا الدين الذي ابتدأ الله إفاضته فيهم ، في أثنائها . ولهم أن يعبدوا الله فيها أفراداً وجماعات ، فمن رجح عنده خبر في ليلة أحياها ، ومن أراد أن يوافقها على التحقيق ، فعليه أن يشكر الله بالفراغ إليه بالعبادات في الشهر كله . وهذا هو السر في عدم تعيينها . وتشير إليه آية البقرة فإنها تجعل الشهر كله ظرفاً لنزول القرآن ، ليذكر المؤمنون نعمة الله عليهم فيه ؛ فهي ليلة عبادة وخشوع ، وتذكر لنعمة الحق والدين . فلا تكون ليلة زهو ولهو تتخذ فيها مساجد الله مضامير للرياء ، يتسابق إليها المنافقون ويحدث أنفسهم بالبعد عنها المخلصون ، كما جرى عليه عمل المسلمين في هذه الأيام ، فإن كل ما حفظوه من ليلة القدر هو أن تكون لهم فيها ساعة سمر يتحدثون فيها بما لا ينظر الله إليه ، ويسمعون شيئاً من كتاب الله لا ينظرون فيه ولا يعتبرون بمعانيه ، بل إن أصغوا إليه فإنما يصغون لنغمة تاليه ، ثم يسمعون من الأقوال ما لم يصح خبره ، ولم يحمد في الآخرين ولا الأولين أثره ، ولهم خيالات في ليلة القدر لا تليق بعقول الأطفال ، فضلاً عن الراشدين من الرجال . انتهى .
وقال الطبريّ : إخفاء ليلة القدر دليل على كذب من زعم أنه يظهر في تلك الليلة للعيون ما لا يظهر في سائر السنة ؛ إذ لو كان ذلك حقاً ، لم يخف على كل من قام ليالي السنة ، فضلاً عن ليالي رمضان .
الثاني : حكى الحافظ ابن جحر في " فتح الباري " قولاً عن بعض العلماء ، أن ليلة القدر خاصة بسنة واحدة وقعت في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولعل مستنده ما صحّ أنها < رفعت > . وقد قدمنا معناه ؛ ولذا ذهب الجمهور إلى خلافه . وعندي أن لا تنافي ؛ لأن المراد بالأول هو ليلة نزول القرآن وما كان فيها من التجليّ الخاص التي انفردت به ، وبالثاني أن ما يوافق تلك الليلة من(1/823)
رمضان كل عام ، هي ليلة فيها مزية على غيرها ، بفضل اختصت به دون غيرها . وهذا هو السرّ في قيام رمضان والتماسها في العشر الأواخر منه . أعني إحياء ما ماثلها من الليالي تبركاً وتيمناً وشكراً لله تعالى على تلك النعمة والهداية ، فالقائم في ليالي العشر الأخير ، أو في رمضان ، مصادف البتة لما ماثل تلك الليلة ؛ لأنها منه قطعاً . وقد باين الإسلام في تفضيل بعض الأوقات بتشريع اتخاذها موسماً للعبادة ما ابتدعه رؤساء الأديان الأخَر في تذكاراتهم وجعلها أعياداً ، تصرف ساعاتها للبطالة والزينة واللهو ، مما ينافي حكمة ذكراها ؛ فتأمّل الفرق واحمد الله على اتباع الحق .
الثالث : قال الإمام : ما يقوله الكثير من الناس من أن الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم هي ليلة النصف من شعبان ، وأن الأمور التي تفرق فيها هي الأرزاق والأعمار ، وكذلك ما يقولونه من مثل ذلك في ليلة القدر ، فهو من الجراءة على الكلام في الغيب بغير حجة قاطعة ، وليس من الجائز لنا أن نعتقد بشيء من ذلك ، ما لم يرد به خبر متواتر عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - ، ومثل ذلك لم يرد ؛ لاضطراب الروايات ، وضعف أغلبها ، وكذبِ الكثير منها . ومثلها لا يصح الأخذ به في باب العقائد . ومثل ذلك يقال في بيت العِزّة ، ونزول القرآن فيه جملة واحدة في تلك الليلة ، فإنه لا يجوز أن يدخل في عقائد الدين ، لعدم تواتر خبره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يجوز لنا الأخذ بالظن في عقيدة مثل هذه ، وإلا كنا من الذين { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ } [ الأنعام : 116 ] نعوذ بالله . وقد وقع المسلمون في هذه المصيبة ، مصيبة الخلط بين ما يصح الاعتقاد به من غيب الله ويُعدّ من عقائد الدين ، وبين ما يظن به للعمل على فضيلة من الفضائل ، فاحذر أن تقع فيها مثلهم ، انتهى كلامه رحمه الله تعالى . (1)
الحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال . ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى . ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ليلة ذات الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته ، وفي دلالته ، وفي آثاره في حياة البشرية جميعاً . العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري : { إنا أنزلناه في ليلة القدر . وما أدراك ما ليلة القدر؟ } . . { ليلة القدر خير من ألف شهر } . .
والنصوص القرآنية التي تذكر هذا الحدث تكاد ترف وتنير . بل هي تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود . نور الله المشرق في قرآنه : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } ونور الملائكة والروح وهم في غدوهم ورواحهم طوال الليلة بين الأرض والملأ الأعلى : { تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من أكل أمر } . . ونور الفجر الذي تعرضه النصوص متناسقاً مع نور
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 279)(1/824)
الوحي ونور الملائكة ، وروح السلام المرفوف على الوجود وعلى الأرواح السارية في هذا الوجود : { سلام هي حتى مطلع الفجر } . .
والليلة التي تتحدث عنها السورة هي الليلة التي جاء ذكرها في سورة الدخان : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة ، إنا كنا منذرين ، فيها يفرق كل أمر حكيم . أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين . رحمة من ربك إنه هو السميع العليم } والمعروف أنها ليلة من ليالي رمضان ، كما ورد في سورة البقرة : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } أي التي بدأ فيها نزول القرآن على قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليبلغه إلى الناس . وفي رواية ابن إسحاق أن أول الوحي بمطلع سورة العلق كان في شهر رمضان ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحنث في غار حراء .
وقد ورد في تعيين هذه الليلة آثار كثيرة . بعضها يعين الليلة السابعة والعشرين من رمضان . وبعضها يعين الليلة الواحدة والعشرين . وبعضها يعينها ليلة من الليالي العشر الأخيرة . وبعضها يطلقها في رمضان كله . فهي ليلة من ليالي رمضان على كل حال في أرجح الآثار .
واسمها : { ليلة القدر } . . قد يكون معناه التقدير والتدبير . وقد يكون معناه القيمة والمقام . وكلاهما يتفق مع ذلك الحدث الكوني العظيم . حدث القرآن والوحي والرسالة . . وليس أعظم منه ولا أقوم في أحداث هذا الوجود . وليس أدل منه كذلك على التقدير والتدبير في حياة العبيد . وهي خير من ألف شهر . والعدد لا يفيد التحديد . في مثل هذه المواضع من القرآن . إنما هو يفيد التكثير . والليلة خير من آلاف الشهور في حياة البشر . فكم من آلاف السنين قد انقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة السعيدة من آثار وتحولات .
والليلة من العظمة بحيث تفوق حقيقتها حدود الإدراك البشري : { وما أدراك ما ليلة القدر؟ } وذلك بدون حاجة إلى التعلق بالأساطير التي شاعت حول هذه الليلة في أوهام العامة . فهي ليلة عظيمة باختيار الله لها لبدء تنزيل هذا القرآن . وإضافة هذا النور على الوجود كله ، وإسباغ السلام الذي فاض من روح الله على الضمير البشري والحياة الإنسانية ، وبما تضمنه هذا القرآن من عقيدة وتصور وشريعة وآداب تشيع السلام في الأرض والضمير . وتنزيل الملائكة وجبريل عليه السلام خاصة ، بإذن ربهم ، ومعهم هذا القرآن باعتبار جنسه الذي نزل في هذه الليلة وانتشارهم فيما بين السماء والأرض في هذا المهرجان الكوني ، الذي تصوره كلمات السورة تصويراً عجيباً . .
وحين ننظر اليوم من وراء الأجيال المتطاولة إلى تلك الليلة المجيدة السعيدة ، ونتصور ذلك المهرجان العجيب الذي شهدته الأرض في هذه الليلة ، ونتدبر حقيقة الأمر الذي تم فيها ، ونتملى آثاره المتطاولة في مراحل الزمان ، وفي واقع الأرض ، وفي تصورات القلوب(1/825)
والعقول . . فإننا نرى أمراً عظيماً حقاً . وندرك طرفاً من مغزى هذه الإشارة القرآنية إلى تلك الليلة : { وما أدراك ما ليلة القدر؟ } . .
لقد فرق فيها من كل أمر حكيم . وقد وضعت فيها من قيم وأسس وموازين . وقد قررت فيها من أقدار أكبر من أقدار الأفراد . أقدار أمم ودول وشعوب . بل أكثر وأعظم . . أقدار حقائق وأوضاع وقلوب!
ولقد تغفل البشرية لجهالتها ونكد طالعها عن قدر ليلة القدر . وعن حقيقة ذلك الحدث ، وعظمة هذا الأمر . وهي منذ أن جهلت هذا وأغفلته فقدت أسعد وأجمل آلاء الله عليها ، وخسرت السعادة والسلام الحقيقي سلام الضمير وسلام البيت وسلام المجتمع الذي وهبها إياه الإسلام . ولم يعوضها عما فقدت ما فتح عليها من أبواب كل شيء من المادة والحضارة والعمارة . فهي شقية ، شقية على الرغم من فيض الإنتاج وتوافر وسائل المعاش!
لقد أنطفأ النور الجميل الذي أشرق في روحها مرة ، وانطمست الفرحة الوضيئة التي رفت بها وانطلقت إلى الملأ الأعلى . وغاب السلام الذي فاض على الأرواح والقلوب . فلم يعوضها شيء عن فرحة الروح ونور السماء وطلاقة الرفرفة إلى عليين . .
ونحن المؤمنين مأمورون أن لا ننسى ولا نغفل هذه الذكرى؛ وقد جعل لنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - سبيلاً هيناً ليناً لاستحياء هذه الذكرى في أرواحنا لتظل موصولة بها أبداً ، موصولة كذلك بالحدث الكوني الذي كان فيها . وذلك فيما حثنا عليه من قيام هذه الليلة من كل عام ، ومن تحريها والتطلع إليها في الليالي العشر الأخيرة من رمضان . . في الصحيحين : « تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان » وفي الصحيحين كذلك :« من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه »
والإسلام ليس شكليات ظاهرية . ومن ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القيام في هذه الليلة أن يكون « إيماناً واحتساباً » . . وذلك ليكون هذا القيام استحياء للمعاني الكبيرة التي اشتملت عليها هذه الليلة « إيماناً » وليكون تجرداً لله وخلوصاً « واحتساباً » . . ومن ثم تنبض في القلب حقيقة معينة بهذا القيام . ترتبط بذلك المعنى الذي نزل به القرآن .
والمنهج الإسلامي في التربية يربط بين العبادة وحقائق العقيدة في الضمير ، ويجعل العبادة وسيلة لاستحياء هذه الحقائق وإيضاحها وتثبيتها في صورة حية تتخلل المشاعر ولا تقف عند حدود التفكير .
وقد ثبت أن هذا المنهج وحده هو أصلح المناهج لإحياء هذه الحقائق ومنحها الحركة في عالم الضمير وعالم السلوك . وأن الإدراك النظري وحده لهذه الحقائق بدون مساندة العبادة ، وعن(1/826)
غير طريقها ، لا يقر هذه الحقائق ، ولا يحركها حركة دافعة في حياة الفرد ولا في حياة الجماعة . .
وهذا الربط بين ذكرى ليلة القدر وبين القيام فيها إيماناً واحتساباً ، هو طرف من هذا المنهج الإسلامي الناجح القويم . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- تقرير الوحي وإثبات النبوة المحمدية .
2- تقرير عقيدة القضاء والقدر .
3- ليلة القدر هي ليلة الشرف والتعظيم ، وليلة الحكم والتقدير ، يقدّر اللَّه فيها ما يشاء من أمره ، إلى مثلها من السنة القابلة من أمر الموت والأجل والرزق وغيره ، ويسلّمه إلى مدبّرات الأمور ، وهم أربعة من الملائكة : إسرافيل ، وميكائيل ، وعزرائيل ، وجبرائيل عليهم السلام..
4- بيان أن القرآن نزل في رمضان دفعة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا وأنه ابتدئ نزوله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان أيضا .
5- الندب إلى طلب ليلة القدر للفوز بفضلها وذلك في العشر الأواخر من شهر رمضان ، فالعمل في ليلة القدر خير من العمل في ألف أشهر ليس فيها ليلة القدر ، وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر.
6- استحباب الإِكثار من قراءة القرآن وسماعه فيها لمعارضة جبريل الرسول - صلى الله عليه وسلم - القرآن في رمضان مرتين .
7- بدأ نزول القرآن العظيم في ليلة القدر من ليالي رمضان المبارك.
8- تهبط الملائكة من كل سماء ، ومن سدرة المنتهى ، وجبريل حيث مسكنه على وسطها إلى الأرض ، ويؤمّنون على دعاء الناس ، إلى وقت طلوع الفجر. وهم ينزلون في ليلة القدر بأمر ربهم من أجل كل أمر قدّره اللَّه وقضاه في تلك السنة إلى قابل ، كما قال ابن عباس : وهذه الآية دالة على عصمة الملائكة ، كما قال تعالى : وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم 19/ 64] وقال سبحانه : لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء 21/ 27].
9- تلك الليلة ليلة أمن وسلام ، وخير وبركة من اللَّه تعالى ، فلا يقدّر اللَّه في تلك الليلة إلا السلامة ، وفي سائر الليالي يقضي بالبلايا والسلامة ، وهي ليلة ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة. وليلة سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أذى. وهي
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3946)(1/827)
خير كلها ليس فيها شر إلى مطلع الفجر. والخلاصة : اشتملت هذه الليلة على الخيرات والبركات وتقدير الأرزاق ، والمنافع الدينية والدنيوية.
يؤيد هذاما أخرجه الإمام أحمد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْبَوَاقِي مَنْ قَامَهُنَّ ابْتِغَاءَ حِسْبَتِهِنَّ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَغْفِرُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، وَهِيَ لَيْلَةُ وِتْرٍ : تِسْعٌ أَوْ سَبْعٌ أَوْ خَامِسَةٌ أَوْ ثَالِثَةٌ ، أَوْ آخِرُ لَيْلَةٍ " . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ أَمَارَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَنَّهَا صَافِيَةٌ بُلْجَةٌ كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا سَاطِعًا سَاكِنَةٌ شَاجِبَةٌ لَا بَرْدَ فِيهَا وَلَا حَرَّ وَلَا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ [ أَنْ ] يُرْمَى بِهِ فِيهَا حَتَّى يُصْبِحَ ، وَإِنَّ أَمَارَتَهَا أَنَّ الشَّمْسَ صَبِيحَتَهَا تَخْرُجُ مُسْتَوِيَةً لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ مِثْلَ الْقَمَرِ الْبَدْرِ ، لَا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ " . رَوَاهُ أَحْمَدُ (1)
الخلاصة في أحكام ليلة القدر (2)
التَّعْرِيفُ :
لَيْلَةُ الْقَدْرِ تَتَرَكَّبُ مِنْ لَفْظَيْنِ :
أَوَّلُهُمَا : لَيْلَةٌ وَهِيَ فِي اللُّغَةِ : مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَيُقَابِلُهَا النَّهَارُ . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
وَثَانِيهِمَا : الْقَدْرُ ، وَمِنْ مَعَانِي الْقَدْرِ فِي اللُّغَةِ : الشَّرَفُ وَالْوَقَارُ ، وَمَنْ مَعَانِيهِ : الْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ وَالتَّضْيِيقُ .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْقَدْرِ الَّذِي أُضِيفَتْ إِلَيْهِ اللَّيْلَةُ فَقِيل : الْمُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ وَالتَّشْرِيفُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } (سورة الزمر / 67) ، وَالْمَعْنَى : أَنَّهَا لَيْلَةٌ ذَاتُ قَدْرٍ وَشَرَفٍ لِنُزُول الْقُرْآنِ فِيهَا ، وَلِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ تَنَزُّل الْمَلاَئِكَةِ ، أَوْ لِمَا يَنْزِل فِيهَا مِنَ الْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ ، أَوْ أَنَّ الَّذِي يُحْيِيهَا يَصِيرُ ذَا قَدْرٍ وَشَرَفٍ .
وَقِيل : مَعْنَى الْقَدْرِ هُنَا التَّضْيِيقُ كَمِثْل قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } (سورة الطلاق / 7) وَمَعْنَى التَّضْيِيقِ فِيهَا إِخْفَاؤُهَا عَنِ الْعِلْمِ بِتَعْيِينِهَا ، أَوْ لأَِنَّ الأَْرْضَ تَضِيقُ فِيهَا عَنِ الْمَلاَئِكَةِ ، وَقِيل : الْقَدْرُ هُنَا بِمَعْنَى الْقَدَرِ - بِفَتْحِ الدَّال - وَهُوَ مُؤَاخِي الْقَضَاءِ : أَيْ بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَالْفَصْل وَالْقَضَاءِ ، قَال الْعُلَمَاءُ : سُمِّيَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ لِمَا تَكْتُبُ فِيهَا الْمَلاَئِكَةُ مِنَ الأَْرْزَاقِ وَالآْجَال وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَيَقَعُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ بِذَلِكَ ، وَذَلِكَ مَا يَدُل عَلَيْهِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى :{ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُل أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا
__________
(1) - مسند أحمد (23436) حسن
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (35 / 360) فما بعدها
(3) - المصباح المنير ، والمفردات .(1/828)
مُرْسِلِينَ } (سورة الدخان / 3 - 5)،حَيْثُ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ الْوَارِدَةَ فِي هَذِهِ الآْيَةِ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ،وَلَيْسَتْ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ (1)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ : لَيْلَةُ الْقَدْرِ هِيَ لَيْلَةٌ شَرِيفَةٌ مُبَارَكَةٌ مُعَظَّمَةٌ مُفَضَّلَةٌ ثُمَّ قَال : وَقِيل : إِنَّمَا سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لأَِنَّهُ يُقَدَّرُ فِيهَا مَا يَكُونُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِنْ خَيْرٍ وَمُصِيبَةٍ ، وَرِزْقٍ وَبَرَكَةٍ (2) .
فَضْل لَيْلَةِ الْقَدْرِ :
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ أَفَضْل اللَّيَالِي ، وَأَنَّ الْعَمَل الصَّالِحَ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْعَمَل الصَّالِحِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، قَال تَعَالَى : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } (سورة القدر / 3) ، وَأَنَّهَا اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ الَّتِي يُفْرَقُ فِيهَا كُل أَمْرٍ حَكِيمٍ ، وَالَّتِي وَرَدَ ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُل أَمْرٍ حَكِيمٍ } (سورة الدخان 3 - 4) (3) .
وَوَرَدَ فِي فَضْلِهَا أَيْضًا بِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا سَبَقَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى : { تَنَزَّل الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُل أَمْرٍ } (سورة القدر / 4) ، قَال الْقُرْطُبِيُّ : أَيْ تَهْبِطُ مِنْ كُل سَمَاءٍ وَمِنْ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَيَنْزِلُونَ إِلَى الأَْرْضِ وَيُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَاءِ النَّاسِ إِلَى وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَتَنْزِل الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِالرَّحْمَةِ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِكُل أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ وَقَضَاهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى قَابِلٍ . وَفِي فَضْل لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَيْضًا قَال اللَّهُ تَعَالَى : { سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } (سورة القدر / 5) . أَيْ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ سَلاَمَةٌ وَخَيْرٌ كُلُّهَا لاَ شَرَّ فِيهَا إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ،قَال الضَّحَّاكُ : لاَ يُقَدِّرُ اللَّهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلاَّ السِّلاَمَةَ وَفِي سَائِرِ اللَّيَالِيِ يَقْضِي بِالْبَلاَيَا وَالسَّلاَمَةِ ،وَقَال مُجَاهِدٌ : هِيَ لَيْلَةٌ سَالِمَةٌ لاَ يَسْتَطِيعُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَعْمَل فِيهَا سُوءًا وَلاَ أَذًى (4) .
إِحْيَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ :
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ إِحْيَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ (5) لِفِعْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَاوَرَ فِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ (6) ، وَلِمَا وَرَدَ
__________
(1) - المصباح المنير ، والمفردات ، وفتح الباري 4 / 255 ، ودليل الفالحين 3 / 649 ، والمجموع للنووي 6 / 447 ، والمغني لابن قدامة 3 / 178 .
(2) - المغني 3 / 178 .
(3) - فتح الباري 4 / 255 وما بعدها ، ودليل الفالحين 3 / 649 ، وحاشية ابن عابدين 2 / 137 ، ومواهب الجليل 2 / 463 ، والمجموع 6 / 446 وما بعدها المغني 3 / 187 ، وشرح صحيح مسلم للنووي 8 / 57 وما بعدها
(4) - تفسير القرطبي 20 / 133 - 134 .
(5) - مراقي الفلاح ص218 ، وفتح الباري 4 / 255 - 270 ، ودليل الفالحين 3 / 646 ، وما بعدها ، وشرح صحيح مسلم 8 / 57 وما بعدها ، والقليوبي 2 / 127 ، والمجموع 6 / 446 وما بعدها
(6) - أخرجه البخاري ( فتح الباري 4 / 259 ) ومسلم ( 2 / 824 )(1/829)
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا دَخَل الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْل وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ (1) ، وَالْقَصْدُ مِنْهُ إِحْيَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَلِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (2) .
وَيَكُونُ إِحْيَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْعْمَال الصَّالِحَةِ ، وَأَنْ يُكْثِرَ مِنْ دُعَاءِ : اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قُلْتُ : يَا رَسُول اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُول فِيهَا ؟ قَال : قُولِي : اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي (3) ، قَال ابْنُ عَلاَّنَ : بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَهَمَّ الْمَطَالِبِ انْفِكَاكُ الإِْنْسَانِ مِنْ تَبَعَاتِ الذُّنُوبِ وَطَهَارَتُهُ مِنْ دَنَسِ الْعُيُوبِ ، فَإِنَّ بِالطَّهَارَةِ مِنْ ذَلِكَ يَتَأَهَّل لِلاِنْتِظَامِ فِي سَلْكِ حِزْبِ اللَّهِ وَحِزْبُ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (4) .
اخْتِصَاصُ الأُْمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ :
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَاصَّةٌ بِالأُْمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَلَمْ تَكُنْ فِي الأُْمَمِ السَّابِقَةِ (5) ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ : أَنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ يَقُول : إِنَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ ، فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَنْ لاَ يَبْلُغُوا مِنَ الْعَمَل مِثْل الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُول الْعُمُرِ ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، (6) وَبِمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ : أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ لَبِسَ السِّلاَحَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَلْفَ شَهْرٍ قَالَ فَعَجِبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ :« فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُالْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ». الَّتِى لَبِسَ فِيهَا ذَلِكَ الرَّجُلُ السِّلاَحَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَلْفَ شَهْرٍ." (7) .
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ كَانَتْ فِي الأُْمَمِ السَّابِقَةِ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَفِي كُلِّ رَمَضَانَ هِي ؟ قَالَ : " نَعَمْ " ، قُلْتُ : أَفَتَكُونُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ ، وَإِذَا رُفِعُوا رُفِعَتْ أَوْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : " لَا بَلْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " ثُمَّ حَدَّثَ رَسُولُ
__________
(1) - أخرجه البخاري ( فتح الباري 4 / 269 ) ومسلم ( 2 / 832 ) واللفظ لمسلم
(2) - أخرجه البخاري ( فتح الباري 4 / 255 ) من حديث أبي هريرة
(3) - أخرجه الترمذي ( 5 / 534 ) (3855 ) وقال : حديث حسن صحيح
(4) - مغني المحتاج 1 / 450 ، دليل الفالحين 3 / 654 ، ابن عابدين 2 / 137 ، فتح الباري 4 / 255 وما بعدها .
(5) - فتح الباري 4 / 263 ، والمجموع 6 / 447 - 448 ، والفواكه الدواني 1 / 378 .
(7) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (4 / 306) (8785) صحيح مرسل(1/830)
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَحَدَّثَ فَاهْتَبَلْتُ غَفْلَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ : بِأَبِي وَأُمِّي فِي أَيِّ رَمَضَانَ هِي ؟ قَالَ : " فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ " ثُمَّ حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَحَدَّثَ فَاهْتَبَلْتُ غَفْلَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ : بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فِي أَيِّ الْعِشْرِينَ هِي ؟ قَالَ : " فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ " ثُمَّ حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَحَدَّثَ فَاهْتَبَلْتُ غَفْلَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ : بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِحَقِّي لَمَا أَخْبَرْتِنِي فِي أَيِّ الْعَشْرِ هِي فَغَضِبَ عَلَيَّ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ عَلَيَّ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ثُمَّ قَالَ : " فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ ، لَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا ". (1)
بَقَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ :
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي بَقَاءِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ وَلِلأَْحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَحُثُّ الْمُسْلِمَ عَلَى طَلَبِهَا وَالاِجْتِهَادِ فِي إِدْرَاكِهَا ، وَمِنْهَا قَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (2) ، وَقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ (3) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ رُفِعَتْ أَصْلاً وَرَأْسًا ،
قَال ابْنُ حَجَرٍ : حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي فِي التَّتِمَّةِ عَنِ الرَّوَافِضِ وَالْفَاكَهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَكَأَنَّهُ خَطَأٌ ، وَالَّذِي حَكَاهُ السُّرُوجِيُّ أَنَّهُ قَوْل الشِّيعَةِ . وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُحَنَّسَ قُلْتُ لأَِبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : زَعَمُوا أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ رُفِعَتْ ، قَال : كَذَبَ مَنْ قَال ذَلِكَ
، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ قَال : ذَكَرَ الْحَجَّاجُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَكَأَنَّهُ أَنْكَرَهَا فَأَرَادَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ أَنْ يَحْصِبَهُ فَمَنَعَهُ قَوْمُهُ (4) .
مَحَل لَيْلَةِ الْقَدْرِ :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَحَل لَيْلَةِ الْقَدْرِ ،فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَحَل لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ دَائِرَةٌ مَعَهُ ، لأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَل الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِقَوْلِهِ : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ } (سورة القدر / 1 - 2) .
وَأَخْبَرْنَا كَذَلِكَ أَنَّهُ أَنْزَل الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } (سورة البقرة / 185) ، الآْيَةَ ، مِمَّا يَدُل عَلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مُنْحَصِرَةٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ دُونَ سَائِرِ لَيَالِي السَّنَةِ الأُْخْرَى (5) .
__________
(1) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (15164 ) ( 2 / 278 ) حسن
(2) - مر تخريجه
(3) - أخرجه البخاري ( فتح الباري 4 / 259 ) من حديث عائشة
(4) - مصنف عبد الرزاق 4 / 253 ، 255 ، وفتح الباري 4 / 263 ، والمجموع 6 / 448 ، وتفسير القرطبي 20 / 135 .
(5) - فتح الباري 4 / 251 - 263،267 ، 268 ، ودليل الفالحين 3 / 649 ، والمجموع 6 / 448 ، 458 ، والمغني 3 / 179 ، وتفسير القرطبي 20 / 135 ، والفواكه الدواني 1 / 378 ، وحاشية ابن عابدين 2 / 137 .(1/831)
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالَّتِي سَبَقَ نَقْلُهَا وَهِيَ تَدُل عَلَى أَنَّ مَحَل لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ إِلَى أَنَّ مَحَل لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ تَدُورُ فِيهَا ، قَدْ تَكُونُ فِي رَمَضَانَ وَقَدْ تَكُونُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُول : " مِنْ يَقُمِ الْحَوْل يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ " مُشِيرًا إِلَى أَنَّهَا فِي السَّنَةِ كُلِّهَا ، وَلَمَّا بَلَغَ قَوْلُهُ هَذَا إِلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال : يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمَا إِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَلاَّ يَتَّكِل النَّاسُ (1) .
وَاخْتَلَفَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي مَحَلِّهَا مِنَ الشَّهْرِ وَذَلِكَ بَعْدَمَا قَالُوا : يُسْتَحَبُّ طَلَبُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي جَمِيعِ لَيَالِي رَمَضَانَ وَفِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ آكَدُ ، وَلَيَالِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ آكَدُ ، لِلأَْحَادِيثِ السَّابِقَةِ .
وَفِيمَا يَلِي أَقْوَال الْعُلَمَاءِ فِي مَحَلِّهَا :
الْقَوْل الأَْوَّل : الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ لَدَى جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ، وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ، وَالأَْوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ : أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لِكَثْرَةِ الأَْحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْتِمَاسِهَا فِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ، وَتُؤَكِّدُ أَنَّهَا فِي الأَْوْتَارِ وَمُنْحَصِرَةٌ فِيهَا .
وَالأَْشْهَرُ وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا لَيْلَةُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ .
وَبِهَذَا يَقُول الْحَنَابِلَةُ ، فَقَدْ صَرَّحَ الْبُهُوتِيُّ بِأَنَّ أَرْجَاهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ نَصًّا (2) .
الْقَوْل الثَّانِي : قَال ابْنُ عَابِدِينَ : لَيْلَةُ الْقَدْرِ دَائِرَةٌ مَعَ رَمَضَانَ ، بِمَعْنَى أَنَّهَا تُوجَدُ كُلَّمَا وُجِدَ ، فَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِهِ عِنْدَ الإِْمَامِ وَصَاحِبَيْهِ ، لَكِنَّهَا عِنْدَهُمَا فِي لَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهُ ، وَعِنْدَهُ لاَ تَتَعَيَّنُ (3)
وَقَال الطَّحْطَاوِيُّ : ذَهَبَ الأَْكْثَرُ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَنَسَبَهُ الْعَيْنِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ إِلَى الصَّاحِبَيْنِ (4) .
__________
(1) - تفسير القرطبي 20 / 135 ، وحاشية ابن عابدين 2 / 137 ، والمجموع 6 / 459 ، 466 ، وفتح الباري 4 / 263 ، والمغني 3 / 179 ، ودليل الفالحين 3 / 649 .
(2) - فتح الباري 4 / 265 ، 266 ، وحاشية ابن عابدين 2 / 137 ، وتفسير القرطبي 2 / 135 ، والمجموع 6 / 449 ، 450 ، 452 ، 459 ، وكشاف القناع 2 / 344 - 345 ، والمغني 3 / 182 ، والفواكه الدواني 1 / 378 ، والقوانين الفقهية ص85 .
(3) - حاشية ابن عابدين 2 / 137 .
(4) - حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص218 .(1/832)
الْقَوْل الثَّالِثُ : قَال النَّوَوِيُّ : مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا مُنْحَصِرَةٌ فِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ مُبْهَمَةٌ عَلَيْنَا ، وَلَكِنَّهَا فِي لَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي نَفْسِ الأَْمْرِ لاَ تَنْتَقِل عَنْهَا وَلاَ تَزَال مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَكُل لَيَالِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مُحْتَمِلَةٌ لَهَا ، لَكِنْ لَيَالِي الْوِتْرِ أَرْجَاهَا ، وَأَرْجَى الْوِتْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْلَةُ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ ، وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ إِلَى ثَلاَثَةٍ وَعِشْرِينَ ، وَقَال الْبَنْدَنِيجِيُّ : مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ أَرَجَاهَا لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ ، وَقَال فِي الْقَدِيمِ : لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ فَهُمَا أَرْجَى لَيَالِيهَا عِنْدَهُ ، وَبَعْدَهُمَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ . هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهَا مُنْحَصِرَةٌ فِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ (1) .
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ : . وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ (2) .
الْقَوْل الرَّابِعُ : أَنَّهَا أَوَّل لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ ، وَهُوَ قَوْل أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ الصَّحَابِيِّ لِقَوْل أَنِسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَوَّل لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ ، نَقَلَهَا عَنْهُمَا ابْنُ حَجَرٍ (3) .
الْقَوْل الْخَامِسُ : أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ ، رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال : مَا أَشُكُّ وَلاَ أَمْتَرِي أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ أُنْزِل الْقُرْآنُ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحُجَّةِ أَنَّهَا هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي صَبِيحَتِهَا وَقْعَةُ بَدْرٍ وَنَزَل فِيهَا الْقُرْآنُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } (سورة الأنفال / 41) ، وَهُوَ مَا يَتَوَافَقُ تَمَامًا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } (سورة القدر / 1) .
الْقَوْل السَّادِسُ : أَنَّهَا مُبْهَمَةٌ فِي الْعَشْرِ الأَْوْسَطِ ، حَكَاهُ النَّوَوِيُّ وَقَال بِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَعَزَاهُ الطَّبَرِيُّ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ .
الْقَوْل السَّابِعُ : أَنَّهَا لَيْلَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ ، قَال ابْنُ حَجَرٍ : رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَزَاهُ الطَّبَرِيُّ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَوَصَلَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
الْقَوْل الثَّامِنُ : أَنَّهَا مُتَنَقِّلَةٌ فِي لَيَالِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ تَنْتَقِل فِي بَعْضِ السِّنِينَ إِلَى لَيْلَةٍ وَفِي بَعْضِهَا إِلَى غَيْرِهَا ، وَذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الأَْحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي تَحْدِيدِهَا فِي لَيَالٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ شَهْرِ
__________
(1) - المجموع 6 / 449 ، 450 .
(2) - مغني المحتاج 1 / 450
(3) - فتح الباري 4 / 263 وما بعدها ، وتفسير القرطبي 20 / 134 ، والمجموع 6 / 458 ، والمغني 3 / 180 .(1/833)
رَمَضَانَ عَامَّةً وَمَنِ الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ خَاصَّةً ، لأَِنَّهُ لاَ طَرِيقَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ تِلْكَ الأَْحَادِيثِ إِلاَّ بِالْقَوْل بِأَنَّهَا مُتَنَقِّلَةٌ ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُجِيبُ عَلَى نَحْوِ مَا يُسْأَل ، فَعَلَى هَذَا كَانَتْ فِي السَّنَةِ الَّتِي رَأَى أَبُو سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ (1) ، وَفِي السَّنَةِ الَّتِي أَمَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ بِأَنْ يَنْزِل مِنَ الْبَادِيَةِ لِيُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ لَيْلَةَ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ (2) ، وَفِي السَّنَةِ الَّتِي رَأَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلاَمَتَهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ (3) ، وَقَدْ تُرَى عَلاَمَتُهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ اللَّيَالِي ، وَهَذَا قَوْل مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي قُلاَبَةَ وَالْمُزَنِيِّ وَصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ وَالْمَاوَرْدِيِّ وَابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَقَال النَّوَوِيُّ : وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ ، لِتَعَارُضِ الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ وَلاَ طَرِيقَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الأَْحَادِيثِ إِلاَّ بِانْتِقَالِهَا ،وَقِيل : إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مُتَنَقِّلَةٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلِّهِ (4) .
قَال بَعْضُ أَهْل الْعِلْمِ : أَبْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ اللَّيْلَةَ عَلَى الأُْمَّةِ لِيَجْتَهِدُوا فِي طَلَبِهَا ، وَيَجِدُّوا فِي الْعِبَادَةِ طَمَعًا فِي إِدْرَاكِهَا كَمَا أَخْفَى سَاعَةَ الإِْجَابَةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِيُكْثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ فِي الْيَوْمِ كُلِّهِ ، وَأَخْفَى اسْمَهُ الأَْعْظَمَ فِي الأَْسْمَاءِ ، وَرِضَاهُ فِي الطَّاعَاتِ لِيَجْتَهِدُوا فِي جَمِيعِهَا ، وَأَخْفَى الأَْجَل وَقِيَامَ السَّاعَةِ لِيَجِدَّ النَّاسُ فِي الْعَمَل حَذَرًا مِنْهُمَا (5) .
مَا يُشْتَرَطُ لِنَيْل فَضْل لَيْلَةِ الْقَدْرِ :
نَصَّ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَسْأَلَةِ اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ لِنَيْل فَضْلِهَا أَوْ عَدِمِ اشْتِرَاطِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ .
فَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَنَال فَضْل لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلاَّ مَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا ، فَلَوْ قَامَ إِنْسَانٌ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهَا لَمْ يَنَل فَضْلَهَا .
وَقَال آخَرُونَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبَيْنِ : إِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِنَيْل فَضْل لَيْلَةِ الْقَدْرِ الْعِلْمُ بِهَا ، وَيُسْتَحَبُّ التَّعَبُّدُ فِي كُل لَيَالِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى يَحُوزَ الْفَضِيلَةَ عَلَى الْيَقِينِ .
__________
(1) - أخرجه البخاري ( فتح الباري 4 / 259 ) ومسلم ( 2 / 825 )
(2) - أخرجه مسلم ( 2 / 827 )
(3) - أخرجه مسلم ( 2 / 828 )
(4) - فتح الباري 4 / 265 ، 266 ، وحاشية ابن عابدين 2 / 137 ، وتفسير القرطبي 2 / 135 ، والمجموع 6 / 449 ، 450 ، 452 ، 459 ، وكشاف القناع 2 / 344 - 345 ، والمغني 3 / 182 ، والفواكه الدواني 1 / 378 ، والقوانين الفقهية ص85 .
(5) - المغني 3 / 182 .(1/834)
وَرَجَّحَ فُقَهَاءُ الْمَذْهَبَيْنِ الرَّأْيَ الثَّانِي وَقَالُوا : وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ حَال مَنِ اطَّلَعَ عَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَكْمَل وَأَتَمُّ فِي الْفَضْل إِذَا قَامَ بِوَظَائِفِهَا (1) .
عَلاَمَاتُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ :
قَال الْعُلَمَاءُ : لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلاَمَاتٌ يَرَاهَا مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ فِي كُل سَنَةٍ مِنْ رَمَضَانَ ، لأَِنَّ الأَْحَادِيثَ وَأَخْبَارَ الصَّالِحِينَ وَرِوَايَاتِهِمْ تَظَاهَرَتْ عَلَيْهَا فَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنِّي كُنْتُ أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، ثُمَّ نُسِّيتُهَا ، وَهِيَ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ ، وَهِيَ طَلْقَةٌ بَلْجَةٌ لاَ حَارَّةٌ وَلاَ بَارِدَةٌ ، كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا يَفْضَحُ كَوَاكِبَهَا لاَ يَخْرُجُ شَيْطَانُهَا حَتَّى يَخْرُجَ فَجْرُهَا." (2)
وعَنْ وَاثِلَةَ بن الأَسْقَعِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ:لَيْلَةُ الْقَدْرِ بَلْجَةٌ، لا حَارَّةٌ وَلا بَارِدَةٌ، وَلا سَحَابَ فِيهَا، وَلا مَطَرَ، وَلا رِيحَ، وَلا يُرْمَى فِيهَا بنجْمٍ، وَمِنْ عَلامَةِ يَوْمَهَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ لا شُعَاعَ لَهَا." (3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: " لَيْلَةٌ سَمْحَةٌ طَلْقَةٌ لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ يُصْبِحُ شَمْسُها صَبِيحَتَهَا ضَعِيفَةً حَمْرَاءَ "
وفي رواية عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي فَضْلِ قِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، ثُمَّ قَالَ: " وَمِنْ أَمَارَتِهَا أَنَّهَا لَيْلَةٌ بَلْجَةٌ صَافِيَةٌ سَاكِنَةٌ لَا حَارَّةٌ، وَلَا بَارِدَةٌ كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا، وَإِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ فِي صَبِيحَتِهَا مُسْتَوِيَةً لَا شُعَاعَ لَهَا " (4)
كِتْمَانُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ :
اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ رَأَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ أَنْ يَكْتُمَهَا (5) .
وَالْحِكْمَةُ فِي كِتْمَانِهَا كَمَا ذَكَرَهَا ابْنُ حَجَرٍ نَقْلاً عَنِ الْحَاوِي أَنَّهَا كَرَامَةٌ وَالْكَرَامَةُ يَنْبَغِي كِتْمَانُهَا بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ أَهْل الطَّرِيقِ مِنْ جِهَةِ رُؤْيَةِ النَّفْسِ ، فَلاَ يَأْمَنُ السَّلْبَ ، وَمَنْ جِهَةٍ أَنْ لاَ يَأْمَنَ الرِّيَاءَ ، وَمَنْ جِهَةِ الأَْدَبِ فَلاَ يَتَشَاغَل عَنِ الشُّكْرِ لِلَّهِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا وَذِكْرِهَا لِلنَّاسِ ، وَمَنْ جِهَةٍ أَنَّهُ لاَ يَأْمَنُ الْحَسَدَ فَيُوقِعُ غَيْرَهُ فِي الْمَحْذُورِ .
__________
(1) - الفواكه الدواني 1 / 378 ، ومغني المحتاج 1 / 450 .
(2) - صحيح ابن حبان - (8 / 444) (3688) صحيح
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (15 / 435) (17605 ) صحيح
(4) - شعب الإيمان - (5 / 276) (3419 ) حسن لغيره
(5) - فتح الباري 4 / 268 ، والمجموع 6 / 461 ، وابن عابدين 2 / 137 .(1/835)
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ (1) : وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِقَوْل يَعْقُوبَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لاِبْنِهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِْنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ } (سورة يوسف / 5) . (2)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : اعْتَكَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، فَلَمَّا انْقَضَى ، أَمَرَ بِالْبِنَاءِ ، فَنُقِضَ ، فَأُبِينَتْ لَهُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ، فَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ ، فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ أُبِينَتْ لِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، فَخَرَجْتُ أُحَدِّثُكُمْ بِهَا فَجَاءَ رَجُلاَنِ يَخْتَصِمَانِ وَمَعَهُمَا الشَّيْطَانُ فَنُسِّيتُهَا ، فَالْتَمِسُوهَا فِي السَّابِعَةِ وَالْتَمِسُوهَا فِي الْخَامِسَةِ." (3)
الحكمة في إخفائها بين الليالي :
الحكمة في إخفاء ليلة القدر كالحكمة في إخفاء وقت الوفاة ، ويوم القيامة ، حتى يرغب المكلف في الطاعات ، ويزيد في الاجتهاد ، ولا يتغافل ، ولا يتكاسل ، ولا يتكل. ومن الإشفاق أيضا ألا يعرفها المكلف بعينها لئلا يكون بالمعصية فيها خاطئا متعمدا. وإذا اجتهد العبد في طلب ليلة القدر بإحياء الليالي المظنونة ، باهى اللَّه تعالى ملائكته ، ويقول : كنتم تقولون فيهم : أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ، وَيَسْفِكُ الدِّماءَ فهذا جدّهم في الأمر المظنون ، فكيف لو جعلتها معلومة لهم ؟ فهنالك يظهر سر قوله : إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ. (4)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - فتح الباري 4 / 268 .
(2) - وانظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (8 / 5581) رقم الفتوى 56723 مسائل حول ليلة القدر تاريخ الفتوى : 29 شوال 1425
(3) - صحيح ابن حبان - (8 / 443) (3687) صحيح
(4) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 338)(1/836)
سورة البينة
مدنيّة ، وهي ثماني آيات
تسميتها :
سميت سورة البيّنة لافتتاحها بقوله تعالى : لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ أي مفارقين ما هم عليه من الكفر ، منتهين زائلين عن الشرك ، حتى تأتيهم الحجة الواضحة ، وهي ذلك المنزل الذي يتلوه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، وتسمى أيضا سورة البرية ، أو : لَمْ يَكُنِ.
وقال ابن عاشور :
" وردت تسمية هذه السورة في كلام النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ( لم يكن الذين كفروا ) . روَى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قال لأبي بن كعب : ( إن الله أمرني أن أقرأ عليك : ( لم يكن الذين كفروا ( قال : وسمّاني لك ؟ قال : نعم . فبكى ) فقوله : أن أقرأ عليك ) لم يكن الذين كفروا ( واضحٌ أنه أراد السورة كلها فسماها بأول جملة فيها ، وسميت هذه السورة في معظم كتب التفسير وكتب السنة سورة ) لم يكن ( بالاقتصار على أول كلمة منها ، وهذا الاسم هو المشهور في تونس بين أبناء الكتاتيب .
وسميت في أكثر المصاحف ( سورة القيّمة ) وكذلك في بعض التفاسير . وسميت في بعض المصاحف ( سورة البيّنة ) .
وذكر في ( الإِتقان ) أنها سميت في مصحف أبيّ ( سورة أهل الكتاب ) ، أي لقوله تعالى : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ( ( البينة : 1 ) ، وسميت سورة ( البرية ) وسميت ( سورة الانفكاك ) . فهذه ستة أسماء .
واختلف في أنها مكية أو مدنية قال ابن عطية : الأشهر أنها مكية وهو قول جمهور المفسرين . وعن ابن الزبير وعطاء بن يسار هي مدنية .
وعكس القرطبي فنسب القول بأنها مدنية إلى الجمهور وابن عباس والقول بأنها مكية إلى يحيى بن سلام . وأخرج ابن كثير عن أحمد بن حنبل بسنده إلى أبي حبّة البدري قال : ( لما نزلت : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ( إلى آخرها قال جبريل : يا رسول الله إن الله يأمرك أن تُقرئْها أبيّاً ) الحديث ، أي وأبيٌّ من أهل المدينة . وجزم البغوي وابن كثير بأنها مدنية ، وهو الأظهر لكثرة ما فيها من تخطئة أهل الكتاب ولحديث أبي حبة البدري ، وقد عدها جابر بن زيد في عداد السور المدنية . قال ابن عطية : إن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) إنما دُفع إلى مناقضة أهل الكتاب بالمدينة .(1/837)
وقد عدت المائة وإحدى في ترتيب النزول نزلت بعد سورة الطلاق وقبل سورة الحشر ، فتكون نزلت قبل غزوة بني النضير ، وكانت غزوة النضير سنة أربع في ربيع الأول فنزول هذه السورة آخر سنة ثلاث أو أول سنة أربع .
وعدد آياتها ثمان عند الجمهور ، وعدها أهل البصرة تسع آيات ." (1)
مناسبتها لما قبلها :
هذه السورة كالعلة لما قبلها ، فكأنه لما قال سبحانه : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قيل : لم أنزل القرآن ؟ فقيل : لأنه لم يكن الذين كفروا منفكّين عن كفرهم ، حتى تأتيهم البينة ، فهي كالعلة لإنزال القرآن ، المشار إليه في سورة القدر المتقدمة.
وقال الخطيب : " كانت سورة « القدر » التي سبقت هذه السورة تنويها بالليلة المباركة التي نزل فيها القرآن الكريم ، فنالت بشرف نزوله فيها هذا القدر العظيم الذي ارتفعت به على الليالى جميعا .. فالتنويه بليلة القدر هو ـ فى الواقع ـ تنويه بالقرآن الكريم ، وأن الاتصال به يكسب الشرف ويعلى القدر للأزمان والأمكنة والأشخاص.
وسورة « البيّنة » تحدّث عن هذا القرآن ، وعن رسول اللّه الحامل لهذا القرآن ، وموقف الكافرين من أهل الكتاب والمشركين ، من القرآن ، والرسول الداعي إلى اللّه بالقرآن .. ومن هنا كان الجمع بين السورتين قائما على هذا الترابط القوىّ ، الذي يجعل منهما وحدة واحدة. " (2)
ما اشتملت عليه السورة :
سورة البينة وتسمى [ سورة لم يكن ] مدنية ، وهي تعالج القضايا الآتية :
1- موقف أهل الكتاب من رسالة محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ).
2- موضوع إخلاص العبادة لله جل وعلا.
3- مصير كل من السعداء والأشقياء في الآخرة.
4- تحدثت السورة الكريمة عن موقف اليهود والنصارى ، من دعوة النبى( - صلى الله عليه وسلم - ) بعد أن كانوا ينتظرون قدومه ، فلما جاءهم بالنور والضياء كانوا أول من كذب برسالته [ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة . . ] الآيات.
* ثم تحدثت السورة عن عنصر هام من عناصر الإيمان ، وهو " إخلاص العبادة " لله العلي الكبير ، الذي أمر به جميع أهل الأديان ، لإفراده جل وعلا بالذكر ، والقصد ، والتوجه في
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 467)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1638)(1/838)
جميع الأقوال والأفعال والأعمال ، خالصة لوجهه الكريم [ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة . . ] الآيات .
* كما تحدثت عن مصير أهل الإجرام - شر البرية - من كفرة أهل الكتاب والمشركين ، وخلودهم في نار الجحيم ، وعن مصير المؤمنين ، أصحاب المنازل العالية - خير البرية - وخلودهم في جنات النعيم ، مع النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ، جزاء طاعتهم وإخلاصهم لرب العالمين [ إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيا أولئك هم شر البرية إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية . . ] الآيات إلى نهاية السورة الكريمة . (1)
وقال ابن عاشور :" أغراضها
توبيخُ المشركين وأهللِ الكتاب على تكذيبهم بالقرآن والرسول ( - صلى الله عليه وسلم - )
والتعجيب من تناقض حالهم إذ هم ينتظرون أن تأتيهم البينة فلما أتتهم البينة كفروا بها .
وتكذيبُهم في ادعائهم أن الله أوجب عليهم التمسك بالأديان التي هم عليها .
ووعيدهم بعذاب الآخرة .
والتسجيل عليهم بأنهم شر البرية .
والثناءُ على الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
ووعدهم بالنعيم الأبدي ورضَى الله عنهم وإعطائه إياهم ما يرضيهم .
وتخلل ذلك تنويه بالقرآن وفضله على غيره باشتماله على ما في الكتب الإِلاهية التي جاء بها الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) من قبل وما فيه من فضل وزيادة . " (2)
في السورة تقرير لحالة أهل الكتاب والمشركين قبل البعثة وإشارة إلى ما كانوا ينتظرونه من رسول وكتاب من اللّه. ونعي على أهل الكتاب لأنهم قد جاءهم ذلك ثم تنازعوا واختلفوا وبيان لدعوة اللّه وتقرير بأنها لا تتحمل مكابرة ولا اختلافا. وتنديد بالكفار وإنذار لهم وتنويه وبشرى للمؤمنين.
وأسلوبها وانسجامها وتوازنها مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أنها مدنية نزلت بعد سورة الطلاق. وقد ذكر هذا في معظم روايات ترتيب النزول أيضا . وقد روى بعض المفسرين أنها مكية أو أنها مختلف في مكيتها ومدنيتها. وفي مضامينها ما يرجح مدنيتها ، حيث احتوت نعيا على أهل الكتاب لأنهم كفروا بالرسالة المحمدية. وجل الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب ووقفوا من هذه الرسالة موقف المناوأة
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 510)
(2) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 468)(1/839)
هم اليهود الذين كانوا في المدينة وكان ذلك منهم في العهد المدني. وهناك آيات مدنية عديدة تلهم أن فئات من النصارى ناظروا النبي ولم يؤمنوا. وإن منهم من كان يصدّ عن سبيل اللّه. وقد مرّ بعضها في سور البقرة وآل عمران والنساء وبعضها في سورتي المائدة والتوبة.
وقد روى المفسرون للسورة أسماء أخرى وهي (لم يكن) و(البرية) و(القيّمة) (1)
هذه السورة معدودة في المصحف وفي أكثر الروايات أنها مدنية . وقد وردت بعض الروايات بمكيتها . ومع رجحان مدنيتها من ناحية الرواية ، ومن ناحية أسلوب التعبير التقريري ، فإن كونها مكية لا يمكن استبعاده . وذكر الزكاة فيها وذكر أهل الكتاب لا يعتبر قرينة مانعة . فقد ورد ذكر أهل الكتاب في بعض السور المقطوع بمكيتها . وكان في مكة بعض أهل الكتاب الذين آمنوا ، وبعضهم لم يؤمنوا . كما أن نصارى نجران وفدوا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة وآمنوا كما هو معروف . وورد ذكر الزكاة كذلك في سور مكية .
والسورة تعرض عدة حقائق تاريخية وإيمانية في أسلوب تقريري هو الذي يرجح أنها مدنية إلى جانب الروايات القائلة بهذا .
والحقيقة الأولى هي أن بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت ضرورية لتحويل الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين عما كانوا قد انتهوا إليه من الضلال والاختلاف ، وما كانوا ليتحولوا عنه بغير هذه البعثة : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة : رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة ، فيها كتب قيمة } . .
والحقيقة الثانية : أن أهل الكتاب لم يختلفوا في دينهم عن جهالة ولا عن غموض فيه ، إنما اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم وجاءتهم البينة : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } .
والحقيقة الثالثة : أن الدين في أصله واحد ، وقواعده بسيطة واضحة ، لا تدعو إلى التفرق والاختلاف في ذاتها وطبيعتها البسيطة اليسيرة : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، وذلك دين القيمة } .
والحقيقة الرابعة : أن الذين كفروا بعد ما جاءتهم البينة هم شر البرية ، وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية . ومن ثم يختلف جزاء هؤلاء عن هؤلاء اختلافاً بيناً : { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيهآ . أولئك هم شر البرية . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ، جزآؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، رضى الله عنهم ورضوا عنه ، ذلك لمن خشي ربه } . .
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (8 / 347)(1/840)
وهذه الحقائق الأربع ذات قيمة في إدراك دور العقيدة الإسلامية ودور الرسالة الأخيرة . وفي التصور الإيماني كذلك . (1)
فضلها :
أخرج الإمام أحمد عَنْ أَبِي حَبَّةَ الْبَدْرِيِّ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ لَمْ يَكُنْ ، قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ هَذِهِ السُّورَةَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا أُبَيُّ ، إِنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنِي أَنْ أُقْرِئَكَ هَذِهِ السُّورَةَ " فَبَكَى وَقَالَ : ذُكِرْتُ ثَمَّةَ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " (2) .
وعَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَبَّةَ الْبَدْرِيَّ يَقُولُ: " لَمَّا نَزَلَتْ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى آخِرِهَا , فَقَالَ جِبْرِيلُ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا رَسُولَ اللهِ , إِنَّ رَبَّكَ عَزَّ وَجَلَّ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَهَا أُبَيًّا " , فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِأُبَيٍّ: " إِنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَنِي أَنْ أُقْرِئَكَ هَذِهِ السُّورَةَ " قَالَ أُبَيُّ: وَذُكِرْتُ ثَمَّ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: " نَعَمْ " , فَبَكَى أُبَيٌّ " (3)
وعَنْ أُبَيِّ بن كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا أَبَا الْمُنْذِرِ ، إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ، فَقَالَ : بِاللَّهِ آمَنْتُ ، وَعَلَى يَدِكَ أَسْلَمْتُ ، وَمِنْكَ تَعَلَّمْتُ ، قَالَ : فَرَدَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْقَوْلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَذُكِرْتُ هُنَاكَ ؟ ، قَالَ : نَعَمْ بِاسْمِكَ وَنَسَبِكَ فِي الْمَلأِ الأَعْلَى ، قَالَ : فَاقْرَأْ إِذًا يَا رَسُولَ اللَّهِ. (4)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لأُبَىٍّ « إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِى أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) » . قَالَ وَسَمَّانِى قَالَ « نَعَمْ » فَبَكَى (5) .
وعَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ « إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِى أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ». فَقَرَأَ عَلَيْهِ (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) وَفِيهَا « إِنَّ ذَاتَ الدِّينِ عِنْدَ اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ الْمُسْلِمَةُ لاَ الْيَهُودِيَّةُ وَلاَ النَّصْرَانِيَّةُ وَلاَ الْمَجُوسِيَّةُ مَنْ يَعْمَلْ خَيْرًا فَلَنْ يُكْفَرَهُ ». وَقَرَأَ عَلَيْهِ « لَوْ أَنَّ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى إِلَيْهِ ثَانِيًا وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَانِيًا لاَبْتَغَى إِلَيْهِ ثَالِثًا وَلاَ يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رُوِىَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ رضى الله عنه أَنَّ النَّبِىَّ -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3948)
(2) - مسند أحمد (16423) صحيح
(3) - شرح مشكل الآثار - (9 / 254) (3624 ) حسن
(4) - المعجم الكبير للطبراني - (1 / 226) (540) حسن لغيره
(5) - صحيح البخارى (3809 ) وصحيح مسلم (1901)
وانظر : فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (5 / 7213) رقم الفتوى 37919 من مناقب أبي بن كعب رضي الله عنه تاريخ الفتوى : 30 رجب 1424(1/841)
- صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ « إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِى أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ». وَقَدْ رَوَاهُ قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لأُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ « إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِى أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ». (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ، فَقَالَ أُبَيٌّ : آللَّهُ سَمَّانِي لَكَ ؟ قَالَ : اللَّهُ سَمَّاكَ لِي ، قَالَ : فَجَعَلَ أُبَيٌّ يَبْكِي. (2)
وعَنْ شَيْبَانَ السَّدُوسِيِّ ، وَفَرْقَدٍ السَّبَخِيِّ ، وَأَبَانَ ، كُلُّهُمْ رَوَوْهُ ، عَنْ كَعْبٍ ، قَالَ : أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي التَّوْرَاةِ : يَا مُوسَى لَوْلَا مَنْ يَحْمَدُنِي مَا أَنْزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ قَطْرَةً وَلَا أَنْبَتْتُ مِنَ الْأَرْضِ حَبَّةً ، يَا مُوسَى لَوْلَا مَنْ يَقُولُ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَسَلَّطْتُ جَهَنَّمَ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا ، يَا مُوسَى لَوْلَا مَنْ يَدْعُونِي لَتَبَاعَدْتُ مِنْ خَلْقِي ، يَا مُوسَى لَوْلَا مَنْ يَعَبْدُنِي مَا أَمْهَلْتُ مَنْ يَعْصِينِي طَرْفَةَ عَيْنٍ ، يَا مُوسَى إِيَّاكَ وَالْكِبْرَ فَإِنَّهُ لَوْ لَقِيَنِي جَمِيعُ خَلْقِي بِمِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ أَدْخَلْتُهُمْ نَارِي ، وَلَوْ كُنْتَ أَنْتَ ، وَلَوْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلِي ، يَا مُوسَى إِذَا لَقِيتَ الْفُقَرَاءَ فَسْأَلْهُمْ كَمَا تَسْأَلُ الْأَغْنِيَاءَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَاجْعَلْ كُلَّ شَيْءٍ عَلَّمْتُكَ تَحْتَ التُّرَابِ ، يَا مُوسَى أَتُحِبُّ أَنْ لَا أَنْسَاكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَأَحِبَّ الْفُقَرَاءَ وَمُجَالَسَتَهُمْ وَأَنْذِرِ الْمُذْنِبِينَ ، يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ أَكُونَ لَكَ حَبِيبًا أَيَّامَ حَيَاتِكَ وَفِي الْقَبْرِ لَكَ مُؤْنِسًا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَأَكْثِرْ تِلَاوَةَ كِتَابِي ، يَا مُوسَى أَتُحِبُّ أَنْ لَا أَخْذُلَكَ فِي تَارَاتِ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَأَصْبِحْ وَأَمْسِ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِي ، يَا مُوسَى أَتُحِبُّ أَنْ أُبِيحَكَ جَنَّتِي - وَقَالَ مُحَمَّدٌ - أَنْ تُحِبَّكَ جَنَّتِي وَمَلَائِكَتِي وَمَا ذَرَأْتُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : حَبِّبْنِي إِلَى خَلْقِي ، قَالَ : يَا رَبِّ كَيْفَ أُحَبِّبُكَ إِلَى عِبَادِكَ ؟ قَالَ : تُذَكِّرُهُمْ آلَائِي وَنَعْمَائِي فَإِنَّهُمْ لَا يَذْكُرُونَ مِنِّي إِلَّا كُلَّ حَسَنَةٍ بِحَقٍّ أَقُولُ لَكَ يَا مُوسَى إِنَّهُ مَنْ لَقِيَنِي وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّ النِّعْمَةَ مِنِّي وَالشُّكْرَ مِنِّي اسْتَحْيَيْتُ أَنْ أُعَذِّبَهُ ، يَا مُوسَى إِنَّ جَهَنَّمَ وَمَا فِيهَا تَلَظَّى وَتَلَهَّبُ عَلَى الْمُشْرِكِ وَكُلِّ عَاقٍّ لِوَالِدَيْهِ ، قَالَ مُوسَى : إِلَهِي مِنْ كُلٍّ مَا الْعُقُوقُ ؟ قَالَ : الْعُقُوقُ الْمُوجِبُ غَضَبِي أَنْ يَشْكُوَهُ وَالِدَاهُ فِي النَّاسِ فَلَا يبَالِي ، وَيَأْكُلُ شَهْوَتَهُ وَيَحْرِمُ وَالِدَيْهِ ، يَا مُوسَى كَلِمَةٌ مِنَ الْعُقُوقِ تَزِنُ جَمِيعَ الْجِبَالِ ، قَالَ : إِلَهِي مِنْ كُلٍّ مَا هِيَ ؟ قَالَ : أَنْ تَقُولَ لِوَالِدَيْكَ : لَا لَبَّيْكَ ، يَا مُوسَى إِنَّ كَنَفِي وَرَحْمَتِي وَعَفْوِي عَلَى مَنْ إِذَا فَرِحَ الْوَالِدَانِ فَرِحَ وَإِذَا حَزِنَ الْوَالِدَانِ حَزِنَ مَعَهُمَا ، وَإِذَا بَكَى الْوَالِدَانِ بَكَى مَعَهُمَا ، يَا مُوسَى مَنْ رَضِيَ عَنْهُ وَالِدَاهُ رَضِيتُ عَنْهُ ، وَإِذَا اسْتَغْفَرَ لَهُ وَالِدَاهُ غَفَرْتُ لَهُ عَلَى مَا كَانَ فِيهِ وَلَا أُبَالِي ، يَا مُوسَى أَتُرِيدُ الْأَمَانَ مِنَ الْعَطَشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ يَا رَبِّ ، قَالَ : كُنْ مُسْتَغْفِرًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ، يَا مُوسَى أَقِلِ الْعَثْرَةَ وَاعْفُ عَنْ مَنْ ظَلَمَكَ فِي مَالِكَ وَعِرْضِكَ وَأَجِبْ مَنْ دَعَاكَ أَكُنْ لَكَ كَذَلِكَ ، يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ يَكُونَ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِثْلُ حَسَنَاتِ جَمِيعِ الْخَلْقِ ؟ قَالَ : نَعَمْ يَا
__________
(1) - سنن الترمذى(4272 ) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (16 / 94) (7144) صحيح(1/842)
رَبِّ ، قَالَ : عُدِ الْمَرْضَى وَكُنْ لِثِيَابِ الْفُقَرَاءِ فَالِيًا . فَجَعَلَ مُوسَى عَلَى نَفْسِهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ سَبْعَةَ أَيَّامٍ يَطُوفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ يَفْلِي ثِيَابَ الْفُقَرَاءِ وَيَعُودُ الْمَرْضَى ، قَالَ اللَّهُ : يَا مُوسَى - حِينَ فَعَلَ ذَلِكَ - أَمَا إِنِّي قَدْ أَلْهَمْتُ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْتُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ وَأَلْهَمْتُ الْمَلَائِكَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَيْكَ حِينَ تَخْرُجُ مِنْ قَبْرِكَ . يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ أَكُونَ لَكَ أَقْرَبَ مِنْ كَلَامِكَ إِلَى لِسَانِكَ وَمِنْ وَسَاوِسِ قَلْبِكَ إِلَى قَلْبِكَ وَمِنْ رُوحِكَ إِلَى بَدَنِكَ وَمِنْ نُورِ بَصَرِكَ إِلَى عَيْنِكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ يَا رَبِّ ، قَالَ : فَأَكْثَرِ الصَّلَاةَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبْلِغْ جَمِيعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ لَقِيَنِي وَهُوَ جَاحِدٌ لِأَحْمَدَ سَلَّطْتُ عَلَيْهِ الزَّبَانِيَةَ فِي الْمَوْقِفِ وَجَعَلْتُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ حِجَابًا لَا يَرَانِي وَلَا كِتَابَ يُبْصِرُهُ وَلَا شَفَاعَةَ تَنَالُهُ وَلَا مَلَكَ يَرْحَمُهُ حَتَّى تَسْحَبَهُ الْمَلَائِكَةُ فَيُدْخِلُوهُ نَارِي : يَا مُوسَى بَلِّغْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ آمَنَ بِأَحْمَدَ فَإِنَّهُ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَيَّ يَا مُوسَى بَلِّغْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ صَدَّقَ بِأَحْمَدَ وَكِتَابِهِ نَظَرْتُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، يَا مُوسَى بَلِّغْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ رَدَّ عَلَى أَحْمَدَ شَيْئًا مِمَّا جَاءَ بِهِ وَإِنْ كَانَ حَرْفًا وَاحِدًا أَدْخَلْتُهُ النَّارَ مَسْحُوبًا ، يَا مُوسَى بَلِّغْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ أَحْمَدَ رَحْمَةٌ وَبَرَكَةٌ وَنُورٌ وَمَنْ صَدَّقَ بِهِ رَآهُ أَوْ لَمْ يَرَهُ أَحْبَبْتُهُ أَيَّامَ حَيَاتِهِ وَلَمْ أُوحِشْهُ فِي قَبْرِهِ وَلَمْ أَخْذُلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَمْ أُنَاقِشْهُ الْحِسَابَ فِي الْمَوْقِفِ وَلَمْ تَزَلْ قَدَمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ ، يَا مُوسَى إِنَّ أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيَّ مَنْ لَمْ يُكَذِّبْ بِأَحْمَدَ وَلَمْ يُبْغِضْهُ . يَا مُوسَى إِنِّي آلَيْتُ عَلَى نَفْسِي قَبْلَ أَنْ أَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ أَنَّهُ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِعِشْرِينَ سَاعَةً وَأَوْصَيْتُ مَلَكَ الْمَوْتِ الَّذِي يَقْبِضُ رُوحَهُ أَنْ يَكُونَ أَرْفَقُ بِهِ مِنْ وَالِدَيْهِ وَحَمِيمِهِ وَأَوْصَيْتُ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا إِذَا دَخَلَا عَلَيْهِ فَسَأَلَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ لَا يُرَوِّعَاهُ وَأَمُنُّ عَلَيْهِ وَأَكُونُ مَعَهُ فَأُضِيءُ عَلَيْهِ ظُلْمَةَ الْقَبْرِ وَأُونِسَ عَلَيْهِ وَحْشَةَ الْقَبْرِ وَلَا يَسْأَلُنِي فِي الْقِيَامَةِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَيْتُهُ . يَا مُوسَى احْمَدْنِي إِذَا مَنَنْتُ عَلَيْكَ مَعَ كَلَامِي إِيَّاكَ بِالْإِيمَانِ بِأَحْمَدَ ، فَوَعِزَّتِي لَوْ لَمْ تَقْبَلِ الْإِيمَانَ بِأَحْمَدَ مَا جَاوَرْتَنِي فِي دَارِي وَلَا تَنَعَّمْتَ فِي جَنْبِي ، يَا مُوسَى جَمِيعُ الْمُرْسَلِينَ آمَنُوا بِأَحْمَدَ وَصَدَّقُوهُ وَاشْتَاقُوا إِلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَجِيءُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ بَعْدَكَ ، يَا مُوسَى مَنْ لَمْ يؤْمِنْ بِأَحْمَدَ مِنْ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ وَلَمْ يصَدِّقُوهُ وَلَمْ يَشْتَاقُوا إِلَيْهِ كَانَتْ حَسَنَاتُهُ مَرْدُودَةً عَلَيْهِ وَمَنَعْتُهُ حِفْظَ الْحِكْمَةِ وَلَا أُدْخِلُ قَبْرَهُ نُورَ الْهُدَى وَأَمْحُو اسْمَهُ مِنَ النُّبُوَّةِ ، يَا مُوسَى أَحِبَّ أَحْمَدَ كَمَا تُحِبُّ نَفْسَكَ وَأَحِبَّ الْخَيْرَ لِأُمَّتِهِ كَمَا تُحِبُّهُ لِأُمَّتِكَ أَجْعَلْ لَكَ وَلِأُمَّتِكَ فِي شَفَاعَتِهِ نَصِيبًا ، يَا مُوسَى اسْتَغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ تُعْطَ سُؤْلَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ مُحَمَّدًا وَأُمَّتَهُ لَيَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ، يَا مُوسَى رَكْعَتَانِ يصَلِّيهَا مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مَنْ يصَلِّيهَا غَفَرْتُ لَهُ مَا أَصَابَ مِنْ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ وَيَكُونُ فِي ذِمَّتِي ، يَا مُوسَى بِحَقٍّ أَقُولُ لَكَ مَنْ مَاتَ وَهُوَ فِي ذِمَّتِي فَلَا ضَيْعَةَ عَلَيْهِ ، يَا مُوسَى وَأَرْبَعُ رَكَعَاتٍ يصَلِّيهَا مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ ، عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ قَدْرَ شِرَاكٍ أُعْطِيهِمْ بِرَكْعَةٍ مِنْهَا الْمَغْفِرَةَ وَبِالثَّانِيَةِ أُثَقِّلْ بِهَا مَوَازِينَهُمْ وَبِالثَّالِثَةِ آمُرُ مَلَائِكَتِي(1/843)
يَسْتَغْفِرُونَ لَهُمْ ، وَبِالرَّابِعَةِ تُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَأُزَوِّجُهُمْ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَتُشْرِفُ عَلَيْهِمُ الْحُورُ الْعِينُ ، فَإِنْ سَأَلُونِي الْجَنَّةَ أَعْطَيْتُهُمْ وَزَوَّجْتُهُمْ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ ، يَا مُوسَى وَأَرْبَعُ رَكَعَاتٍ يصَلِّيهَا مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ بِالْعَشِيِّ لَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا اسْتَغْفَرَ لَهُمْ ، وَمَنِ اسْتَغْفَرَتْ لَهُ مَلَائِكَتِي لَمْ أُعَذِّبْهِ ، يَا مُوسَى وَثَلَاثُ رَكَعَاتٍ يصَلِّيهَا مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ حِينَ يَغِيبُ ضَوْءُ النَّهَارِ وَهُوَ مُسْتَغْفِرٌ لَهُمْ وَيَغْشَاهُمْ لَيْلٌ وَهُوَ مُسْتَغْفِرٌ لَهُمْ وَمَنِ اسْتُغْفِرَ لَهُ وَلَمْ يَعْصِنِي غَفَرْتُ لَهُ ، يَا مُوسَى وَأَرْبَعُ رَكَعَاتٍ يصَلِّيهَا مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ تُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ حِيَالَ رُءُوسِهِمْ فَلَا يَسْأَلُونِي حَاجَةً إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ ، يَا مُوسَى وَيَتَنَظَّفُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ بِالْمَاءِ كَمَا أَمَرْتُهُمْ فَأُعْطِيهِمْ بِكُلِّ قَطْرَةٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ، يَا مُوسَى يَصُومُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فِي السَّنَةِ شَهْرًا وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ فَأُعْطِيهِمْ بِصِيَامِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ مِنْهُ تَتَبَاعَدُ عَنْهُمْ جَهَنَّمُ مَسِيرَةَ مِائَةِ عَامٍ وَأُعْطِيهِمْ بِكُلِّ خَصْلَةٍ يَعْمَلُونَ بِهَا مِنَ التَّطَوُّعِ كَأَجْرِ مَنْ أَدَّى فَرِيضَةً وَأَجْعَلُ لَهُمْ فِيهِ لَيْلَةً ، الْمُسْتَغْفِرُ فِيهَا مَرَّةً وَاحِدَةً نَادِمًا صَادِقًا إِنْ مَاتَ فِي لَيْلَتِهِ أَوْ شَهْرِهِ أُعْطِهِ أَجْرَ ثَلَاثِينَ شَهِيدًا ، يَا مُوسَى وَيَحُجُّ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ بَلَدِي الْحَرَامَ فَيَحُجُّونَ حَجَّةَ آدَمَ وَسُنَّةَ إِبْرَاهِيمَ فَأُعْطِيهِمْ شَفَاعَةَ آدَمَ وَأَتَّخِذُهُمْ كَمَا اتَّخَذْتُ إِبْرَاهِيمَ ، يَا مُوسَى وَيزَكِّي مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَأُعْطِيهِمْ بِالزَّكَاةِ زِيَادَةً فِي أَعْمَارِهِمْ وَإِنْ كُنْتُ عَنْ أَوَّلِهِمْ غَضْبَانُ رَضِيتُ ، عَنْ أَوْسَطِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَأَعْطَيْتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ الْمَغْفِرَةَ وَالْخُلْدَ فِي الْجَنَّةِ ، يَا مُوسَى إِنِّي وَهَّابٌ قَالَ : يَا إِلَهِي مُنَّ عَلَيَّ قَالَ : يَا مُوسَى أَقْبَلُ مِنْ عَبْدِي الْيَسِيرَ وَأُعْطِهِ الْجَزِيلَ ، يَا مُوسَى نِعْمَ الْمَوْلَى أَنَا وَنِعْمَ النَّصِيرُ أُعْطِيهِمْ فَرْضًا وَأَسْأَلُهُمْ قَرْضًا ، وَلَا تَفْعَلُ الْأَرْبَابُ بِعَبِيدِهَا مَا أَفْعَلُ بِهِمْ . يَا مُوسَى فِعَالِي لَا تُوصَفُ وَرَحْمَتِي كُلُّهَا لِأَحْمَدَ وَأُمَّتِهِ فَقَالَ : إِلَهِي مُنَّ عَلَيَّ ، قَالَ : يَا مُوسَى إِنَّ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ رِجَالًا يَقُومُونَ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ يُنَادُونَ بِشَهَادَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَجَزَاؤُهُمْ عَلَى جَزَاءِ الْأَنْبِيَاءِ رَحْمَتِي عَلَيْهِمْ وَغَضَبِي بَعِيدٌ مِنْهُمْ لَا أُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَطْبَاقِ التُّرَابِ الدُّودَ وَلَا مُنْكَرًا وَنَكِيرًا يُرَوِّعُونَهُمْ ، يَا مُوسَى أجْعَلُ جَمِيعَ رَحْمَتِي لِأَحْمَدَ وَأُمَّتِهِ ، قَالَ : إِلَهِي مُنَّ عَلَيَّ قَالَ : لَا أَحْجُبُ التَّوْبَةَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَا دَامَ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ ، فَخَرَّ مُوسَى سَاجِدًا وَقَالَ : رَبِّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ، فَقِيلَ لَهُ : لَا تُدْرِكُهَا " (1)
وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ " قَالَ : فَقَرَأَ عَلَيَّ : لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ " إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ ، غَيْرُ الْمُشْرِكَةِ ، وَلَا الْيَهُودِيَّةِ ، وَلَا النَّصْرَانِيَّةِ ، وَمَنْ يَفْعَلْ خَيْرًا فَلَنْ
__________
(1) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (7925 ) حسن مقطوع(1/844)
يُكْفَرَهُ " قَالَ شُعْبَةُ : ثُمَّ قَرَأَ آيَاتٍ بَعْدَهَا ، ثُمَّ قَرَأَ : " لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مِنْ مَالٍ ، لَسَأَلَ وَادِيًا ثَالِثًا ، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ " قَالَ : ثُمَّ خَتَمَهَا بِمَا بَقِيَ مِنْهَا " (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - مُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (20760 ) صحيح(1/845)
لا تكليف بلا بيان ولا عقوبة دون إنذار
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ ... اليهود والنصارى
1 ... المُشْرِكِينَ ... عبدة الأصنام
1 ... مُنْفَكِّينَ ... منتهين
1 ... البَيِّنَةُ ... الحجة الواضحة ( محمد - صلى الله عليه وسلم - ) والقرآن الكريم
1 ... رَسُولٌ مِّنَ اللهِ ... محمد - صلى الله عليه وسلم -
2 ... مُطَهَّرَةً ... بعيدة عن الباطل
3 ... كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ... عادلة ليس فيها خطأ
4 ... وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ ... تفرقوا في الرسول بين مؤمن وجاحد
4 ... جَاءَتْهُمُ البَيَِّنَةُ ... محمد رسول الله والقرآن الكريم
5 ... وَمَا أُمِرُوا ... في كتبهم التوراة والإنجيل
5 ... حُنَفَآءَ ... موحدين
5 ... دِينُ القَيِّمَةِ ... الملّة المستقيمة والأمّة المعتدلة
المعنى الإجمالي:
كان اليهود والنصارى من أهل الكتاب فى ظلام دامس من الجهل بما يجب الاعتقاد به والسير عليه من شرائع أنبيائهم ، إلا من عصم اللّه ، لأن أسلافهم غيروا وبدّلوا فى شرائعهم ، وأدخلوا فيها ما ليس منها ، إما لسوء فهمهم لما أنزل على أنبيائهم ، وإما لاستحسانهم ضروبا من البدع توهموها مؤيدة للدين ، وهى هادمة لأركانه ، وإما لإفحام خصومهم ، والرغبة فى الظفر بهم.
وقد توالت على ذلك الأزمان ، وكلما جاء جيل زاد على ما وضعه من قبلهم حتى خفيت معالم الحق ، وطمست أنوار اليقين.(1/846)
وكان إلى جوار هؤلاء عبدة الأوثان من العرب وغيرهم ممن مرنت نفوسهم على عبادتها ، والخنوع لها ، وأصبح من العسير تحويلهم عنها ، زعما منهم أن هذا دين الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وكان الجدل ينشب حينا بين المشركين واليهود ، وحينا آخر بين المشركين والنصارى ، وكان اليهود يقولون للمشركين : إن اللّه سيبعث نبيا من العرب من أهل مكة ، وينعتونه لهم ويتوعدونهم بأنه متى جاء نصروه ، وآزروه ، واستنصروا به عليهم حتى يبيدهم.
قد كان هذا وذاك ، فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - قام المشركون يناوئونه ويرفعون راية العصيان فى وجهه ، وألّبوا الناس عليه ، وآذوا كل من اتبعه وسلك سبيله ممن أنار اللّه بصائرهم ، وشرح صدورهم لمعرفة الحق.
كذلك قلب له اليهود ظهر المجنّ بعد أن كانوا من قبل يستفتحون به ، إذا وجدوا نعته عندهم فى التوراة ، فزعموا أن ما جاء به من الدين ليس بالبدع الجديد ، بل هو معروف فى كتبهم التي جاءت على لسان أنبيائهم ، فلا ينبغى أن يتركوا ما هم عليه من الحق ، ليتبعوا رجلا ما جاء بأفضل مما بين أيديهم ، بل قد بلغ الأمر بهم أن كانوا عليه مع المشركين الذين كانوا يعاندونهم ويتهددونهم بأنهم سيتبعون هذا النبي وينصرونه.
ففى الرد على مزاعم هؤلاء الكافرين الذين يجحدون واضح الحق ، ويغمضون أعينهم عن النظر فيه - نزلت هذه السورة. (1)
أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس أجمعين ، أرسل لهم بالهدى ودين الحق ، ليخرجهم من ظلمات الجهالة ، وفساد العقيدة ، وذل التقليد الأعمى ، وكان الكفار من أهل الكتاب أو المشركين سواء في البعد عن الحق والدين الصحيح. أما أهل الكتاب فبعد أن فارقهم موسى وعيسى تخبطوا وحرفوا الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه وأصبح دينهم خليطا ممقوتا فيه إلى جانب الحق البسيط ضلالات وضلالات ، وأما المشركون الذين لا يقولون بالتوحيد ولا يؤمنون بالبعث كمشركي مكة ، فقد تردوا في الباطل إلى أقصاه ، وأصبح دينهم مسخا من عقائد جاهلية وتقاليد بالية حسبوها دين إبراهيم الخليل ، واللّه يعلم أنه منها برىء.
ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب الذين كانوا يستفتحون على الذين كفروا من المشركين ببعثة النبي العربي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، فلما جاءهم ما عرفوا - بعثة النبي - كفروا به ، ولهذا ذكرهم أولا ، على أنهم أشد جرما من المشركين الذين يجهلون الحق
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 212)(1/847)
، وهؤلاء عرفوه وكفروا به عنادا وحسدا من عند أنفسهم ، ما كان هؤلاء وأولئك منفكين عن باطلهم حتى تأتيهم البينة الواضحة ، والحجة الظاهرة التي تقصم ظهر الباطل ، وما هي ؟ هي رسول من اللّه ، وقد كان رسول اللّه نفسه بينة وحجة ظاهرة على أن دينه هو الحق ، فهو الصادق الأمين صاحب الخلق القويم والمعجزات الناطقة بصدقه ، والمنزل عليه القرآن الذي يتلوه ، أى : يقرؤه مع كونه أميا ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ القرآن حفظا عن ظهر قلب.
يتلو صحفا - القرآن - مطهرة من كل عيب وزور وكذب ، تلك الصحف فيها كتب قيمة لا عوج فيها ولا نقص ، وما المراد بالكتب ؟ قيل : هي ما في القرآن مما بقي صحيحا من كتب موسى وإبراهيم مثلا ، أو هي سور القرآن : وكأن كل سورة كتاب مستقل قائم بذاته ، أو هي أحكام الإسلام وشرائعه ، وعلى كل فهي كتب قيمة لا عوج فيها ولا باطل ، ولا كذب ولا بهتان الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً [سورة الكهف الآيتان 1 و2].
وهل انتهى الكفر بإرسال النبي حتى يصح قوله تعالى : حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ والجواب : إن إرسال النبي - صلى الله عليه وسلم - كان صدمة للشرك زلزلت عقائد المشركين وفتحت قلوب الجهلاء الملتاثين ، وأنارت الطريق حتى عرفت الحق من الباطل ، فكانت بعثته حدا فاصلا بين عهدين ، لهذا صح قوله : « حتى » ولكن لم يؤمن الكل بالنبي. بل بعضهم وقف من النبي موقف العناد يصد عن سبيل اللّه ، ويحاول بكل ما أوتى من قوة وجهد أن يصرف الناس عن رسول اللّه ، أراد اللّه أن يسلى الرسول ببيان أن كفر الناس وعنادهم طبيعة فيهم ، وقد حصل لإخوانك الأنبياء مثلك ، وتفرق الناس معهم واختلفوا في شأنهم بين مؤمن وكافر ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ولقد اختلف أهل الكتاب على أنبيائهم ، وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينة والحجة القائمة ، أى : بعد إرسال الرسل إليهم. (1)
التفسير والبيان :
أرسل اللَّه تعالى رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - لجميع العالمين من الإنس والجن ، ولجميع الأمم والشعوب في عصره والعصور التالية له ، ولكل أهل الملل والأديان ، حتى أهل الكتاب والمشركين الذين بعدوا عن الدين الصحيح ، لذا قال تعالى : لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ أي لم يكن الذين جحدوا رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنكروا نبوته ، من اليهود والنصارى وعبدة الأصنام والأوثان من مشركي العرب وغيرهم ، منتهين عما هم عليه من
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 889)(1/848)
الكفر ، مفارقين لكفرهم الموروث ، حتى تأتيهم الحجة الواضحة ، وهي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أو القرآن الكريم.
والمراد إخبار اللَّه تعالى عن الكفار أنهم لن ينتهوا عن كفرهم وشركهم باللَّه ، حتى يأتيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من القرآن ، فإنه بيّن لهم ضلالتهم وجهالتهم ، ودعاهم إلى الإيمان.
ثم أوضح المراد بالبيّنة فقال : رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً ، فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ أي تلك البينة هي محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي أرسله رحمة للعالمين ، يقرأ عليهم ما تتضمنه صحف القرآن ، المطهرة من الخلط والكذب ، والشبهات والكفر ، والتحريف واللّبس ، بل فيها الحق الصريح الذي يبين لأهل الكتاب والمشركين كل ما يشتبه عليهم من أمور الدين ، وفيها الآيات والأحكام المكتوبة المستقيمة المستوية المحكمة ، دون زيغ عن الحق ، وإنما هي صلاح ورشاد ، وهدى وحكمة ، كما قال تعالى : لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصّلت 41/ 42] وقال سبحانه : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ، قَيِّماً لِيُنْذِرَ .. [الكهف 18/ 1- 2].
ونظير الآية قوله تعالى : فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ، كِرامٍ بَرَرَةٍ [عبس 80/ 12- 16].
ثم أبان تفرّق الكتابيين ، فقال : وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ أي لا تتأسف يا محمد على الكتابيين ، فإن تفرقهم واختلافهم لم يكن لاشتباه الأمر عليهم ، بل كان بعد وضوح الحق ، وظهور الصواب ، ومجيء الدليل المرشد إلى الدين الحق والبينة الواضحة وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي جاء بالقرآن موافقا لما في أيديهم من الكتاب بنعته ووصفه ، فلما بعث اللَّه محمدا ، تفرقوا في الدين ، فآمن به بعضهم ، وكفر آخرون ، وكان عليهم أن يتفقوا على طريقة واحدة ، من اتباع دين اللَّه ، ومتابعة الرسول الذي جاءهم من عند اللَّه ، مصدّقا لما معهم.
ونظير الآية : وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ ، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [آل عمران 3/ 105]. وقد أعذر من أنذر ، كما قال تعالى : لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال 8/ 42].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً " (1)
__________
(1) - سُنَنُ أَبِي دَاوُدَ (4043 ) صحيح(1/849)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، كُلُّهَا فِي النَّارِ ، إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ : الْجَمَاعَةُ " (1)
وعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ ، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ " ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ ؟ قَالَ : " الْجَمَاعَةُ " (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " سَيَأْتِي عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلًا بِمِثْلٍ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ ، وَإِنَّهُمْ تَفَرَّقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ غَيْرَ وَاحِدَةً " ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا تَلْكُ الْوَاحِدَةُ ؟ قَالَ : " هُوَ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي " (3)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " " لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بني إسرائيل حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ ، حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ ، وَإِنَّ بني إسرائيل تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً ، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً " " ، قَالُوا : وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " " مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي " (4)
ثم وبّخهم على انحرافهم عن الهدف الجوهري من الدين وهو إخلاص العبادة للَّه ، فقال : وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ ، وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ أي إنهم تفرقوا واختلفوا ، مع أنهم لم يؤمروا في التوراة والإنجيل أو في القرآن الذي جاءهم من عند اللَّه إلا بعبادة اللَّه وحده ، وتكون عبادتهم خالصة لا يشركون به شيئا ، ويخلصون العبادة للَّه عز وجل ، مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام ، ويفعلون الصلوات على الوجه الذي يريده اللَّه في أوقاتها ، ويعطون الزكاة لمستحقيها عن طيب نفس عند حلول وقتها. وهذا الذي أمروا به يقتضي الاتحاد والاتفاق ، لا الشقاق والافتراق ، ولم يجيء محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا بمثل ما أمر به الرسل من ذلك ، ومنهجه اتباع ملة إبراهيم عليه السلام الذي مال عن
__________
(1) - سُنَنُ ابْنِ مَاجَهْ (4024 ) صحيح
(2) - سُنَنُ ابْنِ مَاجَهْ (4023 ) صحيح
(3) السُّنَّةُ لِلْمَرْوَزِيِّ (45 ) حسن لغيره
(4) - سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ ـ الْجَامِعُ الصَّحِيحُ (2688 ) حسن لغيره(1/850)
وثنية أهل زمانه إلى التوحيد وإخلاص العبادة للَّه كما قال : ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النحل 16/ 123].
وذلك الدين : وهو إخلاص العبادة ، وترك كل ما يعبد من دونه ، وأداء الصلوات للَّه في أوقاتها ، وبذل الزكاة للمحتاجين ، هو دين الملة المستقيمة.
وقوله : وَما أُمِرُوا أي وما أمروا في التوراة والإنجيل إلا بالدين الحنيفي ، أي أن المشروع في حقهم مشروع في حقنا. والأولى أن يكون المراد كما ذكر الرازي : وما أمر أهل الكتاب في القرآن أو على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا بهذه الأشياء ، لأن الآية على هذا التقدير تفيد شرعا جديدا ، وحمل كلام اللَّه على ما يكون أكثر فائدة أولى ، ولقوله تعالى : حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ أي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولأن اللَّه تعالى ختم الآية بقوله : وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ وهو شرع محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وهذه الآية دالة على أن التفرق والكفر فعلهم بدليل قوله : إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ. والمقصود من هذه الآية تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أي لا يحزنك أو لا يغمّنك تفرقهم ، فليس ذلك لقصور في الحجة ، بل لعنادهم ، وهكذا كان سلفهم تفرقوا في السبت وعبادة العجل بعد قيام البينة عليهم ، فهي عادة قديمة لهم.
وقوله : لِيَعْبُدُوا اللام في موضع (أن) أي إلا أن يعبدوا ، والعرب تجعل اللام في موضع (أن) في الأمر والإرادة كثيرا ، مثل قوله تعالى : يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء 4/ 26] وقوله : يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا [الصف 61/ 8] وقال في الأمر : وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ [الأنعام 6/ 71].
وبما أن الإخلاص : عبارة عن النية الخالصة ، والنية معتبرة ، فقد دلت الآية على أن كل مأمور به ، فلا بد وأن يكون منويا. قالت الشافعية : بما أن الوضوء مأمور به في قوله تعالى : إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة 5/ 6] ودلت هذه الآية على أن كل مأمور يجب أن يكون منويا ، فيلزم من مجموع الآيتين وجوب كون الوضوء منويا. وعلى هذا لا بد في المأمورات من النية : بأن يقصد الشخص بعمله وجه اللَّه. أما المنهيات فإن تركها بدون نية لم يؤجر في تركها ، وإن تركها ابتغاء وجه اللَّه ، كان مأجورا على تركها ، وأما المباحات كالأكل والنوم ، فإن فعلها بغير نية لم يؤجر ، وإن فعلها بقصد وجه اللَّه والتقوي بها على الطاعة ، كان له فيها أجر.
واللام في قوله تعالى : وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ تدل على مذهب أهل السنة حيث قالوا : العبادة ما وجبت لكونها مفضية إلى ثواب الجنة أو إلى البعد عن عقاب النار ، بل لأجل أنك عبد ، وهو رب ، فلو لم يكن هناك ثواب ولا عقاب البتة ، ثم أمرك بالعبادة ، وجبت لمحض العبودية. وفيها أيضا إشارة إلى أنه من عبد اللَّه للثواب والعقاب ، فالمعبود في الحقيقة هو الثواب والعقاب ، والحق واسطة.(1/851)
والعبادة هي التذلل ، ومن زعم أنها الطاعة فقد أخطأ لأن جماعة عبدوا الملائكة والمسيح والأصنام ، وما أطاعوهم. والعبادة بهذا المعنى لا يستحقها إلا من يكون واحدا في ذاته وصفاته الذاتية والفعلية.
والإخلاص : هو أن يأتي بالفعل خالصا لداعية واحدة ، ولا يكون لغيرها من الدواعي تأثير في الدعاء إلى ذلك الفعل. وقوله : مُخْلِصِينَ تنبيه على ما يجب من تحصيل الإخلاص من ابتداء الفعل إلى انتهائه ، والمخلص : هو الذي يأتي بالحسن لحسنه ، والواجب لوجوبه ، فيأتي بالفعل مخلصا لربه ، لا يريد رياء ولا سمعة ولا غرضا آخر ، بل قالوا : لا يجعل طلب الجنة مقصودا ولا النجاة عن النار مطلوبا ، وإن كان لا بد من ذلك. وقالوا أيضا : من الإخلاص : ألا يزيد في العبادات عبادة أخرى لأجل الغير ، مثل الواجب من الأضحية شاة ، فإذا ذبحت اثنتين : واحدة للَّه ، وواحدة للأمير ، لم يجز لأنه شرك.
ثم إن هذه الآية : وَما أُمِرُوا .. دليل على أن الإيمان عبارة عن مجموع القول والاعتقاد والعمل لأن اللَّه تعالى ذكر العبادة المقرونة بالإخلاص وهو التوحيد ، ثم عطف عليه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ثم أشار إلى المجموع بقوله : وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ. (1)
ومضات :
قوله تعالى : « لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً ». « من » فى قوله تعالى : « مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ » بيانية ، وفيها معنى التبعيض أيضا ، إذ ليس كلّ أهل الكتاب كافرين ، بل هم كما يقول اللّه تعالى : « مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ » (110 : آل عمران). فالمراد بالذين كفروا هنا ليس الكافرين على إطلاقهم ، وإنما هم الكافرون من أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ وهم بعض من أهل الكتاب ، أو معظم أهل الكتاب.
والمشركون ، هم مشركو العرب ، وعلى رأسهم مشركو قريش. ومعنى الانفكاك فى قوله تعالى : « منفكّين » هو حلّ تلك الرابطة الوثيقة التي جمعت بينهم جميعا على الكفر والضلال.
فالذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون ، على سواء فى الضلال ، وفى البعد عن مواقع الحق .. فهم وإن اختلفوا دينا ومعتقدا ، وجنسا وموطنا ـ على سواء فى الضلال وفساد المعتقد ، وهم لهذا كيان واحد ، وقبيل واحد ، ينتسبون إلى أب واحد ، هو الكفر والضلال.
أما الكافرون من أهل الكتاب ، فقد كان كفرهم بما غيّروا ، وبدّلوا من شرع اللّه ، وبما تأوّلوا من كتب اللّه التي بين أيديهم ، فحرّفوا الكلم عن مواضعه ، وقالوا عن اللّه سبحانه ما لم يقله.
__________
(1) - تفسير الرازي : 32/ 43 - 48(1/852)
وأما المشركون ، فقد اغتال جهلهم وضلالهم كل معانى الحق ، التي تركها فيهم أنبياؤهم الأولون ، كهود ، وصالح ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، عليهم السلام ..
فانتهى بهم الأمر إلى الشرك باللّه ، وعبادة الأصنام من دون اللّه.
ومجمل معنى الآية الكريمة : أن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون لن تنحلّ منهم هذه الرابطة الوثيقة التي جمعت بينهم على الكفر والضلال ، حتى تأتيهم البينة .. فإذا أتتهم البينة تقطع ما بينهم ، وانحلت وحدتهم ، وأخذ كلّ الطريق الذي يختاره ..
و« البينة » هى ما أشار إليها قوله تعالى : « رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً » فالرسول صلوات اللّه وسلامه عليه ـ هو « البينة » ، أي البيان المبين ، الذي يبين طريق الحقّ بما يتلو من آيات اللّه على الناس ..
وفى جعل الرسول هو البينة ـ مع أن البينة هى آيات اللّه ـ إشارة إلى أن الرسول الكريم ، هو فى ذاته بينة ، وهو آية من آيات اللّه ، فى كماله ، وأدبه ، وعظمة خلقه ، حتى لقد كان كثير من المشركين يلقون النبي لأول مرة فيؤمنون به ، قبل أن يستمعوا إلى آيات اللّه منه ، وقبل أن يشهدوا وجه الإعجاز فيها ..
وأنه ليكفى أن يقول لهم إنه رسول اللّه ، فيقرءون آيات الصدق فى وجهه وفى وقع كلماته على آذانهم .. وقد آمن المؤمنون الأولون ، ولم يكن قد نزل من القرآن قدر يعرفون منه أحكام الدين ، ومبادئه ، وأخلاقياته .. بل إن إيمانهم كان استجابة لما دعاهم إليه رسول اللّه ، لأنه لا يدعو ـ كما عرفوه وخبروه ـ إلا إلى خير وحق.
والصحف المطهرة ، هى آيات القرآن الكريم ، التي يتلوها الرسول الكريم ، كما أوحاها إليه ربه ، وكما تلقاها من رسول الوحى ، على ما هى عليه فى صحف اللوح المحفوظ ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : « كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ، كِرامٍ بَرَرَةٍ » (11 ـ 16 : عبس).
وطهارة هذه الصحف ، هو نقاء آياتها ، وصفاؤها ، من كل سوء .. فهى حق خالص ، وكمال مطلق .. « إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ».(42 : فصلت).
وقوله تعالى : « فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ».والكتب القيمة التي فى هذه الصحف ، هى الكتب التي نزلت على أنبياء اللّه ورسله ، كصحف إبراهيم وموسى .. كما يقول سبحانه : « إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى » (18 ـ 19 : الأعلى).
فالقرآن الكريم جمع ما تفرق فيما أنزل اللّه من كتب على أنبيائه ، فكان به تمام دين اللّه ، الذي هو الإسلام ، كما يقول سبحانه : « إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ » (19 : آل عمران).(1/853)
وكون الصحف تحوى فى كيانها الكتب ، مع أن العكس هو الصحيح ، كما هو فى معهودنا ، إشارة إلى أن صحف القرآن ، هى بالنسبة إلى الكتب السماوية السابقة ، كتب .. وأن الصحيفة ، أو مجموعة الصحف منه تعادل كتابا من تلك الكتب إذ جمعت فى كلماتها المعجزة ما تفرق فى هذه الكتب.
وفى هذا ما يدل على قدر هذا القرآن العظيم ، وأنه كان لهذا جديرا أن ينزل فى ليلة القدر ، التي هى ليلة الزمن كله ، كما أن هذا الكتاب هو شرع اللّه كله.
وقوله تعالى : « وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ».الخطاب هنا إلى أهل الكتاب جميعا ، لا إلى الذين كفروا منهم .. فأهل الكتاب جميعا ، هم فى هذا المقام فى مواجهة البينة .. وقد اختلف موقفهم منها ، فمنهم من آمن ، ومنهم من كفر .. وهنا تفرق أمرهم ، وأخلى الذين آمنوا منهم مكانهم فيهم ..
والسؤال هنا : ألم يكن أهل الكتاب متفرقين قبل أن يأتيهم رسول اللّه ، ويدعوهم إلى الإيمان باللّه ؟
ألم يكن منهم مؤمنون وكافرون ، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى : « لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ .. » ؟ . ألم يكن هذا الإخبار عنهم بهذا الوصف ، قبل أن تأتيهم البينة ؟ فما تأويل هذا ؟
نقول ـ واللّه أعلم ـ إن أهل الكتاب ، وإن كان فيهم المؤمنون الذين استقاموا على شريعة اللّه ، كما جاء هم بها أنبياؤهم ، غير متبعين ما دخل عليهم من تبديل وتحريف ـ إلا أن هؤلاء المؤمنين ، هم فى مواجهة الشريعة الإسلامية غير مؤمنين ، إذا لم يصلوا إيمانهم هذا ، بالإيمان بدين اللّه (الإسلام) الذي كمل به الدين .. فالمؤمنون حقّا من أهل الكتاب ، لا يجدون فى الإيمان بالإسلام حجازا يحجز بينهم وبينه ، إذ كان دينهم بعضا من هذا الدين ، وبعض الشيء ينجذب إلى كله ، ولا يأخذ طريقا غير طريقه! فأهل الكتاب جميعا ـ المؤمنون منهم والكافرون ـ على سواء فى مواجهة الدين الإسلامى ، كلّهم مدعوون إلى الإيمان به ، فمن لم يؤمن به فهو كافر.
وأهل الكتاب ، إذ دعوا إلى الإيمان بدين اللّه ، تفرقوا ، فآمن قليل منهم ، وكفر كثير .. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله : « الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ » (121 : البقرة) وبقوله سبحانه : « الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ، وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ » (52 ـ 53 :القصص).
وأما المشركون ، فقد انفكوا ، وانفصلوا عن الكافرين من أهل الكتاب ، بعد أن جاءتهم البينة إذ أنهم آمنوا باللّه ، ودخلوا فى دين اللّه جميعا ، بعد أن تلبثوا على طريق العناد والضلال! وقوله(1/854)
تعالى : « وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ». أي أن أهل الكتاب الذين دعوا إلى الإيمان بشريعة الإسلام ، لم يدعوا إلى أمر لا يعرفونه ، ولم يؤمروا بأمر لم تأمرهم به شريعتهم التي هم بها يؤمنون ..إنهم ما أمروا إلا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين ، لا يعبدون إلها غيره « حنفاء » أي مائلين عن أي طريق غير طريق اللّه .. وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.
فهذا هو شرع اللّه ، وتلك أحكام شريعته لكل المؤمنين بشرائع السماء .. إنها جميعا تقوم على هذه الأصول الثابتة :
وأولها الإيمان باللّه وحده ، إيمانا خالصا من كل شرك ، مبرأ من كل ما لا يجعل للّه سبحانه وتعالى التفرد بالخلق والأمر.
ثم إقام الصلاة ، التي هى مظهر الولاء للّه ، وآية الخضوع لجلاله وعظمته ..
ثم إيتاء الزكاة ، التي هى أثر من آثار الإيمان باللّه ، الذي من شأنه أن يقيم المؤمنين باللّه على التوادّ والتراحم ، والتعاطف فيما بينهم ، كما يقيمهم الولاء للّه ، والخضوع لجلاله وعظمته ، كيانا واحدا فى محراب الصلاة له ..
وإذا كان هذا هو ما تدعو إليه الشرائع السماوية جميعا ، وإذا كان هذا ما تدعو إليه شريعة الإسلام ـ فإن الذي يفرق بين هذه الشرائع وبين شريعة الإسلام ، هو جائر عن طريق الحق ، معتد على حدود اللّه .. إذ كانت شرائع اللّه كلها ـ سابقها ولا حقها ـ حرم اللّه وحدوده التي حدها لعباده : « وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ».
. ولهذا كانت دعوة الإسلام قائمة على الإيمان بشرائع اللّه كلها ، وبرسل اللّه كلهم : « قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ » (136 : البقرة) قوله تعالى : « وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ »..
أي الدين القيم ، أي المستقيم ، أو دين الملة أو الأمة المستقيمة على الحق القائمة بالقسط ـ فكل من خرج على هذا الدين فهو على غير دين اللّه ، كما يقول سبحانه : « إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ » (159 : الأنعام) ومن معانى « الدّين » هنا ، دين اللّه ، وهو الإسلام ..والقيّمة : مذكّر القيّم ، بمعنى المستقيم ، كما يقول تعالى : « ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ » (36 : التوبة). (1)
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1639)(1/855)
والكتب التي في صحف القرآن ومصاحفه ، إما أن تكون هي ما صح من كتب الأولين كموسى وعيسى وغيرهما ، مما حكاه الله في كتابه عنهم ، فإنه لم يأت منها إلا بما هو قوي سليم . وقد ترك حكاية ما لبّس في الملبّسون إلا أن يكون ذكره لبيان بطلانه ؛ ولهذا لم يجد الجاحدون لرسالته- عليه السلام- من أهل الكتاب سبيلاً إلى إنكار الحق ، وإنما فضلوا عليه سواه أن هي سور القرآن ، فإن كل سورة من سوره كتاب قويم ؛ فصحف القرآن أو صحائفه وأوراق مصحفه تحتوي على سور من القرآن هي كتب قيمة . ولما كان لسائل أن يسأل : إذا كان هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ، وقد انفكوا عن ذلك الظلام المطبق ، وبدا لهم من الحق ما عرفوه كما يعرفون أبناءهم ، فما بالُهم لم يؤمنوا بهذا الحق الذي جاءهم ؟ أجاب الحق تعالى بأن أهل الكتاب قد جاءتهم البينة والحجة القاطعةُ على الحق الذي لا يختلف وجهه ، بما أوحى الله به إلى أنبيائهم ، وكان من حقهم أن يسترشدوا بكتبهم في معرفة سبيله حتى لا ينحرفوا عنه ، فإذا عرض لأحدهم شبهة رجع في كشفها إلى العارف بمعاني الكتب ، ثم كان عليهم أن يحرصوا على تعلم معانيها وفهم أساليبها ويحافظوا عليها حتى لا يضللهم فيها مضلل ، لكن هذه البينة لم تفدهم شيئاً ، فإنهم اختلفوا في التأويل وتفرقوا في المذاهب ، حتى صار أهل كل مذهب يبطل ما عند أهل المذهب الآخر . وكان ذلك بغياً منهم ، واستمرراً في المراد وإصراراً على ما قاد إليه الهوى . وهذا هو قوله تعالى..
إن أهل الكتاب قد افترقوا ، ولعنت كل فرقة أختها ، وكان افتراقهم في العقائد والأحكام وفروع الشريعة ، مع أنهم لم يؤمروا ولم توضع لهم تلك الأحكام إلا لأجل أن يعبدوا الله ويخلصوا له عقائدهم وأعمالهم ، فلا يأخذونها إلا عنه مباشرة ، ولا يقلدون أهل الضلال من الأمم الأخرى ، وأن يخشعوا لله في صلاتهم ، وأن يصلوا عباد الله بزكاتهم . فإذا كان هذا هو الأصل الذي يرجع إليه في الأوامر ، فما كان عليهم إلا أن يجعلوه نصب أعينهم ، فيردوا إليه كل ما يعرض لهم من المسائل ويَحُلُّوا به كل ما يعترض أمامهم من المشاكل . ومتى تحكم الإخلاص في الأنفس ، تسلط الإنصاف عليها ، فسادت فيها الوحدة ، ولم تطرق طرقها الفرقة ، هذا ما نعاه الله من حال أهل الكتاب ، فما نقول في حالنا ؟ أفما ينعاه كتابنا الشاهد علينا بسوء أعمالنا ، في افتراقنا في الدِّين وأنْ صرنا فيه شيعاً ، وملأناه محدثات وبدعاً ؟ بهذا الذي تقدم عرفت أن الذين كفروا هم الذين أنكروا رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند دعوتهم إلى قبول ما جاء به . وإن { مِنْ } في قوله { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } للتبعيض . وأن معنى لم يكونوا منفكين :أي لم يكن وجه الحق لينكشف لهم ، فيقع الزلزال في عقائدهم ، فينفكوا عن الغفلة المحضة التي كانوا فيها ، حتى تأتيهم البينة . ويجوز أن يكون المراد من { الَّذِينَ كَفَرُواْ } - والله أعلم - أولئك الذين جحدوا شيئاً من دين الله تعالى عندما جاءهم ولم ينظروا في دليله ، أو أعرضوا عنه بعدما عرفوا دليله ، سواء كانوا(1/856)
من مشركي العرب أو من أهل الكتاب ، وإن آمنوا بعد ذلك وصدقوا . فأراد الله أن يذكر منَّته على من آمن من هؤلاء ، فبيّن أن الذين كفروا - أي : جحدوا ما أوجب الله على عباده أن يعتقدوه عنه من صفاته وشرائعه من أهل الكتاب ومشركي العرب - لم يكونوا براجعين عن كفرهم وجحودهم هذا ، حتى يأتيهم الرسول فيبين لهم بطلان ما كانوا عليه من الكفر ، فيؤمنوا . فما أعظم فضل الله عليهم في إرساله رسوله إليهم !
وهذا وجه آخر غير الذي قدمناه في معنى الذين كفروا وانفكاكهم . وبذلك أو هذا ظهر معنى { حَتَّى } وبطل جميع ما يَهذي به كثير من المفسرين الذين أضلهم التقليد عن الرأي السديد ، فصعّبوا من القرآن سهله ، وحرموا من فهمه أهله . انتهى كلام الإمام نقلناه من أول السورة إلى هنا بالحرف لنفاسته ، ولكونه أحسن ما فسرت به ، وقاعدتنا التي انتهجناها في هذا التفسير أن نؤثر في معاني آياته أحسن ما قيل فيها ؛ فلذلك سميناه محاسن التأويل ، هدانا الله إلى أقوم السبيل . (1)
لقد كانت الأرض في حاجة ماسة إلى رسالة جديدة . كان الفساد قد عم أرجاءها كلها بحيث لا يرتجى لها صلاح إلا برسالة جديدة ، ومنهج جديد ، وحركة جديدة . وكان الكفر قد تطرق إلى عقائد أهلها جميعاً سواء أهل الكتاب الذين عرفوا الديانات السماوية من قبل ثم حرفوها ، أو المشركين في الجزيرة العربية وفي خارجها سواء .
وما كانوا لينفكوا ويتحولوا عن هذا الكفر الذي صاروا إليه إلا بهذه الرسالة الجديدة ، وإلا على يد رسول يكون هو ذاته بينة واضحة فارقة فاصلة : { رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة } . . مطهرة من الشرك والكفر { فيها كتب قيمة } . . والكتاب يطلق على الموضوع ، كما يقال كتاب الطهارة وكتاب الصلاة ، وكتاب القدر ، وكتاب القيامة ، وهذه الصحف المطهرة وهي هذا القرآن فيها كتب قيمة أي موضوعات وحقائق قيمة . .
ومن ثم جاءت هذه الرسالة في إبانها ، وجاء هذا الرسول في وقته ، وجاءت هذه الصحف وما فيها من كتب وحقائق وموضوعات لتحدث في الأرض كلها حدثاً لا تصلح الأرض إلا به . فأما كيف كانت الأرض في حاجة إلى هذه الرسالة وإلى هذا الرسول فنكتفي في بيانه باقتطاف لمحات كاشفة من الكتاب القيم كتبه الرجل المسلم « السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي » بعنوان : « ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين » . . وهو أوضح وأخصر ما قرأناه في موضوعه :
جاء في الفصل الأول من الباب الأول :
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 287)(1/857)
كان القرن السادس والسابع لميلاد المسيح من أحط أدوار التاريخ بلا خلاف . فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون . وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي وقد زادتها الأيام سرعة في هبوطها وشدة في إسفافها . وكان الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه ، فنسي نفسه ومصيره ، وفقد رشده ، وقوة التمييز بين الخير والشر ، والحسن والقبيح . وقد خفتت دعوة الأنبياء من زمن ، والمصابيح التي أوقدوها قد انطفأت من العواصف التي هبت بعدها ، أو بقيت ونورها ضعيف ضئيل لا ينير إلا بعض القلوب ، فضلاً عن البيوت ، فضلاً عن البلاد . وقد انسحب رجال الدين من ميدان الحياة ، ولاذوا بالأديرة والكنائس والخلوات فراراً بدينهم من الفتن ، وضناً بأنفسهم ، أو رغبة إلى الدعة والسكون ، فراراً من تكاليف الحياة وجدها ، أو فشلاً في كفاح الدين والسياسة ، والروح والمادة؛ ومن بقي منهم في تيار الحياة اصطلح مع الملوك وأهل الدنيا وعاونهم على إثمهم وعدوانهم ، وأكل أموال الناس بالباطل . .
« أصبحت الديانات العظيمة فريسة العابثين والمتلاعبين؛ ولعبة المجرمين والمنافقين ، حتى فقدت روحها وشكلها ، فلو بعث أصحابها الأولون لم يعرفوها؛ وأصبحت مهود الحضارة والثقافة والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال والاختلال وسوء النظام وعسف الحكام ، وشغلت بنفسها لا تحمل للعالم رسالة ، ولا للأمم دعوة ، وأفلست في معنوياتها ، ونضب معين حياتها ، لا تملك مشرعاً صافياً من الدين السماوي ، ولا نظاماً ثابتاً من الحكم البشري » . .
هذه اللمحة السريعة تصور في إجمال حالة البشرية والديانات قبيل البعثة المحمدية . وقد أشار القرآن إلى مظاهر الكفر الذي شمل أهل الكتاب والمشركين في مواضع شتى ..
من ذلك قوله عن اليهود والنصارى : { وقالت اليهود عزير ابن الله . وقالت النصارى المسيح ابن الله } { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء ، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء } وقوله عن اليهود : { وقالت اليهود : يد الله مغلولة . غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا . بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } وقوله عن النصارى : { لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم } { لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة } وقوله عن المشركين : { قل يا أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد . ولا أنا عابد ما عبدتم؛ ولا أنتم عابدون ما أعبد . لكم دينكم ولي دين } وغيرهما كثير . .
وكان وراء هذا الكفر ما وراءه من الشر والانحطاط والشقاق والخراب الذي عم أرجاء الأرض . . « وبالجملة لم تكن على ظهر الأرض أمة صالحة المزاج ، ولا مجتمع قائم على أساس الأخلاق والفضيلة ، ولا حكومة مؤسسة على أساس العدل والرحمة ، ولا قيادة مبنية على العلم والحكمة ، ولا دين صحيح مأثور عن الأنبياء » .(1/858)
ومن ثم اقتضت رحمة الله بالبشرية إرسال رسول من عنده يتلو صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة . وما كان الذين كفروا من المشركين ومن الذين أوتوا الكتاب ليتحولوا عن ذلك الشر والفساد إلا ببعثة هذا الرسول المنقذ الهادي المبين . .
ولما قرر هذه الحقيقة في مطلع السورة عاد يقرر أن أهل الكتاب خاصة لم يتفرقوا ويختلفوا في دينهم عن جهل أو عن غموض في الدين أو تعقيد . إنما هم تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ومن بعد ما جاءتهم البينة من دينهم على أيدي رسلهم :{ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } . .
وكان أول التفرق والاختلاف ما وقع بين طوائف اليهود قبل بعثة عيسى عليه السلام فقد انقسموا شعباً وأحزاباً . مع أن رسولهم هو موسى عليه السلام وكتابهم هو التوراة . فكانوا طوائف خمسة رئيسية هي طوائف الصدوقيين ، والفريسيين ، والآسيين ، والغلاة ، والسامريين . . ولكل طائفة سمة واتجاه . ثم كان التفرق بين اليهود والنصارى ، مع أن المسيح عليه السلام هو أحد أنبياء بني إسرائيل وآخرهم ، وقد جاء مصدقاً لما بين يديه من التوراة ، ومع هذا فقد بلغ الخلاف والشقاق بين اليهود والمسيحيين حد العداء العنيف والحقد الذميم . وحفظ التاريخ من المجازر بين الفريقين ما تقشعر له الأبدان .
« وقد تجدد في أوائل القرن السابع من الحوادث ما بغضهم ( أي اليهود ) إلى المسيحيين وبغض المسيحيين إليهم ، وشوه سمعتهم . ففي السنة الأخيرة من حكم فوكاس ( 610م ) أوقع اليهود بالمسيحيين في أنطاكية ، فأرسل الأمبراطور قائده » ابنوسوس « ليقضي على ثورتهم ، فذهب وأنفذ عمله بقسوة نادرة ، فقتل الناس جميعاً قتلاً بالسيف ، وشنقاً ، وإغراقاً ، وإحراقاً ، وتعذيباً ، ورمياً للوحوش الكاسرة .
. وكان ذلك بين اليهود والنصارى مرة بعد مرة ، قال المقريزي في كتاب الخطط : « وفي أيام ( فوقا ) ملك الروم ، بعث كسرى ملك فارس جيوشه إلى بلاد الشام ومصر فخربوا كنائس القدس ، وفلسطين وعامة بلاد الشام ، وقتلوا النصارى بأجمعهم ، وأتوا إلى مصر في طلبهم ، وقتلوا منهم أمة كبيرة ، وسبوا منهم سبيا لا يدخل تحت حصر . وساعدهم اليهود في محاربة النصارى وتخريب كنائسهم؛ وأقبلوا نحو الفرس من طبرية ، وجبل الجليل ، وقرية الناصرة ومدينة صور ، وبلاد القدس؛ فنالوا من النصارى كل منال وأعظموا النكاية فيهم ، وخربوا لهم كنيستين بالقدس ، وأحرقوا أماكنهم ، وأخذوا قطعة من عود الصليب ، وأسروا بطرك القدس وكثيراً من أصحابه . إلى أن قال بعد أن ذكر فتح القدس :
» فثارت اليهود في أثناء ذلك بمدينة صور ، وأرسلوا بقيتهم في بلادهم ، وتواعدوا على الإيقاع بالنصارى وقتلهم ، فكانت بينهم حرب ، اجتمع فيها من اليهود نحو 20 ألفاً وهدموا كنائس(1/859)
النصارى خارج صور . فقوّس النصارى عليهم وكاثروهم فانهزم اليهود هزيمة قبيحة ، وقتل منهم كثير . وكان هرقل قد ملك الروم بقسطنطينية ، وغلب الفرس بحيلة دبرها على كسرى حتى رحل عنه ، ثم سار من قسطنطينية ليمهد ممالك الشام ومصر ، ويجدد ما خربه الفرس ، فخرج إليه اليهود من طبرية وغيرها ، وقدموا لها الهدايا الجليلة وطلبوا منه أن يؤمنهم منه ويحلف لهم على ذلك ، فأمنهم وحلف لهم . ثم دخل القدس ، وقد تلقاهم النصارى بالأناجيل والصلبان والبخور والشموع المشعلة ، فوجد المدينة وكنائسها خراباً ، فساءه ذلك ، وتوجع لهم ، وأعلمه النصارى بما كان من ثورة اليهود مع الفرس ، وإيقاعهم بالنصارى وتخريبهم الكنائس ، وأنهم كانوا أشد نكاية لهم من الفرس ، وقاموا قياماً كبيراً في قتلهم عن آخرهم ، وحثوا هرقل على الوقيعة بهم ، وحسنوا له ذلك . فاحتج عليهم بما كان من تأمينه لهم وحلفه ، فأفتاه رهبانهم وبطارقتهم وقسيسوهم بأنه لا حرج عليه في قتلهم ، فإنهم عملوا عليه حيلة حتى أمنهم من غير أن يعلم بما كان منهم ، وأنهم يقومون عنه بكفارة يمينه بأن يلتزموا ويلزموا النصارى بصوم جمعة في كل سنة عنه على مر الزمان والدهور! فمال إلى قولهم وأوقع باليهود وقيعة شنعاء أبادهم جميعهم فيها ، حتى لم يبق في مماليك الروم والشام إلا من فر واختفى . .
« وبهذه الروايات يعلم ما وصل إليه الفريقان : اليهود والنصارى ، من القسوة والضراوة بالدم الإنساني ، وتحين الفرص للنكاية في العدو ، وعدم مراعاة الحدود في ذلك » .
ثم كان التفرق والاختلاف بين النصارى أنفسهم ، مع أن كتابهم واحد ونبيهم واحد . تفرقوا واختلفوا أولاً في العقيدة . ثم تفرقوا واختلفوا طوائف متعادية متنافرة متقابلة . وقد دارت الخلافات حول طبيعة المسيح عليه السلام وعما إذا كانت لاهوتية أو ناسوتية .
وطبيعة أمه مريم . وطبيعة الثالوث الذي يتألف منه « الله » في زعمهم وحكى القرآن قولين منها أو ثلاثة في قوله : { لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم } { لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة } { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس : اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ } « وكان أشد مظاهر هذا الخلاف الديني ما كان بين نصارى الشام والدولة الرومية ، وبين نصارى مصر . أو بين » الملكانية « ، » المنوفوسية « بلفظ أصح . فكان شعار الملكانية عقيدة ازدواج طبيعة المسيح ، وكان المنوفوسيون يعتقدون أن للسيد المسيح طبيعة واحدة هي الإلاهية . التي تلاشت فيها طبيعة المسيح البشرية كقطرة من الخل تقع في بحر عميق لا قرار له . وقد اشتد هذا الخلاف بين الحزبين في القرنين السادس والسابع ، حتى صار كأنه حرب عوان بين دينين متنافسين ، أو كأنه خلاف بين اليهود والنصارى . . كل طائفة تقول للأخرى : إنها ليست على شيء .(1/860)
» وحاول الإمبراطور هرقل ( 610 641 ) بعد انتصاره على الفرس ( سنة 638 ) جمع مذاهب الدولة المتصارعة وتوحيدها ، وأراد التوفيق ، وتقررت صورة التوفيق أن يمتنع الناس عن الخوض في الكلام عن كنه طبيعة السيد المسيح ، وعما إذا كانت له صفة واحدة أم صفتان ، ولكن عليهم بأن يشهدوا بأن الله له إرادة واحدة أو قضاء واحد . وفي صدر عام 631 حصل وفاق على ذلك ، وصار المذهب المنوثيلي مذهباً رسمياً للدولة ، ومن تضمهم من أتباع الكنيسة المسيحية . وصمم هرقل على إظهار المذهب الجديد على ما عداه من المذاهب المخالفة ، متوسلاً إلى ذلك بكل الوسائل . ولكن القبط نابذوه العداء ، وتبرأوا من هذه البدعة والتحريف! وصمدوا له واستماتوا في سبيل عقيدتهم القديمة . وحاول الإمبراطور مرة أخرى توحيد المذاهب وحسم الخلاف فاقتنع بأن يقر الناس بأن الله له إرادة واحدة . وأما المسألة الأخرى وهي نفاذ تلك الإرادة بالفعل فأرجأ القول فيه ، ومنع الناس أن يخوضوا في مناظراته . وجعل ذلك رسالة رسمية ، ذهب بها إلى جميع جهات العالم الشرقي . ولكن الرسالة لم تهدئ العاصفة في مصر ، ووقع اضطهاد فظيع على يد قيصر في مصر استمر عشر سنين ، ووقع في خلالها ما تقشعر منه الجلود ، فرجال كانوا يعذبون ثم يقتلون غرقاً ، وتوقد المشاعل وتسلط نارها على الأشقياء حتى يسيل الدهن من الجانبين إلى الأرض ويوضع السجين في كيس مملوء بالرمل ويرمى في البحر . إلى غير ذلك من الفظائع « .
وكان هذا الخلاف كله بين أهل الكتاب جميعاً { من بعد ما جاءتهم البينة } . . فلم يكن ينقصهم العلم والبيان؛ إنما كان يجرفهم الهوى والانحراف .
على أن الدين في أصله واضح والعقيدة في ذاتها بسيطة :{ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } وهذه هي قاعدة دين الله على الإطلاق :عبادة الله وحده ، وإخلاص الدين له ، والميل عن الشرك وأهله ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة : { وذلك دين القيمة } .
. عقيدة خالصة في الضمير ، وعبادة لله ، تترجم عن هذه العقيدة ، وإنفاق للمال في سبيل الله ، وهو الزكاة . . فمن حقق هذه القواعد ، فقد حقق الإيمان كما أمر به أهل الكتاب ، وكما هو في دين الله على الإطلاق . دين واحد . وعقيدة واحدة ، تتوالى بها الرسالات ، ويتوافى عليها الرسل . . دين لا غموض فيه ولا تعقيد . وعقيدة لا تدعو إلى تفرق ولا خلاف ، وهي بهذه النصاعة ، وبهذه البساطة ، وبهذا التيسير . فأين هذا من تلك التصورات المعقدة ، وذلك الجدل الكثير؟ (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3948)(1/861)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- بيان أن الرسالات السابقة للإِسلام والتي عاصرته كانت منحرفة اختلط فيها الحق بالباطل ولم تعد صالحة للحياة .
2- إن أهل الكتاب بصورة خاصة كانوا منتظرين البعثة المحمدية بفارغ الصبر لعلمهم بما أصاب دينهم من فساد ، ولما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاءتهم البينة على صدقه وصحة ما جاء به تفرقوا فآمن البعض وكفر البعض .
3- مما يؤخذ على اليهود والنصارى أنهم في كتبهم مأمورون بعبادة الله تعالى وحده والكفر بالشرك مائلين عن كل دين إلى دين الإِسلام ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فما بالهم لما جاءهم الإِسلام بمثل ما أمروا به كفروا به وعادوه .
4- بيان أن الملَّة القيَّمة والدين المنجي من العذاب المحقق للإسعاد والكمال ماقام على أساس عبادة الله وحده وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والميل عن كل دين إلى هذا الدين الإِسلامي .
5- وجوب الإخلاص لأنه لبّ العبادة
6- للإسلام وشارعه فضل على جميع الأمم والخلائق ، فلولاه لما عرف إيمان صحيح ، ولا دين حق.
7- من هذه الفضائل والمزايا : أن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمشركين عبدة الأوثان والأصنام لم يصيروا منتهين عن كفرهم ، مائلين أو زائلين عنه إلا بمجيء البينة وهي الحجة الواضحة ، وهي محمد - صلى الله عليه وسلم - بما جاء به من القرآن العظيم ، حجة اللَّه على عباده ، ومعجزة رسوله مدى الحياة ، وهو الذي يتلو منه على أسماع البشر صحفا مطهرة من الزور والشك والنفاق والضلالة ، كما قال ابن عباس ، وفي تلك الصحف مكتوبات مستقيمة مستوية محكمة ، مستقلة بالدلائل.
والصحف : القراطيس التي يكتب فيها القرآن ، المطهر من النقائص ، ومسّ المحدث إياه. ومعنى تلاوة الصحف : إملاؤه إياها.
8- تقتضي الآية الأولى : لَمْ يَكُنِ أن أهل الكتاب منهم كافر ، ومنهم مؤمن ليس بكافر. أما المشركون فلا ينقسمون هذه القسمة ، وكلهم كفار لأن كلمة مِنْ هنا ليست للتبعيض ، بل للتبيين ، كقوله تعالى : فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج 22/ 30] فقوله تعالى : مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ بيان للذين كفروا ، والمراد أن الكفار فريقان : بعضهم أهل الكتاب ومن يجري مجراهم كالمجوس ، وبعضهم مشركون. وكلمة وَالْمُشْرِكِينَ وصف لأهل الكتاب لأن النصارى مثلثة ، وعامة اليهود مشبّهة ، وهذا كله شرك.
9- حول أمية الرسول - صلى الله عليه وسلم - :(1/862)
لقد بعث الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أمِّيًّا لا يعرف القراءة ولا الكتابة، لقوله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48].
وكونه عليه الصلاة والسلام أمِّيًّا يعد معجزة من معجزاته الدالة على صدقه، وأن ما جاء به من عند الله تعالى لا من عند نفسه، قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2].
وقال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].
ولو كان عليه الصلاة والسلام قارئاً كاتبًا لادَّعى المشركون أن ما جاء به من اختراعه ومن بنيات أفكاره.
وقد اختلف أهل العلم - رحمهم الله - هل تعلَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - القراءة والكتابة بعد نزول الوحي أو لا ؟ فمنهم من قال: إنه تعلَّم ذلك، فذكر القرطبي في تفسيره نقلاً عن النقاش في تفسيره عن الشعبي أنه قال: ما مات النبي صلى عليه وسلم حتى كتب. ، وأسند أيضا حديث أبي كبشة السلولي مضمنه أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ صحيفة لـ عيينه بن حصن وأخبر بمعناها، وضعَّف ذلك ابن عطية.
واستدلوا أيضا بما رواه مسلم من حديث البراء في صلح الحديبية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لـ عليٍّ : اكْتُبِ الشّرْطَ بَيْنَنَا. بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ. هَذَا مَا قَاضَىَ عَلَيْهِ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ" فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ: لَوْ نَعْلَمُ أَنّكَ رَسُولُ اللّهِ تَابَعْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ. فَأَمَرَ عَلِيّاً أَنْ يَمْحَاهَا. فَقَالَ عَلِيّ: لاَ، وَاللّهِ! لاَ أَمْحَاهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - : "أَرِنِي مَكَانَهَا" فَأَرَاهُ مَكَانَهَا، فَمَحَاهَا.وَكَتَبَ "ابْنُ عَبْدِ اللّهِ.قالوا: وقد رواه البخاري بأظهر من هذا فقال: فاخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب فكتب. ، وزاد في طريق أخرى: ولا يحسن أن يكتب. فقال جماعة من العلماء: بجواز ذلك عليه وأنه كتب بيده. منهم السمناني والباجي ورأوا أن ذلك غير قادح في كونه أمِّيًّا ولا معارضاً لقوله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48]، ولا بقوله ": إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. بل رأوه زيادة في معجزاته واستظهارا على صدقه وصحة رسالته، وذلك أنه كتب من غير تعلم لكتابة ولا تعاطٍ لأسبابها، وإنما أجرى الله تعالى على يده وقلمه حركات كانت عنها خطوط مفهومها ابن عبد الله لمن قرأها، فكان ذلك خارقاً للعادة، كما أنه عليه السلام عَلِمَ عِلْمَ الأولين والآخرين من غير اكتساب ولا تعلُّم، فكان ذلك أبلغ في معجزاته وأعظم في فضائله ولا يزول عنه اسم الأمي بذلك، ولذلك قال الراوي عنه في هذه الحالة: ولا يحسن أن يكتب. فبقي عليه اسم الأمي مع كونه قال: كتب.(1/863)
وقال بعض أهل العلم: إنه - صلى الله عليه وسلم - ما كتب ولا حرفاً واحداً، وإنما أمر من يكتب، وكذلك ما قرأ ولا تهجَّى.
قالوا: وكتابته مناقضه لكونه أمِّيًّا لا يكتب، ونكونه أمِّيًّا في أمة أمية قامت الحجة وأفحم الجاحدون وانحسمت الشبهة، فكيف يُطلِقُ الله تعالى يده فيكتب وتكون آية؟ وإنما الآية ألاَّ يكتب، والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضاً، وإنما معنى كتب وأخذ القلم: أي أمر من يكتب به من كتابه، وكان من كتبة الوحي بين يديه - صلى الله عليه وسلم - ستة وعشرون كاتباً.
ورجَّح هذا القول القرطبي في تفسيره. وعلى كلا القولين فوصفه بالأمِّيِّ لكونه من معجزاته عليه الصلاة والسلام، فإن لم يكن كتب فالأمِّيَّة وصف ملازم له عليه الصلاة والسلام حتى مات، وإن كان كتب فوصفه بالأمِّيِّ باعتبار ما كان ويبقى متصفاً بهذا الوصف لكونه من معجزاته الباهرة، ولكونه بُعثَ في أمةٍ أميةٍ لا تقرأُ ولا تكتبُ، فناسب أن يكون أمِّيًّا مثلهم لتقطع الشبهة. والله أعلم. (1)
وجاء في فتاوى الشبكة الإسلامية :
لا شك أن النبي الكريم محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد ولد أمياً، وظل على ذلك إلى أن بعث وهو أمي، وهذا كمال في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومعجزة من معجزاته الشريفة، قال الله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)[الجمعة:2].
وفي وصف الرسول الأمي بأنه يتلو على الأميين آيات الله أي وحيه، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب أي يلقنهم إياه، كما كانت الرسل تلقن الأمم الكتاب بالكتابة، ويعلمهم الحكمة التي علمتها الرسل السابقون أممهم، في كل هذه الأوصاف تحد بمعجزة الأمية في هذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو مع كونه أمياً قد أتى أمته بجميع الفوائد التي أتى بها الرسل غير الأميين أممهم لا ينقص عنهم شيئاً، فتمحضت الأمية للكون معجزة حصل من صاحبها أفضل مما حصل من الرسل الكاتبين مثل موسى. وفي وصف الأمي بالتلاوة، وتعليم الكتاب والحكمة، وتزكية النفوس، ضرب من محسن الطباق، لأن المتعارف عليه أن هذه مضادة للأمية. أفاده العلامة بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير(13/209).
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (4 / 5977) رقم الفتوى 25851 لا تعارض بين أمية النبي - صلى الله عليه وسلم - وعرض الصحابة القرآن عليه تاريخ الفتوى : 04 شوال 1423
وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (4 / 9275) رقم الفتوى 28870 أمية النبي عليه الصلاة والسلام بين النافين والمثبتين تاريخ الفتوى : 17 ذو الحجة 1423(1/864)
ولا شك أن إبقاء الله لنبيه على الأمية كان لحكمة عظيمة، قال الفخر الرازي عند قوله تعالى: (رسولاً منهم) يعني محمداً - صلى الله عليه وسلم - نسبه من نسبهم، وهو من جنسهم، كما قال تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) [التوبة:128] قال أهل المعاني: وكان هو - صلى الله عليه وسلم - أيضاً أمياً مثل الأمة التي بعث فيهم، وكانت البشارة به في الكتب قد تقدمت بأنه النبي الأمي، وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالكتابة، فكانت حاله مشاكلة لحال الذين بعث فيهم، وذلك أقرب إلى صدقه. التفسير الكبير(10538) للرازي.
ومن الآيات التي تشير إلى الحكمة من كونه أمياً قوله تعالى: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون)[العنكبوت:48] قال ابن عاشور: (هذا استدلال بصفة الأمية المعروف بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ودلالتها على أنه موحى إليه من الله أعظم دلالة، وقد ورد الاستدلال بها في مواضع كقوله: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان)[الشورى:52] وقوله: (فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون)[يونس:16]. ومعنى: (ما كنت تتلو من قبله من كتاب) إنك لم تكن تقرأ كتاباً حتى يقول أحد: هذا القرآن الذي جاء به هو مما كان يتلوه من قبل.
(ولا تخطه) أي لا تكتب كتاباً، ولو كنت لا تتلوه، فالمقصود نفي حالتي التعلم، وهما: التعلم بالقراءة، والتعلم بالكتابة، استقصاء في تحقيق وصف الأمية...(بل هو آيات بينات في صدور الذي أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون)[العنكبوت:49] .. أي بل القرآن آيات ليست مما كان يتلى قبل نزوله، بل هو آيات في صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - . فالمراد من (صدور الذين أوتوا العلم) صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - عبر عنه بالجمع تعظيماً له، والعلم الذي أوتيه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو النبوة ) التحرير والتنوير(10/12).
ويحسن بنا هنا أن نشير إلى جواب سؤال مهم وهو: هل ظل الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أميته إلى أن توفي؟ أم تعلم القراءة والكتابة بعد أن بعث بفترة؟ وهل قرأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - كتاباً؟ وهل كتب بيده الشريفة - صلى الله عليه وسلم - ؟
وللجوابعن هذا السؤال نقول : نقل الإمام النووي عن القاضي عياض الخلاف في ذلك، وعزى إليه أن الباجي وغيره ذهبوا إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى كتب، كما في قصة صلح الحديبية من رواية البخاري وفيه: "أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب، فكتب" وزاد عنه في طريق آخر" ولا يحسن أن يكتب فكتب" قالوا: وهذا لا يقدح في أميته. بينما ذهب الأكثرون إلى منع ذلك كله.(1/865)
وقالوا: قوله "كتب" أي: أمر بالكتابة.. إلخ. انظر صحيح مسلم كتاب الجهاد، باب صلح الحديبية في الحديبية بشرح النووي (6/381) والله أعلم. (1)
10- في الآية الأولى أحكام شرعية هي :
أولا- أنه تعالى فسر قوله : الَّذِينَ كَفَرُوا بأهل الكتاب وبالمشركين ، وهذا يقتضي كون الكل واحدا في الكفر ، لذا قال العلماء : الكفر كله ملة واحدة ، فالمشرك يرث اليهودي وبالعكس.
ثانيا- أن العطف أوجب المغايرة ، فلذلك نقول : الذمي ليس بمشرك، قلت : بل مشرك بالإجماع .
عَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ قَالَ : قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : عَجَبًا لِعَلِيٍّ , يَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ وَقَدْ أُمِرُوا , أَوْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْقِتَالِ , وَأَنْ لَا تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , قَالَ : فَسَمِعَهُ الْمُسْتَوْرِدُ التَّمِيمِيُّ فَأَخَذَهُ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , فَقَالَ : الْبَدَا وَأُخْبِرُكُمَا : إِنَّ الْمَجُوسَ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ , فَانْطَلَقَ مَلِكٌ مِنْهُمْ فَوَقَعَ عَلَى أُخْتِهِ وَهُوَ نَشْوَانُ , فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ : أَيَّ شَيْءٍ صَنَعْتَ ؟ وَقَعْتَ عَلَيَّ وَقَدْ رَآكَ النَّاسُ , وَالْآنَ يَرْجُمُونَكَ , قَالَ : أَوَلَا حَجَزْتِينِي ؟ قَالَتْ : وَاسْتَطَعْتُ , جِئْتَ مِثْلَ الشَّيْطَانِ , وَلَقَدْ رَآكَ النَّاسُ , وَلَيَرْجُمُنَّكَ غَدًا إِلَّا أَنْ تُطِيعَنِي , قَالَ : وَكَيْفَ أَصْنَعُ ؟ قَالَتْ : تُرْضِي أَهْلَ الطَّمَعِ , ثُمَّ تَدْعُو النَّاسَ فَتَقُولَ لَهُمْ : إِنَّ آدَمَ خَلَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَكَانَ يُزَوِّجُ ابْنَهُ أُخْتَهُ , أَوْ قَالَتِ : ابْنَهُ ابْنَتَهُ , قَالَ : وَجَاءَهُ الْقُرَّاءُ قَالُوا : قُمْ يَا عَدُوَّ اللَّهِ , قَالَ : هُوَ هَذَا فَقَدْ جَاءُوا , فَقَامَ إِلَيْهِمْ هَؤُلَائِكَ فَدَاسُوهُمْ حَتَّى مَاتُوا , فَمِنْ يَوْمِئِذٍ كَانَتِ الْمَجُوسِيَّةُ , وَقَدْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنَّ الْمَجُوسَ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ , وَكَانَ هَذَا عِنْدَنَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مِمَّا قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ , لَوْ بَقِيَ لَهُمْ لَأُكِلَتْ ذَبَائِحُهُمْ , وَلَحَلَّ نِسَاؤُهُمْ , وَلَكَانُوا فِي ذَلِكَ كَالْيَهُودِ وَكَالنَّصَارَى الَّذِينَ نُؤْمِنُ بِكِتَابَيْهِمْ , وَهُمَا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ , وَلَكِنَّ اللَّهَ نَسَخَهُ فَأَخْرَجَهُ مِنْ كُتُبِهِ , وَرَفَعَ حُكْمَهُ عَنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ , كَمَا نَسَخَ غَيْرَ شَيْءٍ مِمَّا قَدْ كَانَ أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - قُرْآنًا فَأَعَادَهُ غَيْرَ قُرْآنٍ , مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ قَدْ يُقْرَأُ : " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ لِمَا قَضَيَا مِنَ اللَّذَّةِ " وَمِنْ ذَلِكَ : " لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى إِلَيْهِمَا ثَالِثًا " فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ قَدْ نَسَخَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ , وَأَخْرَجَهَا أَنْ تَكُونَ قُرْآنًا , وَسَنَذْكُرُ مَا قَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا , إِنْ شَاءَ اللَّهُ . وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَا قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَجُوسِ أَنَّهُمْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ أَنْ يَكُونَ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ فَنُسِخَ , فَخَرَجَ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَمْ يَكُنْ مِنْهَا . فَقَالَ قَائِلٌ : فَكَيْفَ أُخِذَتْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ , وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (3 / 725) رقم الفتوى 11425 أمية الرسول - صلى الله عليه وسلم - معجزة وكمال تاريخ الفتوى : 25 شعبان 1422(1/866)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ؟ فَإِنْ قُلْتَ : لِأَخْذِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِيَّاهَا مِنْهُمْ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ هَذَا , وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وعن عَمْرو سَمِعَ بَجَالَةَ يَقُولُ : لَمْ يَكُنْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَهَا مِنْ أَهْلِ هَجَرَ . وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ "
وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ , أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ , أَنَّ عَمْرًا وَهُوَ عَمْرُو بْنُ عَوْفٍ وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا , وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيَّ فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالِ الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتِ الْأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , فَوَافَوْا صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - انْصَرَفَ , فَتَعَرَّضُوا لَهُ , فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ رَآهُمْ , ثُمَّ قَالَ : " أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ ؟ " قَالُوا : أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَالَ : " فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ , فَوَاللَّهِ مَا مِنَ الْفَقْرِ أَخْشَى عَلَيْكُمْ , وَلَكِنْ أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ , فَتَنَافَسُوا فِيهَا كَمَا تَنَافَسُوا , وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ " . وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ قَالَ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ , عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ , عَنِ الزُّهْرِيِّ , عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ , عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ , أَخْبَرَهُ , أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ وَهُوَ حَلِيفُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ . غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ : " فَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ " مَكَانَ : " فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ " قِيلَ لَكَ : فَفِي أَخْذِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْجِزْيَةَ مَا قَدْ حَقَّقَ أَنَّ لَهُمْ كِتَابًا . فَكَانَ جَوَابَنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ : أَنَّ أَخْذَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَا لِتَحْقِيقِهِ أَنَّ لَهُمْ كِتَابًا , وَلَكِنْ لِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ لَمَّا كُنَّا نُؤْمِنُ بِكِتَابَيْهِمْ , وَكَانَتِ الْجِزْيَةُ مَأْخُوذَةً مِنْهُمْ لِإِقْرَارِنَا إِيَّاهُمْ مَعَنَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ آمِنِينَ وَهُمْ إِلَيْنَا أَقْرَبُ مِنَ الْمَجُوسِ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ , كَانَ الْمَجُوسُ الَّذِينَ هُمْ كَذَلِكَ مَعَ إِقْرَارِنَا إِيَّاهُمْ فِي دَارِنَا آمِنِينَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ أَوْلَى . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَقَدْ كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَا يُؤَكِّدُ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ مِمَّا خَاطَبَ بِهِ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ "
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ فَأَتَتْهُ قُرَيْشٌ , وَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُهُ , وَعِنْدَ رَأْسِهِ مَقْعَدُ رَجُلٍ , فَقَامَ أَبُو جَهْلٍ فَقَعَدَ فِيهِ , فَقَالَ : مَا بَالُ ابْنِ أَخِيكَ يَذْكُرُ آلِهَتَنَا ؟ قَالَ : مَا بَالُ قَوْمِكَ يَشْكُونَكَ ؟ قَالَ : " يَا عَمَّاهُ , أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمُ الْعَرَبُ وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ الْعَجَمُ(1/867)
الْجِزْيَةَ " قَالَ : مَا هِيَ ؟ قَالَ : " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " قَالَ : أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ إِلَى قَوْلِهِ : إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا قَدْ دَلَّ عَلَى دُخُولِ الْمَجُوسِ فِيمَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنَ الْعَجَمِ فَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ : وَكَيْفَ تَقْبَلُونَ هَذَا الْحَدِيثَ وَفِي إِسْنَادِهِ يَحْيَى بْنُ عُمَارَةَ وَأَنْتُمْ لَا تَعْرِفُونَهُ , وَلَا تَعْرِفُونَ يَحْيَى بْنَ عُمَارَةَ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا يَحْيَى بْنَ عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ يَحْيَى وَذَلِكَ لَا يَرْوِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ؟ فَكَانَ جَوَابَنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ : أَنَّ يَحْيَى بْنَ عُمَارَةَ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا ذَكَرَ , غَيْرَ أَنَّا قَدْ وَقَفْنَا عَلَى الْعِلَّةِ فِيهِ فَبَانَ لَنَا أَنَّهُ مُصَحَّفٌ , وَأَنَّهُ إِنَّمَا أُرِيدَ يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ أَبُو هُبَيْرَةَ الْأَنْصَارِيُّ وَهُوَ رَجُلٌ جَلِيلٌ مِنْ تَابِعِي الْكُوفَةِ فَصُحِّفَ فَقِيلَ : يَحْيَى بْنُ عُمَارَةَ . كَمَا حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يُونُسَ قَالَ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ , عَنِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ , بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ عُمَارَةَ : فَأَتَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ فَحَدَّثَنَا بِهِ فَقَالَ فِيهِ : عَنْ يَحْيَى , فَقُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ : مَنْ يَحْيَى ؟ قَالَ لَا أَزِيدُكَ عَلَى يَحْيَى فَنَظَرْتُ فِي كِتَابِ الْأَشْجَعِيِّ فَإِذَا هُوَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادٍ أَبِي هُبَيْرَةَ فَبَانَ بِذَلِكَ مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ , وَكَانَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ لِهَذَا الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّهُمْ عَجَمٌ , لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ تَحِلُّ بِهِ نِسَاؤُهُمْ , وَتُؤْكَلُ بِهِ ذَبَائِحُهُمْ , وَبِذَلِكَ امْتَثَلَ فِيهِمُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ : عُمَرُ , وَعَلِيٌّ وَمِنْهُمْ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ "
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ السَّوَادِ وَأَنَّ عُثْمَانَ أَخَذَهَا مِنْ بَرْبَرَ . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَكَذَلِكَ كَتَبَ الْحَسَنُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ"
وعن عَوْفٍ قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ : أَمَّا بَعْدُ , فَسَلِ الْحَسَنَ : مَا مَنَعَ قَبْلَنَا مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَ الْمَجُوسِ وَبَيْنَ مَا يَجْمَعُونَ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَجْمَعُهُنَّ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ ؟ فَسَأَلَهُ , فَأَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبِلَ مِنْ مَجُوسِ الْبَحْرَيْنِ الْجِزْيَةَ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى مَجُوسِيَّتِهِمْ , وَعَامِلُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْبَحْرَيْنِ يَوْمَئِذٍ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيُّ وَفَعَلَهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبُو بَكْرٍ , وَعُمَرُ , وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فِيهِمْ "
وعَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ إِلَى مَجُوسِ الْبَحْرَيْنِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ , فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ قَبِلَ مِنْهُ , وَمَنْ أَبَى ضُرِبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ , وَلَا تُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ , وَلَا تُنْكَحُ لَهُمُ امْرَأَةٌ . فَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ : فَقَدْ رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ فِي ذَلِكَ "
وعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ : " لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ أَصْحَابِي أَخَذُوا مِنَ الْمَجُوسِ , يَعْنِي الْجِزْيَةَ , مَا أَخَذْتُ مِنْهُمْ , وَتَلَا : قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الْآيَةَ . قَالَ فَهَذَا حُذَيْفَةُ قَدْ قَالَ(1/868)
فِيهَا مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ . فَكَانَ جَوَابَنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ : أَنَّ حُذَيْفَةَ لَمْ يَقِفْ عَلَى مَا وَقَفَ عَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِمَّنْ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِمْ , فَقَالَ مَا قَالَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ , غَيْرَ أَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ سَمِعَ لَهُمْ وَأَطَاعَهُمْ , وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا إِلَّا مَا عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ , رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ , وَاللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ " (1)
ثالثا- نبّه بذكر الكتاب على أنه لا يجوز الاغترار بأهل العلم إذ قد حدث في أهل القرآن مثلما حدث في الأمم الماضية (2) .
11- خص اللَّه تعالى أهل الكتاب بظهور التفرق فيهم دون غيرهم ، وإن اشتركوا مع بقية الكفار في الكفر لأنه مظنون بهم علم ، فإذا تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف.
12- حدثت ظاهرة تفرق أهل الكتاب بعد البعثة النبوية ، وذلك أنهم كانوا مجتمعين متفقين على نبوته ، فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ، جحدوا نبوته وتفرقوا ، فمنهم من كفر بغيا وحسدا ، ومنهم من آمن ، كقوله تعالى : وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [الشورى 42/ 14].
13- ما أمر هؤلاء الكفار في التوراة والإنجيل والقرآن إلا أن يوحّدوا اللَّه تعالى ، ويخلصوا له العبادة ، كما قال تعالى : قُلْ : إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزّمر 39/ 11] وأن يكونوا حنفاء ، أي مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام المرضي وحده عند اللَّه : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران 3/ 19] وأن يقيموا الصلاة بحدودها في أوقاتها ، ويعطوا الزكاة عند حلول أجلها ، وذلك الدين الذي أمروا به دين القيمة ، أي الدين المستقيم ، أو دين الملة القيمة ، أو دين الأمة القيمة القائمة بالحق.
14- قوله تعالى : مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ دليل على وجوب النية في العبادات فإن الإخلاص من عمل القلب ، وهو الذي يراد به وجه اللَّه تعالى ، لا غيره.
15- الإخلاص لبّ العبادة ،جاء في الحديث القدسي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِى غَيْرِى تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ ». (3) .
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - مُشْكِلُ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ (1702-1709 ) الأحاديث تدور بين الصحة والحسن والأول ضعيف
(2) - تفسير الرازي : 32/ 41
(3) - صحيح مسلم (7666 )(1/869)
وعيد الكفار ووعد الأبرار وجزاء الفريقين
قال تعالى :
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
المناسبة :
بعد بيان موقف الكفار والمشركين من دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ذكر اللَّه تعالى وعيد الكفار ، ووعد الأبرار وجزاء الفريقين ، وقدم وعيد أهل الكتاب على المشركين لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقدّم حق اللَّه على حق نفسه ، وقَالَ شَقِيقٌ ، قَالَ عَبْدُ الله : لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَهُوَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَيَقُولُ : " اللهم اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ "
(1) وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " اللهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ " (2)
وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَشُجَّ فِى رَأْسِهِ فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ « كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ ». فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ) (3)
وعَنْ عَلِيٍّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ قَاعِدًا يَوْمَ الأَحْزَابِ عَلَى فُرْضَةٍ مِنْ فُرَضِ الْخَنْدَقِ ، فَقَالَ : شَغَلُونَا عَنْ صَلاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ ، مَلأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ ، أَوْ مَلأَ اللَّهُ بُطُونَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا" (4)
فقال اللَّه تعالى : كما قدّمت حقي على حقك ، فأنا أيضا أقدم حقك على حقي ، فمن ترك الصلاة طول عمره لم يكفر ، ومن طعن فيك بوجه يكفر ، ثم إن أهل الكتاب طعنوا فيك ، فقدّمتهم في الوعيد على المشركين الذين طعنوا فيّ. ثم إن أهل الكتاب أولى بالإيمان بالرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فهم في الجملة يؤمنون بدين ، ويقرون بنبي آخر الزمان ، وعلاماته في كتبهم ، فطعنهم به في غير محله ، فاستحقوا التقديم في الوعيد لذلك (5) .
المفردات :
6 ... شَرُّ البَرِيَّةِ ... شر الخليقة
__________
(1) - أَخْبَارُ أَصْبَهَانَ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبهَانِيِّ(40639) صحيح
(2) - شعب الإيمان - (3 / 45) (1375 -1376) صحيح
(3) - صحيح مسلم - (4746 ) - يَسلت : يقطع نزول الدم ويزيله
(4) - مسند أبي يعلى الموصلي(388) صحيح
(5) - غرائب القرآن : 30/ 153 ، تفسير الرازي : 32/ 49(1/870)
8 ... عَدْنٍ ... إقامة دائمة
8 ... رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ... مقام رضاه عنهم أعلى النعم
8 ... وَرَضُوا عَنْهُ ... فيما منحهم من الفضل
المعنى الإجمالي:
عجبا لهؤلاء - اليهود والنصارى - كيف يقفون معك هذا الموقف!! هل جئتهم بأمر جديد عليهم! لا ، هل أمرتهم بالمنكر ونهيتهم عن المعروف ؟ إنك لم تأمرهم إلا بعبادة اللّه وحده مع الإخلاص والبعد عن الشرك والميل عن الإثم وكل بهتان ، وأمرتهم بإقامة الصلاة للّه وإيتاء الزكاة ؟ ما لهم لا يؤمنون ؟ ! إن كان هؤلاء متمسكين بدينهم حقا ومؤمنين به حقا فدينهم الصحيح يدعو لذلك ، ويدعوهم للإيمان بالنبي محمد وذلك - الذي ذكر من العبادة والإخلاص ... إلخ - هو دين الكتب القيمة الصحيحة التي لم تحرف بعد ، وهو دين الأمم المستقيمة على الحق والخير ، فهل لهؤلاء عذر في ترك الإسلام ؟ وهل يقبل منهم أن يعاندوا رسول الإسلام ؟ ! ما جزاء من يكفر بتلك الشريعة الغراء السهلة السمحة ؟ وما جزاء من يؤمن بها ويصدق رسولها ؟ أما جزاء الذين كفروا من أهل الكتاب - وكانوا أولى الناس بأن يتسابقوا إلى الإسلام - والمشركين الذين يعبدون الأوثان ويقدسون الأصنام والأحجار فهم في نار جهنم ، خالدين فيها أبدا.
ولا غرابة في ذلك فهم شر الخلق على الإطلاق لأنهم كذبوا على اللّه وصدوا عن سبيله وكذبوا بكتابه ، ولم يصدقوا رسوله ، بل كذبوه وآذوه وأخرجوه وحاربوه.
أما جزاء من آمن باللّه وباليوم الآخر ، وصدق رسول اللّه فأولئك هم خير البرية ، وكان جزاؤهم عند ربهم - وهذه نهاية الشرف لهم - جنات إقامة ومكث ، وجنات تجرى من تحتها الأنهار فيها ما يدعون ويشتهون : وهم فيها خالدون أبدا.
ولا غرابة فقد رضى اللّه عن أعمالهم التي عملوها ، ورضى أن يمدحهم ويثيبهم عليها ، وهم قد رضوا عنه لأنهم فرحوا بلقائه وسروا بنعيمه.
وذلك الفوز العظيم لمن خشي ربه ، فاحذروا أيها الناس واعملوا لتنالوا هذا الأجر العظيم. (1)
التفسير والبيان :
يخبر اللَّه تعالى عن مآل الفجار الكفار فيقول : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ ، خالِدِينَ فِيها ، أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أي إن الذين خالفوا كتب اللَّه المنزلة ، وأنبياء اللَّه المرسلة ، من اليهود والنصارى وعبدة الأصنام ، مآلهم يوم القيامة في نار جهنم المستعرة
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 881)(1/871)
، يصيرون إليها ، ماكثين فيها على الدوام ، لا يخرجون منها ولا يموتون فيها ، وهم حالا شر الخليقة التي برأها اللَّه وذرأها لأنهم تركوا الحق حسدا وبغيا ، فسيكونون شر الخليقة مصيرا. والسبب في أنه لم يقل هنا خالدين فيها أبدا ، كما فعل في الأبرار لأن رحمته أزيد من غضبه. وقوله : هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ لإفادة النفي والإثبات ، أي هم دون غيرهم.
ثم أخبر اللَّه تعالى عن حال الأبرار ، فقال : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ أي إن الذين آمنوا بقلوبهم بربهم وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وعملوا الصالحات بأبدانهم ، هم أفضل الخلق حالا ومآلا.
وقد استدل بهذه الآية أبو هريرة وطائفة من العلماء على تفضيل المؤمنين الأبرار على الملائكة لقوله تعالى : أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. (1)
ثم ذكر جزاءهم فقال :جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَرَضُوا عَنْهُ ، ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أي جزاؤهم يوم القيامة عند خالقهم ومالكهم على الإيمان والعمل الصالح جنات أو بساتين إقامة دائمة تجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار ، ماكثين فيها على الدوام ، لا يخرجون منها ، ولا يرحلون عنها ، ولا يموتون ، بل هم دائمون في نعيمها ، مستمرون في لذاتها إلى الأبد ، لا نهاية لنعيمهم. وكلمة الجزاء تفيد معنيين :
أحدهما- أن يعطيه الجزاء الوافر من غير نقص ، والثاني- أنه تعالى يعطيه ما يقع به الكفاية لأن الجزاء اسم لما يقع به الكفاية ، فلا يبقى في نفسه شيء إلا ويحققه له ، كما قال : وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ [فصلت 41/ 31]. وقوله : تَجْرِي إشارة إلى أن الماء الجاري ألطف من الراكد.
رضي اللَّه عنهم لأنهم أطاعوا أمره ، وقبلوا شرائعه ، ورضوا عنه ، بما منحهم من الثواب والفضل العميم ، وتحقيق المطالب مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
وهذا الجزاء والرضوان حاصل لمن خاف اللَّه واتقاه حق تقواه ، وعبده كأنه يراه ، وانتهى عن معاصيه بسبب ذلك الخوف.
__________
(1) - انظر فتح الباري لابن حجر - (2 / 266) وفتح الباري لابن حجر - (2 / 343) وفتح الباري لابن حجر - (13 / 386) وفتح الباري لابن حجر - (13 / 387) والموسوعة الفقهية الكويتية - (39 / 9) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (9 / 876) رقم الفتوى 61021 المفاضلة بين الملائكة والبشر تاريخ الفتوى : 04 ربيع الأول 1426 ومجموع الفتاوى لابن تيمية - (4 / 350) فَصْلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي " التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ "(1/872)
وفي ذلك تحذير من خشية غير اللَّه ، وتنفير من إشراك غيره به في جميع الأعمال ، وترغيب في تقوى اللَّه ورهبته ، حتى يصبح العمل خالصا للَّه وحده.
كما أن فيه إيماء إلى أن شرط أداء العبادة كالصوم والصلاة : خشية اللَّه والخشوع له.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ خَيْرُ النَّاسِ فِيهِ مَنْزِلَةً رَجُلٌ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ كُلَّمَا سَمِعَ بِهَيْعَةٍ اسْتَوَى عَلَى مَتْنِهِ ، ثُمَّ طَلَبَ الْمَوْتَ مَظَانَّهُ ، وَرَجُلٌ فِي شِعْبٍ مِنْ هَذِهِ الشِّعَابِ يُقِيمُ الصَّلاَةَ ، وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ ، وَيَدَعُ النَّاسَ إِلاَّ مِنْ خَيْرِهِ."صحيح ابن حبان (1) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الْبَرِيَّةِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "رَجُلٌ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّمَا كَانَتْ هَيْعَةٌ اسْتَوَى عَلَيْهِ أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِالَّذِى يَلِيهِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "الرَّجُلُ فِى ثُلَّةٍ مِنْ غَنَمِهِ يُقِيمُ الصَّلاَةَ وَيُؤْتِى الزَّكَاةَ أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ الْبَرِيَّةِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "الَّذِى يُسْأَلُ بِاللَّهِ وَلاَ يُعْطِى بِهِ.مسند أحمد (2)
ومضات :
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : بالله ورسوله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، فجحدوا نبوته { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ } أي : شر من برَأه الله وخلقه . قال الإمام : لأن منكر الحق - بعد معرفته وقيام الدليل عليه - منكر في الحقيقة لعقل نفسه ، مهلك لروحه ، جالب الهلاك لغيره .
لطائف :
الأولى : دلت هذه الآية والتي قبلها على أن عنوان المشركين ، لا يتناول أهل الكتاب في عرف القرآن ، بل هو خاص بالوثنيين ، أعني من يدينون بالإشراك وتعدد الأرباب ، فأهل الكتاب - وهم اليهود والنصارى - لا يتناولهم ذلك العنوان وإن دخل في عقائدهم الشرك ؛ لأنه دخيل لا أصيل ، ولذلك ينفرون من وصمة الشرك ، وبسببه حل النكاح منهم دون الوثنين .
الثانية : قال ابن جرير : العرب لا تهمز البرية . وبترك الهمزة فيها قرأتها قراء الأمصار ، غير شيء يذكر عن نافع بن أبي نعيم ، فإنه حكى بعضهم عنه أنه كان يهمزها ، وذهب بها إلى قول الله { مِّن قَبْلِ أن نَّبْرَأَهَا } وأنها فعيلة من ذلك ، وأما الذين لم يهمزوها ، فإن لتركهم الهمز في ذلك وجهين : أحدهما : أن يكونوا تركوا الهمز فيها كما تركوه من الملك ، وهو مفعل ، من ألك ، أو لأكَ ، ومن يزى ، و ترى و نرى ، وهو تفعل من رأيت . والآخر : أن يكونوا
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (10 / 460) (4600) صحيح
(2) - غاية المقصد فى زوائد المسند 1 - (2 / 377) (2518 ) ومسند أحمد (9380) صحيح لغيره(1/873)
وجهوها إلى أنها فعلية ، من البراء وهو التراب . حكي عن العرب سماعاً فقيل : بفيك البراد ، يعني به التراب . انتهى .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ } أي : بالله ورسوله محمد صلوات الله عليه { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } أي : من بذل النفس في سبيل الجهاد للحق ، وبذل المال في أعمال البر ، مع القيام بفرائض العبادات ، والإخلاص في سائر ضروب المعاملات ؛ لأن إذعانهم الصحيح ، ووجدانهم لذة معرفة الحق ، ملّكت الحق قيادهم فعملوا الأعمال الصالحة ، قاله الإمام { أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } أي : أفضل الخليقة ، لأنهم بمتابعة الحق عند معرفته بالدليل القائم عليه ، قد حققوا لأنفسهم معنى الْإِنْسَاْنية التي شرفهم الله بها . وبالعمل الصالح ، قد حفظوا نظام الفضيلة الذي جعله الله قوام الوجود الْإِنْسَاْنيّ ، وهدوا غيرهم بحسن الأسوة إلى مثل ما هُدوا إليه من الخير والسعادة ، فمن يكون أفضل منهم ؟ قاله الإمام .
{ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } أي : بساتين إقامة ، لا ظعن فيها ، تجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً } أي : ماكثين على الدوام ، لا يخرجون عنها ولا يموتون فيها { رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ } أي : بما أطاعوه في الدنيا ، وعملوا لخلوصهم من عقابه ذلك { وَرَضُواْ عَنْهُ } لأنهم بحسن يقينهم يرتاحون إلى امتثال ما يأمر به في الدنيا ، فهم راضون عنه . ثم إذا ذهبوا إلى نِعَم الآخرة ، وجدوا من فضل الله ما لا محل للسخط معه ، فهم راضون عن الله في كل حال . أفاده الإمام .
{ ذَلِكَ } أي : هذا الجزاء الحسن وهذا الرضاء { لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } أي : خاف الله في الدنيا في سره وعلانيته ، فاتقاه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه ؛ فإن الخشية ملاك السعادة الحقيقية .
قال الإمام : أراد بهذه الكلمة الرفيعة الاحتياط لدفع سوء الفهم ، الذي وقع ولا يزال يقع فيه العامة من الناس ، بل الخاصة كذلك ، وهو أن مجرد الاعتقاد بالوراثة وتقليد الأبوين ، ومعرفة ظواهر بعض الأحكام ، وأداء بعض العبادات ، كحركات الصلاة وإمساك الصوم ، مجرد هذا لا يكفي في نيل ما أعد الله من الجزاء للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وإن كانت قلوبهم حشوها الحسد والحقد والكبرياء والرياء ، وأفواههم ملؤها الكذب والنميمة والافتراء ، وتهز أعطافهم رياح العجب والخيلاء ، وسرائرهم مسكن العبودية والرق للأمراء ، بل ولمن دون الأمراء ، خالية من أقل مراتب الخشوع والإخلاص لرب الأرض والسماء - كلا لا ينالون حسن الجزاء ؛ فإن خشية ربهم لم تحلّ قلوبهم ، ولهذا لم تهذب من نفوسهم ، ولا يكون ذلك الجزاء إلا لمن خشي ربه ، وأشعر خوفه قلبه . والله أعلم . (1)
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 290)(1/874)
الآيات معقبة على الآيات السابقة كما هو المتبادر. وقد تضمنت تنديدا لاذعا بالذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين وتنويها وبشرى عظيمة للذين آمنوا ووصفا لهم بأنهم خير خلق اللّه مقابل وصف الأولين بأنهم شرّ خلق اللّه. وتنبيها بأن ما احتوته الآيات هو لتذكير الذين يخافون اللّه ويحسبون حسابه. ووصف الأولين مستمد من موقفهم الجحودي الذي كشفوا به عن سوء نيتهم وخبث طويتهم لأنهم جحدوا بما جاءهم وكانوا يتمنونه.
وفي الآية الأولى دليل آخر جديد على أن الذين يكفرون برسالة النبي محمد من أهل الكتاب لا ينجيهم يوم القيامة لكونهم مؤمنين بكتبهم ورسالات أنبيائهم حتى ولو لم يكونوا منحرفين ومحرفين وهو ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.
وهناك حديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهوديّ ولا نصرانيّ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلّا كان من أصحاب النار»مما فيه مصداق لهذا من وجهة النظر الإسلامية.
تعليق على روايات الشيعة في صدد الآية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ.
ورغم أن نصّ الآيات صريح بأن الآية [7] قد جاءت مقابلة للآية [6] لتكون شاملة لجميع الذين آمنوا وعملوا الصالحات مقابل الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين فإن مفسري الشيعة لم يمنعوا أنفسهم من رواية روايتين في صدد الآية السابقة متسقتين مع هواهم لم يردا في كتاب من كتب الأحاديث الصحيحة. ونعتقد أنهما منحولتان أولاهما عن ابن عباس جاء فيها «أن جملة هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ نزلت في علي بن أبي طالب وأهل بيته». وثانيتهما عن يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب علي بن أبي طالب مرفوعة جاء فيها : «سمعت عليا يقول قبض رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وأنا مسنده إلى صدري فقال يا علي ألم تسمع قول اللّه تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ هم شيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا اجتمعت الأمم للحساب يدعون غرّا محجلين» . ومما يبرز الهوى الحزبي قويا تعبير «شيعتك» إذ لم يكن لعلي في زمن النبي ما يصحّ أن يدعى شيعته!. (1)
قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ »..هو مواجهة للذين ظلّوا على كفرهم من أهل الكتاب ، والذين أقاموا على شركهم من المشركين بعد أن جاءتهم البينة .. فهؤلاء وأولئك جميعا سيلقون فى نار جهنم خالدين فيها .. وهؤلاء وأولئك هم شر البرية ، أي شر الخلق .. لأنهم لم يؤمنوا وقد جاءتهم البينة ، التي
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (8 / 350)(1/875)
جمعت البنيان كله ، واشتملت على الهدى جميعه ، فكانت آياتها قائمة بين الناس ، يلقونها فى كل لحظة ، ويديرون عقولهم وقلوبهم إليها فى كل زمان ومكان ، ولم تكن آياتها آيات عارضة ، تلقاها حواسّ من يشهدونها ساعة من نهار ، ثم نزول فلا ترى أبد الدهر ، كما رأى الراءون من آيات موسى ، وعيسى عليهما السلام .. وإنما هى آيات تعايش الإنسان ، وتصحبه ما شاء أن تصحبه وتعيش معه ..
والحق حين تتضح آياته هذا الوضوح المشرق ، وحين يتجلّى وجهه هذا التجلي المبين ، يكون منكره ، والحائد عنه ، أشدّ الناس ضلالا ، وأكثرهم عنادا ، وأبعدهم عن الخير ، وأقربهم إلى الشر .. « أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ »..
وقوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ». أي الذين آمنوا بهذا الدّين وعملوا الصالحات ، أولئك هم خير الخلق جميعا ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : « كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ » ، إذ ألبسهم إيمانهم باللّه ، وأعمالهم الصالحة فى ظل هذا الإيمان ـ لباس التقوى ، فكانوا هم عباد اللّه ، وكانوا أهل ودّه ، ولهذا كان جزاؤهم عند ربهم هذا الجزاء الكريم : « جنات عدن » أي جنات خلود واستقرار ، تجرى من تحتها الأنهار ، خالدين فيها أبدا ، لا يتحولون عنها .. « رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ » فأدخلهم فى جنّاته ، وأفاض عليهم من نعيمه. « وَرَضُوا عَنْهُ » أي رضوا عن ربّهم ، وحمدوه ، وشكروا له هذا النعيم الذي هم فيه .. وذلك النعيم والرضوان ، إنما هو لمن خشى ربّه ، واتقاه ، وخاف مقامه.
هذا ، ويلاحظ هنا أمران :
أولهما : أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات قد جاء الحديث عنهم مطلقا من غير قيد الإضافة إلى أهل الكتاب ، أو المشركين ، فلم يجىء النظم القرآنى هكذا : « إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات من أهل الكتاب والمشركين ».
. كما جاء فى الآية السابقة : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ » ـ وذلك لأن الذين يؤمنون باللّه ويعملون الصالحات فى جميع الأحوال والأزمان داخلون فى ساحة المؤمنين بشريعة الإسلام ..
سواء أكان هذا الإيمان عن دعوة رسول وكتاب ، أو عن دعوة العقل ، وإلهام الفطرة ، فالمؤمن باللّه حيث كان ، وحيث كان مصدر إيمانه ، هو لا حق بهؤلاء المؤمنين ، وهو ملاق هذا الجزاء الذي يجزى به المؤمنون ..(1/876)
أما حصر الكافرين هنا فى الذين كفروا من أهل الكتاب ، والذين كفروا من المشركين ، بعد أن جاءتهم البينة ـ فهو تشنيع على هذا الوجه الكريه الغليظ من وجوه الكفر ، فى مواجهة هذا الصبح المشرق ، الذي لا ينكره إلا مكابر ، ولا يكفر به إلا من ختم اللّه على قلبه وسمعه ، وجعل على بصره غشاوة ، ومن هنا كانوا شرّ البريّة على الإطلاق ، كما كان المؤمنون بشريعة الإسلام خير البرية على الإطلاق كذلك.
وثانى الأمرين : هو أن وعيد الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين بالخلود فى النّار ـ لم يقيّد بلفظ التأبيد « أبدا » بل جاء مطلقا هكذا : « خالِدِينَ فِيها » على حين جاء وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالخلود فى الجنة مؤبدا .. هكذا « خالِدِينَ فِيها أَبَداً ».
فما تأويل هذا ؟
نقول ـ واللّه أعلم ـ إن تأبيد الخلود فى الجنة ، هو أمر عام لكل من أكرمه اللّه بدخول الجنة ، وأخذ مكانه فيها ، ونزل منزله منها .. فإنه لا يتحول أبدا عن هذا المنزل ، وإن كان ثمة تحول فهو إلى منزل آخر فى الجنة ، أعلى من منزله الذي هو فيه .. فخلود أهل الجنة فى الجنة ، خلود مؤبد لكل من دخلها .. أما أهل النار .. فإن كثيرا ممن يدخلها من عصاة المؤمنين ، لا يخلدون فيها ، بل يتحولون عنها إلى الجنة ، بعد أن ينالوا جزاءهم من العذاب فى النار ، وأما الذين يخلدون فى النار فهم أهل الكفر ، وحسبهم من العذاب أن يكون خالدا ، أي طويلا ممتدّا إلى ما شاء اللّه .. فمعنى الخلود هنا هو امتداد الزمن وطوله ، كما يفهم من قوله تعالى : « يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ » أي يخلده ، ويمد له فى عمره زمنا طويلا ..
ثم إن هؤلاء الخالدين فى النار ، هم بعد ذلك إلى مشيئة اللّه ، فى تأييد هذا الخلود أو توقيته ، وهذا ما يفهم من قوله تعالى فى أصحاب النار : « فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ، خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ » وقوله تعالى بعد ذلك فى أصحاب الجنة : « وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ » (106 ـ 108 : هود).
ففى جانب المخلدين فى النار جاء قوله تعالى : « إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ » مؤذنا بأن للّه سبحانه وتعالى فعلا آخر فى أهل النار غير هذا الخلود ، بعد أن يستوفوه .. ولا ندرى ما هو .. غير أن رحمة اللّه التي وسعت كل شىء لا تقصر عن أن تنال هؤلاء الخالدين فى النار ببعض آثارها .. تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.(1/877)
أما فى جانب المخلدين فى الجنة ، فقد جاء قوله تعالى : « عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ » مؤذنا بأن هذا العطاء الذي أعطوه فى الجنة ، لن ينقطع أبدا .. واللّه أعلم. (1)
فأما وقد جاءتهم البينة من قبل في دياناتهم على أيدي رسلهم؛ ثم جاءتهم البينة ، حية في صورة رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة؛ ويقدم لهم عقيدة ، واضحة بسيطة ميسرة ، فقد تبين الطريق . ووضح مصير الذين يكفرون والذين يؤمنون : { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية . جزآؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا . رضى الله عنهم ورضوا عنه ، ذلك لمن خشي ربه } . .
إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو الرسول الأخير؛ وإن الإسلام الذي جاء به هو الرسالة الأخيرة . وقد كانت الرسل تتوالى كلما فسدت الأرض لترد الناس إلى الصلاح . وكانت هناك فرصة بعد فرصة ومهلة بعد مهلة ، لمن ينحرفون عن الطريق فأما وقد شاء الله أن يختم الرسالات إلى الأرض بهذه الرسالة الأخيرة الجامعة الشاملة الكاملة ، فقد تحددت الفرصة الأخيرة ، فإما إيمان فنجاة ، وإما كفر فهلاك . ذلك أن الكفر حينئذ دلالة على الشر الذي لا حد له ، وأن الإيمان دلالة على الخير البالغ أمده .
{ إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها . أولئك هم شر البرية } حكم قاطع لا جدال فيه ولا محال . مهما يكن من صلاح بعض أعمالهم وآدابهم ونظمهم ما دامت تقوم على غير إيمان ، بهذه الرسالة الأخيرة ، وبهذا الرسول الأخير . لا نستريب في هذا الحكم لأي مظهر مظاهر الصلاح ، المقطوعة الاتصال بمنهج الله الثابت القويم .
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، أولئك هم خير البرية } .حكم كذلك قاطع لا جدال فيه ولا محال . ولكن شرطه كذلك واضح لا غموض فيه ولا احتيال . إنه الإيمان . لا مجرد مولد في أرض تدعى الإسلام ، أو في بيت يقول : إنه من المسلمين . ولا بمجرد كلمات يتشدق بها الإنسان! إنه الإيمان الذي ينشئ آثاره في واقع الحياة : { وعملوا الصالحات } . وليس هو الكلام الذي لا يتعدى الشفاه! والصالحات هي كل ما أمر الله بفعله من عبادة وخلق وعمل وتعامل .
وفي أولها إقامة شريعة الله في الأرض ، والحكم بين الناس بما شرع الله . فمن كانوا كذلك فهم خير البرية .
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1645)(1/878)
{ جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً } . .جنات للإقامة الدائمة في نعيمها الذي يمثله هنا الأمن من الفناء والفوات . والطمأنينة من القلق الذي يعكر وينغص كل طيبات الأرض . . كما يمثله جريان الأنهار من تحتها ، وهو يلقي ظلال النداوة والحياة والجمال!
ثم يرتقي السياق درجة أو درجات في تصوير هذا النعيم المقيم :
{ رضي الله عنهم ورضوا عنه } . .هذا الرضا من الله وهو أعلى وأندى من كل نعيم . . وهذا الرضا في نفوسهم عن ربهم . الرضا عن قدره فيهم . والرضا عن إنعامه عليهم . والرضا بهذه الصلة بينه وبينهم . الرضا الذي يغمر النفس بالهدوء والطمأنينة والفرح الخالص العميق .
إنه تعبير يلقي ظلاله بذاته . . { رضي الله عنهم ورضوا عنه } حيث يعجز أي تعبير آخر عن إلقاء مثل هذه الظلال!
{ ذلك لمن خشي ربه } .وذلك هو التوكيد الأخير . التوكيد على أن هذا كله متوقف على صلة القلب بالله ، ونوع هذه الصلة ، والشعور بخشيته خشية تدفع إلى كل صلاح ، وتنهى عن انحراف . . الشعور الذي يزيح الحواجز ، ويرفع الأستار ، ويقف القلب عارياً أمام الواحد القهار . والذي يخلص العبادة ويخلص العمل من شوائب الرياء والشرك في كل صورة من صوره . فالذي يخشى ربه حقاً لا يملك أن يُخطر في قلبه ظلاً لغيره من خلقه . وهو يعلم أن الله يرد كل عمل ينظر فيه العبد إلى غيره معه ، فهو أغنى الشركاء عن الشرك . فإما عمل خالص له ، وإلا لم يقبله .
تلك الحقائق الأربعة الكبيرة هي مقررات هذه السورة الصغيرة ، يعرضها القرآن بأسلوبه الخاص ، الذي يتجلى بصفة خاصة في هذه السور القصار . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- بيان جزاء من كفر بالإِسلام من سائر الناس وأنه بئس الجزاء .
2- بيان جزاء من آمن بالإِسلام ودخل فيه وطبق قواعده واستقام على الأمر والنهي فيه وهو نعم الجزاء رضى الله والخلود في دار السلام .
3- فضل الخشية إن حملت صاحبها على طاعة الله ورسوله فأطاعهما بأداء الفرائض وترك المحرمات في الاعتقاد والقول والعمل .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3952)(1/879)
4- استحق أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمشركون عبدة الأصنام بسبب كفرهم بالإسلام ثلاث عقوبات : دخول نار جهنم ، والخلود فيها ، ووصفهم بأنهم دون غيرهم هم شر البرية وشر خلق اللَّه.
وقوله في وعيدهم : خالِدِينَ فِيها وفي آية الرعد : خالِدِينَ فِيها أَبَداً إشارة كما تقدم إلى كمال كرمه وسعة رحمته ، كما قال في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة : سبقت رحمتي غضبي.
5- قال العلماء : آية الوعيد هذه مخصوصة في صورتين :
إحداهما- أن من تاب منهم وأسلم ، خرج من الوعيد.
والثانية- أن من مضى من الكفرة يجوز ألا يدخل فيها لأن فرعون كان شرا منهم. (1)
6- استحق الذين يجمعون بين الإيمان والعمل الصالح أربعة أنواع من الجزاء : وصفهم بأنهم خير البرية ، ودخول جنات عدن تجري من تحتها الأنهار ، والخلود فيها أبدا ، ورضوان اللَّه عليهم أي رضا أعمالهم ، ورضاهم عن اللَّه ، أي رضاهم بثواب اللَّه تعالى.
7- الخلود في الجنة خير من الجنة ، ورضا اللَّه خير من الجنة. إما من مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا أو مقابلة الفرد بالفرد ، فلا مكلف يأتي بجميع الصالحات ، بل لكل مكلف حظ ، فحظ الغني الإعطاء ، وحظ الفقير الأخذ ، كما لو قال لامرأتيه : إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما كذا ، فيحمل على أن يدخل كل واحدة منهما دارا على حدة.
8- احتج بعضهم بقوله : أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ أي الخليقة ويؤيده قراءة الهمز على تفضيل البشر على الملائكة ، أخرج ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:"أَتَعْجَبُونَ مِنْ مَنْزِلَةِ الْمَلائِكَةِ مِنَ اللَّهِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَمَنْزِلَةُ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمُ مِنْ مَنْزِلَةِ مَلَكٍ، واقرؤا إِنْ شِئْتُمْ: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ " (2) . والجواب بأن الملائكة أيضا داخلون في الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، أو المراد بالبرية : بنو آدم لأن اشتقاقها من البري : وهو التراب ، لا من برأ اللَّه الخلق ، فلا يدخل الملائكة في الآية البتة.
9-- قوله : ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ مع قوله : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر 35/ 28] ظاهر في أن العلماء باللَّه هم خير البرية ، اللهم اجعلنا منهم.
10- التَّرَضِّي عَنْ غَيْرِ الصَّحَابَةِ :
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 353)
(2) - تفسير ابن أبي حاتم - (12 / 437) بلا سند(1/880)
قَال صَاحِبُ عُمْدَةِ الأَْبْرَارِ : يَجُوزُ التَّرَضِّي عَنِ السَّلَفِ مِنَ الْمَشَايِخِ وَالْعُلَمَاءِ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِّيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } ( سورة البينة / 7 ، 8 ) .
فَفِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ ذِكْرُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا ، مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ .
وَكَمَا ذُكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْكُتُبِ مِثْل : التَّقْوِيمِ ، وَالْبَزْدَوِيِّ ، وَالسَّرَخْسِيِّ ، وَالْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا بَعْدَ ذِكْرِ الأَْسَاتِذَةِ أَوْ بَعْدَ ذِكْرِ نَفْسِهِ رَضِيَ اللَّهُ فَلَوْ لَمْ يَجُزِ الدُّعَاءُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَا ذَكَرُوهُ فِي كُتُبِهِمْ ، وَهَكَذَا جَرَتِ الْعَادَةُ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ بِالاِبْتِدَاءِ بِهَذَا الدُّعَاءِ ، حَيْثُ يَقُولُونَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَعَنْ وَالِدَيْكَ إِلَى آخِرِهِ .
وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ ، بَل اسْتَحْسَنُوا الدُّعَاءَ بِهَذَا اللَّفْظِ ، وَكَانُوا يُعَلِّمُونَ ذَلِكَ لِتَلاَمِذَتِهِمْ ، فَعَلَيْهِ عَمَل الأُْمَّةِ (1)
11- الجنة والنار مخلوقتان ، وأبديتان لاتفنيان
فالذي عليه أهل السنة والجماعة أن الجنة والنار لا تفنيان. كما قال الطحاوي في عقيدته المشهورة: والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان ولاتبيدان .
وقال ابن حزم في كتابه الملل والنحل: (اتفقت فرق الأمة كلها على أن لا فناء للجنة ولا لنعيمها، ولا للنار ولا لعذابها، إلا الجهم بن صفوان ). (2)
وهذا ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، ومن ذلك قوله تعالى عن أهل النار: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)) [النساء: 168-169]
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65)) [الأحزاب:63-65 ] وقوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) [الجن: 23] وقوله: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)) [الزخرف: 74-75 ]
وقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) [النساء :14]
وقوله تعالى: (ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) [فصلت 28]
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (11 / 197) وذيل الجواهر المضية 2 / 557 ، 558 ، وابن عابدين 1 / 35 ، ونهاية المحتاج 1 / 48 ، والمجموع 1 / 14 .
(2) - الفصل في الملل والأهواء والنحل - (1 / 450) و"البُخَارِي" 7/116(4730)(1/881)
فالنار باقية لا تفنى وكذلك أهلها من الكفار والمنافقين، ولا يخرج منها إلا عصاة الموحدين بالشفاعة أو بعد تنقيتهم وتهذيبهم.
وقال الله تعالى في شأن الجنة وأهلها:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)) [البينة 7-8] وقال تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) [الدخان: 65]
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)) [الكهف: 107] وقال تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ) [الرعد:35] وقال: (إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ) [ص 54]إلى غير ذلك من الآيات.
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ - وَاتَّفَقَا فِى بَاقِى الْحَدِيثِ - فَيُقَالُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ - قَالَ - وَيُقَالُ يَا أَهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا قَالَ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ - قَالَ - فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ - قَالَ - ثُمَّ يُقَالُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ ». قَالَ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الأَمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الدُّنْيَا." (1)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يُؤْتَى بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ ، فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ ! ، فَيَقُولُونَ : لَبَّيْكَ رَبَّنَا . قَالَ : فَيُقَالُ : هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ رَبَّنَا هَذَا الْمَوْتُ ، فَيُذْبَحُ كَمَا تُذْبَحُ الشَّاةُ فَيَأْمَنُ هَؤُلَاءِ وَيَنْقَطِعُ رَجَاءُ هَؤُلَاءِ " . رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « يُقَالُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ خُلُودٌ لاَ مَوْتَ . وَلأَهْلِ النَّارِ يَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ لاَ مَوْتَ » (3) .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فِى النَّارِ جِىءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُوقَفَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ يُذْبَحُ ثُمَّ يُنَادِى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ لاَ مَوْتَ يَا
__________
(1) - صحيح مسلم (7360) -يشرئب : يرفع رأسه ويمد عنقه
(2) - مسند أبي يعلى الموصلي (2898) صحيح
(3) - صحيح البخارى (6545 )(1/882)
أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ لاَ مَوْتَ فَازْدَادَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحاً إِلَى فَرَحِهِمْ وَازْدَادَ أَهْلُ النَّارِ حُزْناً إِلَى حُزْنِهِمْ » (1) .
وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يُجاءُ بالمَوْتِ يَوْمَ القِيامَةِ فَيُوقَفُ بينَ الجَنَّةِ والنَّار كأنَّه كَبْشٌ أمْلَح،ُ قال: فَيُقَالُ: يا أهْلَ الجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا ؟ فَيَشْرئِبُّونَ وَيَنْظُرُون، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، فَيُقَالُ: يا أهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فيقُولُونَ نَعَمْ هَذَا المَوْتُ ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ، قال: فَيَقُول: يا أهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فَلا مَوْتَ، وَيَا أهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فلا مَوْتَ ، قال: ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) وأشار بيده في الدنيا". (2)
وعن أبي هريرة، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ) قال: "يُنَادَى: يَا أهْلَ الجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُونَ، فَيَنْظُرُونَ، ثُمَّ يُنَادَى: يا أهْلَ النَّار فَيَشْرَئِبُّونَ فَيَنْظُرُونَ، فَيُقالُ: هَلْ تَعْرِفُونَ المَوْتَ ؟ قال: فَيَقُولُونَ: لا قال: فَيُجَاءُ بِالمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أمْلَحَ، فيُقالُ: هَذَا المَوْتُ، ثُمَّ يُؤْخَذُ فَيُذْبَحُ، قالَ: ثُمَّ يُنَادِي يا أهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلا مَوْتَ، وَيَا أهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فلا مَوْتَ"، قال: ثم قرأ( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ ). (3)
وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، فِي قَوْلِهِ : وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ قَالَ : يُصَوِّرُ اللَّهُ الْمَوْتَ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ ، فَيُذْبَحُ ، قَالَ : فَيَيْأَسُ أَهْلُ النَّارِ مِنَ الْمَوْتِ ، فَلَا يَرْجُونَهُ ، فَتَأْخُذُهُمُ الْحَسْرَةُ مِنْ أَجْلِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ ، وَفِيهَا أَيْضًا الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ، وَيَأْمَنُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْمَوْتَ ، فَلَا يَخْشَوْنَهُ ، وَأَمِنُوا الْمَوْتَ ، وَهُوَ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ، لِأَنَّهُمْ يُخَلَّدُونَ فِي الْجَنَّةِ " ، (4)
فهذا هو الحق الذي أجمع عليه أهل السنة والجماعة، بناء على النصوص القطعية من القرآن والسنة. (5)
12- كيفية إرضاء العبد ربه سبحانه وتعالى :
__________
(1) - مسند أحمد(6136) صحيح
(2) - تفسير الطبري - (ج 18 / ص 201) صحيح
(3) - تفسير الطبري - (ج 18 / ص 202) صحيح
(4) - تفسير الطبري - (ج 18 / ص 202) (21650 ) حسن لغيره
(5) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (2 / 350) رقم الفتوى 1676 الجنة والنار مخلوقتان ، وأبديتان لاتفنيانتاريخ الفتوى : 16 صفر 1420
وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (2 / 1848) رقم الفتوى 4228 الذي عليه أهل السنة أن الجنة والنار لا تفنيان تاريخ الفتوى : 16 صفر 1420(1/883)
على من أراد رضى الله أن يحرص على العمل بما يحب الله ويرضاه ويبتعد عما يسخطه, فيؤمن بالله تعالى ويتعلم ما أراد الله منه، ويمتثل أوامره ويجتنب نواهيه، وليكن في امتثاله واجتنابه مخلصاً لله تعالى متابعاً سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويحب في الله ويبغض فيه، وقد جاءت النصوص الشرعية مبينة ما يحب الله من العباد فعله وما يحب تركه.
فقد ثبت في القرآن أنه سبحانه وتعالى يرضى عن المؤمنين الشاكرين الذين يوالون فيه ويعادون فيه وأنه يحب التوابين، والمتطهرين، والمتقين، والمحسنين، والمقسطين، والمتوكلين، والصابرين، والذين يتبعون الرسول، وثبت في القرآن أنه سبحانه وتعالى لا يحب الكافرين، والظالمين، والمعتدين، والمفسدين، والمستكبرين، والخائنين، والمسرفين، والفرحين، وأنه لا يحب من كان مختالاً فخوراً، ولا خواناً أثيماً، فقد قال الله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ {الفتح:18}، وقال تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {المجادلة:22}، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ* جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ {البينة:7-8}، وقال تعالى: وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ {الزمر:7}، وهو سبحانه وتعالى يحب المحسنين، كما قال تعالى: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {البقرة:195}، ويحب التوابين والمتطهرين، قال الله تعالى: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ {البقرة:222}، ويحب المتقين، قال الله تعالى: فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ {آل عمران:76}، ويحب المتوكلين، قال
الله تعالى: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ {آل عمران:159}، ويحب المقسطين، قال الله تعالى: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {المائدة:42}، والله تعالى لا يحب المعتدين، قال الله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ {البقرة:190}، والله تعالى لا يحب الكافرين، قال الله تعالى: فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ {آل عمران:32}، ولا يحب من كان مختالاً فخوراً، قال الله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا {النساء:36}، ولا يحب من كان خواناً أثيماً، قال الله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا {النساء:107}، ولا يحب الفرحين، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ {القصص:76}، ولا يحب المستكبرين، قال الله تعالى: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ {النحل:23}، ولا يحب الجهر بالسوء، قال الله تعالى: لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ {النساء:148}، ولا يحب المسرفين، قال الله تعالى: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ {الأنعام:141}، وقد كثر في الأحاديث بيان بعض الأعمال التي يحبها الله تعالى ويرضاها والتي يبغضها، فنذكر(1/884)