المهَذَّبُ
في تفسيرِ جزء عَمَّ
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
حقوق الطبع لكل مسلم(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، القائل { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [إبراهيم : 1]
والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
قال تعالى :{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء : 9] }
فهو يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور ، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض ، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة ، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء ، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق .
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه ، وبين مشاعره وسلوكه ، وبين عقيدته وعمله ، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم ، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض ، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله ، ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعاً بالحياة.
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة ، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء . ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار . ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال .
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض : أفراداً وأزواجاً ، وحكومات وشعوباً ، ودولاً وأجناساً ، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى؛ ولا تميل مع المودة والشنآن؛ ولا تصرفها المصالح والأغراض .
الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه ، وهو أعلم بمن خلق ، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل ، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان .
ويهدي للتي هي أقوم في تبني الرسالات السماوية جميعها والربط بينها كلها ، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام .
أقول :(1/1)
ومنذ نزوله ما زال العلماء يفسرونه ، حسب حاجة الناس لذلك ، ومن ثم فقد وجد مفسرون في جميع العصور الإسلامية ،ذلك لأن هذا الكتاب الخالد مهما أوتينا من علم وفهم لن نصل إلى أبعاده ومراميه كلها ، قال تعالى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف : 109] }
ومن ثم نحاول الاقتراب من سواحله علَّنا ننهل النزر اليسير من كنوزه .
وقد اعتنى كثير من العلماء بتفسير الجزء الأخير من القرآن الكريم ، فجزاهم الله عنا ألف خير .
وهذا تفسير مفصل للجزء الثلاثين من القرآن الكريم ، وهو ما يعرف بجزء عمَّ.
ومعظم سوره مكية ،نزلت قبل الهجرة ، ففيها إثبات يوم القيامة ، والرد على منكريه ، وبيان مصارع من وقف في وجه دعوة الحق ، وتسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ،حيث لاقوا من المشركين الأذى الشديد ، فكانت آيات القرآن الكريم كالبلسم الشافي لآلامهم ومواجعهم ، حتى يثبتوا للنهاية .
هذا وفد عملت تفسيراً مطولاً لجزء عمَّ ، وهذا تهذيب له نظرا لطول الأول (2200) صفحة
وقد كانت طريقة عملي في هذا المهذب على الشكل التالي :
?? تقسيم الآيات حسب الموضوع الذي تدلُّ عليه .
?? بيان هل السورة مكية أم مدنية .
? ذكر أهم الموضوعات التي اشتملت عليها السورة .
? ذكر تناسب السور .
?? ذكر أسباب النزول إن وجدت .
6. ذكر فضائل السور إن وجدت .
?? شرح المفردات .
?? المعنى الإجمالي للآيات .
?? التفسير والبيان ، وهو شرح مفصل للآيات آية آية .
??? ومضات على الآيات ، وهي عبارة عن تفسير للآيات عند مفسرين آخرين وما فيها من أسرار وكنوز .
??? ما ترشد إليه الآيات .
??? ذكر مقاصد السورة في الأغلب .
? ? الرد على أوهام وأخطاء في تفسير هذا الجزء .
14. ذكرت المصادر بذيل كل بحث .(1/2)
هذا وقد سرت في تفسيري لهذا الجزء الأخير من القرآن الكريم ، وفق التفسير المنير ، مع تعديلات هامة جدا ، حيث كنت أذكر المصادر الأخرى التي تتعلق بالموضوع بدءا بتسمية السورة والخلاف مكيتها أو مدنيتها ، من تفسير الطاهر بن عاشور، ومن التفسير الوسيط لسيد طنطاوي فقد أسهما في هذا المجال .
وأما بالنسبة لعناوين الموضوعات فعلى التفسير المنير مع بعض التعديلات .
وأما بالنسبة لمناسبة السورة ، فقد ذكرت أقوال المفسرين الآخرين ولاسيما والمراغي والتفسير القرآني بالقرآن.
وأما بالنسبة لما اشتملت عليه السورة فقد ذكرت أيضاً أقوال الطاهر بن عاشور والصابوني والظلال وغيرهم.
وأما بالنسبة لتناسب الآيات فقد تفرد به البقاعي ، وذكره المعاصرون بقلة ، ولكنني اقتصرت في هذا التهذيب على أقوال المعاصرين .
وأما بالنسبة لأسباب النزول فقد محصتها بشكل دقيق في هذا الجزء وخرجتها ، والعمدة في ذلك ما ذكرته أنا بصراحة حول هذا الموضوع .
وأما بالنسبة لشرح المفردات فقد اعتمدت على كتاب كلمات القرآن للشيخ غازي الدروبي ، وهو مختصر ودقيق .
وأما بالنسبة للمعنى العام ، فقد اعتمدت على تفسير المراغي والتفسير الواضح ...
وأما بالنسبة لفضائل السور فقد اعتمدت على كتب الحديث وكتب فضائل القرآن مباشرة وقد استقصيتها في هذا الجزء .
وأما التفسير والبيان فهو ما ورد في التفسير المنير ، وقد قمت بتدقيقه كله ، وتخريج الأحايث ، بل واستبدالها من كتب الحديث لوقوع تحريف كثير في نص الحديث والأثر ، لأنه يعتمد على كتب التفسير في ذلك ولاسيما غير المحققة .
وقد حذفت من التفسير المنير اللغة والبلاغة ، فلم أفردهما ببحث خاص وإن وردا ضمن كتب التفسير لعدم الحاجة لذلك .
وبعد ذلك أتبعته بعنوان ( ومضات ) ذكرت فيه تفسير الآيات أو ما ورد في تفسيرها من أشياء مهمة في التفاسير المعاصرة بدءا من العلامة القاسمي .
كما أني قد أذكر في الومضات بعض الفوائد الأخرى التي نقلتها من التفسير القيم لابن القيم أو مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ، أو من الموسوعة االفقهية أو فتاوى الشبكة الإسلامية .(1/3)
وأما ماترشد إليه الآيات ،فقد ذكرت ما ورد في أيسر التفاسير للجزائري والتفسير المنير بعد تدقيقه وإضافة ما يلزم له أو حذف ما لا يلزم ، ومن بعص التفاسير الأخرى.
وقد أضيف أشياء أخرى أو أنبه عليها هنا ، أو أذكر بعض اختلاف الفقهاء .
وأما أهم مقاصد السورة فقد تفرد بها المراغي .
وقد قسمته إلى تمهيد ، وإلى تفسير لكامل الجزء
أما التمهيد فقد ذكرت فيه النقاط التالية :
? أهم طرق التفسير بشكل موجز
? الكلام عن الإسرائليات بشكل مختصر
? الكلام عن أسباب النزول بشكل مختصر
? الكلام عن أهم كتب التفسير وخصائصها بشكل مختصر
وأما التفسير، فكل سورة تبدأ بصفحة جديدة ، مفصولة عما قبلها وعما بعدها .
قال تعالى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [النساء : 82] }
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم ، وأن ينفع به جامعه وقارئه وناشره والدال عليه آمين .
جمعه وأعده
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 10 ربيع الأول 1430 هـ الموافق ل 6/3/2009 م
وقد تم تهذيبه بتاريخ 20 ربيع الأول 1430 هـ الموافق ل 16/3/2009 م
- - - - - - - - - - - - - - - - -(1/4)
التمهيد
أولا
أهم طرق التفسير
إنَّ أصحَّ الطرق في ذلك أن يُفَسَّر القرآن بالقرآن، فما أُجْمِل في مكان فإنه قد فُسِّر في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنَّة فإنها شارحةٌ للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله: كلُّ ما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن. قال الله تعالى: { إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } [ النساء: 105] ، وقال تعالى: { وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ النحل: 44] ، وقال تعالى: { وَمَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [النحل: 64] .
ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه" (1) يعني: السنة. والسنَّةُ أيضًا تنزلُ عليه بالوحي، كما ينزل القرآن؛ إلا أنها لا تتلى كما يتلَى القرآنُ، وقد استدلَّ الإمامُ الشافعي، رحمه الله وغيره من الأئمة على ذلك بأدلةٍ كثيرة ليس هذا موضع ذلك.
والغرضُ أنك تطلبُ تفسيرَ القرآن منه، فإنْ لم تجدْه فمنَ السنة، كما قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: قَالَ « كَيْفَ تَقْضِى إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ ». قَالَ أَقْضِى بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ « فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِى كِتَابِ اللَّهِ ». قَالَ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ « فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ فِى كِتَابِ اللَّهِ ». قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِى وَلاَ آلُو. فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَدْرَهُ وَقَالَ « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِى رَسُولَ اللَّهِ ». (2) وهذا الحديث في المسانيد والسنن بإسناد جيد، كما هو مقرر في موضعه.
وحينئذ، إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنَّة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوا من القرائنَ والأحوالِ التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم
__________
(1) - عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ الْكِنْدِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِى شَبْعَاناً عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ. أَلاَ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الأَهْلِىِّ وَلاَ كُلُّ ذِى نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ أَلاَ وَلاَ لُقَطَةٌ مِنْ مَالِ مُعَاهِدٍ إِلاَّ أَنْ يَسْتَغْنِىَ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُمْ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُمْ فَلَهُمْ أَنْ يُعْقِبُوهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُمْ ».مسند أحمد(17637) (صحيح) = يقرى : يكرم الضيف ويقوم بحق ضيافته
(2) - سنن أبى داود (3594 ) وأحمد في المسند (5/ 230) والترمذي في السنن برقم (1328) وهو حسن لغيره ومما تلقته الأمة بالقبول ،وسوف يمررُّ مفصلاً إن شاء الله(1/5)
الصحيح، والعملِ الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنه .
قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا جابر بن نوح، حدثنا الأعمش، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، قال: قال عبد الله -يعني ابن مسعود -: والذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت؟ وأين نزلت؟ ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله منى تناله المطايا لأتيته (1) .
وقال الأعمش أيضًا، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن (2) .
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا (3) .
ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وترجمان القرآن وببركة دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له حيث قال: « اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِى الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ » (4) .
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا وَكِيع، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مُسْلم قال قال عبد الله -يعني ابن مسعود-: نعْم ترجمان القرآن ابنُ عباس (5) . ثم رواه عن يحيى بن داود، عن إسحاق الأزرق، عن سفيانَ، عن الأعمش، عن مسلم بن صُبَيْح أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود أنه قال: نعم الترجمان للقرآن ابن عباس (6) . ثم رواه عن بُنْدَار، عن جعفر بن عَوْن، عن الأعمش به كذلك (7) .
فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود: أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة. وقد مات ابن مسعود، رضي الله عنه، في سنة اثنتين وثلاثين على الصحيح، وعُمِّر بعده ابن عباس ستًا وثلاثين سنة، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود؟.
__________
(1) - تفسير الطبري (1/ 80) وجابر بن نوح ضعيف لكنه توبع، فرواه البخاري في صحيحه برقم (5002) عن عمر بن حفص عن أبيه عن الأعمش به.
(2) - رواه الطبري في تفسيره (1/ 80) من طريق الحسين بن واقد عن الأعمش به.ر\ وهو صحيح
(3) - رواه الطبري في تفسيره (1/ 80) من طريق جرير عن عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي. وهو صحيح
(4) - مسند أحمد (2439) صحيح
(5) - تفسير الطبري (1/ 90) .صحيح
(6) - تفسير الطبري (1/ 90) ورواه الحاكم في المستدرك (3/ 537) من طريق سفيان به.صحيح
(7) - تفسير الطبري (1/ 90) ورواه أبو خثيمة في العلم برقم (48) من طريق جعفر بن عون به.ر(1/6)
وقال الأعمش عن أبي وائل: استخلف علِيّ عبد الله بن عباس على الموسم، فخطب الناس، فقرأ في خطبته سورة البقرة، وفي رواية: سورة النور، ففسرها تفسيرًا لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا (1) .
ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره، عن هذين الرجلين: عبد الله بن مسعود وابن عباس، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب، التي أباحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: « بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آيَةً ، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ » . رواه البخاري عن عبد الله (2) ؛ ولهذا كان عبد الله بن عمرو يوم اليرموك قد أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك.
ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد، لا للاعتضاد، فإنها على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح .
والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.
والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني..."اهـ (3)
وفي مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (4) :
" فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَمَا أَحْسَنُ طُرُقِ التَّفْسِيرِ ؟ فَالْجَوَابُ : أَنَّ أَصَحَّ الطُّرُقِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ ؛ فَمَا أُجْمِلَ فِي مَكَانٍ فَإِنَّهُ قَدْ فُسِّرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمَا اُخْتُصِرَ مِنْ مَكَانٍ فَقَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإِنْ أَعْيَاك ذَلِكَ فَعَلَيْك بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ : كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} (105) سورة النساء، وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (44) سورة النحل ، وَقَالَ تَعَالَى : {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (64) سورة النحل ، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { أَلَا إنِّي أُوتِيت الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ } " يَعْنِي السُّنَّةَ . (5)
__________
(1) - رواه الطبري في تفسيره (1/ 81) والفسوي في تاريخه (1/ 495) من طريق الأعمش به. صحيح
(2) - صحيح البخاري برقم (3461) .ر
(3) - تفسير ابن كثير - (ج 1 / ص 7)
(4) - مجموع الفتاوى - (ج 13 / ص 363-375 )
(5) - مر تخريجه وهو صحيح(1/7)
وَالسُّنَّةُ أَيْضًا تَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ كَمَا يَنْزِلُ الْقُرْآنُ ؛ لَا أَنَّهَا تُتْلَى كَمَا يُتْلَى، وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةِ كَثِيرَةٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذَلِكَ .
وَالْغَرَضُ أَنَّك تَطْلُبُ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فَمِنَ السُّنَّةِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمُعَاذِ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ : فَقَالَ « كَيْفَ تَصْنَعُ إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ ». قَالَ أَقْضِى بِمَا فِى كِتَابِ اللَّهِ. قَالَ « فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِى كِتَابِ اللَّهِ ». قَالَ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .
قَالَ « فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ». قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِى لاَ آلُو. قَالَ فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَدْرِى ثُمَّ قَالَ « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِى رَسُولَ اللَّهِ » (1) " وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمَسَانِدِ وَالسُّنَنِ بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ .
وَحِينَئِذٍ إذَا لَمْ نَجِدْ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ رَجَعْنَا فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَا ؛ وَلِمَا لَهُمْ مِنْ الْفَهْمِ التَّامِّ وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ؛ لَا سِيَّمَا عُلَمَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ : " مِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ " قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبري : حَدَّثَنَا أَبُو كريب قَالَ أَنْبَأَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ أَنْبَأَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ : وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَنْ نَزَلَتْ وَأَيْنَ نَزَلَتْ وَلَوْ أَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تناوله الْمَطَايَا لَأَتَيْته، (2) وَقَالَ الْأَعْمَشُ أَيْضًا عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ مَعَانِيَهُنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ (3) .
وَمِنْهُمْ الْحَبْرُ الْبَحْرُ " عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ " ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَهُ حَيْثُ قَالَ : { اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ } (4) " وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ : نِعْمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ . ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ دَاوُد عَنْ إسْحَاقَ الْأَزْرَقِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : نِعْمَ التُّرْجُمَانُ لِلْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ الْأَعْمَشِ بِهِ كَذَلِكَ فَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْعِبَارَةُ وَقَدْ مَاتَ ابْنُ مَسْعُودٍ
__________
(1) - مسند أحمد(22656) حسن لغيره ، وسيمر تفصيله
(2) - مر تخريحه
(3) - مر تخريجه
(4) - صحيح وقد مر(1/8)
فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ عَلَى الصَّحِيحِ وَعَمَّرَ بَعْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَمَا ظَنُّك بِمَا كَسَبَهُ مِنْ الْعُلُومِ بَعْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ ؟ .
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ اسْتَخْلَفَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْمَوْسِمِ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَرَأَ فِي خُطْبَتِهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ - وَفِي رِوَايَةِ سُورَةِ النُّورِ - فَفَسَّرَهَا تَفْسِيرًا لَوْ سَمِعَتْهُ الرُّومُ وَالتُّرْكُ وَالدَّيْلَمُ لَأَسْلَمُوا (1) . وَلِهَذَا غَالِبُ مَا يَرْوِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السدي الْكَبِيرُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ : ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَلَكِنْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ يَنْقُلُ عَنْهُمْ مَا يَحْكُونَهُ مِنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي أَبَاحَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَيْثُ قَالَ : " { بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (2) ؛ وَلِهَذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَدْ أَصَابَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ زَامِلَتَيْنِ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهُمَا بِمَا فَهِمَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ ،وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الإسرائيلية تُذْكَرُ لِلِاسْتِشْهَادِ لَا لِلِاعْتِقَادِ فَإِنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :
" أَحَدُهَا " مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ مِمَّا بِأَيْدِينَا مِمَّا يَشْهَدُ لَهُ بِالصِّدْقِ فَذَاكَ صَحِيحٌ .
و " الثَّانِي " مَا عَلِمْنَا كَذِبَهُ بِمَا عِنْدَنَا مِمَّا يُخَالِفُهُ .
و " الثَّالِثُ " مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَلَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَلَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُكَذِّبُهُ وَتَجُوزُ حِكَايَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ وَغَالِبُ ذَلِكَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ تَعُودُ إلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ، وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرًا وَيَأْتِي عَنْ الْمُفَسِّرِينَ خِلَافٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَمَا يَذْكُرُونَ فِي مِثْلِ هَذَا أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَلَوْنَ كَلْبِهِمْ وَعِدَّتَهُمْ وَعَصَا مُوسَى مِنْ أَيِّ الشَّجَرِ كَانَتْ ؟ وَأَسْمَاءَ الطُّيُورِ الَّتِي أَحْيَاهَا اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ وَتَعْيِينَ الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ مِنْ الْبَقَرَةِ وَنَوْعَ الشَّجَرَةِ الَّتِي كَلَّمَ اللَّهُ مِنْهَا مُوسَى إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَبْهَمَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهِ تَعُودُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِي دُنْيَاهُمْ وَلَا دِينِهِمْ ،وَلَكِنَّ نَقْلَ الْخِلَافِ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا} (22) سورة الكهف . فَقَدْ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الْأَدَبِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَتَعْلِيمِ مَا يَنْبَغِي فِي مِثْلِ هَذَا . فَإِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ضَعَّفَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثِ فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ ؛ إذْ لَوْ كَانَ بَاطِلًا لَرَدَّهُ كَمَا رَدَّهُمَا ثُمَّ أَرْشَدَ إلَى أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى عِدَّتِهِمْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَيُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا : { قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ } فَإِنَّهُ مَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ؛ فَلِهَذَا قَالَ : { فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا } أَيْ لَا تُجْهِدْ نَفْسَك فِيمَا لَا طَائِلَ
__________
(1) - مر تخريجه
(2) - مر تخريجه(1/9)
تَحْتَهُ وَلَا تَسْأَلْهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا رَجْمَ الْغَيْبِ . فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يَكُونُ فِي حِكَايَةِ الْخِلَافِ : أَنْ تُسْتَوْعَبَ الْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ وَأَنْ يُنَبَّهَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهَا وَيُبْطَلَ الْبَاطِلُ وَتُذْكَرَ فَائِدَةُ الْخِلَافِ وَثَمَرَتُهُ ؛ لِئَلَّا يَطُولَ النِّزَاعُ وَالْخِلَافُ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ فَيَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ الْأَهَمِّ فَأَمَّا مَنْ حَكَى خِلَافًا فِي مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ أَقْوَالَ النَّاسِ فِيهَا فَهُوَ نَاقِصٌ ؛ إذْ قَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ فِي الَّذِي تَرَكَهُ أَوْ يَحْكِي الْخِلَافَ وَيُطْلِقُهُ وَلَا يُنَبِّهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ أَيْضًا فَإِنْ صَحَّحَ غَيْرَ الصَّحِيحِ عَامِدًا فَقَدْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ أَوْ جَاهِلًا فَقَدْ أَخْطَأَ كَذَلِكَ مَنْ نَصَبَ الْخِلَافَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ أَوْ حَكَى أَقْوَالًا مُتَعَدِّدَةً لَفْظًا وَيَرْجِعُ حَاصِلُهَا إلَى قَوْلٍ أَوْ قَوْلَيْنِ مَعْنًى فَقَدْ ضَيَّعَ الزَّمَانَ وَتَكَثَّرَ بِمَا لَيْسَ بِصَحِيحِ فَهُوَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .
فَصْلٌ :
إذَا لَمْ تَجِدْ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا وَجَدْته عَنْ الصَّحَابَةِ فَقَدْ رَجَعَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ التَّابِعِينَ " كَمُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ " فَإِنَّهُ كَانَ آيَةً فِي التَّفْسِيرِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ : حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَ عرضات مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا (1) ،وَبِهِ إلَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَهْدِيٍّ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مُعَمَّرٍ عَنْ قتادة قَالَ : مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ إلَّا وَقَدْ سَمِعْت فِيهَا شَيْئًا (2) ،وَبِهِ إلَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ : قَالَ مُجَاهِدٌ : لَوْ كُنْت قَرَأْت قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمْ أَحْتَجْ أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْقُرْآنِ مِمَّا سَأَلْت (3) . وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا أَبُو كريب قَالَ : حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ عَنْ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ : رَأَيْت مُجَاهِدًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمَعَهُ أَلْوَاحُهُ قَالَ : فَيَقُولُ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ اُكْتُبْ حَتَّى سَأَلَهُ عَنْ التَّفْسِيرِ كُلِّهِ (4) ، وَلِهَذَا كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ : إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ (5) .
وَكَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وقتادة وَالضِّحَاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَتُذْكَرُ أَقْوَالُهُمْ فِي الْآيَةِ فَيَقَعُ فِي عِبَارَاتِهِمْ تَبَايُنٌ فِي الْأَلْفَاظِ يَحْسَبُهَا مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ اخْتِلَافًا فَيَحْكِيهَا أَقْوَالًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ الشَّيْءِ بِلَازِمِهِ
__________
(1) - تفسير الطبري - (ج 1 / ص 90) (108) صحيح
(2) - سنن الترمذي (2876 ) حسن
(3) - سنن الترمذى (3208)
(4) - تفسير الطبري - (ج 1 / ص 90) (107) صحيح
(5) - تفسير الطبري - (ج 1 / ص 91) (109) صحيح(1/10)
أَوْ نَظِيرِهِ ،وَمِنْهُمْ مَنْ يَنُصُّ عَلَى الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ وَالْكُلُّ بِمَعْنَى وَاحِدٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمَاكِنِ فَلْيَتَفَطَّنْ اللَّبِيبُ لِذَلِكَ وَاَللَّهُ الْهَادِي . وَقَالَ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَغَيْرُهُ : أَقْوَالُ التَّابِعِينَ فِي الْفُرُوعِ لَيْسَتْ حُجَّةً فَكَيْفَ تَكُونُ حُجَّةً فِي التَّفْسِيرِ ؟ يَعْنِي أَنَّهَا لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ خَالَفَهُمْ ،وَهَذَا صَحِيحٌ ،أَمَّا إذَا أَجْمَعُوا عَلَى الشَّيْءِ فَلَا يُرْتَابُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً ،فَإِنْ اخْتَلَفُوا فَلَا يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ وَلَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ ،وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى لُغَةِ الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ عُمُومِ لُغَةِ الْعَرَبِ أَوْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ .
فَأَمَّا " تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ فَحَرَامٌ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ قَالَ فِى الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ » (1) .
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى الثَّعْلَبِىِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ قَالَ فِى الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ » (2) .
وَبِهِ إلَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلاَلٍ حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ أَبِى حَزْمٍ أَخُو حَزْمٍ الْقُطَعِىِّ حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِىُّ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« مَنْ قَالَ فِى الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِى سُهَيْلِ بْنِ أَبِى حَزْمٍ (3) .
وَهَكَذَا رَوَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ شَدَّدُوا فِي أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَأَمَّا الَّذِي رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وقتادة وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ فَلَيْسَ الظَّنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْقُرْآنِ وَفَسَّرُوهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ ،وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ وَسَلَكَ غَيْرَ مَا أُمِرَ بِهِ ،فَلَوْ أَنَّهُ أَصَابَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكَانَ قَدْ أَخْطَأَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
__________
(1) - تفسير الطبري - (ج 1 / ص 78) (74و75) وسنن الترمذى (3204 ) ومسند أحمد (2473) صحيح = يتبوأ : يتخذ منزله
(2) - مسند أحمد(2101) صحيح
(3) - سنن الترمذى (3206 ) والفقيه والمتفقه (199) وقال عقبه : " قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : حَمَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الرَّأْيَ مَعْنِيُّ بِهِ الْهَوَى , مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلًا يُوَافِقُ هَوَاهُ , لَمْ يَأْخُذْهُ عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ , فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ , لِحُكْمِهِ عَلَى الْقُرْآنِ بِمَا لَا يُعْرَفُ أَصْلُهُ , وَلَا يَقِفُ عَلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ الْأَثَرِ وَالنَّقْلِ فِيهِ(1/11)
يَأْتِ الْأَمْرُ مِنْ بَابِهِ كَمَنْ حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ (1) وَإِنْ وَافَقَ حُكْمُهُ الصَّوَابَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ؛ لَكِنْ يَكُونُ أَخَفَّ جُرْمًا مِمَّنْ أَخْطَأَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَهَكَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْقَذَفَةَ كَاذِبِينَ فَقَالَ : {لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (13) سورة النور، فَالْقَاذِفُ كَاذِبٌ وَلَوْ كَانَ قَدْ قَذَفَ مَنْ زَنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِخْبَارُ بِهِ وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلِهَذَا تَحَرَّجَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ عَنْ تَفْسِيرِ مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ كَمَا رَوَى شُعْبَةُ ، عَنْ سُلَيْمَانَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ ، قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ : " أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي ، وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي ، إِذَا قُلْتُ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِي أَوْ بِمَا لَا أَعْلَمُ ". (2)
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ : حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حوشب عَنْ إبْرَاهِيمَ التيمي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ : { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } فَقَالَ : أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إنْ أَنَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ ؟ - مُنْقَطِعٌ - (3)
__________
(1) - سنن أبى داود(3575 ) عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ وَاحِدٌ فِى الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِى النَّارِ فَأَمَّا الَّذِى فِى الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِى الْحُكْمِ فَهُوَ فِى النَّارِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِى النَّارِ ». قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَهَذَا أَصَحُّ شَىْءٍ فِيهِ يَعْنِى حَدِيثَ ابْنِ بُرَيْدَةَ « الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ ». وهو صحيح
(2) - الطبري رقم(70 و71) وفيه انقطاع وقال عقبه :
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ شَاهِدَةٌ لَنَا عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا ، مِنْ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ تَأْوِيلِ آيِ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يُدْرَكُ عِلْمُهُ ، إِلَّا بِنَصِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، أَوْ بِنَصْبِهِ الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ ، فَغَيَّرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ الْقِيلَ فِيهِ بِرَأْيِهِ ، بَلِ الْقَائِلُ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِهِ ، وَإِنْ أَصَابَ الْحَقَّ فِيهِ ، فَمُخْطِئٌ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِهِ بِقِيلِهِ فِيهِ بِرَأْيِهِ ، لِأَنَّ إِصَابَتَهُ لَيْسَتْ إِصَابَةَ مُوقِنٍ أَنَّهُ مُحِقٌّ ، وَإِنَّمَا هُوَ إِصَابَةُ خَارِصٍ وَظَانٍّ ، وَالْقَائِلُ فِي دَيْنِ اللَّهِ بِالظَّنِّ قَائِلٌ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ عَلَى عِبَادِهِ ، فَقَالَ : قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ فَالْقَائِلُ فِي تَأْوِيلِ كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي لَا يُدْرَكُ عِلْمُهُ إِلَّا بِبَيَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ بَيَانَهُ ، قَائِلٌ بِمَا لَا يَعْلَمُ ، وَإِنْ وَافَقَ قِيلُهُ ذَلِكَ فِي تَأْوِيلِهِ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ مِنْ مَعْنَاهُ ، لِأَنَّ الْقَائِلَ فِيهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، قَائِلٌ عَلَى اللَّهِ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ . وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْخَبَرِ ، الَّذِي .72 حَدَّثَنَا بِهِ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي حَزْمٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ ، عَنْ جُنْدُبٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ ، فَقَدْ أَخْطَأَ " يَعْنِي - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي فِعْلِهِ ، بِقِيلِهِ فِيهِ بِرَأْيِهِ ، وَإِنْ وَافَقَ قِيلُهُ ذَلِكَ عَيْنَ الصَّوَابِ عِنْدَ اللَّهِ ، لِأَنَّ قِيلَهُ فِيهِ بِرَأْيِهِ ، لَيْسَ بِقِيلِ عَالِمٍ أَنَّ الَّذِيَ قَالَ فِيهِ مِنْ قَوْلٍ حَقٌّ وَصَوَابٌ ، فَهُوَ قَائِلٌ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ ، آثَمٌ بِفِعْلِهِ مَا قَدْ نَهَى عَنْهُ وَحُظِرَ عَلَيْهِ .
(3) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 10 / ص 482) (30096 و30100) وشعب الإيمان للبيهقي (2200) و الْجَامِعُ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي وَآدَابِ السَّامِعِ لِلْخَطِيِبِ الْبَغْدَادِيِّ (1596) و جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ( 992 ) عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ وَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ ، فالحديث صحيح لغيره(1/12)
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَيْضًا حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ حميد عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ : { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } فَقَالَ هَذِهِ الْفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا الْأَبُّ ؟ ثُمَّ رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ : إنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ يَا عُمَرُ (1) ،وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حميد حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَفِي ظَهْرِ قَمِيصِهِ أَرْبَعُ رِقَاعٍ فَقَرَأَ : { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } فَقَالَ مَا الْأَبُّ ؟ ثُمَّ قَالَ : إنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ فَمَا عَلَيْك أَنْ لَا تَدْرِيهِ (2) .
وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنَّمَا أَرَادَا اسْتِكْشَافَ عِلْمِ كَيْفِيَّةِ الْأَبِّ وَإِلَّا فَكَوْنُهُ نَبْتًا مِنْ الْأَرْضِ ظَاهِرٌ لَا يُجْهَلُ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى تَعَالَى : { فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا } { وَعِنَبًا وَقَضْبًا } { وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا } { وَحَدَائِقَ غُلْبًا } .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ لَوْ سُئِلَ عَنْهَا بَعْضُكُمْ لَقَالَ فِيهَا فَأَبَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا . إسْنَادُهُ صَحِيحٌ (3) ،وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ : { يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَمَا : { يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ إنَّمَا سَأَلْتُك لِتُحَدِّثَنِي فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُمَا يَوْمَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمَا فَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ . (4)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ يَعْنِي ابْنَ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ : جَاءَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ إلَى جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلَهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ . فَقَالَ أُحَرِّجُ عَلَيْك إنْ كُنْت مُسْلِمًا لَمَا قُمْت عَنِّي أَوْ قَالَ : أَنْ تُجَالِسَنِي (5) .
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَجُلًا ، يَسْأَلُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ عَنْ آيَةٍ ، مِنَ الْقُرْآنِ ، فَقَالَ : " لَا أَقُولُ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا " (6) .
وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ " أَنَّهُ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا فِي الْمَعْلُومِ مِنَ الْقُرْآنِ " (7) . وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ ،
__________
(1) - مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ كِتَابُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مَنْ كَرِهَ أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ ( 29517) صحيح
(2) - الطَّبَقَاتُ الْكُبْرَى لِابْنِ سَعْدٍ(3743) صحيح
(3) - تفسير الطبري - (ج 1 / ص 86) (98) صحيح
(4) - فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِلْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ = بَابُ تَأَوُّلِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْكَرَاهَةِ وَالتَّغْلِيظِ(689 ) صحيح
(5) - تفسير الطبري - (ج 1 / ص 86) (99) وفيه انقطاع
(6) - فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِلْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ (691) وتفسير الطبري - (ج 1 / ص 85) (93و94) صحيح
(7) - تفسير الطبري - (ج 1 / ص 86) (95) صحيح(1/13)
فَقَالَ : " لَا تَسْأَلْنِي عَنِ الْقُرْآنِ ، وَسَلْ عَنْهُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ " ، يَعْنِي : عِكْرِمَةَ (1) .
وَقَالَ ابْنُ شوذب : حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ ، قَالَ : " كُنَّا نَسْأَلُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ عَنِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَكَانَ ، أَعْلَمَ النَّاسِ ، وَإِذَا سَأَلْنَاهُ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ ، سَكَتَ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْ ". (2)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، قَالَ : " لَقَدْ أَدْرَكَتُ فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ ، وَإِنَّهُمْ لَيُعَظَّمُونَ الْقَوْلَ فِي التَّفْسِيرِ ، مِنْهُمْ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَنَافِعٌ " (3) .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ، عَنِ اللَّيْثِ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، قَالَ : مَا سَمِعْتُ أَبِي يَتَأَوَّلُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قَطٌ . (4)
وَقَالَ أَيُّوبُ وَابْنُ عَوْنٍ وَهُشَامٌ الدستوائي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين قَالَ :سَأَلْتُ عَبِيدَةَ ، عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ قَالَ : " اتَّقِ اللَّهَ ، وَعَلَيْكَ بِالسَّدَادِ وَبِالصَّوَابِ ، ذَهَبَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ فِيمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ " (5) . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ :حَدَّثَنَا مُعَاذٌ ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ أَبِيهِ مُسْلِمٍ قَالَ : إِذَا حَدَّثْتَ عَنِ اللَّهِ حَدِيثًا فَقِفْ حَتَّى تَنْظُرَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ . (6)
حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : كَانَ أَصْحَابُنَا يَتَّقُونَ التَّفْسِيرَ وَيَهَابُونَهُ (7) .
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ ، قَالَ : قَالَ الشَّعْبِيُّ : " وَاللَّهِ مَا مِنْ آيَةٍ إِلَّا قَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا ، وَلَكِنَّهَا الرِّوَايَةُ عَنِ اللَّهِ " (8) .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ :حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ مَسْرُوقٍ ، قَالَ : اتَّقُوا التَّفْسِيرَ ، فَإِنَّمَا هُوَ الرِّوَايَةُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. (9)
__________
(1) - تفسير الطبري - (ج 1 / ص 86) (101) وابن أبي شيبة ( 29512 ) صحيح
(2) - تفسير الطبري - (ج 1 / ص 86) (100) و(92 ) صحيح
(3) - الطبري(84) صحيح
(4) - فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِلْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ (697) صحيح
(5) - الزُّهْدُ وَالرَّقَائِقُ لِابْنِ الْمُبَارَكِ (1817) صحيح
(6) - فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِلْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ (695) حسن
(7) - فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِلْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ (696 ) صحيح
(8) - تفسير الطبري - (ج 1 / ص 87) (102) و(94) صحيح
(9) - فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِلْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ (694 ) صحيح(1/14)
فَهَذِهِ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ وَمَا شَاكَلَهَا عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مَحْمُولَةٌ عَلَى تَحَرُّجِهِمْ عَنْ الْكَلَامِ فِي التَّفْسِيرِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ.
فَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ لُغَةً وَشَرْعًا فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَقْوَالٌ فِي التَّفْسِيرِ وَلَا مُنَافَاةَ ؛ لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيمَا عَلِمُوهُ وَسَكَتُوا عَمَّا جَهِلُوهُ وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّهُ كَمَا يَجِبُ السُّكُوتُ عَمَّا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ الْقَوْلُ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ مِمَّا يَعْلَمُهُ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (187) سورة آل عمران ، وَلِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ : " { مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامِ مِنْ نَارٍ } (1) " .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : وَجْهٍ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا ، وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ ، وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ ، وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ " (2) . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ . "اهـ (3)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - سنن أبى داود(3660 ) صحيح
(2) - برقم( 63 ) وفيه انقطاع
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَهَذَا الْوَجْهُ الرَّابِعُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، مِنْ أَنَّ أَحَدًا لَا يُعْذَرُ بِجَهَالَتِهِ ، مَعْنًى غَيْرُ الْإِبَانَةِ عَنْ وجُوهِ مَطَالِبِ تَأْوِيلِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ أَنَّ مِنْ تَأْوِيلِهِ مَا لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْجَهْلَ بِهِ .
(3) - وانظر شرح قصيدة ابن القيم ج: 2 ص: 306 و فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 962) رقم الفتوى 41213 التفسير .. معناه وأقسامه(1/15)
ثانيا
الكلام عن الإسرائليات (1)
الإسرائيليات : الأخبار المنقولة عن بني إسرائيل من اليهود وهو الأكثر ، أو من النصارى . وتنقسم هذه الأخبار إلى ثلاثة أنواع :
القسم الأول : ما علمنا صحته مما بأيدينا من القرآن والسنة ، والقرآن هو : الكتاب المهيمن ، والشاهد على الكتب السماوية قبله ، فما وافقه فهو : حق وصدق ، وما خالفه فهو : باطل وكذب ، قال تعالى : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ، وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}(المائدة : 48 ، 49).
وهذا القسم صحيح ، وفيما عندنا غنية عنه ، ولكن يجوز ذكره ، وروايته للاستشهاد به ، ولإقامة الحجة عليهم من كتبهم ، وذلك مثل : ما ذكر في صاحب موسى عليه السلام ، وأنه الخضر فقد ورد في الحديث الصحيح ، ومثل ما يتعلق بالبشارة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبرسالته ، وأن التوحيد هو دين جميع الأنبياء ، مما غفلوا عن تحريفه ، أو حرفوه ، ولكن بقي شعاع منه يدل على الحق.
وفي هذا القسم ما رواه البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آيَةً ، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ » (2) .
__________
(1) - انظر تفسير القرآن للعثيمين - (1 / 46) وانظر كتاب الإسرائيليات والموضوعات فى كتب التفسير - (1 / 135)
(2) - صحيح البخارى(3461 )
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ : بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً أَمْرٌ قَصَدَ بِهِ الصَّحَابَةَ ، وَيَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ هَذَا الْخَطَّابِ مَنْ كَانَ بِوَصْفِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي تَبْلِيغِ مَنْ بَعْدَهُمْ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ الْبَعْضُ بِتَبْلِيغِهِ سَقَطَ عَنِ الآخَرِينَ فَرْضُهُ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ فَرْضِيَّتَهُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِ ، وَأَنَّهُ مَتَى امْتَنَعَ عَنْ بَثِّهِ ، خَانَ الْمُسْلِمِينَ ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ فَرْضُهُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَنْ أَنَّ السُّنَّةَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهَا : الآيُ ، إِذْ لَوْ كَانَ الْخَطَّابُ عَلَى الْكِتَابِ نَفْسِهِ دُونَ السُّنَنِ لاَسْتَحَالَ لاِشْتِمَالِهِمَا مَعًا عَلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ. وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ أَمْرُ إِبَاحَةٍ لِهَذَا الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابِ إِثْمٍ يَسْتَعْمِلُهُ ، يُرِيدُ بِهِ حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ يَلْزَمُكُمْ فِيهِ. وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا لَفْظَةٌ خُوطِبَ بِهَا الصَّحَابَةُ ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ غَيْرُهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، لاَ هُمْ ، إِذِ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ نَزَّهَ أَقْدَارَ الصَّحَابَةِ عَنْ أَنْ يُتَوَهَّمَ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ ، وَإِنَّمَا قَالَ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا ، لأَنْ يَعْتَبِرَ مَنْ بَعْدَهُمْ ، فَيَعُوا السُّنَنَ وَيَرْوُوهَا عَلَى سُنَنِهَا حَذَرَ إِيجَابِ النَّارِ لِلْكَاذِبِ عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - .صحيح ابن حبان - (14 / 149)(1/16)
وقال الطحاوي :
" بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْلِهِ: " وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ " قَالَ أَبُو كَبْشَةَ السَّلُولِيُّ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: " بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ "
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ " فَتَأَمَّلْنَا مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ لِأُمَّتِهِ: " وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ " فَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَنَا وَاللهُ أَعْلَمُ إرَادَةً مِنْهُ أَنْ يَعْلَمُوا مَا كَانَ فِيهِمْ مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِمْ ; وَلِأَنَّ أُمُورَهُمْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تَسُوسُهَا " فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ يَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا مَاتَ نَبِيٌّ قَامَ نَبِيٌّ " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ فِيمَا يَتَحَدَّثُونَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ مَا عَسَى أَنْ يَعِظَهُمْ وَيُحَذِّرَهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ عَنِ التَّمَسُّكِ بِدِينِ اللهِ كَمَا خَرَجَتْ عَنْهُ بَنُو إسْرَائِيلَ فَيُعَاقِبَهُمْ بِمِثْلِ مَا عَاقَبَهُمْ بِهِ وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُحَدِّثُهُمْ مِنْهَا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَّةَ لَيْلِهِ يُحَدِّثُ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ مَا يَقُومُ إلَّا لِعُظْمِ صَلَاةٍ " .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ قَوْلُهُ عَقِيبًا لِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ " وَلَا حَرَجَ " أَيْ: وَلَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تُحَدِّثُوا عَنْهُمْ كَمِثْلِ مَا قَالَ مِمَّا قَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنِ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا , فَلَا حَرَجَ , وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ , مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ وَمَنْ أَتَى الْخَلَاءَ فَلْيَسْتَتِرْ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا كَثِيبَ رَمْلٍ فَلْيَجْمَعْهُ فَلْيَسْتَدْبِرْهُ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَلْعَبُ بِمَقَاعِدِ بَنِي آدَمَ , مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ , وَمَنْ أَكَلَ طَعَامًا فَمَا تَخَلَّلَ فَلْيُلْقِهَا وَمَا لَاكَ بِلِسَانِهِ فَلْيَبْلَعْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ "
قَالَ: فَكَانَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِمَّا أَتْبَعَ أَمْرَهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا قَوْلَهُ " وَلَا حَرَجَ " أَيْ: وَلَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ إذْ كَانَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْهُ عَلَى الِاخْتِيَارِ لَا عَلَى الْإِيجَابِ فَكَانَ مِثْلُ ذَلِكَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ مِمَّا(1/17)
أَتْبَعَهُ قَوْلَهُ " وَلَا حَرَجَ " مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى التَّوْسِعَةِ مِنْهُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُحَدِّثُوا عَنْهُمْ إنْ شَاءُوا لِأَنَّ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ إنَّمَا كَانَ عَلَى الِاخْتِيَارِ لَا عَلَى الْإِيجَابِ وَكَانَ تِلْكَ مِنَّةً مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ عَقِيبًا لِقَوْلِهِ لَهُمْ: " بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً " مِمَّا أَمَرَهُمْ بِهِ إيجَابًا عَلَيْهِمْ فَأَتْبَعَ ذَلِكَ فِي أَمْرِهِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ بِبَيَانِ مُخَالَفَةِ ذَلِكَ لِمَا قَبْلَهُ إذْ كَانَ مَا قَبْلَهُ عَلَى الْوُجُوبِ وَالَّذِي بَعْدَهُ عَلَى الِاخْتِيَارِ " (1)
وقال الحافظ في الفتح :
" قوله: "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" أي لا ضيق عليكم في الحديث عنهم لأنه كان تقدم منه - صلى الله عليه وسلم - الزجر عن الأخذ عنهم والنظر في كتبهم ثم حصل التوسع في ذلك، وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية والقواعد الدينية خشية الفتنة، ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار، وقيل: معنى قوله: "لا حرج": لا تضيق صدوركم بما تسمعونه عنهم من الأعاجيب فإن ذلك وقع لهم كثيرا، وقيل: لا حرج في أن لا تحدثوا عنهم لأن قوله أولا: "حدثوا " صيغة أمر تقتضي الوجوب فأشار إلى عدم الوجوب وأن الأمر فيه للإباحة بقوله: "ولا حرج" أي في ترك التحديث عنهم. وقيل: المراد رفع الحرج عن حاكي ذلك لما في أخبارهم من الألفاظ الشنيعة نحو قولهم {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} وقولهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً} وقيل: المراد ببني إسرائيل أولاد إسرائيل نفسه وهم أولاد يعقوب، والمراد حدثوا عنهم بقصتهم مع أخيهم يوسف، وهذا أبعد الأوجه. وقال مالك المراد جواز التحدث عنهم بما كان من أمر حسن، أما ما علم كذبه فلا. وقيل: المعنى حدثوا عنهم بمثل ما ورد في القرآن والحديث الصحيح. وقيل: المراد جواز التحدث عنهم بأي صورة وقعت من انقطاع أو بلاغ لتعذر الاتصال في التحدث عنهم، بخلاف الأحكام الإسلامية فإن الأصل في التحدث بها الاتصال، ولا يتعذر ذلك لقرب العهد. وقال الشافعي: من المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجيز التحدث بالكذب، فالمعنى حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه، وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم وهو نظير قوله: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم" ولم يرد الإذن ولا المنع من التحدث بما يقطع بصدقه. " (2)
القسم الثاني : ما علمنا كذبه مما عندنا مما يخالفه ، وذلك مثل : ما ذكروه في قصص الأنبياء ، من أخبار تطعن في عصمة الأنبياء عليه الصلاة والسلام ، كقصة يوسف ، وداود ، وسليمان
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (1 / 125) (133- 138 )
(2) - فتح الباري لابن حجر - (6 / 498) و عون المعبود - (8 / 160)(1/18)
ومثل : ما ذكروه في توراتهم : من أن الذبيح إسحاق ، لا إسماعيل ، فهذا لا تجوز روايته وذكره إلا مقترنا ببيان كذبه ، وأنه مما حرفوه ، وبدلوه ، قال تعالى : {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِه}.
وفي هذا القسم : ورد النهي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة عن روايته ، والزجر عن أخذه عنهم ، وسؤالهم عنه ، قال الإمام مالك رحمه الله في حديث : "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" : المراد جواز التحدث عنهم بما كان من أمر حسن : أما ما عُلِم كذبه فلا (1) .
مثاله ما رواه البخاري عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ : إِنَّ الْيَهُودَ يَقُولُونَ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ فِى فَرْجِهَا مِنْ وَرَائِهَا كَانَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة : 223]) رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ ومُسْلِمٌ (2)
وأما سؤال أهل الكتاب عن شئ من أمور الدين ، فإنه حرام لما رواه الإمام أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضى الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : "لاَ تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَىْءٍ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، فَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ، أَوْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِى. (3) .
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا ، وَاللهِ لَوْ كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيًّا مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي " (4)
وروى البخاري عَنِ الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَىْءٍ وَكِتَابُكُمُ الَّذِى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - أَحْدَثُ الأَخْبَارِ بِاللَّهِ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ وَقَدْ حَدَّثَكُمُ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ بَدَّلُوا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَغَيَّرُوا فَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ ، قَالُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ . لِيَشْتَرُوا بِذَلِكَ ثَمَنًا قَلِيلاً ، أَوَ لاَ يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ ، فَلاَ وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلاً مِنْهُمْ يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ . (5) .
__________
(1) - فتح الباري ج 6 ص 388.
(2) - أخرجه البخاري ، كتاب التفسير ، باب ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) حديث رقم (4528) ، ومسلم ، كتاب النكاح ، باب جواز جماعة امرأته في قبلها ، من قدامها أو من ورائها ، من غير تعرض للدبر . حديث رقم ) 1435) .
(3) - أحمد 3/338 ( 14631 ) حسن
(4) - شعب الإيمان - (1 / 349) (176) حسن
(5) - صحيح البخارى(7523 )(1/19)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، وَكِتَابُكُمُ الَّذِي أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْدَثُ الْأَخْبَارِ تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ، ثُمَّ يُخْبِرُكُمُ اللهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُمْ قَدْ غَيَّرُوا كِتَابَ اللهِ وَبَدَّلُوهُ، وَكَتَبُوا الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ قَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أَلَا يَنْهَاكُمُ الْعِلْمُ الَّذِي جَاءَكُمْ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ، وَاللهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ قَطُّ سَأَلَكُمْ عَمَّا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ " (1)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّ عُمَرَ أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّا نَسْمَعُ أَحَادِيثَ مِنَ الْيَهُودِ تُعْجِبُنَا أَفَتَرَى أَنْ نَكْتُبَ بَعْضَهَا ؟ فَقَالَ: " أَمُتَهَوِّكُونَ أَنْتُمْ كَمَا تَهَوَّكَتِ الْيَهُودُ والنَّصَارَى ؟ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي " (2)
القسم الثالث : ما هو مسكوت عنه ، لا من هذا ، ولا من ذاك ، فلا نؤمن به ، ولا نكذبه ، لاحتمال أن يكون حقا فنكذبه ، أو باطلا فنصدقه ، ويجوز حكايته لما تقدم من الإذن في الرواية عنهم. لما رواه البخاري (3) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لأَهْلِ الإِسْلاَمِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ ، وَ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة : 136]) الآيَةَ
ولكن التحدث بهذا النوع جائز ، إذا لم يخش محذور ؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آيَةً ، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ » . رواه البخاري (4) .
وغالب ما يروى عنهم من ذلك ليس بذي فائدة في الدين كتعيين لون كلب أصحاب الكهف ونحوه .
ومع هذا : فالأولى عدم ذكره ، وأن لا نضيع الوقت في الاشتغال به ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَغَضِبَ ، وَقَالَ : " أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا
__________
(1) - شعب الإيمان - (1 / 347) (173 ) صحيح
(2) - شعب الإيمان - (1 / 347) (175 ) حسن
(3) - أخرجه البخاري ، كتاب التفسير ، باب 11 : (قولو آمنا بالله وما أنزل إلينا ) ، حديث رقم 4485 .
(4) - صحيح البخارى(3461 )(1/20)
بَيْضَاءَ نَقِيَّةً ، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ فِيكُمْ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي " (1)
وَعَنْ جَابِرٍ أَيْضًا قَالَ : نَسَخَ عُمَرُ كِتَابًا مِنَ التَّوْرَاةِ بِالْعَرَبِيَّةِ ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَوَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَغَيَّرُ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ : وَيْحَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، أَلَا تَرَى وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ ; فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا ، وَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ ، أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ مُوسَى بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي " . رَوَاهُ الْبَزَّارُ (2)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللهِ : لاَ تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَن شَيْءٍ فَتُكَذِّبُوا بِحَقٍّ ، أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَيَضِلُّونَ أَنْفُسَهُمْ ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلاَّ فِي قَلْبِهِ تَالِيَةٌ تَدْعُوهُ إلَى دَيْنِهِ كَتَالِيَةِ الْمَالِ. (3)
قال ابن بطال عن المهلب : "هذا النهي في سؤالهم عما لا نص فيه ؛ لأن شرعنا مكتفٍ بنفسه ، فإذا لم يوجد فيه نص ، ففي النظر والاستدلال غنىً عن سؤالهم ، ولا يدخل في النهي سؤالهم عن الأخبار المصدقة لشرعنا ، والأخبار عن الأمم السالفة (4)
تشديد سيدنا عمر على من كان يكتب شيئًا من كتب اليهود :
وقد كانت مقالة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر ، وغضبه لكتابته شيئا من التوراة درسا تعلم منه سيدنا عمر ، ومنهجا أخذ الناس به.
عَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ ، قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ إِذْ أُتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ مَسْكَنُهُ بِالسُّوسِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَنْتَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْعَبْدِيُّ ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : أَنْتَ النَّازِلُ بِالسُّوسِ ؟ قَالَ : نَعَمْ , فَضَرَبَهُ بِقَنَاةٍ مَعَهُ , فَقَالَ الرَّجُلُ : مَالِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : اجْلِسْ فَجَلَسَ , فَقَرَأَ عَلَيْهِ { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) [يوسف : 1 - 3] } فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا وَضَرَبَهُ ثَلَاثًا , فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : مَالِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ أَنْتَ الَّذِي نَسَخْتَ كِتَابَ دَانْيَالَ ؟ قَالَ : مُرْنِي بِأَمْرِكَ اتَّبِعْهُ , قَالَ : انْطَلِقْ فَامْحُهُ بِالْحَمِيمِ وَالصُّوفِ
__________
(1) - مسند أحمد (15546) حسن
(2) - مجمع الزوائد ( 809 ) ضعيف
(3) - مصنف ابن أبي شيبة - (9 / 48) ( 26952) صحيح
(4) - فتح الباري ج 13 ص 284 ، 285.(1/21)
الْأَبْيَضِ , ثُمَّ لَا تَقْرَأْهُ وَلَا تُقْرِئْهُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ , فَلَئِنْ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ قَرَأْتَهُ أَوْ أَقْرَأْتَهُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ لَأُنْهِكَنَّكَ عُقُوبَةً , ثُمَّ قَالَ لَهُ : اجْلِسْ ، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ , فَقَالَ : انْطَلَقْتُ أَنَا فَانْتَسَخْتُ كِتَابًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ جِئْتُ بِهِ فِي أَدِيمٍ , فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ , صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ , : " مَا هَذَا فِي يَدِكَ يَا عُمَرُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كِتَابٌ انْتَسَخْتُهُ لِنَزْدَادَ بِهِ عِلْمًا إِلَى عَلِمْنَا , فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ , صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ , حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ , ثُمَّ نُودِيَ بِالصَّلَاةِ جَامِعَةٌ , فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ أُغْضِبَ نَبِيُّكُمْ , صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ , السِّلَاحَ السِّلَاحَ , فَجَاءُوا حَتَّى أَحْدَقُوا بِمِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ , صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ , فَقَالَ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنِّي أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِيمَهُ وَاخْتُصِرَ لِيَ اخْتِصَارًا , وَلَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً , فَلَا تَتَهَوَّكُوا وَلَا يَقْرَبُكُمُ الْمُتَهَوِّكُونَ " . قَالَ عُمَرُ : فَقُمْتُ فَقُلْتُ : رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا ، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا ، وَبِكَ رَسُولًا , ثُمَّ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ , - صلى الله عليه وسلم - " (1)
موقف العلماء من الإسرائيليات
اختلفت موافق العلماء ، ولا سيما المفسرون من هذه الإسرائيليات على ثلاثة أنحاء :
أ- فمنهم من أكثر منها مقرونة بأسانيدها ، ورأى أنه بذكر أسانيدها خرج من عهدتها ، مثل ابن جرير الطبري.
ب- ومنهم من أكثر منها ، وجردها من الأسانيد غالبا ، فكان حاطب ليل مثل البغوي الذي قال شيخ الإسلام ابن تيميه (2) عن تفسيره : إنه مختصر من الثعلبي ، لكنه صانه عن الأحاديث الموضوعية والآراء المبتدعة ، وقال عن الثعلبي : إنه حاطب ليل ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع .
ج- ومنهم من ذكر كثيرا منها، وتعقب البعض مما ذكره بالتضعيف أو الإنكار مثل ابن كثير .
د- ومنهم من بالغ في ردها ولم يذكر منها شيئا يجعله تفسيرا للقرآن كمحمد رشيد رضا .
وقد اتفقت كلمة العلماء المعاصرين على رد ما خلف شرعنا :
قال السيد رحمه الله :
" فأما كيف وقعت هذه الآيات , فليس لنا وراء النص القرآني شيء . ولم نجد في الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها شيئاً . ونحن على طريقتنا في هذه "الظلال" نقف عند حدود النص القرآني في مثل هذه المواضع . لا سبيل لنا إلى شيء منها إلا من طريق الكتاب أو السنة الصحيحة . وذلك تحرزاًمن الإسرائيليات والأقوال والروايات التي لا أصل لها ; والتي تسربت
__________
(1) - تَقْيِيدُ الْعِلْمِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ (68 ) حسن
(2) - مجموع الفتاوى (13/304) .(1/22)
- مع الأسف - إلى التفاسير القديمة كلها , حتى ما ينجو منها تفسير واحد من هذه التفاسير ; وحتى إن تفسير الإمام ابن جرير الطبري - على نفاسة قيمته - وتفسير ابن كثير كذلك - على عظيم قدره - لم ينجوا من هذه الظاهرة الخطيرة . ." (1)
وقال دروزة :
" لقد شغلت الإسرائيليات حيزا كبيرا جدا من كتب التفسير وكان كثير منها مملوءا مثل الرواية التي أوردناها بالإغراب والخيال برغم احتمال كون شيء قليل أو كثير مما كانوا يدلون به واردا في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا. وليس كل ما كان في أيديهم من أسفار وقراطيس صحيحا في مجمله أو تفصيله.
ولقد كان لتداول الرواة لهذه البيانات وتدوينها في كتب التفسير وشغلها منها حيزا كبيرا بل الحيز الأكبر أثر قوي في التغطية على ما في القرآن من مبادئ وأحكام وتلقينات ووصايا هي جوهر القرآن ومحكمه الذي فيه الهدى والنور و الموعظة والفرقان حينما يريد المسلم أن يقرأ القرآن مفسرا في أحد هذه الكتب ثم في استغراق المسلمين في هذه البيانات بقصد استقصاء جزئيات القصص والأعلام والمشاهد والاصطلاحات القرآنية حتى صارت وما تزال أسئلتهم لمن يشتغل بالقرآن من العلماء عنها في الدرجة الأولى دون الأهداف والمحكمات القرآنية بحيث يقال بحق إنها شوشت على القرآن وأذهان المسلمين.
ويحمل الباحثون اليهود الرواة مسؤولية ذلك. ومنهم من يرى أنهم قصدوا إليه قصدا كيدا للإسلام واستغفالا للمسلمين. وقد يكون في هذا القول شيء من الحق. غير أننا نرى أن الرواة الأولين من المسلمين ثم المدونين الذين دونوا رواياتهم لأول مرة ثم الذين نقلوا عن هؤلاء يتحملون كذلك مسؤولية مثلهم إن لم نقل أكثر منهم لأنهم مفروض فيهم القدرة على تمييز الغثّ من السمين والباطل من الحق والكذب من الصدق وعلى لمح ما في الروايات من غلوّ ومبالغات لا يصح كثير منها في عقل ومنطق وواقع ولا يؤيدها أثر صحيح. ثم القدرة على إدراك ما في رواية هذه الروايات وتدوينها وإشغالها الحيز الكبير أو الأكبر من كتب التفسير من تشويش على أذهان قارئي هذه الكتب وعلى أهداف القرآن ومحكماته.
__________
(1) - في ظلال القرآن - (1 / 192)(1/23)
وقد يكون من الحق أن بعض المفسرين وقفوا من الاسرائيليات موقف المنكر المنبه الناقد غير أن هذا ليس شاملا ولا عاما ، ومن الناقدين والمنكرين والمنبهين أنفسهم من روى كثيرا منها في مناسبات كثيرة بدون نقد ولا إنكار ولا تنبيه. " (1)
وقال الخطيب :
" أما ما ألقى الشيطان ، فقد نسخ وبطل ، وذهب هباء! واستمع إلى الآية كلها مرة أخرى : « وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ .. فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ .. ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ .. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ».
وأحسب ـ بعد هذا ، بل وقبل هذا ـ أن الآية الكريمة ، واضحة الدلالة بيّنة القصد ، لمن نظر إليها نظرا بعيدا عن وساوس الأساطير ، وهمسات الإسرائيليات ، التي كان يلقى بها اليهود إلى آذان القصاص ورواة الأخبار ، فيتلقاها عنهم المفسرون ، ويحملونها إلى الكتاب الكريم!! فالآية الكريمة تكاد لوضوحها تنطق بمضمونها ، وتحدّث بمفهومها ، ولكن الخيال الأسطورى ، أغرى المفسرين بأن يستولدوا من الآية عجائب وغرائب منكرة .. كما سنعرضها عليك بعد قليل .. " (2)
وقال سيد طنطاوي :
" وقد أعرضنا عن كثير من الإسرائيليات التي حشا بها بعض المفسرين تفاسيرهم ، عند حديثهم عن الآيات التي وردت في هذه القصة ، ومن ذلك ما يتعلق بسليمان - عليه السلام - وبجنوده من الطير. وبمحاورة النملة له ، وبالهدية التي أرسلتها ملكة سبأ إليه ، وبما قالته الشياطين لسليمان عن هذه المرأة .. " (3)
وقال الشعراوي :
" وقولها { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ } [النمل: 44] مثل قول سَحَرة فرعون لما رأوا المعجزة:{ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىا }[طه: 70] لأن الإيمان إنما يكون بالله والرسول دال على الله، لذلك قالت: { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ } [النمل: 44] ولم تقُلْ: أسلمتُ لسليمان، نعم لقد دانتْ له، واقتنعتْ بنبوته، لكن كبرياء الملك فيها جعلها لا تخضع له، وتعلن إسلامها لله مع سليمان؛ لأنه السبب
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 357)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (9 / 1066)
(3) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم لطنطاوي - (10 / 330)(1/24)
في ذلك، وكأنها تقول له: لا تظن أنِّي أسلمتُ لك، إنما أسلمتُ معك، إذن: أنا وأنت سواء، لا يتعالى أحد منا على الآخر، فكلانا عبد لله.
وقد دخل هذه القصة بعض الإسرائيليات، منها أن سليمان ـ عليه السلام ـ جعل الصرح على هذه الصورة لتكشف بلقيس عن ساقيها؛ لأنه بلغه أنها مُشْعِرة الساقين، وإلى غير هذا من الافتراءات التي لا تليق بمقام النبوة. " (1)
وقال المراغي :
" والكتاب الكريم لم يبين لنا عدد هؤلاء القوم ولا أمتهم ، ولا بلدهم ، ولو علم أن فى ذلك خيرا لنا لتفضل علينا ببيانه في محكم كتابه فنكتفى بما فيه ، ولا ندخل في تفاصيل ذكرت في الإسرائيليات ، هى إلى الأوهام والخرافات أقرب منها إلى الحقائق التي تصلح للعبرة ، وتكون وسيلة إلى الموعظة." (2)
وقال ابن عثيمين :
" وبهذا التقرير نعرف أنه لا حاجة بنا إلى ما ذكره كثير من المفسرين من الإسرائيليات من أن هذه البقرة كانت عند رجل بارّ بأمه، وأنهم اشتروها منه بملء مَسكها ذهباً . يعني بملء جلدها ذهباً؛ وهذا من الإسرائيليات التي لا تصدق، ولا تكذب، ولكن ظاهر القرآن هنا يدل على كذبها؛ إذ لو كان واقعاً لكان نقله من الأهمية بمكان لما فيه من الحث على برّ الوالدين حتى نعتبر؛ فالصواب أن نقول في تفسير الآية ما قال الله عزّ وجلّ، ولا نتعرض للأمور التي ذكرها المفسرون هنا من الحكايات.. " (3)
وقال أستاذنا الزحيلي :
" وبدأ بذكر قصة داود عليه السلام ، ليتذكر حال ذلك النبي الشاكر الصابر ، ذي القوة في الدين والبدن معا.
ويجب أن تفهم هذه القصة - قصة المحاكمة - على النحو الظاهري المبين في القرآن الكريم ، وأن تستبعد الإسرائيليات منها ، لمناقضتها مبدأ عصمة الأنبياء ، فقد روي في الإسرائيليات أن داود عليه السلام وقع بصره على امرأة تستحم ، فأعجبته وعشقها ، وكانت زوجة أحد قواده
__________
(1) - تفسير الشعراوي - ( / 3131)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (2 / 208)
(3) - تفسير القرآن للعثيمين - (3 / 172)(1/25)
واسمه «أوريا الحثي» فأراد أن يتخلص منه ليتزوج بها ، فأرسله في إحدى المعارك وحمّله الراية ، وأمره بالتقدم فانتصر ، فأرسله مرارا ليتخلص منه حتى قتل ، فتزوجها.
قال البيضاوي : هذا هزء وافتراء ، ولذلك
قال علي رضي اللّه عنه : «من حدّث بحديث داود على ما يرويه القصاص ، جلدته مائة وستين».
وهو حد الفرية على الأنبياء ، أي مضاعفا .
وأبطل الإمام الرازي هذه الحكاية المفتراة بوجوه ثلاثة ملخصها :
الأول : أن هذه الحكاية لو نسبت إلى أفسق الناس وأشدهم فجورا لاستنكف منها.
الثاني - أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين : السعي في قتل رجل مسلم بغير حق ، وإلى الطمع في زوجته ، وكلاهما منكر.
الثالث - أن اللّه تعالى وصف داود عليه السلام قبل ذكر هذه القصة بصفات عشر ، ثم وصفه أيضا بصفات كثيرة بعد هذه القصة ، وكل هذه الصفات تنافي كونه عليه السلام موصوفا بهذا الفعل المنكر والعمل القبيح " (1)
قلت : ومع هذا فقد تسلل بعض هذه الإسرائيليات إلى كتب المذكورين .
وإذا كانت غير منافية لشرعنا ، فلا بأس من ذكرها على سبيل الاستئناس .
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (23 / 181)(1/26)
ثالثا
أسباب النزول
1- تعريف سبب النزول:
هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه أو مبينة لحكمه أيام وقوعه كحادثة وقعت، أو سؤالٍ وجه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
والمراد بأيام وقوعه: أن تنزل بعده مباشرة، أو بعد ذلك بقليل، وإذ كان بحثنا عن أسباب النزول خاصة، فإننا لن نعرض لما أنزله الله ابتداء غير مبني على سبب من سؤال أو حادثة، كأكثر الآيات المشتملة على قصص الأمم الغابرة مع أنبيائها، أو وصف بعض الوقائع الماضية أو الأخبارية الغيبية المستقبلة، أو تصوير قيام الساعة أو مشاهد القيامة أو أحوال النعيم والعذاب، وهي في القرآن كثيرة أنزلها الله لهداية الخلق إلى الصراط المستقيم، وجعلها مرتبطة بالسياق القرآني سابقة ولاحقة، من غير أن تكون إجابة عن سؤال أو بيانا لحكم شيء وقع. قال السيوطي: "والذي يتحرر في سبب النزول أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه، ليخرج ما ذكره الواحدي في تفسيره في سورة الفيل من أن سببها قصة قدوم الحبشة به، فإن ذلك ليس من أسباب النزول في شيء، بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية، كذكر قصة نوح وعاد وثمود وبناء البيت ونحو ذلك، وكذلك ذكره في قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} سبب اتخاذه خليلا، فليس ذلك من أسباب النزول كما لا يخفى" (1) ..
وهذا التعريف الذي اصطلحنا عليه يستلزم قسمة ثنائية لآيات القرآن، لبعضها علاقة بأسباب النزول، وليس لبعضها الآخر أية علاقة بهذه الأسباب, فما نقل عن علي وابن مسعود وغيرهما من علماء الصحابة من أنه "لم تنزل آية إلا علم أحدهم فيما نزلت، وفيمن نزلت, وأين نزلت" (2) ينبغي ألا تؤخذ بمعناه الحرفي حتى ولو أقسم أحدهم على هذا (3) ، فإما أنهم يريدون به -على طريقة العرب في المبالغة- تأكيد عنايتهم بهذا الكتاب الكريم، وتتبعهم كل أمر يتصل به، وإما
__________
(1) - الإتقان 1/ 53.
(2) - الإتقان 1/ 222.
(3) - وذلك ما نقلوه عنهم حقا، فعلي كرم الله وجهه يقسم -كما رووا عنه- قائلا: "والله ما نزلت آية إلا وأنا أعلم فيم نزلت". ومثله قسم عبد الله بن مسعود، وإن كان ابن مسعود: يقول: "فيمن نزلت"، فاجتمع من قسميهما كليهما العلم بنزول الآيات في الأشخاص.(1/27)
أنهم يحسنون الظن بما سمعوه وشهدوه في عهد الرسول الكريم، ويودون لو أخذ الناس عنهم كل ما يعرفون حتى لا يذهب العلم بذهابهم وإن كان محتملا عقلا أن يكون أحدهم فاته أن يعرف بنفسه معرفة شخصية سبب نزول آية ما، ولم يتيسر له أن يعرفها إلا من صحابي آخر، لكنه عد معرفته لها -ولو بالواسطة- علما بها كعلمه بكل ما سمعه بأذنه مباشرة من غير وسيط، وإما أن الرواة تزيدوا في نقل هذا عنهم وعزوه إليهم، فإن في عبارتهم نفسها ضربا من التفاخر بالعلم يصعب علينا تصديق صدوره عنهم وهم الذين ضربت الأمثال بتواضعهم الجم وأدبهم الرفيع في الورع والإحجام عن التفيا في الدين.
هذا، وقد عرفنا الصحابة منصرفين إلى تلقي القرآن, مشغولين بجمعه في الصدور والسطور، وكان كتاب الله يستغرق جل أوقاتهم، كما يملك عليهم كل مشاعرهم, وكان الوحي ينزل على نبيهم في كل لحظة أو يمكن على الأقل أن ينزل في أي لحظة بالآية والآيات بعد الواقعة أو الواقعات، فأنى لأولئك الصحابة الوقت لمتابعة سبب كل آية! وكيف يتيسر للواحد منهم أن يشهد بنفسه نزول كل آية، وأن يكون دائما في المكان أو الزمان اللذين نزلت في نطاقهما الآيات! وإذا اندفع بعضهم إلى حفظ كل ما سمعه أو تقييده، فهل يجب أن يكون كل ما حفظه وعلمه متناولا كل ما يجب أن يحفظ أو يعلم من أسباب النزول؟.
إن المنطق السليم ليحكم بأن أحدهم إنما كان يتكلم على معرفته الدقيقة بما تيسر له سماعه بنفسه, ولكننا لا نستبعد أن يكون هو نفسه جاهلا بعض هاتيك الأسباب، مثلما لا نستبعد أن يكون العلماء بالقرآن قد جهلوا الكثير من هذه الأسباب، وأنه كلما امتد بالناس الزمان ازداد جهلهم بها لبعدهم عن الينبوع الصافي النمير، لذلك كان علماء السلف الصالح يتشددون كثيرا في الروايات المتعلقة بأسباب النزول، وكان تشددهم يتناول أشخاص رواتها وأسانيدها ومتونها. فأما الأشخاص فما كان أشد ورعهم إذ يستفتون في أسباب النزول!
هذا محمد بن سيرين يقول: سألت عبيدة عن آية من القرآن فقال: "اتق الله وقل سدادًا، ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن" (1) . ولكن هذا الورع لم يكن ليمنعهم من قبول أخبار الصحابة في مثل هذه الموضوعات، وحجتهم في هذا لا تقبل الجدل، فهم يرون "أن قول الصحابي فيما لا مجال للرأي والاجتهاد فيه، بل عمدته لنقل والسماع، محمول على سماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأنه يبعد جدا أن يقول ذلك من تلقاء نفسه" (2) . ولذلك قرر ابن الصلاح والحاكم وغيرهما في علوم
__________
(1) - الإتقان 1/ 52.
(2) - منهج العرفان، لمحمد علي سلامة، ص39. "انظر الإتقان 1/ ص52".(1/28)
الحديث أن الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل إذا أخبر عن آية أنها أنزلت في كذا فإنه حديث مسند، له حكم المرفوع (1) .
وليس من الرواية الصحيحة في هذا المجال قول التابعي إلا إذا اعتضد بمرسل آخر رواه أحد أئمة التفسير الذين ثبت أخذهم عن الصحابة كعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وسعيد بن المسيب والضحاك (2) .
وبقبول خبر الصحابي الذي شهد التنزيل، والتابعي الذي أخذ عنه الصحابي، فهم أن الغرض من اشتراط صحة الرواية التحقق من وقوع المشاهدة أو السماع للحادثة أو السؤال الذي كان سبب نزول شيء من القرآن.
ولعل التحقق من هذه الوقائع جميعا هو الذي حمل العلماء على أن يحصروا الوسيلة لمعرفة سبب النزول في الرواية الصحيحة، مستبعدين فيها كل محاولة شخصية لإبداء الرأي أو الاجتهاد في مثل هذا الموضوع. وإلى هذا أشار الواحدي بقوله: "ولا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب, وبحثوا عن علمها وجدوا في الطلاب" (3) . ثم عرض الواحدي بعد ذلك صورة من تحرج السلف الصالح في القول بأسباب النزول مخافة الكذب على القرآن بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثم أخذ على العلماء في زمانه تساهلهم في رواية هذه الأسباب، كأنهم لا يلقون بالا إلى الوعيد الذي أنذر الله به كل من افترى على الله كذبا، فقال مستاء متألما: "وأما اليوم فكل أحد يخترع شيئا، ويختلق إفكا وكذبا, ملقيًا زمامه إلى الجهالة، غير مفكر في الوعيد للجاهل بسبب الآية" (4) !
__________
(1) - معرفة سبب النزول أمر يحصل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا، وربما لم يجزم بعضهم فقال: "أحسب هذه الآية نزلت في كذا" كما أخرجه الأئمة الستة عن عبد الله بن الزبير قال: خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرة, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "اسق يا زبير, ثم أرسل الماء إلى جارك"، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتلون وجهه، الحديث. قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} "الإتقان 1/ 52". وانظر أيضا "الإتقان 1/ 229". والشراج جمع شرج، وهو مسيل ماء من الحرة إلى السهل.
(2) - الإتقان 1/ 553.
(3) - أسباب النزول "للواحدي" ص3-4.
(4) - نفسه ص4.(1/29)
ولقد تعرضت تصانيف القدامى أنفسهم في أسباب النزول للنقد الشديد، رغم ما اتسم به مؤلفوها من الورع البالغ والحذر العلمي الأمين، فلن يكون نقد ما نقوله اليوم إلا أشد وأقسى، ولن يكون المأخذ علينا إلا أمرَّ وأنكى!
وحسبك أن السيوطي-بعد أن ذكر الذين أفردوا هذا العلم بالتصنيف (1) - ما لبث أن عرض بما في كتاب "الواحدي" من "إعواز" (2) ، ثم عرض باختصار الجعبري لهذا الكتاب و"حذفه أسانيده من غير أن يزيد عليه شيئا"، وأخبر بعد ذلك بأن شيخ الإسلام أبا الفضل بن حجر ألف في أسباب النزول "كتابا مات عنه مسودة، فلم يتيسر للسيوطي أن يقف عليه كاملا" ومع أن عبارته تشي بأنه وقف على شيء منه أو على المسودة كلها التي مات أبو الفضل عنها لم يشر قط إلى إعجابه بصنيعه ورضاه عنه، بل أوشك أن يكون إلى نقده أقرب حين جعل صنيعه وصنائع السابقين كلهم في كفة، وصنيعه هو -أعني السيوطي- في كفة أخرى في "كتابه الحافل الموجز المحرر الذي لم يؤلف مثله في هذا النوع"، وهو المسمى "لباب النقول, في أسباب النزول!" (3) .
وربما لم يكن لافتخار السيوطي بكتابه كبير قيمة في نظرنا، فقد ألفنا في الأعصر المتأخرة هذه النغمة المزهوة الفخور تتردد في مواطن شتى من كتب أولئك العلماء الجماعين، وألفنا بصورة خاصة هذه النغمة غير المحببة في كتب لسيوطي نفسه رحمه الله وغفر له، ولكن يعنينا من لهجة الفخر هذه ما توحي به من إعواز الكتب القديمة حقا، فلولا نقص فيها حال دون وفائها بهذا العلم العظيم لما آنس السيوطي وغيره جراءة على رميها بالضعف والإعواز.
وليت ذلك الإعواز كان موطن الضعف الوحيد في هاتيك التصانيف: إنها لتعج حتى بالأخطاء التاريخية, والمغالطات المنطقية، والمبالغات العجيبة، والغرائب النادرة!
يقرأ الواحدي مثلا قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}( سورة البقرة 114 )، فلا يستنتج منه أنه وعيد عام مطلق للذين يستهينون بالمعابد، ويعطلون الشعائر، وينتهكون الحرمات، ويسعون في خراب بيوت الله، بل يقع في خطأ تاريخي فاحش لو كان متعلقا بشخصه هو لهان أمره, ولكنه يحمله حملا على نص في كتاب الله، وما
__________
(1) - وقد عد السيوطي أقدمهم في هذا الباب علي ابن المديني شيخ البخاري. الإتقان 1/ 48.
(2) - الإتقان 1/ 48. قلت نصف الكتاب بلا سند والنصف الآخر فيه الصحيح والحسن والضعيف والمنكر والهاي ، بل والموضوع !!
(3) - الإتقان 1/ 48. وقد طبع "لباب النقول" ببولاق سنة 1280هـ، بهامش "تفسير الجلالين".(1/30)
كان له ولا لغيره أن يحملوا على القرآن خطأ من أخطائهم: فمن عجب أن الواحدي لم يتحرج هنا من أن يذكر رأي قتادة الذي قال: إن الآية نزلت في بختنصر البابلي وأصحابه, فقد غزوا اليهود، وخربوا بيت المقدس، وأعانتهم على ذلك النصارى من الروم (1) ، فيذكر اتحاد النصارى مع بختنصر على تخريب بيت المقدس مع أن حادثة بختنصر هذا وقعت قبل ميلاد المسيح بستمائة وثلاث وثلاثين سنة (2) .
ويغتفر للواحدي هذا الخطأ لأمرين: أما أحدهما فهو أنه لم يكن معدودًا بين المؤرخين, وأما الآخر فهو أنه لم يختر رأي قتادة بل اكتفى بذكره من غير تعليق عليه كأنه لا يرى فيه بأسًا، وإن كان قد ذكر قبله تأويلا وبعده تفسيرا، وجاء كلا الأمرين الآخرين محتملا، ففي التأويل الأول قول ابن عباس من رواية الكلبي: "نزلت الآية في طيطوس (3) الرومي وأصحابه من النصارى، وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتلتهم، وسبوا ذراريهم، وحرقوا التوارة, وخربوا بيت المقدس، وقذفوا فيه الجيف" ولا مانع من هذا التأويل في نظر المؤرخين لأن دخول طيطوس بيت المقدس وتخريبها وقع بعد المسيح بسبعين سنة. وفي التفسير الآخير قول ابن عباس أيضا ولكن من رواية عطاء (4) : "نزلت في مشركي أهل مكة، ومنعهم المسلمين من ذكر الله تعالى في المسجد الحرام"، وابن عباس يشير بهذا إلى قصة عمرة الحديبية، وربما بدا هذا التأويل للوهلة الأولى أقرب إلى السياق القرآني والتاريخي، أو ربما بدا على الأقل أكثر احتمالا من حادثة طيطوس, إذ طال على هذه الأمد فلا مناسبة لأن تكون هي المقصودة بالآية، ولكن يعترض على هذا التأويل بأن مشركي العرب عمروا المسجد الحرام في جاهليتهم، وعدوه
__________
(1) - أسباب النزول للواحدي 24
(2) - قارن بتفسير المنار 1/ 431.
(3) - وردت في مطبوعة "أسباب النزول ص24" ططلوس، صوابها ما أثبتناه, ومنهم من يسميه "تيتوس" بتاءين بدلا من الطاءين.
(4) - لا بد أن يلاحظ هنا كيف تضاربت روايتان كلتاهما عن ابن عباس، إلا أن أحداهما من طريق الكلبي والأخرى من طريق عطاء! ومن عجب أن ابن عباس نفسه يرى الآية نازلة تارة في الرومان وتارة في العرب!. ولكن رواية الكلبي لا يعول عليها لأنه كذاب(1/31)
مناط عزهم وفخرهم، وما سعوا في خرابه قط، فلا تقصدهم الآية إلا في ناحية واحدة: وهي منعهم النبي وأصحابه من دخول مكة في عمرة الحديبية (1) .
وحتى الخطأ الفاحش الذي ارتكبه الواحدي -جهلا بحوادث التاريخ- يمكن التماس العذر له فيه بحمل قوله على أدرينال الروماني الذي سماه اليهود "بختنصر الثاني" وقد جاء بعد المسيح بمائة وثلاثين سنة، وبنى مدينة على أطلال أورشليم وزينها وجعل فيها الحمامات، وبنى هيكلا للمشتري على أطلال هيكل سليمان، وحرم على اليهود دخول المدينة، وجعل جزاء من يدخلها القتل (2) .
وإن التمسنا للواحدي مثل هذا العذر، فأي عذر لابن جرير الطبري المفسر المؤرخ الذي لم يكتف بذكر حادثة بختنصر كما فعل الواحدي، بل اختارها من بين طائفة من الأقوال كعادته، فصرح قائلا: "وأولى التأويلات التي ذكرتها بتأويل الآية قول من قال: عنى الله عز وجل بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} النصارى، وذلك أنهم هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس، وأعانوا بختنصر على ذلك, ومنعوا مؤمني بني إسرائيل من الصلاة فيه بعد منصرف بختنصر عنهم إلى بلاده" ؟! (3) .
ما بال ابن جرير يرجح هذا القول ويختاره وهو المؤرخ الحجة الحافظ؟ ألنا على الصعيد العلمي أن نحمل قوله على بختنصر الثاني دفاعا عنه وتحيزا إليه أم نسلم بالخطأ التاريخي يقع به أكابر العلماء وأوثق الحافظين؟
ولو استعرضنا نظائر هذه الأخطاء التاريخية التي حملت حملا على أسباب النزول, وأنطقت القرآن بما لم ينطق، لطال بنا الاستعراض، وامتد بنا التجوال, وإنما ننتهزها فرصة لنضع أيدينا على السر الكامن وراء هذه الأخطاء، فهو في نظرنا ظن أكثر العلماء أن لا بد لكل آية من سبب نزول حتى في وقائع الأمم الماضية التي دفنت معها أسبابها ونتائجها, وطويت في رموسها مقدماتها وعواقبها، فإن كان لزاما التماس سبب نزول لها فليكن متعلقا بالأحياء على عهد الرسول الكريم، سواء أكانوا من المؤمنين أم من المشركين أم من أهل الكتاب.
__________
(1) - ومن هنا رأى الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسير المنار 1/ 431 أنه يصح أن تكون الآية في الأمرين على التوزيع, فالذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه هم مشركو مكة والذين سعوا في خرابها هم مشركو الرومانيين, وفي قرن العملين إشارة إلى تساويهما في القبح!.
(2) - تفسير المنار 1/ 431.
(3) - تفسير الطبري 1/ 397. ومن العجيب أن ابن جرير يستدل على صحة ما ذكره بعبارة طويلة لا مجال لنقلها هنا، فيراجعها القارئ إن شاء 1/ 398.(1/32)
فبدلا من أن يقال في الآية التي نحن فيها: إن سبب نزولها دخول بختنصر أو طيطوس بيت المقدس لتخريبه، تلقى نظرة فاحصة على السياق القرآني قبلها فيلاحظ أنه كان خطابا لأهل الكتاب عامة ومن على شاكلتهم وأنه بالضرورة ما يبرح خطابا لهم ولأمثالهم, يستنكر كل حادثة تنتهك فيها حرمات المعابد سواء أوقعت في عهدهم أم في عهد أسلافهم، وسواء أصدرت عنهم أم عن غيرهم، وسواء أوقعت حقا أو سوف تقع أم يمكن أن تقع، فخطابهم بالآية لا يرمي إلى تعيين الأشخاص أو الأمكنة أو الأزمنة، وإنما يتناول وعيدا شديدا لكل من تحدثه نفسه بتخريب المعابد في أي زمان أو مكان!
وإيثار مثل هذا التأويل ينقذ المفسر من الخبط الأعمى في أسباب النزول، ويفرد في القرآن سورا وآيات نزلت ابتداء غير مبنية على سبب، وكان المنطق نفسه يقضي بأن تتنزل هكذا ابتداء من غير أسباب، أو كان المنطق يقضي بأن يكون لها سبب عام لا ينبغي أن يعد سببا حقيقيا: كقصة موسى التي تكررت في مواطن مختلفة من القرآن بصور شتى، فإنها نزلت ابتداء غير مبنية على أسباب، ومن أبى إلا أن يلتمس لها أسبابا ردها جميعا إلى سبب واحد عام هو تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - وتثبيت فؤاده في غمرة الشدائد التي كان يلقاها من قومه الجفاة العتاة، لكن الآيات التي صورت قصة موسى -وقد نزلت في غير زمن صاحبها- يقال: إنها نزلت لتسلية محمد - صلى الله عليه وسلم - لنزولها في زمانه، ولا يقال: إنها نزلت في موسى وقومه, لأنها تنزلت بعد إسدال الستار على تلك القصة بقرون وأجيال!.
وإذا غضضنا النظر عن بعض هذا الخلط غير المقصود الناشئ من مبالغة المفسرين بإدراج الواقائع الماضية في أسباب النزول, واجهنا عقبات أخرى في صيغ الروايات المتعلقة بهذه الأسباب، فليست عبارة الراوي الصحيحة نصا في بيان سبب النزول في جميع الأحوال، بل فيها النص الواضح, وفيها ما يحتمل السبب وسواه، فإذا صرح الراوي بلفظ السبب فقال: "سبب نزول هذه الآية كذا"، أو أتى بفاء تعقيبية داخلة على مادة نزول الآية بعد سرده حادثة ما أو ذكره سؤالا طرح على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "حدث كذا أو سئل عليه الصلاة والسلام عن كذا فنزلت آية كذا" فذلك نص واضح في السببية. وأما إذا اكتفى بقوله "نزلت هذه الآية في كذا" فإن العبارة تحتمل مع السببية شيئا آخر هو ما تضمنته الآية من الأحكام . (1)
وقال دروزة :
__________
(1) - انظر مباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح(1/33)
" إن هناك روايات كثيرة في أسباب النزول ومناسباته وقد حشرت في كثير من كتب التفسير التي كتبت في مختلف الأدوار لا تثبت على النقد والتمحيص طويلا ، سواء بسبب ما فيها من تعدد وتناقض ومغايرة أو من عدم الاتساق مع روح الآيات التي وردت فيها وسياقها بل ونصوصها أحيانا ، ومع آيات أخرى متصلة بموضوعها أو موضحة لها أو عاطفة عليها ، حتى أن الناقد البصير ليرى في كثير من هذه الروايات أثر ما كان من القرون الإسلامية الثلاثة الأولى من خلافات سياسية ومذهبية وعنصرية وفقهية وكلامية قوي البروز ، وحتى ليقع في نفسه أن كثيرا منها منحول أو مدسوس أو محرف عن سوء نية وقصد تشويش وتشويه ودعاية ونكاية وحجاج وتشهير ، أو قصد تأييد رأي على رأي ، وشيعة على شيعة.
والمتبادر أنه لما كان عهد التدوين الذي راجت فيه الرواية تلقف المدونون من الأفواه الغثّ والسمين والصحيح والفاسد والمعقول وغير المعقول والملفق والمنحول والمحرف فدونوه وتناقلوه ، وجعله المفسرون القديمون من عمد تفسيرهم ، بل كان وظلّ الركن الأقوى والأوسع في التفسير ، فكان هذا التساهل من جانب المدونين أولا والمفسرين المتقدمين ثانيا باعثا على تسلسل الدور وانتقال الروايات من عهد إلى عهد من دون تحفظ أو تمحيص إلا قليلا حتى صارت كأنها قضايا مسلّمة أو نصوص نقلية يجب الوقوف عندها والتقيد بها أو التوفيق بينها إلخ ، وأدى هذا إلى الوقوع في أخطاء وتشويشات ومفارقات كثيرة ، سواء كان في صدد السيرة النبوية وأحداثها أو ظروف ما قبل البعثة ، أو المفهومات والدلالات والأحكام القرآنية. ولقد كان هذا في أحيان كثيرة مستندا من مستندات أعداء العرب والإسلام المتعقبين للثغرات فيهم ، فتمسكوا بكثير من الروايات الواردة في التفسير مع ما هي عليه من وهن وتهافت فأساؤوا فهم القرآن وخلطوا فيه عن عمد أو غير عمد ، شأنهم في ذلك شأنهم في التمسك بكثير من الروايات الواردة عن السيرة النبوية والبيئة النبوية وظروفها وما بعدها من أحداث الحركة الإسلامية وظروفها وتاريخها. والأمثلة على ذلك كثيرة جدا " (1)
2- الأمثلة:
(أ) ما نزل بعد حادثة. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) صَعِدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِى « يَا بَنِى فِهْرٍ ، يَا بَنِى عَدِىٍّ » . لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَنْظُرَ مَا هُوَ ، فَجَاءَ
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 205)(1/34)
أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ « أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِى تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِىَّ » . قَالُوا نَعَمْ ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقًا . قَالَ « فَإِنِّى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » . فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ ( تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ) (1) .
(ب) ومن أمثلة ما نزل جواباً لسؤال سئل عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: {ويسألونك عَن الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِىّ لاَ يُجَلِيهَا لوقتها إِلاَّ هُوَ} [4] قيل نزلت في قريش وقيل في نفر من اليهود والأول أشبه لأن الآية مكية وكانوا يسألون عن وقت الساعة استبعاداً لوقوعها وتكذيباً بوجودها (2) .
فوائد معرفة سبب النزول :
لمعرفة سبب النزول فوائد كثيرة منها:
1- الاستعانة بسبب النزول على الوقوف على مرام الآيات ودفع الإِشكال عنها وإدراك سرها.
2- دفع توهم الحصر عما يفيد بظاهره الحصر.
3- معرفة الحكمة التي من أجلها شرع الحكم.
4- تسهيل الحفظ وتيسير الفهم وتثبيت الوحي في ذهن كل من يسمع الآية إذا عرف سببها.
معرفة اسم من نزلت فيه الآية، وتعين المبهم حتى لا يشتبه بغيره فيتهم البريء، ويبرأ المريب مثلاً (3)
ذلك بأننا من القرآن -إذا أردنا تدبره حقا- تلقاء شيء أسمى من "علم التفسير": فما تحل أقوال المفسرين كل عقدة, وما تزيح كل شبهة, ولا تفصل كل إجمال.
ونحن من القرآن أيضا إزاء شيء فوق اللغة وقواعدها وآدابها، فإن ظلال التعبير في القرآن، وإيحاءات المفردات في آياته، وألوان التصاوير في قصصه ولوحاته، لترتبط أوثق الارتباط بالوقائع الحية، والأحداث النواطق، والمشاهد الشواخص، كأن أبطالها ما انفكوا على مسرح الحياة يغدون ويروحون، فأنى للشروح اللغوية الجامدة والاصطلاحات البلاغية الجافة أن تستطلع في الوقائع يقين أخبارها، أو تستبطن من الأحداث خفي أسرارها، وهي أعيا من أن ترجع في الآذان أصداءها الحلوة العذاب؟
__________
(1) - صحيح البخارى(4770 ) -تب : خسر
(2) - تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/282) .
(3) - في رحاب القرآن د/ المحيسن(2/ 30- 36) . بتصرف.(1/35)
ونحن من القرآن -آخر الأمر- أمام شيء فوق التاريخ نفسه، فإن وقفنا على سبب النزول التاريخي لم نكن قد تقصينا كل شيء، فما أكذب التاريخ وما أكذب المؤرخين على لسانه! وكأين في التاريخ من فجوات ينبغي أن تملأ وثغرات لا بد أن تسد أما أسباب النزول -من وجهة النظر الدينية- فليس لنا فيها إلا أن نستوحي الواقع لا صورته, والإنسان لا شبيهه، والحق لا صداه، فهل من عجب إذا حرم العلماء المحققون الإقدام على تفسير الكتاب الله لمن جهل أسباب النزول؟ (1) وهل بالغ الواحدي حين قال: "لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها!" (2) .
وإن التعبير عن سبب النزول بـ"القصة" لينم عن ذوق رفيع، ويكاد يشي هنا بالغاية الفنية إلى جانب الغرض الديني النبيل: فما سبب النزول إلا قصة تستمد من الواقع عرضها وحلها، وعقدتها وحبكتها، وأشخاصها وأحداثها، وتجعل آيات القرآن تتلى في كل زمان ومكان بشغف وولوع، وتطرد السآمة عن جميع القارئين بما توالي عرضه من حكايات أمثالهم وأقاصيص أسلافهم، كأنها حكاياتهم هم إذ يرتلون آيات الله، أو أقاصيصهم هم ساعة يطربون لألحان السماء!.
ومن أجل هذا كان جهل الناس بأسباب النزول كثيرًا ما يوقعهم في اللبس والإبهام, فيفهمون الآيات على غير وجهها، ولا يصيبون الحكمة الإلهية من تنزيلها، كما حدث لمروان بن الحكم حين توهم أن قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ}( سورة آل عمران 188) وعيد للمؤمنين، فقال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون! فقال ابن عباس: وما لكم ولهذه! إنما دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - يهود، فسألهم عن شيء فتكموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم، ثم قرأ ابن عباس: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ} حتى قوله:
__________
(1) - أسباب النزول "للسيوطي" ص2
(2) - أسباب النزول "للواحدي" ص3. وقال ابن تيمية: "معرفة سبب النزول تعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب". وقال ابن دقيق العيد: "معرفة سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن" انظر الإتقان 1/ 48.
ويقارب العبارة الأخيرة قول أبي الفتح القشيري: "بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز، وهو أمر تحصل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا". انظر البرهان 1/ 22.(1/36)
{يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} (1) فلم يزل الإشكال إلا بمعرفة سبب النزول.
ولولا بيان سبب النزول لظل الناس إلى يومنا هذا يبيحون تناول المسكرات وشرب الخمور أخذا بظاهر قوله تعالى في سورة المائدة: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}( سورة المائدة 93) فقد حكي عن عثمان بن مظعون وعمرو بن معديكرب أنهما كانا يقولان: الخمر مباحة، ويحتجان بهذه الآية، وخفي عليهما سبب نزولها، فإنه يمنع من ذلك، وهو ما قاله الحسن وغيره: لما نزل تحريم الخمر قالوا: كيف بإخواننا الذين ماتوا وهي في بطونهم، وقد أخبرنا الله أنها رجس! فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} (2) .
ولولا بيان أسباب النزول لأباح الناس لأنفسهم التوجه في الصلاة إلى الناحية التي يرغبون، عملا بالمتبادر من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}( سورة البقرة 115). ولكن الذي يطلع على سبب نزول الآية يستنتج أنها عالجت حال نفر من المؤمنين صلوا مع النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة مظلمة فلم يدروا كيف القبلة، فصلى كل رجل منهم على حاله" (3) تبعا لاجتهاده، فلم يضع الله لأحد منهم عمله، وأثابه الرضى عن صلاته ولو لم يتجه إلى الكعبة، لأنه لم يكن له إلى معرفة القبلة سبيل في ظلام الليل البهيم!.
صيغة سبب النزول
تنقسم صيغة سبب النزول إلى قسمين:
(أ) الصيغة الصريحة: تكون صيغة سبب النزول نصاً صريحاً في السببية إذا قال الراوي: "سبب نزول هذه الآية كذا". ومثل هذه العبارة أن يذكر الراوي سؤالاً، أو حادثة، كأن يقول: (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كذا فنزلت الآية) أو: (حدث كذا فنزلت الآية). وقد لا يصرح بالإِنزال ،ولكن يفهم من قول الراوي بأن الآية أو الآيات نزلتَ بسبب هذا السؤال أو الحادثة.
(ب) الصيغة المحتملة: وتكون صيغة سبب النزول محتملة للسببية ،إذا قال الراِوي: "نزلت أو أنزلت هذه الآية في كذا " . فهذه العبارة ليست نصاً صريحاَ في السببية لأنها تحتمل السببية وتحتمل بيان المعنى، وما تضمنته الآية من الأحكام.
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب التفسير 6/ 40، تفسير ابن كثير 1/ 436. الإتقان 1/ 48 البرهان 1/ 27.
(2) - البرهان 1/ 28 "وقارن بأسباب النزول للواحدي 196، وتفسير ابن كثير 1/ 97, والإتقان 1/ 53".
(3) - أسباب النزول "للواحدي" ص25.(1/37)
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "قولهم نزلت هذه الآية في كذا يراد به تارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب كما تقول: عُني بهذه الآية كذا" (1) .
وقال الزركشي: "عُرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: (نزلت هذه الآية في كذا) فإنه يريد بذلك أن هذه الآية تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في نزولها" (2) .
وتكون صيغة سبب النزول محتملة إذا قال الراوي: "ما أحسب هذه الآية نزلت إلاّ في ذلك".
فإذا وردت روايتان أو أكثر، وكانت إحداهما نصاً صريحاً في السببية والأخرى ليست نصاً فيه، أخذنا ما هو نص صريح، وحملنا الأخرى على بيان المعنى.
ومثال ذلك: عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابرًا يَقُولُ كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ إِذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِى قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ فَنَزَلَتْ ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) (3)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ) قَالَ يَأْتِيهَا فِى . قال الحميدي : يعني في الفرج. أخرجه البخاري (4) ، أي إتيان النساء في أدبارهن (5)
فالمعتمد عليه في بيان السبب هو رواية (جابر رضي اللّه عنه) لكونها نصاً في السببية. أما رواية ابن عمر رضي اللّه عنهما فتحمل على بيان التفسير والمعنى (6)
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
قد تنزل الآية أو الآيات من القرآن الكريم لسبب خاص ولفظها عام فحينئذٍ يكون حكمهِا شاملاً لما نزلت بسببه، ولما تناوله لفظها لأن القرآن الكريم نزل تشريعاَ عاماً لكل الأمة، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب على الراجح ، في حالة إذا كان فرض المسألة في لفظ له عموم، أما إذا كانت الآية نزلت في معين ولا عموم للفظها فإنها تقصر عليه قطعاً.
مثال ذلك: آيات اللعان وهي قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) [النور : 6 - 9] } نزلت في هلال
__________
(1) - مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية (13/339) .
(2) - البرهان في علوم القرآن للزركشي (1/ 31- 32) .
(3) - صحيح مسلم (3608 )
(4) - صحيح البخارى(4527)
(5) - انظر كلام الحافظ في الفتح 8/ 190.
(6) - المدخل لدراسة القرآن- محمد أبو شهبة ص 144.(1/38)
بن أمية فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « الْبَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِى ظَهْرِكَ » . فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلاً يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ . فَجَعَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « الْبَيِّنَةَ وَإِلاَّ حَدٌّ فِى ظَهْرِكَ » فَقَالَ هِلاَلٌ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّى لَصَادِقٌ ، فَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِى مِنَ الْحَدِّ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ) فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ ( إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) فَانْصَرَفَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَجَاءَ هِلاَلٌ ، فَشَهِدَ ، وَالنَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ » . ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ وَقَّفُوهَا ، وَقَالُوا إِنَّهَا مُوجِبَةٌ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ ثُمَّ قَالَتْ لاَ أَفْضَحُ قَوْمِى سَائِرَ الْيَوْمِ ، فَمَضَتْ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ الأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ ، فَهْوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ » . فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لَوْلاَ مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِى وَلَهَا شَأْنٌ » (1) . .
فالآيات نزلت بسبب قذف هلال بن أمية امرأته بشريك بن السحماء ولكن حكمها شامل له ولغيره بدليل أن رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - حكم بها في عويمر العجلاني أيضاً، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ عُوَيْمِرًا أَتَى عَاصِمَ بْنَ عَدِىٍّ وَكَانَ سَيِّدَ بَنِى عَجْلاَنَ فَقَالَ كَيْفَ تَقُولُونَ فِى رَجُلٍ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً ، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ سَلْ لِى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ فَأَتَى عَاصِمٌ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَسَائِلَ ، فَسَأَلَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا ، قَالَ عُوَيْمِرٌ وَاللَّهِ لاَ أَنْتَهِى حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ فَجَاءَ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً ، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ فِيكَ وَفِى صَاحِبَتِكَ » . فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمُلاَعَنَةِ بِمَا سَمَّى اللَّهُ فِى كِتَابِهِ ، فَلاَعَنَهَا ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنْ حَبَسْتُهَا فَقَدْ ظَلَمْتُهَا ، فَطَلَّقَهَا ، فَكَانَتْ سُنَّةً لِمَنْ كَانَ بَعْدَهُمَا فِى الْمُتَلاَعِنَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « انْظُرُوا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمَ الأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَلاَ أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا إِلاَّ قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمِرَ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَلاَ أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا ، إِلاَّ قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا » . فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِى نَعَتَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ تَصْدِيقِ عُوَيْمِرٍ ، فَكَانَ بَعْدُ يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ (2)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى (4747) - الخدلج : ممتلئ الساقين - السابغ : العظيم
(2) - صحيح البخارى(4745 ) -الأسحم : الأسود - الوحرة : دويبة حمراء تلصق بالأرض(1/39)
رابعاً
أهم كتب التفسير وخصائصها
هناك كتب تفسير كثيرة ، فما من عصر خلا منها وسأذكر أهمها ، ولاسيما التي رجعت إليها، واعتمدت عليها .
?? تفسير الطبري 310 هجرية ، وهو للإمام المحدث والمؤرخ والمفسر والفقيه الطبري ، وهو تفسير بالمأثور ، حيث ينقل ما ورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما ورد عن الصحابة وعن التابعين ، ثم يرجح رأيا على رأي ، وفيه الصحيح والحسن والضعيف ، وفيه إسرائليات ، ولا يقوم بالحكم على الحديث صحة وضعفاً ، فيجب الانتباه أثناء نقل حديث منه .
قال في مقدمة تفسيره : "ونحن -في شرح تأويله، وبيان ما فيه من معانيه- منشئون إن شاء الله ذلك، كتابًا مستوعِبًا لكل ما بالناس إليه الحاجة من علمه، جامعًا، ومن سائر الكتب غيره في ذلك كافيًا. ومخبرون في كل ذلك بما انتهى إلينا من اتفاق الحجة فيما اتفقت عليه منه واختلافها فيما اختلفت فيه منهُ. ومُبيِّنو عِلَل كل مذهب من مذاهبهم، ومُوَضِّحو الصحيح لدينا من ذلك، بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك، وأخصر ما أمكن من الاختصار فيه.
وكان أبو جعفر رضي الله عنه يقول: "إِنّي لأعجبُ مَمنْ قرأ القرآن ولم يعلَم تأويلَه، كيف يلتذُّ بقراءته؟". (1)
?? تفسير ابن أبي حاتم (327 هـ)، وهو تفسير بالمأثور ، مسند ، وفيه الصحيح والحسن والضعيف ، وبعض الإسرائليات ، وهو لا يحكم على الأحاديث ، ومثله تفسير عبد الرزاق الصنعاني (211 هـ)
? الزمخشري (538 هـ) وهو تفسير قيم يركز على اللغة وبيانها ، وهو نوعية السورة والخلاف في كونها مكية أم مدنية ، ويذكر القراءات ، ولا يخلو من التفسير بالمأثور ، ويذكر بعض المسائل الفقهية أحيانًا، ويركز على اللغة و النحو والصرف والبلاغة ، ولكنه يحتوي على آراء اعتزالية ، ويذكر بعض الأحديث الضعيفة ، والواهية والإشرائليات ، وقد ردَّ عليه كثيرون ، قال في مقدمة كتابه : "لا يتصدّى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، و لا يغوص على شي ء من تلك الحقائق إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، و هما علم المعاني و علم البيان و تمهل في ارتيادهما آونة، وتعب في التنقير عنهما أزمنة، و بعثته على تتبع
__________
(1) - تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة - (1 / 6)(1/40)
مظانهما همة في معرفة لطائف حجة اللَّه، وحرص على استيضاح معجزة رسول اللَّه بعد أن يكون آخذاً من سائر العلوم بحظ، جامعا بين أمرين تحقيق و حفظ كثير المطالعات، طويل المراجعات قد رجع زمانا ورجع إليه، وردّ وردّ عليه فارسا في علم الإعراب، مقدّما في حملة الكتاب وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقادها يقظان النفس درّاكا للمحة وإن لطف ولقد رأيت إخواننا في الدين من أفاضل الفئة الناجية العدلية، الجامعين بين علم العربية والأصول الدينية، كلما رجعوا إلىّ في تفسير آية فأبرزت لهم بعض الحقائق من الحجب، أفاضوا في الاستحسان و التعجب و استطيروا شوقا إلى مصنف يضم أطرافا من ذلك حتى اجتمعوا إلىّ مقترحين أن أملى عليهم (الكشف عن حقائق التنزيل، وعيون الأقاويل في وجوه التأويل) فاستعفيت، فأبوا إلا المراجعة والاستشفاع بعظماء الدين وعلماء العدل و التوحيد و الذي حدانى على الاستعفاء على علمى أنهم طلبوا ما الإجابة إليه علىّ واجبة لأنّ الخوض فيه كفرض العين ما أرى عليه الزمان من رثاثة أحواله وركاكة رجاله وتقاصر هممهم عن أدنى عدد هذا العلم فضلا أن تترقى إلى الكلام المؤسس على علمى المعاني والبيان "
? تفسير فخر الدين الرازي (606 هـ) وهو تفسير مطول ، وقيم ، وفيه كثير من المسائل العقلية والعقدية والفقهية والتفريعات واللطائف ويطيل النفس في ذلك، ويذكر أسباب النزول ، وهو يدافع عن عصمة الأنبياء بقوة ، ولكنه لا يخرج الأحاديث التي يذكرها في الأغلب ، وفيه الصحيح والحسن والضعيف ـ ولا يخلو من بعض الآراء الشاذة.
?? البحر المحيط لأبي حيان (745 هـ) ، وهو يركز على اللغة والبيان ، وهو تفسير مطول ، وهو يذكر مناسبة السور، والقراءات ، والنحو والصؤف ، وفيه أحاديث غير مخرجة ، فيها الصحيح والحسن والضعيف ، ولا يخلو من الإسرائليات .
?? تفسير العلامة ابن كثير (774 هـ) ، وهو تفسير بالمأثور ،وهو يقوم بتخريج الأحاديث والحكم عليها غالبا ، ويذكر أسباب النزول ،وينتقد الطبري أحياناً ، وفيه الصحيح والحسن والضعيف ، والواهي ، وبعض الإسرائليات التي سكت عليها ، وقد خدمه كثيرون في عصرنا اختصاراً وتحقيقاً .
وفي مقدة تحقيق هذا التفسير قالوا عنه : " يعد تفسير الحافظ ابن كثير، رحمه الله، من الكتب التي كتب الله لها القبول والانتشار، فلا تكاد تخلو منه اليوم مكتبة سواء كانت شخصية أو عامة.(1/41)
وقد نهج الحافظ ابن كثير فيه منهجًا علميًا أصيلا وساقه بعبارة فصيحة وجمل رشيقة، وتتجلى لنا أهمية تفسير الحافظ ابن كثير، رحمه الله، في النقاط التالية:
1-ذكر الحديث بسنده.
2-حكمه على الحديث في الغالب.
3-ترجيح ما يرى أنه الحق، دون التعصب لرأي أو تقليد بغير دليل.
4-عدم الاعتماد على القصص الإسرائيلية التي لم تثبت في كتاب الله ولا في صحيح سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وربما ذكرها وسكت عليها، وهو قليل.
5-تفسيره ما يتعلق بالأسماء والصفات على طريقة سلف الأمة، رحمهم الله، من غير تحريف ولا تأويل ولا تشبيه ولا تعطيل.
6-استيعاب الأحاديث التي تتعلق بالآية، فقد استوعب، رحمه الله، الأحاديث الواردة في عذاب القبر ونعيمه عند قوله تعالى: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ }
وكذا استوعب أحاديث الإسراء والمعراج عند قوله تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } وكذا الأحاديث الواردة في الصلاة على النبي عند قول الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } وكذا الأحاديث الواردة في فضل أهل البيت عند تفسير قوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } وغير هذا كثير (1) .
وقد قال السيوطي في ترجمة الحافظ ابن كثير: "له التفسير الذي لم يؤلف على نمط مثله".
وقال الشوكاني: "وله تصانيف، منها التفسير المشهور وهو في مجلدات، وقد جمع فيه فأوعى، ونقل المذاهب والأخبار والآثار، وتكلم بأحسن كلام وأنفسه، وهو من أحسن التفاسير إن لم يكن أحسنها". (1)
?? الدرر للبقاعي(برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر البقاع) ، وهو تفسير مطول يركز على تناسب الآيات والسور، وهو أهم تفسير في هذا الجانب ، ولكن الأحاديث التي فيه بعضها غير مخرج ، ولا يخلو من الإسرائيليات على ندرتها .
??
__________
(1) -تفسير ابن كثير - دار طيبة - (1 / 18)(1/42)
الدر المنثور للسيوطي (911 هـ) وهو أهم وأجمع كتاب في التفسير بالمأثور ، وفيه الصحيح والحسن والضعيف والواهي والمنكر ، بل والموضوع أحياناً ن والإسرائيليات ، وغالبه لا ينبه عليه ، وإن قام بتخريجه فلا يعوَّلُ على تخريجه كثيراً لتساهله في ذلك كما هو معلوم .
?? فتج القدير للشوكاني (1255 هـ) وهو تفسير بالمأثور والمعقول ، ولكنه في الغالب لم يقم بالحكم على الأحاديث ، ففيه الصحيح والحسن والضعيف ، وبعض الإسرائليات ، ولا يخلو من بعض الآراء الشاذة .
??? تفسير الألوسي (1270 هـ) وهو تفسير مطول ،وشامل ، وهو يتكلم عن اللغة والبيان والقراءات ، والمعاني والفقه والأصول ، وبعض التفسير الإشاري ، وفيه كثير من المسائل المحررة ،،ولكن الأحاديث التي فيه غير مخرجة ولا يخلومن الإسرائيليات .
??? تفسير القاسمي (1914 م) وهو تفسير قيِّمٌ جدا ، قد حوى درر التفسير ، وفيه كثير من الفوائد ، وتندر فيه الإسرائيليات ، وقد بدأه بمقدمة قيمة حول أصول التفسير ، ويذكر الأحاديث ويعزوها لمصادرها، ويذكر أسباب النزول في الغالب ، وهو يسهب في بعض الأمكنة ، وفي بعضها الآخر يوجز ، ويكثير كم النقل عن ابن تيمية وابن القيم ، والقاشاني، وشيخه محمد عبده .
??? تفسير المراغي ( أحمد مصطفى المراغي ) وهو تفسير مطول وقيم ،
قال في مقدمة كتابه : "من جرّاء هذا رأينا مسيس الحاجة إلى وضع تفسير للكتاب العزيز يشاكل حاجة الناس فى عصرنا فى أسلوبه وطريق رصفه ووضعه ، ويكون دانى القطوف ، سهل المأخذ يحوى ما تطمئن إليه النفس من تحقيق علمى تدعمه الحجة والبرهان ، وتؤيده التجربة والاختبار ، ويضم إلى آراء مؤلفه آراء أهل الذكر من الباحثين فى مختلف الفنون التي ألمع إليها القرآن على نحو ما أثبته العلم فى عصرنا ، وتركنا الروايات التي أثبتت فى كتب التفسير ، وهى بعيدة عن وجه الحق مجانفة للصواب" (1)
وهو يقدم للسورة ويبين هل هي مكية أم مدنية وأهم الأفكار التي تطرقت لها بشكل مقتضب ، ثم يقسمها لوحدات دون عنونة لها ، ويذكر أسباب النزول ،ثم يذكر معاني المفردات ، ثم يبين معنى الآيات بشكل عام ، ثم توضيح معنى الآيات بشكل مفصل ، ويذكر تناسب السور ،
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (1 / 4)(1/43)
وتناسب الآيات أحياناً ، ثم يبين أهم مقاصد السورة بشكل مختصر في آخرها، والأحاديث فيه قليلة ، وهو يرد على الإسرائيليات ، وهو ينحى منحى مدرسة الشيخ محمد عبده رحمه الله ، فلا يخلو من انتقادات من هذه الناحية .
? ? التفسير الواضح ( للدكتور محمد محمود حجازى) وهو تفسير مختصر ، ولكنه دقيق ، حيث يقدم للسورة مبينا أهم الأفكار التي تدور عليها ، ثم يقسمه لوحدات ، ثم يذكر غريب الآيات ، ثم معنى آيات الوحدة كلها معاً ،وتندر فيه الأحاديث ، ويذكر أسباب النزول في الغالب ، ويرد على الإسرائيليات . وهو مطبوع في ثلاثة مجلدات .
? ? التفسير الحديث للعلامة محمد عزت دروزة (1984) وهو مرتب حسب تاريخ النزول المكي ثم المدني ، وهو أهم تفسير من هذه الناحية ، وقد بدأه بمقدمة تعتبر كتاباً مستقلا ، وهي تحتوي على أربعة فصول الفصل الأول القرآن وأسلوبه ووحيه وأثره، الفصل الثاني جمع القرآن وتدوينه وقراءاته ورسم المصحف وتنظيماته،الفصل الثالث الخطة المثلى لفهم القرآن وتفسيره ،الفصل الرابع نظريات وتعليقات على كتب المفسرين ومناهجهم ،خاتمة ، وقد بدأه بسورة الفاتحة وانتهى بسورة النصر ، وطريقته فهو يذكر السورة ويبين هل هي مكية أم مدنية ويبين الخلاف في ذلك ، ويذكر أهم الموضوعات التي اشتملت عليها السورة ، ثم يقسم الآيات لوحدات موضوعية ، ثم يذكر الكلمات الغريبة ، ثم يبين معنى الآيات بشكل مختصر ودقيق ، ثم يعلق على بعض موضوعات الآيات إذا ذكرت أول مرة ، ويسترسل في ذلك ، ويربط القرآن بالقرآن ، ويذكر سبب النزول ، ويؤيده التفسير بأحاديث نبوية تؤيد مضمون ما ذهب إليه ، ويذكر مصدرها ، وكثيرا ما يرد على أوهام وخرافات وأخطاء وقع بها المفسرون القدامى . وهو يتعرض للأحكام الشرعية التي تدلُّ عليها الآيات ،ولا يخلو من بعض التساهل في بعض الأحكام الشرعية ، وقد عرض في تفسيره هذا للسيرة النبوية وللإسلام معاً بشكل واضح وجليٍّ .
قال رحمه الله في مقدمة تفسيره : " فإننا بعد أن كتبنا كتبنا الثلاثة وهي : «عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - » ، و«سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من القرآن» ، و«الدستور القرآني في شؤون الحياة» انبثقت فينا فكرة كتابة تفسير شامل ، بقصد عرض القرآن بكامله بعد أن عرضناه فصولا حسب موضوعاته في الكتب الثلاثة ، نظهر فيه حكمة التنزيل ومبادئ القرآن ومتناولاته عامة بأسلوب وترتيب حديثين ، متجاوبين مع الرغبة الشديدة الملموسة عند كثير من شبابنا الذين يتذمرون من(1/44)
الأسلوب التقليدي ويعرضون عنه ، مما أدى إلى انبتات الصلة بينهم وبين كتاب دينهم المقدس ، ويدعو إلى الأسف والقلق .
ولقد اجتهدنا في السير في التفسير وفق المنهج الذي رأيناه خير سبيل إلى تفسير القرآن الكريم وفهمه ، على ما شرحناه في القرآن المجيد وهذا هو :
1 - تجزئة المجموعات والفصول إلى جمل تامة ، يصح الوقوف عندها من حيث المعنى والنظم والسياق. وقد تكون الجملة آية واحدة أو آيات قليلة أو سلسلة طويلة من الآيات.
2 - شرح الكلمات والتعابير الغريبة وغير الدارجة كثيرا ، بإيجاز ودون تعمّق لغوي ونحوي وبلاغي ، إذا لم تكن هناك ضرورة ماسة.
3 - شرح مدلول الجملة شرحا إجماليا ، حسب المقتضى المتبادر بأداء بياني واضح ، ودون تعمق كذلك في الشروح اللغوية والنظمية. مع الاستغناء عن هذا الشرح والاكتفاء بعرض الهدف والمدلول ، إذا كانت عبارة الجملة واضحة نظما ولغة.
4 - إشارة موجزة إلى ما روي في مناسبة نزول الآيات أو في صددها ، وما قيل في مدلولها وأحكامها ، وإيراد ما يقتضي إيراده من الروايات والأقوال ، والتعليق على ما يقتضي التعليق عليه منها بإيجاز.
5 - تجلية ما تحتويه الجملة من أحكام ومبادئ وأهداف وتلقينات وتوجيهات وحكم تشريعية وأخلاقية واجتماعية وروحية ، وملاحظة مقتضيات تطور الحياة والمفاهيم البشرية. وهذه نقطة أساسية وجوهرية في تفسيرنا وهي كذلك في تفسير القرآن والدعوة القرآنية كما هو المتبادر وقد اهتممنا لها اهتماما عظيما.
6 - تجلية ما تحتويه الجملة من صور ومشاهد عن السيرة النبوية والبيئة النبوية ، لأن هذا يساعد على تفهم ظروف الدعوة وسيرها وأطوارها ، وجلاء جوّ نزول القرآن الذي ينجلى به كثير من المقاصد القرآنية.
7 - التنبيه على الجمل والفصول الوسائلية والتدعيمية « نقصد بالجمل والفصول الوسائلية والتدعيمية ما أريد به تدعيم المبادئ القرآنية المحكمة مثل القصص ومشاهد الحياة الأخروية والجن والملائكة وبدء الخلق والتكوين ومشاهد الكون ونواميسه والمواقف الجدلية والحجاجية والترغيب والترهيب والوعد والوعيد والأمثال والتذكير » ، وما يكون فيها من مقاصد أسلوبية كالتعقيب والتعليل والتطمين والتثبيت والتدعيم والترغيب والترهيب والتقريب والتمثيل(1/45)
والتنديد والتذكير والتنويه ، مع إبقاء ذلك ضمن النطاق الذي جاء من أجله وعدم التطويل فيه. والتنبيه بإيجاز إلى ما ورد في صدده إذا اقتضى السياق بما لا يخرج به عن ذلك النطاق.
8 - الاهتمام لبيان ما بين آيات وفصول السور من ترابط. وعطف الجمل القرآنية على بعضها سياقا أو موضوعا ، كلما كان ذلك مفهوم الدلالة ، لتجلية النظم القرآني والترابط الموضوعي فيه. لأن هناك من يتوهم أن آيات السور وفصولها مجموعة إلى بعضها بدون ارتباط وانسجام ، في حين أن إمعاننا فيها جعلنا على يقين تام بأن أكثرها مترابط ومنسجم.
9 - الاستعانة بالألفاظ والتراكيب والجمل القرآنية في صدد التفسير والشرح والسياق والتأويل والدلالات والهدف والتدعيم والصور والمشاهد ، كلما كان ذلك ممكنا. وهذا ممكن في الأعمّ الأغلب حيث يوجد كثير من الآيات مطلقة في مكان ، مقيّدة في مكان آخر ، وعامة في مكان مخصصة في مكان آخر ، كما يوجد كثير من الجمل المختلفة في الألفاظ المتفقة في المعاني والمقاصد. ثم بعد ذلك بالروايات إذا ما كانت متسقة مع المفهوم والسياق ثم بأقوال المفسرين إذا كانت كذلك.
10 - العطف على ما جاء في كتاب «القرآن المجيد» من بحوث حين تفسير الجملة ومقاصدها تفاديا من التكرار والتطويل.
11 - عرض المعاني بأسلوب قريب المأخذ سهل التناول والاستساغة ، واجتناب الألفاظ الحوشية والخشنة والغريبة والعويصة.
12 - شرح الكلمات والمدلولات والموضوعات المهمة المتكررة شرحا وافيا وخاليا من الحشو عند أول مرة ترد فيها ، والعطف على الشرح الأول في المرات التالية دون تكرار شرحها في مواطن تكررها.
وقد رأينا بالإضافة إلى هذا من المفيد وضع مقدمة أو تعريف موجز للسور قبل البدء بتفسيرها ، يتضمن وصفها ومحتوياتها وأهمّ ما امتازت به ، وما يتبادر من فحواها من صحة ترتيبها في النزول وفي المصحف ، وما في السور المكية من آيات مدنية ، وفي السور المدنية من آيات مكية حسب الروايات ، والتعليق على ذلك حسب المقتضى. وكذلك وضع عناوين للموضوعات والتعليقات الهامة التي تناولناها بالبحث والشرح والبيان ، ليسهل على من ينظر في التفسير مراجعة ما يريد منها.
ولقد رأينا أن نجعل ترتيب التفسير وفق ترتيب نزول السورة ، بحيث تكون أولى السور المفسرة الفاتحة ثم العلق ثم القلم ثم المزّمل إلى أن تنتهي السور المكّية ثم سورة البقرة فسورة(1/46)
الأنفال إلى أن تنتهي السور المدنية لأننا رأينا هذا يتّسق مع المنهج الذي اعتقدنا أنه الأفضل لفهم القرآن وخدمته. إذ بذلك يمكن متابعة السيرة النبوية زمنا بعد زمن ، كما يمكن متابعة أطوار التنزيل ومراحله بشكل أوضح وأدقّ ، وبهذا وذاك يندمج القارئ في جوّ نزول القرآن وجوّ ظروفه ومناسباته ومداه ، ومفهوماته وتتجلى له حكمة التنزيل." (1)
??? التفسير القرآني بالقرآن ، للدكتور عبد الكريم الخطيب ، وهو فيلسوف حقًّا ، وتفسيره هذا تفسير كبير ، قال في مقدمة كتابه هذا : " ولا يستقيم هذا القول ، الذي نقوله فى القرآن ـ بأنه مصدر التشريع الإسلامى ـ إلّا بفهم سليم صحيح لكتاب اللّه ، ولا يكون هذا الفهم السليم الصحيح إلا عن طول تأمل وتدبر لكتاب اللّه ، وتذوق لأساليب بيانه ، ووقوف على بعض أسراره،وبهذا الفهم لكتاب اللّه ، يتحقق لنا أمران :أولهما : اتصالنا بكتاب اللّه اتصالا وثيقا ، قائما على معرفة به ، وتذوق لجنى طعومه الطيبة ، وهذا مما يجعل لتلاوتنا للقرآن ، أو استماعنا لتلاوته أثرا فى نفوسنا ، ووقعا على قلوبنا ، وتجاوبا مع آدابه ، واستجابة لنداءته .. فيما يدعو إليه ، من أمر بالمعروف ، ونهى عن المنكر! وثانيهما : تصور مسائل الدين تصورا واضحا محددا ، بلا ذيول ، ولا معلقات ..وبهذا يعرف المسلم الحكم قاطعا ، فيما أحل اللّه ، وفيما حرم ، فيكون على بينة من أمره ، فيما يأخذ أو يدع من أمر دينه! ومن أجل هذا كانت صحبتنا هذه لكتاب اللّه ، على هذا الوجه ، الذي لا ننظر فيه إلى غير كتاب اللّه ، وإلى تدبر آياته ، بعيدا عن طنين المقولات الكثيرة التي جاءت إلى القرآن من كل صوب ، وكادت تخفت صوته ، وتغيم على الأضواء السماوية المنبعثة منه! إننا فى صحبتنا هذه للقرآن ، لا نقيم نظرنا على غير كلماته وآياته ، ولا نخط على هذه الصفحات غير ما يسمح لنا به النظر فى كلماته وآياته. إننا لا نفسر القرآن بالمعنى المعروف للتفسير ، فى هذه الصحبة التي نصحب فيها كتاب اللّه .. وإنما نحن نرتل آيات اللّه ترتيلا .. آية آية ، أو آيات آيات .. ثم نقف لحظات نلتقط فيها أنفاسنا المبهورة ، لما تطالعنا به الآية أو الآيات ، من عجب ودهش وروعة ، ثم نمسك القلم ، لنمسك به على الورق بعض ما وقع فى مشاعرنا من صور العجب والدهش والروعة .. وإنها لصور باهتة بالنسبة للواقع الذي حملته تلك المشاعر .. فما أبعد الفرق بين الشعور المشتمل علينا ونحن بين يدى كلمات اللّه ، وبين الكلمة التي تنقل هذا الشعور!! ولكنها ـ على أي حال ـ معلم من معالم الطريق إلى كتاب
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 5)(1/47)
اللّه ، يمكن أن يجد فيه السالك نورا ، ويزداد به المهتدى هدى .. « وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ » « وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ».. " (1)
وهويبدأ السورة ببيان هل هي مكية أم مدنية ، ويذكر عدد آياتها ،وعدد كلماتها وعدد حروفها ،كما يذكر أسماءها ، ضم بعد ذلك يذكر الآيات آية آية أو أكثر ، ويذكر تفسير الآيات ويربطها بالآيات التي تشبهها ثم يتوسع في شرحها وكثيرا ما يربطها بالواقع ، ويذكر مناسبة السورة ، ويذكر مناسبة الآيات أحيانً ، ويذكر أحياناً سبب النزول ، وتقل فيه الآثار ، ويرد على كثير من الخرافات والإسرائيليات ، ويدافع عن الإسلام بقوة ، ولا يخلو من لفتات لغوية وبلاغية ، وهو ينحى منحى المدرسة العقلية ، ومن ثم يميل للتأويل ، ويرد بعض أخبار الآحاد التي تعارض القرآن حسب وجهة نظره كسحر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبعض أخبار المعراج
??? التفسير الوسيط للقرآن الكريم د. محمد سيد طنطاوى ( شيخ الأزهر ) ، وهو تفسير مطول ، بقي خمسة عشر سنة في تأليفه،وجاء في مقدمته :
"وقد أودع - تعالى - في هذا الكتاب من العقائد السليمة ، والعبادات القويمة ، والأحكام الجليلة ، والآداب الفاضلة ، والعظات البليغة ، والتوجيهات الحكيمة ... ما به قوام الملة الكاملة ، والأمة الفاضلة ، والجماعة الراشدة ، والفرد السليم في عقيدته وسلوكه وفي كل شئونه.
فكان هذا الكتاب أفضل الكتب السماوية ، وأوفاها بحاجة البشرية ، وأجمعها للخير ، وأبقاها على الدهر ، وأعمها وأتمها وأصحها في هدايته الناس إلى ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم.
وقال : هذه أهم المقاصد والحكم التي من أجلها أنزل اللّه - تعالى - القرآن على نبيه - صلى الله عليه وسلم - : أن يكون هداية للناس ، وأن يكون معجزة خالدة باقية شاهدة بصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - : فيما يبلغه عن ربه ، وأن يتقرب الناس بقراءته والعمل به إلى خالقهم - عز وجل - ولقد تكفل اللّه - تعالى - بحفظ هذا القرآن ، وصانه من التحريف والتبديل ، والتغيير والمعارضة. قال - تعالى - : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ
فتفسير القرآن هو المفتاح الذي يكشف عن تلك الهدايات السامية ، والتوجيهات النافعة ، والعظات الشافية والكنوز الثمينة التي احتواها هذا الكتاب الكريم.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 11)(1/48)
وبدون تفسير القرآن ، تفسيرا علميا سليما مستنيرا لا يمكن الوصول إلى ما اشتمل عليه هذا الكتاب من هدايات وتوجيهات ، مهما قرأه القارئون وردد ألفاظه المرددون.
ولقد انتفعت كثيرا بما كتبه الكاتبون عن كتاب اللّه - تعالى - ، وها أنذا - أخى القارئ - أقدم لك تفسيرا وسيطا لسورتى الفاتحة والبقرة ، وقد بذلت فيه أقصى جهدي ليكون تفسيرا علميا محققا ، محررا من الأقوال الضعيفة ، والشبه الباطلة ، والمعاني السقيمة ..
وستلاحظ خلال قراءتك له أننى كثيرا ما أبدأ بشرح الألفاظ القرآنية شرحا لغويا مناسبا ثم أبين المراد منها - إذا كان الأمر يقتضى ذلك - .
ثم أذكر سبب النزول للآية أو الآيات - إذا وجد وكان مقبولا - ثم أذكر المعنى الإجمالى للآية أو الجملة ، عارضا ما اشتملت عليه من وجوه البلاغه والبيان ، والعظات والآداب والأحكام ... ، مدعما ذلك بما يؤيد المعنى من آيات أخرى ، ومن الأحاديث النبوية ، ومن أقوال السلف الصالح.
وقد تجنبت التوسع في وجوه الإعراب ، واكتفيت بالرأى أو الآراء الراجحة إذا تعددت الأقوال ...
وذلك لأننى توخيت فيما كتبت إبراز ما اشتمل عليه القرآن الكريم من هدايات جامعة ، وأحكام سامية ، وتشريعات جليلة ، وآداب فاضلة ، وعظات بليغة ، وأخبار صادقة ، وتوجيهات نافعة ، وأساليب بليغة ، وألفاظ فصيحة ... (1)
??? في ظلال القرآن للشهيد سيد قطب رحمه الله (1966 م) قال عنه في مقدمته :
"الحياة في ظلال القرآن نعمة . نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها . نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه.
والحمد لله . . لقد منَّ علي بالحياة في ظلال القرآن فترة من الزمان ، ذقت فيها من نعمته ما لم أذق قط في حياتي . ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه
لقد عشت أسمع الله - سبحانه - يتحدث إلي بهذا القرآن . . أنا العبد القليل الصغير . . أي تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل ؟ أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل ؟ أي مقام كريم يتفضل به على الإنسان خالقه الكريم ؟
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم لطنطاوي - (1 / 5)(1/49)
وعشت - في ظلال القرآن - أنظر من علو إلى الجاهلية التي تموج في الأرض ، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة . . أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال ، وتصورات الأطفال ، واهتمامات الأطفال . . كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال ، ومحاولات الأطفال . ولثغة الأطفال . . وأعجب . . ما بال هذا الناس ؟! ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة ، ولا يسمعون النداء العلوي الجليل . النداء الذي يرفع العمر ويباركه ويزكيه ؟
عشت أتملى - في ظلال القرآن - ذلك التصور الكامل الشامل الرفيع النظيف للوجود . . لغاية الوجود كله ، وغاية الوجود الإنساني . . وأقيس إليه تصورات الجاهلية التي تعيش فيها البشرية ، في شرق وغرب ، وفي شمال وجنوب . . وأسأل . . كيف تعيش البشرية في المستنقع الآسن ، وفي الدرك الهابط ، وفي الظلام البهيم وعندها ذلك المرتع الزكي ، وذلك المرتقى العالي ، وذلك النور الوضيء ؟
وعشت - في ظلال القرآن - أحس التناسق الجميل بين حركة الإنسان كما يريدها الله ، وحركة هذا الكون الذي أبدعه الله . . ثم أنظر . . فأرى التخبط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن السنن الكونية ، والتصادم بين التعاليم الفاسدة الشريرة التي تملى عليها وبين فطرتها التي فطرها الله عليها . وأقول في نفسي:أي شيطان لئيم هذا الذي يقود خطاها إلى هذا الجحيم ؟ يا حسرة على العباد !!!
وعشت - في ظلال القرآن - أرى الوجود أكبر بكثير من ظاهره المشهود . . أكبر في حقيقته ، وأكبر في تعدد جوانبه . . إنه عالم الغيب والشهادة لا عالم الشهادة وحده . وإنه الدنيا والآخرة ، لا هذه الدنيا وحدها . . والنشأة الإنسانية ممتدة في شعاب هذا المدى المتطاول كله إنما هو قسط من ذلك النصيب . وما يفوته هنا من الجزاء لا يفوته هناك . فلا ظلم ولا بخس ولا ضياع . على أن المرحلة التي يقطعها على ظهر هذا الكوكب إنما هي رحلة في كون حي مأنوس ، وعالم صديق ودود . كون ذي روح تتلقى وتستجيب ، وتتجه إلى الخالق الواحد الذي تتجه إليه روح المؤمن في خشوع: ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال . . تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ، وإن من شيء إلا يسبح بحمده . . أي راحة ، وأي سعة وأي أنس ، وأي ثقة يفيضها على القلب هذا التصور الشامل الكامل الفسيح الصحيح ؟وعشت - في ظلال القرآن - أرى الإنسان أكرم بكثير من كل تقدير عرفته البشرية من قبل(1/50)
للإنسان ومن بعد . . إنه إنسان بنفخة من روح الله: فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين . . وهو بهذه النفخة مستخلف في الأرض: وإذ قال ربك للملائكة:إني جاعل في الأرض خليفة . . ومسخر له كل ما في الأرض: وسخر لكم ما في الأرض جميعا . . ولأن الإنسان بهذا القدر من الكرامة والسمو جعل الله الآصرة التي يتجمع عليها البشر هي الآصرة المستمدة من النفخة الإلهية الكريمة . جعلها آصرة العقيدة في الله . . فعقيدة المؤمن هي وطنه ، وهي قومه ، وهي أهله . . ومن ثم يتجمع البشر عليها وحدها ، لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج ! . .
والمؤمن ذو نسب عريق ، ضارب في شعاب الزمان . إنه واحد من ذلك الموكب الكريم ، الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم:نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، ويعقوب ويوسف ، وموسى وعيسى ، ومحمد . . عليهم الصلاة والسلام . . وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون . .
هذا الموكب الكريم ، الممتد في شعاب الزمان من قديم ، يواجه - كما يتجلى في ظلال القرآن - مواقف متشابهة ، وأزمات متشابهة ، وتجارب متشابهة على تطاول العصور وكر الدهور ، وتغير المكان ، وتعدد الأقوام . يواجه الضلال والعمى والطغيان والهوى ، والاضطهاد والبغي ، والتهديد والتشريد . ولكنه يمضي في طريقه ثابت الخطو ، مطمئن الضمير ، واثقا من نصر الله ، متعلقا بالرجاء فيه ، متوقعا في كل لحظة وعد الله الصادق الأكيد: وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا . فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ، ولنسكننكم الأرض من بعدهم . ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد . . موقف واحد وتجربة واحدة . وتهديد واحد . ويقين واحد . ووعد واحد للموكب الكريم . . وعاقبة واحدة ينتظرها المؤمنون في نهاية المطاف . وهم يتلقون الاضطهاد والتهديد والوعيد . .
وفي ظلال القرآن تعلمت أنه لا مكان في هذا الوجود للمصادفة العمياء ، ولا للفلتة العارضة: إنا كل شيء خلقناه بقدر . . وخلق كل شيء فقدره تقديرا . . وكل أمر لحكمة . ولكن حكمة الغيب العميقة قد لا تتكشف للنظرة الإنسانية القصيرة: فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل
الله فيه خيرا كثيرا . . وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم . والله يعلم وأنتم لا تعلمون . . والأسباب التي تعارف عليها الناس قد تتبعها آثارها وقد لا تتبعها ، والمقدمات التي يراها الناس حتمية قد تعقبها نتائجها وقد لا تعقبها . ذلك أنه ليست الأسباب والمقدمات هي التي تنشئ الآثار والنتائج ، وإنما هي الإرادة الطليقة التي تنشئ(1/51)
الآثار والنتائج كما تنشئ الأسباب والمقدمات سواء: لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا . . وما تشاءون إلا أن يشاء الله . . والمؤمن يأخذ بالأسباب لأنه مأمور بالأخذ بها . والله هو الذي يقدر آثارها ونتائجها . . والاطمئنان إلى رحمة الله وعدله وإلى حكمته وعلمه هو وحده الملاذ الأمين ، والنجوة من الهواجس والوساوس: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا ، والله واسع عليم . .
ومن ثم عشت - في ظلال القرآن - هادئ النفس ، مطمئن السريرة ، قرير الضمير . . عشت أرى يد الله في كل حادث وفي كل أمر . عشت في كنف الله وفي رعايته . عشت أستشعر إيجابية صفاته تعالى وفاعليتها . . أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ؟ . . وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير . . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون . . واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه . . فعال لما يريد . . ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه . إن الله بالغ أمره . . ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها . . أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه . . ومن يهن الله فما له من مكرم . . ومن يضلل الله فما له من هاد . . إن الوجود ليس متروكا لقوانين آلية صماء عمياء . فهناك دائما وراء السنن الإرادة المدبرة ، والمشيئة المطلقة . . والله يخلق ما يشاء ويختار . كذلك تعلمت أن يد الله تعمل . ولكنها تعمل بطريقتها الخاصة ؛ وأنه ليس لنا أن نستعجلها ؛ ولا أن نقترح على الله شيئا . فالمنهج الإلهي - كما يبدو في ظلال القرآن - موضوع ليعمل في كل بيئة ، وفي كل مرحلة من مراحل النشأة الإنسانية ، وفي كل حالة من حالات النفس البشرية الواحدة . . وهو موضوع لهذا الإنسان الذي يعيش في هذه الأرض ، آخذ في الاعتبار فطرة هذا الإنسان وطاقاته واستعداداته ، وقوته وضعفه ، وحالاته المتغيرة التي تعتريه . . إن ظنه لا يسوء بهذا الكائن فيحتقر دوره في الأرض ، أو يهدر قيمته في صورة من صور حياته ، سواء وهو فرد أو وهو عضو في جماعة . كذلك هو لا يهيم مع الخيال فيرفع هذا الكائن فوق قدره وفوق طاقته وفوق مهمته التي أنشأه الله لها يوم أنشأه . . ولا يفترض في كلتا الحالتين أن مقومات فطرته سطحية تنشأ بقانون أو تكشط بجرة قلم ! . . الإنسان هو هذا الكائن بعينه . بفطرته وميوله واستعداداته يأخذ المنهج الإلهي بيده ليرتفع به إلى أقصى درجات الكمال المقدر له بحسب تكوينه ووظيفته ، ويحترم ذاته وفطرته ومقوماته ، وهو يقوده في طريق الكمال الصاعد إلى الله . . ومن ثم فإن المنهج الإلهي موضوع للمدى الطويل - الذي يعلمه خالق هذا الإنسان ومنزل هذا القرآن - ومن ثم لم يكن معتسفا ولا(1/52)
عجولا في تحقيق غاياته العليا من هذا المنهج . إن المدى أمامه ممتد فسيح ، لا يحده عمر فرد ، ولا تستحثه رغبة فان ، يخشى أن يعجله الموت عن تحقيق غايته البعيدة ؛ كما يقع لأصحاب المذاهب الأرضية الذين يعتسفون الأمر كله في جيل واحد ، ويتخطون الفطرة المتزنة الخطى لأنهم لا يصبرون على الخطو المتزن ! وفي الطريق العسوف التي يسلكونها تقوم المجازر ، وتسيل الدماء ، وتتحطم القيم ، وتضطرب الأمور . ثم يتحطمون هم في النهاية وتتحطم مذاهبهم المصطنعة تحت مطارق الفطرة التي لا تصمد لها المذاهب المعتسفة ! فأما الإسلام فيسير هينا لينا مع الفطرة ، يدفعها من هنا ، ويردعها من هناك ، ويقومها حين تميل ، ولكنه لا يكسرها ولا يحطمها . إنه يصبر عليها صبر العارف البصير الواثق من الغاية المرسومة . . والذي لا يتم في هذه الجولة يتم في الجولة الثانية أو الثالثة أو العاشرة أو المائة أو الألف . . فالزمن ممتد ، والغاية واضحة ، والطريق إلى الهدف الكبير طويل ، وكما تنبت الشجرة الباسقة وتضرب بجذورها في التربة ، وتتطاول فروعها وتتشابك . . كذلك ينبت الإسلام ويمتد في بطء وعلى هينة وفي طمأنينة . ثم يكون دائما ما يريده الله أن يكون . . والزرعة قد تسقى عليها الرمال ، وقد يأكل بعضها الدود ، وقد يحرقها الظمأ . وقد يغرقها الري . ولكن الزارع البصير يعلم أنها زرعة للبقاء والنماء ، وأنها ستغالب الآفات كلها على المدى الطويل ؛ فلا يعتسف ولا يقلق ، ولا يحاول إنضاجها بغير وسائل الفطرة الهادئة المتزنة ، السمحة الودود . . إنه المنهج الإلهي في الوجود كله . . ولن تجد لسنة الله تبديلا . .
والحق في منهج الله أصيل في بناء هذا الوجود . ليس فلتة عابرة ، ولا مصادفة غبر مقصودة . . إن الله سبحانه هو الحق . ومن وجوده تعالى يستمد كل موجود وجوده: ذلك بأن الله هو الحق ، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ، وأن الله هو العلي الكبير . . وقد خلق الله هذا الكون بالحق لا يتلبس بخلقه الباطل: ما خلق الله ذلك إلا بالحق . . ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ! والحق هو قوام هذا الوجود فإذا حاد عنه فسد وهلك: ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن . . ومن ثم فلا بد للحق أن يظهر ، ولا بد للباطل أن يزهق . . ومهما تكن الظواهر غير هذا فإن مصيرها إلى تكشف صريح: بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق . .
والخير والصلاح والإحسان أصيلة كالحق ، باقية بقاءه في الأرض: أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ، فاحتمل السيل زبدا رابيا ، ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع ،(1/53)
زبد مثله . كذلك يضرب الله الحق والباطل . فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض . كذلك يضرب الله الأمثال . . . ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون . ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار . يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة . ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء . .
أي طمأنينة ينشئها هذا التصور ؟ وأي سكينة يفيضها على القلب ؟ وأي ثقة في الحق والخير والصلاح ؟ وأي قوة واستعلاء على الواقع الصغير يسكبها في الضمير ؟
من فترة الحياة - في ظلال القرآن - إلى يقين جازم حاسم . . إنه لا صلاح لهذه الأرض ، ولا راحة لهذه البشرية ، ولا طمأنينة لهذا الإنسان ، ولا رفعة ولا بركة ولا طهارة ، ولا تناسق مع سنن الكون وفطرة الحياة . . إلا بالرجوع إلى الله . .
والرجوع إلى الله - كما يتجلى في ظلال القرآن - له صورة واحدة وطريق واحد . . واحد لا سواه . . إنه العودة بالحياة كلها إلى منهج الله الذي رسمه للبشرية في كتابه الكريم . . إنه تحكيم هذا الكتاب وحده في حياتها . والتحاكم إليه وحده في شؤونها . وإلا فهو الفساد في الأرض ، والشقاوة للناس ، والارتكاس في الحمأة ، والجاهلية التي تعبد الهوى من دون الله: فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم . ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمين . .
إن الاحتكام إلى منهج الله في كتابه ليس نافلة ولا تطوعا ولا موضع اختيار ، إنما هو الإيمان . . أو . . فلا إيمان . . وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم . . ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون . إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا ، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض ، والله ولي المتقين . .
والأمر إذن جد . . إنه أمر العقيدة من أساسها . . ثم هو أمر سعادة هذه البشرية أو شقائها . .
إن هذه البشرية - وهي من صنع الله - لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله ؛ ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده - سبحانه - وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل مغلق ، وشفاء كل داء: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين . .(1/54)
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم . . ولكن هذه البشرية لا تريد أن ترد القفل إلى صانعه ، ولا أن تذهب بالمريض إلى مبدعه ، ولا تسلك في أمر نفسها ، وفي أمر إنسانيتها ، وفي أمر سعادتها أو شقوتها . . ما تعودت أن تسلكه في أمر الأجهزة والآلات المادية الزهيدة التي تستخدمها في حاجاتها اليومية الصغيرة . . وهي تعلم أنها تستدعي لإصلاح الجهاز مهندس المصنع الذي صنع الجهاز . ولكنها لا تطبق هذه القاعدة على الإنسان نفسه ، فترده إلى المصنع الذي منه خرج ، ولا أن تستفتي المبدع الذي أنشأ هذا الجهاز العجيب ، الجهاز الإنساني العظيم الكريم الدقيق اللطيف ، الذي لا يعلم مساربه ومداخله إلا الذي أبدعه وأنشأه: إنه عليم بذات الصدور . ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ؟ . .
ومن هنا جاءت الشقوة للبشرية الضالة . البشرية المسكينة الحائرة ، البشرية التي لن تجد الرشد ، ولن تجد الهدى ، ولن تجد الراحة ، ولن تجد السعادة ، إلا حين ترد الفطرة البشرية إلى صانعها الكبير ، كما ترد الجهاز الزهيد إلى صانعه الصغير !
ولقد كانت تنحية الإسلام عن قيادة البشرية حدثا هائلا في تاريخها ، ونكبة قاصمة في حياتها ، نكبة لم تعرف لها البشرية نظيرا في كل ما ألم بها من نكبات . .
لقد كان الإسلام قد تسلم القيادة بعد ما فسدت الأرض ، وأسنت الحياة ، وتعفنت القيادات ، وذاقت البشرية الويلات من القيادات المتعفنة ؛ و ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس . .
تسلم الإسلام القيادة بهذا القرآن ، وبالتصور الجديد الذي جاء به القرآن ، وبالشريعة المستمدة من هذا التصور . . فكان ذلك مولدا جديدا للإنسان أعظم في حقيقته من المولد الذي كانت به نشأته . لقد أنشأ هذا القرآن للبشرية تصورا جديدا عن الوجود والحياة والقيم والنظم ؛ كما حقق لها واقعا اجتماعيا فريدا ، كان يعز على خيالها تصوره مجرد تصور ، قبل أن ينشئه لها القرآن إنشاء . . نعم ! لقد كان هذا الواقع من النظافة والجمال ، والعظمة والارتفاع ، والبساطة واليسر ، والواقعية والإيجابية ، والتوازن والتناسق . . . بحيث لا يخطر للبشرية على بال ، لولا أن الله أراده لها ، وحققه في حياتها . . في ظلال القرآن ، ومنهج القرآن ، وشريعة القرآن .
ثم وقعت تلك النكبة القاصمة . ونحي الإسلام عن القيادة . نحي عنها لتتولاها الجاهلية مرة أخرى ، في صورة من صورها الكثيرة . صورة التفكير المادي الذي تتعاجب به البشرية اليوم ، كما يتعاجب الأطفال بالثوب المبرقش واللعبة الزاهية الألوان !(1/55)
إن هناك عصابة من المضللين الخادعين أعداء البشرية . يضعون لها المنهج الإلهي في كفة والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى ؛ ثم يقولون لها:اختاري !!! اختاري إما المنهج الإلهي في الحياة والتخلي عن كل ما أبدعته يد الإنسان في عالم المادة ، وإما الأخذ بثمار المعرفة الإنسانية والتخلي عن منهج الله !!! وهذا خداع لئيم خبيث . فوضع المسألة ليس هكذا أبدا . . إن المنهج الإلهي ليس عدوا للإبداع الإنساني . إنما هو منشئ لهذا الإبداع وموجه له الوجهة الصحيحة . . ذلك كي ينهض الإنسان بمقام الخلافة في الأرض . هذا المقام الذي منحه الله له ، وأقدره عليه ، ووهبه من الطاقات المكنونة ما يكافئ الواجب المفروض عليه فيه ؛ وسخر له من القوانين الكونية ما يعينه على تحقيقه ؛ ونسق بين تكوينه وتكوين هذا الكون ليملك الحياة والعمل والإبداع . . على أن يكون الإبداع نفسه عبادة لله ، ووسيلة من وسائل شكره على آلائه العظام ، والتقيد بشرطه في عقد الخلافة ؛ وهو أن يعمل ويتحرك في نطاق ما يرضي الله . فأما أولئك الذين يضعون المنهج الإلهي في كفة ، والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى . . فهم سيئو النية ، شريرون ، يطاردون البشرية المتعبة الحائرة كلما تعبت من التيه والحيرة والضلال ، وهمت أن تسمع لصوت الحادي الناصح ، وأن تؤوب من المتاهة المهلكة وأن تطمئن إلى كنف الله . . .
وهنالك آخرون لا ينقصهم حسن النية ؛ ولكن ينقصهم الوعي الشامل ، والإدراك العميق . . هؤلاء يبهرهم ما كشفه الإنسان من القوى والقوانين الطبيعية ، وتروعهم انتصارات الإنسان في عالم المادة . فيفصل ذلك البهر وهذه الروعة في شعورهم بين القوى الطبيعية والقيم الإيمانية ، وعملها وأثرها الواقعي في الكون وفي واقع الحياة ؛ ويجعلون للقوانين الطبيعية مجالا ، وللقيم الإيمانية مجالا آخر ؛ ويحسبون أن القوانين الطبيعية تسير في طريقها غير متأثرة بالقيم الإيمانية ، وتعطي نتائجها سواء آمن الناس أم كفروا . اتبعوا منهج الله أم خالفوا عنه . حكموا بشريعة الله أم بأهواء الناس !
هذا وهم . . إنه فصل بين نوعين من السنن الإلهية هما في حقيقتهما غير منفصلين . فهذه القيم الإيمانية هي بعض سنن الله في الكون كالقوانين الطبيعية سواء بسواء . ونتائجها مرتبطة ومتداخلة ؛ ولا مبرر للفصل بينهما في حس المؤمن وفي تصوره . . وهذا هو التصور الصحيح الذي ينشئه القرآن في النفس حين تعيش في ظلال القرآن . ينشئه وهو يتحدث عن أهل الكتب السابقة وانحرافهم عنها وأثر هذا الانحراف في نهاية المطاف: ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم . ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل(1/56)
وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم . وينشئه وهو يتحدث عن وعد نوح لقومه: فقلت:استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويمددكم بأموال وبنين ، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا . . وينشئه وهو يربط بين الواقع النفسي للناس والواقع الخارجي الذي يفعله الله بهم إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . .
إن الإيمان بالله ، وعبادته على استقامة ، وإقرار شريعته في الأرض . . . كلها إنفاذ لسنن الله . وهي سنن ذات فاعلية إيجابية ، نابعة من ذات المنبع الذي تنبثق منه سائر السنن الكونية التي نرى آثارها الواقعية بالحس والاختبار .
ولقد تأخذنا في بعض الأحيان مظاهر خادعة لافتراق السنن الكونية ، حين نرى أن اتباع القوانين الطبيعية يؤدي إلى النجاح مع مخالفة القيم الإيمانية . . هذا الافتراق قد لا تظهر نتائجه في أول الطريق ؛ ولكنها تظهر حتما في نهايته . . وهذا ما وقع للمجتمع الإسلامي نفسه . لقد بدأ خط صعوده من نقطة التقاء القوانين الطبيعية في حياته مع القيم الإيمانية . وبدأ خط هبوطه من نقطة افتراقهما . وظل يهبط ويهبط كلما انفرجت زاوية الافتراق حتى وصل إلى الحضيض عندما أهمل السنن الطبيعية والقيم الإيمانية جميعا . .
وفي الطرف الآخر تقف الحضارة المادية اليوم . تقف كالطائر الذي يرف بجناح واحد جبار ، بينما جناحه الآخر مهيض ، فيرتقي في الإبداع المادي بقدر ما يرتكس في المعنى الإنساني . ويعاني من القلق والحيرة والأمراض النفسية والعصبية ما يصرخ منه العقلاء هناك . . لولا أنهم لا يهتدون إلى منهج الله وهو وحده العلاج والدواء .
إن شريعة الله للناس هي طرف من قانونه الكلي في الكون . فإنفاذ هذه الشريعة لا بد أن يكون له أثر إيجابي في التنسيق بين سيرة الناس وسيرة الكون . . والشريعة إن هي إلا ثمرة الإيمان لا تقوم وحدها بغير أصلها الكبير . فهي موضوعة لتنفذ في مجتمع مسلم ، كما أنها موضوعة لتساهم في بناء المجتمع المسلم . وهي متكاملة مع التصور الإسلامي كله للوجود الكبير وللوجود الإنساني ، ومع ما ينشئه هذا التصور من تقوى في الضمير ، ونظافة في الشعور ، وضخامة في الاهتمامات ، ورفعة في الخلق ، واستقامة في السلوك . . . وهكذا يبدو التكامل والتناسق بين سنن الله كلها سواء ما نسميه القوانين الطبيعية وما نسميه القيم الإيمانية . . فكلها أطراف من سنة الله الشاملة لهذا الوجود .
والإنسان كذلك قوة من قوى الوجود . وعمله وإرادته ، وإيمانه وصلاحه ، وعبادته ونشاطه . . . . هي كذلك قوى ذات آثار إيجابية في هذا الوجود وهي مرتبطة بسنة الله الشاملة للوجود(1/57)
. . وكلها تعمل متناسقة ، وتعطي ثمارها كاملة حين تتجمع وتتناسق ، بينما تفسد آثارها وتضطرب وتفسد الحياة معها ، وتنتشر الشقوة بين الناس والتعاسة حين تفترق وتتصادم: ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . . فالارتباط قائم وثيق بين عمل الإنسان وشعوره وبين ماجريات الأحداث في نطاق السنة الإلهية الشاملة للجميع . ولا يوحي بتمزيق هذا الارتباط ، ولا يدعو إلى الإخلال بهذا التناسق ، ولا يحول بين الناس وسنة الله الجارية ، إلا عدو للبشرية يطاردها دون الهدى ؛ وينبغي لها أن تطارده ، وتقصيه من طريقها إلى ربها الكريم . .
هذه بعض الخواطر والانطباعات من فترة الحياة في ظلال القرآن . لعل الله ينفع بها ويهدي . وما تشاءون إلا أن يشاء الله ." (1)
وقد سار في هذا التفسير الذي لم يؤلف على منواله على الشكل التالي :
التعريف بالسورة وما اشتملت عليه من موضوعات بشكل دقيق جدا
توالكلام عن مكيتها أو مدنيتها ، ذكر أسباب النزول ، تقسيم السورة إلى وحدات موضوعية ، ووضع عناوين دقيقة لها ، ثم الكلام عن الوحدة بشكل موجز يبين مغزاها ، ثم يستفيض في شرح المقطع ويركز على حكمة التشريع ، والدفاع عن الإسلام وعرضه بشكل صاف بعيد عن أي غبشٍ ، ويستعين بالمأثور أحياناً من كتب التفسير ولاسيما تفسير ابن كثير وكتب السيرة ، ويرد على الخرافات والإسرائيليات وكل ما يحول بين المسلم وبين فهم كتاب الله تعالى ، فهو يربطك بهذا الكتاب الخالد مباشرة دون حواجز ,لا حدود ، ومن ثم لم يركز على التفريعات اللغوية والفقهية والكلامية ، وهو يربط بين القرآن والعلم الحديث ، ويبين أنهما توأمان ، ويرد على جميع المذاهب الفكرية المعاصرة المخالفة للإسلام بقوة ، ويجهز عليها بلا رجعة ، ويغوص إلى أعماق النفس الإنسانية ، فيتكلم عنها في حال ارتفاعها وفي حال ارتكاسها ، ولم ينح منحى المدرسة العقلية كثيرا ، بل رد عليهم في مواضع متعددة أنظر تفسير سورة الفيل مثلاً ، ويرسترسل في بعض المواضيع التي يرى أنها حرفت في فكرنا المعاصر كالجهاد والحاكمية والولاء والبراء ، وكمال الشريعة وخلودها ، والناحية التصويرية والجمالية في القرآن الكريم قد استحوذت عليه بشكل جليٍّ . والأحاديث التي يذكرها لا يقول بالحكم عليها غالباً ، وقد يؤل بعض الآيات ، وتفسيره هذه مرَّ به فيس
__________
(1) - في ظلال القرآن - (1 / 1)(1/58)
مرحلتين الأولى كاملا قبل السجن ، والثانية بعد السجن وهو ما يظهر في الأجزاء الثلاثة عشر الأولى منه ، وفيها يظهر المنهج الحركي الواقعي له بشكل دقيق جدا ، وقد أفرده الدكتور صلاح عبد الفتاح خالدي حفظه الله برسالة دكتوراه (( المنهج الحركي في ظلال القرآن))
وغالب الانتقادات التي وجهت لهذا التفسير إما أنها وجهت لآراء سابقة قالها السيد وتراجع عنها ، أو فهمت على غير سياقها الذي قصده أو حمِّلت ما لا تحتمل ونحو ذلك ، وهو مع هذا بشر يخطئ ويصيب ، وغالب منتقديه عندهم أخطاء أكثر منه ، ولكنهم لا ينظرون إلا إلى أخطاء غيرهم ، وكلٌّ منا يؤخذ من قوله ويردُّ إلا صاحب هذا القبر (( - صلى الله عليه وسلم - )) كما قاله الإمام مالك رحمه الله .
??? التحرير والتنوير - الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ، قال في مقدمة تفسيره : " وقد اهتممت في تفسيري هذا ببيان وجوه الإعجاز ونكت البلاغة العربية وأساليب الاستعمال ، واهتممت أيضا ببيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض ، وهو منزع جليل قد عني به فخر الدين الرازي ، وألف فيه برهان الدين البقاعي كتابه المسمى نظم الدرر في تناسب الآي والسور إلا أنهما لم يأتيا في كثير من الآي بما فيه مقنع ، فلم تزل أنظار المتأملين لفصل القول تتطلع ، أما البحث عن تناسب مواقع السور بعضها إثر بعض ، فلا أراه حقا على المفسر . ولم أغادر سورة إلا بينت ما أحيط به من أغراضها لئلا يكون الناظر في تفسير القرآن مقصورا على بيان مفرداته ومعاني جمله كأنها فقر متفرقة تصرفه عن روعة انسجامه وتحجب عنه روائع جماله . واهتممت بتبيين معاني المفردات في اللغة العربية بضبط وتحقيق مما خلت عن ضبط كثير منه قواميس اللغة . وعسى أن يجد فيه المطالع تحقيق مراده ، ويتناول منه فوائد ونكتا على قدر استعداده ، فإني بذلت الجهد في الكشف عن نكت من معاني القرآن وإعجازه خلت عنها التفاسير ، ومن أساليب الاستعمال الفصيح ما تصبو إليه همم النحارير ، بحيث ساوى هذا التفسير على اختصاره مطولات القماطير ، ففيه أحسن ما في التفاسير ، وفيه أحسن مما في التفاسير . وسميته تحرير المعنى السديد ، وتنوير العقل الجديد ، من تفسير الكتاب المجيد .واختصرت هذا الاسم باسم التحرير والتنوير من التفسير " (1)
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (1 / 8)(1/59)
ويعتبر تفسيره من أروع التفاسير في الأشياء التي أشار إليها ، والآثار فيه قليلة ، ويرد كثيرا من الخرافات والأوهام .
??? التفسير المنير فى العقيدة والشريعة والمنهج لأستاذنا الفاضل الدكتور وهبة الزحيلي
قال في مقدمة تفسيره : " كان لا بدّ من تقريب ما صار بعيدا ، وإيناس ما أصبح غريبا ، وتزويد المسلم بزاد من الثقافة بعيدة عن الدّخيل كالإسرائيليات في التفسير ، ومتفاعلة مع الحياة المعاصرة ، ومتجاوبة مع القناعة الذاتية ، والأصول العقلية ، والمرتكزات الفكرية السليمة ، وهذا يقتضينا تمحيص المنقول في تفاسيرنا ، حتى إن منها - تأثرا بروايات إسرائيلية - أحدث شرخا غير مقصود في عصمة بعض الأنبياء ، واصطدم مع بعض النظريات العلمية التي أصبحت يقينية الثبوت بعد غزو الفضاء ، واتساع ميادين الكشوف العلمية الحديثة ، علما بأن دعوة القرآن تركزت على إعمال العقل والفكر وشحذ الذهن وتسخير المواهب في سبيل الخير ، ومحاربة الجهل والتخلف.
وهد في الأصيل من هذا المؤلّف هو ربط المسلم بكتاب اللّه عزّ وجلّ ربطا علميا وثيقا : لأن القرآن الكريم هو دستور الحياة البشرية العامة والخاصة ، للناس قاطبة ، وللمسلمين خاصة ، لذا لم أقتصر على بيان الأحكام الفقهية للمسائل بالمعنى الضيق المعروف عند الفقهاء - وإنما أردت إيضاح الأحكام المستنبطة من آي القرآن الكريم بالمعنى الأعم الذي هو أعمق إدراكا من مجرد الفهم العام ، والذي يشمل العقيدة والأخلاق ، والمنهج والسلوك ، والدستور العام ، والفوائد المجنية من الآية القرآنية تصريحا أو تلميحا أو إشارة ، سواء في البنية الاجتماعية لكل مجتمع متقدم متطور ، أم في الحياة الشخصية لكل إنسان ، في صحته وعمله وعلمه وتطلّعاته وآماله وآلامه ودنياه وآخرته
وإذا كان هدفي هو وضع تفسير للقرآن الكريم يربط المسلم وغير المسلم بكتاب اللّه تعالى - البيان الإلهي ووحيه الوحيد حاليا ، الثابت كونه كلام اللّه ثبوتا قطعيا بلا نظير له ولا شبيه - فإنه سيكون تفسيرا يجمع بين المأثور والمعقول ، مستمدا من أوثق التفاسير القديمة والحديثة ، ومن الكتابات حول القرآن الكريم تأريخا ، وبيان أسباب النزول ، وإعرابا يساعد في توضيح كثير من الآيات ، ولست بحاجة كثيرة إلى الاستشهاد بأقوال المفسرين ، وإنما سأذكر أولى الأقوال بالصواب بحسب قرب اللفظ من طبيعة لغة العرب وسياق الآية.
ولست في كل ما أكتب متأثرا بأي نزعة معينة ، أو مذهب محدد ، أو إرث اعتقادي سابق لاتجاه قديم ، وإنما رائدي هو الحق الذي يهدي إليه القرآن الكريم ، على وفق طبيعة اللغة(1/60)
العربية ، والمصطلحات الشرعية ، مع توضيح آراء العلماء والمفسرين ، بأمانة ودقة وبعد عن التعصب.ولكن ينبغي البعد عن استخدام آيات القرآن لتأييد بعض الآراء المذهبية أو اتجاهات الفرق الإسلامية ، أو التعسّف في التأويل لتأييد نظرية علمية قديمة أو حديثة ، لأن القرآن الكريم أرفع بيانا ، وأرقى مستوى ، وأعلى شأنا من تلك الآراء والمذاهب والفرق ، وليس هو كتاب علوم أو معارف كونية كالفلك وعلم الفضاء والطب والرياضيات ونحوها ، وإن وجدت فيه بعض الإشارات إلى نظرية ما ، وإنما هو كتاب هداية إلهية ، وتشريع ديني ، ونور يهدي لعقيدة الحق ، وأصلح مناهج الحياة ، وأصول الأخلاق والقيم الإنسانية العليا ، كما قال اللّه تعالى : قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ ، وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة 5/ 15 - 16].
وينحصر منهجي أو خطة بحثي فيما يأتي :
1 - قسمة الآيات القرآنية إلى وحدات موضوعية بعناوين موضحة.
2 - بيان ما اشتملت عليه كل سورة إجمالا.
3 - توضيح اللغويات.
4 - إيراد أسباب نزول الآيات في أصح ما ورد فيها ، ونبذ الضعيف منها ، وتسليط الأضواء على قصص الأنبياء وأحداث الإسلام الكبرى كمعركة بدر وأحد من أوثق كتب السّيرة.
5 - التفسير والبيان.
6 - الأحكام المستنبطة من الآيات.
7 - البلاغة وإعراب كثير من الآيات ، ليكون ذلك عونا على توضيح المعاني لمن شاء ، وبعدا عن المصطلحات التي تعوق فهم التفسير لمن لا يريد العناية بها.
وسأحرص بقدر الإمكان على التفسير الموضوعي : وهو إيراد تفسير مختلف الآيات القرآنية الواردة في موضوع واحد كالجهاد والحدود والإرث وأحكام الزواج والرّبا والخمر ، وسأبيّن عند أول مناسبة كل ما يتعلّق بالقصة القرآنية مثل قصص الأنبياء من آدم ونوح وإبراهيم عليهم السلام وغيرهم ، وقصة فرعون مع موسى عليه السّلام ، وقصة القرآن بين الكتب السماوية. ثم أحيل إلى موطن البحث الشامل عند تكرار القصة بأسلوب وهدف آخر. غير أني لن أذكر رواية مأثورة في توضيح القصة إلا بما يتفق مع أحكام الدين ، ويتقبلها العلم ، ويرتضيها العقل ، وأيدت الآيات بالأحاديث الصحيحة المخرجة إلا ما ندر.(1/61)
ويلاحظ أن أغلب الأحاديث المروية في فضائل سور القرآن موضوعة مكذوبة ، وضعها الزّنادقة أو أصحاب الأهواء والمطامع ، أو السؤّال الواقفون في الأسواق والمساجد ، أو واضعو الحديث حسبة كما زعموا .
وفي تقديري أن هذه الخطة تحقق بمشيئة اللّه نفعا كبيرا ، وسيكون هذا التأليف سهل الفهم ، سريع المأخذ ، محل الثقة والاطمئنان ، يرجع إليه كل باحث ومطّلع ، في وقت كثر فيه القول والدّعوة إلى الإسلام في المساجد وغيرها ، ولكن مع مجافاة الصواب ، أو الخلط ، أو مجانبة الدقة العلمية ، سواء في التفسير أو الحديث أو الإفتاء وبيان الأحكام الشرعية ، وعندها يظلّ الكتاب هو المرجع الأمين وموضع الثقة للعالم والمتعلم ، منعا من إضلال الناس والإفتاء بغير علم ، وحينئذ يتحقق بحق غرض النّبي - صلى الله عليه وسلم - من تبليغ القرآن في قوله : «بلّغوا عني ولو آية»، لأن القرآن هو المعجزة الباقية من بين سائر المعجزات.
ولعلي أكون بهذه الخطة في بيان المراد من آي كتاب اللّه مفردات وتراكيب ، قد حقّقت غايتي من ربط المسلم بقرآنه ، وقمت بالتّبليغ الواجب على كلّ مسلم بالرغم من وجود موسوعات أو تفاسير قديمة اعتمدت عليها ، وقد تميزت إما بالتركيز على العقائد والنّبوات والأخلاق والمواعظ وتوضيح آيات اللّه في الكون ، كالرّازي في التفسير الكبير ، وأبي حيان الأندلسي في البحر المحيط ، والألوسي في روح المعاني ، والكشاف للزمخشري.
وإما بتوضيح القصص القرآني وأخبار التاريخ ، كتفسير الخازن والبغوي ، وإما ببيان الأحكام الفقهية بالمعنى الضيّق للمسائل والفروع والقضايا كالقرطبي وابن كثير والجصاص وابن العربي ، وإما بالاهتمام باللغويات كالزمخشري وأبي حيان ، وإما بالقراءات كالنسفي وأبي حيان وابن الأنباري ، وابن الجزري في كتابه (النشر في القراءات العشر) ، وإما بالعلوم والنظريات العلمية الكونية مثل طنطاوي جوهري في كتابه (الجواهر في تفسير القرآن الكريم). " (1)
قلت : وقد التزم بما بما قال إلى حدٍّ يعيدً ، فغدا تفسيره من أشمل التفاسير المعاصرة وأهمها بلا ريب ، ولكن مما يؤخذ عليه ما يلي :
1- لم يقم بتخريج حديث واحد من كتب الحديث التي ذكرت الحديث وهي كثيرة في كتابه .
??
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (1 / 5)(1/62)
الأحاديث التي ذكرها فيها الصحيح والحسن والضعيف والواهي بل والمنكر.
? لم يدقق كثيرا في أسباب النزول ، فذكر كثيرا منها مما لا يثبت ولم ينبه عليه .
? ذكر بعض القصص والحكايات غير الثابتة دون التنبيه على ذلك .
?? لا يخلومن بعض الآراء المتناقضة كموقفه من السحر في سورة البقرة فقد أنكر حقيقته ، وأثبته في تفسير المعوذات .
?? تفسيره لآيات الجهاد لم يكن دقيقاً ولا سديدا ، فقد زعم أن الجهاد في الإسلام لا يشرع إلا للدفاع ، ويلحق بذلك ما يتعلق بأحكام أهل الذمة والقوانين الدولية ، وكذلك موقفه من الحاكمية والولاء والبراء فيه نظر ...
- - - - - - - - - - - - - - - -(1/63)
أهم موضوعات هذا الجزء
هذا الجزء كله ومنه هذه السورة ذو طابع غالب . . سورة مكية فيما عدا سورتي « البينة » و « النصر » وكلها من قصار السور على تفاوت في القصر . والأهم من هذا هو طابعها الخاص الذي يجعلها وحده على وجه التقريب في موضعها واتجاهها ، وإيقاعها ، وصورها وظلالها ، وأسلوبها العام .
إنها طرقات متوالية على الحس . طرقات عنيفة قوية عالية . وصيحات . صيحات بِنوّم غارقين في النوم! نومهم ثقيل! أو بسكارى مخمورين ثقل حسهم الخُمار! أو بلاهين في سامر راقصين في ضجة وتصدية ومكاء! تتوالى على حسهم تلك الطرقات والصيحات المنبثقة من سور هذا الجزء كله بإيقاع واحد ونذير واحد : اصحوا . استيقظوا . انظروا . تلفتوا . تفكروا . تدبروا . . إن هنالك إلهاً . وإن هنالك تدبيراً . وإن هنالك تقديراً . وإن هنالك ابتلاء . وإن هنالك تبعة . وإن هنالك حساباً . وإن هنالك جزاء . وإن هنالك عذاباً شديداً . ونعيماً كبيراً . . اصحوا . استيقظوا . انظروا . تلفتوا . تفكروا . تدبروا . . وهكذا مرة أخرى . وثالثة ورابعة . وخامسة . . وعاشرة . . ومع الطرقات والصيحات يد قوية تهز النائمين المخمورين السادرين هزاً عنيفاً . . وهم كأنما يفتحون أعينهم وينظرون في خمار مرة ، ثم يعودون لما كانوا فيه! فتعود اليد القوية تهزهم هزاً عنيفاً؛ ويعود الصوت العالي يصيح بهم من جديد؛ وتعود الطرقات العنيفة على الأسماع والقلوب . . وأحياناً يتيقظ النوام ليقولوا : في إصرار وعناد : لا . . ثم يحصبون الصائح المنذر المنبه بالأحجار والبذاء . . ثم يعودون لما كانوا فيه . فيعود إلى هزهم من جديد .
هكذا خيل إلي وأنا أقرأ هذا الجزء . وأحس تركيزه على حقائق معينة قليلة العدد ، عظيمة القدر ، ثقيلة الوزن . وعلى إيقاعات معينة يلمس بها أوتار القلوب . وعلى مشاهد معينة في الكون والنفس . وعلى أحداث معينة في يوم الفصل . وأرى تكرارها مع تنوعها . هذا التكرار الموحي بأمر وقصد!
وهكذا يحس القارئ وهو يقرأ : { فلينظر الإنسان إلى طعامه . . . } { فلينظر الإنسان مم خلق؟ . . . } { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟ وإلى السمآء كيف رفعت؟ وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت؟ } وهو يقرأ : { أأنتم أشد خلقاً أم السمآء بناها؟ رفع سمكها فسواها . وأغطش ليلها وأخرج ضحاها . والأرض بعد ذلك دحاها . أخرج منها مآءها(1/64)
ومرعاها . والجبال أرساها . متاعاً لكم ولأنعامكم } { ألم نجعل الأرض مهاداً؟ والجبال أوتاداً؟ وخلقناكم أزواجاً؟ وجعلنا نومكم سباتاً؟ وجعلنا الليل لباساً؟ وجعلنا النهار معاشا؟ وبنينا فوقكم سبعاً شداداً؟ وجعلنا سراجاً وهاجاً؟ وأنزلنا من المعصرات مآءً ثجاجاً؟ لنخرج به حباً ونباتا وجنات ألفافاً؟ } . . . { فلينظر الإنسان إلى طعامه . أنا صببنا المآء صباً . ثم شققنا الأرض شقاً . فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً ، وحدآئق غلبا ، وفاكهة وأبَّا . متاعاً لكم ولأنعامكم } وهو يقرأ { يا أيها الإنسان . ما غرك بربك الكريم ، الذي خلقك فسواك فعدلك ، في أي صورة ما شآء ركبك؟ } وهو يقرأ : { إذا الشمس كورت ، وإذا النجوم انكدرت ، وإذا الجبال سيرت ، وإذا العشار عطلت ، وإذا الوحوش حشرت ، وإذا البحار سجرت ، وإذا النفوس زوجت ، وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت؟ وإذا الصحف نشرت ، وإذا السمآء كشطت ، وإذا الجحيم سعرت ، وإذا الجنة أزلفت . علمت نفس مآ أحضرت } { إذا السمآء انفطرت ، وإذا الكواكب انتثرت ، وإذا البحار فجرت ، وإذا القبور بعثرت . علمت نفس ما قدمت وأخرت } { إذا السمآء انشقت . وأذنت لربها وحقت . وإذا الأرض مدت ، وألقت ما فيها وتخلت ، وأذنت لربها وحقت . . . } { إذا زلزلت الأرض زلزالها ، وأخرجت الأرض أثقالها ، وقال الإنسان ما لها . . يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها } هو يقرأ اللمحات والسبحات الكونية في مفاتح عدد من السور وفي ثناياها : { فلا أقسم بالخنس . الجوار الكنس . والليل إذا عسعس . والصبح إذا تنفس } { فلا أقسم بالشفق ، والليل وما وسق . والقمر إذا اتسق } { والفجر . وليال عشر . والشفع والوتر . والليل إذا يسر } { والشمس وضحاها . والقمر إذا تلاها . والنهار إذا جلاها . والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها . والأرض وما طحاها . ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها } { والليل إذا يغشى . والنهار إذا تجلى . وما خلق الذكر والأنثى } { والضحى . والليل إذا سجى } الخ . . الخ . .
وفي الجزء كله تركيز على النشأة الأولى للإنسان والأحياء الأخرى في هذه الأرض من نبات وحيوان . وعلى مشاهد هذا الكون وآياته في كتابه المفتوح . وعلى مشاهد القيامة العنيفة الطامة الصاخة القارعة الغاشية . ومشاهد الحساب والجزاء من نعيم وعذاب في صور تقرع وتذهل وتزلزل كمشاهد القيامة الكونية في ضخامتها وهولها . . واتخاذها جميعاً دلائل على الخلق والتدبير والنشأة الأخرى وموازينها الحاسمة . مع التقريع بها والتخويف والتحذير . . وأحياناً تصاحبها صور من مصارع الغابرين من المكذبين . والأمثلة على هذا هي الجزء كله . ولكنا نشير إلى بعض النماذج في هذا التقديم :(1/65)
هذه السورة سورة النبأ كلها نموذج كامل لهذا التركيز على هذه الحقائق والمشاهد . ومثلها سورة « النازعات » وسورة « عبس » تحتوي مقدمتها إشارة إلى حادث معين من حوادث الدعوة . . وبقيتها كلها حديث عن نشأة الحياة الإنسانية والحياة النباتية ثم عن الصاخة : { يوم يفر المرء من أخيه ، وأمه ، وأبيه ، وصاحبته وبنيه ، لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه . وجوه يومئذ مسفرة . ضاحكة مستبشرة ، ووجوه يومئذ عليها غبرة ، ترهقها قترة } وسورة « التكوير » وهي تصور مشاهد الانقلاب الكوني الهائلة في ذلك اليوم ، مع عرض مشاهد كونية موحية في صدد القسم على حقيقة الوحي وصدق الرسول .
وسورة « الانفطار » كذلك في عرض مشاهد الانقلاب مع مشاهد النعيم والعذاب ، وهز الضمير البشري أمام هذه وتلك : { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم . . . الخ } وسورة « الانشقاق » وهي تعرض مشاهد الانقلاب الكوني ومشاهد النعيم والعذاب . . وسورة « البروج » وهي تلقي إيقاعات سريعة حول مشاهد الكون ومشاهد اليوم بصدد إشارة إلى تعذيب الكفار لجماعة من المؤمنين في الدنيا بالنار . وعذاب الله لأولئك الكفار في الآخرة بالنار . وهو أشد وأنكى . .
وسورة « الطارق » . . وهي تعرض مشاهد كونية مع نشأة الإنسان ونشأة النبات للقسم بالجميع : { إنه لقول فصل ، وما هو بالهزل } وسورة « الأعلى » وتتحدث عن الخلق والتسوية والتقدير والهداية ، وإخراج المرعى وأطواره تمهيداً للحديث عن الذكر والآخرة والحساب والجزاء . . وسورة « الغاشية » . . وهي تصوير لمشاهد النعيم والعذاب . ثم توجيه إلى خلق الإبل والسماء والأرض والجبال . . وهكذا . . وهكذا . . إلى نهاية الجزء باستثناء سور قليلة تتحدث عن حقائق العقيدة ومنهج الإيمان . كسورة الإخلاص . وسورة الكافرون . وسورة الماعون . وسورة العصر . وسورة القدر . وسورة النصر . أو تسري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتواسيه وتوجهه إلى الاستعاذة بربه من كل شر ، كسور الضحى . والانشراح . والكوثر . والفلق . والناس . . وهي سور قليلة على كل حال . .
وهناك ظاهرة أخرى في الأداء التعبيري لهذا الجزء . هناك أناقة واضحة في التعبير ، مع اللمسات المقصودة لمواطن الجمال في الوجود والنفوس ، وافتنان مبدع في الصور والظلال والإيقاع الموسيقي والقوافي والفواصل ، تتناسق كلها مع طبيعته في خطاب الغافلين النائمين السادرين ، لإيقاظهم واجتذاب حسهم وحواسهم بشتى الألوان وشتى الإيقاعات وشتى المؤثرات . . يتجلى هذا كله بصورة واضحة في مثل تعبيره اللطيف عن النجوم التي تخنس وتتوارى(1/66)
كالظباء في كناسها وتبرز ، وعن الليل وكأنه حي يعس في الظلال ، والصبح وكأنه حي يتنفس بالنور : { فلا أقسم بالخنس . الجوار الكنس؛ والليل إذا عسعس . والصبح إذا تنفس } وفي عرضه لمشاهد الغروب والليل والقمر : { فلا أقسم بالشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق } أو لمشاهد الفجر والليل وهو يتمشى ويسري : { والفجر . وليال عشر . والشفع والوتر . والليل إذا يسر } { والضحى . والليل إذا سجى } وفي خطابه الموحي للقلب البشري : { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم؟ الذي خلقك فسواك فعدلك . . } وفي وصف الجنة : { وجوه يومئذ ناعمة ، لسعيها راضية ، في جنة عالية ، لا تسمع فيها لاغية . . } ووصف النار : { وأما من خفت موازينه فأمه هاوية . وما أدراك ماهيه؟ نار حامية! } والأناقة في التعبير واضحة وضوح القصد في اللمسات الجمالية لمشاهد الكون وخوالج النفس .
والعدول أحياناً عن اللفظ المباشر إلى الكناية ، وعن اللفظ القريب إلى الاشتقاق البعيد ، لتحقيق التنغيم المقصود ، مما يؤكد هذه اللفتة خلال الجزء كله على وجه التقريب . .
وهذه السورة نموذج لاتجاه هذا الجزء بموضوعاته وحقائقه وإيقاعاته ومشاهده وصوره وظلاله وموسيقاه ولمساته في الكون والنفس ، والدنيا والآخرة؛ واختيار الألفاظ والعبارات لتوقع أشد إيقاعاتها أثراً في الحس والضمير .
وسورة « الانفطار » كذلك في عرض مشاهد الانقلاب مع مشاهد النعيم والعذاب ، وهز الضمير البشري أمام هذه وتلك : { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم . . . الخ } وسورة « الانشقاق » وهي تعرض مشاهد الانقلاب الكوني ومشاهد النعيم والعذاب . . وسورة « البروج » وهي تلقي إيقاعات سريعة حول مشاهد الكون ومشاهد اليوم بصدد إشارة إلى تعذيب الكفار لجماعة من المؤمنين في الدنيا بالنار . وعذاب الله لأولئك الكفار في الآخرة بالنار . وهو أشد وأنكى . .
وسورة « الطارق » . . وهي تعرض مشاهد كونية مع نشأة الإنسان ونشأة النبات للقسم بالجميع : { إنه لقول فصل ، وما هو بالهزل } وسورة « الأعلى » وتتحدث عن الخلق والتسوية والتقدير والهداية ، وإخراج المرعى وأطواره تمهيداً للحديث عن الذكر والآخرة والحساب والجزاء . . وسورة « الغاشية » . . وهي تصوير لمشاهد النعيم والعذاب . ثم توجيه إلى خلق الإبل والسماء والأرض والجبال . . وهكذا . . وهكذا . . إلى نهاية الجزء باستثناء سور قليلة تتحدث عن حقائق العقيدة ومنهج الإيمان . كسورة الإخلاص . وسورة الكافرون . وسورة الماعون . وسورة العصر . وسورة القدر . وسورة النصر . أو تسري عن رسول الله(1/67)
- صلى الله عليه وسلم - وتواسيه وتوجهه إلى الاستعاذة بربه من كل شر ، كسور الضحى . والانشراح . والكوثر . والفلق . والناس . . وهي سور قليلة على كل حال . .
وهناك ظاهرة أخرى في الأداء التعبيري لهذا الجزء . هناك أناقة واضحة في التعبير ، مع اللمسات المقصودة لمواطن الجمال في الوجود والنفوس ، وافتنان مبدع في الصور والظلال والإيقاع الموسيقي والقوافي والفواصل ، تتناسق كلها مع طبيعته في خطاب الغافلين النائمين السادرين ، لإيقاظهم واجتذاب حسهم وحواسهم بشتى الألوان وشتى الإيقاعات وشتى المؤثرات . . يتجلى هذا كله بصورة واضحة في مثل تعبيره اللطيف عن النجوم التي تخنس وتتوارى كالظباء في كناسها وتبرز ، وعن الليل وكأنه حي يعس في الظلال ، والصبح وكأنه حي يتنفس بالنور : { فلا أقسم بالخنس . الجوار الكنس؛ والليل إذا عسعس . والصبح إذا تنفس } وفي عرضه لمشاهد الغروب والليل والقمر : { فلا أقسم بالشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق } أو لمشاهد الفجر والليل وهو يتمشى ويسري : { والفجر . وليال عشر . والشفع والوتر . والليل إذا يسر } { والضحى . والليل إذا سجى } وفي خطابه الموحي للقلب البشري : { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم؟ الذي خلقك فسواك فعدلك . . } وفي وصف الجنة : { وجوه يومئذ ناعمة ، لسعيها راضية ، في جنة عالية ، لا تسمع فيها لاغية . . } ووصف النار : { وأما من خفت موازينه فأمه هاوية . وما أدراك ماهيه؟ نار حامية! } والأناقة في التعبير واضحة وضوح القصد في اللمسات الجمالية لمشاهد الكون وخوالج النفس .
والعدول أحياناً عن اللفظ المباشر إلى الكناية ، وعن اللفظ القريب إلى الاشتقاق البعيد ، لتحقيق التنغيم المقصود ، مما يؤكد هذه اللفتة خلال الجزء كله على وجه التقريب . .
وهذه السورة نموذج لاتجاه هذا الجزء بموضوعاته وحقائقه وإيقاعاته ومشاهده وصوره وظلاله وموسيقاه ولمساته في الكون والنفس ، والدنيا والآخرة؛ واختيار الألفاظ والعبارات لتوقع أشد إيقاعاتها أثراً في الحس والضمير .
وهي تفتتح بسؤال موح مثير للاستهوال والاستعظام وتضخيم الحقيقة التي يختلفون عليها ، وهي أمر عظيم لا خفاء فيه ، ولا شبهة؛ ويعقب على هذا بتهديدهم يوم يعلمون حقيقته : { عم يتساءلون؟ عن النبأ العظيم ، الذي هم فيه مختلفون . كلا سيعلمون . ثم كلا سيعلمون! } ومن ثم يعدل السياق عن المعنى في الحديث عن هذا النبأ ويدعه لحينه ، ويلفتهم إلى ما هو واقع بين أيديهم وحولهم ، في ذوات أنفسهم وفي الكون حولهم من أمر عظيم ، يدل على ما وراءه ويوحي بما سيتلوه : { ألم نجعل الأرض مهاداً ، والجبال أوتاداً؟ وخلقناكم أزواجاً؟ وجعلنا(1/68)
نومكم سباتاً؟ وجعلنا الليل لباساً ، وجعلنا النهار معاشاً؟ وبنينا فوقكم سبعاً شداداً؟ وجعلنا سراجاً وهاجاً؟ وأنزلنا من المعصرات مآء ثجاجاً؟ لنخرج به حباً ونباتاً وجنات ألفافاً؟ } .
ومن هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والصور والإيقاعات يعود بهم إلى ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون ، والذي هددهم به يوم يعلمون! ليقول لهم ما هو؟ وكيف يكون : { إن يوم الفصل كان ميقاتاً . يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً . وفتحت السمآء فكانت أبواباً . وسيرت الجبال فكانت سراباً } . .
ثم مشهد العذاب بكل قوته وعنفه : { إن جهنم كانت مرصاداً ، للطاغين مآباً ، لابثين فيهآ أحقاباً ، لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً . إلا حميماً وغساقاً . جزآء وفاقاً . إنهم كانوا لا يرجون حساباً ، وكذبوا بآياتنا كذاباً ، وكل شيء أحصيناه كتاباً . فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً } . .
ومشهد النعيم كذلك وهو يتدفق تدفقاً : { إن للمتقين مفازاً : حدائق وأعناباً ، وكواعب أتراباً . وكأساً دهاقاً ، لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً . جزاء من ربك عطاء حساباً } .
وتختم السورة بإيقاع جليل في حقيقته وفي المشهد الذي يعرض فيه . وبإنذار وتذكير قبل أن يجيء اليوم الذي يكون فيه هذا المشهد الجليل : { رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً . يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً . ذلك اليوم الحق . فمن شآء اتخذ إلى ربه مآباً . إنآ أنذرناكم عذابا قريباً . يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ، ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً } . .
ذلك هو النبأ العظيم . الذي يتساءلون عنه . وذلك ما سيكون يوم يعلمون ذلك النبأ العظيم! (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - في ظلال القرآن - (7 / 429)(1/69)
تفسير السور
سورة النبأ
مكيّة ، وهي أربعون آية
تسميتها :
تسمى سورة عم وسورة النبأ لافتتاحها بقول اللّه تبارك وتعالى : عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ وهو خبر القيامة والبعث الذي يهتم بشأنه ، ويسأل الناس عن وقت حدوثه.
سميت هذه السورة في أكثر المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة ( سورة النبَإِ ) لوقوع كلمة ( النَبإ ) في أولها .
وسميت في بعض المصاحف وفي ( صحيح البخاري ) وفي ( تفسير ابن عطية ) و ( الكشاف ) ( سورة عم يتساءلون ) . وفي ( تفسير القرطبي ) سماها ( سورة عم ) أي بدون زيادة ( يتساءلون ) تسمية لها بأول جملة فيها .
وتسمى ( سورة التساؤل ) لوقوع ( يتساءلون ) في أولها . وتسمى ( سورة المُعصرات ) لقوله تعالى فيها : ( وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً ( ( النبأ : 14 ) . فهذه خمسة أسماء . واقتصر في ( الإتقان ) على أربعة أسماء : عمّ ، والنبأ ، والتساؤل ، والمعصرات ، وهي مكية بالاتفاق .
وعدّت السورة الثمانين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد ، نزلت بعد سورة المعارج وقبل سورة النازعات .
وفيما روي عن ابن عباس والحسن ما يقتضي أن هذه السورة نزلت في أول البعث ، روي عن ابن عباس : ( كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به ) فنزلت : ( عم يتساءلون ).
وعن الحسن لما بُعث النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) جعلوا يتساءلون بينهم فأنزل الله : ( عم يتساءلون عن النبإ العظيم ( ( النبأ : 1 ، 2 ) يعني الخبر العظيم .
وعَدَّ آيها أصحاب العدد من أهل المدينة والشام والبصرة أربعين . وعدَّها أهل مكة وأهل الكوفة إحدى وأربعين آية .أغراضها
اشتملت هذه السورة على وصف خوض المشركين في شأن القرآن وما جاء به مما يخالف معتقداتهم ، ومن ذلك إثبات البعث ، وسُؤالُ بعضهم بعضاً عن الرأي في وقوعه مستهزئين بالإِخبار عن وقوعه .
وتهديدهم على استهزائهم .
وفيها إقامة الحجة على إمكان البعث بخلق المخلوقات التي هي أعظم من خلق الإِنسان بعد موته وبالخلق الأول للإِنسان وأحواله .(1/70)
ووصفُ الأهوال الحاصلة عند البعث من عذاب الطاغين مع مقابلة ذلك بوصف نعيم المؤمنين .
وصفةِ يوم الحشر إنذاراً للذين جحدوا به والإِيماء إلى أنهم يعاقبون بعذاب قريب قبل عذاب يوم البعث .
وأدمج في ذلك أن علم الله تعالى محيط بكل شيء ومن جملة الأشياء أعمال الناس . (1)
مناسبتها لما قبلها :
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها وهي المرسلات من وجوه ثلاثة :
1- تشابه السورتين في الكلام عن البعث وإثباته بالدليل ، وبيان قدرة اللّه عليه ، وتوبيخ الكفار المكذبين به ، ففي المرسلات : أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ، أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ، أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً، وفي هذه قال : أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً .. الآيات [6- 16].
2- اشتراك السورتين في وصف الجنة والنار ، ونعيم المتقين وعذاب الكافرين ، ووصف يوم القيامة وأهواله.
3- فصّلت هذه السورة ما أجمل في السورة المتقدمة ، فقال تعالى في المرسلات : لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ ، وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ [12- 14] وقال سبحانه في هذه السورة : إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [17] إلى آخر السورة.
وقال الخطيب : "مناسبتها لما قبلها كانت سورة « المرسلات » قبل هذه السورة ـ حديثا متصلا عن المشركين ، وكانت نهاية هذا الحديث معهم أن القى بهم فى جهنم ، وأخذ كل منهم مكانه فيها .. ثم أعيدوا إلى مكانهم من هذه الحياة الدنيا ، حيث يأكلون ويتمتعون ، كما تأكل الأنعام ، دون أن يكون لهم من تلك الرحلة المشئومة بهم إلى جهنم ، وما رأوا من أهوالها ـ ما يغير شيئا مما فى أنفسهم من ضلال وعناد ، فما زالوا على موقفهم من آيات اللّه التي تتلى عليهم ، وما زالوا فى تكذيب لرسول اللّه ، وفى عجب واستنكار ، حتى ليتساءل الوجود كله : إذن فبأى حديث بعد هذا الحديث يؤمن هؤلاء الضالون المكذبون؟
و تجى ء سورة « النبأ » بعد هذا التساؤل الاستنكارى لنمسك بهم وهم فى حديث عن هذا الحديث ، وفى بلبلة واضطراب من أمره ، وفى تنازع واختلاف فيه ، لا يجدون ـ حتى فى أودية الزور والبهتان ـ الكلمة التي يقولونها فيه ، والتهمة التي يلصقونها به .. إن أية قولة زور يزينها لهم الشيطان ليلقوا بها فى وجه القرآن ، لتسقط على رءوسهم ، كما يسقط الحصى برمى به فى وجه الشمس ، ليخفى ضوءها ، أو يعطل مسيرتها .." (2)
ما اشتملت عليه السورة :
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 5)
(2) - التفسير القرآني للقرآن - (2 / 415)(1/71)
سورة عم مكية وتسمى [ سورة النبأ ] لأن فيها الخبر الهام عن القيامة والبعث والنشور ، ومحور السورة يدور حول إثبات عقيدة البعث " التى طالما انكرها المشركون ، وكذبوا بوقوعها ، وزعموا أن لا بعث ، ولا جزاء ولا حساب ! ! .
* ابتدات السورة الكريمة بالإخبار عن موضوع القيامة ، والبعث والجزاء ، هذا الموضوع الذي شغل أذهان الكثيرين من كفار مكة ، حتى صاروا فيه ما بين مصدق ومكذب [ عم يتساءلون ، عن النبأ العظيم . . ] الايات .
* ثم أقامت الدلائل والبراهين على قدرة رب العالمين ، فان الذي يقدر على خلق العجائب والبدائع ، لا يعجزه إعادة خلق الإنسان بعد فنائه [ الم نجعل الأرض مهادا ، والجبال اوتادا ، وخلقناكم أزواجا ، وجعلنا نومكم سباتا ] الايات .
* ثم اعقبت ذلك بذكر البعث ، وحددت وقته وميعاده ، وهو يوم الفصل بين العباد ، حيث يجمع الله الأولين والاخرين للحساب [ إن يوم الفصل كان ميقاتا ، يوم ينفخ في الصور فتأتون افواجا . . ] الايات .
* ثم تحدثت عن جهنم التي اعدها الله للكافرين ، وما فيها من الوان العذاب المهين [ ان جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا لابثين فيها احقابا ] الايات .
* وبعد الحديث عن الكافرين ، تحدثت عن المتقين ، وما اعد الله تعالى لهم من ضروب النعيم ، على طريقة القران في الجمع بين (الترهيب والترغيب ) [ إن للمتقين مفازا ، حدائق وأعنابا ، وكواعب أترابا ، وكأسا دهاقا ] الايات .
* وختمت السورة الكريمة بالحديث عن هول يوم القيامة ، حيث يتمنى الكافر أن يكون ترابا فلا يحشر ولا يحاسب [ إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ] . (1) .
وآياتها منسجمة متوازنة مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة. (2)
وقال المراغي : هى مكية وعدد آيها أربعون ، نزلت بعد سورة المعارج ومناسبتها لما قبلها من وجوه :
(1) اشتمالها على إثبات القدرة على البعث الذي ذكر فى السورة السالفة أن الكافرين كذبوا به.
(2) أن فى هذه وما قبلها تأنيبا وتقريعا للمكذبين ، فهناك قال : « أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ » وهنا قال : أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً » .
(3) أن فى كل منهما وصف الجنة والنار وما ينعم به المتقون ، ويعذب به المكذبون.
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 450)
(2) - التفسير الحديث لدروزة - (1 / 3302)(1/72)
(4) أن فى هذه تفصيل ما أجمل فى تلك عن يوم الفصل ، فهناك قال : « لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ. لِيَوْمِ الْفَصْلِ. وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ » وهنا قال : « إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً » إلى آخر السورة." (1)
مقصودها الدلالة على أن يوم القيامة - الذي كانوا مجمعين على نفيه , وصاروا بعد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في خلاف فيه مع المؤمنين - ثابت ثباتاً لا يحتمل شكاً ولا خلافاً بوجه , لأن خالق الخلق مع أنه حكيم قادر على ما يريد دبرهم أحسن تدبير , بنى لهم مسكناً وأتقنه , وجعلهم على وجه يبقى به نوعهم من أنفسهم بحيث لا يحتاجون إلى أمر خارج يرونه , فكان ذلك أشد لإلفتهم وأعظم لأنس بعضهم ببعض , وجعل سقفهم وفراشهم كافلين لمنافعهم , والحكيم لا يترك عبيده - وهو تام القدرة كامل السلطان - يمرحون يبغي بعضهم على بعض ويأكلون خيره ويعبدون غيره بلا حساب , فكيف إذا كان حاكماً فكيف إذا كان أحكم الحاكمين , هذا ما لا يجوز في عقل ولا خطر ببال أصلاً , فالعلم واقع به قطعاً , وكل من اسميها واضح في ذلك بتأمل آيته ومبدأ ذكره وغايته {بسم الله} الحكيم العليم الذي له جميع صفات الكمال {الرحمن} الذي ساوى بين عباده في أصول النعم الظاهرة : الإيجاد والجاه والمال , وبيان الطريق الأقوام بالعقل الهادي والإنزال والإرسال {الرحيم *} الذي خص من شاء بإتمام تلك النعم فوفقهم لمحاسن الأعمال لما أخبر في المرسلات بتكذيبهم بيوم الفصل وحكم على أن لهم بذلك الويل المضاعف المكرر , وختمها بأنهم إن كفروا بهذا القرآن لم يؤمنوا بعده بشيء , افتتح هذه بأن ما خالفوا فيه وكذبوا الرسول في أمره لا يقبل النزاع لما ظهر من بيان القرآن لحكمة الرحمن التي يختلف فيها اثنان مع الإعجاز في البيان , فقال معجباً منهم غاية العجب زاجراً لهم ومنكراً عليهم ومتوعداً لهم ومفخماً للأمر بصيغة الاستفهام منبهاً على أنه ينبغي أن لا يعقل خلافهم , ولا يعرف محل نزاعهم , فينبغي أن يسأل عنه كل أحد حتى العالم به إعلاماً بأن ما يختلفون فيه لوضوحه لا يصدق أن عاقلاً يخالف أمره فيه وأنه لا ينبغي التساؤل إلا عما هو خفي فقال : {عمَّ} أي عن أي شيء - خفف لفظاً وكناية بالإدغام , وحذف ألفه لكثرة الدور والإشارة إلى أن هذا السؤال مما ينبغي أان يحذف , فإن لم يكن فيخفى ويستحى من ذكره ويخفف {يتساءلون *} أي أهل مكة لكل من يسأل عن شيء من القرآن سؤال شك وتوقف وتلدد فيما بينهم وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين رضي الله عنهم , ولشدة العجب سمي جدالهم وإنكارهم وعنادهم - إذا تليت عليهم آياته وجليت بيناته - مطلق سؤال. (2)
__________
(1) - تفسير المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 3)
(2) -نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي- العلمية - (8 / 445)(1/73)
وهي تفتتح بسؤال موح مثير للاستهوال والاستعظام وتضخيم الحقيقة التي يختلفون عليها ، وهي أمر عظيم لا خفاء فيه ، ولا شبهة؛ ويعقب على هذا بتهديدهم يوم يعلمون حقيقته : { عم يتساءلون؟ عن النبأ العظيم ، الذي هم فيه مختلفون . كلا سيعلمون . ثم كلا سيعلمون! } ومن ثم يعدل السياق عن المعنى في الحديث عن هذا النبأ ويدعه لحينه ، ويلفتهم إلى ما هو واقع بين أيديهم وحولهم ، في ذوات أنفسهم وفي الكون حولهم من أمر عظيم ، يدل على ما وراءه ويوحي بما سيتلوه : { ألم نجعل الأرض مهاداً ، والجبال أوتاداً؟ وخلقناكم أزواجاً؟ وجعلنا نومكم سباتاً؟ وجعلنا الليل لباساً ، وجعلنا النهار معاشاً؟ وبنينا فوقكم سبعاً شداداً؟ وجعلنا سراجاً وهاجاً؟ وأنزلنا من المعصرات مآء ثجاجاً؟ لنخرج به حباً ونباتاً وجنات ألفافاً؟ } .
ومن هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والصور والإيقاعات يعود بهم إلى ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون ، والذي هددهم به يوم يعلمون! ليقول لهم ما هو؟ وكيف يكون : { إن يوم الفصل كان ميقاتاً . يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً . وفتحت السمآء فكانت أبواباً . وسيرت الجبال فكانت سراباً } . .
ثم مشهد العذاب بكل قوته وعنفه : { إن جهنم كانت مرصاداً ، للطاغين مآباً ، لابثين فيهآ أحقاباً ، لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً . إلا حميماً وغساقاً . جزآء وفاقاً . إنهم كانوا لا يرجون حساباً ، وكذبوا بآياتنا كذاباً ، وكل شيء أحصيناه كتاباً . فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً } . .
ومشهد النعيم كذلك وهو يتدفق تدفقاً : { إن للمتقين مفازاً : حدائق وأعناباً ، وكواعب أتراباً . وكأساً دهاقاً ، لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً . جزاء من ربك عطاء حساباً } .
وتختم السورة بإيقاع جليل في حقيقته وفي المشهد الذي يعرض فيه . وبإنذار وتذكير قبل أن يجيء اليوم الذي يكون فيه هذا المشهد الجليل : { رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً . يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً . ذلك اليوم الحق . فمن شآء اتخذ إلى ربه مآباً . إنآ أنذرناكم عذابا قريباً . يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ، ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً } . .
ذلك هو النبأ العظيم . الذي يتساءلون عنه . وذلك ما سيكون يوم يعلمون ذلك النبأ العظيم! (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - في ظلال القرآن - (7 / 432)(1/74)
الإخبار عن البعث وأدلة إثباته
بسم الله الرحمن الرحيم
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
سبب النزول : نزول الآية (1) :
عَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : لَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلُوا يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ يَعْنِي : الْخَبَرَ الْعَظِيمَ " (1)
المناسبة :
بعد أن وصف اللّه تعالى وعيد الكفار ووعد المتقين ، ختم الكلام بالإخبار عن عظمته وجلاله وشمول رحمته وعلى التخصيص يوم القيامة ، وأردفه ببيان أن هذا اليوم حق لا ريب فيه ، وأن الناس فيه فريقان : فريق بعيد من اللّه ، ومصيره إلى النار ، وفريق قريب من اللّه ، وتكريمه وثوابه ، ومرجعه إلى الجنة ، ثم عاد إلى تهديد الكفار المعاندين وتحذيرهم من عاقبة عنادهم وكفرهم.
المفردات :
1 ... يَتَسَاءَلُونَ ... يسأل بعضهم بعضا
2 ... عَنِ النَّبَأِ العَظِيمِ ... ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الوحي والبعث بعد الموت
3 ... مُخْتَلِفُونَ ... بين مصدق ومكذب
4 ... كَلاَّ ... ردع وزجر عن الاختلاف فيه
4 ... سَيَعْلَمُونَ ... عافية تكذيبهم
6 ... مِهَادًا ... فراشا
7 ... وَالجِبَالَ أَوْتَادًا ... لتثبيت الأرض
8 ... أَزْوَاجًا ... أصنافا وأضدادا
9 ... نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ... قطعا للحركة لتحصل الراحة لأبدانكم
10 ... اللَّيلَ لِبَاسًا ... سترا لكم بظلمته كاللباس
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ(33362 ) صحيح مرسل(1/75)
11 ... النَّهَارَ مَعَاشًا ... مشرقا تحصِّلون فيه ما تعيشون به
12 ... سَبْعًا شِدَادًا ... سموات سبعا محكمات
13 ... سِرَاجًا وَهَّاجًا ... مصباحا منيرا وقادا
14 ... المُعْصِرَاتِ ... السحاب الممتلئ ماء
14 ... مَاءً ثَجَّاجًا ... ماء منصبا متتابعا
16 ... جَنَّاتٍ أَلْفَافًا ... بساتين ملتفة الأشجار
المعنى الإجمالي:
كان المشركون كلما اجتمعوا فى ناد من أنديتهم أخذوا يتحدثون فى شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفيما جاء به ويسأل بعضهم بعضا ، ويسألون غيرهم فيقولون : أساحر هو أم شاعر أم كاهن أم اعتراه بعض آلهتنا بسوء ؟ ، ويتحدثون فى شأن القرآن : أسحر هو أم شعر أم كهانة ؟ ويقول كل واحد ما شاء له هواه ، والرسول سائر قدما فى تبليغ رسالته ، وأمامه مصباحه المنير الذي يضىء للناس سبيل الرشاد ، وهو كتابه الكريم ، كما كانوا يتحدثون فى شأن البعث ، ويأخذ الجدل بينهم كل مأخذ فمنهم من ينكرونه البتة ، ويزعمون أنهم إذا ماتوا انتهى أمرهم ، وما هى إلا أرحام تدفع ، وأرض تبلع ، وما يهلكنا إلا الدهر ومنهم من كانوا يزعمون أنهم إنما تبعث أرواحهم لا أجسامهم بعد أن تأكلها الأرض ، وتعبث بها يد البلى.
وربما لقي أحدهم بعض من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيسائله عن ذلك استهزاء وسخرية.
وفى هؤلاء وأشباههم نزلت هذه السورة ردّا عليهم وتكذيبا لهم ، وإقامة للحجة على أن اللّه قادر على أن يبعثهم بعد موتهم وإن صاروا ترابا ، أو أكلتهم السباع، أو احتوتهم البحار فكانوا طعاما للسماك ، أو أحرقتهم النيران فطاروا مع الريح.
وقد ذكر لهم من مظاهر قدرته أمورا تسعة يشاهدونها بأعينهم لا يخفى عليهم شىء منها :
(1) انبساط الأرض وتمهيدها لتصلح لسير الناس والأنعام.
(2) سموق الجبال صاعدة فى الجوّ.
(3) تنوّع الآدميين إلى ذكور وإناث.
(4) جعل النوم راحة للإنسان من عناء الأعمال التي يزاولها عامة نهاره.
(5) جعل الليل ساترا للخلق.
(6) جعل النهار وقتا لشئون الحياة والمعاش.
(7) ارتفاع السموات فوقنا مع إحكام الوضع ودقة الصنع.
(8) وجود الشمس المنيرة المتوهجة.
(9) نزول المطر وما ينشأ عنه من النبات.(1/76)
فكل ذلك داع لهم أن يعترفوا أن من قدر على كل هذا فلا تعجزه إعادتهم إلى النشأة الآخرة. (1)
كان المشركون يتساءلون عن البعث فيما بينهم. ويخوضون فيه إنكارا له واستهزاء بوقوعه ، فرد اللّه عليهم بأسلوب الاستفهام تفخيما لشأن المسئول عنه وتهويلا ، وإخراجا له عن دائرة علوم الخلق.
عن أى شيء يسألون « 1 » الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ؟ ! عن النبأ العظيم يتساءلون ؟ الذي هم فيه مختلفون فمنهم من هو جازم بعدم وقوعه ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا « 2 » ومنهم من ينكره لأنه ينكر وجود اللّه ... إلخ.
كلا! وهي كلمة ردع عن التساؤل والاختلاف في البعث مع وضوح الأدلة عليه.
كلا سيعلمون ، أى : ليرتدعوا عما هم فيه فإنهم سيعلمون عما قريب حقيقة الحال إذا حل بهم العذاب والنكال. ثم كلا سيعلمون!! وها هي ذي بعض مظاهر القدرة وآيات الرحمة الدالة على قدرة اللّه على البعث وأنه صاحب النعم : ألم « 1 » نجعل الأرض فراشا ممهدا ليعيش عليها الإنسان عيشة سعيدة ؟ (2)
التفسير والبيان :
ينكر اللّه تعالى على المشركين تساؤلهم عن يوم القيامة إنكارا لوقوعها ،فيقول : عَمَّ يَتَساءَلُونَ ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ أي عن أي شيء يتساءل المشركون من أهل مكة وغيرهم فيما بينهم ؟ ثم أجاب اللّه تعالى عن هذا السؤال بقوله : عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ أي عن الخبر المهم الهائل ، العظيم الشأن الذي اختلفوا في أمره ، بين مكذّب ومصدّق ، وكافر ومؤمن به ، ومنكر ومقرّ ، وشاكّ ومثبت ، وهو يوم البعث بعد الموت ، كما حكى اللّه عنهم بقوله : إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ، نَمُوتُ وَنَحْيا ، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [المؤمنون 23/ 37] وقوله : ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ، إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا ، وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية 45/ 32].
وقال مجاهد في تفسير النبأ العظيم : هو القرآن ، قال ابن كثير : والأظهر الأول أي أنه البعث بعد الموت لقوله تعالى : الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ وقال الرازي : إنه يوم القيامة ، وهو الأقرب.
والمراد من الاستفهام تفخيم الأمر وتعظيمه وتعجيب السامعين من أمر المشركين. وإيراد الكلام في صورة السؤال والجواب ، أقرب- كما قال الرازي- إلى التفهيم والإيضاح ، وتثبيت الجواب في نفوس الناس السائلين ، كما في قوله تعالى : لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر 40/ 16].
__________
(1) - تفسير المراغي - (1 / 5361)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 811)(1/77)
ثم رد اللّه تعالى عليهم متوعدا إنكارهم القيامة بقوله :كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ أي لا ينبغي لهم أن يختلفوا في شأن البعث ، فهو حق لا ريب فيه ، وسيعلم الذين يكفرون به عاقبة تكذيبهم.
وكلمة كَلَّا ردع لهم وزجر ، ثم كرر الردع والزجر بالجملة الثانية ، أي فليزدجروا عما هم فيه من الكفر والتكذيب ، فإنهم سيعلمون قريبا حقيقة الأمر إذا حلَّ بهم العذاب.
وهذا تهديد شديد ، ووعيد أكيد ، قال أهل المعاني : تكرير الردع مع الوعيد دليل على غاية التهديد. وفي ثُمَّ إشارة إلى أن الوعيد الثاني أبلغ من الأول.
ثم أورد اللّه تعالى بعض مظاهر قدرته العظيمة على خلق الأشياء العجيبة الدالة على قدرته على أمر المعاد وغيره. فقال معددا تسعة أشياء تثبت صحة البعث والحشر الذي أنكروه ، وتدلُّ على قدرته على جميع الممكنات وعلمه بجميع المعلومات :
1- 2 : أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ، وَالْجِبالَ أَوْتاداً ،أي كيف تنكرون البعث ، وقد عاينتم أدلة قدرة اللّه التامة ، من جعل الأرض ممهدة مذللة للخلائق ، كالمهد للصبي : وهو ما يمهد له من الفراش ، فينوّم عليه ، وجعل الجبال الراسيات كالأوتاد للأرض ، لتسكن ولا تتحرك ، وتهدأ ولا تضطرب بأهلها ، كما قال تعالى : وَالْجِبالَ أَرْساها [النازعات 79/ 32].
3- وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ،أي وأوجدناكم أصنافا : ذكورا وإناثا ، للأنس والتعاون والحفاظ على النوع البشري ،كما قال تعالى : وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم 30/ 21].
4- 5- وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً ، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً ،أي وجعلنا نومكم راحة لأبدانكم وقطعا للحركة ولأعمالكم المتعبة في النهار ، فبالنوم تتجدد القوى ، وينشط العقل والجسم ، والسبات : أن ينقطع عن الحركة ، والروح في بدنه.
وجعلنا الليل سكنا وكاللباس الذي يغطي بظلامه الأشياء والأجسام ، فكما أن اللباس يغطي الجسد ويقيه من الحر والبرد ، ويستر العورات ، كذلك الليل يستتر فيه من أراد الاختفاء لقضاء مصالح وتحقيق فوائد لا تتيسر في النهار ، كالاستتار من العدو وقضاء بعض الحوائج.
6- وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً ،أي وجعلنا وقت النهار مشرقا مضيئا ليتمكن الناس من تحصيل أسباب المعايش والتكسب والتجارة والزراعة والصناعة ونحو ذلك من موارد الرزق.
7- 8- وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً ، وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً
أي وبنينا فوقكم سبع سموات قوية الخلق ، محكمة البناء ، متقنة الصنع ، مزينة بالكواكب الثوابت والسيارات ، وجعلنا الشمس سراجا منيرا على جميع العالم ، يستضاء به ، ويستنار بنوره ، ويشعُّ بحرارته ، فإن الوهج يجمع النور والحرارة ، وبهما تستفيد جميع الكائنات الحية.(1/78)
9- وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً ، لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً ، وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً ،أي وأنزلنا من السحب والغيوم التي تنعصر بالماء ولم تمطر بعد مطرا منصبا بكثرة ، كثير السيلان ، لنخرج بذلك الماء الكثير الطيب النافع حَبًّا يقتات به الناس ، كالحبوب المختلفة من قمح وشعير وذرة وأرز ، ونباتا تأكله الدواب من التبن والحشيش وسائر النبات،وبساتين وحدائق ذات بهجة وأغصان ملتفة على بعضها وثمرات متنوعة وألوان مختلفة وطعوم وروائح متفاوتة ، وإن كان ذلك في بقعة واحدة،كما قال تعالى : وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ، وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ ، وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ ، يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد 13/ 4].
والثج : الصب الكثير المتتابع ، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَرْبُوعٍ عَنْ أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ أَىُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ قَالَ « الْعَجُّ وَالثَّجُّ » (1) . أي رفع الصوت بالتلبية ، وصب دماء البدن أو الهدي وإراقتها. (2)
ومضات :
في هذه الآيات :
1 - سؤال عمّا يتساءل الناس عن صحته من الخبر العظيم العجيب واختلافهم في شأنه.
2 - وتوكيد قوي بأن المتسائلين لا بدّ من أن يروه حقيقة ويعلموا صحته.
3 - وسؤال في معنى التدليل على قدرة اللّه على ذلك في تقرير مشاهد عظمة اللّه في كونه ونواميسه. فهو الذي جعل الأرض ممهدة صالحة للسير والاستقرار.
وأقام فوقها رواسي الجبال كالأوتاد. وخلق الخلق أصنافا. وجعل النوم انقطاعا عن الحركة ، والليل ظرفا للراحة والسكون ، والنهار للسعي والحركة والارتزاق.
وبنى فوق الأرض سبع سموات عظمى. وجعل فيها سراجا شديد الحرارة والنور.
وأنزل من السحب الماء المدرار فأخرج به الحبّ والنبات وجنّات الأشجار المتكاثفة.
وروح الآيات تلهم أن الضمير في يَتَساءَلُونَ ومُخْتَلِفُونَ وسَيَعْلَمُونَ عائد إلى الكفار. وقد قال المفسرون إن النبأ العظيم يمكن أن يكون البعث والحساب ويمكن أن يكون أمر النبوّة. ويمكن أن يكون القرآن. بل ذكر البغوي عزوا إلى مجاهد أن الأكثرين على أنه القرآن. وقد رجّح ابن كثير أنه يوم القيامة.
والأقوال الثلاثة واردة على كل حال وإن كنّا نميل إلى ترجيح القول الأول وقد يكون في الآيات التالية تأييد لهذا الترجيح.
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز -(835 ) صحيح
(2) - التفسير المنير ج 30 ، ص : 11(1/79)
وأسلوب الآيات التي تعدد مشاهد الكون ونعم اللّه التي يتمتع بها الناس موجّه إلى كل فئة وقوي نافذ لأنه متّصل بمشاهداتهم وما يتمتعون به. ويلهم في الوقت نفسه أن السامعين ومنهم الكفار يعترفون بأن ما يرونه ويلمسونه ويتمتعون به هو من آثار قدرة اللّه تعالى وصنعته. ومن هنا يكون التدليل بها على قدرة اللّه على تحقيق النبأ العظيم الذي يتساءل عنه الكفار قويّا ملزما. (1)
قوله تعالى : « عَمَّ يَتَساءَلُونَ » ؟
أي عن أي شىء يتساءل هؤلاء المشركون ؟ وهل هناك مشكلة مستعصية عليهم ، حتى يكون منهم هذا التساؤل الملحاح ، الذي يصبحون فيه ويمسون ؟
قوله تعالى : « عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ». يجوز أن يكون هذا جوابا عن السؤال الوارد فى قوله تعالى : « عَمَّ يَتَساءَلُونَ » ؟ أي أنهم يتساءلون عن النبأ العظيم ، الذي اختلفت فيه آراؤهم ، وتشعبت به فى طرق الضلال عقولهم ، دون أن يتعرف أحد منهم الطريق إلى الهدى ، وإلى الخروج من دوامة هذا الاختلاف .. إنهم لا يختلفون فى سبيل البحث عن الحقيقة ، والتعرف عليها ، وإنما خلافهم فى أن يجدوا طريقا واحدا من طرق الضلال والبهتان ، تجتمع عليه كلمتهم ، ويلتقى عنده رأيهم.
والنبأ العظيم ، هو الأمر ذو الشأن ، الذي تغطّى أخباره كل خبر ، فتتجه إليه الأنظار ، وتشغل به الخواطر .. والمراد به هنا ، القرآن الكريم ، وما يحدثهم به عن البعث والقيامة ، والحساب .. الأمر الذي لا تحتمل عقولهم تصور إمكانه.
ويجوز أن يكون قوله تعالى : « عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ » سؤالا آخر بعد السؤال الأول : « عَمَّ يَتَساءَلُونَ » ؟ . أي أيتساءلون عن هذا النبأ العظيم ، الذي هم مختلفون فى مذاهب القول فيه ، وفى أن ما يحدثهم به النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ عن البعث ، والحساب والجزاء ، شىء لا يصدق ، وأن ذلك إنما هو من خداع « محمد » واستهوائهم لاتّباع دعوته ، لحاجة فى نفسه ؟ أذلك هو النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون ؟
قوله تعالى : «كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ » هو رد على هذا الذي يتساءلون عنه .. إنه أمر لا يدعو إلى تساؤل من عاقل ، ولا يثير خلافا بين عقلاء .. إذ كان أظهر من أن يسأل عنه ، وأوضح من أن يختلف فيه ، وأنهم إذا جهلوه لجهلهم ، أو تجاهلوه بعنادهم ـ فإنه سيأتى اليوم الذي يعلمونه فيه يقينا ، ويرونه عيانا ..
وفى تكرار الخبر ، توكيد له ، وتقرير لتلك الحقيقة السافرة ، التي تقوم بين يديها ومن خلفها ، الأدلة القاطعة ، والبراهين الناطقة!
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة - (5 / 405)(1/80)
قوله تعالى : . « أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ، وَالْجِبالَ أَوْتاداً ، وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ، وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً ، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً ، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً ، وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً ، وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً ، وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً ، لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً ، وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً .. »
هذا عرض لبعض الأدلة والبراهين التي تقوم شاهدة على قدرة اللّه سبحانه وتعالى ، وعلى ما فى متناول هذه القدرة من التصريف فى عالم الإنسان ، حياة ، وموتا ، وبعثا .. وقد كان من شأنهم ـ لو كان لهم عقول ـ أن يقفوا بين يدى هذه المعارض من قدرة اللّه ، وأن يقرءوا فى صحفها ما يحدثهم عن جلال اللّه وقدرته ..
فهذه الأرض ، قد جعلها اللّه بقدرته القادرة « مهادا » أي فراشا ممهدا ، وبساطا ممدودا ، يتحرك فيها الإنسان ، ويسلك مسالكها ، ويجد وسائل العيش والحياة فيها ..
وهذه الجبال ، قد جعلها اللّه سبحانه « أوتادا » تمسك الأرض ، حتى لا تميد وتضطرب .. إنها أشبه بالأوتاد التي تشد الخيمة ، وتمسك بها ..
ثم هأتم أيها الناس ، وقد خلقكم اللّه أزواجا ، ذكرا وأنثى ، حتى تتوالدوا فى هذه الأرض وتتكاثروا ، ويتصل نسلكم فيها ، وتعمر وجوهها بأجيالكم المتعاقبة عليها ..
وليست هذه المزاوجة لكم وحدكم ، أيها الناس ، بل هى أمر عام ينتظم عوالم الأحياء كلها ، من نبات وحيوان .. بل إن هذا الحكم ليمتد ، فيشمل كل ما خلق اللّه .. فكل مخلوق ، من عالم الجماد ، أو النبات أو الحيوان ، لا يقوم له وجود إلا إذا كان له ما يقابله من جنسه ، مقابلة عنادّيّة ، من شأنها أن تستثير قواه ، وتبعث كوامنه ، وهو بالتالى يستثير المقابل له ، ويستخرج كوامنه ، وبهذا يلتقيان ، ويتزاوجان ، وتتكون من تزاوجهما طاقة يتولد عنها مخلوق جديد ، وهكذا الشأن فى عالم المعاني أيضا ..
فالذكر تقابله الأنثى ، والأنثى يقابلها الذكر ، والنور يقابله الظلام ، والنهار يقابله الليل ، واليقظة يقابلها النوم ، والحياة يقابلها الموت ، والحق يقابله الباطل ، والجميل يقابله القبيح .. وهكذا ، فليس شىء فى الوجود قائم بذاته ، متفرد بوجوده .. وذلك لتكون الوجدانية خالصة للّه الواحد القهار.
قوله تعالى : . « وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً » السّبات : السكون ، والهمود ، والمسبوت الميّت ، يقال : ضربه فأسبته ، أي أحمد أنفاسه ، وأبطل حركته .. والسبت : القطع.
ومن قدرة اللّه سبحانه وتعالى ، ومن آثار رحمته ، أنه جعل النوم موتا لنا ونحن أحياء ، فألبسنا الحياة والموت معا .. نحيا ، ونموت ، ونموت ونحيا ، وذلك فى كل يوم من أيام حياتنا.
فالنوم ، صورة مصفرة من الموت ، وانطلاق الروح فى حال النوم ، وسياحتها ورحلتها المنطلقة بعيدا عن الجسد ، هو أشبه بانطلاقها انطلاقا مطلقا بعد الموت ، وارتحالها الأبدى فيما(1/81)
وراء المادة .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى » (42 : الزمر) وقوله سبحانه : «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ » (60 : الأنعام) قوله تعالى : « وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً ».أي ومن فيض قدرته ـ سبحانه ـ ومن تدبير حكمته ، أنه جعل الليل لباسا ، أي ساترا ، يستر الكائنات ، كما يستر الثوب الجسد ، ويرخى على الأحياء سترا يمسك حواسها المنطلقة أثناء النهار ، ليعطيها فرصتها من الراحة والسكون ، وليتيح للقوى المندسة فى كيان الإنسان ، من مدركات ـ وعواطف ، ومشاعر ـ أن تنطلق ، لتجد وجودها كاملا ، وبهذا يحدث التوازن بين كل القوى المتزاوجة فى الإنسان .. بين جسده وروحه ، بين مادياته ومعنوياته ، بين حركته وسكونه ، بين يقظته ونومه ..
قوله تعالى : « وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً » المعاش : الحياة .. وسميت الحياة معاشا باسم سببها ، وهو العيش الذي لا حياة لحىّ إلا بما يتبلغ به من طعام ..
أي ومن قدرة اللّه سبحانه ، ومن فيض فضله ورحمته ، أن جعل النهار مبصرا ، ليرى الأحياء فيه مواقع معاشهم ، ووسائل كسبهم ..
قوله تعالى : « وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً » السبع الشداد ، السموات السبع .. ووصف السموات بأنها شداد ، إشارة إلى ما يبدو لنا من قيامها سقفا مرفوعا فوقنا ، دون أن تسقط علينا ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ » (6 : ق) وقوله تعالى : « وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ » (47 : الذاريات) وأمّا القول بأنها الكواكب السبعة ، فغير صحيح ، لأن الكواكب ليست سبعة ، وإنما الذي عرف منها إلى الآن تسع ، وهناك كواكب كثيرة لم تكتشف بعد ، وقد تبلغ المئات عدّا ..
وأصحّ من هذا أن يقال إنها الطرائق السبع ، التي ذكرها اللّه سبحانه وتعالى فى قوله : « وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ » (17 : المؤمنون) وهى أطباق السموات السبع ، كما يقول سبحانه : « الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً » (3 : الملك) قوله تعالى : « وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً » والسراج الوهاج ، هو الشمس ، ووصف السراج بأنه وهاج ، إشارة إلى توهج الشمس وتوقدها ، فهى كرة من نار ، متّقدة ..
قوله تعالى : « وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً » المعصرات : هى السحب التي يتحلب منها الماء ، أشبه بالثوب المبلول ، يعتصر ، فيتساقط الماء منه ..وفى وصف السحب بأنها معصرات ، إشارة إلى أن الماء الذي تحمله متلبس بها ، مندسّ فى كيانها ، بل هى فى حقيقتها ماء ، ووعاء .. معا ..والثجاج أو السحاح. المتدفق.(1/82)
قوله تعالى : « لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً ، وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً ». هو بيان لما يتولد من هذا الماء المتدفق من السحب ، فبهذا الماء يخرج اللّه الحب والنبات ، ومنه يخرج هذه الجنات المتشابكة الأعصان ، المتعانقة الأفنان ..
واللّه سبحانه قادر على أن يخرج النبات من غير ماء ، ولكن أقام سبحانه نظام الوجود على أسباب ومسببات .. فمنه سبحانه الأسباب ، ومنه تبارك اسمه المسببات ..
والحب : ما يقتات منه الناس ، كالبرّ ، والشعير ، والذرة ، والأرز ، ونحوها ..
والنبات : ما تأكل منه الأنعام ، كالكلأ ونحوه ..
فهذه بعض مظاهر قدرة اللّه .. أفلا يرى المشركون المكذبون بالبعث ، المختلفون فيما يحدثهم به النبىّ عنه ـ أفلا يرون أن بعثهم لا يعجز هذه القدرة القادرة ، التي أبدعت هذه الآيات ، وأحكمت صنعها ؟ وألا يحدث ذلك لهم علما يرفع هذا الخلاف الذي هم فيه ؟ (1)
وفي الظلال :
مطلع فيه استنكار لتساؤل المتسائلين ، وفيه عجب أن يكون هذا الأمر موضع تساؤل . وقد كانوا يتساءلون عن يوم البعث ونبأ القيامة . وكان هو الأمر الذي يجادلون فيه أشد الجدل ، ولا يكادون يتصورون وقوعه ، وهو أولى شيء بأن يكون!
{ عم يتساءلون؟ } . . وعن أي شيء يتحدثون؟ ثم يجيب .
فلم يكن السؤال بقصد معرفة الجواب منهم . إنما كان للتعجيب من حالهم وتوجيه النظر إلى غرابة تساؤلهم ، بكشف الأمر الذي يتساءلون عنه وبيان حقيقته وطبيعته :
{ عن النبأ العظيم ، الذي هم فيه مختلفون } . . ولم يحدد ما يتساءلون عنه بلفظه ، إنما ذكره بوصفه . . النبأ العظيم . . استطراداً في أسلوب التعجيب والتضخيم . . وكان الخلاف على اليوم بين الذين آمنوا به والذين كفروا بوقوعه . أما التساؤل فكان من هؤلاء وحدهم .
ثم لا يجيب عن التساؤل ، ولا يدلي بحقيقة النبأ المسؤول عنه . فيتركه بوصفه . . العظيم . . وينتقل إلى التلويح بالتهديد الملفوف ، وهو أوقع من الجواب المباشر ، وأعمق في التخويف :
{ كلا! سيعلمون . ثم كلا! سيعلمون } . . ولفظ كلا ، يقال في الردع والزجر فهو أنسب هنا للظل الذي يراد إلقاؤه . وتكراره وتكرار الجملة كلها فيه من التهديد ما فيه .
ثم يبعد في ظاهر الأمر عن موضوع ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون . ليلتقي به بعد قليل . يبعد في جولة قريبة في هذا الكون المنظور مع حشد من الكائنات والظواهر والحقائق والمشاهد ، تهز الكيان حين يتدبرها الجنان : { ألم نجعل الأرض مهاداً؟ والجبال أوتاداً؟
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1412)(1/83)
وخلقناكم أزواجاً؟ وجعلنا نومكم سباتاً؟ وجعلنا الليل لباساً؟ وجعلنا النهار معاشاً؟ وبنينا فوقكم سبعاً شداداً؟ وجعلنا سراجاً وهاجاً؟ وأنزلنا من المعصرات مآء ثجاجاً؟ لنخرج به حباً ونباتاً ، وجنات ألفافاً؟ } . .
وهذه الجولة التي تتنقل في أرجاء هذا الكون الواسع العريض ، مع هذا الحشد الهائل من الصور والمشاهد ، تذكر في حيز ضيق مكتنز من الألفاظ والعبارات ، مما يجعل إيقاعها في الحس حاداً ثقيلاً نفاذاً ، كأنه المطارق المتوالية ، بلا فتور ولا انقطاع! وصيغة الاستفهام الموجهة إلى المخاطبين وهي في اللغة تفيد التقرير صيغة مقصودة هنا ، وكأنما هي يد قوية تهز الغافلين ، وهي توجه أنظارهم وقلوبهم إلى هذا الحشد من الخلائق والظواهر التي تشي بما وراءها من التدبير والتقدير ، والقدرة على الإنشاء والإعادة ، والحكمة التي لا تدع أمر الخلائق سدى بلا حساب ولا جزاء . . ومن هنا تلتقي بالنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون!
واللمسة الأولى في هذه الجولة عن الأرض والجبال : { ألم نجعل الأرض مهاداً ، والجبال أوتاداً؟ } . .
والمهاد : الممهد للسير . . والمهاد اللين كالمهد . . وكلاهما متقارب . وهي حقيقة محسوسة للإنسان في أي طور من أطوار حضارته ومعرفته . فلا تحتاج إلى علم غزير لإدراكها في صورتها الواقعية . وكون الجبال أوتاداً ظاهرة تراها العين كذلك حتى من الإنسان البدائي؛ وهذه وتلك ذات وقع في الحس حين توجه إليها النفس .
غير أن هذه الحقيقة أكبر وأوسع مدى مما يحسها الإنسان البدائي لأول وهلة بالحس المجرد . وكلما ارتقت معارف الإنسان وازدادت معرفته بطبيعة هذا الكون وأطواره ، كبرت هذه الحقيقة في نفسه؛ وأدرك من ورائها التقدير الإلهي العظيم والتدبير الدقيق الحكيم ، والتنسيق بين أفراد هذا الوجود وحاجاتهم؛ وإعداد هذه الأرض لتلقي الحياة الإنسانية وحضانتها؛ وإعداد هذا الإنسان للملاءمة مع البيئة والتفاهم معها .
وجعل الأرض مهاداً للحياة وللحياة الإنسانية بوجه خاص شاهد لا يمارى في شهادته بوجود العقل المدبر من وراء هذا الوجود الظاهر . فاختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الأرض هكذا بجميع ظروفها . أو اختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الحياة لتعيش في الأرض . . الاختلال هنا أو هناك لا يجعل الأرض مهاداً؛ ولا يبقي هذه الحقيقة التي يشير إليها القرآن هذه الإشارة المجملة ، ليدركها كل إنسان وفق درجة معرفته ومداركه . .
وجعل الجبال أوتاداً . . يدركه الإنسان من الناحية الشكلية بنظره المجرد ، فهي أشبه شيء بأوتاد الخيمة التي تشد إليها . أما حقيقتها فنتلقاها من القرآن ، وندرك منه أنها تثبت الأرض وتحفظ توازنها . . وقد يكون هذا لأنها تعادل بين نسب الأغوار في البحار ونسب المرتفعات(1/84)
في الجبال . . وقد يكون لأنها تعادل بين التقلصات الجوفية للأرض والتقلصات السطحية ، وقد يكون لأنها تثقل الأرض في نقط معينة فلا تميد بفعل الزلازل والبراكين والاهتزازات الجوفية . . وقد يكون لسبب آخر لم يكشف عنه بعد . . وكم من قوانين وحقائق مجهولة أشار إليها القرآن الكريم . ثم عرف البشر طرفاً منها مئات السنين :
واللمسة الثانية في ذوات النفوس ، في نواحي وحقائق شتى : { وخلقناكم أزواجاً } . .
وهي ظاهرة كذلك ملحوظة يدركها كل إنسان بيسر وبساطة . . فقد خلق الله الإنسان ذكراً وأنثى ، وجعل حياة هذا الجنس وامتداده قائمة على اختلاف الزوجين والتقائهما . وكل إنسان يدرك هذه الظاهرة ، ويحس ما وراءها من راحة ولذة ومتاع وتجدد بدون حاجة إلى علم غزير . ومن ثم يخاطب بها القرآن الإنسان في أية بيئة فيدركها ويتأثر بها حين يتوجه تأمله إليها ، ويحس ما فيها من قصد ومن تنسيق وتدبير .
ووراء هذا الشعور المبهم بقيمة هذه الحقيقة وعمقها ، تأملات أخرى حين يرتقي الإنسان في المعرفة وفي الشعور أيضاً . . هنالك التأمل في القدرة المدبرة التي تجعل من نطفة ذكراً ، وتجعل من نطفة أنثى ، بدون مميز ظاهر في هذه النطفة أو تلك ، يجعل هذه تسلك طريقها لتكون ذكراً ، وهذه تسلك طريقها لتكون أنثى . . اللهم إلا إرادة القدرة الخالقة وتدبيرها الخفي ، وتوجيهها اللطيف ، وإيداعها الخصائص التي تريدها هي لهذه النطفة وتلك ، لتخلق منهما زوجين تنمو بهما الحياة وترقى!
{ وجعلنا نومكم سباتاً . وجعلنا الليل لباساً . وجعلنا النهار معاشاً } . .
وكان من تدبير الله للبشر أن جعل النوم سباتاً يدركهم فيقطعهم عن الإدراك والنشاط؛ ويجعلهم في حالة لا هي موت ولا هي حياة ، تتكفل بإراحة أجسادهم وأعصابهم وتعويضها عن الجهد الذي بذلته في حالة الصحو والإجهاد والانشغال بأمور الحياة . . وكل هذا يتم بطريقة عجيبة لا يدرك الإنسان كنهها ، ولا نصيب لإرادته فيها؛ ولا يمكن أن يعرف كيف تتم في كيانه .
فهو في حالة الصحو لا يعرف كيف يكون وهو في حالة النوم . وهو في حالة النوم لا يدرك هذه الحالة ولا يقدر على ملاحظتها! وهي سر من أسرار تكوين الحي لا يعلمه إلا من خلق هذا الوحي وأودعه ذلك السر؛ وجعل حياته متوقفة عليه . فما من حي يطيق أن يظل من غير نوم إلا فترة محدودة . فإذا أجبر إجباراً بوسائل خارجة عن ذاته كي يظل مستيقظاً فإنه يهلك قطعاً .
وفي النوم أسرار غير تلبية حاجة الجسد والأعصاب . . إنه هدنة الروح من صراع الحياة العنيف ، هدنة تلم بالفرد فيلقي سلاحه وجنته طائعاً أو غير طائع ويستسلم لفترة من السلام الآمن ، السلام الذي يحتاجه الفرد حاجته إلى الطعام والشراب . ويقع ما يشبه المعجزات في بعض الحالات حيث يلم النعاس بالأجفان ، والروح مثقل ، والأعصاب مكدودة ، والنفس(1/85)
منزعجة ، والقلب مروع . وكأنما هذا النعاس أحياناً لا يزيد على لحظات انقلاب تام في كيان هذا الفرد . وتجديد كامل لا لقواه بل له هو ذاته ، وكأنما هو كائن حين يصحو جديد . . ولقد وقعت هذه المعجزة بشكل واضح للمسلمين المجهودين في غزوة بدر وفي غزوة أحد ، وامتن الله عليهم بها . وهو يقول : { إذ يغشِّيكم النعاس أمنة منه } { ثم أنز ل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طآئفة منكم } كما وقعت للكثير في حالات مشابهة!
فهذا السبات : أي الانقطاع عن الإدراك والنشاط بالنوم ضرورة من ضرورات تكوين الحي؛ وسر من أسرار القدرة الخالقة؛ ونعمة من نعم الله لا يملك إعطاءها إلا إياه . وتوجيه النظر إليها على هذا النحو القرآني ينبه القلب إلى خصائص ذاته ، وإلى اليد التي أودعتها كيانه ، ويلمسه لمسة تثير التأمل والتدبر والتأثر .
وكان من تدبير الله كذلك أن جعل حركة الكون موافقة لحركة الأحياء . وكما أودع الإنسان سر النوم والسبات ، بعد العمل والنشاط ، فكذلك أودع الكون ظاهرة الليل ليكون لباساً ساتراً يتم فيه السبات والانزواء . وظاهرة النهار ليكون معاشاً تتم فيه الحركة والنشاط . . بهذا تَوافقَ خلق الله وتناسق . وكان هذا العالم بيئة مناسبة للأحياء . تلبي ما ركب فيهم من خصائص . وكان الأحياء مزودين بالتركيب المتفق في حركته وحاجاته مع ما هو مودع في الكون من خصائص وموافقات . وخرج هذا وهذا من يد القدرة المبدعة المدبرة متسقاً أدق اتساق!
واللمسة الثالثة في خلق السماء متناسقة مع الأرض والأحياء : { وبنينا فوقكم سبعاً شداداً وجعلنا سراجاً وهاجاً . وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً . لنخرج به حباً ونباتاً ، وجنات ألفافاً } . .
والسبع الشداد التي بناها الله فوق أهل الأرض هي السماوات السبع ، وهي الطرائق السبع في موضع آخر . . والمقصود بها على وجه التحديد يعلمه الله . . فقد تكون سبع مجموعات من المجرات وهي مجموعات من النجوم قد تبلغ الواحدة منها مائة مليون نجم وتكون السبع المجرات هذه هي التي لها علاقة بأرضنا أو بمجموعتنا الشمسية . وقد تكون غير هذه وتلك مما يعلمه الله من تركيب هذا الكون ، الذي لا يعلم الإنسان عنه إلا القليل .
إنما تشير هذه الآية إلى أن هذه السبع الشداد متينة التكوين ، قوية البناء ، مشدودة بقوة تمنعها من التفكك والانثناء . وهو ما نراه ونعلمه من طبيعة الأفلاك والأجرام فيما نطلق عليه لفظ السماء فيدركه كل إنسان . . كما تشير إلى أن بناء هذه السبع الشداد متناسق مع عالم الأرض والإنسان . ومن ثم يذكر في معرض تدبير الله وتقديره لحياة الأرض والإنسان . يدل على هذا ما بعده : { وجعلنا سراجاً وهاجاً } . . وهو الشمس المضيئة الباعثة للحرارة التي تعيش عليها الأرض وما فيها من الأحياء . والتي تؤثر كذلك في تكوين السحائب بتبخير المياه من المحيط الواسع في الأرض ورفعها إلى طبقات الجو العليا وهي المعصرات : { وأنزلنا من المعصرات(1/86)
ماء ثجاجاً } . . حين تعصر فتخر ويتساقط ما فيها من الماء . ومن يعصرها؟ قد تكون هي الرياح . وقد يكون هو التفريغ الكهربائي في طبقات الجو . ومن وراء هذه وتلك يد القدرة التي تودع الكون هذه المؤثرات! وفي السراج توقد وحرارة وضوء . . وهو ما يتوافر في الشمس . فاختيار كلمة « سراج » دقيق كل الدقة ومختار . .
ومن السراج الوهاج وما يسكبه من أشعة فيها ضوء وحرارة ، ومن المعصرات وما يعتصر منها من ماء ثجاج ، ينصب دفعة بعد دفعة كلما وقع التفريغ الكهربائي مرة بعد مرة ، وهو الثجاج ، من هذا الماء مع هذا الإشعاع يخرج الحب والنبات الذي يؤكل هو ذاته ، والجنات الألفاف الكثيفة الكثيرة الأشجار الملتفة الأغصان .
وهذا التناسق في تصميم الكون ، لا يكون إلا ووراءه يد تنسقه ، وحكمة تقدره ، وإرادة تدبره . يدرك هذا بقلبه وحسه كل إنسان حين توجه مشاعره هذا التوجيه ، فإذا ارتقى في العلم والمعرفة تكشفت له من هذا التناسق آفاق ودرجات تذهل العقول وتحير الألباب . وتجعل القول بأن هذا كله مجرد مصادفة قولاً تافهاً لا يستحق المناقشة . كما تجعل التهرب من مواجهة حقيقة القصد والتدبير في هذا الكون ، مجرد تعنت لا يستحق الاحترام!
إن لهذا الكون خالقاً ، وإن وراء هذا الكون تدبيراً وتقديراً وتنسيقاً . وتوالي هذه الحقائق والمشاهد في هذا النص القرآني على هذا النحو : من جعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً . وخلق الناس أزواجاً . وجعل نومهم سباتاً ( بعد الحركة والوعي والنشاط ) مع جعل الليل لباساً للستر والانزواء ، وجعل النهار معاشاً للوعي والنشاط . ثم بناء السبع الشداد . وجعل السراج الوهاج . وإنزال الماء الثجاج من المعصرات . لإنبات الحب والنبات والجنات . . توالي هذه الحقائق والمشاهد على هذا النحو يوحي بالتناسق الدقيق ، ويشي بالتدبير والتقدير ، ويشعر بالخالق الحكيم القدير .
ويلمس القلب لمسات موقظة موحية بما وراء هذه الحياة من قصد وغاية . . ومن هنا يلتقي السياق بالنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون! (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- مظاهر القدرة والعلم والحكمة والرحمة الإِلهية في كل الآيات من قوله ألم نجعل الأرض مهادا إلى قوله وجنات ألفافا.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء والنبوة والتوحيد وهي التي اختلف الناس فيها ما بين مثبت وناف ، ومصدق ومكذب .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (7 / 432)(1/87)
3- سيحصل العلم الكامل بهذه المختلف فيها بين الناس عند نزع الروح ساعة الموت ، ولكن لا فائدة من العلم ساعتها إذ قضي الأمر وانتهى الخلاف .
4- آية لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً تشمل كل أنواع النبات الثلاثة التي تنبت من الأرض
5- سيعلم الكفار المكذّبون صدق ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من القرآن ومما ذكره لهم من البعث بعد الموت ، حين يحلُّ بهم العذاب والنكال. وفيه وعيد بعد وعيد.
6- رد اللّه تعالى على المشركين منكري البعث ، وأثبت لهم قدرته على البعث والمعاد والحشر والنشر من خلال الإتيان بما هو مشاهد معاين لهم وهو إيجاد عجائب المخلوقات ، والقدرة على إيجاد هذه الأمور أعظم من القدرة على الإعادة.
4- ذكر اللّه تعالى من عجائب مخلوقاته الدالة على كمال القدرة وتمام العلم والحكمة أمورا تسعة : هي جعل الأرض ممهدة مذللة كالمهد للصبي ، وهو ما يمهد له فينوّم عليه ، وجعل الجبال للأرض كالأوتاد التي تشدّ بها حبال الخيام ،لتسكن وتثبت ولا تميل بأهلها ، وخلق الناس أصنافا : ذكورا وإناثا وأضدادا متقابلين حسنا وقبحا وطولا وقصرا ليكتمل الكون ، ويزهو بالجمال والأنس ، ويتيسر التعاون ، ويستمر بقاء النوع الإنساني.
وتصيير النوم راحة للأبدان وقطعا للحركة والأعمال التي يكابد بها الإنسان طوال النهار ، فتتجدد قواه ، ويستعيد نشاطه ، فالنوم يزيل التعب عن الإنسان.
وجعل الليل بظلمته كاللباس ساترا ، أو سكنا للناس ، فظلمة الليل تستر الإنسان عن العيوب إذا أراد هربا من عدو ، أو بياتا له ، أو إخفاء ما لا يحب الإنسان اطلاع غيره عليه ، وأيضا فكما أن الإنسان بسبب اللباس يزداد جماله وتتكامل قوته ، ويندفع عنه أذى الحر والبرد ، فكذا لباس الليل ، بسبب ما يحصل فيه من النوم ، يزيد في جمال الإنسان ، وفي طراوة أعضائه ، وفي تكامل قواه الحسية والحركية ، ويندفع عنه أذى التعب الجسماني ، وأذى الوساوس والأفكار الموحشة.
وجعل النهار وقت معاش ، يتردد فيه الناس لطلب معايشهم : وهي كل ما يعاش به من المطعم والمشرب وغير ذلك.
وبناء سبع سموات محكمات ، محكمة الخلق ، وثيقة البنيان ، وجعل الشمس سراجا منيرا مضيئا وقادا متلألئا ، وفي كل ذلك خير ونفع للإنسان. وإنزال الأمطار من السحب المحملة بالماء ، فيحدث منها الغيث الذي يحيي الأرض بعد جدبها ، وينعش النفوس والأجسام بعد عنائها وتكدرها ، ويخرج به الحب للإنسان كالحنطة والشعير وغير ذلك ، والنبات للحيوان(1/88)
وهو ما تأكله الدواب من الحشيش ، وتوجد به البساتين والحدائق الغناء التي تلتف أغصانها بعضها ببعض لكثرة تشعبها ، وتزهو بالخضرة والنضرة والجمال ، والثمار والألوان ، والطعوم والروائح.
وهذه الأمور التسعة نظرا لحدوثها وإمكانها وتجددها تدلُّ على وجود الفاعل المختار ، كما يدلُّ ما فيها من الإتقان والإحكام على كمال العلم والحكمة الذاتية ، وإذا ثبت كمال اللّه تعالى في هذه الأوصاف ، ثبت قطعا إمكان الحشر دون أي شك ، ثم في إخراج النبات بعد جفافه ويبسه دليلٌ ظاهر حسيٌّ قريب للأذهان على إمكان إخراج الموتى من القبور ، وبعثهم بعد الموت أحياء.
وفضلا عن ذلك ، فإن كل أمر من الأمور التسعة نعمة عظمى ، يجب أن تشكر بالتوفر على الطاعة ، ولا تكفر بالإقدام على المعصية (1)
7- آية لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً تشمل كل أنواع النبات الثلاثة التي تنبت من الأرض : وهي ما له أكمام وهو الحب ، وما لا يكون له أكمام وهو الحشيش ، وهذان النوعان لا ساق لهما ، والنوع الثالث : هو ما له ساق وهو الشجر ، فإذا اجتمع منها شيء كثير سميت جنة (2)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - غرائب القرآن : 30/ 7
(2) - تفسير الرازي : 31/ 9(1/89)
أوصاف يوم القيامة وأماراته ونوع عذابه
قال تعالى :
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
المناسبة :
بعد إثبات قدرة اللّه تعالى على تخريب الدنيا ، وإيجاد عالم آخر ، بإثبات إمكان الحشر وعموم القدرة والعلم ، أخبر تعالى عن يوم الفصل وهو يوم القيامة أنه مؤقت بأجل معلوم لا يزاد عليه ولا ينقص منه ، ولا يعلم وقته على التعيين إلا اللّه عز وجل ، ثم ذكر علامات ذلك اليوم من نفخ الصور ، وتصدع السماء ، وتسيير الجبال عن أماكنها وصيرورتها هباء كالهواء ، ثم أوضح أن جهنم مرصد للطغاة وهم الكافرون المكذبون بآيات اللّه ، الذين أحصى اللّه عليهم كل شيء من أعمالهم ، وسيلقون جزاء ما صنعوا.
المفردات:
17 ... يَوْمَ الفَصْلِ ... يوم القيامة للفصل بين الخلائق
17 ... كَانَ مِيقَاتًا ... مؤقت بوقت معين
18 ... الصُّورِ ... هو البوق الذي ينفخ فيه الملك إسرافيل
18 ... أَفْوَاجًا ... جماعات جماعات
19 ... فُتِحَتِ السَّمَاءُ ... لنزول الملائكة
20 ... سَرَابًا ... كالسراب الذي لا حقيقة له
21 ... مِرْصَادًا ... مرصدة معدّة للكافرين يرجعون إليها .
22 ... لِلطَّاغِينَ ... المردة المخالفون للرسل
22 ... مَآبًا ... مرجعا ومأوى لهم
23 ... لابِثِينَ ... ماكثين
23 ... أَحْقَابًا ... دهورا لانهاية لها
24 ... بَرْدًا ... نوما
25 ... حَمِيمًا ... الماء الحار(1/90)
25 ... غَسَّاقًا ... صديدا
26 ... جَزَاءً وِفَاقًا ... جزاء موافقا لأعمالهم
27 ... لا يَرْجُونَ ... لا يعتقدون بالحساب
المعنى الإجمالي:
بعد أن نبه عباده إلى هذه الظواهر الباهرة ، ولفت أنظارهم إلى آياته القاهرة ، أخذ يبين ما اختلفوا فيه ونازعوا فى إمكان حصوله وهو يوم الفصل ، ويذكر لهم بعض ما يكون فيه تخويفا لهم من الاستمرار على التكذيب بعد ما وضحت الأدلة واستبان الحق ، ثم أبان لهم أن هذا يوم شأنه عظيم وأمر الكائنات فيه على غير ما تعهدون ، ثم ذكر منزلة المكذبين الذين جحدوا آيات اللّه واتخذوها هزوا ، وأن جهنم مرجعهم الذي ينتهون إليه ، وأنهم سيقيمون فيها أحقابا طوالا لا يجدون شيئا من النعيم والراحة ، ولا يذوقون فيها روحا ينفّس عنهم حر النار ، ولا يذوقون من الشراب إلا الماء الحارّ والصديد الذي يسيل من أجسادهم ، جزاء سيىء أعمالهم ، إذ هم كانوا لا ينتظرون يوم الحساب ، ومن ثم اقترفوا السيئات ، وارتكبوا مختلف المعاصي ، وكذبوا الدلائل التي أقامها اللّه على صدق رسوله أشد التكذيب ، وقد أحصى اللّه كل شىء فى كتاب علمه ، فلم يغب عنه شىء صدر منهم ، وسيوفيهم جزاء ما صنعوا ، وستكون له كلمة الفصل ، فيقول لهم : « فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً » (1) .
والمعنى : قروا واعترفوا بأن اللّه قد جعل الأرض مستقرا ومهادا لكم ، وجعل الجبال في الأرض كالأوتاد لإرسائها كما يرسى البيت من الشعر بالعمد والأوتاد. وقد خلقناكم ذكرا وأنثى ليتسنى التناسل والتوالد. وينتظم أمر الحياة فيها. وقد جعلنا - أى : الذات الأقدس - نومكم كالموت يقطع طول العناء وكثرة التعب : فالنوم أحد الموتتين ، على أنه نعمة من نعم اللّه الكبرى ، فإن نوم ساعات يريح القوى ، ويجدد النشاط ، ويعيد القوة والحيوية للإنسان ، وقد جعلنا الليل كاللباس لأنه يستر الأشخاص بظلمته.
يا سبحان اللّه في الظلمة خير!! وفي النور خير ، إذ للناس في ظلام الليل مصالح وفوائد فكما أن اللباس يقي من الحر والبرد ، ويستر العورات ، كذلك يستتر فيه الفار من العدو ، أو الحيوان المفترس ، ويستعد فيه الكامن للوثوب : وربما كان فرصة لقضاء بعض حوائج الناس ، وقد جعلنا النهار حياة ، ووقتا لتحصيل المعاش فيه يستيقظ الناس لمعاشهم ، وفيه يتقلبون لقضاء حوائجهم ومكاسبهم ففي النهار الحياة ، وفي الليل النوم والسكون ، وقد خلقنا فوقكم سبعا شدادا ، أى : سبع سموات قوية محكمة لا يختل نظامها ، ولا يضعف بناؤها ، وقد جعلنا
__________
(1) - تفسير المراغي - (1 / 5366)(1/91)
الشمس فيها سراجا وهاجا ، سراجا قويا ، متلألئا وقادا ، وقد أنزلنا من السحب ماء منصبا كثيرا ، ليخرج بسببه الحب من حنطة وأرز وغيرهما ، والنبات من عشب وحشائش وغيرهما ، ولتخرج بسببه الجنات الملتفة الأغصان ، والحدائق الملتفة الأشجار لتقارب أغصانها وطول أفنانها ، إن يوم الفصل كان ميقاتا.
أليس الذي خلق هذا بقادر على أن يحيى الموتى يوم الفصل ؟ ! أمن من على الناس بتلك النعم يعجز عن يوم يكون فيه الفصل والقول الحق ، والميزان العدل بين الخلائق فيفصل المحسن عن المسيء ويجازى كلا على عمله ؟ ! إن يوم الفصل كان ميقاتا معلوما ينتهى إليه الناس فيجتمعون فيه ليرى كل عاقبة عمله ، ونهاية أمره وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ فيوم الفصل مؤقت بأجل محدود لا يزاد عليه ولا ينقص منه ولا يعلمه إلا اللّه.
كيف حال ذلك اليوم ؟ ! وما حال المكذبين به ؟ ! إنه هو يوم الفصل ، ليس بالهزل. إنه يوم الفزع الأكبر ، يوم ينفخ في الصور ، النفخة الثانية التي يأتى بسببها الناس أفواجا ، تأتى كل أمة بإمامها ، وتأتى كل جماعة منفردة من غيرها ، قد فتحت السماء فكانت أبوابا إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ فالقرآن يفسر بعضه بعضا ، والمراد : انشقت السماء انشقاقا يشبه فتح الباب في السهولة والسرعة وقد سيرت الجبال في الجو على صورتها بعد تفتتها وبعد قلعها من مقارها ، فتصبح كأنها سراب ، فهي سراب غليظ يرى من بعيد كأنه جبل وما هو بالجبل.
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً نعم كانت جهنم في ذلك اليوم مكانا وموضعا لرصد الكفار للعذاب لأنهم الطغاة المتجاوزون الحدود ، كانت لهم مآبا ومرجعا يؤوبون إليه ، حالة كونهم لابثين فيها أحقابا ، أى : ماكثين فيها أزمانا غير محدودة ، أزمانا متعاقبة متلاحقة لا يعلمها إلا اللّه ، حالة كون الماكثين فيها لا يذوقون شيئا إلا ماء حميما. وصديدا يقطر من جلود أهل النار!! جزاهم ربك على أفعالهم جزاء وفاقا!! وما السبب ؟ إنهم كانوا لا يرجون حسابا على أعمالهم ، وكذبوا بآياتنا الناطقة على إمكان البعث وكمال القدرة تكذيبا مفرطا ، وكل شيء من الأشياء التي من جملتها أعمالهم حفظناه وضبطناه في كتاب وأحصيناه إحصاء ، إذا كان الأمر كذلك فيقال لهم : ذوقوا هذا العذاب ، فلن نزيدكم بعده إلا عذابا مثله أو أشد. (1)
التفسير والبيان :
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً أي إن يوم القيامة وقت ومجمع وميعاد للأولين والآخرين ، ينالون فيه ما وعدوا به من الثواب والعقاب. وسمي يوم الفصل لأن اللّه تعالى يفصل فيه بحكمه بين خلقه.
ثم ذكر اللّه تعالى علامات ثلاثا لهذا اليوم ، فقال :
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 813)(1/92)
1- يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ، فَتَأْتُونَ أَفْواجاً أي إن يوم الفصل هو اليوم الذي ينفخ فيه إسرافيل بالبوق أو القرن ، فتأتون أيها الخلائق من قبوركم إلى موضع العرض زمرا زمرا ، وجماعات جماعات ، تأتي فيه كل أمة مع رسولها ،كما قال تعالى : يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء 17/ 71].
2- وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً أي وتصدعت السماء وشقت ، فصارت ذات أبواب كثيرة وطرقا ومسالك لنزول الملائكة ، ونظير الآية كثير ،مثل : إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق 84/ 1]. إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار 82/ 1]. وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ ، وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان 25/ 25]. وهذا يعني تبدل نظام الكون ،وذهاب التماسك بين أجزائه.
3- وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً أي وأزيلت الجبال عن أماكنها،وبددت في الهواء ، فكانت هباء منبثا ، يظن الناظر أنها سراب ، وتبدأ أولا بالدكّ كما قال تعالى : وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ ، فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الحاقة 69/ 14] ثم تصير كالعهن أو الصوف المنفوش كما قال : وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة 101/ 5] ثم تتقطع وتتبدد وتصير كالهباء ، كما قال : إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ، وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا ، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة 56/ 4- 6] ثم تنسف عن الأرض بالرياح ، كما جاء في قوله تعالى : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ : يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه 20/ 105] وقوله : وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً ، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل 27/ 88] »
ثم ذكر اللّه تعالى ما يلاقيه المكذبون الضالون الأشقياء يومئذ بقوله : إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً ، لِلطَّاغِينَ مَآباً ، لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً أي إن نار جهنم كانت في حكم اللّه وقضائه مرصدة معدّة للطغاة المتجبرين المتكبرين وهم المردة العصاة المخالفون للرسل ، ومرجعا ومصيرا ونزلا لهم ، حالة كونهم ماكثين فيها ما دامت الدهور. والأحقاب جمع حقب ومفردها حقبة : وهي المدة الطويلة من الزمان ، إذا مضى حقب دخل آخر ، وهكذا إلى الأبد. والمرصاد : إما اسم للمكان الذي يرصد فيه ، وإما صفة بمعنى أنها ترصد أعداء اللّه.
والآية دليل على أن جهنم كانت مخلوقة لأن قوله : مِرْصاداً أي معدّة ، ومثلها الجنة أيضا إذ لا فرق بينهما.
لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً ، جَزاءً وِفاقاً أي لا يذوقون في جهنم أو في الأحقاب بردا ينفعهم من حرها ، ولا شرابا ينفعهم من عطشها إلا الحميم : وهو الماء الحار الشديد الغليان ، والغساق : وهو صديد أهل النار ، وهذا العذاب موافق الذنب العظيم الذي ارتكبوه نوعا ومقدارا ، فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب أعظم من النار ، وقد كانت أعمالهم سيئة ، فجوزوا بمثلها ، كما قال تعالى : وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40].(1/93)
وقيل : البرد : النعاس والنوم. ويلاحظ أنه تعالى بعد أن شرح أنواع عقوبة الكفار ، بين أنه جزاء حق وعدل موافق لأعمالهم.
ثم عدد اللّه تعالى أنواع جرائمهم ، فقال : إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً ، وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً أي إنهم اقترفوا الأعمال السيئة والقبائح المنكرة لأنهم لا يطمعون في ثواب ، ولا يخافون من حساب لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث. فقوله : إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً أي لا يخافون أو لا يتوقعون حسابا : علة التأبيد في العذاب.
وكذبوا بالآيات القرآنية وبالبراهين الدالة على التوحيد والنبوة والمعاد تكذيبا شديدا. وهذا إشارة إلى فساد عقائدهم ، حتى جحدوا الحق وكذبوا الرسل. ثم أخبر اللّه تعالى عن إحصاء جميع أعمالهم بقوله : وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً أي إننا علمنا جميع أعمال العباد ، وكتبناها عليهم ، وكتبها الحفظة كتابة تامة شاملة ، وسنجزيهم على ذلك ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. وقوله كِتاباً مصدر في موضع إحصاء ، أو أن « أحصينا » في معنى كتبنا ، لالتقاء الإحصاء والكتابة في معنى الضبط والتحصيل.
ثم ذكر ما يقال لهم في التعذيب تقريعا وتوبيخا لهم : فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً أي يقال لأهل النار لكفرهم ، وتكذيبهم بالآيات ، وقبح أفعالهم : ذوقوا ما أنتم فيه من العذاب الأليم ، فلن نزيدكم إلا عذابا من جنسه. قال عبد اللّه بن عمرو : لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه الآية : فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً فهم في مزيد من العذاب أبدا.
ومضات :
وفي هذه الآيات وصف لمصير الكفار في ذلك اليوم الذين وصفوا بالطاغين للتدليل على كفرهم وبغيهم : فقد أعدّت جهنّم لتكون مأوى لهم ومرصدهم المنتظر. وسيلبثون فيها الأحقاب. ولن يذوقوا فيها شرابا يطفىء الغلة ولا بردا يذهب الحرارة. وليس فيها إلّا الماء الشديد الحرارة والغسّاق شرابا. وكل هذا جزاء عادل متناسب مع أعمالهم ومواقفهم فقد كذّبوا بآيات اللّه ولم يفكروا في العواقب ولم يقع في خاطرهم احتمال الحساب والعقاب في حين أن اللّه قد أحصى عليهم كل شيء كأنما هو مسجّل في كتاب. وسيقال لهم ذوقوا فليس لكم عندنا إلّا المزيد من هذا العذاب وهذه الآلام.
والآيات متصلة بسابقاتها كما هو واضح. وقد استهدفت بالوصف المفزع الذي تضمنته فيما استهدفته إثارة الرعب والرهبة في قلوب الكفار وحملهم على الارعواء كما هو المتبادر.
ولقد تعددت الأقوال المعزوّة إلى بعض أصحاب رسول اللّه وتابعيهم عن مدى ما تعنيه كلمة الأحقاب ومن ذلك أن الحقب ثمانون عاما وأن العدد الذي يتّسع للجمع يصل إلى سبعمائة. مع حساب كون يوم الآخرة يعدل ألف سنة من سني الدنيا. وبعضهم قال إنها منسوخة بجملة فَلَنْ(1/94)
نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً الواردة بعدهما وبعضهم قال إن الجملة تعني في حدّ ذاتها الخلود لأنها لم تعين للأحقاب حدا. وعلى كل حال فالتعبير القرآني أسلوبي بقصد بيان طول أمد العذاب إلى ما لا نهاية له. (1)
قوله تعالى : « إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً » هو تهديد للمشركين بهذا اليوم الذي يكذبون به ، ويختلفون فيه .. إنه آت لا ريب فيه ، وهو يوم الفصل ، فيما هم فيه مختلفون ، وفيما يقضى به اللّه سبحانه وتعالى فيهم من عذاب ..والميقات : الموعد الذي أقّت لهذا اليوم ..
قوله تعالى : « يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً » هو بدل من يوم الفصل ، فيوم الفصل ، هو يوم النفخ فى الصور ، فإذا نفح فى الصور ، بعث الموتى من قبورهم ، وجاءوا إلى المحشر أفواجا ، أي زمرا ، إثر زمر ..
قوله تعالى : « وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً ، وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً » الواو فى قوله تعالى : « وفتحت » واو الحال ، والجملة بعدها حال من فاعل « فتأنون أفواجا ».. أي تأتون جماعات وأمما ، وقد فتحت السماء فكانت أبوابا ، وأزيح عن أعينكم هذا الغطاء الذي ترونها فيه ـ وأنتم فى الدنيا ـ سقفا سميكا مطبقا .. وكذلك الجبال تبدو وكأنها سراب يتراقص على وجه الأرض ..
وقد أشرنا من قبل إلى هذا التبدل الذي يقع فى عوالم الوجود يوم القيامة ، وقلنا إنه تبدل يقع فى حواس الإنسان ومدركاته ، يومئذ ، لا فى هذه العوالم ذاتها يقول الأستاذ الإمام « محمد عبده » رحمه اللّه فى هذا المعنى : « يتغير فى ذلك اليوم ـ يوم القيامة ـ نظام الكون ، فلا تبقى أرض على أنها تقلّ ، ولاسماء على أنها تظلّى ، بل تكون السماء بالنسبة إلى الأرواح مفتحة الأبواب ، بل تكون أبوابا ، فلا يبقى علو ولا سفل ، ولا يكون مانع يمنع الأرواح من السير حيث تشاء ..
ثم يقول : « والآخرة عالم آخر غير عالم الدنيا التي نحن فيها ، فنؤمن بما ورد به الخبر فى وصفه ، ولا نبحث عن حقائقه مادام الوارد غير محال ..
ولا شك أن امتناع السماء علينا إنما هو لطبيعة أجسامنا فى هذه الحياة الدنيا ..
أما النشأة الأخرى ، فقد تكون السماء بالنسبة لنا أبوابا ندخل من أيها شئنا بإذن اللّه .. »
وقوله تعالى : « إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً » هو تهديد للمشركين ، المكذبين بيوم القيامة ، وبما فيه من حساب وجزاء ..
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 406)(1/95)
فهذه جهنم على موعد معهم ، قد أعدت لهم ، ورصدت للقائهم .. إنها مآب ومرجع للطاغين المكذبين ، الذين لا يؤمنون باللّه ، ولا باليوم الآخر ..
قوله تعالى : « لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً » الأحقاب ، جمع حقب ، والحقب : جمع حقبة .. والحقبة من الزمن ، القطعة الطويلة الممتدة منه ، وسميت أجزاء الزمن حقبا لأن بعضها يعقب بعضا ، ومنه الحقيبة ، التي يحملها المرء خلف ظهره ، والمراد أن هؤلاء الطاغين الذين أخذوا منازلهم فى جهنم ، لا يخرجون منها ، بل يعيشون فيها أزمانا بعد أزمان ، تتبدل فيها أحوالهم : « كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها ، لِيَذُوقُوا الْعَذابَ » (56 : النساء) فهم ليسوا على حال واحدة ، بل هم فى أحوال شتى من العذاب ، يتقلبون فيه ، وينتقلون من حال إلى حال ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : « لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ » (19 : الانشقاق) وقوله سبحانه : « سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً » (17 : المدثر) وقوله سبحانه فى آية تالية ، فى هذه السورة : « فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً » قوله تعالى : « لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً جَزاءً وِفاقاً » الضمير فى « فيها » يعود إلى جهنم ، وبحوز أن يكون عائدا إلى الأحقاب ..
أي أن الطاغين الذي ألقوا فى جهنم ، لا يذوقون فيها « بردا » أي شيئا من البرد الذي يخفف عنهم سعير جهنم ، أولا يجدون شيئا من الراحة والسكون ، بل هم فى عذاب دائم : « لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ » (75 : الزخرف) كما أنهم لا يسقون فيها شرابا إلا ما كان من حميم وغساق ..
والحميم : الماء الذي يغلى ، والغساق : ما يسيل من أجسادهم من صديد يغلى فى البطون كغلى الحميم .. فهذا جزاء من جنس عملهم .. إنهم لم يعملوا إلا السوء ، فكان جزاؤهم من حصاد هذا السوء الذي زرعوه ، « حزاء وفاقا » لما عملوا ، ومجانسا له ..
قوله تعالى : « إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً. وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً » هو بيان للسبب الذي من أجله صاروا إلى هذا المصير الكئيب المشئوم ..إنهم كانوا لا يتوقعون حسابا ، ولا يؤمنون به ، بل كذبوا بآيات اللّه التي تحدثهم عن البعث والجزاء والحساب ، فلم يعملوا لهذا اليوم حسابا.
والكذاب : وصف للكذب ، ومبالغة فى صفته ، كما أن كذاب (بالفتح) مبالغة لمن اتصف به .. أي أنهم كذبوا بآيات اللّه تكذيبا منكرا شنيعا ، لما صحب تكذيبهم من سفاهة وتطاول على رسول اللّه ..
وفى التعبير عن تكذيبهم بالحساب ، بقوله تعالى : « لا يرجون » ، مع أن الرجاء عادة إنما يكون لتوقع الخير ـ فى هذا إشارة إلى أن يوم القيامة ، من شأنه أن يكون أملا مرجوّا عند الناس ، ففيه الحياة الحق ، والخلود الدائم ، والنعيم الكامل ، وأن مقام الإنسان فى الحياة الدنيا(1/96)
هو مقام قلق ، وإزعاج ، لا ينبغى للعاقل أن يقيم وجوده عليه ، بل ينبغى أن يسعى إلى التحول عنه ، والنظر إلى ما وراءه ، والرجاء فى حياة أكرم ، وأفضل ، وأبقى ..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً » (110 : الكهف) قوله تعالى : « وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً » أي وكل شىء كان أو يكون فى هذا الوجود محصّى فى كتاب مبين ..
وكذلك أعمال هؤلاء المكذبين الضالين محصاة عليهم ، مسجلة فى كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
قوله تعالى : . « فَذُوقُوا .. فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً »هو من سياط البلاء والنكال التي تنهال على أصحاب النار ، وهم على هذا المورد الوبيل ، أن يشربوا من هذا العذاب ، وأن يتجرعوا كئوسه الملأى بالحميم والغساق ، وأن ما هم فيه فى لحظتهم تلك أهون مما يذوقونه فى كل لحظة آتية .. إنهم ينتقلون من عذاب إلى ما هو أشد منه ، حالا بعد حال ، ولحظة بعد لحظة ، فليبادروا بشرب ما بأيديهم ، قبل أن يشتد لهيبا ، ويزداد غليانا (1)
إن الناس لم يخلقوا عبثاً ، ولن يتركوا سدى . والذي قدر حياتهم ذلك التقدير الذي يشي به المقطع الماضي في السياق ، ونسق حياتهم مع الكون الذي يعيشون فيه ذلك التنسيق ، لا يمكن أن يدعهم يعيشون سدى ويموتون هملاً! ويصلحون في الأرض أو يفسدون ثم يذهبون في التراب ضياعاً! ويهتدون في الحياة أو يضلون ثم يلقون مصيراً واحداً . ويعدلون في الأرض أو يظلمون ثم يذهب العدل والظلم جميعاً!
إن هناك يوماً للحكم والفرقان والفصل في كل ما كان . وهو اليوم المرسوم الموعود الموقوت بأجل عند الله معلوم محدود :{ إن يوم الفصل كان ميقاتاً } . .وهو يوم ينقلب فيه نظام هذا الكون وينفرط فيه عقد هذا النظام .
{ يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً . وفتحت السماء فكانت أبواباً ، وسيرت الجبال فكانت سراباً } . .
والصور : البوق . ونحن لا ندري عنه إلا اسمه . ولا نعلم إلا أنه سينفخ فيه . وليس لنا أن نشغل أنفسنا بكيفية ذلك . فهي لا تزيدنا إيماناً ولا تأثراً بالحادث . وقد صان الله طاقتنا عن أن تتبدد في البحث وراء هذا الغيب المكنون ، وأعطانا منه القدر الذي ينفعنا فلا نزيد! إنما نحن نتصور النفخة الباعثة المجمعة التي يأتي بها الناس أفواجاً . . نتصور هذا المشهد والخلائق التي توارت شخوصها جيلاً بعد جيل ، وأخلت وجه الأرض لمن يأتي بعدها كي لا يضيق بهم
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1419)(1/97)
وجه الأرض المحدود . . نتصور مشهد هذه الخلائق جميعاً . . أفواجاً . . مبعوثين قائمين آتين من كل فوج إلى حيث يحشرون . ونتصور الأجداث المبعثرة وهذه الخلائق منها قائمة . ونتصور الجموع الحاشدة لا يعرف أولها آخرها ، ونتصور هذا الهول الذي تثيره تلك الحشود التي لم تتجمع قط في وقت واحد وفي ساعة واحدة إلا في هذا اليوم . . أين؟ لا ندري . . ففي هذا الكون الذي نعرفه أحداث وأهوال جسام : { وفتحت السماء فكانت أبواباً . وسيرت الجبال فكانت سراباً } . .
السماء المبنية المتينة . . فتحت فكانت أبواباً . . فهي منشقة . منفرجة . كما جاء في مواضع وسور أخرى . على هيئة لا عهد لنا بها . والجبال الرواسي الأوتاد سيرت فكانت سراباً . فهي مدكوكة مبسوسة مثارة في الهواء هباء ، يحركه الهواء كما جاء في مواضع وسور أخرى . ومن ثم فلا وجود لها كالسراب الذي ليس له حقيقة . أو إنها تنعكس إليها الأشعة وهي هباء فتبدو كالسراب!
إنه الهول البادي في انقلاب الكون المنظور ، كالهول البادي في الحشر بعد النفخ في الصور .
وهذا هو يوم الفصل المقدر بحكمة وتدبير . .
ثم يمضي السياق خطوة وراء النفخ والحشر ، فيصور مصير الطغاة ومصير التقاة . بادئاً بالأولين المكذبين المتسائلين عن النبأ العظيم : إن جهنم كانت مرصاداً ، للطاغين مآباً ، لابثين فيهآ أحقاباً . لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً ، إلا حميماً وغساقاً . جزآء وفاقاً . إنهم كانوا لا يرجون حساباً ، وكذبوا بآياتنا كذاباً . وكل شيء أحصيناه كتاباً . فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً }
إن جهنم خلقت ووجدت وكانت مرصاداً للطاغين تنتظرهم وتترقبهم وينتهون إليها فإذا هي معدة لهم ، مهيأة لاستقبالهم . وكأنما كانوا في رحلة في الأرض ثم آبوا إلى مأواهم الأصيل! وهم يردون هذا المآب للإقامة الطويلة المتجددة أحقاباً بعد أحقاب : { لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً } . . ثم يستثني . . فإذا الاستثناء أمرّ وأدهى : { إلا حميماً وغساقاً } . . إلا الماء الساخن يشوي الحلوق والبطون . فهذا هو البرد! وإلا الغساق الذي يغسق من أجساد المحروقين ويسيل . فهذا هو الشراب!
{ جزاء وفاقاً } . . يوافق ما أسلفوا وما قدموا . . { إنهم كانوا لا يرجون حساباً } . . ولا يتوقعون مآباً . . { وكذبوا بآياتنا كذاباً } . . وجرس اللفظ فيه شدة توحي بشدة التكذيب وشدة الإصرار عليه .بينما كان الله يحصي عليهم كل شيء إحصاء دقيقاً لا يفلت منه حرف : { وكل(1/98)
شيء أحصيناه كتاباً } . .هنا يجيء التأنيب الميئس من كل رجاء في تغيير أو تخفيف : { فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً } . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- التنديد بالطغيان وبيان جزاء الظالمين .
2- التنديد بالتكذيب بالبعث والمكذبين به .
3- أعمال العباد مؤمنهم وكافرهم كلها محصاة عليها ويجزون بها .
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر آثارها .
5- أبديّة العذاب في الدار الآخرة وعدم إمكان نهايته
6- إن يوم القيامة الذي يفصل اللّه فيه بين الخلائق وقت ، ومجمع ، وميعاد للأولين والآخرين ، لما وعد اللّه من الجزاء والثواب.
7- تحدث في بداية يوم القيامة ظواهر خطيرة ثلاث : هي نفخ إسرافيل في الصور (القرن) فيأتي الناس من قبورهم زمرا وجماعات ، وتفتّح وتشقّق أو تفطر السماء ، فتصير كلها كأنها أبواب ، وتسيير الجبال وإزالتها من أماكنها الأصلية.
7- أخبر اللّه تعالى عن حال الأشقياء ، وقدم ذكرهم على السعداء لأن الكلام في السورة بنى على التهديد ، وهو أن جهنم تكون مكانا مرصدا للطغاة الذين طغوا في دينهم بالكفر ، وفي الدنيا بالظلم ، أو أنها ترصد أعداء اللّه وتراقبهم حتى ينزلوا فيها ، وتكون المرجع الذي يرجعون فيه إليها.
8- كيفية استقرارهم في النار : هي أنهم يكونون ماكثين في نار جهنم إلى الأبد ما دامت الأحقاب تتوالى ، وهي لا تنقطع ، فكلما مضى حقب جاء حقب ، والحقب : الدهر ، والأحقاب : الدهور ، والحقبة : السنة.
9- لا يذوق الطغاة في جهنم أو في الأحقاب بردا يخفف الحر أو نوما ، ولا شرابا يروي من العطش إلا الماء الحار والغساق : صديد أهل النار.
10- لا ظلم في هذا الجزاء ، وإنما هو موافق لأعمالهم ، فإنهم كانوا لا يخافون محاسبة على أعمالهم لأنهم لا يؤمنون بالبعث ، وكذّبوا بما جاءت به الأنبياء تكذيبا شديدا. وهذا دليل على أنهم كذبوا بجميع دلائل اللّه تعالى في التوحيد والنبوة والمعاد والشرائع والقرآن.
وهو جزاء دقيق عادل فإن اللّه تعالى عالم بأفعالهم علما لا يزول ولا يتبدل ، وقد أحصاها عليهم ، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة ، كما أن الحفظة الملائكة الموكلين بأمر العباد كتبوا كل شيء عليهم بأمر اللّه تعالى إياهم بالكتابة ، بدليل قوله تعالى : وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
__________
(1) - الظلال(1/99)
لَحافِظِينَ ، كِراماً كاتِبِينَ [الانفطار 82/ 10- 11] وقوله : وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ دليل على كونه تعالى عالما بالجزئيات.
11- في قوله تعالى : فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً أظهر اللّه تعالى غاية السخط بطريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، والتعقيب بفاء الجزاء الدال على أن العقاب سبب عن كفرهم بالحسنات ، وتكذيبهم بالآيات.
وزيادة العذاب : إما لازدياد كفرهم وعتوهم حينا بعد حين ، كقوله تعالى : فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة 9/ 125] وإما لأن زيادة العذاب عبارة عن استمراره نفسه لأنه يتزايد بمرور الزمان. والمراد : إنا لن نخلصكم من العذاب إلى خلافه ، وإن عذاب أهل النار دائم غير متناه ، وإنه تعالى يزيد في عذاب الكافر أبدا.
وهذه الآية دالة على المبالغة في التعذيب من وجوه :
أحدها- قوله : فَلَنْ نَزِيدَكُمْ وكلمة « لن » للتأكيد في النفي.
وثانيها- أنه في قوله : كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً ذكرهم بالغيبة ، وفي قوله : فَذُوقُوا ذكرهم على سبيل المشافهة ، وهذا يدل على كمال الغضب ، كما ذكرت.
وثالثها- أنه تعالى عدد وجوه العقاب ، ثم حكم بأنه جزاء موافق لأعمالهم ، ثم عدد فضائحهم ، ثم قال : فَذُوقُوا فكأنه تعالى أفتى ، وأقام الدلائل ، ثم أعاد تلك الفتوى بعينها ، وذلك يدل على المبالغة في التعذيب (1) .
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - تفسير الرازي : 31/ 19(1/100)
أحوال السعداء يوم القيامة
قال تعالى :
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)
المفردات :
31 ... مَفَازًا ... فوزا بالجنة متنزها
33 ... كَوَاعِبَ ... فتيات شابات نواهد
33 ... أَتْرَابًا ... في سن واحدة
34 ... كَأْسًا دِهَاقًا ... كأسا مليئة من خمر الجنة
35 ... لَغْوًا ... باطلا ، كذبا
36 ... عَطَاءً حِسَابًا ... عطاءً كثيراً كافيا
المناسبة :
بعد أن ذكر اللّه تعالى شيئا من أحوال الأشقياء أهل النار ، ذكر ما لأهل الجنة السعداء من موضع فوز وظفر ، حيث زحزحوا عن النار ، وأدخلوا الجنة ، وأبان أن ذلك تفضل من اللّه وإحسان ، وفي إيراد أحوال السعداء والأشقياء مجال للتأمل والمقارنة ، وترغيب بالطاعة ، المؤدية إلى الجنة ، وترهيب من المعصية والكفر وتكذيب الرسل المؤدي إلى النار. والخلاصة : أنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار ، أتبعه بوعد الأخيار.
المعنى الإجمالي :
بعد أن بين حال المكذبين ، أردفه ما يفوز به المتقون من الجنات التي وصفها ووصف ما فيها ، وذكر أنها عطاء من اللّه تعالى ، وفى هذا استنهاض لعوالى الهمم ، بدعوتهم إلى المثابرة على أعمال الخير ، وازديادهم من القربات والطاعات ، كما أن فيها إبلاما لأنفس الضالين المكذبين. (1)
وهذا بيان لحال المؤمنين يوم القيامة بعد بيان حال الكافرين والمكذبين : إن للمتقين فوزا عظيما بما عملوا في الدنيا ، وإن لهم في الجنة موضع فوز ومكان نجاة ، بعضه حدائق غناء ، ذات بهجة ورواء ، وأن لهم فيها فواكه وأعنابا ، وكواعب أترابا ، أى :
نساء حسانا في سن واحدة فهن لدات ، والتمتع بهذا الصنف من النساء أمل الناس في الدنيا فكان لهم في الآخرة على وجه ونظام لا يعلمه إلا اللّه ، وليس لنا أن ندقق النظر في أمثال هذا
__________
(1) - تفسير المراغي - (1 / 5371)(1/101)
، بل نؤمن به إيمانا كما نطق القرآن ، وإن لهم فيها كأسا مملوءة بالمشتهى من المشروبات والمستلذ من الطيبات ، وهم لا يسمعون لغوا ولا كذابا ، وقد جزاهم اللّه على أعمالهم جزاء ، قد تفضل به وأحسن ، جزاء من صاحب الفضل والنعمة رب السموات والأرض ، وكان جزاء كفاء لما قدموا (1)
التفسير والبيان :
يخبر اللّه تعالى عن السعداء وما أعد لهم من الكرامة والنعيم المقيم ، فيقول : إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً ، حَدائِقَ وَأَعْناباً ، وَكَواعِبَ أَتْراباً ، وَكَأْساً دِهاقاً أي إن للذين اتقوا ربهم بالعمل بأوامره واجتناب نواهيه فوزا وظفرا بالمطلوب ، ونجاة من النار ، بالاستمتاع بالبساتين ذات الأشجار والأثمار والأعناب اللذيذة الطعم ، وبالنساء الحور الكواعب ذوات الأثداء القائمة على صدورهن لم تتكسر ولم تتدلّ ، المتساويات في السن ، وبتناول الكؤوس المترعة المملوءة بالخمر غير المسكرة.
وعطف الأعناب على الحدائق من عطف الخاص على العام ، الذي يدل على تعظيم حال تلك الأعناب. وفسر ابن عباس مَفازاً بقوله : متنزها ، ورجحه ابن كثير لأنه تعالى قال بعده : حَدائِقَ والحدائق : البساتين من النخيل وغيرها.
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً أي لا يسمعون في الجنة الباطل من الكلام ، ولا يكذب بعضهم بعضا كقوله تعالى : لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ [الطور 52/ 23] ، وهذا دليل على نظافة البيئة وسموها الأدبي ، مما ترتاح له النفوس ، خلافا لحال الدنيا حيث يسمع فيها الإنسان المؤمن ما يجرح الشعور ويؤلم النفس ، فليس في الجنة كلام لاغ ساقط عار عن الفائدة ، ولا إثم كذب ، بل هي دار السلام ، وكل ما فيها سالم من النقص.
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً أي جازاهم اللّه تعالى على إيمانهم وصالح أعمالهم ، وأعطاهم ذلك عطاء تفضلا منه وإحسانا ، كافيا وافيا شاملا كثيرا ، حسبما وعدهم به من مضاعفة أجر الحسنات وتكفير السيئات.
ومضات :
في هذه الآيات وصف لمصير المتّقين في ذلك اليوم للمقابلة مع وصف.مصير الكفار فلهم النجاة والفوز وسينزلون الجنات فيتمتعون بها بالفواكه والأعناب والنساء الكواعب والكؤوس اللذيذة. ولا يؤذي آذانهم لغو ولا كذب. وكل هذا جزاء لهم من اللّه وتوفية لحسابهم على ما قدموه من صالح الأعمال.
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 813)(1/102)
والآيات متّصلة بسابقاتها كذلك. وقد استهدفت فيما استهدفته من الوصف المبهج الترغيب والتبشير وبعث الاغتباط والطمأنينة في قلوب المؤمنين.
ويلفت النظر بخاصة إلى جملة جَزاءً وِفاقاً في الآيات السابقة وجملة جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً في هذه الآيات حيث تضمنتا تقريرا صريحا بأن ما يناله الناس من عقاب وثواب إنما هو جزاء لأعمالهم وكسبهم الاختياري. (1)
قوله تعالى : « إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً حَدائِقَ وَأَعْناباً وَكَواعِبَ أَتْراباً وَكَأْساً دِهاقاً » هو وصف لما يتلقى المتقون من ربهم ، من فضل وإحسان ، فى مواجهة ما لقى للكذبون الضالون من عذاب ونكال.
فالمتقون لهم عند ربهم « مفاز » أي لهم مدخل إلى جناته ورضوانه ، وإلى ما فى هذه الجنات من ثمار طيبة .. منها العنب ، وقد خصّ العنب بالذكر ، لأنه كما يبدو ـ فى الحياة الدنيا ـ طيب الثمر ، دانى القطوف ، ممتد الظل ..
ـ وفى هذه الجنة « كواعب » جمع كاعب ، وهى الفتاة التي نهد ثدياها ، وذلك فى أول شبابها ، وهؤلاء الكواعب « أتراب » أي متما ثلات فى الخلقة ، حسنا ، وبهاء ، وشبابا .. وهذا يعنى أنهن خلقن على صورة من الكمال ليس بعدها غاية ، حتى يقع تقاوت فيها .. وفى هذه الجنة كئوس « دهاق » مترعة ملأى ، لا تفرغ أبدا. مما فيها من خمر لذة للشاربين.
قوله تعالى.«لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً » أي ومن نعيم أهل الجنة ألّا يدخل على نفوسهم شىء مما يكدر صفاءها ، من لغو القول ، وهجره ، وفحشه .. « وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ، وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ »(10 : يونس)
قوله تعالى :«جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً ».أي هذا النعيم الذي يساق إلى المتقين فى جنات النعيم ، هو جزاء لهم من ربهم ، على ما عملوا من صالح ، وما أحسنوا من عمل.
وقوله تعالى : « عَطاءً حِساباً » إشارة إلى أن هذا الجزاء الذي يجزيهم به ربهم ، ليس على قدر أعمالهم ، فإن أعمالهم ـ مهما عظمت ـ لا تزن مثقال ذرة لمن هذا النعيم ، وإنما ذلك عطاء من ربهم ، وفضل من فضله ، وإحسان من إحسانه .. أما أعمالهم الصالحة ، فليست إلا وسيلة يتوسلون بها إلى مرضاة اللّه سبحانه وتعالى ، فإذا رضى اللّه عنهم أرضاهم ، وأجزل العطاء لهم ..
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 407)(1/103)
وفى العدول عن خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي فى قوله تعالى : « مِنْ رَبِّكَ » بدلا « من ربهم » ـ فى هذا تكريم للنبى الكريم ، وأنه من فضل ربّه عليه كان هذا العطاء الذي وسع المؤمنين جميعا.
وفى قوله تعالى : « حسابا » إشارة أخرى إلى أن هذا العطاء ذو صفتين :
فأولا ، هو عطاء بحساب ، حسب منازل المتقين عند اللّه ، وحسب درجاتهم من التقوى ، وثانيا ، هو عطاء يكفى كل من نال منه ، فلا تبقى له حاجة يشتهيها بعد هذا العطاء ..
هذا ، وقد أشرنا ـ فى غير موضع ـ إلى أن نعيم الجنة ، وإن استجاب لكل ما تشتهى الأنفس وتلذ الأعين ، فإنه يختلف بحسب مقام المتنعمين به ، حيث تقّبلهم لهذا النعيم ، واتساع قواهم له .. وهذا التقبل وهذا الاتساع يتبع مقام المتنعم ومنزلته عند اللّه .. وقد ضربنا لهذا مثلا بمائدة ممدودة عليها كل ما تشتهى الأنفس من طيبات ، وحولها أعداد من المدعوين إليها .. فكلّ ينال منها قدر طاقته ، وشهوته ، وإن كانوا جميعا قد نالوا ما يشتهون منها .. ولكن شتان بين من أخذ لقيمات ، وبين من قطف من كل ما عليها من ثمار! (1)
ثم يعرض المشهد المقابل : مشهد التقاة في النعيم . بعد مشهد الطغاة في الحميم : إن للمتقين مفازاً . حدآئق وأعناباً . وكواعب أتراباً . وكأساً دهاقاً . لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً . . جزآء من ربك عطآء حساباً } . .
فإذا كانت جهنم هناك مرصداً ومآباً للطاغين ، لا يفلتون منها ولا يتجاوزونها ، فإن المتقين ينتهون إلى مفازة ومنجاة ، تتمثل { حدائق وأعناباً } ويخص الأعناب بالذكر والتعيين لأنها مما يعرفه المخاطبون . . { وكواعب } وهن الفتيات الناهدات اللواتي استدارت ثديهن { أتراباً } متوافيات السن والجمال . { وكأساً دهاقاً } مترعة بالشراب .
وهي مناعم ظاهرها حسي ، لتقريبها للتصور البشري . أما حقيقة مذاقها والمتاع بها فلا يدركها أهل الأرض وهم مقيدون بمدارك الأرض وتصوراتها . . وإلى جوارها حالة يتذوقها الضمير ويدركها الشعور : { لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً } . . فهي حياة مصونة من اللغو ومن التكذيب الذي يصاحبه الجدل؛ فالحقيقة مكشوفة لا مجال فيها لجدل ولا تكذيب؛ كما أنه لا مجال للغو الذي لا خير فيه . . وهي حالة من الرفعة والمتعة تليق بدار الخلود . .
{ جزاء من ربك عطاء حساباً } . . ونلمح هنا ظاهرة الأناقة في التعبير والموسيقى في التقسيم بين { جزاء } و { عطاء } . . كما نلمحها في الإيقاع المشدود في الفواصل كلها على وجه التقريب . . وهي الظاهرة الواضحة في الجزء كله إجمالاً .
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1423)(1/104)
وتكملة لمشاهد اليوم الذي يتم فيه ذلك كله ، والذي يتساءل عنه المتسائلون ، ويختلف فيه المختلفون . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- الفوز والنجاة والخلاص مما فيه أهل النار.
2- التمتع بالرياض الغناء والحدائق أوالبساتين المتنوعة الأشجار والأثمار ، وهذا هو الأمن الغذائي.
3- الاستمتاع بالحور الكواعب ذوات النواهد التي تكعبت أثداؤهن ،اللدات الأقران في السن ، وهذا هو الإشباع الجنسي أو الغريزي.
4- تناول الكؤوس المترعة الملأى بالخمور غير المسكرة ، كما وصفها اللّه تعالى : لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ [الواقعة 56/ 19]. وهذه متعة اللهو المباح.
5- الأمن النفسي في الجنة ، حيث لا يسمع أهلها باطلا من الكلام ، ولا تكذيبا لبعضهم بعضا في مجالس الشراب والمتعة لأن أهل الشراب في الدنيا يسكرون ويتكلمون بالباطل ، وأهل الجنة إذا شربوا لم يتغير عقلهم ، ولم يتكلموا بلغو.
وبعد تعداد أنواع نعيم أهل الجنة ، توّجوا بالمنحة الربانية ، وأخبروا بأن اللّه جزاهم بما تقدم جزاء منه ، وأعطاهم عطاء كثيرا كافيا وافيا.
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3808)(1/105)
عظمة اللّه ورحمته وتأكيد وقوع يوم القيامة وتهديد الكافرين
قال تعالى :
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
المفردات:
38 ... الرُّوحُ ... جبريل
40 ... مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ... ما أسلفه في الدنيا من خير أو شر
المعنى الإجمالي :
بعد أن ذكر سبحانه أن يوم القيامة موعد للفصل بين الخلائق ، وتنتهى به أيام الدنيا ، وأن دار العذاب معدة للكافرين ، وأن الفوز بالنعيم للمتقين أعقب ذلك بأن هذا يوم يقوم فيه جبريل والملائكة صفّا صفا لا يتكلمون إلا إذا أذن لهم ربهم وقالوا قولا صحيحا.
ثم أتبعه بأن هذا اليوم حق لا ريب فيه ، وأن الناس فيه فريقان : فريق بعيد من اللّه ومرجعه إلى النار ، وفريق مآبه القرب من اللّه ومنازل الكرامة ، فمن كانت له مشيئة صادقة ، فليتخذ مآبا إلى ربه ، وليعمل عملا صالحا يقرّبه منه ، ويحلّه محل كرامته.
ثم عاد إلى تهديد المعاندين وتحذيرهم من عاقبة عنادهم ، وأنهم سيعلمون غدا ما قدمته أيديهم ويرونه حاضرا لديهم ، وحينئذ يندمون ، ولات ساعة مندم ، ويبلغ من أمرهم أن يقولوا : ليتنا كنا ترابا لم نصب حظا من الحياة. (1)
وهذا وصف آخر ليوم القيامة يملأ القلوب خشية ، والنفوس روعة ورهبة ، كل الناس يوم القيامة لا يملكون من الحق - تبارك وتعالى - رب السماء والأرض الرحمن لا يملكون منه خطابا ، ولا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ « 1 » في هذا اليوم يقوم الروح جبريل والملائكة بين يدي الرب - سبحانه وتعالى - صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا!! يا سبحان اللّه!! يقوم الروح والملائكة بين يدي الجبار المتكبر المتعالي ، لا يسمح لأحد بالنطق إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا بأن تشفع لمن يستحق الشفاعة! أين الأصنام والشركاء الذين يظنون أنهم شفعاء للّه ؟ !! أين الناس جميعا ؟ !
__________
(1) - تفسير المراغي - (1 / 5372)(1/106)
وقد وقف جبريل والملائكة بين يدي الجبار ينتظرون الإشارة منه ؟ ! ذلك اليوم الحق ، نعم هو اليوم الحق الذي لا شك فيه ، ولا مرية.
إذا كان الأمر كذلك فمن شاء فليتخذ مآبا إلى ربه ، وليعمل عملا صالحا يقربه إليه.
ثم عاد إلى تهديد الكفار المكذبين بيوم القيامة الذين يتساءلون عنه محذرا لهم من عاقبة عنادهم وتكذيبهم. إنا أنذرناكم عذابا قريبا حصوله إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً « 2 » يوم ينظر المرء ما قدمت يداه فقط ، يوم لا يرى فيه أبدا إلا عمله ، يوم يقول الكافر :
ليتني كنت ترابا لم أخلق ، يقول ذلك من شدة هول ما يلقى ، ويتمنى أن لو كان جمادا أو حيوانا غير مكلف. (1)
التفسير والبيان :
يخبر اللّه تعالى عن عظمته وجلاله وشمول رحمته كل شيء ، فيقول: رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ ، لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً أي إن الجزاء الحسن والعطاء الكافي الوافي لأهل الإيمان والطاعة هو ممن اتصف بالعظمة والجلال ، ورب السموات والأرض وما فيهما وما بينهما ، والرحمن الذي شملت رحمته كل شيء ، والذي لا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه ، لهيبته وتعاليه ، ثم أكد هذا وقرره بقوله : يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً أي إن عظمة اللّه تتجلى في يوم القيامة وتظهر عيانا للخلائق ، حتى إن جبريل عليه السلام وجميع الملائكة المصطفين ، مع رفعة أقدارهم ودرجاتهم لأنهم أعظم المخلوقات قدرا ورتبة لا يتكلمون في يوم القيامة الرهيب إلا بشرطين :
أحدهما- الإذن من اللّه بالشفاعة ، كقوله تعالى : مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة 2/ 255] وقوله سبحانه : يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [هود 11/ 105] وقوله عز وجل : يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه 20/ 109].
والثاني- أن يقول صوابا : أي أن يقول حقا وصدقا إذا كان الإذن للشافع ، وأن يكون ذلك الشخص المشفوع له ممن قال في الدنيا صوابا ، أي شهد بالتوحيد بأن قال : لا إله إلا اللّه ، إذا كان الإذن للمشفوع.
والروح : هو جبريل عليه السلام في رأي الأكثرين لقوله عز وجل : نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء 26/ 193- 194]. وقال ابن عباس : هو ملك عظيم من أعظم الملائكة خلقا. وقال ابن مسعود : إنه ملك أعظم من السموات والأرض.
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 814)(1/107)
وفي الآية دلالة على أن الملائكة وجبريل عليهم السلام أعظم المخلوقات قدرا ومكانة ، وعلى عظمة يوم القيامة ورهبته.
ثم أخبر اللّه تعالى بأن يوم القيامة حق لا ريب فيه ، فقال : ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً أي إن ذلك اليوم الذي تقوم فيه الملائكة على تلك الصفة هو اليوم الثابت ، الكائن الواقع المتحقق الذي لا ريب فيه ، فمن أراد النجاة فيه ، اتخذ إلى ثواب ربّه مرجعا وطريقا يهتدي إليه ، ويقرّبه منه ، ويدنيه من كرامته ، ويباعده عن عقابه ، بالإيمان الحق والعمل الصالح.
ثم عاد اللّه تعالى إلى تهديد الكفار وتحذيرهم وتخويفهم من ذلك اليوم ، فقال :إنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً ، يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ ، وَيَقُولُ الْكافِرُ : يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً أي إننا يا أهل مكة وأمثالكم من الكفار حذّرناكم وخوّفناكم عذابا قريب الوقوع وهو يوم القيامة فإنه لتأكد وقوعه صار قريبا ، ولأن كل ما هو آت قريب ، كما قال تعالى : كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات 79/ 46]. وفي هذا اليوم القريب ينظر كل امرئ ما قدّم من خير أو شرّ في حياته الأولى في الدنيا ، كما جاء في قوله تعالى : يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ، تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران 3/ 30].
ويقول الكافر من شدة ما يعانيه من أنواع الأهوال والعذاب ، مثل أبيّ بن خلف وعقبة بن أبي معيط وأبي جهل وأبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي : ليتني كنت ترابا ، فهو يتمنى إن لم يكن إنسانا يبعث ، وإنما كان ترابا ، ويتمنى أن يصير ترابا كالحيوانات بعد الاقتصاص من بعضها لبعض ، وقد ورد معنى هذا في حديث الصور المشهور ، وورد فيه آثار عن أبي هريرة وعبد اللّه بن عمرو وغيرهما ، كما ذكر ابن كثير ، ومضمون تلك الأخبار : أن البهائم تحشر ، فيقتصّ للجمّاء من القرناء ، ثم تردّ ترابا ، فيودّ الكافر حالها ليتخلص من العذاب.
والآيتان الأخيرتان تدلان على أن الناس يكونون يوم القيامة فريقين : فريق المؤمنين المقربين من ثواب اللّه وكرامته ورضاه ، وفريق الكافرين الجاحدين البعيدين من رحمة اللّه ، الواقعين في صنوف العذاب.
ومضات :
في هذه الآيات استمرار على وصف القيامة وهولها والإنذار بها : فاللّه الذي يوفي كلا من الطاغين والمتّقين حسابهم على أعمالهم هو ربّ السموات والأرض وما بينهما الذي من أبرز أسمائه الحسنى (الرّحمن). والذين يأتون إليه أفواجا يوم القيامة يقفون خاشعين متهيبين. وكذلك الملائكة مع الروح يقومون صفوفا أمامه.(1/108)
ولا يملك في ذلك اليوم أحد حقّ الكلام والخطاب إلّا من أذن له الرّحمن وكان قوله عنده حقّا وصوابا. وذلك اليوم هو يوم الحقّ والقضاء العادل الحاسم ، فمن أراد أن ينجو من هوله فعليه أن يجعل اتجاهه نحو اللّه وأن يسير في سبيله.
وقد انتهت الآيات بتوجيه الخطاب للسامعين : فاللّه ينذرهم بعذابه ويخوفهم من ذلك اليوم الذي سيرى فيه كل امرئ جزاء ما قدمت يداه من خير وشر ويتمنى الكافر فيه أن لو كان ترابا حسرة وندامة وفزعا من المصير الرهيب الذي سوف يصير إليه.
والآيات قوية نافذة تتضمن وصف عظمة اللّه وهيبته وتضع الناس أمام مصير واضح لا ينجو من هوله إلّا من آمن باللّه وسار في سبيله.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون «1» عن بعض أصحاب رسول اللّه وتابعيهم في كلمة الروح منها ما هو غريب مثل كونها عنت بني آدم أو أرواحهم أو خلقا يخلقه اللّه مستأنفا. ومنها أنه ملك عظيم أعظم الملائكة خلقا وأعظم من السموات والجبال ومنها أنه جبريل عليه السلام.
ولقد وردت في سورة القدر جملة قرينة للجملة التي وردت فيها الكلمة هنا وهي تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. ولقد انتهينا في التعليق إلى ترجيح كون جبريل عليه السلام وكونه عظيم الملائكة وهو ما نرجحه هنا وتلهمه روح العبارة أيضا. (1)
قوله تعالى : « رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً ».هو وصف للّه سبحانه وتعالى ، المنعم بهذه النعم الجليلة .. إنها من ربّ العالمين ، رب السموات والأرض وما بينهما ، من رب رحمن رحيم.
وقوله تعالى : « لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً » ـ إشارة إلى أن هذا النعيم الذي ينعم به المتقون ، إنما هو من رحمة الرحمن الذي أنزلهم منها هذا المنزل الكريم ..
ولو ساقهم اللّه سبحانه إلى النار لما كان لهم على اللّه حجة ، لأن أحدا فى موقف الحساب والجزاء لا يستطيع أن يسأل اللّه عن المصير الذي هو صائر إليه .. إنه لا يملك خطابا ، ولا مراجعة.
قوله تعالى : « يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً »..الظرف « يوم » هو قيد لهذا الوقت الذي لا يملك فيه المتقون خطابا ..
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 408)(1/109)
فقوله تعالى : « لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً » مظروف بهذا الظرف ، وهو وقت قيام الروح والملائكة صفّا بين يدى اللّه ، فى موقف الحساب والجزاء .. وقوله تعالى : « لا يَتَكَلَّمُونَ » ـ هو بدل من قوله تعالى : « لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً ».
والروح : هى أرواح البشر ، فى موقف الحساب .. ويجوز أن يكون الروح ، جبريل ..
فالروح ـ أي الخلائق ـ ، والملائكة ، لا يتكلمون فى هذا الموقف ، إلا من أذن اللّه له بالكلام ، وقال صوابا فيما أذن اللّه سبحانه وتعالى له به من كلام .. فإذا أنطقه اللّه يومئذ ، فإنما ينطق بالحق.
قوله تعالى : « ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً ».أي ذلك اليوم ، هو اليوم الحق ، الذي كذّب به المكذبون ، واختلف فيه المختلفون .. فمن شاء النجاة والفوز فيه ، اتخذ مآبا ومرجعا إلى ربه ، وعمل حسابا لهذا المرجع والمآب ، وأعد لنفسه العمل الصالح لهذا اليوم ..
قوله تعالى : ِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً ».أي بهذا الحديث ، وبهذه الأدلة التي سيقت لكم فيه ، قد جاءكم النذير أيها المكذبون بيوم القيامة ، وهو نذير بالعذاب لكم فى هذا اليوم ، وهو يوم قريب ، وإن ظمنتموه بعيدا بعدا ، تائها فى الزمن .. إنه مطلّ عليكم ، ويومها ينظر المرء ما قدمت يداه ، ويرى ما عمل من خير أو شر ، ويومها يتمنى الكافر أن لو كان ترابا من هول ما يطلع عليه من سيئات أعماله .. وهى أمنية لا سبيل له إليها ..!! (1)
يجيء المشهد الختامي في السورة ، حيث يقف جبريل « عليه السلام » والملائكة صفاً بين يدي الرحمن خاشعين . لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن في الموقف المهيب الجليل : { رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً ، يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً } . .ذلك الجزاء الذي فصله في المقطع السابق : جزاء الطغاة وجزاء التقاة . هذا الجزاء { من ربك } . . { رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن } . . فهي المناسبة المهيأة لهذه اللمسة ولهذه الحقيقة الكبيرة . حقيقة الربوبية الواحدة التي تشمل الإنسان . كما تشمل السماوات والأرض ، وتشمل الدنيا والآخرة ، وتجازي على الطغيان والتقوى ، وتنتهي إليها الآخرة والأولى . . ثم هو { الرحمن } . . ومن رحمته ذلك الجزاء لهؤلاء وهؤلاء . حتى عذاب الطغاة ينبثق من رحمة الرحمن . ومن الرحمة أن يجد الشر جزاءه وألا يتساوى مع الخير في مصيره!
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1425)(1/110)
ومع الرحمة والجلال : { لا يملكون منه خطاباً } . . في ذلك اليوم المهيب الرهيب : يوم يقف جبريل عليه السلام والملائكة الآخرون { صفاً لا يتكلمون } . . إلا بإذن من الرحمن حيث يكون القول صواباً . فما يأذن الرحمن به إلا وقد علم أنه صواب .
وموقف هؤلاء المقربين إلى الله ، الأبرياء من الذنب والمعصية . موقفهم هكذا صامتين لا يتكلمون إلا بإذن وبحساب . . يغمر الجو بالروعة والرهبة والجلال والوقار . وفي ظل هذا المشهد تنطلق صيحة من صيحات الإنذار ، وهزة للنائمين السادرين في الخمار : { ذلك اليوم الحق . فمن شآء اتخذ إلى ربه مآباً . إنآ أنذرناكم عذاباً قريباً : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ، ويقول الكافر : يا ليتني كنت تراباً } . .
إنها الهزة العنيفة لأولئك الذين يتساءلون في ارتياب : { ذلك اليوم الحق } . . فلا مجال للتساؤل والاختلاف . . والفرصة ما تزال سانحة! { فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً } . . قبل أن تكون جهنم مرصاداً ومآباً!
وهو الإنذار الذي يوقظ من الخمار : { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } . . ليس بالبعيد ، فجهنم تنتظركم وتترصد لكم . على النحو الذي رأيتم . والدنيا كلها رحلة قصيرة ، وعمر قريب!
وهو عذاب من الهول بحيث يدع الكافر يؤثر العدم على الوجود : { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه . ويقول الكافر : يا ليتني كنت تراباً } . . وما يقولها إلا وهو ضائق مكروب!
وهو تعبير يلقي ظلال الرهبة والندم ، حتى ليتمنى الكائن الإنساني أن ينعدم . ويصير إلى عنصر مهمل زهيد . ويرى هذا أهون من مواجهة الموقف الرعيب الشديد . . وهو الموقف الذي يقابل تساؤل المتسائلين وشك المتشككين . في ذلك النبأ العظيم!!! (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- للّه تعالى في الدنيا والآخرة صفتان عظيمتان : هما العظمة والجلال فهو ربّ السموات والأرض والكون ، والرحمة الشاملة لكل شيء ، فهو الرحمن الرحيم.
2- اقتضت عظمة اللّه ألا يقدر أحد على مخاطبته يوم القيامة إلا لمن أذن له بالشفاعة.
3- لا يتكلم جبريل والملائكة في موقف القيامة إجلالا لربّهم وخوفا منه وخضوعا له ، فكيف يكون حال غيرهم ؟
4- إن يوم القيامة كائن واقع حتما لا شك فيه ، فالسعيد من اتّخذ فيه إلى ربّه مرجعا بالإيمان والعمل الصالح.
5- إن يوم القيامة وما فيه من العذاب قريب الوقوع لأن كل آت قريب ، وفيه يجد كل إنسان ما قدم من خير أو شر.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3808)(1/111)
6- يتمنى الكافر يوم القيامة لما يرى من أنواع العذاب أن يكون ترابا أو حيوانا غير مكلف بشي ء.
مقاصد السورة
اشتملت هذه السورة الكريمة على الموضوعات الآتية :
(1) سؤال المشركين عن البعث ورسالة محمد عليه الصلاة والسلام.
(2) تهديد المشركين على إنكارهم إياه.
(3) إقامة الأدلة على إمكان حصوله.
(4) أحداث يوم القيامة.
(5) ما يلاقيه المكذبون من العذاب.
(6) فوز المتقين بجنات النعيم.
(7) إن هذا اليوم حق لا ريب فيه.
(8) إنذار الكافرين بالعذاب الأليم وتمنيهم فى ذلك اليوم أن لو كانوا ترابا. (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - تفسير المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 20)(1/112)
سورة النازعات
مكيّة ، وهي ست وأربعون آية
تسميتها :
سميت سورة النازعات لافتتاحها بالقسم الإلهي بالنازعات وهم الملائكة الذين ينزعون أرواح بني آدم ، إما بيسر وسهولة وهم المؤمنون ، وإما بعسر وشدة وهم الكفار.
سميت في المصاحف وأكثر التفاسير ( سورة النازعات ) بإضافة سورة إلى النازعات بدون واو ، وجُعل لفظ ( النازعات ) علماً عليها لأنه لم يذكر في غيرها . وعنونت في كتاب التفسير في ( صحيح البخاري ) وفي كثير من كتب المفسرين بسورة ( والنازعات ) بإثبات الواو على حكاية أول ألفاظها .
وقال سعد الله الشهير بسعْدِي والخفاجي : إنها تسمّى ( سورة الساهرة ) لوقوع لفظ ( الساهرة ) في أثنائها ولم يقع في غيرها من السور .
وقالا : تسمى سورة الطامة ( أي لوقوع لفظ الطامّة فيها ولم يقع في غيرها ) . ولم يذكرها في ( الإِتقان ) في عداد السور التي لها أكثر من اسم .
ورأيت في مصحف مكتوب بخط تونسي عنونَ اسمها ( سورة فالمدبِّرات ) وهو غريب ، لوقوع لفظ المدبرات فيها ولم يقع في غيرها .
وهي مكيّة بالاتفاق .
وهي معدودة الحادية والثمانين في ترتيب النزول ، نزلت بعد سورة النبأ وقبل سورة الانفطار .
وعدد آيها خمس وأربعون عند الجمهور ، وعدَّها أهل الكوفة ستاً وأربعين آية .
أغراضها
اشتملت على إثبات البعث والجزاء ، وإبطال إحالة المشركين وقوعه .
وتهويل يومه وما يعتري الناس حينئذ من الوهل .
وإبطال قول المشركين يتعذر الإِحياء بعد انعدام الأجساد .
وعرِّض بأن نكرانهم إياه منبعث عن طغيانهم فكان الطغيان صَادّاً لهم عن الإِصغاء إلى الإِنذار بالجزاء فأصبحوا آمنين في أنفسهم غير مترقبين حياة بعد هذه الحياة الدنيا بأن جُعل مثل طغيانهم كطغيان فرعون وإعراضه عن دعوة موسى عليه السلام وإن لهم في ذلك عبرة ، وتسلية لرسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - )
وانعطف الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث بأنّ خلق العوالم وتدبير نظامه أعظم من إعادة الخلق .
وأدمج في ذلك إلْفَات إلى ما في خلق السماوات والأرض من دلائل على عظيم قدرة الله تعالى .(1/113)
وأدمج فيه امتنان في خلق هذا العالم من فوائد يجتنونها وأنه إذا حل عالم الآخرة وانقرض عالم الدنيا جاء الجزاء على الأعمال بالعقاب والثواب .
وكشف عن شبهتهم في إحالة البعث باستبطائهم إياه وجعلهم ذلك أمارة على أنتفائه فلذلك يسألون الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) عن تعيين وقت الساعة سؤال تعنت ، وأن شأن الرسول أن يذكرهم بها وليس شأنه تعيين إبانها ، وأنها يوشك أن تحل فيعلمونها عياناً وكأنهم مع طول الزمن لم يلبثوا إلا جزءاً من النهار . (1)
مناسبتها لما قبلها :
تتعلق السورة بما قبلها من وجهين :
1- تشابه الموضوع : فكلتا السورتين تتحدثان عن القيامة وأحوالها ، وعن مآل المتقين ، ومرجع المجرمين.
2- تشابه المطلع والخاتمة : فإن مطلع السورتين في الحديث عن البعث والقيامة ، الأولى تؤكد وجود البعث وما فيه من أهوال وحساب وجزاء ، والثانية افتتحت بالقسم على وقوع القيامة لتحقيق ما في آخر عم. والأولى اختتمت بالإنذار بالعذاب القريب يوم القيامة ، والثانية ختمت بالكلام عما في أولها من إثبات الحشر والبعث ، وتأكد حدوث القيامة ، فكان ذلك كالدليل والبرهان على مجيء القيامة وأهوالها.
ما اشتملت عليه السورة :
* سورة النازعات مكية ، شانها كشأن سائر السور المكية ، التي تعنى بأصول العقيدة الإيمانية (الوحدانية ، الرسالة ، البعث والجزاء) ومحور السورة يدور حول القيامة وأحوالها ، والساعة واهوالها ، وعن مآل المتقين ، ومآل المجرمين .
* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالملائكة الأبرار ، التي تنزع ارواح المؤمنين بلطف ولين ، وتنزع ارواح المجرمين بشدة وغلظة ، والتي تدبر شئون الخلائق بأمر الله جل وعلا [ والنازعات
غرقا ، والناشطات نشطا ، والسابحات سبحا ، فالسابقات سبقا ، فالمدبرات أمرا ] ا لايات .
* ثم تحدثت عن المشركين ، المنكرين للبعث والنشور ، فصورت حالتهم في ذلك اليوم الفظيع [ قلوب يومئذ واجفة ، أبصارها خاشعة ، يقولون أننا لمردودون في الحافرة ، أئذا كنا عظاما نخرة ؟ ] الآيات .
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 59)(1/114)
* ثم تناولت السورة (فرعون ، الطاغية الجبار ، الذي ادعى الربوبية وتمادى في الجبروت والطغيان ، فقصمه الله ، واهلكه بألغرق هو وقومه الأقباط [ هل أتاك حدبث موسى ، إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى ، اذهب إلى فرعون إنه طغى ، فقل هل لك إلى أن تزكى . ] الآيات .
* وتحدثت السورة عن طغيان أهل مكة وتمردهم على رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) وذكرتهم بأنهم أضعف من كثير من مخلوقات الله [ ءانتم أشد خلقا أم السماء بناها ، رفع سمكها فسواها ، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ] الايات .
* وختمت السورة الكربمة ببيان وقت الساعة الذي استبعده المشركون وأنكروه ، وكذبوا بحدوثه [ يسألونك عن الساعة أيان مرساها ، فيم أنت من ذكراها ، إلى ربك منتهاها ، إنما أنت منذر من يخشاها ، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا الا عشية أو ضحاها ] .. (1)
في السورة توكيد رباني بتحقيق يوم البعث والحساب وما سوف يستولي على الكفار فيه من خوف وندم. وتذكير برسالة موسى إلى فرعون وموقف فرعون وما في ذلك من عبرة. وتدليل على قدرة اللّه على البعث والتنكيل بالكفار بما كان من مصير فرعون. وبمشاهد الكون وعظمة اللّه وبديع صنعه فيه. وتنديد بالكفار لشكهم في الآخرة وبيان إنذاري وتبشيري بمصير كل من المتقين والطاغين فيها.
ونظم السورة وترابط آياتها يسوغان القول إنها نزلت دفعة واحدة. (2)
مقصودها بيان أواخر أمر الإنسان بالإقسام على بعث الأنام ، ووقوع القيام يوم الزحام وزلل الأقدام ، بعد البيان التام فيما مضى من هذه السور العظام ، تنبيها على أنه وصل الأمر في الظهور إلى مقام ليس بعده مقام ، وصور ذلك بنزع الأرواح بأيدي الملائكة الكرام ، ثم أمر فرعون اللعين وموسى عليه السلام ، واسمها النازعات واضح في ذلك المرام ، إذا تؤمل القسم وجوابه المعلوم للأئمة الأعلام ، وكذا الساهرة والطامة إذا تؤمل السياق ، وحصل التدبير في تقرير الوفاق ) بسم الله ( الظاهر الباطن الملك العلام ) الرحمن ( الذيي عم بالإنعام ) الرحيم ( الذي خص أهل ولايته بالتمام ، فاختصوا بالإكرام في دار السلام . (3)
هذه السورة نموذج من نماذج هذا الجزء لإشعار القلب البشري حقيقة الآخرة ، بهولها وضخامتها ، وجديتها ، وأصالتها في التقدير الإلهي لنشأة هذا العالم الإنساني ، والتدبير العلوي لمراحل هذه النشأة وخطواتها على ظهر الأرض وفي جوفها؛ ثم في الدار الآخرة ، التي تمثل نهاية هذه النشأة وعقباها .
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 454)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 410)
(3) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 308)(1/115)
وفي الطريق إلى إشعار القلب البشري حقيقة الآخرة الهائلة الضخمة العظيمة الكبيرة يوقع السياق إيقاعات منوعة على أوتار القلب ، ويلمسه لمسات شتى حول تلك الحقيقة الكبرى . وهي إيقاعات ولمسات تمت إليها بصلة . فتلك الحقيقة تمهد لها في الحس وتهيئه لاستقبالها في يقظة وفي حساسية . .يمهد لها بمطلع غامض الكنه يثير بغموضه شيئاً من الحدس والرهبة والتوجس . يسوقه في إيقاع موسيقي راجف لاهث ، كأنما تنقطع به الأنفاس من الذعر والارتجاف والمفاجأة والانبهار : { والنازعات غرقاً . والناشطات نشطاً . والسابحات سبحاً . فالسابقات سبقاً . فالمدبرات أمراً } . .
وعقب هذا المطلع الغامض الراجف الواجف يجيء المشهد الأول من مشاهد ذلك اليوم . ظله من ظل ذلك المطلع وطابعه من طابعه؛ كأنما المطلع إطار له وغلاف يدل عليه : { يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة . قلوب يومئذ واجفة . أبصارها خاشعة . يقولون : أإنَّا لمردودون في الحافرة؟ أإذا كنا عظاما نخرة؟ قالوا : تلك إذا كرة خاسرة! فإنما هي زجرة واحدة . فإذا هم بالساهرة } . .
ومن هنالك . . من هذا الجو الراجف الواجف المبهور المذعور . . يأخذ في عرض مصرع من مصارع المكذبين العتاة في حلقة من قصة موسى مع فرعون . فيهدأ الإيقاع الموسيقي ويسترخي شيئاً ما ، ليناسب جو الحكاية والعرض : { هل أتاك حديث موسى . إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى : اذهب إلى فرعون إنه طغى . فقل : هل لك إلى أن تزكَّى؟ وأهديك إلى ربك فتخشى؟ فأراه الآية الكبرى ، فكذب وعصى ، ثم أدبر يسعى ، فحشر فنادى ، فقال : أنا ربكم الأعلى . فأخذه الله نكال الآخرة والأولى . إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } . . وبهذا يلتقي ويمهد لتلك الحقيقة الكبرى .
ثم ينتقل من ساحة التاريخ إلى كتاب الكون المفتوح ، ومشاهد الكون الهائلة ، الشاهدة بالقوة والتدبير والتقدير للألوهية المنشئة للكون ، المهيمنة على مصائره ، في الدنيا والآخرة . فيعرضها في تعبيرات قوية الأسر ، قوية الإيقاع ، تتسق مع مطلع السورة وإيقاعها العام : { أأنتم أشد خلقاً أم السمآء؟ بناها ، رفع سمكها فسواها ، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها؛ والأرض بعد ذلك دحاها ، أخرج منها ماءها ومرعاها ، والجبال أرساها ، متاعاً لكم ولأنعامكم } . .
وهنا بعد هذه التمهيدات المقربة وهذه اللمسات الموحية يجيء مشهد الطامة الكبرى ، وما يصاحبها من جزاء على ما كان في الحياة الدنيا . جزاء يتحقق هو الآخر في مشاهد تتناسق صورها وظلالها مع الطامة الكبرى : { فإذا جآءت الطآمة الكبرى ، يوم يتذكر الإنسان ما سعى ، وبُرِّزت الجحيم لمن يرى! فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا ، فإن الجحيم هي المأوى .
وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى } . .(1/116)
وفي اللحظة التي يغمر الوجدان فيها ذلك الشعور المنبعث من مشاهد الطامة الكبرى ، والجحيم المبرزة لمن يرى ، وعاقبة من طغى وآثر الحياة الدنيا ، ومن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى . . في هذه اللحظة يرتد السياق إلى المكذبين بهذه الساعة ، الذين يسألون الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن موعدها . يرتد إليهم بإيقاع يزيد من روعة الساعة وهولها في الحس وضخامتها : { يسألونك عن الساعة أيان مرساها؟ فيم أنت من ذكراها؟ إلى ربك منتهاهآ . إنمآ أنت منذر من يخشاها . كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } . . والهاء الممدودة ذات الإيقاع الضخم الطويل ، تشارك في تشخيص الضخامة وتجسيم التهويل! (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3811)(1/117)
الحلف على وقوع البعث وأحوال المشركين فيه
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ... الملائكة تنزع أرواح الكفار بشدة وألم
2 ... وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ... الملائكة تسل أرواح المؤمنين بخفة ورفق
3 ... والسَّابِحَاتِ سَبْحًا ... الملائكة تنزل من السماء إلى الأرض كالسباحة
4 ... فالسَّابِقَاتِ ... الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة
5 ... فالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ... الملائكة تتولى تدبير الأوامر وتنفيذها
6 ... يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ... نفخة الموت
7 ... تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ... نفخة القيام لرب العالمين
8 ... وَاجِفَةٌ ... خائفة قلقة
9 ... خَاشِعَةٌ ... ذليلة
10 ... الحَافِرَةِ ... الحالة الأولى وهي الحياة
11 ... نَخِرَةً ... بالية
13 ... زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ... صيحة واحدة وهي نفخة البعث من القبور
14 ... هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ... أحياء على وجه الأرض
المعنى الإجمالي:
بدأ سبحانه هذه السورة بالجلف بأصناف من مخلوقاته - إن ما جاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أمر البعث وعرض الخلائق على ربهم ، لينال كل عامل جزاء عمله - حق لا ريب فيه فى يوم تعظم فيه الأهوال ، وتضطرب القلوب ، وتخشع الأبصار ، ويعجب المبعوثون من عودتهم إلى حياتهم الأولى بعد أن كانوا عظاما نخرة تمر فيها الرياح ، ويتحققون أن صفقتهم كانت خاسرة ، إذا أنهم أنكروا فى الدنيا معادهم ، ويجابون على تعجبهم بألا يحسبوا أن الإحياء صعب على اللّه ، فما الأمر عنده إلا صيحة واحدة ، فإذا الناس جميعا ظاهرون فى أرض المعاد.
لو تدبرنا أمر القسم ببعض المخلوقات فى الكتاب الكريم لوجدناه يرجع إلى أحد أمرين :(1/118)
(1) أن تكون هذه المخلوقات قد عظمت فى أعين بعض الناس ، وقوى سلطانها فى نفوسهم ، حتى عبدوها واتخذوها آلهة من دون اللّه كالشمس والقمر فى نحو قوله : « وَ الشَّمْسِ وَضُحاها. وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها » وقد ذكر سبحانه بجانب ذلك بعض صفاتها الدالة على أنها مخلوقة له كتغيرها من حال إلى حال ، وما يطرأ عليها من الأفول والزوال ، مما لا يكون من شأن الآلهة المستحقة للعبادة.
(2) أن تكون مما احتقره الناس لغفلتهم عن فائدته ، وذهولهم عن موضع العبرة فيه ، ولو أنهم تدبروا فيما هو عليه من جليل الصنعة ، وبديع الحكمة لاهتدوا إلى معرفة خالقة ، ونعتوه بما هو أهل له من صفات الجلال والكمال.
فأقسم سبحانه على التوحيد فى قوله :« والصَّافَّاتِ صَفًّا. فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً. إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ » .وأقسم على أن الرسول حق بقوله :« وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » .وأقسم إن القرآن حق فى قوله : « فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ » .
وحلف إن الجزاء حق ، وإن الناس سيبعثون إلى ربهم ، وإن كلا منهم سيلاقى جزاء عمله كما قال : « وَالذَّارِياتِ ذَرْواً. فَالْحامِلاتِ وِقْراً. فَالْجارِياتِ يُسْراً. فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً. إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ » . (1)
أقسم الحق - تبارك وتعالى - بالكواكب السيارة التي تجرى على سنن مقدر ونظام معين لا تتعداه ، تنزع مجدة في سيرها ، مسرعة فيه بلا توان ، وأقسم بها وهي تخرج من برج إلى برج وتسبح في الفضاء سبحا ، وتسير فيه سيرا هادئا ، كل في فلك يسبحون ، والمراد بذلك وصف الكواكب بالجري السريع والانتقال من حال إلى حال ، سابحة في الفضاء ، ومع هذا فعالم السماء محكم لا اضطراب فيه ولا تصادم ، ألا يدل ذلك على قدرة قادرة ، وعلى علم كامل تام ، لا يحيط به إلا هو ؟
فَالسَّابِقاتِ « 1 » أى : فبعض الكواكب تسبق بعضها في الجري. فالمدبرات أمرا للعباد في معاشهم وحياتهم كتوقيت المواقيت ، وتكوين الفصول ، وما يتبع ذلك من نظام الحياة البشرية ، وليس المراد تدبير أمر الخلق تدبيرا كاملا على ما يعتقد بعض عبدة الكواكب فهذا كفر صريح ، بل المراد : بها يكون ذلك.
وبعضهم يرى أن اللّه أقسم بالملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد نزعا. فهي تنزع قلوب الكفار نزعا بشدة وإغراق ومبالغة ، وهي تنزع قلوب المؤمنين برفق وهوادة وهذا معنى
__________
(1) - تفسير المراغي ، ج 30 ، ص : 23(1/119)
الناشطات نشطا ، وذاك معنى النازعات غرقا ، والمراد بالسابحات الملائكة تسبح في الفضاء نازلة بأمر ربها ، وأما السابقات فالملائكة تتسابق في تنفيذ الأمر ، والمدبرات هم الملائكة ، وقد وكل اللّه لكل طائفة تدبير أمر والقيام عليه بإذنه وعلى العموم فاللّه أعلم بسر كتابه ، أقسم اللّه بالنازعات والناشطات فالسابقات فالمدبرات لتبعثن بعد الموت. ولتنبؤن بما عملتم يوم ترجف الراجفة ، وتضطرب الأرض والجبال بسبب النفخة الأولى. تتبعها الرادفة وهي النفخة الثانية ، أو المراد تتبعها الرادفة وهي السماء يوم تمور مورا. وتنشق انشقاقا.
يوم ترجف الأرض والسماء تكون قلوب الكفار يومئذ قلقة خائفة لأنهم أبصروا ما كانوا ينكرون. ورأوا ما به يوعدون ، أبصارهم خاشعة ذليلة ، أرأيتهم وهم يضطربون عند ما رأوا العذاب يوم القيامة ؟ ! انظر إليهم وهم يقولون في الدنيا ساعة ينذرون بالبعث يقولون منكرين : أنرد إلى حياتنا الأولى ؟ ! بعد أن متنا وكنا ترابا ، إن هذا لعجيب! وقد حكى القرآن عنهم قولهم ثانية : أإذا كنا عظاما بالية متفتتة ليس فيها حياة ولا حرارة أنرد ونبعث!! إن هذا لعجيب! أما القول الثالث : فقد قالوا مستهزئين بالنبي وبوعده بالبعث : تلك إذا كرة خاسرة على معنى : إن صح ما يقوله محمد ، وأن هناك حسابا وثوابا وعقابا وحياة بعد أن صرنا ترابا فنحن إذا خاسرون ، وتلك رجعة خاسر أصحابها حيث لم نعمل لها!
وقد رد اللّه عليهم دعواهم الباطلة في قولهم : أإذا كنا عظاما نخرة نبعث ؟ ببيان أن إعادة الحياة للبشر أمر سهل ، وأن اللّه القادر على البدء قادر على الإعادة ، وأنه خلق في الكون ما هو أشد وأكبر من البشر لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [سورة غافر آية 57] فقال ما معناه :
لا تستبعدوا البعث بعد الفناء فإنما هي صيحة واحدة يكلف بها ملك ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ فالمراد بالصيحة النفخة الثانية. فإذا أنتم بعدها جميعا لدينا محضرون تنتظرون ما يفعل بكم. وإذا أنتم أحياء على وجه الأرض بعد أن كنتم أمواتا. (1)
التفسير والبيان :
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً ، وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً ، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً ، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً أقسم اللّه سبحانه بالملائكة التي تنزع أرواح الكفار من أجسادهم بشدة وعنف وإغراق في النزع حيث تنزعها من أقاصي الأجساد ، وتخرج أرواح المؤمنين بسرعة ولطف وسهولة ، وبالملائكة الذين ينزلون من السماء مسرعين ، لأمر اللّه تعالى ، والملائكة التي تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة ، وتدبر الأمر بأن تنزل بالحلال والحرام وتفصيلهما ، وتدبر أهل الأرض بالرياح
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 817)(1/120)
والأمطار وغير ذلك. قيل : إن تدبير أمر الدنيا إلى أربعة من الملائكة : جبريل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل ، فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود ، وأما ميكائيل : فموكل بالقطر والنبات ، وأما عزرائيل : فموكل بقبض الأنفس ، وأما إسرافيل : فهو ينزل بالأمر عليهم.
وقال الحسن البصري : المراد بالكلمات الخمس : النجوم والكواكب في جريها وتنقلها بين الأبراج وسيرها في أفلاكها هادئة أو مسرعة أو مدبرة أمرا بأمر اللّه تعالى.
وإنما قال : أَمْراً ، لا أمورا لأن المراد به الجنس ، فيقوم مقام الجمع ، وتدبير الأمر في الحقيقة للّه تعالى ، وإنما أضيف إلى الملائكة لإتيانها به ، ولأنها من أسبابه.
وجواب القسم محذوف ، أي لتبعثن بعد الموت ، بدليل إنكارهم البعث كما حكى اللّه عنهم فيما بعد بقوله : أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً [11] أي انبعث بعد نخر العظام ؟
وإنما عطف الثلاثة الأولى بالواو ، والباقيتين بالفاء لأن هاتين مسببتان عن التي قبلها ، كما قال الزمخشري.
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ أي حين تتحرك الأرض وتضطرب الجبال ، كقوله تعالى : يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [المزمل 73/ 14] ثم تتلوها السماء ، فتنشق بما فيها من الكواكب وتنتثر. وقيل : الرَّاجِفَةُ : هي النفحة الأولى التي يموت بها جميع الخلائق ، وتليها النفخة الثانية التي يكون عندها البعث.
عَنْ شُرَيْحٍ الْحَضْرَمِيِّ ، يَرُدُّهُ إِلَى أَبِي ذَرٍّ قَالَ : " لَمَّا كَانَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَسْجِدِ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ قَالَ : " إِنَّا قَائِمُونَ اللَّيْلَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَقُومَ فَلْيَقُمْ " وَهِيَ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ , وَصَلَّى لَنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - جَمَاعَةً بَعْدَ الْعَتْمَةِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ [ ثُمَّ انْصَرَفَ ] , فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ لَمْ يَقُلْ [ لَمْ يُصَلِ ] شَيْئًا وَلَمْ يَقُمْ , فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ قَامَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ يَوْمَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ [ فَ ] قَالَ : " إِنَّا قَائِمُونَ اللَّيْلَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ " يَعْنِي لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَقُمْ فَصَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا [ حَتَّى ] ذَهَبَ نِصْفُ اللَّيْلِ ثُمَّ انْصَرَفَ , فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ لَمْ يَقُلْ [ شَيْئًا ] وَلَمْ يَقُمْ , فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ [ صَلَاةِ ] الْعَصْرِ يَوْمَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ قَامَ فَقَالَ : " إِنَّا قَائِمُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ " يَعْنِي لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ " فَمَنْ شَاءَ فَلْيَقُمْ " قَالَ أَبُو ذَرٍّ : فَتَجَلَّدْنَا لِلْقِيَامِ , فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى قُبَّتِهِ [ فِي ] الْمَسْجِدِ , فَقُلْتُ لَهُ : إِنْ كُنَّا لَقَدْ طَمِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَقُومَ بِنَا إِلَى الصُّبْحِ , فَقَالَ : " يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ إِذَا صَلَّيْتَ مَعَ إِمَامِكَ وَانْصَرَفْتَ كُتِبَ لَكَ قُنُوتُ لَيْلَتِكَ " (1)
__________
(1) - مُسْنَدُ الشَّامِيِّينَ لِلطَّبَرَانِيِّ (946 ) صحيح لغيره(1/121)
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ ، أَبْصارُها خاشِعَةٌ أي هناك قلوب تكون يوم القيامة خائفة مضطربة قلقة ، لما عاينت من أهوال يوم القيامة ، وهي قلوب الكفار ، وأبصار أصحابها ذليلة حقيرة مما عاينت من الأهوال ، بسبب موتهم على غير الإسلام ، وإنكارهم البعث ، وهذه هي أقوالهم :
يَقُولُونَ : أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ ، أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً ، قالُوا : تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ أي يقول مشركو قريش وأمثالهم المنكرون المعاد ، المستبعدون وقوع البعث إذا قيل لهم : إنكم تبعثون ، هل نردّ إلى حياتنا الأولى وابتداء أمرنا قبل الموت ، فنصير أحياء بعد موتنا ، وبعد المصير إلى الحافرة وهي القبور ؟
وهو كقولهم : أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً [الإسراء 17/ 98].
وكيف يتصور أن نرد إلى الحياة بعد تمزق أجسادنا وتفتت عظامنا ، وصيرورتها عظاما بالية ناخرة ؟
إن رددنا بعد الموت وصحّ أن بعثنا يوم القيامة لنخسرنّ أو تكون رجعة ذات خسران لتكذيبنا بما أخبر به محمد ، وسيصيبنا ما يقوله هذا النبي. وهذا القول صادر منهم على سبيل الاستهزاء والتهكم ، لاعتقادهم ألا بعث.
ثم ردّ اللّه تعالى عليهم وأفحمهم قائلا : فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ أي لا تستبعدوا ذلك ، فإنما الأمر يسير ، ولا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على اللّه ، وما هي إلا صيحة واحدة ، وهي النفخة الثانية التي يبعث اللّه بها الموتى من القبور ، فإذا هم على وجه الأرض أحياء ، وحينئذ يحاسب الخلائق. والساهرة على الصحيح هي أرض الآخرة ، وهي أرض بيضاء مستوية ، والمراد بها هنا : وجهها الأعلى ، وسطحها الظاهر.
وإنما قيل لها ساهرة لأنهم لا ينامون عليها حينئذ ، وقيل : هي أرض بالشام.
ومضات :
تعددت الأقوال في معاني الآيات الأربع الأولى «1». منها أنها الملائكة في قبضها الأرواح وسبحها بين السماء والأرض لتنفيذ أوامر اللّه وتسابقها لتدبير الأمور التي تعهد إليها. وقيل إنها صفات الأرواح حين تنزع من الأجساد فأرواح الكفار تنزع بشدّة بينما أرواح المؤمنين تخرج نشيطة مسرعة فتسبح في ملكوت اللّه وتتسابق إلى الحضرة الإلهية أو إلى مصائرها السعيدة. وقيل إنها صفات النجوم وحركاتها حيث تنزع من أفق إلى أفق وتطلع ثم تغيب وتغرق وتسبح في الفضاء ويسبق بعضها بعضا في السير. وهذه الأقوال تخمينية كما يبدو. والتعدد آت من إطلاق الصفات وعدم وجود أثر نبوي يحدد المدلولات تحديدا لا يبقى معه محل للتخمين.
والمتبادر أن مدلولات هذه الأقسام كانت مفهومة في عهد النبي وأنها كانت ذات خطورة في الأذهان على أن الجملة الآتية الأخيرة أو الخامسة قد تساعد على القول أنها أوصاف الملائكة(1/122)
لأنهم الذين يمكن أن يكون منهم تدبير الأمر بأمر من اللّه تعالى واللّه أعلم. أما جواب القسم فهو على قول جمهور المفسرين محذوف مقدر بمعنى توكيد بعث الناس مرة أخرى. والآيات التالية قرائن قوية على ذلك أغنت عن ذكر الجواب. وهو ما تتحمله أساليب النظم العربي. وقد تكرر ذلك في النظم القرآني أيضا.
وقد أعقب آيات القسم توكيد رباني بتحقيق وعد البعث وإشارة إلى بعض ظروفه ومشاهده وأقوال الكفار عند وقوعه : فسوف ترجف الأرض مرة تردفها رجفة أخرى حين حلول اليوم المعين. وسوف يستولي الرعب والاضطراب على قلوب كثيرة وتخشع أبصار أصحابها. وسوف يتساءل هؤلاء عما إذا كانوا حقا قد عادوا إلى الحياة مرة ثانية بعد أن كانوا عظاما بالية ويقولون إن هذا إذا كان حقا فإنها لعودة خاسرة.
وقد تضمنت الآيتان الأخيرتان بيان سهولة البعث على اللّه ، فالأمر لن يقتضي إلّا صرخة واحدة فلا يلبث الناس أن يروا أنفسهم في صعيد واحد في انتظار قضاء اللّه وحكمه.
وواضح أن الآيات هي في صدد توكيد البعث والحساب ووصف هول يوم القيامة وأن الذين حكت اضطراب قلوبهم وخشوع أبصارهم وتساؤلهم وأقوالهم هم منكرو البعث. وقد تضمنت الآيات ردّا عليهم وإنذارا لهم. واستهدفت فيما استهدفته إثارة الخوف فيهم وحملهم على الارعواء بالإضافة إلى المشهد الأخروي الذي يجب الإيمان به وإيكال كنهه وسرّه إلى اللّه تعالى.
ولقد تكررت حكاية تساؤل الكفار عن بعثهم بعد أن يكونوا عظاما نخرة وتكرر الردّ عليهم ووصف ما سوف يحلّ بهم بما يقارب ما جاء في هذه الآيات حيث كانت تتجدد المواقف فتقضي حكمة التنزيل بتجدد الحكاية والردّ استهدافا للهدف الذي نبهّنا عليه كما هو المتبادر.
وبرغم ما في الآيات من صراحة قطعية إنها في صدد البعث الأخروي وإنذار الكفار فإن المفسّر الشيعي الكارزاني يروي عن المفسر الشيعي القمي عن الصادق عليه السلام أن الراجعة تعني الحسين والرادفة تعني أباه عليا رضي اللّه عنهما وأن في الآيتين إشارة إلى رجعة الحسين ثم أبيه وما سوف يعتري أعداءهما من خوف وهلع . وفي هذا ما هو ظاهر من تعسف وشطط وهوى حزبي. (1)
قوله تعالى : « وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً. وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً. فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً. فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ».
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 411)(1/123)
يقول الأستاذ الإمام « محمد عبده » رحمه اللّه ، عن هذه الأقسام التي أقسم اللّه سبحانه وتعالى بها من مخلوقاته ـ يقول : « جاء فى القرآن الكريم ضروب من القسم ، بالأزمنة والأمكنة والأشياء ..
والقسم إنما يكون بشىء يخشى المقسم إذا حنث فى حلفه به أن يقع تحت للؤاخذة ـ نعوذ باللّه أن يتوهم شىء من هذا فى جانب اللّه ـ وما كان اللّه جل شأنه ليحتاج فى تأكيد أخباره إلى القسم بما هو من صنع قدرته ، فليس لشىء فى الوجود قدر إذا نسب إلى قدره تعالى ، الذي لا يقدره القادرون ، بل لا وجود لكائن إذا قيس إلى وجوده ـ سبحانه ـ إلا لأنه انبسط عليه شعاع من أشعة ظهوره جل شأنه.
ولهذا ، قد يسأل السائل عن هذا النوع من الخبر الذي اختص به القرآن وكيف يوجد فى كلام اللّه ؟
فيجاب ، بأنك إذا رجعت إلى جميع ما أقسم اللّه به ، وجدته إما شيئا أنكره بعض الناس ، أو احتقره لغفلته عن فائدته ، أو ذهل عن موضع العبرة فيه ، وعمى عن حكمة اللّه فى خلقه ، أو انعكس عليه الرأى فى أمره ، فاعتقد فيه غير الحق الذي قرر اللّه شأنه عليه ـ فيقسم اللّه به ، إما لتقرير وجوده فى عقل من ينكره ، أو تعظيم شأنه فى نفس من يحقره ، أو تنبيه الشعور إلى ما فيه عند من لا يذكره ، أو لقلب الاعتقاد فى قلب من أضله الوهم ، أو خانه الفهم ....
« ومن ذلك النجوم .. قوم يحقرونها لأنها من جملة عالم المادة ، أو يغفلون عن حكمة اللّه فيها ، وما ناط بها من المصالح ، وآخرون يعتقدونها آلهة تتصرف فى الأكوان السفلية تصرّف الرب فى المربوب ، فيقسم اللّه بأوصاف تدل على أنها من المخلوقات ، التي تصرّفها القدرة الإلهية ، وليس فيها شىء من صفات الألوهية ...
ثم يقول الإمام : «وهناك أمر يجب التنبيه عليه ، وهو أن من الأديان السابقة على دين الإسلام ، ما ظن أهله أن هذا الكون الجسماني ، وما فيه من نور وظلمة ، وأجرام ، وأعراض ـ إنما هو كون مادى ، لم يشأ اللّه كونه إلا ليكون حبسا للأنفس ، وفتنة للأرواح ، فمن طلب رضا اللّه ، فليعرض عنه ، وليبعد عن طيباته ، وليأخذ بدنه بضرب من الإعنات والتعذيب وأصناف الحرمان ، وليغمض عينيه عن النظر إلى شىء مما يشتمل عليه هذا الكون الفاسد فى زعمه ـ اللهم إلا على نية مقته ، والهروب منه ..
فأقسم اللّه بكثير من هذه الكائنات ، ليبين مقدار عنايته بها ، وأنه لا يغضبه من عباده أن يتمتعوا بما متعهم به منها ، متى أدركوا حكمة اللّه فى هذا المتاع ، ووقفوا عند حدوده فى الانتفاع ».(1/124)
وقد رأينا أن ننقل رأى الإمام فى هذه الأقسام التي أقسم اللّه سبحانه بها فى القرآن ، لأننا لم نجد قولا خيرا من هذا القول ، ولا أوضح منه فى هذا المقام.
قوله تعالى : « وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً » اختلف المفسرون ـ كشأنهم دائما فيما يحتمل التأويل والتخريج ـ فلم يجتمعوا على رأى فى مدلول كلمة « النازعات ».
والرأى عندنا ـ واللّه أعلم ـ أنها هى النجوم البعيدة ، الغائرة ، الغارقة فى أطباق السماء العليا ..
فالنزع : بمعنى الانطلاق ، والنزوح البعيد ..
والغرق : بمعنى الإغراق فى الأمر ، ومجاوزة الحدود ..
« وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً » هى النجوم ، القريبة ـ نسبيّا ، ـ منّا ، فنرى لها حركات ظاهرة ، على خلاف النجوم ، الغارقة فى أجواء السموات العلا ، حيث تبدو وكأنها مقيدة فى أماكنها ، أما النجوم القريبة ، فتظهر عليها الحركة ، وتبدو كأنها نشطت من عقالها ..
« وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً » هى الكواكب ، المطلة علينا فى سماء الدنيا ، كالشمس ، والقمر ، والمشترى والمريخ ، وزحل ، وغيرها.
فهذه الكواكب لقربها منا ، نراها سابحة فى الجو ، كما تسبح الطيور ..
ـ « وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ » (38 : يس) ..« فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً »..
هى هذه الكواكب السابحة سبحا ، وهى ـ كما يبدو من ظاهر حركاتها ـ فى سباق مع بعضها ، حيث ترى الشمس مرة أمام القمر ، ويرى القمر مرة أمامها ..
« فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً »..هى أيضا نفس هذه الكواكب ، السابحات سبحا ، والسابقات سبقا ..
إنها فى تعاملنا معها ، تضبط الزمن ، ساعات ، وأياما ، وشهورا .. « وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ » (12 : الإسراء) ..وتدبير هذه الكواكب لأمورنا ، هو فيما يظهر من آثارها فى حياتنا ، من حرّ وبرد ، ومن هبوب رياح ، ونزول أمطار ، وإنضاج ثمار ، ومدّ وجزر فى البحار ، وغير ذلك مما نشهده من حركة الشمس والقمر ، وما يتبع هذه الحركة من آثار فى عالمنا الأرضى ، برّا ، وبحرا ، وجوّا ..
قوله تعالى : « يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ »..ليس هذا جواب القسم ، فجواب القسم ـ كما قلنا ـ هو مادل عليه ختام سورة النبأ ، أما هذا فهو بيان لما يجرى فى يوم القيامة ، الذي جاء القسم لتوكيده ، الأمر الذي يقتضى التسليم به ، فلم يبق إلا بيان ما يحدث فيه ..(1/125)
والراجفة : الأرض ، والرادفة السماء ..فالأرض ترجف يوم القيامة ، ثم تتبعها السماء ، فيما يقع فيها من أحداث هذا اليوم ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : « يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ » (48 : إبراهيم) ..
وقيل : الراجفة : النفخة الأولى ، وهى صعقة الموت : « وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ » (68 : الزمر) ..
والرادفة : النفخة الثانية ، وهى نفخة البعث : « ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ » (68 : الزمر) .. وجملة « تتبعها الرادفة » حال من « الراجفة »..
وقوله تعالى : « قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ »..الواجفة : الخائفة ، المذعورة : المضطربة .. والوجيف : ضرب من السير السريع المضطرب.
وهو إخبار عن حال المشركين الذين يكذبون بيوم الدين ، وذلك حين تطلع عليهم أمارات الساعة ، وإرهاصاتها ..
وفى الإخبار عن القلوب ، دون أصحابها ، إشارة إلى أن القلوب فى هذا اليوم ، هى التي تتلقى هذه الأحداث ، وتتفاعل بها ، وأن الإنسان فى هذا اليوم قد استحال إلى قلب واجف مضطرب ، كل جارحة فيه ، وكل عضو من أعضائه ، قد صار قلبا ، يدرك ، ويشعر ، وينفعل .. وذلك من شدة وقع الأحداث ، التي يتنبه لها كيان الإنسان كله .. وفى تنكير القلوب ، إشارة إلى أنها قلوب غير تلك القلوب التي عهدها الناس ، إنها هذا الإنسان المجتمع فيها بكل أعضائه وجوارحه.
قوله تعالى : « أَبْصارُها خاشِعَةٌ ». أي أبصار هذه القلوب أو أبصار أصحابها ، إذ لا فرق بين الإنسان وقلبه يومئذ .. والخاشعة الذليلة .. وإنما أوقع الذلّ على الأبصار ، لأنها هى المرآة التي تتجلى على صفحتها أحوال الإنسان ، وما يقع فى القلب من مسرات ومساءات ..
قوله تعالى : « يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ. أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً » ؟ .
الحافرة : الحياة الأولى التي كان عليها الإنسان .. يقال رجع إلى حافرته ، أي إلى الطريق الذي جاء منه ..
والفعل « يقولون » هو الناصب للظرف : « يوم ترجف الراجفة » أي يوم ترجف الراجفة ، متبوعة بالرادفة ، متبوعة بقلوب يومئذ واجفة ، أبصارها خاشعة ـ فى هذا اليوم يقول المشركون : « أإنا لمردودون فى الحافرة » أي أنردّ إلى الحياة الدنيا مرة أخرى بعد أن نموت ، ونتحول إلى عظام بالية ؟ إن هذه الأحداث لتشير إلى أن هناك بعثا وحياة بعد الموت!! لقد قال الذين يحدثوننا عن يوم القيامة إن هناك إرهاصات تسبقه ، وهذه هى الإرهاصات .. فهل يقع البعث حقا ؟ إن ذلك مما تشهد له هذه الأحداث!.(1/126)
وهكذا تتردد فى صدورهم الخواطر المزعجة ، والوساوس المفزعة.
قوله تعالى : « قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ »..أي عندئذ ، وبعد أن يعاين المشركون أمارات الساعة ، وهم فى هذه الدنيا ، وبعد أن يتبين لهم أن أمر البعث جدّ لا هزل ، وأنه لا شكّ واقع ـ عندئذ « قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ » أي رجعة قد خسرنا فيها أنفسنا ، إذ لم نكن نتوقعها ، ولم نعمل لها حسابا ..
قوله تعالى : « فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ».« هى » ضمير الشأن ، أي فإنما الحال والشأن زجرة واحدة ، أي صيحة واحدة ، أو نفخة واحدة .. « فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ » أي فإذا هم على ظهر الأرض ..والساهرة : الأرض ، وسميت ساهرة ، لأنه لا نوم للناس يومئذ فيها ، بل هم فى سهر دائم ، بعد مبعثهم من نومهم فى القبور .. (1)
{ والنازعات غرقاً . والناشطات نشطاً . والسابحات سبحاً . فالسابقات سبقاً . فالمدبرات أمراً } . قيل في تفسير هذه الكلمات : إنها الملائكة نازعات للأرواح نزعاً شديداً . ناشطات منطلقات في حركاتها . سابحات في العوالم العليا سابقات للإيمان أو للطاعة لأمر ربها مدبرات ما يوكل من الأمور إليها . .
وقيل : إنها النجوم تنزع في مداراتها وتتحرك وتنشط منتقلة من منزل إلى منزل . وتسبح سبحاً في فضاء الله وهي معلقة به . وتسبق سبقاً في جريانها ودورانها . وتدبر من النتائج والظواهر ما وكله الله إليها مما يؤثر في حياة الأرض ومن عليها .
وقيل : النازعات والناشطات والسابحات والسابقات هي النجوم . والمدبرات هي الملائكة .
وقيل : النازعات والناشطات والسابحات هي النجوم . والسابقات والمدبرات هي الملائكة . .
وأياً ما كانت مدلولاتها فنحن نحس من الحياة في الجو القرآني أن إيرادها على هذا النحو ، ينشئ أولاً وقبل كل شيء هزة في الحس ، وتوجساً في الشعور ، وتوفزاً وتوقعاً لشيء يهول ويروع . ومن ثم فهي تشارك في المطلع مشاركة قوية في إعداد الحس لتلقي ما يروع ويهول من أمر الراجفة والرادفة والطامة الكبرى في النهاية!
وتمشياً مع هذا الإحساس نؤثر أن ندعها هكذا بدون زيادة في تفصيل مدلولاتها ومناقشتها؛ لنعيش في ظلال القرآن بموحياته وإيحاءاته على طبيعتها . فهزة القلب وإيقاظه هدف في ذاته ، يتحراه الخطاب القرآني بوسائل شتى . . ثم إن لنا في عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسوة . وقد قرأ سورة : { عبس وتولى } حتى جاء إلى قوله تعالى : { وفاكهة وأبَّا } فقال : « فقد عرفنا الفاكهة . فما الأبّ؟ ثم استدرك قائلاً : لعمرك يا بن الخطاب إن هذا لهو التكلف! وما
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1429)(1/127)
عليك ألا تعرف لفظاً في كتاب الله؟! » . . . وفي رواية أنه قال : كل هذا قد عرفنا فما الأبَّ؟ ثم رفض عصا كانت بيده أي كسرها غضباً على نفسه وقال : « هذا لعمر الله التكلف! وما عليك يا بن أم عمر أن لا تدري ما الأب » .
ثم قال : « اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب ، وما لا ، فدعوه » . . فهذه كلمات تنبعث عن الأدب أمام كلمات الله العظيمة . أدب العبد أمام كلمات الرب . التي قد يكون بقاؤها مغلفة هدفاً في ذاته ، يؤدي غرضاً بذاته .
هذا المطلع جاء في صيغة القسم ، على أمر تصوره الآيات التالية في السورة :{ يوم ترجف الراجفة . تتبعها الرادفة . قلوب يومئذ واجفة . أبصارها خاشعة . يقولون : أإنا لمردودون في الحافرة؟ أإذا كنا عظاماً نخرة؟ قالوا : تلك إذا كرة خاسرة! . . فإنما هي زجرة واحدة . فإذا هم بالساهرة } . .
والراجفة ورد أنها الأرض استناداً إلى قوله تعالى في سورة أخرى : { يوم ترجف الأرض والجبال } والرادفة : ورد أنها السماء أي أنها تردف الأرض وتتبعها في الانقلاب حيث تنشق وتتناثر كواكبها . .
كذلك ورد أن الراجفة هي الصيحة الأولى ، التي ترجف لها الأرض والجبال والأحياء جميعاً ، ويصعق لها من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله . والرادفة هي النفخة الثانية التي يصحون عليها ويحشرون ( كما جاء في سورة الزمر آية 68 ) . .
وسواء كانت هذه أم تلك . فقد أحس القلب البشري بالزلزلة والرجفة والهول والاضطراب؛ واهتز هزة الخوف والوجل والرعب والارتعاش . وتهيأ لإدراك ما يصيب القلوب يومئذ من الفزع الذي لا ثبات معه ولا قرار . وأدرك وأحس حقيقة قوله :{ قلوب يومئذ واجفة . أبصارها خاشعة } . .
فهي شديدة الاضطراب ، بادية الذل ، يجتمع عليها الخوف والانكسار ، والرجفة ، والانهيار . وهذا هو الذي يقع يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة؛ وهذا هو الذي يتناوله القسم بالنازعات غرقاً والناشطات نشطاً ، والسابحات سبحاً ، والسابقات سبقاً ، فالمدبرات أمراً . وهو مشهد يتفق في ظله وإيقاعه مع ذلك المطلع .
ثم يمضي السياق يتحدث عن وهلتهم وانبهارهم حين يقومون من قبورهم في ذهول :{ يقولون : أإنَّا لمردودون في الحافرة؟ أإذا كنا عظاماً نخرة؟ } . .
فهم يتساءلون : أنحن مردودون إلى الحياة عائدون في طريقنا الأولى . . يقال : رجع في حافرته : أي في طريقه التي جاء منها . فهم في وهلتهم وذهولهم يسألون : إن كانوا راجعين(1/128)
في طريقهم إلى حياتهم؟ ويدهشون : كيف يكون هذا بعد إذ كانوا عظاماً نخرة . منخوبة يصوت فيها الهواء؟!
ولعلهم يفيقون ، أو يُبصرون ، فيعلمون أنها كرة إلى الحياة ، ولكنها الحياة الأخرى ، فيشعرون بالخسارة والوبال في هذه الرجعة ، فتند منهم تلك الكلمة :{ قالوا : تلك إذن كرة خاسرة } !
كرة لم يحسبوا حسابها ، ولم يقدموا لها زادها ، وليس لهم فيها إلا الخسران الخالص!
هنا في مواجهة هذا المشهد يعقب السياق القرآني بحقيقة ما هو كائن :{ فإنما هي زجرة واحدة . فإذا هم بالساهرة } . .
والزجرة : هي الصيحة . ولكنها تقال هنا بهذا اللفظ العنيف تنسيقاً لجو المشهد مع مشاهد السورة جميعاً . والساهرة هي الأرض البيضاء اللامعة . وهي أرض المحشر ، التي لا ندري نحن أين تكون .
والخبر عنها لا نعرفه إلا من الخبر الصادق نتلقاه ، فلا نزيد عليه شيئاً غير موثوق به ولا مضمون!
وهذه الزجرة الواحدة يغلب بالاستناد إلى النصوص الأخرى أنها النفخة الثانية . نفخة البعث والحشر . والتعبير عنها فيه سرعة . وهي ذاتها توحي بالسرعة . وإيقاع السورة كلها فيه هذا اللون من الإسراع والإيجاف . والقلوب الواجفة تأخذ صفتها هذه من سرعة النبض ، فالتناسق ملحوظ في كل حركة وفي كل لمحة ، وفي كل ظل في السياق! (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- بيان أن الله تعالى يقسم بما يشاء من مخلوقاته بخلاف العبد لا يجوز له أن يقسم بغير ربه تعالى .
2- بيان أن روح المؤمن تنزع عند الموت نزعاً سريعاً لا يجد من الألم ما يجده الكافر .
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء بالإِقسام عليها وذكر كيفية وقوعها .
4- في يوم القيامة الرهيب ترجف الأرض والجبال، وتتحرك وتضطرب ، وتتبعها السماء ، فتنشق وتنتثر، والأرض : هي الراجفة
5- تكون قلوب الكفار الذين ماتوا على غير دين الإسلام خائفة وجلة ، وأبصار أصحابها منكسرة ذليلة من هول ما ترى.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3812)(1/129)
6- أقسم اللّه سبحانه بأنواع خمسة من الملائكة ذوي مهام متنوعة على أن القيامة حق. والقسم بها تعظيم لها وتنويه بها. وللّه أن يقسم على ما يشاء في أي وقت يشاء ، ولإثبات أو نفي ما يشاء ، كالتوحيد وأن القرآن حق والرسول حق والبعث حق.
والمقسم به من المخلوقات في القرآن الكريم أحد نوعين :
الأول- أن تكون المخلوقات معظمة عند بعض الناس ، كالشمس والقمر.
الثاني- أن تكون المخلوقات مهملة مذهول عنها في أنظار الناس ، كمواقع النجوم والرياح والملائكة.
7- في يوم القيامة الرهيب ترجف الأرض والجبال ، وتتحرك وتضطرب ، وتتبعها السماء ، فتنشق وتنتثر ، والأرض : هي الراجفة ، والسماء : هي الرادفة ، وقيل : الراجفة هي النفخة الأولى ، والرادفة هي النفخة الثانية.
والظاهر المعنى الأول ، قال مجاهد : الرادفة حين تنشق السماء ، وتحمل الأرض والجبال فتدك دكة واحدة.
8- تكون قلوب الكفار الذين ماتوا على غير دين الإسلام خائفة وجلة ، وأبصار أصحابها منكسرة ذليلة من هول ما ترى.
9- أثبت المشركون المكذبون منكرو البعث على أنفسهم إنكار المعاد والبعث بأقوال ثلاثة ، فإذا قيل لهم : إنكم تبعثون ، قالوا منكرين متعجبين : أنرد بعد موتنا إلى أول الأمر ، فنعود أحياء كما كنا قبل الموت ؟
ولا نتصور أن نعود كما كنا بعد أن نصير عظاما نخرة ، أي بالية متفتّتة.
وزادوا في الاستهزاء والتهكم ، فقالوا : إننا إذا بعثنا فتلك رجعة خائبة ، كاذبة باطلة.
10- ردّ اللّه تعالى عليهم وأفحمهم فقال : لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على اللّه ، فما هي إلا صيحة واحدة ، فإذا هم بالساهرة أي على وجه الأرض أو سطحها ، بعد أن كانوا في بطونها. قال الثوري : الساهرة : أرض الشام.
- - - - - - - - - - -(1/130)
التهديد بقصة موسى عليه السلام مع فرعون
قال تعالى :
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
المناسبة :
بعد أن حكى اللّه تعالى عن الكفار إصرارهم على إنكار البعث ، واستهزاءهم في قولهم : تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ وكان ذلك يشق على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ذكر له قصة موسى عليه السلام مع فرعون الطاغية ، حيث تحمل المشقة الكثيرة في دعوة فرعون ، ليكون ذلك كالتسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - عن تكذيب قومه وشدة عنادهم وإعراضهم عن دعوته. كما يكون ذلك تهديدا للكفار بأن يصيبهم مثل ما أصاب من هو أقوى وأعتى وأشد شوكة وأكثر جمعا ، فإن أصروا على كفرهم ، واستمروا في تمردهم أخذهم اللّه ، وجعلهم نكالا وعبرة ، كما جاء في آية أخرى : فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ : أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ، إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ، قالُوا : لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ، فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [فصّلت 41/ 13- 14].
المفردات :
16 ... طُوًى ... اسم للوادي المقدس
17 ... طَغَى ... جاوز الحد بادعائه الربوبية والألوهية
18 ... تَزَكَّى ... تتطهر
20 ... الآيَةَ الكُبْرَى ... العصا واليد البيضاء
22 ... يَسْعَى ... يجمع جنوده
23 ... فَحَشَرَ ... جمع السحرة والجنود
25 ... نَكَالَ ... عقوبةٌ و جزاء
المعنى الإجمالي:
بعد أن حكى عن كفار مكة إصرارهم على إنكارهم البعث وتماديهم فى العتو والطغيان واستهزاءهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وكان ذلك يشق عليه ، ويصعب على نفسه ، ذكر له قصص موسى مع فرعون طاغية مصر ، وبين له أنه قد بلغ فى الجبروت حدّا لم يبلغه قومك ، فقد ادعى الألوهية وألبّ قومه على موسى ، وكان موسى مع هذا كله يحتمل المشاق العظام فى دعوته(1/131)
إلى الإيمان - ليكون ذلك تسلية لرسوله عما لاقيه من قومه من شديد العناد وعظيم الإعراض ، يرشد إلى ذلك قوله : « فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ » .
وفى ذلك عبرة أخرى لقومه - وهى أن فرعون مع أنه كان أقوى منهم شكيمة أشد شوكة وأعظم سلطانا ، لما تمرد على موسى وعصا أمر ربه أخذه اللّه نكال لآخرة والأولى ، ولم يعجزه أن يهلكه ويجعله لمن خلفه آية ، فأنتم أيها القوم مهما عظمت حالكم وقوى سلطانكم لم تبلغوا مبلغ فرعون ، فأخذكم أهون على اللّه منه.
وفى هذا تهديد لهم وإنذار بأنهم إن لم يؤمنوا باللّه ورسوله ، فسيصيبهم مثل ما أصاب فرعون وقومه كما قال فى آية أخرى : « فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ. إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ، قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ » (1) .
وتلك قصة موسى مع فرعون الطاغية سيقت كالتسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتهديدا للمشركين ، فليس هم أقوى وأشد من فرعون وقومه ، فلما كفروا باللّه واليوم الآخر عاقبهم عقوبتين في الأولى والآخرة ، فاحذروا يا آل مكة أن تكونوا مثلهم : هل أتاك حديث موسى ؟ وهذا أسلوب بديع في التشويق إلى استماع الحديث والحرص عليه كأنه أول نبأ عن موسى ، هل أتاك حديثه إذ ناداه ربه - جل وعلا - وهو بالوادي المقدس المطهر - واد في أسفل جبل طور سيناء من جهة الشام - الذي قدسه اللّه مرة بعد مرة فقال له : اذهب إلى فرعون إنه طغى وجاوز الحد المعقول في تعذيب بنى إسرائيل وفي الكفر باللّه ، فقل له مع الملاينة والملاطفة لتتم الحجة وينقطع العذر : هل لك إلى أن تطهر نفسك من أدرانها باتباع شرع اللّه الذي أوحى إلى ؟ وأهديك إلى ربك فتؤمن به وتعلم صفاته ، فيترتب على ذلك أنك تخشاه ، ولكن فرعون كذب ولم يؤمن وطلب آية على صدق موسى ، فأراه الآية الكبرى التي هي انقلاب العصا حية ، فكذب وعصى أيضا ، ثم أدبر عن الحق وأعرض عن موسى وعن دعوته ، وأخذ يسعى في الأرض بالفساد ومكايدته هو ومن معه ، فجمع السحرة من جميع البلاد وقال لهم : أنا ربكم الأعلى فليس هناك سلطان بعد سلطاني ، وظل فرعون سادرا في غلوائه لاهيا في عتوه وجبروته حتى تبع موسى وقومه إلى البحر الأحمر. وهم يخرجون من مصر وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ : آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ « 2 » وهكذا حكم اللّه على فرعون بالإغراق ، وكان آية لمن بعده ، وهو في الآخرة في جهنم وبئس القرار ، فأخذه اللّه ونكل به نكال الآخرة والأولى ،
__________
(1) - تفسير المراغي ، ج 30 ، ص : 28(1/132)
وكان عقابه نكالا له ولغيره ، إن في ذلك لعبرة ولكن لمن يخشى ، فاعتبروا يا أولى الأبصار!! وهذا فرعون مصر الجبار العنيد لم يعجز اللّه في شيء ، فأين أنتم يا كفار مكة منه! وهكذا سنة اللّه في خلقه يكذبون الرسل ، ولا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم ، فصبرا يا رسول اللّه. وبعد ذلك خاطب المشركين موبخا لهم ومبكتا على إنكارهم البعث بعد ما بين لهم سهولته على اللّه وأنها صيحة واحدة فإذا هم قيام أحياء يحاسبون ، خاطبهم بقوله : أأنتم أشد خلقا أم السماء ؟ فكأنه يقول لهم : إنكم خلقتم من ماء مهين ، وأنتم مع هذا ضعاف عاجزون لا تملكون لأنفسكم نفعا ولا ضررا. ولا موتا ولا حياة ، وهذه هي السموات بديعة الخلق ، حسنة الشكل ، قوية التركيب ، متينة البناء ، محكمة لا عوج فيها ولا اضطراب رغم كثرة الدوران وسرعة السير ، أليس عالم السماء وما فيه آية على قدرة اللّه ، وعلى أن خلقه أعظم منكم خلقا ؟ ! فاللّه بنى السماء بناء محكما ، ورفع سمكها إلى حيث شاء! فسواها حيث وضع كل جرم سماوي في وضعه لا يتعداه ، وله فلك يسبح فيه لا يتخطاه ، وبين كل الأجرام تجاذب وترابط بحيث لم يند عن المجموعة جرم ، وإذا أراد اللّه شيئا انتهت الدنيا وبطل هذا النظام. وانظر إلى ذلك الكون العجيب وإلى وضعه الدقيق ، فهذه الشمس والأرض ودوران كل في مداره بحكمة ودقة ، كيف ينشأ عنهما الليل والنهار أَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها والأرض بعد ذلك دحاها وبسطها ومهدها للحياة بحيث يستطيع الحيوان السير عليها ، والمعيشة فوقها. وقد أخرج منها ماءها ومرعاها ، وقد أرسى عليها الجبال الرواسي الشامخات لئلا تميد وتضطرب ، ولتكون مصدرا للمنافع ، كل ذلك خلقه اللّه متعة لكم ومنفعة لكم ولأنعامكم.
وهذا وصف عام لبعض أهوال يوم القيامة لعلهم يعتبرون! فإذا وقعت الواقعة ، وجاءت الداهية الكبرى التي يصغر أمامها كل حدث ، وينسى صاحبها كل شيء إلا هي ، تلك هي الطامة الكبرى تكون يوم القيامة ، يوم يتذكر الإنسان أعماله حيث يراها مكتوبة أمامه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، يوم تبرز جهنم بصوتها المزعج ، وهي تفور تكاد تميز من الغيظ. (1)
التفسير والبيان :
في الآيات سؤال موجه إلى السامع يتضمن معنى التذكير بما كان من أمر رسالة موسى إلى فرعون حيث ناداه ربّه بالوادي المقدس طوى وأمره بالذهاب إلى فرعون الذي طغى ودعوته إلى التطهّر من بغيه وهدايته إلى سبيل ربه ، وحيث أرى موسى فرعون آية اللّه الكبرى التي أظهرها على يده فكذّب وعصى وأخذ يسعى ليحشد الناس ويمنعهم عن الحق ويهتف بهم أنا
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 819)(1/133)
ربّكم الأعلى ، وحيث أخذه اللّه ونكّل به في الدنيا بالإضافة إلى نكال الآخرة. وانتهت الآيات بلفت النظر إلى ما في ذلك من عبرة وموعظة لمن يخشى العواقب.
والصلة قائمة بين هذه الآيات وسابقاتها حيث جاءت بعد إنذار الكفار والتنديد بهم جريا على الأسلوب القرآني. وهدف التذكير والإنذار فيها واضح كما هو شأن جميع القصص القرآنية.
وقصة رسالة موسى وموقف فرعون الاستكباري قد حكيت في سور سابقة بأساليب متنوعة ، وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. ولقد تعددت روايات المفسرين عن أهل التأويل في تأويل جملة فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى فقيل إنها بمعنى عاقبه اللّه على تكذيبه بدءا وإصراره على التكذيب بعد ظهور معجزات اللّه ووقوع العذاب عليه. كما قيل إنها بمعنى عاقبه اللّه في الدنيا بالإضافة إلى ما سوف يكون من عقابه في الآخرة. وكلا القولين وجيه. (1)
بعد أن واجهت الآيات السابقة المشركين ، بما يقع فى نفوسهم من كمد وحسرة ، حين تفجؤهم الساعة بأحداثها ، وحين بقلت من أيديهم الطريق إلى النجاة ـ جاءت هذه الآيات لتعرض عليهم وجها من وجوه الضلال ، فيه مشابه كثيرة منهم ، وهو وجه « فرعون » وقد أشرنا فى غير موضع إلى أن القرآن الكريم كثيرا ما يجمع بين هؤلاء المشركين وبين فرعون ، إذ كانوا أشبه الناس به ، عنادا ، واستعلاء ، وكبرا.
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى ، إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً أي ألم يبلغك قصة موسى عليه السلام مع فرعون ، حيث ابتعثه اللّه إليه ، وأيّده بالمعجزات ، حين ناداه ربّه ليلا ، مكلما إياه ، مكلفا له بالنبوة والرسالة في الوادي المبارك المطهّر وهو طوى : وهو الوادي في جبل سيناء الذي نادى الرّب فيه موسى.
وإنما ذكّر اللّه بقصة موسى عليه السلام لأنه أبهر الأنبياء المتقدمين معجزة ، ولأن فيها تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - عما يلاقيه من إعراض قومه ، ولتهديد كفار قريش بإنزال عذاب مشابه لما أنزل بفرعون وجنوده ، مع أنه كان أكثر جمعا وأشد قوة منهم.
ثم أبان اللّه تعالى مهمة موسى عليه السلام بقوله : اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى أي قال اللّه له : اذهب إلى فرعون طاغية مصر ، فإنه جاوز الحد في العصيان والتكبر والكفر باللّه ، حيث ادّعى الربوبية ، وتجبر على بني إسرائيل ، واستعبد قومه.
ثم علّمه أسلوب الدعوة فقال : فَقُلْ : هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى ، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى أي فقل لفرعون بعد وصولك إليه : هل لك رغبة في التطهر من الشرك والعيوب ؟ وإني أرشدك إلى
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 413)(1/134)
معرفة اللّه وتوحيده وعبادته ، فتخاف عقابه ، بأداء ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه. والخشية لا تكون إلا من مهتد راشد.
وإنما أمره اللّه بلين القول ، ليكون أنجع في الدعوة لأن دعوة الجبابرة تتطلب عادة التلطف والرفق والمداراة ، لتخفيف غلوائهم ، واستنزال شيء من عتوهم وتجبرهم. وقد تكرر الأمر باللين في هذه القصة في القرآن الكريم ، كما جاء في قوله تعالى : فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً ، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه 20/ 44].
والآية دليل على أن المقصود الأعظم من بعثة الرسل هداية الناس إلى معرفة اللّه ، وأن معرفة اللّه تستفاد من الهادي.
ثم أبان اللّه تعالى أن موسى أظهر لفرعون معجزته ، فقال : فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى أي فأظهر له العلامة والمعجزة الكبرى الدالة على صدق نبوته ، وهي انقلاب العصا حية أو اليد ، ومع ذلك كذّب وخالف ، كما قال تعالى : فَكَذَّبَ وَعَصى ، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى أي فكذب فرعون بموسى وبما جاء به وبالحق ، وعصى اللّه عزّ وجلّ فلم يطعه ، وتولى وأعرض عن الإيمان ، وأخذ يسعى بالفساد في الأرض ، ويجتهد في مكايدة موسى ومعارضة ما جاء به.
والجمع بين فَكَذَّبَ وَعَصى للدلالة على أنه كذب بالقلب واللسان ، وعصى بأن أظهر التمرد والتجبر.
فَحَشَرَ فَنادى ، فَقالَ : أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى أي فجمع جنوده للتشاور أو جمع السحرة للمعارضة ، ثم نادى في المقام الذي اجتمعوا فيه معه ، أو أمر مناديا ينادي قائلا : أنا الرّب الأعلى ، وصاحب السلطان المطلق ، الذي ليس لأحد سواي ولاية أمركم ، ولا ربّ فوقي ، فكان جزاؤه الإغراق مع جنوده ، كما قال تعالى : فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى أي أخذه اللّه أخذ عزيز مقتدر ، وانتقم منه انتقاما جعله به عبرة ونكالا لأمثاله المتمردين في الدنيا ، ونكّل به نكال الآخرة وهو عذاب النار ، ونكال الأولى وهو عذاب الدنيا بالغرق ، ليتعظ به من يسمع خبره ، وإن فيما ذكر من قصة فرعون وما فعل به عبرة عظيمة لمن شأنه أن يخشى اللّه ويتقيه ويتعظ وينزجر ، فينظر في أحداث الماضي ، ويقيس بها أحوال الحاضر والمستقبل. فقوله : الْآخِرَةِ وَالْأُولى أي الدنيا والآخرة ، وهو الصحيح في معنى الآية كما قال ابن كثير.
ومضات :
وقوله تعالى : « هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى »..الخطاب من اللّه سبحانه وتعالى للنبى ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ وفيه استدعاء له من هذا الجو الخانق الذي ينفث فيه المشركون سمومهم والذي ترمى فيه أنفاسهم بدخان كثيف من تلك النار المشتعلة فى قلوبهم ، كمدا ، وغيظا من النبىّ ودعوته .. وفى هذا الخطاب إدناء للنبىّ الكريم من ربه جلّ وعلا ، وإيناس له.(1/135)
والاستفهام ، يراد به الخبر .. أي لم يأتك حديث موسى .. فاستمع إليه إذن! وقد جاء الخبر فى صيغة الاستفهام ، لما يؤذن به الاستفهام هنا من عظيم اللطف ، وكريم الإحسان من اللّه سبحانه إلى النبىّ الكريم ، حتى ليخاطبه مولاه خطاب الحبيب إلى الحبيب ، فى رفق ، ومودّة ، ليقول له : « هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى » ؟ أي أعلمت حديث موسى ؟ وأ تريد أن تعلمه ؟ ألا ، فاستمع!! وفى هذا ما يشير إلى أن ذلك أول ما تلقاه النبىّ من آيات اللّه ، من نبأ موسى وفرعون ..
وقوله تعالى : « إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً » أي الحديث الذي نريد أن نبلغك إيّاه من أمر موسى ، هو ما كان من نداء اللّه سبحانه وتعالى ، إياه ، وهو بالواد المقدس « طوى »..
و« الوادي المقدس » ، هو واد فى أسفل جبل سيناء ، من الجانب الأيمن منه ، فى الطريق المتجه من الشام إلى مصر .. كما يقول سبحانه : « وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا » (52 : مريم) و« طوى » اسم لهذا الوادي.
قوله تعالى : « اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى » هو بيان لما نودى به موسى من ربه ، أي ناداه سبحانه ب قوله تعالى : « اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ » وقوله تعالى : « إنه طغى » هو بيان لسبب الدعوة بالذهاب إليه .. إنه طغى ، وتجاوز الحدود فى بغيه وعدوانه ، وفى كفره وضلاله.
قوله تعالى : « فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى ، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى ».وتلك هى الرسالة التي يحملها موسى من ربه إلى فرعون ..
وقوله تعالى : « هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى » أي هل تودّ أن تتزكى ، ويتطهر ؟
وفى هذا الأسلوب الاستفهامى ، ترفق وتلطف فى الدعوة إلى اللّه ، وفى مواجهة عناد المعاندين وكبر المتكبرين باللطف واللين ..
إن الحكمة تقضى فى مثل هذا المقام ، أن يستميل الداعي إلى الحقّ من يدعوه إليه ، وأن يترفق فى الدخول إلى قلبه ، حتى يجد منه أذنا صاغية ، وقلبا واعيا ، إذا كان فيه بقية من عقل ، أو يقظة من ضمير .. ولو جاء الداعي إلى من يدعوه إلى العدول عن الطريق الذي هو عليه ـ لو جاءه آمرا ، أو زاجرا ، أو فاضحا لحاله المتلبس بها ، لما وجد منه إلا إعراضا وازورارا ، وتكرّها لسماع ما يلقى إليه من حديث ، فكيف إذا كان هذا المدعوّ جبارا عنيدا كفرعون ؟
ولهذا جاء قوله تعالى : « فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى » راسما لموسى هذا المنهج الحكيم لدعوة هذا الجبار العنيد ، كما جاء ذلك فى قوله تعالى : « اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ، فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى » (43 ـ 44 : طه). وفى هذا الأسلوب القرآنى الخطة المثلى ، والمثل الكامل القويم ، لأصحاب الدعوات ، من القادة ، والزعماء ، والمصلحين .. إنهم لن يبلغوا بدعوتهم مواطن الإقناع ، ولن يحصلوا منها على ثمر طيب ، إلا إذا جعلوا الرفق واللين(1/136)
سبيلها إلى الناس ، والا إذا غذّوها بمشاعر الحبّ ، والرغبة الصادقة فى الإصلاح ، وبخاصة إذا كان الداعي يدعو إلى حقّ ، ويهدف إلى هدى وإصلاح : « ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » (145 : النحل).
وليس مما يدخل فى هذا الباب ، المداهنة ، والمخادعة ، والنفاق .. فذلك كله شر ، إذا اختلط بالدعوة الصالحة أفسدها ، وإذا خالط الحقّ أثار الدخان الكثيف فى سمائه الصافية ، فغشّى على الأبصار ، وحجب الرؤية عن مواقع الهدى ..
قوله تعالى : « فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى ».هنا كلام كثير محذوف ، دلّ عليه المقام ، أي فجاء موسى إلى فرعون ودعاه فى رفق ولطف إلى اللّه ، فما كان من فرعون إلا أن ردّ موسى ردّا قبيحا ، وأغلظ له القول ، ورماه بالكذب والجنون ، فلما أراد موسى أن يدفع هذه التّهم عنه ، ويثبت لفرعون أنه رسول ربّ العالمين ، تحدّاه فرعون بأن يأتى بما يدلّ على أنه رسول من عند اللّه ـ « فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى » وهى العصا وانقلابها حية تسعى .. وهى أكبر الآيات التي بين يدى موسى ..
وقوله تعالى : « فَكَذَّبَ وَعَصى ، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى ، فَحَشَرَ فَنادى ، فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ».
هذا بيان لموقف فرعون بعد أن أراه موسى الآية الكبرى .. لقد كذب بما رأى ، واتهم موسى بأنه ساحر .. ثم جمع سحرته ، ولقى بهم موسى ، معلنا فى الناس أنه الرب الأعلى ، وأن الرب الذي يدعو إليه موسى ، هو رب دونه منزلة وعلوّا .. فهكذا يبلغ الضلال والسّفه بالضالين السفهاء!! وفى قوله تعالى : « ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى » إشارة إلى أنه بعد أن رأى الحية وأفاعيلها ، وما أوقعته فى قلبه وقلوب من معه ـ لبس ثوب الحية ، فجعل يسعى فى الناس مهددا متوعدا ، باعثا الرعب والفزع فى القلوب ، حتى يخرج منها هذا الفزع الذي استولى عليها من حيّة موسى.
قوله تعالى : « فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى » هذه هو ختام القصة .. لقد انتهت بهزيمة فرعون ، وخزيه ، وفضح ربوبيته على أعين الناس .. ثم لم يقف الأمر عند هذا ، بل أخذه اللّه بالعذاب فى الآخرة ، بأن أعد له أسوأ مكان فى جهنم ، كما أخذه بالعذاب فى الدنيا بأن أماته شرّ ميتة ، بأن أهلكه غرقا ، ثم ألقى جثته المتعفنة على الشاطئ ، وقد عافت حيوانات البر أن تطعم منها ، بل ظلت هكذا عبرة وعظة ، فى هذا الإله المتعفن ، الذي يزكم الأنوف ريحه النتن ، « فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً » (92 : يونس) وقدّم نكال الآخرة على نكال الأولى ، لأن عذاب الآخرة أشد وأقسى ، لا يكاد ما لقيه فرعون من عذاب فى الدنيا يعدّ شيئا بالنسبة سيلقاه لما فى الآخرة.(1/137)
وقوله تعالى : « إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى » أي إن فى هذا الحديث ، وفى الأحداث التي يعرضها القرآن ، لعبرة وعظة ، لمن كان له عقل يرى به مصير أهل السوء والضلال ، فيخشى على نفسه مثل هذا المصير ، فيباعد بينها وبين السوء والضلال. (1)
ثم يهدأ الإيقاع شيئاً ما ، في الجولة القادمة ، ليناسب جو القصص ، وهو يعرض ما كان بين موسى وفرعون ، وما انتهى إليه هذا الطاغية عندما طغى : { هل أتاك حديث موسى . إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى . اذهب إلى فرعون إنه طغى . ؟ فقل : هل لك إلى أن تَزَكَّى؟ وأهديك إلى ربك فتخشى؟ فأراه الآية الكبرى . فكذب وعصى ، ثم أدبر يسعى . فحشر فنادى . فقال : أنا ربكم الأعلى . فأخذه الله نكال الآخرة والأولى . . إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } . .
وقصة موسى هي أكثر القصص وروداً وأكثرها تفصيلاً في القرآن . . وقد وردت من قبل في سور كثيرة . وردت منها حلقات منوعة . ووردت في أساليب شتى . كل منها تناسب سياق السورة التي وردت فيها؛ وتشارك في أداء الغرض البارز في السياق . على طريقة القرآن في إيراد القصص وسرده .
وهنا ترد هذه القصة مختصرة سريعة المشاهد منذ أن نودي موسى بالوادي المقدس ، إلى أخذ فرعون . . أخذه في الدنيا ثم في الآخرة . . فتلتقي بموضوع السورة الأصيل ، وهو حقيقة الآخرة . وهذا المدى الطويل من القصة يرد هنا في آيات معدودات قصار سريعة ، ليناسب طبيعة السورة وإيقاعها .
وتتضمن هذه الآيات القصار السريعة عدة حلقات ومشاهد من القصة . .
وهي تبدأ بتوجيه الخطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - : { هل أتاك حديث موسى؟ } . . وهو استفهام للتمهيد وإعداد النفس والأذن لتلقي القصة وتمليها . .
ثم تأخذ في عرض الحديث كما تسمى القصة . وهو إيحاء بواقعيتها فهي حديث جرى . فتبدأ بمشهد المناداة والمناجاة : { إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى } . . وطوى اسم الوادي على الأرجح . وهو بجانب الطور الأيمن بالنسبة للقادم من مدين في شمال الحجاز .
ولحظة النداء لحظة رهيبة جليلة . وهي لحظة كذلك عجيبة . ونداء الله بذاته سبحانه لعبد من عباده أمر هائل . أهول مما تملك الألفاظ البشرية أن تعبر . وهي سر من أسرار الألوهية العظيمة ، كما هي سر من أسرار التكوين الإنساني التي أودعها الله هذا الكائن ، وهيأه بها لتلقي ذلك النداء . وهذا أقصى ما نملك أن نقوله في هذا المقام ، الذي لا يملك الإدراك البشري أن يحيط منه بشيء؛ فيقف على إطاره ، حتى يكشف الله له عنه فيتذوقه بشعوره .
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1435)(1/138)
وفي مواضع أخرى تفصيل للمناجاة بين موسى وربه في هذا الموقف .
فأما هنا فالمجال مجال اختصار وإيقاعات سريعة . ومن ثم يبادر السياق بحكاية أمر التكليف الإلهي لموسى ، عقب ذكر النداء بالوادي المقدس طوى : { اذهب إلى فرعون . إنه طغى . فقل : هل لك إلى أن تزكَّى! وأهديك إلى ربك فتخشى؟ } . .
{ اذهب إلى فرعون . إنه طغى } . . والطغيان أمر لا ينبغي أن يكون ولا أن يبقى . إنه أمر كريه ، مفسد للأرض ، مخالف لما يحبه الله ، مؤد إلى ما يكره . . فمن أجل منعه ينتدب الله عبداً من عباده المختارين . ينتدبه بنفسه سبحانه . ليحاول وقف هذا الشر ، ومنع هذا الفساد ، ووقف هذا الطغيان . . إنه أمر كريه شديد الكراهية حتى ليخاطب الله بذاته عبداً من عباده ليذهب إلى الطاغية ، فيحاول رده عما هو فيه ، والإعذار إليه قبل أن يأخذه الله تعالى نكال الآخرة والأولى!
{ إذهب إلى فرعون . إنه طغى } . . ثم يعلمه الله كيف يخاطب الطاغية بأحب أسلوب وأشده جاذبية للقلوب ، لعله ينتهي ، ويتقي غضب الله وأخذه : { فقل : هل لك إلى أن تزكى؟ } . . هل لك إلى أن تتطهر من رجس الطغيان ودنس العصيان؟ هل لك إلى طريق الصلاة والبركة؟ { وأهديك إلى ربك فتخشى } . . هل لك أن أعرفك طريق ربك؟ فإذا عرفته وقعت في قلبك خشيته؟ فما يطغى الإنسان ويعصي إلا حين يذهب عن ربه بعيداً ، وإلا حين يضل طريقه إليه فيقسو قلبه ويفسد ، فيكون منه الطغيان والتمرد!
كان هذا في مشهد النداء والتكليف . وكان بعده في مشهد المواجهة والتبليغ . والسياق لا يكرره في مشهد التبليغ . اكتفاء بعرضه هناك وذكره . فيطوي ما كان بعد مشهد النداء ، ويختصر عبارة التبليغ في مشهد التبليغ . ويسدل الستار هنا ليرفعه على ختام مشهد المواجهة :{ فأراه الآية الكبرى . فكذب وعصى } . .
لقد بلغ موسى ما كلف تبليغه . بالأسلوب الذي لقنه ربه وعرفه . ولم يفلح هذا الأسلوب الحبيب في إلانة القلب الطاغي الخاوي من معرفة ربه . فأراه موسى الآية الكبرى . آية العصا واليد البيضاء كما جاء في المواضع الأخرى : { فكذب وعصى } . . وانتهى مشهد اللقاء والتبليغ عند التكذيب والمعصية في اختصار وإجمال!
ثم يعرض مشهداً آخر . مشهد فرعون يتولى عن موسى ، ويسعى في جمع السحرة للمباراة بين السحر والحق . حين عز عليه أن يستسلم للحق والهدى :{ ثم أدبر يسعى . فحشر فنادى . فقال : أنا ربكم الأعلى } . .(1/139)
ويسارع السياق هنا إلى عرض قولة الطاغية الكافرة ، مجملاً مشاهد سعيه وحشره للسحرة وتفصيلاتها . فقد أدبر يسعى في الكيد والمحاولة ، فحشر السحرة والجماهير؛ ثم انطلقت منه الكلمة الوقحة المتطاولة ، المليئة بالغرور والجهالة : { أنا ربكم الأعلى } . .
قالها الطاغية مخدوعاً بغفلة جماهيره ، وإذعانها وانقيادها . فما يخدع الطغاة شيء ما تخدعهم غفلة الجماهير وذلتها وطاعتها وانقيادها . وما الطاغية إلا فرد لا يملك في الحقيقة قوة ولا سطاناً .
إنما هي الجماهير الغافلة الذلول ، تمطي له ظهرها فيركب! وتمد له أعناقها فيجر! وتحني له رؤوسها فيستعلي! وتتنازل له عن حقها في العزة والكرامة فيطغى!
والجماهير تفعل هذا مخدوعة من جهة وخائفة من جهة أخرى . وهذا الخوف لا ينبعث إلا من الوهم . فالطاغية وهو فرد لا يمكن أن يكون أقوى من الألوف والملايين ، لو أنها شعرت بإنسانيتها وكرامتها وعزتها وحريتها . وكل فرد فيها هو كفء للطاغية من ناحية القوة ولكن الطاغية يخدعها فيوهمها أنه يملك لها شيئاً! وما يمكن أن يطغى فرد في أمة كريمة أبداً . وما يمكن أن يطغى فرد في أمة رشيدة أبداً . وما يمكن أن يطغى فرد في أمة تعرف ربها وتؤمن به وتأبى أن تتعبد لواحد من خلقه لا يملك لها ضراً ولا رشداً!
فأما فرعون فوجد في قومه من الغفلة ومن الذلة ومن خواء القلب من الإيمان ، ما جرؤ به على قول هذه الكلمة الكافرة الفاجرة :{ أنا ربكم الأعلى } . . وما كان ليقولها أبدا لو وجد أمة واعية كريمة مؤمنة،تعرف أنه عبد ضعيف لا يقدر على شيء . وإن يسلبه الذباب شيئاً لا يستنقذ من الذباب شيئاً!
وأمام هذا التطاول الوقح ، بعد الطغيان البشع ، تحركت القوة الكبرى :{ فأخذه الله نكال الآخرة والأولى } . .
ويقدم هنا نكال الآخرة على نكال الأولى . . لأنه أشد وأبقى . فهو النكال الحقيقي الذي يأخذ الطغاة والعصاة بشدته وبخلوده . . ولأنه الأنسب في هذا السياق الذي يتحدث عن الآخرة ويجعلها موضوعه الرئيسي . . ولأنه يتسق لفظياً مع الإيقاع الموسيقي في القافية بعد اتساقه معنوياً مع الموضوع الرئيسي ، ومع الحقيقة الأصيلة .
ونكال الأولى كان عنيفاً قاسياً . فكيف بنكال الآخرة وهو أشد وأنكى؟ وفرعون كان ذا قوة وسلطان ومجد موروث عريق؛ فكيف بغيره من المكذبين؟ وكيف بهؤلاء الذين يواجهون الدعوة من المشركين؟
{ إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } . .فالذي يعرف ربه ويخشاه هو الذي يدرك ما في حادث فرعون من العبرة لسواه . أما الذي لا يعرف قلبه التقوى فبينه وبين العبرة حاجز ، وبينه وبين(1/140)
العظة حجاب . حتى يصطدم بالعاقبة اصطداماً . وحتى يأخذه الله نكال الآخرة والأولى . وكل ميسر لنهج ، وكل ميسر لعاقبة . والعبرة لمن يخشى . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- تسلية الداعي إلى الله تعالى وحمله على الصبر في دعوته حتى ينتهي بها إلى غاياتها .
2- إثبات مناجاة موسى لربّه تعالى وأنه كلمه ربّه كفاحاً بلا واسطة .
3- تقرير أن لا تزكية للنفس البشرية إلا بالإِسلام أي بالعمل بشرائعه
4- لا تحصل الخشية من الله للعبد إلا بعد معرفة الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء .
5- وجود المعجزات لا يستلزم الإِيمان فقد رأى فرعون أعظم الآيات كالعصا واليد وما آمن .
6- التنديد والوعيد الشديد لمن يدعي الربوبية والألوهية فيأمر الناس بعبادته .
7- إن قصة موسى عليه السلام مع فرعون وجنوده عبرة لمن اعتبر ، وعظة لمن اتعظ ، فقد أرسله اللّه إليه ، وأيّده بالمعجزات ، ومع هذا استمر فرعون في كفره وطغيانه ، فانتقم اللّه منه انتقاما شديدا ، وأغرقه وجنوده في البحر الأحمر. وفي القصة تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - عما يلاقيه من صدود قومه ، وتحذير للكفار المتمردين والعتاة المتجبرين بإنزال عقاب مماثل إن استمروا في كفرهم وعتوهم وإعراضهم عن قبول دعوة الإسلام.
فلقد كان فرعون أقوى من كفار أي عصر ، فإنه تجاوز الحدّ في العصيان ، وأبى قبول دعوة موسى إلى تطهير نفسه من الذنوب والمآثم والكفر ، ولم يقبل ما أرشده إليه من طاعة ربّه ، ولم يصدّق بمعجزته وهي انقلاب العصا حية ، أو اليد البيضاء تبرق كالشمس ، وكذّب نبوته وعصى ربّه عزّ وجلّ ، وولّى مدبرا معرضا عن الإيمان ، ساعيا في الأرض بالفساد ، وقال لقومه بصوت عال : أنا ربّكم الأعلى ، أي لا ربّ لكم فوقي.ولكنه مع كل هذا لم يعجز اللّه القوي القادر القاهر ، فأهلكه اللّه في الدنيا مع جنوده بالغرق ، وسيعذبه في الآخرة بنار جهنم.
8- إن في هذه القصة ، وما أحل اللّه بفرعون من الخزي ، وتحقيق العلو والنصر لموسى عليه السلام ، لاعتبارا وعظة لمن يخاف اللّه عزّ وجلّ ، ففيها بيان العقاب العادل وأسبابه ومسوغاته ، وبها يتبين لكل عاقل ضرورة أن يدع التمرد على اللّه تعالى ، والتكذيب لأنبيائه ، خوفا من أن ينزل به ما نزل بفرعون وجنوده.كما عليه أن يعلم بأن اللّه تعالى ينصر أنبياءه ورسله.
فمن ارتكب ما يوجب العقاب من مثل ذلك قولا وفعلا ، اشترك في العقاب نفسه في الدنيا والآخرة.
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3815)(1/141)
إثبات البعث بخلق السموات والأرض والجبال
قال تعالى :
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
المناسبة :
بعد بيان قصة موسى وفرعون ، عاد إلى مخاطبة منكري البعث محتجا عليهم ببدء الخلق على إعادته ، فإنه تعالى خلق السموات البديعة ، والأرض الوسيعة المعدّة للاستقرار والحياة عليها بإعداد وسائل المعيشة فيها ، وخلق الجبال الرواسي لإرساء الأرض وتثبيتها.
المفردات :
28 ... رَفَعَ سَمْكَهَا ... جعلها عالية البناء
28 ... فَسَوَّاهَا ... مستوية الأرجاء بلا عيب
29 ... أَغْطَشَ لَيْلَهَا ... جعله مظلما حالك السواد
29 ... وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ... أنار نهارها جعله مضيئا نيرا
30 ... دَحَاهَا ... بسطها وأخرج منها الماء والمرعى
32 ... أَرْسَاَها ... أثبتها
المعنى الإجمالي :
بعد أن قص على المشركين قصص موسي عليه السلام مع فرعون وأومأ بهذا القصص إلى أنهم لا يعجزون الذي أخذ من فرعون ونكل به وجعله عبرة للباقين ، وسلى به رسوله حتى لا يحزن لتكذيب قومه له ، وعدم إيمانهم بما جاءهم به ، أخذ يخاطب منكرى البعث ، وينبههم إلى أنه لا ينبغى لهم أن يجحدوه فإن بعثهم هين إذا أضيف إلى خلق السموات التي تدل بحسن نظامها وجلالها ، على حكمة مبدعها وعظيم قدرته ، وواسع حكمته ، وإلى خلق الأرض التي دحاها بعدها وجعلها معدة للسكنى ، وهيأ فيها وسائل المعيشة للإنسان والحيوان ، فأخرج منها الماء الذي به حياة كل شيء وأنبت فيها النبات الذي به قوام الإنسان والحيوان. (1)
التفسير والبيان :
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها ، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها ؟ أي هل أنتم أيها الناس أصعب خلقا بعد الموت ، وبعثكم أشدّ عندكم وفي تقديركم من خلق السماء ؟
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 30)(1/142)
لا شك بأن السماء أشدّ خلقا ، كما قال تعالى : لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر 40/ 57] وقال سبحانه : أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ
[يس 36/ 81]. فمن قدر على خلق السماء ذات الأجرام العظيمة التي يتحدث عنها علماء الفلك والفضاء بدهشة ، وفيها من عجائب الصنع وبدائع القدرة ما هو واضح ، كيف يعجز عن إعادة الأجسام التي أماتها بعد أن خلقها أول مرة ؟ ! ثم بيّن اللّه تعالى صفة خلق السموات ، وأنه بناها بضم أجزائها بعضها إلى بعض ، مع ربطها بما يمسكها حتى صارت بناء واحدا ، ورفع ثخانتها في الجو ، وجعلها كالبناء المرتفع فوق الأرض بدون أعمدة ، وجعلها عالية البناء ، مستوية الخلق ، معدّلة الشكل ، لا تفاوت فيها ولا اعوجاج ، ولا فطور ولا شقوق ، بان أبدع في خلق الكواكب العديدة التي تفوق الملايين ، وجعل لكل كوكب حجما معينا ، ومدارا يسير فيه دون تصادم مع غيره ، حتى صار من مجموعها ما يسمى بالسماء ، وما يشبه البناء.
وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها أي جعل ليل السماء مظلما ، وأبرز وأنار نهارها المضيء بإضاءة الشمس ، وجعل تعاقب الليل والنهار واختلاف الفصول مناخا صالحا للعيش والسكنى.
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أي بسط الأرض ومهدها وجعلها مفلطحة كالبيضة بعد خلق السماء ، إلا أنها كانت مخلوقة غير مدحوة قبل خلق السماء ، ثم دحيت بعد خلق السماء ، كما جاء في سورة السجدة (فصّلت) : قُلْ : أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ، ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها ، وَبارَكَ فِيها ، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ، سَواءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ : ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا : أَتَيْنا طائِعِينَ [9- 11] فهذه الآية دليل على أن خلق السموات كان بعد خلق الأرض ، إلا أن دحو الأرض وتمهيدها كان بعد خلق السموات (1) .
ثم أوضح ما تم في أثناء الدحو من إعداد وسائل الحياة والعيش ، فقال :
أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها ، وَالْجِبالَ أَرْساها ، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ أي فجّر من الأرض الأنهار والبحار والعيون والينابيع ، وأنبت فيها النبات لبني آدم قوتا كالحبوب والثمار ، وللأنعام مرعى كالأعشاب والحشائش ، وجعل الجبال كالأوتاد للأرض لئلا تميد بأهلها ، وقررها وثبّتها في أماكنها.
وجعل تعالى كل ذلك منفعة وفائدة أو تمتيعا لكم أيها الناس ، ولأنعامكم أكلا وركوبا وهي الإبل والبقر والغنم ، كما قال تعالى : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ، لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ ، وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النحل 16/ 10].
__________
(1) - تفسير ابن كثير : 4/ 468(1/143)
ومضات :
في هذه الآيات التفات إلى السامعين وسؤالهم سؤال المستنكر المندد عما إذا كانوا يرون خلقهم أشدّ وأشقّ على اللّه من الأكوان التي خلقها : فهو الذي خلق السماء وأعلى سقفها وضبط نواميسها. وقدّر الظلام ليلا والضياء نهارا. وهو الذي مدّ الأرض وبسطها ويسّرها للسير والاستقرار وأرسى فوقها الجبال وأخرج منها الماء والنبات ليكون في ذلك قوام حياتهم وأنعامهم.
والمتبادر أن الجواب على السؤال منطو في الآيات نفسها. فاللّه الذي خلق السموات والأرض وأودع فيها النواميس اللازمة والتي تفوق في العظمة خلق الناس أهون عليه أن يخلق الناس ثانية بطبيعة الحال. والمتبادر كذلك أن السؤال موجّه إلى الكفار لأنهم هم الذين يجحدون البعث ويستعظمون وقوعه. وهكذا تكون الآيات قد جاءت في صدد توكيد البعث والتدليل على قدرة اللّه عليه ، وهي والحالة هذه متصلة بالسياق السابق على قصة رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وتكون الإشارة التذكيرية إلى هذه القصة قد جاءت استطرادا مما هو مألوف في النظم القرآني.
ولقد احتوت آيات عديدة في سور سابقة ما احتوته هذه الآيات وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار.
ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الأَرْضَ جَعَلَتْ تَمِيدُ فَخَلَقَ الْجِبَالَ فَعَادَ بِهَا عَلَيْهَا فَاسْتَقَرَّتْ فَعَجِبَتِ الْمَلاَئِكَةُ مِنْ شِدَّةِ الْجِبَالِ قَالُوا يَا رَبِّ هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَىْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْجِبَالِ قَالَ نَعَمِ الْحَدِيدُ . قَالُوا يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَىْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْحَدِيدِ قَالَ نَعَمِ النَّارُ. فَقَالُوا يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَىْءٌ أَشَدُّ مِنَ النَّارِ قَالَ نَعَمِ الْمَاءُ. قَالُوا يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَىْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْمَاءِ قَالَ نَعَمْ الرِّيحُ قَالُوا يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَىْءٌ أَشَدُّ مِنَ الرِّيحِ قَالَ نَعَمِ ابْنُ آدَمَ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ بِيَمِينِهِ يُخْفِيهَا مِنْ شِمَالِهِ » (1) .. وأورد الطبري في سياق الجملة حديثا عن عبد الله بن حَبِيب، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه، قال: لما خلق الله الأرض قمصت وقالت: أي رَب، تجعل عليَّ بني آدم يعملون عليّ الخطايا ويجعلون عليّ الخبث؟ قال: فأرسى الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون، فكان إقرارها كاللحم يترجرج. (2) .
والحديثان لم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة. ومهما يكن من أمر فإن حكمة التنزيل اقتضت أن يذكرا للسامعين هنا. وفي المناسبات العديدة السابقة ما للجبال من تأثير في ثبات الأرض
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز (3695 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلاَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. -تميد : تتحرك وتميل
(2) - تفسير ابن كثير - دار طيبة - (4 / 563) ,تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة - (17 / 183) صحيح موقوف(1/144)
اتساقا. مع ما في أذهانهم من ذلك واللّه أعلم بسبيل التنبيه على كون اللّه تعالى قد أحسن كل شيء خلقه وإيجاب الإيمان به والاتجاه إليه وحده وشكره على ما يتمتعون به من أفضاله. وإذا صحّ الحديث النبويّ فيكون في ذلك حكمة سامية. ولعلّ من هذه الحكمة ما جاء في آخره من تعظيم التصدّق خفية على المستحقين. (1)
تجىء هذه الآيات ، بعد هذا العرض الذي عرضت فيه الآيات السابقة ـ فى إيجاز ـ قصة موسى وفرعون ، وما لقى فرعون من خزى وبلاء فى الدنيا ، وما أعد له فى الآخرة من عذاب أشد خزيا ، وآلم وقعا من كل عذاب ـ تجىء هذه الآيات ، لتلقى المشركين ، بقوة اللّه سبحانه وتعالى ، وليرى المشركون كيف تجليات هذه القدرة ، وكيف آثارها ، وأنهم ليسوا أربابا ، كما ظن فرعون فى نفسه أنه ربّ ، وربّ أعلى ..
قوله تعالى : « أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها ، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها » ؟
أي ما قوتكم أنتم أيها المشركون مع قوة اللّه ؟ وأين قوتكم من قوة بعض مخلوقات اللّه ؟
أأنتم أشد خلقا وقوة أم السماء ؟
فمن بنى هذه السماء ؟ ومن أقامها سقفا مرفوعا فوقكم ؟
اللّه بناها ، واللّه رفع سمكها ، أي قامتها ، واللّه سواها ، على هذا النظام البديع ، وما تتزيّن به من كواكب ونجوم.
وقوله تعالى : «وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها » واللّه ـ سبحانه ـ هو الذي أغطش ، أي أظلم ليلها ، أي ليل هذه السماء ، وفى إضافة الليل إلى السماء ، إشارة إلى أن الليل إنما يرى كونا معتما ، مطبقا على الأرض .. فهو ليل السماء ، التي أطفئ سراجها ، وهو الشمس ..واللّه ـ سبحانه ـ هو الذي أخرج ضحى هذه السماء ، وأضاء سراجها ، وأوقده ، بعد أن أخرجه من عالم الظلام.
والإشارة إلى الضحى ، من بين أوقات النهار ، إلفات إلى الوقت الذي يمتد فيه نور الشمس ، فيغمر الآفاق كلها .. وهو ما يسّمى رائعة النهار.
قوله تعالى : « وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها. أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها. وَالْجِبالَ أَرْساها. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ ».أي واللّه سبحانه ، هو الذي دحا الأرض ، وبسطها ، بعد أن رفع السماء وسواها ..
وهو سبحانه الذي أخرج من هذه الأرض الماء الذي فيه حياة كل حى ..
وبهذا الماء أخرج اللّه المرعى ، أي ما يأكله الناس والأنعام ..
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 414)(1/145)
والماء الذي يخرج من الأرض ، هو من هذا الماء الملح ، الذي سخرته القدرة الإلهية ، ليكون بخارا ، فسحابا ، فمطرا ، فماء عذبا تفيض به الأنهار ، وتتفجر منه العيون .. وكما أخرج اللّه سبحانه الماء والمرعى من الأرض ، أرسى فيها الجبال لتمسكها وتحفظ توازنها ..
وقوله تعالى : « مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ » هو مفعول له ، أي دحا اللّه الأرض وأخرج منها الماء والمرعى ، متاعا لكم ولأنعامكم وزادا تتزودون به لحياتكم وحياة أنعامكم ..
وفى جعل المرعى متاعا للناس والأنعام ـ إشارة إلى أن الناس والأنعام سواء فى هذا الرزق الذي أخرجه اللّه سبحانه وتعالى من الأرض ، وأن العقل الذي امتاز به الناس على سائر الحيوان ، ليس هو الذي يفيض عليهم هذا الرزق ، وإنما هو فضل من فضل اللّه ، ورزق من رزقه! إنهم يرزقون من فضل اللّه كما ترزق الأنعام .. سواء بسواء .. (1)
ومن هذه الجولة في مصارع الطغاة المعتدين بقوتهم ، يعود إلى المشركين المعتزين بقوتهم كذلك . فيردهم إلى شيء من مظاهر القوة الكبرى ، في هذا الكون الذي لا تبلغ قوتهم بالقياس إليه شيئاً : { أأنتم أشد خلقاً أم السماء؟ بناها . رفع سمكها فسواها . وأغطش ليلها وأخرج ضحاها . والأرض بعد ذلك دحاها . أخرج منها ماءها ومرعاها . والجبال أرساها . متاعاً لكم ولأنعامكم } . .
وهو استفهام لا يحتمل إلا إجابة واحدة بالتسليم الذي لا يقبل الجدل : { أأنتم أشد خلقاً أم السماء؟ } . . السماء! بلا جدال ولا كلام! فما الذي يغركم من قوتكم والسماء أشد خلقاً منكم ، والذي خلقها أشد منها؟ هذا جانب من إيحاء السؤال .
وهناك جانب آخر . فما الذي تستصعبونه من أمر بعثكم؟ وهو خلق السماء وهي أشد من خلقكم؛ وبعثكم هو إعادة لخلقكم ، والذي بنى السماء وهي أشد ، قادر على إعادتكم وهي أيسر!
هذه السماء الأشد خلقاً بلا مراء . . { بناها } . . والبناء يوحي بالقوة والتماسك ، والسماء كذلك . متماسكة . لا تختل ولا تتناثر نجومها وكواكبها . ولا تخرج من أفلاكها ومداراتها ، ولا تتهاوى ولا تنهار . فهي بناء ثابت وطيد متماسك الأجزاء .
{ رفع سمكها فسواها } . . وسمك كل شيء قامته وارتفاعه . والسماء مرفوعه في تناسق وتماسك . وهذه هي التسوية : { فسواها } . . والنظرة المجردة والملاحظة العادية تشهد بهذا التناسق المطلق . والمعرفة بحقيقة القوانين التي تمسك بهذه الخلائق الهائلة وتنسق بين حركاتها وآثارها وتأثراتها ، توسع من معنى هذا التعبير ، وتزيد في مساحة هذه الحقيقة الهائلة ، التي لم يدرك الناس بعلومهم إلا أطرافاً منها ، وقفوا تجاهها مبهورين ، تغمرهم الدهشة ، وتأخذهم
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1441)(1/146)
الروعة ، ويعجزون عن تعليلها بغير افتراض قوة كبرى مدبرة مقدرة ، ولو لم يكونوا من المؤمنين بدين من الأديان إطلاقاً!
{ وأغطش ليلها وأخرج ضحاها } . . وفي التعبير شدة في الجرس والمعنى ، يناسب الحديث عن الشدة والقوة . وأغطش ليلها أي أظلمه . وأخرج ضحاها . أي : أضاءها . ولكن اختيار الألفاظ يتمشى في تناسق مع السياق . . وتوالي حالتي الظلام والضياء ، في الليل والضحى الذي هو أول النهار ، حقيقة يراها كل أحد؛ ويتأثر بها كل قلب . وقد ينساها بطول الألفة والتكرار ، فيعيد القرآن جدتها بتوجيه المشاعر إليها . وهي جديدة أبداً . تتجدد كل يوم ، ويتجدد الشعور بها والانفعال بوقعها . فأما النواميس التي وراءها فهي كذلك من الدقة والعظمة بحيث تروع وتدهش من يعرفها . فتظل هذه الحقيقة تروع القلوب وتدهشها كلما اتسع علمها وكبرت معرفتها!
{ والأرض بعد ذلك دحاها . أخرج منها ماءها ومرعاها . والجبال أرساها } . .
ودحو الأرض تمهيدها وبسط قشرتها ، بحيث تصبح صالحة للسير عليها ، وتكوين تربة تصلح للإنبات ، وإرساء الجبال وهو نتيجة لاستقرار سطح الأرض ووصول درجة حرارته إلى هذا الاعتدال الذي يسمح بالحياة . والله أخرج من الأرض ماءها سواء ما يتفجر من الينابيع ، أو ما ينزل من السماء فهو أصلاً من مائها الذي تبخر ثم نزل في صورة مطر . وأخرج من الأرض مرعاها وهو النبات الذي يأكله الناس والأنعام وتعيش عليه الأحياء مباشرة وبالواسطة . .
وكل أولئك قد كان بعد بناء السماء ، وبعد إغطاش الليل وإخراج الضحى . والنظريات الفلكية الحديثة تقرب من مدلول هذا النص القرآني حين تفترض أنه قد مضى على الأرض مئات الملايين من السنين ، وهي تدور دوراتها ويتعاقب الليل والنهار عليها قبل دحوها وقبل قابليتها للزرع . وقبل استقرار قشرتها على ما هي عليه من مرتفعات ومستويات .
والقرآن يعلن أن هذا كله كان : { متاعاً لكم ولأنعامكم } .. فيذكر الناس بعظيم تدبير الله لهم من ناحية . كما يشير إلى عظمة تقدير الله في ملكه . فإن بناء السماء على هذا النحو ، ودحو الأرض على هذا النحو أيضاً لم يكونا فلتة ولا مصادفة . إنما كان محسوباً فيهما حساب هذا الخلق الذي سيستخلف في الأرض . والذي يقتضي وجوده ونموه ورقيه موافقات كثيرة جداً في تصميم الكون . وفي تصميم المجموعة الشمسية بصفة خاصة . وفي تصميم الأرض بصفة أخص .
والقرآن على طريقته في الإشارة المجملة الموحية المتضمنة لأصل الحقيقة يذكر هنا من هذه الموافقات بناء السماوات ، وإغطاش الليل ، وإخراج الضحى ، ودحو الأرض وإخراج مائها ومرعاها ، وإرساء جبالها . متاعاً للإنسان وأنعامه . وهي إشارة توحي بحقيقة التدبير والتقدير(1/147)
في بعض مظاهرها المكشوفة للجميع ، الصالحة لأن يخاطب بها كل إنسان ، في كل بيئة وفي كل زمان ، فلا تحتاج إلى درجة من العلم والمعرفة ، تزيد على نصيب الإنسان حيث كان . حتى يعم الخطاب بالقرآن لجميع بني الإنسان في جميع أطوار الإنسان ، في جميع الأزمان .
ووراء هذا المستوى آماد وآفاق أخرى من هذه الحقيقة الكبرى . حقيقة التقدير والتدبير في تصميم هذا الكون الكبير . واستبعاد المصادفة والجزاف استبعاداً تنطق به طبيعة هذا الكون ، وطبيعة المصادفة التي يستحيل معها تجمع كل تلك الموافقات العجيبة .
هذه الموافقات التي تبدأ من كون المجموعة الشمسية التي تنتمي إليها أرضنا هي تنظيم نادر بين مئات الملايين من المجموعات النجمية . وأن الأرض نمط فريد غير مكرر بين الكواكب بموقعها هذا في المنظومة الشمسية . الذي يجعلها صالحة للحياة الإنسانية . ولا يعرف البشر حتى اليوم كوكباً آخر تجتمع له هذه الموافقات الضرورية . وهي تعد بالآلاف!
« ذلك أن أسباب الحياة تتوافر في الكوكب على حجم ملائم ، وبعد معتدل ، وتركيب تتلاقى فيه عناصر المادة على النسبة التي تنشط فيها حركة الحياة » .
« لا بد من الحجم الملائم ، لأن بقاء الجو الهوائي حول الكوكب يتوقف على ما فيه من قوة الجاذبية . »
« ولا بد من البعد المعتدل لأن الجرم القريب من الشمس حار لا تتماسك فيه الأجسام ، والجرم البعيد من الشمس بارد لا تتخلخل فيه تلك الأجسام » .
« ولا بد من التركيب الذي تتوافق فيه العناصر على النسبة التي تنشط بها حركة الحياة ، لأن هذه النسبة لازمة لنشأة النبات ونشأة الحياة التي تعتمد عليه في تمثيل الغذاء » .
« وموقع الأرض حيث هي أصلح المواقع لتوفير هذه الشروط التي لا غنى عنها للحياة ، في الصورة التي نعرفها ، ولا نعرف لها صورة غيرها حتى الآن » .
وتقرير حقيقة التدبير والتقدير في تصميم هذا الكون الكبير ، وحساب مكان للإنسان فيه ملحوظ في خلقه وتطويره أمر يعد القلب والعقل لتلقي حقيقة الآخرة وما فيها من حساب وجزاء باطمئنان وتسليم .
فما يمكن أن يكون هذا هو واقع النشأة الكونية والنشأة الإنسانية ثم لا تتم تمامها ، ولا تلقى جزاءها . ولا يكون معقولاً أن ينتهي أمرها بنهاية الحياة القصيرة في هذه العاجلة الفانية . وأن يمضي الشر والطغيان والباطل ناجياً بما كان منه في هذه الأرض . وأن يمضي الخير والعدل والحق بما أصابه كذلك في هذه الأرض . . فهذا الفرض مخالف في طبيعته لطبيعة التقدير والتدبير الواضحة في تصميم الكون الكبير . . ومن ثم تلتقي هذه الحقيقة التي لمسها السياق في(1/148)
هذا المقطع بحقيقة الآخرة التي هي الموضوع الرئيسي في السورة . وتصلح تمهيداً لها في القلوب والعقول ، يجيء بعده ذكر الطامة الكبرى في موضعه وفي حينه! (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- أثبت اللّه تعالى لمنكري البعث قدرته على إعادة الخلق والمعاد ، بقدرته على بدء الخلق ، وقدرته على خلق السموات العظيمة ، المحكمة البناء ، والتي جعل فيها الليل والنهار ، وخلق الأرض التي دحاها وبسطها ومهدها بعد خلق السموات ، وفجر منها الأنهار والينابيع ، وأرسى الجبال في أماكنها ، كل ذلك لتحقيق المنفعة للإنسان ودوابه التي يأكل منها ويركب عليها. ومعنى الكلام التقريع والتوبيخ.
فمن قدر على السماء قدر على الإعادة ، وإذا كان اللّه قادرا على إنشاء العالم الأكبر ، يكون على خلق العالم الأصغر ، بل على إعادته أقدر.
2- بيان إفضال الله تعالى على الإِنسان وإنعامه عليه .
3- مشروعية الاستدلال بالكبير على الصغير وبالكثير على القليل وهو مما يعلم بداهة وبالضرورة إلا أن الغفلة أكبر صارف وأقوى حايل فلا بد من إزالتها أولا .
4- أشار اللّه تعالى إلى كيفية خلق السماء بقوله : بَناها وفيه تصوير للأمر المعقول ، وهو الإبداع والاختراع ، بالأمر المحسوس وهو البناء.
ثم ذكر هيئة البناء بقوله : رَفَعَ سَمْكَها وهو الامتداد القائم من السفل إلى العلو ، وعكسه يسمى عمقا.
5- دل قوله تعالى : فَسَوَّاها على أن الأرض كروية ، كما دل قوله تعالى : دَحاها على أن كروية الأرض ليست تامة ، بل هي مفلطحة كالبيضة. ودحو الأرض لا ينافي تقدم خلق الأرض على السماء في قوله تعالى : هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [البقرة 2/ 29].
6- امتن اللّه تعالى على خلقه بأنه إنما خلق هذه الأشياء في السماء والأرض متعة ومنفعة لهم ولأنعامهم ، أو تمتيعا لهم ولأنعامهم.
7- إنما نسب اللّه تعالى الليل والنهار إلى السماء لأنهما يحدثان بسبب غروب الشمس وطلوعها ، وهذان إنما يحصلان بسبب حركة الفلك.
8- وصف اللّه تعالى كيفية خلق الأرض بعد وصف كيفية خلق السماء ، وذكر صفات ثلاثا : هي دحو الأرض ، أي بسطها وتمهيدها الذي حصل بعد خلق السماء ، وإخراج الماء والمرعى
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3816)(1/149)
من الأرض ، والمرعى : يشمل جميع ما يأكله الناس والأنعام ، وإرساء الجبال وتثبيتها في أماكنها. قال القتبي : دل الماء والمرعى على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام من العشب والشجر والحب والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح لأن النار من العيدان ، والملح من الماء.
9- دل مجموع الآيات هنا ، وفي سورة السجدة (فصلت) وسورة البقرة وغيرها ، على أن اللّه تعالى خلق الأرض أولا ، ثم خلق السماء ثانيا ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ثالثا لأنها كانت أولا كالكرة المجتمعة ، ثم إن اللّه تعالى مدها وبسطها.
- - - - - - - - - - -(1/150)
جزاء فريقي الناس في الآخرة
قال تعالى :
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
سبب نزول الآية 42
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُ عَنِ السَّاعَةِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ، قَالَ : فَانْتَهَى "المستدرك للحاكم (1)
وعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُ عَنِ السَّاعَةِ ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا " جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيّ (2)
وعَنْ طَارِقِ بن شِهَابٍ، قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ ذِكْرَ السَّاعَةِ حَتَّى نَزَلَتْ "فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا" [النازعات: 43ـ44]". المعجم الكبير للطبراني (3)
وعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ ، قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَزَالُ يَذْكُرُ شَأْنَ السَّاعَةِ حَتَّى نَزَلَتْ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا إِلَى مَنْ يَخْشَاهَا " جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيّ (4)
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ قَوْمًا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ السَّاعَةِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانُوا مِنْ قُرَيْشٍ ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا كَانُوا مِنَ الْيَهُودِ ، وَلَا خَبَرَ بِذَلِكَ عِنْدَنَا يَجُوزُ قَطْعُ الْقَوْلِ عَلَى أَيِّ ذَلِكَ كَانَ . فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذَنْ : يَسْأَلُكَ الْقَوْمُ الَّذِينَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ، يَقُولُ : مَتَى قِيَامُهَا . وَمَعْنَى " أَيَّانَ " : " مَتَى " فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ :
أَيَّانَ تَقْضِي حَاجَتِي إِيَّانَا أَمَا تَرَى لِنُجْحِهَا إِبَّانَ
وَمَعْنَى قَوْلِهِ : مُرْسَاهَا قِيَامُهَا ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ : أَرْسَاهَا اللَّهُ فَهِيَ مُرْسَاةٌ ، وَأَرْسَاهَا الْقَوْمُ : إِذَا حَبَسُوهَا ، وَرَسَتْ هِيَ تَرْسُو رُسُوًّا . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ (5)
__________
(1) - المستدرك للحاكم (3895) صحيح
(2) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيّ( 33665 ) صحيح
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (7 / 377) (8133 ) صحيح لغيره
(4) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيّ( 33666 ) صحيح
(5) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (14175 )(1/151)
المناسبة :
بعد بيان أدلة القدرة الإلهية على البعث والحشر والنشر ، من خلق السماء والأرض ، وإثبات إمكان الحشر عقلا ، أخبر اللّه تعالى بعد ذلك عن وقوعه فعلا ، وما يصحبه من أهوال ، وما يترتب عليه من انقسام الناس إلى فريقين : فريق في الجنة وفريق في السعير.
وبعد بيان البرهان العقلي على إمكان القيامة ، والإخبار عن وقوعها ، وذكر أحوالها العامة وأحوال الأشقياء والسعداء فيها ، أجاب اللّه تعالى عن تساؤل المشركين استهزاء وعنادا عن وقت حدوثها ، وأوضح أن علمها مفوض إلى اللّه تعالى ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مبعوث للإنذار فقط ، وأن ما أنكروه سيرونه ، حتى كأنهم أبدا فيه ، وكأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار ، ثم مضت.
المفردات :
34 ... الطَّامَّةُ ... يوم القيامة لأنها تطم كل شئ وهي النفخة الثانية
37 ... طَغَى ... كفر وظلم وتمرد
38 ... آثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا ... باتباع الشهوات وارتكاب المحرمات
39 ... المَأْوَى ... المستقر والمرجع
40 ... خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ... خاف الموقف بين يدي ربه والحكم فيه
42 ... أَيَّانَ مُرْسَاهَا ... متى يقيمها الله سبحانه
43 ... فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ... ليس عندك علمها
44 ... إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ... عند الله جل جلاله علمها
46 ... لَمْ يَلْبَثُوا ... لم يسكنوا الدنيا إلا قليلا
46 ... عَشِيَّةً ... بين الظهر إلى غروب الشمس
46 ... ضُحَاهَا ... من طلوع الشمس إلى نصف النهار
المعنى الإجمالي:
بعد أن بيّن أنه تعالى قادر على نشر الأموات كما قدر على خلق الأكوان ، بين صدق ما أوحى به إلى نبيه من أن ذلك اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين ، كائن لا بد منه ، فإذا جاءت طامته الكبرى التي تفوق كل طامة حين تعرض الأعمال على العاملين ، فيتذكر كل امرئ ما عمل ، ويظهر اللّه الجحيم وهى دار العذاب للعيان فيراها كل ذى بصر ، فى ذلك اليوم يوزع الجزاء على العاملين فأما من جاوز الحدود التي حدها اللّه فى شرائعه ، وفضل لذائذ الدنيا على(1/152)
ثواب الآخرة فدار العذاب مستقره ومأواه وأما من خاف مقامه بين يدى ربه فى ذلك اليوم ،وزجر نفسه عن هواها ، فلم تجر وراء شهواتها فالجنة منزله ومأواه ، جزاء ما قدمت يداه. (1)
إذا جاءت الطامة يفصل ربك بين الخلائق ، فمنهم شقي ، ومنهم سعيد ، فأما الشقي فهو الذي طغى وتجاوز الحدود وآثر الحياة الدنيا ، فكانت الجحيم هي المأوى ، وبئس المصير ، وأما السعيد فهو من خاف مقام ربه ، وخاف قيامه بين يدي العزيز الجبار يوم القيامة ، وقد نهى النفس عن هواها ، وألزمها كلمة التقوى ، فكانت الجنة هي المأوى ونعم القرار. أرأيت أسباب دخول جهنم وأنها هي الطغيان والظلم ، وحب الدنيا وترك العمل للآخرة ؟ وأسباب دخول الجنة وأنها معرفة اللّه والخوف منه ، ونهى النفس عن اتباع الهوى ؟ ! وقد كانوا يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - استهزاء بالساعة قائلين : متى تكون ؟ ويقصدون بذلك إنكار الوقوع ، فيرد اللّه عليهم على طريق الاستفهام الإنكارى مخاطبا النبي - صلى الله عليه وسلم - ليكون أتم وأبلغ : فيم أنت من ذكراها ؟ على معنى : في أى شيء أنت حتى تذكر لهؤلاء وقت حصولها ؟ واللّه وحده عنده علم الساعة ، وإلى ربك وحده منتهاها ، وإنما أنت منذر فقط من يخشاها ، وليس عليك إلا البلاغ فلا يهمنك أمرهم ، ولا تشغل بطلبهم ، وكأنك بهم يوم يرونها ، تراهم كأنهم لم يلبثوا في هذه الدنيا إلا عشية أو ضحاها وقد انقضت ، فإذا هم فيما أنكروه واقعون. (2)
التفسير والبيان :
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى ، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى أي إذا حان وقت مجيئ الداهية العظمى التي تطم على سائر الطامات ، وهي يوم القيامة أو النفخة الثانية التي يكون معها البعث أو تسليم أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار ، وينسى الإنسان كل شيء قبلها في جنبها ، فصل اللّه تعالى بين الخلائق ، فمنهم شقي وسعيد ، فجواب (إذا) محذوف وهو : فصل اللّه ..
ولذلك اليوم صفتان : إنه حين يتذكر الإنسان جميع ما عمله من خير أو شر لأنه يشاهده مدونا في صحائف عمله ، كما قال تعالى : يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى [الفجر 89/ 23] وقال سبحانه : أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة 58/ 6]. وفيه تظهر نار جهنم المحرقة إظهارا لا يخفى على أحد.
سواء أكان مؤمنا أم كافرا ، كما قال تعالى : وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشعراء 26/ 91]. قال مقاتل : « يكشف عنها الغطاء ، فينظر إليها الخلق » فأما المؤمن : فيعرف برؤيتها قدر نعمة اللّه عليه بالسلامة منها ، وأما الكافر : فيزداد غما إلى غمه ، وحسرة إلى حسرته.
__________
(1) - تفسير المراغي ، ج 30 ، ص : 34
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 821)(1/153)
ثم فصّل اللّه تعالى ما يحكم به بين الخلائق ، فقال : فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى ،أي فأما من تكبر وتمرد ، وتجاوز الحد في الكفر والمعاصي ، وقدّم الحياة الدنيا على أمر الدين والآخرة ، ولم يستعد لها ، ولا عمل عملها ، فالنار المحرقة هي مأواه ومثواه ومستقره لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة. قيل : نزلت الآية في النضر وابنه الحارث ، وهي عامة في كل كافر آثر الحياة الدنيا على الآخرة.
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ ، وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى أي وأما من خاف القيام بين يدي اللّه عز وجل وخاف حكم اللّه فيه يوم القيامة ، وأدرك عظمة اللّه وجلاله ، ونهى نفسه عن هواها ، وزجرها عن المعاصي والمحارم التي تشتهيها ، وردها إلى طاعة مولاها ، فالجنة مكانه الذي يأوي إليه ، ومستقره ومقامه ، لا غيرها. والآية نزلت في مصعب بن عمير وأخيه عمار بن عمير ، وهي عامة في كل مؤمن خاف اللّه ، ولم يتبع هواه.
وهذان الوصفان مضادان للوصفين اللذين وصف اللّه بهما أهل النار ، فقوله : وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ ضد فَأَمَّا مَنْ طَغى وقوله : وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ضد قوله : وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا.
والخوف من اللّه لا بد وأن يكون مسبوقا بالعلم باللّه ، على ما قال اللّه : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر 35/ 28]. ولما كان الخوف من اللّه هو السبب المعين لدفع الهوى ، لذا قدمه على قوله : وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (1) .
ثم ذكر اللّه تعالى تساؤل المشركين على سبيل الاستهزاء عن ميعاد القيامة ، فقال : يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها أي يسألك أيها النبي المشركون المكذّبون بالبعث عن وقت إرساء القيامة وميعاد وقوعها ، متى يقيمها اللّه ويوجدها ، أو ما منتهاها ومستقرها كرسوّ السفينة ؟ وذلك حين كانوا يسمعون النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر القيامة بأوصافها الهائلة. مثل الطامة والصاخة والازفة والحاقة والقارعة ، فقالوا على سبيل الاستهزاء : أَيَّانَ مُرْساها أي زمان إرسائها.
فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ، إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أي : في أي شيء أنت يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها ؟ أو في أي شيء أنت من ذكر تحديدها ووقتها ، أي لست من ذلك في شيء (2) . وهذا تعجب من كثرة ذكره لها ، كأنه قيل : في أيّ شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها ، حرصا على جوابهم. والمعنى ليس علمها إليك ولا إلى أحد من الخلق ، بل مردها ومرجعها ومنتهى علمها إلى اللّه عز وجل ، فهو الذي يعلم وقتها على التعيين ، ولا يوجد علمها عند غيره ، فكيف يسألونك عنها ويطلبون منك بيان وقت قيامها ؟ وهم يسألونك عنها ، فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها.
__________
(1) - تفسير الرازي : 31/ 51
(2) - البحر المحيط : 8/ 424(1/154)
ونظير الآية : ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ، يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها ، قُلْ : إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف 7/ 187] وقوله : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان 31/ 34]. عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ : قُلْتُ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَعْنِي لاِبْنِ عُمَرَ : إِنَّ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنْ لَيْسَ قَدَرٌ قَالَ : هَلْ عِنْدَنَا مِنْهُمْ أَحَدٌ ؟ قُلْتُ : لاَ ، قَالَ : فَأَبْلِغْهُمْ عَنِّي إِذَا لَقِيتَهُمْ : إِنَّ ابْنَ عُمَرَ يَبْرَأُ إِلَى اللهِ مِنْكُمْ ، وَأَنْتُمْ بُرَآءُ مِنْهُ ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أُنَاسٍ ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ سَحْنَاءُ سَفَرٍ ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ ، يَتَخَطَّى حَتَّى وَرَكَ ، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، مَا الإِسْلاَمُ ؟ قَالَ : الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلاَةَ ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ ، وَتَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ ، وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ ، وَأَنْ تُتِمَّ الْوُضُوءَ ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ ، قَالَ : فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَنَا مُسْلِمٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : صَدَقْتَ. قَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، مَا الإِيمَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، وَتُؤْمِنَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْمِيزَانِ ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، قَالَ : فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ ، فَأَنَا مُؤْمِنٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ،قَالَ : صَدَقْتَ. قَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، مَا الإِحْسَانُ ؟ قَالَ : الإِحْسَانُ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنَّكَ إِنْ لاَ تَرَاهُ ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ ، قَالَ : فَإِذَا فَعَلْتُ هَذَا ، فَأَنَا مُحْسِنٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : صَدَقْتَ. قَالَ : فَمَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ : سُبْحَانَ اللهِ ، مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ، وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ نَبَّأْتُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا ، قَالَ : أَجَلْ ، قَالَ : إِذَا رَأَيْتَ الْعَالَةَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبِنَاءِ ، وَكَانُوا مُلُوكًا ، قَالَ : مَا الْعَالَةُ الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ ؟ قَالَ : الْعُرَيْبُ ، قَالَ : وَإِذَا رَأَيْتَ الأَمَةَ تَلِدُ رَبَّتَهَا ، فَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ، قَالَ : صَدَقْتَ. ثُمَّ نَهَضَ فَوَلَّى. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : عَلَيَّ بِالرَّجُلِ ، فَطَلَبْنَاهُ كُلَّ مَطْلَبٍ فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هَذَا ؟ هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ لَيُعَلِّمَكُمْ دِينَكُمْ ، خُذُوا عَنْهُ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا شُبِّهَ عَلَيَّ مُنْذُ أَتَانِي قَبْلَ مَرَّتِي هَذِهِ ، وَمَا عَرَفْتُهُ حَتَّى وَلَّى."صحيح ابن حبان (1) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ مَا الإِيمَانُ قَالَ « الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ » . قَالَ مَا الإِسْلاَمُ قَالَ « الإِسْلاَمُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكَ بِهِ ، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ ، وَتُؤَدِّىَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ » . قَالَ مَا الإِحْسَانُ قَالَ « أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ » . قَالَ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ « مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا إِذَا وَلَدَتِ الأَمَةُ رَبَّهَا ، وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإِبِلِ الْبُهْمُ فِى الْبُنْيَانِ ، فِى خَمْسٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ » . ثُمَّ تَلاَ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 397) (173) صحيح واصله في الصحيحين(1/155)
النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ( إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) الآيَةَ . ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَالَ « رُدُّوهُ » . فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا . فَقَالَ « هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ » صحيح البخارى. (1)
وعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ مَا فِى الأَرْحَامِ ، وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ، وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ »صحيح البخارى (2)
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها أي إنما بعثتك لتنذر الناس وتحذرهم من بأس اللّه وعذابه ، وما أنت إلا مخوّف لمن يخشى قيام الساعة ، فمن خشي اللّه وخاف مقامه ووعيده ، اتّبعك فأفلح ونجا ، ومن كذب بالساعة وخالفك ، خسر وخاب ، فدع علم ما لم تكلف به ، واعمل بما أمرت به من إنذار. وخص الإنذار بأهل الخشية لأنهم المنتفعون بذلك.
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أي إن هذا اليوم الذي يسألون عنه واقع حتما ، وكأنهم فيه ، فإنهم إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر ، ورأوا الساعة (القيامة) استقصروا مدة الحياة الدنيا ، ورأوا كأنها ساعة من نهار ، أو عشية من يوم أو ضحى من يوم. والمراد تقليل مدة الدنيا في نفوسهم إذا رأوا أهوال القيامة. وقال ابن عباس : كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا يوما واحدا.
وقيل : لم يلبثوا في قبورهم إلا عشية أو ضحاها ، وذلك أنهم استقصروا مدة لبثهم في القبور لما عاينوا من الهول.
والخلاصة - إنهم ظنوا أنهم لم يلبثوا إلا عشية يوم أو ضحى تلك العشية ، وتقول العرب : آتيك العشية أو غداتها ، وآتيك الغداة أو عشيتها ، والمراد أنهم يستقصرون مدة لبثهم ، ويزعمون أنهم لم يلبثوا إلا قدر آخر نهار أو أوله .
ومضات :
وفي هذه الآيات إنذار بمجيء القيامة وما يكون فيها : فحينما تجيء يتذكّر كل امرئ ما قدمت يداه من أعمال ليؤدى عليها الحساب وتعرض الجحيم حتى يراها الناس. فمن كان قد طغى في حياته وتجاوز حدود الحق وكفر وأثم وفضّل الحياة الدنيا على الآخرة فهي مأواه. أما الذي يكون قد استشعر بخوف اللّه وحسب حساب الآخرة وزجر نفسه عن اتباع الهوى والباطل وسار في سبيل اللّه والحق فتكون الجنة مأواه.
والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا. وأسلوبها إنذاري وتبشيري معا.
ووصف يوم القيامة بالطامّة الكبرى متناسب مع حقيقتها وخطورتها كما هو المتبادر.
__________
(1) - صحيح البخارى(50 )
(2) - صحيح البخارى ( 627 )(1/156)
وعطف إيثار الحياة الدنيا على الطغيان قرينة على أن المندّد به ليس الاستمتاع بطيبات الحياة إطلاقا وإنما هو الاستغراق فيها استغراقا يجعل المرء لا يحسب حساب الآخرة ويطغى في الأرض. وهكذا يظل المبدأ القرآني المحكم الذي قررته آية سورة الأعراف [32] وأكّدته آيات عديدة أخرى هو الضابط لهذا الأمر.
وتعبير وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى تعبير قوي نافذ في صدد اجتناب الآثام والموبقات والشهوات من حيث تصوير كون أهمّ ما يورط المرء في ذلك هو اتباع هوى النفس دون وازع ولا زاجر. وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى.
وفي الآيات توكيد قويّ للمبدأ القرآني المحكم الذي قررته آيات كثيرة في سور عديدة من كون الإنسان يكسب أعماله باختياره وسعيه وأنه مجزى عليه وفاقا لذلك.
وفي الآيات الباقية :
1 - حكاية لسؤال الكفار للنبي عليه السلام عن موعد قيام القيامة.
2 - وتنديد بسؤالهم الذي يوردونه من قبيل التحدّي والاستخفاف.
3 - وتقرير بأن موعدها عند اللّه وفي علمه.
4 - وخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - بصيغة السؤال التقريري بأنه ليس له عنها علم وبأن قصارى شأنه أنه منذر بها لينتفع بذلك من كان يستشعر بالخوف منها ويريد أن يتحاشى أسبابه بالإيمان وصالح العمل.
5 - وإنذار وتوكيد للكفار بأنهم سيرونها حتما وفي برهة أقرب بكثير مما يظنون وأنهم حينما يرونها سيظنون من شدّة هذا الأمر أنه ما بينها وبين موتهم إلّا مساء أو صباح.
وواضح أن الآيات استمرار مع السياق والموضوع. وقد تكرر مثل هذا السؤال والردّ عليه في مواضع عديدة مرّت أمثلة منها حيث يدل ذلك على تكرر السؤال والتحدي من قبل الكفار واقتضاء حكمة التنزيل بتكرار الردّ عليهم.
ولقد أورد البخاري ومسلم في فصل التفسير من صحيحيهما حديثا مرويا عن سهل بن سعد في سياق هذه الآيات جاء فيه : «رأيت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال بإصبعيه هكذا بالوسطى وبالتي تلي الإبهام بعثت والساعة كهاتين» «1». ولقد علقنا على موضوع اقتراب الساعة في سياق تفسير سورة القمر بما فيه الكفاية فلا نرى ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق هذه الآيات أيضا حديثين أحدهما عن عائشة قالت : «لم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن الساعة حتى أنزل اللّه عزّ وجلّ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44)» وثانيهما عن طارق بن شهاب قال : «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يزال يذكر شأن الساعة حتى نزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها إلى مَنْ يَخْشاها». ويلحظ على هذين الحديثين أن(1/157)
السؤال عن الساعة إنما كان يقع ويتكرر من الكفار وأن القرآن كان يأمر النبي بالقول إنه لا يعلم ولا يملك من الأمر شيئا والأمر بيد اللّه وعلمه على ما جاء في سور كثيرة مرّ تفسيرها مثل سور الأعراف ويونس. وقد حكت آيات مدنيّة سؤالا لهم عنها أيضا وجوابا مماثلا على ما جاء في سورة الأحزاب يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) ويتبادر لنا أن العبارة القرآنية هنا هي من هذا الباب بأسلوب آخر. وليس فيها أية دلالة كما أنه ليس في القرآن أية دلالة على أن النبي هو الذي كان يسأل عنها حتى تكون هذه الآيات خاتمة لسؤاله عنها. والحديث الذي أوردناه آنفا والذي رواه البخاري ومسلم في سياق هذه الآيات قوي المغزى. (1)
قوله تعالى : « فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى ، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى » أي فإذا وقعت الواقعة ، وجاء اليوم الموعود ، الذي هو طامة كبرى ، وبلاء عظيم على أهل الضلال والفساد ، والذي يتذكر فيه كل إنسان ما عمل من خير وشر ، وبرزت الجحيم ، أي ظهرت بارزة واضحة لمن كانت له عينان يبصر بهما ـ إذا كان كل ذلك ، حوسب الناس على ما عملوا ، ولقى كل عامل جزاء عمله ..فجواب الشرط محذوف ، دل عليه ما بعده من قوله تعالى : « فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا .. »
قوله تعالى : « فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى » أي أنه إذا حوسب الناس ، اختلفت منازلهم ، حسب أعمالهم .. فأما من طغى واستكبر ، وسلك مسلك فرعون ، وآثر الحياة الدنيا ، ولم يعمل للآخرة عملا ـ فإن جهنم هى مأواه ، ومنزله الذي يأوى إليه ..
قوله تعالى : « وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ».
أي وأما من خشى ربه ، وخاف حسابه وعذابه ، وصرف نفسه عن هواها ، ابتغاء مرضاة اللّه ـ فإن الجنة مأواه ، ومنزله الذي بهنأ فيه بنعيم اللّه ورضوانه.
وفى قوله تعالى : « وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى » ـ إشارة إلى أن لأهواء النفس سلطانا قاهرا ، وأنه إذا لم يقم الإنسان على نفسه ناهيا ينهاها ، وزاجرا يزجرها عن اتباع هواها كلما دعتها دواعيه ـ انقاد لهذا الهوى الذي يغلبه على أمره ، ويطرحه فى مطارح الضلال ، والهلاك.
قوله تعالى : « يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها » أي يسألونك عن الساعة أيان مرساها » أي يسألك المشركون أيها النبي ، عن القيامة : متى موعدها ؟ ومتى تلقى مراسيها على الشاطئ الموعود ؟
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 416)(1/158)
وفى قوله تعالى : « أَيَّانَ مُرْساها » ـ إشارة إلى أن الحياة الدنيا ، أشبه بسفينة أقلعت بالناس ، آخذة مسيرتها بهم على أمواج الزمن ، حتى تلقى بهم على الشاطئ الآخر ، المقابل للشاطىء الذي أقلعت منه سفينتهم .. فكأنهم يقولون : متى ترسو بنا سفينة الحياة على مرفأ هذا اليوم الموعود ؟ إنهم يسألون سؤال المنكر المستهزئ.
وقوله تعالى : « فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها » أي فى أي شىء أنت أيها النبي من ذكرها لهم ؟ إنك لا تدرى ما جواب هذا السؤال الذي يسألونك فيه عن يومها ، لأنك لم تسأل ربك هذا السؤال ، ولم تشغل نفسك به ، ولم تتكلف له جوابا ، لأنه ليس الذي يعنيك من هذا اليوم موعده ، وإنما الذي أنت مشغول به منه ، هو لقاؤه ، والإعداد له .. وهو آت لا ريب فيه ..
قوله تعالى : «إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها » أي أن أمر الساعة عند اللّه ، وإليه منتهى مسيرة الناس إليها ، لا يعلم أحد متى يكون ذلك .. كما يقول سبحانه : « يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ؟ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً » (187 : الأعراف) قوله تعالى : « إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها » أي أنه ليس لك أن تسأل عنها ، ولا أن تجيب السائلين عن سؤالهم عن يومها ، فليس ذلك من رسالتك ، وإنما رسالتك هى أن تنذر بها ، وتحذّر منها ، من يخشاها ، ويعمل حسابها ، ويعدّ نفسه ليومها.
قوله تعالى : « كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ْ ضُحاها » أي أن هؤلاء الذين يسألون عن الساعة ، ويستعجلون يومها ، استهزاء ، واستخفافا ، دون أن يعدّوا أنفسهم لها ـ هؤلاء سيعلمون حين تطلع عليهم أن رحلتهم إليها لم تطل ، وأنهم لم يلبثوا فى دنياهم إلا عشية ليلة ، أو ضحى هذه الليلة .. (1)
إن الحياة الدنيا متاع . متاع مقدر بدقة وإحكام . وفق تدبير يرتبط بالكون كله ونشأة الحياة والإنسان . ولكنه متاع . متاع ينتهي إلى أجله . . فإذا جاءت الطامة الكبرى غطت على كل شيء ، وطمت على كل شيء . على المتاع الموقوت . وعلى الكون المتين المقدر المنظم . على السماء المبنية والأرض المدحوة والجبال المرساة والأحياء والحياة وعلى كل ما كان من مصارع ومواقع . فهي أكبر من هذا كله ، وهي تطم وتعم على هذا كله!
عندئذ يتذكر الإنسان ما سعى . يتذكر سعيه ويستحضره ، إن كانت أحداث الحياة ، وشواغل المتاع أغفلته عنه وأنسته إياه . يتذكره ويستحضره ولكن حيث لا يفيده التذكر والاستحضار إلا الحسرة والأسى وتصور ما وراءه من العذاب والبلوى!
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1443)(1/159)
{ وبُرِّزَت الجحيم لمن يرى } . . فهي بارزة مكشوفة لكل ذي نظر . ويشدد التعبير في اللفظ { بُرِّزَت } تشديداً للمعنى والجرس ، ودفعاً بالمشهد إلى كل عين!
عندئذ تختلف المصائر والعواقب؛ وتتجلى غاية التدبير والتقدير في النشأة الأولى : { فأما من طغى ، وآثر الحياة الدنيا ، فإن الجحيم هي المأوى } . .
والطغيان هنا أشمل من معناه القريب . فهو وصف لكل من يتجاوز الحق والهدى . ومداه أوسع من الطغاة ذوي السلطان والجبروت ، حيث يشمل كل متجاوز للهدى ، وكل من آثر الحياة الدنيا ، واختارها على الآخرة . فعمل لها وحدها ، غير حاسب للآخرة حساباً . واعتبار الآخرة هو الذي يقيم الموازين في يد الإنسان وضميره . فإذا أهمل حساب الآخرة أو آثر عليها الدنيا اختلت كل الموازين في يده ، واختلت كل القيم في تقديره ، واختلت كل قواعد الشعور والسلوك في حياته ، وعد طاغياً وباغياً ومتجاوزاً للمدى .
فأما هذا . . { فإن الجحيم هي المأوى } . . الجحيم المكشوفة المبرزة القريبة الحاضرة . يوم الطامة الكبرى!
{ وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى .فإن الجنة هي المأوى } . .
والذي يخاف مقام ربه لا يقدم على معصية ، فإذا أقدم عليها بحكم ضعفه البشري قاده خوف هذا المقام الجليل إلى الندم والاستغفار والتوبة . فظل في دائرة الطاعة .
ونهي النفس عن الهوى هو نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة . فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان ، وكل تجاوز ، وكل معصية . وهو أساس البلوى ، وينبوع الشر ، وقل أن يؤتى الإنسان إلا من قبل الهوى . فالجهل سهل علاجه . ولكن الهوى بعد العلم هو آفة النفس التي تحتاج إلى جهاد شاق طويل الأمد لعلاجها .
والخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة . وقل أن يثبت غير هذا الحاجز أمام دفعات الهوى . ومن ثم يجمع بينهما السياق القرآني في آية واحدة . فالذي يتحدث هنا هو خالق هذه النفس العليم بدائها ، الخبير بدوائها وهو وحده الذي يعلم دروبها ومنحنياتها ، ويعلم أين تكمن أهواؤها وأدواؤها ، وكيف تطارد في مكامنها ومخابئها!
ولم يكلف الله الإنسان ألا يشتجر في نفسه الهوى . فهو سبحانه يعلم أن هذا خارج عن طاقته . ولكنه كلفه أن ينهاها ويكبحها ويمسك بزمامها . وأن يستعين في هذا بالخوف . الخوف من مقام ربه الجليل العظيم المهيب . وكتب له بهذا الجهاد الشاق ، الجنة مثابة ومأوى : { فإن الجنة هي المأوى } . . ذلك أن الله يعلم ضخامة هذا الجهاد؛ وقيمته كذلك في تهذيب النفس البشرية وتقويمها ورفعها إلى المقام الأسنى .(1/160)
إن الإنسان إنسان بهذا النهي ، وبهذا الجهاد ، وبهذا الارتفاع . وليس إنساناً بترك نفسه لهواها ، وإطاعة جواذبه إلى دركها ، بحجة أن هذا مركب في طبيعته . فالذي أودع نفسه الاستعداد لجيشان الهوى ، هو الذي أودعها الاستعداد للإمساك بزمامه ، ونهي النفس عنه ، ورفعها عن جاذبيته؛ وجعل له الجنة جزاء ومأوى حين ينتصر ويرتفع ويرقى .
وهنالك حرية إنسانية تليق بتكريم الله للإنسان . تلك هي حرية الانتصار على هوى النفس والانطلاق من أسر الشهوة ، والتصرف بها في توازن تثبت معه حرية الاختيار والتقدير الإنساني . وهنالك حرية حيوانية ، هي هزيمة الإنسان أمام هواه ، وعبوديته لشهوته ، وانفلات الزمام من إرادته . وهي حرية لا يهتف بها إلا مخلوق مهزوم الإنسانية مستعبد يلبس عبوديته رداء زائفاً من الحرية!
إن الأول هو الذي ارتفع وارتقى وتهيأ للحياة الرفيعة الطليقة في جنة المأوى . أما الآخر فهو الذي ارتكس وانتكس وتهيأ للحياة في درك الجحيم حيث تهدر إنسانيته ، ويرتد شيئاً توقد به النار التي وقودها الناس من هذا الصنف والحجارة!
وهذه وتلك هي المصير الطبيعي للارتكاس والارتقاء في ميزان هذا الدين الذي يزن حقيقة الأشياء . .
وأخيراً يجيء الإيقاع الأخير في السورة هائلاً عميقاً مديداً :{ يسألونك عن الساعة : أيان مرساها؟ فيم أنت من ذكراها؟ إلى ربك منتهاهآ . إنمآ أنت منذر من يخشاها . كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } ..
وكان المتعنتون من المشركين يسألون الرسول - صلى الله عليه وسلم - كلما سمعوا وصف أهوال الساعة وأحداثها وما تنتهي إليه من حساب وجزاء . . متى أو أيان موعدها . . أو كما يحكي عنهم هنا : { أيان مرساها؟ } . .
والجواب : { فيم أنت من ذكراها؟ } . . وهو جواب يوحي بعظمتها وضخامتها ، بحيث يبدو هذا السؤال تافهاً باهتاً ، وتطفلاً كذلك وتجاوزاً . . فها هو ذا يقال للرسول العظيم : { فيم أنت من ذكراها؟ } . . إنها لأعظم من أن تَسأل أو تسأل عن موعدها . فأمرها إلى ربك وهي من خاصة شأنه وليست من شأنك :{ إلى ربك منتهاها } . . فهو الذي ينتهي إليه أمرها ، وهو الذي يعلم موعدها ، وهو الذي يتولى كل شيء فيها .
{ إنما أنت منذر من يخشاها } . . هذه وظيفتك ، وهذه حدودك . . أن تنذر بها من ينفعه الإنذار ، وهو الذي يشعر قلبه بحقيقتها فيخشاها ويعمل لها ، ويتوقعها في موعدها الموكول إلى صاحبها سبحانه وتعالى .(1/161)
ثم يصور هولها وضخامتها في صنيعها بالمشاعر والتصورات؛ وقياس الحياة الدنيا إليها في إحساس الناس وتقديرهم :{ كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } . .
فهي من ضخامة الوقع في النفس بحيث تتضاءل إلى جوارها الحياة الدنيا ، وأعمارها ، وأحداثها ، ومتاعها ، وأشياؤها ، فتبدو في حس أصحابها كأنها بعض يوم . . عشية أو ضحاها!
وتنطوي هذه الحياة الدنيا التي يتقاتل عليها أهلها ويتطاحنون . والتي يؤثرونها ويدعون في سبيلها نصيبهم في الآخرة . والتي يرتكبون من أجلها ما يرتكبون من الجريمة والمعصية والطغيان . والتي يجرفهم الهوى فيعيشون له فيها . . تنطوي هذه الحياة في نفوس أصحابها أنفسهم ، فإذا هي عندهم عشية أو ضحاها .
هذه هي : قصيرة عاجلة ، هزيلة ذاهبة ، زهيدة تافهة . . أفمن أجل عشية أو ضحاها يضحون بالآخرة؟ ومن أجل شهوة زائلة يدعون الجنة مثابة ومأوى!
ألا إنها الحماقة الكبرى . الحماقة التي لا يرتكبها إنسان . يسمع ويرى! (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحوالها وصفاتها .
2- الناس يوم القيامة مؤمن تقيّ في الجنة ، وكافر وفاجر في النار .
3- بيان استئثار الله تعالى بعلم الغيب والساعة .
4- بيان أي الشدائد ينسى بعضها بعضا فإِن عذاب القبر يهون أمام عذاب النار .
5- كل ما هو في حكم الواقع واقع حتما
6- ليس هناك تصوير أوقع لحال تفاعل النفس وانفعالها بمشهد خطير ، مثل هذا التصوير لعلاقة النفس الإنسانية بقيام القيامة.
فإنه إذا وقعت الواقعة ، وأتت الداهية العظمى ، وهي النفخة الثانية التي يكون معها البعث ، كما قال ابن عباس ، تذكّر الإنسان ما عمل من خير أو شر ، وشاهد الجحيم النار المحرقة التي تبرز عيانا لكل إنسان مؤمن أو كافر.يراها الكافر بما فيها من أصناف العذاب ، ويراها المؤمن ليعرف قدر النعمة التي أنعم اللّه بها عليه ، ويشاهد الكافر الذي يصلى النار.
7- الناس يوم القيامة والبعث فريقان : السعداء والأشقياء. فأما من عتا وتمرد ، وتكبر وتجاوز الحد في الكفر والعصيان ، وقدّم الحياة الدنيا على الآخرة ، فمأواه ومستقرّه النار.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3818)(1/162)
وأما من حذر مقامه بين يدي ربه ، وزجر نفسه عن المعاصي والمحارم ، فمثواه ومستقره الجنة. قال سهل : ترك الهوى مفتاح الجنة لقوله عز وجل : وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى .
قال عَلِيُّ بْنُ الْهَيْثَمِ الْمِصْرِيُّ ، سَمِعْتُ ذَا النُّونِ الْمِصْرِيَّ الْعَابِدَ أَبَا الْفَيْضِ يَقُولُ : " اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الَّذِينَ جَاوَزُوا دَارَ الظَّالِمِينَ , وَاسْتَوْحَشُوا مِنْ مُؤَانَسَةِ الْجَاهِلِينَ , وَشَابُوا ثَمَرَةَ الْعَمَلِ بِنُورِ الْإِخْلَاصِ , وَاسْتَقَوْا مِنْ عَيْنِ الْحِكْمَةِ , وَرَكِبُوا سَفِينَةَ الْفِطْنَةِ , وَأَقْلَعُوا بِرِيحِ الْيَقِينِ , وَلَجَجُوا فِي بَحْرِ النَّجَاةِ , وَأَرْسَوْا بِشَطِّ الْإِخْلَاصِ , اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الَّذِينَ سَرَحَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي الْعُلَا , وَحَطَّتْ هِمَمَ قُلُوبِهِمْ فِي غَادِيَاتِ التُّقَى ، حَتَّى أَنَاخُوا فِي رِيَاضِ النَّعِيمِ ، وَجَنُوا مِنْ ثِمَارِ رِيَاضِ التَّسْنِيمِ , وَخَاضُوا لُجَّةَ السُّرُورِ , وَشَرِبُوا بِكَأْسِ الْعَيْشِ , وَاسْتَظَلُّوا تَحْتَ ( في ) الْكَرَامَةِ , اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الَّذِينَ فَتَحُوا بَابَ الصَّبْرِ , وَأَرْدَمُوا خَنَادِقَ الْجَزَعِ , وَجَازُوا شَدَائِدَ الْعِقَابِ , وَعَبَرُوا جِسْرَ الْهَوَاءِ ؛ فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ يَقُولُ : وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ أَشَارَتْ إِلَيْهِمْ أَعْلَامُ الْهِدَايَةِ , وَوَضَحَتْ لَهُمْ طَرِيقُ النَّجَاةِ , وَسَلَكُوا سَبِيلَ إِخْلَاصِ الْيَقِينِ " (1)
8- أدّى تساؤل المشركين عن وقت قيام الساعة استهزاء إلى كثرة سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، حرصا على جوابهم. ولكن اللّه جلّت حكمته اختص بعلم الساعة ، ولم يطلع أحدا عليها لأن الإنذار والتخويف إنما يتمان إذا لم يكن العلم بوقت قيام القيامة حاصلا ، فلا حاجة إلى الاستفهام عن وقتها بعد العلم باقترابها ، فإن هذا القدر من العلم يكفي في وجوب الاستعداد لها ، بل لا يتم الغرض من التكليف إلا بإخفاء وقتها كالموت.
9- حجب اللّه نبيه عن السؤال عن الساعة ، وأعلمه بأن علمها إلى اللّه وحده ، ووجّهه للعناية والقيام بمهمته الأصلية : وهي الإنذار والتخويف لمن يخشى مقام اللّه لأنهم المنتفعون به ، وإن كان منذرا لكل مكلف ، وهو كقوله تعالى : إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ [يس 36/ 11].
10- كل ما هو في حكم الواقع واقع حتما ، فكأن الكفار والمشركين الذين يتساءلون عن القيامة استهزاء وتهكما واقعون فيها ، قائمون في ساحاتها ، وهم حين يرونها وما فيها من أهوال تشيب لها الولدان ، يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا ، ويقدّرون أنها قدر عشية من ليل أو ضحى من نهار يتبع تلك العشية ، والمراد تقليل مدة الدنيا ، كما قال تعالى : لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ [الأحقاف 46/ 35].
__________
(1) - الْمُعْجَمُ الصَّغِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ (558 )(1/163)
مقاصد السورة الكريمة
(1) إثبات البعث.
(2) مقالة المشركين فى إنكاره والردّ عليهم (3) قصص موسى مع فرعون ، وفيه تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم - .
(4) إقامة البرهان على إثبات البعث.
(5) أهوال يوم القيامة.
(6) الناس فى هذا اليوم فريقان : سعداء وأشقياء بحسب أعمالهم فى الدنيا.
(7) سؤال المشركين عن الساعة وميقاتها.
(8) نهى الرسول عن البحث عنها واشتغاله بأمرها.
(9) ذهول المشركين من شدة الهول عن مقدار ما يلبثوا فى الدنيا. (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 37)(1/164)
سورة عبس
مكيّة. وهي اثنتان وأربعون أية
تسميتها :
سميت سورة (عبس) لافتتاحها بهذا الوصف البشري المعتاد الذي تقتضيه الجبلّة الإنسانية ، ويغلب على الإنسان حينما يكون مشغولا بأمر مهم ، ثم يطرأ عليه أمر آخر لصرفه عن الأمر السابق ، ومع ذلك عوتب النبي - صلى الله عليه وسلم - على عبوسه تساميا لقدره ، وارتفاعا بمنزلته النبوية.
وقال ابن عاشور :
" سميت هذه الصورة في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة ( سورة عبس ) .
وفي أ ( حكام ابن العربي ) عنونها ( سورة ابننِ أم مكتوم ) . ولم أر هذا لغيره . وقال الخفاجي : تسمى ( سورة الصاخّة ) . وقال العيني في ( شرح صحيح البخاري ) تسمى ( سورة السَفَرة ) ، وتسمى سورة ( الأعمى ) ، وكل ذلك تسمية بألفاظ وقعت فيها لم تقع في غيرها من السور أو بصاحب القصة التي كانت سبب نزولها .
ولم يذكرها صاحب ( الإِتقان ) في السور التي لها أكثر من اسم وهو عبس .
وهي مكية بالاتفاق .
وقال في ( العارضة ) : لم يحقق العلماء تعيين النازل بمكة من النازل بالمدينة في الجملة ولا يحقَّقُ وقتُ إسلام ابن أم مكتوم ا هـ . وهو مخالف لاتفاق أهل التفسير على أنها مكية فلا محصل لكلام ابن العربي .
وعدت الرابعة والعشرين في ترتيب نزول السور . نزلت بعد سورة ( والنجم ) وقبل سورة ( القدْر ) .
وعدد آيها عند العادّين من أهل المدينة وأهل مكة وأهل الكوفة اثنتان وأربعون ، وعند أهل البصرة إحدى وأربعون وعند أهل الشام أربعون .
وهي أولى السور من أواسط المفصل .
وسبب نزولها يأتي ذكره عند قوله تعالى : ( عبس وتولى ( ( عبس : 1 ) .
أغراضها
تعليم الله رسوله ( - صلى الله عليه وسلم - ) الموازنة بين مراتب المصالح ووجوبَ الاستقراء لخفياتها كيلا يفيت الاهتمامُ بالمهم منها في بادىء الرأي مُهماً آخر مساوياً في الأهمية أو أرجح . ولذلك يقول علماء أصول الفقه : إن على المجتهد أن يبحث عن معارض الدليل الذي لاح له .
والإِشارة إلى اختلاف الحال بين المشركين المعرضين عن هدي الإِسلام وبين المسلمين المقبلين على تتبع مواقعه .(1/165)
وقرن ذلك بالتذكير بإكرام المؤمنين وسموّ درجتهم عند الله تعالى .
والثناءُ على القرآن وتعليمه لمن رغب في علمه .
وانتقل من ذلك إلى وصف شدة الكفر من صناديد قريش بمكابرة الدعوة التي شغلت النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) عن الالتفات إلى رغبة ابن أم مكتوم .
والاستدلالُ على إثبات البعث وهو مما كان يدعوهم إليه حين حضور ابن أم مكتوم وذلك كان من أعظم ما عني به القرآن من حيث إن إنكار البعث هو الأصل الأصيل في تصميم المشركين على وجوب الإعراض عن دعوة القرآن توهماً منهم بأنه يدعو إلى المحال ، فاستدل عليهم بالخلق الذي خلقه الإِنسان ، واستدل بعده بإخراج النبات والأشجار من أرض ميتة .
وأعقب الاستدلال بالإنذار بحلول الساعة والتحذير من أهوالها وبما يعقبها من ثواب المتقين وعقاب الجاحدين .
والتذكير بنعمة الله على المنكرين عسى أن يشكروه .
والتنويه بضعفاء المؤمنين وعلوِّ قدرهم ووقوع الخير من نفوسهم والخشية ، وأنهم أعظم عند الله من أصحاب الغنى الذين فقدوا طهارة النفس ، وأنهم أحرياء بالتحقير والذم ، وأنهم أصحاب الكفر والفجور . " (1)
مناسبتها لما قبلها :
لهذه السورة تعلق بما قبلها وهي النازعات لأنه تعالى ذكر هناك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منذر من يخشى الساعة ، وهنا ذكر من ينفعه الإنذار ، وهم الذين كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يناجيهم في أمر الإسلام ويدعوهم إليه وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة. كما أن بينهما تشابها في موضوع الحديث عن يوم القيامة وأهوالها ، وإثبات البعث بمخلوقات اللّه في الإنسان والكون ، فهناك وصفت القيامة بقوله تعالى : فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى [34] وهنا وصفت بقوله سبحانه : فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ [33] وهما من أسماء يوم القيامة. وهناك أثبت اللّه البعث بخلق السماء والأرض والجبال ، وهنا أثبته بخلق الإنسان والنبات والطعام.
ما اشتملت عليه السورة :
* سورة عبس من السور المكية ، وهي تتناول شئونا تتعلق بالعقيدة وأمر الرسالة ، كما أنها تتحدث عن دلائل القدرة ، والوحدانية في خلق الإنسان ، والنبات ، والطعام ، وفيها الحديث عن القيامة وأهوالها ، وشدة ذلك اليوم العصيب
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 101)(1/166)
* ابتدأت السورة الكريمة بذكر قصة الأعمى " عبد الله بن أم مكتوم " الذي جاء الى رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله ، ورسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) مشغول مع جماعة من كبراء قريش ، يدعوهم إلى الإسلام ، فعبس ( - صلى الله عليه وسلم - ) في وجهه وأعرض عنه ، فنزل القرآن بالعتاب[ عبس وتولى ، أن جاءه الأعمى ، وما يدريك لعله يزكى ، او يذكر فتنفعه الذكرى ، أما من استغنى ، فأنت له تصدى ] الآيات
* ثم تحدثت عن جحود الإنسان ، وكفره الفاحش بربه مع كثرة نعم الله تعالى عليه [ قتل الإنسان ما أكفره ، من أي شيء خلقه ، من نطفة خلقه فقدره ، ثم السبيل يسره. . . ] الآيات
* ثم تناولت دلائل القدرة في هذا الكون ، حيث يسر الله الإنسان سبل العيش فوق سطح هذه المعمورة [ فلينظر الإنسان الى طعامه أنا صببنا الماء صبا ، ثم شققنا الأرض شقا ، فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا ، وزيتونا ونخلا ] الآيات
* وختمت السورة الكريمة ببيان أهوال القيامة ، وفرار الإنسان من أحبابه من شدة الهول والفزع ، وبينت حال المؤمنين وحال الكافرين في ذلك اليوم العصيب [ فإذا جاءت الصاخة ، يوم يفر المرء من أخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه ، لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه ، وجوه. يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوة يومئذ عليها غبرة ، ترهقها قترة ، أولئك هم الكفرة الفجرة .
قال الله تعالى : [ عبس وتولى أن جاءه الأعمى . . . ] الى قوله [ أولئك هم الكفرة الفجرة ] (من آية 1 الى آية 42 نهاية السورة الكريمة) . (1)
مقصودها شرح ) إنما أنت منذر من يخشاها ) [ النازعات : 45 ] بأن المراد الأعظم تزكية القابل للخشية بالتخويف بالقيامة التي قام الدليل على القدرة عليها بابتداء الخلق من الإنسان ، وبكل من الابتداء والإعادة لطعامه والتعجيب ممن أعرض مع قيام الدليل والإشارة إلى أن الاستغناء والترف أمارة الإعراض وعدم القابلية والتهيؤ للكفر والفجور ، وإلى أن المصائب أمارة للطهارة والإقبال واستكانة القلوب وسمو النفوس لشريف الأ " مال ، فكل من كان فيها أرسخ كان قلبيه أرق وألطف فكان أخشى ، فكان الإقبال عليه أحب وأولى ، واسمها عبس هو الدال على ذلك بتأمل آياته وتدبر فواصله وغاياته ، وكذا الصاخة النافخة بشرها وشررها والباخة ) بسم الله ( الذي له القدرة البالغة والحكمة الباهرة ) الرحمن ( الذي عم بنعمة الإيجاد الظاهرة ثم بآيات البيان الزاهرة ، ا ) الرحيم ( الذي خص أولياءه بأن أتم نعمته عليهم ، فكانت بهم إلى مرضاته سائرة . (2)
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 458)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 323)(1/167)
في السورة عتاب رباني للنبي - صلى الله عليه وسلم - على اهتمامه بزعيم كافر معرض عن الدعوة أكثر من اهتمامه بأعمى مسلم ، وتقرير لمهمة النبوة وتنديد بالإنسان وجحوده وتعداد نعم اللّه عليه. وإنذار بالآخرة وهولها ومصائر الصالحين والمجرمين فيها. ومن المحتمل أن تكون قد نزلت فصلا بعد فصل حتى كملت بدون انفصال ، وعدا فصل العتاب الذي هو الفصل الأول فإن أسلوب باقي آياتها هو تنديد وإنذار عام. (1)
هذه السورة قوية المقاطع ، ضخمة الحقائق ، عميقة اللمسات ، فريدة الصور والظلال والإيحاءات ، موحية الإيقاعات الشعورية والموسيقية على السواء .
يتولى المقطع الأول منها علاج حادث معين من حواث السيرة : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مشغولاً بأمر جماعة من كبراء قريش يدعوهم إلى الإسلام حينما جاءه ابن أم مكتوم الرجل الأعمى الفقير وهو لا يعلم أنه مشغول بأمر القوم يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا وعبس وجهه وأعرض عنه ، فنزل القرآن بصدر هذه السورة يعاتب الرسول - صلى الله عليه وسلم - عتاباً شديداً؛ ويقرر حقيقة القيم في حياة الجماعة المسلمة في أسلوب قوي حاسم ، كما يقرر حقيقة هذه الدعوة وطبيعتها : { عبس وتولى أن جآءه الأعمى . وما يدريك لعله يزكى . أو يذكر فتنفعه الذكرى . أما من استغنى فأنت له تصدى! وما عليك ألا يزكى؟ وأما من جآءك يسعى وهو يخشى ، فأنت عنه تلهى؟! كلا! إنها تذكرة ، فمن شآء ذكره ، في صحف مكرمة ، مرفوعة مطهرة ، بأيدي سفرة ، كرام بررة }. .
ويعالج المقطع الثاني جحود الإنسان وكفره الفاحش لربه ، وهو يذكره بمصدر وجوده ، وأصل نشأته ، وتيسير حياته ، وتولي ربه له في موته ونشره؛ ثم تقصيره بعد ذلك في أمره :
{ قتل الإنسان مآ أكفره! من أي شيء خلقه؟ من نطفة خلقه فقدره ، ثم السبيل يسره ، ثم أماته فأقبره ، ثم إذا شآء أنشره ، كلا! لما يقض مآ أمره } . .
والمقطع الثالث يعالج توجيه القلب البشري إلى أمسّ الأشياء به وهو طعامه وطعام حيوانه . وما وراء ذلك الطعام من تدبير الله وتقديره له ، كتدبيره وتقديره في نشأته :{ فلينظر الإنسان إلى طعامه ، أنا صببنا الماء صباً . ثم شققنا الأرض شقاً ، فأنبتنا فيها حباً ، وعنباً وقضباً ، وزيتوناً ونخلاً ، وحدائق غلباً ، وفاكهة وأبا ، متاعاً لكم ولأنعامكم } . .
فأما المقطع الأخير فيتولى عرض { الصاخة } يوم تجيء بهولها ، الذي يتجلى في لفظها ، كما تتجلى آثارها في القلب البشري الذي يذهل عما عداها؛ وفي الوجوه التي تحدث عما دهاها :{ فإذا جآءت الصآخة . يوم يفر المرء من أخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه ، لكل امرىء
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 121)(1/168)
منهم يومئذ شأن يغنيه ، وجوه يومئذ مسفرة ، ضاحكة مستبشرة ، ووجوه يومئذ عليها غبرة ، ترهقها قترة ، أولئك هم الكفرة الفجرة } . .
إن استعراض مقاطع السورة وآياتها على هذا النحو السريع يسكب في الحس إيقاعات شديدة التأثير . فهي من القوة والعمق بحيث تفعل فعلها في القلب بمجرد لمسها له بذاتها .
وسنحاول أن نكشف عن جوانب من الآماد البعيدة التي تشير إليها بعض مقاطعها مما قد لا تدركه النظرة الأولى . (1)
سبب النزول :
عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : أُنْزِلَتْ : عَبَسَ وَتَوَلَّى فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى ، قَالَتْ : أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَ يَقُولُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَرْشِدْنِي ، قَالَتْ : وَعِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعْرِضُ عَنْهُ وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ ، فقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا فُلَانُ أَتَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا " فَيَقُولُ : لَا ، فَنَزَلَتْ عَبَسَ وَتَوَلَّى " صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ (2)
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : أُنْزِلَتْ عَبْسَ وَتَوَلَّى فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى فَقَالَتْ : أَتَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَ يَقُولُ : أَرْشِدْنِي ، قَالَتْ : وَعِنْدَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ ، قَالَتْ : فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعْرِضُ عَنْهُ وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ وَيَقُولُ : " أَتَرَى مَا أَقُولُ بَأْسًا " فَيَقُولُ : " لَا " فَفِي هَذَا أُنْزِلَتْ عَبَسَ وَتَوَلَّى " الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (3)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ ، قَالَ : دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ، وَهِيَ تَقْطَعُ لَهُ أَنْزَجًا بِعَسَلٍ وَتُطْعِمُهُ ، قَالَ : فَقِيلَ لَهَا ، فَقَالَتْ : " مَا زَالَ تُرادُ هَذَا بِهِ مِنْ آلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُنْذُ عَاتَبَ اللَّهُ فِيهِ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - " شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ (4)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ ، قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهِيَ تُقَطِّعُ لَهُ الْأُتْرُجَّ يَأْكُلُهُ بِعَسَلٍ فَقَالَتْ : " مَا زَالَ هَذَا لَهُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مُنْذُ عَاتَبَ اللَّهُ فِيهِ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - ، وَإِنَّمَا أَرَادَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا نُزُولَ سُورَةِ عَبَسَ وَتَوَلَّى " الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (5)
وعَنْ مَسْرُوقٍ ، قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا رَجُلٌ مَكْفُوفٌ تُقَطِّعُ لَهُ الْأُتْرُجَّ ، وَتُطْعِمُهُ إِيَّاهُ بِالْعَسَلِ ، فَقُلْتُ : مَنْ هَذَا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَتْ : هَذَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الَّذِي عَاتَبَ اللَّهُ فِيهِ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3821)
(2) - صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ (536 ) صحيح
(3) - الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (3857 ) صحيح
(4) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ(7952 ) صحيح
(5) - الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (6746) صحيح لغيره(1/169)
، قَالَتْ : " أَتَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَعِنْدَهُ عُتْبَةُ ، وَشَيْبَةُ ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِمَا فَنَزَلَتْ : عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ " شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ (1)
وعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : أُنْزِلَتْ عَبَسَ وَتَوَلَّى فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ ، قَالَتْ : أَتَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَ يَقُولُ : أَرْشِدْنِي ، قَالَتْ : وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ ، قَالَتْ : فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعْرِضُ عَنْهُ ، وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ ، وَيَقُولُ : " أَتَرَى بِمَا أَقُولُهُ بَأْسًا ؟ " فَيَقُولُ : لَا ؛ فَفِي هَذَا أُنْزِلَتْ : عَبَسَ وَتَوَلَّى " جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَوْلُهُ : عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى قَالَ : بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُنَاجِي عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَالْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَكَانَ يَتَصَدَّى لَهُمْ كَثِيرًا ، وَيَحْرِصُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَعْمَى ، يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ، يَمْشِي وَهُوَ يُنَاجِيهِمْ ، فَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ يَسْتَقْرِئُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ ، وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، عَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَعَبَسَ فِي وَجْهِهِ وَتَوَلَّى ، وَكَرِهَ كَلَامَهُ ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْآخَرِينَ ؛ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَخَذَ يَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ ، أَمْسَكَ اللَّهُ بَعْضَ بَصَرِهِ ، ثُمَّ خَفَقَ بِرَأْسِهِ ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ : عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعُهُ الذِّكْرَى ، فَلَمَّا نَزَلَ فِيهِ أَكْرَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَلَّمَهُ ، وَقَالَ لَهُ : " مَا حَاجَتُكَ ، هَلْ تُرِيدُ مِنْ شَيْءٍ ؟ " وَإِذَا ذَهَبَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لَهُ : " هَلْ لَكَ حَاجَةٌ فِي شَيْءٍ ؟ " وَذَلِكَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ : أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى " جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (3)
وعَنْ هِشَامٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى " جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (4)
وعَنْ قَتَادَةَ ، عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَائِدَةَ وَهُوَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ، وَجَاءَهُ يِسْتَقْرِئُهُ ، وَهُوَ يُنَاجِي أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ ، رَجُلٌ مِنْ عِلْيَةِ قُرَيْشٍ ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ مَا تَسْمَعُونَ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى إِلَى قَوْلِهِ : فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَخْلَفَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ عَلَى الْمَدِينَةِ ، فِي غَزْوَتَيْنِ غَزَاهُمَا يُصَلِّي بِأَهْلِهَا " جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (5)
__________
(1) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ ( 7953) صحيح
(2) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (33669 ) صحيح
(3) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (33670 ) فيه جهالة
(4) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (33671 ) صحيح مرسل
(5) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (33673 ) صحيح مرسل(1/170)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّهُ رَآهُ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ مَعَهُ رَايَةٌ سَوْدَاءُ ، وَعَلَيْهِ دِرْعٌ لَهُ " جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (1)
وعَنْ قَتَادَةَ ، قَالَ : جَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُكَلِّمُ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ : عَبَسَ وَتَوَلَّى فَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ يُكْرِمُهُ " جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (2)
وقَالَ عُبَيْدٌ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ : عَبَسَ وَتَوَلَّى تَصَدَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِرَجُلٍ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ كَثِيرِ الْمَالِ ، وَرَجَا أَنْ يُؤْمِنَ ، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَعْمَى ، يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَكَرِهَهُ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَوَلَّى عَنْهُ ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْغَنِيِّ ، فَوَعَظَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ، فَأَكْرَمَهُ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ مَرَّتَيْنِ ، فِي غَزْوَتَيْنِ غَزَاهُمَا " جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (3)
وقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ ابْنُ زَيْدٍ ، وَسَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ : عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى قَالَ : جَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَقَائِدُهُ يُبْصِرُ ، وَهُوَ لَا يُبْصِرُ ، قَالَ : وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُشِيرُ إِلَى قَائِدِهِ يَكُفُّ ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ يَدْفَعُهُ وَلَا يُبْصِرُ ؛ قَالَ : حَتَّى عَبَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَعَاتَبَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ : عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى إِلَى قَوْلِهِ : فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : كَانَ يُقَالُ : لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَتَمَ مِنَ الْوَحْيِ شَيْئًا ، كَتَمَ هَذَا عَنْ نَفْسِهِ ؛ قَالَ : وَكَانَ يَتَصَدَّى لِهَذَا الشَّرِيفِ فِي جَاهِلِيَّتِهِ ، رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمَ ، وَكَانَ عَنْ هَذَا يَتَلَهَّى " جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (4)
قال ابن العربيّ : أما قول علمائنا إنه الوليد بن المغيرة فقد قال آخرون إنه أمية بن خلف والعباس وهذا كله باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين ، ذلك أن أمية بن خلف والوليد كانا بمكة وابن أمّ مكتوم كان بالمدينة ، ما حضر معهما ولا حضرا معه ، وكان موتهما كافرين ، أحدهما قبل الهجرة ، والآخر ببدر ، ولم يقصد قط أمية المدينة ، ولا حضر عنده مفرداً ، ولا مع أحد .
الثالثة أقبل ابن أمّ مكتوم والنبي - صلى الله عليه وسلم - مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الله تعالى ، وقد قوِي طمعه في إسلامهم ، وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم ، فجاء ابن أمّ مكتوم وهو أعمى فقال : يا رسول الله علمني مما علمك الله ، وجعل يناديه ويكثر النداء ، ولا
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (33674 ) صحيح
(2) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (33675 ) صحيح مرسل
(3) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (33675 ) فيه جهالة وإرسال
(4) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (33678 ) صحيح مرسل(1/171)
يدري أنه مشتغل بغيره ، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقطعة كلامه ، وقال في نفسه : يقول هؤلاء : إنما أتباعه العُميان والسَّفلة والعبيد؛ فعبَس وأعرض عنه ، فنزلت الآية . قال الثَّوريّ : " فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إذا رأى ابن أمّ مكتوم يبسط له رداءه ويقول : «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» . ويقول : «هل من حاجة» " ؟ واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما . قال أنس : فرأيته يوم القادسية راكباً وعليه درع ومعه راية سوداء .
الرابعة قال علماؤنا : ما فعله ابن أمّ مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالماً بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مشغول بغيره ، وأنه يرجو إسلامهم ، ولكن الله تبارك وتعالى عاتبه حتى لا تنكسر قلوب أهل الصُّفَّة؛ أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني ، وكان النظر إلى المؤمن أولى وإن كان فقيراً أصلح وأولى من الأمر الآخر ، وهو الإقبال على الأغنياء طمعاً في إيمانهم ، وإن كان ذلك أيضاً نوعاً من المصلحة ، وعلى هذا يخرج قوله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } [ الأنفال : 67 ] الآية . على ما تقدّم . وقيل : إنما قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - تأليف الرجل ، ثقة بما كان في قلب ابن أمّ مكتوم من الإيمان؛ كما قال : " إني لأصل الرجل وغيره أحب إليّ منه ، مخافة أن يكُبه الله في النار على وجهه " . الخامسة قال ابن زيد : إنما عبس النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن أمّ مكتوم وأعرض عنه؛ لأنه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه ، فدفعه ابن أمّ مكتوم ، وأبى إلا أن يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يعلمه ، فكان في هذا نوعُ جفاء منه . ومع هذا أنزل الله في حقه على نبيه - صلى الله عليه وسلم - : «عبَس وتولَّى» بلفظ الإخبار عن الغائب ، تعظيماً له ولم يقل : عبَستَ وتوليتَ . (1)
ثم علّق أبو حيان على ذلك بقوله : والغلط من القرطبي ، كيف ينفي حضور ابن أم مكتوم معهما ، وهو وهم منه ، وكلهم من قريش ، وكان ابن أم مكتوم منها ، والسورة كلها مكية بالإجماع ، وابن أم مكتوم كان أولا بمكة ، ثم هاجر إلى المدينة ، وكانوا جميعهم بمكة حين نزول هذه الآية ، وابن أم مكتوم ، هو عبد اللّه بن شريح بن مالك بن أبي ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي القرشي ، وأم مكتوم أم أبيه عاتكة ، وهو ابن خال خديجة رضي اللّه عنها (2)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (1 / 5982)
(2) - البحر المحيط : 8/ 427(1/172)
المساواة في الإسلام
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
مناسبتها لما قبلها :
كان مما ختمت به سورة « النازعات » قوله تعالى : « إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها » وكان فى ذلك ما يشير إلى المقام الذي يأخذه النبي من قومه ، الذين لج بهم الضلال والعناد ، وجعلوا همهم المماحكة والمجادلة ، ولقاء النبي بالأسئلة التي لا محصّل لها ولا ثمرة منها .. إنهم لم يؤمنوا بوقوع هذا اليوم ـ يوم القيامة ـ وسؤالهم عن موعد شى ء لا يؤمنون به ولا يصدقون بوجوده ، إنما هو ضلال من ضلالهم.
وجاءت سورة « عبس » مفتتحة بهذا الموقف ، الذي كان بين النبي وبين جماعة من المعاندين الضالين ، الذين طمع النبي فى هدايتهم ، فصرف إليهم وجهه كله ، دون أن يلتفت إلى ذلك الأعمى ، الذي آمن باللّه ، والذي جاءه يطلب مزيدا من النور والهدى ..
وكلّا ، فإنه ليس ذلك من محامل دعوة النبي ، التي رسم اللّه له طريقها فى قوله : « إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها » .. وهؤلاء الضالون المعاندون لا يخشون اللّه ، ولا يؤمنون باليوم الآخر ، ولن يؤمنوا أبدا مهما طال وقوفك معهم ..وكلا : « إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ » (1)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... عَبَسَ ... قطب وجهه الشريف - صلى الله عليه وسلم -
1 ... وَتَوَلَّى ... أعرض
3 ... لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ... يتطهر من الجهل والذنوب
4 ... يَذَّكَّرُ ... يتعظ
4 ... فَتَنْفَعُهُ الذِّكْرَى ... تنفعه الموعظة
5 ... أَمَّا َمن اسْتَغْنَى ... عن الإيمان بالمال والجاه
6 ... لَهُ تَصَدَّى ... تتعرض بالإقبال عليه
8 ... جَاءَكَ يَسْعَى ... جاءك مسرعا ليتعلم
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن للخطيب - (2 / 443)(1/173)
10 ... تَلَهَّى ... تتشاغل
المعنى الإجمالي:
نزلت هذه السورة فى ابن أم مكتوم عمرو بن قيس ابن خال خديجة ، وكان أعمى وهو من المهاجرين الأولين. استخلفه - صلى الله عليه وسلم - على المدينة يصلى بالناس مرارا ، وكان يؤذن بعد بلال.
وكان من حديثه أن أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة ومعه صناديد قريش : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، والعباس بن عبد المطلب ، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة ، يدعوهم للإسلام ، ويذكّرهم بأيام اللّه ، ويحذرهم بطشه وجبروته ، ويعدهم أحسن المثوبة إن أسلموا ، وهو شديد الحرص على أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه ، لأنه يعلم أن سيسلم بإسلامهم خلق كثير ، إذ بيدهم مقادة العرب.
فقال ابن أم مكتوم : يا رسول اللّه أقرئنى وعلمنى مما علمك اللّه ، وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم ، فكره الرسول قطعه لكلامه ، وظهرت فى وجهه الكراهة ، فعبس وأعرض عنه.
وقد عاتب اللّه نبيّه بأن ضعف ذلك الأعمى وفقره لا ينبغى أن يكون باعثا على كراهة كلامه والإعراض عنه ، لأن ذلك يورث انكسار قلوب الفقراء ، وهو مطالب بتأليف قلوبهم كما قال : « وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ » وقال : « وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً » .
ولأنه كان ذكىّ الفؤاد إذا سمع الحكمة وعاها ، فيتطهر بها من أو ضار الآثام ، وتصفو بها نفسه ، أو يذكّر بها ويتعظ فتنفعه العظة فى مستأنف أيامه.
أما أولئك الأغنياء فأكثرهم جحدة أغبياء ، فلا ينبغى التصدي لهم ، طمعا فى إقبالهم على الإسلام ، ليتبعهم غيرهم.
وقوّة الإنسان إنما هى فى ذكاء لبّه ، وحياة قلبه ، وإذعانه للحق متى لا حت له أماراته ، أما المال والنشب ، والحشم والأعوان فهى عوار تجىء وترتحل ، وتفرّ حينا ثم تنتقل.
والخلاصة - إنه سبحانه عاتب نبيه وأمره بأن يقبل على ذى العقل الذكي ، ونهاه أن ينصرف عنه إلى ذى الجاه القوى ، فإن الأول حىّ بطبعه والثاني غائب عن حسّه.
وكان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآيات يكرم ابن أم مكتوم ويقبل عليه ويتفقده ، ويقول له إذا رآه : أهلا بمن عاتبنى فيه ربى ، ويسأله هل لك حاجة ؟ (1)
__________
(1) - تفسير المراغي ، ج 30 ، ص : 39(1/174)
وفي التفسير الواضح :
" روى أن ابن أم مكتوم ، ابن خال خديجة بنت خويلد - وكان أعمى - جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله قراءة القرآن ، وتعليمه مما علمه اللّه ، وكان عند النبي رهط من زعماء قريش كعتبة بن ربيعة ، وأخيه شيبة ، وأبى جهل بن هشام وأمية بن خلف وغيرهم ، والنبي مشغول بدعوتهم إلى الإسلام وبتذكيرهم باللّه وباليوم الآخر ، وكان - صلى الله عليه وسلم - شديد الحرص على إيمان هؤلاء ثقة منه بأن إسلامهم سيجر غيرهم من أتباعهم.
فلما جاء ابن أم مكتوم وناداه قائلا : يا رسول اللّه : أقرئنى القرآن ، وعلمني مما علمك اللّه ، وهو مشغول بمحادثة زعماء الشرك كره ذلك منه النبي وعبس في وجهه وقطب ، وأعرض عنه
فنزلت هذه الآيات تعاتب النبي عتابا رقيقا على تركه الفقير الأعمى الذي جاء يسأل ويزداد علما ونورا ، وعلى توجهه إلى الأغنياء الأقوياء ، وفي هذا كسر لقلوب الفقراء ، فلدفع هذا عوتب الرسول على عبوسه في وجه الفقير الأعمى.
أليس في هذا العتاب الصريح دليل للمنصف على أن هذا الرسول صادق في كل ما يبلغه عن ربه ، وأن هذا القرآن من عند اللّه لا من عنده ؟
عبس النبي وأعرض بوجهه لأن جاءه الأعمى ، وهو ابن أم مكتوم ، جاءه وهو مشغول بمحادثة زعماء الشرك ، فعاتبه اللّه على ذلك قائلا : وما يدريك لعله يتطهر بما يسمعه منك ويتلقاه عنك من الوحى ، نعم أى شيء يعلمك بحال هذا السائل لعله يتطهر أو يتعظ فتنفعه موعظتك ؟
التفت اللّه إلى رسوله الكريم معاتبا لائما قائلا ما معناه : إن ما صدر منك كان على هذا التفصيل : فالذي استغنى عن الإيمان باللّه وعن طاعته وطاعة رسوله ، واستغنى بماله وجاهه عن قبول الحق وعن استماع النصيحة فأنت تتعرض له ، وتشغل نفسك بوعظه ، وأما من جاءك طالبا الهداية خائفا من اللّه ، فأنت عنه تتلهى وتشتغل عنه بسواه ، وهذا عتاب للنبي وإنكار لهذا العمل ، مع أن الرسول ليس عليه إلا البلاغ ، فمن ركب رأسه ، واغتر بدنياه ، وأغفل آخرته ، وظن أنه غنى عن هداية اللّه فليس على الرسول عيب ولا لوم في بقائه على حالته.(1/175)
ثم لما ذكر اللّه هذه الحادثة أعقبها ببيان وظيفة الرسول وعمله وأن هذه الرسالة التي أرسل بها الرسول ليست محتاجة إلى حيلة ولا موعظة ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وعلى ذلك فلست أيها الرسول في حاجة إلى الإلحاح على هؤلاء ليؤمنوا. (1)
التفسير والبيان :
عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى أي قطب النبي - صلى الله عليه وسلم - وجهه ، وأعرض ، لأن جاءه الأعمى وقطع كلامه ، وهو عبد اللّه بن أم مكتوم ، فكره رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن يقطع عليه ابن أم مكتوم كلامه ، فأعرض عنه ، فنزلت.
وعذر ابن أم مكتوم أنه لم يدر بتشاغل النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ؟ أي وما يعلمك ويعرفك يا محمد لعل الأعمى يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح بسبب ما يتعلمه منك ، أو يتذكر فيتعظ بما تعلمه من المواعظ ، فتنفعه الموعظة.
وفي هذا إيماء إلى أن غير الأعمى ممن تصدى لتزكيتهم وتذكيرهم من المشركين لا يرجى منهم الهداية. وفيه تعظيم من اللّه سبحانه لابن أم مكتوم.
وكان هذا التصرف من النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثابة ترك الاحتياط وترك الأفضل ، فلم يكن ذلك ذنبا البتة ، ولا مصادما لمبدأ عصمة الأنبياء ، لصدور الفعل عن أمر تابع للجبلّة الإنسانية كالرضا والغضب والضحك والبكاء ، والتي رفع عنها التكليف في شريعة الإسلام.
وبعد هذا الوصف المؤذن بالعتاب جاء العتاب صريحا في قوله تعالى :
1- أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى أي أما من استغنى بماله وثروته وقوته عما لديك من معارف القرآن والهداية الإلهية ، وعن الإيمان والعلم ، فأنت تقبل عليه بوجهك وحديثك ، وهو يظهر الاستغناء عنك والإعراض عما جئت به.
وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى أي لا بأس ولا شيء عليك في ألا يسلم ولا يهتدي ، ولا يتطهر من الذنوب ، فإنه ليس عليك إلا البلاغ ، فلا تهتم بأمر من كان مثل هؤلاء من الكفار.
2- وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى ، وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي وأما من أتى إليك مسرعا في طلب الهداية والإرشاد إلى الخير ، والعظة بمواعظ اللّه ، وهو يخاف اللّه تعالى ، فأنت تتشاغل عنه وتعرض وتتغافل.
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 823)(1/176)
لذا أمر اللّه تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - ألا يخص بالإنذار أحدا ، بل يساوي فيه بين الشريف والضعيف ، والغني والفقير ، والسادة والعبيد ، والرجال والنساء ، والصغار والكبار ، ثم يهدي اللّه تعالى من يشاء إلى صراط مستقيم.
ومضات :
والعلم بالحادثة يدل على أن المراد مجيء خاص وأعمى معهود .
وصيغة الخبر مستعملة في العتاب على الغفلة عن المقصود الذي تضمنه الخبر وهو اقتصار النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) على الاعتناء بالحرص على تبليغ الدعوة إلى من يرجو منه قبولَها مع الذهول عن التأمل فيما يقارن ذلك من تعليم من يرغب في علم الدين ممن آمن ، ولما كان صدور ذلك من الله لنبيه ( - صلى الله عليه وسلم - ) لم يشأ الله أن يفاتحه بما يتبادر منه أنه المقصود بالكلام ، فوجهه إليه على أسلوب الغيبة ليكون أول ما يقرع سمعه باعثاً على أن يترقب المعنيَّ من ضمير الغائب فلا يفاجئه العتاب ، وهذا تلطف من الله برسوله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ليقع العتاب في نفسه مدرجاً وذلك أهون وقعاً ، ونظير هذا قوله : ( عفا اللَّه عنك لم أذنت لهم ( ( التوبة : 43 ) .
قال عياض : قال عون بن عبد الله والسمرقندي : أخبره الله بالعفو قبل أن يخبره بالذنب حتى سكن قلبه ا هـ . فكذلك توجيه العتاب إليه مسنداً إلى ضمير الغائب ثم جيء بضمائر الغيبة فذكر الأعمى تظهر المراد من القصة واتضح المراد من ضمير الغيبة .
ثم جيء بضمائر الخطاب على طريقة الالتفات .
ويظهر أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) رجا من ذلك المجلس أن يُسلموا فيسلم بإسلامهم جمهور قريش أو جميعهم فكان دخول ابن أم مكتوم قطعاً لسلك الحديث وجعل يقول للنبيء ( - صلى الله عليه وسلم - ) يا رسول الله استدنني ، علمني ، أرشدني ، ويناديه ويكثر والإِلحاح فظهرت الكراهية في وجه الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) لعله لقطعه عليه كلامه وخشيته أن يفترق النفر المجتمعون ، وفي رواية الطبري أنه استقرأ النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) آية من القرآن .
والمعنى : انظر فقد يكون تزكِّيهِ مرجواً ، أي إذا أقبلت عليه بالإِرشاد زاد الإِيمان رسوخاً في نفسه وفَعل خيرات كثيرة مما ترشده إليه فزاد تزكية ، فالمراد ب ( يتزكى ) تزكية زائدة على تزكية الإِيمان بالتملّي بفضائل شرائعه ومكارم أخلاقه مما يفيضه هديك عليه ، كما قال النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ( لو أنكم تكونون إذا خرجتم من عندي كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة ) إذ الهدى الذي يزداد به المؤمن رفعة وكمالاً في درجات الإِيمان هو كاهتداء الكافر إلى الإيمان لا سيما إذ الغاية من الاهتداءين واحدة .
والعبرة من هذه الآيات أن الله تعالى زاد نبيئه ( - صلى الله عليه وسلم - ) علماً عظيماً من الحكمة النبوية ، ورفعَ درجة علمه إلى أسمى ما تبلغ إليه عقول الحكماء رعاةِ الأمم ، فنبهه إلى أن في معظم الأحوال(1/177)
أو جميعها نواحيَ صلاح ونفع قد تخفى لقلة اطرادها ، ولا ينبغي ترك استقرائها عند الاشتغال بغيرها ولو ظنه الأهم ، وأنّ ليس الإِصلاح بسلوك طريقة واحدة للتدبير بأخذ قواعد كلية منضبطة تشبهُ قواعد العلوم يطبقها في الحوادث ويغضي عما يعارضها بأن يسرع إلى ترجيح القَويّ على الضعيف مِما فيه صفة الصلاح ، بل شأن مقوّم الأخلاق أن يكون بمثابة الطبيب بالنسبة إلى الطبائع والأمزجة فلا يجعل لجميع الأمزجة علاجاً واحداً بل الأمر يختلف باختلاف الناس . وهذا غور عميق يخاض إليه من ساحل القاعدة الأصولية في باب الاجتهاد القائلة : إن المجتهد إذا لاح له دليل : ( يبحث عن المعارض ) والقاعدة القائلة : ( إن لله تعالى حكماً قبل الاجتهاد نصب عليه أمارة وكلف المجتهد بإصابته فإن أصابه فله أجران وإن أخطأه فله أجر واحد ) .
فإذا كان ذلك مقام المجتهدين من أهل العلم لأنه مستطاعهم فإن غوْره هو اللائق بمرتبة أفضل الرسل ( - صلى الله عليه وسلم - ) فيما لم يرد له فيه وحي ، فبحثُه عن الحكم أوسع مدىً من مدى أبحاث عموم المجتهدين ، وتنقيبه على المعارض أعمق غَوراً من تناوشهم ، لئلا يفوت سيدَ المجتهدين ما فيه من صلاح ولو ضعيفاً ، ما لم يكن إعماله يُبطل ما في غيره من صلاح أقوى لأن اجتهاد الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) في مواضع اجتهاده قائم مقام الوحي فيما لم يُوحَ إليه فيه .
فالتزكية الحق هي المِحْور الذي يدور عليه حال ابن أم مكتوم وحال المشرك من حيث إنها مرغوبة للأول ومزهود فيها من الثاني ، وهي مرمى اجتهاد رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) لتحصيلها للثاني والأمن على قرارها للأول بإقباله على الذي يتجافى عن دعوته ، وإعراضه عن الذي يعلم من حاله أنه متزكَ بالإِيمان .
وفي حاليهما حالان آخران سرُّهما من أسرار الحكمة التي لقنها الله نبيئه ( - صلى الله عليه وسلم - ) وهو يخفى في معتاد نظر النظار فأنبأه الله به ليزيل عنه ستار ظاهر حاليهما ، فإن ظاهر حاليهما قاض بصرف الاهتمام إلى أحدهما وهو المشرك لدعوته إلى الإِيمان حين لاح من لِين نفْسه لسماع القرآن ما أطْمَعَ النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) بأنه قد اقتربَ من الإِيمان فمحَّض توجيه كلامه إليه لأن هدي الناس إلى الإِيمان أعظم غرض بُعث النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) لأجله ، فالاشتغال به يَبْدُو أهمّ وأرجحَ من الاشتغال بمن هو مؤمن خالص ، وذلك ما فعله النبي ( - صلى الله عليه وسلم - )
غير أن وراء ذلك الظاهر حالاً آخر كامناً عَلِمه الله تعالى العالم بالخفيات ولم يوححِ لرسوله ( - صلى الله عليه وسلم - ) التنقيب عليه وهو حال مؤمن هو مظنة الازدياد من الخير ، وحال كافر مصمم على الكفر تؤذن سوابقه بعناده وأنه لا يفيد فيه البرهان شيئاً . وإن عميق التوسم في كلا الحالين قد يكشف للنبيء ( - صلى الله عليه وسلم - ) بإعانة الله رجحانَ حال المؤمن المزداد من الرشد والهدي على حال الكافر الذي لا يغُر ما أظهره من اللين مصانعةً أو حياءً من المكابرة ، فإن كان في إيمان الكافر نفع عظيم(1/178)
عام للأمة بزيادة عددها ونفع خاص لذاته . وفي ازدياد المؤمن من وسائل الخير وتزكية النفس نفع خاص له والرسول راع لآحاد الأمة ولمجموعها ، فهو مخاطب بالحفاظ على مصالح المجموع ومصالح الآحاد بحيث لا يدحض مصالح الآحاد لأجل مصالح المجموع إلا إذا تعذر الجمع بين الصالح العام والصالح الخاص ، بيد أن الكافر صاحبَ هذه القضية تنبىء دخيلتُه بضعف الرجاء في إيمانه لو أطيل التوسم في حاله ، وبذلك تَعطل الانتفاعُ بها عموماً وخصوصاً وتمخض أن لتزكية المؤمن صاحب القضية نفعاً لخاصة نفسه ولا يخلو من عَود تزكية بفائدة على الأمة بازدياد الكاملين من أفرادها .
وقد حصل من هذا إشعار من الله لرسوله ( - صلى الله عليه وسلم - ) بأن الاهتداء صنوف عديدة وله مراتب سامية ، وليس الاهتداء مقتصراً على حصول الإِيمان مراتبَ وميادينَ لسبق همم النفوس لا يُغفل عن تعهدها بالتثبيت والرعي والإِثمار ، وذلك التعهد إعانة على تحصيل زيادة الإِيمان .
وتلك سرائر لا يعلم حقها وفروقها إلا الله تعالى . فعلى الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) وهو خليفة الله في خلقه أن يتوخاها بقدر المستطاع ، فما أوحى الله إليه في شأنه اتبع ما يوحى إليه وما لم ينزل عليه وحي في شأنه فعليه أن يصرف اجتهاده كما أشار إليه قوله تعالى : ( ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول ( ( محمد : 30 ) .
فكان ذلك موقع هذه الوصية المفرغة في قالب المعاتبة للتنبيه إلى الاكتراث بتتبع تلك المراتب وغرس الإِرشاد فيها على ما يرجى من طيب تُربتِهَا ليخرج منها نبات نافع للخاص وللعامة .
والحاصل أن الله تعالى أعلم رسوله ( - صلى الله عليه وسلم - ) أن ذلك المشرك الذي محضه نصحَه لا يُرجى منه صلاح ، وأن ذلك المؤمن الذي استبقى العناية به إلى وقت آخر يزداد صلاحاً تفيد المبادرةُ به ، لأنه في حالة تلهفه على التلقّي من رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) أشد استعداداً منه في حين آخر .
فهذه الحادثة منوال ينسج عليه الاجتهاد النبوي إذا لم يرد له الوحي ليعلم أن من وراء الظواهر خبايا ، وأن القرائن قد تَستُر الحقائق .
وفي ما قررنا ما يعرف به أن مرجع هذه الآية وقضيتها إلى تصرف النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) بالاجتهاد فيما لم يُوحَ إليه فيه ، وأنه ما حاد عن رعاية أصول الاجتهاد قيد أنملة . وهي دليل لما تقرر في أصول الفقه من جواز الاجتهاد للنبيء ( - صلى الله عليه وسلم - ) ووقوعه ، وأنه جرى على قاعدة إعمال أرجح المصلحتين بحسب الظاهر ، لأن السرائر موكولة إلى الله تعالى ، وأن اجتهاده ( - صلى الله عليه وسلم - ) لا يخطىء بحسب ما نصبه الله من الأدلة ، ولكنه قد يخالف ما في علم الله ، وأن الله لا يقر رسوله ( - صلى الله عليه وسلم - ) على ما فيه مخالفة لما أراده الله في نفس الأمر .
ونظير هذه القضية قضية أسرى بدر التي حدثت بعد سنين من نزول هذه الآية والموقف فيهما متماثل .(1/179)
وفي قوله تعالى : ( وما يدريك لعله يزكى ( ( عبس : 3 ) إيماء إلى عذر النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) في تأخيره إرشاد ابن أم مكتوم لما علمت من أنه يستعمل في التنبيه على أمر مغفول عنه ، والمعنى : لعله يزّكى تزكية عظيمة كانت نفسه متهيئة لها ساعتئذ إذ جاء مسترشداً حريصاً ، وهذه حالة خفية .
وكذلك عذره في الحرص على إرشاد المشرك بقوله : ( وما عليك ألا يزكى ( ( عبس : 7 ) إذ كان النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) يخشى تبعة من فوات إيمان المشرك بسبب قطع المحاورة معه والإِقبال على استجابة المؤمن المسترشد .
فإن قال قائل : فلماذا لم يُعلِم الله رسوله ( - صلى الله عليه وسلم - ) من وقت حضور ابن أم مكتوم بما تضمنه هذا التعليم الذي ذكرتم .
قلنا : لأن العلم الذي يحصل عن تبيُّن غفلة ، أو إشعارٍ بخفاء يكون أرسخ في النفس من العلم المسوق عن غير تعطش ولأن وقوع ذلك بعد حصول سببه أشهر بين المسلمين وليحصل للنبيء ( - صلى الله عليه وسلم - ) مزية كِلا المقامين : مقام الاجتهاد ، ومقام الإِفادة .
وحكمة ذلك كله أن يُعلم الله رسوله ( - صلى الله عليه وسلم - ) بهذا المهيع من عليِّ الاجتهاد لتكون نفسه غير غافلة عن مثله وليتأسى به علماء أمته وحكامها وولاة أمورها .
ونظير هذا ما ضَربه الله لموسى عليه السلام من المثَل في ملاقاة الخضر ، وما جرى من المحاورة بينهما ، وقول الخضر لموسى : ( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً ( ( الكهف : 68 ) ثم قوله له : ( ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً ( ( الكهف : 82 ) . وقد سبق مثله في الشرائع السابقة كقوله في قصة نوح : ( يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ( ( هود : 46 ) وقوله لإبراهيم : ( لا ينال عهدي الظالمين ( ( البقرة : 124 ) .
هذا ما لاح لي في تفسير هذه الآيات تأصيلاً وتفصيلاً ، وهو بناء على أساس ما سبق إليه المفسرون من جعلهم مناط العتاب مجموع ما في القصة من الإِعراض عن إرشاد ابن أم مكتوم ، ومن العُبوس له ، والتولّي عنه ، ومن التصدّي القوي لدعوة المشرك والإِقبال عليه .
والأظهر عندي أن مناط العتاب الذي تؤتيه لهجة الآية والذي رُوي عن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ثبوتُه من كثرة ما يقول لابن أم مكتوم : ( مرحباً بمن عاتبني ربي لأجله ) إنما هو عتاب على العُبوس والتولّي ، لا على ما حفّ بذلك من المبادرة بدعوة ، وتأخير إرشاد ، لأن ما سلكه النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) في هذه الحادثة من سبيل الإِرشاد لا يستدعي عتاباً إذ ما سلك إلا سبيل الاجتهاد القويم لأن المقام الذي أقيمت فيه هذه الحادثة تقاضاهُ إرشادَاننِ لا محيص من تقديم أحدهما على الآخر ، هما : إرشاد كافر إلى الإِسلام عساه أن يسلم ، وإرشاد مؤمن إلى شُعَب الإِسلام عساه أن يزداد تزكية .(1/180)
وليس في حال المؤمن ما يفيت إيماناً وليس في تأخير إرشاده على نية التفرغ إليه بعد حين ما يُنَاكِد زيادة صلاحه فإن زيادة صلاحه مستمرة على ممر الأيام .
ومن القواعد المستقرَاةِ من تصاريف الشريعة والشاهدة بها العقول السليمة تقديم درء المفاسد على جلب المصالح ، ونفيُ الضر الأكبر قبل نفي الضر الأصغر ، فلم يسلك النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) إلا مسلك الاجتهاد المأمور به فيما لم يوح إليه فيه . وهو داخل تحت قوله تعالى لعموم الأمة : ( فاتقوا اللَّه ما استطعتم ( ( التغابن : 16 ) وهو القائل : ( إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع . فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما اقتطع له قطعة من نار ) ، وهو القائل : ( أمرت أن أحكم بالظاهر واللَّه يتولى السرائر ) وهو حديث صحيح المعنى وإن كان في إسناده تردد . فلا قِبل له بعلم المغيبات إلا أن يطلعه الله على شيء منها ، فلا يعلم أن هذا المشرك مضمر الكفر والعناد وأن الله يعلم أنه لا يؤمن ولا أن لذلك المؤمن في ذلك صفاءَ نفس وإشراقَ قلب لا يتهيآن له في كل وقت .
وبذلك يستبين أن ما أوحى الله به إلى نبيئه ( - صلى الله عليه وسلم - ) في هذه السورة هو وحي له بأمر كان مغيباً عنه حين أقبل على دعوة المشرك وأرجأ إرشاد المؤمن . وليس في ظاهر حالهما ما يؤذن بباطنه وما أظهرَ اللَّهُ فيها غيْبَ علمه إلا لإِظهار مزية مؤمن راسخ الإِيمان وتسجيل كفر مشرك لا يُرجى منه الإِيمان ، مع ما في ذلك من تذكير النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) بما عَلِمه الله من حسن أدبه مع المؤمنين ورفع شأنهم أمام المشركين . فمناط المعاتبة هو العبوس للمؤمن بحضرة المشرك الذي يَستصغر أمثال ابن أم مكتوم ، فما وقع في خلال هذا العتاب من ذكر حال المؤمن والكافر إنما هو إدماج لأن في الحادثة فرصَةً من التنويه بسمو منزلة المؤمن لانطواء قلبه على أشعة تؤهله لأن يستنير بها ويفيضها على غيره جمعاً بين المعاتبة والتعليم ، على سنن هدي القرآن في المناسبات . (1)
في الآيات عتاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - على ما كان منه من عبوس وانصراف عن الأعمى المسلم المستشعر بخوف اللّه الذي جاءه ساعيا للاستفادة والاستنارة وتصدّ لرجل عنيد مكذب يظهر الاستغناء عن دعوة اللّه ليس مسؤولا عن عدم إسلامه واستجابته.
وقد انتهت بتقرير كون الدعوة إنما هي تذكير للناس لا إلزام فيه ولا إبرام ، فمن شاء الخير تذكّر وانتفع ، ومن لم يشأ فعليه وبال أمره.
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 104)(1/181)
وقد روي أن الآيات نزلت بمناسبة مجيء أعمى مسلم يتفق جمهور المفسرين على أنه ابن أم مكتوم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسأله في بعض شؤون الدين في وقت كان يتحدث فيه مع بعض الزعماء بأمر الدعوة ، وأن الأعمى قد ألحّ في السؤال حتى بدت الكراهية في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - وظل منصرفا معرضا عنه ماضيا في حديثه مع الزعيم الذي روي في رواية أنه عتبة بن ربيعة وفي رواية أنه أبو جهل وفي رواية أنهم كانوا ثلاثة وهم عتبة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب «1» ، وروح الآيات تلهم صحة الرواية إجمالا.
مدى العتاب الرباني للنبي - صلى الله عليه وسلم - وما في آيات سورة عبس الأولى من تلقين ومبادئ
وهذه أول مرة ينزل فيها قرآن فيه عتاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وروح الآيات ومضمونها يلهمان أن العتاب إنما كان على مخالفة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هو الأولى. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان في موقف المجتهد فيما رآه الأولى. والمستغرق في دعوته ونشرها والحريص على النجاح فيها ، وليس في موقف الممتنع عن تعليم الأعمى وتنويره وليس في هذا شيء يناقض العصمة النبوية.
وفي العتاب وأسلوبه ومفهومه وروحه تهذيب رباني عظيم المدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - وفي إعلان النبي - صلى الله عليه وسلم - العتاب يتجلى الصدق النبوي العميق الذي يملك النفس والقلب ويملأهما بالإعظام والإجلال.
وفي الآيات تلقينات ومبادئ أخلاقية واجتماعية وسلوكية جليلة مستمرة المدى ، ففيها إشادة بذوي النيات الحسنة من الناس الذين يسعون وراء الخير والمعرفة صادقي الرغبة في الاستفادة والاستنارة وصالح العمل ، وإيجاب الاهتمام لهم والعناية بهم وتشجيعهم ومساعدتهم مهما كانت طبقتهم ، وترجيحهم على الذين يترفعون عن كلمة الحق والدعوة إليه ويظهرون الغرور والاستغناء مهما علت مراكزهم ، وإيجاب معاملة هؤلاء بالإهمال والاستهانة تأديبا لهم ولأمثالهم ، وفيها تقرير الأفضلية بين الناس لذوي النيات الحسنة والصلات الصادقة في الخير بقطع النظر عما يكونون عليه من فضل أو تأخر في الدرجات الاجتماعية.
وفي الآيتين الأخيرتين خاصة تطمين للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتقرير لمهمته. فمهمته التذكير والدعوة لا الإلزام ، وفيهما توكيد تقرير المشيئة والاختيار للإنسان بعد بيان طريق الهدى والضلال والحق والباطل وتقرير مسؤولية كل امرئ عن عمله ، فمن اهتدى فقد نجى نفسه ومن ضل فقد أهلكها. وهذا كله مما تكرر تقريره في كثير من المناسبات وفي ذلك تلقين جليل مستمر المدى يجب على المسلمين وخاصة أصحاب الدعوات الإصلاحية والاجتماعية والسياسية أن يسيروا على ضوئه في صلاتهم بالناس.
وبعض مفسري الشيعة يروون أن العتاب ليس موجها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا يمكن أن يصدر منه ما يستوجب عتابا. وإنما هو موجه إلى عثمان بن عفان رضي اللّه عنه أو أحد بني أمية من(1/182)
كان حاضرا مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما جاء الأعمى فأظهر تقززه منه . غير أن جمهور المؤولين والرواة على أنه موجه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وفحوى الآيات ينطوي على دلالة تكاد تكون حاسمة على ذلك. والمتبادر أن روايات الشيعة منبثقة من هواهم وبغضهم لعثمان وبني أمية. وهذا ديدنهم في كل مناسبة مماثلة على ما نبهنا عليه في سياق سورة الليل. (1)
قوله تعالى : « عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ».فاعل عبس ضمير غيبة ، يراد به النبىّ ـ صلوات اللّه وسلامه عليه.
والأعمى الذي جاء إلى النبي ، فلم يهشّ له ، هو عبد اللّه بن أم مكتوم الأعمى .. وهو صحابى جليل ، من المهاجرين الأولين.
وفى توجيه الحديث إلى النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ بضمير الغائب ، تكريم له من اللّه سبحانه وتعالى ، وحماية لذاته الشريفة ، من أن يواجه بالعتب واللوم ، وأن تلتفت إليه الأنظار وهو فى تلك الحال التي يكون فيها بموضع اللائمة والعتاب .. فالذى عبس غائب هنا عن محضر هذه المواجهة والعتاب.
ويذكر النبي الكريم من هذا العتاب الرفيق من ربه ، أنه كان فى مواجهه جماعة من عتاة المشركين ، ومن قادة الحملة المسعورة عليه ، وعلى دعوته ، وقد انتهزها النبي فرصة ، لإسماعهم كلمات اللّه ، لعل شعاعات من نورها ، تصافح قلوبهم المظلمة ، فتستضىء بنور الحق ، وتفيء إلى أمر اللّه ، وتتقبل الهدى المهدى إليها .. فإن ذلك لو حدث لانفتح هذا السد الذي يقف حائلا بين الناس ، وبين الإيمان باللّه ، ولدخل الناس فى دين اللّه أفواجا ..
ويذكر النبي أيضا ، من هذا العتاب الرقيق من ربه ، أنه وهو فى مجلسه هذا مع عتاة قومه ، أن هذا الأعمى ، قد ورد عليه ، ولم يكن يعلم من أمر النبىّ ما هو مشغول به ، فجعل يسأل النبي أن يقرئه شيئا من آيات اللّه ، فلم يلتفت إليه النبي ، وهو يسأل ، ويسأل ، حتى ضاق به الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه ، وظهر ذلك على وجهه الشريف ..
« عَبَسَ وَتَوَلَّى »..والعبوس : تقطيب الوجه ، ضيقا ، وضجرا ، والتولّي : الإعراض عن الشيء ، تكرّها له ..
وإذ يذكر النبىّ ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ موقفه هذا ، بعد أن تلقى تلك اللفتة الكريمة الرحيمة من ربه ، ويراجع نفسه عليها ، يلقاه قوله تعالى : « وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ».
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 121)(1/183)
وهنا ينتقل النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ من حال الغيبة إلى حال الحضور ، فبعد أن كان ينظر إلى ذاته من داخل ، وكأنه مع ذات غير ذاته ، إذا هو يرى ذاته ماثلة بين يديه ، وكأنه هو الذي يحاسبها ويراجعها ، وكأنه هو الذي يخاطب نفسه ، ويقول لذاته : « وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى » ! وتبدو الصورة هكذا : الذي عبس وتولى غائب ، ليس هنا فى مجلس النبىّ .. إنه هناك .. بعيد بعيد.!
ثم إن هذا الغائب ، إذ يبسم بعد عبوس ، وإذ يقبل بعد إعراض ، وإذ يكون على الحال التي تتناسب ومقام الخطاب من ربه .. هنا يقبل عليه ربه ـ سبحانه وتعالى ـ مخاطبا معلّما ، ومرشدا ..
فتوجيه الخطاب من اللّه سبحانه ، إلى النبي أولا ، بضمير الغائب ، فيه عتب ، وفيه إعراض ، وخطابه سبحانه إلى النبىّ ثانيا ، بضمير الحاضر ، فيه الرضا بعد العتب ، والإقبال بعد الإعراض ..
وفى قوله تعالى : « وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى » ـ إشارة إلى ما كان يبغى هذا الأعمى من حضوره مجلس النبي ، والإلحاح بسؤاله .. إنه يسأل سؤال من يريد مزيدا من العلم ، ومزيدا من الهدى.
والاستفهام هنا يراد به النفي ، أي ومن أين لك أنت أن تعلم أن هذا الأعمى لا ينتفع بما يسألك عنه ، حتى تعرض عنه ؟ أنت لا تعلم ، وقد كان ينبغى فى تلك الحال أن تجيبه إلى ما سأل ، لعله ينتفع بما يتعلمه ، ولعله يتزكى ، أي يتطهر بما يفاض عليه من علم ، أو لعله يتلقى من حديثك إليه ما يقيم له عظة تنفعه ، وتزيد فى إيمانه ..
قوله تعالى : « أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى ، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ، وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ».
هنا تفصيل لمجمل هذا الحدث ، الذي جاء من أجله هذا العتاب .. أي كان موقفك هنا أيها النبي معدولا به عن الطريق الذي ينبغى أن يكون عليه ..
وإليك بيان هذا الموقف :أما من استغنى عنك ، وزهد فيما فى يديك من علم وهدى ، « فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى » أي تتعرض له ، وتمسك به ، وتشده إليك! وإنك لتعلم أنه ما عليك إلا البلاغ ، وأنه ليس من همك أن تحمل الناس حملا على الإيمان ، فإنه لا عليك من لوم ، إذا لم يؤمن ، ولم يتطهر بالإيمان ، من إذا دعوته ، وبلغته رسالة ربك ـ فلم يستجب إليك .. هذه حال دعاك الحرص فيها على هداية الناس ، إلى أن جاوزت حدود الخط المرسوم لدعوتك ..
هذا من جهة .. ومن جهة أخرى ، فإنك وقفت موقفا مخالفا لموقفك الأول ، فبينما أنت تقبل على من أعرض عنك ، وزهد فيما معك ، إذا أنت تعرض عمن أقبل عليك ، ورغب فيما بين(1/184)
يديك من نور اللّه!! « أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى . فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى. وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى . وَهُوَ يَخْشى . فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ».
أليس ذلك كذلك ؟ ألم يكن هذا موقفك ؟
وكلّا .. إن الأمر ليس على هذا الوجه .. كما سنبين لك.
وفى قوله تعالى : « جاءك يسعى » إشارة إلى الرغبة المنبعثة من صدر هذا الأعمى ، والتي تدفعه دفعا إلى أن يحثّ الخطا ، وأن يسعى إلى النبي فى انطلاق وشوق ، مع أنه قى قيد العمى والعجز.
وقوله تعالى : « وهو يخشى » حال أخرى ، من فاعل : « جاءك » أي تلك حال هذا الأعمى ، إنه جاءك ساعيا إليك ، خاشيا للّه ..
وقوله تعالى : « فأنت عنه تلهى ».. إشارة إلى أن ما كان فيه النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ من حديث مع هؤلاء المشركين المعاندين من قومه ، وأنه حديث لا محصّل له ، ولا ثمرة من ورائه ، إذ كان القوم معرضين عنه ، متكرهين له .. فكأنه إنما يتلهى بهذا الحديث ، الذي لا يجىء بثمر .. وإن كان ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ جادّا فى هذا الحديث كل الجد ، مقبلا عليه كل الإقبال ، ولكنه إنما يضرب فى حديد بارد ، أشبه بمن يريد أن بستنبت الزرع فى الصخر الصلد .. فمن رآه على تلك الحال لم يقع فى نفسه إلا أنه يتلهى بما يعمل .. (1)
تنبيهات :
الأول : قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآيات حث على الترحيب بالفقراء والإقبال عليهم في مجلس العلم وقضاء حوائجهم ، وعدم إيثار الأغنياء عليهم . وقال الزمخشري : لقد تأدب الناس بأدب الله في هذا تأدباً حسناً . فقد روي عن سفيان الثوريّ رحمه الله أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراءَ .
الثاني : في هذه الآيات ونحوها دليل على عدم ضنِّه - صلى الله عليه وسلم - بالغيب . قال ابن زيد : كان يقال : لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتم من الوحي شيئاً ، كتم هذا عن نفسه .
الثالث : قال الرازي : القائلون بصدور الذنب عن الأنبياء عليهم السلام تمسكوا بهذه الآية ، وقالوا : لمّا عاتبه الله في ذلك الفعل دل على أن ذلك الفعل كان معصية . وهذا بعيد فإنا قد بينا أن ذلك كان هو الواجب المتعين ، إلا بحسب هذا الاعتبار الواحد ، وهو أنه يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء . وذلك غير لائق بصلابة الرسول عليه السلام ، وإذا كان كذلك ، كان ذلك جارياً مجرى ترك الاحتياط وترك الأفضل ؛ فلم يكن ذلك ذنباً البتة .
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1447)(1/185)
وأجاب الإمام ابن حزم في " الفِصَل " بقوله : وأما قوله : {عَبَسَ وَتَوَلَّى } الآيات ، فإنه كان عليه السلام قد جلس إليه عظيم من عظماء قريش ، ورجا إسلامه . وعلم عليه السلام أنه لو أسلم لأسلم بإسلامه ناسٌ كثير وأظهرَ الدين ، وعلم أن هذا الأعمى الذي يسأله عن أشياء من أمور الدين لا يفوته ، وهو حاضر معه ؛ فاشتغل عنه - عليه السلام- بما خاف فوته من عظيم الخير عما لا يخاف فوته ، وهذا غاية النظر في الدِّين والاجتهاد في نُصرة القرآن في ظاهر الأمر ونهاية التقرب إلى الله ، الذي لو فعله اليوم منا فاعل لأُجر ؛ فعاتبه الله عز وجل على ذلك إذ كان الأولى عند الله تعالى أن يُقبل على ذلك الأعمى الفاضل البَر التقي ، وهذا نفس ما قلناه . انتهى .
وقال القاشاني : كان - صلى الله عليه وسلم - في حِجر تربية ربِّه ، لكونه حبيباً ، فكما ظهرت نفسه بصفة حجبت عنه نور الحق ، عوتب وأدب كما قال : < أدَّبني ربِّي فأحسَن تأديبي > إلى أن تخلق بأخلاقه تعالى . انتهى . (1)
إن هذا التوجيه الذي نزل بشأن هذا الحادث هو أمر عظيم جداً . أعظم بكثير مما يبدو لأول وهلة . إنه معجزة ، هو والحقيقة التي أراد إقرارها في الأرض ، والآثار التي ترتبت على إقرارها بالفعل في حياة البشرية . ولعلها هي معجزة الإسلام الأولى ، ومعجزته الكبرى كذلك . ولكن هذا التوجيه يرد هكذا تعقيباً على حادث فردي على طريقة القرآن الإلهية في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة فرصة لتقرير الحقيقة المطلقة والمنهج المطرد .
وإلا فإن الحقيقة التي استهدف هذا التوجيه تقريرها هنا والآثار الواقعية التي ترتبت بالفعل على تقريرها في حياة الأمة المسلمة ، هي الإسلام في صميمه . وهي الحقيقة التي أراد الإسلام وكل رسالة سماوية قبله غرسها في الأرض .
هذه الحقيقة ليست هي مجرد : كيف يعامل فرد من الناس؟ أو كيف يعامل صنف من الناس؟ كما هو المعنى القريب للحادث وللتعقيب . إنما هي أبعد من هذا جداً ، وأعظم من هذا جداً . إنها : كيف يزن الناس كل أمور الحياة؟ ومن أين يستمدون القيم التي يزنون بها ويقدرون؟
والحقيقة التي استهدف هذا التوجيه إقرارها هي : أن يستمد الناس في الأرض قيمهم وموازينهم من اعتبارات سماوية إلهية بحتة ، آتية لهم من السماء ، غير مقيدة بملابسات أرضهم ، ولا بموضوعات حياتهم ، ولا نابعة من تصوراتهم المقيدة بهذه المواضعات وتلك الملابسات .
وهو أمر عظيم جداً ، كما أنه أمر عسير جداً . عسير أن يعيش الناس في الأرض بقيم وموازين آتية من السماء . مطلقة من اعتبارات الأرض . متحررة من ضغط هذه الاعتبارات .
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 138)(1/186)
ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك ضخامة الواقع البشري ، وثقله على المشاعر ، وضغطه على النفوس ، وصعوبة التخلي عن الملابسات والضغوط الناشئة من الحياة الواقعية للناس ، المنبثقة من أحوال معاشهم ، وارتباطات حياتهم ، وموروثات بيئتهم ، ورواسب تاريخهم ، وسائر الظروف الأخرى التي تشدهم إلى الأرض شداً ، وتزيد من ضغط موازينها وقيمها وتصوراتها على النفوس .
كذلك ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك أن نفس محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - قد احتاجت كي تبلغه إلى هذا التوجيه من ربه؛ بل إلى هذا العتاب الشديد ، الذي يبلغ حد التعجيب من تصرفه!
وإنه ليكفي لتصوير عظمة أي أمر في هذا الوجود أن يقال فيه : إن نفس محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - قد احتاجت كي تبلغه إلى تنبيه وتوجيه!
نعم يكفي هذا . فإن عظمة هذه النفس وسموها ورفعتها ، تجعل الأمر الذي يحتاج منها كي تبلغه إلى تنبيه وتوجيه أمراً أكبر من العظمة ، وأرفع من الرفعة! وهذه هي حقيقة هذا الأمر ، الذي استهدف التوجيه الإلهي إقراره في الأرض ، بمناسبة هذا الحادث المفرد .
. أن يستمد الناس قيمهم وموازينهم من السماء ، طلقاء من قيم الأرض وموازينها المنبثقة من واقعهم كله . . وهذا هو الأمر العظيم . .
إن الميزان الذي أنزله الله للناس مع الرسل ، ليقوّموا به القيم كلها ، هو { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } هذه هي القيمة الوحيدة التي يرجح بها وزن الناس أو يشيل! وهي قيمة سماوية بحتة ، لا علاقة لها بمواضعات الأرض وملابساتها إطلاقاً . .
ولكن الناس يعيشون في الأرض ، ويرتبطون فيما بينهم بارتباطات شتى؛ كلها ذات وزن وذات ثقل وذات جاذبية في حياتهم . وهم يتعاملون بقيم أخرى . . فيها النسب ، وفيها القوة ، وفيها المال ، وفيها ما ينشأ عن توزيع هذه القيم من ارتباطات عملية . . اقتصادية وغير اقتصادية . . تتفاوت فيها أوضاع الناس بعضهم بالنسبة لبعض . فيصبح بعضهم أرجح من بعض في موازين الأرض . .
ثم يجيء الإسلام ليقول : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فيضرب صفحاً عن كل تلك القيم الثقيلة الوزن في حياة الناس ، العنيفة الضغط على مشاعرهم ، الشديدة الجاذبية إلى الأرض . ويبدل من هذا كله تلك القيمة الجديدة المستمدة مباشرة من السماء ، المعترف بها وحدها في ميزان السماء!
ثم يجيء هذا الحادث لتقرير هذه القيمة في مناسب واقعية محددة . وليقرر معها المبدأ الأساسي : وهو أن الميزان ميزان السماء ، والقيمة قيمة السماء . وأن على الأمة المسلمة أن تدع كل ما(1/187)
تعارف عليه الناس ، وكل ما ينبثق من علاقات الأرض من قيم وتصورات وموازين واعتبارات ، لتستمد القيم من السماء وحدها وتزنها بميزان السماء وحده!
ويجيء الرجل الأعمى الفقير . . ابن أم مكتوم . . إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مشغول بأمر النفر من سادة قريش . عتبة وشيبة ابني ربيعة ، وأبي جهل عمرو بن هشام ، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة ، ومعهم العباس بن عبد المطلب . . والرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى الإسلام؛ ويرجو بإسلامهم خيراً للإسلام في عسرته وشدته التي كان فيها بمكة؛ وهؤلاء النفر يقفون في طريقه بمالهم وجاههم وقوتهم؛ ويصدون الناس عنه ، ويكيدون له كيداً شديداً حتى ليجمدوه في مكة تجميداً ظاهراً . بينما يقف الآخرون خارج مكة ، لا يقبلون على الدعوة التي يقف لها أقرب الناس إلى صاحبها ، وأشدهم عصبية له ، في بيئة جاهلية قبلية ، تجعل لموقف القبيلة كل قيمة وكل اعتبار .
يجيء هذا الرجل الأعمى الفقير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مشغول بأمر هؤلاء النفر . لا لنفسه ولا لمصلحته ، ولكن للإسلام ولمصلحة الإسلام . فلو أسلم هؤلاء لانزاحت العقبات العنيفة والأشواك الحادة من طريق الدعوة في مكة؛ ولانساح بعد ذلك الإسلام فيما حولها ، بعد إسلام هؤلاء الصناديد الكبار ..
يجيء هذا الرجل ، فيقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله . . ويكرر هذا وهو يعلم تشاغل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما هو فيه من الأمر . فيكره الرسول قطعه لكلامه واهتمامه . وتظهر الكراهية في وجهه الذي لا يراه الرجل فيعبس ويعرض . يعرض عن الرجل المفرد الفقير الذي يعطله عن الأمر الخطير . الأمر الذي يرجو من ورائه لدعوته ولدينه الشيء الكثير؛ والذي تدفعه إليه رغبته في نصرة دينة ، وإخلاصه لأمر دعوته ، وحبه لمصلحة الإسلام ، وحرصه على انتشاره!
وهنا تتدخل السماء . تتدخل لتقول كلمة الفصل في هذا الأمر؛ ولتضع معالم الطريق كله ، ولتقرر الميزان الذي توزن فيه القيم بغض النظر عن جميع الملابسات والاعتبارات . بما في ذلك اعتبار مصلحة الدعوة كما يراها البشر . بل كما يراها سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - .
وهنا يجيء العتاب من الله العلي الأعلى لنبيه الكريم ، صاحب الخلق العظيم ، في أسلوب عنيف شديد . وللمرة الوحيدة في القرآن كله يقال للرسول الحبيب القريب : { كلا! } وهي كلمة ردع وزجر في الخطاب! ذلك أنه الأمر العظيم الذي يقوم عليه هذا الدين!
والأسلوب الذي تولى به القرآن هذا العتاب الإلهي أسلوب فريد ، لا تمكن ترجمته في لغة الكتابة البشرية . فلغة الكتابة لها قيود وأوضاع وتقاليد ، تغض من حرارة هذه الموحيات في صورتها الحية المباشرة . وينفرد الأسلوب القرآني بالقدرة على عرضها في هذه الصورة في(1/188)
لمسات سريعة . وفي عبارات متقطعة . وفي تعبيرات كأنها انفعالات ، ونبرات وسمات ولمحات حية!
{ عبس وتولى . أن جاءه الأعمى } . . بصيغة الحكاية عن أحد آخر غائب غير المخاطب! وفي هذا الأسلوب إيحاء بأن الأمر موضوع الحديث من الكراهة عند الله بحيث لا يحب سبحانه أن يواجه به نبيه وحبيبه ، عطفاً عليه ، ورحمة به ، وإكراماً له عن المواجهة بهذا الأمر الكريه!
ثم يستدير التعبير بعد مواراة الفعل الذي نشأ عنه العتاب يستدير إلى العتاب في صيغة الخطاب . فيبدأ هادئاً شيئاً ما : { وما يدريك لعله يزكى؟ أو يذكر فتنفعه الذكرى؟ } . . ما يدريك أن يتحقق هذا الخير الكبير . أن يتطهر هذا الرجل الأعمى الفقير الذي جاءك راغباً فيما عندك من الخير وأن يتيقظ قلبه فيتذكر فتنفعه الذكرى . ما يدريك أن يشرق هذا القلب بقبس من نور الله ، فيستحيل منارة في الأرض تستقبل نور السماء؟ الأمر الذي يتحقق كلما تفتح قلب للهدى وتمت حقيقة الإيمان فيه . وهو الأمر العظيم الثقيل في ميزان الله . .
ثم تعلو نبرة العتاب وتشتد لهجته؛ وينتقل إلى التعجيب من ذلك الفعل محل العتاب : { أما من استغنى ، فأنت له تصدى؟! وما عليك ألا يزكى؟! وأما من جاءك يسعى وهو يخشى ، فأنت عنه تلهى؟! } .
. أما من أظهر الاستغناء عنك وعن دينك وعما عندك من الهدى والخير والنور والطهارة . . أما هذا فأنت تتصدى له وتحفل أمره ، وتجهد لهدايته ، وتتعرض له وهو عنك معرض! { وما عليك ألا يزكى؟ } . . وما يضيرك أن يظل في رجسه ودنسه؟ وأنت لا تسأل عن ذنبه . وأنت لا تُنصر به . وأنت لا تقوم بأمره . . { وأما من جاءك يسعى } طائعاً مختاراً ، { وهو يخشى } ويتوقى { فأنت عنه تلهى! } . . ويسمي الانشغال عن الرجل المؤمن الراغب في الخير التقي تلهياً . . وهو وصف شديد . .
ثم ترتفع نبرة العتاب حتى لتبلغ حد الردع والزجر : { كلا! } . . لا يكن ذلك أبداً . . وهو خطاب يسترعي النظر في هذا المقام . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- بيان مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه أشرف مقام وأسماه .
2- الآية عتاب من اللّه تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في إعراضه وتوليه عن عبد اللّه بن أم مكتوم ، حتى لا تنكسر قلوب الفقراء ، وليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3822)(1/189)
وفى توجيه الحديث إلى النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ بضمير الغائب ، تكريم له من اللّه سبحانه وتعالى ، وحماية لذاته الشريفة ، من أن يواجه بالعتب واللوم ، وأن تلتفت إليه الأنظار وهو فى تلك الحال التي يكون فيها بموضع اللائمة والعتاب .. فالذى عبس غائب هنا عن محضر هذه المواجهة والعتاب.
ويذكر النبي الكريم من هذا العتاب الرفيق من ربه ، أنه كان فى مواجهه جماعة من عتاة المشركين ، ومن قادة الحملة المسعورة عليه ، وعلى دعوته ، وقد انتهزها النبي فرصة ، لإسماعهم كلمات اللّه ، لعل شعاعات من نورها ، تصافح قلوبهم المظلمة ، فتستضى ء بنور الحق ، وتفي ء إلى أمر اللّه ، وتتقبل الهدى المهدى إليها .. فإن ذلك لو حدث لانفتح هذا السد الذي يقف حائلا بين الناس ، وبين الإيمان باللّه ، ولدخل الناس فى دين اللّه أفواجا ..
ويذكر النبي أيضا ، من هذا العتاب الرقيق من ربه ، أنه وهو فى مجلسه هذا مع عتاة قومه ، أن هذا الأعمى ، قد ورد عليه ، ولم يكن يعلم من أمر النبىّ ما هو مشغول به ، فجعل يسأل النبي أن يقرئه شيئا من آيات اللّه ، فلم يلتفت إليه النبي ، وهو يسأل ، ويسأل ، حتى ضاق به الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه ، وظهر ذلك على وجهه الشريف .. (1)
3- بالرغم من أن ابن أم مكتوم كان يستحق التأديب والزجر لأنه أبى إلا أن يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يعلّمه ، فكان في هذا نوع جفاء منه ، بالرغم من هذا عاتب اللّه تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - لأن الأهم مقدم على المهم. ويستحق التأديب أيضا لأنه كان قد أسلم وتعلّم ما كان يحتاج إليه من أمر الدين. أما أولئك الكفار فما كانوا قد أسلموا ، وإسلامهم سبب لإسلام جمع عظيم.
4- إثبات ما جاء في الخبر أدبني ربي فأحسن تأديبي فقد دلت الآيات عليه .
5- عذر ابن أم مكتوم : أنه لم يكن عالما بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مشغول بغيره ، وأنه يرجو إسلامهم.
6- بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتأديب ربّه له مستوى لم يبلغه سواه .
7- استحالة كتمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - لشيء من الوحي فقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لو كان للرسول أن يكتم شيئا من وحي الله لكتم عتاب الله تعالى له في عبس وتولى .
8- الآية دليل واضح على وجوب المساواة في الإسلام في شأن الإنذار وتبليغ الدعوة دون تمييز بين فقير وغني. ونظير هذه الآية في العتاب قوله تعالى : وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام 6/ 52] وقوله سبحانه : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ ، تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا ، وَاتَّبَعَ هَواهُ ، وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف 18/ 28].
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ، ج 16 ، ص : 1448(1/190)
9- أراد اللّه توفير جهد نبيه - صلى الله عليه وسلم - في دعوة رؤساء قريش إلى الإسلام ، وهم في الحقيقة لن يؤمنوا ، وكفاهم ما بلّغهم به من دعوته إلى التوحيد ، ونبذ عبادة الأوثان ، وليس عليه بأس بعدئذ في ألا يهتدوا ولا يؤمنوا ، فإنما هو رسول ، ما عليه إلا البلاغ ، ولا يصح أن يكون الحرص على إسلامهم مؤديا إلى الإعراض عمن أسلم ، للاشتغال بدعوة من لم يسلم.
- - - - - - - - - - -(1/191)
القرآن موعظة وتذكرة ونعم اللّه في نفس الإنسان
قال تعالى :
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)
أسباب نزول الآية 17 :
عَنْ قَتَادَةَ ، وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى قَالَ : قَالَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي لَهَبٍ : كَفَرْتُ بِرَبِّ النَّجْمِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَمَا تَخَافُ أَنْ يَأْكُلَكَ كَلْبُ اللَّهِ " قَالَ : فَخَرَجَ فِي تِجَارَةٍ إِلَى الْيَمَنِ ، فَبَيْنَمَا هُمْ قَدْ عَرَّسُوا ، إِذْ سَمِعَ صَوْتَ الْأَسَدِ ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : إِنِّي مَأْكُولٌ ، فَأَحْدَقُوا بِهِ ، وَضُرِبَ عَلَى أَصْمِخَتِهِمْ فَنَامُوا ، فَجَاءَ حَتَّى أَخَذَهُ ، فَمَا سَمِعُوا إِلَّا صَوْتُهُ " جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ. (1)
المناسبة :
بعد عتاب اللّه لنبيه على عبوسه في وجه عبد اللّه بن أم مكتوم بسبب انشغاله مع رؤساء قريش ، سرّى اللّه عنه بقوله : كَلَّا أي لا تفعل مثل ذلك ، وعرّفه بأن الهداية لا تحتاج لجهود ومحاولات كثيرة ، وأن هذا التأديب الذي أوحى إليه به كان لإجلال الفقراء وعدم الالتفات إلى أهل الدنيا ، وهذا القرآن مجرد تذكرة لتنبيه الغافلين ، فمن رغب فيها ، اتعظ بها وحفظها وعمل بموجبها ، وهي مودعة في صحف شريفة القدر.
وبعد بيان حال القرآن وأنه كتاب الذكرى والموعظة ، ذمّ اللّه الإنسان ووبخه على كفران نعم ربه ، وتكبره وتعاظمه عن قبول هداية اللّه له ، وأنه استحق أعظم أنواع العقاب لأجل ارتكابه أعظم أنواع القبائح.
المفردات :
11 ... كَلاَّ ... لا تعد لمثل هذا
12 ... إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ... آيات القرآن موعظة للخلق
13 ... مُكَرَّمَةٍ ... معظمة موقرة
14 ... مَرْفُوعَةٍ ... عالية القدر
14 ... مُطَهَّرَةٍ ... من الدنس ومن الزيادة والنقص
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (29964 ) صحيح مرسل(1/192)
15 ... بَأَيْدِي سَفْرَةٍ ... الملائكة
16 ... كِرَامٍ ... خلقهم كريم حسن شريف
16 ... بَرَرَةٍ ... أفعالهم طاهرة مطيعين
17 ... قُتِلَ الإِنْسَانُ ... لعن الإنسان الكافر
17 ... مَا أَكْفَرَهُ ... ما أشد كفره ، أو ما حمله على الكفر ؟
19 ... فَقَدَّرَهُ ... أطوارا ، وقدر رزقه وأجله وعمله
20 ... ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ... يسر خروجه من بطن أمه
21 ... فَأَقْبَرَهُ ... جعله ممن يقبر لا ممن يلقى على وجه الأرض كالبهائم
22 ... أَنْشَرَهُ ... أحياه بعد موته
23 ... لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ... لم يؤد ما عليه من الفرائض
المعنى الإجمالي:
بعد أن ذكر سبحانه حادث ابن أم مكتوم وعتبه على رسوله فيما كان منه معه ، أردف ذلك ببيان أن الهداية التي يسوقها اللّه إلى البشر على ألسنة رسله ، ليست من الأمور التي يحتال لتقريرها فى النفوس وتثبيتها فى القلوب ، وإنما هى تذكرة يقصد بها تنبيه الغافل إلى ما جبل الخلق عليه من معرفة توحيده فمن أعرض عن ذلك فإنه معاند يقاوم ما يدعوه إليه حسه ، وتنازعه إليه نفسه.فما عليك إلا أن تبلغ ما عرفت عن ربك ، لتذكر به الناس ، وتنبه الغافل ، أما أن تحابى القوىّ المعاند ، ظنا منك أن مداجاته ترده عن عناده ، فذلك ليس من شأنك ، « فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى » .
وهذه الهداية أودعها سبحانه فى الصحف الإلهية الشريفة القدر ، المطهرة من النقائص والعيوب ، وأنزلها على الناس بوساطة ملائكته الكرام البررة.
وبعد أن بين حال القرآن وذكر أنه كتاب الذكرى والموعظة ، وأن فى استطاعة كل أحد أن ينتفع بعظاته لو أراد - أردف هذا ببيان أنه لا يسوغ للإنسان مهما كثر ماله ، ونبه شأنه ، أن يتكبر ويتعاظم ويعطى نفسه ما تهواه ، ولا يفكر فى منتهاه ، ولا فيمن أنعم عليه بنعمة الخلق والإيجاد ، وصوّره فى أحسن الصور ، فى أطوار مختلفة ، وأشكال متعددة ، ثم لا يلبث إلا قليلا على ظهر البسيطة حتى يعود إلى التراب كما كان ، ويوضع فى لحده ، إلى أمد قدره اللّه فى علمه ، ثم يبعثه من قبره ، ويحاسبه على ما عمل فى الدار الأولى ، ويستوفى جزاءه إن خيرا وإن شرا ، لكنه ما أكفره بنعمة ربه ، وما أبعده عن اتباع أوامره ، واجتناب نواهيه! (1)
__________
(1) - تفسير المراغي - (1 / 5394)(1/193)
كلا .. إنها - آيات القرآن - تذكير ووعظ ، لمن غفل عن اللّه فمن شاء ذكره واتعظ به فليفعل ، ومن لم ينفعه وعظه فقد جنى على نفسه.
ثم إن اللّه تعالى وصف هذه التذكرة بأوصاف تدل على عظم شأنها ، فقال : إنها مودعة وثابتة في صحف عالية مكرمة مشرفة ، مرفوعة مطهرة عن النقص والعيب ، لا تشوبها شائبة خلل في أية ناحية من النواحي ، وقد أتت بأيدى ملائكة سفرة بين اللّه وبين الخلق ، وهم كرام على اللّه بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء 26] وأبرار وأطهار ، لا يعصون اللّه ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون.
فهذا هو حال القرآن جاء تذكرة وموعظة ، وكان بالمنزلة العالية المرفوعة المطهرة وجاء على أيدى ملائكة أمناء كرام بررة ، فهل يعقل بعد هذا أن يكفر به عاقل ؟! (1)
قتل الإنسان! ما أشد كفره! وما أفظعه! أفلا ينظر إلى نفسه من أى شيء خلق ؟
إنه خلق من نطفة قذرة ، ثم كان خلقا سويا قد قدره اللّه وهيأه ليقوم بما يكلف به ، وليؤدى رسالته في عمارة الكون ثم قد هداه اللّه إلى الخير والشر بما أودع فيه من عقل وغرائز ، وبما أرسل له من رسل وكتب ، ألا ترى أن اللّه هداه السبيلين ، ثم بعد ذلك أماته فجعل له قبرا يواريه ، ثم إذا شاء بعد ذلك أحياه للحساب ، فانظر إلى مبدئك ومنتهاك.
كلا أيها الإنسان : ارتدع عما أنت فيه ، وثب إلى رشدك وارجع إلى ربك فأنت لم تقض ما أمر به ربك ، ولم تعرف ما طلب منك.
إذا كان الأمر كذلك فلينظر الإنسان إلى طعامه كيف يكون ؟ ألم يروا أن اللّه أنزل من السماء ماء وصبه على الأرض صبا ، ثم شق الأرض بالنبات ، وأحياها بالزرع والخضروات ، فأنبت منها قمحا وشعيرا ، وعنبا وفاكهة ، وبقولا وزيتونا ونخلا ،
وحدائق ملتفة الأغصان كثيفة ، كل هذا لكم ولأنعامكم!!! (2)
التفسير والبيان :
كَلَّا ، إِنَّها تَذْكِرَةٌ أي لا تفعل مثل فعلك مع ابن أم مكتوم ، من الإعراض عن الفقير ، والتصدي للغني مع كونه ليس ممن يتزكى ، وإن هذه الآيات أو السورة أو القرآن موعظة ، جدير بك وبأمتك أن تتعظ بها وتعمل بموجبها.
وفي الآية تعظيم شأن القرآن ، فسواء قبله الكفرة أم لا ، فلا يؤبه بهم ، ولا يلتفت إليهم.
ثم وصف تلك التذكرة بأمرين :
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 824)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 825)(1/194)
1- فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أي إن هذه تذكرة بيّنة ظاهرة ، مقدور على فهمها والاتعاظ بها والعمل بموجبها ، فمن رغب فيها اتعظ بها ، وحفظها ، وعمل بموجبها.
2- فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ، كِرامٍ بَرَرَةٍ أي إنها تذكرة مثبتة مودعة كائنة في صحف مكرمة عند اللّه ، لما فيها من العلم والحكمة ، ولنزولها من اللوح المحفوظ ، رفيعة القدر عند اللّه ، منزّهة لا يمسّها إلا المطهرون ، مصانة عن الشياطين والكفار ، لا ينالونها ، ومنزّهة عن النقص والضلالات ، محمولة بأيدي ملائكة سفرة وسائط يسفرون بالوحي بين اللّه ورسله لتبليغها للناس ، من السفارة : وهي السعي بين القوم.
وهم كرام على ربهم ، كرام عن المعاصي ، أتقياء مطيعون لربهم ، صادقون في إيمانهم ، أي إن اللّه تعالى وصف الملائكة بصفات ثلاث : هي كونهم سفراء ينزلون بالوحي بين اللّه وبين رسله ، وكرام على ربهم ، ومطيعون للّه ، كما قال تعالى : بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء 21/ 26] وقال : لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم 66/ 6].
قال ابن جرير الطبري : والصحيح أن السفرة : الملائكة ، والسفرة يعني بين اللّه تعالى وبين خلقه ، ومنه يقال : السفير : الذي يسعى بين الناس في الصلح والخير.
فعَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ ، عَنْ عَائِشَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ ، وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ ، وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَانِ " صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ (1)
ثم ذم اللّه تعالى من أنكر البعث والنشور من الناس بقوله : قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ أي لعن الإنسان الكافر أو قتل أو عذب ما أشد كفره ؟ ! وهذا دعاء عليه بأشنع الدعوات ، وتعجب من إفراطه في الكفر ، ودليل على سخط عظيم وذم بليغ ، يدل على قبح حاله ، وبلوغه حدا من العتو والكبر لا يستحق معه الحياة. وهذا جار على أسلوب العرب عند التعجب من شيء ، فيقال : قاتله اللّه ما أفصحه ؟ ! والمراد بالكلام الملائم في حقه تعالى هنا : إرادة إيصال العقاب الشديد للكافر.
ثم ذكّره بخلقه من الشيء الحقير ، وأنه قادر على إعادته كما بدأه ، فقال تعالى : مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ؟ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ أي من أي شيء مهين حقير ، خلق اللّه هذا الكافر بربّه ؟ فلا ينبغي له التكبر عن الطاعة ، إنه تعالى خلقه من ماء مهين ، وقدّره أطوارا وأحوالا ، وسوّاه وهيّأه لمصالح نفسه ، وأتمّ خلقه وأكمله بأعضائه الملائمة لحاجاته مدة حياته ، وزوّده بطاقات
__________
(1) - صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ(4671 ) جامع الحديث(1/195)
العقل والفكر والفهم ، والقوى والحواس للاستفادة من نعم اللّه تعالى ، فلا يستعملها فيما يغضب اللّه ، وإنما عليه استعمالها في رضوان اللّه.
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ إما كناية عن خروجه بسهولة من فرج أمه ، وإما أنه تعالى يسر له الطريق إلى تحصيل الخير أو الشر ، كما قال تعالى : وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد 90/ 10] أي بيّنا له طريق الخير وطريق الشر ، وقال سبحانه : إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ، إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الدهر 76/ 3].
ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ، ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أي أنه بعد خلقه له وتمكينه من الحياة قبض روحه ، وجعله في قبر يوارى فيه إكراما له ، ولم يجعله ملقى على وجه الأرض تأكله السباع والطير ، ثم إذا شاء اللّه إنشاره أحياه بعد موته ، أو بعثه بعد موته ، في الوقت الذي يريده اللّه تعالى. ومنه يقال : البعث والنشور.
والإماتة ستر للعيوب بعد الهرم أو المرض ، والإقبار تكرمة حيث لم يلق للطير والسباع ، والإنشار أي البعث عدل وفضل. ثم لامه على تقصيره ، وأكد كفره بالنعم ، فقال : كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ أي هذا ردع وزجر للإنسان عما هو عليه ، فلم يخل إنسان من تقصير قط ، فبعض الناس أخل بالكفر ، وبعضهم بالعصيان ، وبعضهم بارتكاب خلاف الأولى والأفضل لما يليق بمنزلته ، وما قضى ما أمره اللّه إلا القليل. والآية تدل على العجب من حال الإنسان ، فإنه قد ينكر خالقه بعد قيام الأدلة على وجوده في نفسه وفي السموات والأرض ، وقد يجحد نعمة ربه ، فلا يقابلها بالحمد والشكر وعرفان الجميل ، وينسبها إلى نفسه ، وقد يعصي اللّه بالرغم من وجود أدلة الهداية والرشد ، وإدراكه مخاطر العصيان.
ومضات :
جاءت هذه الآيات معقبة على الآيات السابقة وبخاصة على الآيتين الأخيرتين منها ، فقد تضمنت الآية [9] كلمة تذكرة فجاءت الآيات لتبين ماهية هذه التذكرة وتنوه بها فهي صحف مكرمة مطهرة رفيعة القدر يبلغها سفراء كرام على اللّه بررة أمناء مخلصون للّه عز وجل فيما يقومون به من مهمة السفارة بينه وبين أنبيائه.
وواضح أن تعبير الصحف على التأويل المتقدم الذي عليه الجمهور هو هنا تعبير مجازي لأن الوحي الرباني لم يكن يحمل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا مكتوبا في صحف وإنما كان يلقى ما يحمله من وحي رباني عليه إلقاء. ولعل في التعبير تلقينا بوجوب تدوين ما يلقيه الوحي في الصحف أو إشارة إلى مصيره إلى ذلك.
والمأثور المتواتر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بتدوين ما كان ينزل به الوحي من فصول القرآن في صحف في حين نزوله «3» حيث يكون قد لمح ذلك التلقين وعمل به.(1/196)
وفي الآيات تلقين مستمر المدى بما يجب للمدونات القرآنية من التكريم والطهارة وحرمة الشأن والرفعة.
هذا ، ولما كان الملك الرباني الذي كان يتصل بالنبي ويبلغه القرآن واحدا وهو جبريل في آية سورة البقرة هذه : قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) والروح الأمين في آيات الشعراء هذه : نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وروح القدس في آية سورة النحل هذه : قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102).
فالمتبادر أن صيغة الجمع لكلمة سفرة وأوصاف السفرة هي بقصد تعظيم شأن ملك اللّه جريا على أسلوب التخاطب البشري عامة والعربي خاصة. (1)
قوله تعالى : « كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ »..أي ليس الأمر كما تصورته أنت أيها النبىّ ، ولا على الموقف الذي وقفته هنا ..
« إِنَّها تَذْكِرَةٌ » أي إن دعوتك ، هى تذكرة للناس ، وتنبيه للغافل ، وحسب ..
وليس لك أن تذهب إلى أبعد من هذا .. فمع كل إنسان عقله الذي يهديه ، ومع كل إنسان فطرته التي من شأنها أن تدعوه إلى الحق والخير ، وتصرفه عن الضلال والشر ..
إن رسالة الرسل ليست إلا إيقاظا لهذا العقل إذا غفل ، وإلا تذكيرا لهذه الفطرة إذا نسيت .. وإنه ليكفى لهذا أن يؤذّن مؤذّن الحقّ فى الناس ، فمن شاء أجاب ، ومن شاء أعرض!.
والضمير فى « ذكره » وهو الهاء ، يعود إلى اللّه سبحانه وتعالى ، فمن شاء ذكر ربه بهذه التذكرة التي جاءته من آيات اللّه ، التي يتلوها عليه رسول اللّه ..
قوله تعالى : « فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ، كِرامٍ بَرَرَةٍ ».أي هذه التذكرة ـ وهى آيات اللّه ـ هى فى صحف مكرمة عند اللّه ، وهى صحف مطهرة فى مقام عال لا يرقى إليها فيه دنس .. والصحف المكرمة المطهرة ، صحف اللوح المحفوظ ..
قوله تعالى : « مرفوعة » أي عالية القدر ، مطهرة من كل نقص أو عيب ..
وقوله تعالى : « بأيدى سفرة » أي أنها محمولة من اللوح المحفوظ إلى رسل اللّه بأيدى ملائكة ، يسفرون بها بين اللّه سبحانه وتعالى ، وبين رسله ، فهم سفراء اللّه إلى الرسل ..
والبررة ، جمع بارّ ، وهو التقىّ النقي ، المبرأ من الدنس والرجس ..
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 124)(1/197)
هذا ، وفى هذه الآيات التي ووجه فيها النبىّ ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ بهذا العتاب الرحيم الرفيق من ربه ـ ما نود أن نقف عنده :
فأولا : أن قدر الإنسان ومنزلته ، هى فيما فى عقله من بصيرة ، وما فى قلبه من استعداد لتقّبل الخير والإقبال عليه .. وأن رجلا فقيرا أعمى يحمل مثل هذا العقل وذلك القلب ، ليرجح ميزانه المئات والألوف من الذين عميت بصائرهم ، وزاغت قلوبهم ، ولو كانوا فى الناس سادة ، وقادة ، بمالهم ، وجاههم وسلطانهم ..روى أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حين تألف من تألف من قادة قريش وزعمائها مما أفاء اللّه عليه من أموال هوازن ، مثل عيينة بن حصن ، وأبى سفيان ، ومعاوية ، والأقرع بن حابس وغيرهم ـ سأله بعض أصحابه فى شأن جعيل بن سراقة ، وأنه من فقراء المسلمين ، ومن أهل البلاء فيهم ..
فقال صلوات اللّه وسلامه عليه :« أما والذي نفسى بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع « 1 » الأرض مثل عيينة والأقرع ، ولكن تألفتهما ليسلما ، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه »..
وثانيا : أن هؤلاء المشركين من قريش ، لا يرى فيهم الإسلام شيئا يحرص عليه ، ويشتدّ طلبه له ، وأن أي مسلم من الجماعة التي دخلت فى دين اللّه ، وآمنت به ، وصدق إيمانها ، هو ـ فى ميزان الإسلام شىء ـ عظيم ، وأن بشاشة النبىّ فى وجهه لا يحرمه منها طمع فى إسلام هؤلاء المشركين الذين ما زالوا فى قبضة الشرك .. فالأمر هنا موازنة بين مؤمن ، تحقّق إيمانه ، وبين مشركين مطموع فى إيمانهم .. ومع هذا فإن سبقه إلى الإيمان ـ وبصرف النظر عن تقبّل هؤلاء المشركين للإيمان أو إعراضهم عنه ـ يجعل كفّته راجحة عليهم أبدا ، ولن يلحقوا به حتى ولو وقع الإيمان فى قلوبهم مثل ما وقع فى قلبه ، ففضل السبق إلى الإيمان ، منزلة لا يبلغها إلا أهل السبق .. (1)
ثم يبين حقيقة هذه الدعوة وكرامتها وعظمتها ورفعتها ، واستغناءها عن كل أحد . وعن كل سند . وعنايتها فقط بمن يريدها لذاتها ، كائناً ما كان وضعه ووزنه في موازين الدنيا : { إنها تذكرة . فمن شاء ذكره . في صحف مكرمة . مرفوعه مطهرة . بأيدي سفرة . كرام بررة } . . فهي كريمة في كل اعتبار . كريمة في صحفها ، المرفوعة المطهرة الموكل بها السفراء من الملأ الأعلى ينقلونها إلى المختارين في الأرض ليبلغوها . وهم كذلك كرام بررة . . فهي كريمة طاهرة في كل ما يتعلق بها ، وما يمسها من قريب أو من بعيد . وهي عزيزة لا يُتصدى بها للمعرضين الذين يظهرون الاستغناء عنها؛ فهي فقط لمن يعرف كرامتها ويطلب التطهر بها
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1451)(1/198)
هذا هو الميزان . ميزان الله . الميزان الذي توزن به القيم والاعتبارات ، ويقدر به الناس والأوضاع . . وهذه هي الكلمة . كلمة الله . الكلمة التي ينتهي إليها كل قول ، وكل حكم ، وكل فصل .
وأين هذا؟ ومتى؟ في مكة ، والدعوة مطاردة ، والمسلمون قلة . والتصدي للكبراء لا ينبعث من مصلحة ذاتية؛ والانشغال عن الأعمى الفقير لا ينبعث من اعتبار شخصي . إنما هي الدعوة أولاً وأخيراً . ولكن الدعوة إنما هي هذا الميزان ، وإنما هي هذه القيم ، وقد جاءت لتقرر هذا الميزان وهذه القيم في حياة البشر . فهي لا تعز ولا تقوى ولا تنصر إلا بإقرار هذا الميزان وهذه القيم . .
ثم إن الأمر كما تقدم أعظم وأشمل من هذا الحادث المفرد ، ومن موضوعه المباشر . إنما هو أن يتلقى الناس الموازين والقيم من السماء لا من الأرض ، ومن الاعتبارات السماوية لا من الاعتبارات الأرضية . . { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } والأكرم عند الله هو الذي يستحق الرعاية والاهتمام والاحتفال ، ولو تجرد من كل المقومات والاعتبارات الأخرى ، التي يتعارف عليها الناس تحت ضغط واقعهم الأرضي ومواضعاتهم الأرضية . النسب والقوة والمال . . وسائر القيم الأخرى ، لا وزن لها حين تتعرى عن الإيمان والتقوى . والحالة الوحيدة التي يصح لها فيها وزن واعتبار هي حالة ما إذا أنففت لحساب الإيمان والتقوى .
هذه هي الحقيقة الكبيرة التي استهدف التوجيه الإلهي إقرارها في هذه المناسبة ، على طريقة القرآن في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة ، وسيلة لإقرار الحقيقة المطلقة والمنهج المطرد .
ولقد انفعلت نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهذا التوجيه ، ولذلك العتاب . انفعلت بقوة وحرارة ، واندفعت إلى إقرار هذه الحقيقة في حياته كلها ، وفي حياة الجماعة المسلمة . بوصفها هي حقيقة الإسلام الأولى .
وكانت الحركة الأولى له - صلى الله عليه وسلم - هي إعلان ما نزل له من التوجيه والعتاب في الحادث .وهذا الإعلان أمر عظيم رائع حقاً . أمر لا يقوى عليه إلا رسول ، من أي جانب نظرنا إليه في حينه.
نعم لا يقوى إلا رسول على أن يعلن للناس أنه عوتب هذا العتاب الشديد ، بهذه الصورة الفريدة في خطأ أتاه! وكان يكفي لأي عظيم غير الرسول أن يعرف هذا الخطأ وأن يتلافاه في المستقبل . ولكنها النبوة . أمر آخر . وآفاق أخرى!
لا يقوى إلا رسول على أن يقذف بهذا الأمر هكذا في وجوه كبراء قريش في مثل تلك الظروف التي كانت فيها الدعوة ، مع أمثال هؤلاء المستعزين بنسبهم وجاههم ومالهم وقوتهم ، في بيئة لا(1/199)
مكان فيها لغير هذه الاعتبارات ، إلى حد أن يقال فيها عن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم! } وهذا نسبه فيهم ، لمجرد أنه هو شخصياً لم تكن له رياسة فيهم قبل الرسالة!
ثم إنه لا يكون مثل هذا الأمر في مثل هذه البيئة إلا من وحي السماء . فما يمكن أن ينبثق هذا من الأرض . . ومن هذه الأرض بذاتها في ذلك الزمان!!
وهي قوة السماء التي دفعت مثل هذا الأمر في طريقه؛ فإذا هو ينفذ من خلال نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى البيئة من حوله؛ فيتقرر فيها بعمق وقوة واندفاع ،يطرد به أزماناً طويلة في حياة الأمة المسلمة.
لقد كان ميلاداً جديداً للبشرية كميلاد الإنسان في طبيعته . وأعظم منه خطراً في قيمته . . أن ينطلق الإنسان حقيقة شعوراً وواقعاً من كل القيم المتعارف عليها في الأرض ، إلى قيم أخرى تتنزل له من السماء منفصلة منعزلة عن كل ما في الأرض من قيم وموازين وتصورات واعتبارات وملابسات عملية ، وارتباطات واقعية ذات ضغط وثقل ، ووشائج متلبسة باللحم والدم والأعصاب والمشاعر . ثم أن تصبح القيم الجديدة مفهومة من الجميع ، مسلماً بها من الجميع . وأن يستحيل الأمر العظيم الذي احتاجت نفس محمد - صلى الله عليه وسلم - كي تبلغه إلى التنبيه والتوجيه ، أن يستحيل هذا الأمر العظيم بديهية الضمير المسلم ، وشريعة المجتمع المسلم ، وحقيقة الحياة الأولى في المجتمع الإسلامي لآماد طويلة في حياة المسلمين .
إننا لا نكاد ندرك حقيقة ذلك الميلاد الجديد . لأننا لا نتمثل في ضمائرنا حقيقة هذا الانطلاق من كل ما تنشئه أوضاع الأرض وارتباطاتها من قيم وموازين واعتبارات ساحقة الثقل إلى الحد الذي يخيل لبعض أصحاب المذاهب « التقدمية! » أن جانباً واحداً منها هو الأوضاع الاقتصادية هو الذي يقرر مصائر الناس وعقائدهم وفنونهم وآدابهم وقوانينهم وعرفهم وتصورهم للحياة! كما يقول أصحاب مذهب التفسير المادي للتاريخ في ضيق أفق ، وفي جهالة طاغية بحقائق النفس وحقائق الحياة!
إنها المعجزة . معجزة الميلاد الجديد للإنسان على يد الإسلام في ذلك الزمان . .
ومنذ ذلك الميلاد سادت القيم التي صاحبت ذلك الحادث الكوني العظيم . . ولكن المسألة لم تكن هينة ولا يسيرة في البيئة العربية ، ولا في المسلمين أنفسهم . . غير أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد استطاع بإرادة الله ، وبتصرفاته هو وتوجيهاته المنبعثة من حرارة انفعاله بالتوجيه القرآني الثابت أن يزرع هذه الحقيقة في الضمائر وفي الحياة؛ وأن يحرسها ويرعاها ، حتى تتأصل جذورها وتمتد فروعها ، وتظلل حياة الجماعة المسلمة قروناً طويلة . . على الرغم من جميع عوامل الانتكاس الأخرى . .(1/200)
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا الحادث يهش لابن أم مكتوم ويرعاه؛ ويقول له كلما لقيه : « أهلاً بمن عاتبني فيه ربي » وقد استخلفه مرتين بعد الهجرة على المدينة . .
ولكي يحطم موازين البيئة وقيمها المنبثقة من اعتبار الأرض ومواضعاتها ، زوج بنت خالته زينب بنت جحش الأسدية ، لمولاه زيد بن حارثة . ومسألة الزواج والمصاهرة مسألة حساسة شديدة الحساسية . وفي البيئة العربية بصفة خاصة .
وقبل ذلك حينما آخى بين المسلمين في أول الهجرة ، جعل عمه حمزة ومولاه زيداً أخوين . وجعل خالد ابن رويحة الخثعمي وبلال بن رباح أخوين!
وبعث زيداً أميراً في غزوة مؤته ، وجعله الأمير الأول ، يليه جعفر بن أبي طالب ، ثم عبد الله بن رواحه الأنصاري ، على ثلاثة آلاف من المهاجرين والأنصار ، فيهم خالد بن الوليد .
وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه يشيعهم . . وهي الغزوة التي استشهد فيها الثلاثة رضي الله عنهم .
وكان آخر عمل من أعماله - صلى الله عليه وسلم - أن أمَّر أسامة بن زيد على جيش لغزو الروم ، يضم كثرة من المهاجرين والأنصار ، فيهم أبو بكر وعمر وزيراه ، وصاحباه ، والخليفتان بعده بإجمال المسلمين . وفيهم سعد بن أبي وقاص قريبه - صلى الله عليه وسلم - ومن أسبق قريش إلى الإسلام .
وقد تململ بعض الناس من إمارة أسامة وهو حدث . وفي ذلك روي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ بَعَثَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْثًا ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ ، فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِى إِمَارَتِهِ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنْ تَطْعُنُوا فِى إِمَارَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعُنُونَ فِى إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ ، وَايْمُ اللَّهِ ، إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلإِمَارَةِ ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ بَعْدَهُ » (1) ..
ولما لغطت ألسنة بشأن سلمان الفارسي ، وتحدثوا عن الفارسية والعربية ، بحكم إيحاءات القومية الضيقة ، ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضربته الحاسمة في هذا الأمر، فعَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَّ الْخَنْدَقَ عَامَ حَرْبِ الأَحْزَابِ حَتَّى بَلَغَ الْمَذَاحِجَ ، فَقَطَعَ لِكُلِّ عَشَرَةٍ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا فَاحْتَجَّ الْمُهَاجِرُونَ سَلْمَانُ مِنَّا ، وَقَالَتِ الأَنْصَارُ : سَلْمَانُ مِنَّا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ " (2) فتجاوز به بقيم السماء وميزانها كل أفاق النسب الذي يستعزون به ، وكل حدود القومية الضيقة التي يتحمسون لها . . وجعلة من أهل البيت رأساً!
َعنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: عَيَّرَ أَبُو ذَرٍّ بِلَالًا بِأُمِّهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ، وَإِنَّ بِلَالًا أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ فَغَضِبَ، فَجَاءَ أَبُو ذَرٍّ وَلَمْ يَشْعُرْ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز -(3730 )
(2) - المستدرك للحاكم (6541) حسن لغيره(1/201)
وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا أَعْرَضَكَ عَنِّي إِلَّا شَيْءٌ بَلَغَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " أَنْتَ الَّذِي تُعَيِّرُ بِلَالًا بِأُمِّهِ ؟ " قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُحَمَّدٍ - أَوْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَحْلِفَ - مَا لِأَحَدٍ عَلَيَّ فَضْلٌ إِلَّا بِعَمَلٍ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا كَطَفِّ الصَّاعِ " (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا , مُؤْمِنٌ تَقِيُّ , أَوْ فَاجِرٌ شَقِيُّ , أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ , وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ , لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ , أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْجُعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتْنَ " (2)
وعن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ أَنْسَابَكُمْ هَذِهِ لَيْسَتْ بِمَسَابٍ عَلَى أَحَدٍ , إِنَّمَا أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ , طَفَّ الصَّاعِ لَمْ تَمْلَئُوهُ , لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إِلَّا بِدِينٍ أَوْ عَمَلٍ صَالِحٍ , بِحَسْبِ الرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا بَذِيئًا بَخِيلًا جَبَانًا " (3)
ففرق في الأمر إلى جذوره البعيدة . . إما إسلام فهي قيم السماء وموازين السماء . وإما جاهلية فهي قيم الأرض وموازين الأرض!
ووصلت الكلمة النبوية بحرارتها إلى قلب أبي ذر الحساس؛ فانفعل لها أشد الانفعال ، ووضع جبهته على الأرض يقسم ألا يرفعها حتى يطأها بلال . تكفيراً عن قولته الكبيرة!
وكان الميزان الذي ارتفع به بلال هو ميزان السماء . . عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِبِلاَلٍ عِنْدَ صَلاَةِ الْغَدَاةِ « يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِى بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ عِنْدَكَ فِى الإِسْلاَمِ مَنْفَعَةً فَإِنِّى سَمِعْتُ اللَّيْلَةَ خَشْفَ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَىَّ فِى الْجَنَّةِ ». قَالَ بِلاَلٌ مَا عَمِلْتُ عَمَلاً
__________
(1) - شعب الإيمان - (7 / 131) (4772 ) حسن
(2) - شرح مشكل الآثار - (9 / 81) (3458 ) صحيح
فَرَدَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَخْرَ الَّذِي لِبَنِي آدَمَ مِمَّا يَكُونُ بَعْضُهُمْ أَعْلَى بِهِ عَلَى بَعْضٍ إِلَى التَّقِيِّ الَّذِي يَكُونُ فِي مُؤْمِنِهِمْ , فَيَكُونُ بِذَلِكَ أَعْلَى مِنْ فَاجِرِهِمُ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ بِفُجُورِهِ الشَّقَاءُ , وَكَانَ قَوْلُهُ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ عِنْدَ ذَلِكَ " طَفَّ الصَّاعُ " مِنْ هَذَا الْمَعْنَى ; لِأَنَّ طَفَّ الصَّاعُ الْمُرَادُ بِهِ التَّقْصِيرُ عَنْ مِلْءِ الصَّاعِ , وَالتَّسَاوِي فِيهِ , وَجَمْعِهِ لِلنَّاسِ جَمِيعًا , وَتَبَايُنِهِمْ فِي ذَلِكَ بِمَا بَايَنَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِمْ فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي رَفَعَ بِهَا الدَّرَجَاتِ لِأَهْلِهَا , وَجَعَلَهُمْ بِذَلِكَ بِخِلَافِ أَضْدَادِهِمْ مِمَّنْ مَعَهُ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ , وَالِاخْتِيَارَاتُ الْقَبِيحَةُ , وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ مِمَّا حَدَّثَ بِهِ عَنْهُ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ حَدِيثٌ زَائِدٌ عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِّينَاهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذَا الْبَابِ .
(3) - شرح مشكل الآثار - (9 / 82) (3459 ) صحيح
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكَانَ الطَّفُّ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ هُوَ النُّقْصَانُ , وَمِنْهُ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ } [المطففين: 1] أَيِ: الْمُنْقِصِينَ فِي الْكَيْلِ , فَمِنْ ذَلِكَ انْتِقَاصُ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَخَا أَخِيهِ لِأُمِّهِ , بِمَا انْتَقَصَهُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ ابْنُ أَمَةٍ , حَتَّى خَاطَبَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِهِ بِمَا خَاطَبَهُ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَا . وَقَدْ حَدَّثَنَا وَلَّادٌ النَّحْوِيُّ عَنِ الْمَصَادِرِيِّ , عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: " الْمُطَفِّفُ: الَّذِي لَا يُوَفِّي عَلَى النَّاسِ مِنَ النَّاسِ " فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِهِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ الَّذِي أَجَازَهُ لَنَا عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: الطَّفُّ: أَنْ يَقْرُبَ الْإِنَاءُ مِنَ الِامْتِلَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْتَلِئَ , يُقَالَ: هَذَا طَفُّ الْمِكْيَالِ , وَطِفَافُهُ إِذَا كَرَبَ أَنْ يَمْلَأَهَ , وَمِنْهُ التَّطْفِيفُ فِي الْكَيْلِ , إِنَّمَا هُوَ نُقْصَانُهُ . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ نِهَايَةُ الشَّرَفِ بَعْدَ ذَلِكَ الَّذِي يَتَفَاضَلُ فِيهِ أَهْلُ الْأَعْمَالِ الْمَحْمُودَةِ وَالِاخْتِيَارَاتِ الْعَالِيَةِ تَفَاضُلُهُمْ فِي ذَلِكَ بِأَمَاكِنِهِمْ مَعَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ بِخَيْرِ خَلْقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَفْوَتِهِ مِنْ عِبَادِهِ , وَاخْتِيَارِهِ لِرِسَالَتِهِ وَالتَّبْلِيغِ عَنْهُ , فَيَكُونُ مَعَهُ بِاكْتِسَابِهِ لِنَفْسِهِ الْأُمُورَ الْمَحْمُودَةَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ مَعَهُ مِثْلُ ذَلِكَ , لِلْمَوْضِعِ الَّذِي وَصَفَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ , وَأَثَابَهُ بِهِ عَنْ مَنْ سِوَاهُ مِنْ ذَوِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ , وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا " , وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ بِأَسَانِيدِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَّا فِي كِتَابِنَا هَذَا , وَفِي ذَلِكَ مَا قَدْ عُقِلَ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُلُوُّ مَرْتَبَةِ الْفِقْهِ , وَجَلَالَةِ مَقَادِيرِ أَهْلِهِ , وَعُلُوِّهِمْ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْهُ , وَاللهَ عَزَّ وَجَلَّ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ .(1/202)
فِى الإِسْلاَمِ أَرْجَى عِنْدِى مَنْفَعَةً مِنْ أَنِّى لاَ أَتَطَهَّرُ طُهُورًا تَامًّا فِى سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ وَلاَ نَهَارٍ إِلاَّ صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كَتَبَ اللَّهُ لِى أَنْ أُصَلِّىَ. (1) .
وعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مُلِئَ عَمَّارٌ إِيمَانًا إِلَى مُشَاشِهِ ».. (2)
وعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « إِنِّى لاَ أَدْرِى مَا قَدْرُ بَقَائِى فِيكُمْ فَاقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِى وَأَشَارَ إِلَى أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ وَاهْتَدُوا بِهَدْىِ عَمَّارٍ وَمَا حَدَّثَكُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ فَصَدِّقُوهُ » (3) . .
وكان ابن مسعود يحسبه الغريب عن المدينة من أهل بيت رسول الله . . فعَنْ أَبِى إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِى الأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِىَّ - رضى الله عنه - يَقُولُ قَدِمْتُ أَنَا وَأَخِى مِنَ الْيَمَنِ ، فَمَكُثْنَا حِينًا مَا نُرَى إِلاَّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ، لِمَا نَرَى مِنْ دُخُولِهِ وَدُخُولِ أُمِّهِ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - (4)
وجليبيب وهو رجل من الموالي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب له بنفسه ليزوجه امرأة من الأنصار . فلما تأبى أبواها قالت هي : أتريدون أن تردوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه . فرضيا وزوجاها ، فعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: خَطَبَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى جُلَيْبِيبٍ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى أَبِيهَا، فَقَالَ: حَتَّى أَسْتَأْمِرَ أُمَّهَا، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم -: فَنَعَمْ إِذًا، قَالَ: فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا، فَقَالَتْ: لاَهَا اللَّهُ إِذًا مَا وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلاَّ جُلَيْبِيبًا، وَقَدْ مَنَعْنَاهَا مِنْ فُلانٍ وَفُلانٍ، قَالَ: وَالْجَارِيَةُ فِى سِتْرِهَا تَسْتَمِعُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يُخْبِرَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ، فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَرُدُّوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمْرَهُ إِنْ كَانَ قَدْ رَضِيَهُ لَكُمْ فَأَنْكِحُوهُ؟ فَكَأَنَّهَا جَلَّتْ عَنْ أَبَوَيْهَا، وَقَالاَ: صَدَقْتِ، فَذَهَبَ أَبُوهَا إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ قَدْ رَضِيتَهُ فَقَدْ رَضِينَاهُ، قَالَ: فَإِنِّى قَدْ رَضِيتُهُ فَزَوَّجَهَا، ثُمَّ فُزِّعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَرَكِبَ جُلَيْبِيبٌ فَوَجَدُوهُ قَدْ قُتِلَ، وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ قَتَلَهُمْ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا وَإِنَّهَا لَمِنْ أَنْفَقِ أيم بالْمَدِينَةِ." (5)
وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، أَنَّ جُلَيْبِيبًا كَانَ امْرَءاً مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ وَيَتَحَدَّثُ إِلَيْهِنَّ قَالَ أَبُو بَرْزَةَ: فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: اتَّقُوا اللهَ لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُنَّ جُلَيْبِيبٌ، قَالَ: وَكَانَ أصحاب النَّبِيُّ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز -(6478 ) -الخشف : حركة المشى وصوته
(2) - سنن النسائي- المكنز - (5024 ) صحيح -المشاش : رءوس العظام كالمرفقين والكتفين والركبتين
(3) - سنن الترمذى- المكنز - (4169 ) حسن
(4) - صحيح البخارى- المكنز -(3763 )
(5) - غاية المقصد فى زوائد المسند 2 - (2 / 56) (3843 ) ومسند أحمد - المكنز -(12728) صحيح(1/203)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ لَأَحَدِهِمْ أَيِّمٌ لَمْ يُزَوِّجْهَا حَتَّى يَعْلَمَ هَلْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا حَاجَةٌ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَاتَ يَوْمٍ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: " يَا فُلَانُ زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ "، قَالَ: نِعْمَ وَنِعْمَة عَيْنٍ، قَالَ: " إِنِّي لَسْتُ لِنَفْسِي أُرِيدُهَا "، قَالَ: فلَمَنْ ؟ قَالَ: " لِجُلَيْبِيبٍ "، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، حَتَّى أَسْتَأْمِرَ أُمِّهَا فَأَتَاهَا فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ ابْنَتَكِ، قَالَتْ: نِعْمَ، وَنِعْمَة عَيْنٌ زَوِّجْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ لِنَفْسِهِ يُرِيدُهَا، قَالَتْ: فَلِمَنْ ؟ قَالَ: لِجُلَيْبِيبٍ، قَالَتْ: حَلْقِي، أَلِجُلَيْبِيبٍ إِنِّيهِ ؟ أَلِجُلَيْبِيبٍ إِنِّيهِ أَلِجُلَيْبِيبٍ إِنِّيهِ لَا لَعَمْرُ اللهِ، لَا أزَوِّجُ جُلَيْبِيبًا، فَلَمَّا قَامَ أَبُوهَا لَيَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتِ الْفَتَاةِ مِنْ خِدْرِهَا : مَنْ خَطَبَنِي إِلَيْكُمَا ؟ قَالَا: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: أَفتَرُدُّونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ ادْفَعُونِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَنْ يُضَيِّعَنِي، فَذَهَبَ أَبُوهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: شَأْنَكَ بهَا، فَزَوَّجَهَا جُلَيْبِيبًا، قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، لِثَابِتٍ: هَلْ تَدْرِي مَا دَعَا لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ ؟ قَالَ: وَمَا دَعَا لَهَا بِهِ ؟ قَالَ: " اللهُمَّ صَبَّ عَلَيْهَا الْخَيْرَ صَبَّا صَبَّا، وَلَا تَجْعَلْ عَيْشَهَا كَدًّا كَدًّا "، قَالَ ثَابِتً: فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مغَزَى لَهُ، فَأَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: " هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ ؟ " قَالُوا: نَفْقِدُ فُلَانًا وَفُلَانًا وفلانا وَنَفْقِدُ فُلَانًا، ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ ؟ " قَالُوا: لَا، قَالَ: " لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا، فَاطْلُبُوهُ فِي الْقَتْلَى "، فَنَظَرُوا فِي الْقَتْلَى، فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَتْلَ سَبْعَةً، ثُمَّ قَتَلُوهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ "، يَقُولُهَا مِرَارًا، فَوَضَعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَاعِدِهِ ، مَالَهُ سَرِيرٌ إِلَّا سَاعِدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى وَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ قَالَ ثَابِتٌ: " فَمَا كَانَ في الْأَنْصَارِ أَيِّمً أَنْفَقَ مِنْهَا " (1) .
بذلك التوجيه الإلهي وبهذا الهدي النبوي كان الميلاد للبشرية على هذا النحو الفريد . ونشأ المجتمع الرباني الذي يتلقى قيمه وموازينه من السماء ، طليقاً من قيود الأرض ، بينما هو يعيش على الأرض . . وكانت هذه هي المعجزة الكبرى للإسلام . المعجزة التي لا تتحقق إلا بإرادة إله ، وبعمل رسول . والتي تدل بذاتها على أن هذا الدين من عند الله ، وأن الذي جاء به للناس رسول!
وكان من تدبير الله لهذا الأمر أن يليه بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحبه الأول أبو بكر ، وصاحبه الثاني عمر . . أقرب اثنين لإدراك طبيعة هذا الأمر ، وأشد اثنين انطباعاً بهدي رسول الله ، وأعمق اثنين حباً لرسول الله ، وحرصاً على تتبع مواضع حبه ومواقع خطاه .
__________
(1) - شعب الإيمان - (3 / 116) (1446 ) صحيح(1/204)
حفظ أبو بكر رضي الله عنه عن صاحبه - صلى الله عليه وسلم - ما أراده في أمر أسامة . فكان أول عمل له بعد توليه الخلافة هو إنفاذه بعث أسامة ، على رأس الجيش الذي أعده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن بن أبى الحسن قال : ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثا قبل وفاته على أهل المدينة ومن حولهم وفيهم عمر بن الخطاب وأمر عليهم أسامة بن زيد فلم يجاوز آخرهم الخندق حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوقف أسامة بالناس ثم قال لعمر ارجع إلى خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه يأذن لى فأرجع بالناس فإن معى وجوه الناس ولا آمن على خليفة رسول الله وثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأثقال المسلمين أن يتخطفهم المشركون وقالت الأنصار فإن أبى إلا أن نمضى فأبلغه عنا واطلب إليه أن يولى أمرنا رجلا أقدم سنا من أسامة فخرج عمر بأمر أسامة فأتى أبا بكر فأخبره بما قال أسامة فقال أبو بكر لو اختطفتنى الكلاب والذئاب لم أرد قضاء قضاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فإن الأنصار أمرونى أن أبلغك أنهم يطلبون إليك أن تولى أمرهم رجلا أقدم سنا من أسامة فوثب أبو بكر وكان جالسا فأخذ بلحية عمر وقال ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتأمرنى أن أنزعه فخرج عمر إلى الناس فقالوا له ما صنعت فقال امضوا ثكلتكم أمهاتكم ما لقيت من سببكم اليوم من خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم فأشخصهم وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبى بكر فقال له أسامة يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن فقال والله لا تنزل ووالله لا أركب وما على أن أغبر قدمى ساعة فى سبيل الله فإن للغازى بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له وسبعمائة درجة ترفع له وتمحى عنه سبعمائة خطيئة حتى إذا انتهى قال له إن رأيت أن تعيننى بعمر بن الخطاب فافعل فأذن له وقال يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنى لا تخونوا ولا تغلوا و لاتغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكله وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم فى الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له وسوف تقدمون على أقوام يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منها شيئا بعد شىء فاذكروا اسم الله عليه وسوف تلقون أقواما قد فحصوا أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فأخفقوهم بالسيوف خفقا اندفعوا باسم الله أغناكم الله بالطعن والطاعون (ابن عساكر) (1) . .
ثم يرى أبو بكر أنه في حاجة إلى عمر . وقد حمل عبء الخلافة الثقيل . ولكن عمر إنما هو جندي في جيش أسامة . وأسامة هو الأمير . فلا بد من استئذانه فيه . فإذا الخليفة يقول : « إن
__________
(1) - أخرجه ابن عساكر (2/49) وجامع الأحاديث - (25 / 80) (27663) حسن مرسل(1/205)
رأيت أن تعينني بعمر فافعل » . . يالله! إن رأيت أن تعينني فافعل . . إنها آفاق عوال . لا يرقى إليها الناس إلا بإرادة الله ، على يدي رسول من عند الله!
ثم تمضي عجلة الزمن فنرى عمر بن الخطاب خليفة يولي عمار بن ياسر على الكوفة .
وقال الحسن: حضر باب عمر بن الخطاب سهيل بن عمرو ، والحارث بن هشام ، وأبو سفيان بن حرب ، ونفر من قريش من تلك الرءوس ، وصهيب وبلال ، وتلك الموالي الذين شهدوا بدرا ، فخرج إذن عمر فأذن لهم ، وترك هؤلاء ، فقال أبو سفيان : لم أر كاليوم قط ، يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه ولا يلتفت إلينا ، « قال : فقال سهيل بن عمرو ، وكان رجلا عاقلا : » أيها القوم ، إني والله لقد أرى الذي في وجوهكم إن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم ، دعي القوم ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم فكيف بكم إذا دعوا ليوم القيامة وتركتم ، أما والله لما سبقوكم إليه من الفضل مما لا ترون أشد عليكم فوتا من بابكم هذا الذي ننافسهم عليه « ، قال : ونفض ثوبه وانطلق ، قال الحسن وصدق والله سهيل لا يجعل الله عبدا أسرع إليه كعبد أبطأ عنه » (1) .
وعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ فَرَضَ لأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِى ثَلاَثَةِ آلاَفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَفَرَضَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِى ثَلاَثَةِ آلاَفٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لأَبِيهِ لِمَ فَضَّلْتَ أُسَامَةَ عَلَىَّ فَوَاللَّهِ مَا سَبَقَنِى إِلَى مَشْهَدٍ. قَالَ لأَنَّ زَيْدًا كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَبِيكَ وَكَانَ أُسَامَةُ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنْكَ فَآثَرْتُ حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى حُبِّى. " (2) . . يقولها عمر وهو يعلم أن حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كان مقوماً بميزان السماء!
ويرسل عمر عماراً ليحاسب خالد بن الوليد القائد المظفر صاحب النسب العريق فيلببه بردائه . . ويروى أنه أوثقه بشال عمامته حتى ينتهي من حسابه فتظهر براءته فيفك وثاقه ويعممه بيده . . وخالد لا يرى في هذا كله بأساً . فإنما هو عمار صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السابق إلى الإسلام الذي قال عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال!
وعمر هو الذي يقول عن أبي بكر رضي الله عنهما هو سيدنا وأعتق سيدنا . يعني بلالاً . الذي كان مملوكاً لأمية بن خلف .وكان يعذبه عذاباً شديداً . حتى اشتراه منه أبو بكر وأعتقه . . وعنه يقول عمر بن الخطاب . . عن بلال . . سيدنا!
وكان عمر بن الخطاب يفرط في الثناء عليه حتى قال فيه لما طُعِنَ : لو كان سَالمُ حيا ما جعلتُها شورى ، ومعنى هذا القول منه أنه كان يصدر في أمر الخلافة وتقليدها عن رأيه، وأنه كان يفوِّض الاختيار إِليه، ليختار من أولئك النَّفَر الذين جعلها فيهم شورى من يراه ويعينه ، لا
__________
(1) - الزهد لأحمد بن حنبل - (2 / 119) (599 ) صحيح مرسل
(2) - سنن الترمذى- المكنز -(4183) وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.(1/206)
أنه كان يجعل الخلافة فيه ، وكيف يظن بمثل عمر ذلك، وهو يعلم أن في الصحابة من هو خير من سالم ، وأولى بالخلافة منه ، لا بل كيف كان يستخلفه وهو من الفرس الموالي ، وليس قرشي النسب. (1)
يقول هذا ، وهو لم يستخلف عثمان ولا علياً ، ولا طلحة ولا الزبير . . إنما جعل الشورى في الستة بعده ولم يستخلف أحداً بذاته!
فعَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعِنْدَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ فَقَالَ : اعْلَمُوا أَنِّي لَمْ أَقُلْ فِي الْكَلَالَةِ شَيْئًا ، وَلَمْ أَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِي أَحْدًا ، وَأَنَّهُ مَنْ أَدْرَكَ وَفَاتِي مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ فَهُوَ حُرٌّ مِنْ مَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ : أَمَّا إِنَّكَ لَوْ أَشَرْتَ بِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَائْتَمَنَكَ النَّاسُ . وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَائْتَمَنَهُ النَّاسُ فَقَالَ عُمَرُ : قَدْ رَأَيْتُ مِنْ أَصْحَابِي حِرْصًا سَيِّئًا ، وَإِنِّي جَاعِلٌ هَذَا الْأَمْرَ إِلَى هَؤُلَاءِ النَّفَرِ السِّتَّةِ الَّذِينَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ ، ثُمَّ قَالَ : لَوْ أَدْرَكَنِي أَحَدُ رَجُلَيْنِ ، ثُمَّ جَعَلْتُ هَذَا الْأَمْرَ إِلَيْهِ لَوَثِقْتُ بِهِ . سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ (2)
وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه يرسل عماراً والحسن بن علي رضي الله عنهما إلى أهل الكوفة يستنفرهم في الأمر الذي كان بينه وبين عائشة رضي الله عنها،فعَنِ الْحَكَمِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ : لَمَّا بَعَثَ عَلِىٌّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَالْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَى الْكُوفَةِ لِيَسْتَنْفِرَهُمْ خَطَبَ عَمَّارٌ فَقَالَ : إِنِّى لأَعْلَمُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَكِنَّ اللَّهَ ابْتَلاَكُمْ بِهَا لَيَنْظُرَ إِيَّاهُ تَتَّبِعُونَ أَوْ إِيَّاهَا. رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ. (3) . فيسمع له الناس في شأن عائشة أم المؤمنين ، وبنت الصديق أبي بكر رضي الله عنهم جميعاً .
وقال: عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ حَدَّثَنِى أَبِى : أَنَّ أَخًا لِبِلاَلٍ كَانَ يَنْتَمِى فِى الْعَرَبِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْهُمْ فَخَطَبَ امْرَأَةً مِنَ الْعَرَبِ فَقَالُوا : إِنْ حَضَرَ بِلاَلٌ زَوَّجْنَاكَ قَالَ فَحَضَرَ بِلاَلٌ فَقَالَ : أَنَا بِلاَلُ بْنُ رَبَاحٍ وَهَذَا أَخِى وَهُوَ امْرُؤُ سَوْءٍ سَيِّئُ الْخُلُقِ وَالدِّينِ فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ تُزَوِّجُوهُ فَزَوِّجُوهُ وَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَدَعُوا فَدَعُوا فَقَالُوا : مَنْ تَكُنْ أَخَاهُ نُزَوِّجْهُ فَزَوَّجُوهُ." (4) . . فلا يدلس عليهم ، ولا يخفى من أمر أخيه شيئاً ، ولا يذكر أنه وسيط وينسى أنه مسؤول أمام الله فيما يقول . . فيطمئن القوم إلى هذا الصدق . . ويزوجون أخاه ، وحسبهم وهو العربي ذو النسب أن يكون بلال المولى الحبشي وسيطه!
__________
(1) - جامع الأصول في أحاديث الرسول - (12 / 432)
(2) - مسند أحمد - المكنز - (131) حسن
(3) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (8 / 174) (17162) والبخاري (5/36) (3772 )
(4) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (7 / 137) (14161) حسن(1/207)
واستقرت تلك الحقيقة الكبيرة في المجتمع الإسلامي ، وظلت مستقرة بعد ذلك آماداً طويلة على الرغم من عوامل الانتكاس الكثيرة . « وقد كان عبد الله بن عباس يذكر ويذكر معه مولاه عكرمه . وكان عبد الله ابن عمر يذكر ويذكر معه مولاه نافع . وأنس بن مالك ومعه مولاه ابن سيرين . وأبو هريرة ومعه مولاه عبد الرحمن بن هرمز . وفي البصرة كان الحسن البصري . وفي مكة كان مجاهد بن جبر ، وعطاء بن رباح ، وطاووس بن كيسان هم الفقهاء . وفي مصر تولى الفتيا يزيد بن أبي حبيب في أيام عمر بن عبد العزيز وهو مولى أسود من دنقلة » . .
وظل ميزان السماء يرجح بأهل التقوى ولو تجردوا من قيم الأرض كلها . . في اعتبار أنفسهم وفي اعتبار الناس من حولهم . ولم يرفع هذا الميزان من الأرض إلا قريباً جداً بعد أن طغت الجاهلية طغياناً شاملاً في أنحاء الأرض جميعاً . وأصبح الرجل يقوم برصيده من الدولارات في أمريكا زعيمة الدول الغربية . وأصبح الإنسان كله لا يساوي الآلة في المذهب المادي المسيطر في روسيا زعيمة الدول الشرقية . أما أرض المسلمين فقد سادت فيها الجاهلية الأولى ، التي جاء الإسلام ليرفعها من وهدتها؛ وانطلقت فيها نعرات كان الإسلام قد قضى عليها .وحطمت ذلك الميزان الإلهي وارتدت إلى قيم جاهلية زهيدة لا تمت بصلة إلى الإيمان والتقوى
ولم يعد هنالك إلا أمل يناط بالدعوة الإسلامية أن تنقذ البشرية كلها مرة أخرى من الجاهلية؛ وأن يتحقق على يديها ميلاد جديد للإنسان كالميلاد الذي شهدته أول مرة ، والذي جاء ذلك الحادث الذي حكاه مطلع هذه السورة ليعلنه في تلك الآيات القليلة الحاسمة العظيمة . .
وبعد تقرير تلك الحقيقة الكبيرة في ثنايا التعقيب على ذلك الحادث ، في المقطع الأول من السورة ، يعجب السياق في المقطع الثاني من أمر هذا الإنسان ، الذي يعرض عن الهدى ، ويستغني عن الإيمان ، ويستعلي على الدعوة إلى ربه . . يعجب من أمره وكفره ، وهو لا يذكر مصدر وجوده ، وأصل نشأته ، ولا يرى عناية الله به وهيمنته كذلك على كل مرحلة من مراحل نشأته في الأولى والآخرة؛ ولا يؤدي ما عليه لخالقه وكافله ومحاسبه :
{ قتل الإنسان ما أكفره! من أي شيء خلقه؟ من نطفة خلقه فقدره . ثم السبيل يسره . ثم أماته فأقبره . ثم إذا شاء أنشره . كلا! لما يقض ما أمره } . .
{ قتل الإنسان! } . . فإنه ليستحق القتل على عجيب تصرفه . . فهي صيغة تفظيع وتقبيح وتشنيع لأمره . وإفادة أنه يرتكب ما يستوجب القتل لشناعته وبشاعته . .
{ ما أكفره! } . . ما أشد كفره وجحوده ونكرانه لمقتضيات نشأته وخلقته . ولو رعى هذه المقتضيات لشكر خالقه ، ولتواضع في دنياه ، ولذكر آخرته . .
وإلا فعلام يتكبر ويستغني ويعرض . ؟ وما هو أصله وما هو مبدؤه؟(1/208)
{ من أي شيء خلقه؟ } . .إنه أصل متواضع زهيد ، يستمد كل قيمته من فضل الله ونعمته ، ومن تقديره وتدبيره :{ من نطفة خلقه فقدره } . .
من هذا الشيء الذي لا قيمة له؛ ومن هذا الأصل الذي لا قوام له . . ولكن خالقه هو الذي قدره . قدره . من تقدير الصنع وإحكامه . وقدره : من منحه قدراً وقيمة فجعله خلقاً سوياً ، وجعله خلقاً كريماً . وارتفع به من ذلك الأصل المتواضع ، إلى المقام الرفيع الذي تسخر له فيه الأرض وما عليها .
{ ثم السبيل يسره } . .فمهد له سبيل الحياة . أو مهد له سبيل الهداية . ويسره لسلوكه بما أودعه من خصائص واستعدادات . سواء لرحلة الحياة ، أو للاهتداء فيها .
حتى إذا انتهت الرحلة ، صار إلى النهاية التي يصير إليها كل حي . بلا اختيار ولا فرار :
{ ثم أماته فأقبره } . .فأمره في نهايته كأمره في بدايته ، في يد الذي أخرجه إلى الحياة حين شاء ، وأنهى حياته حين شاء ، وجعل مثواه جوف الأرض ، كرامة له ورعاية ، ولم يجعل السنة أن يترك على ظهرها للجوارح والكواسر . وأودع فطرته الحرص على مواراة ميته وقبره . فكان هذا طرفاً من تدبيره له وتقديره .
حتى إذا حان الموعد الذي اقتضته مشيئته ، أعاده إلى الحياة لما يراد به من الأمر :
{ ثم إذا شاء أنشره } . .فليس متروكاً سدى؛ ولا ذاهباً بلا حساب ولا جزاء .
. فهل تراه تهيأ لهذا الأمر واستعد؟
{ كلا! لما يقض ما أمره } . .الإنسان عامة ، بأفراده جملة ، وبأجياله كافة . . لما يقض ما أمره . . إلى آخر لحظة في حياته . وهو الإيحاء الذي يلقيه التعبير بلما . كلا إنه لمقصر ، لم يؤد واجبه . لم يذكر أصله ونشأته حق الذكرى . . ولم يشكر خالقه وهاديه وكافله حق الشكر . ولم يقض هذه الرحلة على الأرض في الاستعداد ليوم الحساب والجزاء . . هو هكذا في مجموعه . فوق أن الكثرة تعرض وتتولى ، وتستغني وتتكبر على الهدى! (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- بيان مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته وهي مقتضية للإِيمان به وبآياته ورسوله ولقائه .
2- الاستدلال بالصنعة على الصانع . وأن أثر الشيء يدل عليه ، ولذا يتعجب من كفر الكافر بربه وهو خلقه ورزقه وكلأ حياته وحفظ وجوده إلى أجله .
3- القرآن كتاب جليل عند اللّه ، فهو مثبت مودع في صحف مكرمة عند اللّه ، لما فيها من العلم والحكمة ، رفيعة القدر عند اللّه ، مطهرة من كل دنس ، مصانة عن أن ينالها الكفار ،
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3825)(1/209)
محمولة بأيدي ملائكة جعلهم اللّه سفراء بينه وبين رسله ، وهم كرام على ربهم ، كرام عن المعاصي ، يرفعون أنفسهم عنها ، مطيعون للّه ، صادقون للّه في أعمالهم ، كما قال تعالى : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة 56/ 77- 79].
4- لعن الإنسان حيث كفر بالقرآن ، وما أظلمه حيث أنكر البعث والنشور ، فاللّه قادر على إعادته كما قدر على بدء خلقه ، فإنه خلقه من ماء يسير مهين ، ثم جعله يمر بأطوار بعد كونه نطفة ، إلى وقت إنشائه خلقا آخر ، وبأحوال من كونه ذكرا أو أنثى أو شقيا أو سعيدا ، حسنا أو دميما ، قصيرا أو طويلا ، فكيف يليق به التكبر والتجبر عن أوامر اللّه ؟ ثم يسر له سلوك طريق الخير والشر ، أي بيّن له ذلك ، كما قال : إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ [الدهر 76/ 3] وقال : وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد 90/ 10].
ثم جعل له قبرا يوارى فيه إكراما له ، ولم يجعله مما يلقى على وجه الأرض تأكله الطير والسباع. وهذا دليل على أن اللّه سبحانه أمر بدفن الأموات الإنسية تكرمة لهم ، سواء أكانوا مؤمنين أم كفارا ، دون أن يطرحوا على وجه الأرض ، طعمة للسباع ، كسائر الحيوان.
ثم إذا شاء اللّه أنشره ، أي أحياه بعد موته.
وكل هذه الانتقالات دلالات واضحة على أنه سبحانه إذا شاء أن ينشر الإنسان ببعثه من قبره أنشره. وهذه الانتقالات أو المراتب ثلاث : الأولى- بداية خلقه من ماء مهين ، وهذا دليل على زيادة التقرير في التحقير ، والثانية المتوسطة- التمييز بين الخير والشر ، والثالثة الأخيرة- الإماتة والإقبار ، والإنشار ، أي الإحياء بعد البعث.
5 - كل إنسان إلا القليل مقصر في حق اللّه ، فلا يقضي أحد ما أمر به ، من الإيمان والطاعة ، والتأمل في دلائل اللّه ، والتدبر في عجائب خلق اللّه وبينات حكمته. .
6- القرآن الكريم كتاب تذكرة وموعظة وتبصرة للناس جميعا ، فمن أراد اتعظ بالقرآن وانتفع به وعمل بموجبه. وهذا دليل على حرية الاختيار.
7- إن رسالة الرسل ليست إلا إيقاظا لهذا العقل إذا غفل ، وإلا تذكيرا لهذه الفطرة إذا نسيت .. وإنه ليكفى لهذا أن يؤذّن مؤذّن الحقّ فى الناس ، فمن شاء أجاب ، ومن شاء أعرض!.
8- في الآيات استطراد تنديدي بالإنسان الذي يجحد اللّه ويتمرد على أوامره ولا يقوم بواجبه نحوه على ضآلة شأنه في كون اللّه وشمول تصرف اللّه فيه إنشاء وإحياء وإماتة ونشرا بعد الموت حين تشاء حكمته.
ومع احتمال أن يكون التنديد بالكفار على مواقف المكابرة والعناد التي وقفوها فإن أسلوب الآيات المطلق يجعلها في نفس الوقت تنديدا عاما ذا تلقين مستمر المدى بكل إنسان يجحد اللّه ويتمرد عليه كما هو المتبادر.(1/210)
والآية [20] تتضمن تقرير كون اللّه قد بيّن للناس الطريق القويم ويسّر لهم سلوكه وأوجد فيهم قابلية القدرة على هذا السلوك. وفي هذا توكيد للتقريرات القرآنية السابقة في هذا الصدد كما هو ظاهر. (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة - (1 / 870)(1/211)
نعم اللّه فيما يحتاج إليه الإنسان
قال تعالى :
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
المناسبة :
بعد بيان الدلائل على قدرة اللّه تعالى وتعداد نعمه في الأنفس البشرية أو الذوات ، ذكر اللّه دلائل الآفاق ، وعدّد النعم التي يحتاج إليها الإنسان لقوام حياته.
المفردات :
24 ... فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ... استدلال على خروج الأجساد بعد ما كانت ترابا
25 ... إِنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًّا ... أنزلناه من السماء
26 ... ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا ... أسكنا الماء فيها
28 ... قَضْبًا ... هو الفصفصة التي تأكلها البهائم ( الفِصّة أو البرسيم )
30 ... حَدَائِقَ غُلْبًا ... بساتين ذواتا أشجار طوال ضخمة
31 ... وَأَبّاً ... هو العشب تأكله البهائم ، الكلأ والمرعى
المعنى الإجمالي:
بعد أن بين حال القرآن وذكر أنه كتاب الذكرى والموعظة ، وأن فى استطاعة كل أحد أن ينتفع بعظاته لو أراد - أردف هذا ببيان أنه لا يسوغ للإنسان مهما كثر ماله ، ونبه شأنه ، أن يتكبر ويتعاظم ويعطى نفسه ما تهواه ، ولا يفكر فى منتهاه ، ولا فيمن أنعم عليه بنعمة الخلق والإيجاد ، وصوّره فى أحسن الصور ، فى أطوار مختلفة ، وأشكال متعددة ، ثم لا يلبث إلا قليلا على ظهر البسيطة حتى يعود إلى التراب كما كان ، ويوضع فى لحده ، إلى أمد قدره اللّه فى علمه ، ثم يبعثه من قبره ، ويحاسبه على ما عمل فى الدار الأولى ، ويستوفى جزاءه إن خيرا وإن شرا ، لكنه ما أكفره بنعمة ربه ، وما أبعده عن اتباع أوامره ، واجتناب نواهيه! (1)
التفسير والبيان :
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أي فليتأمل الإنسان كيف خلق اللّه طعامه الذي يعيش به ، ويكون سببا لحياته ، وكيف دبره وهيأه له. وفي هذا امتنان بهذه النعمة ، واستدلال بإحياء النبات من الأرض الهامدة على إحياء الأجسام بعد ما كانت عظاما بالية.
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 43)(1/212)
ثم أوضح كيفية إيجاد الطعام ، فقال : أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا أننا أنزلنا الماء من السماء أو سحاب على الأرض بغزارة وكثرة ، فصب الماء هو المطر ، ثم أسكناه في الأرض ، ثم روينا البذر المودع فيها ، ثم شققناها بالنبات الخارج منها ، فارتفع وظهر على وجهها ، فكان هناك أنواع مختلفة من النباتات في الصغر والكبر ، والهيئة والشكل ، واللون والطعم ، والأغراض المتنوعة كالغذاء والدواء والمرعى ، لذا ذكر تعالى بعدئذ ثمانية أنواع من النبات بقوله :
1- 3- فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً أي فأنبتنا في الأرض الحبوب التي يتغذى بها كالحنطة والشعير والذرة ، والأعناب المتنوعة ، والرطبة أو القت أو البرسيم أو الفصفصة التي تأكلها الدواب رطبة. والمعنى أن النبات لا يزال ينمو ويتزايد إلى أن يصير حبا وعنبا وقضبا. وقيل : القضب : العلف.
4- 5- وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا أي وأنبتنا أيضا شجر الزيتون والنخيل ، وثمرتهما معروفة.
6- 8- وَحَدائِقَ غُلْباً ، وَفاكِهَةً ، وَأَبًّا أي بساتين ذات أشجار ضخمة ومتكاثفة كثيرة ، وفاكهة وهي كل ما يتفكه به من الثمار ، أي يستمتع به ، كالتفاح والكمثّرى والموز والخوخ والتين ونحوها ، وعشبا أو حشيشا مرعى للدواب ، فالأب : كل ما أنبتت الأرض مما لا يأكله الناس ولا يزرعونه من الكلأ وسائر أنواع المرعى للحيوان.
ثم ذكر وجه النعمة أو الحكمة في خلق هذه النباتات ، فقال : مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ أي جعلنا ذلك متعة أو عيشة لكم ولأنعامكم ، لتنتفعوا بها وتأكلها بهائمكم ، والأنعام : هي الإبل والبقر والغنم.
ومضات :
بعد أن ذكر الدلائل على قدرته تعالى وهى كامنة فى نفسه ، يراها فى يومه بعد أمسه - أردفها ذكر الآيات المنبثة فى الآفاق الناطقة ببديع صنعه ، وباهر حكمته.
والآيات جاءت معقبة على ما سبقها من الآيات كما هو المتبادر ، واستمرارا لها سياقا وموضوعا ، فعلى ذلك الإنسان الجاحد المتمرد على الدعوة إلى اللّه وغير القائم بحق اللّه أن ينظر ويفكر فيما يتمتع به مما يسره اللّه له من أسباب الغذاء المتنوع له ولأنعامه ليرعوي عن موقفه لأنه سوف يرى أن كل هذا إنما يتم له بتيسير اللّه ورعايته.
ومع أن ورود جمع المخاطب في الآية الأخيرة يجعل الكلام موجها في الدرجة الأولى إلى السامعين وبخاصة المكابرين الجاحدين منهم ، فإن أسلوب الآيات وبدأها بخطاب الإنسان يجعلها كذلك عامة التوجيه والتنديد أيضا.
والمتبادر أن ما عددته الآيات من نعم اللّه على الإنسان من أنواع الغذاء لم يكن على سبيل الحصر وإن كان يتضمن التنويه بما فيه قوام حياة الإنسان والأنعام تقوية للتذكير وإحكاما(1/213)
للتنديد. كذلك فإن الآيات ليست بسبيل بيان نواميس الطبيعة ، وإنما هي بسبيل الوعظ والتذكير بما هو ماثل للناس وواقع تحت مشاهدتهم وحاصل بممارستهم وفيه متاع متنوع الأشكال والصور لهم. وقد استهدفت إيقاظ الضمير الإنساني وحمله على الاعتراف بفضل اللّه وحقه وربوبيته.
وهذا وذاك مما يلحظ في جميع الفصول القرآنية المماثلة. (1)
« إِنَّها تَذْكِرَةٌ » أي إن دعوتك ، هى تذكرة للناس ، وتنبيه للغافل ، وحسب ..
وليس لك أن تذهب إلى أبعد من هذا .. فمع كل إنسان عقله الذي يهديه ، ومع كل إنسان فطرته التي من شأنها أن تدعوه إلى الحق والخير ، وتصرفه عن الضلال والشر ..
إن رسالة الرسل ليست إلا إيقاظا لهذا العقل إذا غفل ، وإلا تذكيرا لهذه الفطرة إذا نسيت .. وإنه ليكفى لهذا أن يؤذّن مؤذّن الحقّ فى الناس ، فمن شاء أجاب ، ومن شاء أعرض!.
والضمير فى « ذكره » وهو الهاء ، يعود إلى اللّه سبحانه وتعالى ، فمن شاء ذكر ربه بهذه التذكرة التي جاءته من آيات اللّه ، التي يتلوها عليه رسول اللّه ..
قوله تعالى : « فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ، كِرامٍ بَرَرَةٍ ». أي هذه التذكرة ـ وهى آيات اللّه ـ هى فى صحف مكرمة عند اللّه ، وهى صحف مطهرة فى مقام عال لا يرقى إليها فيه دنس .. والصحف المكرمة المطهرة ، صحف اللوح المحفوظ ..
قوله تعالى : « مرفوعة » أي عالية القدر ، مطهرة من كل نقص أو عيب ..
وقوله تعالى : « بأيدى سفرة » أي أنها محمولة من اللوح المحفوظ إلى رسل اللّه بأيدى ملائكة ، يسفرون بها بين اللّه سبحانه وتعالى ، وبين رسله ، فهم سفراء اللّه إلى الرسل ..
والبررة ، جمع بارّ ، وهو التقىّ النقي ، المبرأ من الدنس والرجس ..
هذا ، وفى هذه الآيات التي ووجه فيها النبىّ ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ بهذا العتاب الرحيم الرفيق من ربه ـ ما نود أن نقف عنده :
فأولا : أن قدر الإنسان ومنزلته ، هى فيما فى عقله من بصيرة ، وما فى قلبه من استعداد لتقّبل الخير والإقبال عليه .. وأن رجلا فقيرا أعمى يحمل مثل هذا العقل وذلك القلب ، ليرجح ميزانه المئات والألوف من الذين عميت بصائرهم ، وزاغت قلوبهم ، ولو كانوا فى الناس سادة ، وقادة ، بمالهم ، وجاههم وسلطانهم ..
__________
(1) - التفسير الحديث ، ج 2 ، ص : 127(1/214)
روى أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حين تألف من تألف من قادة قريش وزعمائها مما أفاء اللّه عليه من أموال هوازن ، مثل عيينة بن حصن ، وأبى سفيان ، ومعاوية ، والأقرع بن حابس وغيرهم ـ سأله بعض أصحابه فى شأن جعيل بن سراقة ، وأنه من فقراء المسلمين ، ومن أهل البلاء فيهم
فقال صلوات اللّه وسلامه عليه :« أما والذي نفسى بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض مثل عيينة والأقرع ، ولكن تألفتهما ليسلما ، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه »..
وثانيا : أن هؤلاء المشركين من قريش ، لا يرى فيهم الإسلام شيئا يحرص عليه ، ويشتدّ طلبه له ، وأن أي مسلم من الجماعة التي دخلت فى دين اللّه ، وآمنت به ، وصدق إيمانها ، هو ـ فى ميزان الإسلام شىء ـ عظيم ، وأن بشاشة النبىّ فى وجهه لا يحرمه منها طمع فى إسلام هؤلاء المشركين الذين ما زالوا فى قبضة الشرك .. فالأمر هنا موازنة بين مؤمن ، تحقّق إيمانه ، وبين مشركين مطموع فى إيمانهم .. ومع هذا فإن سبقه إلى الإيمان ـ وبصرف النظر عن تقبّل هؤلاء المشركين للإيمان أو إعراضهم عنه ـ يجعل كفّته راجحة عليهم أبدا ، ولن يلحقوا به حتى ولو وقع الإيمان فى قلوبهم مثل ما وقع فى قلبه ، ففضل السبق إلى الإيمان ، منزلة لا يبلغها إلا أهل السبق .. (1)
هذه هي قصة طعامه . مفصلة مرحلة مرحلة . هذه هي فلينظر إليها؛ فهل له من يد فيها؟ هل له من تدبير لأمرها؟ إن اليد التي أخرجته إلى الحياة وأبدعت قصته ، هي ذاتها اليد التي أخرجت طعامه وأبدعت قصته . .
{ فلينظر الإنسان إلى طعامه } . . ألصق شيء به ، وأقرب شيء إليه ، وألزم شيء له . . لينظر إلى هذا الأمر الميسر الضروري الحاضر المكرر . لينظر إلى قصته العجيبة اليسيرة ، فإن يسرها ينسيه ما فيها من العجب . وهي معجزة كمعجزة خلقه ونشأته . وكل خطوة من خطواتها بيد القدرة التي أبدعته :{ أنا صببنا الماء صباً } . . وصب الماء في صورة المطر حقيقة يعرفها كل إنسان في كل بيئة ، في أية درجة كان من درجات المعرفة والتجربة . فهي حقيقة يخاطب بها كل إنسان . فأما حين تقدم الإنسان في المعرفة فقد عرف من مدلول هذا النص ما هو أبعد مدى وأقدم عهداً من هذا المطر الذي يتكرر اليوم ويراه كل أحد . وأقرب الفروض الآن لتفسير وجود المحيطات الكبيرة التي يتبخر ماؤها ثم ينزل في صورة مطر ، أقرب الفروض أن هذه المحيطات تكونت أولاً في السماء فوقنا ثم صبت على الأرض صباً!
وفي هذا يقول أحد علماء العصر الحاضر : « إذا كان صحيحاً أن درجة حرارة الكرة الأرضية وقت انفصالها عن الشمس كانت حوالي 12 000 درجة . أو كانت تلك درجة حرارة سطح
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1451)(1/215)
الأرض . فعندئذ كانت كل العناصر حرة . ولذا لم يكن في الإمكان وجود أي تركيب كيميائي ذي شأن . ولما أخذت الكرة الأرضية ، أو الأجزاء المكونة لها في أن تبرد تدريجياً ، حدثت تركيبات ، وتكونت خلية العالم كما نعرفه . وما كان للأكسيجين والهيدروجين أن يتحدا إلا بعد أن هبطت درجة الحرارة إلى 4000 درجة فارنهايت . وعند هذه النقطة اندفعت معاً تلك العناصر ، وكونت الماء الذي نعرفه الآن أنه هواء الكرة الأرضية .
ولا بد أنه كان هائلاً في ذلك الحين . وجميع المحيطات كانت في السماء . وجميع تلك العناصر التي لم تكن قد اتحدت كانت غازات في الهواء . وبعد أن تكون الماء في الجو الخارجي سقط نحو الأرض . ولكنه لم يستطع الوصول إليها . إذ كانت درجة الحرارة على مقربة من الأرض أعلى مما كانت على مسافة آلاف الأميال . وبالطبع جاء الوقت الذي صار الطوفان يصل فيه إلى الأرض ليطير منها ثانياً في شكل بخار . ولما كانت المحيطات في الهواء فإن الفيضانات التي كانت تحدث مع تقدم التبريد كانت فوق الحسبان . وتمشى الجيشان مع التفتت. . الخ؟ « .
وهذا الفرض ولو أننا لا نعلق به النص القرآني يوسع من حدود تصورنا نحن للنص والتاريخ الذي يشير إليه . تاريخ صب الماء صباً . وقد يصح هذا الفرض ، وقد تجدّ فروض أخرى عن أصل الماء في الأرض . ويبقى النص القرآني صالحاً لأن يخاطب به كل الناس في كل بيئة وفي كل جيل .ذلك كان أول قصة الطعام : { أنا صببنا الماء صباً } . . ولا يزعم أحد أنه أنشأ هذا الماء في أي صورة من صوره ، وفي أي تاريخ لحدوثه؛ ولا أنه صبه على الأرض صباً ، لتسير قصة الطعام في هذا الطريق!
{ ثم شققنا الأرض شقاً } . . وهذه هي المرحلة التالية لصب الماء . وهي صالحة لأن يخاطب بها الإنسان البدائي الذي يرى الماء ينصب من السماء بقدرة غير قدرته ، وتدبير غير تدبيره . ثم يراه يشق الأرض ويتخلل تربتها . أو يرى النبت يشق تربة الأرض شقاً بقدرة الخالق وينمو على وجهها ، ويمتد في الهواء فوقها . . وهو نحيل نحيل ، والأرض فوقه ثقيلة ثقيلة . ولكن اليد المدبرة تشق له الأرض شقاً ، وتعينه على النفاذ فيها وهو ناحل لين لطيف . وهي معجزة يراها كل من يتأمل انبثاق النبتة من التربة؛ويحس من ورائه انطلاق القوة الخفية الكامنة في النبتة الرخية .
فأما حين تتقدم معارف الإنسان فقد يعن له مدى آخر من التصور في هذا النص . وقد يكون شق الأرض لتصبح صالحة للنبات أقدم بكثير مما نتصور.إنه قد يكون ذلك التفتت في صخور القشرة الأرضية بسبب الفيضانات الهائلة التي يشير إليها الفرض العلمي السابق . وبسبب العوامل الجوية الكثيرة التي يفترض علماء اليوم أنها تعاونت لتفتيت الصخور الصلبة التي(1/216)
كانت تكسو وجه الأرض وتكون قشرتها؛ حتى وجدت طبقة الطمي الصالحة للزرع . وكان هذا أثراً من آثار الماء تالياً في تاريخه لصب الماء صباً . مما يتسق أكثر مع هذا التتابع الذي تشير إليه النصوص . .
وسواء كان هذا أم ذاك أم سواهما هو الذي حدث ، وهو الذي تشير إليه الآيتان السابقتان فقد كانت المرحلة الثالثة في القصة هي النبات بكل صنوفه وأنواعه .
التي يذكر منها هنا أقربها للمخاطبين ، وأعمها في طعام الناس والحيوان :{ فأنبتنا فيها حباً } . . وهو يشمل جميع الحبوب . ما يأكله الناس في أية صورة من صوره ، وما يتغذى به الحيوان في كل حالة من حالاته .{ وعنباً وقضباً } . . والعنب معروف . والقضب هو كل ما يؤكل رطباً غضاً من الخضر التي تقطع مرة بعد أخرى . .{ وزيتوناً ونخلاً . وحدائق غلبا . وفاكهة وأبا } . . والزيتون والنخل معروفان لكل عربي ، والحدائق جمع حديقة ، وهي البساتين ذات الأشجار المثمرة المسورة بحوائط تحميها . و { غلبا } جمع غلباء . أي ضخمة عظيمة ملتفة الأشجار . والفاكهة من ثمار الحدائق و{ الأب } أغلب الظن أنه الذي ترعاه الأنعام . وهو الذي سأل عنه عمر بن الخطاب ثم راجع نفسه فيه متلوّماً! كما سبق في الحديث عن سورة النازعات! فلا نزيد نحن شيئاً!
هذه هي قصة الطعام . كلها من إبداع اليد التي أبدعت الإنسان . وليس فيها للإنسان يد يدعيها ، في أية مرحلة من مراحلها . . حتى الحبوب والبذور التي قد يلقيها هو في الأرض . . إنه لم يبدعها ، ولم يبتدعها . والمعجزة في إنشائها ابتداء من وراء تصور الإنسان وإدراكه . والتربة واحدة بين يديه ، ولكن البذور والحبوب منوعه ، وكل منها يؤتى أكله في القطع المتجاورات من الأرض . وكلها تسقى بماء واحد ، ولكن اليد المبدعة تنوع النبات وتنوع الثمار؛ وتحفظ في البذرة الصغيرة خصائص أمها التي ولدتها فتنقلها إلى بنتها التي تلدها . . كل أولئك في خفية عن الإنسان! لا يعلم سرها ولا يقضي أمرها ، ولا يستشار في شأن من شؤونها . .
هذه هي القصة التي أخرجتها يد القدرة :{ متاعاً لكم ولأنعامكم } . . إلى حين . ينتهي فيه هذا المتاع؛ الذي قدره الله حين قدر الحياة . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- أمر اللّه تعالى بالنظر والاستدلال والتدبر إلى الطعام الذي يتناوله الإنسان ، ويعيش به ، كيف دبّر اللّه أمره ، من إنزال الماء من السماء ، ثم شق الأرض بالنبات أو بالحراثة على الدواب أو بالآلات ، وإخراج أنواع النبات المختلفة..
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3832)(1/217)
2- ذكر اللّه تعالى ثمانية أنواع من النبات : وهي الحب : وهو كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما ، وقدّم لأنه كالأصل في الغذاء ، والعنب ، وذكر بعد الحب ، لأنه غذاء من وجه وفاكهة من وجه آخر ، والقضب عند أهل مكة واليمن : وهو الرطبة المسماة بالقت ، والزيتون والنخيل ، والحدائق ذات الأشجار الضخمة الكثيرة ، والفاكهة : وهي ما يأكله الناس من الثمار ، وقد ذكرها مجملة ليعم جميع أنواعها ، والأب : وهو المرعى الذي يؤبّ أي يؤم وينتجع ، وهو ما تأكله البهائم من العشب.
3- الغاية من خلق هذه النباتات التي تشمل ما يتغذي به الإنسان والحيوان : هي الانتفاع بها ، سواء بالنسبة للناس أو للدواب لأن إنبات هذه الأشياء إمتاع لجميع الحيوانات.
4- القصد من إيراد هذه الأشياء : ضرب المثل من اللّه تعالى ، لبعث الموتى من قبورهم ، والامتنان من اللّه على عباده بما أنعم به عليهم.
والخلاصة : أن المقصود من هذه الأشياء أمور ثلاثة :
أولها- إيراد الدلائل الدالة على التوحيد.
وثانيها- إيراد الدلائل الدالة على القدرة على المعاد.
وثالثها- الترغيب بالإيمان والطاعة فإنه لا يليق بالعاقل أن يتمرد عن طاعة الإله الذي أحسن إلى عباده بهذه الأنواع العظيمة من الإحسان.
5- وقد اختلف العلماء فى معنى كلمة « الأبّ » وتواردت عليها كثير من الآراء ، والروايات ، لما رأوا من غرابة هذه الكلمة ، وقلة دورانها على الألسنة ، ومجيئها فى سياق كلمات معروفة ، كثيرة التداول ، كالحبّ والعنب ، والقضب ، والزيتون والنخل.
وحين تكثر الآراء حول معنى كلمة من الكلمات ، تجلب لها الروايات التي تضيف أقوالا إلى صحابة رسول اللّه ، بل إلى رسول اللّه أحيانا ، يسند بها كل ذى رأى رأيه ، حتى ليجد المرء نفسه بين هذه الآراء المتعارضة المتضاربة ، أن الأولى به أن يدعها جميعها ، وأن يجعل هذه الكلمات من كتاب اللّه ، من المتشابه ، الذي لا يعلم تأويله إلا اللّه!!
ومن الروايات التي رويت حول كلمة « الأبّ » ما يروونه مضافا إلى أبى بكر رضى اللّه عنه ، وقد سئل عن معنى الأب ، فقال : « أي سماء تظلنى ، وأي أرض تقلنى إذا قلت فى كتاب اللّه ما لا علم لى به » !!
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَقْرَأُ: { فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبَّا } [عبس: 28] " فَكُلُّ هَذَا(1/218)
قَدْ عَرَفْنَا فَمَا الْأَبُّ ؟ ثُمَّ نَقَضَ عَصًا كَانَتْ فِي يَدِهِ، فَقَالَ: هَذَا لَعَمْرُ اللهِ التَّكَلُّفُ اتَّبِعُوا مَا تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ " (1) .
ونحن نقطع بتلفيق هذين الخبرين ، وإلا كان علينا أن نلغى عقولنا ، وأن نعطل مداركنا ، ولنا على القطع بتلفيق هذين الخبرين أكثر من شاهد :
فأولا : هذه الآية ، فى سورة مكية ، ومن أوائل ما نزل بمكة من آيات اللّه .. وهذا يعنى أن هذه الآية كانت على ألسنة السابقين الأولين من المسلمين ، كأبى بكر وعمر ـ رضى اللّه عنهما ـ وأنها كانت مما يتلى من آيات اللّه كل يوم مرات كثيرة ، وليس يعقل ـ مع هذا ـ أن تظل كلمة « الأب » خفية الدلالة ، بين هذه المجموعة من الكلمات التي تعدد نعم اللّه ، والأب لا شك نعمة من تلك النعم ، وصنف من أصنافها ـ نقول لا يعقل أن تظل هذه الكلمة ـ وهذا شأنها ـ خفيّة الدلالة على أصحاب رسول اللّه ، ثم لا يتوجهون إليه ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ بالسؤال عنها ، إن كان معناها غائبا عنهم! وثانيا : لا يعقل أيضا أن يمضى العهد المكي ، ثم العهد المدني ، دون أن تحدّث عمر نفسه هذا الحديث الذي تحدث به عن الأبّ ، إلا بعد أن يفارق رسول اللّه ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ هذه الدنيا ، ويلحق بالرفيق الأعلى ، ثم يجد عمر هذه الكلمة ، وكأنه يتلوها لأول مرة!!
وثالثا : لا يعقل أيضا أن يأتى القرآن الكريم فى معرض آياته التي تحدث المشركين عن نعم اللّه التي أفاضها عليهم ، بكلمة لا يعرفون لها مدلولا ، ولا يجدون لها فيما بين أيديهم من نعم ـ مكانا!!.
ورابعا : ورد فى الشعر العربي الجاهلى ، أكثر من شاهد ، يدل على أن العرب كانوا يعرفون كلمة الأب فى قاموس لغتهم ، وكانوا يستعملونها فى المعنى المناسب لها ..
ومن الأشعار المروية ، ما يروى عن الأعشى من قوله فى الفخر :
جذمنا قيس وسعد دارنا ولنا الأبّ بها والمكرع
هذا ، ويعلق الإمام محمد عبده ، على الرواية المنسوبة إلى سيدنا عمر ابن الخطاب ـ على فرض التسليم بصحتها ـ فيقول : إذا سمعت هذه الروايات ، فلا تظنّ أن سيدنا عمر بن الخطاب ينهى عن تتبع معانى القرآن ، والبحث عن مشكلاته ، ولكنه يريد أن يعلمك أن الذي عليك من حيث أنت مؤمن ، إنما هو فهم جملة المعنى .. فالمطلوب منك فى هذه الآيات ، هو أن تعلم أن اللّه يمنّ عليك بنعم أسداها إليك فى نفسك ، وتقويم حياتك ، وجعلها متاعا لك ولأنعامك .. فإذا جاء فى سردها لفظ لم تفهمه ، لم يكن من جدّ المؤمن ـ أي من حظه ـ أن
__________
(1) - شعب الإيمان - (3 / 541) (2084 ) صحيح(1/219)
ينقطع لطلب هذا المعنى ، بعد فهم المراد من ذكره ، بل الواجب على أهل الجد والعزيمة ، أن يعتبروا بتعداد النعم وأن يجعلوا معظم همهم الشكر ، والعمل ..
ثم يمضى الإمام فيقول : «هكذا كان شأن الصحابة ـ رضى اللّه عنهم ـ ثم خلف من بعدهم خلف وقفوا عند الألفاظ ، وجعلوها شغلا شاغلا ، لا يهمهم إلا التشدق بتصريفها وتأويلها ، وتحميلها ما لا تحتمله ، وقد تركوا قلوبهم خالية من الفكر والذكر ، وأعضاء هم معطلة عن العمل الصالح والشكر » ! .. (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ، ج 16 ، ص : 1459
قلت : الخبر صحيح ، والاعتراضات بغير محلها ، فليس بالضرورة أن يعلم عمر تفسير القرآن كله . ولا السنة كلها .(1/220)
أهوال القيامة
قال تعالى :
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
المناسبة :
بعد بيان نعم اللّه تعالى في نفس الإنسان وفي الآفاق ، وإقامة الأدلة والبراهين بها على كمال قدرة اللّه عز وجل على البعث وكل شيء ، أبان اللّه تعالى بعض أهوال القيامة وأحوالها التي تملأ النفس خوفا ورهبة ، ليكون ذلك مدعاة إلى التأمل في الدلائل والإيمان بها والإعراض عن الكفر ، وإلى ترك التكبر على الناس ، وإلى إظهار التواضع إلى كل أحد.
والناس في ذلك الموقف فريقان : سعداء وأشقياء ، والفريق الأول ضاحك مستبشر : وهو من امن باللّه ورسله وأطاع ما أمر اللّه به. والفريق الثاني عابس متكدر ، تعلو وجهه الغبرة وترهقه القترة : وهو الذي أنكر وجود اللّه وتوحيده ، وأعرض عن قبول ما جاءت به رسل اللّه.
قال القرطبي : لما ذكر أمر المعاش ، ذكر أمر المعاد ، ليتزودوا له بالأعمال الصالحة ، وبالإنفاق مما امتنّ به عليهم.
المفردات :
33 ... الصَّاخَّةُ ... الصيحة وهي النفخة الثانية
36 ... وَصَاحِبَتِهِ ... زوجته
38 ... مُسْفِرَةٌ ... مضيئة ( وجوه المؤمنين )
40 ... غَبَرَةٌ ... غبار
41 ... تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ... تغشاها ظلمة وسواد
42 ... الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ ... جمعوا الكفر مع الفجور
المعنى الإجمالي:
بعد أن عدد سبحانه آلاءه على عباده ، وذكّرهم بإحسانه إليهم فى هذه الحياة ، وبين أنه لا ينبغى للعاقل بعد كل ما رأى أن يتمرد عن طاعة صاحب هذه النعم الجسام - أعقب هذا بتفصيل بعض أحوال يوم القيامة وأهوالها التي توجب الفزع والخوف منه ، ليدعوه ذلك إلى التأمل فيما مضى من الدلائل التي ترشد إلى وحدانيته وقدرته ، وصحة البعث وأخبار يوم القيامة التي جاءت على ألسنة رسله ، ويتزوّد بصالح الأعمال التي تكون نبراسا يضىء أمامه فى ظلمات هذا اليوم.(1/221)
وذكر أن الناس حينئذ فريقان : فريق ضاحك مستبشر ، فرح فرح المحب يلقى حبيبه ، وهو من كان يعتقد الحق ويعمل للحق ، وفريق تعلو وجهه الغبرة ، وترهقه القترة ، وهو الذي تمرد على اللّه ورسوله ، وأعرض عن قبول ما جاءه من الحقّ ، ولم يعمل بما أمر به من صالح الأعمال. (1)
وهذه الآيات أيضا معقبة على ما سبقها واستمرار في السياق ، وقد تضمنت إنذارا بيوم القيامة ووصفا لهوله الذي يذهل المرء عن أقرب الناس إليه ، وتصنيفا للناس فيه. فمنهم الفرح المغتبط المستبشر وهم المؤمنون الصالحون ، ومنهم المربد الوجه الذي يعلوه الوسخ والاسوداد من شدة البلاء ، وهم الكفرة الفجرة.
والوصف قوي من شأنه إثارة الطمأنينة في الفريق الأول والفزع والرعب في الفريق الثاني. وحفز الأول على الثبات فيما هو فيه والثاني على الارعواء وتلافي العاقبة الوخيمة الرهيبة وهو في متسع من الوقت وهما مما استهدفته الآيات كما هو المتبادر. (2)
هكذا الشأن بعد تعداد النعم ، والتذكير بآلاء اللّه - تعالى - التي تقتضي من الإنسان النظر الصحيح والبعد عن الكبر والكفر والفجور ، أخذ اللّه - سبحانه وتعالى - يذكرنا بيوم القيامة وأهواله التي تجعل الإنسان يذهل عن أحب الناس إليه ، فإذا وقعت الواقعة وجاءت الصاخة ، يوم يفر المرء ويتباعد عن أخيه ولا يأخذ بناصره ولا يواليه يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وقد كان في الدنيا يستنصر به ويعتز ، بل يفر كذلك من أبويه ، أمه وأبيه ، بل يفر كذلك من الذين يتعلق بهم قلبه أشد من غيرهم كزوجة وبنيه وكيف لا يكون ذلك ؟ ولكل امرئ منهم يومئذ شيء يصرفه ويصده عن قرابته وأهله ، ويوم القيامة ترى وجوها مضيئة متهللة فارغة البال ضاحكة السن مستبشرة فرحة ، تلك هي وجوه المؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وهناك وجوه أخرى عليها غبرة ويعلوها سواد فهم في هم وحزن وكمد ، أولئك هم الكفرة الذين كفروا باللّه ورسوله ولم يؤمنوا باليوم الآخر وكانوا في الدنيا فجرة قد خرجوا عن حدود الشرع والعقل والعرف الصحيح ، واجترحوا السيئات فكان جزاؤهم ذلك وبئس المصير. (3)
التفسير والبيان :
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ أي إذا جاءت القيامة أو صيحة يوم القيامة التي تصخ الأذن ، أي تصمها فلا تسمع. والصاخّة : اسم من أسماء القيامة ، عظّمه اللّه وحذّر عباده. قال البغوي : الصاخة : يعني صيحة يوم القيامة ، سميت بذلك لأنها تصخّ الأسماع وتصمّ الآذان لشدتها ، أي تبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمّها.وقال ابن جرير : لعله اسم للنفخة في الصور.
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أي إذا جاءت الصاخة حين يرى المرء أعز أقاربه وأخصهم لديه ، وأولاهم بالحنو والرأفة
__________
(1) - تفسير المراغي - (1 / 5400)
(2) - التفسير الحديث ، ج 2 ، ص : 128
(3) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 826)(1/222)
والعطف ، من أخ وأم وأب وزوجة وولد ، ويفر منهم ويبتعد عنهم لأن الهول عظيم والخطب جليل ، ولكل امرئ منهم يومئذ حال أو شغل يشغله عن الأقرباء ويصرفه منهم ، ويفرّ عنهم ، حذرا من مطالبتهم إياه بشيء يهمهم ، ولئلا يروا ما هو فيه من الشدة ، وهو كقوله تعالى : يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [الدخان 44/ 41] وقوله سبحانه : وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج 70/ 10].
والمراد : أن الذين كان المرء في دار الدنيا يفر إليهم ويستجير بهم ، فإنه يفر منهم في دار الآخرة. وفائدة الترتيب واضحة ، وهي الفرار من الأبعد وهو الأخ ، ثم من الأبوين ، ثم من الزوجة والولد ، من قبيل الترقي إلى الأحب عادة والأقرب ، قال الزمخشري : بدأ بالأخ ، ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه ، ثم الصاحبة والبنين لأنهم أقرب وأحب ، كأنه قال : يفر من أخيه ، بل من أبويه ، بل من صاحبته وبنيه. وأيده الرازي في هذا.
وعقب النظام النيسابوري في غرائب القرآن على ذلك فقال : هذا القول يستلزم أن تكون الصاحبة أقرب وأحب من الأبوين ، ولعله خلاف العقل والشرع. والأصوب أن يقال : أراد أن يذكر بعض من هو مطيف بالمرء في الدنيا من أقاربه في طرفي الصعود والنزول فبدأ بطرف الصعود لأن تقديم الأصل أولى من تقديم الفرع ، وذكر أولا في كل من الطرفين من هو معه في درجة واحدة وهو الأخ في الأول والصاحبة في الثاني. على أن وجود البنين موقوف على وجود الصاحبة ، فكانت بالتقديم أولى (1) .
والأظهر أن الفرار المعنى : هو قلة الاهتمام بشأن هؤلاء ، بدليل قوله : لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أي يصرفه ويصدّه عن قرابته (2) .
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً ». فَقَالَتِ امْرَأَةٌ أَيُبْصِرُ أَوْ يَرَى بَعْضُنَا عَوْرَةَ بَعْضٍ قَالَ « يَا فُلاَنَةُ (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) » سنن الترمذى (3)
وعَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً ». قُلْتُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالَ « إِنَّ الأَمْرَ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَلِكَ » سنن النسائى. (4) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ قَالَ حَدَّثَنِى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً » قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ يَا
__________
(1) - تفسير الكشاف : 3/ 314 ، تفسير الرازي : 31/ 64 ، غرائب القرآن : 30/ 31
(2) - غرائب القرآن ، المكان السابق.
(3) - سنن الترمذى -(3652 ) صحيح
(4) - سنن النسائى - (2096 ) صحيح(1/223)
رَسُولَ اللَّهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ . فَقَالَ « الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ » صحيح البخارى (1) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً ، ثُمَّ قَرَأَ ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) فَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ ، ثُمَّ يُؤْخَذُ بِرِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِى ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ أَصْحَابِى فَيُقَالُ إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ ) إِلَى قَوْلِهِ ( الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ذُكِرَ عَنْ أَبِى عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَبِيصَةَ قَالَ هُمُ الْمُرْتَدُّونَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى عَهْدِ أَبِى بَكْرٍ ، فَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه . "صحيح البخارى (2)
ثم ذكر اللّه تعالى أحوال الناس حينئذ وانقسامهم في ذلك اليوم إلى سعداء وأشقياء ، فقال واصفا السعداء أولا : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ أي يكون الناس هنالك فريقين : وجوه متهللة مشرقة مضيئة ، وهي وجوه المؤمنين أهل الجنة لأنهم قد علموا إذ ذاك ما لهم من النعيم والكرامة.
ثم وصف الأشقياء بقوله :وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ أي ووجوه أخرى في القيامة عليها غبار وكدورة ، لما تراه مما أعدّه اللّه لها من العذاب ، يغشاها سواد وكسوف ، وذلّة وشدة ، وأصحاب تلك الوجوه المغبّرة هم الذين كفروا باللّه فلم يؤمنوا به ، ولا بما جاء به أنبياؤه ورسله ، واقترفوا السيئات ، فهم الفاسقون الكاذبون الذين جمعوا بين الكفر والفجور ، كما قال تعالى : وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح 71/ 27]. ولا نسلم أن صاحب الكبيرة فاجر ، بدليل هذه الآية : الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ فالكفار هم الفجار لا غيرهم.
ووجود هذين الفريقين في هذه الآية ونحوها لا يقتضي نفي وجود فريق ثالث وهم المؤمنون العصاة أو الفساق ، كما قال الرازي (3) .
ومضات :
قوله تعالى : «فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ » الصاخة : هى الطامة الكبرى ، التي جاء ذكرها فى قوله تعالى : « فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى » (34 : النازعات) وهى تلك الأحداث المزلزلة التي تقع يوم القيامة ..
__________
(1) - صحيح البخارى (6527 )
(2) - صحيح البخارى (3447 )
(3) - (1) تفسير الرازي : 31/ 65(1/224)
وسميت صاخة ، لأنها تصخّ الآذان ، أي تقرعها قرعا شديدا عاتيا ، بما يكون من صراخ وعويل ، وصرير أسنان .. فى هذا اليوم العظيم.
وقوله تعالى : « يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَصاحِبَتِهِ ، وَبَنِيهِ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ » يوم ، هو الظرف ، الذي تجىء فيه هذه الصاخة ، المدويّة ، المرعبة ..
وفى هذا اليوم : « يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. »
يقر من كل هؤلاء الذين كانوا ملاذه ، وعونه ، وأمنه ، طالبا النجاة لنفسه من هذا الهول ، الذي لا يدع فرصة لأحد أن ينظر إلى غير نفسه : « لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ » : فكل إنسان فى هذا اليوم همّه الذي يشغله ، ويستغرق كل ذرة فى كيانه ، فلا يبقى عنده فضل لغيره ، ولو كان أحب الناس إليه وآثرهم عندهم.
ومن الإعجاز النفسي للقرآن الكريم فى هذه الآيات ، أنه غاص فى أعماق النفس الإنسانية ، وأقام مشاعرها على ميزان دقيق محكم ، فجاء هذا الترتيب لموقف الإنسان ممن يقر منهم فى زحمة هذا البلاء ، حسب درجة شعوره بهم ، ووزنه لكل منهم ..
إنه يفرّ أولا من الناس جميعا .. جملة واحدة. لا ينظر إلى أحد ..
ثم هو يجد نفسه مع أشخاص قد ارتبط بهم ارتباط الجسد بأعضائه .. هم أهله ، الذي هو فرع من شجرة جمعتهم وإياه .. أخوه ، وأمه وأبوه ، وزوجه وبنوه! ثم هو من جهة أخرى محمول بالإكراه ـ تحت قسوة الموقف ـ أن يفر منهم جميعا .. ومع أن زحمة الأحداث ، وشدة البلاء ـ لا تدع له فرصة للاختيار ، إلا أنه فى لحظة خاطفة ، من أجزاء الزمن ، أشبه بالذرات ـ يفرّ منهم على صورة تأخذ هذا الترتيب التصاعدى ، القريب ، فالأقرب ، فمن هو أشد قربا ..
فيفر أولا من أخيه ، ثم أمه وأبيه ، ثم زوجة ، ثم يكون آخر من ينفصل عنه أبناؤه الذين هم بضعة منه ، والذين لا يبقى بعدهم من ينفصل منه إلا بعض أجزاء جسمه هو!! وليس هناك ـ كما قلنا ـ زمن يقع فيه هذا الفرار على آنات متتابعة ، وإنما هى وحدة شعورية بالفرار ، انقسمت فى داخلها ، كما تنقسم الذرة! ويلاحظ أن الزوجة ، لم تأخذ مكانها من هذا الترتيب ، ولم تفضل الأبوين ، إلا وهى زوجة ذات صفات خاصة ، وهى أنها صاحبة وزوج معا ، والزوجة حين تكون بهذه الصفة هى أقرب مخلوق إلى نفس الإنسان وآثره ، بعد الأبناء! هذه هى حركة النفس الإنسانية ، وتلك معطيات شعورها فى حال الفرار من الخطر ، والتماس سبيل النجاة ..
فإذا كان الإنسان واقعا ليد الخطر فعلا ، وقد أحاط به من كل جانب ، وعلقت به النار من رأسه إلى أخمص قدمه ـ فما الحركة الشعورية للنفس فى دفع هذا الخطر ، وإطفاء تلك النار المشتعلة فيه ؟(1/225)
نجد الجواب على هذا فى قوله تعالى ، فى سورة المعارج ، إذ يقول سبحانه : « يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ كَلَّا إِنَّها لَظى ».(11 ـ 15)
إن الحركة الشعورية للإنسان هنا تأخذ اتجاها عكس الاتجاه الأول ، الذي أخذته فى موقف الفرار ..
ففى موقف الفرار ، هناك شىء من السعة ، يتيح للإنسان أن يتحرك فيه ، نحو الجهة التي يتوهم أن له سبيلا إليها ، وإن لم يكن ثمّة سبيل ..
أما فى موقفه وقد أحاط به البلاء ، واشتملت عليه النار ، فإنه ليس ثمة إلا أن يمد يده إلى أقرب شىء يمكن أن يصل إليه ، ليقيم منه ستارا على جسده الذي تأكله النار ، وقد يكون هذا الشيء بعض أعضاء جسده هو ، كيده ، التي يدفع بها النار عن وجهه مثلا!! وأقرب شىء إلى الإنسان بعد أعضائه ، هم بنوه ، ثم صاحبته (زوجه) ثم .. ثم أسرته من أعمام ، وأبناء أعمام .. ثم أهل الأرض جميعا .. كل هؤلاء يتخذ منهم دروعا واقية له ، يرمى بهم فى وجه البلاء واحدا بعد واحد ، ولكن هيهات أن يجد من أىّ وقاية من هذا البلاء ..
إنه مجرد أمل يراوده لو أمكنته الفرصة من تحقيقه ، ولكن ليس إلى ذلك من سبيل ..!
فهذا وجه من وجوه الإعجاز القرآنى ، الذي يستولى ببيانه على حقائق الأشياء ، وينفذ إلى أعماقها وخفاياها ، فإذا هى فى وجه صبح مشرق مبين!! ..
قوله تعالى : « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ »..هو جواب « إذا » فى قوله تعالى : « فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ » أي فإذا جاءت القيامة ، فأمر الناس مختلف ، فهم فريقان :
ـ « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ » أي مشرقة بالبهجة والمسرة ، تضحك استبشارا بما لاح لها من دلائل الفوز ، وما هبّ عليها من أنسام الرضوان والجنان ..
« وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ » أي عليها غبرة الكمد والحسد ، وسواد الكآبة والمذلة .. « تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ».. أي يعلوها الشحوب ، ويعتصر ماءها الرّهق والتعب .. « أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ » أي أن أصحاب هذه الوجوه المغبرة الكالحة الشاحبة ، هم الكفرة الفجرة ، أي الذين جمعوا بين الكفر باللّه ، وبين المبالغة فى الضلال ، والفجور .. فالكفر ظلمات بعضها أشد ظلاما من بعض ، والكفار أصناف ، بعضهم أشد إيغالا فى الكفر والضلال من بعض ، وشتان بين كفر أبى لهب ، وأبى جهل ، وبين كفر غيرهم من حواشى القوم.(1/226)
والحديث عن الوجوه عوضا عن أصحابها ـ هو ـ كما قلنا فى غير موضع ـ لما فى الوجوه من قدرة على التعبير عما فى النفوس من مشاعر وعواطف .. حيث ينطبع عليها كلّ ما يقع على الإنسان مما يسوء أو يسرّ .. (1)
فهذه هي خاتمة المتاع . وهذه هي التي تتفق مع التقدير الطويل ، والتدبير الشامل ، لكل خطوة وكل مرحلة في نشأة الإنسان . وفي هذا المشهد ختام يتناسق مع المطلع . مع الذي جاء يسعى وهو يخشى . والذي استغنى واعرض عن الهدى . ثم هذان هما في ميزان الله .
« والصاخة لفظ ذو جرس عنيف نافذ ، يكاد يخرق صماخ الأذن ، وهو يشق الهواء شقاً ، حتى يصل إلى الأذن صاخاً ملحاً! »« وهو يمهد بهذا الجرس العنيف للمشهد الذي يليه : مشهد المرء يفر وينسلخ من ألصق الناس به : { يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه } . . أولئك الذين تربطهم به وشائج وروابط لا تنفصم؛ ولكن هذه الصاخة تمزق هذه الروابط تمزيقاً ، وتقطع تلك الوشائج تقطيعاً .« والهول في هذا المشهد هول نفسي بحت ، يفزع النفس ويفصلها عن محيطها . ويستبد بها استبداداً . فلكل نفسه وشأنه ، ولديه الكفاية من الهم الخاص به ، الذي لا يدع له فضلة من وعي أو جهد : { لكل امرئ منهم يومئذ شان يغنيه } . .
» والظلال الكامنة وراء هذه العبارة وفي طياتها ظلال عميقة سحيقة . فما يوجد أخصر ولا أشمل من هذا التعبير ، لتصوير الهم الذي يشغل الحس والضمير : { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } !
ذلك حال الخلق جميعاً في هول ذلك اليوم . . إذا جاءت الصاخة . . ثم يأخذ في تصوير حال المؤمنين وحال الكافرين ، بعد تقويمهم ووزنهم بميزان الله هناك : { وجوه يومئذ مسفرة . ضاحكة مستبشرة } . . فهذه وجوه مستنيرة منيرة متهللة ضاحكة مستبشرة ، راجية في ربها ، مطمئنة بما تستشعره من رضاه عنها . فهي تنجو من هول الصاخة المذهل لتتهلل وتستنير وتضحك وتستبشر . أو هي قد عرفت مصيرها ، وتبين لها مكانها ، فتهللت واستبشرت بعد الهول المذهل . .{ ووجوه يومئذ عليها غبرة . ترهقها قترة . أولئك هم الكفرة الفجرة } . .فأما هذه فتعلوها غبرة الحزن والحسرة ، ويغشاها سواد الذل والانقباض . وقد عرفت ما قدمت ، فاستيقنت ما ينتظرها من جزاء . . { أولئك هم الكفرة الفجرة } . . الذين لا يؤمنون بالله وبرسالاته ، والذين خرجوا عن حدوده وانتهكوا حرماته . .وفي هذا الوجوه وتلك قد ارتسم مصير هؤلاء وهؤلاء . ارتسم ملامح وسمات من خلال الألفاظ والعبارات . وكأنما الوجوه شاخصة ، لقوة التعبير القرآني ودقة لمساته .بذلك يتناسق المطلع والختام . . المطلع يقرر
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1461)(1/227)
حقيقة الميزان . والختام يقرر نتيجة الميزان . وتستقل هذه السورة القصيرة بهذا الحشد من الحقائق الضخام ، والمشاهد والمناظر ، والإيقاعات والموحيات . وتفي بها كلها هذا الوفاء الجميل الدقيق . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- بيان شدة الهول يوم القيامة يدل عليه فرار المرء من أقربائه .
2- خطر التبعات على العبد يوم القيامة وهي الحقوق التي يطالب بها العبد يوم القيامة .
3- شدة الهول والفزع تنسي المرء يوم القيامة أن ينظر إلى عورة أحد من أهل الموقف .
فإذا جاءت صيحة القيامة وهي النفخة الثانية أو الأخيرة ، والتي يهرب في يومها الأخ من أخيه ، والولد من والديه ، والزوج من زوجته وأولاده ،لاشتغاله بنفسه ، يكون لكل إنسان يومئذ حال أو شغل يشغله عن غيره.
4- ثمرة الإِيمان والتقوى تظهر في الموقف نورا على الوجه وإشراقا له وإضاءة وثمرة الكفر والفجور تظهر ظلمة وسوادا على الوجه وغبارا .
5- تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض صورة من صورها .
6- الناس فى هذا اليوم فريقان : سعداء وأشقياء ، وذكر حال كل منهما حينئذ.
- فريق كان فى دنياه يطلب الحق وينظر فى الحجة ، ويعمل ما استقام عليه الدليل ، لا يثنيه عن الأخذ به قلة الآخذين ، ولا قوة المعاندين ، وهؤلاء سيطمئنون إلى ما أدركوا ، ويفرحون بما نالوا ، وتظهر على أسارير وجوههم علامات البشر والسرور.
- فريق احتقر عقله ، وأهمل النظر فى نعم اللّه عليه ، وارتضى الجهل ، وانصرف عن الاستدلال إلى اقتفاء آثار الآباء والأجداد ، وظل يخبّ ويضع فى أهوائه الباطلة ، وعقائده الزائفة - وهؤلاء سيجدون كل شىء على غير ما كانوا يعرفون ، فتظهر عليهم آثار الخيبة والفشل ، وتعلو وجوههم الغبرة ، وترهقها القترة ، لأنهم كانوا فى حياتهم الدنيا كفرة فجرة.
مقاصد هذه السورة
(1) عتاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ما حدث منه مع ابن أم مكتوم الأعمى.
(2) أن القرآن ذكرى وموعظة لمن عقل وتدبّر.
(3) إقامة الأدلة على وحدانية اللّه بخلق الإنسان والنظر فى طعامه وشرابه.
(4) أهوال يوم القيامة.
(5) الناس فى هذا اليوم فريقان : سعداء وأشقياء ، وذكر حال كل منهما حينئذ. (2)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3834)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 51)(1/228)
سورة التكوير
مكيّة ، وهي تسع وعشرون آية
تسميتها :
سميت سورة التكوير ،لافتتاحها بقوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ أي جمع بعضها إلى بعض ، ثم لفّت ، فرمى بها ، ومحى ضوؤها.
وقال ابن عاشور :
" لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سماها تسمية صريحة. وفي حديث الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت" . وليس هذا صريحا في التسمية لأن صفة يوم القيامة في جميع هذه السورة بل هو في الآيات الأول منها، فتعين أن المعنى: فليقرأ هذه الآيات، وعنونت في "صحيح البخاري" وفي "جامع الترمذي" "سورة إذا الشمس كورت"، وكذلك عنونها الطبري.
وأكثر التفاسير يسمونها "سورة التكوير" وكذلك تسميتها في المصاحف وهو اختصار لمدلول "كورت".
وتسمى "سورة كورت" تسمية بحكاية لفظ وقع فيها. ولم يعدها في "الإتقان" مع السور التي لها أكثر من اسم.وهي مكية بالاتفاق.
وهي معدودة السابعة في عداد نزول سور القرآن، نزلت بعد سورة الفاتحة وقبل سورة الأعلى.وعدد آيها تسع وعشرون.
أغراضها
اشتملت على تحقيق الجزاء صريحا.
وعلى إثبات البعث وابتدىء بوصف الأهوال التي تتقدمه وأنتقل إلى وصف أهوال تقع عقبه.
وعلى التنويه بشأن القرآن الذي كذبوا به لأنه أوعدهم بالبعث زيادة لتحقيق وقوع البحث إذ رموا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنون والقرآن بأنه يأتيه به شيطان. " (1)
مناسبتها لما قبلها :
توضح كل من السورتين أهوال القيامة وشدائدها ، ففي سورة عبس قال تعالى : فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ .. [33- 42] وفي هذه السورة قال سبحانه:إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ .. إلخ ، فلما ذكر سبحانه الطامة والصاخة في خاتمتي السورتين المتقدمتين ، أردفهما بذكر سورتين مشتملتين على أمارات القيامة وعلامات يوم الجزاء.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 123)(1/229)
وقال الخطيب : " جاء فى سورة « عبس » عرض ليوم القيامة ، وللعذاب الشديد الذي يحيط بالكافرين ، حتى ليفر الكافر من أخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه ..
وقد جاءت سورة « التكوير » بعدها ، عارضة المشاهد التي تسبق هذا اليوم ، لتخرح بالمشركين وراء دائرة العذاب قليلا ، ليلقوا نظرة على الحياة الدنيا ، التي كانوا فيها ، والتي يودون الفرار إليها ..
فهل إذا أتيحت لهم فرصة الفرار من هذا العذاب ، وعادوا إلى الدنيا ، أيصلحون ما أفسدوا من حياتهم ؟ أيؤمنون بهذا اليوم ، وما يلقى الكافرون فيه ؟ وإنهم لفى هذا اليوم فعلا ، إنهم لم يبرحوا هذه الدنيا بعد .. فماذا هم فاعلون ؟ .. هذا سؤال ستكشف الأيام عن الجواب الذي يعطيه هؤلاء المشركون عنه .. " (1)
ما اشتملت عليه السورة :
* سورة التكوير من السور المكية ، وهي تعالج حقيقتين هامتين هما : (حقيقة القيامة) وحقيقة (الوحي والرسالة) وكلاهما من لوازم الإيمان وأركانه.
* ابتدات السورة الكريمة ببيان القيامة ، وما يصاحبها من انقلاب كوني هائل ، يشمل الشمس والنجوم ، والجبال ، والبحار ، والأرض ، والسماء ، والأنعام ، والوحوش ، كما يشمل البشر ويهز الكون هزا عنيفا طويلا ، ينتثر فيه كل ما في الوجود ، ولا يبقى شيء إلا قد تبدل وتغير من هول ما يحدث في ذلك اليوم الرهيب [ إذا الشمس كورت ، وإذا النجوم انكدرت ، وإذا الجبال سيرت ، وإذا العشار عطلت ، وإذا الوحوش حشرت ، وإذا البحار سجرت ] الآيات.
* ثم تناولت (حقيقة الوحي ) وصفة النبي الذي يتلقاه ، ثم شأن القوم المخاطبين بهذا الوحي ، والرسول الذي نزل لينقلهم من ظلمات الشرك والضلال ، إلى نور العلم والإيمان [ فلا أقسم بالخنس ، الجوار الكنس ، والليل إذا عسعس ، والصبح إذا تنفس ، إنه لقول رسول كريم ] الآيات .
* وختمت السورة الكريمة ببيان بطلان مزاعم المشركين ، حول القرآن العظيم ، وذكرت أنه موعظة من الله تعالى لعباده [ فأين تذهبون ، إن هو إلا ذكر للعالمين ، لمن شاء منكم أن يستقيم [ وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين. (2) .
مقصودها التهديد الشديد بيوم الوعيد الذي هو محط الرحال ، لكونه أعظم مقام لظهور الجلال ، لمن طذب بأن هذا القرآن تذكرة لمن ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة ، والدلالة على حقية كونه كذلك بأن السفير به أمين في الملأ الأعلى مكين المكانف فيما هنالك
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1466)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 462)(1/230)
والموصل بعه إلينا منزه عن التهمة برئ من النقص لما يعلمونه من حاله قبل النبوة وما كانوا يشهدون له به من أمره ولم يأتهم بعدها إلا بما هو شرف له وتذكير بما في أنفسهم وفي الآفاق ومن الآيات ، وذلك كاف لهم في الحكم بأنه صدق والعم اليقين بأنه حق ، واسمها التكوير أدل ما فيها على ذلك بتأمل الظرف وجوابه وما فيه من بديع القول وصوابه ، وما تسبب عنه من عظم الشأن لهذا القرآن ) بسم الله ( الواحد القهار ) الرحمن ( الذي عمت نعمة إيجاده وبيانه الأبرار والفجار ) الرحيم ( الذي خص أهل وداده بما أسعدهم في دار القرار . (1)
السورة فصلان ، الأول في صدد يوم القيامة وهول أعلامه وحساب الناس فيه ومصائرهم ، والثاني في صدد توكيد صدق ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلته بوحي اللّه وملكه ونفي الجنون عنه وصلة الشيطان به. والفصلان على اختلاف موضوعيهما غير منفصلين عن بعضهما ، والمرجح أنهما نزلا متتابعين فوضع الواحد بعد الآخر. (2)
هذه السورة ذات مقطعين اثنين تعالج في كل مقطع منهما تقرير حقيقة ضخمة من حقائق العقيدة:
الأولى حقيقة القيامة ، وما يصاحبها من انقلاب كوني هائل كامل ، يشمل الشمس والنجوم والجبال والبحار ، والأرض والسماء ، والأنعام والوحوش ، كما يشمل بني الإنسان .
والثانية حقيقة الوحي ، وما يتعلق بها من صفة الملك الذي يحمله ، وصفة النبي الذي يتلقاه ، ثم شأن القوم المخاطبين بهذا الوحي معه ، ومع المشيئة الكبرى التي فطرتهم ونزلت لهم الوحي .
والإيقاع العام للسورة بحركة جائحة . تنطلق من عقالها ، فتقلب كل شيء ، وتنثر كل شيء؛ وتهيج الساكن وتروع الآمن؛ وتذهب بكل مألوف وتبدل كل معهود؛ وتهز النفس البشرية هزاً عنيفاً طويلاً ، يخلعها من كل ما اعتادت أن تسكن إليه ، وتتشبث به ، فإذا هي في عاصفة الهول المدمر الجارف ريشة لا وزن لها ولا قرار . ولا ملاذ لها ولا ملجأ إلا في حمى الواحد القهار ، الذي له وحده البقاء والدوام ، وعنده وحده القرار والاطمئنان . .
ومن ثم فالسورة بإيقاعها العام وحده تخلع النفس من كل ما تطمئن إليه وتركن ، لتلوذ بكنف الله ، وتأوي إلى حماه ، وتطلب عنده الأمن والطمأنينة والقرار . .
وفي السورة مع هذا ثروة ضخمة من المشاهد الرائعة ، سواء في هذا الكون الرائع الذي نراه ، أو في ذلك اليوم الآخر الذي ينقلب فيه الكون بكل ما نعهده فيه من أوضاع . وثروة كذلك من التعبيرات الأنيقة! المنتقاة لتلوين المشاهد والإيقاعات . وتلتقي هذه وتلك في حيز السورة الضيق ، فتضغط على الحس وتنفذ إليه في قوة وإيحاء .
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 335)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 499)(1/231)
ولولا أن في التعبير ألفاظاً وعبارات لم تعد مألوفة ولا واضحة للقارئ في هذا الزمان ، لآثرت ترك السورة تؤدي بإيقاعها وصورها وظلالها وحقائقها ومشاهدها ، ما لا تؤديه أية ترجمة لها في لغة البشر؛ وتصل بذاتها إلى أوتار القلوب فتهزها من الأعماق .
ولكن لا بد مما ليس منه بد . وقد بعدنا في زماننا هذا عن مألوف لغة القرآن! (1)
السورة فصلان ، الأول في صدد يوم القيامة وهول أعلامه وحساب الناس فيه ومصائرهم ، والثاني في صدد توكيد صدق ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلته بوحي اللّه وملكه ونفي الجنون عنه وصلة الشيطان به. والفصلان على اختلاف موضوعيهما غير منفصلين عن بعضهما ، والمرجح أنهما نزلا متتابعين فوضع الواحد بعد الآخر. (2)
فضلها :
عن ابْنِ عُمَرَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : [مَنْ سَرَّهُ أَنْ] يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْىُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}، {وَإِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}، {وَإِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} أَحْسَبُهُ أَنَّهُ قَالَ: وسُورَةَ هُودٍ." مسند أحمد (3)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ الصَّنْعَانِىُّ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْىُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) وَ(إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ) و(إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) » سنن الترمذى. (4)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3836)
(2) - التفسير الحديث لدروزة - (1 / 635)
(3) - غاية المقصد فى زوائد المسند 2 - (1 / 320) (3339 ) حسن
(4) - سنن الترمذى (3653 ) وصحيح الجامع ( 6293) وهو حديث صحيح(1/232)
أحوال القيامة وأهوالها
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... كُوِّرَتْ ... لفَّت فرميت وذهب ضوؤها
2 ... النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ... تناثرت وتساقطت
3 ... الجِبَالُ سُيِّرَتْ ... وقعت ونسفت
4 ... العِشَاُر عُطِّلَتْ ... الإبل الحوامل يهملها أهلها من الهلع
5 ... الوُحُوشُ حُشِرَتْ ... جُمِعَت من كل صوب
6 ... البِحَارُ سُجِّرَتْ ... أوقدت نارا أو ملئت
7 ... النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ... صنفت فكانت مع أمثالها وأضرابها بعدأن تزوج الأرواح بالأجساد
8 ... المَوْءُودَةُ ... البنت تدفن حية خوف العار أو الحاجة
10 ... الصُّحُفُ نُشِرَتْ ... أعطي كل إنسان صحيفته
11 ... السَّمَاءُ كُشِطَتْ ... نزعت من أماكنها فطويت كما يقشط الجلد ويطوى
12 ... الجَحِيمُ سُعِّرَتْ ... أوقدت وأججت
13 ... الجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ... قربت إلى أهلها ليدخلوها
14 ... عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ... علمت النفوس ما عملت من خير أو شر
المعنى الإجمالي:
بدأ سبحانه هذه السورة الكريمة بذكر يوم القيامة ، وما يكون فيه من حوادث عظام ، ليفخّم شأنه ، وبين أنه حين تقع هذه الأحداث تعلم كل نفس ما قدمت من عمل خير أو شر ، ووجدت ذلك أمامها مائلا ، ورأت ما أعدّ لها من جزاء وتمنت إن كانت من أهل الخير أن لو كانت زادت منه ، وإن كانت من أهل الشر أن لو لم تكن فعلته ، واستبان لها أن الوعيد الذي جاء على ألسنة الرسل كان وعيدا صادقا ، لا تهويل فيه ولا تضليل. (1)
__________
(1) - تفسير المراغي ، ج 30 ، ص : 54(1/233)
وقد ابتدأ اللّه هذه السورة الكريمة بذكر علامات ودلائل تكون يوم القيامة. بعضها سابق عليه وبعضها يكون فيه ، وعلى العموم فمقدمات البعث تكون بخراب الدنيا واختلال نظامها وهلاك كل من فيها ، وذلك عند النفخة الأولى ، في هذا الوقت تكور الشمس وتلف حتى لا يكون لها ضوء أو حرارة ، والنجوم تتناثر وتسقط ، وترجف الأرض وتضطرب فتزول الجبال من أماكنها ، وتصبح كالعهن المنفوش ، عند ذلك يملأ الخوف والاضطراب كل الكون ، فلو فرض وكانت حياة عندئذ يذهل كل إنسان عن أعز شيء لديه ، فتراه يهمل عشاره وكرائم ماله ، بل تذهل كل مرضعة عما أرضعت لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ » و ترى الوحوش قد جمعت من كل مكان وأصبحت في صعيد واحد ، والبحار سجرت بالزلازل حتى اختلطت وضاعت الحواجز بينها ، وتعود بحرا واحدا ، ويكون التسجير : معناه امتلاؤها بالماء. ولعل المراد بالتسجير هنا : ملؤها بالنار بدل الماء ، ولا غرابة فباطن الأرض شديد الحرارة جدا بدليل البراكين التي تخرج منه ، وليس ببعيد عند انتهاء الدنيا ، أن تتشقق الأرض ويغيض الماء لتبخره ، ثم يمتلئ البحر بالنار التي تخرج من باطن الأرض ، تلك هي مقدمات البعث الأولى ، وبعدها يكون البعث والحياة والنشور وهذا عند النفخة الثانية ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [سورة الزمر آية 68].
هذه هي أولى مراحل البعث ذكرت بعد مقدماته ، وإذا النفوس عادت إلى أبدانها ، بعد أن كانت بعيدة عنها ، وكانت الحياة الثانية لأجل البعث ، وفيه يؤتى بالموءودة التي دفنت حية خوف الفقر أو العار ، وتلك كانت عادة من عادات العرب في الجاهلية ، فجاء الإسلام وحاربها وقضى عليها ، واستبدل من أولئك الأعراب الذين كانوا يئدون البنات أحياء عربا فيهم ظرف الإسلام ، وحكمة المسلمين وغرس فيهم التربية الإسلامية العالية التي قوامها : لا ضرر ولا ضرار ، والتمسك بأهداب الفضيلة والمثل العليا.
هذه الموءودة تسأل : لأى ذنب قتلت ؟ ! لم يكن لها ذنب - علم اللّه - وهذا سؤال للتبكيت والتوبيخ والتسجيل عليهم ، وإذا الصحف التي كتبت فيها الأعمال ، وسجل فيها ما اقترفه كل إنسان ، نشرت ليقرأ كل إنسان كتابه ، ويعرف عمله وحسابه ، وإذا السماء كشطت وأزيلت فلم يعد لها وجود. والظاهر - واللّه أعلم - أن المراد بكشط السماء هو رفع الحجاب فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ فترى كل نفس عند ذلك عملها ، وتقوم عليها شهودها ، فتبصر ما لم تكن تبصره من قبل ، وإذا الجحيم سعرت وأحميت نارها وأوقدت ، وإذا الجنة أزلفت وقربت وقدمت للمتقين.(1/234)
وإذا الشمس كورت ، وإذا النجوم انكدرت ... إلخ ما ذكر هنا من الأمور الاثنى عشر. وجواب هذا الشرط قوله : علمت نفس ما أحضرت ، أى : إذا حصل هذا - ما ذكر - علمت نفس ما قدمت من عمل إن كان خيرا فجزاؤه خير ، وإن كان شرّا فجزاؤه شر.
وقد فصل هنا ما أجمل في سورة « ق » عند بيان ما يسبق الحساب فقال هناك : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وقال هنا : إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إلى قوله : وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وهنا أجمل في ذكر ما يحصل يوم الحساب حيث اكتفى بسؤال الموءودة ، وتسعير جهنم. وتقريب الجنة ، وفي سورة « ق » فصل كثيرا حيث قال : وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ... ... إلخ. الآيات. (1)
التفسير والبيان :
هذه أوصاف القيامة وأحداثها الجسام ، لتعظيمها وتخويف الناس بها : إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ، وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ أي إذا لفّت الشمس ، وجمعت ، بعضها على بعض كتكوير العمامة ، وجمع الثياب مع بعضها ، ثم رمى بها ، وذهب بضوئها ، إيذانا بخراب العالم وإذا انقضّت النجوم وتساقطت وتناثرت ، كما قال تعالى : وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ [الانفطار 82/ 2] وإذا قلعت الجبال عن الأرض ، وسيّرت في الهواء حين زلزلة الأرض ، كما قال تعالى : وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً [السبأ 78/ 20] وقال سبحانه : وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الكهف 18/ 47].
وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ، وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ أي وإذا النوق الحوامل التي في بطونها أولادها ، وهي أنفس مال عند العرب وأعزّة عندهم ، تركت مهملة بلا راع ، لشدة الخطب ، وعظمة الهول وإذا الوحوش الدواب البرية غير الإنسانية بعثت حتى يقتص لبعضها من بعض ، وقيل : حشرها : موتها وهلاكها وإذا البحار أوقدت بالبراكين والزلازل فصارت نارا تضطرم ، بعد أن فاض بعضها إلى بعض ، وصارت شيئا واحدا ، كما قال تعالى : وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ [الانفطار 82/ 3] وقال : وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور 52/ 6] وحينئذ تصير البحار والأرض شيئا واحدا في غاية الحرارة والإحراق.
عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ ، قَالَ : ثني أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، قَالَ : سِتُّ آيَاتٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ : بَيْنَا النَّاسُ فِي أَسْوَاقِهِمْ ، إِذْ ذَهَبَ ضَوْءُ الشَّمْسِ ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ ، إِذْ تَنَاثَرَتِ النُّجُومُ ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ ، إِذْ وَقَعَتِ الْجِبَالُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، فَتَحَرَّكَتْ وَاضْطَرَبَتْ وَاحْتَرَقَتْ ، وَفَزِعَتِ الْجِنُّ إِلَى الْإِنْسِ ، وَالْإِنْسُ إِلَى الْجِنِّ ، وَاخْتَلَطَتِ الدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ وَالْوَحْشُ ، وَمَاجُوا بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ وَإِذَا
__________
(1) - التفسير الواضح ، ج 3 ، ص : 829(1/235)
الْوحُوشُ حُشِرَتْ قَالَ : اخْتَلَطَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ قَالَ : أَهْمَلَهَا أَهْلُهَا وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ قَالَ : قَالَتِ الْجِنُّ لِلْإِنْسُ : نَحْنُ نَأْتِيكُمْ بِالْخَبَرِ ؛ قَالَ : فَانْطَلَقُوا إِلَى الْبِحَارِ ، فَإِذَا هِيَ نَارٌ تَأَجَّجُ ؛ قَالَ : فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ تَصَدَّعَتِ الْأَرْضُ صَدْعَةً وَاحِدَةً ، إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى ، وَإِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الْعُلْيَا ؛ قَالَ : فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرِّيحُ فَأَمَاتَتْهُمْ " جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (1)
وقال ابن عباس في قوله تعالى : إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إلى قوله : وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ اثنتا عشرة خصلة : ستة في الدنيا ، وستة في الآخرة. والستة الأولى بيناها بقول أبي بن كعب ، والستة الأخرى في الآيات التالية. (2)
لذا ذكر اللّه تعالى ما يحدث بعدئذ من البعث ، فقال : وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ، وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ أي وإذا قرنت الأرواح بأجسادها حين النشأة الآخرة ، وإذا الفتاة المدفونة حية خوف العار أو الحاجة ، كما كان بعض قبائل العرب يفعل في الجاهلية ، سئلت لتوبيخ قاتلها أو وائدها لأنها قتلت بغير ذنب فعلته. فقد كان بعض أهل الجاهلية يدسونها في التراب ، كراهية البنات ، فيوم القيامة تسأل الموءودة على أي ذنب قتلت ، ليكون ذلك تهديدا لقاتلها ، فإنه إذا سئل المظلوم ، فما ظن الظالم إذن ؟ !
وقال ابن عباس : وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ : سألت. والوأد جريمة عظمي.
وهذا السؤال للموءودة لتوبيخ الفاعلين للوأد لأن سؤالها يؤول إلى سؤال الفاعلين (3) .
وقالت حَسْنَاءُ ابْنَةُ مُعَاوِيَةَ الصُّرَيْمِيَّةُ عَنْ عَمِّهَا قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ فِى الْجَنَّةِ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « النَّبِىُّ فِى الْجَنَّةِ وَالشَّهِيدُ فِى الْجَنَّةِ وَالْمَوْلُودُ فِى الْجَنَّةِ وَالْمَوْءُودَةُ فِى الْجَنَّةِ » مسند أحمد. (4) .
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ، وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ أي إذا عرضت ونشرت للحساب صحائف الأعمال ، في موقف الحساب ، فكل إنسان يعطى صحيفته بيمينه أو بشماله ، وإذا تشققت السماء وأزيلت ، فلم يبق لها وجود.
وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ أي وإذا أوقدت النار لأعداء اللّه إيقادا شديدا ، قال تعالى : وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [البقرة 2/ 24] وإذا قربت الجنة وأدنيت لأهلها المتقين ، كما قال تعالى : وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق 50/ 31].
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (33748 ) صحيح
(2) - تفسير القرطبي ـ موافق للمطبوع - (19 / 236)
(3) - البحر المحيط : 8/ 433
(4) - مسند أحمد -(21127) حسن -الموءودة : المدفونة وهى حية(1/236)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ جواب إذا وما عطف عليها ، أي إذا حصل كل ما تقدم من الأحداث ، ووقعت هذه الأمور ، علمت كل نفس ما أحضرته عند نشر الصحف ، وما عملت من خير أو شر ، كما قال تعالى : يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران 3/ 30] وقال سبحانه : يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة 75/ 13]. والآيات من أول السورة إلى هنا شرط ، وجوابه : عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ. وقال الحسن البصري : هذا قسم وجواب له. قال القرطبي : والقول الأول أصح.
ومضات :
وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } يعني البنات التي كانت طوائف العرب يقتلونهن ، قال السيد المرتضى في " أماليه " : الموءودة هي المقتولة صغيرة ، وكانت العرب في الجاهلية تئد البنات ، بأن يدفنوهنَّ أحياء ، وهو قوله تعالى { أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ } [ النحل : 59 ] ، وقوله تعالى { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الأنعام : 140 ] ، ويقال أنهم كانوا يفعلون ذلك لأمرين : أحدهما أنهم كانوا يقتلونهن خشية الإملاق . قال الله تعالى { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ } [ الأنعام : 151 ] . قال المرتضى : وجدت أبا علي الجبائيّ وغيرَه يقول : إنما قيل لها : موءودة ؛ لأنها ثقلت بالتراب الذي طرح عليها حتى ماتت ، وفي هذا بعض النظر ؛ لأنهم يقولون من الموءودة وَأَدَ يَئِدُ وَأْداً ، والفاعل وائِد ، والفاعلة وائِدة ، ومن الثقل يقولون : آدَني الشيء يؤودني ، إذا أثقلني ، أَوْداً . انتهى .
وإنما قال : بعض النظر ؛ لأن القلب معهود في اللغة ، فلا يبعد أن يكون وأد مقلوباً من آد . وقال المرتضى : فإن سأل سائل : كيف يصح أن يسأل من لا ذنب له ولا عقل ، فأي فائدة في سؤالها عن ذلك ، وما وجه الحكمة فيه ؟ والجواب من وجهين :
أحدهما : أن يكون المراد أن قاتلها طولب بالحجة في قتلها ، وسئل عن قتله لها بأي ذنب كان ، على سبيل التوبيخ والتعنيف وإقامة الحجة . فالقتَلة هاهنا هم المسؤولون على الحقيقة ، لا المقتولة ، وإنما المقتولة مسؤول عنها . ويجري هذا مجرى قولهم : سألت حقي ، أي : طالبت به ومثله ، على تعالى : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 34 ] أي : مطالَباً به مسؤولاً عنه .
والوجه الآخر أن يكون السؤال توجه إليها على الحقيقة ، على سبيل التوبيخ له ، والتقريع له ، والتنبيه له ، على أنه لا حجة له في قتلها . ويجري هذا مجرى قوله تعالى لعيسى عليه السلام:
{ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ } [ المائدة : 116 ] على طريق التوبيخ لقومه ، وإقامة الحجة عليهم . فإن قيل على هذا الوجه : كيف يخاطب ويسأل من لا عقل له ولا فهم ؟ فالجواب أن في الناس من زعم أن الغرض بهذا القول ، إذا كان تبكيت الفاعل(1/237)
وتهجينه وإدخال الغم عليه في ذلك الوقت على سبيل العقاب ، لم يمتنع أن يقع ، وإن لم يكن من الموءودة فهم له ؛ لأن الخطاب ، وإن علق عليها وتوجه إليها ، والغرض في الحقيقة به غيرها ، قالوا : وهذا يجري مجرى من ضرب ظالم طفلاً من ولده فأقبل على ولده يقول له : ُضربتَ ما ذنبك وبأي شيء استحلَّ هذا منك ؟ فغرضه تبكيت الظالم لا خطاب الطفل . والأولى أن يقال في هذا : أن الأطفال ، وإن كانوا من جهة العقول لا يجب في وصولهم إلى الأغراض المستحقة ، أن يكونوا كاملي العقول ، كما يجب مثل ذلك في الوصول إلى الثواب ، فإن كان الخير متظاهراً والأمَّة متفقة على أنهم في الآخرة وعند دخولهم الجنان يكونون على أكمل الهيئات وأفضل الأحوال ، وأن عقولهم تكون كاملة ، فعلى هذا يحسن توجه الخطاب إلى الموءودة ؛ لأنها تكون في تلك الحال ممن تفهم الخطاب وتعقله . وإن كان الغرض منه التبكيت للقاتل وإقامة الحجة عليه . انتهى .
قال الشهاب : والتبكيت قرره الطيبيّ ، بأن المجنيّ عليه إذا سئل بمحضر الجاني ونسبت له الجناية دون الجاني ، بعث ذلك الجاني على التفكّر في حاله وحال المجني عليه . فيرى براءة ساحته وأنه هو المستحق للعقاب والعذاب . وهذا استدراج على طريق التعريض ، وهو أبلغ من التصريح . والمراد بالاستدراج سلوك طريق توصيل إلى المطلوب بسؤال غير المذنب ونسبة الذنب له ؛ حتى يبين من صدر عنه ذلك ، كما سئل عيسى دون الكفَرة ، وهو فنٌّ من البديع بديع . انتهى .
وقال الزمخشريّ : وإنما قيل : { قُتِلَتْ } بناءً على أن الكلام إخبار عنها .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : في الآية تعظيم شأن الوأد ، وهو دفن الأولاد أحياءً . وأخرج مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن العزل فقال : < الوأد الخفيّ . وهي : إذا الموءودة سئلت > . انتهى .
وقد روى عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب في هذه الآية قال : جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ! إني وأدت بنات لي في الجاهلية . قال : < أعتق عن كل واحدة منهن رقبة > . قال : يا رسول الله ! إني صاحب إبل . قال : < فانحر عن كل واحدة منهن بَدنَةَ > .
وروى الدارمي في أوائل مسنده عَنِ الْوَضِينِ : أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ وَعِبَادَةِ أَوْثَانٍ ، فَكُنَّا نَقْتُلُ الأَوْلاَدَ ، وَكَانَتْ عِنْدِى بِنْتٌ لِى ، فَلَمَّا أَجَابَتْ عِبَادَةَ الأَوْثَانِ ، وَكَانَتْ مَسْرُورَةً بِدُعَائِى إِذَا دَعَوْتُهَا ، فَدَعَوْتُهَا يَوْماً فَاتَّبَعَتْنِى ، فَمَرَرْتُ حَتَّى أَتَيْتُ بِئْراً مِنْ أَهْلِى غَيْرَ بَعِيدٍ ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا فَرَدَّيْتُ بِهَا فِى الْبِئْرِ ، وَكَانَ آخِرَ عَهْدِى بِهَا أَنْ تَقُولَ : يَا أَبَتَاهُ يَا أَبَتَاهُ. فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى وَكَفَ دَمْعُ(1/238)
عَيْنَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : أَحْزَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ :« كُفَّ ، فَإِنَّهُ يَسْأَلُ عَمَّا أَهَمَّهُ ». ثُمَّ قَالَ لَهُ :« أَعِدْ عَلَىَّ حَدِيثَكَ ». فَأَعَادَهُ ، فَبَكَى حَتَّى وَكَفَ الدَّمْعُ مِنْ عَيْنَيْهِ عَلَى لِحْيَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ :« إِنَّ اللَّهَ قَدْ وَضَعَ عَنِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا عَمِلُوا ، فَاسْتَأْنِفْ عَمَلَكَ ». (1) .
وكان للعرب تفنن في الوأد ، فمنهم من إذا صارت ابنته سداسية يقول لأمها : طيّبيها وزيِّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها - وقد حفر لها بئراً في الصحراء - فيبلغ بها البئر فيقول لها : انظري فيها ، ثم يدفعها من خلفها ويُهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض .
ومنهم من كان إذا قربت امرأته من الوضع ، حفر حفرة لتتمخّض على رأس الحفرة ، فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة ، وإن ولدت ابناً حبسته . وقد اشتهر صعصعة بن ناجية بن عقال - جد الفرزدق بن غالب - بأنه كان ممن فدى الموءودات في الجاهلية ، ونهى عن قتلهن ، قيل : إنه أحيا ألف موءودة ، وقيل دون ذلك ؛ وقد افتخر الفرزدق بهذا في قوله :
~ومنا الذي منع الوائداتِ وأحيا الوئيدَ فَلَمْ يُوأَدِ
وفي قوله أيضاً :
~أنا ابنُ عِقالٍ وابن ليلى وغالبِ وفَكَّاكُ أغلال الأسير المكفَّرِ
~وكان لنا شيخانِ ذو القبر منهما وشيخٌ أجار الناسَ من كل مَقْبَرِ
~على حينِ لا تُحْيَى البناتُ وإذ همُ عُكُوف على الأصنام حولَ المدوَّرِ
~أنا ابن الذي ردّ المنيةَ فضلُهُ وما حسبٌ دافعتُ عنهُ بِمُعْوِرِ
~أَبي أَحَدُ الغَيْثَيْنَ صعصعةُ الذي متى تُخْلِفِ الجوزاءُ والنجمُ يُمْطِرِ
~أجارَ بناتِ الوائدين ومن يُجِرْ على القبر ، يعلمْ أنه غير مُخْفِرِ
~وفارق ليلٍ من نساء أتت أبى تُعالج ريحاً ليلها غير مُقْمِرِ
~فقالت أجر لي ما ولدتُ فإنني أتيتك من هَزْلى الحمولة مُقْتِرِ
~رأى الأرض منها راحة فرمى بها إلى خُدَدٍ منها وفي شر مَحْفَرِ
~فقال لها نامي فأنت بذمتي لبنتك جارٌ من أبيها القَنَوَّرِ
وروى أبو عبيدة : أن صعصعة هذا وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد بني تميم . قال : وكان صعصعة منع الوأد في الجاهلية ، فلم يدع تميماً تئدُ وهو يقدر على ذلك ، فجاء الإسلام وقد فدى في بعض الروايات أربعمائة موءودة ، وفي أخرى ثلاثمائة ، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : بأبي أنت وأمي ! أوصني . فقال : < أوصيك بأمك وأبيك ، وأختك وأخيك ، وأدانيك أدانيك > ، فقال : زدني . فقال عليه الصلاة والسلام : < احفظ ما بين لحييك ورجليك > . ثم قال عليه الصلاة
__________
(1) - سنن الدارمى- المكنز - (2) حسن مرسل(1/239)
والسلام : < ما من شيء بلغني عنك فعلته > ؟ فقال : يا رسول الله ! رأيت الناس يموجون على غير وجه ولم أدر أين الصواب ، غير أني علمت أنهم ليسوا عليه ، فرأيتهم يئدون بناتهم ، فعرفت أن ربهم عزَّ وجل لم يأمرهم بذلك فلم أتركهم ، ففديت ما قدرت عليه .
ويقال : إنه اجتمع جرير والفرزدق يوماً عند سليمان بن عبد الملك فافتخرا . فقال الفرزدق : أنا ابن محيي الموتى ، فقال له سليمان : أنت ابن محيي الموتى ؟ فقال : إن جدي أحيا الموءودة ، وقد قال الله تعالى : {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } [ المائدة : 32 ] ، وقد أحيا جدي اثنتين وتسعين موءودة ، فتبسم سليمان ، وقال : إنك مع شعرك لفقيه . نقله المرتضى في " أماليه " وبالجملة ، فكان الوأد عادة من أشنع العوائد في الجاهلية ، مما يدل على نهاية القسوة وتمام الجفاء والغلظة .
قال الإمام : انظر إلى هذه القسوة وغلظ القلب وقتل البنات البريئات بغير ذنب سوى خوف الفقر والعار ، كيف استبدلت بالرحمة والرأفة بعد أن خالط الإسلام قلوب العرب ؟ فما أعظم نعمة الإسلام على الْإِنْسَاْنية بأسرها بمحوه هذه العادة القبيحة . انتهى .
ومن أثر نعمته أن صار أدباء الصدر الأول يَصوغون في مدحهن ما هو أبهى من عقود الجُمان ، فمن ذلك قول معن بن أوس :
~رأيتُ رجالاً يكرهون بناتِهِمْ وفيهن لا نُكْذَبْ نساء صوالحُ
~وفيهن والأيام يعثرن بالفتى خوادِمُ لا يَمْلَلْنَهُ ونوائحُ
وقال العلويّ الجمانيّ في صديق له ولدت له بنت فسخطها ، شعراً :
~قالوا له ماذا رُزقْتَا فأصاخ ثُمَّتَ قال بنتا
~وأجلّ من ولد النساء أبو البنات فلِمْ جزعتا
~إن الذين تودّ من بين الخلائق ما استطعتا
~نالوا بفضل البنتِ ما كَبَتُوا به الأعداء كبتاً
وحكي أن عمرو بن العاص دخل على معاوية وعنده ابنته ، فقال : من هذه يا معاوية ؟ فقال : هذه تفاحة القلب وريحانة العين وشمامة الأنف . فقال : أَمِطْها عنك . قال : وَلِمَ ؟ قال : لأنهن يلدن الأعداء ، ويقرّبنَ البعداء ، ويُورِثْنَ الشحناء ، ويُثْرنَ البغضاءَ . قال : لا تقل ذلك يا عمرو ! فوالله ما مَرّض المرضى ، ولا ندب الموتى ، ولا أعان على الزمان ، ولا أذهب جيش الأحزان مثلهن ، وإنك لواجدٌ خالاً قد نفعه بنو أخته ، وأباً قد رفعه نسل بنيه . فقال : يا معاوية ! دخلت عليك وما على الأرض شيء أبغض إليّ منهن ، وإني لأخرج من عندك وما عليها شيء أحب إلىّ منهن .(1/240)
وفي رقعة للصاحب بالتهنئة بالبنت : أهلاً وسهلاً بعقيلة النساء وأم الأبناء وجالبة الأصهار والأولاد الأطهار ، والمبشرة بإخوة يتناسقون ونجباء يتلاحقون :
~فلو كان النساء كمن وَجَدْنا لَفُضِّلَت النساءُ على الرجالِ
~وما التأنيثُ لاسمِ الشمس عَيْبٌ وما التذكير فَخْرٌ للهلالِ
والله تعالى يعرفك البركة في مطلعها والسعادة بموقعها ، فادّرع اغتباطاً واستأنف نشاطاً ؛ فالدنيا مؤنثة والرجال يخدمونها والذكور يعبدونها ، والأرض مؤنثة ومنها خلقت البرية وفيها كثرت الذرية ، والسماء مؤنثة وقد زينت بالكواكب وحليت بالنجم الثاقب ، والنفس مؤنثة وهي قوام الأبدان وملاك الحيوان ، والحياة مؤنثة ولولاها لم تتصرف الأجسام ولا عرف الأنام ، والجنة مؤنثة وبها وُعِد المتقون وفيها ينعم المرسلون ؛ فهنيئاً لك هنيئاً بما أوتيتَ ، وأوزعك الله شكرَ ما أعطيت .
ونسختُ رقعة لأبى الفرج الببغاء : اتصل بي خبر المولودة المسعودة كرَّم الله عرقها ، وأنبتها نباتاً حسناً ، وما كان من تغيُّرك عند اتصال الخبر وإنكارك ما اختاره الله لك في سابق القدر ، وقد علمت أنهن أقرب من القلوب ، وأن الله بدأ بهن في الترتيب فقال عز من قائل : { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ } [ الشورى : 49 ] ، وما سماه الله تعالى هبة فهو بالشكر أولى وبحسن التقبُّل أحْرَى ؛ فهنأك الله بورود الكريمة عليك ، وثمرتها إعداد النسل الطيب لديك .
والنوادر في هذا لا تحصى ، وكلها من بركة الإسلام وفضله . (1)
تشير الآيات إلى قيام القيامة أو اليوم الآخر وما يكون حينذاك من انقلاب وتبدل في نواميس الكون كانمحاق ضوء الشمس وانطفاء النجوم وتسيير الجبال وجمع الوحوش وتعطيل العشار عن طبيعتها وتفجير البحار واشتداد حرارة المياه والتهابها ، وتشقق السماء أو انكشافها ، وتصنيف الناس حسب أعمالهم ، ونشر كتب الأعمال وتأجيج النار وتهيئة الجنة ، وحينئذ يرى كل امرئ نتيجة عمله وعاقبة ما قدم بين يديه ، ومن جملة ما يسأل الناس عنه وأد بناتهم بدون ذنب.
والآيات كما يبدو تتضمن توكيدا قويا بمجيء يوم القيامة وأهواله وأماراته التي تسبقه أو ترافقه ومحاسبة الناس على أعمالهم في الدنيا وتوفية كل منهم جزاءه بالجنة والنار.
ولقد روى الترمذي في سياق هذه السورة حديثا عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير/ 1] وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 148)(1/241)
[الانفطار/ 1] وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» [الانشقاق/ 1]» «2» ومطلع السورتين الثانية والثالثة المذكورتين في الحديث مشابه لمطلع هذه السورة في وصف مشاهد القيامة وأهوالها.وما ذكر من الانقلاب الذي يطرأ على نواميس الكون هو على ما يتبادر وبالإضافة إلى حقيقته الإيمانية ودخوله في نطاق قدرة اللّه بسبيل تصوير هول يوم القيامة وأثره في مشاهد الكون العظيمة التي تملأ الأذهان استهدافا لإثارة خوف السامعين وحملهم على الارعواء. وليس من طائل في التخمين والتزيّد في مظاهر هذا الانقلاب وماهياته المادية. وليس ذلك من أغراض القرآن على ما شرحناه في مناسبة سابقة «1».
وعادة دفن البنات أحياء وكراهة ولادتهن من صور حياة العرب قبل البعثة وعاداتهم. وقد ذكر هذا في أكثر من موضع في القرآن ، ومن ذلك في آيات النحل هذه : وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) [58 - 59].
وأسلوب الآية هنا أسلوب تنديد بهذه العادة وإنذار بشدة عقوبتها عند اللّه لما فيها من قسوة بالغة وجرأة على إزهاق روح بريئة. وتخصيص وأد البنات بالذكر لا يعني بطبيعة الحال أن هذا هو وحده الذي يسأل الناس عنه. وإنما يمكن أن يلمح منه قصد تشديد النكير على هذه العادة القاسية البشعة التي كان الذين يمارسونها يظنون أنه ليس عليهم فيها حرج ولا إثم.
وبمناسبة آية وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ نقول إن هذا المعنى قد تكرر بأساليب متنوعة في القرآن. وقد ذكر في بعض الآيات أن للّه على الناس مراقبين يكتبون ما يفعلونه. وأن ما يكتبونه هو صحف أعمال الناس التي تنشر يوم القيامة وتوزع على أصحابها ، وتعطى للناجين بأيمانهم وللخاسرين بشمالهم. ومما جاء في القرآن في هذا آية سورة الزخرف هذه : أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) وآيات سورة ق هذه : إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وآيات سورة الجاثية هذه : وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) ومنها آيات سورة الحاقة التي أوردناها في سياق تفسير سورة المدثر.
ولما كان اللّه عز وجل غنيا عن كل ذلك لا يعزب عنه شيء فالذي يتبادر من الحكمة الربانية لما ذكرته الآيات أنه بسبيل الإنذار والترهيب والوعيد بأسلوب من الأساليب التي اعتادها الناس في الدنيا من تسجيل الأحداث وإبراز التسجيلات في مقام الإثبات والإفحام. ولقد نبهنا قبل إلى ما اقتضته حكمة التنزيل من وصف المشاهد الأخروية بأوصاف مستمدة من مألوفات الحياة(1/242)
الدنيا في التعليق على الحياة الأخروية في سورة الفاتحة. وهذا من ذاك ، هذا مع تقرير وجوب الإيمان بما ذكرته الآيات كحقيقة إيمانية غيبية ، وبأنه في نطاق قدرة اللّه تعالى وحكمته. (1)
قوله تعالى : « إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ... » تكوير الشمس : ظهورها كالكرة فى أعين الناس يومئذ أي يوم القيامة ، حيث يشرف عليها الإنسان من عل فيراها من جميع وجوهها ، لا من وجه واحد ، كما تبد ولنا الآن وكأنها قرص مسطّح.
وانكدار النجوم : انطفاء بريقها ، حيث أن بريق هذا الضوء الذي نراه منها ، إنما هو بسبب الغلاف الهوائى المحيط بالأرض .. فإذا جاوز الإنسان الغلاف الهوائى للأرض بدت النجوم كرات لا معة معلقة فى القضاء ، لا يشع منها ضوء ..
وتعطيل العشار ، وهى النوق الحوامل ، هو إلقاء ما فى بطونها من أجنة ، ثم عدم تعرضها للحمل ، حيث يصرفها الهول عن الاستجابة لداعى الغريزة الطبيعية فيها ..
يقول الإمام القرطبي : « إن تعطيل العشار تمثيل لشدة الكرب ، وإلا فلا عشار ولا تعطيل »..
ونقول : إن هذا وإن كشف عن حال الشدة والكرب فى هذا الوقت ، فإنه لا يمنع من أن تكون هناك العشار ، وأن يكون تعطيلها عن الحمل ..
فهذا خبر جاء به القرآن ، ولا بد أن يقع على ما جاء به.
وحشر الوحوش : هو جمع بعضها إلى بعض ، وسوقها إلى أكنانها ، حيث يدفعها البلاء إلى الفرار ، وطلب النجاة مما تراه من أحداث القيامة ، فترتدّ عن مسارحها مسرعة إلى حيث ما تظن عنده الاختفاء من الخطر المحدق بها ، فتجىء من كل وجه ، ويلوذ بعضها ببعض ، حيث يذهب الهول بكل ما فيها من نوازع الشر والعدوان.
أما ما يقال من حشر الوحوش بمعنى بعثها ، وسوقها إلى الحساب والجزاء ، كما يفعل بالناس ، فذلك ما لا يقوم عليه دليل من كتاب اللّه ، حيث أن الدنيا هى دار ابتلاء وتكليف للإنسان وحده من بين سائر المخلوقات التي على الأرض ، وأن هذه البهائم لم تكلف بشىء ، ولم تدع ألى شىء ، وإنما هى مما خلق اللّه سبحانه للإنسان ، لينتفع بها ، أو ليبتلى بالضار منها ، كما فى النبات أو الجماد من نافع وضار ..
ويقول الإمام محمد عبده : « وحشر الوحوش ، إما جمعها لاستيلاء الرعب عليها ، وخروجها من أجحارها وأوكارها ، ونسيانها ما كانت تخافه ، فتفر منه .. فتحشر هائمة ، لا يخشى بعضها بعضا ، ولا يخشى جميعها سطوة الإنسان .. وقيل حشر الوحوش هلاكها .. » قوله تعالى : « وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ ».
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 500)(1/243)
. أي رؤيت وكأنها بحر واحد ، محيط بالأرض ، لا حركة له ، وكأنه مسجور ، أي مربوط بالأرض .. أما ما يقال بأن تسجير البحار هو تضرّمها ، وتلهبها ، حيث تصبح كتلة من نار ، فهذا لا مفهوم له ، إلا أن يقال ـ كما قيل ـ إن هذا دليل على قدرة اللّه سبحانه ، وأنه كما أنبت الشجر فى أصل الجحيم ، أخرج النار من قلب الماء .. وقدرة اللّه سبحانه لا تحتاج للدلالة عليها إلى مثل هذه الصور الشوهاء التي تفسد نظام الوجود ، وتذهب بجلال الحكمة الممسكة به فى دقة وروعة ، وإحكام ..
قوله تعالى : « وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ » أي زوجت الأبدان التي كانت فيها ، وردّت إليها ، لتخرج من قبورها للبعث والحساب ، والجزاء .. فالمراء بالنفوس هنا الأرواح.
وقوله تعالى : « وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ » ؟
الموءودة ، من توءد من البنات ، وتدفن حية ، بيد أهلها ، كما كان كذلك عادة عند بعض قبائل العرب فى الجاهلية .. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : « وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ، يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ ؟ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ » (58 ـ 59 النحل) ..
وسؤال الموءودة يوم القيامة ، فى مواجهة من وأدها ، مع أن الأولى ـ فى ظاهر الأمر ـ أن يسأل الجاني لا المجنى عليه ـ فى هذا تشنيع على الجاني ومواجهة له بالجريمة التي أجرمها ، ووضعها بين يديه ، ليرى تلك الجناية الغليظة المنكرة ، وليسمع من قتيلته التي ظنّ أنه سوّى حسابه معها ، ليسمع منطقها الذي يأخذ بتلابيبه ، ويملأ قلبه فزعا ورعبا ..
أرأيت إلى قتيل يظهر على مسرح القضاء ، هذ وقاتله فى موقف المحاكمة ؟ ثم أرأيت إلى هذا القتيل ، وهو يروى للقاضى : لم قتل ؟ وكيف قتل ؟ ثم أرأيت إلى القاتل ، وقد أذهله الموقف ، فخرس لسانه ، وارتعدت فرائصه ، وانهار كيانه ؟ ذلك بعض من هذا المشهد الذي يكون بين الموءودة ووائدها يوم القيامة!.
وقوله تعالى : « وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ».
أي صحف الأعمال ، حيث يقرأ كل إنسان ما سجل فى كتابه المسطور بين يديه ..
قوله تعالى : « وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ »..
وكشط السماء ، هو زوال هذه الصورة التي تبدو منها لنا فى الدنيا ، وكأنها سقف سميك ، فتبدو السماء حينئذ ، وكأنها قد أزيلت من مكانها ، فكانت أبوابا مفتحة تنطلق فيها الأرواح إلى ما شاء اللّه من علوّ ، دون أن تصطدم بشىء يردّها ..
قوله تعالى : « وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ. وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ».سعرت : أي توقدت ، وتسعر جمرها ، وعلا لهيبها.وأزلفت : أي قربت ودنت من أهلها ..(1/244)
قوله تعالى : « عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ » هو جواب « إذا » الشرطية الظرفية التي تواردت على هذه الأحداث التي تقع بين يدى الساعة ، وفى يوم مجيئها ..
ففى هذا اليوم تعلم كلّ نفس ما أحضرت معها من أعمال عملتها فى الدنيا من خير أو شر .. (1)
هذا هو مشهد الانقلاب التام لكل معهود ، والثورة الشاملة لكل موجود . الانقلاب الذي يشمل الأجرام السماوية والأرضية ، والوحوش النافرة والأنعام الأليفة ، ونفوس البشر ، وأوضاع الأمور . حيث ينكشف كل مستور ، ويعلم كل مجهول؛ وتقف النفس أمام ما أحضرت من الرصيد والزاد في موقف الفصل والحساب . وكل شيء من حولها عاصف؛ وكل شيء من حولها مقلوب!
وهذه الأحداث الكونية الضخام تشير بجملتها إلى أن هذا الكون الذي نعهده .
الكون المنسق الجميل ، الموزون الحركة ، المضبوط النسبة ، المتين الصنعة ، المبني بأيد وإحكام . أن هذا الكون سينفرط عقد نظامه ، وتتناثر أجزاؤه ، وتذهب عنه صفاته هذه التي يقوم بها؛ وينتهي إلى أجله المقدر ، حيث تنتهي الخلائق إلى صورة أخرى من الكون ومن الحياة ومن الحقائق غير ما عهدت نهائياً في هذا الكون المعهود .
وهذا ما تستهدف السورة إقراره في المشاعر والقلوب كي تنفصل من هذه المظاهر الزائلة مهما بدت لها ثابتة وتتصل بالحقيقة الباقية . . حقيقة الله الذي لا يحول ولا يزول ، حين يحول كل شيء من الحوادث ويزول . ولكي تنطلق من إسار المعهود المألوف في هذا الكون المشهود . إلى الحقيقة المطلقة التي لا تتقيد بزمان ولا مكان ولا رؤية ولا حس ، ولا مظهر من المظاهر التي تقيدها في ظرف أو إطار محدود!
وهذا هو الشعور العام الذي ينسرب إلى النفس وهي تطالع مشاهد هذا الانقلاب المرهوب .
فأما حقيقة ما يجري لكل هذه الكائنات ، فعلمها عند الله؛ وهي حقيقة أكبر من أن ندركها الآن بمشاعرنا وتصوراتنا المقيدة بمألوف حسِّنا وتفكيرنا . . وأكبر ما نعهده من الانقلابات هو أن ترجف بنا الأرض في زلزال مدمر ، أو يتفجر من باطنها بركان جائح ، أو أن ينقض على الأرض شهاب صغير ، أو صاعقة . . وأشد ما عرفته البشرية من طغيان الماء كان هو الطوفان . . كما أن أشد ما رصدته من الأحداث الكونية كان هو انفجارات جزئية في الشمس على بعد مئات الملايين من الأميال . .
وهذه كلها بالقياس إلى ذلك الانقلاب الشامل الهائل في يوم القيامة . . تسليات أطفال!!!
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1467)(1/245)
فإذا لم يكن بد أن نعرف شيئاً عن حقيقة ما يجري للكائنات ، فليس أمامنا إلا تقريبها في عبارات مما نألف في هذه الحياة!
إن تكوير الشمس قد يعني برودتها . وانطفاء شعلتها ، وانكماش ألسنتها الملتهبة التي تمتد من جوانبها كلها الآن إلى ألوف الأميال حولها في الفضاء . كما يتبدى هذا من المراصد في وقت الكسوف . واستحالتها من الغازية المنطلقة بتأثير الحرارة الشديدة التي تبلغ 12000 درجة ، والتي تحول جميع المواد التي تتكون منها الشمس إلى غازات منطلقة ملتهبة . . استحالتها من هذه الحالة إلى حالة تجمد كقشرة الأرض ، وتكور لا ألسنة له ولا امتداد!
قد يكون هذا ، وقد يكون غيره . . أما كيف يقع والعوامل التي تسبب وقوعه فعلم ذلك عند الله.
وانكدار النجوم قد يكون معناه انتثارها من هذا النظام الذي يربطها ، وانطفاء شعلتها وإظلام ضوئها . . والله أعلم ما هي النجوم التي يصيبها هذا الحادث . وهل هي طائفة من النجوم القريبة منا . . مجموعتنا الشمسية مثلاً . أو مجرتنا هذه التي تبلغ مئات الملايين من النجوم . . أم هي النجوم جميعها والتي لا يعلم عددها ومواضعها إلا الله . فوراء ما نرى منها بمراصدنا مجرات وفضاءات لها لا نعرف لها عدداً ولا نهاية .
فهناك نجوم سيصيبها الانكدار كما يقرر هذا الخبر الصادق الذي لا يعلم حقيقته إلا الله . .
وتسيير الجبال قد يكون معناه نسفها وبسها وتذريتها في الهواء ، كما جاء في سورة أخرى : { ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً } { وبست الجبال بساً فكانت هباء منبثاً } { وسيرت الجبال فكانت سراباً } فكلها تشير إلى حدث كهذا يصيب الجبال ، فيذهب بثباتها ورسوخها وتماسكها واستقرارها ، وقد يكون مبدأ ذلك الزلزال الذي يصيب الأرض ، والذي يقول عنه القرآن : { إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها . . } وكلها أحداث تقع في ذلك اليوم الطويل . .
أما قوله سبحانه : { وإذا العشار عطلت } . . فالعشار هي النوق الحبالى في شهرها العاشر . وهي أجود وأثمن ما يملكه العربي . وهي في حالتها هذه تكون أغلى ما تكون عنده ، لأنها مرجوة الولد واللبن ، قريبة النفع . ففي هذا اليوم الذي تقع فيه هذه الأهوال تهمل هذه العشار وتعطل فلا تصبح لها قيمة ، ولا يهتم بشأنها أحد . . والعربي المخاطب ابتداء بهذه الآية لا يهمل هذه العشار ولا ينفض يده منها إلا في حالة يراها أشد ما يلم به!
{ وإذا الوحوش حشرت } . . فهذه الوحوش النافرة قد هالها الرعب والهول فحشرت وانزوت تتجمع من الهول وهي الشاردة في الشعاب؛ ونسيت مخاوفها بعضها من بعض ، كما نسيت فرائسها ، ومضت هائمة على وجوهها ، لا تأوي إلى جحورها أو بيوتها كما هي عادتها ، ولا(1/246)
تنطلق وراء فرائسها كما هو شأنها . فالهول والرعب لا يدعان لهذه الوحوش بقية من طباعها وخصائصها! فكيف بالناس في ذلك الهول العصيب؟!
وأما تسجير البحار فقد يكون معناه ملؤها بالمياه . وإما أن تجيئها هذه المياه من فيضانات كالتي يقال إنها صاحبت مولد الأرض وبرودتها ( التي تحدثنا عنها في سورة النازعات ) وإما بالزلازل والبراكين التي تزيل الحواجز بين البحار فيتدفق بعضها في بعض . . وإما أن يكون معناه التهابها وانفجارها كما قال في موضع آخر : { وإذا البحار فجرت } فتفجير عناصرها وانفصال الأيدروجين عن الأكسوجين فيها . أو تفجير ذراتها على نحو ما يقع في تفجير الذرة ، وهو أشد هولاً . أو على نحو آخر . وحين يقع هذا فإن نيراناً هائلة لا يتصور مداها تنطلق من البحار . فإن تفجير قدر محدود من الذرات في القنبلة الذرية أو الأيدروجينية يحدث هذا الهول الذي عرفته الدنيا؛ فإذا انفجرت ذرات البحار على هذا النحو أو نحو آخر ، فإن الإدراك البشري يعجز عن تصور هذا الهول؛ وتصور جهنم الهائلة التي تنطلق من هذه البحار الواسعة!وتزويج النفوس يحتمل أن يكون هو جمع الأرواح بأجسادها بعد إعادة إنشائها . ويحتمل أن يكون ضم كل جماعة من الأرواح المتجانسة في مجموعة ، كما قال في موضع آخر : { وكنتم أزواجاً ثلاثة } أي صنوفاً ثلاثة هم المقربون وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة .
أو في غير ذلك من التشكيلات المتجانسة!
{ وإذا الموءودة سئلت : بأي ذنب قتلت؟ } وقد كان من هوان النفس الإنسانية في الجاهلية أن انتشرت عادة وأد البنات خوف العار أو خوف الفقر . وحكى القرآن عن هذه العادة ما يسجل هذه الشناعة على الجاهلية ، التي جاء الإسلام ليرفع العرب من وهدتها ، ويرفع البشرية كلها . فقال في موضع : { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم . يتوارى من القوم من سوء ما بشر به . أيمسكه على هون أم يدسه في التراب؟ ألا ساء ما يحكمون! } وقال في موضع : { وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ( أي البنات ) ظل وجهه مسوداً وهو كظيم . أو من يُنَشّأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين؟ } وقال في موضع ثالث : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم } وكان الوأد يتم في صورة قاسية . إذ كانت البنت تدفن حية! وكانوا يفتنون في هذا بشتى الطرق . فمنهم من كان إذا ولدت له بنت تركها حتى تكون في السادسة من عمرها ، ثم يقول لأمها : طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها! وقد حفر لها بئراً في الصحراء ، فيبلغ بها البئر ، فيقول لها : انظري فيها . ثم يدفعها دفعاً ويهيل التراب عليها! وعند بعضهم كانت الوالدة إذا جاءها المخاض جلست فوق حفرة محفورة . فإذا كان المولود بنتاً رمت بها فيها وردمتها . وإن كان ابناً قامت به معها! وبعضهم(1/247)
كان إذا نوى ألا يئد الوليدة أمسكها مهينة إلى أن تقدر على الرعي ، فيلبسها جبة من صوف أو شعر ويرسلها في البادية ترعى له إبله!
فأما الذين لا يئدون البنات ولا يرسلونهن للرعي ، فكانت لهم وسائل أخرى لإذاقتها الخسف والبخس . . كانت إذا تزوجت ومات زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبه . ومعنى هذا أن يمنعها من الناس فلا يتزوجها أحد فإن أعجبته تزوجها ، لا عبرة برغبتها هي ولا إرادتها! وإن لم تعجبه حبسها حتى تموت فيرثها . أو أن تفتدي نفسها منه بمال في هذه الحالة أو تلك . . وكان بعضهم يطلق المرأة ويشترط عليها ألا تنكح إلا من أراد . إلا أن تفتدي نفسها منه بما كان أعطاها . . وكان بعضهم إذا مات الرجل حبسوا زوجته على الصبي فيهم حتى يكبر فيأخذها . . وكان الرجل تكون اليتيمة في حجره يلي أمرها ، فيحبسها عن الزواج ، رجاء أن تموت امرأته فيتزوجها! أو يزوجها من ابنه الصغير طمعاً في مالها أو جمالها . .
فهذه كانت نظرة الجاهلية إلى المرأة على كل حال . حتى جاء الإسلام . يشنع بهذه العادات ويقبحها . وينهى عن الوأد ويغلظ فعلته . ويجعلها موضوعاً من موضوعات الحساب يوم القيامة . يذكره في سياق هذا الهول الهائج المائج ، كأنه حدث كوني من هذه الأحداث العظام . ويقول : إن الموءودة ستسأل عن وأدها .. فكيف بوائدها؟!
وما كان يمكن أن تنبت كرامة المرأة من البيئة الجاهلية أبداً؛ لولا أن تتنزل بها شريعة الله ونهجه في كرامة البشرية كلها ، وفي تكريم الإنسان : الذكر والأنثى؛ وفي رفعه إلى المكان اللائق بكائن يحمل نفخة من روح الله العلي الأعلى . فمن هذا المصدر انبثقت كرامة المرأة التي جاء بها الإسلام ، لا من أي عامل من عوامل البيئة .
وحين تحقق ميلاد الإنسان الجديد باستمداد القيم التي يتعامل بها من السماء لا من الأرض ، تحققت للمرأة الكرامة ، فلم يعد لضعفها وتكاليف حياتها المادية على أهلها وزن في تقويمها وتقديرها . لأن هذه ليست من قيم السماء ولا وزن لها في ميزانها . إنما الوزن للروح الإنساني الكريم المتصل بالله . وفي هذا يتساوى الذكر والأنثى .
وحين تعد الدلائل على أن هذا الدين من عند الله ، وأن الذي جاء به رسول أوحي إليه . . تعد هذه النقلة في مكانة المرأة إحدى هذه الدلائل التي لا تخطئ . حيث لم تكن توجد في البيئة أمارة واحدة ينتظر أن تنتهي بالمرأة إلى هذه الكرامة؛ ولا دافع واحد من دوافع البيئة وأحوالها الاقتصادية بصفة خاصة لولا أن نزل النهج الإلهي ليصنع هذا ابتداء بدافع غير دوافع الأرض كلها ، وغير دوافع البيئة الجاهلية بصفة خاصة . فأنشأ وضع المرأة الجديد إنشاء ، يتعلق بقيمة سماوية محضة وبميزان سماوي محض كذلك!(1/248)
{ وإذا الصحف نشرت } صحف الأعمال . ونشرها يفيد كشفها ومعرفتها ، فلا تعود خافية ولا غامضة . وهذه العلنية أشد على النفوس وأنكى . فكم من سوأة مستورة يخجل صاحبها ذاته من ذكراها ، ويرجف ويذوب من كشفها! ثم إذا هي جميعها في ذلك اليوم منشورة مشهودة!
إن هذا النشر والكشف لون من ألوان الهول في ذلك اليوم؛ كما أنه سمة من سمات الانقلاب حيث يكشف المخبوء ، ويظهر المستور ، ويفتضح المكنون في الصدور .
وهذا التكشف في خفايا الصدور يقابله في الكون مشهد مثله : { وإذا السماء كشطت } . . وأول ما يتبادر إلى الذهن من كلمة السماء هو هذا الغطاء المرفوع فوق الرؤوس . وكشطها إزالتها . . فأما كيف يقع هذا وكيف يكون فلا سبيل إلى الجزم بشيء . ولكنا نتصور أن ينظر الإنسان فلا يرى هذه القبة فوقه نتيجة لأي سبب يغير هذه الأوضاع الكونية ، التي توجد بها هذه الظاهرة . وهذا يكفي . .
ثم تجيء الخطوة الأخيرة في مشاهد ذلك اليوم الهائل المرهوب : { وإذا الجحيم سعرت . وإذا الجنة أزلفت } . .حيث تتوقد الجحيم وتتسعر ، ويزداد لهيبها ووهجها وحرارتها . . أما أين هي؟ وكيف تتسعر وتتوقد؟ وبأي شيء تتوقد؟ فليس لدينا من ذلك إلا قوله تعالى : { وقودها الناس والحجارة } . وذلك بعد إلقاء أهلها فيها . أما قبل ذلك فالله أعلم بها وبوقودها!
وحيث تقرب الجنة وتظهر لروادها الموعودين بها ، وتبدو لهم سهولة مدخلها ، ويسر ولوجها . فهي مزلفة مقربة مهيأة .واللفظ كأنما يزحلقها أو يزحلق الأقدام بيسر إليها!!
عندما تقع هذه الأحداث الهائلة كلها ، في كيان الكون ، وفي أحوال الأحياء والأشياء . عندئذ لا يبقى لدى النفوس شك في حقيقة ما عملت ، وما تزودت به لهذا اليوم ، وما حملت معها للعرض ، وما أحضرت للحساب :{ علمت نفس ما أحضرت } . .
كل نفس تعلم ، في هذا اليوم الهائل ما معها وما لها وما عليها . . تعلم وهذا الهول يحيط بها ويغمرها . . تعلم وهي لا تملك أن تغير شيئاً مما أحضرت ، ولا أن تزيد عليه ولا أن تنقص منه . . تعلم وقد انفصلت عن كل ما هو مألوف لها ، معهود في حياتها أو تصورها . وقد انقطعت عن عالمها وانقطع عنها عالمها . وقد تغير كل شيء وتبدل كل شيء ، ولم يبق إلا وجه الله الكريم ، الذي لا يتحول ولا يتبدل . . فما أولى أن تتجه النفوس إلى وجه الله الكريم ، فتجده سبحانه عندما يتحول الكون كله ويتبدل!
وبهذا الإيقاع ينتهي المقطع الأول وقد امتلأ الحس وفاض بمشاهد اليوم الذي يتم فيه هذا الانقلاب . (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3837)(1/249)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
2- بيان مفصل عن مبادئ القيامة ، وخواتيمها .
3- الترغيب في الإِيمان والعمل الصالح إذ بهما المصير إلى الجنة .
4- الترهيب من الشرك والمعاصي إذ بهما المصير إلى النار
5- وسؤال الموءودة يوم القيامة ، فى مواجهة من وأدها ، مع أن الأولى ـ فى ظاهر الأمر ـ أن يسأل الجاني لا المجنى عليه ـ فى هذا تشنيع على الجاني ومواجهة له بالجريمة التي أجرمها ، ووضعها بين يديه ، ليرى تلك الجناية الغليظة المنكرة ، وليسمع من قتيلته التي ظنّ أنه سوّى حسابه معها ، ليسمع منطقها الذي يأخذ بتلابيبه ، ويملأ قلبه فزعا ورعبا ..
أرأيت إلى قتيل يظهر على مسرح القضاء ، هذا وقاتله فى موقف المحاكمة؟ ثم أ رأيت إلى هذا القتيل ، وهو يروى للقاضى : لم قتل؟ وكيف قتل؟ ثم أ رأيت إلى القاتل ، وقد أذهله الموقف ، فخرس لسانه ، وارتعدت فرائصه ، وانهار كيانه؟ ذلك بعض من هذا المشهد الذي يكون بين الموءودة ووائدها يوم القيامة!. (1)
6- هذه ظواهر تحدث قبل أو بعد البعث يوم القيامة ، فتملأ النفس رهبة ، وتثير الخوف والذعر بين الناس ، لتبدّل ما كانوا يألفون ويشاهدون ، والقصد من تعدادها تخويف البشر والإعداد ليوم القيامة بما يحقق لهم النجاة والأمن والسلامة.
فهو إنذار مسبق ، ولقد أعذر من أنذر ، ولقد تضمن الإنذار مواجهة اثنتى عشرة علامة للقيامة : وهي تكوير الشمس ، وانكدار النجوم ، وتسيير الجبال ، وتعطيل العشار ، وحشر الوحوش ، وتسجير البحار ، وتزويج النفوس ، وسؤال الموءودة ، ونشر صحف الأعمال ، وكشط السماء كما يكشف الإهاب (الجلد) عن الذبيحة ، وتسعير الجحيم (إيقادها) وإزلاف الجنة (إدناؤها). وأي رهبة تحدث حينما يذهب ضوء الشمس ، فيظلم الكون ، وتتهافت النجوم وتتساقط وتتناثر ، فتزول معالم الجمال ،وتقلع الجبال من الأرض وتسير في الهواء ، فتكون كثيبا مهيلا ، أي رملا سائلا ، وتصبح كالعهن ، وتكون هباء منثورا ، وسرابا لا حقيقة ولا وجود له ، كالسراب الذي ليس بشيء ، وتعود الأرض قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، أي ارتفاعا ، فتزول المتعة بها في عين الرائي.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ، ج 16 ، ص : 1470(1/250)
وتهمل النوق الحوامل التي في بطونها أولادها ، بعد العناية بها لأنها أعز ما تكون على العرب ، وهذا على وجه المثل لأن في القيامة لا تكون ناقة عشراء ، ولكن أراد به المثل ، أن هول يوم القيامة لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه.
وتحشر الوحوش ، أي تجمع حتى يقتص لبعضها من بعض ، فيقتصّ للجمّاء من القرناء ، ثم يقال لها : كوني ترابا ، وهذا هو المعنى الأصح ، وقيل : حشرها : موتها وهلاكها ، وعلى كل حال ، تتعاظم المخاوف من رؤية ما يحدث.
وتسجّر البحار ، أي توقد إيقادا شديدا ، وتصير البحار والأرض كلها بساطا واحدا ، بأن يملأ مكان البحار بتراب الجبال ، فتزول صورة جمال البحر في مشهد الطبيعة.
ويحدث البعث ، فتقرن الأرواح بالأجساد ، وتسأل البنت المدفونة حية عن سبب وأدها وقتلها ، لتوبيخ الفاعل ، ولومه على فعله مخافة الحاجة والإملاق (الفقر) أو السبي والاسترقاق ولإلحاق البنات بالملائكة لأنهم كانوا يقولون : الملائكة بنات اللّه ، وكل ذلك غير مقبول ، فإنها قتلت بغير ذنب ، وعقاب القاتل النار.
وتنشر صحائف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها ما فعل أهلها من خير وشرّ ، تطوى بالموت ، وتنشر في يوم القيامة ، فيقف كل إنسان على صحيفته ، فيعلم ما فيها ، فيقول : ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف 18/ 49].
وتكشط السماء كما يكشط الجلد عن الكبش وغيره ، وفي هذا غاية الرهبة.
وتوقد النار للكفار ويزداد في إحمائها ، وتدنى الجنة وتقرب من المتقين ، فيتحدد مصير الخلائق.
حين حدوث هذه الوقائع الجسام ، تعلم كل نفس علم اليقين ما عملت من خير وشرّ ، وتعرف مصيرها.
جاء في الصحيح عَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَسَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، لَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَلاَ يَرَى شَيْئًا قُدَّامَهُ ، ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِىَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ » (1) .
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى (6539 )(1/251)
الحلف لإثبات صدق الوحي القرآني ونبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
قال تعالى :
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
سبب النزول : نزول الآية (29) :
عن سليمان بن موسى لما نزلت( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ) قال أبو جهل ذلك إلينا، إن شئنا استقمنا، فنزلت:( وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) .
وعن سليمان بن موسى، قال: لما نزلت هذه الآية( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ) قال أبو جهل: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله:( وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)
وعن سليمان بن موسى، قال: لما نزلت هذه الآية:( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ) قال أبو جهل: ذلك إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله:( وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (1)
المفردات :
15 ... الخُنَّسِ ... هي النجوم تختفي في النهار وتظهر بالليل
16 ... الجَوَارِ الكُنَّسِ ... النجوم الدراري تستتر وتغيب عن الأنظار في أفلاكها
17 ... وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ... أقبل ظلامه أو أدبر
18 ... وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ... أقبل أو أضاء حتى يصير نهارا بينا
19 ... رَسُولٍ كَرِيمٍ ... جبريل عليه السلام
20 ... ذِي قُوَّةٍ ... شديد القوى
20 ... عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ ... أنه عند الله ذو مكانة عالية رفيعة
20 ... مُطَاعٍ ثَمَّ ... تطيعه الملائكة في السموات
21 ... أَمِينٍ ... أمين على الوحي ، يزكي الله تعالى عبده جبريل
22 ... وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ... تزكية من الله لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ( ليس به جنون )
__________
(1) - تفسير الطبري - (24 / 264) صحيح مرسل(1/252)
23 ... وَلَقَدْ رَآهُ ... رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - جبريل على صورته التي خلقه الله عليها ( له ستمائة جناح )
23 ... بِالأُُِفق المُبِينِ ... الأفق الأعلى البين والنهار واضح
24 ... بِضَنِينٍ ... بمتهم أو بخيل ينقص من الوحي ولا يُبَلِّغُه
25 ... وَمَا هُوَ بِقَولِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ... ليس القرآن من كلام الجن يسترق السمع فيرجم
28 ... يَسْتَقِيمَ ... يتحرى الحق ويعمل بمقتضاه
29 ... وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءُ اللهُ ... مشيئة الله سابقة لمشيئة العبد
المعنى الإجمالي:
فلا أقسم بالكواكب المتخفية عن العين نهارا ، الجواري لكي تظهر في أفلاكها ليلا كالظباء في كناسها ، لا أقسم بهذا على أنه قول رسول كريم لظهور ذلك للعيان فلا يحتاج إلى إقسام ، أو المعنى : لا أقسم بهذه الأشياء لعظمها فإنها عظيمة في نفسها ولو لم يقسم بها ، والمعنى على القسم بها قسما مؤكدا ، وأقسم بالليل إذا عسعس وأدبر ظلامه ، والصبح إذا أضاء وظهر أقسم بهذا على أن القرآن قول رسول كريم وهو جبريل لأنه حمله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فنسب إليه ، هذا الرسول ذو قوة في العقل ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى فهو شديد القوى ذو حصافة في العقل والرأى ، عند ذي العرش جل جلاله ، مكين ، أى : صاحب مكانة وشرف ، والعندية عندية تشريف وإكرام لا عندية مكان ، وهو مطاع في الملأ الأعلى : أمين على الوحى وعلى نقله ، وما صاحبكم هذا بمجنون كما يصفه المشركون ، وهو على ثقة من جبريل حين يبلغه ، والحال أنه رآه على صورته الأصلية بالأفق العالي الظاهر - عند سدرة المنتهى - وما محمد على الغيب ، أى : الوحى بمتهم بل هو صادق في خبره ، ويؤيد هذا المعنى قراءة بظنين ، وقيل : وما هو على الغيب ببخيل ، فليس مقصرا في تبليغ الوحى ، وما هذا القرآن بقول شيطان رجيم ، حيث إن محمدا أمين ، وليس مجنونا : وما هو على الغيب بمتهم إذ ليس هذا القرآن قول شيطان ، ولا قول كاهن ، وليس أساطير الأولين.
فأين تذهبون وأى طريق تسلكون ؟ وأية حجة تقولون ؟ بعد أن سدت عليكم كل الطرق وأقيمت عليكم الحجج والبراهين ، وبطلت جميع المفتريات التي تفترونها.
ما هذا القرآن إلا ذكر وتذكرة وموعظة وعبرة ، عظة للعالمين لمن شاء أن يستقيم على الجادة ويسير على سواء السبيل ، والمعنى أن من شاء الدخول في الإسلام - لمن شاء منكم أن يستقيم - هو الذي ينتفع بهذا الذكر الحكيم ، أما غيرهم فقد ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ، فلا يمكن أن يروا نور الحق ، ولا أن يهتدوا بنور القرآن.(1/253)
ولكن هل مشيئة العباد مطلقة غير خاضعة لأية قوة أو مشيئة أخرى ؟ الجواب : إن إرادتكم الخير خاضعة لإرادة اللّه ولا تكون إلا بعد مشيئة اللّه رب العالمين ، فهو سبحانه الذي يودع في البشر إرادة الخير. فتنصرف همة أصحاب الخير إليه ، ولو شاء لسلبكم تلك الإرادة فكنتم كالحيوان.
ولما كان رب العالمين وكان ما نحهم كل ما يتمتعون به كانت إرادة البشر مستندة إلى إرادة اللّه ، وهذا معنى قوله تعالى : وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فمشيئة العبد في دائرة صغيرة هذه الدائرة داخلة في دائرة مشيئة اللّه الكبرى.
بقيت كلمة أخرى في إقسام اللّه بالكواكب الخنس والكنس ، وبالليل والصباح أو بالشمس والقمر أو غير ذلك ، والظاهر أن هذا القسم للفت الأنظار إلى تلك الأشياء ، وأنها دلائل على قدرة اللّه وبديع نظامه في الكون ، ثم جاءت صفات لها كالخنس والكنس توبيخا لمن يعبد الكواكب ببيان بعض صفاتها التي يستحيل معها أن تكون آلهة بل هي مخلوقة متغيرة متحولة من حال إلى حال ، مصرفة يصرفها المولى - جل جلاله - واللّه أعلم. (1)
التفسير والبيان :
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ أي أقسم بجميع الكواكب التي تخنس أي تختفي بالنهار تحت ضوء الشمس ، والتي تجري في أفلاكها ، وتكنس بالليل ، أي تظهر بالليل في أماكنها ، كما تظهر الظباء من كنسها ، أي بيوتها ، وهي جمع كناس : وهو الذي يختفي فيه الوحش. وقوله : فَلا أُقْسِمُ يراد بها القسم في أسلوب العرب ، ويراد بها تأكيد الخبر ، كأنه في ثبوته وظهوره لا يحتاج إلى قسم. وإنما أقسم سبحانه بهذه الكواكب ، لما في تبدل أحوالها من الظهور والخفاء من الدلالة على قدرة مبدعها ومصرّفها.
ويرى الجمهور :أن المراد بها الكواكب السيارة كلها ، ويرى بعضهم أنها ما عدا الشمس والقمر.
وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أي والليل إذا أقبل بظلامه ، لما فيه من الرهبة ، وهذا هو الأولى ، أو أدبر وولى ، لما في إدباره من كشف الغمة. والصبح إذا اقبل وأضاء بنوره الأفق لأنه يقبل بروح نشطة ونسيم عليل.
قال ابن كثير : عَسْعَسَ : أقبل ، وإن كان يصح استعماله في الإدبار أيضا ، لكن الإقبال هاهنا أنسب ، كأنه أقسم بالليل وظلامه إذا أقبل ، وبالفجر وضيائه إذا أشرق ، كما قال تعالى : وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [الليل 92/ 1- 2] وقال تعالى : وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى
__________
(1) - التفسير الواضح ، ج 3 ، ص : 831(1/254)
[الضحى 93/ 1- 2] وقال تعالى : فالِقُ الْإِصْباحِ ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً [الأنعام 6/ 96] ، وغير ذلك من الآيات.
وقال كثير من علماء الأصول : إن لفظة عَسْعَسَ تستعمل في الإقبال والإدبار على وجه الاشتراك ، فعلى هذا يصح أن يراد كل منهما ، واللّه أعلم (1) .
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ هذا هو المقسم عليه ، أي إن القرآن تبليغ رسول كريم ، ومقول قاله جبريل عليه السلام الشريف الكريم العزيز عند اللّه ، ونزل به من جهة اللّه سبحانه إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فليس القرآن من كلام البشر ، وإنما وصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من جبريل الذي تلقاه عن ربّه عزّ وجلّ.
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ هذه أوصاف أربعة أخرى لجبريل عليه السلام ، فهو شديد القوى في الحفظ التام والتبليغ الكامل ، وذو رفعة عالية ، ومكانة سامية عند اللّه سبحانه ، ومطاع بين الملائكة ، يرجعون إليه ويطيعونه ، فهو من السادة الأشراف ، مؤتمن على الوحي والرسالة من ربّه ، وعلى غير ذلك. وإنما قال : ثَمَّ أي عند اللّه ، وقرئ « ثم » تعظيما للأمانة وبيانا لأنها أفضل صفاته المعدودة.
ووصف جبريل بالأمين تزكية عظيمة من اللّه لرسوله الملكي وعبده جبريل ، كما زكى عبده ورسوله البشرى محمدا - صلى الله عليه وسلم - بقوله : وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ.
وبعد بيان أوصاف الرسول الملك ، ذكر تعالى وصف المرسل إليه ، فقال : وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ أي وليس محمد - صلى الله عليه وسلم - يا أهل مكة بمجنون ، كما تزعمون.
وذكره بوصف الصحبة للإشعار بأنهم عالمون بأمره ، وبأنه أعقل الناس وأكملهم.
ونظير الآية قوله تعالى :أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأعراف 7/ 184] ، وقوله : قُلْ : إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ 34/ 46] ، وقوله : أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ ، وَقالُوا : مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ [الدخان 44/ 13- 14].
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ أي قد رأى محمد جبريل على صورته الأصلية ، له ست مائة جناح ، في مطلع أو أفق الشمس الأعلى من قبل المشرق ، بحيث حصل له علم ضروري (بدهي) بأنه ملك مقرب يطمأن لنزوله بالوحي عليه ، لا شيطان رجيم. وهذا كما جاء في سورة النجم : ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ، أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى ، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى [11- 14].
__________
(1) - تفسير ابن كثير : 4/ 479(1/255)
وهذه الرؤية بعد رؤيته في بدء الوحي عند غار حراء حين رآه على كرسي بين السماء والأرض في صورته ، له ست مائة جناح. وقيل : هي الرؤية التي رآه فيها عند سدرة المنتهى ، وسمي ذلك الموضع أفقا مجازا ، وقد كانت له عليه السلام رؤية ثانية بالمدينة ، وليست هذه (1) .
وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ أي ليس محمد - صلى الله عليه وسلم - على ما أنزله اللّه عليه من الوحي وخبر السماء ببخيل مقصر في التعليم والتبليغ ، بل يعلّم الخلق كلام اللّه وأحكامه دون أي انتقاص ، وهو ثقة مؤتمن لا يأتي بشيء من عند نفسه ، ولا يبدل ولا يغير أي حرف أو معنى فيه.
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أي وما القرآن بقول شيطان يسترق السمع ، مرجوم بالشهب ، فالقرآن ليس بشعر ولا كهانة ، كما قالت قريش ، وهذا كقوله تعالى : وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ ، وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء 26/ 210- 212].
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أي : أيّ طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بيّنت لكم ؟ وأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن مع ظهوره ووضوحه وبيان كونه حقا من عند اللّه تعالى ؟
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ أي ما القرآن إلا موعظة للخلق أجمعين ، وتذكير لهم بما ينفعهم ، وتحذير لهم عما يضرهم ، لمن أراد من البشر أن يستقيم على الحق والإيمان والطاعة ، فمن أراد الهداية فعليه بهذا القرآن ، فإنه مناجاة له وهداية ، ولا هداية فيما سواه.
قال الزمخشري : لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ بدل من لِلْعالَمِينَ وإنما أبدلوا منهم لأن الذين شاؤوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر ، فكأنه لم يوعظ به غيرهم ، وإن كانوا موعوظين جميعا.
وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي وما تشاؤون الاستقامة ولا تقدرون على ذلك إلا بمشيئة اللّه وتوفيقه ، فليست المشيئة موكولة إليكم ، فمن شاء اهتدى ، ومن شاء ضل ، بل ذلك كله تابع لمشيئة اللّه تعالى ربّ الإنس والجن والعالم كله. آمنت باللّه وبما يشاء ، فلا يقدر أحد على شيء إلا بما يخلق فيه من قوة ، وبما يودع اللّه فيه من قدرة يتمكن من توجيهها نحو الإيمان والخير أو نحو الكفر والشر ، وهذا يعني أن اللّه أودع في الناس قدرة الاختيار ، بدليل الآيات الأخرى التي تنفي الإجبار والإكراه.
ومضات :
__________
(1) - البحر المحيط : 8/ 434- 435(1/256)
وفي هذه الآيات قسم بالمشاهد الكونية المذكورة وحركاتها بأن الذي يبلغ وحي اللّه هو رسول كريم أمين على ما ينقل قوي على حمل الأمانة حظي عند اللّه ، وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس مجنونا وبأنه قد رأى ملك اللّه في أفق السماء ، وبأنه صادق فيما يقول غير متهم في أمانته ، وغير مخف شيئا مما رآه وسمعه وعرفه ، وبأن ما يبلغه ليس من تخليط الشيطان الرجيم وأقواله.
وسألت إحدى الآيات السامعين أين يذهبون في أمر النبي وماذا يظنون؟
والسؤال ينطوي على تنديد بالمكذبين والمترددين في تصديق ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وبأوهامهم وتفسيراتهم الخاطئة لما يخبر به من المشاهد الروحانية. ونبهت إحدى الآيات على أن ما يبلغه إنما هو تذكرة لهم وموعظة ليرى من شاء الحق فيتبعه ويستقيم عليه فيكون قد اهتدى بهدى اللّه ومشيئته التي تناط بها مشيئة الناس.
والآيات فصل مستقل الموضوع عن سابقاتها ، غير أن الارتباط بينها وبين هذه السابقات قائم. فالأولى تخبر بيوم القيامة وأهواله ونتائجه وتنذر الناس بعواقب أعمالهم ، والثانية تؤكد صدق الأخبار والإنذار وترد على الكفار ما يقولونه في صددهما وما ينسبونه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من تخليط الشياطين عليه ، والمرجح أن الفصلين نزلا متتابعين إن لم يكونا قد نزلا معا.
وقد ذكر المفسرون عدة وجوه في صدد حرف «لا» الذي سبق فعل القسم فقالوا إنه قد يكون مختصرا من «ألا» التنبيهية أو قد يكون حرف ابتداء فقط أي لأقسم بمعنى إني لأقسم ، أو قد يكون حرف نفي ، ليفيد أن الأمر المذكور صحيح وواضح لا يحتاج إلى القسم ، أو قد يكون زائدا وليس حرف نفي. وقد أسهبنا في ذكر الوجوه لأن هذا قد تكرر أكثر من مرة في معرض التوكيد والقسم. ومهما يكن من أمر فالجملة قسمية على ما تلهمه روح الآيات. ولا شك أن هذا من الأساليب التي كانت مستعملة في كلام العرب. وفي سورة الواقعة هاتان الآيتان : فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) ، وفيهما صراحة بأن الجملة قسمية.
ولم نطلع على رواية تذكر سبب نزول هذه الآيات. والمتبادر أنها نزلت ردّا على أقوال تقولها الكفار والجاحدون. وقد انطوت على ردّ قوي يوحي بصدق ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمق إيمانه به واستناده فيه على الحقيقة الواقعة التي أدركها بالقوة التي اختصه اللّه بها ، ويقضي على أي شك في نفس كل امرئ حسنت نيته ورغب عن المماراة بالباطل.
ونفي الآيات الجنون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلة الشيطان بما يبلغه دليل على أن المكذبين كانوا يقولون إن ما يخبر به هو من تلقينات الشيطان. ويقصدون بذلك الجن على الأرجح لأن العرب كانوا يعتقدون أن شياطين الجن يوحون إلى الشعراء والكهان والسحرة. وقد يأتي على البال من هذا أن المكذبين كانوا حينما ينعتون النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمجنون ، ويقولون إن به جنّة على ما حكته آيات عديدة منها آية سورة المؤمنون هذه : أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ(1/257)
كارِهُونَ (70) ، كانوا أحيانا يعنون أن له شيطانا من الجن يتصل به ويلقنه ما يقول على نحوما كانوا يعتقدونه. والراجح أنهم نعتوه بالشاعر والكاهن والساحر بناء على هذا الاعتقاد.
وأكثر المفسرين يصرفون تعبير رَسُولٌ كَرِيمٌ إلى الملك الذي كان يبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي اللّه وقرآنه. والضمير في الآية [23] يدعم هذا القول. ولقد ورد في الحديث المروي عن جابر بن عبد اللّه والذي ذكرناه في سياق تفسير سورة المدثر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رأى الملك في أفق السماء. فالآية هنا على الأرجح في معرض التوكيد لهذه الرؤية الروحانية التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكرها فكان المؤمنون يصدقونه والجاحدون يكذبونه. وتبكير نزول السورة يؤيد هذا ، حيث لم يكن قد مضى وقت طويل على هذه الرؤية. والتوكيد والنفي والتنديد في الآيات قوي يبعث اليقين في نفس من لا يتعمد العناد والمكابرة في صدق هذه المشاهدة ، ويجلّي صورة رائعة لصميمية النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقينه بصحة ما رأى ، ويؤيد صحة الحديث.
وعلى المسلم أن يؤمن بذلك ويقف عنده ولا يزيد في الظن والتخمين في صدد الماهية والكنه. فلا طائل من وراء ذلك وهما سرّ من واجب الوجوب وسرّ النبوة والوحي الذي تقصر عنه عقول الناس.
وكلمة العرش تأتي هنا لأول مرة ثم تكررت كثيرا. وقد جاءت في سياق ذكر ملكة سبأ في آية سورة النمل هذه : إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) ، وجاءت جمعا في سياق ذكر القرى التي دمرها اللّه في آية سورة الحج هذه : فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) ، وأكثر ما جاءت منسوبة إلى اللّه بمعنى ربّ العرش وصاحبه كما جاءت في هذه السورة أو بصيغة استواء اللّه على العرش كما جاء في آية سورة الأعراف هذه : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) ، وذكر في آية في سورة هود هكذا : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [7] ، وفي آية في سورة الزمر هكذا : وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [75] ، وفي آية في سورة غافر هكذا : الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [7].
ومهما يكن من أمر فإن من واجب المسلم الإيمان بما جاء في القرآن والأحاديث الصحيحة عن العرش والوقوف عند حدّ ذلك بدون تزيد مع الإيمان بقدرة اللّه تعالى على كل شيء.
وبأن ذكر العرش بالأسلوب الذي ذكر به لا بد من أن يكون له حكمة سامية.(1/258)
ولما كانت الآيات والأحاديث التي ورد فيها ذكر عرش اللّه قد وردت في صدد بيان عظمة اللّه عز وجل وعلو شأنه وشمول ربوبيته وسعة كونه وبديع خلقه ونفوذ أمره في جميع الكائنات خلقا وتدبيرا وتسخيرا فإن هذا قد يكون من الحكمة التي انطوت في الآيات والأحاديث. ولا سيما أن اللّه عز وجل ليس مادة يمكن أن تحدّ بمكان أو صورة أو تحتاج إلى عرش مادي يجلس عليه أو تكون فوقه. وفي القرآن آيات نسبت إلى اللّه عز وجل اليد واللسان والروح والنزول والمجيء والقبضة والوجه مما هو منزّه سبحانه عن مفهوماتها ومما هو بسبيل التقريب والتشبيه والمجاز. وقد يكون هذا من هذا الباب واللّه تعالى أعلم.
هذا ، وهناك أحاديث وأقوال في صدد استواء اللّه تعالى على العرش وحمل الملائكة للعرش نرجىء إيرادها والتعليق عليها إلى مناسباتها.
وبمناسبة ورود كلمة الشيطان لأول مرة نقول إن المفسرين قالوا إن اشتقاق الكلمة عربي من شطن بمعنى بعد أو شاط بمعنى بطل وفسد ،وإنها نعت لكل داهية قوي الحيلة والبغي. وقد خطر لبالنا أن يكون بينها وبين شط بمعنى جار وبغى صلة ، ومنه ما جاء في آية ص هذه : فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) ، وفعلان من الصيغ العربية التي تتضمن معنى الوصف والمبالغة. والمتبادر أن شيطان من هذا الباب اشتقت من جذر من الجذور الثلاثة.
والكلمة أكثر ما وردت في القرآن مرادفة لإبليس ومفهومه من إغواء الناس ، كما جاء في آية سورة النساء هذه :الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) ، وفي آيات سورة البقرة هذه : وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) ، وقد وردت مرات عديدة للتعبير عن جبابرة الجن ومرة في شمولها لجبابرة الإنس كما جاء في آية سورة الأنعام هذه : وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112).
وقد قال بعض الباحثين إنها دخيلة على العربية من كلمة سلطان أو جطان العبرية وإن مفهومها المرادف لإبليس دخيل أيضا. ومع أن هذا المفهوم لا يبعد أن يكون منقولا إلى العرب من الكتابيين الذين وردت كلمة الشيطان في معرض إغواء الناس والوسوسة لهم في ما كان وما يزال متداولا من أسفار وقراطيس مرات عديدة فإن وجود جذر عربي فصيح للكلمة لا يبرر(1/259)
إبعادها عن الأصالة العربية الفصحى. على أن هذا لا يمنع القول باحتمال وحدة جذر الكلمة في العربية والعبرية أيضا لأنهما شقيقتان ترجعان إلى أصل واحد.
ومهما يكن من أمر فإن من الحق أن يقال إن الكلمة بقالبها الذي وردت به في القرآن قد استعملها العرب قبل نزولها وكانوا يفهمون كل الدلالات التي تدل عليها الآيات المتنوعة التي وردت فيها ، وإنها تعد من اللسان العربي المبين ما دام القرآن يقرر أنه نزل بهذا اللسان. وهي هنا على كل حال تعني جبابرة الجن الذين كانوا يتنزلون على الشعراء والكهان والسحرة على ما كان يعتقده العرب. ونعت الشيطان بالرجيم يدل على أنه كان للشيطان في أذهان سامعي القرآن صورة بغيضة.
وفي سورة الصافات هذه الآية من آيات فيها وصف لشجرة الزقوم الأخروية :طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) حيث ينطوي في هذا أنه كان للشياطين في أذهانهم صورة مخيفة أيضا.
وأسلوب مطلع السورة مما تكرر في مطالع عديدة أخرى بحيث يسوغ أن يقال إنه أسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور.
ولقد علقنا على فقرة تشبه الآية الأخيرة في صدد إناطة مشيئة الناس بمشيئة اللّه في سياق تفسير سورة المدثر. وما قلناه هناك يصح هنا بتمامه فنكتفي بالإشارة دون الإعادة. (1)
قال الإمام : أقسم الله تعالى بهذه الدراريّ ليُنوه بشأنها من جهة ما في حركاتها من الدلائل على قدرة مصرّفها ومقدرها ؛ وإرشاد تلك الحركات إلى ما في كونها من بديع الصنع وإحكام النظام ، مع نعتها في القسم بما يبعدها عن مراتب الألوهية من الخنوس والكنوس ؛ تقريعاً لمن خصها بالعبادة واتخذها من دونه أرباباً . وفي الليل إذا أدبر زوال تلك الغمة التي تغمر الأحياء بانسدال الظلمة بعد ما استعادت الأبدان نشاطها وانتعشت من فتورها . وفي الصبح إذا تنفس بشرى الأنفس بالحياة الجديدة في النهار الجديد ، تنطلق فيه الإرادات إلى تحصيل الرغبات وسد الحاجات والاستدراك والاستعداد لما هو آت . انتهى .
قال الشهاب : وفي قوله { صَاحِبُكُم } تكذيب لهم بألطف وجه ؛ إذ هو إيماء إلى أنه نشأ بين أظهركم من ابتداء أمره إلى الآن ، فأنتم أعرف به وبأنه أتم الخلق عقلاً وأرجحُهم نبلاً وأكملهم وأصفاهم ذهناً ، فلا يَسند له الجنون إلا من هو مركب من الحمق والجنون . ولله در البحتريّ في قوله :
~إذا مَحَاسِني الَّلاتي أَدِلُّ بها كانت ذُنوبي فقل لي كَيْفَ أَعْتَذرُ
__________
(1) - التفسير الحديث ، ج 1 ، ص : 504(1/260)
{ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ } أي : ولقد رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - جبريل بالأفق الأعلى ، المظهر لما يرى فيه .
قال ابن كثير : والظاهر - والله أعلم - أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤية وهي الأولى ، وأما الثانية وهي المذكورة في قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى } [ النجم 13 - 15 ] ، فتلك إنما ذكرت في سورة النجم ، وقد نزلت بعد سورة الإسراء .
والقصد من بيان رؤيته لجبريل عليهما السلام متمثلاً له ، هو التحقيق الموحي به ، وأن أمره مبني على مشاهدة وعيان ، لا على ظن وحسبان ، وما سبيله كذلك فلا مدخل للريب فيه .
{ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } أي : ببخيل .
قال مجاهد : ما يضن عليكم بما يعلم ، أي : لا يبخل بالتعليم والتبليغ . وقال الفراء : يأتيه غيبُ السماء ، وهو شيء نفيس ، فلا يبخل به عليكم . وقال أبو علي الفارسيّ : المعنى أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه ، كما يكتم الكاهن ذلك ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلواناً . وقرئ : { بظنين } بالظاء ، أي : ما هو بمهتم على ما يخبر به من الغيب .
قال القاشاني : لامتناع استيلاء شيطان الوهم وجنّ التخيل عليه ، فيخلط كلامه ويمتزج المعنى القدسي بالوهميّ والخياليّ ؛ لأن عقله صُفّي عن شوب الوهم . والمعنى أنه صادق فيما يخبر به من الوحي واليوم الآخر والجزاء ، ليس من شأنه أن يُتهم فيه ، كما قال هرقل لأبي سفيان : وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا ؛ فعرفتُ أنهُ لم يكن ليدَع الكذبَ على الناس ثم يذهب فيكذب على الله .
تنبيه :
قال ابن جرير : وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب ، ما عليه خطوط مصاحف المسلمين متفقه وإن اختلفت قراءتهم به ، وذلك { بِضَنِينٍ } بالضاد ؛ لأن ذلك كله كذلك في خطوطها . فأولى التأويلين بالصواب في ذلك ، تأويل من تأوّلهُ : وما محمد - على ما علَّمهُ الله من وحيه وتنزيله - ببخيل بتعليمكموه أيها الناس ، بل هو حريص على أن تؤمنوا به وتتعلموه . انتهى . واختار أبو عبيدة القراءة بالظاء لوجهين :
أحدهما : أن الكفار لم يبخلوه ، وإنما اتهموهُ ، فنفي التهمة أولى من نفي البخل .
وثانيهما : قوله : { عَلَى الْغَيْبِ } ولو كان المراد البخل لقال : بالغيب ؛ لأنه يقال : فلان ضنين بكذا ، وقلما يقال : على كذا .
وقال الشهاب : قال في " النشر " : هو بالضاد في جميع المصاحف ، ولا ينافي هذا قول أبي عبيدة ، أن الضاد و الظاء في الخط القديم لا يختلفان إلا بزيادة رأس إحداهما على الأخرى ،(1/261)
زيادة يسيرة ، قد تشتبه . وهو كما قال . ويعرفه من قرأ الخط المسند . وليس فيه اتهام لنقلة المصاحف كما توهم ؛ لأن ما نقلوه موافق للقراءة المتواترة . ولا بد مما ذكره أبو عبيدة ، لأنهم اشترطوا في القراءات موافقة الرسم العثمانيّ ، ولولاه كانت قراءة الظاء مخالفة له انتهى
قال ابن كثير : وكلتا القراءتين متواترة ومعناها صحيح كما تقدم . (1)
قوله تعالى : « فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ ».قلنا ، فى غير هذا الموضع ، إن هذه الأقسام المنفية ، يراد بها التعريض بالقسم ، لا وقوع القسم ذاته .. إذ كان الأمر الواقع فى معرض القسم أظهر من أن يحتاج إلى توكيد وجوده بقسم. والخنس : هى الكواكب ، إذا طلع عليها النهار خنست أي غابت ، واختفت معالمها عن الأنظار ..
والجوار الكنس ، هى هذه الكواكب فى حال ظهورها بالليل ، ثم تغيبها فى الأفق الغربىّ ، بفعل حركة الأرض ، ودورانها اليومي من الغرب إلى الشرق .. والكناس ، مأوى الظباء ، وبيتها الذي تسكن إليه.
والخنس : جمع خنساء ، وهى الظبية ، تدخل فى كناسها ، ومن هذا سمّى العرب به بعض بناتهم ، ومنهن الخنساء الشاعرة المعروفة تشبيها بالظبية فى جمالها وتناسق أعضائها ، ثم فى خفرها ، وحيائها ، وصونها.
هذا ، ومن أسماء الشمس عند العرب « الغزالة » تشبيها لها بالغزالة فى جمالها وتحركها الرتيب الهادئ على مسرح مرعاها ، حتى إذا غربت الشمس ، عادت إلى كناسها ، واختفت فيه. وخنست .. قال المعرى :
ولم أرغب عن اللذات إلّا لأنّ خيارها عنّى خنسنه
والفاء فى قوله تعالى : « فلا أقسم » هو مرتبط بما وقع جوابا للشرط « إذا » فى أول السورة وهو قوله تعالى « عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ » أي إن هذا الحق واقع ، فلا أقسم لكم على توكيده بِالْخُنَّسِ ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ ».
قوله تعالى « وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ »..عسعس الليل ، أي قفل راجعا ، وذهب ظلامه الذي كان مخيما على الكون .. ومنه العسس ، وهم حراس الليل من الجنود ، يعسّون فى الطرقات أي يتحركون تحت جنح الظلام ، ليروا ماذا يجرى من أحداث يحدثها أهل الشرّ تحت هذا الستار من الظلام .. فالليل ، متحرك ، وليس ثابتا .. إنه يجرى إلى كناسه ، كما تجرى الكواكب إلى كناسها ..
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 156)(1/262)
قوله تعالى : « وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ » معطوف على قوله تعالى : « وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ » وتنفس الصبح ، ظهوره ، ودبيب الحياة فيه.
وفى التعبير عن ظهور الصبح بالتنفس ، إشارة إلى أنه مولد حياة للأحياء جميعها ، حيث تبعث الحياة من جديد فى الأحياء ، مع الصباح ، بعد أن غشيها النوم ، وحبسها عن الحركة ، فبدت وكأنها فى عالم الموتى .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ » (60 : الأنعام) قوله تعالى : «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ » هو جواب القسم المنفي : « فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ... » أي فلا أقسم لكم بالخنس ، الجوار الكنس ، ولا بالليل إذا عسعس ، ولا بالصبح إذا تنفس ـ بأن أخبار يوم القيامة وأحداثها ، واقعة لا شك فيها ، وأن هذه الأخبار التي تحدثكم عن هذا اليوم ، هى قول رسول كريم ، هو رسول الوحى ، جبريل عليه السلام ، بلّغ به كلمات ربه إليه .. لا أقسم لكم بهذه العوالم على وقوع هذا الخبر ، فإنه بيّن ظاهر . ونسبة القول ، وهو القرآن ، إلى جبريل ، لأنه هو المبلّغ له ، القائل لما قيل له من ربه سبحانه وتعالى ..
وقوله تعالى : « ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ » هو من صفة جبريل عليه السلام ، وهو أنه ذو مكانة مكينة عند ذى العرش ، وهو اللّه سبحانه وتعالى ..
وقوله تعالى : « مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ » ومن صفات جبريل أيضا أنه مطاع هناك من ملائكة الرحمن ، أمين على ما يحمل من كلمات اللّه إلى رسل اللّه ، لا يبدل ، ولا يحرّف.
قوله تعالى : « وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ » وإذن فما صاحبكم هذا ، وهو محمد ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ ما هو بمجنون كما تقولون عنه ، وإنما هو يتلقى هذا القول الذي يقوله لكم ، من رسول أمين ممن السماء ، يبلغ النبىّ رسالة ربه اليه.
قوله تعالى : « وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ » المفسرون على أن الهاء فى قوله تعالى : « ولقد رآه » يعود إلى جبريل ، عليه السلام ، وأن المرئي لجبريل ، هو النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأن الأفق المبين ، هو الأفق العالي ، أي أفق السموات العلا ، حيث عرج بالنبي ، فظهر له جبريل على صورته الملكية ..
وإنه الأولى عندنا ، أن يكون هذا الضمير عائدا على القرآن الكريم ، وهو هذا القول الذي تلقاه النبي من جبريل .. فلقد رأى النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ القرآن الكريم بالأفق المبين ، العالي الواضح ، فى معراجه إلى الملأ الأعلى ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : « لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى » (18 : النجم) فالقرآن هو بعض ما رأى النبي الكريم فى معراجه .. حيث كان القرآن قد نزل إلى السماء الدنيا ليلة القدر ، كما يذهب إلى ذلك أكثر العلماء فى تفسير قوله تعالى : « إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ » قوله تعالى : « وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ »(1/263)
أي وليس النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ بالذي يضن بأنباء الغيب التي يتلقاها من ربه ، فيما تحمل إليه آيات اللّه من أحداث يوم القيامة ، وغيرها ، مما جاء فى القرآن الكريم ، وإنما هو رسول من عند اللّه ، ومطلوب منه أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه : « يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ » (67 : المائدة) فالمراد بالغيب هنا ، هو القرآن الكريم ، وآياته التي حملت إلى النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ كثيرا من أنباء الغيب ، من قصص وغيره ، كما يقول سبحانه : « تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا » (49 : هود) وقرىء : بضنين ، بظنين ، أي بمتهم .. أي ليس النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ بمتهم فيما يبلغ من آيات ربه.
قوله تعالى : « وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ » ؟ أي أن هذا القرآن هو من قول اللّه سبحانه وتعالى ، الذي نقله رسول الوحى جبريل ، وليس من وساوس الشيطان ، ولا من مقولاته .. « وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ ، وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ » (210 ـ 212 : الشعراء) وقوله تعالى : « فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ » ؟
أي فإلى أي مذهب من مذاهب الضلال تذهبون ، بعد هذا البيان المبين ، وبعد تلك الحجة الواضحة ؟
أهناك مذهب لكم إلى غير اللّه ، وإلى غير ما تدعوكم إليه آيات اللّه ؟ إن أي طريق آخر غير هذا الطريق هو الضلال والهلاك وقوله تعالى : « إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ » أي هذا القرآن ، ما هو إلا ذكر ، وهدى ، للعالمين وقوله تعالى : « لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ » هو بدل بعض من كلّ من قوله تعالى : « للعالمين » أي هذا القرآن هو ذكر للعالمين جميعا .. وهو ذكر لمن شاء منكم أيها المشركون ، أن يتلقى منه الموعظة والهدى ، ويستقيم على طريق الحق ويسلك مسلك النجاة ..
وقوله تعالى : « وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ». الواو هنا للحال ، أي من شاء منكم أن يستقيم ، فليطلب الاستقامة ، وليرد مواردها ، وليأخذ بالأسباب إليها .. ثم إن مشيئتكم تلك مرتهنة بمشيئة اللّه العامة الشاملة ، التي كل مشيئة منطوية تحتها ، دائرة فى فلكها ..
فالإنسان ـ وإن كانت له مشيئة ـ ليس بالذي يستقلّ بمشيئته عن مشيئة اللّه ، فهو إذ يشاء شيئا ، وإذ يمضى هذا الشيء ، فإنما ذلك من مشيئة اللّه فيه ..
وهذا ليس بالذي يدعو الإنسان إلى أن يعطل مشيئته ، منتظرا مشيئة اللّه فيه ، لأنه لا يعلم ما مشيئة اللّه فيه .. بل إن عليه أن يعمل مشيئته ، كما يعمل جوارحه جميعها ، فإذا وافقت مشيئته مشيئة اللّه ، مضت ونفذت ، وإن خالفت مشيئة اللّه لم تمض ، ولم تنفذ ، ومضت مشيئة اللّه! هذا هو المطلوب من العبد .. فإن أعطى مشيئته ما ينبغى أن يقدّمه بين يديها من بحث ـ ونظر(1/264)
، وعقل ـ جاءت مشيئته قائمة على طريق الحق ، مثمرة له أطيب الثمر ، تماما ، كما إذا أيقظ حواسه ، وعمل بها فى المحسوسات ، كان له من معطياتها ما يصله بالحياة وصلا وثيقا ، ويقيمه على طريقها دون أن يتعثر ، أو يضلّ! (1)
والخنس الجوار الكنس . . هي الكواكب التي تخنس أي ترجع في دورتها الفلكية وتجري وتختفي . والتعبير يخلع عليها حياة رشيقة كحياة الظباء . وهي تجري وتختبئ في كناسها وترجع من ناحية أخرى . فهناك حياة تنبض من خلال التعبير الرشيق الأنيق عن هذه الكواكب ، وهناك إيحاء شعوري بالجمال في حركتها . في اختفائها وفي ظهورها . في تواريها وفي سفورها . في جريها وفي عودتها . يقابله إيحاء بالجمال في شكل اللفظ وجرسه .
{ والليل إذا عسعس } . . أي إذا أظلم . ولكن اللفظ فيه تلك الإيحاءات كذلك . فلفظ عسعس مؤلف من مقطعين : عس . عس . وهو يوحي بجرسه بحياة في هذا الليل ، وهو يعس في الظلام بيده أو برجله لا يرى! وهو إيحاء عجيب واختيار للتعبير رائع .
ومثله : { والصبح إذا تنفس } . . بل هو أظهر حيوية ، وأشد إيحاء . والصبح حي يتنفس . أنفاسه النور والحياة والحركة التي تدب في كل حي ، وأكاد أجزم أن اللغة العربية بكل مأثوراتها التعبيرية لا تحتوي نظيراً لهذا التعبير عن الصبح . ورؤية الفجر تكاد تشعر القلب المتفتح أنه بالفعل يتنفس! ثم يجيء هذا التعبير فيصور هذه الحقيقة التي يشعر بها القلب المتفتح.
وكل متذوق لجمال التعبير والتصوير يدرك أن قوله تعالى : { فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ، والليل إذا عسعس ، والصبح إذا تنفس . . } ثروة شعورية وتعبيرية . فوق ما يشير إليه من حقائق كونية . ثروة جميلة بديعة رشيقة؛ تضاف إلى رصيد البشرية من المشاعر ، وهي تستقبل هذه الظواهر الكونية بالحس الشاعر .
يلوح بهذه المشاهد الكونية التي يخلع عليها الحياة؛ ويصل روح الإنسان بأرواحها من خلال التعبير الحي الجميل عنها؛ لتسكب في روح الإنسان أسرارها ، وتشي له بالقدرة التي وراءها ، وتحدثها بصدق الحقيقة الإيمانية التي تدعى إليها . . ثم يذكر هذه الحقيقة في أنسب الحالات لذكرها واستقبالها :{ إنه لقول رسول كريم . ذي قوة عند ذي العرش مكين . مطاع ثم أمين }.
إن هذا القرآن ، وهذا الوصف لليوم الآخر . . لقول رسول كريم . . وهو جبريل الذي حمل هذا القول وأبلغه . . فصار قوله باعتبار تبليغه .
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1471)(1/265)
ويذكر صفة هذا الرسول ، الذي اختير لحمل هذا القول وإبلاغه . . { كريم } عند ربه . فربه هو الذي يقول . . { ذي قوة } . . مما يوحي بأن هذا القول يحتاج في حمله إلى قوة . { عند ذي العرش مكين } . . في مقامه ومكانته . . وعند من؟ عند ذي العرش العلي الأعلى . { مطاع ثم } هناك في الملأ الأعلى . { أمين } . . على ما يحمل وما يبلغ . .
وهذه الصفات في مجموعها توحي بكرامة هذا القول وضخامته وسموه كذلك وارتفاعه . كما توحي بعناية الله سبحانه بالإنسان ، حتى ليختار هذا الرسول صاحب هذه الصفة ليحمل الرسالة إليه ، ويبلغ الوحي إلى النبي المختار منه . . وهي عناية تخجل هذا الكائن ، الذي لا يساوي في ملك الله شيئاً ، لولا أن الله سبحانه يتفضل عليه فيكرمه هذه الكرامة!
فهذه صفة الرسول الذي حمل القول وأداه ، فأما الرسول الذي حمله إليكم فهو { صاحبكم } . . عرفتموه حق المعرفة عمراً طويلاً . فما لكم حين جاءكم بالحق تقولون فيه ما تقولون . وتذهبون في أمره المذاهب ، وهو { صاحبكم } الذي لا تجهلون . وهو الأمين على الغيب الذي يحدثكم عنه عن يقين :{ وما صاحبكم بمجنون . ولقد رآه بالأفق المبين . وما هو على الغيب بضنين . وما هو بقول شيطان رجيم . فأين تذهبون؟ إن هو إلا ذكر للعالمين } . .
ولقد قالوا عن النبي الكريم الذي يعرفونه حق المعرفة ، ويعرفون رجاحة عقله ، وصدقه وأمانته وتثبته ، قالوا عنه : إنه مجنون . وإن شيطاناً يتنزل عليه بما يقول . قال بعضهم هذا كيدا له ولدعوته كما وردت بذلك الأخبار . وقاله بعضهم عجباً ودهشة من هذا القول الذي لا يقوله البشر فيما يألفون ويعهدون . وتمشياً مع ظنهم أن لكل شاعر شيطاناً يأتيه بالقول الفريد . وأن لكل كاهن شيطاناً يأتيه بالغيب البعيد . وأن الشيطان يمس بعض الناس فينطق على لسانهم بالقول الغريب! وتركوا التعليل الوحيد الصادق ، وهو أنه وحي وتنزيل من رب العالمين .
فجاء القرآن يحدثهم في هذا المقطع من السورة عن جمال الكون البديع ، وحيوية مشاهده الجميلة . ليوحي إلى قلوبهم بأن القرآن صادر عن تلك القدرة المبدعة ، التي أنشأت ذلك الجمال . على غير مثال . وليحدثهم بصفة الرسول الذي حمله ، والرسول الذي بلغه . وهو صاحبهم الذي عرفوه . غير مجنون . والذي رأى الرسول الكريم جبريل حق الرؤية ، بالأفق المبين الواضح الذي تتم فيه الرؤية عن يقين . وأنه - صلى الله عليه وسلم - لمؤتمن على الغيب ، لا تظن به الظنون في خبره الذي يرويه عنه ، فما عرفوا عنه إلا الصدق واليقين . { وما هو بقول شيطان رجيم } فالشياطين لا توحي بهذا النهج القويم . ويسألهم مستنكراً : { فأين تذهبون؟ } . . أين تذهبون في حكمكم وقولكم؟ أو أين تذهبون منصرفين عن الحق وهو يواجهكم أينما ذهبتم!(1/266)
{ إن هو إلا ذكر للعالمين } ذكر يذكرهم بحقيقة وجودهم ، وحقيقة نشأتهم ، وحقيقة الكون من حولهم . . { للعالمين } . . فهو دعوة عالمية من أول مرحلة . والدعوة في مكة محاصرة مطاردة . كما تشهد مثل هذه النصوص المكية . .
وأمام هذا البيان الموحي الدقيق يذكرهم أن طريق الهداية ميسر لمن يريد . وأنهم إذن مسؤولون عن أنفسهم ، وقد منحهم الله هذا التيسير :{ لمن شاء منكم أن يستقيم } . .
أن يستقيم على هدى الله ، في الطريق إليه ، بعد هذا البيان ، الذي يكشف كل شبهة ، وينفي كل ريبة ، ويسقط كل عذر . ويوحي إلى القلب السليم بالطريق المستقيم . فمن لم يستقم فهو مسؤول عن انحرافه . فقد كان أمامه أن يستقيم .
والواقع أن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق من القوة والعمق والثقل بحيث يصعب على القلب التفلت من ضغطها إلا بجهد متعمد . وبخاصة حين يسمع التوجيه إليها بأسلوب القرآن الموحي الموقظ . وما ينحرف عن طريق الله بعد ذلك إلا من يريد أن ينحرف . في غير عذر ولا مبرر!
فإذا سجل عليهم إمكان الهدى ، ويسر الاستقامة ، عاد لتقرير الحقيقة الكبرى وراء مشيئتهم . حقيقة أن المشيئة الفاعلة من وراء كل شيء هي مشيئة الله سبحانه . .
{ وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين } . .وذلك كي لا يفهموا أن مشيئتهم منفصلة عن المشيئة الكبرى ، التي يرجع إليها كل أمر . فإعطاؤهم حرية الاختيار ، ويسر الاهتداء ، إنما يرجع إلى تلك المشيئة . المحيطة بكل شيء كان أو يكون!
وهذه النصوص التي يعقب بها القرآن الكريم عند ذكر مشيئة الخلائق ، يراد بها تصحيح التصور الإيماني وشموله للحقيقة الكبيرة : حقيقة أن كل شيء في هذا الوجود مرده إلى مشيئة الله . وأن ما يأذن به للناس من قدرة على الاختيار هو طرف من مشيئته ككل تقدير آخر وتدبير . شأنه شأن ما يأذن به للملائكة من الطاعة المطلقة لما يؤمرون ، والقدرة الكاملة على أداء ما يؤمرون . فهو طرف من مشيئته كإعطاء الناس القدرة على اختيار أحد الطريقين بعد التعليم والبيان .
ولا بد من إقرار هذه الحقيقة في تصور المؤمنين ، ليدركوا ما هو الحق لذاته . وليلتجئوا إلى المشيئة الكبرى يطلبون عندها العون والتوفيق ، ويرتبطون بها في كل ما يأخذون وما يدعون في الطريق! (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3842)(1/267)
1- مشروعية الإِقسام بالله تعالى وأسمائه وصفاته .
2- تقرير الوحي وإثبات النبوة المحمدية .
3- وصف اللّه تعالى جبريل عليه السلام بخمسة أوصاف ، هي : كريم عزيز على اللّه ، ذو قوة في الحفظ وأداء ، طاعة اللّه ومعرفته وترك الإخلال بها ، وذو مكانة وجاه عند ربّ العرش ، ومطاع بين الملائكة فهو من السادة الأشراف ، وأمين على وحي اللّه ورسالاته ، قد عصمه اللّه من الخيانة والزلل.
وقوله : عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ .. هذه العندية ليست عندية المكان ، كقوله تعالى : وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الأنبياء 21/ 19] وليست عندية الجهة ، بدليل ما روي عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ رَشِيدٍ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : أَيْ رَبِّ أَيْنَ أَلْقَاكَ ؟ قَالَ : تَلْقَانِي عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ " الزُّهْدُ الْكَبِيرُ لِلْبَيْهَقِيِّ (1)
وعَنْ عِمْرَانَ الْقَصِيرِ قَالَ : " قَالَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ : أَيْ رَبِّ ، أَيْنَ أَبْغِيكَ ؟ قَالَ : ابْغِنِي عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ ؛ إِنِّي أَدْنُو مِنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ بَاعًا ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَانْهَدَمُوا " الزُهْدُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَوْذَبَ ، قَالَ : قَالَ دَاوُدُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " أَيْ رَبِّ أَيْنَ أَلْقَاكَ " ؟ قَالَ : " تَلْقَانِي عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ " الْهَمُّ وَالْحَزَنْ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (3)
وقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ : " قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ : يَا رَبِّ أَيْنَ أَبْغِيكَ ؟ قَالَ : أَبْغِنِي عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ " حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (4)
وعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ ، قَالَ : قَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " إِلَهِي أَيْنَ أَجِدُكَ إِذَا طَلَبْتُكَ ؟ قَالَ : عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ مَخَافَتِي " حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (5)
بل عندية الإكرام والتشريف والتعظيم (6)
4- براءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما اتهمه به المشركون .فقد ردّ اللّه تعالى على المشركين المتقولين بأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ليس بمجنون كما زعموا ، بأنهم أعلم الناس بأمره ، وبأنه أعقل الناس وأكملهم.
5- بيان أن مشيئة الله سابقة لمشيئة العبد . فلا يقع في ملك الله تعالى إلا ما يريد ..
__________
(1) - الزُّهْدُ الْكَبِيرُ لِلْبَيْهَقِيِّ (379 )
(2) - الزُهْدُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (397 ) حسن مقطوع
(3) - الْهَمُّ وَالْحَزَنْ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (61 ) حسن مطوع
(4) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (2846 ) صحيح مقطوع
(5) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (4741 ) صحيح مقطوع
(6) - تفسير الرازي : 31/ 73(1/268)
6- للّه أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان وجماد ، وإن لم يعلم وجه الحكمة في ذلك ، كما قال القرطبي (1) .
7- أقسم اللّه تعالى بجميع الكواكب التي تخنس (تختفي) بالنهار وعند غروبها ، وخنوسها : غيبتها عن البصر بالنهار ، والتي تجري في أفلاكها ، وتكنس ، وكنوسها : ظهورها للبصر في الليل ، كما يظهر الظبي أو الوحش من كناسه ، ثم تغيب وتستتر في مغيبها تحت الأفق ، لما في تحركها وظهورها مرة ،واختفائها مرة أخرى من الدليل على قدرة خالقها ومصرّفها.
وأقسم اللّه أيضا بالليل إذا أقبل بظلامه لما فيه من السكون والرهبة ، وبالصبح إذا أضاء وامتد حتى يصير نهارا واضحا ، لما فيه من التفتح والبهجة.
والمقسم المحلوف عليه هو أن القرآن الكريم نزل به جبريل : تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الواقعة 56/ 80]. وإنما نسب الكلام إلى جبريل عليه السلام باعتبار أنه الواسطة بين اللّه وبين أنبيائه ورسله.
8- رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام في صورته الحقيقية ، له ست مائة جناح بالأفق المبين ، فعَنِ الشَّيْبَانِيِّ ، قَالَ : سَأَلْتُ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ : {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم]. قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللهِ : رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ."صحيح ابن حبان (2)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : رَأَيْتُ جِبْرِيلَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، وَعَلَيْهِ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ يُنْثَرُ مِنْ رِيشِهِ تَهَاوِيلَ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ "صحيح ابن حبان (3)
وقال أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِىُّ قَالَ سَأَلْتُ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ) . قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ ."صحيح البخارى (4)
أي بمطلع الشمس من قبل المشرق ، فهو مبين لأنه ترى الأشياء من جهته ، وذلك ليتأكد ويطمئن بأنه ملك مقرب ، لا شيطان رجيم.
9- أخبر اللّه تعالى عن نبيّه بأنه لا يضنّ بشيء من الغيب أي الوحي وخبر السماء على أحد ، وإنما يقوم بتعليمه وتبليغه دون انتقاص شيء منه ، عَنْ مُجَاهِدٍ : وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ يَعْنِي بِبَخِيلٍ ، يَقُولُ : " لَا يَضِنُّ عَلَيْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ " (5) .
__________
(1) - تفسير القرطبي : 19/ 237
(2) - صحيح ابن حبان - (14 / 336) (6427) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (14 / 337) (6428) صحيح
(4) - صحيح البخارى -(3232 )
(5) - تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ (1940 ) صحيح(1/269)
10- بعد وصف كل من الرسول الوسيط جبريل والمرسل إليه بالأمانة في تبليغ الوحي ، حسم الأمر في شأن القرآن ، فأعلن بأن القرآن ليس بقول شيطان مرجوم ملعون ، كما قالت قريش ، ولا بقول كاهن ولا مجنون ، وإنما هو موعظة وبيان وهداية للخلق أجمعين ، لمن أراد أن يستقيم أي يتبع الحق ويقيم عليه.
11- حكم اللّه بعد هذا الوصف على قريش بالضلال والضياع بقوله : فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أي فأيّ طريقة تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بيّنت لكم ، أو بعد هذه البيانات التي أوضحتها لكم.
12- لا يعمل العبد خيرا إلا بتوفيق اللّه ، ولا شرا إلا بخذلانه ، وليس للإنسان مشيئة إلا أن يشاء اللّه تعالى أن يعطيه تلك المشيئة ، وفعل الاستقامة موقوف على إرادة الاستقامة. واللّه هدى بالإسلام ، وأضل بالكفر.
والاستقامة : هي سلوك الصراط المستقيم صراط اللّه الذي له ما في السموات والأرض. قال الحسن البصري : واللّه هدى بالإسلام ، وأضل بالكفر.
والاستقامة : هي سلوك الصراط المستقيم صراط اللّه الذي له ما في السموات والأرض. قال الحسن البصري : واللّه ما شاءت العرب الإسلام حتى شاءه اللّه لها.
قال تعالى : وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الأنعام : 6/ 111] ، وقال سبحانه : وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [يونس : 10/ 100] ، وقال عزّ وجلّ : إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص 28/ 56].
مقاصد هذه السورة
(1) أهوال يوم القيامة.
(2) الإقسام بالنجوم وبالليل وبالصبح إن القرآن منزل من عند اللّه بوساطة ملائكته.
(3) إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
(4) بيان أن القرآن عظة وذكرى لمن أراد الهداية ، وتوجهت نفسه إلى فعل الخير.
(5) مشيئة العبد تابعة لمشيئة الربّ سبحانه ، وليس لها استقلال بالعمل. (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 62)(1/270)
سورة الإنفطار
مكيّة ، وهي تسع عشرة آية
تسميتها :
سميت سورة (الانفطار) ، لافتتاحها بقوله تعالى :إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أي انشقت ، كما قال سبحانه : السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل 73/ 18].
وقال ابن عاشور : " سميت هذه السورة "سورة الانفطار" في المصاحف ومعظم التفاسير.
وفي حديث رواه الترمذي عن ابن عمر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت" . قال الترمذي: حديث حسن غريب. وقد عرفت ما فيه من الاحتمال في أول سورة التكوير.
وسميت في بعض التفاسير "سورة إذا السماء انفطرت" وبهذا الاسم عنونها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه". ولم يعدها صاحب "الإتقان" مع السور ذات أكثر من اسم وهو الانفطار.
ووجه التسمية وقوع جملة {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الإنفطار:1] في أولها فعرفت بها.
وسميت في قليل من التفاسير "سورة انفطرت"، وقيل تسمى "سورة المنفطرة" أي السماء المنفطرة.وهي مكية بالاتفاق.
وهي معدودة الثانية والثمانين في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة النازعات وقبل سورة الانشقاق.وعدد آيها تسع عشرة آية.
أغراضها
واشتملت هذه السورة على: إثبات البعث، وذكر أهوال تتقدمه.
وإيقاظ المشركين للنظر في الأمور التي صرفتهم عن الاعتراف بتوحيد الله تعالى وعن النظر في دلائل وقوع البعث والجزاء.
والأعلام بأن الأعمال محصاة. وبيان جزاء الأعمال خيرها وشرها.
وإنذار الناس بأن لا يحسبوا شيئا ينجيهم من جزاء الله إياهم على سيء أعمالهم." (1)
مناسبتها لما قبلها :
هذه السورة الكريمة ، هى على شاكلة سابقتها « التكوير ».. كل منهما حديث عن يوم القيامة وإرهاصاتها .. فكان جمعهما فى هذا السياق من جمع النظير إلى نظيره ، ليتأكد ويتقرر فى الأذهان .. (2)
ما اشتملت عليه السورة :
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 150)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1478)(1/271)
* سورة الانفطار من السور المكية ، وهي تعالج - كسابقتها (سورة التكوير) - الإنقلاب الكوني الذي يصاحب قيام الساعة ، وما يحدث في ذلك اليوم الخطير من أحداث جسام ، ثم بيان حال الأبرار ، وحال الفجار ، يوم البعث والنشور
* ابتدأت السورة الكريمة ببيان مشاهد الإنقلاب الذي يحدث في الكون ، من انفطار السماء وإنتثار الكواكب ، وتفجير البحار ، وبعثرة القبور ، وما يعقب ذلك من الحساب والجزاء [ إذا السماء انفطرت ، وإذا الكواكب انتثرت ، وإذا البحار فجرت ، وإذا القبور بعثرت ، علمت نفس ما قدمت وأخرت ] .
* ثم تحدثت عن جحود الإنسان وكفرانه لنعم ربه ، وهو يتلقى فيوض النعمة منه جل وعلا ، ولكنه لا يعرف للنعمة حقها ، ولا يعرف لربه قدره ، ولا يشكر على الفضل والنعمة والكرامة [ يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ، الذي خلقك فسواك فعدلك ، في أي صورة ما شاء ركبك ] ؟
* ثم ذكرت علة هذا الجحود والإنكار ، ووضحت أن الله تعالى وكل بكل إنسان ملائكة يسجلون عليه أعماله ، ويتعقبون أفعاله [ كلا بل تكذبون بالدين ، وإن عليكم لحافظين ، كراما كاتبين [ يعلمون ما تفعلون
* وذكرت السورة انقسام الناس في الآخرة إلى قسمين : أبرار ، وفجار ، وبينت مآل كل من الفريقين إن الأبرار لفي نعيم ، وإن الفجار لفي جحيم ، يصلونها يوم الدين . . ] الآيات .
* وختمت السورة الكريمة بتصوير ضخامة يوم القيامة وهوله ، وتجرد النفوس يومئذ من كل حول وقوة وتفرد الله جل وعلا بالحكم والسلطان [ وما أدراك ما يوم الدين ؟ ثم ما أدراك ما يوم الدين ؟ يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ، والأمر يومئذ لله. (1)
مقصودها التحذير من الانهماك في الأعمال السيئة اغترارا بإحسان الرب وكرمه ونسيانا ليوم الدين الذي يحاسب فيه على النقير والقطمير ، ولا تغني فيه نفس عن نفس شيئا ، واسمها الانفطار أدل ما فيها على ذلك ) بسم الله ( الذي له الجلال كما أن له الجمال ) الرحمن ( الذي عم بالرحمة ليشكر فغر ذلك أهل الضلال ) الرحيم ( الذي خص من أراد بالتوفيق لما يرضى من الخصال (2)
تتحدث هذه السورة القصيرة عن الانقلاب الكوني الذي تتحدث عنه سورة التكوير . ولكنها تتخذ لها شخصية أخرى , وسمتا خاصا بها , وتتجه إلى مجالات خاصة بها تطوف بالقلب البشري
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 465)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 347)(1/272)
فيها ; وإلى لمسات وإيقاعات من لون جديد . هادئ عميق . لمسات كأنها عتاب . وإن كان في طياته وعيد !
ومن ثم فإنها تختصر في مشاهد الانقلاب , فلا تكون هي طابع السورة الغالب - كما هو الشأن في سورة التكوير - لأن جو العتاب أهدأ , وإيقاع العتاب أبطأ . . وكذلك إيقاع السورة الموسيقي . فهو يحمل هذا الطابع . فيتم التناسق في شخصية السورة والتوافق !
إنها تتحدث في المقطع الأول عن انفطار السماء وانتثار الكواكب , وتفجير البحار وبعثرة القبور كحالات مصاحبة لعلم كل نفس بما قدمت وأخرت , في ذلك اليوم الخطير . .
وفي المقطع الثاني تبدأ لمسة العتاب المبطنة بالوعيد , لهذا الإنسان الذي يتلقى من ربه فيوض النعمة في ذاته وخلقته , ولكنه لا يعرف للنعمة حقها , ولا يعرف لربه قدره , ولا يشكر على الفضل والنعمة والكرامة:(يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك ? في أي صورة ما شاء ركبك) . .
وفي المقطع الثالث يقرر علة هذا الجحود والإنكار . فهي التكذيب بالدين - أي بالحساب - وعن هذا التكذيب ينشأ كل سوء وكل جحود . ومن ثم يؤكد هذا الحساب توكيدا , ويؤكد عاقبته وجزاءه المحتوم:(كلا . بل تكذبون بالدين . وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين . يعلمون ما تفعلون . إن الأبرار لفي نعيم . وإن الفجار لفي جحيم . يصلونها يوم الدين . وما هم عنها بغائبين) . .
فأما المقطع الأخير فيصور ضخامة يوم الحساب وهوله , وتجرد النفوس من كل حول فيه , وتفرد الله سبحانه بأمره الجليل:(وما أدراك ما يوم الدين ? ثم ما أدراك ما يوم الدين ? يوم لا تملك نفس لنفس شيئا , والأمر يومئذ لله) . .فالسورة في مجموعها حلقة في سلسلة الإيقاعات والطرقات التي يتولاها هذا الجزء كله بشتى الطرق والأساليب . (1)
فضلها :
عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ،قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ ، فَلْيَقْرَأْ : إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ وَ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ "المستدرك للحاكم (2) .
وعن ابْنِ عُمَرَ قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْىُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) وَ (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ) و ( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) ». وَأَحْسَبُ أَنَّهُ قَالَ سُورَةَ هُودٍ. "مسند أحمد (3)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3845)
(2) - المستدرك للحاكم (3900) صحيح
(3) - مسند أحمد -(4910) صحيح(1/273)
وعن جابر بن عبد الله، قال: كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَنِي سَلِمَةَ فَيُصَلِّيهَا بِهِمْ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَّرَ الْعِشَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَصَلاهَا مُعَاذٌ مَعَهُ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَمَّ قَوْمَهُ فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَتَنَحَّى رَجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ، فَصَلَّى وَحْدَهُ فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالُوا لَهُ: نَافَقْتَ يَا فُلانُ، قَالَ: مَا نَافَقْتُ وَلَكِنِّي آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأُخْبِرُهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ أَخَّرْتَ الْعِشَاءَ الْبَارِحَةَ، وَإنَّ مُعَاذًا صَلاهَا مَعَكَ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَمَّنَا، فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَتَنَحَّيْتُ فَصَلَّيْتُ وَحْدِي، وَإِنَّمَا نَحْنُ أَهْلُ نَوَاضِحَ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى مُعَاذٍ، فَقَالَ: أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ اقْرَأْ سُورَةَ كَذَا وَسُورَةَ كَذَا، قَالَ عَمْرٌو: وَعَدَّدَ سُورًا، قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : اقْرَأْ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَ اللَّيْلِ إِذَا يَغْشى وَنَحْوَهَا، فَقُلْتُ لِعَمْرٍو: فَإِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ، يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : اقْرَأْ ب سَبِّحْ وَ السَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، فَقَالَ عَمْرٌو: هِيَ هَذِهِ أَوْ نَحْوَ هَذِهِ."مسند أبي عوانة (1)
وعن عَمْرُو بْنِ دِينَارٍ ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ فَيَؤُمُّهُمْ ، قَالَ : فَأَخَّرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَصَلَّى مَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا فَتَقَدَّمَ لَيَؤُمَّنَا ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ تَنَحَّى فَصَلَّى وَحْدَهُ ، ثُمَّ انْصَرَفَ ، فَقُلْنَا لَهُ : مَا لَكَ يَا فُلاَنُ ، أَنَافَقْتَ ؟ قَالَ : مَا نَافَقْتُ ، وَلَآتِيَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَأُخْبِرَنَّهُ ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ مُعَاذًا يُصَلِّي مَعَكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّنَا ، وَإِنَّكَ أَخَّرْتَ الْعِشَاءَ الْبَارِحَةَ فَصَلَّى مَعَكَ ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا فَتَقَدَّمَ لَيَؤُمَّنَا ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ تَنَحَّيْتُ فَصَلَّيْتُ وَحْدِي ، أَيْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِنَّمَا نَحْنُ أَصْحَابُ نَوَاضِحَ ، وَإِنَّمَا نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ ؟ أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ ؟ اقْرَأْ بِسُورَةِ كَذَا وَسُورَةِ كَذَا قَالَ عَمْرٌو : وَأَمَرَهُ بِسُوَرٍ قِصَارٍ لاَ أَحْفَظُهَا ، قَالَ سُفْيَانُ : فَقُلْنَا لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ : إِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ قَالَ لَهُمْ : إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ : اقْرَأْ بِالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ، قَالَ عَمْرٌو نَحْوَ هَذَا. "صحيح ابن حبان (2)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - في ظلال القرآن - (7 / 437) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (6 / 160) (2400) صحيح(1/274)
أمارات القيامة والجزاء على العمل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
سبب النزول : نزول الآية (6) : يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ :
أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ .. الآية قال : نزلت في أبيّ بن خلف.
وَأَخْرَجَ بْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرَمَةَ،" " يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ " ، قَالَ: أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ (1)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... انْفَطَرَتْ ... انشقت
2 ... انْتَثَرَتْ ... تساقطت
3 ... فُجِّرَتْ ... فجر الله بعضها إلى بعض واختلط عذبها بمالحها
4 ... بُعْثِرَتْ ... قلب ترابها وبعث موتاها أحياء
5 ... مَاقَدَّمَتْ ... من العمل صالحا كان أو سيئا
5 ... وَأَخَّرَتْ ... من أعمال لحقتها صالحة كانت أو سيئة أي ما سنته للناس بعدها
6 ... مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ... أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه
7 ... فَسَوَّاكَ ... جعلك مستوى الخلقة سالم الأعضاء
7 ... فَعَدَلَكَ ... مستقيما معتدل القامة متناسب الأعضاء
المعنى الإجمالي:
افتتح سبحانه هذه السورة بمثل ما افتتح به سابقتها من ذكر أمور تحدث حين خراب هذا العالم ، وتكون مقدمة ليوم العرض والحساب والجزاء ، وهو يوم القيامة منها أمران علويان هما : انفطار السماء وانتثار الكواكب ، وأمران سفليان هما تفجير البحار وبعثرة القبور. ثم أبان أنه فى ذلك اليوم تتجلى للنفوس أعمالها على حقيقتها.
فلا ترى خيرا فى صورة شر ، ولا تتخيل شرا فى مثال خير ، كما يقع فى الدنيا لأغلب النفوس. فيعرف أهل الخير أنهم - وإن نجوا - مقصرون ، فيأسفون على ما تركوا
__________
(1) -تفسير ابن أبي حاتم - (12 / 378) والدر المنثور - (10 / 211)(1/275)
ويستبشرون بما عملوا ، ويعضّ أهل السوء بنان الندم ، ويوقنون بسوء المنقلب ، ويتمنون أن لو كانوا ترابا. (1)
يذكرنا القرآن كثيرا بيوم القيامة ، وأن الإنسان فيه يشهد ما قدمته يداه من خير أو شر وسيجازى عليه ، ويقدم لذلك بذكر بعض أهوال يوم القيامة ليجذب قلب السامع إلى دائرة الاتعاظ والتهويل والتفخيم ، فترى السامع وقد حبس أنفاسه ساعة يسمع (إذا السماء انفطرت) وتشققت ، وإذا الكواكب التي كانت زينة ونورا تصبح وقد تناثرت وسقطت بلا نظام ، كسقوط العقد إذا انفرط حبه في يد صاحبه ، ولا تنس أن الأرض تسير سيرا ، وتضطرب اضطرابا. ويقع الخلل في جميع أجزائها فترى البحار وقد فجرت تفجيرا ، وتشققت جوانبها وامتلأت ماء حتى اختلط عذبها بملحها ، ولم يعد بينها حاجز بل يغمر البسيطة الماء ثم لا يلبث أن يتبخر ، والبحار تسجر وتملأ لهبا ودخانا ، أرأيت الأرض في هذه الساعة : وكأنى بك وأنت تنظر إلى القبور وقد بعثرت ، وذرى ترابها وأخرج من فيها للحساب ، وقد نشرت الصحف وقرئت الكتب عندئذ تعلم كل نفس ما قدمت من صالح الأعمال أو سيئها وما أخرت منه.
عجبا لك أيها الإنسان العاقل المفكر ما الذي غرك وخدعك ، وجرأك على عصيان ربك الكريم ؟ ! وقد علمت ما سيكون يوم القيامة من أهوال ، وما ستلاقيه أنت من أحوال ، وما سيظهر لك من أعمال ، يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم المتعالي المنزه عن كل نقص المتصف بكل كمال ، الذي خلقك أولا ، وهو على خلقك ثانيا أقدر وأقدر ، الذي خلقك فسواك وجعلك حسن الصورة كامل الهيئة سالما في أعجب الصور وأتقنها وأجملها وأدقها وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ الأعضاء ، الذي خلقك فعدلك وصيرك معتدلا متناسب الخلق منتصب القامة ، فلست كبقية الحيوان ، وقد عدلك ، أى صرفك عن صورة غيرك.. (2)
التفسير والبيان :
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ أي إذا انشقت السماء ، كما قال تعالى : السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل 72/ 18] ، وقال سبحانه : وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان 25/ 25] ، وقال عزّ وجلّ : فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ ، فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرحمن 55/ 37] ، وقال عزّ من قائل : وَفُتِحَتِ السَّماءُ ، فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ 78/ 19].
وإذا تساقطت الكواكب وتفرقت ، وذلك بعد تشقق السماء.وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ أي فجّر اللّه بعضها في بعض فصارت بحرا واحدا ، ثم تسجّر أي توقد فتصير نارا تضطرم ، كما قال تعالى : وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ [التكوير 81/ 6].
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 63)
(2) - التفسير الواضح ، ج 3 ، ص : 835(1/276)
وإذا قلب تراب القبور ، وأخرج موتاها ، وصار باطنها ظاهرها.وإذا وقعت هذه الأشياء التي هي أشراط الساعة ، فهناك يحصل الحشر والنشر ، وبما أن المراد من هذه الآيات بيان تخريب العالم ، وفناء الدنيا ، فإنه يلاحظ الترتيب ، فيبدأ أولا بتخريب السماء التي هي كالسقف ، ويلزم من تخريب السماء انتثار الكواكب ، ثم يخرب ما على وجه الأرض التي هي كالبناء ، وهو تفجير البحار ، ثم تقلب الأرض ظهرا لبطن ، وبطنا لظهر ، وهو بعثرة القبور.
وجواب الشرط قوله تعالى :
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ أي إذا حدثت الأمور المتقدمة ، علمت كل نفس عند نشر الصحف ما قدمت من عمل خير أو شر ، وما أخّرت من الأعمال بسبب التكاسل والإهمال ، كما قال تعالى : يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة 75/ 13].
وبما أن المراد بهذه الأمور يوم القيامة ، فيكون المقصود بالآية الأخيرة في الأصح الزجر عن المعصية ، والترغيب في الطاعة.
وبعد بيان تبدل نظام العالم ، والإخبار عن وقوع الحشر والنشر ، وبّخ اللّه تعالى الإنسان على تقصيره في عمل الخير ، وجحوده النعم ، بأن لم يطع أوامر اللّه شكرا على النعمة ، فقال :
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ أي يا أيها الإنسان المدرك نهاية العالم ما الذي خدعك وجرأك على عصيان ربّك الكريم الذي أنعم عليك في الدنيا ، حيث خلقك من نطفة بعد العدم ، وجعلك سويا مستقيما ، معتدل القامة في أحسن هيئة وشكل ، متناسب الأعضاء ، لا تفاوت فيها ، مزوّدا بالحواس من السمع والبصر ، وطاقة العقل والفهم.
والأصح أن الآية تتناول جميع العصاة لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ ، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت الآية من أجله.
وقد وصف اللّه تعالى نفسه في هذا المقام بالكرم ، وهذا الوصف يقتضي الاغترار به ، حتى قالت العقلاء : من كرم الرجل سوء أدب غلمانه. فكان الكرم سبب الاغترار ، وإنما وقع الإنكار عليه لأن الإنسان لم يدرك أن كرمه صادر عن الحكمة ، وهي تقتضي ألا يهمل وإن أمهل ، وأن ينتقم للمظلوم من الظالم ولو بعد حين ، وقيل : غرّه ، جهله ، وقيل : غرّه عدوه المسلّط عليه ، وهو الشيطان ، وقيل : غرّه عفو اللّه إذ لم يعاجله بالعقوبة أول مرة.
فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ أي ركّبك في أي صورة شاءها من أبهى الصور وأجملها ، وأنت لم تختر صورة نفسك ، كما قال : لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين 95/ 4].
ومضات :
الخطاب بيا أيها الإنسان ، استدعاء لمعانى الإنسانية التي أودعها اللّه سبحانه وتعالى فى الإنسان ، من قوى عاقلة مدركة ، من شأنها أن تميز بين الخير والشر ، وتفرق بين الإحسان(1/277)
والإساءة ، وأن تضع بين يدى الإنسان ميزانا سليما يضع فى إحدى كفتيه ما أحسن اللّه به إليه ، ويضع فى الكفة الأخرى ما يقدر عليه من شكر ، وذلك بإحسان العمل ، كما يقول سبحانه : « وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ » . (77 : القصص) فإذا رأى الإنسان الكفة التي وضع فيها إحسان اللّه إليه ملأى بالعطايا والمنن ، ثم لم يضع فى الكفة الأخرى شيئا فى مقابل هذا الإحسان ، بل وتجاوز هذا ، فملأ الكفة كفرا باللّه ، ومحادة للّه ولأوليائه ـ فأىّ إنسان هو؟ وأي جزاء يجزى به؟
وفى اختيار صفة « الكريم » للّه سبحانه وتعالى فى هذا المقام ، من بين صفاته الكريمة جل شأنه ـ فى هذا إلفات إلى هذا الإحسان العظيم الذي أفاضه اللّه على الإنسان ، وإلى مقدار جحود الإنسان وكفرانه ، وضلاله ، مع هذا الفضل الغامر ، الذي يجده الإنسان فى كل ذرة من ذراته ، ومع كل نفس من أنفاسه ..و فى قوله تعالى : « ما غرك » إنكار على الإنسان أن يدعوه توالى الإحسان عليه ، وتكاثر النعم بين يديه ، إلى أن يتخذ من ذلك أسلحة يحارب بها ربه المحسن الكريم ..
وكرم الكريم ، وإحسان المحسن ، إذا قوبل ممن أكرم وأحسن إليه ، بالاستخفاف ، ثم النكران والجحود ، ثم بالحرب والعدوان على الحدود ـ كان من مقتضى الحكمة والعدل معا ، أن يؤدّب هذا الجاحد المنكر ، وأن يذوق مرارة الحرمان ، كما ذاق حلاوة الإحسان .. وإلا فقد الإحسان معناه ، وذهب ريحه الطيب ، الذي يجده الذين يعرفون قدره ، ويؤدون حقه ..
يقول المتنبى :
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ووضع الندى فى موضع السيف بالعلا مضرّ كوضع السيف فى موضع الندى
وقد تأول بعض المتأولين هذه الآية تأويلا فاسدا ، حين أقاموا منها حجة لأهل الزيغ والضلال ، يلقون بها ربهم ، إذا سئل أحدهم من ربه : « ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟ » فيقول فى قحة ، وبلا حياء : « غرّنى كرمك » !! إن ذلك مكر باللّه ، واللّه أسرع مكرا! ونعم ، إن اللّه كريم كرما لا حدود له .. ولكن هذا الكرم ، لا يقع إلا حيث المواقع التي تحيا به ، وتثمر أطيب الثمر فى ظله .. إنه كرم بحكمة ، وحساب وتقدير .. « وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ » (8 : الرعد) ولقد وسع كرمه سبحانه ، سيئات المسيئين ، فتقبل توبتهم ، وجعل السيئة سيئة ، والحسنة عشرا ، إلى سبعمائة ، وأضعاف السبعمائة : « وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ » . (261(1/278)
: البقرة) ثم كيف يعرف كرم الكريم ، ويطمع فى أن ينال منه ، من لا يعرف الكريم ذاته ، ومن لا يرجو له وقارا؟ إن حجة هؤلاء داحضة ، ومكر أولئك يبور! (1)
قال الشهاب : يعني أزيل التراب التي ملئت به وكان حتى على موتاها ، فانفتحت وخرج من دفن فيها . وهذا معنى البعثرة ، وحقيقتها تبديد التراب أو نحوه ، وهو إنما يكون لإخراج شيء تحته ، فقد يذكر ويراد معناه ولازمه معاً ، كما هنا . وقد يتجوزّ به عن البعث والإخراج كما في سورة العاديات . والفارق بينهما أنه أسند هنا للقبور فكان على حقيقته . وَثَمّ لما فيها ، فكانت مجازاً عما ذكر . ثم قال : وذهب بعض الأئمة كالزمخشري والسهيلي إلى أنه مركب من كلمتين اختصاراً ، ومثله كثير في لغة العرب ويسمى نحتاً . وأصله : بعث ، و أثير أي : حرك وأخرج ، وله نظائر كبسمل وحقول ودمعز ، أي : قال : بسم الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وأدام اللهُ عزَّه . فعلى هذا يكون معناه النبش والإخراج معاً . ولا يرد عليه أن الراء ليست من أحرف الزيادة ، كما توهمه أبو حيان ، فإنه فرق بين التركيب والنحت من كلمتين ، والزيادة على بعض الحروف الأصول من كلمة واحدة ، كما فصله في " المزهر " نقلاً عن أئمة اللغة .
قال الإمام ابن القيم في " الجواب الكافي " في بحث كون القرآن من أوله إلى آخره صريحاً في ترتيب الجزاء بالخير والشر ، والأحكام الكونية ، على الأسباب ما تتمته : فليحذر مغالطة نفسه على هذه الأسباب ، وهذا من أهم الأمور فإن العبد يعرف أن المعصية والغفلة من الأسباب المضرة له في دنياه وآخرته ، ولا بد . ولكن تغالطه نفسُه .
ثم ذكر من أنواع المغترين من يغتر بفهم فاسد فهمِه هو وأضرابه من نصوص القرآن والسنة فاتكلوا عليه . قال : كاغترار بعض الجهال بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } فيقول : كرمه . وقد يقول بعضهم : إنه لقن المغتر حجته . وهذا جهل قبيح ، وإنما غره بربه الغرور ، وهو الشيطان ونفسُه الأمارة بالسوء وجهله وهواه ؛ وأتى سبحانه بلفظ { الْكَرِيمِ } وهو السيد العظيم المطاع الذي لا ينبغي الاغترار به ولا إهمال لحقه ؛ ووضع هذا المغتر الغرور في غير موضعه ، واغتر بمن لا ينبغي الاغترار به . انتهى .
وفي مثل هذا الغرور يجب - كما قال الغزاليّ - على العبد أن يستعمل الخوف ، فيخوِّف نفسه بغضب الله وعظيم عقابه ، ويقول : إنه مع أنه غافر الذنب وقابل التوب ، شديد العقاب . و : إنه مع أنه كريم ، خلّد الكفار في النار أبد الآباد . مع أنه لم يضره كفرهم ، بل سلط العذاب والمحن والأمراض والعلل والفقر والجوع على جملة من عباده في الدنيا ، وهو قادر على
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ، ج 16 ، ص : 1481(1/279)
إزالتها ، فمن هذه سنته في عباده - وقد خوفني عقابه - فكيف لا أخافه ؟ وكيف أغتر به ؟ فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل ، فما لا يبعث على العمل فهو تمنن وغرور ، ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم ، وسبب إقبالهم على الدنيا ، وسبب إعراضهم عن الله تعالى ، وإهمالهم السعي للآخرة ، فذلك غرور . وقد روي أن الغرور سيغلب على قلوب آخر هذه الأمة . وقد كان ذلك ، فقد كان الناس في الإعصار الأول يواظبون على العبادات ، و { يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } [ المؤمنون : 60 ] يخافون على أنفسهم ، وهم طول الليل والنهار في طاعة الله ، يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات والشهوات ، ويبكون على أنفسهم في الخلوات ، وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين ، مع إكبابهم على المعاصي وانهماكهم في الدنيا وإعراضهم عن الله تعالى ، زاعمين أنهم واثقون بكرم الله تعالى وفضله ، راجون لعفوه ومغفرته ، كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من فضله وكرمه مالم يعرفه الأنبياء والصحابة والسلف الصالحون ، فإن كان هذا الأمر يدرك بالمنى ، وينال بالهوينا ، فعلى ماذا كان بكاء أولئك وخوفهم وحزنهم ؟ !
ثم قال : والقرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف ، ولا يتفكر فيه متفكِِّر إلا ويطول حزنه ويعظم خوفه ، وإن كان مؤمناً بما فيه . وترى الناس يهذَّونه هذّاً : يخرجون الحروف من مخارجها ويتناظرون على خفضها ورفعها ونصبها ، وكأنهم يقرؤون شعراً من أشعار العرب ، لا يهمهم الالتفات إلى معانيه ، والعمل بما فيه ، وهل في العالم غرور يزيد على هذا ؟ انتهى . (1)
في الآيات : إنذار بالبعث وهول مشاهده : فحينما تتشقق السماء وتتساقط الكواكب وتنتثر وتتفجّر البحار وتتفتح القبور عمّا فيها يقف الناس جميعهم أمام اللّه موقف القضاء فيذكر ويعلم كل منهم ما صدر منه من الأعمال صغيرها وكبيرها ، سرّها وعلنها.
وأسلوب هذا المطلع قد تكرر في صدد الإنذار بالآخرة والتخويف من أهوالها. (2)
إن هذا الإيحاء يتجه إلى خلع النفس من كل ما تركن إليه في هذا الوجود ، إلا الله سبحانه خالق هذا الوجود ، الباقي بعد أن يفنى كل موجود . والاتجاه بالقلب إلى الحقيقة الوحيدة الثابتة الدائمة التي لا تحول ولا تزول ، ليجد عندها الأمان والاستقرار ، في مواجهة الانقلاب والاضطراب والزلزلة والانهيار ، في كل ما كان يعهده ثابتاً مستقراً منتظماً انتظاماً يوحي بالخلود! ولا خلود إلا للخالق المعبود!
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 160)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 419)(1/280)
ويذكر هنا من مظاهر الانقلاب انفطار السماء .. أي انشقاقها . وقد ذكر انشقاق السماء في مواضع أخرى : قال في سورة الرحمن : { فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان } وقال في سورة الحاقة : { وانشقت السماء . فهي يومئذ واهية } وقال في سورة الانشقاق :{ إذا السماء انشقت . . . } فانشقاق السماء حقيقة من حقائق ذلك اليوم العصيب . أما المقصود بانشقاق السماء على وجه التحديد فيصعب القول به ، كما يصعب القول عن هيئة الانشقاق التي تكون . . وكل ما يستقر في الحس هو مشهد التغير العنيف في هيئة الكون المنظور ، وانتهاء نظامه هذا المعهود ، وانفراط عقده ، الذي يمسك به في هذا النظام الدقيق . .
ويشارك في تكوين هذا المشهد ما يذكر عن انتثار الكواكب . بعد تماسكها هذا الذي تجري معه في أفلاكها بسرعات هائلة مرعبة ، وهي ممسكة في داخل مداراتها لا تتعداها ، ولا تهيم على وجهها في هذا الفضاء الذي لا يعلم أحد له نهاية . ولو انتثرت كما سيقع لها يوم ينتهي أجلها وأفلتت من ذلك الرباط الوثيق غير المنظور الذي يشدها ويحفظها ، لذهبت في الفضاء بدداً ، كما تذهب الذرة التي تنفلت من عقالها!
وتفجير البحار يحتمل أن يكون هو امتلاؤها وغمرها لليابسة وطغيانها على الأنهار . كما يحتمل أن يكون هو تفجير مائها إلى عنصريه : الأكسوجين والهيدروجين؛ فتتحول مياهها إلى هذين الغازين كما كانت قبل أن يأذن الله بتجمعهما وتكوين البحار منهما . كذلك يحتمل أن يكون هو تفجير ذرات هذين الغازين كما يقع في تفجير القنابل الذرية والهيدروجينية اليوم . . فيكون هذا التفجير من الضخامة والهول بحيث تعتبر هذه القنابل الحاضرة المروعة لعب أطفال ساذجة! . . أو أن يكون بهيئة أخرى غير ما يعرف البشر على كل حال . . إنما هو الهول الذي لم تعهده أعصاب البشر في حال من الأحوال!
وبعثرة القبور . . إما أن تكون بسبب من هذه الأحداث السابقة . وإما أن تكون حادثاً بذاته يقع في ذلك اليوم الطويل ، الكثير المشاهد والأحداث . فتخرج منها الأجساد التي أعاد الله إنشاءها - كما أنشأها أول مرة - لتتلقى حسابها وجزاءها . .
يؤيد هذا ويتناسق معه قوله بعد عرض هذه المشاهد والأحداث : { علمت نفس ما قدمت وأخرت } . . أي ما فعلته أولاً وما فعلته أخيراً . أو ما فعلته في الدنيا ، وما تركته وراءها من آثار فعلها . أو ما استمتعت به في الدنيا وحدها ، وما ادخرته للآخرة بعدها .
على أية حال سيكون علم كل نفس بهذا مصاحباً لتلك الأهوال العظام . وواحداً منها مروّعاً لها كترويع هذه المشاهد والأحداث كلها!
والتعبير القرآني الفريد يقول : { علمت نفس } . . وهو يفيد من جهة المعنى : كل نفس . ولكنه أرشق وأوقع . . كما أن الأمر لا يقف عند حدود علمها بما قدمت وأخرت .(1/281)
فلهذا العلم وقعه العنيف الذي يشبه عنف تلك المشاهد الكونية المتقلبة . والتعبير يلقي هذا الظل دون أن يذكره نصاً . فإذا هو أرشق كذلك وأوقع!
وبعد هذا المطلع الموقظ المنبه للحواس والمشاعر والعقول والضمائر ، يلتفت إلى واقع الإنسان الحاضر ، فإذا هو غافل لاه سادر . . هنا يلمس قلبه لمسة فيها عتاب رضيّ ، وفيها وعيد خفي ، وفيها تذكير بنعمة الله الأولى عليه : نعمة خلقه في هذه الصورة السوية على حين يملك ربه أن يركبه في أي صورة تتجه إليها مشيئته . ولكنه اختار له هذه الصورة السوية المعتدلة الجميلة . . وهو لا يشكر ولا يقدر : { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ، الذي خلقك فسواك فعدلك ، في أي صورة ما شاء ركبك } . .
إن هذا الخطاب : { يا أيها الإنسان } ينادي في الإنسان أكرم ما في كيانه ، وهو « إنسانيته » التي بها تميز عن سائر الأحياء؛ وارتفع إلى أكرم مكان؛ وتجلى فيها إكرام الله له ، وكرمه الفائض عليه .
ثم يعقبه ذلك العتاب الجميل الجليل : { ما غرك بربك الكريم؟ } يا أيها الإنسان الذي تكرم عليك ربك ، راعيك ومربيك ، بإنسانيتك الكريمة الواعية الرفيعة . . يا أيها الإنسان ما الذي غرك بربك ، فجعلك تقصر في حقه ، وتتهاون في أمره ، ويسوء أدبك في جانبه؟ وهو ربك الكريم ، الذي أغدق عليك من كرمه وفضله وبره؛ ومن هذا الإغداق إنسانيتك التي تميزك عن سائر خلقه ، والتي تميز بها وتعقل وتدرك ما ينبغي وما لا ينبغي في جانبه؟
ثم يفصل شيئاً من هذا الكرم الإلهي ، الذي أجمله في النداء الموحي العميق الدلالة . المشتمل على الكثير من الإشارات المضمرة في التعبير . يفصل شيئاً من هذا الكرم الإلهي المغدق على الإنسان المتمثل في إنسانيته التي ناداه بها في صدر الآية . فيشير في هذا التفصيل إلى خلقه وتسويته وتعديله؛ وهو القادر على أن يركبه في أي صورة وفق مشيئته . فاختياره هذه الصورة له منبثق من كرمه ومن فضله وحده ، ومن فيضه المغدق على هذا الإنسان الذي لا يشكر ولا يقدر . بل يغتر ويسدر!
{ يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك؟ } . .
إنه خطاب يهز كل ذرة في كيان الإنسان حين تستيقظ إنسانيته ، ويبلغ من القلب شغافه وأعماقه ، وربه الكريم يعاتبه هذا العتاب الجليل ، ويذكره هذا الجميل ، بينما هو سادر في التقصير ، سيئ الأدب في حق مولاه الذي خلقه فسواه فعدله . .
إن خلق الإنسان على هذه الصورة الجميلة السوية المعتدلة ، الكاملة الشكل والوظيفة ، أمر يستحق التدبر الطويل ، والشكر العميق ، والأدب الجم ، والحب لربه الكريم ، الذي أكرمه بهذه(1/282)
الخلقة ، تفضلاً منه ورعاية ومنة . فقد كان قادراً أن يركبه في أية صورة أخرى يشاؤها . فاختار له هذه الصورة السوية المعتدلة الجميلة .
وإن الإنسان لمخلوق جميل التكوين ، سوي الخلقة ، معتدل التصميم ، وإن عجائب الإبداع في خلقه لأضخم من إدراكه هو ، وأعجب من كل ما يراه حوله .
وإن الجمال والسواء والاعتدال لتبدو في تكوينه الجسدي ، وفي تكوينه العقلي ، وفي تكوينه الروحي سواء ، وهي تتناسق في كيانه في جمال واستواء!
وهناك مؤلفات كاملة في وصف كمال التكوين الإنساني العضوي ودقته وإحكامه وليس هنا مجال التوسع الكامل في عرض عجائب هذا التكوين . ولكنا نكتفي بالإشارة إلى بعضها . .
هذه الأجهزة العامة لتكوين الإنسان الجسدي . . الجهاز العظمي . والجهاز العضلي . والجهاز الجلدي . والجهاز الهضمي . والجهاز الدموي . والجهاز التنفسي . والجهاز التناسلي . والجهاز اللمفاوي . والجهاز العصبي . والجهاز البولي . وأجهزة الذوق والشم والسمع والبصر . . كل منها عجيبة لا تقاس إليها كل العجائب الصناعية التي يقف الإنسان مدهوشاً أمامها . وينسى عجائب ذاته وهي أضخم وأعمق وأدق بما لا يقاس!
« تقول مجلة العلوم الإنجليزية : إن يد الإنسان في مقدمة العجائب الطبيعية الفذة؛ وإنه من الصعب جداً بل من المستحيل أن تبتكر آلة تضارع اليد البشرية من حيث البساطة والقدرة وسرعة التكيف ، فحينما تريد قراءة كتاب تتناوله بيدك ، ثم تثبته في الوضع الملائم للقراءة . وهذه اليد هي التي تصحح وضعه تلقائياً . وحينما تقلب إحدى صفحاته تضع أصابعك تحت الورقة . وتضغط عليها بالدرجة التي تقلبها بها ، ثم يزول الضغط بقلب الورقة . واليد تمسك القلم وتكتب به . وتستعمل كافة الآلات التي تلزم الإنسان من ملعقة ، إلى سكين ، إلى آلة الكتابة . وتفتح النوافذ وتغلقها ، وتحمل كل ما يريده الإنسان . . واليدان تشتملان على سبع وعشرين عظمة وتسع عشرة مجموعة من العضلات لكل منهما » .
و« إن جزءاً من أذن الإنسان ( الأذن الوسطى ) هو سلسلة من نحو آلاف حنية ( قوس ) دقيقة معقدة ، متدرجة بنظام بالغ ، في الحجم والشكل ، ويمكن القول بأن هذه الحنيات تشبه آلة موسيقية . ويبدو أنها معدة بحيث تلتقط وتنقل إلى المخ ، بشكل ما ، كل وقع صوت أو ضجة ، من قصف الرعد إلى حفيف الشجر . فضلاً عن المزيج الرائع من أنغام كل أداة موسيقية في الأركسترا ووحدتها المنسجمة » . .
« ومركز حاسة الإبصار في العين التي تحتوي على مائة وثلاثين مليوناً من مستقبلات الضوء وهي أطراف الأعصاب ، ويقوم بحمايتها الجفن ذو الأهداب الذي يقيها ليلاً ونهاراً ، والذي تعتبر حركته لا إرادية ، الذي يمنع عنها الأتربة والذرات والأجسام الغريبة ، كما يكسر من(1/283)
حدة الشمس بما تلقي الأهداب على العين من ظلال . وحركة الجفن علاوة على هذه الوقاية تمنع جفاف العين ، أما السائل المحيط بالعين والذي يعرف باسم الدموع ، فهو أقوى مطهر. »
« وجهاز الذوق في الإنسان هو اللسان ، ويرجع عمله إلى مجموعات من الخلايا الذوقية القائمة في حلمات غشائه المخاطي . ولتلك الحلمات أشكال مختلفة ، فمنها الخيطية والفطرية والعدسية ويغذي الحلمات فروع من العصب اللساني البلعومي ، والعصب الذوقي .
وتتأثر عند الأكل الأعصاب الذوقية ، فينتقل الأثر إلى المخ . وهذا الجهاز موجود في أول الفم ، حتى يمكن للإنسان أن يلفظ ما يحس أنه ضار به ، وبه يحس المرء المرارة والحلاوة ، والبرودة والسخونة ، والحامض والملح ، واللاذع ونحوه . ويحتوي اللسان على تسعة آلاف من نتوءات الذوق الدقيقة ، يتصل كل نتوء منها بالمخ بأكثر من عصب . فكم عدد الأعصاب؟ وما حجمها؟ وكيف تعمل منفردة ، وتتجمع بالإحساس عند المخ «؟ .
» ويتكون الجهاز العصبي الذي يسيطر على الجسم سيطرة تامة من شعيرات دقيقة تمر في كافة أنحاء الجسم . وتتصل بغيرها أكبر منها . وهذه بالجهاز المركزي العصبي . فإذا ما تأثر جزء من أجزاء الجسم ، ولو كان ذلك لتغير بسيط في درجة الحرارة بالجو المحيط ، نقلت الشعيرات العصبية هذا الإحساس إلى المراكز المنتشرة في الجسم . وهذه توصل الإحساس إلى المخ حيث يمكنه أن يتصرف . وتبلغ سرعة سريان الإشارات والتنبيهات في الأعصاب مائة متر في الثانية « .
» ونحن إذا نظرنا إلى الهضم على أنه عملية في معمل كيماوي ، وإلى الطعام الذي نأكله على أنه مواد غفل ، فإننا ندرك تواً أنه عملية عجيبة . إذ تهضم تقريباً كل شيء يؤكل ما عدا المعدة نفسها! «
» فأولاً نضع في هذا المعمل أنواعاً من الطعام كمادة غفل دون أي مراعاة للمعمل نفسه ، أو تفكير في كيفية معالجة كيمياء الهضم له! فنحن نأكل شرائح اللحم والكرنب والحنطة والسمك المقلي ، وندفعها بأي قدر من الماء « . .
» ومن بين هذا الخليط تختار المعدة تلك الأشياء التي هي ذات فائدة . وذلك بتحطيم كل صنف من الطعام إلى أجزائه الكيماوية دون مراعاة للفضلات ، وتعيد تكوين الباقي إلى بروتينات جديدة ، تصبح غذاء لمختلف الخلايا . وتختار أداة الهضم الجير والكبريت واليود والحديد وكل المواد الأخرى الضرورية ، وتعنى بعدم ضياع الأجزاء الجوهرية ، وبإمكان إنتاج الهرمونات ، وبأن تكون جميع الحاجات الحيوية للحياة حاضرة في مقادير منتظمة ، ومستعدة لمواجهة كل ضرورة . وهي تخزن الدهن والمواد الاحتياطية الأخرى ، للقاء كل حالة طارئة ، مثل الجوع ، وتفعل ذلك كله بالرغم من تفكير الإنسان أو تعليله . إننا نصب هذه الأنواع التي لا تحصى(1/284)
من المواد في هذا المعمل الكيماوي . وبصرف النظر كلية تقريباً عما نتناوله ، معتمدين على ما نحسبه عملية ذاتية ( أوتوماتيكية ) لإبقائنا على الحياة . وحين تتحلل هذه الأطعمة وتجهز من جديد ، تقدم باستمرار إلى كل خلية من بلايين الخلايا ، التي تبلغ من العدد أكثر من عدد الجنس البشري كله على وجه الأرض . ويجب أن يكون التوريد إلى كل خلية فردية مستمراً ، وألا يورد سوى تلك المواد التي تحتاج إليها تلك الخلية المعينة لتحويلها إلى عظام وأظافر ولحم وشعر وعينين وأسنان ، كما تتلقاها الخلية المختصة! «
» فها هنا إذن معمل كيماوي ينتج من المواد أكثر مما ينتجه أي معمل ابتكره ذكاء الإنسان! وها هنا نظام للتوريد أعظم من أي نظام للنقل أو التوزيع عرفه العالم! ويتم كل شيء فيه بمنتهى النظام! « .
وكل جهاز من أجهزة الإنسان الأخرى يقال فيه الشيء الكثير . ولكن هذه الأجهزة على إعجازها الواضح قد يشارك فيها الحيوان في صورة من الصور . إنما تبقى له هو خصائصه العقلية والروحية الفريدة التي هي موضع الامتنان في هذه السورة . بصفة خاصة : { الذي خلقك فسواك فعدلك } . بعد ندائه : { يا أيها الإنسان } . .
هذا الإدراك العقلي الخاص ، الذي لا ندري كنهه . إذ إن العقل هو أداتنا لإدراك ما ندرك . والعقل لا يدرك ذاته ولا يدرك كيف يدرك!!
هذه المدركات . . نفرض أنها كلها تصل إلى المخ عن طريق الجهاز العصبي الدقيق . ولكن أين يختزنها! إنه لو كان هذا المخ شريطاً مسجلاً لاحتاج الإنسان في خلال الستين عاماً التي هي متوسط عمره إلى آلاف الملايين من الأمتار ليسجل عليها هذا الحشد من الصور والكلمات والمعاني والمشاعر والتأثرات ، لكي يذكرها بعد ذلك ، كما يذكرها فعلاً بعد عشرات السنين!
ثم كيف يؤلف بين الكلمات المفردة والمعاني المفردة ، والحوادث المفردة ، والصور المفردة ، ليجعل منها ثقافة مجمعة . ثم ليرتقي من المعلومات إلى العلم؟ ومن المدركات إلى الإدراك؟ ومن التجارب إلى المعرفة؟
هذه هي إحدى خصائص الإنسان المميزة . . وهي مع هذا ليست أكبر خصائصه ، وليست أعلى مميزاته . فهنالك ذلك القبس العجيب من روح الله . . هنالك الروح الإنساني الخاص ، الذي يصل هذا الكائن بجمال الوجود ، وجمال خالق الوجود؛ ويمنحه تلك اللحظات المجنحة الوضيئة من الاتصال بالمطلق الذي ليس له حدود . بعد الاتصال بومضات الجمال في هذا الوجود .
هذا الروح الذي لا يعرف الإنسان كنهه وهل هو يعلم ما هو أدنى وهو إدراكه للمدركات الحسية؟! والذي يمتعه بومضات من الفرح والسعادة العلوية حتى وهو على هذه الأرض .(1/285)
ويصله بالملأ الأعلى ، ويهيئه للحياة المرسومة بحياة الجنان والخلود . وللنظر إلى الجمال الإلهي في ذلك العالم السعيد!
هذا الروح هو هبة الله الكبرى لهذا الإنسان . وهو الذي به صار إنساناً . وهو الذي يخاطبه باسمه : { يا أيها الإنسان } . . ويعاتبه ذلك العتاب المخجل! { ما غرك بربك الكريم؟ } هذا العتاب المباشر من الله للإنسان . حيث يناديه سبحانه فيقف أمامه مقصراً مذنباً مغتراً غير مقدر لجلال الله ، ولا متأدب في جنابه . . ثم يواجهه بالتذكير بالنعمة الكبرى . ثم بالتقصير وسوء الأدب والغرور!
إنه عتاب مذيب . . حين يتصور « الإنسان » حقيقة مصدره ، وحقيقة مخبره ، وحقيقة الموقف الذي يقفه بين يدي ربه ، وهو يناديه النداء ، ثم يعاتبه هذا العتاب : { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم .
الذي خلقك فسواك فعدلك ، في أي صورة ما شاء ركبك } . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ :
1- إن من علامات يوم القيامة تبدل النظام الكوني ، بتشقق السماء ، وتساقط الكواكب ، وتفجير البحار بعضها في بعضها ، حتى تصير بحرا واحدا ، ثم توقد حتى تصير نارا تضطرم ، وبعثرة القبور وإخراج موتاها منها.
2- إذا حدثت هذه الأشياء التي هي أشراط الساعة ، حصل الحشر والنشر ، وختمت صحائف الأعمال ، فعلمت كل نفس ما كسبت ، ووجدت ما قدمت من خير أو شر ، وحوسبت كل نفس بما عملت ، وأوتيت كتابها بيمينها أو بشمالها ، فتذكرت عند قراءته جميع أعمالها ، ولم يعد ينفعها عمل بعد ذلك.
3- التحذير من السنَّة السيئة يتركها المرء بعده فإِن أوزارها تكتب عليه وهو في قبره .
4- مسكين هذا الإنسان لا يشكر نعم ربّه بإطاعة أوامره ، ولا يدخر من العمل الصالح ما يفيده في سفينة النجاة في آخرته ، وغرّه كرم اللّه الذي تجاوز عنه في الدنيا ، أو حمقه وجهله ، أو شيطانه المسلط عليه. وقَالَ سُفْيَانُ : سَمِعَ عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ ، رَجُلًا يَقُولُ : يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ، فَقَالَ عُمَرُ : الْجَهْلُ " حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (2) ، كما قال تعالى : إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا [الأحزاب 33/ 72]. وقيل للفضيل بن عياض : لو أقامك اللّه تعالى يوم القيامة بين يديه ، فقال لك : ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ؟ ماذا كنت تقول ؟ قال : كنت أقول : غرّني ستورك المرخاة لأن الكريم هو الستّار.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3846)
(2) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (6795 ) فيه انقطاع(1/286)
5- نعم اللّه على الإنسان لا تعدّ ولا تحصى ، وأهمها ما يتعلق بنفسه ، حيث خلقه اللّه من نطفة ولم يك شيئا ، وجعله سليم الأعضاء ، منتصب القامة ، متناسب الأعضاء ، مستعدا لقبول الكمالات ، بالسمع والبصر والعقل وغير ذلك ، وصوّره في أحسن الصور وأعجبها وأبدعها ، واختار له الهيئة الجميلة والشكل البديع ، كما قال تعالى : لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين 95/ 4].
6- في الآيات : إنذار بالبعث وهول مشاهده : فحينما تتشقق السماء وتتساقط الكواكب وتنتثر وتتفجّر البحار وتتفتح القبور عمّا فيها يقف الناس جميعهم أمام اللّه موقف القضاء فيذكر ويعلم كل منهم ما صدر منه من الأعمال صغيرها وكبيرها ، سرّها وعلنها.
- - - - - - - - - - -(1/287)
علة الجحود وكتابة الملائكة وانقسام الناس فريقين
قال تعالى :
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
المناسبة :
بعد بيان أمارات الساعة الدالة على صحة القول بالبعث والنشور ، وبعد تعداد نعم اللّه على الإنسان ، وجحوده إياها ، ذكر اللّه تعالى علة هذا الجحود وهو التكذيب بالبعث ، ثم رغب بالطاعة ، وحذر من المعصية بسبب كتابة الحفظة جميع الأعمال ، ثم أوضح أن الناس يوم القيامة فريقان : أبرار منعمون ، وفجار معذبون مخلّدون في النار ، وأن يوم القيامة ذو شدائد وأهوال ، تتجرد فيه النفوس من قواها ، ويتفرد اللّه عزّ وجلّ بالحكم والسلطان.
المفردات :
9 ... تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ... تكذبون بالجزاء والحساب بعد البعث
10 ... وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ... ملائكة يحفظون أعمالكم
11 ... كِرَامًا ... كراما على الله تعالى
11 ... كَاتِبِينَ ... يكتبون أعمالكم خيرها وشرها
13 ... إِنَّ الأَبْرَارَ ... إن المؤمنين الصادقين المتقين
14 ... وَإِنَّ الفُجَّارَ ... إن الكفار
19 ... لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا ... لا يقدر أحد على نفع أحد
19 ... وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلهِ ... لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإذنه
المعنى الإجمالي:
بعد أن ذكر أن من دلائل نعمه على الإنسان خلقه على أحسن صورة. وأن ذلك يدل على أن له حياة أخرى غير هذه الحياة : فيها يجازى بما عمل من خير أو شر - أعقب هذا بيان أنه لا شىء يمنعه عن التصديق بهذا اليوم إلا العناد والتكذيب ، فالشعور النفسي يوحى به ، والدليل النقلى الذي أتى به الرسول يصدقه ، واللّه لم يترك عملا لعباده إلا أحصاه وحفظه ، ليوفى كل عامل أجره ، فقد وكل الكرام الكاتبين المطهرين عن الغرض والنسيان بكتابته وضبطه.
ثم ذكر أن الناس فى هذا اليوم فريقان ، بررة مطيعون لربهم فيما به أمر وعنه نهى ، وهؤلاء يتقلبون فى النعيم ، وفجرة يتركون أوامر الدين ، وأولئك يكونون فى دار العذاب والهوان(1/288)
يقاسون حر النار ، وأنه فى هذا اليوم لا يجد المرء ما يعوّل عليه سوى ما قدمت يداه ، فيجفوه الأولياء ، ويخذله الشفعاء ، ويتبرأ منه الأقرباء فلا شفيع ولا نصير ، ولا وزير ولا مشير ، والحكم للّه وحده ، وهو المهيمن على عباده ، وبيده تصريف أمورهم ، وهو الصادق فى وعده ، العدل الحكيم فى وعيده ، فلا مهرب لعامل مما أعدّ له من الجزاء على عمله. (1)
« كلا » ارتدع عن الاغترار بمولاك ، ولا تجعل كرمه حجة لعصيانه فتلك حجة المغرورين المخدوعين ، فقد خلقك في صورة حسنة كاملة وركّبك في أى صورة شاءها.
و لكنكم يا معشر العصاة والكفار لا ترتدعون بل تكذبون بيوم الدين ، أو تكذبون بدين الإسلام ، والحال أن اللّه جعل عليكم حافظين : ملائكة تكتب أعمالكم وتحفظها ليوم الدين ، وهم كرام بررة ، كاتبون للأعمال : خيرها وشرها ، يعلمون كل ما تفعلون.
ويوم القيامة تعرفون وتندمون ولات ساعة مندم.
وما نتيجة هذا الحفظ والكتب من الملائكة ؟ النتيجة : إن الأبرار لفي نعيم مقيم ، وإن الفجار لفي جحيم مقيم ، يصلونها ويحترقون بنارها يوم الدين. أما الأبرار فأولئك هم العاملون المؤمنون باللّه وباليوم الآخر وبالملائكة والكتاب والنبيين ، الذين آتوا المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين ، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، ووفوا بالعهود ، وصبروا في البأساء والضراء وحين البأس أولئك هم الذين صدقوا اللّه في إيمانهم ، وأما الفجار فهم على النقيض من ذلك كله.
وما أدراك ما يوم الدين ؟ ثم ما أدراك ما يوم الدين ؟ ! وهذا تعجب من حال الإنسان الذي لا يعرف هذا اليوم الشديد ولا يعمل له لينجو من عذابه (2)
التفسير والبيان :
كَلَّا ، بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ أي ارتدعوا وانزجروا عن الاغترار بكرم اللّه وجعله ذريعة إلى الكفر به ، والواقع أنكم تكذبون بيوم المعاد والحساب والجزاء ، حيث لا يحملكم الخوف من هذا اليوم على التزام طاعة اللّه واجتناب معاصيه.
ثم زاد في التحذير من العناد والتكذيب بالإخبار أن جميع الأعمال مرصودة على الناس بالملائكة ، فقال : وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ، كِراماً كاتِبِينَ ، يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ أي إن عليكم لملائكة حفظة كراما ، فلا تقابلوهم بالقبائح ، فإنهم يكتبون عليكم جميع أعمالكم ، ويعلمون جميع ما تفعلون ، كما قال تعالى : عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق 50/ 17- 18].
__________
(1) - تفسير المراغي ، ج 30 ، ص : 68
(2) التفسير الواضح ، ج 3 ، ص : 837(1/289)
عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : " إِنَّ الْكِرَامَ الْكَاتِبِينَ رُبَّمَا شَكَوْا إِلَى اللَّهِ مِنْ صَاحِبِهِمُ الَّذِي يَكُونُونَ مَعَهُ أَنَّ مِنْ أَمْرِهِ إِنَّ إِنَّ ، فَيُؤْمَرُونَ بِالصَّبْرِ " الصَّبْرُ وَالثَّوَابُ عَلَيْهِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (1) طد
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ : خَطَبَنَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , فَقَالَ : " أَمَا بَعْدُ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَأَنْ تُثْنُوا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ , وَتَخْلِطُوا الرَّغْبَةَ بِالرَّهْبَةِ وَتَجْمَعُوا الْإِلْحَاحَ بِالْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ اللَّهَ أَثْنَى عَلَى زَكَرِيَّا وَأَهْلِ بَيْتِهِ , فَقَالَ : إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ثُمَّ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ قَدِ ارْتَهَنَ بِحَقِّهِ أَنْفُسَكُمْ وَأَخَذَ عَلَى ذَلِكَ مَوَاثِيقَكُمْ فَاشْتَرَى مِنْكُمُ الْقَلِيلَ الْفَانِيَ بِالْكَثِيرِ الْبَاقِي , وَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ فِيكُمْ لَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ , وَلَا يُطْفَأُ نُورُهُ فَصَدِّقُوا قَوْلَهُ وَانْتَصِحُوا كِتَابَهُ وَاسْتَوْضِئُوا مِنْهُ لِيَوْمِ الظُّلْمَةِ وَإِنَّمَا خَلَقَكُمْ لِعِبَادَتِهِ , وَوَكَّلَ بِكُمُ الْكِرَامَ الْكَاتِبِينَ ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ , ثُمَّ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ إِنَّكُمْ تَغْدُونَ وَتَرُوحُونَ فِي أَجَلٍ قَدْ غُيِّبَ عَنْكُمْ عِلْمُهُ , فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْقَضِيَ الْآجَالُ وَأَنْتُمْ فِي عَمَلِ اللَّهِ فَافْعَلُوا وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا ذَلِكَ إِلَّا بِاللَّهِ فَسَابِقُوا فِي مَهْلٍ آجَالَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ آجَالُكُمْ فَيَرُدَّكُمْ إِلَى أَسْوَأِ أَعْمَالِكُمْ فَإِنَّ أَقْوَامًا جَعَلُوا آجَالَهُمْ لِغَيْرِهِمْ وَنَسُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَنْهَاكُمْ أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ فَالْوَحَا الْوَحَا ثُمَّ النَّجَا النَّجَا ؛ فَإِنَّ وَرَاءَكُمْ طَالِبًا حَثِيثًا مَرُّهُ سَرِيعًا " الزُّهْدُ لِهَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنِ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ عَنِ التَّعَرِّي ، فَاسْتَحْيُوا مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ الَّذِينَ لَا يُفَارِقُونَكُمْ إِلَّا عِنْدَ ثَلَاثِ حَالَاتٍ : الْغَائِطُ وَالْجَنَابَةُ وَالْغُسْلُ ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ بِالْعَرَاءِ فَلْيَسْتَتِرْ بِثَوْبِهِ ، أَوْ بِجَذْمَةِ حَائِطٍ ، أَوْ بِبَعِيرِهِ " . رَوَاهُ الْبَزَّارُ (3) .
لذا كره العلماء الكلام عند الغائط والجماع ، لمفارقة الملك العبد عند ذلك.
ثم ذكر اللّه تعالى تصنيف الناس العاملين يوم القيامة فريقين نتيجة كتابة الحفظة لأعمال العباد ، فقال : إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ، يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ أي إِنَّ الْأَبْرارَ : وهم الذين أطاعوا اللّه عزّ وجلّ ، ولم يقابلوه بالمعاصي يصيرون إلى دار النعيم وهي الجنة ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ : وهم الذين كفروا باللّه وبرسله ، وقابلوا ربّهم بالمعاصي ، يصيرون إلى دار الجحيم ، وهي النار المحرقة ، يدخلونها ويقاسون حرها يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به ، كما قال تعالى : فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى 42/ 7].
وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ أي لا يفارقون الجحيم ولا يغيبون عن العذاب ساعة واحدة ، ولا يخفف من عذابها ، بل هم فيها إلى الأبد ، ملازمون لها ، كما قال تعالى : وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها [البقرة 2/ 167].
__________
(1) - الصَّبْرُ وَالثَّوَابُ عَلَيْهِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (14)
(2) - الزُّهْدُ لِهَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ (489 ) حسن
(3) - مسند البزار - (2 / 167) (4799) وسنده واه(1/290)
ثم وصف يوم القيامة وصفا إجماليا في غاية التهويل وأكد ذلك مرتين ، فقال : وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ، ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ أي وما أعلمك وما أعرفك ما يوم الجزاء والحساب ، وكرر الجملة تعظيما لشأن يوم القيامة ، وتفخيما لقدره ، وتهويلا لأمره ، مما يستدعي التدبر والتأمل ، فلو عرف المرء تلك الأهوال ، لما فارق طاعة اللّه ساعة ، وابتعد عن المعصية بعد السماء من الأرض ، ولكن الإنسان في غفلة وسهو وتجاهل ، يعيش في الآمال ، ويعتمد على الأحلام أحيانا ، ويهرب من الواقع.
ثم حسم اللّه تعالى الأمر ، وأبان حقيقة الموقف ، ودور الإنسان فيه ، فقال : يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ أي إنه اليوم الذي لا يقدر فيه أحد كائنا من كان عليه نفع أحد ، ولا خلاصه مما هو فيه ، إلا أن يأذن اللّه لمن يشاء ويرضى ، ولا يملك أحد القضاء بشيء أو صنع شيء ، إلا اللّه ربّ العالمين ، فهو المتفرد بالحكم والسلطان ، فبيده الأمر كله ، وإليه ترجع الأمور كلها. قال قتادة : والأمر ، واللّه اليوم ، للّه ، ولكنه لا ينازعه فيه يومئذ أحد.
ونظير الشطر الأول من الآية قوله تعالى : وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة 2/ 48] ، وقوله عزّ وجلّ : الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ، لا ظُلْمَ الْيَوْمَ[غافر 40/ 17] ، وقوله سبحانه : يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس 80/ 34- 37]. وجاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214] قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَزَادَ فِيهِ: فَقَالَ: " يَا بَنِي هَاشِمٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا " أخبار مكة للفاكهي (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ فَقَالَ « يَا بَنِى كَعْبِ بْنِ لُؤَىٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِى مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِى عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِى عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِى هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِى نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ فَإِنِّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلاَلِهَا » صحيح مسلم . (2)
__________
(1) - أخبار مكة للفاكهي - (2 / 214) (1381 ) صحيح
(2) - صحيح مسلم (522 ) - أبل : أصل(1/291)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَّا نَزَلَتْ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الصَّفَا فَقَالَ « يَا فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَا بَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا سَلُونِى مِنْ مَالِى مَا شِئْتُمْ » صحيح مسلم . (1)
وعَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : لَمَّا نَزَلَتْ : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء] ، قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ ، يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا ، سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ."صحيح ابن حبان (2)
وعَنِ الزُّهْرِيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، أن أبا هريرة ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } [سورة الشعراء آية 214 ] ، قَالَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ."مسند أبي عوانة (3)
ونظير الشطر الآخر قوله تعالى : لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر 40/ 16] ، وقوله : الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ .. [الحج 22/ 56] ، وقوله : مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة 1/ 4].
ومضات :
وفي هذه الآيات بيان لمصير الناس يوم الجزاء وإنذار بخطورته. فالأبرار الصالحون في النعيم ، والفجار الآثمون في الجحيم. وهي مصيرهم الذي لا مفلت لهم منه حتما في ذلك اليوم العظيم الخطر الذي يكون الأمر فيه للّه وحده ، والذي لا يستطيع فيه أحد أن ينفع أحدا ولا تغني فيه نفس عن نفس.
والاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها قائم موضوعا وسياقا كما هو المتبادر.
ومع واجب الإيمان بما احتوته من مشهد أخروي فالمتبادر من العبارة القرآنية أن من حكمتها تعظيم يوم القيامة وحسابه وتوكيده وترغيب المؤمنين وترهيب الكفار.
والمؤمنون مندمجون في تعبير الأبرار. والكفار مندمجون في تعبير الفجّار.
غير أن المتبادر أنه قد أريد بوصف المؤمنين بالأبرار والكفار بالفجّار تلقين كون الإيمان الصادق يوجّه صاحبه نحو الخير والبر ، بينما الكفر يوجه صاحبه نحو الإثم والفجور. (4)
__________
(1) صحيح مسلم (524 )
(2) - صحيح ابن حبان - (14 / 485) (6548) صحيح
(3) - مسند أبي عوانة (205 ) صحيح
(4) - التفسير الحديث ، ج 5 ، ص : 423(1/292)
قال الإمام : أي : لا شيء يغرك ويخدعك ، بل إن سعة عطاء ربك و حكمته في كرمه ، تدلك وتوحي إلى نفسك أنك مبعوث في يوم آخر لثواب أو عقاب ، وإنما الذي يقع منك أيها الْإِنْسَاْن هو العناد والتكذيب بالدين ، أي : الجزاء ، أي : الانصراف عمداً وعناداً عما يدعو إليه الشعور الأول ، وعن الدليل الذي تقيمه الرسل ، والحجة التي يأتي بها الأنبياء ، مع أن الله تعالى لم يترك عملاً من أعمالك إلا حفظه وأحصاه عليك حتى يوفيك جزاءه كما قال : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ } أي : رقباء يحفظون أعمالكم ويحصونها عليكم { كِرَاماً كَاتِبِينَ } أي : يكتبون ما تقولون .
{ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } أي : من خير أو شر ، أي : يحصونه عليكم ، فلا يغفلون ولا ينسون .
قال الرازيّ : أن الله تعالى أجرى أموره مع عباده على ما يتعاملون به فيما بينهم ؛ لأن ذلك أبلغ في تقرير المعنى عندهم ، ولمّا كان الأبلغ عندهم في المحاسبة إخراج كتاب بشهود ، خوطبوا بمثل هذا فيما يحاسبون به يوم القيامة فيَخرج لهم كتب منشورة ، ويَحضر هناك ملائكة يشهدون عليهم ، كما يشهد عدول السلطان على من يعصيه ويخالف أمره ، فيقولون له : أعطاك الملك كذا وكذا ، وفعل بك كذا وكذا ، ثم قد خالفته وفعلت كذا وكذا . فكذا ها هنا . والله أعلم بحقيقة ذلك . انتهى .
ولا يخفى أن الحفظة الكرام وعملهم ، من الغيب الذي لا يمكن اكتناهه ؛ فيجب الإيمان به ، كما ورد مع تفويض كنهه إلى بارئه تعالى . ومن الفضول في العلم التوسع فيما لا يدرك بالنظر وتسويد وجوه الصحف بها . وبالله سبحانه التوفيق . (1)
وفي هذه الآيات هتاف تنديدي موجّه إلى الكفار في معرض بيان الباعث على جحودهم للّه وهو تكذيبهم بالجزاء الرباني يوم القيامة. وتوكيد في معرض الإنذار بأن اللّه قد جعل عليهم من يحصي ويحفظ كل ما يصدر منهم ويسجله عليهم من كتّاب اللّه الكرام الذين ينفذون أوامر اللّه.
وواضح أن التوكيد ينطوي على توكيد الجزاء الأخروي أيضا ، ومثل هذا البيان والتوكيد قد تكرر في مواضع كثيرة من القرآن.
ولقد تكررت الإشارة إلى الرقباء والكاتبين لأعمال الناس في سور سابقة.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات أيضا بعض الأحاديث. منها حديث عن مجاهد جاء فيه : «قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلّا عند إحدى حالتين الجنابة والغائط فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجرم حائط أو ببعيره أو ليستره أخوه». ومنها حديث مثل هذا مع زيادة عن ابن عباس جاء فيه : «إنّ اللّه ينهاكم عن التعرّي فاستحيوا من ملائكة اللّه
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 164)(1/293)
الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلّا عند إحدى ثلاث حالات الغائط والجنابة والغسل. فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه أو بجرم حائط أو ببعيره». ومنها حديث عن أنس قال :
«قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ما من حافظين يرفعان إلى اللّه عزّ وجلّ ما حفظا في يوم فيرى في أول الصحيفة وفي آخرها استغفارا إلّا قال اللّه تعالى قد غفرت لعبدي ما بين طرفيّ الصحيفة». وحديث عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إنّ للّه ملائكة يعرفون بني آدم ، وأحسبه قال ويعرفون أعمالهم فإذا نظروا إلى عبد يعمل بطاعة اللّه ذكروه بينهم وسمّوه وقالوا أفلح الليلة فلان. نجا الليلة فلان. وإذا نظروا إلى عبد يعمل بمعصية اللّه ذكروه بينهم وسمّوه وقالوا هلك الليلة فلان».
ولقد علقنا على هذا الموضوع في سياق سورة (ق) فلا نرى ضرورة لتعليق آخر. ومع التنبيه على أن هذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة فإنها يلمح فيها قصد التأديب والتنبيه فإن صحّت فيكون من جملة مقاصدها هذا القصد.واللّه تعالى أعلم.
وفي هذه الآيات الأخيرة بيان لمصير الناس يوم الجزاء وإنذار بخطورته. فالأبرار الصالحون في النعيم ، والفجار الآثمون في الجحيم. وهي مصيرهم الذي لا مفلت لهم منه حتما في ذلك اليوم العظيم الخطر الذي يكون الأمر فيه للّه وحده ، والذي لا يستطيع فيه أحد أن ينفع أحدا ولا تغني فيه نفس عن نفس.
والاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها قائم موضوعا وسياقا كما هو المتبادر.
ومع واجب الإيمان بما احتوته من مشهد أخروي فالمتبادر من العبارة القرآنية أن من حكمتها تعظيم يوم القيامة وحسابه وتوكيده وترغيب المؤمنين وترهيب الكفار.
والمؤمنون مندمجون في تعبير الأبرار. والكفار مندمجون في تعبير الفجّار.
غير أن المتبادر أنه قد أريد بوصف المؤمنين بالأبرار والكفار بالفجّار تلقين كون الإيمان الصادق يوجّه صاحبه نحو الخير والبر ، بينما الكفر يوجه صاحبه نحو الإثم والفجور. (1)
« كلا » رد على جواب مفترض ، ينبغى أن يجيب به الناس على قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ » وهو قولهم : لم نغتر بكرمك يا كريم .. فجاء الرد عليهم « كلا » لقد غرّكم كرمى .. وإلا فلما ذا « تكذّبون بيوم الدين » ؟ أليس تكذيبكم بما جاءت به رسل اللّه إليكم ، مع مواصلة إحسانى إليكم ، وتوالى نعمى عليكم ـ أليس ذلك منكم اغترارا بكرمى؟
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 421)(1/294)
وعلى هذا يكون الإنسان المخاطب فى قوله : « يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ » ـ هو ذلك الإنسان الكافر باللّه ، المكذب بآياته .. وهو الغارق فى المعاصي ، الذي لم يلتفت إلى ما وراء الحياة الدنيا ، ولم يعمل للآخرة حسابا ، كأنه مكذب بها ..
والحافظون ، هم الملائكة الموكلون بالناس ، وبتسجيل ما يعملون من خير أو شر .. وهم الكرام عند اللّه ، المكرمون بفضله وإحسانه ، الكاتبون لما يعمل الناس ..
قوله تعالى : « إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ». هو بيان لحال من لا يغترون بكرم اللّه ، ومن يغترون به.
فالذين قدروا اللّه قدره ، وعرفوا فضله وإحسانه ، فآمنوا به ، واستقاموا على شريعته ، ولزموا حدوده ـ هؤلاء فى نعيم يوم القيامة ، حيث ينزلهم اللّه فى جنات ، ينعمون فيها بما يشتهون ..
والأبرار : جمع برّ ، وهو الذي عمل البر ، والبرّ هو كل عمل طيب فى ظل الإيمان باللّه ، واليوم الآخر ، والملائكة والكتاب والنبيين .. وسمى البرّ برّا ، لأنه برّ بما عاهد اللّه عليه ، وبالميثاق الذي واثقه به.
قوله تعالى : « وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ». والفجار : جمع فاجر ، والفاجر من يفجر عن أمر اللّه ، ويتعدى حدوده ..
قوله تعالى : « يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ ».أي هذه الجحيم ، التي يلقى فيها الفجار ، إنما يصلونها ويعذبون بها يوم الدين ، أي يوم القيامة ، الذي يكذبون به.
وقوله تعالى : « وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ ».أي لا يغيبون عنها ، ولا يخرجون منها أبدا ، بعد أن يدخلوها ..
ويجوز أن يكون المعنى أنهم ليسوا غائبين عنها فى هذه الدنيا ، فهم مشرفون عليها ، مسوقون إليها بفجورهم ، وإن لم بروها .. قوله تعالى : « وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ».
استفهام يراد به عرض هذا اليوم على ما هو عليه من هول لا يوصف ، ولا يعرف كنهه ، لأنه شىء لم تره العيون ، ولم تحم حوله الظنون.
قوله تعالى : «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ » أي أن هذا اليوم المهول ، هو يوم يتعرّى فيه الناس من كل قوة وسلطان ، فلا يملك أحد لأحد شيئا ، ولا يدفع أحد عن أحد مكروها .. فالأمر كله بيد اللّه ، لا يملك أحد معه من الأمر شيئا.
وفى قيد الأمر للّه بيوم القيامة ، مع أن الأمر كله للّه فى جميع الأزمان والأحوال ـ إشارة إلى أن الناس وإن كانوا فى الدنيا يظنون أنهم يملكون شيئا ، وأنهم يملكون فيما بينهم الضر والنفع(1/295)
ـ فإن هذا الظاهر من أمرهم فى الدنيا ، لن يكون لهم منه شىء فى الآخرة .. كما يقول سبحانه : « لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ » (16 : غافر) (1)
يكشف عن علة الغرور والتقصير وهي التكذيب بيوم الحساب ويقرر حقيقة الحساب ، واختلاف الجزاء ، في توكيد وتشديد : { كلا! بل تكذبون بالدين . وإن عليكم لحافظين ، كراماً كاتبين ، يعلمون ما تفعلون . إن الأبرار لفي نعيم . وإن الفجار لفي جحيم ، يصلونها يوم الدين ، وما هم عنها بغائبين } . .
وكلا كلمة ردع وزجر عما هم فيه . وبل كلمة إضراب عما مضى من الحديث . ودخول في لون من القول جديد . لون البيان والتقرير والتوكيد . وهو غير العتاب والتذكير والتصوير . .
{ كلا . بل تكذبون بالدين } . . تكذبون بالحساب والمؤاخذة والجزاء . وهذه هي علة الغرور ، وعلة التقصير . فما يكذب القلب بالحساب والجزاء ثم يستقيم على هدى ولا خير ولا طاعة . وقد ترتفع القلوب وتشف ، فتطيع ربها وتعبده حباً فيه ، لا خوفاً من عقابه ، ولا طمعاً في ثوابه . ولكنها تؤمن بيوم الدين وتخشاه ، وتتطلع إليه ، لتلقى ربها الذي تحبه وتشتاق لقاءه وتتطلع إليه . فأما حين يكذب الإنسان تكذيباً بهذا اليوم ، فلن يشتمل على أدب ولا طاعة ولا نور . ولن يحيا فيه قلب ، ولن يستيقظ فيه ضمير .
تكذبون بيوم الدين . . وأنتم صائرون إليه ، وكل ما عملتم محسوب عليكم فيه . لا يضيع منه شيء ، ولا ينسى منه شيء : { وإن عليكم لحافظين ، كراماً كاتبين ، يعلمون ما تفعلون } . .
وهؤلاء الحافظون هم الأرواح الموكلة بالإنسان من الملائكة التي ترافقه ، وتراقبه ، وتحصي عليه كل ما يصدر عنه . . ونحن لا ندري كيف يقع هذا كله ، ولسنا بمكلفين أن نعرف كيفيته . فالله يعلم أننا لم نوهب الاستعداد لإدراكها . وأنه لا خير لنا في إدراكها . لأنها غير داخلة في وظيفتنا وفي غاية وجودنا . فلا ضرورة للخوض فيما وراء المدى الذي كشفه الله لنا من هذا الغيب . ويكفي أن يشعر القلب البشري أنه غير متروك سدى . وأن عليه حفظة كراماً كاتبين يعلمون ما يفعله ، ليرتعش ويستيقظ ، ويتأدب! وهذا هو المقصود!
ولما كان جو السورة جو كرم وكرامة ، فإنه يذكر من صفة الحافظين كونهم . . { كراماً } . . ليستجيش في القلوب إحساس الخجل والتجمل بحضرة هؤلاء الكرام . فإن الإنسان ليحتشم ويستحيي وهو بمحضر الكرام من الناس أن يسف أو يتبذل في لفظ أو حركة أو تصرف . . فكيف به حين يشعر ويتصور أنه في كل لحظاته وفي كل حالاته في حضرة حفظة من الملائكة { كرام } لا يليق أن يطلعوا منه إلا على كل كريم من الخصال والفعال؟!
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1483)(1/296)
إن القرآن ليستجيش في القلب أرفع المشاعر بإقرار هذه الحقيقة فيه بهذا التصور الواقعي الحي القريب إلى الإدراك المألوف . .
ثم يقرر مصير الأبرار ومصير الفجار بعد الحساب ، القائم على ما يكتبه الكرام الكاتبون :
{ إن الأبرار لفي نعيم .وإن الفجار لفي جحيم . يصلونها يوم الدين . وما هم عنها بغائبين } . .
فهو مصير مؤكد ، وعاقبة مقررة . أن ينتهي الأبرار إلى النعيم . وأن ينتهي الفجار إلى الجحيم . والبرّ هو الذي يأتي أعمال البّر حتى تصبح له عادة وصفة ملازمة . وأعمال البر هي كل خير على الإطلاق . والصفة تتناسق في ظلها مع الكرم والإنسانية . كما أن الصفة التي تقابلها : { الفجار } فيها سوء الأدب والتوقح في مقارفة الإثم والمعصية . والجحيم هي كفء للفجور! ثم يزيد حالهم فيها ظهوراً . . { يصلونها يوم الدين } . . ويزيدها توكيداً وتقريراً : { وما هم عنها بغائبين } لا فراراً ابتداء . ولا خلاصاً بعد الوقوع فيها ولو إلى حين! فيتم التقابل بين الأبرار والفجار . وبين النعيم والجحيم . مع زيادة الإيضاح والتقرير لحالة رواد الجحيم!
ولما كان يوم الدين هو موضع التكذيب ، فإنه يعود إليه بعد تقرير ما يقع فيه . يعود إليه ليقرر حقيقته الذاتية في تضخيم وتهويل بالتجهيل وبما يصيب النفوس فيه من عجز كامل وتجرد من كل شبهة في عون أو تعاون . وليقرر تفرد الله بالأمر في ذلك اليوم العصيب : { وما أدراك ما يوم الدين؟ ثم ما أدراك ما يوم الدين؟ يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً ، والأمر يومئذ لله } . .
والسؤال للتجهيل مألوف في التعبير القرآني . وهو يوقع في الحس أن الأمر أعظم جداً وأهول جداً من أن يحيط به إدراك البشر المحدود . فهو فوق كل تصور وفوق كل توقع وفوق كل مألوف .
وتكرار السؤال يزيد في الاستهوال . .
ثم يجيء البيان بما يتناسق مع هذا التصوير : { يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً } . . فهو العجز الشامل . وهو الشلل الكامل . وهو الانحسار والانكماش والانفصال بين النفوس المشغولة بهمها وحملها عن كل من تعرف من النفوس! { والأمر يومئذ لله } . . يتفرد به سبحانه . وهو المتفرد بالأمر في الدنيا والآخرة . ولكن في هذا اليوم يوم الدين تتجلى هذه الحقيقة التي قد يغفل عنها في الدنيا الغافلون المغرورون . فلا يعود بها خفاء ، ولا تغيب عن مخدوع ولا مفتون!
ويتلاقى هذا الهول الصامت الواجم الجليل في نهاية السورة ، مع ذلك الهول المتحرك الهائج المائج في مطلعها . وينحصر الحس بين الهولين . . وكلاهما مذهل مهيب رعيب! وبينهما ذلك العتاب الجليل المخجل المذيب! (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3850)(1/297)
ما ترشد إليه الآياتُ :
1- التحذير من التكذيب بالبعث والجزاء فإِنه أكبر عامل من عوامل الشر والفساد في الدنيا وأكبر موجب للعذاب يوم القيامة .
2- تقرير عقيدة كتابة الأعمال حسنها وسيئها والحساب بمقتضاها يوم القيامة
3- بيان حكم الله في أهل الموقف إذ هم ما بين بار صادق فهو في نعيم وفاجر كافر فهو في جحيم .
4- بيان عظم شأن يوم الدين وأنه يوم عظيم .
5- بيان أن الناس في يوم الدين لا تنفعهم شفاعة ولا خلة إذ لا يشفع أحد إلا بإِذن الله والكافرون هم الظالمون ، وما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع .
6- وفي هذه الآيات هتاف تنديدي موجّه إلى الكفار في معرض بيان الباعث على جحودهم للّه وهو تكذيبهم بالجزاء الرباني يوم القيامة. وتوكيد في معرض الإنذار بأن اللّه قد جعل عليهم من يحصي ويحفظ كل ما يصدر منهم ويسجله عليهم من كتّاب اللّه الكرام الذين ينفذون أوامر اللّه.
وواضح أن التوكيد ينطوي على توكيد الجزاء الأخروي أيضا ، ومثل هذا البيان والتوكيد قد تكرر في مواضع كثيرة من القرآن.
ولقد تكررت الإشارة إلى الرقباء والكاتبين لأعمال الناس في سور سابقة. (1)
7- أمر تعالى بأن نرتدع عن الاغترار بحلم اللّه وكرمه ، وأن نتفكر في آيات اللّه.
8- إن منشأ عدم الخوف من اللّه والتجرؤ على الكفر والعصيان في الحقيقة والواقع هو التكذيب بالجزاء والحساب في يوم القيامة.
9- حال الناس مما يثير التعجب ، فهم يكذبون بيوم الحساب والجزاء ، وملائكة اللّه موكلون بهم ، يكتبون أعمالهم ، حتى يحاسبوا بها يوم القيامة.
ولا يختلف الحال بين المؤمنين والكفار ، فعليهم جميعا الحفظة لقوله تعالى : فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ... [الحاقة 69/ 19] ، ثم قال : وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ [الحاقة 69/ 25] ، وفي آية أخرى : وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ [الانشقاق 84/ 10] ، فهذا خبر يدل أن الكفار يكون لهم كتاب ، ويكون عليهم حفظة.
10- وصف اللّه تعالى الملائكة الحفظة بصفات أربع : هي كونهم حافظين ، وكونهم كراما ، وكونهم كاتبين ، وكونهم يعلمون ما تفعلون. ووصف اللّه إياهم بهذه الصفات يدل على أنه تعالى أثنى عليهم وعظم شأنهم ، وفي تعظيمهم تعظيم لأمر الجزاء ، وأنه عند اللّه تعالى من جلائل الأمور ، ولولا ذلك لما وكلوا بضبط ما يحاسب عليه كل إنسان. قال بعض العلماء : من لم يزجره من المعاصي مراقبة اللّه إياه ، كيف يرده عنها كتابة الكرام الكاتبين.
__________
(1) - التفسير الحديث ، ج 5 ، ص : 421(1/298)
11- أحوال العاملين ومصيرهم يوم القيامة : إن الأبرار يكونون في جنات النعيم ، وإن الفجار يكونون في نيران الجحيم ، يدخلونها ويقاسون لهابها وحرها يوم الجزاء والحساب ، ويلازمونها إلى أبد الآبدين ، فلا يغيبون عنها. وليس صاحب المعصية الكبيرة فاجرا ، وإنما الكفار هم الفجرة لا غيرهم كما تقدم ، وليس صاحب الكبيرة بفاجر على الإطلاق ، لقوله تعالى : أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس 80/ 42].
وفي هذا تهديد عظيم للعصاة ، وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : " دَخَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَدِينَةَ حَاجًّا ، فَقَالَ : هَلْ بِهَا رَجُلٌ أَدْرَكَ عِدَّةً مِنَ الصَّحَابَةِ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، أَبُو حَازِمٍ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ : يَا أَبَا حَازِمٍ مَا هَذَا الْجَفَاءُ ، قَالَ : وَأَيُّ جَفَاءٍ رَأَيْتَ مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ : وُجُوهُ النَّاسِ أَتَوْنِي وَلَمْ تَأْتِنِي ، قَالَ : وَاللَّهِ مَا عَرَفْتَنِي قَبْلَ هَذَا وَلَا أَنَا رَأَيْتُكُ ، فَأَيُّ جَفَاءٍ رَأَيْتَ مِنِّيَ ؟ فَالْتَفَتَ سُلَيْمَانُ إِلَى الزُّهْرِيِّ فَقَالَ : أَصَابَ الشَّيْخُ ، وَأَخْطَأْتُ أَنَا ، فَقَالَ : يَا أَبَا حَازِمٍ مَا لَنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ ، فَقَالَ : عَمَّرْتُمُ الدُّنْيَا وَخَرَّبْتُمُ الْآخِرَةَ ، فَتَكْرَهُونَ الْخُرُوجَ مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى الْخَرَابِ ، قَالَ : صَدَقْتَ ، فَقَالَ : يَا أَبَا حَازِمٍ لَيْتَ شِعْرِي مَا لَنَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى غَدًا ؟ قَالَ : اعْرِضْ عَمَلَكَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، قَالَ : وَأَيْنَ أَجِدُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ؟ قَالَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ قَالَ سُلَيْمَانُ : فَأَيْنَ رَحْمَةُ اللَّهِ ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ : قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ سُلَيْمَانُ : لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ الْعَرْضُ عَلَى اللَّهِ غَدًا ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ : أَمَّا الْمُحْسِنُ كَالْغَائِبِ يَقْدِمُ عَلَى أَهْلِهِ ، وَأَمَّا الْمُسِيءُ كَالْآبِقِ يُقْدَمُ بِهِ عَلَى مَوْلَاهُ ، فَبَكَى سُلَيْمَانُ حَتَّى عَلَا نَحِيبُهُ ، وَاشْتَدَّ بُكَاؤُهُ ، فَقَالَ : يَا أَبَا حَازِمٍ كَيْفَ لَنَا أَنْ نُصْلِحَ ؟ قَالَ : تَدَعُونَ عَنْكُمُ الصَّلَفَ وَتُمْسِكُوا بِالْمُرُوءَةِ ، وَتُقَسِّمُوا بِالسَّوِيَّةِ ، وَتَعْدِلُوا فِي الْقَضِيَّةِ ، قَالَ : يَا أَبَا حَازِمٍ وَكَيْفَ الْمَأْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ : تَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ وَتَضَعُهُ بِحَقِّهِ فِي أَهْلِهِ ، قَالَ : يَا أَبَا حَازِمِ مَنْ أَفْضَلُ الْخَلَائِقِ ؟ قَالَ : أُولُو الْمُرُوءَةِ وَالنُّهَى ، قَالَ : فَمَا أَعْدَلُ الْعَدْلِ ؟ قَالَ : كَلِمَةُ صِدْقٍ عِنْدَ مَنْ تَرْجُوهُ وَتَخَافُهُ ، قَالَ : فَمَا أَسْرَعُ الدُّعَاءِ إِجَابَةً ؟ قَالَ : دُعَاءُ الْمُحْسِنِ لِلْمُحْسِنِينَ قَالَ : فَمَا أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ ؟ قَالَ : جُهْدُ الْمُقِلِّ إِلَى يَدِ الْبَائِسِ الْفَقِيرِ لَا يَتْبَعُهَا مَنٌّ وَلَا أَذًى قَالَ : يَا أَبَا حَازِمٍ مَنْ أَكْيَسُ النَّاسِ ؟ قَالَ : رَجُلٌ ظَفَرَ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَعَمِلَ بِهَا ثُمَّ دَلَّ النَّاسَ عَلَيْهَا ، قَالَ : فَمَنْ أَحْمَقُ الْخَلْقِ ؟ قَالَ : رَجُلٌ اغْتَاظَ فِي هَوَى أَخِيهِ وَهُوَ ظَالِمٌ لَهُ فَبَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ ، قَالَ : يَا أَبَا حَازِمٍ هَلْ لَكَ أَنْ تَصْحَبَنَا وَتُصِيبَ مِنَّا وَنُصِيبَ مِنْكَ ، قَالَ : كَلَّا ، قَالَ : وَلِمَ ، قَالَ : إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَرْكَنَ إِلَيْكُمْ شَيْئًا قَلِيلًا فَيُذِيقَنِي اللَّهُ ضِعْفَ الْحَيَاةَ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا يَكُونُ لِي مِنْهُ نَصِيرًا ، قَالَ : يَا أَبَا حَازِمٍ ارْفَعْ إِلَيَّ حَاجَتَكَ ، قَالَ : نَعَمْ ، تُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ ، وَتُخْرِجَنِي مِنَ النَّارِ ، قَالَ : لَيْسَ ذَاكَ إِلَيَّ ، قَالَ : فَمَا لِي حَاجَةٌ سِوَاهَا ، قَالَ : يَا أَبَا حَازِمٍ فَادْعُ اللَّهَ لِي ، قَالَ : نَعَمْ ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ سُلَيْمَانُ مِنْ أَوْلِيَائِكَ فَيَسِّرْهُ لَخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَعْدَائِكَ فَخُذْ(1/299)
بِنَاصِيَتِهِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى ، قَالَ سُلَيْمَانُ : قَطُّ ، قَالَ أَبُو حَازِمٍ : قَدْ أَكْثَرْتُ وَأَطْنَبْتُ ، إِنْ كُنْتَ أَهْلَهُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَهْلَهُ فَمَا حَاجَتُكَ أَنْ تَرْمِيَ عَنْ قَوْسٍ لَيْسَ لَهَا وَتَرٌ ، قَالَ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ مَا تَقُولُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ؟ قَالَ : أَوَ تَعْفِيَنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ : بَلْ نَصِيحَةٌ تُلْقِيهَا إِلَيَّ ، قَالَ : إِنَّ آبَاءَكَ غَصَبُوا النَّاسَ هَذَا الْأَمْرَ ، فَأَخَذُوهُ عَنْوَةً بِالسَّيْفِ مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ وَلَا اجْتِمَاعٍ مِنَ النَّاسِ ، وَقَدْ قَتَلُوا فِيهِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً ، وَارْتَحَلُوا ، فَلَوْ شَعَرْتَ مَا قَالُوا وَقِيلَ لَهُمْ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ : بِئْسَ مَا قُلْتَ ، قَالَ أَبُو حَازِمٍ : كَذَبْتَ ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخَذَ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْمِيثَاقَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ قَالَ : يَا أَبَا حَازِمٍ أَوْصِنِي ، قَالَ : نَعَمْ سَوْفَ أُوصِيكَ وَأُوجِزُ : نَزِّهِ اللَّهَ تَعَالَى وَعَظِّمْهُ أَنْ يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ أَوْ يَفْقِدَكَ حَيْثُ أَمَرَكَ ، ثُمَّ قَامَ فَلَمَّا وَلَّى قَالَ : يَا أَبَا حَازِمٍ هَذِهِ مِائَةُ دِينَارٍ أَنْفِقْهَا ، وَلَكَ عِنْدِي أَمْثَالُهَا كَثِيرٌ ، فَرَمَى بِهَا ، وَقَالَ : وَاللَّهِ مَا أَرْضَاهَا لَكَ ، فَكَيْفَ أَرْضَاهَا لِنَفْسِي ، إِنِّي أُعِيذُكَ بِاللَّهِ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُكَ إِيَّايَ هَزْلًا وَرَدِّي عَلَيْكَ بَذْلًا ، إِنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ قَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَسَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلَمْ يَسْأَلِ النَّاسَ ، فَفَطِنَتِ الْجَارِيتَانِ ، وَلَمْ تَفْطِنِ الرُّعَاةُ لِمَا فَطِنَتَا إِلَيْهِ ، فَأَتَيَا أَبَاهُمَا وَهُوَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخْبَرَتَاهُ خَبَرَهُ ، قَالَ شُعَيْبٌ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا جَائِعًا ، ثُمَّ قَالَ لِإِحْدَاهُمَا : اذْهَبِي ادْعِيهِ ، فَلَمَّا أَتَتْهُ أَعْظَمَتْهُ وَغَطَّتْ وَجْهَهَا ، ثُمَّ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ فَلَمَّا قَالَتْ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا كَرِهَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ ، وَأَرَادَ أَنْ لَا يَتْبَعَهَا ، وَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ يَتْبَعَهَا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَرْضِ مَسْبَعَةٍ وَخَوْفٍ ، فَخَرَجَ مَعَهَا وَكَانَتِ امْرَأَةً ذَاتَ عَجُزٍ ، فَكَانَتِ الرِّيَاحُ تَصْرِفُ ثَوْبَهَا فَتَصِفُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَجُزَهَا ، فَيَغُضُّ مَرَّةً وَيُعْرِضُ أُخْرَى ، فَقَالَ : يَا أَمَةَ اللَّهِ كُونِي خَلْفِي ، فَدَخَلَ مُوسَى إِلَى شُعَيْبٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَالْعَشَاءُ مُهَيَّأٌ ، فَقَالَ : كُلْ ، فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَا ، قَالَ شُعَيْبٌ : أَلَسْتَ جَائِعًا ؟ قَالَ : بَلَى ، وَلَكِنِّي مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ لَا يَبِيعُونَ شَيْئًا مِنْ عَمَلِ الْآخِرَةِ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا ، أَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَذَا أَجْرَ مَا سَقَيْتُ لَهُمَا ، قَالَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَا يَا شَابُّ ، وَلَكِنْ هَذَا عَادَتِي وَعَادَةُ آبَائِي ، قِرَى الضَّيْفِ وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ ، قَالَ : فَجَلَسَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَكَلَ ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمِائَةُ دِينَارٍ عِوَضًا عَمَّا حَدَّثْتُكَ فَالْمَيْتَةُ ، وَالدَّمُ ، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ، فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ أَحَلُّ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلِي فِيهَا شُرَكَاءُ وَنُظَرَاءُ إِنْ وَازَيْتَهُمْ ، وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهَا ، إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَزَالُوا عَلَى الْهُدَى وَالتُّقَى حَيْثُ كَانْ أُمَرَاؤُهُمْ يَأْتُونَ إِلَى عُلَمَائِهِمْ رَغْبَةً فِي عِلْمِهِمْ ، فَلَمَّا نُكِسُوا وَنَفِسُوا وَسَقَطُوا مِنْ عَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَآمَنُوا بِالْجِبِتِ وَالطَّاغُوتِ ، كَانَ عُلَمَاؤُهُمْ يَأْتُونَ إِلَى أُمَرَائِهِمْ وَيُشَارِكُونَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ ، وَشَرَكُوا مَعَهُمْ فِي قَتْلِهِمْ ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : يَا أَبَا حَازِمٍ إِيَّايَ تَعْنِي ، أَوْ بِي تُعَرِّضُ ؟ قَالَ : مَا إِيَّاكَ اعْتَمَدْتُ ، وَلَكِنْ هُوَ مَا تَسْمَعُ ، قَالَ سُلَيْمَانُ : يَا ابْنَ شِهَابٍ تَعْرِفُهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، جَارِي مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً ، مَا كَلَّمْتُهُ كَلِمَةً قَطُّ ، قَالَ أَبُو حَازِمٍ :(1/300)
إِنَّكَ نَسِيتَ اللَّهَ فَنَسِيتَنِي ، وَلَوْ أَحْبَبْتَ اللَّهَ تَعَالَى لَأَحْبَبْتَنِي ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : يَا أَبَا حَازِمٍ تَشْتُمُنِي ؟ قَالَ سُلَيْمَانُ : مَا شَتَمَكَ ، وَلَكِنْ شَتَمَتْكَ نَفْسُكَ ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لِلْجَارِ عَلَى الْجَارِ حَقًّا كَحَقِّ الْقَرَابَةِ ، فَلَمَّا ذَهَبَ أَبُو حَازِمٍ قَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ سُلَيْمَانَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ تُحِبُّ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِثْلَ أَبِي حَازِمٍ ؟ قَالَ : لَا " حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (1)
وقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُوسَى : " مَرَّ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يُرِيدُ مَكَّةَ ، فَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا ، فَقَالَ : هَلْ بِالْمَدِينَةِ أَحَدٌ أَدْرَكَ أَحَدًا ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فَقَالُوا لَهُ : أَبُو حَازِمٍ . فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ ، قَالَ لَهُ : يَا أَبَا حَازِمٍ مَا هَذَا الْجَفَاءُ ؟ قَالَ : أَبُو حَازِمٍ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَيُّ جَفَاءٍ رَأَيْتَ مِنِّي ؟ قَالَ : أَتَانِي وُجُوهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَمْ تَأْتِنِي ، قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أُعِيذُكَ بِاللَّهِ أَنْ تَقُولَ مَا لَمْ يَكُنْ ، مَا عَرَفْتَنِي قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ ، وَلَا أَنَا رَأَيْتُكَ ، قَالَ : فَالْتَفَتَ سُلَيْمَانُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ ، فَقَالَ : أَصَابَ الشَّيْخُ وَأَخْطَأْتُ ، قَالَ : سُلَيْمَانُ يَا أَبَا حَازِمٍ مَا لَنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ ؟ قَالَ : " لِأَنَّكُمْ أَخْرَبْتُمُ الْآخِرَةَ ، وَعَمَّرْتُمُ الدُّنْيَا ، فَكَرِهْتُمْ أَنْ تُنْتقَلُوا مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى الْخَرَابِ " ، قَالَ : أَصَبْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ ، فَكَيْفَ الْقُدُومُ غَدًا عَلَى اللَّهِ ؟ قَالَ : " أَمَّا الْمُحْسِنُ ، فَكَالْغَائِبِ يَقْدُمُ عَلَى أَهْلِهِ ، وَأَمَّا الْمُسِيءُ ، فَكَالْآبِقِ يَقْدُمُ عَلَى مَوْلَاهُ " ، فَبَكَى سُلَيْمَانُ وَقَالَ : لَيْتَ شِعْرِي مَا لَنَا عِنْدَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " اعْرِضْ عَمَلَكَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ " ، قَالَ : وَأَيُّ مَكَانٍ أَجِدُهُ ؟ قَالَ : إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ، قَالَ سُلَيْمَانُ : فَأَيْنَ رَحْمَةُ اللَّهِ يَا أَبَا حَازِمٍ ؟ قَالَ : أَبُو حَازِمٍ " رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ " ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ، فَأَيُّ عِبَادِ اللَّهِ أَكْرَمُ ؟ قَالَ : " أُولُو الْمُرُوءَةِ وَالنُّهَى " ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ، فَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ : " أَدَاءُ الْفَرَائِضِ مَعَ اجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ " ، قَالَ سُلَيْمَانُ : فَأَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ : " دُعَاءُ الْمُحْسَنِ إِلَيْهِ لِلْمُحْسِنِ " ، قَالَ : فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : " لِلسَّائِلِ الْبَائِسِ ، وَجُهْدُ الْمُقِلِّ لَيْسَ فِيهَا مَنٌّ وَلَا أَذًى " ، قَالَ : فَأَيُّ الْقَوْلِ أَعْدَلُ ؟ قَالَ : " قَوْلُ الْحَقِّ عِنْدَ مَنْ تَخَافُهُ أَوْ تَرْجُوهُ " ، قَالَ : فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ ؟ قَالَ : " رَجُلٌ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَدَلَّ النَّاسَ عَلَيْهَا " ، قَالَ : فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَحْمَقُ ؟ قَالَ : " رَجُلٌ انْحَطَّ فِي هَوَى أَخِيهِ وَهُوَ ظَالِمٌ ، فَبَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ " ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : أَصَبْتَ ، فَمَا تَقُولُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ؟ قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أَوَ تُعْفِينِي ؟ قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : لَا ، وَلَكِنْ نَصِيحَةٌ تُلْقِيهَا إِلَيَّ ، قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، " إِنَّ آبَاءَكَ قَهَرُوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ ، وَأَخَذُوا هَذَا الْمُلْكَ عَنْوَةً عَلَى غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا رِضًا لَهُمْ حَتَّى قَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً ، فَقَدِ ارْتَحَلُوا عَنْهَا ، فَلَوْ شْعِرْتَ مَا قَالُوهُ ، وَمَا قِيلَ لَهُمْ ؟ " فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ : بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ ، قَالَ أَبُو حَاَزِمٍ : " كَذَبْتَ ، إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ
__________
(1) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (4010 ) فيه جهالة(1/301)
مِيثَاقَ الْعُلَمَاءِ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ " . قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : فَكَيْفَ لَنَا أَنْ نُصْلِحَ ؟ قَالَ : " تَدَعُونَ الصَّلَفَ ، وَتَمَسَّكُونَ بِالْمُرُوءَةِ وَتَقْسِمُونَ بِالسَّوِيَّةِ " ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : كَيْفَ لَنَا بِالْمَأْخَذِ بِهِ ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ : " تَأْخُذُهُ مِنْ حِلِّهِ ، وَتَضَعُهُ فِي أَهْلِهِ " ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : هَلْ لَكَ يَا أَبَا حَازِمٍ أَنْ تَصْحَبَنَا ، فَتُصِيبَ مِنَّا وَنُصِيبَ مِنْكَ ؟ قَالَ : " أَعُوذُ بِاللَّهِ " ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : وَلِمَ ذَاكَ ؟ قَالَ : " أَخْشَى أَنْ أَرْكَنَ إِلَيْكُمْ شَيْئًا قَلِيلًا ، فَيُذِيقَنِي اللَّهُ ضِعْفَ الْحَيَاةِ ، وَضِعْفَ الْمَمَاتِ " ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : ارْفَعْ إِلَيْنَا حَوَائِجَكَ ؟ قَالَ : " تُنْجِينِي مِنَ النَّارِ ، وَتُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ " ، قَالَ سُلَيْمَانُ : لَيْسَ ذَاكَ إِلَيَّ ، قَالَ أَبُو حَازِمٍ : " فَمَا لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ غَيْرُهَا " ، قَالَ : فَادْعُ لِي ، قَالَ أَبُو حَازِمٍ : " اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ سُلَيْمَانُ وَلِيَّكَ ، فَيَسِّرْهُ لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَدُوَّكَ ، فَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى " ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : قَطُّ ، قَالَ أَبُو حازمٍ : " قَدْ أَوْجَزْتُ وَأَكْثَرْتُ إِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ فَمَا يَنْفَعُنِي أَنْ أَرْمِيَ عَنْ قَوْسٍ لَيْسَ لَهَا وَتَرٌ ؟ " قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : أَوْصِنِي . قَالَ : " سَأُوصِيكَ وَأُوجِزُ : عَظِّمْ رَبَّكَ وَنَزِّهْهُ ، أَنْ يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ ، أَوْ يَفْقِدَكَ حَيْثُ أَمَرَكَ " . فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ ، بَعَثَ إِلَيْهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ : أَنْ أَنْفِقْهَا وَلَكَ عِنْدِي مِثْلُهَا كَثِيرٌ . قَالَ : فَرَدَّهَا عَلَيْهِ وَكَتَبَ إِلَيْهِ : " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أُعِيذُكَ بِاللَّهِ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُكَ إِيَّايَ هَزْلًا ، أَوْ رَدِّي عَلَيْكَ بَذْلًا ، وَمَا أَرْضَاهَا لَكَ ، فَكَيْفَ أَرْضَاهَا لِنَفْسِي ؟ " سُنَنُ الدَّارِمِيِّ (1)
12- في يوم القيامة والجزاء والحساب الرهيب لا يستطيع أحد مهما كان أن يقدم منفعة لآخر ، والأمر كله حينئذ للّه الواحد القهار ، لا ينازعه فيه أحد.
وفي هذا وعيد عظيم وتهويل جسيم ليوم القيامة ، ودليل على أنه لا يغني عن الناس إلا البر والطاعة يومئذ ، دون سائر ما كان قد يغني عنهم في الدنيا من مال وولد وأعوان وشفعاء. قال الواسطي في قوله تعالى : يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً إشارة إلى فناء غير اللّه تعالى ، وهناك تذهب الرسالات والكلمات والغايات فمن كانت صفته في الدنيا كذلك ، كانت دنياه أخراه.
وقال الرازي في قوله تعالى : وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ : هو إشارة إلى أن البقاء والوجود للّه ، والأمر كذلك في الأزل وفي اليوم ، وفي الآخرة ، ولم يتغير من حال إلى حال ، فالتفاوت عائد إلى أحوال الناظر ، لا إلى أحوال المنظور إليه (2) .
مقاصد هذه السورة
(1) وصف بعض أهوال يوم القيامة.
(2) تقصير الإنسان فى مقابلة الإحسان بالشكران.
(3) بيان أن أعمال الإنسان موكل بها كرام كاتبون.
__________
(1) - سُنَنُ الدَّارِمِيِّ (685 ) فيه جهالة
(2) - تفسير الرازي : 31/ 86(1/302)
(4) بيان أن الناس فى هذا اليوم : إما بررة منعمون ، وإما فجرة معذبون. (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 70)(1/303)
سورة المطففين
مكيّة ، وهي ست وثلاثون آية
تسميتها :
سميت سورة (المطففين) ،لافتتاحها بقوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ وهم الذين يبخسون المكيال والميزان إما بالازدياد إن اقتضوا من الناس ، وإما بالنقصان إن قضوهم أو وزنوا أو كالوا لهم.
وقال ابن عاشور :
" سميت هذه السورة في كتب السنة وفي بعض التفاسير "سورة ويل للمطففين"، وكذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه"، والترمذي في "جامعه".
وسميت في كثير من كتب التفسير والمصاحف "سورة المطففين" اختصارا.
ولم يذكرها في "الإتقان" في عداد السور ذوات أكثر من اسم وسماها "سورة المطففين" وفيه نظر.
وقد أختلف في كونها مكية أو مدنية أو بعضها مكي وبعضها مدني. فعن ابن مسعود والضحاك ومقاتل في رواية عنه: أنها مكية، وعن ابن عباس في الأصح عنه وعكرمة والحسن السدي ومقاتل في رواية أخرى عنه: أنها مدنية، قال: وهي أول سورة نزلت بالمدينة، وعن ابن عباس في رواية عنه وقتادة: هي مدنية إلا ثمان آيات من آخرها من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} [الإنفطار:19] إلى آخرها.
وقال الكلبي وجابر بن زيد: نزلت بين مكة والمدينة فهي لذلك مكية، لأن العبرة في المدني بما نزل بعد الهجرة على المختار من الأقوال لأهل علم القرآن.
قال ابن عطية: احتج جماعة من المفسرين على أنها مكية بذكر الأساطير فيها أي قوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم:15]. والذي نختاره: أنها نزلت قبل الهجرة لأن معظم ما اشتملت عليه التعريض بمنكري البعث.
ومن اللطائف أن تكون نزلت بين مكة والمدينة لأن التطفيف كان فاشيا في البلدين. وقد حصل من اختلافهم أنها: إما آخر ما أنزل بمكة، وإما أول ما أنزل بالمدينة، والقول بأنها نزلت بين مكة والمدينة قول حسن.
فقد ذكر الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس قال لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
وعن القرظي كان بالمدينة تجار يطففون الكيل وكانت يباعاتهم كسبت القمار والملامسة والمناملة والمخاصرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السوق وقرأها، وكانت عادة فشت فيهم من زمن الشرك فلم يتفطن بعض الذين أسلموا من أهل المدينة لما فيه(1/304)
من أكل مال الناس. فأريد إيقاظهم لذلك، فكانت مقدمة لإصلاح أحوال المسلمين في المدينة مع تشنيع أحوال المشركين بمكة ويثرب بأنهم الذين سنوا التطفيف.
وما أنسب هذا المقصد بأن تكون نزلت بين مكة والمدينة لتطهير المدينة من فساد المعاملات التجارية قبل أن يدخل إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - لئلا يشهد فيها منكرا عاما فإن الكيل والوزن لا يخلو وقت عن التعامل بهما في الأسواق وفي المبادلات.
وهي معدودة السادسة والثمانين في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة العنكبوت وقبل سورة البقرة. وعدد آيها ست وثلاثون.
أغراضها
اشتملت على التحذير من التطفيف في الكيل والوزن وتفظيعه بأنه تحيل على أكل مال الناس في حال المعاملة أخذا وإعطاء.
وأن ذلك مما سيحاسبون عليه يوم القيامة.
وتهويل ذلك اليوم بأنه وقوف عند ربهم ليفصل بينهم وليجازيهم على أعمالهم وأن الأعمال محصاة عند الله.
ووعيد الذين يكذبون بيوم الجزاء والذين يكذبون بأن القرآن منزل من عند الله.
وقوبل حالهم بضده من حال الأبرار أهل الإيمان ورفع درجاتهم وإعلان كرامتهم بين الملائكة والمقربين وذكر صور من نعيمهم.
وانتقل من ذلك إلى وصف حال الفريقين في هذا العالم الزائل إذ كان المشركون يسخرون من المؤمنين ويلزمونهم ويستضعفونهم وكيف انقلب الحال في العالم الأبدي. " (1)
مناسبتها لما قبلها :
تتعلق هذه السورة بما قبلها من وجوه أربعة :
1- قال اللّه تعالى في آخر السورة المتقدمة واصفا يوم القيامة : يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وذلك يقتضي تهديدا عظيما للعصاة ، فلهذا أتبعه هنا بقوله : وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ والمراد : الزجر عن التطفيف : والبخس في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية. أما الكثير فيظهر ، فيمنع منه.
2- في كل من السورتين توضيح أحوال يوم القيامة.
3- ذكر اللّه تعالى في السورة السابقة : وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ، كِراماً كاتِبِينَ [10- 11] وذكر هنا ما يكتبه الحافظون : كِتابٌ مَرْقُومٌ [20] يجعل في عليين ، أو في سجين.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 166)(1/305)
4- ذكر اللّه تعالى تصنيف الناس إلى فريقين : أبرار وفجار في كل من السورتين ، وذكر مآل كل فريق ، إما إلى الجنة ، وإما إلى النار. قال أبو حيان : لما ذكر تعالى السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأن يومه ، ذكر ما أعد لبعض العصاة ، وذكّرهم بأخس ما يقع من المعصية ، وهي التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئا في تثمير المال وتنميته (1) .
ما اشتملت عليه السورة :
عنيت هذه السورة كسائر السور المكية بأمور العقيدة ، وعلى التخصيص أحوال يوم القيامة وأهوالها ، وعنيت بأمور الأخلاق الاجتماعية ، وهي هنا تطفيف الكيل والميزان.
بدأت السورة بمطلع مخيف ، وهو وعيد المطففين بالعذاب الشديد : وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ .. [الآيات 1- 6].
ثم أبانت أن كتاب الفجار الأشقياء في ديوان الشر ، وفي كتاب مرقوم بعلامة ، وأن مصيرهم أسفل السافلين في نار جهنم : كَلَّا ، إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ .. [الآيات 7- 17].
وأردفت ذلك على سبيل المقارنة والعبرة والجمع بين الترغيب والترهيب ببيان أن صحائف الأبرار في أعلى عليين ، وأنها في كتاب مرقوم بعلامة متميزة عن صحائف الفجار : إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ .. [الآيات 18- 28].
وختمت السورة بوصف موقف المجرمين من المؤمنين ، حيث كانوا يستهزئون ويضحكون منهم في الدنيا لإيمانهم وتقواهم ربهم ، ثم انعكاس هذا الموقف في الآخرة حيث صار المؤمنون يتضاحكون من الأشقياء المجرمين ويسخرون منهم ،وينظرون إليهم وهم يعذبون في النار وما يلقونه من النكال : إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ .. [الآيات 29- 36]. (2)
وقال الصابوني :
" * هذه السورة الكريمة مكية ، وأهدافها نفس أهداف السور المكية ، تعالج أمور العقيدة وتتحدث عن الدعوة الإسلامية في مواجهة خصومها الألداء .
* ابتدأت السورة الكريمة بإعلان الحرب على المطففين فى الكيل والوزن ، الذين لا يخافون الآخرة ، ولا يحسبون حسابا للوقفة الرهيبة ، بين يدي أحكم الحاكمين [ ويل للمطففين ، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون . وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ، يوم يقوم الناس لرب العالمين
__________
(1) - البحر المحيط : 8/ 439 وانظر التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1486)
(2) - انظر صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 467)(1/306)
* ثم تحدثت عن الأشقياء الفجار ، وصورت جزاءهم يوم القيامة ، حيث يساقون إلى الجحيم مع الزجر والتهديد [ كلا إن كتاب الفجار لفي سجين ، وما أدراك ما سجين ، كتاب مرقوم ، ويل يومئذ للمكذبين ] الآيات .
* ثم عرضت لصفحة المتقين الأبرار ، وما لهم من النعيم الخالد الدائم في دار العز والكرامة ، وذلك في مقابلة ما أعده الله للأشقياء الأشرار ، على طريقة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب [ إن الأبرار لفي نعيم ، على الأرائك ينظرون ، تعرف في وجوههم نضرة النعيم ، يسقون من رحيق مختوم ، ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون
* وختمت السورة الكريمة بمواقف أهل الشقاء والضلال الكفرة الفجار من عباد الرحمن الأخيار حيث كانوا يهزءون منهم في الدنيا ، ويسخرون عليهم لإيمانهم وصلاحهم [ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ، وإذا مروا بهم يتغامزون ] إلى آخر السورة الكريمة . " (1)
مقصودها شرح آخر الانفطار بأنه لا بد من دينونة العباد يوم التناد بإسكان الأولياء أهل الرشاد دار النعيم ، والأشقياء أهل الضلال والعناد غار الجحيم ، ودل على ذلك بانه مربيهم والمحسن إليهم بعموم النعمة ، ولا يتخيل عاقل أن أحدا يربي أحدا من غير سؤال عما حمله إياه وكلفه به ولا أنه لا ينصف بعض من يربيهم من بعض ، واسمها التطفيف أدل ما فيها على ذلك ) بسم الله ( الذي له الحكمة البالغة والقدرة الكاملة ) الرحمن ( الذي عم بنعمة الإيجاد والبيان الشاملة ) الرحيم ( الذي أكرم حزبه بالتوفيق لحسن المعاملة . (2)
في السورة تنديد بالغشاشين في الكيل والميزان وإنذار بحساب اللّه.
واستطراد إلى ذكر مصير المكذبين والمؤمنين يوم القيامة. وحكاية لسخرية الكفار بالمؤمنين في الدنيا وانقلاب الحال في الآخرة. وآيات السورة متوازنة منسجمة مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة.
والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن هذه السورة آخر السور المكية نزولا.
ومعظم روايات ترتيب النزول تذكر أنها من السور المتأخرة في النزول كذلك ، ومنها ما يتّفق مع المصحف بأنها الآخر نزولا. غير أن مضمونها وأسلوبها يثيران في النفس شكا في ذلك ويسوغان الظنّ بأنها من السور المبكرة في النزول. مثل السور القصيرة المسجّعة. (3)
وهذه السورة تصور قطاعاً من الواقع العملي الذي كانت الدعوة تواجهه في مكة إلى جانب ما كانت تستهدفه من إيقاظ القلوب ، وهز المشاعر ، وتوجيهها إلى هذا الحدث في حياة العرب
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 467)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 354)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 507)(1/307)
وفي حياة الإنسانية ، وهو الرسالة السماوية للأرض ، وما تتضمنه من تصور جديد شامل محيط .
هذا القطاع من الواقع العملي تصوره السورة في أولها ، وهي تتهدد المطففين بالويل في اليوم العظيم ، { يوم يقوم الناس لرب العالمين } . . كما تصوره في ختامها وهي تصف سوء أدب الذين أجرموا مع الذين آمنوا ، وتغامزهم عليهم ، وضحكهم منهم ، وقولهم عنهم : { إن هؤلاء لضالون! } .
وهذا إلى جانب ما تعرضه من حال الفجار وحال الأبرار؛ ومصير هؤلاء وهؤلاء في ذلك اليوم العظيم .
وهي تتألف من أربعة مقاطع . . يبدأ المقطع الأول منها بإعلان الحرب على المطففين : { ويل للمطففين . الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون؛ وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون . ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم؟ يوم يقوم الناس لرب العالمين؟ } . .
ويتحدث المقطع الثاني في شدة وردع وزجر ، وتهديد بالويل والهلاك ، ودمغ بالإثم والاعتداء ، وبيان لسبب هذا العمى وعلة هذا الانطماس ، وتصوير لجزائهم يوم القيامة ، وعذابهم بالحجاب عن ربهم ، كما حجبت الآثام في الأرض قلوبهم ، ثم بالجحيم مع الترذيل والتأنيب : { كلا . إن كتاب الفجار لفي سجين . ومآ أدراك ما سجين؟ كتاب مرقوم . ويل يومئذ للمكذبين! الذين يكذبون بيوم الدين . وما يكذب به إلا كل معتد أثيم ، إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين . كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون . كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . ثم إنهم لصالوا الجحيم . ثم يقال : هذا الذي كنتم به تكذبون } . .
والمقطع الثالث يعرض الصفحة المقابلة . صفحة الأبرار . ورفعة مقامهم . والنعيم المقرر لهم . ونضرته التي تفيض على وجوههم . والرحيق الذي يشربون وهم على الأرائك ينظرون . . وهي صفحة ناعمة وضيئة : { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين . ومآ أدراك ما عليون؟ كتاب مرقوم ، يشهده المقربون . إن الأبرار لفي نعيم ، على الأرآئك ينظرون ، تعرف في وجوههم نضرة النعيم ، يسقون من رحيق مختوم ، ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم . عيناً يشرب بها المقربون } . .
والمقطع الأخير يصف ما كان الأبرار يلاقونه في عالم الغرور الباطل من الفجار من إيذاء وسخرية وسوء أدب . ليضع في مقابله ما آل إليه أمر الأبرار وأمر الفجار في عالم الحقيقة الدائم الطويل : { إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ، وإذا مروا بهم يتغامزون ، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين . وإذا رأوهم قالوا : إن هؤلاء لضالون . ومآ أرسلوا عليهم(1/308)
حافظين . فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرآئك ينظرون .هل ثوّب الكفار ما كانوا يفعلون؟ } . .
والسورة في عمومها تمثل جانباً من بيئة الدعوة ، كما تمثل جانباً من أسلوب الدعوة في مواجهة واقع البيئة ، وواقع النفس البشرية . . (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3854)(1/309)
وعيد المطففين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
سبب النزول : نزول الآية (1) :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ ، كَانُوا مِنْ أَبْخَسِ النَّاسِ كَيْلا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ، فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ "المستدرك للحاكم (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى خَيْبَرَ ، اسْتَخْلَفَ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيَّ ، فَقَدِمْنَا فَشَهِدْنَا مَعَهُ صَلاةَ الصُّبْحِ ، فَقَرَأَ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ كهيعص وَفِي الثَّانِيَةِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي : وَيْلٌ لأَبِي فُلانٍ لَهُ مَكِيلانِ يَسْتَوْفِيَ بِوَاحِدٍ ، وَيَبْخَسُ بِآخَرَ ، فَأَتَيْنَا سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ فَجَهَّزَنَا ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ الْفَتْحِ بِيَوْمٍ أَوْ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ ؟ "المستدرك للحاكم (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلاً فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ."السنن الكبرى للبيهقي (3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلاً ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين] ، فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ." صحيح ابن حبان (4)
وقَالَ خُثَيْمُ بْنُ عِرَاكٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ : أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ هُوَ وَنَفَرٌ مِنْ قَوْمِهِ , فَقَالَ : قَدِمْنَا وَقَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى خَيْبَرَ وَاسْتُخْلِفَ عَلَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ يُقَالُ لَهُ سِبَاعُ بْنُ عُرْفُطَةَ فَأَتَيْنَاهُ , وَهُوَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْغَدَاةِ فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى كهيعص ، وَفِي الثَّانِيَةِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَقُولُ وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ : وَيْلٌ لِأَبِي فُلَانٍ لَهُ مِكْيَالِانِ إِذَا اكْتَالَ اكْتَالَ بِالْوَافِي , وَإِذَا كَالَ كَالَ بِالنَّاقِصِ ، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنْ صَلَاتِنَا أَتَيْنَا سِبَاعًا فَزَوَّدَنَا شَيْئًا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ فَتَحَ خَيْبَرَ فَكَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ فَأَشْرَكَنَا فِي سِهَامِهِمْ ." (5)
__________
(1) - المستدرك للحاكم (2240) صحيح
(2) - المستدرك للحاكم(2241) صحيح
(3) السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (6 / 32) (11496) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (11 / 286) (4919) صحيح
(5) - مُشْكِلُ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ (2443 ) فيه مبهم(1/310)
وعن عِرَاكَ بْنِ مَالِكٍ فال : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ : " قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِخَيْبَرَ , وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ يَؤُمُّ النَّاسَ , فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى : بِسُورَةِ مَرْيَمَ , وَفِي الثَّانِيَةِ بِ : وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ , فَكَانَ رَجُلٌ عِنْدَنَا لَهُ مِكْيَالِانِ , يَأْخُذُ بِأَحَدِهِمَا , وَيُعْطِي بِالْآخَرِ , فَقُلْتُ : " وَيْلٌ لِفُلَانٍ " مُشْكِلُ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ (1)
فهي مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل. ويقال : إنها أول سورة نزلت بالمدينة ، فهي مدنية في قول الحسن وعكرمة.
وهذا على أن السورة مدنية ، أو قرأها عليهم بعد قدومه إن كانت مكية.
ومقتضى هذا أن تكون الآيات مدنية. ولا تفهم حكمة لوضع آيات مدنية في رأس سورة تجمع الروايات على سلكها في عداد السور المكية. ويؤيد ذلك مضمونها وأسلوبها. وموضوعها من المواضيع التي ذكرت في سور مكية على ما ذكرناه آنفا. والذي يتبادر لنا أن الآيات تليت في موقف ما في المدينة على سبيل الإنذار والتقريع ، فأدّى ذلك إلى الالتباس. وهو ما نرجّحه في كثير من الآيات التي يروى أنها مدنية ووردت في سور مكيّة. (2)
والقول بأن هذه السورة هى آخر ما نزل بمكة ، أولى من القول بأنها نزلت فى المدينة .. ذلك أن نزولها بالمدينة ، وفى أول مقدم الرسول إليها ، فيه مواجهة بالخزي والفضيحة ، والتشنيع ، على هؤلاء القوم الكرام ، الذي استجابوا لدين اللّه ، ورصدوا أنفسهم وأموالهم لنصرته ، وفتحوا مدينتهم ودورهم لإيواء المسلمين الفارّين بدينهم من مشركى قريش .. وإن الذي يتفق وأدب الإسلام وحكمته لعلاج هذا الأمر المنكر ، الذي قيل إنه كان فاشيا فى أهل المدينة ـ الذي يتفق مع أدب الإسلام وحكمته أن يعلن رأيه فى هذا الأمر ، وحكمه على فاعليه ، بعيدا عن موقع المواجهة ، وأن يرمى به فى وجه المشركين قبل أن تنتقل الدعوة من ديارهم ، حتى إذا بلغت سورة المطففين أسماع أهل المدينة ، انخلعوا من هذا المنكر ، واستقبلوا رسول اللّه صلوات اللّه وسلامه عليه ، وقد طهرت مدينتهم من هذا الخبث.
والخيانة فى الكيل والميزان ، ليست كما يبدو فى ظاهرها ، أمرا عارضا هينا ، لا يمسّ إلا جانبا من حواشى حياة الجماعة ، ولا يؤثر تأثيرا ذا بال فى نظام حياتها .. وكلّا ، فإن هذا الداء ، إذا تفشّى فى مجتمع من المجتمعات ، أفسد نظامه كله ، وامتد ظله الأسود الكئيب على حياة المجتمع ، مادياتها ومعنوياتها جميعا .. وحسب أي جماعة ضياعا وهلاكا ، أن تفقد الثقة فى معاملاتها ، وأن يكون الاتهام نقدا متبادلا بين أفرادها ، أخذا ، وإعطاء ..
__________
(1) - مُشْكِلُ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ(3079 ) صحيح
(2) - التفسير الحديث ، ج 5 ، ص : 508(1/311)
ونتصور هنا جماعة قد شاع فى معاملاتها النقد الزائف ، واختلط بالنقد الصحيح .. فهل يجتمع لهذه الجماعة شمل ، أو يستتب فيها نظام ، أو تغشاها سكينة واطمئنان؟ ..
إن حياة الناس قائمة على التبادل ، والأخذ والعطاء ، فإذا لم يقم ذلك بينهم على ثقة متبادلة بينهم كما يتبادلون كل شى ء ، انحلّ عقد نظامهم ، وتقطعت عرا أوثق رابطة تربط بين الناس والناس ، وتجمع بعضهم إلى بعض وهى الثقة.
وفى القرآن الكريم ، إشارة صريحة إلى خطورة التبادل ، القائم بين الناس ـ أخذا وعطاء ، والذي إذا لم يقم على أساس متين من العدل والإحسان ، أتى على كل صالحة فى حياة الناس .. وهذا ما نراه فى دعوة نبى اللّه شعيب ـ عليه السلام ـ ورسالته فى قومه ..
إنها رسالة ، تعالج هذا الداء الذي استشرى فى القوم وتطبّ له قبل أي داء آخر ، بعد داء الكفر .. فإنه لا يقوم بناء ، ولا يستنبت خير ، إلا إذا اقتلع هذا الداء ، وطهرت منه الأرض التي يراد استصلاحها ، وغرص البذور الطيبة فيها ..
يقول اللّه سبحانه وتعالى على لسان شعيب إلى قومه : « يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ .. إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ .. وَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ » (84 : هود) ويقول سبحانه على لسانه أيضا : «أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ » (181 ـ 183 الشعراء).
إنها قضية حق وعدل .. فإذا افتقد الحق مكانه فى قوم ، وإذا اختلت موازين العدل فى أيديهم ، فليأذنوا بتصدع بنيانهم ، وانهيار عمرانهم ، وبوار سعيهم ، وسوء مصيرهم .. (1)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... وَيْلٌ ... كلمة عذاب أو واد في جهنم
1 ... لِلْمُطَفِّفِينَ ... المنقصين في الوزن والكيل
2 ... اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ ... من الناس
2 ... يَسْتَوفُونَ ... يأخذون حقهم زيادة
3 ... يُخْسِرُونَ ... ينقصون الوزن والكيل
4 ... أَلا ... إستفهام إنكاري
4 ... يَظُنُّ ... يخاف
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ، ج 16 ، ص : 1489(1/312)
6 ... يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ ... يقومون من قبورهم
6 ... لِرَبِّ العَالَمِينَ ... ينتظرون حكم الله فيهم
المعنى الإجمالي :
فصل سبحانه فى هذه السورة ما أجمله فى سابقتها ، فذكر فيها نوعا من أنواع الفجور وهو التطفيف فى المكيال والميزان ، ثم نوعا آخر وهو التكذيب بيوم الدين ثم أعقبه بذكر جزائهم على هذا التكذيب وتوبيخهم عليه. (1)
بعض النفوس قد ملئت بالشح والأنانية وحب الذات ، طغى عليها حب المال طغيانا شديدا ، فتراه إذا كان له حق عند غيره أخذه كاملا غير منقوص ، وطفف في الكيل أو الميزان ، وإذا كان لغيره حق عنده نقصه في الكيل أو الميزان ، الويل لهؤلاء! ثم الويل لهم! فإن عملهم هذا لون من الفجور والآثام والأنانية يحاربها الإسلام الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ.عجبا لهؤلاء ثم عجبا! أ لا يظن أولئك أنهم مبعوثون ؟ ؟ !
إن هؤلاء المطففين لو كانوا يظنون أن اللّه باعث الخلق ومحاسبهم على أعمالهم لما أقدموا على تلك الأعمال الشنيعة ، إذ لو اعتقدوا حقا أن اللّه يبعث خلقه ويحاسبهم لتركوها ، وكان التعبير بقوله أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ أبلغ وصف لهم ، فاسم الإشارة يدل على أنهم ممتازون بهذا الوصف القبيح ، وعلى بعدهم عن رحمة اللّه ، ووصفهم بأنهم لا يظنون البعث دليل على أنهم أسوأ من الكفار فإنهم يظنون البعث ، ثم انظر إلى وصف اليوم ويا بؤسهم فيه ، ويا خير من يؤمن باللّه ويعمل صالحا في ذلك اليوم الذي يقوم فيه الناس ويطول قيامهم أمام رب العالمين للحساب.
ارتدعوا أيها الفجار من المطففين والمكذبين بيوم الحساب عن ذلك وارجعوا إلى ربكم القادر على كل شيء ، فستحاسبون على أعمالكم حسابا شديدا ، وقد أعد اللّه لهم كتابا أحصى أعمالهم ، ولم يغادر منها صغيرة ولا كبيرة ، وإن هذا الكتاب لفي الديوان الجامع الذي دون فيه أعمال الفجرة من الثقلين ، وما أدراك ما سجين ؟ والمراد تفخيمه وأنه لا أحد يعرف عنه شيئا إلا ما أخبر به الحق - تبارك وتعالى - فقال : هو كتاب مرقوم ظاهر الكتابة ، أو معلم يعرفه بعلامته كل من رآه أنه لا خير فيه.
الويل والهلاك للمكذبين ، الذين يكذبون بيوم الدين ، ومنشأ ذلك هو كثرة الاعتداء وتجاوز الحدود ، وارتكاب الآثام والشرور ولذا يقول اللّه : وما يكذب به إلا كل معتد أثيم ، وتأويل ذلك أن النفس التي اعتادت الظلم والطغيان والبغي والاسترسال في الشرور والآثام يصعب عليها
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 71)(1/313)
جدا الإذعان لأخبار الآخرة والتصديق بها ، فإن تصديقها - مع هذه الأعمال - حكم صريح عليها بالسفه والجنون ، وهذه النفس تكون جامحة طامحة ، فصاحبها يعللها ، ويهون عليها الأمر بالتغافل والتكذيب بيوم القيامة ، أو التعلق بالأمانى الباطلة. تلك حقائق قرآنية نادى بها العلم الحديث فلذلك إذا تليت آيات القرآن التي تنادى بإثبات البعث على هذه النفس لم يكن منها إلا أن تقول : تلك أساطير الأولين وأكاذيبهم ، حكيت لنا وأثرت عنهم ، ولكنها أحاديث لا حقيقة لها ، ولا تستحق النظر. (1)
التفسير والبيان :
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ أي عذاب شديد للمنقصين في الكيل أو الوزن ، والتطفيف : الأخذ في الكيل أو الوزن شيئا طفيفا ، أي نزرا حقيرا أو يسيرا ، والمطفف : هو المقلل حق صاحبه بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن. قال ابن كثير رحمه اللّه : البخس في المكيال والميزان : إما بالازدياد إن اقتضى من الناس ، وإما بالنقصان إن قضاهم ، ولهذا فسر تعالى المطففين الذين وعدهم بالخسار والهلاك وهو الويل بقوله تعالى : الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أي هم الذين إذا اكتالوا من الناس وقبضوا لهم ، يأخذون حقهم وافيا زائدا ، وإذا كالوا أو وزنوا لغيرهم من الناس أو أقبضوهم ، ينقصون الكيل أو الوزن.
وقد أمر اللّه تعالى بالوفاء في الكيل والميزان ، فقال : وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ، ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [الإسراء 17/ 35] وقال سبحانه : وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الأنعام 6/ 152] وقال عز وجل : وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ [الرحمن 55/ 9]. وأهلك اللّه قوم شعيب ودمرهم على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال ، بعد أن كرر النصح لهم ، فقال تعالى : وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [هود 11/ 85].
ثم توعد اللّه تعالى المطففين بقوله : أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي ألا يخطر ببال أولئك المطففين أنهم مبعوثون ، فمسئولون عما يفعلون ؟ وأما يخاف أولئك من البعث والقيام بين يدي ربهم في يوم عظيم الهول كثير الفزع ، جليل الخطب ، من خسر فيه أدخل نارا حامية ؟ وهو يوم القيامة.
إنه يوم يقوم الناس فيه حفاة عراة ، في موقف صعب حرج ، منتظرين لأمر رب العالمين وجزائه وحسابه. وفي هذا دلالة على عظم ذنب التطفيف ، ومزيد إثمه ، وشدة عقابه ، لما فيه من خيانة الأمانة وأكل حق الغير. وفي الإشارة إليهم بأولئك ، وقد ذكرهم عما قريب ، تبعيد
__________
(1) - التفسير الواضح ، ج 3 ، ص : 838(1/314)
لهم عن رتبة الاعتبار ، بل عن درجة الإنسانية. وفي هذا الإنكار والتعجيب ، وكلمة الظن ، ووصف اليوم بالعظيم ، وقيام الناس فيه لرب العالمين ، بيان بليغ لعظم هذا الذنب. ويلاحظ أن المطففين إن كانوا من أهل الإسلام ، فالظن بمعنى اليقين أو العلم ، وإن كانوا كفارا منكري البعث ، فالظن بمعناه الأصلي ، والمراد : هب أنهم لا يقطعون بالبعث ، أفلا يظنونه أيضا ، كقوله : إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية 45/ 32].
فيا فزعك وقد فزع الخلائق مخافة أن يكونوا أمروا بهم ، مسألتهم إياهم: أفيكم ربنا ؟ ففزع الملائكة من سؤالهم إجلالا لمليكهم أن يكون فيهم ، فنادوا بأصواتهم تنزيلا لما توهمه أهل الأرض: سبحان ربنا ليس هو بيننا فهو آت ، حتى أخذوا مصافهم محدقين بالخلائق منكسين رؤوسهم في عظم خلقهم بالذل والمسكنة والخشوع لربهم ، ثم كل شيء على ذلك وكذلك إلى السماء السابعة كل أهل سماء مضعفين بالعدد وعظم الأجساد ، وكل أهل سماء محدقين بالخلائق صفا حتى إذا وافى الموقف أهل السماوات السبع والأرضين السبع كسيت الشمس حر عشر سنين وأدنيت رؤوس الخلائق قاب قوس أو قوسين ، ولا ظل لأحد إلا ظل رب العالمين ، فمن بين مستظل بظل العرش ، وبين مضحو بحر الشمس ، قد صهرته بحرها واشتد كربه وقلقه من وهجها ، ثم ازدحمت الأمم وتدافعت ، فدفع بعضهم بعضا وتضايقت فاختلفت الأقدام وانقطعت الأعناق من العطش واجتمع حر الشمس ووهج أنفاس الخلائق وتزاحم أجسامهم ففاض العرق سائلا حتى استنقع على وجه الأرض ثم على الأبدان على قدر مراتبهم ومنازلهم عند الله عز وجل بالسعادة والشقاء ، حتى إذا بلغ من بعضهم العرق كعبيه ، وبعضهم حقويه ، وبعضهم غلى شحمة أنه ، ومنهم من كاد أن يغيب في عرقه ومن قد توسط العرق من دون ذلك منه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِى رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ » (1) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:"إِنَّ الْكَافِرَ لَيُلْجَمُ بِعَرَقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ طُولِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، حَتَّى يَقُولَ: رَبِّ أَرِحْنِي، وَلَوْ إِلَى النَّارِ النَّارِ". (2) .
وقَالَ المِقْدَادُ ، صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " " إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ العِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قِيدَ مِيلٍ أَوْ اثْنَيْنِ " " - قَالَ سُلَيْمٌ : لَا أَدْرِي أَيَّ الْمِيلَيْنِ عَنَى ؟ أَمَسَافَةُ الْأَرْضِ ، أَمُ الْمِيلُ الَّذِي يُكْحَلُ بِهِ الْعَيْنُ ؟ - قَالَ : " " فَتَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ ، فَيَكُونُونَ فِي العَرَقِ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ
__________
(1) - صحيح البخارى(4938 ) ومسلم (7382 )
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 8 / ص 66) (8691 ) صحيح(1/315)
يَأْخُذُهُ إِلَى حِقْوَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا " " فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ : أَيْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا : " سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ ـ الْجَامِعُ الصَّحِيحُ (1)
وقَالَ الْمِقْدَادُ ، صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ : " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قِيدَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ " ، قَالَ سُلَيْمٌ : لَا أَدْرِي أَيُّ الْمِيلَيْنِ ، يَعْنِي أَمَسَافَةُ الْأَرْضِ أَمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكَحَّلُ بِهِ الْعَيْنُ ؟ قَالَ : " فَتَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ ، فَيَكُونُونَ فِي الْعَرَقِ كَقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى حَقْوَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا " ، قَالَ : فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ ، يَقُولُ : " يُلْجِمُهُمْ إِلْجَامًا " صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ (2)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي الْمِقْدَادُ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ مِيلًا أَوِ اثْنَيْنِ " قَالَ سُلَيْمٌ : لَا أَدْرِي الْمِيلَيْنِ مَسَافَةُ الْأَرْضِ أَوِ الْمِيلُ الَّذِي يُكَحَّلُ بِهِ الْعَيْنُ ؟ قَالَ : " فَتَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ فَيَكُونُ الْعَرَقُ كَقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ ، مِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى حِقْوِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (3)
وقال الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قَدْرَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ " ، - قَالَ سُلَيْمٌ : لَا أَدْرِي الْمِيلَيْنِ ، مَسَافَةُ الْأَرْضِ أَمِ الْمِيلُ الَّذِي يُكَحَّلُ بِهِ الْعَيْنُ ؟ - قَالَ : " فَتَصْهَرُهُمْ فَيَكُونُونَ فِي الْعَرَقِ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ الْعَرَقُ إِلَى عَقِبَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا " ، قَالَ : فَوَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُشِيرُ إِلَى فِيهِ ، وَقَدْ أُقْلِعَ ، وَهُوَ يَقُولُ : " وَمِنْهُمْ مِنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا " الْأَهْوَالُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (4)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ : يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ : " يَقُومُونَ مِائَةَ سَنَةٍ " الْأَهْوَالُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (5)
وعَنْ قَتَادَةَ ، قَالَ : ذُكِرَ لَنَا أَنَّ كَعْبًا ، كَانَ يَقُولُ : " يَقُومُونَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ " الْأَهْوَالُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (6)
__________
(1) - سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ ـ الْجَامِعُ الصَّحِيحُ (2454 ) صحيح
(2) - صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ (7454 ) صحيح
(3) - شَرْحُ أُصُولِ الاعْتِقَادِ (1808)
(4) - الْأَهْوَالُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (88 ) صحيح
(5) - الْأَهْوَالُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (89 ) صحيح
(6) - الْأَهْوَالُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (90 ) فيه انقطاع(1/316)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي الرَّشْحِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ " الْأَهْوَالُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (1)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " يُنْصَبُ الْكَافِرُ مِقْدَارَ خَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ كَمَا لَمْ يَعْمَلْ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا ، وَإِنَّ الْكَافِرَ لَيُرَى جَهَنَّمَ وَيَظُنُّ أَنَّهَا مُوَاقِعَتُهُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً " الْأَهْوَالُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (2)
وأنت لا محالة أحدهم ، فتوهم نفسك راجعة لكربك وقد علاك العرق ، وأطبق عليك الغم ، وضاقت نفسك في صدرك من شدة العرق والفزع والرعب ، الناس معك منتظرون لفصل القضاء إلى دار السعادة أو إلى دار الشقاء ، حتى إذا بلغ المجهود منك ومن الخلائق منتهاه ، وطال وقوفهم لا يكلمون ولا ينظرون في أمورهم.
عن قتادة أو كعب ، قال (3) : يوم يقوم الناس لرب العالمين قال : ( يقومون مقدار ثلاثمائة عام ، قال سمعت الحسن يقول : ما ظنك بأقوام ما قاموا لله عز وجل على أقدامهم مقدار خمسين ألف لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة، حتى إذا انقطعت أعناقهم من العطش ، واحترقت أجوافهم من الجوع انصرف بهم إلى النار ، فسقوا من عين آنية قد آن حرها ، واشتد نفحها ، فلما بلغ المجهود منهم ما لا طاقة لهم به كلم بعضهم بعضا في طلب من يكرم على مولاه أن يشفع لهم في الراحة من مقامهم وموقفهم لينصرفوا إلى الجنة أو إلى النار من وقوفهم ففزعوا إلى آدم ونوح ومن بعده إبراهيم ، وموسى وعيسى من بعد إبراهيم ، كلهم يقول لهم إِنَّ رَبِّى قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ، وَإِنَّهُ نَهَانِى عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ ، نَفْسِى نَفْسِى نَفْسِى ، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِى (4) ، فيشتغل بنفسه عن الشفاعة لهم إلى ربهم لاهتمامه بنفسه وخلاصها وكذلك يقول الله عز وجل : {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (111) سورة النحل
فتوهم أصوات الخلائق وهم ينادون بأجمعهم منفرد كل واحد منهم بنفسه ، ينادي نفسي نفسي ، فلا تسمع إلا قول نفسي نفسي. فيا هول ذلك وأنت تنادي معه بالشغل بنفسك والاهتمام بخلاصها من عذاب ربك وعقابه فما ظنك بيوم ينادي فيه المصطفى آدم والخليل إبراهيم ، والكليم موسى ، والروح والكلمة عيسى مع كرامتهم على الله عز وجل وعظم قدر منازلهم عند الله عز وجل
__________
(1) - الْأَهْوَالُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (91 ) صحيح
(2) - الْأَهْوَالُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (94 ) حسن
(3) - لم أجده ، ومعناه صحيح
(4) - صحيح البخارى(4712) وصحيح مسلم(501)(1/317)
كل ينادي : نفسي نفسي ، شفقا من شدة غضب ربه ، فأين أنت منهم في إشفاقك في ذلك اليوم واشتغالك بذلك اليوم ، وبحزنك وبخوفك؟ حتى إذا أيس الخلائق من شفاعتهم أتوا النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - فسألوه الشفاعة إلى ربهم فأجابهم إليها ، ثم قام إلى ربه عز وجل واستأذن عليه فأذن له ثم خر لربه ساجدا ، ثم فتح عليه من محامده والثناء عليه لما و أهله ، وذلك كله بسمعك وأسماع الخلائق ، حتى أجابه ربه عز وجل إلى تعجيل عرضهم والنظر في أمورهم.
ومضات :
احتوت الآيات :
1- تقريعا للذين إذا اشتروا لأنفسهم كالوا ما اشتروه أو وزنوه أو أخذوه وافيا ، وإذا باعوا للغير طففوا وكالوا ووزنوا ناقصا ليضمنوا لأنفسهم الربح في الحالتين على حساب ضرر الآخرين.
2- وتساؤلا في معرض الإنذار عمّا إذا كانوا حينما يفعلون ذلك لا يعرفون أنهم مبعوثون بعد الموت لليوم العظيم الذي يقف الناس فيه بين يدي اللّه ربّ العالمين ليقدموا الحساب عن أعمالهم.
وهذه ثانية سورتين ابتدأتا بكلمة (الويل) التقريعية. والآيات تنطوي على صورة من صور أخلاق بعض التّجار في مكة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هو المتبادر.
وهي في الوقت نفسه عامة تظهر في كل زمان ومكان. والمتبادر أن إطلاق التقريع والإنذار في الآيات هو بسبب ذلك ليكون فيها تلقين مستمر المدى في تقبيح بخس الناس وغشهم وسلب أموالهم بطريق الحيلة والخداع.
ولقد احتوت سورتا الإسراء والأنعام آيات فيها أمر بوفاء الكيل والميزان والوزن بالموازين المستقيمة حيث ينطوي في هذا تقرير كون هذا الأمر من الأخلاق الهامة التي عنى القرآن بإيجابها لما له من صلة بجميع الناس تتكرر في كل وقت.
والإنذار والتقريع في الآيات هما توكيد لما احتوته آيات السورتين بأسلوب آخر.
والتساؤل ينطوي على تقرير ما فتىء القرآن يقرّره وهو أن جرأة كثير من الناس على الآثام تأتي من عدم مراقبتهم اللّه وحسبانهم حساب الآخرة. وهذا من دون ريب متصل بحكمة اللّه فيما يقرره القرآن من حقيقة البعث والجزاء الأخرويين. (1)
في " الإكليل " : في الآية ذم التطفيف والخيانة في الكيل والوزن ، أي : لأنه من المنكر فهو من المحظورات أشد الحظر ، لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل في الأخذ والدفع ، ولو في
__________
(1) - التفسير الحديث ، ج 5 ، ص : 508(1/318)
القليل ؛ لأن من دَنُؤَت نفسُه إلى القليل دل على فساد طويته وخبث ملَكته ، وأنه لا يقعده عن التوثب إلى الكثير إلا عجز أو رقابة . قال ابن جرير : وأصل التطفيف من الشيء الطفيف ، وهو القليل النزر . والمطفِّف : المقلِّل حق صاحب الحق عما له من الوفاء والتمام في كيل أو وزن . ومنه قيل للقوم الذين يكونون سواء في حسبة أو عدد : هم سواء كطفِّ الصاع ، يعني بذلك كقرب الممتلئ منه ناقص عن الملء . وقد أمر تعالى بالوفاء في الكيل والميزان . فقال تعالى في عدة آيات : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ الإسراء : 35 ] ، وقال تعالى : { وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } [ الرحمن : 9 ] ، وقصَّ تعالى علينا أنه أهلك قوم شعيب ودمرهم على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال . (1)
قوله تعالى : « وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ » التطفيف : الخروج عن سواء السبيل فى الكيل والميزان ، زيادة أو نقصا ..
وقد بين اللّه ذلك فى قوله تعالى : « الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ».
. فهؤلاء هم المطففون ، قد توعدهم اللّه سبحانه وتعالى بالويل والعذاب الشديد فى الآخرة ، لأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل ، فيأخذون أكثر مما لهم إذا كالوا أو وزنوا ، أو يأخذونه كاملا وافيا « يستوفون » على حين يعطون أقل مما عليهم إذا كالوا لغيرهم أو وزنوا لهم « يخسرون ».
. إنهم اؤتمنوا فخانوا الأمانة ، ووضع فى أيديهم ميزان الحق ، فعبثوا به ، واستخفوا بحرمته .. فيستوفون حقهم كاملا إذا أخذوا ، ويعطونه مبخوسا ناقصا إذا أعطوا!! وفى قوله تعالى : « اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ » وفى تعدية الفعل بحرف الجر « على » ـ إشارة إلى أن هذا الذي يكيلونه هو شىء لهم على غيرهم ..أمّا تعدية الفعلين « كالوهم ووزنوهم » بدون حرف الجر « إلى » ـ فهو إشارة إلى أنهم فى تلك الحال هم الذين يكيلون ويزنون ، فكأنه قيل : وإذا أعطوهم مكيلا أو موزونا يخسرون ..
قيل إن أهل المدينة ، كانوا قبل الإسلام أخبث الناس كيلا ، فلما جاء الإسلام ، وكشف لهم عن شناعة هذا العمل ، وما يجر على مقترفيه من نقمة اللّه وعذابه ـ أصبحوا أعدل الناس كيلا ووزنا إلى اليوم ..
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 167)(1/319)
والقول بأن هذه السورة هى آخر ما نزل بمكة ، أولى من القول بأنها نزلت فى المدينة .. ذلك أن نزولها بالمدينة ، وفى أول مقدم الرسول إليها ، فيه مواجهة بالخزي والفضيحة ، والتشنيع ، على هؤلاء القوم الكرام ، الذي استجابوا لدين اللّه ، ورصدوا أنفسهم وأموالهم لنصرته ، وفتحوا مدينتهم ودورهم لإيواء المسلمين الفارّين بدينهم من مشركى قريش .. وإن الذي يتفق وأدب الإسلام وحكمته لعلاج هذا الأمر المنكر ، الذي قيل إنه كان فاشيا فى أهل المدينة ـ الذي يتفق مع أدب الإسلام وحكمته أن يعلن رأيه فى هذا الأمر ، وحكمه على فاعليه ، بعيدا عن موقع المواجهة ، وأن يرمى به فى وجه المشركين قبل أن تنتقل الدعوة من ديارهم ، حتى إذا بلغت سورة المطففين أسماع أهل المدينة ، انخلعوا من هذا المنكر ، واستقبلوا رسول اللّه صلوات اللّه وسلامه عليه ، وقد طهرت مدينتهم من هذا الخبث.
والخيانة فى الكيل والميزان ، ليست كما يبدو فى ظاهرها ، أمرا عارضا هينا ، لا يمسّ إلا جانبا من حواشى حياة الجماعة ، ولا يؤثر تأثيرا ذا بال فى نظام حياتها .. وكلّا ، فإن هذا الداء ، إذا تفشّى فى مجتمع من المجتمعات ، أفسد نظامه كله ، وامتد ظله الأسود الكئيب على حياة المجتمع ، مادياتها ومعنوياتها جميعا .. وحسب أي جماعة ضياعا وهلاكا ، أن تفقد الثقة فى معاملاتها ، وأن يكون الاتهام نقدا متبادلا بين أفرادها ، أخذا ، وإعطاء ..
ونتصور هنا جماعة قد شاع فى معاملاتها النقد الزائف ، واختلط بالنقد الصحيح .. فهل يجتمع لهذه الجماعة شمل ، أو يستتب فيها نظام ، أو تغشاها سكينة واطمئنان ؟ ..
إن حياة الناس قائمة على التبادل ، والأخذ والعطاء ، فإذا لم يقم ذلك بينهم على ثقة متبادلة بينهم كما يتبادلون كل شىء ، انحلّ عقد نظامهم ، وتقطعت عرا أوثق رابطة تربط بين الناس والناس ، وتجمع بعضهم إلى بعض وهى الثقة.
وفى القرآن الكريم ، إشارة صريحة إلى خطورة التبادل ، القائم بين الناس ـ أخذا وعطاء ، والذي إذا لم يقم على أساس متين من العدل والإحسان ، أتى على كل صالحة فى حياة الناس .. وهذا ما نراه فى دعوة نبى اللّه شعيب ـ عليه السلام ـ ورسالته فى قومه ..
إنها رسالة ، تعالج هذا الداء الذي استشرى فى القوم وتطبّ له قبل أي داء آخر ، بعد داء الكفر .. فإنه لا يقوم بناء ، ولا يستنبت خير ، إلا إذا اقتلع هذا الداء ، وطهرت منه الأرض التي يراد استصلاحها ، وغرص البذور الطيبة فيها ..
يقول اللّه سبحانه وتعالى على لسان شعيب إلى قومه : « يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ .. إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ .. وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ » (84 : هود) ويقول سبحانه على لسانه أيضا « أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا(1/320)
بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ » (181 ـ 183 الشعراء).
إنها قضية حق وعدل .. فإذا افتقد الحق مكانه فى قوم ، وإذا اختلت موازين العدل فى أيديهم ، فليأذنوا بتصدع بنيانهم ، وانهيار عمرانهم ، وبوار سعيهم ، وسوء مصيرهم ..
وقوله تعالى : « أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ »..
هو استفهام إنكارى ، لهذا الأمر المنكر الذي يأتيه المطففون فى الكيل والميزان .. إن هؤلاء المطففين لا يظنون أنهم مبعوثون ليوم عظيم ، فيه حساب ، وجزاء .. ولو كانوا يظنون هذا ما اجترءوا على أكل حقوق الناس بالباطل ، ولحجزهم عن ذلك حاجز الخوف من اللّه ، ومن لقائه بهذا المنكر الشنيع ..
وفى التعبير بفعل الظن ، بدلا من فعل الاعتقاد فى البعث ، إشارة إلى أن مجرد الظن بأن هناك بعثا ، وحسابا ، وعقابا ـ يكفى فى العدول عن هذا المنكر ، وتجنبه ، توقّيا للشر المستطير ، الذي ينجم عنه .. فكيف بمن يعتقد البعث ، ويؤمن به ؟ إنه أشد توقيا للبعث ، ومحاذرة منه ، وإعدادا له .. (1)
تبدأ السورة بالحرب يعلنها الله على المطففين : { ويل للمطففين } . . والويل : الهلاك . وسواء كان المراد هو تقرير أن هذا أمر مقضي ، أو أن هذا دعاء . فهو في الحالين واحد فالدعاء من الله قرار . .
وتفسر الآيتان التاليتان معنى المطففين . فهم : { الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون . وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } . . فهم الذين يتقاضون بضاعتهم وافية إذا كانوا شراة . ويعطونها للناس ناقصة إذا كانوا بائعين . .
ثم تعجب الآيات الثلاثة التالية من أمر المطففين ، الذين يتصرفون كأنه ليس هناك حساب على ما يكسبون في الحياة الدنيا؛ وكأن ليس هناك موقف جامع بين يدي الله في يوم عظيم يتم فيه الحساب والجزاء أمام العالمين : { ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم؟ يوم يقوم الناس لرب العالمين؟ } . .
والتصدي لشأن المطففين بهذا الأسلوب في سورة مكية أمر يلفت النظر . فالسورة المكية عادة توجه اهتمامها إلى أصول العقيدة الكلية : كتقرير وحدانية الله ، وانطلاق مشيئته ، وهيمنته على الكون والناس . . وكحقيقة الوحي والنبوة . . وكحقيقة الآخرة والحساب والجزاء . مع العناية بتكوين الحاسة الأخلاقية في عمومها ، وربطها بأصول العقيدة . أما التصدي لمسألة بذاتها من
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1487)(1/321)
مسائل الأخلاق كمسألة التطفيف في الكيل والميزان والمعاملات بصفة عامة ، فأمر جاء متأخراً في السورة المدنية عند التصدي لتنظيم حياة المجتمع في ظل الدولة الإسلامية ، وفق المنهج الإسلامي ، الشامل للحياة . .
ومن ثم فإن التصدي لهذا الأمر بذاته في هذه السورة المكية أمر يستحق الانتباه . وهو يشي بعدة دلالات متنوعة ، تكمن وراء هذه الآيات القصار . .
إنه يدل أولاً على أن الإسلام كان يواجه في البيئة المكية حالة صارخة من هذا التطفيف يزاولها الكبراء ، الذي كانوا في الوقت ذاته هم أصحاب التجارات الواسعة ، التي تكاد تكون احتكاراً . فقد كانت هنالك أموال ضخمة في أيدي هؤلاء الكبراء يتجرون بها عن طريق القوافل في رحلتي الشتاء والصيف إلى اليمن وإلى الشام . كما افتتحوا أسواقاً موسمية كسوق عكاظ في موسم الحج ، يقومون فيها بالصفقات ويتناشدون فيها الأشعار!
والنصوص القرآنية هنا تشي بأن المطففين الذين يتهددهم الله بالويل ، ويعلن عليهم هذه الحرب ، كانوا طبقة الكبراء ذوي النفوذ ، الذي يملكون إكراه الناس على ما يريدون . فهم يكتالون { على الناس } . . لا من الناس . . فكأن لهم سلطاناً على الناس بسبب من الأسباب ، يجعلهم يستوفون المكيال والميزان منهم استيفاء وقسراً . وليس المقصود هو أنهم يستوفون حقاً .
وإلا فليس في هذا ما يستحق إعلان الحرب عليهم . إنما المفهوم أنهم يحصلون بالقسر على أكثر من حقهم ، ويستوفون ما يريدون إجباراً . فإذا كالوا للناس أو وزنوا كان لهم من السلطان ما يجعلهم ينقصون حق الناس ، دون أن يستطيع هؤلاء منهم نصفة ولا استيفاء حق . . ويستوي أن يكون هذا بسلطان الرياسة والجاه القبلي . أو بسلطان المال وحاجة الناس لما في أيديهم منه؛ واحتكارهم للتجارة حتى يضطر الناس إلى قبول هذا الجور منهم؛ كما يقع حتى الآن في الأسواق . . فقد كانت هناك حالة من التطفيف صارخة استحقت هذه اللفتة المبكرة .
كما أن هذه اللفتة المبكرة في البيئة المكية تشي بطبيعة هذا الدين؛ وشمول منهجه للحياة الواقعية وشؤونها العملية؛ وإقامتها على الأساس الأخلاقي العميق الأصيل في طبيعة هذا المنهج الإلهي القويم . فقد كره هذه الحالة الصارخة من الظلم والانحراف الأخلاقي في التعامل . وهو لم يتسلم بعد زمام الحياة الاجتماعية ، لينظمها وفق شريعته بقوة القانون وسلطان الدولة . وأرسل هذه الصيحة المدوية بالحرب والويل على المطففين . وهم يومئذ سادة مكة ، أصحاب السلطان المهيمن لا على أرواح الناس ومشاعرهم عن طريق العقيدة الوثنية فحسب ، بل كذلك على اقتصادياتهم وشؤون معاشهم . ورفع صوته عالياً في وجه الغبن والبخس الواقع على الناس وهم جمهرة الشعب المستغلين لكبرائه المتجرين بأرزاقه ، المرابين المحتكرين ، المسيطرين في الوقت ذاته على الجماهير بأوهام الدين! فكان الإسلام بهذه الصيحة المنبعثة من ذاته ومن(1/322)
منهجه السماوي موقظاً للجماهير المستغلة . ولم يكن قط مخدراً لها حتى وهو محاصر في مكة ، بسطوة المتجبرين ، المسيطرين على المجتمع بالمال والجاه والدين!
ومن ثم ندرك طرفاً من الأسباب الحقيقية التي جعلت كبراء قريش يقفون في وجه الدعوة الإسلامية هذه الوقفة العنيدة . فهم كانوا يدركون ولا ريب أن هذا الأمر الجديد الذي جاءهم به محمد - صلى الله عليه وسلم - ليس مجرد عقيدة تكمن في الضمير ، ولا تتطلب منهم إلا شهادة منطوقة ، بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . وصلاة يقيمونها لله بلا أصنام ولا أوثان . . كلا . لقد كانوا يدركون أن هذه العقيدة تعني منهجاً يحطم كل أساس الجاهلية التي تقوم عليها أوضاعهم ومصالحهم ومراكزهم . وأن طبيعة هذا المنهج لا تقبل مثنوية ولا تلتئم مع عنصر أرضي غير منبثق من عنصرها السماوي؛ وأنها تهدد كل المقومات الأرضية الهابطة التي تقوم عليها الجاهلية . . ومن ثم شنوا عليها تلك الحرب التي لم تضع أوزارها لا قبل الهجرة ولا بعدها . الحرب التي تمثل الدفاع عن أوضاعهم كلها في وجه الأوضاع الإسلامية . لا مجرد الاعتقاد والتصور المجردين . .
والذين يحاربون سيطرة المنهج الإسلامي على حياة البشر في كل جيل وفي كل أرض يدركون هذه الحقيقة . يدركونها جيداً . ويعلمون أن أوضاعهم الباطلة ، ومصالحهم المغتصبة ، وكيانهم الزائف .. . وسلوكهم المنحرف . . هذه كلها هي التي يهددها المنهج الإسلامي القويم الكريم!
والطغاة البغاة الظلمة المطففون في أية صورة من صور التطفيف في المال أو في سائر الحقوق والواجبات هم الذين يشفقون أكثر من غيرهم من سيطرة ذلك المنهج العادل النظيف! الذي لا يقبل المساومة ، ولا المداهنة ، ولا أنصاف الحلول؟
ولقد أدرك ذلك الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نقباء الأوس والخزرج بيعة العقبة الثانية قبل الهجرة : قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري أخو بني سالم بن عوف : يا معشر الخزرج . هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا : نعم . قال : إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس . فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتل أسلمتموه فمن الآن! فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة . وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه ، فهو والله خير الدنيا والآخرة ، قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف . فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال : « الجنة » . قالوا : ابسط يدك . فبسط يده فبايعوه .
فقد أدرك هؤلاء كما أدرك كبراء قريش من قبل طبيعة هذا الدين . وأنه قائم كحد السيف للعدل والنصفة وإقامة حياة الناس على ذلك ، لا يقبل من طاغية طغياناً ، ولا من باغ بغياً ، ولا من(1/323)
متكبر كبراً . ولا يقبل للناس الغبن والخسف والاستغلال . ومن ثم يحاربه كل طاغ باغ متكبر مستغل؛ ويقف لدعوته ولدعاته بالمرصاد .
{ ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم؟ يوم يقوم الناس لرب العالمين؟ } . .وإن أمرهم لعجيب . فإن مجرد الظن بالبعث لذلك اليوم العظيم . يوم يقوم الناس متجردين لرب العالمين ، ليس لهم مولى يومئذ سواه ، وليس بهم إلا التطلع لما يجريه عليهم من قضاء ، وقد علموا أن ليس لهم من دونه ولي ولا نصير . . إن مجرد الظن بأنهم مبعوثون لذلك اليوم كان يكفي ليصدهم عن التطفيف ، وأكل أموال الناس بالباطل ، واستخدام السلطان في ظلم الناس وبخسهم حقهم في التعامل . . ولكنهم ماضون في التطفيف كأنهم لا يظنون أنهم مبعوثون! وهو أمر عجيب ، وشأن غريب!
وقد سماهم المطففين في المقطع الأول . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- حرمة التطفيف في الكيل والوزن وهو أن يأخذ زائداً ولو قل أو ينقص عامداً شيئا ولو قل
2- التطفيف : وهو إنقاص حق الآخر في الكيل أو الوزن ونحوهما من المقاييس حرام شرعا ، موجب للإثم الشديد والعذاب الأليم في الآخرة ، وهو أيضا رذيلة اجتماعية ونقيصة وعيب يطعن في الخلق ، ويؤدي إلى ابتعاد الناس عن فاعله.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :خَمْسٌ بِخَمْسٍ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا خَمْسٌ بِخَمْسٍ؟ قَالَ:مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إِلا سُلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوُّهُمْ، وَمَا حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلا فَشَا فِيهِمُ الْفَقْرُ، وَلا ظَهَرَتْ فِيهِمُ الْفَاحِشَةُ إِلا فَشَا فِيهِمُ الْمَوْتُ، وَلا طفَّفُوا الْمِكْيَالَ إِلا مُنِعُوا النَّبَاتَ وَأُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَلا مَنَعُوا الزَّكَاةَ إِلا حُبِسَ عَنْهُمُ الْقَطْرُ."المعجم الكبير للطبراني (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إِلَّا سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ، وَلَا فَشَتِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ إِلَّا أَخَذَهُمُ اللهُ بِالْمَوْتِ، وَمَا طَفَّفَ قَوْمٌ الْمِيزَانَ إِلَّا أَخَذَهُمُ اللهُ بِالسِّنِينَ ، وَمَا مَنَعَ قَوْمٌ الزَّكَاةَ إِلَّا مَنَعَهُمُ اللهُ الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَمَا جَارَ قَوْمٌ فِي حُكْمٍ إِلَّا كَانَ الْبَأْسُ بَيْنَهُمْ - أَظُنُّهُ قَالَ: وَالْقَتْلُ "شعب الإيمان (3)
3- التذكير بالبعث والجزاء وتقريرهما .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3855)
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (9 / 257) (10830) وصحيح الجامع (3240) والصحيحة (107) حسن لغيره
(3) - شعب الإيمان - (5 / 21) (3039 ) صحيح(1/324)
4- عظم يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين ليحكم بينهم ويجزي كلا بعمله خيرا أو شرا
5- قوله تعالى : أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ توبيخ للمطففين ، وإنكار وتعجيب عظيم من حالهم ، في الاجتراء على التطفيف ، كأنهم لا يظنون أنهم مبعوثون يوم القيامة ، فمسئولون عما يفعلون. والظن هنا كما تقدم بمعنى اليقين ، أي ألا يوقن أولئك ، ولو أيقنوا ما نقصوا في الكيل والوزن. وهذا دليل على أن التطفيف من الكبائر.
وهذا الوعيد يتناول من يفعل ذلك ، ومن يعزم عليه إذ العزم عليه أيضا من الكبائر (1) .
وأكثر العلماء على أن قليل التطفيف وكثيره يوجب الوعيد ، وبالغ بعضهم كما تقدم ، حتى عدّ العزم عليه من الكبائر.
وقال الشيخ أبو القاسم القشيري رحمه اللّه : لفظ المطفف يتناول التطفيف في الوزن والكيل ، وفي إظهار العيب وإخفائه ، وفي طلب الإنصاف والانتصاف ، ومن لم يرض لأخيه المسلّم ما يرضاه لنفسه ، فليس بمنصف ، والذي يرى عيب الناس ولا يرى عيب نفسه ، فهو من هذه الجملة ، ومن طلب حق نفسه من الناس ، ولا يعطيهم حقوقهم ، كما يطلب لنفسه ، فهو من هذه الجملة ، والفتى من يقضي حقوق الناس ، ولا يطلب من أحد لنفسه حقا (2) .
6- قوله : يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي للعرض والحساب ، فيه غاية التخويف لأن جلال اللّه وعظمته يملآن النفس رهبة وهيبة ، والقيام له شيء حقير أمام عظمته وحقه.
والخلاصة كما ذكر الرازي : جمع اللّه سبحانه في هذه الآية أنواعا من التهديد ، فقال أولا : وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ وهذه الكلمة تذكر عند نزول البلاء ، وهذه الكلمة تذكر عند نزول البلاء ، ثم قال ثانيا : أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ وهو استفهام بمعنى الإنكار ، ثم قال ثالثا : لِيَوْمٍ عَظِيمٍ والشيء الذي يستعظمه اللّه لا شك أنه في غاية العظمة ، ثم قال رابعا : يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وفيه نوعان من التهديد :
أحدهما- كونهم قائمين مع غاية الخشوع ونهاية الذل والانكسار.
والثاني- أنه وصف نفسه بكونه ربا للعالمين (3) .
7- الْقِيَامُ لِلْقَادِمِ وَالْوَالِدِ وَالْحَاكِمِ وَالْعَالِمِ وَأَشْرَافِ الْقَوْمِ (4) :
وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْقِيَامِ لِلْقَادِمِ إِذَا كَانَ بِقَصْدِ الْمُبَاهَاةِ وَالسُّمْعَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ ، قَال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّل لَهُ الرِّجَال قِيَامًا ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ (5) ، وَثَبَتَ جَوَازُ الْقِيَامِ لِلْقَادِمِ إِذَا كَانَ بِقَصْدِ
__________
(1) - وهذا رأي الرازي ، تفسير الرازي : 31/ 89
(2) - غرائب القرآن : 30/ 49
(3) - تفسير الرازي : 31/ 90- 91
(4) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (34 / 114) وفتاوى يسألونك - (3 / 170)
(5) - سنن الترمذى- المكنز (2979 ) حسن(1/325)
إِكْرَامِ أَهْل الْفَضْل ، فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ - هُوَ ابْنُ مُعَاذٍ - بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ ، فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ ، فَلَمَّا دَنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ » . فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ « إِنَّ هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ » . قَالَ فَإِنِّى أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ ، وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ . قَالَ « لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ » صحيح البخارى (1) ..
قَال النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ (2) مُعَلِّقًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ : فِيهِ إِكْرَامُ أَهْل الْفَضْل ، وَتَلَقِّيهِمْ بِالْقِيَامِ لَهُمْ ، إِذَا أَقْبَلُوا ، وَاحْتَجَّ بِهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ لاِسْتِحْبَابِ الْقِيَامِ ، قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْقِيَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِيمَنْ يَقُومُونَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ جَالِسٌ ، وَيَمْثُلُونَ قِيَامًا طِوَال جُلُوسِهِ ، وَأَضَافَ النَّوَوِيُّ : قُلْتُ : الْقِيَامُ لِلْقَادِمِ مِنْ أَهْل الْفَضْل مُسْتَحَبٌّ ، وَقَدْ جَاءَ فِيهِ أَحَادِيثُ ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي النَّهْيِ عَنْهُ شَيْءٌ صَرِيحٌ .
وَيُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ لأَِهْل الْفَضْل كَالْوَالِدِ وَالْحَاكِمِ ؛ لأَِنَّ احْتِرَامَ هَؤُلاَءِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا وَأَدَبًا .
وَقَال الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ : وَإِكْرَامُ الْعُلَمَاءِ وَأَشْرَافِ الْقَوْمِ بِالْقِيَامِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ (3) .
وَنَقَل ابْنُ الْحَاجِّ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ - فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيل - أَنَّ الْقِيَامَ يَكُونُ عَلَى أَوْجُهٍ :
الأَْوَّل : يَكُونُ الْقِيَامُ مَحْظُورًا ، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ إِكْبَارًا وَتَعْظِيمًا لِمَنْ يُحِبُّ أَنْ يُقَامَ إِلَيْهِ تَكَبُّرًا وَتَجَبُّرًا .
الثَّانِي : يَكُونُ مَكْرُوهًا ، وَهُوَ قِيَامُهُ إِكْبَارًا وَتَعْظِيمًا وَإِجْلاَلاً لِمَنْ لاَ يُحِبُّ أَنْ يُقَامَ إِلَيْهِ ، وَلاَ يَتَكَبَّرُ عَلَى الْقَائِمِينَ إِلَيْهِ .
الثَّالِثِ : يَكُونُ جَائِزًا ، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ تَجِلَّةً وَإِكْبَارًا لِمَنْ لاَ يُرِيدُ ذَلِكَ ، وَلاَ يُشْبِهُ حَالُهُ حَال الْجَبَابِرَةِ ، وَيُؤْمَنُ أَنْ تَتَغَيَّرَ نَفْسُ الْمَقُومِ إِلَيْهِ .
الرَّابِعِ : يَكُونُ حَسَنًا ، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ لِمَنْ أَتَى مِنْ سَفَرٍ فَرَحًا بِقُدُومِهِ ، أَوْ لِلْقَادِمِ عَلَيْهِ سُرُورًا بِهِ لِتَهْنِئَتِهِ بِنِعْمَةٍ ، أَوْ يَكُونَ قَادِمًا لِيُعَزِّيَهُ بِمُصَابٍ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ (4) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ : وَقَدْ قَال الْعُلَمَاءُ : يُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالإِْمَامِ الْعَادِل وَفُضَلاَءِ النَّاسِ ، وَقَدْ صَارَ هَذَا كَالشِّعَارِ بَيْنَ الأَْفَاضِل . فَإِذَا تَرَكَهُ الإِْنْسَانُ فِي حَقِّ مَنْ يَصْلُحُ أَنْ يَفْعَل فِي حَقِّهِ لَمْ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز (3043 )
(2) - شرح مسلم 12 / 93 .
(3) - الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 260 .
(4) - المدخل لابن الحاج 1 / 139 طبع . الإسكندرية سنة 1291هـ .(1/326)
يَأْمَنْ أَنْ يَنْسُبَهُ إِلَى الإِْهَانَةِ وَالتَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِ ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ حِقْدًا ، وَاسْتِحْبَابُ هَذَا فِي حَقِّ الْقَائِمِ لاَ يَمْنَعُ الَّذِي يُقَامَ لَهُ أَنْ يَكْرَهَ ذَلِكَ ، وَيَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ (1) .
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ : وَيُسَنُّ الْقِيَامُ لِنَحْوِ عَالِمٍ وَمُصَالِحٍ وَصَدِيقٍ وَشَرِيفٍ لاَ لأَِجْل غِنًى ، وَبَحَثَ بَعْضُهُمْ وُجُوبَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الأَْزْمِنَةِ ؛ لأَِنَّ تَرْكَهُ صَارَ قَطِيعَةً (2) .
وعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ سَمْتًا وَدَلاًّ وَهَدْيًا بِرَسُولِ اللَّهِ فِى قِيَامِهَا وَقُعُودِهَا مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَتْ وَكَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ إِلَيْهَا فَقَبَّلَهَا وَأَجْلَسَهَا فِى مَجْلِسِهِ وَكَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ فِى مَجْلِسِهَا فَلَمَّا مَرِضَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَتْ فَاطِمَةُ فَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ فَقَبَّلَتْهُ ثُمَّ رَفَعَتْ رَأْسَهَا فَبَكَتْ ثُمَّ أَكَبَّتْ عَلَيْهِ ثُمَّ رَفَعَتْ رَأْسَهَا فَضَحِكَتْ فَقُلْتُ إِنْ كُنْتُ لأَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ مِنْ أَعْقَلِ نِسَائِنَا فَإِذَا هِىَ مِنَ النِّسَاءِ فَلَمَّا تُوُفِّىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ لَهَا أَرَأَيْتِ حِيْنَ أَكْبَبْتِ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَرَفَعْتِ رَأْسَكِ فَبَكَيْتِ ثُمَّ أَكْبَبْتِ عَلَيْهِ فَرَفَعْتِ رَأْسَكِ فَضَحِكْتِ مَا حَمَلَكِ عَلَى ذَلِكَ قَالَتْ إِنِّى إِذًا لَبَذِرَةٌ أَخْبَرَنِى أَنَّهُ مَيِّتٌ مِنْ وَجَعِهِ هَذَا فَبَكَيْتُ ثُمَّ أَخْبَرَنِى أَنِّى أَسْرَعُ أَهْلِهِ لُحُوقًا بِهِ فَذَاكَ حِينَ ضَحِكْتُ.. (3)
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هِلَالٍ ، عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا خَرَجَ قُمْنَا لَهُ حَتَّى يَدْخُلَ بَيْتَهُ . رَوَاهُ الْبَزَّارُ (4) .
وعَنْ أَبِى أُمَامَةَ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَقَالَ « لاَ تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا » سنن أبي داود . (5) .
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ."سنن الترمذى (6) .
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - مختصر منهاج القاصدين ص249 .
(2) - القليوبي 3 / 213 .
(3) - سنن الترمذى- المكنز (4246 ) حسن
(4) - مسند البزار كاملا - (8391) وَرِجَالُ الْبَزَّارِ ثِقَاتٌ
(5) - سنن أبي داود - المكنز (5232 ) ضعيف
(6) - سنن الترمذى- المكنز -(2978 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.(1/327)
ديوان الشر وقصة الفجار
قال تعالى :
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
المناسبة :
بعد بيان عظم ذنب التطفيف ، وبيان سببه وهو إنكار البعث والحساب أو الغفلة عنهما ، ردعهم اللّه تعالى عن الأمرين معا ، ثم بيّن أن كل ما يعمل من خير أو شر ، فإنه مكتوب مسطر عند اللّه ، وأوعد منكري البعث المكذبين به ، والقائلين بأن القرآن أساطير الأولين ، وليس وحيا من عند اللّه ، ثم زجرهم عن هذه المقولة الباطلة ، وأوضح سببها وهو انغماسهم في المعاصي التي حجبت قلوبهم عن رؤية الحق والباطل ، فصاروا لا يميزون بين الخير والشر ، وأعقب ذلك بيان جزائهم وهو طردهم من رحمة اللّه ودخولهم نار جهنم وملازمتهم لها.
وقدّم ديوان الشر عن ديوان الخير لأن المذكور قبله هو وعيد أهل الفجور ، فناسب إيراد حال الأشرار أولا.
المفردات :
8 ... سِجِّيٌن ... السجن الضيق
9 ... مَرْقُومٌ ... مكتوب
12 ... مُعْتَدٍ ... ظالم مضيع لحقوق ربه
12 ... أَثِيمٍ ... منغمس في الإثم
13 ... أَسَاطِيرِ الأَوَّلِينَ ... ما سطره الأولون من الأباطيبل
14 ... رَانَ ... غلب وغطى
14 ... يَكْسِبُونَ ... أي من الذنوب
15 ... لَمَحْجُوبُونَ ... يحال بين الكافرين وبين رؤية الله تعالى
16 ... لَصَالُوا الجَحِيمِ ... يحرق الكافرون بالنار
المعنى الإجمالي:
بعد أن ذكر أنه لا يقيم على التطفيف إلا من ينكر ما أوعد اللّه به من العرض والحساب وعذاب الكفار والعصاة - أمرهم بالكف عما هم فيه ، وذكر أن الفجار قد أعدّ لهم كتاب أحصيت فيه(1/328)
جميع أعمالهم ليحاسبوا بها ، فويل للمكذبين بيوم الجزاء ، وما يكذب به إلا كل من تجاوز حدود الدين وانتهك حرماته ، وإذا تليت عليهم آيات القرآن قالوا ما هى إلا أقاصيص الأولين نقلها محمد عن السابقين ، وليست وحيا يوحى كما يدعى. (1)
الويل والهلاك للمكذبين ، الذين يكذبون بيوم الدين ، ومنشأ ذلك هو كثرة الاعتداء وتجاوز الحدود ، وارتكاب الآثام والشرور ولذا يقول اللّه : وما يكذب به إلا كل معتد أثيم ، وتأويل ذلك أن النفس التي اعتادت الظلم والطغيان والبغي والاسترسال في الشرور والآثام يصعب عليها جدا الإذعان لأخبار الآخرة والتصديق بها ، فإن تصديقها - مع هذه الأعمال - حكم صريح عليها بالسفه والجنون ، وهذه النفس تكون جامحة طامحة ، فصاحبها يعللها ، ويهون عليها الأمر بالتغافل والتكذيب بيوم القيامة ، أو التعلق بالأمانى الباطلة. تلك حقائق قرآنية نادى بها العلم الحديث فلذلك إذا تليت آيات القرآن التي تنادى بإثبات البعث على هذه النفس لم يكن منها إلا أن تقول : تلك أساطير الأولين وأكاذيبهم ، حكيت لنا وأثرت عنهم ، ولكنها أحاديث لا حقيقة لها ، ولا تستحق النظر.
« كلا » ليست آيات القرآن أساطير ، وإنما هي الحق لا مراء فيه ، إنما دفعهم إلى هذا وجرأهم عليه أعمالهم السيئة التي مرنوا عليها ودربوا حتى اسودت قلوبهم ، وران عليها الفساد فلم تعد تبصر الخير على أنه خير ، فإن الرين الذي ينشأ عن الذنب كالصدإ على المرآة ، والتوبة تجلوه : ومداومة العمل الفاسد تجعل الفساد ملكة عند الإنسان فيعمل الشر بلا تفكير ولا روية ، وذلك هو الرين أو الطبع أو القفل.
كان الكفار لسوء تفكيرهم ، وغرورهم بأنفسهم يقولون : إن كان محمد صادقا في أن هناك بعثا ، فنحن في المنزلة العليا والدرجة الرفيعة ، وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ « 1 » .
وهنا بين اللّه للكفار الفجار منزلتهم يوم القيامة فقال : إنهم عند ربهم يومها لمحجوبون عن رؤيته ، ولممنوعون عن خيره وبره ، ثم إنهم يومها لداخلون جهنم ، وذائقون حرها وجحيمها ، ثم يقال لهم من قبل الملائكة تأنيبا وتوبيخا : هذا هو العذاب والجزاء الحق الذي كنتم إذا سمعتم خبره تكذبون به وتكفرون ، وها أنتم أولاء قد عاينتموه بأنفسكم بل وذقتم مره! « كلا » ردع لهم عما هم فيه ليعقب بوعد الأبرار كما عقب سابقا بوعيد الفجار ، إن كتاب الأبرار لفي عليين ، نعم كتاب حسناتهم مسجل في ديوان عمل الأبرار.
__________
(1) - تفسير المراغي ، ج 30 ، ص : 75(1/329)
فسيجازون على عملهم أحسن الجزاء ، والعرب تصف ما يدل على السرور والسعادة بالعلو والطهارة والفسحة والوجاهة ، كما أن وصف الشيء بالسفل والضيق والظلمة يدل على الحزن والكآبة لذلك كان كتاب الأبرار في عليين ، وكتاب الفجار في سجين (1)
التفسير والبيان :
كَلَّا ، إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ أي ارتدعوا وانزجروا عما أنتم عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب ، فإن الفجار ومنهم المطففون أعمالهم مكتوبة في ديوان الشر وسجل أهل النار وهو السجين ، أو في حبس وضيق شديد ، فكلمة سِجِّينٍ من السجن : وهو الضيق والحبس.
وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ ؟ كِتابٌ مَرْقُومٌ أي وما أعلمك أنت ولا قومك ما هو السجين ؟ إنه الكتاب الذي رصدت فيه أسماؤهم ، فهو كتاب مسطور بيّن الكتابة ، جامع لأعمال الشر الصادر من الشياطين والكفرة والفسقة. وهذا السجل المسمى بالسجين هو السجل الكبير أو العظيم ، الذي فيه لكل فاجر صحيفة.
وهذا هو الظاهر في معنى كلمة سِجِّينٍ. وقد عرفنا سابقا أن بعضهم يرى أن السجين هو مكان وهو جهنم وهي أسفل السافلين ، لذا قال محمد بن كعب القرظي : قوله تعالى : كِتابٌ مَرْقُومٌ ليس تفسيرا لقوله : وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ ؟ وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير إلى سجين ، أي مرقوم مكتوب مفروغ منه ، لا يزاد فيه أحد ، ولا ينقص منه أحد (2) . وهو رأي النحويين كما تقدم.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي عذاب شديد يوم القيامة لمن كذب بالبعث والجزاء وبما جاء به الرسل ، فهؤلاء المكذبون هم الذين لا يصدقون بوقوع الجزاء ، ولا يعتقدون كونه ، ويستبعدون أمره. وهذا وعيد للذم لا للبيان لأن كل مكذب فالوعيد يتناوله ، سواء كان مكذبا بالبعث أو بسائر آيات اللّه تعالى.
ثم أبان اللّه تعالى صفات من يكذب بيوم الدين وهي ثلاث ، فقال : وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ ، أَثِيمٍ ، إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي لا يكذب بيوم الدين إلا من كان متصفا بهذه الصفات الثلاث :
وهي أولا- كونه معتديا ، أي فاجرا جائرا متجاوزا منهج الحق ، ثانيا- أنه أثيم : وهو المنهمك في الإثم في أفعاله ، من تعاطي الحرام وتجاوز المباح ، وفي أقواله : إن حدّث كذب ، وإن وعد أخلف ، وإن خاصم فجر ، وثالثا- أنه إذا تلي عليه القرآن قال : أساطير الأولين ، أي
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 838)
(2) - تفسير ابن كثير : 4/ 485(1/330)
أخبار الأولين المتقدمين وأكاذيبهم وأباطيلهم التي زخرفوها ، تلقاها محمد - صلى الله عليه وسلم - من غيره من السابقين ، وهذا يعني في زعمهم أن القرآن ليس وحيا من عند اللّه تعالى.
وهذه الصفة الثالثة تشبه قوله تعالى : وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ؟ قالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النحل 16/ 24] وقال سبحانه : وَقالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها ، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان 25/ 5] قيل : نزل هذا في الوليد بن المغيرة وأبي جهل ونظرائهما.
ثم بيّن اللّه تعالى أسباب افترائهم على القرآن ، فقال : كَلَّا ، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي ارتدعوا وانزجروا عن هذه الأقوال ، فليس الأمر كما زعمتم أيها المعتدون الآثمون ، ولا كما قلتم : إن هذا القرآن أساطير الأولين ، بل هو كلام اللّه ، ووحيه ، وتنزيله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما السبب هو كثرة الذنوب والخطايا التي حجبت قلوبكم عن الإيمان بالقرآن ، والتي كوّنت عليها الرّين الذي منع نفاذ الحق والخير والنور إليها ، فأعماها عن رؤية الحقيقة. والرين : يعتري قلوب الكافرين ، فقوله : رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ أي غطى عليها.
أخرج ابن جرير وأحمد والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن العبد إذا أذنب ذنبا ، نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب ونزع واستغفر ، صقل قلبه ، وإن عاد زادت حتى تغلف قلبه ، فذلك الران الذي ذكره اللّه سبحانه في القرآن » .
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو ابْنِ هِنْدٍ الْجَمَلِيِّ ، قَالَ : قَالَ عَلِيٌّ : الإِيمَانُ يَبْدَأُ نُقْطَةً بَيْضَاءَ فِي الْقَلْبِ ، كُلَّمَا ازْدَادَ الإِيمَانُ ازْدَادَتْ بَيَاضًا حَتَّى يَبْيَضَّ الْقَلْبُ كُلُّهُ ، وَالنِّفَاقُ يَبْدَأُ نُقْطَةً سَوْدَاءَ فِي الْقَلْبِ كُلَّمَا ازْدَادَ النِّفَاقُ ازْدَادَتْ سَوَادًا حَتَّى يَسْوَدَّ الْقَلْبُ كُلُّهُ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ شَقَقْتُمْ ، عَنْ قَلْبِ مُؤْمِنٍ لَوَجَدْتُمُوهُ أَبْيَضَ ، وَلَوْ شَقَقْتُمْ ، عَنْ قَلْبِ مُنَافِقٍ لَوَجَدْتُمُوهُ أَسْوَدَ الْقَلْب " مصنف ابن أبي شيبة (1)
وقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ : سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ يَقُولُ : " قَلْبُ الْمُؤْمِنِ أَبْيَضُ نَقِيٌّ مَجْلِيٌّ مُحَلًّى مِثْلَ الْمِرْآةِ ، فَلَا يَأْتِيهُ الشَّيْطَانُ مِنْ نَاحِيَةٍ مِنَ النَّوَاحِي بِشَيْءٍ مِنَ الْمَعَاصِي إِلَّا نَظَرَ إِلَيْهِ كَمَا يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ فِي الْمِرْآةِ ، فَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ، فَإِنْ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ مُحِيَتِ النُّكْتَةُ مِنْ قَلْبِهِ وَانْجَلَى ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ وَعَاوَدَ أَيْضًا ، وَتَتَابَعَتِ الذُّنُوبُ ، ذَنْبٌ بَعْدَ ذَنْبٍ ، نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ نُكْتَةٌ حَتَّى يَسْوَدَّ الْقَلْبُ ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ، قَالَ : " الذَّنْبُ بَعْدَ الذَّنْبِ ، حَتَّى يَسْوَدَّ الْقَلْبُ فِي إِبْطَاءٍ ، مَا نَجَعَ فِي هَذَا الْقَلْبِ الْمَوَاعِظُ ، فَإِنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ قَبِلَهُ اللَّهُ وَانْجَلَى عَنْ قَلْبِهِ كَجَلْيِ الْمِرْآةِ " شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ (2)
والطبع : أن يطبع على القلب ، وهو أشد من الرين.
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة - (15 / 582) (30957) حسن
(2) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ (6952 )(1/331)
ثم أبان اللّه تعالى أنهم مطرودون من أي رحمة أو تكريم ، فقال : كَلَّا ، إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ أي ليس الأمر كما يقولون من أن لهم في الآخرة منزلة حسنى ، بل إن هؤلاء الكفار محجوبون عن ربهم يوم القيامة ، لا ينظرون إليه كما ينظر المؤمنون ، فكما حجبهم في الدنيا عن توحيده بسبب سوء أعمالهم ، حجبهم في الآخرة عن رؤيته وكرامته.
قال الإمام الشافعي رضي اللَّه عنه : وفي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل يومئذ (1) .
وهذا استدلال بمفهوم الآية ، يدل عليه منطوق قوله تعالى : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة 75/ 22- 23].
ثم إنهم مع هذا الحرمان عن رؤية الرحمن هم من أهل النيران ، فهم داخلو النار ، وملازموها غير خارجين منها ، ومقاسو حرها ، وصليّ الجحيم أشد من الإهانة وحرمان الكرامة.
ويقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ : ثُمَّ يُقالُ : هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي تقول لهم خزنة جهنم وزبانيتها تبكيتا لهم وتوبيخا : هذا هو العذاب الذي كنتم تكذبون به في الدنيا ، فانظروه وذو قوه.
ومضات :
في الآيات حملة شديدة على الفجّار المكذّبين بيوم الدين. وقد ابتدأت بالردع والزجر للتنبيه على أن الأمر أعظم مما يظنون. ثم آذنتهم بأن مصير الفجّار قد كتب وتقرر في الهوة السحيقة المظلمة المعدّة لعذابهم يوم القيامة. وما أعظم هولها. والويل لهم في يوم الجزاء الذي يكذّبون به. ولا يكذّب به إلّا كل أثيم باغ إذا سمع آيات اللّه هزأ بها وقال إنها ليست إلّا أساطير الأولين. والحقيقة من أمرهم أن ما اقترفوه من آثام وجبلت عليه نفوسهم من شر وخبث قد غطّى على بصائرهم وحجّر قلوبهم. وإنهم لمبعدون عن اللّه ورضوانه. ولسوف يصلون الجحيم ، ويقال لهم عند ذلك هذا الذي كنتم به تكذّبون.
ويربط بين هذه الآيات وما قبلها الإنذار بالبعث ليوم الدين العظيم الذي يقف الناس فيه بين يديّ اللّه. فهي والحالة هذه متصلة بها سياقا وموضوعا.
والحملة قويّة مفزعة من شأنها بالإضافة إلى واجب الإيمان بالمشهد الأخروي إثارة الرعب في قلوب السامعين وحملهم على الارعواء من جهة ، وقد انطوت على صورة لما كان عليه الكفار
__________
(1) - تفسير ابن كثير : 4/ 485(1/332)
من شدّة العناد والمكابرة حين نزولها من جهة أخرى ، والإنذار متحقق بالنسبة للذين ظلوا على كفرهم وإثمهم.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِى قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِى ذَكَرَ اللَّهُ ( كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) »سنن الترمذى (1) .
حيث ينطوي في الحديث تفسير وتبشير وإنذار معا. وقد أورد المفسرون أقوالا لابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم تفيد أن القصد من الجملة هو بيان ما يحدثه الكفر والآثام في قلب صاحبها من تحجّر وانغلاق وموتان. (2)
وقوله تعالى : « كَلَّا .. إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ».. كلّا هو رد على قوله تعالى : « أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ؟ »..وكلا .. إنهم لا يظنون أنهم مبعوثون ، ولو ظنوا أنهم مبعوثون ما فعلوا هذا الذي فعلوه من التطفيف فى الكيل والميزان ..
وقوله تعالى : « كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ » ـ هو إشارة إلى أن هؤلاء المطففين من الفجار ، الذين خرجوا على حدود اللّه ، وأن كتابهم الذي سجلت فيه أعمالهم المنكرة ، كتاب منكر ، فى مكان منكر.
والسجّين : مكان مطبق ، مغلق على هذا الكتاب ، وهو مبالغة من السجن ، وهو الحبس .. وفى هذا إشارة إلى أن هذا الكتاب ـ لما يضم من شنائع ومنكرات ـ قد ألقى به فى مكان بعيد عن الأعين ، كما تلقى الجيف ، أو يردم على الرمم.
وقوله تعالى : « وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ » تهويل ، وتشنيع ، على هذا المكان الذي ضمّ هذا الكتاب العفن ، الذي تفوح منه رائحة هذه المنكرات الخبيثة ..
وقوله تعالى : « كِتابٌ مَرْقُومٌ » هو بدل من « سجين ».
. حيث يدل ذلك على أن هذا الكتاب المنكر ، والمكان الذي ألقى فيه ، قد صار شيئا واحدا ، هو هذا الكتاب المرقوم ، أي الموسوم بتلك العلامات ، والشواهد الدالة على ما ضم عليه من آثام ومنكرات ..
قوله تعالى : « وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ » هو تهديد ووعيد لهؤلاء الذين يكذبون بالبعث ، ولا يظنون أنهم مبعوثون ليوم عظيم .. إن لهم الويل ، والهلاك ، والعذاب الأليم فى هذا اليوم العظيم ، الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين ..
وقوله تعالى : « وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ »
__________
(1) - سنن الترمذى (3654 ) قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.-الران : الغطاء -سقل : جلا
(2) - التفسير الحديث ، ج 5 ، ص : 511(1/333)
أي أنه لا يكذب بهذا اليوم إلا كل معتد على حرمات اللّه ، غارق فى الإثم والضلال ..
وإن من كان هذا شأنه من التهالك على المنكر ، ولا ستغراق فى الإثم ، هو فى سكرة مما هو فيه ، لا يود أن يفيق منها أبدا ، ولا ينتظر لليلة سكره صباحا ، يقطع عنه أضغاث أحلامه ، وهذيان خماره.
إن آفة الذين لا يؤمنون باليوم الآخر ، ليست عن حجة من عقل أو منطق ، وإنما هى كامنة فى تلك الشهوات المستبدة بهم ، والمتسلطة عليهم ، والتي من شأنها ـ لكى تضمن وجودها ، وتدافع عن بقائها ـ أن تدفع كل خاطر يزحمها ، أو طارق يتهدد وجودها .. فإذا اتجهت النفس إلى الإيمان باليوم الآخر ، بدا لها هذا القيد الذي يقيدها به الإيمان ، ويحول بينها وبين هذا المرعى الذي تنطلق فيه هائمة على وجهها .. وهنا يضعف ذوو النفوس الخبيثة عن قبول هذا الالتزام بالوقوف عند حدود اللّه ، فيتهمون هذا الهاتف الذي يهتف فى ضمائرهم بالإيمان باللّه واليوم الآخر ليظلّوا عاكفين على ما هم فيه من آثام ومنكرات. روى أن الأعشى الشاعر الجاهلى ، حين سمع بأمر النبىّ ، جاء يريد الإسلام ، فتلقته قريش ، وقالوا له إن محمدا يحرّم الزنا ، فقال : هذا لا إربة لى فيه ، فقالوا : إنه يحرم الخمر ، فقال : أما هذه ، فإنها شهوة نفسى ، وعندى خابية منها ، سأروى نفسى منها سنة ، ثم أعود فأدخل فى دين محمد .. فرجع ولكنه لم يعد ، فقد مات فى عامه هذا!! وهكذا يتعلل أصحاب المنكرات بالعلل والمعاذير ، حتى يموتوا على ما هم عليه من ضلال ..
وقوله تعالى : « كَلَّا .. بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ».كلا ، هو ردّ على قول هذا المعتدى الأثيم ، الذي إذا تتلى عليه آيات اللّه قال : « أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ».
. إنه يغمض عينيه عن هذا النور المشع ، الذي يبدّد ظلام ليله الغارق فى. لذاته ، بتلك القولة الضالة التي يقولها عن كتاب اللّه :
« أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ » !! وكلا .. ليس الأمر كما زعم ، ضلالا ، وافتراء .. وإنما قد ران على قلبه هذا الإثم الذي غرق فيه ، فلم يعد يرى حقّا ، أو يهتدى إلى حقّ! و« رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ » أي غطى على قلوبهم .. والرّين على الشيء حجبه ، وتغطيته.
وقوله تعالى : «كَلَّا .. إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ».
هو توكيد لهذا الرّين الذي غطى قلوبهم ، وأنه قد صحبهم إلى الآخرة ، فحجبهم اللّه سبحانه وتعالى عن رؤيته ، وعن موقع رحمته وإحسانه ، كما حجبوا هم أنفسهم بآثامهم عن رؤية الحقّ فى الدنيا.
وقوله تعالى : « ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ ، ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ».(1/334)
أي وليس حجبهم عن اللّه سبحانه وتعالى فى الآخرة ، وبعدهم عن مواقع رحمته ، هو كل جزائهم فى الآخرة ، وإن كان جزاء أليما ، وعقابا زاجرا ، بل إن وراء هذا نارا تلظّى ، يلقون فيها ، ويكونون حطبا لها .. ثم لا يتركون هكذا للنار تأكلهم ، وترعى فى أجسامهم ، بل ينخسون بهذه القوارع ، بما يرجمون به من كل جانب ، من ملائكة جهنم وخزنتها بقولهم لهم : « ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ » فذوقوه لتعلموا إن كان ما كذبتم به حقا أو غير حق ، واقعا أو غير واقع : « فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا » ؟ (44 : الأعراف) (1)
إنهم لا يظنون أنهم مبعوثون ليوم عظيم . . فالقرآن يردعهم عن هذا ويزجرهم ، ويؤكد أن لهم كتاباً تحصى فيه أعمالهم . . ويحدد موضعه زيادة في التوكيد . ويوعدهم بالويل في ذلك اليوم الذي يعرض فيه كتابهم المرقوم : { كلا . إن كتاب الفجار لفي سجين . وما أدراك ما سجين؟ كتاب مرقوم . ويل يومئذ للمكذبين } ! .
والفجار هم المتجاوزون للحد في المعصية والإثم . واللفظ يوحي بذاته بهذا المعنى . وكتابهم هو سجل أعمالهم . ولا ندري نحن ماهيته ولم نكلف هذا . وهو غيب لا نعرف عنه إلا بمقدار ما يخبرنا عنه صاحبه ولا زيادة فهناك سجل لأعمال الفجار يقول القرآن : إنه في سجين . ثم يسأل سؤال الاستهوال المعهود في التعبير القرآني : { وما أدراك ما سجين؟ } فيلقي ظلال التفخيم ويشعر المخاطب أن الأمر أكبر من إدراكه ، وأضخم من أن يحيط به علمه . ولكنه بقوله : { إن كتاب الفجار لفي سجين } يكون قد حدد له موضعاً معيناً ، وإن يكن مجهولاً للإنسان . وهذا التحديد يزيد من يقين المخاطب عن طريق الإيحاء بوجود هذا الكتاب . وهذا هو الإيحاء المقصود من وراء ذكر هذه الحقيقة بهذا القدر ، دون زيادة .
ثم يعود إلى وصف كتاب الفجار ذاك فيقول : إنه { كتاب مرقوم } . . أي مفروغ منه ، لا يزاد فيه ولا ينقص منه ، حتى يعرض في ذلك اليوم العظيم .
فإذا كان ذلك : كان { ويل يومئذ للمكذبين } !
ويحدد موضوع التكذيب ، وحقيقة المكذبين :{ الذين يكذبون بيوم الدين . وما يكذب به إلا كل معتد أثيم . إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين } . .فالاعتداء والإثم يقودان صاحبهما إلى التكذيب بذلك اليوم؛ وإلى سوء الأدب مع هذا القرآن فيقول عن آياته حين تتلى عليه : { أساطير الأولين } . . لما يحويه من قصص الأولين المسوقة فيه للعبرة والعظة ، وبيان سنة الله التي لا تتخلف ، والتي تأخذ الناس في ناموس مطرد لا يحيد .
ويعقب على هذا التطاول والتكذيب بالزجر والردع : { كلا! } ليس كما يقولون . .
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1490)(1/335)
ثم يكشف عن علة هذا التطاول وهذا التكذيب؛ وهذه الغفلة عن الحق الواضح وهذا الانطماس في قلوب المكذبين :{ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } . .
أي غطى على قلوبهم ما كانوا يكسبونه من الإثم والمعصية . والقلب الذي يمرد على المعصية ينطمس ويظلم؛ ويرين عليه غطاء كثيف يحجب النور عنه ويحجبه عن النور ، ويفقده الحساسية شيئاً فشيئاً حتى يتلبد ويموت . .
روى ابن جرير والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى يَعْلُوَ قَلْبَهُ ذَاكَ الرَّيْنُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، فِي الْقُرْآنِ (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). (1) . وقال الترمذي حسن صحيح .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ ، فَإِنْ هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَتْ ، فَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا ، فَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ فِيهِ ، فَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ : {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:] (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صَقُلَ مِنْهَا قَلْبُهُ، وَإِنَّ زَادَ زَادَتْ حَتَّى يُغَلَّفَ بِهَا قَلْبُهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [المطففين: 14] " (3)
وقال الحسن البصري : هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت . .
ذلك حال الفجار المكذبين . وهذه هي علة الفجور والتكذيب . . ثم يذكر شيئاً عن مصيرهم في ذلك اليوم العظيم . يناسب علة الفجور والتكذيب :{ كلا! إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . ثم إنهم لصالوا الجحيم . ثم يقال : هذا الذي كنتم به تكذبون } . .
لقد حجبت قلوبهم المعاصي والآثام ، حجبتها عن الإحساس بربها في الدنيا . وطمستها حتى أظلمت وعميت في الحياة . . فالنهاية الطبيعية والجزاء الوفاق في الآخرة أن يحرموا النظر إلى وجه الله الكريم ، وأن يحال بينهم وبين هذه السعادة الكبرى ، التي لا تتاح إلا لمن شفت روحه ورقت وصفت واستحقت أن تكشف الحجب بينها وبين ربها . ممن قال فيهم في سورة القيامة :{ وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة } وهذا الحجاب عن ربهم ، عذاب فوق كل عذاب ،
__________
(1) - المسند الجامع - (17 / 1599) (14435) وأخرجه أحمد 2/297(7939) و"ابن ماجة" 4244 و"التِّرمِذي" 3334 و"النَّسائي" في "الكبرى" 10179 و11594 وهو صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (3 / 210) ( 930) صحيح
(3) - شعب الإيمان - (9 / 373) (6808 ) صحيح(1/336)
وحرمان فوق كل حرمان . ونهاية بائسة لإنسان يستمد إنسانيته من مصدر واحد هو اتصاله بروح ربه الكريم . فإذا حجب عن هذا المصدر فقد خصائصه كإنسان كريم؛ وارتكس إلى درجة يستحق معها الجحيم : { ثم إنهم لصالوا الجحيم } . . ومع الجحيم التأنيب وهو أمرّ من الجحيم : { ثم يقال : هذا الذي كنتم به تكذبون } !! (1)
{ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ } انتهى .
قال ابن القيم في " بدائع الفوائد " في هذه الآية ما مثاله : جمع لهم سبحانه بين العذابين عذاب الحجاب وعذاب النار ، فألم الحجاب يفعل في قلوبهم وأرواحهم نظير ما تفعله النار في أجسامهم ، كحال من حِيل بينه وبين أحب الأشياء إليه في الدنيا ، وأخذ بأشد العذاب ، فإن أخص عذاب الروح أن تتعلق بمحبوب لا غنى لها عنه ، وهي ممنوعة من الوصول إليه ، فكيف إن حصل لها - مع تواري المحبوب عنها وطول احتجابه - بغضه لها ومقته وطرده وغضبه الشديد عليها ؟ فأي نسبة لألم البدن إلى هذا الألم الذي لا يتصوره إلا من بلي به أو بشيء منه ؟ فلو توهمت النفوس ما في احتجاب الله سبحانه عنها يوم لقائه من الألم والحسرة ، لما تعرضت لأسباب ذلك الاحتجاب . وأنت ترى المحبين في الدنيا لصورة ، منتهى حسنها إلى ما يعلم ، كيف يضجّون من ألم احتجاب محبوبهم عنهم وإعراضه وهجره ؟ ويرى أحدهم كالموت أو أشد منه من بين ساعة ، كما قال :
~وكنتُ أرَى كالموت من بَين ليلةٍ فكيف بَبَيْنٍ كَان ميعادَهُ الحشرُ
وإنما يتبينَ الحال في هذا بمعرفة ما خلقت له الروح وما هيئت له وما فطرت عليه ، وما لا سعادة لها ولا نعيم ولا حياة إلا بإدراكه .
فاعلم أن الله سبحانه خلق كل عضو من الأعضاء لغاية ومنفعة ، فكماله ولذته في أن يحصل فيه ما خلق له ، فخلقَ العين للإبصار ، والأذن للسمع ، والأنف للشم ، واللسان للنطق ، واليد للبطش ، والرجل للمشي ، والروح لمعرفته ومحبته والابتهاج بقربه والتنعم بذِكره ، وجعل هذا كمالها وغايتها ، فإذا تعطلت من ذلك كانت أسوأ حالاً من العين والأذن واللسان واليد والرجل التي تعطلت عما خلقت له ، وحيل بينها وبينه . بل لا نسبة لألم هذه الروح إلى ألم تلك الأعضاء المعطلة البتة ، بل ألمها أشد الألم ، وهو من جنس ألمها إذا فقدت أحب الأشياء إليها وأعزه عليها ، وحيل بينها وبينه ، وشاهدت غيرها قد ظفر بوصله وفاز بقربه ورضاه . والروح لا حياة لها ولا نعيم ولا سرور ولا لذة إلا بأن يكون الله وحده هو معبودها وإلهها ومرادها ، الذي لا تقرّ عينها إلا بقربه والأنس به والعكوف بكليتها على محبته والشوق إلى
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3857)(1/337)
لقائه ، فهذا غاية كمالها وأعظم نعيمها وجنّتها العاجلة في الدنيا ، فإذا كان يوم لقائه كان أعظم نعيمها رفع الحجاب الذي كان يحجبها في الدنيا عن رؤية وجهه وسماع كلامه ، وفي حديث الرؤية : < فوالله ما أعطاهم شيئاً أحبَّ إليهم من النظر إلى وجهه > .
ثم قال : وكما جمع سبحانه لأعدائه بين هذين العذابين ، وهما ألم الحجاب وألم العذاب ، جمع لمُحبيه بين نوعي النعيم : نعيم القرب والنظر ، ونعيم الأكل والشرب ، والنكاح والتمتع بما في الجنة ، في قوله : { وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } [ الْإِنْسَاْن : 11 ] الآيات .
{ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } أي : في الدنيا . قال الإمام : تبكيتاً لهم وزيادة في التنكيل بهم ، فإن اشد شيء على الْإِنْسَاْن ، إذا أصابه مكروه أن يذكر وهو يتألم له : بأن وسائل النجاة من مصابه كانت بين يديه فأهملها ، وأسباب التقصي عنه كانت في مكنته فأغفلها . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- إن أعمال الفجار العصاة الكفرة مرصودة في كتاب مسطور بيّن الكتاب ، معلم بعلامة ، ومصيرهم السجن والضيق في جهنم والعذاب المهين..
2- هناك شدة وعذاب أليم يوم القيامة للذين يكذبون بيوم الحساب والجزاء والفصل بين العباد..
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
4- التحذير من مواصلة الذنوب وعدم التوبة منها حيث يؤدي ذلك بالعبد إلى أن يُحرم التوبة
5- تقرير رؤية الله تعالى في الآخرة ،وإن هؤلاء الكفار المنكرين للبعث المكذبين بالقرآن محجوبون عن رؤية ربهم يوم القيامة ، فلا ينظر إليهم نظرة رحمة ، ولا يرونه ، ثم إنهم يلازمون الجحيم (النار المحرقة) فلا يخرجون منها ، كلما نضجت جلودهم بدلهم اللَّه جلودا غيرها ، وكلما خبت نارها زادهم اللَّه سعيرا ، ويقال لهم من خزنة جهنم : هذا هو العذاب الذي كنتم تكذبون به رسل اللَّه في الدنيا.
6- لا يكذب بهذا اليوم إلا كل معتد على حرمات اللّه ، غارق فى الإثم والضلال ..
وإن من كان هذا شأنه من التهالك على المنكر ، ولا ستغراق فى الإثم ، هو فى سكرة مما هو فيه ، لا يود أن يفيق منها أبدا ، ولا ينتظر لليلة سكره صباحا ، يقطع عنه أضغاث أحلامه ، وهذيان خماره.
إن آفة الذين لا يؤمنون باليوم الآخر ، ليست عن حجة من عقل أو منطق ، وإنما هى كامنة فى تلك الشهوات المستبدة بهم ، والمتسلطة عليهم ، والتي من شأنها ـ لكى تضمن وجودها ، وتدافع عن بقائها ـ أن تدفع كل خاطر يزحمها ، أو طارق يتهدد وجودها .. فإذا اتجهت النفس
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 172)(1/338)
إلى الإيمان باليوم الآخر ، بدا لها هذا القيد الذي يقيدها به الإيمان ، ويحول بينها وبين هذا المرعى الذي تنطلق فيه هائمة على وجهها .. وهنا يضعف ذوو النفوس الخبيثة عن قبول هذا الالتزام بالوقوف عند حدود اللّه ، فيتهمون هذا الهاتف الذي يهتف فى ضمائرهم بالإيمان باللّه واليوم الآخر ليظلّوا عاكفين على ما هم فيه من آثام ومنكرات. روى أن الأعشى الشاعر الجاهلى ، حين سمع بأمر النبىّ ، جاء يريد الإسلام ، فتلقته قريش ، وقالوا له إن محمدا يحرّم الزنا ، فقال : هذا لا إربة لى فيه ، فقالوا : إنه يحرم الخمر ، فقال : أما هذه ، فإنها شهوة نفسى ، وعندى خابية منها ، سأروى نفسى منها سنة ، ثم أعود فأدخل فى دين محمد .. فرجع ولكنه لم يعد ، فقد مات فى عامه هذا!! وهكذا يتعلل أصحاب المنكرات بالعلل والمعاذير ، حتى يموتوا على ما هم عليه من ضلال .. (1)
7- ليس القرآن أساطير الأولين كما زعموا ، وإنما هو كلام اللَّه الحق المنزل على قلب نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - . وسبب زعمهم كثرة القبائح والمعاصي التي غطت قلوبهم بالران وهو الحجاب الكثيف الذي يحدث بسبب تراكم الذنوب ، فمنعتها من رؤية الحق والباطل ، والتمييز بين الخير والشر.
8- قال الزجاج في آية : كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ : في هذه الآية دليل على أن اللَّه عز وجل يرى في القيامة ، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة ، ولا خسّت منزلة الكفار بأنهم يحجبون.
وقال جل ثناؤه : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة 75/ 22- 23] فأعلم اللَّه جل ثناؤه أن المؤمنين ينظرون إليه ، وأعلم أن الكفار محجوبون عنه.
وقال مالك بن أنس في هذه الآية : لما حجب أعداءه ، فلم يروه ، تجلى لأوليائه حتى رأوه.
و قال الشافعي : لما حجب قوما بالسخط ، دل على أن قوما يرونه بالرضا.
ثم قال : أما واللَّه ، لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد ، لما عبده في الدنيا (2)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن للخطيب - (2 / 480)
(2) - البحر المديد ـ موافق للمطبوع - (8 / 398) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (1 / 6017) وتفسير البغوي - (8 / 366) والتحبير شرح التحرير - (6 / 2950)(1/339)
ديوان الخير وقصة الأبرار
قال تعالى :
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
المناسبة :
بعد بيان حال المطففين وحال الفجار المكذبين بيوم الدين ، وتبيين درجتهم يوم القيامة ، أتبعه ببيان حال الأبرار الذين آمنوا باللَّه ورسله واليوم الآخر ، وعملوا صالحا في الدنيا ، والتعريف بمنزلتهم عند اللَّه ، وأن اللَّه رصد أعمالهم في كتاب مرقوم هو عِلِّيُّونَ وأن لهم الجزاء الحسن على إحسانهم في الدنيا ، حتى يتبين أن كتاب الأبرار ضد كتاب الفجار بجميع معانيه ، فيقبل العاقل على مقوّمات الأولين ، ويبتعد عن محاكاة الآخرين.
المفردات :
18 ... كِتَابَ الأَبْرَارِ ... كتاب أعمال الأبرار
18 ... لَفِي عِلِّيِّينَ ... في أعلى الجنة
21 ... يَشْهَدُهُ المُقَرَّبُونَ ... يحضره المقربون من أهل كل سماء
22 ... لَفِي نَعِيمٍ ... نعيم الجنة
23 ... الأَرَائِكِ ... الأسرة
23 ... يَنْظُرُونَ ... إلى الله سبحانه وإلى النعيم
24 ... نَضْرَةَ النَّعِيمِ ... حسنه وبهاءه
25 ... رَحِيقٍ ... الشراب الصافي
25 ... مَخْتُومٍ ... مغلق
26 ... خِتَامُهُ مِسْكٌ ... آخر شربها يفوح بالمسك
26 ... فَلْيَتَنَافَسُ ... فليتسابق
27 ... مِزَاجُهُ ... ما يمزج به لأصحاب اليمين
27 ... تَسْنِيمٍ ... عين من أعالي الجنة
28 ... عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا المُقَرَّبُونَ ... يشرب من هذه العين المقربون
المعنى الإجمالي:(1/340)
بعد أن ذكر سبحانه حال الفجار وحال المطففين ، وبين منزلتهم عند اللّه يوم القيامة - أتبعه ذكر حال الأبرار الذين آمنوا بربهم وصدّقوا رسولهم فيما جاء به عن خالقهم ، وعملوا الخير فى الحياة الدنيا ، فذكر أن اللّه قد أحصى أعمالهم فى كتاب مرقوم اسمه عليون يشهده المقربون من الملائكة.
وبعدئذ عدّد ما ينالون من الجزاء على البر والإحسان.
وفى ذلك ترغيب فى الطاعة ، وحفر لعزائم المحسنين ، ليزدادوا إحسانا ، ويدعو الطرق المشتبهة الملتبسة ويقيموا على الطريق المستقيم. (1)
التفسير والبيان :
كَلَّا ، إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ أي حقا ، إن كتاب الأبرار وهم المؤمنون المخلصون العاملون المطيعون مرصود في كتاب بيّن مسطور ، أو في أعالي الجنة ، ومصيرهم إلى الجنة ، وهم بخلاف الفجار ، وهو بخلاف سجين.
وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ ؟ كِتابٌ مَرْقُومٌ ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ أي وما أعلمك يا محمد أي شيء هو عليون ؟ ويراد بذلك تفخيم أمره وتعظيم شأنه ، إنه كتاب مسطور ، سطرت فيه أسماؤهم وأعمالهم ، وهو السجل الكبير ، الذي تحضره الملائكة وتحفظه ويرونه كما يحفظ اللوح المحفوظ ، أو يشهدون بما فيه يوم القيامة.
ثم أبان اللَّه تعالى حالهم فقال : إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ أي إن أهل الطاعة لفي تنعم عظيم يوم القيامة ، وفي جنات الخلود ، على الأسرّة التي في الحجال (ذات القبب الساترة) ينظرون إلى ما أعده اللَّه لهم من أنواع النعيم في الجنة ، وإلى ما لهم من الكرامات المادية والمعنوية ، أما الماديات فهي مختلف أنواع الأطعمة الشهية والأشربة الهنية والحور العين والمراكب الفارهة والمساكن الفخمة ، وأما المعنويات فأنساهم باللَّه ورؤيتهم له ورضاه عنهم وشعورهم بالأمن والطمأنينة والسعادة الأبدية.
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أي إذا رأيتهم عرفت آثار النعمة والترف والسرور والدعة في وجوههم ، التي تتلألأ بالنور والحسن والبياض ،والبهجة والرونق لأن اللَّه تعالى زاد في جمالهم وفي ألوانهم ما لا يصفه واصف ، كما قال تعالى : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس 80/ 38- 39].
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ،خِتامُهُ مِسْكٌ ،وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ أي يسقون من الخمر التي لا غش فيها ولا يشوبها شيء يفسدها ،وقد ختم إناؤها بالمسك فلا يفكه إلا الأبرار ، ويكون
__________
(1) - تفسير المراغي ، ج 30 ، ص : 80(1/341)
آخر طعمه ريح المسك ،وفي ذلك فليرغب الراغبون ، وليتسابق المتسابقون بالمبادرة إلى طاعة اللَّه باتباع أوامره ، واجتناب نواهيه. وهذا يعني أن التسابق أو التنافس يكون فيما يؤدي إلى النعيم ، لا إلى الجحيم ، كما قال تعالى : لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ [الصافات 37/ 61].
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَطْعَمَ مُؤْمِنًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَقَى مُؤْمِنًا عَلَى ظَمَإٍ سَقَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ كَسَا مُؤْمِنًا عَلَى عُرْىٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ » سنن الترمذى . (1) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ أَطْعَمَ أَخَاهُ خُبْزًا حَتَّى يُشْبِعَهُ وَسَقَاهُ مِنَ الْمَاءِ حَتَّى يَرْوِيَهِ، بَعَّدَهُ اللهُ مِنَ النَّارِ سَبْعَ خَنَادِقَ، كُلُّ خَنْدَقٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمائَةِ عَامٍ "شعب الإيمان (2)
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ أي ومزاج ذلك الرحيق وهو ما يخلط به من تسنيم ، وهو شراب ينصب عليهم من علوّ ، وهو أشرف شراب الجنة. ويسقون الرحيق أو التسنيم من عين جارية من الأعلى إلى الأسفل يمزجون بها كؤوسهم ، وهي التي يشرب منها الأبرار المقربون صرفا ، وتمزج لأصحاب اليمين مزجا.
عَنْ عَبْدِ اللهِ ؛{مَخْتُومٍ} ، قَالَ : مَمْزُوجٍ ، {خِتَامُهُ مِسْكٌ} قَالَ : طَعْمُهُ وَرِيحُهُ ، {تَسْنِيمٍ} قَالَ : عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا ، وَتُمزجُ لأَصْحَابِ الْيَمِينِ.
وعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ ؛ {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ، عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} وَتُمْزَجُ لِسَائِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. .
وعَنِ الْحَسَنِ ؛ {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} ، قَالَ : خَفَايَا أَخْفَاهَا اللَّهُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ. (3)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قَالَ : يَشْرَبُهُ الْمُقَرَّبُونَ صَرْفًا ، وَيُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ
وعَنْ مَسْرُوقٍ ، وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قَالَ : عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ يَشْرَبُهَا الْمُقَرَّبُونَ صَرْفًا ، وَتُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ
وعَنْ مَسْرُوقٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ قَالَ : يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا ، وَتُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ
وعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ ، فِي قَوْلِهِ : وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قَالَ : فِي الْجَنَّةِ عَيْنٌ يَشْرَبُ مِنْهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا ، وَتُمْزَجُ لِسَائِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ
__________
(1) - سنن الترمذى -(2637 ) حسن لغيره
(2) - شعب الإيمان - (5 / 61) (3096) حسن
(3) - مصنف ابن أبي شيبة (35226-35228 ) صحيح(1/342)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَوْلُهُ : وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا ، وَيُمْزَجُ فِيهَا لِمَنْ دُونَهُمْ
وعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ ، فِي قَوْلِهِ : وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قَالَ : التَّسْنِيمُ عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ يَشْرَبُهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا وَتُمْزَجُ لِسَائِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَوْلُهُ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قَالَ : عَيْنٌ يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ، وَيُمْزَجُ فِيهَا لِمَنْ دُونَهُمْ
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ عَيْنًا مِنْ مَاءِ الْجَنَّةِ ، تُمْزَجُ بِهِ الْخَمْرُ
وعَنِ الْحَسَنِ ، فِي قَوْلِهِ : وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قَالَ : خَفَايَا أَخْفَاهَا اللَّهُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ
وعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، فِي قَوْلِهِ : وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قَالَ : هُوَ أَشْرَفُ شَرَابٍ فِي الْجَنَّةِ ، هُوَ لِلْمُقَرَّبِينَ صِرْفٌ ، وَهُوَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ مِزَاجٌ
وعَنْ قَتَادَةَ ، قَوْلُهُ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ شَرَابٌ شَرِيفٌ ، عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ يَشْرَبُهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا ، وَتُمْزَجُ لِسَائِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ
وقَالَ ابْنُ زَيْدٍ ، فِي قَوْلِهِ : مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ قَالَ : بَلَغَنَا أَنَّهَا عَيْنٌ تَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ ، وَهِيَ مِزَاجُ هَذِهِ الْخَمْرِ : يَعْنِي مِزَاجَ الرَّحِيقِ
وقَالَ عُبَيْدٌ : سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ : مِنْ تَسْنِيمٍ شَرَابٌ اسْمُهُ تَسْنِيمٌ ، وَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ الشَّرَابِ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ وَمِزَاجُ الرَّحِيقِ مِنْ عَيْنٍ تُسَنَّمُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ، فَتَنْصَبُّ عَلَيْهِمْ يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ مِنَ اللَّهِ صِرْفًا ، وَتُمْزَجُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ " (1)
ومضات :
الصافي النفيس الذي يمزج بماء عين التسنيم العالية في الجنة ، والذي تكون أباريقه مختومة بطينة من المسك ليكون مذاقه ورائحته مسكا. وإن هذا لهو مجال التنافس الممدوح الذي يحسن أن يتنافس فيه المتنافسون للوصول إليه.
واتصال الآيات بالسياق والموضوع قائم.والوصف قوي شائق حقا من شأنه بثّ الطمأنينة والشوق في نفس المؤمنين من جهة وقد انطوى على التنويه بالمؤمنين الذين استحقوا هذه الدرجة من النعيم والتكريم من جهة وعلى الحثّ على الإيمان والعمل الصالح لنيلها من جهة. (2)
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (34031 -34043) ومعظمها صحيح وحسن
(2) - التفسير الحديث ، ج 5 ، ص : 512(1/343)
قال ابن جرير : التنافس أن ينفس الرجل على الرجل بالشيء يكون له ، ويتمنى أن يكون له دونَه ، وهو مأخوذ من الشيء النفيس ، وهو الذي تحرص عليه نفوس الناس وتطلبه وتشتهيه ، وكأن معناه في ذلك : فليجدّ الناس فيه وإليه ، فليستبقوا في طلبه ولتحرص عليه نفوسهم . وقال الرازيّ : إن مبالغتهُ تعالى في الترغيب فيه تدل على علوّ شأنه . وفيه إشارة إلى أن التنافس يجب أن يكون في مثل ذلك النعيم العظيم الدائم ، لا في النعيم الذي هو مكدر سريع الفناء . (1)
أي أن هؤلاء الأبرار ، الذين أخذوا منازلهم فى الجنة ، واتكئوا على الأرائك المعدّة لهم ، وسرحوا بأبصارهم فى ألوان هذا النعيم الممدود بين أيديهم إنه يطاف عليهم بالرحيق ، وهو الشراب الخالص من كل كدر ، المبرأ من كل سوء ، وقد ختم بخاتم من المسك ، فإذا فضّ ختامه عبقت منه رائحة المسك ، فعطرت الجو من حوله ، فتنتعش النفوس لشرابه ، وتهشّ لاستقباله. « وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ » أي لمثل هذا فليعمل العاملون ، ويجد المجدون ، ويتنافس المتنافسون ..
فهذا هو الذي ينبغى أن يطلب ، ويشتد الطلب عليه ، ويكثر التنافس فيه ، وأما ما سواه ، فهو هباء وقبض الريح.
قوله تعالى : «وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ » أي أن هذا الرحيق الذي يسقى منه الأبرار فى الجنة ، والذي تعبق منه رائحة المسك ، هو ممزوج بتسنيم!!
وقد بين اللّه تعالى هذا التسنيم الذي يمزج بهذا الرحيق ، وهو عين من عيون الجنة ، لا يعلم كنهها إلا اللّه سبحانه وتعالى ، قد أعدها ـ جل شأنه ـ ليشرب منها عباد اللّه المقربون ، أي أهل القرب منه ، وأهل الكرامة عنده ..
وفى تعدية الفعل يشرب بالباء ، بدلا من حرف الجر « من » كما يقضى بذلك وضع اللغة ـ فى هذا إشارة إلى أن هذه العين هى شراب ، وأداة للشراب أيضا ، فهم يشربون بهذه العين من العين!! .. وقد أشرنا إلى هذا عند تفسير قوله تعالى : « عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً » (6 : الإنسان) (2)
وكلمة { كلا } تجيء في صدر هذا المقطع زجراً عما ذكر قبله من التكذيب في قوله : { ثم يقال : هذا الذي كنتم به تكذبون } . . ويعقب عليه بقوله : { كلا } ثم يبدأ الحديث عن الأبرار في حزم وفي توكيد .
فإذا كان كتاب الفجار في { سجين } فإن كتاب الأبرار في { عليين } . . . والأبرار هم الطائعون الفاعلون كل خير . وهم يقابلون الفجار العصاة المتجاوزين لكل حد . .
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 175)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ، ج 16 ، ص : 1496(1/344)
ولفظ { عليين } يوحي بالعلو والارتفاع مما قد يؤخذ منه أن { سجين } يفيد الانحطاط والسفول . ثم يعقب عليه بسؤال التجهيل والتهويل المعهود : { وما أدراك ما عليون؟ } . . فهو أمر فوق العلم والإدراك!
ويعود من هذا الظل الموحي إلى تقرير حقيقة كتاب الأبرار .
. فهو { كتاب مرقوم يشهده المقربون } وقد سبق ذكر معنى مرقوم . ويضاف إليه هنا أن الملائكة المقربين يشهدون هذا الكتاب ويرونه . وتقرير هذه الحقيقة هنا يلقي ظلاً كريماً طاهراً رفيعاً على كتاب الأبرار . فهو موضع مشاهدة المقربين من الملائكة ، ومتعتهم بما فيه من كرائم الأفعال والصفات . وهذا ظل كريم شفيف ، يذكر بقصد التكريم .
ثم يذكر حال الأبرار أنفسهم ، أصحاب هذا الكتاب الكريم . ويصف ما هم فيه من نعيم في ذلك اليوم العظيم : { إن الأبرار لفي نعيم } . . يقابل الجحيم الذي ينتهي إليه الفجار . . { على الأرائك ينظرون } أي إنهم في موضع التكريم ، ينظرون حيث يشاءون ، لا يغضون من مهانة ، ولا يشغلون عن النظر من مشقة . . وهم على الأرائك وهي الأسرة في الحجال . وأقرب ما يمثلها عندنا ما نسمية « الناموسية » أو الكلة! وصورتها الدنيوية كانت أرقى وأرق مظاهر النعيم عند العربي ذي العيشة الخشنة! أما صورتها الأخروية فعلمها عند الله . وهي على أية حال أعلى من كل ما يعهده الإنسان مما يستمده من تجاربه في الأرض وتصوراته!
وهم في هذا النعيم ناعمو النفوس والأجسام ، تفيض النضرة على وجوههم وملامحهم حتى ليراها كل راء : { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } . .
{ يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك } . .والرحيق الشراب الخالص المصفى ، الذي لا غش فيه ولا كدرة . ووصفه بأنه مختوم ختامه مسك ، قد يفيد أنه معد في أوانيه ، وأن هذه الأواني مقفلة مختومة ، تفض عند الشراب ، وهذا يلقي ظل الصيانة والعناية . كما أن جعل الختم من المسك فيه أناقة ورفاهية! وهذه الصورة لا يدركها البشر إلا في حدود ما يعهدون في الأرض . فإذا كانوا هنالك كانت لهم أذواق ومفاهيم تناسب تصورهم الطليق من جو الأرض المحدود!
وقبل أن يتم وصف الشراب الذي يجيء في الآيتين التاليتين : { ومزاجه من تسنيم عيناً يشرب بها المقربون } . . أي أن هذا الرحيق المختوم يفض ختامه ثم يمزج بشيء من هذه العين المسماة : { تسنيم } التي { يشرب بها المقربون } . . قبل أن يتم الوصف يلقي بهذا الإيقاع ، وبهذا التوجه : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } . . وهو إيقاع عميق يدل على كثير . .
إن أولئك المطففين ، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، ولا يحسبون حساب اليوم الآخر . ويكذبون بيوم الحساب والجزاء . ويرين على قلوبهم الإثم والمعصية . . إن هؤلاء إنما يتنافسون من مال أو متاع من متاع الأرض الزهيد . يريد كل منهم أن يسبق إليه ، وأن يحصل(1/345)
على أكبر نصيب منه . ومن ثم يظلم ويفجر ويأثم ويرتكب ما يرتكب في سبيل متاع من متاع الأرض زائل . .
وما في هذا العرض القريب الزهيد ينبغي التنافس . إنما يكون التنافس في ذلك النعيم وفي ذلك التكريم : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } . . فهو مطلب يستحق المنافسة ، وهو أفق يستحق السباق ، وهو غاية تستحق الغلاب . والذين يتنافسون على شيء من أشياء الأرض مهما كبر وجل وارتفع وعظم ، إنما يتنافسون في حقير قليل فانٍ قريب . والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة . ولكن الآخرة ثقيلة في ميزانه . فهي إذن حقيقة تستحق المنافسة فيها والمسابقة . .
ومن عجب أن التنافس في أمر الآخرة يرتفع بأرواح المتنافسين جميعاً . بينما التنافس في أمر الدنيا ينحط بها جميعاً . والسعي لنعيم الآخرة يصلح الأرض ويعمرها ويطهرها للجميع . والسعي لعرض الدنيا يدع الأرض مستنقعاً وبيئاً تأكل فيه الديدان بعضها البعض . أو تنهش فيه الهوام والحشرات جلود الأبرار الطيبين!
والتنافس في نعيم الآخرة لا يدع الأرض خراباً بلقعاً كما قد يتصور بعض المنحرفين . إنما يجعل الإسلام الدنيا مزرعة الآخرة ، ويجعل القيام بخلافة الأرض بالعمار مع الصلاح والتقوى وظيفة المؤمن الحق . على أن يتوجه بهذه الخلافة إلى الله ، ويجعل منها عبادة له تحقق غاية وجوده كما قررها الله سبحانه وهو يقول : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وإن قوله { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } . . لهو توجيه يمد بأبصار أهل الأرض وقلوبهم وراء رقعة الأرض الصغيرة الزهيدة ، بينما هم يعمرون الأرض ويقومون بالخلافة فيها . ويرفعها إلى آفاق أرفع وأطهر من المستنقع الآسن بينما هم يطهرون المستنقع وينظفونه!
إن عمر المرء في هذه العاجلة محدود ، وعمره في الآجلة لا يعلم نهايته إلا الله . وإن متاع هذه الأرض في ذاته محدود . ومتاع الجنة لا تحده تصورات البشر . وإن مستوى النعيم في هذه الدنيا معروف ومستوى النعيم هناك يليق بالخلود! فأين مجال من مجال؟وأين غاية من غاية؟ حتى بحساب الربح والخسارة فيما يعهد البشر من الحساب؟!
ألا إن السياق إلى هناك . . { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- إن صحف أعمال الأبرار مدونة في السجل الكبير وهو الكتاب المسطر البيّن الكتابة ، الذي يتميز بعلامته الخاصة ، ويشهد عمل الأبرار مقربو كل سماء من الملائكة. وهذه أضداد كتاب الفجار.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3858)(1/346)
وبالمقارنة بينهما يتبين أن العلو والفسحة والضياء والطهارة من علامات السعادة ، والسفل والضيق والظلمة من علامات الشقاوة. والمقصود من وضع كتاب الفجار في أسفل السافلين وفي أضيق المواضع : إذلال الفجار وتحقير شأنهم.
والمقصود من وضع كتاب الأبرار في أعلى عليين وشهادة الملائكة لهم بذلك : إجلالهم وتعظيم شأنهم (1) .
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر ما يجري فيها .
3- الترغيب في العمل الصالح للحصول على نعيم الجنة .
4- بعد أن عظم اللَّه تعالى كتاب الأبرار عظم منزلتهم ، فأبان أنهم في نعيم الجنة. ووصف كيفية ذلك النعيم بأمور ثلاثة :
أولها- على الأرائك ينظرون ، أي على الأسرة في الحجال ينظرون إلى ما أنعم اللَّه به عليهم ، من الكرامات ومن أنواع النعم في الجنة من الحور العين والولدان ، وأنواع الأطعمة والأشربة والملابس والمراكب وغيرها.
ثانيها- تعرف في وجوههم نضرة النعيم ، أي بهجته وغضارته ونوره ، والنظر المقرون بالنضرة هو رؤية اللَّه عز وجل ، على ما قال : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة 75/ 22- 23].
ثالثها- يسقون من رحيق مختوم ، أي يسقون من شراب لا غشّ فيه ، والرحيق : صفوة الخمر ، وخمر الجنة غير مسكرة ، كما قال تعالى : لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ [الصافات 37/ 47]. وقال عز وجل : لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ [الواقعة 56/ 19].
وهذا النوع من الخمر يختلف عن النوع الآخر الذي يجري في الأنهار ، المشار إليه في قوله تعالى : وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد 47/ 15] لكن هذا المختوم أشرف وأفضل من الجاري.
وللرحيق صفات أربع هي :
الأولى- أنه شراب مختوم قد ختم عليه تكريما له بالصيانة على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان.
الثانية- ختامه مسك ، أي عاقبته المسك ، بمعنى أن يختم له آخره بريح المسك. قال الفراء : الختام آخر كل شي ء.
__________
(1) - تفسير الرازي : 31/ 97(1/347)
الثالثة- أنه محل التنافس والتنازع لرفعته وطيبه ، والمراد : فليرغب الراغبون به إلى المبادرة إلى طاعة اللَّه عز وجل.
الرابعة- ومزاجه من تسنيم ، أي مزاج ذلك الرحيق الذي يخلط به من تسنيم ، وهو شراب ينصب عليهم من علوّ ، وهو أشرف شراب في الجنة. وأصل التسنيم في اللغة : الارتفاع ، فهي عين ماء تجري من علو إلى أسفل ، ومنه سنام البعير لعلوّه من بدنه ، وكذلك تسنيم القبور.
لذا قال تعالى بعدئذ : عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ أي يشرب منها أهل جنة عدن ، وهم أفاضل أهل الجنة ، صرفا وهي لغيرهم مزاج.
ويلاحظ أنه تعالى لما قسم المكلفين في سورة الواقعة إلى ثلاثة أقسام :
المقربون ، وأصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، وذكر كرامة المذكورين في هذه السورة بأنه يمزج شرابهم من عين يشرب بها المقربون ، علمنا أن المذكورين هنا هم أصحاب اليمين. وهذا يدل على أن الأنهار متفاوتة في الفضيلة ، فتسنيم أفضل أنهار الجنة ، والمقربون أفضل أهل الجنة (1) .
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - تفسير الرازي : 31/ 100(1/348)
سوء معاملة الكفار للمؤمنين في الدنيا ومقابلتهم بالمثل في الآخرة
قال تعالى :
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
المناسبة :
بعد بيان قصة الفجار وقصة الأبرار وما أعد لكل فئة في الآخرة ، حكى اللَّه تعالى بعض قبائح أفعال الكافرين في الدنيا بالاستهزاء بالمؤمنين ، ومعاملتهم بالمثل في الآخرة ، جزاء ما فعلوا في الدنيا. والمقصود منه تسلية المؤمنين وتقوية قلوبهم.
المفردات :
29 ... أَجْرَمُوا ... أشركوا وعصوا الرسول
30 ... يَتَغَامَزُونَ ... من الغمز : بالعين والحاجب سخرية
31 ... فَكِهِينَ ... يتلذذون باستخفافهم بالمؤمنين .
34 ... فَالْيَومَ ... يوم القيامة
34 ... الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ... يضحك المؤمن مما حل بالكافر
فالجزاء من جنس العمل
36 ... ثُوِّبَ الكُفَّارُ ... جوزي الكفار بسبب سخريتهم بالمؤمنين
المعنى الإجمالي:
كان الكفار لسوء تفكيرهم ، وغرورهم بأنفسهم يقولون : إن كان محمد صادقا في أن هناك بعثا ، فنحن في المنزلة العليا والدرجة الرفيعة ، وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ .
وهنا بين اللّه للكفار الفجار منزلتهم يوم القيامة فقال : إنهم عند ربهم يومها لمحجوبون عن رؤيته ، ولممنوعون عن خيره وبره ، ثم إنهم يومها لداخلون جهنم ، وذائقون حرها وجحيمها ، ثم يقال لهم من قبل الملائكة تأنيبا وتوبيخا : هذا هو العذاب والجزاء الحق الذي كنتم إذا سمعتم خبره تكذبون به وتكفرون ، وها أنتم أولاء قد عاينتموه بأنفسكم بل وذقتم مره! « كلا » ردع لهم عما هم فيه ليعقب بوعد الأبرار كما عقب سابقا بوعيد الفجار ، إن كتاب الأبرار لفي عليين ، نعم كتاب حسناتهم مسجل في ديوان عمل الأبرار.(1/349)
فسيجازون على عملهم أحسن الجزاء ، والعرب تصف ما يدل على السرور والسعادة بالعلو والطهارة والفسحة والوجاهة ، كما أن وصف الشيء بالسفل والضيق والظلمة يدل على الحزن والكآبة لذلك كان كتاب الأبرار في عليين ، وكتاب الفجار في سجين ، والقرآن عرفنا بكتاب الأبرار حيث قال : وما أدراك ما عليون ؟ هو كتاب مرقوم معلوم ، بين الكتابة واضح الرسوم ، يشهده المقربون من الملائكة ويحافظون عليه ، أو يشهدون على ما فيه ، هذا حال كتاب الأبرار فما حالهم هم ؟ إن الأبرار لفي نعيم على السرر يجلسون وينظرون إلى ما أعد لهم ، وإلى ما أعد للفجار المذنبين ، تعرف في وجوههم نضرة النعيم ورونقه ، يسقون من خمر خالص جيد لا غول فيه ، ولا هم عنها ينزفون ، قد ختم باسمهم إكراما لهم ، ختامه مسك ، وفي ذلك فليتبار المتبارون في تخليصه ، وليتنافس المتنافسون في الحصول عليه.
وشراب المؤمنين في الجنة خمر جيدة قد مزجت بعين يقال لها تسنيم لأنها عين مرتفعة حسا ومعنى : أعنى عينا يشرب منها المقربون السابقون ، فهي معدة ليكرم اللّه بها أولياءه وأحبابه.
وهذه بعض سيئات الفجار لأنهم فجار ،ولذلك أخرها إلى هنا بعد بيان جزاء الفريقين في الآخرة .. إن الذين أجرموا واعتادوا فعل الشنيع من الأعمال كانوا يضحكون من الذين آمنوا ، ويستهزئون بهم ، وإذا مروا بهم يتغامزون ، ويشيرون إليهم استهزاء بهم ، وإذا انقلبوا إلى أهلهم بعد هذا انقلبوا فكهين مسرورين ، لأنهم آذوا المسلمين واستهزءوا بهم ، وكانوا إذا رأوهم قالوا : إن هؤلاء المؤمنين لقوم ضالون عن الطريق السوى طريق آبائهم وأجدادهم ، وهل أرسل أولئك الفجار حافظين وشاهدين على المسلمين ؟ لا ، إنهم ما أرسلوا عليهم حافظين.
ولكن أ يترك ربك عباده وأولياءه بدون جزاء ؟ إنه جازى كلا على عمله فجازى الكفار بجهنم وسعيرها ، وجازى المؤمنين بالجنة ونعيمها ، فاليوم الذي فيه المؤمنون ينعمون بجنة الخلد ، والكفار يصلون فيه بنار الجحيم : في هذا اليوم يضحك المؤمنون من الكفار لا ضحك الجاهل المغرور بل ضحك الموفق المسرور ، ضحك من وصل إلى نتيجة عمله بعد طول المشقة ، وبعد المسافة ضحك من انكشف له الحق فسر له لأنه حق ، وهم على الأرائك ينظرون صنع اللّه وفعله المحكم الدقيق.
هل جوزي الكفار على أعمالهم ؟ نعم ، هل جوزي المسلمون على أفعالهم ؟ نعم وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. (1)
التفسير والبيان :
حكى اللَّه تعالى عن رؤساء الشرك وأمثالهم أربعة أشياء من المعلومات القبيحة ، فقال :
__________
(1) - التفسير الواضح ، ج 3 ، ص : 840(1/350)
1- إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ أي إن كفار قريش ومن وافقهم على الكفر كانوا في الدنيا يستهزئون بالمؤمنين ، ويسخرون منهم. وهكذا شأن الأقوياء والأغنياء في كل عصر يسخرون من المؤمنين المصلّين أو الفقراء المتأدبين بآداب الإسلام والقرآن ، ويهزؤون من المتدينين ومن دينهم ، اعتمادا منهم على قوتهم ، أو سلطتهم ونفوذهم ، أو ثروتهم وغناهم..
2- وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ أي وإذا مر الكفار بالمؤمنين يتغامزون عليهم محتقرين لهم ، يعيرونهم بالإسلام ، ويعيبونهم به. والتغامز : صيغة تفاعل تقتضي المشاركة ، من الغمز : وهو الإشارة بالجفن والحاجب استهزاء ، ويكون الغمز أيضا بمعنى العيب ، يقال : غمزة : إذا عابه ، وما في فلان غميزة ، أي ما يعاب به ، والمعنى : أنهم يشيرون إليهم بالأعين استهزاء ، ويعيبونهم ، ويقولون : انظروا إلى هؤلاء يتعبون أنفسهم ، ويحرمونها لذاتها ، ويخاطرون بأنفسهم في طلب ثواب لا يتيقنونه.
3- وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ أي وإذا رجع الكفار إلى أهلهم في منازلهم من مجالسهم في السوق ، رجعوا معجبين بما هم فيه ، متلذذين به ، يتفكهون بما فعلوا بالمؤمنين ، وبما قاموا به من استهزاء وطعن فيهم ، واستهزاء بهم ، ووصفهم بالسخف والطيش وضعف الرأي وقلة العقل.
4- وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا : إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ أي وإذا رأى المشركون المؤمنين ، ووصفوهم بالضلال لكونهم على غير دينهم وعقائدهم الموروثة ، ولاتباعهم محمّدا ، وتمسكهم بما جاء به ، وتركهم التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب لا يدرى : هل له وجود أم لا.
فرد اللَّه تعالى عليهم ما قالوه بقوله : وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ أي وما بعث هؤلاء المجرمون من قبل اللَّه رقباء على المؤمنين ، يحفظون عليهم أحوالهم وأعمالهم وأقوالهم ، ولا كلّفوا بهم ؟
وإنما كلفوا بالنظر في شؤون أنفسهم.
ثم قرر اللَّه تعالى مبدأ المعاملة بالمثل في الآخرة ، تسلية للمؤمنين وتقوية قلوبهم ، فقال : فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ أي ففي اليوم الآخر يوم القيامة ، يضحك المؤمنون ويهزؤون من الكفار حين يرونهم أذلّاء مغلوبين ، قد نزل بهم ما نزل من العذاب ، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا ، معاملة بالمثل ، وتبيانا أن الكفار الجاحدين هم في الواقع سفهاء العقول والأحلام ، خسروا الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين. وكلمة فَالْيَوْمَ دليل على أن التكلم واقع في يوم القيامة.
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ أي ينظر المؤمنون إلى أعداء اللَّه ، وهم يعذبون في النار ،والمؤمنون متنعمون على الأرائك. وهذا دائم خالد لا يعادل بشيء من المؤقت الفاني.(1/351)
هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ أي هل أثيب وجوزي الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء والطعن والتنقيص ، أم لا ؟ نعم ، قد جوزي الكفار أتم الجزاء بما كان يقع منهم في الدنيا من الضحك من المؤمنين والاستهزاء بهم. والثواب : من ثاب يثوب : إذا رجع ، فالثواب : ما يرجع على العبد في مقابلة عمله ، ويستعمل في الخير والشر. والاستفهام بمعنى التقرير للمؤمنين ، أي هل جوزوا بها ؟ .
ومضات :
في هذه الآيات حكاية لموقف الكفار من المؤمنين في الدنيا وموقف المؤمنين من الكفّار في الآخرة ، فقد كان المجرمون يسخرون من المؤمنين ويتغامزون عليهم كلما مروا بهم ويرمونهم بالضلال مع أنهم ليسوا عليهم وكلاء ولا حفّاظا. ثم يعودون إلى أهلهم وقد شفوا نفوسهم واغتروا بباطلهم. ولسوف ينقلب الأمر إلى عكسه يوم القيامة حيث يفوز المؤمنون بالعاقبة السعيدة ويتمتعون بمنازل النعيم ويقفون من الكفار موقف الساخر الشامت لما صاروا إليه من مصير رهيب.
وقد جاءت الآية الأخيرة بمثابة التعقيب متسائلة عما إذا لم يكن الكفار بما صاروا إليه قد جوزوا الجزاء الحقّ على ما كانوا يفعلونه. وقد تضمنت جوابا إيجابيا على السؤال.
والآيات جاءت في معرض التعقيب على الآيات السابقة. وانطوت على التنديد بالكفار والبشرى للمؤمنين كما هو المتبادر. وفيها صورة لما كان عليه موقف الكفار من المؤمنين في مكة وقد جاءت ختاما للسورة وهو ختام مشابه لخواتم سور عديدة أخرى.
وقد تكون الصورة التي احتوتها الآيات بنوع خاص قرينة على ما نبهنا إليه من احتمال عدم صحة ترتيب السورة كآخر السور نزولا ، ورجحان نزولها مبكرة بالإضافة إلى مضامين السورة وأسلوبها بصورة عامة. (1)
قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ـ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ » هو عودة بالمشركين ، المجرمين إلى الحياة الدنيا ، وإلى مكانهم الذي زايلوه فيها ، بعد هذه النّقلة السريعة التي انتقلوا بها إلى الدار الآخرة ، وشهدوا فيها ما أعد لهم هناك من عذاب ونكال ..
وإذ يعود المجرمون إلى مكانهم من دنياهم ، يرون بين أيديهم مشهدا من تلك المشاهد المتكررة التي يعيشون فيها مع أهل الإيمان والإحسان .. إنهم يتخذون من المؤمنين مسرحا للضحك منهم ، والسخرية بهم ، فإذا مرّ بهم المؤمنون تغامزوا ، أي غمز بعضهم بعضا ، بإشارات من
__________
(1) - التفسير الحديث ، ج 5 ، ص : 514(1/352)
أعينهم ، أو غمزات بأكتافهم ، وكأنهم أمام مشهد عجيب غريب ، يثير العجب والضحك .. وقوله تعالى : « وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ » وهذا شأنهم بعد أن ينفض مجلسهم الآثم الذي جرحوا فيه المؤمنين بتغامزهم وتلامزهم .. إنهم يعودون من هذا المجلس إلى أهلهم ، وعلى أفواههم طعم هذا المنكر الذي طعموه فيها ، يتشدقون به ويقصّون على أهلهم ما دار على ألسنتهم من فجور ، وما رموا به المؤمنين من هجر القول ، وفجره ، يجعلون ذلك مادة للتندر والتفكه.
والفكه : كثير الفكاهة والمزاح ..
قوله تعالى : «وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ » أي وليس هذا كل ما عند المجرمين من كيد للمؤمنين ، بل إنهم كلما رأوا أحدا من المؤمنين أشاروا إليه كمعلم من معالم الضلال ، وكأنهم يشفقون عليه من هذا الطريق الذي يسير فيه .. فيقول بعضهم لبعض : انظروا إلى هذا المسكين المغرور ، الذي يمنّيه محمد بالجنة ونعيمها!! إنه مسكين .. لقد وقع فريسة لخداع محمد وتمويهه!! وقوله تعالى : « وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ » هو ردّ على هؤلاء المجرمين ، وعلى إنكارهم على المؤمنين ما هم فيه .. إنهم لم يرسلوا عليهم حافظين لهم ، حارسين لما يتهددهم من سوء! وقد كان الأولى بهؤلاء المجرمين الضالين أن ينظروا إلى أنفسهم ، وأن يحفظوها من هذا البلاء الذي اشتمل عليهم .. ولكن هكذا أهل السوء أبدا ، يشغلون عن أنفسهم وعن حراستها من المهالك والمعاثر ، بالبحث عن عيوب الناس ، وتتبع سقطاتهم وزلاتهم ، والتشنيع بها عليهم .. قوله تعالى : « فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ » هو عودة بالمجرمين من موقفهم هذا فى الحياة الدنيا ، إلى موقف الحساب والجزاء مرة أخرى ، وإنزالهم منازلهم فى جهنم ، حيث تتعالى صر خاتهم ، على حين بنظر إليهم المؤمنون ، ضاحكين منهم ، ساخرين بهم ، كما كانوا هم يسخرون من المؤمنين ويضحكون منهم فى الدنيا ..
وقوله تعالى : « عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ » هو بيان للحال التي عليها المؤمنون ، وهم يضحكون من الكفار .. إنهم يضحكون وهم جالسون ، مستريحون على الأرائك ، على حين يتقلب المجرمون على جمر جهنم.
وقوله تعالى : « ينظرون » حال أخرى من أحوال المؤمنين ، وهم يضحكون من الكفار ، حال جلوسهم على الأرائك ، ينظرون ، أي يملئون عيونهم من نعيم الجنة الذي يحفّ بهم ..
وقوله تعالى : «هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ » يجوز أن يكون معمولا لقوله تعالى : « ينظرون » أي ينظر المؤمنون وهم على أرائكهم ليروا هل ثوب الكفار ، أي هل جوزوا بما كانوا يفعلون ؟
وذلك ليتحقق لهم وعيد اللّه فى أهل الضلال ، كما تحقق لهم وعده فى أهل الإيمان ..(1/353)
ويجوز أن يكون هذا كلاما مستأنفا ، يراد به تبكيت الكفار ، وهل جوزوا للجزاء الذي يستحقونه ، أم أن هناك مزيدا من العذاب يريدونه إن كان فوق ما هم فيه مزيد ؟ .. (1)
قال الإمام : الذين أجرموا هم المعتدون الأئمة الذين شَريَتْ نفوسهم في الشر ، وصَمّتْ آذانهم عن سماع دعوة الحق : هؤلاء كانوا يضحكون من الذين آمنوا ؛ ذلك لأنه حين رحم الله هذا العالَم ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كبار القوم وعرفاؤهم على رأي الدَّهماء وفي ضلال العامة ، وكانت دعوة الحق خافتة لا يرتفع بها إلا صوته عليه السلام ، ثم يهمس بها بعض من يليه ، ويجيب دعوته من الضعفاء الذين لم تطمس أهواؤهم سبيل الحق إلى قلوبهم فَيُسِرُّ بها إلى من يرجوه ، ولا يستطيع الجهر بها لمن يخافه . ومن شأن القويّ المستعز بالقدرة والكثرة أن يضحك ممن يخالفه في المنزع ويدعوه إلى غير ما يعرفه ، وهو أضعف منه قوة وأقل عدداً ، كذلك كان شأن جماعة من قريش ، كأبي جهل والوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل وأشياعهم ، وهكذا يكون شأن أمثالهم في كل زمان متى عمت البدع ، وتفرقت الشيع وخفي طريق الحق بينَ طرق الباطل ، وجهل معنى الدِّين ، وأزهقت روحه من عباراته وأساليبه ، ولم يبق إلا ظواهر لا تطابقها البواطن ، وحركات أركان لا تشايعها السرائر ، وتحكَّمت الشهوات فلم تبق رغبة تحدو بالناس إلى العمل ، إلا ما تعلق بالطعام والشراب والزينة والرياش والمناصب والألقاب ، وتشبثت الهمم بالمجد الكاذب ، وأحب كل واحد أن يحمد بما لم يفعل ، وذهب الناقص يستكمل ما نقص منه بتنقيص الكامل ، واستوى في ذلك الكبير والصغير ، والأمير والمأمور ، والجاهل والملقب بلقب العالم . إذا صار الناس إلى هذه الحال ، ضعُف صوت الحق وازدرى السامعون منهم بالداعي إليه ، وانطبق عليهم نصُّ الآية الكريمة . انتهى .
{ وَإِذَا مَرُّواْ } أي : الذين آمنوا { بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } أي : يغمز بعضهم بعضاً استهزاءً وسخريةً . والغمز : الإشارة بالجفن والحاجب .
قال السيوطيّ : وفي هذا دلالة على تحريم السخرية بالمؤمنين ، والضحك منهم ، والتغامز عليهم { وَإِذَا انقَلَبُواْ } أي : هؤلاء المجرمون من مجالسهم { إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ } أي : متلذذين بالسخرية وحكاية ما يعيبون به أهل الإيمان ، أو بما هم فيه من الشرك والطغيان والتنعم بالدنيا . (2)
قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ـ وَ إِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ » هو عودة بالمشركين ، المجرمين إلى الحياة الدنيا ، وإلى مكانهم الذي زايلوه فيها ، بعد هذه
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1497)
(2) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 177)(1/354)
النّقلة السريعة التي انتقلوا بها إلى الدار الآخرة ، وشهدوا فيها ما أعد لهم هناك من عذاب ونكال ..
وإذ يعود المجرمون إلى مكانهم من دنياهم ، يرون بين أيديهم مشهدا من تلك المشاهد المتكررة التي يعيشون فيها مع أهل الإيمان والإحسان .. إنهم يتخذون من المؤمنين مسرحا للضحك منهم ، والسخرية بهم ، فإذا مرّ بهم المؤمنون تغامزوا ، أي غمز بعضهم بعضا ، بإشارات من أعينهم ، أو غمزات بأكتافهم ، وكأنهم أمام مشهد عجيب غريب ، يثير العجب والضحك ..
وقوله تعالى : «وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ » وهذا شأنهم بعد أن ينفض مجلسهم الآثم الذي جرحوا فيه المؤمنين بتغامزهم وتلامزهم .. إنهم يعودون من هذا المجلس إلى أهلهم ، وعلى أفواههم طعم هذا المنكر الذي طعموه فيها ، يتشدقون به ويقصّون على أهلهم ما دار على ألسنتهم من فجور ، وما رموا به المؤمنين من هجر القول ، وفجره ، يجعلون ذلك مادة للتندر والتفكه.
والفكه : كثير الفكاهة والمزاح ..
قوله تعالى : وَ إِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ » أي وليس هذا كل ما عند المجرمين من كيد للمؤمنين ، بل إنهم كلما رأوا أحدا من المؤمنين أشاروا إليه كمعلم من معالم الضلال ، وكأنهم يشفقون عليه من هذا الطريق الذي يسير فيه .. فيقول بعضهم لبعض : انظروا إلى هذا المسكين المغرور ، الذي يمنّيه محمد بالجنة ونعيمها!! إنه مسكين .. لقد وقع فريسة لخداع محمد وتمويهه!! وقوله تعالى : «وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ » هو ردّ على هؤلاء المجرمين ، وعلى إنكارهم على المؤمنين ما هم فيه .. إنهم لم يرسلوا عليهم حافظين لهم ، حارسين لما يتهددهم من سوء! وقد كان الأولى بهؤلاء المجرمين الضالين أن ينظروا إلى أنفسهم ، وأن يحفظوها من هذا البلاء الذي اشتمل عليهم .. ولكن هكذا أهل السوء أبدا ، يشغلون عن أنفسهم وعن حراستها من المهالك والمعاثر ، بالبحث عن عيوب الناس ، وتتبع سقطاتهم وزلاتهم ، والتشنيع بها عليهم ..
قوله تعالى : «فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ » هو عودة بالمجرمين من موقفهم هذا فى الحياة الدنيا ، إلى موقف الحساب والجزاء مرة أخرى ، وإنزالهم منازلهم فى جهنم ، حيث تتعالى صر خاتهم ، على حين بنظر إليهم المؤمنون ، ضاحكين منهم ، ساخرين بهم ، كما كانوا هم يسخرون من المؤمنين ويضحكون منهم فى الدنيا ..
وقوله تعالى : «عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ » هو بيان للحال التي عليها المؤمنون ، وهم يضحكون من الكفار .. إنهم يضحكون وهم جالسون ، مستريحون على الأرائك ، على حين يتقلب المجرمون على جمر جهنم.(1/355)
وقوله تعالى : « ينظرون » حال أخرى من أحوال المؤمنين ، وهم يضحكون من الكفار ، حال جلوسهم على الأرائك ، ينظرون ، أي يملئون عيونهم من نعيم الجنة الذي يحفّ بهم ..
وقوله تعالى : «هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ » يجوز أن يكون معمولا لقوله تعالى : « ينظرون » أي ينظر المؤمنون وهم على أرائكهم ليروا هل ثوب الكفار ، أي هل جوزوا بما كانوا يفعلون؟
وذلك ليتحقق لهم وعيد اللّه فى أهل الضلال ، كما تحقق لهم وعده فى أهل الإيمان ..
ويجوز أن يكون هذا كلاما مستأنفا ، يراد به تبكيت الكفار ، وهل جوزوا للجزاء الذي يستحقونه ، أم أن هناك مزيدا من العذاب يريدونه إن كان فوق ما هم فيه مزيد؟ .. (1)
قال الإمام : الذين أجرموا هم المعتدون الأئمة الذين شَريَتْ نفوسهم في الشر ، وصَمّتْ آذانهم عن سماع دعوة الحق : هؤلاء كانوا يضحكون من الذين آمنوا ؛ ذلك لأنه حين رحم الله هذا العالَم ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كبار القوم وعرفاؤهم على رأي الدَّهماء وفي ضلال العامة ، وكانت دعوة الحق خافتة لا يرتفع بها إلا صوته عليه السلام ، ثم يهمس بها بعض من يليه ، ويجيب دعوته من الضعفاء الذين لم تطمس أهواؤهم سبيل الحق إلى قلوبهم فَيُسِرُّ بها إلى من يرجوه ، ولا يستطيع الجهر بها لمن يخافه . ومن شأن القويّ المستعز بالقدرة والكثرة أن يضحك ممن يخالفه في المنزع ويدعوه إلى غير ما يعرفه ، وهو أضعف منه قوة وأقل عدداً ، كذلك كان شأن جماعة من قريش ، كأبي جهل والوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل وأشياعهم ، وهكذا يكون شأن أمثالهم في كل زمان متى عمت البدع ، وتفرقت الشيع وخفي طريق الحق بينَ طرق الباطل ، وجهل معنى الدِّين ، وأزهقت روحه من عباراته وأساليبه ، ولم يبق إلا ظواهر لا تطابقها البواطن ، وحركات أركان لا تشايعها السرائر ، وتحكَّمت الشهوات فلم تبق رغبة تحدو بالناس إلى العمل ، إلا ما تعلق بالطعام والشراب والزينة والرياش والمناصب والألقاب ، وتشبثت الهمم بالمجد الكاذب ، وأحب كل واحد أن يحمد بما لم يفعل ، وذهب الناقص يستكمل ما نقص منه بتنقيص الكامل ، واستوى في ذلك الكبير والصغير ، والأمير والمأمور ، والجاهل والملقب بلقب العالم . إذا صار الناس إلى هذه الحال ، ضعُف صوت الحق وازدرى السامعون منهم بالداعي إليه ، وانطبق عليهم نصُّ الآية الكريمة . انتهى . (2)
المشاهد التي يرسمها القرآن لسخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا ، سوء أدبهم معهم ، وتطاولهم عليهم ، ووصفهم بأنهم ضالون . . مشاهد منتزعة من واقع البيئة في مكة . ولكنها متكررة في أجيال وفي مواطن شتى . وكثير من المعاصرين شهدوها كأنما هذه الآيات قد نزلت
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ، ج 16 ، ص : 1498
(2) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 177)(1/356)
في وصفها وتصويرها . مما يدل على أن طبيعة الفجار المجرمين واحدة متشابهة في موقفها من الأبرار في جميع البيئات والعصور!!
{ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون } .. كانوا . . فقد طوى السياق الدنيا العاجلة الزائلة . فإذا المخاطبون به في الآخرة . يرون نعيم الأبرار الذين آمنوا . وهو يذكر لهم ما كان من أمر الدنيا!
إنهم كانوا يضحكون من الذين آمنوا استهزاء بهم ، وسخرية منهم . إما لفقرهم ورثاثة حالهم . وإما لضعفهم عن رد الأذى . وإما لترفعهم عن سفاهة السفهاء . . فكل هذا مما يثير ضحك الذين أجرموا . وهم يتخذون المؤمنين مادة لسخريتهم أو فكاهتهم المرذولة . وهم يسلطون عليهم الأذى ، ثم يضحكون الضحك اللئيم الوضيع ، مما يصيب الذين آمنوا ، وهم صابرون مترفعون متجملون بأدب المؤمنين!
{ وإذا مروا بهم يتغامزون } . . يغمز بعضهم لبعض بعينه . أو يشير بيده ، أو يأتي بحركة متعارفة بينهم للسخرية من المؤمنين . وهي حركة ضعيفة واطية تكشف عن سوء الأدب ، والتجرد من التهذيب . بقصد إيقاع الانكسار في قلوب المؤمنين ، وإصابتهم بالخجل والربكة ، وهؤلاء الأوغاد يتغامزون عليهم ساخرين!
{ وإذا انقلبوا إلى أهلهم } بعدما أشبعوا نفوسهم الصغيرة الرديئة من السخرية بالمؤمنين وإيذائهم . . { انقلبوا فكهين } . . راضين عن أنفسهم ، مبتهجين بما فعلوا ، مستمتعين بهذا الشر الصغير الحقير . فلم يتلوموا ولم يندموا ، ولم يشعروا بحقارة ما صنعوا وقذارة ما فعلوا . وهذا منتهى ما تصل إليه النفس من إسفاف وموت للضمير!
{ وإذا رأوهم قالوا : إن هؤلاء لضالون } !
وهذه أعجب . . فليس أعجب من أن يتحدث هؤلاء الفجار المجرمون عن الهدى والضلال . وأن يزعموا حين يرون المؤمنين ، أن المؤمنين ضالون . ويشيروا إليهم مؤكدين لهذا الوصف في تشهير وتحقير : { إن هؤلاء لضالون! } . .والفجور لا يقف عند حد ، ولا يستحيي من قول ، ولا يتلوم من فعل . واتهام المؤمنين بأنهم ضالون حين يوجهه الفجار المجرمون ، إنما يمثل الفجور في طبيعته التي هي تجاوز لجميع الحدود!
والقرآن لا يقف ليجادل عن الذين آمنوا ، ولا ليناقش طبيعة الفرية . فهي كلمة فاجرة لا تستحق المناقشة . ولكنه يسخر سخرية عالية من القوم الذين يدسون أنوفهم فيما ليس من شأنهم ، ويتطفلون بلا دعوة من أحد في هذا الأمر : { وما أرسلوا عليهم حافظين } . . وما وكلوا بشأن هؤلاء المؤمنين ، وما أقيموا عليهم رقباء ، ولا كلفوا وزنهم وتقدير حالهم! فما لهم هم وهذا الوصف وهذا التقرير!(1/357)
وينهي بهذه السخرية العالية حكاية ما كان من الذين أجرموا في الدنيا . . ما كان . . ويطوي هذا المشهد الذي انتهى . ليعرض المشهد الحاضر والذين آمنوا في ذلك النعيم : { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون . على الأرائك ينظرون } . .
اليوم والكفار محجوبون عن ربهم ، يقاسون ألم هذا الحجاب الذي تهدر معه إنسانيتهم ، فيصلون الجحيم ، مع الترذيل والتأنيب حيث يقال : { هذا الذي كنتم به تكذبون } . .
اليوم والذين آمنوا على الأرائك ينظرون . في ذلك النعيم المقيم ، وهم يتناولون الرحيق المختوم بالمسك الممزوج بالتسنيم . .
فاليوم . . الذين آمنوا من الكفار يضحكون . .
والقرآن يتوجه بالسخرية العالية مرة أخرى وهو يسأل :{ هل ثوّب الكفار ما كانوا يفعلون؟ } .
أجل! هل ثوبوا؟ هل وجدوا ثواب ما فعلوا؟ وهم لم يجدوا « الثواب » المعروف من الكلمة . فنحن نشهدهم اللحظة في الجحيم! ولكنهم من غير شك لاقوا جزاء ما فعلوا . فهو ثوابهم إذن . وياللسخرية الكامنة في كلمة الثواب في هذا المقام!
ونقف لحظة أمام هذا المشهد الذي يطيل القرآن عرض مناظره وحركاته مشهد سخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا في الدنيا كما أطال من قبل في عرض مشهد نعيم الأبرار وعرض مناظره ومناعمه . فنجد أن هذا الإطالة من الناحية التأثيرية فن عال في الأداء التعبيري ، كما أنه فن عال في العلاج الشعوري . فقد كانت القلة المسلمة في مكة تلاقي من عنت المشركين وأذاهم ما يفعل في النفس البشرية بعنف وعمق . وكان ربهم لا يتركهم بلا عون ، من تثبيته وتسريته وتأسيته .
وهذا التصوير المفصل لمواجعهم من أذى المشركين ، فيه بلسم لقلوبهم . فربهم هو الذي يصف هذه المواجع . فهو يراها ، وهو لا يهملها وإن أمهل الكافرين حيناً وهذا وحده يكفي قلب المؤمن ويمسح على آلامه وجراحه . إن الله يرى كيف يسخر منهم الساخرون . وكيف يؤذيهم المجرمون . وكيف يتفكه بالآمهم ومواجعهم المتفكهون . وكيف لا يتلوم هؤلاء السفلة ولا يندمون! إن ربهم يرى هذا كله . ويصفه في تنزيله . فهو إذن شيء في ميزانه . . وهذا يكفي! نعم هذا يكفي حين تستشعره القلوب المؤمنة مهما كانت مجروحة موجوعة .
ثم إن ربهم يسخر من المجرمين سخرية رفيعة عالية فيها تلميح موجع . قد لا تحسه قلوب المجرمين المطموسة المغطاة بالرين المطبق عليها من الذبوب . ولكن قلوب المؤمنين الحساسة المرهفة ، تحسه وتقدره ، وتستريح إليه وتستنيم!
ثم إن هذه القلوب المؤمنة تشهد حالها عند ربها ، ونعيمها في جناته ، وكرامتها في الملأ الأعلى . على حين تشهد حال أعدائها ومهانتهم في الملأ الأعلى وعذابهم في الجحيم ، مع(1/358)
الإهانة والترذيل . . تشهد هذا وذلك في تفصيل وفي تطويل . وهي تستشعر حالها وتتذوقه تذوق الواقع اليقين . وما من شك أن هذا التذوق يمسح على مرارة ما هي فيه من أذى وسخرية وقلة وضعف . وقد يبلغ في بعض القلوب أن تتبدل هذه المرارة فيها بالفعل حلاوة ، وهي تشهد هذه المشاهد في ذلك القول الكريم .
ومما يلاحظ أن هذا كان هو وحده التسلية الإلهية للمؤمنين المعذبين المألومين من وسائل المجرمين الخسيسة ، وأذاهم البالغ ، وسخريتهم اللئيمة . . الجنة للمؤمنين ، والجحيم للكافرين ، وتبديل الحالين بين الدنيا والآخرة تمام التبديل . . وهذا كان وحده الذي وعد به النبي - صلى الله عليه وسلم - المبايعين له . وهم يبذلون الأموال والنفوس!
فأما النصر في الدنيا ، والغلب في الأرض ، فلم يكن أبداً في مكة يذكر في القرآن المكي في معرض التسرية والتثبيت ..
لقد كان القرآن ينشئ قلوباً يعدها لحمل الأمانة . وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع وهي تبذل كل شيء وتحتمل كل شيء إلى شيء في هذه الأرض . ولا تنتظر إلا الآخرة . ولا ترجو إلا رضوان الله . قلوباً مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية واحتمال ، بلا جزاء في هذه الأرض قريب . ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة وغلبة الإسلام وظهور المسلمين!
حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل . وأن تنتظر الآخرة وحدها موعداً للجزاء . وموعداً كذلك للفصل بين الحق والباطل . . حتى إذا وجدت هذه القلوب ، وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت ، وآتاها النصر في الأرض ، وائتمنها عليه . لا لنفسها . ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة ، مذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه؛ ولم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه . وقد تجردت لله حقاً يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه!
وكل الآيات التي ورد فيها ذكر للنصر في الدنيا جاءت في المدينة . بعد ذلك . وبعد أن أصبح هذا الأمر خارج برنامج المؤمن وانتظاره وتطلعه ، وجاء النصر ذاته لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج واقعية في الحياة الإنسانية تقرره في صورة عملية محددة ، تراها الأجيال . فلم يكن جزاء على التعب والنصب والتضحية والآلام . إنما كان قدراً من قدر الله تكمن وراءه حكمة نحاول رؤيتها الآن! (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3860)(1/359)
1- أساليب السخرية التي اتبعها المشركون ، وفي هذا دلالة على تحريم السخرية بالمؤمنين ، والضحك منهم ، والتغامز عليهم. (1)
2- بيان ما كان عليه المشركون في مكة إبّان الدعوة وما لقيه المؤمنون منهم .
3- قوبل الكفار في الآخرة بمثل فعلهم وقولهم ، تسلية للمؤمنين ، وتثبيتا لهم على الإسلام ، وتصبرا على متاعب التكاليف ، وأذية الأعداء ، في أيام معدودة ، لنيل ثواب لا نهاية له ولا غاية ، ففي الآخرة يهزأ المؤمنون من الكفار ويضحكون منهم ، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا ، بسبب الضر والبؤس ، فضحك المؤمنون منهم بسبب ما هم فيه من أنواع العذاب والبلاء.
عَنْ قَتَادَةَ في قوله : فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ قَالَ : ذُكِرَ لَنَا أَنَّ كَعْبًا ، كَانَ يَقُولُ : " إِنَّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ كُوًى ، فَإِذَا أَرَادَ الْمُؤْمِنُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَدُوٍّ كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الْكُوَى " ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي آيَةٍ أُخْرَى : فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ ذُكِرَ لَنَا : " أَنَّهُ إِذْ ذَاكَ اطَّلَعَ فَرَأَى جَمَاجِمَ الْقَوْمِ تَغْلِي " (2) .
وعَنْ قَتَادَةَ ، فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ كَعْبًا كَانَ يَقُولُ : إِنَّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ كُوًى ، فَإِذَا أَرَادَ الْمُؤْمِنُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَدُوٍّ كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا ، اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ الْكُوَى ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ أَيْ فِي وَسَطِ النَّارِ . وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ رَأَى جَمَاجِمَ الْقَوْمِ تَغْلِي " (3)
وعَنْ قَتَادَةَ ، قَالَ كَعْبٌ : إِنَّ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَبَيْنَ أَهْلِ النَّارِ كُوًى ، لَا يَشَاءُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ إِلَّا فَعَلَ " (4)
وقَالَ عُبَيْدٌ : سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ : فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ : السُّورُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، فَيُفْتَحُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ أَبْوَابٌ ، فَيَنْظُرُونَ وَهُمْ عَلَى السُّرُرِ إِلَى أَهْلِ النَّارِ كَيْفَ يُعَذَّبُونَ ، فَيَضْحَكُونَ مِنْهُمْ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا يُقِرُّ اللَّهُ بِهِ أَعْيُنَهُمْ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى عَدُوِّهِمْ كَيْفَ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُمْ " (5)
__________
(1) - انظر : فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (5 / 2931) رقم الفتوى 32683 الناس مع البلاء بين ناجح موفق وفاشل مخفق تاريخ الفتوى : 26 ربيع الأول 1424
وفتاوى يسألونك لعفانة1-12 - (11 / 29) حكم الاستهزاء بالصلاة وبالمصلين
(2) - صِفَةُ النَّارِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (252 ) فيه انقطاع
(3) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيّ(34048 ) فيه انقطاع
(4) - نفسه (34049 ) فيه انقطاع
(5) - نفسه (34050 ) فيه انقطاع(1/360)
وعَنْ سُفْيَانَ ، فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ قَالَ : يُجَاءُ بِالْكُفَّارِ ، حَتَّى يَنْظُرُوا إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ ، عَلَى سُرُرٍ ، فَحِينَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ تُغْلَقُ دُونَهُمُ الْأَبْوَابُ ، وَيَضْحَكُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْهُمْ ، فَهُوَ قَوْلُهُ : فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ " (1)
ويدخل المؤمنون الجنة ، وأجلسوا على الأرائك ينظرون إلى الكفار ، كيف يعذبون في النار ، وكيف يصطرخون فيها ، ويدعون بالويل والثبور ، ويلعن بعضهم بعضا.
ويقال على سبيل التهكم : هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ كقوله تعالى : ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان 44/ 49] والمعنى : كأنه تعالى يقول للمؤمنين : هل جازينا الكفار على عملهم الذي كان من جملته ضحكهم بكم واستهزاؤهم بطريقتكم ، كما جازيناكم على أعمالكم الصالحة ؟ فيكون هذا القول زائدا في سرورهم لأنه يقتضي زيادة في تعظيمهم والاستخفاف بأعدائهم.
4- إكرام الله لعباده المؤمنين والثأر لهم من الكافرين .
5- الكفار دائما في عداوة وحقد وتغاير مع المؤمنين ، فلا يلتقي الإيمان مع الكفر ، ولا الدين الصحيح مع الضلال ، ولا الأخلاق العالية مع الأخلاق المرذولة. فقد كان يصدر من المشركين ألوان متعددة من أذى المؤمنين ، منها ما ذكرته هذه الآيات : وهو الاستهزاء والسخرية من المؤمنين ، وتعييبهم والطعن بهم وتعييرهم بالإسلام ، والتفكه بذكر المسلمين بالسوء أمام أهاليهم
والعجب بما هم فيه من الشرك والمعصية والتنعم بالدنيا ، وقولهم بأن المؤمنين في ضلال لتركهم دين الآباء والأجداد واتباعهم محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، وتركهم التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب غير مؤكد الحصول.
مقاصد هذه السورة
(1) وعيد المطففين.
(2) بيان أن صحائف أعمال الفجار فى أسفل سافلين.
(3) الإرشاد إلى أن صحائف أعمال الأبرار فى أعلى عليين.
(4) وصف نعيم الأبرار فى مآكلهم ومشاربهم ومساكنهم.
(5) استهزاء المجرمين بالمؤمنين فى الدنيا وتغامزهم بهم وحكمهم عليهم بالضلال.
(6) تضاحك المؤمنين منهم يوم القيامة.
(7) نظر المؤمنين إلى المجرمين وهم يلقون جزاءهم وما أعدّ لهم من النكال. (2)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - نفسه (34051 ) صحيح
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 86)(1/361)
سورة الانشقاق
مكيّة ، وهي خمس وعشرون آية
تسميتها :
سميت سورة الانشقاق لقوله تعالى : إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ أي تشققت وتصدعت مؤذنة بخراب العالم ، ومنذرة بهول يوم القيامة.
قال ابن عاشور :
" سميت في زمن الصحابة "سورة إذا السماء انشقت". ففي الموطأ عن أبي سلمة أن أبا هريرة قرأ بهم إذا السماء انشقت فسجد فيها فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجد فيها. فضمير "فيها" عائد إلى {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الإنشقاق:1] بتأويل السورة، وبذلك عنونها البخاري والترمذي وكذلك سماها في "الإتقان".
سماها المفسرون وكتاب المصاحف "سورة الانشقاق" باعتبار المعنى كما سميت السورة السابقة "سورة التطفيف" و "سورة انشقت" اختصارا.
وذكرها الجعبري في "نظمه" في تعداد المكي والمدني بلفظ "كدح" فيحتمل أنه عنى أنه اسم للسورة ولم أقف على ذلك لغيره.
ولم يذكرها في "الإتقان" مع السور ذوات الأكثر من اسم.
وهي مكية بالاتفاق.وقد عدت الثالثة والثمانين في تعداد نزول السور نزلت بعد سورة الانفطار وقبل سورة الروم.وعد آيها خمسا وعشرين أهل العدد بالمدينة ومكة والكوفة وعدها أهل البصرة والشام ثلاثا وعشرين.
أغراضها
ابتدئت بوصف أشراط الساعة وحلول يوم البعث واختلاف أحوال الخلق يومئذ بين أهل نعيم وأهل شقاء. " (1)
مناسبتها لما قبلها :
السور الأربعة : الانشقاق وما قبلها وهي سور المطففين والانفطار والتكوير كلها في صفة حال يوم القيامة ، ذكرت على ترتيب ما يقع فيه ، فغالب ما وقع في التكوير ، وجميع ما وقع في الانفطار يقع في صدر يوم القيامة ، وأغلب ما ذكر في المطففين في أحوال الأشقياء الفجار والمتقين الأبرار في الآخرة ، وعنيت سورة الانشقاق بالجمع بين ما يحدث من مقدمات ومشاهد
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 193)(1/362)
الآخرة الرهيبة وبين ما يعقب ذلك من الحساب اليسير لأهل اليمين والحساب العسير لأهل الشمال.
وفي السورة المتقدمة ذكر مقر كتب الحفظة ، وفي هذه ذكر كيفية عرضها يوم القيامة.
وقال الخطيب : " تعد هذه السورة ، وما سبقها ، وما يأتى بعدها ، حديثا متصلا عن القيامة وأحداثها .. فكل سورة منها معرض من معارض هذا اليوم المشهود ..
فإذا ذهبنا نلتمس مناسبة لترتيب هذه السور ، كان ذلك أشبه بالتماس المناسبة بين ترتيب الآي فى السورة الواحدة .. والمناسبة هنا وهناك قائمة أبدا .." (1)
وقال البقاعي :
" مقصودها الدلالة على آخر المطففين من أن الأولياء ينعمون والأعداء يعذبون ، لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث ولا بالعرض على الملك الذي أوجدهم ورباهم كما يعرض الملوك عبيدهم ويحكمون بينهم فينقسمون إلى أهل ثواب وأهل عقاب واسمها الانشقاق أدل دليل على ذلك بتأمل الظرف وجوابه الدلال على الناقد البصير وحسابه ) بسم الله ( ذي الجلال والإكرام ) الرحمن ( الذي كملت نعمته فشملت الخاص والعام ) الرحيم ( الذي أتمها بعد العموم على أوليائه فأسعدهم بإتمام الإنعام ." (2)
ما اشتملت عليه السورة :
* سورة الانشقاق مكية ، وقد تناولت الحديث عن أهوال القيامة ، كشأن سائر السور المكية التي تعالج أصول العقيدة الإسلامية
* ابتدأت السورة الكريمة بذكر بعض مشاهد الآخرة ، وصورت الإنقلاب الذي يحدث في الكون عند قيام الساعة [ إذا السماء انشقت ، وأذنت لربها وحقت ، وإذا الأرض مدت ، وألقت ما فيها وتخلت ، وأذنت لربها وحقت
* ثم تحدثت عن مصير الإنسان ، الذي يكد ويتعب في تحصيل أسباب رزقه ومعاشه ، ليقدم لآخرته ما يشتهي من صالح أو طالح ، ومن خير أو شر ، ثم هناك الجزاء العادل [ يا أيها الإنسان انك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ، فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا ] الآيات
* ثم تناولت موقف المشركين من هذا القرآن العظيم ، وأقسمت بأنهم سيلقون الأهوال والشدائد ويركبون الأخطار والأهوال ، في ذلك اليوم الرهيب العصيب ، الذي لا ينفع فيه مال ولا ولد [ فلا أقسم بالشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق ، لتركبن طبقا عن طبق ] الآيات
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1500)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 367)(1/363)
* وختمت السورة الكريمة بتوبيخ المشركين على عدم إيمانهم بالله ، مع وضوح آياته وسطوع براهينه ، وبشرتهم بالعذاب الأليم في دار الجحيم [ فما لهم لا يؤمنون ، وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون ، بل الذين كفروا يكذبون ، والله أعلم بما يوعون ، فبشرهم بعذاب أليم ، إلا الذين آمنوآ وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون
قال الله تعالى : [ إذا السماء انشقت . . ] إلى قوله [ لهم أجر غير ممنون ] من آية 1 إلى آية 25 نهاية السورة الكريمة. (1)
تبدأ السورة ببعض مشاهد الانقلاب الكونية التي عرضت بتوسع في سورة التكوير ، ثم عرضت بتوسع في سورة التكوير ، ثم في سورة الانفطار . ومن قبل في سورة النبأ . ولكنها هنا ذات طابع خاص . طابع الاستسلام لله . استسلام السماء واستسلام الأرض ، في طواعية وخشوع ويسر : { إذا السماء انشقت ، وأذنت لربها وحقت . وإذا الأرض مدت ، وألقت ما فيها وتخلت ، وأذنت لربها وحقت } . .
ذلك المطلع الخاشع الجليل تمهيد لخطاب « الإنسان » ، وإلقاء الخشوع في قلبه لربه . وتذكيره بأمره؛ وبمصيره الذي هو صائر إليه عنده . حين ينطبع في حسه ظل الطاعة والخشوع والاستسلام الذي تلقيه في حسه السماء والأرض في المشهد الهائل الجليل : { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه ، فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً ، وينقلب إلى أهله مسروراً ، وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبوراً ، ويصلى سعيراً . إنه كان في أهله مسروراً . إنه ظن أن لن يحور . بلى إن ربه كان به بصيراً } . .
والمقطع الثالث عرض لمشاهد كونية حاضرة ، مما يقع تحت حس « الإنسان » لها إيحاؤها ولها دلالتها على التدبير والتقدير ، مع التلويح بالقسم بها على أن الناس متقلبون في أحوال مقدرة مدبرة ، لا مفر لهم من ركوبهم ومعاناتها : { فلا أقسم بالشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق؛ لتركبن طبقاً عن طبق } . .
ثم يجيء المقطع الأخير في السورة تعجيباً من حال الناس الذين لا يؤمنون؛ وهذه هي حقيقة أمرهم ، كما عرضت في المقطعين السابقين . وتلك هي نهايتهم ونهاية عالمهم كما جاء في مطلع السورة : { فما لهم لا يؤمنون؟ وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون؟ } . . ثم بيان لعلم الله بما يضمون عليه جوانحهم وتهديد لهم بمصيرهم المحتوم : { بل الذين كفروا يكذبون . والله أعلم بما يوعون . فبشرهم بعذاب أليم . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات . لهم أجر غير ممنون } . .
__________
(1) - انظر صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 471)(1/364)
إنها سورة هادئة الإيقاع ، جليلة الإيحاء ، يغلب عليها هذا الطابع حتى في مشاهد الانقلاب الكونية التي عرضتها سورة التكوير في جو عاصف . سورة فيها لهجة التبصير المشفق الرحيم ، خطوة خطوة . في راحة ويسر ، وفي إيحاء هادئ عميق . والخطاب فيها : { يا أيها الإنسان } فيه تذكير واستجاشة للضمير .
وهي بترتيب مقاطعها على هذا النحو تطوف بالقلب البشري في مجالات كونية وإنسانية شتى ، متعاقبة تعاقباً مقصوداً . . فمن مشهد الاستسلام الكوني . إلى لمسة لقلب « الإنسان » . إلى مشهد الحساب والجزاء . إلى مشهد الكون الحاضر وظواهره الموحية . إلى لمسة للقلب البشري أخرى . إلى التعجيب من حال الذين لا يؤمنون بعد ذلك كله . إلى التهديد بالعذاب الأليم واستثناء المؤمنين بأجر غير ممنون . .
كل هذه الجولات والمشاهد والإيحاءات واللمسات في سورة قصيرة لا تتجاوز عدة أسطر .
. وهو ما لا يعهد إلا في هذا الكتاب العجيب! فإن هذه الأغراض يتعذر الوفاء بها في الحيز الكبير ولا تؤدى بهذه القوة وبهذا التأثير . . ولكنه القرآن ميسر للذكر؛ يخاطب القلوب مباشرة من منافذها القريبة . صبغة العليم الخبير! (1)
وقال دروزة : " في السورة إشارة إلى مشاهد القيامة. وبيان لمصير الأبرار والأشرار فيها.
وتوكيد إنذاري وتنديدي للكفار بأنهم ستتبدل حالهم وينالهم العذاب دون المؤمنين الصالحين.
ونظم السورة وترابط آياتها يسوغان القول بوحدة نزولها. " (2)
فضلها :
عَنْ أَبِى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَرَأَ بِهِمْ (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) فَسَجَدَ فِيهَا فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَجَدَ فِيهَا."سنن النسائى (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " سَجَدْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ "شرح مشكل الآثار (4)
وعَنْ أَبِى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَرَأَ لَهُمْ ( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) فَسَجَدَ فِيهَا فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَجَدَ فِيهَا."صحيح مسلم (5)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3865)
(2) - التفسير الحديث لدروزة - (1 / 3320)
(3) - سنن النسائى (969 ) صحيح
(4) - شرح مشكل الآثار - (9 / 239) (3603 ) صحيح
(5) - صحيح مسلم (1327 )(1/365)
وعَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}[سورة الانشقاق آية 1 ]، فَسَجَدَ فِيهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَجَدَ بِهَا فَلا أَزَالُ أَسْجُدُ فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: فَسَجَدَ بِهَا، وَقَالَ الدَّقِيقِيُّ: فَلا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}[سورة الانشقاق آية 1 ] وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}[سورة العلق آية 1 ]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَجَدْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}[سورة الانشقاق آية 1 ] وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}[سورة العلق آية 1 ]، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى، بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ قَرَأَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [سورة الانشقاق آية 1 ] فَسَجَدَ فِيهَا فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَجَدَ فِيهَا"
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَجَدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}[سورة الانشقاق آية 1 ] وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}[سورة العلق آية 1 ] سَجْدَتَيْنِ. (1)
وعَنْ أَبِى رَافِعٍ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ أَبِى هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ ( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ) فَسَجَدَ فَقُلْتُ لَهُ قَالَ سَجَدْتُ خَلْفَ أَبِى الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - فَلاَ أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ .
وعَنْ أَبِى رَافِعٍ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ أَبِى هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ ( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ) فَسَجَدَ فَقُلْتُ مَا هَذِهِ قَالَ سَجَدْتُ بِهَا خَلْفَ أَبِى الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - فَلاَ أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ .وعَنْ أَبِى سَلَمَةَ قَالَ رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَرَأَ ( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ) فَسَجَدَ بِهَا فَقُلْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ، أَلَمْ أَرَكَ تَسْجُدُ قَالَ لَوْ لَمْ أَرَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْجُدُ لَمْ أَسْجُد.
وعَنْ أَبِى رَافِعٍ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ أَبِى هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ ( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ) فَسَجَدَ فَقُلْتُ مَا هَذِهِ قَالَ سَجَدْتُ بِهَا خَلْفَ أَبِى الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - فَلاَ أَزَالُ أَسْجُدُ فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ ." أخرجه الشيخان (2) .
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - مسند أبي عوانة (1548 - 1552 ) صحيح
(2) - صحيح البخارى (766 و768 و1074و1078 ) وصحيح مسلم(1327 و1332)(1/366)
أهوال يوم القيامة وانقسام الناس فريقين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... انْشَقَّتْ ... تصدعت
2 ... أَذِنَتْ ... استمعت وأطاعت
2 ... وَحُقَّتْ ... حق لها أن تسمع وتطيع
3 ... مُدَّتْ ... زيد في سعتها
4 ... أَلْقَتْ مَا فِيهَا ... أخرجت ما في بطنها من الأموات
4 ... تَخَلَّتْ ... خلت منه
6 ... كَادِحٌ ... عامل ناصب
6 ... فَمُلاقِيهِ ... ملاق ربك فيجازيك
7 ... كِتَابَهُ ... كتاب عمله
9 ... يَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ... يرجع إلى أهله في الجنة فرحا
10 ... وَرَآءَ ظَهْرِهِ ... يأخذ بشماله من وراء ظهره
11 ... ثُبُورًا ... هلاك
14 ... يَحُورَ ... يرجع إلى الحياة
المعنى الإجمالي:
بين سبحانه فى أوائل هذه السورة أهوال يوم القيامة ، فذكر أنه حين انشقاق السماء واختلال نظام العالم ، وانبساط الأرض بنسف ما فيها من جبال ، وتخليها عما فى جوفها - يلاقى المرء ربه فيوفيه حسابه ، وينقسم الناس حينئذ فريقين :
(1) فريق الصالحين البررة ، وهؤلاء يحاسبون حسابا يسيرا ويرجعون مسرورين إلى أهلهم.(1/367)
(2) فريق الكفرة والعصاة ، وهؤلاء يؤتون كتبهم وراء ظهورهم ، ثم يصلون حر النار لأنهم كانوا فرحين بما يتمتعون به من اللذات والجري وراء الشهوات ، إذ كانوا يظنون أن لا بعث ولا حساب ، ولا ثواب ولا عقاب. (1)
إذا أراد اللّه ذهاب هذا العالم ، وقيام الساعة ، اختل نظام الدنيا ، بأى صورة كانت ، وعلى أى شكل يريده اللّه ، فترى عند ذلك أن السماء تتشقق وتنفطر ، ويعلو الجو غمام وأى غمام ؟ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ عند ذلك ترى أن السماء قد استجابت لأمر ربها وانقادت له ، وحق لها ذلك الامتثال والاستماع لأمره ، وكيف لا يكون ذلك وهي في قبضته وتحت سلطانه. وهو الذي يمسك السماء والأرض أن تزولا ، عند ذلك تكور الشمس ، وتتناثر النجوم والكواكب ، وأما الأرض فلا يمكن أن تبقى على حالها بل نراها قد اندكت جبالها ، واتسعت سهولها وامتد جرمها ، وألقت ما في باطنها من الكنوز والأجساد والعظام البالية ، وتخلت عن كل ذلك ، ولم يبق في باطنها شيء وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ وإذا السماء انشقت ، وإذا الأرض مدت ، وألقت ما في باطنها وتخلت عن كل شيء.
يكون ماذا ؟ يكون ما شاء اللّه مما ذكره في غير موضع من القرآن ، ويقال : إن الجواب محذوف دل عليه قوله تعالى : يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ وكأن المعنى : إذا السماء انشقت ، وإذا الأرض مدت ... إلخ. كان البعث ولاقى الإنسان ربه فوفاه حسابه.
يا أيها الإنسان المجد في سعيه ، النشيط في عمله السريع في تحصيل معاشه وكسبه : أنت تكدح في طلب الدنيا ، حتى استبطأت حركة الزمن ، وكم تمنيت نهاية اليوم أو الشهر أو العام لتحصيل على طلبك ، أيها الإنسان ما أجهلك!! ألم تعلم بأن هذا كله من عمرك ، وأنت تكدح صائرا إلى ربك ، وتجد وأصلا إلى نهايتك وموتك :
يسر المرء ما ذهب الليالى وكان ذهابهن له ذهابا
فأنت تجد في السير إلى ربك فتلاقى عملك هناك أوضح من الشمس فاعمل في دنياك على هذا الأساس.
أيها الإنسان : ستلاقى ربك يوم القيامة ، وستلاقى عملك يوم يقوم الناس للعرض على الملك الجبار يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ وهناك يظهر الحق ، ويعرف كل عمله ، فأما من أوتى كتابه بيمينه ، وهم الصالحون المقربون فسوف يحاسبون حسابا يسيرا سهلا ، ويرجعون إلى إخوانهم من المؤمنين فرحين مسرورين لأنهم لاقوا جزاءهم. وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً وأما من أوتى كتابه بشماله أو من وراء ظهره وهم الكفار الفجار ، فسوف يحاسبون
__________
(1) - تفسير المراغي ، ج 30 ، ص : 89(1/368)
حسابا عسيرا ، ويدعون من شدة ما بهم قائلين : ووا ثبوراه ، وا هلاكاه وسيصلون سعيرا ويقاسون حر جهنم الشديد القاسي ، فإيتاء الكتاب باليمين أو بالشمال. أو من وراء الظهر تمثيل وتصوير لحالة المطلع على أعماله المستبشر المبتهج بها ، أو لحالة المبتئس العبوس الحزين بسببها : والعرب تستعير جهة اليمين للخير وجهة اليسار للشر.
وما سبب عذاب هؤلاء ؟ إنه كان في أهله ، أى : في الدنيا فرحا مسرورا فرح بطر أو أشر ، ولما كان فيه من ترف وحب للشهوة ، واستمتاع باللذة ، والذي دفعه إلى هذا كله ظنه أنه لن يرجع إلى ربه للحساب ، فيحسب ما اقترفته يداه ، بل سيرجع إلى ربه فيحاسبه حسابا كاملا ، إن ربه كان به بصيرا ، وعليما خبيرا ، ومقتضى علمه بالمخلوق علما كاملا : أنه لا يتركه سدى ، بل يجازى المحسن على إحسانه ، والمسيء على إساءته إذ مقتضى العلم الكامل بالخلق ، والعدل التام في الحكم أن اللّه لا يترك الخلق بلا حساب وثواب وجزاء ، إذ تركهم لا ينشأ إلا من أحد أمرين : إما لأنه لا يعرف حالهم - وحاشا للّه أن يكون كذلك - وهو الذي خلقهم ، وإما لأنه غير عادل في حكمه وهو مستحيل عليه ، فظهر من هذا حسن وجلال قوله تعالى : بلى - نعم سيرجع إلى ربه للحساب - إن ربه كان به بصيرا. (1)
التفسير والبيان :
يخبر اللَّه تعالى عن أهوال يوم القيامة وأماراتها بقوله : إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ أي إذا تشققت السماء وتصدعت مؤذنة بخراب العالم ، وانشقاقها من علامات القيامة ، وأطاعت ربها وانقادت له فيما أمر ، وحق لها أن تطيع أمره وتنقاد وتسمع لأنه العظيم القاهر الذي لا يمانع ولا يغالب ، بل قد قهر كل شيء ، وخضع له كل شي ء.
وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ أي وإذا الأرض بسطت وسوّيت ووسّعت بزوال جبالها وآكامها. ونسفها حتى صارت قاعا صفصفا.
ولفظت وأخرجت ما فيها من الأموات والكنوز ، وطرحتهم إلى ظهرها ، وخلت خلوا تاما عما فيها ، وتخلت إلى اللَّه وتبرأت من كل من فيها ، ومن أعمالهم.
ونظير الآية : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ ، فَقُلْ : يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً ، فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً ، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه 20/ 105- 107].
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ أي استمعت وأطاعت أوامر ربها ، وحق لها أن تتخلى وتستمع لما يريد ربها أن يأمرها به لأنها واقعة في قبضة القدرة الإلهية.
__________
(1) - التفسير الواضح ، ج 3 ، ص : 844(1/369)
وجواب إِذَا محذوف لإرادة التهويل على الناس ، والتقدير : إذا حدث ما حدث ، رأيتم أعمالكم من خير أو شر.
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ أي يا أيها الإنسان ، والمراد به الجنس الذي يشمل المؤمن والكافر ، إنك عامل في هذه الحياة ومجاهد ومجدّ في عملك ، ومصير سعيك وعملك إلى ربك أو إلى لقائه بالموت ، وإنك ستلقى ما عملت من خير أو شر ، أو سوف تلقى ربك بعملك. والكدح : جهد النفس في العمل حتى تأثرت.
عَنْ أَبِي حَازِمٍ ، قَالَ مَرَّةً : عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، وَقَالَ مَرَّةً : عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، قَالَ : جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ ، وَأَحْبِبْ مَنْ أَحْبَبْتَ فَإِنَّكَ مَفَارِقُهُ ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ ، ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، شَرَفُ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ "المستدرك للحاكم (1) .
وعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " قَالَ لِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ أَحْبَبْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُلَاقِيهِ " شعب الإيمان (2)
فقوله : فَمُلاقِيهِ يعود الضمير إلى العمل من خير أو شر ، وقيل : يعود الضمير على قوله رَبِّكَ أي فملاق ربك ، ومعناه : فيجازيك بعملك ويكافئك على سعيك.
ثم ذكر أحوال الناس وانقسامهم إلى فريقين يوم القيامة ، فقال : الفريق الأول- المؤمنون : فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ، وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً أي فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه وهم المؤمنون ، فإنه يحاسب حسابا سهلا ، بأن تعرض عليه سيئاته ، ثم يغفرها اللّه ويتجاوز عنها ، من غير أن يناقشه الحساب ، فذلك هو الحساب اليسير.
عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ » . قَالَتْ قُلْتُ أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ( فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ) . قَالَ « ذَلِكِ الْعَرْضُ »صحيح البخارى (3) .
وعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ فِي بَعْضِ صَلاتِهِ : اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا فَلَمَّا انْصَرَفَ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا الْحِسَابُ ، قَالَ : يُنْظَرُ فِي كِتَابِهِ وَيُتَجَاوَزُ عَنْهُ ، إِنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَئِذٍ يَا عَائِشَةُ هَلَكَ ، وَكُلُّ مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ يُلْقِي اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةَ تَشُوكُهُ " (4)
__________
(1) - المستدرك للحاكم (7921) وصحيح الجامع (4355) صحيح لغيره
(2) - شعب الإيمان - (13 / 125) (10057 ) صحيح لغيره
(3) - صحيح البخارى (6536 )
(4) - المستدرك للحاكم (190) صحيح(1/370)
وعَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ ، قَالَتْ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق] ، قَالَ : ذَاكَ الْعَرْضُ لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ هَلَكَ."صحيح ابن حبان (1)
وعن ابْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَتْ لاَ تَسْمَعُ شَيْئًا لاَ تَعْرِفُهُ إِلاَّ رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ ، وَأَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ » . قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ أَوَ لَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ( فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ) قَالَتْ فَقَالَ « إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ » صحيح البخارى. (2)
وهذا الذي يعطى كتابه بيمينه ويحاسب حسابا يسيرا بالعرض يرجع إلى أهله وعشيرته في الجنة مغتبطا فرحا مسرورا بما أعطاه اللّه عز وجل وما أوتي من الخير والكرامة.
وَعَنْ ثَوْبَانَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إِنَّكُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالا لا تُعْرَفُ ، وَيُوشِكُ الْعَازِبُ أَنْ يثُوبَ إِلَى أَهْلِهِ ، فَمَسْرُورٌ ، ومَكْظُومٌ. " . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ (3)
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، قَالَ : مَا أَنْكَرْتُمْ مِنْ زَمَانِكُمْ فَبِمَا غَيَّرْتُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ . فَإِنْ يَكُ خَيْرًا فَوَاهًا وَاهًا , وَإِنْ يَكُ شَرًّا فآهًا آهًا . سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - ."رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ (4)
ونظير الآية قوله : فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَيَقُولُ : هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة 69/ 19- 21].
الفريق الثاني- الكافرون : وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ ، فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً ، وَيَصْلى سَعِيراً أي وأما من أعطي كتاب أعماله بشماله من وراء ظهره حيث تثنى يده خلفه ، ويعطى كتابه بها ، وتكون يمينه مغلولة إلى عنقه ، فإذا قرأ كتابه ، نادى يا ثبوراه ، أي بالهلاك والخسار ، ثم يدخل جهنم ، ويصلى حرّ نارها وشدتها.
ونظير الآية قوله : وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ، فَيَقُولُ : يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ ، وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ، يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ، ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ [الحاقة 69/ 25- 29].
ثم ذكر اللّه تعالى سببين لعذابه فقال :
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (16 / 369) (7369) صحيح
(2) - صحيح البخارى(103 )
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (2 / 112) (1400) حسن
فيه يحيى بن عبد الحميد الحمانى مختلف فيه والصحيح أنه لا بأس به الكامل 7/239
(4) - مسند الشاميين للطبراني (26) حسن(1/371)
1- إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً أي إنه كان في الدنيا فرحا لا يفكر في العواقب ، ولا يخاف مما أمامه ، وإنما يتبع هواه ، ويركب شهواته ، بطرا أشرا لعدم خطور الآخرة بباله ، فأعقبه ذلك الفرح اليسير حزنا طويلا.
2- إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أي إن سبب ذلك السرور والبطر ظنه بأنه لا يرجع إلى اللّه ، ولا يبعث للحساب والعقاب ، ولا يعاد بعد الموت.
ثم رد اللّه عليه ظنه قائلا : بَلى ، إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً أي بلى إنه سيحور ويرجع إلى ربه ، وسيعيده اللّه كما بدأه ، ويجازيه على أعماله خيرها وشرها ، فإن اللّه ربه كان به وبأعماله عالما خبيرا ، لا يخفى عليه منها شيء أو خافية.
وفي هذا إشارة إلى أنه لا بد من دار للجزاء غير دار التكليف لأن ذلك مقتضى العلم التام والقدرة والحكمة.
ومضات :
في الآيات الخمس الأولى ما يلهم أنها في صدد مشاهد يوم القيامة : فحينما تنشقّ السماء انقيادا لأمر ربها وأداء لما عليها نحوه من حقّ الطاعة ، وحينما تنبسط الأرض وتمتد وتنفتح عمّا في باطنها وتقذف به إلى سطحها وتتخلّى عنه انقيادا لأمر ربها كذلك وأداء لما عليها من حقّ الطاعة تكون القيامة قد قامت. وعبارة (تكون القيامة قد قامت) مقدرة تقديرا. والتقدير بديهي لأنه نتيجة طبيعية لما احتوته الآيات الخمس من المشاهد. وهو ما يقرره جمهور المفسرين.
وفي الآيات التالية خطاب للإنسان في صدد مصائر الناس يوم القيامة : فكل إنسان ساع في حياته الدنيا. وكل ساع ملاق عند ربه نتيجة سعيه. فالذي يعطى يوم القيامة كتاب عمله بيمينه يكون حسابه يسيرا هينا ويعود إلى أهله راضيا مسرورا.
والذي يعطى كتاب عمله من وراء ظهره فيتمنى الموت فلا يناله ويندب حظه ويصلى النار المستعرة جزاء ما قدمت يداه لأنه كان في حياته مغرورا بما كان له من قوة ومال وما كان يتمتع به من هدوء البال والنعم غير حاسب لحساب الآخرة لأنه كان موقنا بعدم البعث بعد الموت في حين كانت عين اللّه مراقبة له وبصيرة به ومحصية عليه عمله.
ومطلع السورة من المطالع المألوفة في كثير من السور. وتعبير الانقلاب إلى الأهل مستمد من مألوف الخطاب الدنيوي على ما جرت عليه حكمة التنزيل في وصف المشاهد الأخروية مما مرّت منه أمثلة عديدة. ويلحظ أن كتاب أعمال الكافر الآثم هنا يعطى له من وراء ظهره في(1/372)
حين ذكر في سور سابقة أنه يعطى له بشماله. حيث يبدو أن التعبير الجديد مما يقوم في اللغة مقام ذلك التعبير. (1)
وهذه الحياة الأخرى ، هى امتداد لحياة الإنسان الأولى على هذه الأرض ..
والحياة على أية صورة نعمة من نعم اللّه ، وهى على ما تكون عليه ، خير من العدم .. ولو كانت الحياة الدنيا هى غاية حياة الإنسان ، ثم عاد بعدها إلى العدم لكان شأنه فى هذا شأن أحط الحيوانات ، من ديدان وحشرات .. وإرادة اللّه سبحانه وتعالى فى الإنسان أنه مخلوق مكرم مفضل على كثير من المخلوقات ..
ومن مقتضى هذا التفضيل والتكريم أن تمتد حياته ، وأن يتصل وجوده ، وأن ينقل من عالم الأرض إلى عالم السماء!
ولعل هذا هو بعض السر فى إضافة هذا الإنسان ـ على ضلاله ـ إلى ربه .. « إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً » ..
فليتحمل الإنسان الضالّ ، هذه النار فى سبيل الحياة ، وليتطهر من أدرانه بها ..
فتلك هى ضريبة الحياة ، وإن كانت فادحة على أهل الكفر والضلال ، كما كانت الحياة الدنيا ثقيلة على أهل العدل والإحسان ..
وأما ما يتمناه الكافر حين يلقى به فى النار من قوله : يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً » (40 : النبأ) فتلك صرخة من صرخات العذاب ، إنه ينطق بها ، وهو ممسك بالحياة حريص عليها ، كما يفعل ذلك كثير من الناس فى الدنيا ، حين تشتد بهم خطوبها ، فيتمنون الموت .. ولو جاءهم الموت لفرّوا منه ، وتشبثوا بحياتهم تلك .. (2)
وقال القاشانيّ { يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ } أي : إنك ساعٍ مجتهد في الذهاب إليه بالموت ، أي : تسير مع أنفاسك سريعاً ، كما قيل : أنفاسك خطاك إلى أجَلِك ، أو مجتهد مجدٌّ في العمل : خيراً أو شراً ، ذاهب إلى ربك فملاقيه ضرورة . قال : والضمير إما للرب وإما للكدح . وأصل الكدح جهد النفس في العمل والكد فيه ، حتى يؤثر فيها ، من : كدَح جلده ، إذا خدشه ، فاستعير للجد في العمل وللتعب ، بجامع التأثير في ظاهر البشرة . (3)
وانشقاق السماء سبق الحديث عنه في سور سابقة . أما الجديد هنا فهو استسلام السماء لربها؛ ووقوع الحق عليها ، وخضوعها لوقع هذا الحق وطاعتها : { وأذنت لربها وحقت } . .
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة - (1 / 3321)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ، ج 16 ، ص : 1506
(3) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 181)(1/373)
فإذن السماء لربها : استسلامها وطاعتها لأمره في الانشقاق ، { وحقت } . . أي وقع عليها الحق . واعترفت بأنها محقوقة لربها . وهو مظهر من مظاهر الخضوع ، لأن هذا حق عليها مسلم به منها .
والجديد هنا كذلك هو مد الأرض : { وإذا الأرض مدت } . . وقد يعني هذا مط رقعتها وشكلها ، مما ينشأ عن انقلاب النواميس التي كانت تحكمها ، وتحفظها في هذا الشكل الذي انتهت إليه والمقول إنه كري أو بيضاوي والتعبير يجعل وقوع هذا الأمر لها آتياً من فعل خارج عنها ، مما يفيده بناء الفعل للمجهول : { مدت } .
{ وألقت ما فيها وتخلت } . . وهو تعبير يصور الأرض كائنة حية تلقي ما فيها وتتخلى عنه . وما فيها كثير . منه تلك الخلائق التي لا تحصى ، والتي طوتها الأرض في أجيالها التي لا يعلم إلا الله مداها . ومنه سائر ما يختبئ في جوف الأرض من معادن ومياه وأسرار لا يعلمها إلا بارئها . وقد حملت هذا أجيالاً بعد أجيال ، وقروناً بعد قرون . حتى إذا كان ذلك اليوم : ألقت ما فيها وتخلت . .
{ وأذنت لربها وحقت } . . هي الأخرى كما أذنت السماء لربها وحقت . واستجابت لأمره مستسلمة مذعنة ، معترفة أن هذا حق عليها ، وأنها طائعة لربها بحقه هذا عليها . .
وتبدو السماء والأرض بهذه الآيات المصورة ذواتي روح . وخليقتين من الأحياء . تستمعان للأمر ، وتلبيان للفور ، وتطيعان طاعة المعترف بالحق ، المستسلم لمقتضاه ، استسلاماً لا التواء فيه ولا إكراه .
ومع أن المشهد من مشاهد الانقلاب الكوني في ذلك اليوم . فإن صورته هنا يظللها الخشوع والجلال والوقار والهدوء العميق الظلال . والذي يتبقى في الحس منه هو ظل الاستسلام الطائع الخاشع في غير ما جلبة ولا معارضة ولا كلام!
وفي هذا الجو الخاشع الطائع يجيء النداء العلوي للإنسان ، وأمامه الكون بسمائه وأرضه مستسلماً لربه هذا الاستسلام : { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } . .
{ يا أيها الإنسان } . . الذي خلقه ربه بإحسان؛ والذي ميزه بهذه « الإنسانية » التي تفرده في هذا الكون بخصائص كان من شأنها أن يكون أعرف بربه ، وأطوع لأمره من الأرض والسماء . وقد نفخ فيه من روحه ، وأودعه القدرة على الاتصال به ، وتلقي قبس من نوره ، والفرح باستقبال فيوضاته ، والتطهر بها أو الارتفاع إلى غير حد ، حتى يبلغ الكمال المقدر لجنسه ، وآفاق هذا الكمال عالية بعيدة!(1/374)
{ يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } .. يا أيها الإنسان إنك تقطع رحلة حياتك على الأرض كادحاً ، تحمل عبئك ، وتجهد جهدك ، وتشق طريقك . . لتصل في النهاية إلى ربك . فإليه المرجع وإليه المآب . بعد الكد والكدح والجهاد . .
يا أيها الإنسان . . إنك كادح حتى في متاعك . . فأنت لا تبلغه في هذه الأرض إلا بجهد وكد . إن لم يكن جهد بدن وكد عمل ، فهو جهد تفكير وكد مشاعر . الواجد والمحروم سواء . إنما يختلف نوع الكدح ولون العناء ، وحقيقة الكدح هي المستقرة في حياة الإنسان . . ثم النهاية في آخر المطاف إلى الله سواء .
يا أيها الإنسان . . إنك لا تجد الراحة في الأرض أبداً . إنما الراحة هناك . لمن يقدم لها بالطاعة والاستسلام . . التعب واحد في الأرض والكدح واحد وإن اختلف لونه وطعمه أما العاقبة فمختلفة عندما تصل إلى ربك . . فواحد إلى عناء دونه عناء الأرض . وواحد إلى نعيم يمسح على آلام الأرض كأنه لم يكن كدح ولا كد . .
يا أيها الإنسان . . الذي امتاز بخصائص « الإنسان » . . ألا فاختر لنفسك ما يليق بهذا الامتياز الذي خصك به الله ، اختر لنفسك الراحة من الكدح عندما تلقاه .
ولأن هذه اللمسة الكامنة في هذا النداء ، فإنه يصل بها مصائر الكادحين عندما يصلون إلى نهاية الطريق ، ويلقون ربهم بعد الكدح والعناء :{ وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبوراً ، ويصلى سعيراً . إنه كان في أهله مسروراً . إنه ظن أن لن يحور . بلى إن ربه كان به بصيراً } . .
والذي يؤتى كتابه بيمينه هو المرضي السعيد ، الذي آمن وأحسن ، فرضي الله عنه وكتب له النجاة . وهو يحاسب حساباً يسيراً . فلا يناقش ولا يدقق معه في الحساب . والذي يصور ذلك هو الآثار الواردة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفيها غناء . .
عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من نوقش الحساب عذب » قالت : قلت : أفليس قال الله تعالى : { فسوف يحاسب حساباً يسيراً } . قال : « ليس ذلك بالحساب ، ولكن ذلك العرض . من نوقش الحساب يوم القيامة عذب » .
وعنها كذلك قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في بعض صلاته : « اللهم حاسبني حساباً يسيراً » . فلما انصرف قلت : يا رسول الله ، ما الحساب اليسير؟ قال : « أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه . من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك » .
فهذا هو الحساب اليسير الذي يلقاه من يؤتى كتابه بيمينه . . ثم ينجو { وينقلب إلى أهله مسروراً } .. من الناجين الذين سبقوه إلى الجنة . . وهو تعبير يفيد تجمع المتوافقين على الإيمان والصلاح من أهل الجنة . كل من أحب من أهله وصحبه . ويصور رجعة الناجي من(1/375)
الحساب إلى مجموعته المتآلفة بعد الموقف العصيب . رجعته متهللاً فرحاً مسروراً بالنجاة واللقاء في الجنان!
وهو وضع يقابل وضع المعذب الهالك المأخوذ بعمله السيئ ، الذي يؤتى كتابه وهو كاره :{ وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبوراً . ويصلي سعيراً } . .والذي ألفناه في تعبيرات القرآن من قبل هو كتاب اليمين وكتاب الشمال . فهذه صورة جديدة : صورة إعطاء الكتاب من وراء الظهر . وليس يمتنع أن يكون الذي يعطى كتابه بشماله يعطاه كذلك من وراء ظهره . فهي هيئة الكاره المكره الخزيان من المواجهة!
ونحن لا ندري حقيقة الكتاب ولا كيفية إيتائه باليمين أو بالشمال أو من وراء الظهر . إنما تخلص لنا حقيقة النجاة من وراء التعبير الأول؛ وحقيقة الهلاك من وراء التعبير الثاني . وهما الحقيقتان المقصود أن نستيقنهما . وما وراء ذلك من الأشكال إنما يحيي المشهد ويعمق أثره في الحس ، والله أعلم بحقيقة ما يكون كيف تكون!
فهذا التعيس الذي قضى حياته في الأرض كدحاً ، وقطع طريقه إلى ربه كدحاً ولكن في المعصية والإثم والضلال يعرف نهايته ، ويواجه مصيره ، ويدرك أنه العناء الطويل بلا توقف في هذه المرة ولا انتهاء . فيدعو ثبوراً ، وينادي الهلاك لينقذه مما هو مقدم عليه من الشقاء . وحين يدعو الإنسان بالهلاك لينجو به ، يكون في الموقف الذي ليس بعده ما يتقيه . حتى ليصبح الهلاك أقصى أمانيه . وهذا هو المعنى الذي أراده المتنبي وهو يقول :
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا
فإنما هي التعاسة التي ليس بعدها تعاسة . والشقاء الذي ليس بعده شقاء! . . { ويصلى سعيراً } . . وهذا هو الذي يدعو الهلاك لينقذه منه . . وهيهات هيهات!
وأمام هذا المشهد التعيس يكر السياق راجعاً إلى ماضي هذا الشقي الذي انتهى به إلى هذا الشقاء . .
{ إنه كان في أهله مسروراً . إنه ظن أن لن يحور } . .وذلك كان في الدنيا . . نعم كان . . فنحن الآن مع هذا القرآن في يوم الحساب والجزاء وقد خلفنا الأرض وراءنا بعيداً في الزمان والمكان!
{ إنه كان في أهله مسروراً } . . غافلاً عما وراء اللحظة الحاضرة؛ لاهياً عما ينتظره في الدار الآخرة ، لا يحسب لها حساباً ولا يقدم لها زاداً . . { إنه ظن أن لن يحور } إلى ربه ، ولن يرجع إلى بارئه ، ولو ظن الرجعة في نهاية المطاف لاحتقب بعض الزاد ولادخر شيئاً للحساب!(1/376)
{ بلى إن ربه كان به بصيراً } . .إنه ظن أن لن يحور . ولكن الحقيقة أن ربه كان مطلعاً على أمره ، محيطاً بحقيقته ، عالماً بحركاته وخطواته ، عارفاً أنه صائر إليه ، وأنه مجازيه بما كان منه .. وكذلك كان ، حين انتهى به المطاف إلى هذا المقدور في علم الله . والذي لم يكن بد أن يكون! (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء ببيان مقدماته في انقلاب الكون ، فمن علامات القيامة : أولا- تصدع السماء وتفطرها بالغمام ، والغمام مثل السحاب الأبيض ، وثانيا- بسط الأرض ودكّ جبالها ، وإخراج أمواتها ، وتخليها عنهم ، وكل من السماء والأرض تصغي وتسمع وتنقاد وتخضع لأمر ربها ، وحق لها أن تسمع أمره.
2- يكدح كل إنسان ويتعب في حياته ، ثم يرجع يوم القيامة بعمله إلى ربه رجوعا لا محالة ، فملاق ربه ، أو ملاق عمله. قال قتادة : يا ابن آدم ، إن كدحك لضعيف ، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة اللّه ، فليفعل ، ولا قوة إلا باللّه. وهذا دليل على أن الدنيا دار عناء وتعب ولا راحة ولا فرح فيها.
3- كلُّ إنسان مكلف بالعقل والبلوغ فهو عامل وكاسب لا محالة إلى أن يموت ويلقى ربه .
4- أهل الإِيمان والتقوى يحاسبون حسابا يسيرا.
5- التنعم في الدنيا والانكباب على شهواتها وملاذها مع ترك الطاعات والصالحات ثمرة عدم الإِيمان أو اليقين بالبعث والجزاء
6- الناس فريقان يوم القيامة : سعداء مؤمنون وأشقياء كفار ، أما الفريق الأول : فهم الذين يعطون كتب أعمالهم بأيمانهم ، ويعرضون على ربهم عرضا لا مناقشة فيه ، ويتجاوز اللّهعنهم ، ويرجعون إلى عشيرتهم مسرورين ، فاللهم اجعلنا منهم.
وأما الفريق الثاني : فهم الذين يتناولون كتب أعمالهم بشمائلهم مباشرة ، أو بشمائلهم من وراء ظهورهم ، فينادون بالهلاك على أنفسهم ، فيقول الواحد منهم : يا ويلاه ، يا ثبوراه ، والثبور : الهلاك والخسارة ، ثم يدخلون النار حتى يصلوا حرّها.
وسبب خسار هذا الفريق : البطر في الدنيا ، وإنكار المعاد والحساب والجزاء والثواب والعقاب ، واللّه خبير بهم ، عليم بأن مرجعهم إليه.
والفرح المنهي عنه : ما يتولد من البطر والترفه ، لا الذي يكون من الرضى بالقضاء ومن حصول بعض الكمالات والفضائل النفسية لقوله تعالى : قُلْ : بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ ، فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس 10/ 58].
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3866)(1/377)
قال ابن زيد : وصف اللّه أهل الجنة بالمخافة والحزن والبكاء والشفقة في الدنيا ، فأعقبهم به النعيم والسرور في الآخرة ، وقرأ قول اللّه تعالى : إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ، وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ [الطور 52/ 26- 27].
ثم قال : ووصف أهل النار بالسرور في الدنيا والضحك فيها والتفكه ، فقال : إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً.
7- قوله تعالى : بَلى أي ليبعثن : دليل على الجزم بوقوع البعث ، وأنه دار العدل المطلق الذي ينال فيه كل إنسان جزاء عمله خيرا أو شرا.
- - - - - - - - - - -(1/378)
تأكيد وقوع القيامة وما يتبعها من الأهوال
قال تعالى :
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
المناسبة :
وفي التفسير المنير : " بعد بيان أحوال الناس وانقسامهم فريقين يوم القيامة : سعداء وأشقياء ، أكد اللّه تعالى وقوع يوم القيامة وما يتبعها من الأهوال بالقسم بآيات واضحة في الكون : وهي الشفق والليل والقمر على أن البعث كائن لا محالة ، وأن الناس يتعرضون لشدائد الأهوال.
ثم حكى تعالى بعض عجائب الناس أنهم لا يؤمنون بالقرآن وبالبعث ، ولا يخضعون لآي القرآن العظيم ، عنادا منهم واستكبارا ، فيجازون أشد العذاب ، إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فله الثواب الدائم غير الممنون به عليه."
المفردات :
16 ... الشَّفَقِ ... الحمرة بعد المغيب
17 ... وَسَقَ ... جمع وحمل
18 ... اتَّسَقَ ... امتلأ ويكون بدرا ليالي ( 13،14،15 )
19 ... طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ... حالا بعد حال ( رضيعا - فطيما - طفلا يافعا - شابا - كهلا - شيخا ) أو شدائد يوم القيامة و أهواله
20 ... فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ... ما يمنعهم من الإيمان
21 ... لا يَسْجُدُونَ ... إعظاما وإكراما
22 ... بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ... من سجيتهم التكذيب والعناد
23 ... يُوعُونَ ... يجمعون في صحفهم وفي صدورهم وقلوبهم من الكفر والتكذيب
25 ... غَيْرُ مَمْنُونٍ ... غير منقطع
المعنى الإجمالي:
بعد أن ذكر سبحانه أن الإنسان راجع إلى ربه فملاقيه ومحاسبه ، إما حسابا يسيرا إن كان قد عمل الصالحات ، أو حسابا عسيرا إن كان قد اجترح السيئات ، أقسم بآيات له فى الكائنات ، ظاهرات باهرات ، إن البعث كائن لا محالة ، وإن الناس يلقون شدائد الأهوال حتى يفرغوا من حسابهم ، فيصير كل أحد إلى ما أعد له من جنة أو نار.(1/379)
ونحو الآية قوله : « بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ » وقوله : « يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً » فمن عجيب أمرهم أنهم لا يؤمنون به ، وأعجب منه أنه إذا قرئ عليهم القرآن لا يخضعون له ولا يستكينون ، لأن العناد صدهم عن الإيمان ، ومنعهم من الإذعان ، واللّه أعلم بما تكنه صدورهم ، وسيجازيهم بشديد العذاب.
أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم ثواب عند ربهم لا ينقطع. (1)
فلا أقسم بالشفق وحمرته ، ولا بالليل وظلمته ، ولا بالليل وما جمع من خلق كان منتشرا في النهار ، ثم أوى إليه فجمعه تحت جناحيه ، وما جمع من أمهات إلى أفراخها ومن سائمات إلى حظائرها ، ومن نجوم اجتمعت في السماء ، وبالجملة ففي النهار الحركة والانتقال وفي الليل المأوى والسكون ، وأقسم بالقمر إذا اتسق ، واجتمع وتكامل ، واستدار وأنار الكون بنوره الكامل ليلة البدر.
لا أقسم بهذه الأشياء : لتركبن طبقا عن طبق ، لظهوره ووضوحه ، فهو غير محتاج إلى قسم ، أو المعنى : لا أقسم بهذه على إثبات البعث فإنه أمر جليل الشأن عظيم الخطر ، وهذه الأشياء لا يخشى منها أذى ، ولا يخاف منها ضرر. أو : لا أقسم بهذه الأشياء لتعظيمها ، فإنها عظيمة في نفسها من غير قسم ، وأيا كان فهو أسلوب للقسم مستعمل في لسان العرب. وقد أقسم الحق بهذه الأشياء لفتا لأنظار الناس إليها ، وأنها أثر من آثار القدرة الإلهية ، على أن في صفاتها ما ينفى كونها آلهة تعبد.
أقسم لتركبن طبقا على طبق ، ولتكونن في حالة شبيهة بتلك الحال ومطابقة لها تماما وهي الحياة الثانية ، أو لتركبن أيها الناس حالا بعد حال ، وأمرا بعد أمر ثم يستقر بكم الأمر إلى الواحد الأحد فيجازى كلا على عمله.
ألا ترى أن القادر على تغيير الأجرام العلوية ، والأفلاك السماوية من حال إلى حال قادر على البعث وإحياء الإنسان بعد مماته ؟ فما لهم لا يؤمنون ؟ أى شيء ثبت لهم حتى كفروا باللّه وباليوم الآخر ؟ مع أن الشواهد كلها ناطقة على ذلك ، وأى شيء ثبت لهم حتى جعلهم إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون للّه شكرا ، ولا يسجدون له إعجازا ، بل الذين كفروا يكذبون بلا حجة ولا برهان ، واللّه أعلم بما يحفظونه في قلوبهم من كفر وحسد وبغضاء ، إذا كان الأمر كذلك فبشرهم بعذاب أليم ، لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير مقطوع. واللّه أعلم. (2)
التفسير والبيان :
__________
(1) - تفسير المراغي - (1 / 5440)
(2) - التفسير الواضح ، ج 3 ، ص : 846(1/380)
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ أي يقسم اللّه تعالى بالشفق الذي هو الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس إلى وقت العشاء ، وبالليل الأسود البهيم وما جمع وضم ، وستر كل ما كان منتشرا ظاهرا في النهار ، وبالقمر إذا اجتمع وتكامل وصار بدرا في منتصف كل شهر قمري. والقسم بهذه الأشياء دليل على تعظيمها وتعظيم قدر مبدعها.
ولا أقسم : قسم ، وأما حرف (لا) فهو نفي ورد لكلام سابق قبل القسم ، وهنا رد اللّه تعالى على المشرك الذي ظن أن لن يحور ، بأنه سيرجع ويبعث ، وأبطل ظنه ، ثم أقسم بعده بالشفق.
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ جواب القسم ، أي لتصادفن أحوالا بعد أحوال ، هي طبقات في الشدة ، بعضها أشد من بعض ، وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها ، ثم يكون المصير الأخير : الخلود في الجنة أو في النار.
ونظير الآية قوله : بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ، ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ [التغابن 64/ 7]. وقوله : فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً [المزمل 73/ 17].
ثم أنكر اللّه تعالى على الكفار استبعادهم البعث ، فقال : فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي فأي شيء أو فما ذا يمنعهم عن الإيمان بصحة البعث والقيامة ، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وبما جاء به القرآن ، مع وجود موجبات الإيمان بذلك ، من الأدلة الكونية القاطعة الدالة على قدرة اللّه على كل شيء ، والمعجزات الظاهرة الدالة على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وصدق الوحي القرآني المنزل عليه.
وهذا استفهام إنكار ، وقيل : تعجب ، أي اعجبوا منهم في ترك الإيمان مع هذه الآيات.
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ أي وأيّ مانع لهم من سجودهم وخضوعهم عند قراءة القرآن الذي دل إعجازه على كونه منزلا من عند اللّه تعالى ؟!
ويكون سجودهم إعظاما وإكراما واحتراما لآي القرآن ، بعد أن علموا كونه معجزا ، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة.
قد احتج أبو حنيفة رحمه اللّه بالآية على وجوب السجود ، فإنه ذم لمن سمعه ، ولم يسجد.
ثم أبان اللّه تعالى سبب عدم إيمانهم باللّه تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - واليوم الآخر ، فقال : بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ أي والواقع أن الكفار يكذبون بالكتاب المشتمل على إثبات التوحيد والبعث والثواب والعقاب ، إما حسدا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وإما خوفا من ضياع المنافع والمراكز والمناصب و الرياسات ، وإما عنادا وإمعانا في البقاء على تقليد الآباء والأجداد والأسلاف.
واللّه أعلم من جميع الخلائق بما يضمرونه أو يكتمونه في أنفسهم من التكذيب ، وأعلم بأسباب الإصرار على الشرك أو الكفر ، وجمع الأعمال الصالحة والسيئة.(1/381)
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي فأخبرهم أيها النبي بأن اللّه عز وجل قد أعدّ لهم عذابا أليما. واستعمال البشارة التي هي في الأصل لما هو سار ، في الإخبار عن العذاب تهكم واستهزاء بهم.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي لكن الذين آمنوا باللّه تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - واليوم الآخر ، وخضعوا للقرآن الكريم ، وعملوا بما جاء به ، والتزموا صالح الأعمال بأعضائهم ، لهم في الدار الآخرة ثواب غير مقطوع ولا منقوص ، ولا يمنّ به عليهم ، كما قال تعالى : عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود 11/ 108]. والاستثناء منقطع في رأي الزمخشري. وقال الأكثرون : معناه إلا من تاب منهم وعمل صالحا ، فله الثواب العظيم.
وفي هذا ترغيب شديد بالإيمان والطاعة ، وزجر عن الكفر والمعصية.
ومضات :
{ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ } أي : بآيات الله وتنزيله المبين لِما ذكر من أحوال القيامة وأهوالها ، مع تحقيق موجبات تصديقه ، والإضراب عن محذوف تقديره- كما قال الإمام - لا تظن أن قرع القرآن لم يكسر أغلاق قلوبهم ، ولم يبلغ صوته أعماق ضمائرهم ، بلى قد بلغ وأقنع فيما بلغ ، ولكن العناد هو الذي يمنعهم عن الإيمان ويصدهم عن الإذعان ، فليس منشأ التكذيب قصور الدليل ، وإنما هو تقصير المستدل وإعراضه عن هدايته ، فالإضراب يرمي إلى محذوف من القول يدل عليه السابق واللاحق . (1)
والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا كما هو واضح. وقد استعملت كلمة فَبَشِّرْهُمْ على سبيل الاستهزاء كما هو المتبادر أيضا. وقد تكرر هذا في مواضع عديدة.
ومن عجيب تأويلات الشيعة تأويلهم جملة لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) بأن فيها إشارة إلى أن هذه الأمة ستسلك سبيل من كان قبلها من الأمم في الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء «1». وفي هذا من الشطط الحزبي ما يماثل كثيرا مما مرّ التنبيه إليه.
وننبّه على أن بين أسلوب هذه السورة ومضامينها وكذلك أسلوب السور السابقة لها أي الانفطار والنازعات والنبأ والمعارج والحاقّة والملك والطور ومضامينها ، وبين أسلوب ومضامين كثير من السور المبكرة في النزول مثل التكوير والأعلى والليل والفجر والشمس والقارعة والقيامة وق والطارق تماثل كبير مما يبعث الشكّ في صحة ترتيب نزولها في أواخر العهد المكيّ ومما يسوغ الظنّ بأنها مما نزل في عهد مبكر وإن كان ترتيبها في تراتيب النزول العديدة المرويّة متقاربا مع ترتيبها الذي ذكر في المصحف الذي اعتمدنا عليه وسرنا وفقه. (2)
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 184)
(2) - التفسير الحديث ، ج 5 ، ص : 428(1/382)
قوله تعالى : «فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ » .وهكذا يتحول النبي مع هؤلاء المشركين المكذبين ، من منذر إلى مبشر ، ولكنه مبشّر بالعذاب الأليم لهم .. فهذا ما يبشرهم به ، على حين يبشر المؤمنين بجنات النعيم .. وفى التعبير بالبشرى عن بالعذاب الأليم بدلا من الإنذار به ـ إشارة إلى أنه لا شى ء لهؤلاء الضالين المكذبين يبشرون به فى هذا اليوم ، وأنهم إذا بشروا بشى ء فليس إلا النار ، والعذاب الأليم .. وفى هذا تيئيس لهؤلاء الضالين من أي خير!! (1)
وصورة هذا التعيس وهو مسرور بين أهله في حياة الأرض القصيرة المشوبة بالكدح في صورة من صور الكدح تقابلها صورة ذلك السعيد ، وهو ينقلب إلى أهله مسروراً في حياة الآخرة المديدة ، الطليقة ، الجميلة ، السعيدة ، الهنيئة ، الخالية من كل شائبة من كدح أو عناء.
ومن هذه الجولة الكبيرة العميقة الأثر بمشاهدها ولمساتها الكثيرة ، يعود السياق بهم إلى لمحات من هذا الكون الذي يعيشون فيه حياتهم ، وهم غافلون عما تشي به هذه اللمحات من التدبير والتقدير ، الذي يشملهم كذلك ، ويقدّر بإحكام ما يتوارد عليهم من أحوال : { فلا أقسم بالشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق . . لتركبن طبقاً عن طبق } . .
وهذه اللمحات الكونية التي يلوح بالقسم بها ، لتوجيه القلب البشري إليها ، وتلقي إيحاءاتها وإيقاعاتها . . لمحات ذات طابع خاص . طابع يجمع بين الخشوع الساكن ، والجلال المرهوب . وهي تتفق في ظلالها مع ظلال مطلع السورة ومشاهدها بصفة عامة .
فالشفق هو الوقت الخاشع المرهوب بعد الغروب . . وبعد الغروب تأخذ النفس روعة ساكنة عميقة . ويحس القلب بمعنى الوداع وما فيه من أسى صامت وشجى عميق . كما يحس برهبة الليل القادم ، ووحشة الظلام الزاحف . ويلفه في النهاية خشوع وخوف خفي وسكون!
{ والليل وما وسق } . . هو الليل وما جمع وما حمل . . بهذا التعميم ، وبهذا التجهيل ، وبهذا التهويل . والليل يجمع ويضم ويحمل الكثير . . ويذهب التأمل بعيداً ، وهو يتقصى ما يجمعه الليل ويضمه ويحمله من أشياء وأحياء وأحداث ومشاعر ، وعوالم خافية ومضمرة ، ساربة في الأرض وغائرة في الضمير . . ثم يؤوب من هذه الرحلة المديدة ، ولم يبلغ من الصور ما يحتويه النص القرآني القصير : { والليل وما وسق } . . إنما يغمره من النص العميق العجيب ، رهبة ووجل ، وخشوع وسكون تتسق مع الشفق وما يضفيه من خشوع وخوف وسكون!
{ والقمر إذا اتسق } . . مشهد كذلك هادئ رائع ساحر . . وهو القمر في ليالي اكتماله . . وهو يفيض على الأرض بنوره الحالم الخاشع الموحي بالصمت الجليل ، والسياحة المديدة ، في
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ، ج 16 ، ص : 1511(1/383)
العوالم الظاهرة والمكنونة في الشعور . . وهو جو له خفية بجو الشفق ، والليل وما وسق . يلتقي معهما في الجلال والخشوع والسكون . .
هذه اللمحات الكونية الجميلة الجليلة الرائعة المرهوبة الموحية يلتقطها القرآن لقطات سريعة ، ويخاطب بها القلب البشري ، الذي يغفل عن خطابها الكوني . ويلوح بالقسم بها ليبرزها للمشاعر والضمائر ، في حيويتها ، وجمالها وإيحائها وإيقاعها ، ودلالتها على اليد التي تمسك بأقدار هذا الكون ، وترسم خطواته ، وتبدل أحواله . . وأحوال الناس أيضاً وهم غافلون :
{ لتركبن طبقاً عن طبق } . . أي لتعانون حالاً بعد حال ، وفق ما هو مرسوم لكم من تقديرات وأحوال . ويعبر عن معاناة الأحوال المتعاقبة بركوبها . والتعبير بركوب الأمور والأخطار والأهوال والأحوال مألوف في التعبير العربي ، كقولهم : « إن المضطر يركب الصعب من الأمور وهو عالم بركوبه » .. وكأن هذه الأحوال مطايا يركبها الناس واحدة بعد واحدة . وكل منها تمضي بهم وفق مشيئة القدر الذي يقودها ويقودهم في الطريق ، فتنتهي بهم عند غاية تؤدي إلى رأس مرحلة جديدة ، مقدرة كذلك مرسومة ، كتقدير هذه الأحوال المتعاقبة على الكون من الشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق . حتى تنتهي بهم إلى لقاء ربهم ، الذي تحدثت عنه الفقرة السالفة . . وهذا التتابع المتناسق في فقرات السورة ، والانتقال اللطيف من معنى إلى معنى ، ومن جولة إلى جولة ، هو سمة من سمات هذا القرآن البديع . .
وفي ظل هذه اللمحات الأخيرة ، والمشاهد والجولات السابقة لها في السورة ، يجيء التعجيب من أمر الذين لا يؤمنون . وأمامهم هذا الحشد من موحيات الإيمان ودلائله في أنفسهم وفي الوجود : { فما لهم لا يؤمنون؟ وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون؟ } . .
أجل! فما لهم لا يؤمنون؟
إن موحيات الإيمان في لمحات الوجود ، وفي أحوال النفوس ، تواجه القلب البشري حيثما توجه؛ وتتكاثر عليه أينما كان . وهي من الكثرة والعمق والقوة والثقل في ميزان الحقيقة بحيث تحاصر هذا القلب لو أراد التفلت منها . بينما هي تناجيه وتناغيه وتناديه حيثما ألقى بسمعه وقلبه إليها!
{ فما لهم لا يؤمنون؟ وإذا قرئ عليم القرآن لا يسجدون؟ } وهو يخاطبهم بلغة الفطرة ، ويفتح قلوبهم على موحيات الإيمان ودلائلة في الأنفس والآفاق . ويستجيش في هذه القلوب مشاعر التقوى والخشوع والطاعة والخضوع لبارئ الوجود . . وهو « السجود » . .
إن هذا الكون جميل . وموح . وفيه من اللمحات والومضات واللحظات والسبحات ما يستجيش في القلب البشري أسمى مشاعر الاستجابة والخشوع .(1/384)
وإن هذا القرآن جميل . موح . وفيه من اللمسات والموحيات ما يصل القلب البشري بالوجود الجميل ، وببارئ الوجود الجليل . ويسكب فيه حقيقة الكون الكبيرة الموحية بحقيقة خالقه العظيم . . { فما لهم لا يؤمنون؟ وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون؟ } . .
إنه لأمر عجيب حقاً . يضرب عنه السياق ليأخذ في بيان حقيقة حال الكفار ، وما ينتظرهم من مآل : { بل الذين كفروا يكذبون . والله أعلم بما يوعون . فبشرهم بعذاب أليم } . .
بل الذين كفروا يكذبون . يكذبون إطلاقاً . فالتكذيب طابعهم وميسمهم وطبعهم الأصيل . والله أعلم بما يكنون في صدورهم ، ويضمون عليه جوانحهم ، من شر وسوء ودوافع لهذا التكذيب .
ويترك الحديث عنهم ، ويتجه بالخطاب إلى الرسول الكريم : { فبشرهم بعذاب أليم } . . ويا لها من بشرى لا تسر ولا يودها متطلع إلى بشرى من بشير!
وفي الوقت ذاته يعرض ما ينتظر المؤمنين الذين لا يكذبون ، فيستعدون بالعمل الصالح لما يستقبلون . ويجيء هذا العرض في السياق كأنه استثناء من مصير الكفار المكذبين : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات . لهم أجر غير ممنون } . .
وهو الذي يقال عنه في اللغة إنه استثناء منقطع . فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لم يكونوا داخلين ابتداء في تلك البشارة السوداء ثم استنثوا منها! ولكن التعبير على هذا النحو أشد إثارة للانتباه إلى الأمر المستثنى!
والأجر غير الممنون . . هو الأجر الدائم غير المقطوع . . في دار البقاء والخلود . .
وبهذا الإيقاع الحاسم القصير ، تنتهي السورة القصيرة العبارة ، البعيدة الآماد في مجالات الكون والضمير . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- بيان أن الإِنسان مقبل على أحوال وأهوال حالا بعد حال وهولا بعد هول إلى أن ينتهى إلى جنة أو نار .
2- ماذا يمنع الكفار عن الإيمان باللّه تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - واليوم الآخر والقرآن بعد ما وضحت لهم الآيات وقامت الدلالات ؟ ! وماذا يمنعهم عن الخضوع والسجود للقرآن عند سماعه ، بعد ما عرفوا أنه معجز ، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة ؟ ! وهذا توبيخ على أنهم لا ينظرون في الدلائل حتى يورثهم الإيمان والسجود عند تلاوة القرآن.
3- مشروعية السجود عند تلاوة هذه الآية وهي وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3868)(1/385)
فجمهور العلماء على أن هذه الآية : وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ موضع سجدة تلاوة ، بدليل ما تقدم في الصحيح عن أبي هريرة أنه قرأ : إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فسجد فيها ، فلما انصرف أخبرهم أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - سجد فيها.
وقال الإمام مالك : إنها ليست من عزائم السجود ،لأن المعنى : لا يذعنون ولا يطيعون في العمل بواجباته. وعقب على ذلك ابن العربي ونقله عنه القرطبي قائلا : والصحيح أنها منه ، أي من عزائم السجود ، وهي رواية المدنيين عنه ، أي عن مالك ، وقد اعتضد فيها القرآن والسنة (1)
4- علم الله تعالى بما في قلوب العباد من خير أو شر .
5- أقسم اللّه عز وجل بالشفق (وهو حمرة السماء التي تكون عند مغيب الشمس حتى تأتي صلاة العشاء الآخرة) وبالليل وما جمع وضم ولفّ ، وبالقمر إذا اجتمع وتم واستوى ، على وقوع البعث والقيامة وما يتبعها من أهوال عظام وشدائد ضخام.
6- الواقع أن الكفار يكذبون الدلائل الموجبة للإيمان وتوابعه ، وإن كانت جلية ظاهرة ، وتكذيبهم بها إما لتقليد الأسلاف ، أو عنادا ، أو حسدا ، أو خوفا من أنهم لو أظهروا الإيمان ، لفاتتهم مناصب الدنيا ومنافعها.
واللّه عالم بما يضمرونه في أنفسهم من التكذيب والشرك والعناد وسائر العقائد الفاسدة والنيات الخبيثة ، فهو يجازيهم على ذلك.
7- صرح اللّه تعالى بوعيدهم قائلا لنبيه : فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي موجع في جهنم على تكذيبهم ، أي جعل ذلك بمنزلة البشارة تهكما واستهزاء بهم.
8- استثنى اللّه تعالى من الوعيد السابق الذين صدقوا بشهادة أن لا إله إلا اللّه ، وأن محمدا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ، وعملوا الصالحات ، أي أدّوا الفرائض المفروضة عليهم ، فلهم ثواب غير منقوص ولا مقطوع ، ولا يمنّ عليهم به.
والاستثناء منقطع عند الزمخشري كما بينا ، ولا بأس بكونه متصلا ، كأنه قال : إلا من آمن منهم ، فله أجر غير مقطوع ، أو هو من المنة.
وذكر ناس من أهل العلم أن قوله : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ليس استثناء ، وإنما هو بمعنى الواو ، كأنه قال : والذين آمنوا.
مقاصد هذه السورة
تشتمل هذه السورة على مقصدين :
(1) إن الإنسان يلاقى نتائج أعماله يوم القيامة ، فيأخذ كتابه بيمينه أو من وراء ظهره.
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي : 4/ 1899 ، تفسير القرطبي : 19/ 280- 281(1/386)
(2) أن الناس فى الدنيا بتنقلون فى أحوالهم طبقة بعد طبقة ، إما فى نعيم مقيم ، وإما فى عذاب أليم. (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 96)(1/387)
سورة البروج
مكيّة ، وهي اثنتان وعشرون آية
تسميتها :
سميت سورة البروج ، لافتتاحها بقسم اللّه بالسماء ذات البروج : وهي منازل الكواكب السيارة في أثناء سيرها ، تنويها بها لاشتمالها على الظهور والغياب.
قال ابن عاشور : " روى أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج" . وهذا ظاهر في أنها تسمى "سورة السماء ذات البروج" لأنه لم يحك لفظ القرآن، إذ لم يذكر الواو.
وأخرج أحمد أيضا عن أبي هريرة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يقرأ في العشاء بالسماوات" ، أي السماء ذات البروج والسماء والطارق فمجمعهما جمع سماء وهذا يدل على أن اسم السورتين: سورة السماء ذات البروج، سورة السماء والطارق.
وسميت في المصاحف وكتب السنة وكتب التفسير "سورة البروج".
وهي مكية باتفاق. ومعدودة السابعة والعشرين في تعداد نزول السور نزلت بعد سورة "والشمس وضحاها" وسورة "التين".وآيها اثنتان وعشرون آية.
من أغراض هذه السورة
ابتدئت أغراض هذه السورة بضرب المثل للذين فتنوا المسلمين بمكة بأنهم مثل قوم فتنوا فريقا ممن آمن بالله فجعلوا أخدودا من نار لتعذيبهم ليكون المثل تثبيتا للمسلمين وتصبيرا لهم على أذى المشركين وتذكيرهم بما جرى على سلفهم في الإيمان من شدة التعذيب الذي لم ينلهم مثله ولم يصدهم ذلك عن دينهم.
وإشعار المسلمين بأن قوة الله عظيمة فسيلقى المشركون جزاء صنيعهم ويلقى المسلمون النعيم الأبدي والنصر.
والتعريض للمسلمين بكرامتهم عند الله تعالى.
وضرب المثل بقوم فرعون وبثمود وكيف كانت عاقبة أمرهم ما كذب الرسل فحصلت العبرة للمشركين في فتنهم المسلمين وفي تكذيبهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتنويه بشأن القرآن. (1)
وفي التفسير الوسيط :
مناسبتها لما قبلها :
تتعلق السور بما قبلها من وجوه ثلاثة :
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 211)(1/388)
1- التشابه في الافتتاح بذكر السماء ، ولهذا ورد في الحديث ذكر السماوات مرادا بها السور الأربع ، كما قيل في المسبّحات. وتلك السور هي الانفطار والانشقاق ، والبروج ، والطارق.
2- اشتمال السورتين على وعد المؤمنين ، ووعيد الكافرين ، والتنويه بعظمة القرآن.
3- تضمنت السورة السابقة أن اللّه عليم بما يجمع المشركون في صدورهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين معه من أنواع الأذى المادي ، كالضرب والقتل والتعذيب في حر الشمس ، والأذى المعنوي ، من حقد وحسد ، وعداوة ، ومكر ، وخوف على فوت المنافع ، وذكر في هذه السورة أن هذا شأن من تقدمهم من الأمم الكافرة الفاجرة. وفي هذا عظة للمشركين وتثبيت للمؤمنين. (1)
ما اشتملت عليه السورة :
* هذه السورة الكريمة من السور المكية ، وهي تعرض لحقائق العقيدة الإسلامية ، والمحور الذي تدور عليه السورة الكريمة هي حادثة (أصحاب الأخدود) وهي قصة التضحية بالنفس ، في سبيل العقيدة والإيمان
* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالسماء ذات النجوم الهائلة ، ومداراتها الضخمة ، التي تدور فيها تلك الأفلاك ، وباليوم العظيم المشهود وهو " يوم القيامة " ، وبالرسل والخلائق ، على هلاك ودمار المجرمين ، الذين طرحوا المؤمنين في النار ، ليفتنوهم عن دينهم [ والسماء ذات البروج ، واليوم الموعود ، وشاهد ومشهود ، قتل أصحاب الأخدود ، النار ذات الوقود ، إذ هم عليها قعود ، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ] الآيات
* ثم تلاها الوعيد والإنذار ، لأولئك الفجار على فعلتهم القبيحة الشنيعة [ إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق
* وبعد ذلك تحدثت عن قدرة الله على الإنتقام من أعدائه الكفرة ، الذين فتنوا عباده وأولياءه إن بطش ربك لشديد ، إنه هو يبدىء ويعيد ، وهو الغفور الودود ، ذو العرش المجيد ]
* وختمت السورة الكريمة بقصة الطاغية الجبار " فرعون " وما أصابه وقومه من الهلاك والدمار بسبب البغي والطغيان [ هل أتاك حديث الجنود ، فرعون وثمود ، بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط ] إلى نهاية السورة الكريمة (2)
هذه السورة القصيرة تعرض ، حقائق العقيدة ،وقواعد التصور الإيماني . . أموراً عظيمة وتشع حولها أضواء قوية بعيدة المدى ، وراء المعاني والحقائق المباشرة التي تعبر عنها نصوصها حتى لتكاد كل آية وأحياناً كل كلمة في الآية أن تفتح كوة على عالم مترامي الأطراف من الحقيقة . .
__________
(1) - وانظر تفسير المراغي - (1 / 5442)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 474)(1/389)
والموضوع المباشر الذي تتحدث عنه السورة هو حادث أصحاب الأخدود . . والموضوع هو أن فئة من المؤمنين السابقين على الإسلام قيل إنهم من النصارى الموحدين ابتلوا بأعداء لهم طغاة قساة شريرين ، أرادوهم على ترك عقيدتهم والارتداد عن دينهم ، فأبوا وتمنعوا بعقيدتهم . فشق الطغاة لهم شقاً في الأرض ، وأوقدوا فيه النار ، وكبوا فيه جماعة المؤمنين فماتوا حرقاً ، على مرأى من الجموع التي حشدها المتسلطون لتشهد مصرع الفئة المؤمنة بهذه الطريقة البشعة ، ولكي يتلهى الطغاة بمشهد الحريق . حريق الآدميين المؤمنين : { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } . .
تبدأ السورة بقسم : { والسماء ذات البروج ، واليوم الموعود ، وشاهد ومشهود ، قتل أصحاب الأخدود . . } فتربط بين السماء وما فيها من بروج هائلة ، واليوم الموعود وأحداثه الضخام ، والحشود التي تشهده والأحداث المشهودة فيه . . تربط بين هذا كله وبين الحادث ونقمة السماء على أصحابه البغاة .
ثم تعرض المشهد المفجع في لمحات خاطفة ، تودع المشاعر بشاعة الحادث بدون تفصيل ولا تطويل . . مع التلميح إلى عظمة العقيدة التي تعالت على فتنة الناس مع شدتها ، وانتصرت على النار وعلى الحياة ذاتها ، وارتفعت إلى الأوج الذي يشرف الإنسان في أجياله جميعاً . والتلميح إلى بشاعة الفعلة ، وما يكمن فيها من بغي وشر وتسفل ، إلى جانب ذلك الارتفاع والبراءة والتطهر من جانب المؤمنين : { النار ذات الوقود . إذ هم عليها قعود . وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود } . .
بعد ذلك تجيء التعقيبات المتوالية القصيرة متضمنة تلك الأمور العظيمة في شأن الدعوة والعقيدة والتصور الإيماني الأصيل : إشارة إلى ملك الله في السماوات والأرض وشهادته وحضوره تعالى لكل ما يقع في السماوات والأرض : الله { الذي له ملك السماوات والأرض . والله على كل شيء شهيد } . .
وإشارة إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق الذي ينتظر الطغاة الفجرة السفلة؛ وإلى نعيم الجنة . . ذلك الفوز الكبير . . الذي ينتظر المؤمنين الذين اختاروا عقيدتهم على الحياة ، وارتفعوا على فتنة النار والحريق : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار . ذلك الفوز الكبير } . .وتلويح ببطش الله الشديد ، الذي يبدئ ويعيد : { إن بطش ربك لشديد . إنه هو يبدئ ويعيد } . . وهي حقيقة تتصل اتصالاً مباشراً بالحياة التي أزهقت في الحادث ، وتلقي وراء الحادث إشعاعات بعيدة ..
وبعد ذلك بعض صفات الله تعالى . وكل صفة منها تعني أمراً . .(1/390)
{ وهو الغفور الودود } الغفور للتائبين من الإثم مهما عظم وبشع . الودود لعباده الذين يختارونه على كل شيء . والود هنا هو البلسم المريح لمثل تلك القروح!
{ ذو العرش المجيد . فعال لما يريد } . . وهي صفات تصور الهيمنة المطلقة ، والقدرة المطلقة . والإرادة المطلقة . . وكلها ذات اتصال بالحادث . . كما أنها تطلق وراءه إشعاعات بعيدة الآماد .
ثم إشارة سريعة إلى سوابق من أخذه للطغاة ، وهم مدججون بالسلاح . . { هل أتاك حديث الجنود . فرعون وثمود؟ } وهما مصرعان متنوعان في طبيعتهما وآثارهما . وورءاهما مع حادث الأخدود إشعاعات كثيرة .
وفي الختام يقرر شأن الذين كفروا وإحاطة الله بهم وهم لا يشعرون : { بل الذين كفروا في تكذيب . والله من ورائهم محيط } . .
ويقرر حقيقة القرآن ، وثبات أصله وحياطته : { بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ } . . مما يوحي بأن ما يقرره هو القول الفصل والمرجع الأخير ، في كل الأمور . (1)
في السورة حملة على الكفار لاضطهادهم ضعاف المؤمنين والمؤمنات وفتنتهم إياهم عن الإسلام ، وإشارة إنذارية إلى حادث مماثل ، وتثبيت للمؤمنين وتذكير بمصائر البغاة كفرعون وثمود ، وتنويه بقدر القرآن وحفظه وآياتها متصلة ببعضها نظما وموضوعا. (2)
وفي نظم الدرر :
" مقصودها الدلالة على القدرة على مقصود الانشقاق الذي هو صريح آخرها من تنعيم الولي وتعذيب الشقي بمن عذبه في الدنيا ممن لا يمكن في العادة أن يكون عذابه ذلك إلا من الله وحده تسلية لقلوب المؤمنين وتثبيتا لهم على أذى الكافرين ، وعلى ذلك الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلما ) الرحمن ( الذي عم الخلائق عدلا وحلما ) الرحيم ( الذي خص أولياءه بإتمام النعمة عليهم عينا كما أظهره رسما ." (3)
فضلها :
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِى الْعِشَاءِ الآخِرَةِ بِالسَّمَاءِ يَعْنِى ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ."مسند أحمد (4)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ أَنْ يُقْرَأَ بِالسَّمَوَاتِ فِى الْعِشَاءِ."مسند أحمد (5) .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3872)
(2) - التفسير الحديث لدروزة - (1 / 889)
(3) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (8 / 376)
(4) - مسند أحمد -{2/327} (8554) ضعيف
(5) - غاية المقصد فى زوائد المسند 1 - (1 / 262) (780) ومسند أحمد (8555) ضعيف(1/391)
سبب نزولها والحكمة منها :
المقصود من هذه السورة تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن إيذاء الكفار ، ببيان أن سائر الأمم السابقة كانوا كأهل مكة ، مثل أصحاب الأخدود في نجران اليمن ،ومثل فرعون وثمود ، وكان كل الكفار سواء في التكذيب ، فانتقم اللّه منهم لأنهم جميعا في قبضة القدرة الإلهية : وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ. وهذا شيء مثبت في اللوح المحفوظ ممتنع التغيير لقوله تعالى : بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ.
فعَنْ صُهَيْبٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ ، فَلَمَّا كَبِرَ ، قَالَ لِلْمَلِكِ : إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ ، فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ ، إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ ، فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ ، فَقَالَ : إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ ، فَقُلْ : حَبَسَنِي أَهْلِي ، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ : حَبَسَنِي السَّاحِرُ ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ ، فَقَالَ : الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ ، حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا ، وَمَضَى النَّاسُ ، فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ : أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي ، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى ، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى ، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ ، وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ، وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ ، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ ، فَقَالَ : مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ ، إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي ، فَقَالَ : إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ ، فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ ، فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ : مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ ؟ قَالَ : رَبِّي ، قَالَ : وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي ؟ قَالَ : رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ ، فَجِيءَ بِالْغُلَامِ ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ : أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ، وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ ، فَقَالَ : إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا ، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ ، فَقِيلَ لَهُ : ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ ، فَأَبَى ، فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ ، فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ ، فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ : ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ ، فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ ، فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ، ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ ، فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا ، فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ ، وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ(1/392)
اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ ، فَرَجَفَ بِهِمِ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا ، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ : مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ ؟ قَالَ : كَفَانِيهِمُ اللَّهُ ، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ ، فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ ، فَذَهَبُوا بِهِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمِ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا ، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ : مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ ؟ قَالَ : كَفَانِيهِمُ اللَّهُ ، فَقَالَ لِلْمَلِكِ : إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ ، قَالَ : وَمَا هُوَ ؟ قَالَ : تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي ، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ، ثُمَّ قُلْ : بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ ، ثُمَّ ارْمِنِي ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي ، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ ، ثُمَّ قَالَ : بِاسْمِ اللَّهِ ، رَبِّ الْغُلَامِ ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ ، فَقَالَ النَّاسُ : آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ ، فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ : أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ ؟ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ ، فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ ، فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ ، وَقَالَ : مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا ، أَوْ قِيلَ لَهُ : اقْتَحِمْ ، فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا ، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ : يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ " (1) .
وعَنْ صُهَيْبٍ ، قَالَ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مَلِكٌ ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ ، فَأَتَى السَّاحِرُ الْمَلِكَ ، فَقَالَ : قَدْ كَبِرَتْ سِنِّي ، وَدَنَا أَجَلِي ، فَادْفَعْ لِي غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ ؛ قَالَ : فَدَفَعَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ السِّحْرَ ، قَالَ : فَكَانَ الْغُلَامُ يَخْتَلِفُ إِلَى السَّاحِرِ ، وَكَانَ بَيْنَ السَّاحِرِ وَبَيْنَ الْمَلِكِ رَاهِبٌ ؛ قَالَ فَكَانَ الْغُلَامُ إِذَا مَرَّ بِالرَّاهِبِ قَعَدَ إِلَيْهِ ، فَسَمِعَ مِنَ كَلَامِهِ ، فَأُعْجِبَ بِكَلَامِهِ ، فَكَانَ الْغُلَامُ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ وَقَالَ : مَا حَبَسَكَ ؟ وَإِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَعَدَ عِنْدَ الرَّاهِبِ يَسْمَعُ كَلَامَهُ ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ ضَرَبُوهُ وَقَالُوا : مَا حَبَسَكَ ؟ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ : إِذَا قَالَ لَكَ السَّاحِرُ : مَا حَبَسَكَ ؟ قُلْ حَبَسَنِي أَهْلِي ، وَإِذَا قَالَ أَهْلُكَ : مَا حَبَسَكَ ؟ فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ مَرَّ فِي طَرِيقٍ وَإِذَا دَابَّةٌ عَظِيمَةٌ فِي الطَّرِيقِ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ لَا تَدَعُهُمْ يَجُوزُونَ ؛ فَقَالَ الْغُلَامُ : الْآنَ أَعْلَمُ أَمْرُ السَّاحِرِ أَرْضَى عِنْدَ اللَّهِ أَمْ أَمْرُ الرَّاهِبِ ؟ قَالَ : فَأَخَذَ حَجَرًا ، قَالَ : فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَإِنِّي أَرْمِي بِحَجَرِي هَذَا فَيَقْتُلَهُ وَيَمُرُّ النَّاسُ . قَالَ : فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا ، وَجَازَ النَّاسُ ؛ فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّاهِبَ ؛ قَالَ : وَأَتَاهُ الْغُلَامُ فَقَالَ الرَّاهِبُ لِلْغُلَامِ : إِنَّكَ خَيْرٌ مِنِّي ، وَإِنِ ابْتُلِيتُ فَلَا تَدُلَّنَّ عَلَيَّ ؛ قَالَ : وَكَانَ الْغُلَامُ ،
__________
(1) - صَحِيحُ مُسْلِمٍ(7703)
المئشار : المنشار -الأخدود : الشق العظيم فى الأرض -القرقور : السفينة قيل الصغيرة وقيل الكبيرة -تقاعست : توقفت ولزمت موضعها وامتنعت عن التقدم -الكنانة : وعاء السهام(1/393)
يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ، وَسَائِرَ الْأَدْوَاءِ ؛ وَكَانَ لِلْمَلِكِ جَلِيسٌ ، قَالَ : فَعَمِيَ ؛ قَالَ : فَقِيلَ لَهُ : إِنَّ هَاهُنَا غُلَامًا يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ، وَسَائِرَ الْأَدْوَاءِ فَلَوْ أَتَيْتَهُ ؟ قَالَ : فَاتَّخَذَ لَهُ هَدَايَا ؛ قَالَ : ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ : يَا غُلَامُ إِنْ أَبْرَأْتَنِي فَهَذِهِ الْهَدَايَا كُلُّهَا لَكَ ، فَقَالَ : مَا أَنَا بِطَبِيبٍ يَشْفِيكَ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَشْفِي ، فَإِذَا آمَنْتَ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَكَ ؛ قَالَ : فَآمَنَ الْأَعْمَى ، فَدَعَا اللَّهُ فَشَفَاهُ ، فَقَعَدَ الْأَعْمَى إِلَى الْمَلِكِ كَمَا كَانَ يَقْعُدُ ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ : أَلَيْسَ كُنْتَ أَعْمَى ؟ قَالَ : نَعَمْ ؛ قَالَ : فَمَنْ شَفَاكَ ؟ قَالَ : رَبِّي ؛ قَالَ : وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي ؟ قَالَ : نَعَمْ ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ ؛ قَالَ : فَأَخَذَهُ بِالْعَذَابِ فَقَالَ : لَتَدُلَّنَّنِي عَلَى مَنْ عَلَّمَكَ هَذَا ، قَالَ : فَدَلَّ عَلَى الْغُلَامِ ، فَدَعَا الْغُلَامَ فَقَالَ : ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ ، قَالَ : فَأَبَى الْغُلَامُ ؛ قَالَ : فَأَخَذَهُ بِالْعَذَابِ ؛ قَالَ : فَدَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ ، فَأَخَذَ الرَّاهِبَ ، فَقَالَ : ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى ؛ قَالَ : فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ عَلَى هَامَتِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى بَلَغَ الْأَرْضَ ، قَالَ : وَأَخَذَ الْأَعْمَى فَقَالَ : لَتَرْجِعَنَّ أَوْ لَأَقْتُلَنَّكَ ؛ قَالَ : فَأَبَى الْأَعْمَى ، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ عَلَى هَامَتِهِ ، فَشَقَّهُ حَتَّى بَلَغَ الْأَرْضَ ، ثُمَّ قَالَ لِلْغُلَامِ : لَتَرْجِعَنَّ أَوْ لَأَقْتُلَنَّكِ ؛ قَالَ : فَأَبَى ؛ قَالَ : فَقَالَ : اذْهَبُوا بِهِ حَتَّى تَبْلُغُوا بِهِ ذِرْوَةَ الْجَبَلِ ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ ، وَإِلَّا فَدَهْدِهُوهُ ، فَلَمَّا بَلَغُوا بِهِ ذِرْوَةَ الْجَبَلِ فَوَقَعُوا فَمَاتُوا كُلُّهُمْ . وَجَاءَ الْغُلَامُ يَتَلَمَّسُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ ، فَقَالَ : أَيْنَ أَصْحَابُكَ ؟ قَالَ : كَفَانِيهِمُ اللَّهُ قَالَ : فَاذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ ، فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَغَرِّقُوهُ قَالَ : فَذَهَبُوا بِهِ ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ قَالَ الْغُلَامُ : اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ . وَجَاءَ الْغُلَامُ يَتَلَمَّسُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ فَقَالَ الْمَلِكُ : أَيْنَ أَصْحَابُكَ ؟ فَقَالَ : دَعَوْتُ اللَّهَ فَكَفَانِيهِمْ ، قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ، قَالَ : مَا أَنْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَصْنَعَ مَا آمُرُكَ ، قَالَ : فَقَالَ الْغُلَامُ لِلْمَلِكِ : اجْمَعِ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، ثُمَّ اصْلُبْنِي ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي فَارْمِنِي وَقُلْ : بِاسْمِ رَبِّ الْغُلَامِ ، فَإِنَّكَ سَتَقْتُلُنِي ؛ قَالَ : فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ؛ قَالَ : وَصَلَبَهُ وَأَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ، فَوَضَعَهُ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ، ثُمَّ رَمَى ، فَقَالَ : بِاسْمِ رَبِّ الْغُلَامِ ، فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِ الْغُلَامِ ، فَوَضَعَ يَدَهُ هَكَذَا عَلَى صُدْغِهِ ، وَمَاتَ الْغُلَامُ ، فَقَالَ النَّاسُ : آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ ، فَقَالُوا لِلْمَلِكِ : مَا صَنَعْتَ ، الَّذِي كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَقَعَ ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ ، فَأَمَرَ بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ فَأُخِذَتْ ، وَخَدَّ الْأُخْدُودَ وَضَرَّمَ فِيهِ النِّيرَانَ ، وَأَخَذَهُمْ وَقَالَ : إِنْ رَجَعُوا وَإِلَّا فَأَلْقُوهُمْ فِي النَّارِ ؛ قَالَ : فَكَانُوا يُلْقُونَهُمْ فِي النَّارِ ؛ قَالَ : فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا ، قَالَ : فَلَمَّا ذَهَبَتْ تَقْتَحِمُ وَجَدَتْ حَرَّ النَّارِ ، فَنَكَصَتْ ، قَالَ : فَقَالَ لَهَا صَبِيُّهَا يَا أُمَّاهُ ، امْضِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ ، فَاقْتَحَمَتْ فِي النَّارِ " (1)
وعَنْ صُهَيْبٍ , قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ هَمَسَ - وَالْهَمْسُ , فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ , تَحَرُّكُ شَفَتَيْهِ كَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بشيْءٍ - فَقِيلَ لَهُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّكَ إِذَا صَلَّيْتَ الْعَصْرَ هَمَسْتَ , فَقَالَ : "
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ(34205 ) صحيح(1/394)
إِنَّ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ أُعْجِبَ بِأُمَّتِهِ , فَقَالَ : مَنْ يَقُومُ لِهَؤُلَاءِ ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ خَيِّرْهُمْ بَيْنَ أَنْ أَنْتَقِمَ مِنْهُمْ , وَبَيْنَ أَنْ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ , فَاخْتَارُوا النِّقْمَةَ , قَالَ : فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ , قال فَمَاتَ مِنْهُمْ فِي يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا , قَالَ : وَكَانَ إِذَا حَدَّثَ هَذَا الْحَدِيثِ , حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْآخَرِ , قَالَ : كَانَ مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ لَهُ كَاهِنٌ يَتَكَهَّنُ لَهُمْ , فَقَالَ ذَلِكَ الْكَاهِنُ : انْظُرُوا إِلَيَّ غُلَامًا فَهِمًا فَطِنًا أَوْ قَالَ : لَقِينًا فَأُعَلِّمَهُ عِلْمِي هَذَا , فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ أَمُوتَ , فَيَنْقَطِعَ مِنْكُمْ هَذَا الْعِلْمُ , فَلَا يَكُونَ مِنْكُمْ مَنْ يَعْلَمُهُ , قَالَ : فَنَظَرُوا لَهُ غُلَامًا عَلَى مَا وَصَفَ , فَأَمَرُوهُ أَنْ يَحْضُرَ ذَلِكَ الْكَاهِنَ , وَأَنْ يَخْتَلِفَ إِلَيْهِ , قَالَ : فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ , قَالَ : وَكَانَ عَلَى طَرِيقِ الْغُلَامِ رَاهِبٌ فِي صَوْمَعَةٍ لَهُ - قَالَ مَعْمَرٌ : وَأَحْسَبُ أَنَّ أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ يَوْمَئِذٍ كَانُوا مُسْلِمِينَ - قَالَ : فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَسْأَلُ الرَّاهِبَ كُلَّمَا مَرَّ بِهِ , فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَخْبَرَهُ , فَقَالَ : إِنَّمَا أَعْبُدُ اللَّهَ , قَالَ : فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَمْكُثُ عِنْدَ الرَّاهِبِ , وَيُبْطِئُ عَنِ الْكَاهِنِ , قَالَ : فَأَرْسَلَ الْكَاهِنُ إِلَى أَهْلِ الْغُلَامِ , إِنَّهُ لَا يَكَادُ يَحْضُرُنِي , قَالَ : فَأَخْبَرَ الْغُلَامُ الرَّاهِبَ بِذَلِكَ , فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ : إِذَا قَالَ لَكَ الْكَاهِنُ أَيْنَ كُنْتَ ؟ فَقُلْ : عِنْدَ أَهْلِي , وَإِذَا قَالَ أَهْلُكَ : أَيْنَ كُنْتَ ؟ فَأَخْبِرْهُمْ إِنَّكَ كُنْتَ عِنْدَ الْكَاهِنِ , قَالَ : فَبَيْنَمَا الْغُلَامُ عَلَى ذَلِكَ إِذْ مَرَّ بِجَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ كَبِيرَةٍ , قَدْ حَبَسَتْهُمْ دَابَّةٌ , قَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ هَذِهِ الدَّابَّةَ كَانَتْ أَسَدًا , قَالَ : فَأَخَذَ الْغُلَامُ حَجَرًا فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ الرَّاهِبُ حَقًّا فَأَسْأَلُكَ أَنْ أَقْتُلَ هَذِهِ الدَّابَّةَ , وَإِنْ كَانَ مَا يَقُولُ الْكَاهِنُ حَقًّا فَأَسْأَلُكَ أَنْ لَا أَقْتُلَهَا , ثُمَّ رَمَى فَقَتَلَ الدَّابَّةَ , فَقَالَ النَّاسُ : مَنْ قَتَلَهَا ؟ فَقَالُوا الْغُلَامُ , فَفَزِعَ النَّاسُ إِلَيْهِ , وَقَالُوا قَدْ عَلِمَ هَذَا الْغُلَامُ عِلْمًا لَمْ يَعْلَمْهُ أَحَدٌ , قَالَ : فَسَمِعَ بِهِ أَعْمًى , فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ الْأَعْمَى : إِنْ أَنْتَ رَدَدْتَ بَصَرِي فَإِنَّ لَكَ كَذَا وَكَذَا , فَقَالَ الْغُلَامُ : لَا أُرِيدُ مِنْكَ هَذَا وَلَكِنْ أَرَأَيْتَ إِنْ رَجَعَ إِلَيْكَ بَصَرُكَ أَتُؤْمِنُ بِالَّذِي رَدَّهُ عَلَيْكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : فَدَعَا اللَّهَ فَرَدَّ إِلَيْهِ بَصَرَهُ , قَالَ : فَآمَنَ الْأَعْمَى , قَالَ : فَبَلَغَ الْمَلِكَ أَمْرُهُمْ , فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ فَأُتِيَ بِهِمْ , فَقَالَ : لَأَقْتُلَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ قِتْلَةً , لَا أَقْتُلُ بِهَا صَاحِبَهُ , قَالَ : فَأَمَرَ بِالرَّاهِبِ , وَبِالرَّجُلِ الَّذِي كَانَ أَعْمًى فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ عَلَى مَفْرِقِ أَحَدِهِمَا فَقَتَلَهُ , وَقَتَلَ الْآخَرَ بِقِتْلَةٍ أُخْرَى , ثُمَّ أَمَرَ بِالْغُلَامِ فَقَالَ انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَأَلْقُوهُ مِنْ رَأْسِهِ , قَالَ : فَانْطَلَقُوا بِهِ إِلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ , فَلَمَّا انْتَهَوْا بِهِ إِلَى ذَلِكَ الْمَوضِعَ الَّذِي أَرَادُوا جَعَلُوا يَتَهَافَتُونَ مِنْ ذَلِكَ الْجَبَلِ , وَيُرَدَّوْنَ مِنْهُ , حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْغُلَامُ , قَالَ : ثُمَّ رَجَعَ الْغُلَامُ فَأَمَرَ بِهِ الْمَلِكُ فَقَالَ : انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى الْبَحْرِ فَأَلْقُوهُ فِيهِ , فَانْطَلَقُوا بِهِ إِلَى الْبَحْرِ فَغَرَّقَ اللَّهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ وَأَنْجَاهُ , فَقَالَ الْغُلَامُ : أَنْتَ لَا تَقْتُلُنِي حَتَّى تَصْلُبَنِي , ثُمَّ تَرْمِيَنِي فَتَقُولَ إِذَا رَمَيْتَنِي : بِسْمِ رَبِّ الْغُلَامِ , قَالَ : فَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ , ثُمَّ رَمَاهُ فَقَالَ : بِسْمِ رَبِّ الْغُلَامِ , قَالَ : فَوَضَعَ الْغُلَامُ يَدَهُ عَلَى صُدْغِهِ حِينَ رُمِيَ ثُمَّ مَاتَ , قَالَ : فَقَالَ النَّاسُ : لَقَدْ عَلِمَ هَذَا الْغُلَامُ عِلْمًا مَا عَلِمَهُ أَحَدٌ , وَإِنَّا نُؤْمِنُ بِرَبِّ هَذَا الْغُلَامِ , فَقِيلَ لِلْمَلِكِ أَجَزِعْتَ , أَنْ خَالَفَكَ ثَلَاثَةٌ فَهَذَا الْعَالَمُ كُلُّهُمْ قَدْ خَالَفُوكَ , فَخَدَّ أُخْدُودًا , ثُمَّ أَلْقَى فِيهَا الْحَطَبَ(1/395)
وَالنَّارَ , ثُمَّ جَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهَا فَقَالَ : مَنْ رَجَعَ إِلَى دِينِهِ تَرَكْنَاهُ , وَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ أَلْقَيْنَاهُ فِي هَذِهِ النَّارِ , فَجَعَلَ يُلْقِيهِمْ فِي ذَلِكَ الْأُخْدُودِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ قَالَ : " فَأَمَّا الْغُلَامُ فَإِنَّهُ دُفِنَ " فَذَكَرَ أَنَّهُ أُخْرِجَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأُصْبُعُهُ عَلَى صُدْغِهِ , كَمَا كَانَ وَضَعَهَا حِينَ قُتِلَ " (1)
وعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، قَالَ : " كَانَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ قَوْمًا مُؤْمِنِينَ ، اعْتَزَلُوا النَّاسَ فِي الْفَتْرَةِ ، وَإِنَّ جَبَّارًا مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ ، فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الدُّخُولَ فِي دِينِهِ ، فَأَبَوْا ، فَخَدَّ أُخْدُودًا ، وَأَوْقَدَ فِيهِ نَارًا ، ثُمَّ خَيَّرَهُمْ بَيْنَ الدُّخُولِ فِي دِينِهِ ، وَبَيْنَ إِلْقَائِهِمْ فِي النَّارِ ، فَاخْتَارُوا إِلْقَاءَهُمْ فِي النَّارِ ، عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ دِينِهِمْ ، فَأُلْقُوا فِي النَّارِ ، فَنَجَّى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أُلْقُوا فِي النَّارِ مِنَ الْحَرِيقِ ، بِأَنْ قَبَضَ أَرْوَاحَهُمْ ، قَبْلَ أَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ ، وَخَرَجَتِ النَّارُ إِلَى مَنْ عَلَى شَفِيرِ الْأُخْدُودِ مِنَ الْكُفَّارِ فَأَحْرَقَتْهُمْ ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ : فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ فِي الدُّنْيَا" (2)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - تَفْسِيرُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (3470 ) صحيح
(2) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ(34206 ) فيه ضعف(1/396)
القسم بأشياء عظام على لعنة أصحاب الأخدود
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
المفردات :
رقم الآية ... الكلمة ... معناها
1 ... ذَاتِ البُرُوجِ ... منازل الشمس والقمر
2 ... اليَوْمِ المَوْعُودِ ... يوم القيامة
3 ... شَاهِدٍ ... يوم الجمعة
4 ... وَ مَشْهُودٍ ... يوم عرفة
4 ... قُتِلَ ... لعن
4 ... الأَخْدُودِ ... الشق العظيم في الأرض
6 ... إِذْ هُمْ عَلَيهَا قُعُودٌ ... على حافتيها
7 ... مَا يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ... مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين
8 ... وَمَا نَقَمُوا مِنْهُم إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ ... ما عابوا عليهم شيء سوى إيمانهم بالله العزيز الحميد
المعنى الإجمالي:
أقسم سبحانه بما فيه غيب وشهود ، وهو السماء ذات البروج ، فإن كواكبها مشهود نورها ، مرئىّ ضوؤها ، معروفة حركاتها فى طلوعها وغروبها ، وكذلك البروج نشاهدها وفيها غيب لا نعرفه بالحس ، وهو حقيقة الكواكب وما أودع اللّه فيها من القوى وما فيها من عوالم لا نراها ولا ندرك حقيقتها.
وأقسم بما هو غيب صرف ، وهو اليوم الموعود وما يكون فيه من حوادث البعث والحساب والعقاب والثواب.
وأقسم بما هو شهادة صرفة وهو الشاهد : أي ذو الحس ، والمشهود : وهو ما يفع عليه الحس.
أقسم سبحانه بكل ما سلف إن من قبلهم من المؤمنين الموحدين ابتلوا ببطش أعدائهم بهم ، واشتدادهم فى إيذائهم ، حتى خدّوا لهم الأخاديد ، وملئوها بالنيران وقذفوهم فيها ولم تأخذهم بهم رأفة ، بل كانوا يتشفون برؤية ما يحل بهم ، وهم مع ذلك قد صبروا وانتقم اللّه من أعدائهم(1/397)
وممن أوقع بهم ، وأخذهم بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر ، ولئن صبرتم أيها المؤمنون على الأذى ليوفينكم أجركم ، وليأخذنّ أعداءكم ولينزلنّ بهم ما لا قبل لهم به.
وقد حكى اللّه هذا القصص ، ليكون تثبيتا لقلوب المؤمنين ، ووعدا لعباده الصالحين ، وحملا لهم على الصبر والمجاهدة فى سبيله ، ووعيدا للكافرين وأنه سيحلّ بهم مثل ما حل بمن قبلهم. « سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ - فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا » (1) .
أقسم الحق - تبارك وتعالى - بالسماء ذات النجوم التي كانت ضياء وزينة ، ورجوما للشياطين ، وعلامات يهتدى بها المسافرون ، وهي مع ذلك أبنية فخمة عظيمة تدل على قدرة صانعها الحكيم ، وقيل المراد بالبروج : منازل الكواكب في السماء التي ينشأ عنها الفصول الأربعة ، وما فيها من حرارة وبرودة ، والتي ينشأ عنها عدد السنين والحساب ، وتفصيل كل شيء في الوجود ، وأقسم الحق - تبارك وتعالى - باليوم الموعود الذي وعدنا اللّه به ، وهو يوم القيامة ، وأقسم كذلك بكل الخلائق والعوالم الشاهد منها والمشهود ، فله - سبحانه - في كل شيء دلالة على وحدانيته ، فكل شيء شاهد بهذا المعنى ، على أن كل شيء في الكون مشهود للناس ، والناس مختلفون في الشهادة ، أى : الرؤية ، أو الفكرة والتأمل.
أقسم الحق - تبارك وتعالى - بهذه الأشياء : لقد ابتلى اللّه المؤمنين والمؤمنات قديما بالعذاب والفتنة والبلاء من أعدائهم الكفار ، ولكنهم صبروا على ما أوذوا واحتسبوا ذلك عند اللّه ، فكان لهم الأجر الكبير ، ولأعدائهم عذاب جهنم ولهم فيها عذاب الحريق ، فاصبروا أيها المؤمنون ، وسيعوضكم اللّه خيرا ، ولقد ضرب اللّه قصة أصحاب الأخدود هنا مثلا ، ودليلا على جواب القسم المقدر وهو ابتلاء المؤمنين.
قتل أصحاب الأخدود : أصحاب النار ذات الوقود ، النار التي أعدوها ليصلاها المؤمنون الموحدون.
أصحاب الأخدود جماعة من الكفار كانوا في القديم ، ويروى أنهم من أمراء اليمن أو زعماء اليهود ، وقد غاظهم إيمان المؤمنين المعاصرين لهم ، وشق عليهم ذلك ، فانتقموا منهم انتقاما شديدا ، وشقوا لهم أخدودا في الأرض ، أضرموا فيه النيران ذات الوقود الشديد اللهب والدخان وألقوا فيها كل ما يضرمها ويؤججها ثم جاءوا بالمؤمنين وألقوهم في النار ذات الوقود!!
وقد كانوا قساة القلوب غلاظ الأكباد ، فجلسوا يضحكون فرحين بإلقاء المؤمنين في النار ، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين من كبائر الإثم وفظائع الجرم شهود وحضور! وما فعل هؤلاء
__________
(1) - تفسير المراغي ، ج 30 ، ص : 99(1/398)
المؤمنون حتى يلقوا في النار ؟ لم يفعلوا شيئا أبدا ، وما نقموا ، ولا عابوا عليهم إلا أنهم آمنوا باللّه العزيز الحميد! يا سبحان اللّه ما كان سببا في السعادة والخير ، يكون سببا في القتل والإحراق والتعذيب بالنيران! ولكن تلك طبيعة البشر قديما وحديثا ، وهذا صراع الحق والباطل ، وتلك هي البوتقة التي يصهر فيها الإيمان ويصفى.
هؤلاء المؤمنون آمنوا باللّه العزيز الذي لا يعجزه شيء ، الحميد في السموات والأرض ، وإن كفر به بعض خلقه ، الذي له ملك السموات والأرض ، وهو على كل شيء شهيد ، فهل يترك المؤمنين نهبا للكفار والمشركين يفعلون معهم الأباطيل ويذيقونهم العذاب ألوانا ؟ ! لن يكون هذا أبدا. (1)
التفسير والبيان :
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ أي أقسم بالسماء وبروجها وهي النجوم العظام ، وأشهر الأقوال أنها منازل الكواكب ، وهي اثنا عشر برجا لاثني عشر كوكبا.
وهي التي تقطعها الشمس في سنة ، والقمر في ثمانية وعشرين يوما. أقسم اللَّه بها تنويها بها وتعظيما وتشريفا لها ، حيث نيط بها تغيرات في الأرض بحلول الكواكب فيها ، فينشأ عنها الفصول الأربعة ، وما فيها من حرارة وبرودة ، وينشأ عنها عدد السنين والحساب.
وجاء ذكر البروج في آيتين أخريين هما : وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ [الحجر 15/ 16] ، وقال تعالى : تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً ، وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان 25/ 61].
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ، وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ أي وأقسم بيوم القيامة الموعود به ، وبمن يشهد في ذلك اليوم ، ومن يشهد عليه. وهذا إن كان ذلك مأخوذا من الشهادة. فإن كان مأخوذا من الحضور بمعنى أن الشاهد هو الحاضر ، كقوله :عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الزمر 39/ 46] ، فالشاهد : الخلائق الحاضرون للحساب ، والمشهود عليه : اليوم ، كما قال تعالى : ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود 11/ 103] فاللَّه يقسم بالخلائق والعوالم الشاهد منها والمشهود ، لما في التأمل بها من تقدير عظمة تدل على الموجد.
والخلاصة : أن الشاهد والمشهود إما من الشهود : الحضور ، وإما من الشهادة ، والصلة محذوفة ، أي مشهود عليه أو به.
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ هذا جواب القسم ، وهو إخبار أو دعاء على هؤلاء الكفار بالإبعاد من رحمة اللَّه تعالى ، أي لعن أصحاب الأخدود المشتمل على النار ذات الحطب
__________
(1) - التفسير الواضح ، ج 3 ، ص : 848(1/399)
الذي توقد به. وهم قوم من الكفار في نجران اليمن طلبوا من المؤمنين باللَّه عزّ وجلّ أن يرجعوا عن دينهم ، فأبوا عليهم ، فحفروا لهم في الأرض أخدودا (شقا مستطيلا) وأجّجوا فيه نارا ، وأعدّوا لها وقودا يسعرونها به ، ثم أرادوهم أن يرجعوا عن دينهم ، فلم يقبلوا منهم ، فقذفوهم فيها. وقد أشار سبحانه إلى عظم النار إشارة مجملة بقوله : ذاتِ الْوَقُودِ أي لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس.
إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ ، وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أي لعنوا حين أحدقوا بالنار ، قاعدين على الكراسي عند الأخدود ، وهؤلاء الذين حفروا الأخدود ، وهم الملك وأصحابه ، مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين ، من عرضهم على النار ليرجعوا إلى دينهم ، ويشهدون بما فعلوا يوم القيامة ، حيث تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم.
وهذا أي حضورهم الإحراق دليل على أنهم قوم غلاظ الأكباد قساة القلوب ، تمكّن الكفر والباطل منهم ، وتجرّدوا عن الإنسانية ، وفقدوا الرحمة ، ودليل أيضا على أن المؤمنين كانوا أشد صلابة من الجبال في دينهم والإصرار على إيمانهم وحقهم في حرية الاعتقاد.
ثم ذكر اللَّه تعالى سبب هذا التعذيب والإحراق بالنار ، فقال : وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي إن هؤلاء الكفار الجبابرة ما أنكروا عليهم ذنبا إلا إيمانهم ، ولا عابوا على المؤمنين إلا أنهم صدقوا باللَّه الغالب الذي لا يغلب ، المحمود في كل حال ، وهو مالك السموات والأرض ، وإليه الأمر كله ، ومن كان بهذه الصفات ، فهو حقيق بأن يؤمن به ويوحّد ، واللَّه شاهد عالم بما فعلوا بالمؤمنين ، لا تخفى عليه خافية ، ومجازيهم بأفعالهم. وأشار بقوله : الْعَزِيزِ إلى أنه لو شاء لمنع أولئك الجبابرة من تعذيب أولئك المؤمنين ، ولأطفأ نيرانهم وأماتهم ، وأشار بقوله : الْحَمِيدِ إلى أن المعتبر عنده سبحانه من الأفعال عواقبها ، فهو وإن كان قد أمهل لكنه ما أهمل ، فإنه سيثيب المؤمنين ، ويعاقب أولئك الكفرة.
وقوله : وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وعيد شديد لأصحاب الأخدود ، ووعد بالخير لمن عذّب من المؤمنين على دينه ، فصبر ولم يتراجع في موقف الشدة.
ونظير الآية قوله تعالى : يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ [المائدة 5/ 59].
ومضات :
في الآيات قسم رباني بالأقسام الثلاثة بأن لعنة اللّه قد حقّت على الذين حفروا الأخدود وأججوا فيه النيران وألقوا فيه المؤمنين وهم جالسون يشهدون عذابهم دون أن تأخذهم الشفقة عليهم. ولم يكن لهم ذنب يغضبهم عليهم إلّا أنهم آمنوا باللّه وحده.(1/400)
والمتبادر أن الأقسام الثلاثة في بدء السورة مما كان يعرف السامعون خطورته ومداه مهما اختلف المؤولون فيه. وبهذا فقط تبدو الحكمة في ذلك ، واللّه أعلم ولقد رويت روايات مختلفة في صدد الحادث الذي ذكر في الآيات منها حديث نبوي «2» عن ساحر كان يعلم أحد الأولاد السحر فمر الولد براهب فأسلم على يديه وصار يبرئ الأكمه والأبرص باسم اللّه ثم أسلم الساحر على يد الولد و علم الملك بالأمر فعذب الراهب والساحر والولد ثم قتلهم. وظهرت للولد كرامات فآمن الناس بالإله الذي يؤمن به فأمر الملك بحفر أخدود وتأجيج النار فيه وإلقاء من لم يرتد عن دين الولد فيه. ومنها أن ذا نواس ملك حمير الذي اعتنق اليهودية طلب من نصارى نجران أن يتركوا دينهم ويتهودوا فأبوا فخذّ الأخدود وأجّج فيه النار وألقى فيها كل من ثبت على نصرانيته حتى بلغ من حرقهم 12 ألفا في رواية وعشرين ألفا في رواية وأن هذا العمل حفز الأحباش النصارى على غزو اليمن وتفويض حكم ذي نواس والديانة اليهودية. وتهود ذي نواس وبعض أهل اليمن واضطهاده النصارى وغزو الأحباش لليمن بسبب ذلك وقائع تاريخية ثابتة يمكن أن يستأنس بها في ترجيح هذه الرواية وقد ذكرنا ذلك في سياق تفسير سورة الفيل.
ومهما يكن من أمر فإن روح الآيات واكتفاءها بالإشارة الخاطفة إلى أصحاب الأخدود يدلان على أن سامعي القرآن كانوا يعرفون حادث التحريق في الأخدود وأسبابه فاقتضت حكمة التنزيل التذكير به في صدد الحملة على مقترفي إثم يماثل إثم أصحاب الأخدود.
وأسلوب الآيات أسلوب تقريعي لهذا العمل الوحشي الظالم غضبا على أناس آمنوا باللّه وتمسكوا بإيمانهم. وفيه تلقين قرآني عام مستمر المدى كما هو المتبادر.
هذا ، وما تعنيه كلمة «البروج» هو مما كان متداولا بين العرب قبل الإسلام على ما هو مستفاد من أقوال المفسرين. حيث يصح القول إن حكمة التنزيل قد شاءت بأن تقسم بأمر يعرف العرب خطورته ويعرفون أنه مظهر من مظاهر قدرة اللّه تعالى وبكلمة أخرى شاءت أن تذكر هذا المظهر من مظاهر الكون بما كان متداولا بينهم. وهذا الأسلوب مما تكرر كثيرا في هذا الأمر لأنه أكثر تأثيرا فيهم كشأن القصص على ما شرحناه في سياق سورة القلم. ولقد كانوا يعرفون ويعترفون بأن اللّه سبحانه هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما وهو مدبر الأكوان على ما جاء في آيات كثيرة منها آية سورة يونس هذه : قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) وآية سورة الزخرف هذه : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9). (1)
__________
(1) - التفسير الحديث ، ج 2 ، ص : 145(1/401)
وأصحاب الأخدود ، هم قوم كافرون باللّه ، كان لهم موقف مع المؤمنين باللّه ، شأنهم فى هذا شأن كل الكافرين مع المؤمنين فى كل زمان ومكان ..
ولكن أصحاب الأخدود هؤلاء ، قد جاءوا بمنكر لم يأته أحد من إخوانهم من أهل الضلال ، ولهذا كانت جريمتهم أشنع جريمة ، يستدعى لها الوجود كله ، ليشهد محاكمتهم ، وليسمع حكم اللّه عليهم.
لقد خدّوا أخاديد فى الأرض ، أي حفروا حفرا عميقة فى الأرض ، وملئوها حطبا ، وأوقدوا فيها النار ، حتى تسعرت ، وعلا لهيبها ، واشتد ضرامها ، ثم نصبوا كراسى حولها يجلسون عليها ، وجاءوا بالمؤمنين باللّه يرسفون فى أغلالهم يعرضونهم على النار واحدا بعد واحد ، ويلقونهم فيها مؤمنا إثر مؤمن ..
والمؤمنون يرون هذا ويقدمون عليه ، دون أن ينال هذا العذاب من إيمانهم ، أو يردهم عن دينهم الذي ارتضوه .. وفى هذا شاهد من شهود الإيمان المتمكن من القلوب ، الراسخ فى النفوس .. إنه أقوى من الجبال الراسيات ، لا تنال منها الأعاصير ، ولا تزحزحها عانيات العواصف!
قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ » .الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات : أي الذين كادوا لهم فى دينهم ، وأخذوهم بالبأساء والضراء ليفتنوهم فى دينهم ، ويخرجوهم منه.
وهذا وعيد من اللّه سبحانه وتعالى لكل من تعرض لأوليائه المؤمنين والمؤمنات ، بأذى ، يريد أن يصرفهم عن الإيمان ، أو يصدّهم عنه .. فهؤلاء الذين آذوا المؤمنين والمؤمنات بسبب إيمانهم ، إذا لم ينزعوا عما هم فيه ، ولم يرجعوا إلى اللّه مؤمنين تائبين ، فقد أعدّ اللّه لهم عذاب جهنم ، بما فيها من مقامع من حديد ، ومن شدّ إلى السلاسل والأغلال ، ومن حميم يصبّ فوق الرءوس ، ومن غساق يقطع الأمعاء .. ثم لهم فوق ذلك كله عذاب الحريق ، أي عذاب النار ذاتها ، الذي يرعى أجسامهم ، كما ترعى النار الحطب. (1)
{ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ } أي : قتلهم الله وأهلكهم وانتقم منهم . على أن الجملة خبرية هي جواب القسم . أو دليل جوابه أن كانت دعائية ، والتقدير : لتبلون كما ابتلي من قبلكم ، ولينتقمن ممن فتنكم كما انتقم من الذين ألقوا المؤمنين في الأخدود .قال الزمخشري : وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة ، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان ، وإلحاق أنواع الأذى وصبرهم وثباتهم ، حتى يأنسوا بهم ويصبروا
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ، ج 16 ، ص : 1514(1/402)
على ما كانوا يَلقون من قومهم ، ويعلموا أن كفارهم عند الله بمنزلة أولئك المعذبين المحرقين بالنار ، ملعونون أحقاء بأن يقال فيهم : قُتلت قريش ، كما قيل :{ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ }
وتفصيل النبأ - على ما في كتاب " الكنز الثمين " - أن دعوة المسيح عليه السلام الأولى العَريَّة عن شوائب الإلحاد ، لمَّا دخلت بلاد اليمن وآمن كثير من أهلها ، كان في مقدمة تلك البلاد بلدة نجران ، وكان أقام عليها ملِك الحبشة أميراً من قِبَله نصرانياً مثله ، وكان بها راهب كبير له الكلمة النافذة والأمر المطاع ، ثم إن اليهود الذين كانوا في تلك البلاد تآمروا على طرح نير السلطة المسيحية من اليمن ، والإيقاع بمن تنصر ؛ بغضاً في المسيحية وكراهة لسلطان مسيحي يملكهم ، فأقاموا رجلاً يهودياً منهم عند موت ذلك السلطان أو قتله ، فأشهر ذلك اليهودي نفسَه ملكاً على بلاد سبأ ، وجاء لمحاربة مدينة نجران ، واستولى عليها بالتغلب والقوة والخيانة ، ولما دخلها قتل عدداً عظيماً من سكانها رجالاً ونساءً . كانت عدتهم - فيما يقال - ثلاثمائة وأربعين شهيداً ، وأتى بذاك الراهب محمولاً يحف به الجنود ، وكان هرماً لا يقوى على المشي ، فسئل عن عقيدته فأقرَّ بالإيمان بالله تعالى وبما جاء به رسوله عيسى عليه السلام ؛ فأمر بسفك دمه فقتل ، وكذلك بقية الشهداء اعترفوا بما اعترف به دون جُبن ولا تهيُّب ، بل بشجاعة وصبر على ما يشاهدونه من أفانين العذاب وأخاديد النيران ، ثم ألقت امرأة بنفسها في النار وتبعها طفل لها في الخامسة من عمره . وكل هؤلاء الشهداء أظهروا من السرور بالتألم من أجله تعالى والفرح بالشهادة ، ما أضحوا مثالاً وعبرة لكل مفتون من أجل إيمانه ومدافعته عن يقينه ، سواء افتتن بماله أو نفسه أو بسلب حق له . لا جرم أن من تلا ما ورد في الوعد الصادق لكل مفتون في الدين ، استبشر بما أعد للمخلصين الصابرين . وتسمى هذه القصة عند النصارى شهادة الحبر أراثا ورفقته . ويؤرخونها بعام : 524 من التاريخ المسيحي ، وقد علمت أن في كلام مجاهد ومن قبله إشارة إليها .والله أعلم . (1)
تبدأ السورة قبل الإشارة إلى حادث الأخدود بهذا القسم : بالسماء ذات البروج ، وهي إما أن تكون أجرام النجوم الهائلة وكأنها بروج السماء الضخمة أي قصورها المبنية ، كما قال : { والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون } وكما قال : { أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها } وإما أن تكون هي المنازل التي تنتقل فيها تلك الأجرام في أثناء دورانها ، وهي مجالاتها التي لا تتعداها في جريانها في السماء . والإشارة إليها يوحي بالضخامة . وهو الظل المراد إلقاؤه في هذا الجو .
{ واليوم الموعود } . . وهو يوم الفصل في أحداث الدنيا ، وتصفية حساب الأرض وما كان فيها . وهو الموعود الذي وعد الله بمجيئه ، ووعد بالحساب والجزاء فيه؛ وأمهل المتخاصمين
__________
(1) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 185)(1/403)
والمتقاضين إليه . وهو اليوم العظيم الذي تتطلع إليه الخلائق ، وتترقبه لترى كيف تصير الأمور .
{ وشاهد ومشهود } . . في ذلك اليوم الذي تعرض فيه الأعمال ، وتعرض فيه الخلائق ، فتصبح كلها مشهودة ، ويصبح الجميع شاهدين . . ويعلم كل شيء . ويظهر مكشوفاً لا يستره ساتر عن القلوب والعيون . .
وتلتقي السماء ذات البروج ، واليوم الموعود ، وشاهد ومشهود . . تلتقي جميعاً في إلقاء ظلال الاهتمام والاحتفال والاحتشاد والضخامة على الجو الذي يعرض فيه بعد ذلك حادث الأخدود . . كما توحي بالمجال الواسع الشامل الذي يوضع فيه هذا الحادث . وتوزن فيه حقيقته ويصفى فيه حسابه . . وهو أكبر من مجال الأرض ، وأبعد من مدى الحياة الدنيا وأجلها المحدود . .
وبعد رسم هذا الجو ، وفتح هذا المجال ، تجيء الإشارة إلى الحادث في لمسات قلائل :{ قتل أصحاب الأخدود . النار ذات الوقود . إذ هم عليها قعود . وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود . وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد . الذي له ملك السماوات والأرض ، والله على كل شيء شهيد } ..
وتبدأ الإشارة إلى الحادث بإعلان النقمة على أصحاب الأخدود : { قتل أصحاب الأخدود } . . وهي كلمة تدل على الغضب . غضب الله على الفعلة وفاعليها . كما تدل على شناعة الذنب الذي يثير غضب الحليم ، ونقمته ، ووعيده بالقتل لفاعليه .
ثم يجيء تفسير الأخدود : { النار ذات الوقود } والأخدود : الشق في الأرض . وكان أصحابه قد شقوه وأوقدوا فيه النار حتى ملأوه ناراً ، فصارت النار بدلاً في التعبير من الأخدود للإيحاء بتلهب النار فيه كله وتوقدها .
قتل أصحاب الأخدود ، واستحقوا هذه النقمة وهذا الغضب ، في الحالة التي كانوا عليها وهم يرتكبون ذلك الإثم ، ويزاولون تلك الجريمة : { إذ هم عليها قعود . وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود } . . وهو تعبير يصور موقفهم ومشهدهم ، وهم يوقدون النار ، ويلقون بالمؤمنين والمؤمنات فيها وهم قعود على النار ، قريبون من عملية التعذيب البشعة ، يشاهدون أطوار التعذيب ، وفعل النار في الأجسام في لذة وسعار ، كأنما يثبتون في حسهم هذا المشهد البشع الشنيع!
وما كان للمؤمنين من ذنب عندهم ولا ثأر : { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد . الذي له ملك السماوات والأرض . والله على كل شيء شهيد } . . فهذه جريمتهم أنهم آمنوا بالله ، العزيز : القادر على ما يريد ، الحميد : المستحق للحمد في كل حال ، والمحمود بذاته(1/404)
ولو لم يحمده الجهال! وهو الحقيق بالإيمان وبالعبودية له . وهو وحده الذي له ملك السماوات والأرض وهو يشهد كل شيء وتتعلق به إرادته تعلق الحضور .
ثم هو الشهيد على ما كان من أمر المؤمنين وأصحاب الأخدود . . وهذه لمسة تطمئن قلوب المؤمنين ، وتهدد العتاة المتجبرين . فالله كان شهيداً . وكفى بالله شهيداً .
وتنتهي رواية الحادث في هذه الآيات القصار ، التي تملأ القلب بشحنة من الكراهية لبشاعة الفعلة وفاعليها ، كما تستجيش فيه التأمل فيما وراء الحادث ووزنه عند الله وما استحقه من نقمته وغضبه . فهو أمر لم ينته بعد عند هذا الحد ، ووراءه في حساب الله ما وراءه .
كذلك تنتهي رواية الحادث وقد ملأت القلب بالروعة . روعة الإيمان المستعلي على الفتنة ، والعقيدة المنتصرة على الحياة ، والانطلاق المتجرد من أوهاق الجسم وجاذبية الأرض . فقد كان مكنة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم . ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم في الدنيا قبل الآخرة؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير : معنى زهادة الحياة بلا عقيدة ، وبشاعتها بلا حرية ، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد! إنه معنى كريم جداً ومعنى كبير جداً هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض . ربحوه وهم يجدون مس النار فتحترق أجسادهم ، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار؟ (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
2- فضل يومي الجمعة وعرفة .
3-القصة درس وعظة وتذكير للمؤمنين بالصبر على ما يلاقونه من الأذى والآلام ، والمشقات التي يتعرضون لها في كل زمان ومكان ليتأسوا بصبر المؤمنين وتصلبهم في الحق وتمسكهم به ، وبذلهم أنفسهم من أجل إظهار دعوة اللَّه.
وليس هذا بمنسوخ ، فإن الصبر على الأذى لمن قويت نفسه ، وصلب دينه أولى (2) . قال اللَّه تعالى مخبرا عن لقمان : يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ ،وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ ، إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان 31/ 17].
وأخرج الترمذي عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ». أَوْ « أَمِيرٍ جَائِرٍ ». (3) .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3873)
(2) - تفسير القرطبي : 19/ 293
(3) - سنن أبى داود (4346 ) وسنن الترمذى (2329) صحيح لغيره
قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ : إِنَّمَا كَانَ هَذَا أَفْضَلَ الْجِهَادِ لِأَنَّ مَنْ جَاهَدَ الْعَدُوَّ كَانَ عَلَى أَمَلٍ مِنَ الظَّفَرِ بِعَدُوِّهِ وَلَا يَتَيَقَّنُ الْعَجْزَ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ مَغْلُوبٌ وَهَذَا يَعْلَمُ أَنَّ يَدَ سُلْطَانِهِ أَقْوَى مِنْ يَدِهِ فَصَارَتِ الْمَثُوبَةُ فِيهِ عَلَى قَدْرٍ عِظَمِ الْمَئُونَةِ . قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ لَيْتَ شِعْرِي مَنِ الَّذِي يَدْخُلُ إِلَيْهِمُ الْيَوْمَ فَلَا يُصَدِّقُهُمْ عَلَى كَذِبَهِمْ وَمَنِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِالْعَدْلِ إِذَا شَهِدَ مَجَالِسَهُمْ وَمَنِ الَّذِي يَنْصَحُ وَمَنِ الَّذِي يَنْتَصِحُ مِنْهُمْ إِنَّهُ أَسْلَمُ لَكَ يَا أَخِي فِي هَذَا الزَّمَانِ وَأَحْوَطُ لِدِينِكَ أَنْ تُقِلَّ مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ وَغَشَيَانِ أَبْوَابِهِمْ وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْغِنَى عَنْهُمْ وَالتَّوْفِيقَ لَهُمْ " الْعُزْلَةُ لِلْخَطَّابِيِّ (225 )(1/405)
وعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِى الْغَرْزِ أَىُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ قَالَ « كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ » سنن النسائى . (1)
ولقد امتحن كثير من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقتل والصّلب والتعذيب الشديد ، فصبروا ولم يلتفتوا إلى شيء من ذلك ، مثل قصة عاصم وخبيب وأصحابهما ، وما لقوا من الحروب والمحن والقتل والأسر والحرق وغير ذلك. (2)
4- ما أنكر الملك وأصحابه من الذين حرّقوهم إلا إيمانهم باللَّه العزيز الغالب المنيع ، الحميد المحمود على كل حال ، مالك السموات والأرض الذي لا شريك له فيهما ولا نديد ، وهو عالم بأعمال خلقه ، لا تخفى عليه خافية .
5- أقسم اللَّه عزّ وجلّ بالسماء وبروجها وهي نجومها العظام أو منازل الكواكب لإناطة تغييرات في الأرض كالفصول الأربعة وبيوم القيامة الذي وعدنا به لأنه يوم الفصل والجزاء ، وتفرد اللَّه بالحكم والقضاء ، وبالشاهد والمشهود ، أي الخلائق والعوالم الشاهد منها والمشهود لما في التأمل بها من إدراك عظمة خالقها ، أقسم بها على أن أصحاب الأخدود ملعونون مطرودون من رحمة اللَّه.
6- أسباب اللعنة على أصحاب الأخدود : أنهم حفروا أخدودا أي شقا مستطيلا في الأرض وأوقدوا فيه نارا عظيمة ، ثم ألقوا فيه جماعة المؤمنين ، بنجران اليمن في الفترة بين محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، وهم يتلذذون ويستمتعون بما تفعل النيران الملتهبة بأجساد هؤلاء المعذّبين ، ويحضرون ذلك المنظر الرهيب إلى تمام الإحراق والالتهاب ، فهم قوم قساة ، مجدّون في التعذيب.
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - سنن النسائى - (4226 ) صحيح
(2) - انظر كتابي ((موسوعة فقه الابتلاء ) ) وكتابي (( الخلاصة في فقه الابتلاء ) )(1/406)
عقاب الكفار وثواب المؤمنين
قال تعالى :
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
المفردات :
10 ... فَتَنُوا ... عذبوا وأحرقوا
المعنى الإجمالي:
بعد أن ذكر قصة أصحاب الأخدود وبين ما فعلوه من الإيذاء والتنكيل بالمؤمنين وذيّل ذلك بما يدل على أنه لو شاء لمنع بعزته وجبروته أولئك الجبابرة عن هؤلاء المؤمني ن ، وأنه إن أمهل هؤلاء الفجرة عن العقاب فى الدنيا فهو لم يهملهم ، بل أجّل عقابهم ليوم تشخص فيه الأبصار - ذكر ما أعد للكفار من العذاب الأليم ، جزاء ما اجترحت أيديهم من السيئات التي منها إيذاء المؤمنين ، وما أعد للمؤمنين من جميل الثواب ، وعظيم الجزاء. (1)
إن الذين فتنوا المؤمنين بالتعذيب ثم لم يتوبوا - فإن من يفعل ذلك لن يتوب - فلهم عذاب جهنم ، ولهم عذاب الحريق ، واللّه من ورائهم محيط ، وهو على كل شيء قدير ، أما المؤمنون العاملون فلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ، وذلك هو الفوز العظيم ، ولا عجب في هذا كله فربك بطشه بالكفار شديد ، وهو القادر على كل شيء الذي يبدئ الخلق ثم يعيد ، وهو الغفور لمن تاب الودود لمن أطاع ، صاحب الملك والسلطان بيده الأمر وهو الفعال لما يريد.
وهذه أمثلة أخرى تؤكد أن العاقبة للصابرين ، وأن اللّه مع المؤمنين ، فاحذروا يا آل مكة تلك العاقبة ، وهذه النتيجة ، واحذروا أيها الطغاة الظالمون نتيجة أعمالكم! (2)
التفسير والبيان :
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ، ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ ، وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ أي إن الذين أحرقوا بالنار المؤمنين والمؤمنات باللَّه ورسله ،ولم يتركوهم أحرارا في دينهم ، وأجبروهم إما على الإحراق أو الرجوع عن دينهم ، ثم لم يتوبوا من قبيح صنعهم ويرجعوا عن كفرهم ، فلهم في الآخرة بسبب كفرهم عذاب جهنم ، ولهم عذاب الاحتراق بالنار لأن الجزاء من جنس العمل.
وعذاب الحريق تأكيد لعذاب جهنم ، وقيل : إنهما مختلفان في الطبقة ، الأول- لكفرهم ، والثاني لأنهم فتنوا أهل الإيمان وأحرقوهم بالنار ، وهذا عذاب آخر زائد على عذاب كفرهم ،
__________
(1) - تفسير المراغي ، ج 30 ، ص : 103
(2) - التفسير الواضح ، ج 3 ، ص : 849(1/407)
وهي نار أخرى عظيمة تتسع كما يتسع الحريق. أو لهم عذاب جهنم في الآخرة ، ولهم عذاب الحريق في الدنيا ، لما روي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم.
وقوله : ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا إشارة إلى أنهم لو تابوا إلى اللَّه ، وندموا على ما فعلوا ، غفر اللَّه لهم. ولكن لم ينقل أن أحدا منهم تاب ، بل الظاهر أنهم لم يلعنوا إلا وهم قد ماتوا على الكفر.
ثم رغّب اللَّه تعالى وأرشد إلى ما أعدّ للمؤمنين من الثواب العظيم ، فقال : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ أي إن الذين آمنوا وصدقوا باللَّه ربّا واحدا لا شريك له ،وبالرسل واليوم الآخر والملائكة والكتب الإلهية ، وعملوا صالح الأعمال باتباع أوامره واجتناب نواهيه ، ومنهم الذين صبروا على نار الأخدود ، وثبتوا على دينهم ولم يرتدوا ، لهم بسبب الجمع بين الإيمان والعمل الصالح جنات (بساتين) تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار ، وذلك الثواب والنعيم المذكور هو الفوز أو الظفر الكبير الذي لا يعدله فوز ، ولا يقاربه ولا يدانيه ، جزاء إيمانهم وطاعة ربهم.
ومضات :
يصرف المفسرون بدون سند وثيق ضمير الفاعل في الآية الأولى من هذه الآيات إلى أصحاب الأخدود ويقولون إن الوعيد فيها لهم وإن عذاب الحريق هو مقابلة عينية لما فعلوه من حرق المؤمنين في نار الأخدود. وهذا عجيب وغير صواب فيما يتبادر لنا. وجملة ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا دليل على ذلك لأن أصحاب الأخدود ماتوا وانقضى أمرهم ولم يعد لفتح باب التوبة لهم محل. والمعقول الذي تدل عليه هذه الجملة أن يكون الوعيد لجماعة كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات وقت نزولها. ولقد كان ذلك أمرا واقعا حيث كان بعض الزعماء المشركين في مكة يضطهدون ضعفاء المؤمنين والمؤمنات ويؤذونهم ليرغموهم على الافتتان أي الارتداد عن الإسلام. وهكذا تكون الآيات الأولى من السورة بمثابة مقدمة بين يدي هذا الوعيد يحتوي وعيدا مماثلا للمشركين الذين كانوا يفعلون بالمؤمنين بالرسالة النبوية شيئا مما فعله أصحاب الأخدود بالمؤمنين السابقين. وتكون الصلة قائمة واضحة بين المجموعتين. وهو ما جرى عليه النظم القرآني في سياق قصص الأمم السابقة وما كان من نكال اللّه الدنيوي فيهم جزاء كفرهم ومواقفهم العدائية والعدوانية من أنبيائهم مما مرّ منه بعض الأمثلة.
وقد احتوت الآيات بالإضافة إلى الوعيد لفاتني المؤمنين والمؤمنات ،إذا لم يتوبوا بشرى للمؤمنين الذين يعملون الصالحات وتثبيت لهم وتنويه بقوة بطش اللّه الذي خلق الخلق بدءا والقادر على خلقه إعادة ، الفعال لما يريد. وتنويه في الوقت نفسه بسعة رحمة اللّه وغفرانه ومودته للصالحين من عباده. وفي التنويه بالبطش والغفران والمودة وفي الإنذار والتبشير تساوق تام إزاء موقف المؤمنين ومضطهديهم وما يطلب من كل منهم كما هو المتبادر.(1/408)
وذكر العرش هنا يأتي للمرة الثانية ، ولقد علقنا على هذا الموضوع في سياق سورة التكوير بما يغني عن التكرار إلّا أن نقول إن الأسلوب الذي جاء به هنا أيضا يؤيد ما نبهنا عليه في ذلك التعليق من الحكمة المنطوية في ذكر العرش وهو قصد بيان عظمة شأن اللّه تعالى.
وفتنة المؤمنين في العهد المكي ذكرت في غير هذه السورة أيضا. وذكرها في هذه السورة المبكرة في النزول يدل على أنها قد بدأت منذ عهد مبكر من الدعوة ، ولقد رويت روايات عديدة في سياقها كما وردت أيضا آيات في القرآن تشير إلى بعض نتائجها. ويستفاد من هذه وتلك أن الأرقاء والمستضعفين من المسلمين الأولين هم الذين تعرضوا لها في الدرجة الأولى وأنها كانت مع ذلك تشمل المؤمنين من الأسر القرشية البارزة وأنه كان من صورها أن يعرى المسلمون ويطرحون فوق الرمال والصخور الشديدة الوهج من حرارة الشمس وتوضع على أجسادهم الصخور الثقيلة ويمنع عنهم الماء والطعام ساعات طويلة أو أياما عديدة وكانت تقيد أيديهم وأرجلهم بقيود الحديد ويجلدون شديد الجلد ، وأنه قد زهقت بسبب العذاب أرواح فضرب أصحابها الشهداء مثلا خالدا على التمسك بالعقيدة وتحمل أنواع الأذى والتضحية بالنفس في سبيلها والراجح أن آيات سورة البروج هذه تشير إلى هذه المرحلة.
وفي سورة النحل آيتان قد تدلان على أنّ بعض المؤمنين أرغموا على الافتتان والتبرؤ من الإسلام فمنهم من ظل كافرا ومنهم من عاد إلى الإسلام حينما سنحت له الفرصة وفرّ من مكة وهما هاتان :
1- مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106).
2- ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110).
وقد روى المفسرون أن الاستثناء في الآية الأولى كان لعمار بن ياسر رضي اللّه عنه الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، وأنه قد جاء يبكي للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول له إني نلتك بالشر فقال له مشجعا مطمئنا (إن عادوا لك فعدلهم).
وقد كان بعض أغنياء المسلمين وبخاصة أبا بكر رضي اللّه عنه يشترون بعض الأرقاء المضطهدين من مالكيهم وينقذونهم من المحنة. وقد استمرت المحنة طيلة العهد المكي ثم إلى الفتح المكي في السنة الهجرية الثامنة بالنسبة لمن اضطر إلى البقاء في مكة ومنع الهجرة إلى المدينة. وكانت من أهم الحركات التي سببت للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين همّا عظيما. وكان من نتائجها أن هاجر معظم المسلمين رجالا ونساء إلى الحبشة. وآيات سورة النحل هذه : وَالَّذِينَ هاجَرُوا(1/409)
فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) تشير إلى ذلك.
ولقد كاد النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه يهاجر نتيجة لذلك على ما تفيده آية سورة الإسراء هذه : وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) ثم كانت من أسباب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة. وآية سورة الأنفال هذه : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) وما جاء في آية الحج [40] من هذه الجملة : الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وآية سورة آل عمران هذه : فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) تشير إلى ذلك. وقد وصفها القرآن بأنها أشد من القتل وأكبر واعتبر الكفار بسببها البادئين بالحرب المستحقين للانتقام وأوجب الاستمرار في قتالهم إلى أن ينتهوا عنها على ما جاء في آية سورة الحج هذه : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) وآيات سورة البقرة هذه : وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) وفي كل هذا ينطوي ما كان لهذه المحنة من أثر عظيم وشديد في أحداث وسير السيرة النبوية ثم ما كان من تحمل النبي - صلى الله عليه وسلم - والرعيل الأول من المؤمنين رضوان اللّه عليهم شدّة هذه المحنة بقلوب عامرة بالإيمان مستغرقة في اللّه ودينه ، وعظم كفاحهم وثباتهم في سبيل إعلاء دين اللّه أمام تألب السواد الأعظم من أهل مكة وقبائلها بقيادة الزعماء الأقوياء والأغنياء إلى أن حق الحق وزهق الباطل وانتصر دين اللّه وصارت كلمته هي العليا.
ولقد كان الرعيل الأول من المؤمنين من الرجال والنساء على السواء ، وكما تعرض الرجال للمحنة وصبروا عليها وكافحوا وثبتوا فقد تعرض النساء لها وصبرن وكافحن ، على ما تفيده آيات سورة البروج التي نحن في صددها أولا ، وآية سورة آل عمران [195] التي أوردنا نصها آنفا ثانيا. وقد ذكرت الروايات أن أم عمار بن ياسر رضي اللّه عنهما ماتت تحت العذاب مع أبيه وفضّلا الموت على النطق بكلمة الكفر. كما ذكرت أن المهاجرين إلى الحبشة ثم إلى المدينة كانوا من الرجال والنساء على السواء. ومن اللاتي هاجرن إلى الحبشة بنات زعماء(1/410)
كبار من قريش أسلمن مع أزواجهن وهاجرن معهم إلى الحبشة تمسكا بدينهن رغم قوة آبائهن ، مثل أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان ، وسهلة بنت سهيل بن عمرو ، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي وفاطمة بنت صفوان بن أمية ، وكان عدد النساء المهاجرات إلى الحبشة سبع عشرة.
ولقد سجل القرآن حادثا عظيما من هذا الباب حيث كان من نساء الرعيل الأول من أجبر على التخلف عن الهجرة إلى المدينة ، فما إن سنحت لهن الفرصة حتى غامرن وخرجن والتحقن برسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - تاركات أزواجهن وأهلهن الكفار مما انطوى خبره في آية سورة الممتحنة هذه : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10).
وهكذا سجلت المرأة العربية المسلمة شخصيتها وقوة إيمانها ووعيها وكفاحها وثباتها وجرأتها ومخاطرتها منذ بدء الدعوة الإسلامية وفي دور الأذى والمحنة العصيب أسوة بالرجل مما يثير الإعجاب والإجلال.
وبمناسبة ورود جملة لَمْ يَتُوبُوا [10] في الآية الأولى نذكر أن القرآن فتح باب التوبة لكل فئة من الناس ومهما كانت أفعالهم وسواء منهم الكفار أم المنافقون أو مقترفو المنكرات من المسلمين وحضّهم عليها بمختلف الأساليب وفي مختلف السور المكية والمدنية وفي مختلف أدوار التنزيل من عهد مبكر في مكة إلى عهد متأخر في المدينة كما جاء في الآية التي نحن في صددها وكما جاء في آيات كثيرة أخرى منها الأمثلة التالية :
1- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ البقرة [278- 279].
2- كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِك َ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ آل عمران [86- 89].
3- وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ(1/411)
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً النساء [16- 18].
4- وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً النساء[110].
5- إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً النساء [145- 147].
6- إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة [33- 34].
7- وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة [38- 39].
8- وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ الأنعام [54].
9- وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ التوبة [3].
10- فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ التوبة [5].
11- لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ التوبة [10- 11].
12- يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ التوبة [74].
13- وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69)(1/412)
إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً الفرقان [68- 71].
14- قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ الزمر [53- 55].
وكل هذا يلهم أن التوبة في الإسلام مبدإ قرآني محكم وأن كون صلاح الناس وهدايتهم وإنقاذهم من الضلال والغواية والارتكاس في الآثام هو الجوهري في الدعوة الإسلامية حيث يفتح الكافر حينما يسلم صفحة جديدة ويستقبل عهدا جديدا وهو ما عبر عنه الأثر المشهور «الإسلام يجبّ ما قبله» ومؤيد بما تضمنته آية التوبة [11] ويصبح الكفار إخوانا للمسلمين مهما فعلوا معهم من أفعال ووقفوا من مواقف ومهما ارتكبوا من آثام قبل إسلامهم. وحيث يتاح للمخطئين والآثمين من المسلمين فرصة الرجوع عن خطأهم وآثامهم ويشجعون على السير في سبيل الصلاح والإصلاح والحق والخير. ويحال دون تسرب الناس إلى قلوب الجاهلين والاستمرار في طريق الأشر والإثم. وفي هذا كله من المصلحة الإنسانية وصلاحها الأخلاقي والاجتماعي والديني ما هو واضح من الروعة والجلال.
والآيات مكية ومدنية ، وقد نزلت في مختلف أدوار التنزيل وبدأ نزولها من عهد مبكر حيث يبدو من هذا حرص الدعوة الإسلامية على فتح ذلك الباب وإتاحة تلك الفرصة منذ أولى خطواتها ثم استمر ذلك إلى آخر عهودها. وفي الآيات شروط هامة جدا للتوبة وقبولها ونفعها لا تدع مجالا لقول قائل إنها مما يشجع على اقتراف الإثم وتجاوز الحد. وهي التوبة الصادقة التي تتمثل في الندم على ما فات والعزم على الكف والإصلاح والإنابة إلى اللّه واتباع ما أمر به ونهى عنه. وفي متسع من الحياة والعمر والعافية. وللإصلاح الذي تكرر وروده في الآيات معنى واسع شامل. وقد يتناول بالإضافة إلى تحسين الخلق والسلوك والتزام الحق والفضيلة. بالنسبة للمسلم الجانح والدخول في دين اللّه بالنسبة للكافر تلافي ما يمكن أن يكون سببه التائب من أضرار مادية ومعنوية وبخاصة مما يتعلق بحقوق الناس أفرادا وجماعات. لأن حقوق الناس ودماءهم وأموالهم تظل في عنق المعتدين عليها حتى يؤدوها أو تؤخذ منهم في الدنيا أو يعاقبوا عليها في الآخرة. وقد روى البخارى (2449 ) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَىْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ » .(1/413)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ ».. (1)
وواضح من كل ما تقدم أن استغفار المستغفرين وتوبة التائبين باللسان إذا كانت على غير أساس هذه الشروط تظل لغوا لا قيمة له ولا فائدة.
وفي القرآن آية تذكر غفران اللّه لمن يشاء بدون أن يكون ذلك مترافقا مع ذكر التوبة وهي آية سورة النساء هذه : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً النساء [48]. والمتبادر أن أسلوب الآية جاء بسبيل تشنيع الشرك وتعظيمه ، وما دام القرآن يفسر بعضه بعضا فالمتبادر أن ما جاء في الآيات الكثيرة الأخرى من غفران الشرك إذا تاب عنه المشرك ومن شرط التوبة والإخلاص فيها لمرتكبي الذنوب يقيد الإطلاق الذي جاءت عليه الآية.
وهناك آية تقرر الخلود في جهنم لقاتل المؤمن عمدا دون أن يرد فيها ذكر للتوبة جريا على النظم القرآني في الأمثلة المتقدمة. وهي آية سورة النساء هذه : وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً النساء [93] ولقد استند عليها بعض العلماء وأصحاب المذاهب الكلامية وقالوا إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار. ولقد روى الشيخان عن ابن عباس أن لا توبة لقاتل المؤمن العمد استنادا إلى هذه الآية وإن سعيد بن جبير لما راجعه في ذلك وقال له إن آيات سورة الفرقان [70- 71] تفتح باب التوبة للقاتل وغيره قال له إن هذه آيات مكية قد نسختها آية مدنية وهي آية سورة النساء المار ذكرها. مع أن آيات سورة النساء [110] و[147] و[149] وسورة المائدة [33- 34] و[38- 39] وسورة التوبة [3 و5] و[10] و[11] و [74] والتي أوردناها قبل قد نزلت بعد آية سورة النساء [93] وقد أبقت باب التوبة مفتوحا لمختلف الفئات من مشركين وكفار ومرتدين ومنافقين ومحاربين للّه ورسوله وسارقين إلخ حيث يسوغ هذا التوقف في التسليم بقول ابن عباس والقول إن أسلوب آية النساء [93] إنما جاء على ما جاء به بسبيل تشنيع قتل المؤمن العمد وتغليظه وتعظيمه وإن باب التوبة يظل مفتوحا لقاتل المؤمن العمد إذا كان مؤمنا مخلصا وتاب توبة صادقة. ولقد روى الشيخان تتمة الحديث الذي روياه عن سعيد ابن جبير وابن عباس وهي أن سعيدا أخبر مجاهدا وهو من كبار علماء التابعين ومفسريهم بجواب ابن عباس فعقب قائلا «إلّا من ندم» حيث يدعم هذا ما قلنا.
وما قاله مفسرون آخرون قبلنا أيضا. وهنا آثار نبوية مؤيدة لذلك أيضا حيث تذكر أن الخلود في النار هو لمن يستحل القتل ومات على ذلك لأنه يكون كافرا. وتذكر أن لا خلود لمن مات
__________
(1) - رواه مسلم (6745 )(1/414)
مؤمنا وأن باب التوبة لهذا غير مغلق. ومن ذلك حديث رواه مسلم عن أنس قال : «قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يخرج من النار من قال لا إله إلّا اللّه وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان». وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال : «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب حين يشرب وهو مؤمن ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن. وزاد أبو هريرة في رواية جملة «و التوبة معروضة بعد» .
وقد يصح القول على ضوء حديث أنس أن هؤلاء وأمثالهم من مرتكبي الكبائر إذا لم يتوبوا وكانوا مؤمنين وغير مستحلين لما اقترفوه يعذبون في النار عذابا طويلا ثم يخرجون منها في النهاية ، واللّه تعالى أعلم.
وهناك أحاديث نبوية عديدة فيها حثّ على التوبة وتأميل في عفو اللّه وغفرانه وتبيين لمدادها وتلقين متساوق مع التلقين القرآني فيها. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أنس : «أنّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال اللّه أشدّ فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلّها قد أيس من راحلته فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدّة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربّك أخطأ من شدّة الفرح»
وحديث رواه مسلم والترمذي عن ابن عمر : «أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال يا أيّها الناس توبوا إلى اللّه فإني أتوب إليه في اليوم مئة مرة» . وحديث رواه الترمذي وأحمد والحاكم عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «كلّ بني آدم خطّاء وخير الخطائين التوّابون». وحديث رواه الثلاثة عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «إنّ اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» . وحديث رواه مسلم عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «إنّ اللّه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» «5». وحديث رواه الشيخان وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت آمن الناس كلّهم أجمعون فيومئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا». وحديث أخرجه ابن مردويه عن عبد اللّه بن عمر أنه سمع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقول : «ما من عبد مؤمن يتوب قبل الموت بشهر إلّا قبل اللّه منه أدنى من ذلك. وقبل موته بيوم وساعة يعلم اللّه منه التوبة والإخلاص إليه إلّا قبل منه».
والمقصود بتعبير يغرغر حشرجة الموت. ولا يعني الحديث تسويغ تأخير التوبة إلى هذا الوقت وإنما معناه أن التوبة مقبولة إلى هذا الوقت. وقد ندد اللّه بالذين يؤخرون التوبة إلى وقت الموت وحث على التوبة في متسع من العمر والعافية في الآيات 16- 18 من سورة النساء التي(1/415)
أوردناها مع الآيات. وطلوع الشمس من مغربها من علامات قيام الساعة على ما جاء في الحديث التالي للحديث الخامس.
هذا ،والآيات والأحاديث الواردة في موضوع التوبة وهذه الآيات الواردة في سورة التوبة : وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) تفسح المجال لشيء من المقايسة بين التوبة والاعتراف بالذنب في الإسلام وبين ما هنالك من ذلك في التقاليد النصرانية. وقد يكون مساغ للقول إن ما بين الإسلام والنصرانية شيئا من التساوق في جوهر الموضوع. غير أن الأسلوب مختلف ، فتقاليد الاعتراف النصرانية منوطة بمراسم ووساطة كهنوتية في حين أن التوبة في الإسلام ليست في شيء من ذلك. ولم ترو أي رواية تفيد أن المسلمين كانوا يراجعون النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءه من بعده ويعترفون لهم بذنوبهم ويطلبون منهم الدعاء لهم. والمتواتر الذي لا خلاف فيه أن التوبة تتم بين اللّه وعباده مباشرة. وهذا متصل بعدم وجود مراسم ووساطة كهنوتية في الإسلام كما هو واضح. ونحن نرى في هذا امتياز يحفظ للمسلم كرامته ونراه مما تميزت به الديانة الإسلامية فلم يقم فيها ما قام في النصرانية وغيرها من كهنوت ديني يتوسط بين اللّه وعباده في التوبة وطلب الغفران ومنحه أو يناط به إبرام عقود الزواج وتعميد الأطفال وإقامة الطقوس وتحديد خطوات وحدود العقل والبحث في مختلف شؤون الدين والدنيا الأمر الذي ينطوي على حكمة اللّه تعالى في جعل العقل والفكر الإنسانيين في ظل هذه الديانة في كل مسلم ومسلمة مطلقين يستطيعان أن يحلقا في كل جو ويتناولا كل شأن في حدود الإيمان باللّه ورسوله وقرآنه واليوم الآخر وصفات اللّه الكاملة المنزهة عن كل نقص وشائبة ومماثلة.
ثم في حدود ما أمر اللّه ورسوله به وما نهيا عنه من أوامر ونواه إيمانية وتعبدية وسلوكية واجتماعية بسبيل الصلاح والنجاة في الدنيا والآخرة.
وهناك نقطة هامة يحسن أن ننبه عليها ، وقد أشير إليها في بعض الآيات إشارات خاطفة. وهي أن الآيات المكية والمدنية الواردة في موضوع التوبة والآيات المكية والمدنية التي لم يذكر فيها موضوع التوبة التي وصفت الكفار من الكتابيين وغيرهم والمنافقين والآثمين من المسلمين بالفسق والظلم والإجرام والفساد والبغي والضلال أو قررت ضلالهم وأن اللّه لا يهديهم وأن النذر لا تؤثر فيهم وأنهم لن يجدوا من دون اللّه هاديا ولا نصيرا وأنذرتهم بالعذاب الأخروي الخالد والخزي. وسجلت عليهم لعنة اللّه وغضب الملائكة والناس أجمعين إلخ ، ليست هي على ما يفيده فحواها وروحها على سبيل التأبيد إلّا بالنسبة للذين يصرون على كفرهم ونفاقهم وآثامهم وفسقهم وضلالهم ويموتون على ذلك فقط.(1/416)
وإنها في ظروف نزولها كانت على سبيل وصف واقعهم من جهة ولإنذارهم وتخويفهم وحملهم على الارعواء والتوبة إلى اللّه من جهة أخرى. وهناك دليل من الوقائع الثابتة من سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وهو أن كثيرا من الذين نعتوا في الآيات بما نعتوا وأنذروا بما أنذروا وقرر في حقهم وسجل عليهم ما قرر وسجل بل غالبيتهم- باستثناء غالبية يهود الحجاز الذين لم يكونوا بالنسبة لعرب الحجاز فضلا عن الجزيرة العربية إلّا أقلية ضئيلة- قد آمنوا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة وبعدها وحسن إسلامهم ونالوا رضاء اللّه وتنويهه في القرآن في آيات كثيرة منها هذه الآية في سورة التوبة التي نزلت في أواخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - :وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100). (1)
الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات : أي الذين كادوا لهم فى دينهم ، وأخذوهم بالبأساء والضراء ليفتنوهم فى دينهم ، ويخرجوهم منه.
وهذا وعيد من اللّه سبحانه وتعالى لكل من تعرض لأوليائه المؤمنين والمؤمنات ، بأذى ، يريد أن يصرفهم عن الإيمان ، أو يصدّهم عنه .. فهؤلاء الذين آذوا المؤمنين والمؤمنات بسبب إيمانهم ، إذا لم ينزعوا عما هم فيه ، ولم يرجعوا إلى اللّه مؤمنين تائبين ، فقد أعدّ اللّه لهم عذاب جهنم ، بما فيها من مقامع من حديد ، ومن شدّ إلى السلاسل والأغلال ، ومن حميم يصبّ فوق الرءوس ، ومن غساق يقطع الأمعاء .. ثم لهم فوق ذلك كله عذاب الحريق ، أي عذاب النار ذاتها ، الذي يرعى أجسامهم ، كما ترعى النار الحطب. (2)
إن الذي حدث في الأرض وفي الحياة الدنيا ليس خاتمة الحادث وليس نهاية المطاف . فالبقية آتية هناك . والجزاء الذي يضع الأمر في نصابه ، ويفصل فيما كان بين المؤمنين والطاغين آت . وهو مقرر مؤكد ، وواقع كما يقول عنه الله : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } . . ومضوا في ضلالتهم سادرين ، لم يندموا على ما فعلوا { ثم لم يتوبوا } . . { فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق } . . وينص على { الحريق } . . وهو مفهوم من عذاب جهنم . ولكنه ينطق به وينص عليه ليكون مقابلاً للحريق في الأخدود . وبنفس اللفظ الذي يدل على الحدث . ولكن أين حريق من حريق؟ في شدته أو في مدته! وحريق الدنيا بنار يوقدها الخلق . وحريق الآخرة بنار يوقدها الخالق! وحريق الدنيا لحظات وتنتهي ، وحريق الاخرة آباد لا يعلمها إلا الله! ومع حريق الدنيا رضى الله عن المؤمنين وانتصار لذلك المعنى الإنساني الكريم . ومع حريق الآخرة غضب الله ، والارتكاس الهابط الذميم!
__________
(1) - التفسير الحديث ، ج 2 ، ص : 147
(2) - التفسير القرآني للقرآن ، ج 16 ، ص : 1516(1/417)
ويتمثل رضى الله وإنعامه على الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار } . . وهذه هي النجاة الحقيقية : { ذلك الفوز الكبير } . . والفوز : النجاة والنجاح . والنجاة من عذاب الآخرة فوز . فكيف بالجنات تجري من تحتها الأنهار؟
بهذه الخاتمة يستقر الأمر في نصابه . وهي الخاتمة الحقيقية للموقف . فلم يكن ما وقع منه في الأرض إلا طرفاً من أطرافه ، لا يتم به تمامه . . وهذه هي الحقيقة التي يهدف إليها هذا التعقيب الأول على الحادث لتستقر في قلوب القلة المؤمنة في مكة ، وفي قلوب كل فئة مؤمنة تتعرض للفتنة على مدار القرون . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- إن الذين حرّقوا المؤمنين بالنار ، من أصحاب الأخدود وغيرهم ، ثم ماتوا على الكفر ، ولم يتوبوا من قبيح صنيعهم ، فلهم في الآخرة عذاب جهنم المخزي لكفرهم ، ولهم العذاب المحرق لإحراقهم المؤمنين بالنار. وعذاب جهنم وعذاب الحريق إما متلازمان ، والغرض من الثاني التأكيد ، وإما مختلفان في الدركة : الأول لكفرهم ، والثاني لأنهم فتنوا أهل الإيمان. وقيل : الأول في الآخرة ، والثاني في الدنيا ، أو أن الأول عذاب ببرد جهنم وزمهريرها ، والثاني عذاب بحرّها.
وفي هذا تصريح بأن التوبة تسقط أثر الذنب وترفع العقوبة ، واللَّه يرغب دائما بها..
2- إن الذين آمنوا أي صدقوا باللَّه وبرسله ، وعملوا الصالحات المأمور بها وتركوا المنهي عنها ، لهم جنات (أي بساتين) تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار من ماء غير آسن ، ومن لبن لم يتغير طعمه ، ومن خمر لذّة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ، وذلك الفوز الساحق العظيم الذي لا فوز يشبهه.
وإنما قال تعالى : ذلِكَ الْفَوْزُ ولم يقل « تلك » لأن ذلِكَ إشارة إلى إخبار اللَّه تعالى بحصول هذه الجنات ، وقوله « تلك » إشارة إلى الجنات ، وإخبار اللَّه تعالى عن ذلك يدل على كونه راضيا ، والْفَوْزُ الْكَبِيرُ : هو رضا اللَّه ، لا حصول الجنة ، فاللهم أرضنا وارض عنا يا كريم.
3- فائدة القصص هي الموعظة تحصل للعبد فلا يترك واجباً ولا يغشى محرما .
4-وقصة أصحاب الأخدود ، ولا سيما آية : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ .. تدل على أن المستكره على الكفر بالإهلاك الشديد ، الأولى به أن يصبر على ما خوف منه ، وأن إظهار كلمة الكفر كالرخصة في ذلك ، فعَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : إِنَّ أَصْحَابَ مُسَيْلِمَةَ أَخَذُوا رَجُلَيْنِ مِنَ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3874)(1/418)
الْمُسْلِمِينَ فَأَتَوْا بِهِمَا مُسَيْلِمَةَ ، فَقَالَ : لِأَحَدِهِمَا : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ ، قَالَ : إِنِّي أَصَمُّ ، - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ ، وَقَالَ : لِلْآخَرِ : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ ، قَالَ : نَعَمْ ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " صَاحِبُكَ أَخَذَ بِالْفَضْلِ وَأَنْتُ أَخَذْتَ بِالرُّخْصَةَ ، عَلَامَ أَنْتَ الْيَوْمَ ؟ " قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ كَاذِبٌ " مَرَاسِيلُ أَبِي دَاوُدَ. (1)
5- مِنَ الأَْدِلَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّقِيَّةِ لِلضَّرُورَةِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى : { مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ( سورة النحل / 106 ) وَسَبَبُ نُزُول الآْيَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخَذُوا عَمَّارًا فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ ، فَتَرَكُوهُ . فَلَمَّا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَال : مَا وَرَاءَكَ ؟ قَال : شَرٌّ ، مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ .قَال : كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ ؟ قَال : مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ . قَال : إِنْ عَادُوا فَعُدْ ، فَنَزَلَتْ { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ } . (2)
وَمِنَ الأَْدِلَّةِ عَلَى جَوَازِ التَّقِيَّةِ لِلضَّرُورَةِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْحَسَنِ ، أَنَّ عُيُونًا لِمُسَيْلِمَةَ أَخَذُوا رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَتَوْهُ بِهِمَا ، فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ، قَالَ : فَأَهْوَى إِلَى أُذُنَيْهِ فَقَالَ : إِنِّي أَصَمُّ ، قَالَ : مَا لَكَ إِذَا قُلْتُ لَكَ : تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ، قُلْتُ إِنِّي أَصَمُّ ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ ، وَقَالَ لِلْآخَرِ : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ : أَتَشَهَّدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَأَرْسَلَهُ ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : هَلَكْتُ ، قَالَ : " وَمَا شَأْنُكَ ؟ " فَأَخْبَرُوهُ بِقِصَّتِهِ وَقِصَّةِ صَاحِبِهِ ، فَقَالَ : " أَمَّا صَاحِبُكَ فَمَضَى عَلَى إِيمَانِهِ ، وَأَمَّا أَنْتَ فَأَخَذْتَ بِالرُّخْصَةِ " (3)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - مَرَاسِيلُ أَبِي دَاوُدَ (304 ) صحيح مرسل
(2) - أخرجه الحاكم ( 2 / 357 ط دار الكتاب العربي ) وقال صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي . وابن جرير في تفسير ( 4 / 182 ط مصطفى الحلبي ) كلاهما من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه . وأبوه تابعي . قال ابن حجر " وإسناده صحيح إن كان محمد بن عمار سمعه من أبيه " ( الدراية 2 / 197 ط الفجالة ) .
(3) - مصنف ابن أبي شيبة - (17 / 537) (33708) صحيح مرسل
وانظر : الموسوعة الفقهية الكويتية - (13 / 187)(1/419)
كمال القدرة الإلهية لتأكيد الوعد والوعيد
قال تعالى :
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
المناسبة:
بعد بيان وعيد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ، ووعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وجزاء كل فريق ، أكّد اللَّه تعالى الوعد والوعيد بما يدل على تمام قدرته على ذلك. ثم بيّن أن حال الكفار في كل عصر ، مع الأنبياء ، شبيه بحال أصحاب الأخدود ، في إلحاق أذى الكفار بالمؤمنين ، فهم دائما في صراع معهم وعداوة وإيذاء. والقصد من هذا كله ترهيب الكفار ، وتثبيت المؤمنين على إيمانهم ، وشدّ عزائمهم بالصبر ، وتطمينهم بأن كفار قريش سيلقون مثلما أصاب الأقوام السابقة : فرعون وأتباعه وثمود.
المفردات :
12 ... بَطْشَ رَبِّكَ ... أخذ ربك
13 ... يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ... يبدئ الخلق ويعيده
14 ... الغَفُورُ ... الستِّير لذنوب عباده المؤمنين
14 ... الوَدُودُ ... الحبيب المحب لأوليائه المطيعين له
15 ... ذُو العَرْشِ ... صاحب العرش
15 ... المَجِيدُ ... الكريم
19 ... الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ... في شك وعناد
20 ... مُحِيطٌ ... في قبضته وتحت سلطانه
21 ... قُرْآنٌ مَجِيدٌ ... كريم عظيم
المعنى الإجمالي:
بعد أن ذكر وعيد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ، ووعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات. ووصف ما أعدّ لهم من الثواب كفاء أعمالهم - أردف ذلك كله بما يدل على تمام قدرته على ذلك ، ليكون ذلك بمثابة توكيد لما سبق من الوعيد والوعد فالملك لا يعظم سلطانه وهيبته فى النفوس إلا بأمرين :
(1) الجود الشامل والإنعام الكامل ، وبذا يرجى خيره.(1/420)
(2) الجيوش الجرارة والأساطيل العظيمة التي توقع بأعدائه وتنكل بهم ، وبذلك يهاب جانبه ، وإليهما معا أشار بقوله فيما سلف : « الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ » وهنا زاد الأمر إيضاحا بقوله « إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ » الآية. (1)
هل بلغك قصص أولئك الجنود ، أصحاب القوة والبأس الشديد ، مثل فرعون وجنوده وقبيلة عاد وثمود ، وكانوا أكثر منكم أموالا وأولادا ، فلما كذبوا بالرسل وكفروا بالبعث ، وآذوا رسلهم ، أخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر ، أخذهم ربك بظلمهم وما ربك بظلام للعبيد.
لو نظر العاقل في تلك الآيات يسوقها الحق للاعتبار والاتعاظ لاهتدى إلى سنة اللّه في خلقه ، وأنها لا تتحول ولا تتغير ، ولكن كفار مكة لم يكن فيهم شيء من ذلك بل كانوا في كفر وتكذيب ، وكأن الكفر والتكذيب إطار وهم داخلون فيه لا يتجاوزونه.
واللّه من ورائهم محيط ، وهو على كل شيء قدير ، فهم لا يعجزونه في الأرض ولا في السماء.
وهل لهؤلاء عذر في تكذيبهم وعدم إيمانهم ؟ لا. بل هو قرآن مجيد : قرآن كريم ، قد رفع اللّه قدره ، وشرف مكانته ، وجعله كاملا في كل شيء ، وهو في لوح محفوظ ، ولذلك هم في ضلال ولا عذر لهم.
ويقول الشيخ محمد عبده - رحمه اللّه - في تفسيره : واللوح المحفوظ شيء أخبر اللّه به وأنه أودعه كتابه ، ولم يعرفنا حقيقته ، فعلينا أن نؤمن بأنه شيء موجود ، وأن اللّه قد حفظ فيه كتابه إيمانا بالغيب. (2)
التفسير والبيان :
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ أي إن جزاء ربك وانتقامه من الجبابرة والظلمة ، ومن أعدائه الذين كذبوا رسله ، وخالفوا أمره ، لشديد عظيم قوي ، مضاعف إذا أراد ، فإنه تعالى ذو القوة المتين ، الذي ما شاء كان ، ويكون ما يريد مثل لمح البصر أو هو أقرب. وفي هذا تأكيد للوعيد ، وإرهاب لكفار قريش وأمثالهم.
ثم زاد الأمر تأكيدا بقوله : إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ أي إنه تعالى تام القدرة ، فهو الذي يبدأ الخلق ويخلقهم أولا في الدنيا ، ثم يعيدهم أحياء بعد الموت. أو هو الذي يبدأ البطش ويعيده ، أي يبطش بالجبابرة في الدنيا والآخرة. وفيه وعيد للكفرة بأنه يعيدهم ليبطش بهم إذ كفروا بنعمة الإبداء إبداء الخلق ، وكذبوا بالإعادة.
ثم أكّد اللَّه تعالى الوعد بإيراد خمس صفات لجلاله وكبريائه وهي :
__________
(1) - تفسير المراغي ، ج 30 ، ص : 105
(2) - التفسير الواضح ، ج 3 ، ص : 849(1/421)
1- 2 : وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ أي واللَّه سبحانه بالغ المغفرة لذنوب عباده المؤمنين إذا تابوا وأنابوا إليه ، يغفر ذنب من تاب إليه ، وخضع لديه ، مهما كان الذنب كبيرا أو صغيرا ، وهو تعالى بالغ المحبة للمطيعين من أوليائه ، بليغ الوداد ، والمراد به : إيصال الثواب لأهل طاعته على الوجه الأتم ، فيكون كقوله تعالى : يُحِبُّهُمْ [المائدة 5/ 54] ، أو هو بمعنى مفعول فيكون كقوله : وَيُحِبُّونَهُ [المائدة 5/ 54].
3- 4 : ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ أي هو تعالى ربّ العرش العظيم العالي على جميع الخلائق ، وصاحب الملك والسلطان ، والعظيم الجليل المتعالي ، صاحب النهاية في الكرم والفضل ، وبالغ السمو والعلو.
5- فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ أي صاحب القدرة المطلقة على فعل ما يريد ، فمهما أراد فعل شيء ، لا معقّب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل لعظمته وقهره ، وحكمته وعدله. فإذا أراد إهلاك الظالمين الجاحدين ، ونصر المؤمنين الصادقين ، فعل دون أن يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، ولا يصرفه عنه صارف.
ثم ذكّر اللَّه تعالى الكفار وغيرهم ، وسلّى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقصة فرعون وثمود من متأخري الكفار ومتقدميهم ، فقال : هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ : فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ أي هل أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم ، والتي جندت جنودها لقتالهم ؟ أو هل بلغك ما أحلّ اللَّه بهم من البأس ، وأنزل عليهم من النقمة بسبب تماديهم في الكفر والضلال ؟ ومن هؤلاء الجنود وأشهر حديثهم وخبرهم المتعارف : فرعون وجنوده ، وقبيلة ثمود من العرب البائدة قوم صالح عليه السلام. والمراد بحديثهم : ما وقع منهم من الكفر والعناد ، وما حلّ بهم من العذاب. والمراد بفرعون : هو وجنوده. أما فرعون وأتباعهم فأغرقهم اللَّه في اليمّ : البحر الأحمر ، وأما ثمود الذين عقروا ناقة نبيهم صالح ، فدمّر اللَّه بلادهم وأهلكهم بالطاغية أي الصيحة المجاوزة للحدّ في الشدة.
ثم أشار اللَّه تعالى إلى أن هذا شأن الكفار وصنيعهم في كل زمان ، فقال : بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ أي فالواقع القائم أن هؤلاء المشركين العرب في تكذيب شديد لك أيها النبي ، ولما جئت به ، ولم يعتبروا بمن كان قبلهم من الكفار.
وفي هذا إضراب عن التذكير بقصة الجنود إلى التصريح بتكذيب كفار قريش.
وبعد تطييب قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحكاية أحوال الأولين وموقفهم من الأنبياء ، سلّاه بعد ذلك من وجه آخر ، فقال : وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ أي إن اللَّه تعالى قادر على أن ينزل بهم ما أنزل بأولئك ، قاهر الجبارين لا يفوتونه ولا يعجزونه ، فهو مقتدر عليهم ، وهم في قبضته لا يجدون عنها مهربا. وهذا دليل على أنه تعالى عالم بهم فيجازيهم ، وعلى أنه لا داعي للجزع من تكذيبهم وإصرارهم على الكفر وعنادهم.(1/422)
ثم ردّ على تكذيبهم بالقرآن ، فقال : بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ أي إن هذا القرآن الذي كذبوا به شريف الرتبة في نظمه وأسلوبه حتى بلغ حدّ الإعجاز ، متناه في الشرف والكرم والبركة ، وليس هو كما يقولون : إنه شعر وكهانة وسحر. وإنما هو كلام اللَّه المصون عن التغيير والتحريف ، المكتوب في اللوح المحفوظ ، وهو أم الكتاب ، وهذا كقوله تعالى : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة 56/ 77- 78]. أي أن الكتاب المكنون واللوح المحفوظ واحد.
قال بعض المتكلمين : اللوح شيء يلوح للملائكة ، فيقرءونه ، وأمثال هذه الحقائق مما يجب به التصديق سمعا ، أي أن اللوح المحفوظ شيء أخبرنا اللَّه به ، فيجب علينا الإيمان به كما أخبر اللَّه ، وإن لم نعرف حقيقته.
ومضات :
قَوْلُهُ : هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - : هَلْ جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ حَدِيثُ الْجُنُودِ ، الَّذِينَ تَجَنَّدُوا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَذَاهُمْ وَمَكْرُوهِهِمْ ؛ يَقُولُ : قَدْ أَتَاكَ ذَلِكَ وَعَلِمْتَهُ ، فَاصْبِرْ لِأَذَى قَوْمِكَ إِيَّاكَ ، لِمَا نَالُوكَ بِهِ مِنْ مَكْرُوهٍ ، كَمَا صَبَرَ الَّذِينَ تَجَنَّدَ هَؤُلَاءِ الْجُنُودُ عَلَيْهِمْ مِنْ رُسُلِي ، وَلَا يُثْنِيكَ عَنْ تَبْلِيغِهِمْ رِسَالَتِي ، كَمَا لَمْ يُثْنِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَى هَؤُلَاءِ ، فَإِنَّ عَاقِبَةَ مَنْ لَمْ يُصَدِّقْكَ وَيُؤْمَنْ بِكَ مِنْهُمْ إِلَى عَطَبٍ وَهَلَاكٍ ، كَالَّذِي كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْجُنُودِ ، ثُمَّ بَيَّنَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنِ الْجُنُودِ مَنْ هُمْ ؟ فَقَالَ : فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ يَقُولُ : فِرْعَوْنُ ، فَاجْتُزِئَ بِذِكْرِهِ ، إِذْ كَانَ رَئِيسَ جُنْدِهِ ، مِنْ ذِكْرِ جُنْدِهِ وَتُبَّاعِهِ . وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ : هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَثَمُودَ ؛ وَخَفَضَ فِرْعَوْنَ رَدًّا عَلَى الْجُنُودِ ، عَلَى التَّرْجَمَةِ عَنْهُمْ ، وَإِنَّمَا فُتِحَ لِأَنَّهُ لَا يُجْرَى وَثَمُودُ " (1)
الآيات متصلة بسابقاتها نظما وموضوعا ، حيث احتوت تذكيرا آخر بما كان من مواقف فرعون وثمود وجموعهم المجندة وتمردهم ونكال اللّه فيهم ، وإنذارا للكافرين المكذبين بنقمة اللّه المحيط بهم.
وقد انتهت السورة بالتنويه بالقرآن بسبيل توكيد صلة اللّه به وتوكيد ما احتواه من نذر ووعيد للطغاة المتمردين. فهو كتاب اللّه المجيد الذي لا يمكن أن يطرأ عليه تبديل وتغيير لأن اللّه حافظ له في لوحه.
ومهما يكن من أمر فإننا نقول إن القرآن لم يحتو أي بيان عن ماهية اللوح ومدى الجملة. وأنه ليس هناك أثر نبوي صحيح في ذلك وهما المصدران اللذان يجب الوقوف عندهما في مثل هذه الأمور الغيبية. وليس فيما قيل وروي عن غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يمكن أن تطمئن به النفس باستثناء
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ - سُورَةُ الْبُرُوجِ محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 191)(1/423)
ما روي عن كعب من أن معنى «أم الكتاب» التي يذكرها المفسرون كمرادفة للوح هو علم اللّه ما هو خالق وما خلقه عاملون.
والإيمان بما جاء في القرآن عن الأمور الغيبية واجب. ومع إيماننا بذلك فلا نرى ما يمنع الأخذ بتفسير كعب لأم الكتاب ولا القول إن اللّه عز وجل منزه عن الحاجة إلى تثبيت كلامه وقرآنه وعلمه ومقدراته وكتابتها ونقشها على ألواح مادية.
وإنه لما كان الناس قد اعتادوا أن يكتبوا وينقشوا ما يريدون تثبيته وحفظه من الأحداث والأفكار على الألواح بالأقلام أو ما يقوم مقامها ولما كانت حكمة التنزيل جرت على استعمال مألوفات البشر في الدنيا في التعبير عن المشاهد الأخروية والغيبية فالذي يتبادر لنا أولا إن اللوح والقلم هما من هذا الباب للتعبير عن علم اللّه الأزلي الأبدي لكل كائن. وثانيا إن من حكمة استعمال كلمة اللوح في صدد القرآن قصد التقريب والتشبيه ، وبيان كون القرآن محفوظا حفظا تاما لا يمكن أن يطرأ عليه تبدل ولا تحريف.
وفي سورة الواقعة آيتان عن القرآن مشابهتان لآيتي سورة البروج اللتين نحن في صددهما مع اختلاف في اللفظ وهما هاتان : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) فكريم هنا مقابل مجيد في آيتي البروج. وفي «كتاب مكنون» مقابل «في لوح محفوظ» وهذا الاختلاف اللفظي مع الاتفاق في المعنى يؤيد ما قررناه حيث يمكن أن يكون الكتاب واللوح في معنى واحد ومعرض واحد بقصد التقريب والتشبيه وتوكيد الحفظ التام ، واللّه أعلم. (1)
وفى هذا العرض لصفات اللّه ـ سبحانه ـ الجامعة بين القدرة والبطش ، وبين المغفرة والود ـ فى هذا وعيد ووعد ، وتهديد وترغيب .. فمن خاف وعيد اللّه بالعذاب ، تلقاه وعده بالرحمة والرضوان ، ومن أفزعه التهديد بالنار وعذابها ، آنسه للترغيب بالجنة ونعيمها وقوله تعالى : «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ. فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ » .
هو إلفات إلى طغمة من عتاة الناس وأشرارهم ، من الذين استخفوا بقدرة اللّه ، ولم يرهبوا سلطانه ، فتسلطوا على العباد ، وطغوا فى البلاد ، فأكثروا فيها الفساد.
والاستفهام هنا : إما أن يكون على حقيقته ، ويكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تلقى من آيات ربه قبل ذلك ، حديثا عن فرعون ، وثمود ، وما أخذهم اللّه به من بلاء ونكال ، وعلى هذا يكون جواب الاستفهام محذوفا ، تقديره.
__________
(1) - التفسير الحديث ، ج 2 ، ص : 160(1/424)
نعم أنانى حديث الجنود فرعون ، وثمود! ويكون التعقيب على هذا الجواب أظهر من أن بدل عليه ، وهو : ألا ترى فى هذا الحديث ما أخذ اللّه به أهل البغي والتعدي؟ وهل قومك أعتى عتوّا وأشد قوة من فرعون وجبروته ، وتمود وبطشهم؟
ويجوز أن يكون الاستفهام مرادا به بالنفي ، أي إنه لم يأتك حديث الجنود .. وإذن فسنقصه عليك فيما سينزل عليك من آياتنا بعد .. وفى هذا ما ببعث الشوق والتطلع إلى هذا الحديث العجيب ، وانتظاره فى لهفة ، وترقب.
وفى وصف القوم بالجنود ، إشارة دالة إلى أنهم ذوو بأس وقوة ،كبأس أبطال الحرب وقوتهم ، وأنهم فى حرب مع أولياء اللّه ، يلبسون لباس الحرب دائما.
قوله تعالى : «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ، وَ اللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ » هو إضراب عن انتفاع المشركين بهذه العبر والمثلات ، التي يقصها اللّه سبحانه وتعالى من أخبار القرون الأولى ، وما أخذ به أهل الضلال والسفه والعناد .. فالذين كفروا « فى تكذيب » أي هكذا شأنهم دائما ، هم فى سلسلة لا تنقطع من التكذيب لكل ما يسمعون من آيات اللّه ، دون أن يصغوا إلى ما يسمعونه ، أو يعقلوه .. فالتكذيب بآيات اللّه وبرسل اللّه ، هو الظرف الذي يحتويهم فى كل زمان ومكان ..
وقوله تعالى : « وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ » تهديد لهم بأن اللّه سبحانه وتعالى محيط بهم ، وهم فى غفلة عن هذا ، وهم لهذا سيؤخذون دون أن يشعروا ، لأنهم غافلون عن علم اللّه ، وعن قدرته ، ذاهلون عن عقابه الراصد للمجرمين الضالين ..
وقوله تعالى : «بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ » هو إضراب عن هذا الإضراب .. وذلك أن المشركين ، وإن لم ينتفعوا بما فى القرآن ، ولا بشى ء من نوره الذي يملأ الآفاق .. فهو قرآن مجيد ، أي عالى القدر ، رفيع الشأن لا ينال منه هذا النباح ، ولا يصل إلى سمائه هذا العواء ، من المشركين الضالين .. أنه فى لوح محفوظ عند اللّه ، وفى كتاب مكنون ، ولا يمسّه ، ولا يصافح نوره ، إلّا من طهرت أنفسهم من دنس الكفر ورجس الضلال .. (1)
وإظهار حقيقة البطش وشدته في هذا الموضع هو الذي يناسب ما مر في الحادث من مظهر البطش الصغير الهزيل الذي يحسبه أصحابه ويحسبه الناس في الأرض كبيراً شديداً . فالبطش الشديد هو بطش الجبار . الذي له ملك السماوات والأرض . لا بطش الضعاف المهازيل الذين يتسلطون على رقعة من الأرض محدودة ، في رقعة من الزمان محدودة . .
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ، ج 16 ، ص : 1519(1/425)
ويظهر التعبير العلاقة بين المخاطب وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقائل وهو الله عز وجل . وهو يقول له : { إن بطش ربك . . } ربك الذي تنتسب إلى ربوبيته ، وسندك الذي تركن إلى معونته . . ولهذه النسبة قيمتها في هذا المجال الذي يبطش فيه الفجار بالمؤمنين!
{ إنه هو يبدئ ويعيد } . . والبدء والإعادة وإن اتجه معناهما الكلي إلى النشأة الأولى والنشأة الآخرة . . إلا أنهما حدثان دائبان في كل لحظة من ليل أو نهار . ففي كل لحظة بدء وإنشاء ، وفي كل لحظة إعادة لما بلي ومات .
والكون كله في تجدد مستمر . . وفي بلى مستمر . . وفي ظل هذه الحركة الدائبة الشاملة من البدء والإعادة يبدو حادث الأخدود ونتائجه الظاهرة مسألة عابرة في واقع الأمر وحقيقة التقدير . فهو بدء لإعادة . أو إعادة لبدء . في هذه الحركة الدائبة الدائرة . .
{ وهو الغفور الودود } . . والمغفرة تتصل بقوله من قبل : { ثم لم يتوبوا } . . فهي من الرحمة والفضل الفائض بلا حدود ولا قيود . وهي الباب المفتوح الذي لا يغلق في وجه عائد تائب . ولو عظم الذنب وكبرت المعصية . . أما الود . . فيتصل بموقف المؤمنين ، الذين اختاروا ربهم على كل شيء . وهو الإيناس اللطيف الحلو الكريم . حين يرفع الله عباده الذين يؤثرونه ويحبونه إلى مرتبة ، يتحرج القلم من وصفها لولا أن فضل الله يجود بها . . مرتبة الصداقة . . الصداقة بين الرب والعبد . . ودرجة الود من الله لأودائه وأحبائه المقربين . . فماذا تكون الحياة التي ضحوا بها وهي ذاهبة . وماذا يكون العذاب الذي احتملوه وهو موقوت؟ ماذا يكون هذا إلى جانب قطرة من هذا الود الحلو . وإلى جانب لمحة من هذا الإيناس الحبيب؟
إن عبيداً من رقيق هذه الأرض . عبيد الواحد من البشر ، ليلقون بأنفسهم إلى التهلكة لكلمة تشجيع تصدر من فمه ، أو لمحة رضاء تبدو في وجهه . . وهو عبد وهم عبيد . . فكيف بعباد الله . الذين يؤنسهم الله بوده الكريم الجليل ، الله { ذو العرش المجيد } العالي المهيمن الماجد الكريم؟ ألا هانت الحياة . وهان الألم . وهان العذاب . وهان كل غال عزيز ، في سبيل لمحة رضى يجود بها المولى الودود ذو العرش المجيد . .
{ فعال لما يريد } . . هذه صفته الكثيرة التحقق ، الدائبة العمل . . فعال لما يريد . . فهو مطلق الإرادة ، يختار ما يشاء؛ ويفعل ما يريده ويختاره ، دائماً أبداً ، فتلك صفته سبحانه .
يريد مرة أن ينتصر المؤمنون به في هذه الأرض لحكمة يريدها . ويريد مرة أن ينتصر الإيمان على الفتنة وتذهب الأجسام الفانية لحكمة يريدها . . يريد مرة أن يأخذ الجبارين في الأرض . ويريد مرة أن يمهلهم لليوم الموعود . . لحكمة تتحقق هنا وتتحقق هناك ، في قدره المرسوم. .(1/426)
فهذا طرف من فعله لما يريد . يناسب الحادث ويناسب ما سيأتي من حديث فرعون وثمود . وتبقى حقيقة الإرادة الطليقة والقدرة المطلقة وراء الأحداث ووراء الحياة والكون تفعل فعلها في الوجود .
فعال لما يريد . . وهاك نموذجاً من فعله لما يريد :{ هل أتاك حديث الجنود : فرعون وثمود؟ } . وهي إشارة إلى قصتين طويلتين ، ارتكاناً إلى المعلوم من أمرهما للمخاطبين ، بعدما ورد ذكرهما كثيراً في القرآن الكريم . ويسميهم الجنود . إشارة إلى قوتهم واستعدادهم . . هل أتاك حديثهم؟ وكيف فعل ربك بهم ما يريد؟
وهما حديثان مختلفان في طبعتهما وفي نتائجهما . . فأما حديث فرعون ، فقد أهلكه الله وجنده ونجى بني إسرائيل ، ومكن لهم في الأرض فترة ، ليحقق بهم قدراً من قدره ، وإرادة من إرادته .
وأما حديث ثمود فقد أهلكهم الله عن بكرة أبيهم وأنجى صالحاً والقلة معه حيث لم يكن بعد ذلك ملك ولا تمكين . إنما هي مجرد النجاة من القوم الفاسقين .
وهما نموذجان لفعل الإرادة ، وتوجه المشيئة . وصورتان من صور الدعوة إلى الله واحتمالاتها المتوقعة ، إلى جانب الاحتمال الثالث الذي وقع في حادث الأخدود . . وكلها يعرضها القرآن للقلة المؤمنة في مكة ، ولكل جيل من أجيال المؤمنين . .
وفي الختام يجيء إيقاعان قويان جازمان . في كل منهما تقرير ، وكلمة فصل وحكم أخير :
{ بل الذين كفروا في تكذيب ، والله من ورائهم محيط } . .فشأن الكفار وحقيقة حالهم أنهم في تكذيب يمسون به ويصبحون . { والله من ورائهم محيط } . . وهم غافلون عما يحيط بهم من قهر الله وعلمه . فهم أضعف من الفيران المحصورة في الطوفان العميم!
{ بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ } . .والمجيد الرفيع الكريم العريق . . وهل أمجد وأرفع وأعرق من قول الله العظيم؟ وهو في لوح محفوظ . لا ندرك نحن طبيعته ، لأنه من أمر الغيب الذي تفرد الله بعلمه . إنما ننتفع نحن بالظل الذي يلقيه التعبير ، والإيحاء الذي يتركه في القلوب . وهو أن هذا القرآن مصون ثابت ، قوله هو المرجع الأخير ، في كل ما يتناوله من الأمور . يذهب كل قول ، وقوله هو المرعي المحفوظ . .
ولقد قال القرآن قوله في حادث الأخدود ، وفي الحقيقة التي وراءه . . وهو القول الأخير . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
__________
(1) - في ظلال القرآن - (8 / 5)(1/427)
1- إن عقاب اللَّه وانتقامه ، وأخذه الجبابرة والظلمة لشديد قوي ، كما قال جلّ ثناؤه : وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى ، وَهِيَ ظالِمَةٌ ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود 11/ 102]..
2- إن اللَّه تعالى بدأ خلق الناس أولا في الدنيا ، ثم يعيدهم عند البعث.
3- للَّه تعالى صفات عليا لا تتحقق في غيره ، فهو الغفور الستور لذنوب عباده المؤمنين لا يفضحهم بها ، الودود المحب لأوليائه ، صاحب العرش الأعظم من كل المخلوقات ، وصاحب الملك والسلطان المطلق ، المجيد البالغ النهاية في الكرم والفضل ، السامي القدر المتناهي في علوه ، الفعال لما يريد ، أي لا يمتنع عليه شيء يريده. قال القفال : فعّال لما يريد على ما يراه ، لا يعترض عليه معترض ، ولا يغلبه غالب ، فهو يدخل أولياءه الجنة ، لا يمنعه منه مانع ، ويدخل أعداءه النار ، لا ينصرهم منه ناصر ، ويمهل العصاة على ما يشاء إلى أن يجازيهم ، ويعاجل بعضهم بالعقوبة إذا شاء ، ويعذب من شاء منهم في الدنيا وفي الآخرة ، يفعل من هذه الأشياء ومن غيرها ما يريد (1) .
5- قد أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم ، وهذا إيناس له وتسلية ، والجموع : فرعون وأتباعه وثمود ، وذكرا لأن حديثهما مشهور معروف من طريق اليهود في المدينة وغيرهم ، فإن ثمود في بلاد العرب ، وقصتهم عندهم مشهورة ، وإن كانوا من المتقدمين ، وأمر فرعون كان مشهورا عند أهل الكتاب وغيرهم ، وكان من المتأخرين في الهلاك فدلّ اللَّه بهما على أمثالهما في الهلاك.والواقع أن كفار قريش في تكذيب لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، كدأب من قبلهم.
6- اللَّه يقدر على أن ينزل بكفار مكة في الدنيا ما أنزل بفرعون ، واللَّه عالم بهم ، فهو يجازيهم في الآخرة.
7- ليس القرآن كما زعم المشركون أنه سحر أو كهانة أو شعر ، بل هو كتاب متناه في الشرف والكرم والبركة ، وهو بيان ما يحتاج إليه الناس من أحكام الدين والدنيا. وهو مكتوب عند اللَّه في لوح ، ومحفوظ عند اللَّه من وصول الشياطين إليه.
عَنْ أَبِي هِنْدٍ الدَّارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي وَيَصْبِرْ عَلَى بَلائِي فَلْيَلْتَمِسْ رَبًّا سِوَايَ."المعجم الكبير للطبراني (2) .
8- هذا هو الطريق :
إن قصة أصحاب الأخدود - كما وردت في سورة البروج - حقيقة بأن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل . فالقرآن بإيرادها في هذا الأسلوب مع مقدمتها والتعقيبات عليها ، والتقريرات والتوجيهات المصاحبة لها .. كان يخط بها خطوطاً عميقة في تصور طبيعة الدعوة إلى الله ، ودور البشر فيها ، واحتمالاتها المتوقعة في مجالها الواسع -
__________
(1) تفسير الرازي : 31/ 123- 124
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (16 / 181) (18254) وشعب الإيمان - (1 / 377)
(196) والإتحاف 9/651 وأصفهان 2/228 حسن لغيره(1/428)
وهو أوسع رقعة من الأرض ، وأبعد مدى من الحياة الدنيا - وكان يرسم للمؤمنين معالم الطريق ، ويعدُّ نفوسهم لتلقي أي من هذه الاحتمالات التي يجري بها القدر المرسوم ، وفق الحكمة المكنونة في غيب الله المستور .
إنها قصة فئة آمنت بربها ، واستعلنت حقيقة إيمانها . ثم تعرضت للفتنة من أعداء جبارين بطاشين مستهترين بحق " الإنسان " في حرية الاعتقاد بالحق والإيمان بالله العزيز الحميد ، وبكرامة الإنسان عند الله عن أن يكون لعبة يتسلى بها الطغاة بآلام تعذيبها ، ويتلهون بمنظرها في أثناء التعذيب بالحريق !
وقد ارتفع الإيمان بهذه القلوب على الفتنة ، وانتصرت فيها العقيدة على الحياة ، فلم ترضخ لتهديد الجبارين الطغاة ، ولم تفتن عن دينها ، وهي تحرق بالنار حتى تموت .
لقد تحررت هذه القلوب من عبوديتها للحياة ، فلم يستذلها حب البقاء وهي تعاين الموت بهذه الطريقة البشعة ، وانطلقت من قيود الأرض وجواذبها جميعاً ، وارتفعت على ذواتها بانتصار العقيدة على الحياة فيها .
وفي مقابل هذه القلوب المؤمنة الخيِّرة الرفيقة الكريمة كانت هناك جبلات جاحدة شريرة مجرمة لئيمة . وجلس أصحاب هذه الجبلات على النار . يشهدون كيف يتعذب المؤمنون ويتألمون . جلسوا يتلهون بمنظر الحياة تأكلها النار ، والأناسي الكرام يتحولون وقوداً وتراباً . وكلما ألقي فتى أو فتاة ، صبية أو عجوز ، طفل أو شيخ ، من المؤمنين الخيرين الكرام في النار ، ارتفعت النشوة الخسيسة في نفوس الطغاة ، وعربد السعار المجنون بالدماء والأشلاء !
هذا هو الحادث البشع الذي انتكست فيه جبلات الطغاة وارتكست في هذه الحمأة ، فراحت تلتذ مشهد التعذيب المروع العنيف ، بهذه الخساسة التي لم يرتكس فيها وحش قط ، فالوحش يفترس ليقتات ، لا ليلتذ آلام الفريسة في لؤم وخسة !
وهو ذاته الحادث الذي ارتفعت فيه أرواح المؤمنين وتحررت وانطلقت إلى ذلك الأوج السامي الرفيع ، الذي تشرف به البشرية في جميع الأجيال والعصور .
في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان . وإن هذا الإيمان الذي بلغ الذروة العالية ، في نفوس الفئة الخيرة الكريمة الثابتة المستعلية .. لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان !
ولا تذكر الروايات التي وردت في هذا الحادث ، كما لا تذكر النصوص القرآنية ، أن الله قد أخذ أولئك الطغاة في الأرض بجريمتهم البشعة ، كما أخذ قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وقوم لوط . أو كما أخذ فرعون وجنوده أخذ عزيز مقتدر .
ففي حساب الأرض تبدو هذه الخاتمة اسيفة أليمة !
أفهكذا ينتهي الأمر ، وتذهب الفئة المؤمنة التي ارتفعت إلى ذروة الإيمان ؟ تذهب مع آلامها الفاجعة في الأخدود ؟ بينما تذهب الفئة الباغية ، التي ارتكست إلى هذه الحمأة ، ناجية ؟
حساب الأرض يحيك في الصدر شيء أمام هذه الخاتمة الأسيفة !
ولكن القرآن يعلِّم المؤمنين شيئاً آخر ، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى ، ويبصرهم بطبيعة القيم التي يزنون بها ، وبمجال المعركة التي يخوضونها .(1/429)
إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام ، ومن متاع وحرمان .. ليست هي القيمة الكبرى في الميزان .. وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة . والنصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة . فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة .
إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة ، وإن السلعة الرائجة في سوق الله هي سلعة الإيمان . وإن النصر في أرفع صوره هو انتصار الروح على المادة ، وانتصار العقيدة على الألم ، وانتصار الإيمان على الفتنة .. وفي هذا الحادث انتصرت أرواح المؤمنين على الخوف والألم ، وانتصرت على جواذب الأرض والحياة ، وانتصرت على الفتنة انتصاراً يشرف الجنس البشري كله في جميع الأعصار .. وهذا هو الانتصار ..
إن الناس جميعاً يموتون ، وتختلف الأسباب . ولكن الناس جميعاً لا ينتصرون هذا الانتصار ، ولا يرتفعون هذا الارتفاع ، ولا يتحررون هذا التحرر ، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق .. إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده لتشارك الناس في الموت ، وتنفرد دون الناس في المجد ، المجد في الملأ الأعلى ، وفي دنيا الناس أيضاً . إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال !
لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم . ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم ؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر ؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير ، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة ، وبشاعتها بلا حرية ، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد ؟
إنه معنى كريم جداً ، ومعنى كبير جداً ، هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض ، ربحوه وهم يجدون مس النار ، فتحرق أجسادهم الفانية ، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار !
ثم إن مجال المعركة ليس هو الأرض وحدها ، وليس هو الحياة الدنيا وحدها . وشهود المعركة ليسوا هم الناس في جيل من الأجيال . إن الملأ الأعلى يشارك في أحداث الأرض ويشهدها ويشهد عليها ، ويزنها بميزان غير ميزان الأرض في جيل من أجيالها ، وغير ميزان الأرض في أجيالها جميعاً . والملأ الأعلى يضم من الأرواح الكريمة أضعاف أضعاف ما تضم الأرض من الناس .. وما من شك أن ثناء الملأ الأعلى وتكريمه أكبر وأرجح في أي ميزان من رأي أهل الأرض وتقديرهم على الإطلاق !
وبعد ذلك كله هناك الآخرة . وهي المجال الأصيل الذي يلحق به مجال الأرض ، ولا ينفصل عنه ، لا في الحقيقة الواقعة ، ولا في حس المؤمن بهذه الحقيقة .
فالمعركة إذن لم تنته ، وخاتمتها الحقيقية لم تجيء بعد ، والحكم عليها بالجزء الذي عرض منها على الأرض حكم غير صحيح ، لأنه حكم على الشطر الصغير منها والشطر الزهيد .
النظرة الأولى هي النظرة القصيرة المدى الضيقة المجال التي تعنّ للإنسان العجول . والنظرة الثانية الشاملة البعيدة المدى هي التي يروض القرآن المؤمنين عليها ، لأنها تمثل الحقيقة التي يقوم عليها التصور الإيماني الصحيح .(1/430)
ومن ثم وعد الله للمؤمنين جزاء على الإيمان والطاعة ، والصبر على الابتلاء ، والانتصار على فتن الحياة .. هو طمأنينة القلب :{ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } ... [ الرعد : 28 ] .
وهو الرضوان والود من الرحمن :{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً } [ مريم : 96 ] .
وهو الذكر في الملأ الأعلى : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته : قبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم . فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم . فيقول : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع . فيقول : ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمّوه بيت الحمد " ... [ أخرجه الترمذي ] .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه حين يذكرني ، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه . فإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً ، وإن اقترب إليّ ذرعاً اقتربت منه باعاً ، وإن أتاني مشياً يمشي أتيته هرولة " . [ أخرجه الشيخان ] .
وهو اشتغال الملأ الأعلى بأمر المؤمنين في الأرض :{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ }[ غافر : 7 ]
وهو الحياة عند الله للشهداء :{ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 169 - 171 ] .
كما كان وعده المتكرر بأخذ المكذبين والطغاة والمجرمين في الآخرة والإملاء لهم في الأرض والإمهال إلى حين .. وإن كان أحياناً قد أخذ بعضهم في الدنيا .. ولكن التركيز كله على الآخرة في الجزء الأخير : { لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ آل عمران : 196 - 197 ] .
{ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } .. [ إبراهيم : 42 - 43 ] .
{ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ، خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } [ المعارج : 42 - 44 ] .
وهكذا اتصلت حياة الناس بحياة الملأ الأعلى ، واتصلت الدنيا بالآخرة ، ولم تعد الأرض وحدها هي مجال المعركة بين الخير والشر ، والحق والباطل ، والإيمان والطغيان . ولم تعد الحياة الدنيا هي خاتمة المطاف ، ولا موعد الفصل في هذا الصراع .. كما أن الحياة وكل ما يتعلق بها من لذائد وآلام ومتاع وحرمان ، لم تعد هي القيمة العليا في الميزان .(1/431)
انفسح المجال في المكان ، وانفسح المجال في الزمان ، وانفسح المجال في القيم والموازين ، واتسعت آفاق النفس المؤمنة ، وكبرت اهتماماتها ، فصغرت الأرض وما عليها ، والحياة الدنيا وما يتعلق بها ، وكبر المؤمن بمقدار ما رأى وما عرف من الآفاق والحيوات ، وكانت قصة أصحاب الأخدود في القمة في إنشاء هذا التصور الإيماني الواسع الشامل الكبير الكريم .
هناك إشعاع آخر تطلقه قصة أصحاب الأخدود وسورة البروج حول طبيعة الدعوة إلى الله ، وموقف الداعية أمام كل احتمال .
لقد شهد تاريخ الدعوة إلى الله نماذج منوعة من نهايات في الأرض مختلفة للدعوات ..
شهد مصارع قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم شعيب ، وقوم لوط ، ونجاة الفئة المؤمنة القليلة العدد ، مجرد النجاة . ولم يذكر القرآن للناجين دوراً بعد ذلك في الأرض والحياة . وهذه النماذج تقرر أن الله سبحانه وتعالى يريد أحياناً أن يعجِّل للمكذبين الطغاة بقسط من العذاب في الدنيا ، أما الجزاء الأوفى فهو مرصود لهم هناك .
وشهد تاريخ الدعوة مصرع فرعون وجنوده ، ونجاة موسى وقومه ، مع التمكين للقوم في الأرض فترة كانوا فيها أصلح ما كانوا في تاريخهم . وإن لم يرتقوا قط إلى الاستقامة الكاملة ، وإلى إقامة دين الله في الأرض منهجاً للحياة شاملاً .. وهذا نموذج غير النماذج الأولى .
وشهد تاريخ الدعوة كذلك مصرع المشركين الذين استعصوا على الهدى والإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وانتصار المؤمنين انتصاراً كاملاً ، مع انتصار العقيدة في نفوسهم انتصاراً عجيباً . وتم للمرة الوحيدة في تاريخ البشرية أن أقيم منهج الله مهيمناً على الحياة في صورة لم تعرفها البشرية قط ، من قبل ولا من بعد .
وشهد - كما رأينا - نموذج أصحاب الأخدود ..
وشهد نماذج أخرى أقل ظهوراً في سجل التاريخ الإيماني في القديم والحديث . وما يزال يشهد نماذج تتراوح بين هذه النهايات التي حفظها على مدار القرون .
ولم يكن بدّ من النموذج الذي يمثله حادث الأخدود ، إلى جانب النماذج الأخرى . القريب منها والبعيد ..
لم يكن بد من هذا النموذج الذي لا ينجو فيه المؤمنون ، ولا يؤخذ فيه الكافرون ! ذلك ليستقر في حس المؤمنين - أصحاب دعوة الله - أنهم قد يدعون إلى نهاية كهذه النهاية في طريقهم إلى الله . وأن ليس لهم من الأمر شيء ، إنما أمرهم وأمر العقيدة إلى الله !
إن عليهم أن يؤدوا واجبهم ، ثم يذهبوا ، وواجبهم أن يختاروا الله ، وأن يؤثروا العقيدة على الحياة ، وأن يستعلوا بالإيمان على الفتنة وأن يصدقوا الله في العمل والنية . ثم يفعل الله بهم وبأعدائهم ، كما يفعل بدعوته ودينه ما يشاء . وينتهي بهم إلى نهاية من تلك النهايات التي عرفها تاريخ الإيمان ، أو إلى غيرها مما يعلمه هو ويراه .
إنهم أجراء عند الله . أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا ، عملوا وقبضوا الأجر المعلوم ! وليس لهم ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير ، فذلك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير !
وهم يقبضون الدفعة الأولى طمأنينة في القلب ، ورفعة في الشعور ، وجمالاً في التصور ، وانطلاقاً من الأوهاق والجواذب ، وتحرراً من الخوف والقلق ، في كل حال من الأحوال .(1/432)
وهم يقبضون الدفعة الثانية ثناء في الملأ الأعلى وذكراً وكرامة ، وهم بعد في هذه الأرض الصغيرة .
ثم هم يقبضون الدفعة الكبرى في الآخرة حساباً يسيراً ونعيماً كبيراً .
ومع كل دفعة ما هو أكبر منها جميعاً . رضوان الله ، وانهم مختارون ليكونوا أداة لقدره وستاراً لقدرته ، يفعل بهم في الأرض ما يشاء .
وهكذا انتهت التربية القرآنية بالفئة المختارة من المسلمين في الصدر الأول إلى هذا التطور ، الذي أطلقهم من أمر ذواتهم وشخوصهم . فأخرجوا أنفسهم من الأمر البتة ، وعملوا أجراء عند صاحب الأمر ورضوا خيرة الله على أي وضع وعلى أي حال .
وكانت التربية النبوية تتمشى مع التوجيهات القرآنية ، وتوجه القلوب والأنظار إلى الجنة ، وإلى الصبر على الدور المختار حتى يأذن الله بما يشاء في الدنيا والآخرة سواء .
كان - صلى الله عليه وسلم - يرى عماراً وأمه وأباه - رضي الله عنهم - يعذبون العذاب الشديد في مكة ، فما يزيد على أن يقول : " صبراً آل ياسر . موعدكم الجنة " ..
وعن خبّاب بن الأرثّ - رضي الله عنه - قال : شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد برده في ظل الكعبة ، فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ أو تدعو لنا ؟ فقال : " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين . ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه . ما يبعده ذلك عن دينه . والله ليتممن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، فلا يخاف إلا الله ، والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون " .. [ أخرجه البخاري ] .
إن لله حكمة وراء كل وضع ووراء كل حال ، ومدبر هذا الكون كله ، المطلع على أوله وآخره ، المنسق لأحداثه وروابطه . هو الذي يعرف الحكمة المكونة في غيبه المستور ، الحكمة التي تتفق مع مشيئته في خط السير الطويل .
وفي بعض الأحيان يكشف لنا - بعد أجيال وقرون - عن حكمة حادث لم يكن معاصروه يدركون حكمته ، ولعلهم كانوا يسألون لماذا ؟ لماذا يا رب يقع هذا ؟ وهذا السؤال نفسه هو الجهل الذي يتوقاه المؤمن . لأنه يعرف ابتداء أن هناك حكمة وراء كل قدر ، ولأن سعة المجال في تصوره ، وبعد المدى في الزمان والمكان والقيم والموازين تغنيه عن التفكير ابتداء في مثل هذا السؤال . فيسير مع دورة القدر في استسلام واطمئنان ..
لقد كان القرآن ينشئ قلوباً يعدها لحمل الأمانة ، وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء ، وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض ، ولا تنظر إلا إلى الآخرة ، ولا ترجو إلا رضوان الله ، قلوباً مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية حتى الموت . بلا جزاء في هذه الأرض قريب ، ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة ، وغلبة الإسلام وظهور المسلمين ، بل لو كان هذا الجزاء هو هلاك الظالمين بأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما فعل بالمكذبين الأولين !
حتى إذا وجدت هذه القلوب ، التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض إلا أن تعطي بلا مقابل - أي مقابل - وأن تنتظر الآخرة وحدها موعداً للفصل بين الحق والباطل . حتى إذا وجدت(1/433)
هذه القلوب ، وعلم الله منها صدق نيّتها على ما بايعت وعاهدت ، آتاها النصر في الأرض ، وائتمنها عليه . لا لنفسها ، ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة منذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه ، ولم تتطلع إلى شئ من الغنم في الأرض تعطاه . وقد تجردت لله حقاً يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه .
وكل الآيات التي ذكر فيها النصر ، وذكر فيها المغانم ، وذكر فيها أخذ المشركين في الأرض بأيدي المؤمنين نزلت في المدينة .. بعد ذلك .. وبعد أن أصبحت هذه الأمور خارج برنامج المؤمن وانتظاره وتطلعه . وجاء النصر ذاته لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج واقعية في الحياة الإنسانية ، تقرره في صورة عملية محددة تراها الأجيال .. فلم يكن جزاء على التعب والنصب والتضحية والآلام ، إنما كان قدراً من قدر الله تكمن وراءه حكمة نحاول رؤيتها الآن !
وهذه اللفتة جديرة بأن يتدبرها الدعاة إلى الله ، في كل أرض وفي كل جيل . فهي كفيلة بأن تريهم معالم الطريق واضحة بلا غبش ، وأن تثبِّت خطى الذين يريدون أن يقطعوا الطريق إلى نهايته ، كيفما كانت هذه النهاية . ثم يكون قدر الله بدعوته وبهم ما يكون ، فلا يتلفتون في أثناء الطريق الدامي المفروش بالجماجم والأشلاء ، وبالعرق والدماء ، إلى نصر أو غلبة ، أو فيصل بين الحق والباطل في هذه الأرض .. ولكن إذا كان الله يريد أن يصنع بهم شيئاً من هذا لدعوته ولدينه فسيتم ما يريده الله .. لا جزاء على الآلام والتضحيات .. لا ، فالأرض ليست دار جزاء .. وإنما تحقيقاً لقدر الله في أمر دعوته ومنهجه على أيدي ناس من عباده يختارهم ليمضي بهم من الأمر ما يشاء ، وحسبهم هذا الاختيار الكريم ، الذي تهون إلى جانبه وتصغر هذه الحياة ، وكل ما يقع في رحلة الأرض من سراء أو ضراء .
هنالك حقيقة أخرى يشير إليها أحد التعقيبات القرآنية على قصة الأخدود في قوله تعالى :{ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } ..
حقيقة ينبغي أن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل .
إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة وليست شيئاً آخر على الإطلاق . وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان ، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة ..
إنها ليست معركة سياسية ولا معركة اقتصادية ، ولا معركة عنصرية .. ولو كانت شيئاً من هذا لسهل وقفها ، وسهل حل إشكالها . ولكنها في صميمها معركة عقيدة - إما كفر وإما إيمان .. إما جاهلية وإما إسلام !
ولقد كان كبار المشركين يعرضون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المال والحكم والمتاع في مقابل شيء واحد ، أن يدع معركة العقيدة وأن يدهن في هذا الأمر ! ولو أجابهم - حاشاه - إلى شيء مما أرادوا ما بقيت بينهم وبينه معركة على الإطلاق !
إنها قضية عقيدة ومعركة عقيدة .. وهذا ما يجب أن يستيقنه المؤمنون حيثما واجهوا عدواً لهم . فإنه لا يعاديهم لشيء إلا لهذه العقيدة " إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد " ويخلصوا له وحده الطاعة والخضوع !(1/434)
وقد يحاول أعداء المؤمنين أن يرفعوا للمعركة راية غير راية العقيدة ، راية اقتصادية أو سياسية أو عنصرية ، كي يموِّهوا على المؤمنين حقيقة المعركة ، ويطفئوا في أرواحهم شعلة العقيدة . فمن واجب المؤمنين ألا يُخدَعوا ، ومن واجبهم أن يدركوا أن هذا تمويه لغرض مبيت . وأن الذي يغيِّر راية المعركة إنما يريد أن يخدعهم عن سلاح النصر الحقيقي فيها ، النصر في أية صورة من الصور ، سواء جاء في صورة الانطلاق الروحي كما وقع للمؤمنين في حادث الأخدود ، أو في صورة الهيمنة - الناشئة من الانطلاق الروحي - كما حدث للجيل الأول من المسلمين .
ونحن نشهد نموذجاً من تمويه الراية في محاولة الصليبية العالمية اليوم أن تخدعنا عن حقيقة المعركة ، وأن تزور التاريخ ، فتزعم لنا أن الحروب الصليبية كانت ستاراً للاستعمار .. كلا .. إنما كان الاستعمار الذي جاء متأخراً هو الستار للروح الصليبية التي لم تعد قادرة على السفور كما كانت في القرون الوسطى ! والتي تحطمت على صخرة العقيدة بقيادة مسلمين من شتى العناصر ، وفيهم صلاح الدين الكردي ، وتوران شاه المملوكي ، العناصر التي نسيت قوميتها وذكرت عقيدتها فانتصرت تحت راية العقيدة !
{ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } .
وصدق الله العظيم ، وكذب المموهون الخادعون ! (1)
مقاصد هذه السورة
(1) إظهار عظمة اللّه وجليل صفاته.
(2) إنه يبيد الأمم الطاغية فى كل حين ، ولا سيما الذين يفتنون للمؤمنين والمؤمنات. (2)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - معالم في الطريق – البحث الأخير
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 108)(1/435)
سورة الطارق
مكيّة ، وهي سبع عشرة آية
تسميتها :
سميت سورة الطارق تسمية لها بما أقسم اللَّه به في مطلعها بقوله : وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَالطَّارِقِ : هو النجم الثاقب الذي يطلع ليلا ، سمي طارقا لأنه يظهر بالليل ويختفي بالنهار. وكذلك الطارق : هو الذي يجيء ليلا.
قال ابن عاشور : " روى أحمد بن حنبل عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج والطارق" اه. فسماها أبو هريرة: السماء والطارق لأن الأظهر أن الواو من قوله: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} واو العطف، ولذلك لم يذكر لفظ الآية الأولى منها بل أخذ لها اسما من لفظ الآية كما قال في {السَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1].
وسميت في كتب التفسير وكتب السنة وفي المصاحف "سورة الطارق" لوقوع هذا اللفظ في أولها. وفي "تفسير الطبري" و "أحكام ابن العربي" ترجمت {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} .
وهي سبع عشرة آية.وهي مكية بالاتفاق نزلت قبل سنة عشر من البعثة. أخرج أحمد بن حنبل عن خالد بن أبي جبل العدواني أنه أبصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصا حين أتاهم يبتغي عندهم النصر فسمعته يقول {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] حتى ختمها قال: "فوعيتها في الجاهلية ثم قرأتها في الإسلام" الحديث.
وعددها في ترتيب نزول السور السادسة والثلاثين. نزلت بعد سورة {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} وقبل سورة {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} .
أغراضها
إثبات إحصاء الأعمال والجزاء على الأعمال.
وإثبات إمكان البعث بنقض ما أحاله المشركون ببيان إمكان إعادة الأجسام.
وأدمج في ذلك التذكير بدقيق صنع الله وحكمته في خلق الإنسان.
والتنويه بشأن القرآن.
وصدق ما ذكر فيه من البعث لأن إخبار القرآن به لما استبعدوه وموهوا على الناس بأن ما فيه غير صدق. وتهديد المشركين الذين ناووا المسلمين.
وتثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ووعده بأن الله منتصر له غير بعيد. (1)
مناسبتها لما قبلها :
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 229)(1/436)
السورة مرتبطة بما قبلها من ناحيتين :
1- ابتداء السورتين بالحلف بالسماء كسورتي (الانشقاق) و(الانفطار).
2- التشابه في الكلام عن البعث والمعاد وعن صفة القرآن للردّ على المشركين المكذّبين به وبالبعث ، ففي سورة البروج : إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [13] ، وفي هذه السورة : إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ [8] ، وفي السورة السابقة : بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [21- 22] ، وفي هذه السورة : إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [13].
ما اشتملت عليه السورة :
* هذه السورة الكريمة من السور المكية ، وهي تعالج بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة الإسلامية ومحور السورة يدور حول الإيمان بالبعث والنشور ، وقد أقامت البرهان الساطع ، والدليل القاطع على قدرة الله جل وعلا على إمكان البعث ، فإن الذي خلق الإنسان من العدم ، قادر على إعادته بعد موته .
* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالسماء ذات الكواكب الساطعة ، التي تطلع ليلا لتضيء للناس سبلهم ، ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ، أقسم تعالى على أن كل إنسان ، قد وكل به من يحرسه ، ويتعهد أمره من الملائكة الأبرار [ والسماء والطارق ، ومما أدراك ما الطارق ، النجم الثاقب ، إن كل نفس لما عليها حافظ ] الآيات
* ثم ساقت الأدلة والبراهين ، على قدرة رب العالمين ، على إعادة الإنسان بعد فنائه [ فلينظر الإنسان مما خلق ؟ خلق من ماء دافق ، يخرج من بين الصلب والترائب ، إنه على رجعه لقادر الآيات .
* ثم أخبرت عن كشف الأسرار ، وهتك الأستار في الآخرة عن البشر ، حيث لا معين للإنسان ولا نصير [ يوم تبلى السرائر ، فما له من قوة ولا ناصر
* وختمت السورة الكريمة بالحديث عن القرآن العظيم ، معجزة محمد في الخالدة ، وحجته البالغة إلى الناس أجمعين ، وبينت صدق هذا القرآن ، وأوعدت الكفرة المجرمين بالعذاب الأليم لتكذبهم بالقرآن الساطع المنير [ والسماء ذات الرجع ، والأرض ذات الصدع ، إنه لقول فصل ، وما هو بالهزل ، إنهم يكيدون كيدا ، وأكيد كيدا ، فمهل الكافرين أمهلهم رويدا (1)
في السورة توكيد للبعث وتدليل عليه بقدرة اللّه على خلق الإنسان للمرة الأولى. وإنذار للسامعين بأن أعمالهم محصاة عليهم. ووعيد للكفار وتطمين للنبي عليه السلام. وأسلوبها عامّ مطلق. (2)
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 477)
(2) - التفسير الحديث ، ج 2 ، ص : 267(1/437)
جاء في مقدمة هذا الجزء أن سوره تمثل طرقات متوالية على الحس . طرقات عنيفة قوية عالية ، وصيحات بنوّم غارقين في النوم . . تتوالى على حسهم تلك الطرقات والصيحات بإيقاع واحد ، ونذير واحد . « اصحوا . تيقظوا . انظروا . تلفتوا . تفكروا . تدبروا . إن هنالك إلهاً . وإن هنالك تدبيراً . وإن هنالك تقديراً . وإن هنالك ابتلاء . وإن هنالك تبعة . وإن هنالك حساباً وجزاء . وإن هنالك عذاباً شديداً ونعيماً كبيراً . . » . .
وهذه السورة نموذج واضح لهذه الخصائص . ففي إيقاعاتها حدة يشارك فيها نوع المشاهد ، ونوع الإيقاع الموسيقي ، وجرس الألفاظ ، وإيحاء المعاني .
ومن مشاهدها : الطارق . والثاقب . والدافق . والرجع . والصدع .
ومن معانيها : الرقابة على كل نفس : { إن كل نفس لما عليها حافظ } . . ونفي القوة والناصر : { يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر } . . والجد الصارم : { إنه لقول فصل وما هو بالهزل } . .والوعيد فيها يحمل الطابع ذاته : { إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً . فمهل الكافرين أمهلهم رويداً! } !
وتكاد تتضمن تلك الموضوعات التي أشير إليها في مقدمة الجزء : « إن هنالك إلهاً . وإن هنالك تدبيراً . وإن هنالك تقديراً . وإن هنالك ابتلاء . وإن هنالك تبعة . وإن هنالك حساباً وجزاء . . الخ » .
وبين المشاهد الكونية والحقائق الموضوعية في السورة تناسق مطلق دقيق ملحوظ يتضح من استعراض السورة في سياقها القرآني الجميل . . (1)
فضلها :
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدٍ الْعَدْوَانِىِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَبْصَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى مَشْرِقِ ثَقِيفٍ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى قَوْسٍ أَوْ عَصاً حِينَ أَتَاهُمْ يَبْتَغِى عِنْدَهُمُ النَّصْرَ - قَالَ - فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ) حَتَّى خَتَمَهَا - قَالَ - فَوَعَيْتُهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا مُشْرِكٌ ثُمَّ قَرَأْتُهَا فِى الإِسْلاَمِ - قَالَ - فَدَعَتْنِى ثَقِيفٌ فَقَالُوا مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ فَقَرَأْتُهَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ مَنْ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ نَحْنُ أَعْلَمُ بِصَاحِبِنَا لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ مَا يَقُولُ حَقًّا لَتَبِعْنَاهُ. " مسند أحمد (2)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن خَالِدِ بن أَبِي جَبَلٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّهُ أَبْصَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى قَوْسٍ أَوْ عَصًا فِي مَشْرِقِ ثَقِيفٍ وَهُوَ يَقْرَأُ : {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق : 1] حَتَّى خَتَمَهَا ، فَوَعَيْتُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَأَنَا مُشْرِكٌ ، ثُمَّ قَرَأْتُهَا وَأَنَا فِي الإِسْلامِ .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3877)
(2) - مسند أحمد -(19472) وصحيح ابن خزيمة (1681 ) حسن(1/438)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن خَالِدٍ الْعَدْوَانِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّهُ أَبْصَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَشْرِقِ ثَقِيفٍ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى قَوْسٍ أَوْ عَصًا حِينَ أَتَاهُمْ يَبْتَغِي عِنْدَهُمُ النَّصْرَ ، قَالَ :فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ : {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق : 1] حَتَّى خَتَمَهَا ، قَالَ : فَوَعَيْتُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا مُشْرِكٌ ، ثُمَّ قَرَأْتُهَا فِي الإِسْلامِ ، فَقَالُوا : مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ ؟ فَقَرَأْتُهَا عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ مَنْ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ : نَحْنُ أَعْلَمُ بِصَاحِبِنَا ، لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَا يَقُولُ حَقٌّ لاتَّبَعْنَاهُ "المعجم الكبير للطبراني (1)
وعَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ ، يَقُولُ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِ اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَنَحْوِهَا ، وَيَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ بِأَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ "صحيح ابن خزيمة (2)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَؤُمُّ قَوْمَهُ ، فَدَخَلَ حَرَامٌ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَسْقِيَ نَخْلَهُ ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ لَيُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ ، فَلَمَّا رَأَى مُعَاذًا طَوَّلَ ، تَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ ، وَلَحِقَ بِنَخْلِهِ لِيَسْقِيَهُ ، فَقَالَ : إِنَّهُ لَمُنَافِقٌ ، يَعْجَلُ مِنَ الصَّلَاةِ مِنْ أَجْلِ نُخَيْلِهِ ، فَجَاءَ حَرَامٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمُعَاذٌ عِنْدَهُ ، فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، أَرَدْتُ أَنْ أَسْقِيَ نَخْلِي ، فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ لَأُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ ، فَلَمَّا طَوَّلَ مُعَاذٌ ، تَجَوَّزْتُ فِي صَلَاتِي وَلَحِقْتُ بِنَخْلِي أَسْقِيهِ ، فَزَعَمَ أَنِّي مُنَافِقٌ ، فَأَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مُعَاذٍ ، فَقَالَ : " أَفَتَّانٌ أَنْتَ ؟ ، لَا تُطَوِّلْ بِهِمْ ، اقْرَأْ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَنَحْوَهَا " السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (3) .
وعَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : مَرَّ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِنَاضِحَيْنِ عَلَى مُعَاذٍ ، وَهُوَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، فَصَلَّى الرَّجُلُ ثُمَّ ذَهَبَ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : " أَفَتَّانٌ يَا مُعَاذُ ، أَفَتَّانٌ يَا مُعَاذُ ، أَلَا قَرَأْتَ بِ - سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَنَحْوِهَا " السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (4)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (4 / 267) (4019و4020) حسن
(2) - صحيح ابن خزيمة (491) صحيح
(3) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (10294) ومُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (12059 ) صحيح
(4) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (1042 ) صحيح(1/439)
القسم على أن لكل نفس حافظا من الملائكة يراقبها
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
المفردات :
1 ... الطَّارِقِ ... كل ما يأ تي ليلا ( وهو النجم )
3 ... النَّجْمُ الثَّاقِبُ ... المضيئ
4 ... إِنْ كُلُّ نَفْسٍ ... ما من نفس
4 ... لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ... إلا عليها من الله ملك يحفظها من الآفات
6 ... مَآءٍ دَافِقٍ ... ماء الرجل وماء المرأة
7 ... الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ ... صلب الرجل وصدر المرأة
7 ... التَّرَائِبِ ... عظام الصدر مفردها تريبة
9 ... تُبْلَى السَّرَائِرُ ... تختبر سرائر القلوب
المعنى الإجمالي:
أقسم سبحانه فى مستهل هذه السورة بالسماء ونجومها الثاقبة - إن النفوس لم تترك سدى ولم ترسل مهملة ، بل قد تكفل بها من يحفظها ويحصى أعمالها وهو اللّه سبحانه.
وفى هذا وعيد للكافرين وتسلية للنبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، فكأنه يقول لهم : لا تخزنوا لإيذاء قومكم لكم ، ولا يضق صدركم لأعمالهم ، ولا تظننّ أنا نهملهم ونتركهم سدى ، بل سنجازيهم على أعمالهم بما يستحقون ، لأنا نحصى عليهم أعمالهم ونحاسبهم عليها يوم يعرضون علينا « فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا » والعدّ إنما يكون للحساب والحزاء. (1)
أقسم الحق - تبارك وتعالى - بالسماء وما فيها من أفلاك وأجرام لا يعلمها إلا هو ، وبالطارق الذي يطرق ليلا ، وهذا توجيه ولفت لأنظار الناس إلى عالم السماء وما فيها.
ولكنا لم نعرف الطارق فأراد الحق أن يبينه فقال : وما أدراك ما الطارق ؟ وهذا أسلوب تفخيم للطارق ، كأنه لفرط فخامته لا يحيط به وصف ، إلا ما سيذكره اللّه عنه ، هو النجم الثاقب الذي يثقب الظلام بشعاعه اللماع ، أقسم بالنجم لما له من أثر كبير في الهداية الحسية والمعنوية والشئون الحيوية الأخرى.
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 109)(1/440)
واللّه - جل شأنه - يقسم على أن كل نفس من النفوس عليها رقيب وحفيظ ، وليست في النفوس نفس تترك هملا بلا حساب ولا رقابة ، ومن هو الحفيظ ؟ هو اللّه فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وقيل : هو الملك الموكل بالإنسان.
فإذا كنت في شك من ذلك فلينظر الإنسان إلى نفسه وكيف خلق ؟ !
إنه خلق من ماء دافق : ماء مصبوب ، يخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة ، وهذا الماء السائل كيف يتكون منه خلق سوى ؟ وإنسان كامل في كل شي ء!
لا يعقل أن يكون ذلك بمحض الصدفة أو بفعل الطبيعة ، وإلا لكانت كل الخلائق سواء.
هذا الخلق بهذا الشكل ، وعلى تلك الصورة دليل على أن لكل نفس رقيبا وحفيظا يراقب ذلك كله ويدبره ، وينقله من حال إلى حال ، ولا يعقل أن تترك تلك النفوس سدى بلا ثواب أو عقاب ، الإنسان خلق من ماء دافق خارج من صلب الرجل وترائب المرأة وهذا الماء من الدم ، والدم من الغذاء ، والغذاء من النبات ، ثم هذا الماء لا يصلح إلا إذا كان الأب مع الأم على وضع خاص. فمن الذي جمع كل هذا ؟ أظن أن القادر على ذلك قادر على إرجاع الإنسان وإحيائه يوم تكشف السرائر ، وتظهر مكنونات الضمائر ، والإنسان عند ذلك ما له من قوة يدفع بها العذاب أو يجلب بها الثواب ، وليس له ولى ولا ناصر. (1)
التفسير والبيان :
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ ، وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ ؟ النَّجْمُ الثَّاقِبُ أي قسما بالسماء البديعة ، والكوكب النير البادي ليلا ، وما أعلمك ما حقيقته ؟ إنه النجم المضيء الشديد الإضاءة ، كأنه يخرق بشدة ضوئه ظلمة الليل البهيم.
والحلف بالسماء والكواكب والشمس والقمر والليل والنهار التي أكثر اللَّه تعالى في كتابه الحلف بها لأن أحوالها في أشكالها وسيرها ومطالعها ومغاربها عجيبة ، وفيها دلالة على أن لها خالقا مدبرا ينظم أمرها. وقوله : وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ ؟ يراد به التهويل والتفخيم ، كأن هذا النجم البعيد في آفاق السموات لا يمكن لبشر إدراكه ومعرفة حقيقته ، قال سفيان بن عيينة : كل شيء في القرآن : ما أَدْراكَ فقد أخبر اللَّه الرسول به ، وكل شيء فيه ما يُدْرِيكَ لم يخبره به ، كقوله : وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى 42/ 17].
والطارق : اسم جنس ، وسمي طارقا لأنه يطرق بالليل ، ويخفى بالنهار ، وكل ما أتاك ليلا فهو طارق.
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 851)(1/441)
وفسّره بقوله : النَّجْمُ الثَّاقِبُ أي هو طارق عظيم الشأن ، رفيع القدر ، وهو الذي يضيء ظلمة الليل ، ويهتدي به في ظلمات البر والبحر ، وتعرف به أوقات الأمطار وغيرها من أحوال المعايش ، وهو الثريا عند الجمهور ، وقال الحسن وقتادة وغيرهما : هو عام في سائر النجوم لأن طلوعها بليل ، وكل من أتاك ليلا فهو طارق. والظاهر أن المراد جنس النجم الذي يهتدى به في ظلمات البر والبحر.
ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث الصحيح عَنْ جَابِرٍ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلاً يَتَخَوَّنُهُمْ أَوْ يَلْتَمِسُ عَثَرَاتِهِمْ."صحيح مسلم (1) .
وعَنْ خَالِدِ بن الْوَلِيدِ ،أَنَّهُ شَكَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : إِنِّي أَجِدُ فَزَعًا بِاللَّيْلِ ، فَقَالَ : أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ ، وَزَعَمَ أَنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ يَكِيدُنِي ، قَالَ : أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ ، وَلا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ، وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَفِتَنِ النَّهَارِ ، وَمِنْ شَرِّ طَوَارِقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَانُ."المعجم الكبير للطبراني (2) .
ثم ذكر اللَّه تعالى المقسم عليه أو جواب القسم بقوله : إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ أي قسما بالسماء وبالنجم الثاقب ، ما كل نفس إلا عليها من اللَّه حافظ ، يحرسها من الآفات ، وهم الحفظة من الملائكة الذين يحفظون عليها عملها وقولها وفعلها ، ويحصون ما تكسب من خير وشرّ ، كما قال تعالى : لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ، يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد 13/ 11]. والحافظ على الحقيقة هو اللَّه عزّ وجلّ ، وحفظ الملائكة : من حفظه لأنه بأمره.
ولم تبين الآية من هو الحافظ ، فقال بعض المفسرين : إن ذلك الحافظ هو اللَّه تعالى ، وقال آخرون : إن ذلك الحافظ هم الملائكة ، كما قال : وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [الأنعام 6/ 61] ، وقال : وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ، كِراماً كاتِبِينَ [الانفطار 82/ 10- 11] ، وقال : عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق 50/ 17- 18] ، وقال : لَهُ مُعَقِّباتٌ ... الآية المتقدمة.
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " وَكَّلَ اللَّهُ بِالْمُؤْمِنِ سِتِّينَ وَثَلَاثَمِائَةِ مَلَكٍ يَذُبُّونَ عَنْهُ , مِنْ ذَلِكَ لِلْبَصَرِ : سَبْعَةُ أَمْلَاكٍ , وَلَوْ وُكِلَ الْعَبْدُ إِلَى نَفْسِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ اخْتَطَفَتْهُ الشَّيَاطِينُ " مُعْجَمُ الصِّحَابِةِ لِابْنِ قَانِعٍ (3)
__________
(1) - صحيح مسلم (5078 ) -يطرق : يأتى
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (4 / 156) (3746) حسن لغيره
(3) - مُعْجَمُ الصِّحَابِةِ لِابْنِ قَانِعٍ (682 ) ضعيف(1/442)
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " وُكِّلَ بِالْمُؤْمِنِ تَسْعَوْنَ وَمِئَةُ مَلَكٍ يَذُبُّونَ عَنْهُ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ ، مِنْ ذَلِكَ النَّفْرِ تِسْعَةُ أَمْلَاكٍ يَذُبُّونَ عَنْهُ كَمَا يُذَبُّ عَنْ قَصْعَةِ الْعَسَلِ مِنَ الذُّبَابِ فِي الْيَوْمِ الصَّائِفِ ، وَمَا لَوْ بَدَا لَكُمْ لَرَأَيْتُمُوهُ عَلَى جَبَلٍ ، وَسَهْلٍ كُلُّهُمْ بَاسِطٌ يَدَيْهِ فَاعْرِفَاهُ ، وَمَا لَوْ وُكِّلَ الْعَبْدُ فِيهِ إِلَى نَفْسِهِ طَرَفَةَ عَيْنٍ خَطَفَتْهُ الشَّيَاطِينُ "الْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ (1) .
ثم نبّه الإنسان إلى مبدأ الخلق ليكون ذلك دليلا على إمكان المعاد ، فقال : فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ، خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ أي فعلى الإنسان أن يتفكر في كيفية بدء خلقه ، ليعلم قدرة اللَّه على ما هو دون ذلك من البعث ، إنه خلق من ماء مدفوق مصبوب في الرحم ، وهو ماء الرجل وماء المرأة ، وقد جعلا ماء واحدا لامتزاجهما ، وإنه ماء يخرج من ظهر الرجل في النخاع الشوكي الآتي من الدماغ ، ومن بين ترائب المرأة ، أي عظام صدرها أو موضع القلادة من الصدر ، والولد يتكون من اجتماع الماءين ، ثم يستقر الماء المختلط في الرحم ، فيتكون الجنين بإرادة اللَّه تعالى ، كما قال تعالى : وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الحج 22/ 50].
ومعنى خروجه من بين الصلب والترائب : أن أكثره ينفصل من هذين الموضعين لإحاطتهما بسور البدن ، والماء في الحقيقة يشترك في تكوينه جميع أجزاء البدن ، ويتبلور في الخصية والمبيض في بدء التكوين ، وكلاهما يجاور الكلى ، ويقع بين الصلب ، والترائب ، أي ما بين منتصف العمود الفقري تقريبا ومقابل أسفل الضلوع ، وكل ذلك آثار عضوية مولدة من الدماغ ، والنخاع قناة الدماغ ، وهو في الصلب ، وله شعب كثيرة نازلة إلى مقدم البدن ، وهو الترائب جمع تريبة.
وبعد السؤال والجواب عنه لمعرفة المبدأ الذي هو مقدمة لمعرفة المعاد ، والذي ناسب أن يبدأ اللَّه به ، ذكر تعالى النتيجة المترتبة على ذلك وهي بيان القدرة على الإعادة ، فقال : إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ ، يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ أي إن اللَّه تعالى على رجع الإنسان ، أي إعادته بالبعث بعد الموت لقادر لأن من قدر على البداءة قدر على الإعادة ، وقد ذكر تعالى هذا الدليل في مواضع متعددة في القرآن الكريم.
وقيل : إنه تعالى على رجع هذا الماء الدافق إلى مقره الذي خرج منه لقادر على ذلك. والراجح القول الأول بدليل قوله : يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ.
__________
(1) الْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ(7605 ) ضعيف(1/443)
ويرجعه يوم القيامة يوم تختبر وتعرف السرائر ، أي ما يسرّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرها. وحقيقة البلاء في حقه تعالى ترجع إلى الكشف والإظهار ، كقوله : وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد 47/ 31].
وكيفية دلالة المبدأ على المعاد : أن حدوث الإنسان إنما كان بسبب اجتماع أجزاء كانت متفرقة في بدن الوالدين ، فلما قدر الصانع على جمع تلك الأجزاء المتفرقة حتى خلق منها إنسانا سويا ، فإنه بعد موته وتفرق أجزائه ، لا بدّ وأن يقدر على جمع تلك الأجزاء ، وجعلها خلقا سويا « (1) .
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ أي فما للإنسان حين بعثه من قوة في نفسه يمتنع بها عن عذاب اللَّه ، ولا ناصر ينصره ، فينقذه مما نزل به ، أي فلا قوة ذاتية له ، ولا قوة من غيره ، لينقذ نفسه من عذاب اللَّه ، فهذا نفي للقوة الذاتية والقوة العرضية الخارجية عن الإنسان.
ومضات :
في الآيات الأربع الأولى قسم بالسماء والنجم الثاقب الطارق بالليل ذي الخطورة بين النجوم بأن كل نفس عليها رقيب وحافظ يحصيان عملها ويرقبانه.
وفي الآيات الأربع التالية تدليل على قدرة اللّه تعالى على بعث الإنسان لمحاسبته على عمله. فاللّه الذي خلقه من ماء يندفق من بين الصلب والترائب قادر على إعادة خلقه. وجملة فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ قد تفيد أن ما ذكر مما كان يعرفه السامعون ويتصورونه. وبذلك تستحكم الحجة عليهم. أما الآيتان الأخيرتان فقد احتوتا خبر ما يكون من أمر الإنسان يوم البعث. ففي ذلك اليوم تظهر أعمال الناس وتنكشف سرائرهم ويواجهون اللّه عزّ وجلّ منفردين لا قوة تدفع عنهم ولا ناصر ينصرهم.
وقد انطوى في الآيتين الأخيرتين أن الناس ليس لهم في الآخرة إلّا أعمالهم المحصاة فمن كانت أعماله صالحة نجا ومن كانت أعماله سيئة هلك. وقد تضمنتا نتيجة لذلك إنذارا للسامعين ليتقوا هول ذلك اليوم بالاستجابة إلى دعوة اللّه والإيمان به وعمل الأعمال الصالحة واجتناب الأعمال السيئة.
ولقد تعددت الأقوال في المقصود من كلمة حافِظٌ فقيل إنه اللّه عزّ وجلّ الذي هو الرقيب على كل نفس المحصي عليها عملها وأوردوا للتدليل على ذلك آية سورة الأحزاب هذه : وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) وقيل إنه الملك الموكل بإحصاء أعمال الناس . وقيل إنه حافظ
__________
(1) - تفسير الرازي : 31/ 130(1/444)
يحرس الناس من الآفات وأوردوا للتدليل على ذلك آية سورة الرعد هذه : لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ .
القول الأخير غريب فيما هو المتبادر. وروح السياق يلهم أن المقصود هو إيذان السامعين بأن أعمالهم محصاة عليهم لمحاسبتهم عليها في الآخرة. (1)
وقوله تعالى : «إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ » .. هو جواب القسم ..أي ما كل نفس إلّا عليها حافظ ، أي حارس أمين ، ضابط لكل ما تعمل من خير أو شر ، أو أن كل نفس يقوم عليها من كيانها ما يحفظ عليها وجودها ، وذلك بما أودع الخالق جل وعلا فيها ، من قوى مادية ومعنوية ، تجعل منها جميعا أسلحة عاملة ، تحمى الإنسان ، وتدفع عنه ما يعترض طريقه على مسيرة الحياة ، وإن أظهر حافظ يحفظ الإنسان هو عقله ، الذي يميز به الخير من الشر ، والخبيث من الطيب ، ولعلّ هذا أقرب إلى الصواب ، إذ جاءت بعد هذه الآية دعوة للإنسان إلى أن يستعمل عقله ، وينظر فى أصل خلقه ، ومادة وجوده ..
قوله تعالى : «إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ » .أي أن اللّه سبحانه الذي خلق هذا الإنسان من هذا الماء الدافق ، قادر على أن يرجعه إلى الحياة بعد الموت ، ويخلقه خلقا آخر ، كما خلقه أول مرة .. فهذا الماء لا يختلف ـ فى تقدير الإنسان ـ عن هذا التراب الذي الذي يبعث منه الإنسان بعد موته .. كلاهما شى ء بعيد عن صورة الإنسان .. فما أبعد ما بين الإنسان ، وبين الماء ، أو التراب! (2)
{ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ } أي : من قوة يمتنع من عذاب الله وأليم نكاله . ولا ناصر ينصرهُ فيستنقذه ممن ناله بمكروه ، يعني أنه فقد ما كان يعهدهُ في الدنيا إذ يرجع إلى قوة بنفسه أو بعشيرته ، يمتنع منهم ممن أرادهُ بسوء . وناصر حليف ينصره على من ظلمه واضطهده . ولم يبق له إلا انتظار الجزاء على ما قدم . (3)
هذا القسم يتضمن مشهداً كونياً وحقيقة إيمانية . وهو يبدأ بذكر السماء والطارق ويثني بالاستفهام المعهود في التعبير القرآني : { وما أدراك ما الطارق؟ } . . وكأنه أمر وراء الإدراك والعلم . ثم يحدده ويبينه بشكله وصورته : { النجم الثاقب } الذي يثقب الظلام بشعاعه النافذ . وهذا الوصف ينطبق على جنس النجم . ولا سبيل إلى تحديد نجم بذاته من هذا النص ، ولا ضرورة لهذا التحديد . بل إن الإطلاق أولى . ليكون المعنى : والسماء ونجومها الثاقبة
__________
(1) - التفسير الحديث ، ج 2 ، ص : 269
(2) - التفسير القرآني للقرآن للخطيب - (3 / 5)
(3) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 196)(1/445)
للظلام ، النافذة من هذا الحجاب الذي يستر الأشياء . ويكون لهذه الإشارة إيحاؤها حول حقائق السورة وحول مشاهدها الأخرى . . كما سيأتي . .
يقسم بالسماء ونجمها الثاقب : أن كل نفس عليها من أمر الله رقيب : { إن كل نفس لما عليها حافظ } . . وفي التعبير بصيغته هذه معنى التوكيد الشديد . . ما من نفس إلا عليها حافظ . يراقبها ، ويحصى عليها ، ويحفظ عنها ، وهو موكل بها بأمر الله . ويعين النفس لأنها مستودع الأسرار والأفكار . وهي التي يناط بها العمل والجزاء .
ليست هنالك فوضى إذن ولا هيصة! والناس ليسوا مطلقين في الأرض هكذا بلا حارس . ولا مهملين في شعابها بلا حافظ ، ولا متروكين يفعلون كيف شاءوا بلا رقيب . إنما هو الإحصاء الدقيق المباشر ، والحساب المبني على هذا الإحصاء الدقيق المباشر .
ويلقي النص إيحاءه الرهيب حيث تحس النفس أنها ليست أبداً في خلوة وإن خلت فهناك الحافظ الرقيب عليها حين تنفرد من كل رقيب ، وتتخفى عن كل عين ، وتأمن من كل طارق . هنالك الحافظ الذي يشق كل غطاء وينفذ إلى كل مستور . كما يطرق النجم الثاقب حجاب الليل الساتر . . وصنعة الله واحدة متناسقة في الأنفس وفي الآفاق .
ويخلص من هذه اللمسة التي تصل النفس بالكون ، إلى لمسة أخرى تؤكد التقدير والتدبير ، التي أقسم عليها بالسماء والطارق . فهذه نشأة الإنسان الأولى تدل على هذه الحقيقة؛ وتوحي بأن الإنسان ليس متروكاً سدى ، ولا مهملاً ضياعاً : { فلينظر الإنسان ممّ خلق . خلق من ماء دافق ، يخرج من بين الصلب والترائب } . .
فلينظر الإنسان من أي شيء خلق وإلى أي شيء صار . . إنه خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب ، خلق من هذا الماء الذي يجتمع من صلب الرجل وهو عظام ظهره الفقارية ومن ترائب المرأة وهي عظام صدرها العلوية . . ولقد كان هذا سراً مكنوناً في علم الله لا يعلمه البشر . حتى كان نصف القرن الأخير حيث اطلع العلم الحديث على هذه الحقيقة بطريقته؛ وعرف أنه في عظام الظهر الفقارية يتكون ماء الرجل ، وفي عظام الصدر العلوية يتكون ماء المرأة . حيث يلتقيان في قرار مكين فينشأ منهما الإنسان!
والمسافة الهائلة بين المنشأ والمصير . . بين الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب وبين الإنسان المدرك العاقل المعقد التركيب العضوي والعصبي والعقلي والنفسي . . هذه المسافة الهائلة التي يعبرها الماء الدافق إلى الإنسان الناطق توحي بأن هنالك يداً خارج ذات الإنسان هي التي تدفع بهذا الشيء المائع الذي لا قوام له ولا إرادة ولا قدرة ، في طريق الرحلة الطويلة العجيبة الهائلة ، حتى تنتهي به إلى هذه النهاية الماثلة . وتشي بأن هنالك حافظاً من أمر الله يرعى هذه النطفة المجردة من الشكل والعقل ، ومن الإرادة والقدرة ، في رحلتها(1/446)
الطويلة العجيبة . وهي تحوي من العجائب أضعاف ما يعرض للإنسان من العجائب من مولده إلى مماته!
هذه الخلية الواحدة الملقحة لا تكاد ترى بالمجهر ، إذ أن هنالك ملايين منها في الدفقة الواحدة . . هذه الخليقة التي لا قوام لها ولا عقل ولا قدرة ولا إرادة ، تبدأ في الحال بمجرد استقرارها في الرحم في عملية بحث عن الغذاء . حيث تزودها اليد الحافظة بخاصية أكالة تحوّل بها جدار الرحم حولها إلى بركة من الدم السائل المعد للغذاء الطازج! وبمجرد اطمئنانها على غذائها تبدأ في عملية جديدة . عملية انقسام مستمرة تنشأ عنها خلايا . . وتعرف هذه الخليقة الساذجة التي لا قوام لها ولا عقل ولا قدرة ولا إرادة . . تعرف ماذا هي فاعلة وماذا هي تريد . . حيث تزودها اليد الحافظة بالهدى والمعرفة والقدرة والإرادة التي تعرف بها الطريق! إنها مكلفة أن تخصص كل مجموعة من هذه الخلايا الجديدة لبناء ركن من أركان هذه العمارة الهائلة .
. عمارة الجسم الإنساني . . فهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الهيكل العظمي . وهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الجهاز العضلي . وهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الجهاز العصبي . وهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الجهاز للمفاوي . . إلى آخر هذه الأركان الأساسية في العمارة الإنسانية! . . ولكن العمل ليس بمثل هذه البساطة . . إن هنالك تخصصاً أدق . فكل عظم من العظام . وكل عضلة من العضلات . وكل عصب من الأعصاب . . لا يشبه الآخر . لأن العمارة دقيقة الصنع ، عجيبة التكوين ، متنوعة الوظائف . . ومن ثم تتعلم كل مجموعة من الخلايا المنطلقة لبناء ركن من العمارة ، أن تتفرق طوائف متخصصة ، تقوم كل طائفة منها بنوع معين من العمل في الركن المخصص لها من العمارة ، الكبيرة! . . إن كل خلية صغيرة تنطلق وهي تعرف طريقها . تعرف إلى أين هي ذاهبة ، وماذا هو مطلوب منها! ولا تخطئ واحدة منها طريقها في هذه المتاهة الهائلة . فالخلايا المكلفة أن تصنع العين تعرف أن العين ينبغي أن تكون في الوجه ، ولا يجوز أبداً أن تكون في البطن أو القدم أو الذراع . مع أن كل موضع من هذه المواضع يمكن أن تنمو فيه عين . ولو أخذت الخلية الأولى المكلفة بصنع العين وزرعت في أي من هذه المواضع لصنعت عيناً هنالك! ولكنها هي بذاتها حين تنطلق لا تذهب إلا للمكان المخصص للعين في هذا الجهاز الإنساني المعقد . . فمن ترى قال لها : إن هذا الجهاز يحتاج إلى عين في هذا المكان دون سواه؟ إنه الله . إنه الحافظ الأعلى الذي يرعاها ويوجهها ويهديها إلى طريقها في المتاهة التي لا هادي فيها إلا الله!
وكل تلك الخلايا فرادى ومجتمعة تعمل في نطاق ترسمه لها مجموعة معينة من الوحدات كامنة فيها . هي وحدات الوراثة ، الحافظة لسجل النوع ولخصائص الأجداد . فخلية العين وهي تنقسم وتتكاثر لكي تكوّن العين ، تحاول أن تحافظ في أثناء العمل على شكل معين للعين وخصائص(1/447)
محددة تجعلها عين إنسان لا عين أي حيوان آخر . وإنسان لأجداده شكل معين للعين وخصائص معينة . . وأقل انحراف في تصميم هذه العين من ناحية الشكل أو ناحية الخصائص يحيد بها عن الخط المرسوم . فمن ذا الذي أودعها هذه القدرة؟ وعلمها ذلك التعليم؟ وهي الخلية الساذجة التي لا عقل لها ولا إدراك ، ولا إرادة لها ولا قوة؟ إنه الله . علمها ما يعجز الإنسان كله عن تصميمه لو وكل إليه تصميم عين أو جزء من عين . بينما خلية واحدة منه أو عدة خلايا ساذجة ، تقوم بهذا العمل العظيم!
ووراء هذا اللمحة الخاطفة عن صور الرحلة الطويلة العجيبة بين الماء الدافق والإنسان الناطق ، حشود لا تحصى من العجائب والغرائب ، في خصائص الأجهزة والأعضاء ، لا نملك تقصيها في هذه الظلال .. تشهد كلها بالتقدير والتدبير . وتشي باليد الحافظة الهادية المعينة . وتؤكد الحقيقة الأولى التي أقسم عليها بالسماء والطارق . كما تمهد للحقيقة التالية . حقيقة النشأة الآخرة التي لا يصدقها المشركون ، المخاطبون أول مرة بهذه السورة . .
{ إنه على رجعه لقادر . يوم تبلى السرائر . فما له من قوة ولا ناصر } . .إنه الله الذي أنشأه ورعاه إنه لقادر على رجعة إلى الحياة بعد الموت ، وإلى التجدد بعد البلى ، تشهد النشأة الأولى بقدرته ، كما تشهد بتقديره وتدبيره . فهذه النشأة البالغة الدقة والحكمة تذهب كلها عبثاً إذا لم تكن هناك رجعة لتختبر السرائر وتجزى جزاءها العادل : { يوم تبلى السرائر } . . السرائر المكنونة ، المطوية على الأسرار المحجوبة . . يوم تبلى وتختبر ، وتتكشف وتظهر كما ينفذ الطارق من خلال الظلام الساتر؛ وكما ينفذ الحافظ إلى النفس الملفعة بالسواتر! كذلك تبلى السرائر يوم يتجرد الإنسان من كل قوة ومن كل ناصر : { فما له من قوة ولا ناصر } . . ما له من قوة في ذاته ، وما له من ناصر خارج ذاته . . والتكشف من كل ستر ، مع التجرد من كل قوة ، يضاعف شدة الموقف؛ ويلمس الحس لمسة عميقة التأثير . وهو ينتقل من الكون والنفس ، إلى نشأة الإنسان ورحلته العجيبة ، إلى نهاية المطاف هناك ، حيث يتكشف ستره ويكشف سره ، ويتجرد من القوة والنصير . .
ولعل طائفاً من شك ، أو بقية من ريب ، تكون باقية في النفس ، في أن هذا لا بد كائن . . فمن ثم يجزم جزماً بأن هذا القول هو القول الفصل ، ويربط بين هذا القول وبين مشاهد الكون ، كما صنع في مطلع السورة (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3879)(1/448)
1- الدليل على إمكان البعث والمعاد هو بدء الخلق للإنسان. ووجه الاتصال أو التعلق بين هذا وبين ما قبله : أن اللَّه تعالى حين ذكر أن على كل نفس حافظا ، أتبعه بوصيته للإنسان بالنظر في أول أمره وسنته الأولى ، حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ، ولا يملي على حافظه إلا ما يسرّه في عاقبة أمره.
2- تقرير أن أعمال العباد محصية محفوظة وأن الحساب يجري بحسبها .
3- خلق اللَّه الإنسان ابن آدم من المني المدفوق ، مني الرجل والمرأة المجتمعين ، والذي يستقر في رحم المرأة ، ولا شك أن الصب فعل الشخص ، والفاعل الحقيقي هو اللَّه ، فيكون ذلك من الإسناد المجازي الظاهري.
وتكوّن المني من عملية مشتركة تشترك فيها جميع أجزاء الإنسان ، وقد عبّر تعالى عن الكل بالأكثر الذي يحسّ به الشخص عادة وهو خروج الماء من بين الصلب أي الظهر ، والترائب أي الصدر ، جمع تريبة : وهي موضع القلادة من الصدر. والصلب من الرجل ، والترائب من المرأة..
4- إنَّ أصحاب القوة والنفوذ في الدنيا الذين يعتمدون على الأعوان والأنصار ، وهناك يوم القيامة يفقدون كل شي ء.
5-أقسم اللَّه تعالى بالسماء وبالكواكب المنيرة المضيئة على أن لكل نفس حفظة يحفظون عليها رزقها وعملها وأجلها.وقد أكثر سبحانه في كتابه الكريم الإقسام بالسموات لأن أحوالها في مطالعها ومغاربها ومسيراتها عجيبة.
6-إذا كان الخالق الحقيقي للإنسان أولا هو اللَّه تعالى ، فإن اللَّه جلّ ثناؤه قادر على إعادته وبعثه مرة أخرى بعد الموت ، في يوم القيامة ، وفي اليوم الذي تنكشف فيه السرائر وتبدو وتظهر ، ويصبح السرّ علانية ، والمكنون مشهورا.
والسرائر : كل ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات ، وما أخفي من الأعمال الحسنة أو القبيحة. واختبار هذه السرائر معناه الكشف والإظهار وترجيح الاتجاه الراجح من الأفعال وتمييز المرجوح ، فتنجلي الحقائق ، ويعرف الصحيح من الفاسد ، والحق من الباطل.
7-نفى اللَّه سبحانه وجود القوة الذاتية والقوة العرضية الخارجية عن الإنسان يومئذ ، بقوله : فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ. والآية دليل على أنه لا قوة للعبد ذلك اليوم ، لا من نفسه ولا من غيره ، ولا شك في أن نفي القوة زجر وتحذير ، ويتجه أولا إلى أصحاب القوة والنفوذ في الدنيا الذين يعتمدون على الأعوان والأنصار ، وهناك يوم القيامة يفقدون كل شيء.
- - - - - - - - - - -(1/449)
القسم على صدق القرآن والرسالة وتهديد الكائدين لهما
قال تعالى :
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
المفردات :
11 ... ذَاتِ الرَّجْعِ ... المطر
12 ... ذَاتِ الصَّدْعِ ... تصدع بالنبات
13 ... لَقَوْلٌ فَصْلٌ ... يفصل بين الحق والباطل وهو حق
14 ... وَمَا هُوَ بِالهَزْلِ ... ليس بباطل بل هو جد وحق
15 ... يَكِيدُونَ كَيدًا ... يمكرون بالناس في دعوتهم إلى خلاف القرآن
16 ... وَأَكِيدُ كَيْدًا ... أجازيهم جزاء كيدهم
17 ... فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ ... مهلهم لا تستعجل بالانتقام منهم
17 ... أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ... إمهالا قليلا ليحل بهم العذاب والهلاك
المعنى الإجمالي:
بعد أن بين قدرته تعالى على إعادة الإنسان بعد الموت ، ولفت النظر إلى التدبر فى برهان هذه القدرة - شرع يثبت صحة رسالة رسوله الكريم إلى الناس ، وصحة ما يأتيهم به من عند اللّه ، وأهمّ ذلك القرآن الكريم الذي كانوا يقولون عنه : إنه أساطير الأولين ، فأقسم بالسماء التي تفيض بمائها ، والأرض التي تقيم أمور المعاش للناس والحيوان بنباتها ، إنه لقول حق لا ريب فيه.
ثم بين أنه عليم بأن الذين يدافعون عن تلك الأباطيل التي هم عليها - قوم ما كرون لا يريدون بك إلا السوء ، وسيأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ، فلا يحزنك ما ترى منهم ، ولا تستبطئ حلول النكال بهم ، بل أمهلهم قليلا وسترى ما سيحل بهم.
ولا يخفى ما هذا من وعيد شديد بأن ما سيصيبهم قريب ، سواء أ كان فى الحياة الدنيا أو فيما بعد الموت ، ووعد للنبى - صلى الله عليه وسلم - ، ولكل داع إلى الحق بأنهم سيبلغون من النجاح ما يستحقه عملهم ، وأن المناوئين لهم هم الخاسرون. (1)
والسماء ذات المطر الذي يحيى الموات ، وينبت النبات ، والأرض ذات الصدع والشق ، أقسم اللّه بهذا إنه - أى : القرآن - لقول فصل ، يفرق بين الحق والباطل ، وما هو بالهزل ، إنه
__________
(1) - تفسير المراغي ، ج 30 ، ص : 117(1/450)
قول رسول كر يم ذي قوة عند ذي العرش مكين ، ليس بالشعر ولا بالسحر وإنما هو تنزيل رب العالمين ، ذلك هو القرآن المجيد.
أتراه تكلم عن الحفيظ - سبحانه وتعالى - ثم على البعث وتلك دعامتان ، أما الثالثة فهي القرآن ومن أنزل عليه.
ثم ختم السورة بتهديد الكفار والمشركين تهديدا يهد كيانهم مثبتا لهم أنهم يكيدون ويمكرون ، ولكن اللّه يمهلهم ولا يهملهم ثم يأتى عذابه من حيث لا يشعرون.
إذا كان الأمر كذلك فمهل الكافرين يا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولا تستعجل لهم : إن عذاب ربك واقع بهم ، وأمهلهم إمهالا يسيرا. (1)
التفسير والبيان :
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ ، وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ ، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أي قسما آخر بالسماء ذات المطر الذي يجيء ويرجع ويتكرر من السماء ، فيحيي الأرض بعد موتها ، وينبت النبات ، والأرض ذات الصدع : وهو ما تتصدع وتنشق عنه الأرض من النبات والثمار والشجر والمعدن والكنز والثروة النفطية والمائية ، كما قال تعالى : ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ... الآية [عبس 80/ 26- 32] قسما بالسماء والأرض ، إن القرآن الكريم لقول حق لا ريب فيه ، يفصل بين الحق والباطل ، ولم ينزل باللعب واللهو ، فهو جدّ حقّ ليس بالهزل ، ولا بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة ، تنزيل من حكيم حميد. فقوله:إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ جواب القسم. وسمي المطر رجعا من ترجيع الصوت وهو إعادته ، لكونه عائدا مرة بعد أخرى ، ولأنه ينشأ من تبخر بحار الأرض ثم يعود إلى الأرض.
عَنِ الْحَارِثِ قَالَ مَرَرْتُ فِى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ يَخُوضُونَ فِى الأَحَادِيثِ فَدَخَلْتُ عَلَى عَلِىٍّ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلاَ تَرَى أَنَّ النَّاسَ قَدْ خَاضُوا فِى الأَحَادِيثِ. قَالَ وَقَدْ فَعَلُوهَا قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ أَمَا إِنِّى قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « أَلاَ إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ ».
فَقُلْتُ مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِى غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الَّذِى لاَ تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسِنَةُ وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ وَلاَ يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ وَلاَ تَنْقَضِى عَجَائِبُهُ هُوَ الَّذِى لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ) مَنْ قَالَ بِهِ
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 852)(1/451)
صَدَقَ وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِىَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ». خُذْهَا إِلَيْكَ يَا أَعْوَرُ." سنن الترمذى (1) .
ثم أوعد اللَّه تعالى المكذبين بالقرآن الكائدين للمؤمنين بقوله : إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً ، وَأَكِيدُ كَيْداً أي إن الكفار زعماء مكة وأمثالهم يدبرون المكائد للنبي - صلى الله عليه وسلم - لإبطال ما جاء به من الدين الحق ، وللصد عن سبيل اللَّه وعن القرآن ، بالقول بأن القرآن أساطير الأولين ، وبأن محمدا ساحر أو مجنون أو شاعر ، ويتآمرون على قتله ، كما أخبر تعالى بقوله : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال 8/ 30].
ولكني أدبر لهم تدبيرا آخر ، فأستدرجهم من حيث لا يعلمون ، وأجازيهم جزاء كيدهم. وقد سمى جزاء الكيد بالاستدراج والإمهال المؤدي إلى زيادة الإثم الموجبة لشدة العذاب كيدا.
ثم وعد رسوله بالنصر عليهم ، وأمره بالصبر والتمهل ، فقال : فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ ، أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً أي أخّرهم وأنظرهم ، ولا تدع بهلاكهم ، ولا تستعجل به ، وارض بما يدبره اللَّه لك في أمورهم.
ثم كرر ذلك المعنى للمبالغة ، فقال : أمهلهم إمهالا يسيرا قليلا ، أو قريبا ، وسترى ما يحل بهم من العذاب والنكال ، والعقوبة والهلاك ، كما قال تعالى : نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان 31/ 24].
وهذا وعيد شديد ، تحقق يوم بدر ، ويعقبه عذاب يوم القيامة ، وفيه تحذير عن مثل سيرتهم ، وترغيب في خلاف طريقتهم.
ومضات :
في هذه الآيات قسم آخر بتوكيد صحة ما يسمعه الناس من نذر قرآنية وجدّها وبعدها عن الهزل والعبث وإشارة إلى مواقف الكيد والمناوأة التي يقفها الكفار من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتعطيل والأذى والإعراض ، وتوكيد بأن اللّه عزّ وجلّ سيقابلهم على كيدهم بكيد أيضا وأمر للنبي عليه السلام بأن يتوعدهم وينذرهم وينتظر قليلا فلن يلبث أن يرى هو ويروا هم تحقيق الوعد ومصداق الإنذار.
والمتبادر أن القصد من كيد اللّه هو انتقامه وعذابه. وأن استعمال الكلمة هو من قبيل مقابلة الشيء بمثله. وهو استعمال أسلوبي مألوف. وقد تكرر في القرآن.
وفي الآيات إشارة إلى مواقف الكفار الكيدية بوجه عام وإنذار لهم وتطمين للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتثبيت له. وهي غير منفصلة عن الشطر الأول من السورة حيث يبدو بينهما ترابط وانسجام.
__________
(1) - سنن الترمذى (3153 ) حسن لغيره -يخلق : يبلى(1/452)
ولقد قال المفسرون إن الأمر بالتمهيل قد نسخ بآيات القتال والسيف. وقد علقنا على مثل هذا التعبير في مناسبات سابقة. والقول يصدق هنا بالنسبة لمن ظلّ على كفره ومواقفه العدائية والعدوانية كما قلنا قبل. (1)
وقوله تعالى : «وَ أَكِيدُ كَيْداً » .هو ردّ على كيد هؤلاء الكائدين ، لإبطال كيدهم ولقتلهم بالسلاح الذي يحاربون به كلام اللّه .. وهذا مثل قوله تعالى : « وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ ، وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ » .. فهم إذا كادوا للقرآن ، ودبروا أمرهم بليل ، فإن اللّه سبحانه وتعالى كيدا ، حيث يأخذهم العذاب ، وهم لا يشعرون.
قوله تعالى : «فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً » هو تهديد للمشركين بما ينتظرهم من وراء كيدهم هذا .. وإنه ليس إلا أيام قليلة يقضونها فى دنياهم ، حتى يلقاهم اليوم الذي يوعدون ، وحيث يأخذهم عذاب اللّه ، وليس لهم من دون اللّه من ولى ولا نصير ..
وفى هذا عزاء للنبى الكريم ، وتثبيت لقدمه على طريق دعوته ، التي تقوم على طريقها هذه الذئاب المتربصة بها .. إنه فى حراسة اللّه ، فليمض فى طريقه وليدع للّه سبحانه ردّ هذا الكيد الذي يكادله. (2)
وقوله : { أَمْهِلْهُمْ } بمعنى : مهلهم ، فهو بدل منه للتأكيد . أو تكرير بلفظ آخر للتأكيد . وقوله :{ رُوَيْداً } أي : قليلاً .
قال الإمام : وفي ذلك وعيد شديد لهم بأن ما يصيبهم قريب ، سواء كان في الحياة الدنيا أو فيما بعد الموت . ثم فيه الوعد للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - بل لكل داعٍ إلى الحق الذي جاء به ، أنه سيبلغ من النجاح ما يستحقه عمله ، وأن المناوئين له هم الخاسرون . (3)
والرجع المطر ترجع به السماء مرة بعد مرة ، والصدع النبت يشق الأرض وينبثق . . وهما يمثلان مشهداً للحياة في صورة من صورها . حياة النبات ونشأته الأولى : ماء يتدفق من السماء ، ونبت ينبثق من الأرض . . أشبه شيء بالماء الدافق من الصلب والترائب؛ والجنين المنبثق من ظلمات الرحم . الحياة هي الحياة . والمشهد هو المشهد . والحركة هي الحركة . . نظام ثابت ، وصنعة مُعلمة ، تدل على الصانع . الذي لا يشبهه أحد لا في حقيقة الصنعة ولا في شكلها الظاهر!
وهو مشهد قريب الشبه بالطارق . النجم الثاقب . وهو يشق الحجب والستائر . كما أنه قريب الشبه بابتلاء السرائر وكشف السواتر . . صنعة واحدة تشير إلى الصانع!
__________
(1) - التفسير الحديث ، ج 2 ، ص : 270
(2) - التفسير القرآني للقرآن ، ج 16 ، ص : 1526
(3) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (13 / 197)(1/453)
يقسم الله بهذين الكائنين وهذين الحدثين : السماء ذات الرجع . والأرض ذات الصدع . . حيث يوقع مشهدهما وإيحاؤهما ، كما يوحي جرس التعبير ذاته ، بالشدة والنفاذ والجزم . . يقسم بأن هذا القول الذي يقرر الرجعة والابتلاء أو بأن هذا القرآن عامة هو القول الفصل الذي لا يتلبس به الهزل . القول الفصل الذي ينهي كل قول وكل جدل وكل شك وكل ريب .
القول الذي ليس بعده قول . تشهد بهذا السماء ذات الرجع ، والأرض ذات الصدع!
وفي ظل هذا القول الفصل بالرجعة والابتلاء يتجه الخطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو ومن معه من القلة المؤمنة في مكة يعانون من كيد المشركين ومؤامراتهم على الدعوة والمؤمنين بها وقد كانوا في هم مقعد مقيم للكيد لها والتدبير ضدها وأخذ الطرق عليها وابتكار الوسائل في حربها يتجه الخطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتثبيت والتطمين وبالتهوين من أمر الكيد والكائدين . وأنه إلى حين . وأن المعركة بيده هو سبحانه وقيادته . فليصبر الرسول وليطمئن هو والمؤمنون : { إنهم يكيدون كيداً ، وأكيد كيداً ، فمهل الكافرين ، أمهلهم رويداً } . .
إنهم هؤلاء الذين خلقوا من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب بلا حول ولا قوة ولا قدرة ولا إرادة ، ولا معرفة ولا هداية . والذين تولتهم يد القدرة في رحلتهم الطويلة . والذين هم صائرون إلى رجعة تبلى فيها السرائر ، حيث لا قوة لهم ولا ناصر . . إنهم هؤلاء يكيدون كيداً . .
وأنا أنا المنشئ . . الهادي . الحافظ . الموجه . المعيد . المبتلي . القادر . القاهر . خالق السماء والطارق . وخالق الماء الدافق ، والإنسان الناطق ، وخالق السماء ذات الرجع ، والأرض ذات الصدع . . أنا الله . . أكيد كيداً . .
فهذا كيد . وهذا كيد . وهذه هي المعركة . . ذات طرف واحد في الحقيقة . . وإن صورت ذات طرفين لمجرد السخرية والهزاء!
{ فمهل الكافرين } . . { أمهلهم رويداً } . . لا تعجل . ولا تستبطئ نهاية المعركة . وقد رأيت طبيعتها وحقيقتها . . فإنما الحكمة وراء الإمهال . الإمهال قليلاً . . وهو قليل حتى لو استغرق عمر الحياة الدنيا . فما هو عمر الحياة الدنيا إلى جانب تلك الآباد المجهولة المدى؟
ونلحظ في التعبير الإيناس الإلهي للرسول : { فمهل الكافرين أمهلهم رويداً } . . كأنه هو - صلى الله عليه وسلم - صاحب الأمر ، وصاحب الإذن ، وكأنه هو الذي يأذن بإمهالهم . أو يوافق على إمهالهم . وليس من هذا كله شيء للرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما هو الإيناس والود في هذا الموضع الذي تنسم نسائم الرحمة على قلبه - صلى الله عليه وسلم - الإيناس الذي يخلط بين رغبة نفسه وإرادة ربه . ويشركه في الأمر كأن له فيه شيئاً . ويرفع الفوارق والحواجز بينه وبين الساحة الإلهية التي يقضي فيها الأمر ويبرم . . وكأنما يقول له ربه : إنك مأذون فيهم . ولكن أمهلهم . أمهلهم رويداً . . فهو الود(1/454)
العطوف والإيناس اللطيف . يمسح على الكرب والشدة والعناء والكيد ، فتنمحي كلها وتذوب . . ويبقى العطف الودود . . (1)
ما ترشد إليه الآياتُ
1- التحذير من إسرار الشر وإخفاء الباطل ، وإظهار خلاف ما في الضمائر ، فإِن الله تعالى عليم بذلك ، وسيختبر عباده في كل ما يسرون ويخفون .
2- إثبات أن القرآن قول فصل ليس فيه من الباطل شيء وقد تأكد هذا بمرور الزمان فقد صدقت أنباؤه ونجحت في تحقيق الأمن والاستقرار أحكامه .
3- أخبر اللَّه تعالى أن أعداء اللَّه يمكرون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مكرا ، ويدبرون لهم مكائد إما بالقتل ، أو بتوجيه التهم كالطعن بكون محمد - صلى الله عليه وسلم - ساحرا وشاعرا ومجنونا ، أو بوصف القرآن بأنه أساطير الأولين.
4- يجازي اللَّه أولئك الأعداء على كيدهم إما في الدنيا بالاستدراج إلى المعاصي والمنكرات من حيث لا يعلمون ، وإما في الآخرة بإعداد العذاب الأليم المهين لهم. ويدفع اللَّه تعالى في الدنيا أيضا كيد الكفرة عن محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وينصره ويعلي دينه.
والكيد في حق اللَّه تعالى محمول على هذا الجزاء المذكور ، تسمية لأحد المتقابلين باسم الآخر ، كقوله تعالى : وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40] وقوله : نَسُوا اللَّهَ ، فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر 59/ 19] وقوله : يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ [النساء 4/ 142].
5- اقتضت الحكمة الإلهية الرفق والتأني بأعداء الإسلام ، فأمر اللَّه نبيه بألا يدعو عليهم ، ولا يتعجل إهلاكهم ، وأن يرضى بما دبره اللَّه في أمورهم ، وأن ينتظر حتى يحل العقاب بهم ، فإنهم في المستقبل القريب مهزومون مخذولون ، ويتحقق في النهاية النصر للنبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه. ويظل عذاب القيامة محفوظا لهم ، وكل ما هو آت قريب..
6 أقسم اللَّه تعالى بالسماء (السحاب) ذات الأمطار النافعة ، والأرض ذات الشقوق والصدوع التي تتصدع عن النبات والشجر والثمار والأنهار على أن القرآن يفصل بين الحق والباطل ، وأنه جدّ حق ليس بالهزل ، أي اللعب والباطل ، وأنه منزل من عند اللَّه تعالى ، وأن محمدا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - .
مقاصد هذه السورة
(1) إن كل نفس عليها حافظ.
(2) إقامة الأدلة على أن اللّه قادر على بعث الخلق كرة أخرى.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3880)(1/455)
(3) إن القرآن منزل من عند اللّه وأن محمدا رسول اللّه.
(4) أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالانتظار حتى يحل العقاب بالكافرين. (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 119)(1/456)
سورة الأعلى
مكيّة ، وهي تسع عشرة آية
تسميتها :
سميت سورة الأعلى ، لافتتاحها بقول اللَّه تعالى : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أي نزّه اللَّه عز وجل عن كل نقص ، وصفه بكل صفات التمجيد والتعظيم لأنه العلي الأعلى من كل شيء في الوجود. وتسمى أيضا سورة سَبِّحِ.
قال ابن عاشور : " هذه السورة وردت تسميتها في السنة سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ففي الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال قام معاذ فصلى العشاء الآخرة فطول فشكاه بعض من صلى خلفه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي: "أفتان أنت يا معاذ أين كنت عن سبح اسم ربك الأعلى والضحى" اهـ.
وفي "صحيح البخاري" عن البراء بن عازب قال: ما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى في سور مثلها.
وروى الترمذي عن النعمان بن بشير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كان يقرأ في العيد ويوم الجمعة سبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية" .
وسمتها عائشة "سَبِّحِ". روى أبو داود والترمذي عنها كان النبي يقرأ في الوتر في الركعة الأولى سبح الحديث. فهذا ظاهر في أنها أرادت التسمية لأنها لم تأتي بالجملة القرآنية كاملة، وكذلك سماها البيضاوي وابن كثير. لأنها اختصت بالافتتاح بكلمة "سَبِّحِ" بصيغة الأمر.
وسماها أكثر المفسرين وكتاب المصاحف "سورة الأعلى" لوقوع صفة الأعلى فيها دون غيرها.
وهي مكية في قول الجمهور وحديث البراء بن عازب الذي ذكرناه آنفا يدل عليه، وعن ابن عمر وابن عباس أن قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14-15]، نزل في صلاة العيد وصدقة الفطر، أي فهما مدنيتان فتكون السورة بعضها مكي وبعضها مدني.
وعن الضحاك أن السورة كلها مدنية.
وما اشتملت عليه من المعاني يشهد لكونها مكية وحسبك بقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى:6].
وهي معدودة ثامنة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة التكوير وقبل سورة الليل. وروي عن ابن عباس وعكرمة والحسن أنها سابعة قالوا: أول ما نزل من القرآن: اقرأ باسم ربك، ثم ن~، ثم المزمل، ثم تبت، ثم إذا الشمس كورت، ثم سبح اسم ربك. وأما(1/457)
جابر بن زيد فعد الفاتحة بعد المدثر ثم عد البقية فهي عنده الثامنة، فهي من أوائل السور وقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} ينادي على ذلك.
وعدد آيها تسع عشرة آية باتفاق أهل العدد.
أغراضها
اشتملت على تنزيه الله تعالى والإشارة إلى وحدانيته لانفراده بخلق الإنسان وخلق ما في الأرض مما فيه بقاؤه.
وعلى تأييد النبي - صلى الله عليه وسلم - وتثبيته على تلقي الوحي.
وأن الله معطيه شريعة سمحة وكتابا يتذكر به أهل النفوس الزكية الذين يخشون ربهم، ويعرض عنهم أهل الشقاوة الذين يؤثرون الحياة الدنيا ولا يعبأون بالحياة الأبدية.
وأن ما أوحي إليه يصدقه ما في كتب الرسل من قبله وذلك كله تهوين لما يلقاه من إعراض المشركين. " (1)
مناسبتها لما قبلها :
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها في أن سورة الطارق ذكرت خلق الإنسان في قوله تعالى : خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ [6] وبدء خلق النبات في قوله : وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ [11- 12].
وهذه السورة تحدثت بما هو أعم وأشمل من خلق الإنسان وغيره : خَلَقَ فَسَوَّى [2] وخلق النبات في قوله : وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى ، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى [4- 5].
ختمت سورة « الطارق » ـ قبل هذه السورة بقوله تعالى : « إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً. وَ أَكِيدُ كَيْداً. فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً » وفى هذا ـ كما عرفنا ـ تهديد للمشركين ، وتطمين لقلب النبي ، وحماية له من هذا الكيد الذي يكاد له ، فناسب أن تجى ء بعد ذلك سورة « الأعلى » مبتدئة بقوله تعالى : « سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى » ، ففى هذا الاستفتاح دعوة إلى تمجيد اللّه وتعظيمه ، والتسبيح بحمده ، على أن أخذ الظالمين بظلمهم ، وأبطل كيدهم .. (2)
ما اشتملت عليه السورة :
* سورة الأعلى من السور المكية ، وهي تعالج بإختصار المواضيع الآتية :
1- الذات العلية وبعض صفات الله جل وعلا ، والدلائل على القدرة والوحدانية
2 - الوحي والقرآن المنزل على خاتم الرسل (ص) وتيسير حفظه عليه
3 - الموعظة الحسنة التي ينتفع بها أهل القلوب الحية ، ويستفيد منها أهل السعادة والإيمان
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (30 / 240)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ، ج 16 ، ص : 1527(1/458)
* ابتدأت السورة الكريمة بتنزيه الله جل وعلا ، الذي خلق فأبدع ، وصور فأحسن ، وأخرج العشب ، والنبات ، رحمة بالعباد [ سبح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوى ، والذي قدر فهدى الآيات
ثم تحدثت عن الوحي والقرآن ، وآنست الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) بالبشارة بتحفيظه هذا الكتاب المجيد ، وتيسير حفظه عليه ، بحيث لا ينساه أبدا [ سنقرئك فلا تنسى ، إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى
* ثم أمرت بالتذكير بهذا القرآن ، الذي يستفيد من نوره المؤمنون ، ويتعظ بهديه المتقون ، [ فذكر إن نفعت الذكرى ، سيذكر من يخشى ، ويتجنبها الأشقى ] الآيات.
* وختمت السورة ببيان فوز من طهر نفسه من الذنوب والآثام ، وزكاها بصالح الأعمال [ قد أفلح من تزكى ، وذكر اسم ربه فصلى ] إلى نهاية السورة الكريمة . (1)
تتضمن السورة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتقديس اسم اللّه ، وإيذانا له بأن اللّه ميسره في طريق اليسر ، وأمره بالتذكير وتبشير المستجيبين بالفلاح وإنذار المتمردين بالنار.
وأسلوبها يلهم أنها بسبيل عرض عام للدعوة وأهدافها ومهمة النبي - صلى الله عليه وسلم - . وليس فيها مواقف ومشاهد جدلية ، ولعلها نزلت بعد الفاتحة. أو نزلت قبل نزول ما تضمن حكاية مواقف الكفار وأقوالهم والرد عليهم. (2)
إيقاع السورة الرخي المديد يلقي ظلال التسبيح ذي الصدى البعيد . .
وحق له - صلى الله عليه وسلم - أن يحبها , وهي تحمل له من البشريات أمرا عظيما . وربه يقول له , وهو يكلفه التبليغ والتذكير:(سنقرئك فلا تنسى - إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى - ونيسرك لليسرى . فذكر إن نفعت الذكرى) . . وفيها يتكفل له ربه بحفظ قلبه لهذا القرآن , ورفع هذه الكلفة عن عاتقه . ويعده أن ييسره لليسرى في كل أموره وأمور هذه الدعوة . وهو أمر عظيم جدا .
وحق له - صلى الله عليه وسلم - أن يحبها , وهي تتضمن الثابت من قواعد التصور الإيماني:من توحيدالرب الخالق وإثبات الوحي الإلهي , وتقرير الجزاء في الآخرة . وهي مقومات العقيدة الأولى . ثم تصل هذه العقيدة بأصولها البعيدة , وجذورها الضاربة في شعاب الزمان:(إن هذا لفي الصحف الأولى . صحف إبراهيم وموسى) . . فوق ما تصوره من طبيعة هذه العقيدة , وطبيعة الرسول الذي يبلغها والأمة التي تحملها . . طبيعة اليسر والسماحة . .
وكل واحدة من هذه تحتها موحيات شتى ; ووراءها مجالات بعيدة المدى . . (3)
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 479)
(2) - التفسير الحديث ، ج 1 ، ص : 511
(3) - في ظلال القرآن - (2 / 18)(1/459)
تتضمن السورة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتقديس اسم اللّه ، وإيذانا له بأن اللّه ميسره في طريق اليسر ، وأمره بالتذكير وتبشير المستجيبين بالفلاح وإنذار المتمردين بالنار.
وأسلوبها يلهم أنها بسبيل عرض عام للدعوة وأهدافها ومهمة النبي - صلى الله عليه وسلم - . وليس فيها مواقف ومشاهد جدلية ، ولعلها نزلت بعد الفاتحة. أو نزلت قبل نزول ما تضمن حكاية مواقف الكفار وأقوالهم والرد عليهم. (1)
فضلها :
عن جَابِرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِىِّ قَالَ أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ ، فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّى ، فَتَرَكَ نَاضِحَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى مُعَاذٍ ، فَقَرَأَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوِ النِّسَاءِ ، فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ ، وَبَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذًا نَالَ مِنْهُ ، فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَشَكَا إِلَيْهِ مُعَاذًا ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ - أَوْ فَاتِنٌ ثَلاَثَ مِرَارٍ - فَلَوْلاَ صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ، فَإِنَّهُ يُصَلِّى وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ » صحيح البخارى. (2)
وعن جَابِرَ بْنٍ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ فَيَؤُمُّهُمْ ، قَالَ : فَأَخَّرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَصَلَّى مَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا فَتَقَدَّمَ لَيَؤُمَّنَا ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ تَنَحَّى فَصَلَّى وَحْدَهُ ، ثُمَّ انْصَرَفَ ، فَقُلْنَا لَهُ : مَا لَكَ يَا فُلاَنُ ، أَنَافَقْتَ ؟ قَالَ : مَا نَافَقْتُ ، وَلَآتِيَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَأُخْبِرَنَّهُ ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ مُعَاذًا يُصَلِّي مَعَكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّنَا ، وَإِنَّكَ أَخَّرْتَ الْعِشَاءَ الْبَارِحَةَ فَصَلَّى مَعَكَ ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا فَتَقَدَّمَ لَيَؤُمَّنَا ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ تَنَحَّيْتُ فَصَلَّيْتُ وَحْدِي ، أَيْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِنَّمَا نَحْنُ أَصْحَابُ نَوَاضِحَ ، وَإِنَّمَا نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ ؟ أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ ؟ اقْرَأْ بِسُورَةِ كَذَا وَسُورَةِ كَذَا قَالَ عَمْرٌو : وَأَمَرَهُ بِسُوَرٍ قِصَارٍ لاَ أَحْفَظُهَا ، قَالَ سُفْيَانُ : فَقُلْنَا لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ : إِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ قَالَ لَهُمْ : إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ : اقْرَأْ بِالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ، قَالَ عَمْرٌو نَحْوَ هَذَا."صحيح ابن حبان (3)
وعَنْ جَابِرٍ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَقْرَأَ فِي صَلاَةِ الْعِشَاءِ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ، وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكِ الأَعْلَى ، وَالضُّحَى ، وَنَحْوَهَا مِنَ السُّوَرِ."صحيح ابن حبان (4)
__________
(1) - التفسير الحديث ، ج 1 ، ص : 511
(2) - صحيح البخارى (705 )
(3) - صحيح ابن حبان - (6 / 160) (2400) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (5 / 146) (1839) صحيح(1/460)