بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرًا طيبًا مبَاركًا فيه ، و الصلاةُ و السَّلامُ الأتمان الأكملانِ على نبينا محمَّد و على آله و صحبه و من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، أما بعد :
فلقد قرأت بحث الدكتور الفاضل سعيد جمعة حول تفسيره للمثلية المتحدى بها في آيات الكتاب كقوله تعالى { فأتوا بسورة من مثله ..} ، و تبين لي بأدنى نظر أن نتيجته بعيدة عن الحق ، مجانبة للصواب ، و أن المقدمات التي بنى عليها منها ما هو حق و منها ما هو باطل ، و سأبين في مقالي هذا فساد ما ذهب إليه ، رغم أني شديد الانشغال في هذه الأيام ، و ليس لي من الوقت ما أحرر فيه ما أريد بيانه ، و لهذا سأتجاوز المسائل الجزئية التي أرى أن الباحث قد أخطأ فيها ، و أدخل إلى صلب الموضوع ، فأقول – مستعينا بالله وحده - :(1/1)
إن المثْل و المثليَّة و الممَاثلة ألفاظٌ يكثُرُ ورودها في كتب الفقه و العقيدة و التفسير و شروح كتب الحديث ، و في علم الرواية منها ، و في غيرها ؛ فتجدها في كتب الفقه في بيان معنى المثلية في الربويات و في القصاص و جزاء الصيد و في مهر المثل و أجرة المثل و في غيرها ، و تجدها في كتب العقيدة في مبحث نفي التمثيل و نفي مماثلة المخلوقين : عن الله و عن صفاته ، و في كتب التفسير في آيات عدة – منها ما نحن بصدده – و في شروح كتب الحديث بيانًا لما أُسنِد فيها من أقوال النبي ×، كمثل قوله ×: (( من سمع المؤذن فقال مثلَ ما يقول ..)) ، و كقوله ×: (( الذهب بالذهب ..مثلا بمثل ..)) ، و في كتب علم الرواية في مبحث قول الراوي عن متن الحديث : (( مثله )) أو (( نحوه ))(1)- إذا ساق السند دون المتن - ، إلى آخر تلكم الكتب ، ولو أردت أن أسوق عباراتهم في هذا لجاءت في مجلدٍ فأكثر ، و في وسع كل أحدٍ أن يقف عليها بلا عناء و لا مشقة .
و يمكن تلخيصُ ما جاء فيها ، فأقول :
المثل في لغة العرب يطلق على معانٍ ، أصلها : التسوية و المناظرة بين الشيئين.
فيطلق على التسوية في الذوات .
أو على التسوية في الصفات .
__________
(1) : قال أبو عبد الله الحاكم في الرسالة البغدادية : " إن مما يلزم الحديثي من الضبط و الإتقان إذا ذكر حديثا و ساق المتن ثم أعقبه بإسناد آخر أن يفرق بين أن يقول : مثله أو نحوه ، فإنه لا يحل له أن يقول : مثله إلا بعد أن يقف على المتنين و الحديث جميعا فيعلم أنهما على لفظ واحد ، فإذا لم يميز ذلك حل له أن يقول : نحوه ، فإنه إذا قال : نحوه فقد بين أنه مثل معانيه .." نقله الزبيدي في التاج من نسخة لديه من كتاب الحاكم (30/380)، و في الفتح شرح لهذا الفرق في مواضع منه .(1/2)
أو التسوية في المقدار(1).
كما أنها تأتي مقيدة باللفظ ، فيقال : مثله في كذا و كذا.
و بعضُ أهل العلم يعبِّر بتعبير آخر ، فيقسمها إلى مماثلة في الصورة ، و أخرى في المعنى أو في الصورة و المعنى و بعضهم يعبر بالخلقة و الصورة ، أو في الصفات و الأخلاق ، و بعضهم بغير هذا .
قال ابن فارس )) :مثل ، الميم و الثاء و اللام أصلٌ صحيح يدل على مناظرة الشيء للشيء ، و هذا مثل هذا ، و المِثل و المثال في معنى واحد ، و ربما قالوا : مثيل كشبيه))( معجم مقاييس اللغة 5/296).
و قال أيضا : (( المِثْل : النظير )) ( مجمل اللغة 4/309-ط معهد المخطوطات ).
فقوله رحمه الله : (( و المِثل و المثال في معنى واحد )) يدل على استعمال المثل في معنى المقدار .
قال في القاموس : ( و المثال : المقدار ).
قال في شرحه : (( و المثال – بالكسر : المقدار ، و هو من الشِّبه و المِثل : ما جُعلَ مثالا ، أي : مقدارا لغيره يحذى عليه ، والجمع أمثلة و مثل )) ( التاج للزبيدي 30/382).
و في التعاريف ص 636 للمناوي قال : (( المثال : مقابلة شيء بشيء وهو نظيره أو وضع شيء ما ليحتذى فيه بما يفعل )) ، ثم ذكر المثل في الشيئين المتفقين جنسا و أنه ما سد مسده ، و ما كان مختلف الجنس فهو ما كان فيه معنى يقرب به من غيره .
و هكذا كان رأي معجم المجمع اللغوي المصري في (( المعجم الوسيط)) ( 2/860).
و قد فرق بعضهم بين المثل و المثال ، فقال : (( المثل هو المشارك في جميع الأوصاف و المثال هو المشارك في أحد الأوصاف سواء كان مشاركا في جميع الأوصاف أو لا )). (جامع العلوم في اصطلاحات الفنون 3/208-209 للأحمد نكري ).
__________
(1) انظر درء التعارض و شرح العمدة 3/285 و 302 و مجموع الفتاوى 2/384 و 3/166 و17/48و كلها لابن تيمية و سيأتي الإحالة إلى غيرها في تضاعيف البحث .(1/3)
و كثيرا ما يسوون في التفسير بين المثيل و الكفء و النظير و العدل و الند ؛ بل و الشبيه ، و هي كذلك معانيها متقاربة جدا ، والفروق بينها يسيرة جدا ، و قد عددها العلامة أبو هلالٍ العسكري في كتابه النافع (( الفروق )) (ص 257-260)، و مما قاله ص 259 : (( وليس في الكلام شيء يصلح في المماثلة إلا الكاف و المثل ، فأما الشبه والنظير فهما من جنس المثل )) .
و قال ص 260 : (( و الفرق بين كاف التشبيه و بين المِثل ، أن الشيء يشبَّه بالشيء من وجه واحد لا يكون مثله في الحقيقة إلا إذا أشبهه من جميع الوجوه لذاته ، فكأن الله تعالى لما قال { ليس كمثله شيء } أفاد أنه لا شبه له و لا مثل .. )) .
و صنيعُ الأئمة في هذا = المرادُ منه تقريبُ المعنى و محاولة تصويره في ذهن القارئ ، و هكذا صنيعهم في مفردات معاجم و قواميس اللغة .
و للعلم فإن تفسير المثل – بفتح الثاء – بمعنى : صفة الشيء ، قد رده المبرد في المقتضب 3/225 و خطَّأ قائله ، و كذلك فعل أبو علي الفارسي فإنه قال : (( تفسير المثَل بالصفة غير معروف في كلام العرب ؛ إنما معناها التمثيل )) ( التاج 30/382 ) ، و المسالة محل اختلاف.
تفسير آيات التحدي
قبل بيان الأغلاط التي وقعت في بحث أخينا الفاضل الدكتور سعيد جمعة يحسن بي أن أبين في هذا المبحث معاني آيات التحدي مقتصرًا على ما فسَّر به إمامُ المفسرين محمد بن جرير رحمه الله في كتابه العظيم ( جامع البيان ) تلكم الآيات الكريمة ، ثم أتبعه بما يؤيِّده من كلام الإمامين الجليلين ابن تيمية و ابن القيم رحمهما الله ، و اخترتهما دون غيرهما لما تضمنه كلامهما من الزيادات المهمة فيما نحن بصدد بيانه ، بل الجواب المفصَّل عن كل شبهة أثيرت في مسألتنا هذه ، فإليكم تفسيرها – على حسب ترتيبها في المصحف الإمام :
1- ففي قوله تعالى {و إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين }(1/4)
قال ابن جرير : (( و هذا من الله عز وجل احتجاج لنبيه محمد × على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم وكفار أهل الكتاب وضلالهم الذين افتتح بقصصهم قوله - جل ثناؤه - {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } وإياهم يخاطب بهذه الآيات وأخبر بأهم نعوتها قال الله جل ثناؤه { وإن كنتم } أيها المشركون من العرب والكفار من أهل الكتابين في شك وهو الريب مما نزلنا على عبدنا محمد × من النور والبرهان وآيات الفرقان أنه من عندي وأني الذي أنزلته إليه فلم تؤمنوا به ولم تصدقوه فيما يقول فأتوا بحجة تدفع حجته لأنكم تعلمون أن حجة كل ذي نبوة على صدقه في دعواه النبوة أن يأتي ببرهان يعجز عن أن يأتي بمثله جميع الخلق ومن حجة محمد × على صدقه وبرهانه على نبوته وأن ما جاء به من عندي عجز جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم عن أن تأتوا بسورة من مثله .
وإذا عجزتم عن ذلك - وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والدراية - = فقد علمتم أن غيركم عما عجزتم عنه من ذلك أعجز .
كما كان برهان من سلف من رسلي وأنبيائي على صدقه وحجته على نبوته من الآيات ما يعجز عن الإتيان بمثله جميع خلقي = فيتقرر حينئذ عندكم أنَّ محمدا لم يتقوله ولم يختلقه ؛ لأن ذلك لو كان منه اختلافا وتقولا لم يعجزوا وجميع خلقه عن الإتيان بمثله ؛ لأن محمدا × لم يعد أن يكون بشرا مثلكم وفي مثل حالكم في الجسم وبسطة الخلق وذرابة اللسان فيمكن أن يظن به اقتدار على ما عجزتم عنه أو يتوهم منكم عجز عما اقتدر عليه ...)) .(1/5)
و قال : (( فإن قال قائل : إنك ذكرت أن الله عنى بقوله {فأتوا بسورة من مثله } من مثل هذا القرآن ،فهل للقرآن من مثل ؟ فيقال : ائتوا بسورة من مثله ، قيل : إنه لم يعن به ائتوا بسورة من مثله في التأليف والمعاني التي باين بها سائر الكلام غيره ؛ وإنما عنى ائتوا بسورة من مثله في البيان ؛ لأن القرآن أنزله الله بلسان عربي ، فكلام العرب لا شك له مثل في معنى العربية ، فأما في المعنى الذي باين به القرآن سائر كلام المخلوقين فلا مثل له من ذلك الوجه ولا نظير ولا شبيه.
وإنما احتج الله - جل ثناؤه - عليهم لنبيه × بما احتج به له عليهم من القرآن إذ ظهر عجز القوم عن أن يأتوا بسورة من مثله في البيان إذ كان القرآن بيانا مثل بيانهم وكلاما نزل بلسانهم فقال لهم - جل ثناؤه – { وإن كنتم في ريب } من أن ما أنزلت على عبدي من القرآن من عندي فأتوا بسورة من كلامكم الذي هو مثله في العربية إذ كنتم عربا وهو بيان نظير بيانكم وكلام شبيه كلامكم
فلم يكلفهم جل ثناؤه أن يأتوا بسورة من غير اللسان الذي هو نظير اللسان الذي نزل به القرآن فيقدروا أن يقولوا : كلفتنا ما لو أحسناه أتينا به ؛ وإنا لا نقدر على الإتيان به ؛ لأنا لسنا من أهل اللسان الذي كلفتنا الإتيان به ، فليس لك علينا حجة بهذا ؛ لأنا وإن عجزنا عن أن نأتي بمثله من غير ألسنتنا ؛ لأنا لسنا بأهله = ففي الناس خلقٌ كثير من غير أهل لساننا يقدرُ على أن يأتي بمثله من اللسان الذي كلفتنا الإتيان به .
ولكنه جل ثناؤه قال لهم {ائتوا بسورة مثله } لأن مثله من الألسن ألسنتكم ، وأنتم : إن كان محمد اختلقه وافتراه - إذا اجتمعتم وتظاهرتم على الإتيان بمثل سورة منه من لسانكم وبيانكم - = أقدرُ على اختلاقه ووضعه وتأليفه من محمد ×.(1/6)
و إن لم تكونوا أقدر عليه منه = فلن تعجزوا – و أنتم جميع - عما قدر عليه محمد من ذلك ، وهو وحده - إن كنتم صادقين في دعواكم وزعمكم أن محمدًا افتراه واختلقه ، وأنه من عند غيري )) جامع البيان 1/165-166.
2 - و في قوله تعالى { أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين }
قال ابن جرير : (( يقول - تعالى ذكره - أم يقول هؤلاء المشركون افترى محمدٌ هذا القرآن من نفسه فاختلقه وافتعله ، قل - يا محمد لهم - : إن كان كما تقولون : إني اختلقته و افتريته = فإنكم مثلي من العرب ، و لساني وكلامي = مثل لسانكم ، فجيئوا بسورة مثل هذا القرآن )) الجامع 11/117 .
3- و في قوله تعالى { أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين }
قال ابن جرير : (( يقول - تعالى ذكره لنبيه محمد ×- : كفاك حجة على حقيقة ما أتيتهم به ودلالة على صحَّة نبوتك هذا القرآن من سائر الآيات غيره ؛ إذ كانت الآيات إنما تكون لمن أعطيها دلالة على صدقه لعجز جميع الخلق عن أن يأتوا بمثلها وهذا القرآن جميع الخلق عجزة عن أن يأتوا بمثله .(1/7)
فإن هم قالوا : افتريته أي : اختلقته وتكذبته – و دل على أن معنى الكلام ما ذكرنا قوله {أم يقولون افتراه} إلى آخر الآية ، و يعني تعالى ذكره بقوله {أم يقولون افتراه } أي : أيقولون افتراه ، و قد دللنا على سبب إدخال العرب " أم " في مثل هذا الموضع - = فقل لهم : يأتوا بعشر سور مثل هذا القرآن مفترياتٍ - يعني : مفتعلات مختلفات - إن كان ما أتيتكم به من هذا القرآن مفترى ، و ليس بآية معجزة كسائر ما سئلته من الآيات ؛كالكنز الذي قلتم : هلا أنزل عليه ، أو الملك الذي قلتم : هلا جاء معه نذيرا له مصدقا ؛ فإنكم قومي وأنتم من أهل لساني ، وأنا رجل منكم ، ومحال أن أقدر أخلق وحدي مئة سورة وأربع عشرة سورة ولا تقدروا بأجمعكم أن تفتروا و تختلقوا عشر سور مثلها ولا سيما إذا استعنتم في ذلك بمن شئتم من الخلق .
يقول - جل ثناؤه - : قل لهم { وادعوا من استطعتم} أن تدعوهم من دون الله : - يعني : سوى الله ، لافتراء ذلك واختلاقه - : من الآلهة ؛ فإن أنتم لم تقدروا على أن تفتروا عشر سور مثله = فقد تبين لكم أنكم كذبة في قولكم : افتراه ، وصحت عندكم حقيقة ما أتيتكم به : أنه من عند الله ، ولم يكن لكم أن تتخيروا الآيات على ربكم ، و قد جاءكم من الحجة على حقيقة ما تكذبون به أنه من عند الله = مثل الذي تسألون من الحجة و ترغبون أنكم تصدقون بمجيئها .
وقوله { إن كنتم صادقين } لقوله { فأتوا بعشر سور مثله } و إنما هو قل : فأتوا بعشر سور مثله مفتريات إن كنتم صادقين أن هذا القرآن افتراه محمد ، وادعوا من استطعتم من دون الله على ذلك من الآلهة والأنداد " ( الجامع 12/9-10).
4- و في قوله تعالى : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } .(1/8)
قال ابن جرير : " يقول - جل ثناؤه - قل يا محمد للذين قالوا لك أنا نأتي بمثل هذا القرآن لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون أبدا بمثله ولو كان بعضهم لبعض عونا وظهرا
وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله × بسبب قوم من اليهود جادلوه في القرآن وسألوه أن يأتيهم بآية غيره شاهدة له على نبوته لأن مثل هذا القرآن بهم قدرة على أن يأتوا به تجدونه مكتوبا عندكم ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما جاؤوا به فقال عند ذلك وهم جميعا فنحاص وعبد الله بن صوريا وكنانة بن أبي الحقيق وأشيع وكعب بن أسد وسموءل بن زيد وجبل بن عمرو يا محمد ما يعلمك هذا إنس ولا جان فقال رسول الله × أما والله إنكم لتعلمون أنه من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل فقالوا يا محمد إن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما شاء ويقدر منه على ما أراد فأنزل علينا كتابا نقرؤه ونعرفه وإلا جئناك بمثل ما تأتي به فأنزل الله عز وجل فيهم وفيما قالوا قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " الجامع 15/158-159 .
5- و في قوله تعالى : { أم تأمرهم أحلامهم بهذآ أم هم قوم طاغون أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين }
قال ابن جرير : (( يقول - تعالى ذكره - : أتأمر هؤلاء المشركين أحلامهم بأن يقولوا لمحمد × هو شاعر وأن ما جاء به شعر أم هم قوم طاغون يقول جل ثناؤه ما تأمرهم بذلك أحلامهم وعقولهم بل هم قوم طاغون قد طغوا على ربهم فتجاوزوا ما أذن لهم وأمرهم به من الإيمان إلى الكفر به
و قوله {أم يقولون تقوله } يقول تعالى ذكره : أم يقول هؤلاء المشركون تقول محمد هذا القرآن و تخلقه .
وقوله {بل لا يؤمنون }يقول جل ثناؤه : كذبوا فيما قالوا من ذلك ؛ بل لا يؤمنون ؛ فيصدقوا بالحق الذي جاءهم من عند ربهم(1/9)
وقوله { فليأتوا بحديث مثله } يقول جل ثناؤه : فليأت قائلو ذلك له من المشركين بقرآن مثله ؛ فإنهم من أهل لسان محمد صلى الله عليه وسلم ولن يتعذر عليهم أن يأتوا من ذلك بمثل الذي أتى به محمد × إن كانوا صادقين في أن محمدا × تقوله وتخلقه " ( الجامع 27/32-33 ).
و بمثل الذي قال : قال أئمة الدين المقتدى بهم ، و من هؤلاء شيخا الإسلام ابن تيمية و ابن القيم رحمهما الله تعالى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( و القرآن يظهر كونه آية و برهانا له من وجوه جملة وتفصيلا :
أما الجملة : فإنه قد علمت الخاصة والعامة من عامة الأمم علما متواترا أنه هو الذي أتى بهذا القرآن ، وتواترت بذلك الأخبار أعظم من تواترها بخبر كل أحد من الأنبياء والملوك والفلاسفة وغيرهم.
والقرآن نفسه فيه تحدي الأمم بالمعارضة ، والتحدي هو أن يحدوهم أي : يدعوهم فيبعثهم إلى أن يعارضوه ، فيقال فيه : حداني على هذا الأمر، أي : بعثني عليه ، ومنه سمي حادي العيس ؛ لأنه بحداه يبعثها على السير .
وقد يريد بعض الناس بالتحدي :دعوى النبوة ؛ ولكنه أصله الأول ، قال تعالى في سورة الطور { أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين}
فهنا قال {فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } - في أنه تقوله ؛ فإنه إذا كان محمد قادرا على أن يتقوله كما يقدر الإنسان على أن يتكلم بما يتكلم به من نظم ونثر = كان هذا ممكنا للناس الذين هم من جنسه ، فأمكن الناس أن يأتوا بمثله.
ثم إنه تحداهم بعشر سور مثله فقال تعالى { أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين}.
ثم تحداهم بسورة واحدة منه فقال تعالى { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} .(1/10)
فطلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات - هم وكل من استطاعوا من دون الله- ثم تحداهم بسورة واحدة - هم ومن استطاعوا – قال { فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو}.
و هذا أصل دعوته ، وهو الشهادة بأنه لا إله إلا الله والشهادة بأن محمدا رسول الله
وقال تعالى {فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله}
كما قال {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون }
أي : هو يعلم أنه منزل لا يعلم أنه مفترى كما قال { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله } أي: ما كان لأن يفتري ، يقول : ما كان ليفعل هذا ، فلم ينف مجرد فعله ؛ بل نفي احتمال فعله ، وأخبر بأن مثل هذا لا يقع ؛ بل يمتنع وقوعه ، فيكون المعنى : ما يمكن ولا يحتمل ، ولا يجوز أن يفتري هذا القرآن من دون الله ؛ فإن الذي يفتريه من دون الله مخلوق ، و المخلوق لا يقدر على ذلك .
وهذا التحدي كان بمكة فإن هذه السور مكية : سورة يونس وهود والطور.
ثم أعاد التحدي في المدينة بعد الهجرة ، فقال في البقرة - وهي سورة مدنية- { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين}
ثم قال {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة}
فذكر أمرين ، أحدهما قوله { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار }يقول : إذا لم تفعلوا فقد علمتم أنه حق ، فخافوا الله أن تكذبوه ، فيحيق بكم العذاب الذي وعد به المكذبين ، وهذا دعاء إلى سبيل ربه بالموعظة الحسنة بعد أن دعاهم بالحكمة وهو جدالهم بالتي هي أحسن.
والثاني :قوله {ولن تفعلوا} ، و " لن " لنفي المستقبل .(1/11)
فثبت الخبر أنهم فيما يستقبل من الزمان لا يأتون بسورة من مثله كما أخبر قبل ذلك ، وأمره أن يقول في سورة سبحان - وهي سورة مكية افتتحها بذكر الإسراء ، و هو كان بمكة بنص القرآن والخبر المتواتر - ، وذكر فيها من مخاطبته للكفار بمكة ما يبين بذلك بقوله{ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}.
فعم بالخبر جميع الخلق معجزا لهم قاطعا بأنهم إذا اجتمعوا كلهم = لا يأتون بمثل هذا القرآن ، و لو تظاهروا وتعاونوا على ذلك ، وهذا التحدي والدعاء هو لجميع الخلق ، وهذا قد سمعه كل من سمع القرآن ، و عرفه الخاص والعام ، وعلم مع ذلك أنهم لم يعارضوه ولا أتوا بسورة مثله ، ومن حين بعث وإلى اليوم ، الأمر على ذلك مع ما علم من أن الخلق كلهم كانوا كفارا قبل أن يبعث ، و لما بعث إنما تبعه قليل ، و كان الكفار من أحرص الناس على إبطال قوله مجتهدين بكل طريق يمكن ؛ تارة يذهبون إلى أهل الكتاب فيسألونهم عن أمور من الغيب حتى يسألوه عنها كما سألوه عن قصة يوسف وأهل الكهف وذي القرنين - كما تقدم - .
و تارة يجتمعون في مجمع بعد مجمع على ما يقولونه فيه ، و صاروا يضربون له الأمثال فيشبهونه بمن ليس مثله لمجرد شبه ما ، مع ظهور الفرق ؛ فتارة يقولون : مجنون وتارة يقولون : ساحر وتارة يقولون : كاهن وتارة يقولون : شاعر ، إلى أمثال ذلك من الأقوال التي يعلمون - هم وكل عاقل سمعها - أنها افتراء عليه.
فإذا كان قد تحداهم بالمعارضة مرة بعد مرة وهي تبطل دعوته ، فمعلوم أنهم لو كانوا قادرين عليها لفعلوها ؛ فإنه مع وجود هذا الداعي التام المؤكد - إذا كانت القدرة حاصلة - = وجب وجود المقدور ، ثم هكذا القول في سائر أهل الأرض.(1/12)
فهذا القدر يوجب علما بينا لكل أحد بعجز جميع أهل الأرض عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن بحيلة وبغير حيلة ، وهذا أبلغ من الآيات التي يكرر جنسها كإحياء الموتى فإن هذا لم يأت أحد بنظيره )) ( الجواب الصحيح 5/422-428).
و قال في موضع آخر : ((و القرآن معجز بلفظه ونظمه ومعناه ، وإعجازه يعلم بطريقين : جملي وتفصيلي .
أما الجملي : فهو أنه قد علم بالتواتر أن محمد × ادعى النبوة ، وجاء بهذا القرآن وأن في القرآن آيات التحدي والتعجيز ؛ كقوله تعالى {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } فتحداهم هنا أن يأتوا بمثله.
وقال في موضع آخر {فليأتوا بعشر سور مثله مفتريات } ، وقال في موضع آخر {فأتوا بسورة من مثله} وأخبر مع ذلك أنهم لن يفعلوا فقال {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداؤكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار} بل أخبر أن جميع الإنس والجن إذا اجتمعوا لا يأتون بمثله فقال {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا }.
وقد علم أيضا بالتواتر أنه دعا قريشا خاصة والعرب عامة ، وأن جمهورهم في أول الأمر كذبوه وآذوه وآذوا الصحابة ، وقالوا فيه أنواع القول مثل قولهم هو ساحر وشاعر وكاهن ومعلم ومجنون وأمثال ذلك .
وعلم أنهم كانوا يعارضونه ، و لم يأتوا بسورة من مثله ، وذلك يدل على عجزهم عن معارضته لأن الإرادة الجازمة لا يتخلف عنها الفعل مع القدرة.(1/13)
و معلوم أن إرادتهم كانت من أشد الإرادات على تكذيبه وإبطال حجته ، و أنهم كانوا أحرص الناس على ذلك حتى قالوا فيه ما يعلم أنه باطل بأدنى نظر ، و فيلسوفهم الكبير الوحيد {فكر وقدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر} .
و ليس هذا موضع ذكر جزئيات القصص ؛ إذ المقصود ذكر ما علم بالتواتر من أنهم كانوا من أشد الناس حرصا ورغبةً على إقامة حجة يكذبونه بها حتى كانوا يتعلقون بالنقض مع وجود الفرق ؛ فإنه لما نزل {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } عارضوه بالمسيح حتى فرق الله تعالى بينها بقوله {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون }وقال تعالى {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون } .
فمن عارضوا خبره بمثل هذا ؛ كيف لا يدعون معارضة القرآن وهم لا يقدرون على ذلك(1)؟ )) .
ثم قال : (( ثم انتشرت دعوته في أرض العرب ثم في سائر الأرض إلى هذا الوقت ، وآيات التحدي قائمة متلوة ، و ما قدر أحد أن يعارضه بما يظن أنه مثل .
ولما جاء مسيلمة ونحوه بما أتوا به يزعمون أنهم أتوا بمثله ، كان ما أتوا به من المضاحك التي لا تحتاج للمعرفة بانتفاء مماثلها إلى نظر .
وذلك كمن جاء إلى الرجل الفارس الشجاع ذي اللامة التامة فأراد أن يبارزه بصورة مصورة ربطها على الفرس ، كقول مسيلمة : يا ضفدع بنت ضفدعين ، كم تنقنقين لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين ، رأسك في الماء وذنبك في الطين . وقوله أيضا : الفيل وما أدراك ما الفيل ، له زلوم طويل إن ذلك من خلق ربنا الجليل ، وأمثال ذلك .
__________
(1) كذا في الأصل ، و لعل لا زائدة ؛والمعنى واضح : أي لو كان في مقدورهم معارضة التحدي لفعلوا ، فهم عارضوه في الشيء اليسير ، و سأراجع نسخة خطية عندي من شرح الأصفهانية .(1/14)
ولهذا لما قدم وفد بني حنيفة على أبي بكر وسألهم أن يقرؤوا له شيئا من قرآن مسيلمة فاستعفوه ، فأبى أن يعفيهم حتى قرأوا شيئا من هذا ، فقال لهم الصديق : ويحكم ، أين يذهب بعقولكم ، إن هذا كلام لم يخرج من إِلٍّ ، أي : من ربٍّ .
فاستفهم استفهام المنكر عليهم لفرط التباين وعدم الالتباس وظهور الافتراء على هذا الكلام ، وأن الله سبحانه وتعالى لا يتكلم بمثل هذا الهذيان .
وأما الطرق فكثيرة جدا متنوعة من وجوه ، وليس كما يظنه بعض الناس .
و إن معجزته من جهة صرف الدواعي عن معارضته، وقول بعضهم إنه من جهة فصاحته ، وقول بعضهم من جهة إخباره بالغيوب إلى أمثال ذلك ، فإن كلاّ من الناظرين قد يرى وجها من وجه الإعجاز ، وقد يريد الحجر وإن لم ير غيره ذلك الوجه ، واستيعاب الوجوه ليس هو مما يتسع له شرح هذه العقيدة )) ( شرح العقيدة الأصفهانية ص 266-269).
و سيأتي نقل أقواله الكثيرة في هذا ، وبعض تلك النقول في عشرات الصفحات ، لولا الإطالة لنقلتها لأهميتها .
قال ابن القيم(1)في تفسير آيات التحدِّي : (( و من ذلك احتجاجه سبحانه على نبوة رسوله وصحة(2)ما جاء به من الكتاب وأنه من عنده وكلامه الذي يتكلم به وأنه ليس من صنعة البشر ولا من كلامهم بقوله : {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين } [البقرة23] .
فأمر من ارتاب في هذا القرآن الذي نزله على عبده و أنه كلامه = أن يأتي بسورة واحدة مثله ، وهذا يتناول أقصر سورة من سوره ، ثم فسح له إن عجز عن ذلك أن يستعين بمن أمكنه الاستعانة به من المخلوقين .
وقال تعالى { أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } [يونس38 ].
__________
(1) الصواعق المرسلة 2/467-469.
(2) انظر : الجواب الصحيح 5/428/436 و المجموع 33/42-43 و النبوات 2/860-862 ط السلف(1/15)
وقال {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } [هود13].
وقال {أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين} [ الطور34 – 33] .
ثم أسجل سبحانه عليهم إسجالا عاما في كل زمان ومكان بعجزهم عن ذلك ولو تظاهر عليه الثقلان فقال { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } [الإسراء88]
فانظر أي موقع يقع من الأسماع والقلوب هذا الحجاج القاطع الجليل الواضح الذي لا يجد طالب الحق ومؤثره ومريده عنه محيدا ولا فوقه مزيدا ولا وراءه غاية ، ولا أظهر منه آية ولا أصح منه برهانا ولا أبلغ منه بيانا )) .
و قال في كتابه (( بدائع الفوائد ))(1): ((فلما قرر نوعي التوحيد انتقل إلى النبوة ، فقال { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين } إن حصل لكم ريب في القرآن الكريم وصدق من جاء به وقلتم إنه مفتعل = فأتوا بسورة واحدة تشبهه ، وهذا خطاب لأهل الأرض أجمعهم .
و من المحال أن يأتي واحد منهم بكلام يفتعله ويختلقه من تلقاء نفسه ، ثم يطالب أهل الأرض بأجمعهم أن يعارضوه في أيسر جزء منه يكون مقداره ثلاث آيات من عدة ألوف ، ثم تعجز الخلائق كلهم عن ذلك حتى أن الذين راموا معارضته = كان ما عارضوه من أقوى الأدلة على صدقه ، فإنهم أتوا بشيء يستحي العقلاء من سماعه ويحكمون بسماجته وقبح ركاكته وخسته .
فهو كمن أظهر طيبا لم يشم أحد مثل ريحه قط وتحدى الخلائق ملوكهم وسوقتهم بأن يأتوا بذرة طيب مثله ، فاستحى العقلاء وعرفوا عجزهم وجاء الحمقان بعذرة منتنة خبيثة ، وقالوا : قد جئنا بمثل ما جئت به ، فهل يزيد هذا ما جاء به إلا قوة وبرهانا وعظمة و جلالة.
__________
(1) 4/134-136 الطبعة المنيرية .(1/16)
و أكد تعالى هذا التوبيخ والتقريع والتعجيز بأن قال {وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين } كما يقول المعجز لمن يدعي مقاومته : اجهد عليَّ بكل مَنْ تقدر عليه من أصحابك وأعوانك وأوليائك ، ولا تبق منهم أحدا حتى تستعين به .
فهذا لا يقدم عليه إلا أجهل العالم و أحمقه و أسخفه عقلا ؛ إن كان غير واثق بصحة ما يدعيه ، أو أكملهم وأفضلهم وأصدقهم وأوثقهم بما يقوله ، والنبي × يقرأ هذه الآية وأمثالها على أصناف الخلائق أميهم وكتابيهم وعربهم وعجمهم ويقول : لن تستطيعوا ذلك ولن تفعلوه أبدا ، فيعدلون معه إلى الحرب والرضى بقتل الأحباب ، فلو قدروا على الإتيان بسورة واحدة لم يعدلوا عنها إلى اختيار المحاربة و إيتام الأولاد و قتل النفوس والإقرار بالعجز عن معارضته .
وتقرير النبوة بهذه الآية له وجوه متعددة : هذا أحدها .
وثانيها : إقدامه هذا الأمر و إسجاله على الخلائق إسجالا عاما إلى يوم القيامة أنهم لن يفعلوا ذلك أبدا ، فهذا لا يقدم عليه ويخبر به إلا عن علم لا يخالجه شك مستند إلى وحي من الله تعالى ؛ و إلا فعلم البشر وقدرته يضعفان عن ذلك .
وثالثها : النظر إلى نفس ما تحدى به وما اشتمل عليه من الأمور التي تعجز قوى البشر على الإتيان بمثله ، الذي فصاحته ونظمه وبلاغته فرد من أفراد إعجازه.
وهذا الوجه يكون معجزة لمن سمعه وتأمله وفهمه ، وبالوجهين الأولين يكون معجزة لكل من بلغة خبره ، ولو لم يفهمه ولم يتأمله ، فتأمل هذا الموضع من إعجاز القرآن تعرف فيه قصور كثير من المتكلمين وتقصيرهم في بيان إعجازه وأنهم لم يوفوه عشر معشار حقه حتى قَصَر بعضهم الإعجاز على صرف الدواعي عن معارض0ته مع القدرة عليها ، وبعضهم قصر الإعجاز على مجرد فصاحته وبلاغته ، وبعضهم على مخالفة أسلوب نظمه لأساليب نظم الكلام ، وبعضهم على ما اشتمل عليه من الإخبار بالغيوب ، إلى غير ذلك من الأقوال القاصرة التي لا تشفي ولا تجدي .(1/17)
وإعجازه فوق ذلك ووراء ذلك كله )) .
و بعد هذا البيان من هؤلاء الأئمة ، أذكِّر بمسألة غير خفية ؛ إلا أن التذكير بها في هذا الموطن مهم – كما سيأتي بيان ذلك في موضعه - ، ألا وهي :
على ماذا كان اعتراض قريش ؟
الجواب بلا عناء : كان كفار قريش معترضين على صحة دعوى نبوة محمد × ، و أن الذي جاء به هو كلام الله ، و كذلك القول في كفار أهل الكتاب .
و الآيات المتقدمة واضحة الدلالة في هذا ، فهم يدعون أن محمدا افترى هذا الكلام – وهو القرآن - و تقوَّله ، و لهذا خاطبهم الله بالآيات السابقة ، و أمر نبيه ×أن يقول لهم ذلك .
ثم أنبه إلى أمر دقيقٍ ، قلَّ مَن يتفطن إليه ، ألا و هو أنه شاع في تفاسير أهل العلم تفسير الألفاظ ذات المعاني الخاصة بالمعنى الأوسع دلالة منه ، كما حصل عكسه من السلف في ذكر بعض أفراد العام دون بعض فيما اللفظ العام أو الذي له أكثر من معنى ، فيظن من لا خبرة له أن المراد بذلك حصر التفسير في ذلكم المعنى المعيَّن ، و هذا كما سبق و أن ذكرنا – فالمراد من تلكم التفسيرات تقريب المعنى .
و لهذا تجد أن ابن القيم في كلامه المنقول قبل ، قال : " فأتوا بسورة واحدة تشبهه ".
ففسر المثل بالشبيه .
و قد سبق أن ذكرت أن من العلماء من يفسر المثل بالشبيه و الكفء و العدل و النظير و غيرها ، مع علمهم بعدم ترادفها في المعنى .
و المشابهة أوسع دلالة من المماثلة .
فالمماثل مشابه و ليس كل مشابه مماثلا .
و لذلك نفى الله تعالى عن نفسه المثلية و لم ينف المشابهة ، فقال سبحانه { ليس كمثله شيء } .
مع أن نفي التشبيه المفضي إلى التمثيل = منفي عن الله عز و جل ، و لذلك جرى استعمال هذا اللفظ في كلام بعض السلف ، و المراد منه تشبيه خاص لا مطلق التشبيه ؛ لأن نفي مشابهة شيء لشيء آخر مطلقا = غير واقع ، فما من شيئين إلا و بينهما قدر اشتباه .(1/18)
و لهذا لما أراد شيخ الإسلام كتابة العقيدة لأهل واسط توخى فيها أن لا يذكر فيها إلا ما كان من ألفاظ الكتاب و السنة ، فنفى التمثيل و لم يتطرق إلى التشبيه ، و قال في المناظر ة المشهورة التي عقدت له لأجل (( الواسطية )) : (( وقلت له أيضا : ذكرت في النفي التمثيل ، و لم أذكر التشبيه ؛ لأن التمثيل نفاه الله بنص كتابه حيث قال{ ليس كمثله شيء} وقال {هل تعلم له سميا }وكان أحب إلي من لفظ ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله ، وإن كان قد يعنى بنفيه معنى صحيحًا ، كما قد يعنى به معنى فاسدًا )) المجموع 3/166 .
و قال رحمه الله في معرض رده على من نفى الصفات الثابتة لله بدعوى لزوم التشبيه : (والتشبيه الممتنع على الله أن يشارك المخلوقات في شيء من خصائصها ، و إن يكون مماثلا لها في شيء من صفاته ) (المجموع 6/122 ).
و قال رحمه الله في بيان بديعٍ لهذه المسألة ، و أن التشبيه لفظٌ فيه إجمال ، كما قال غيره عن لفظ المثل : إن فيه إجمالا : ( وسبب هذا الضلال أن لفظ (( التشبيه )) و (( التركيب )) لفظ فيه إجمال ، وهؤلاء أنفسهم - هم وجماهير العقلاء - يعلمون أن ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك ، ونفي ذلك القدر المشترك ليس هو نفس التمثيل ، والتشبيه الذي قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه ،وإنما التشبيه الذي قام الدليل على نفيه ما يستلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين لله سبحانه وتعالى إذ هو سبحانه : { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] ولا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله .(1/19)
ولهذا اتفق جميع طوائف المسلمين وغيرهم على الرد على هؤلاء الملاحدة ، وبيان أنه ليس كل ما اتفق شيئان في شيء من الأشياء يجب أن يكون أحدهما مثلا للآخر ، ولا يجوز أن ينفى عن الخالق سبحانه كل ما يكون فيه موافقة لغيره في معنى ما ؛ فإنه يلزمه عدمه بالكلية ، كما فعله هؤلاء الملاحدة ، بل يلزم نفي وجوده ونفي عدمه وهو غاية التناقض والإلحاد والكفر والجهل ) ( الدرء 3/67).
و قال : (والمشابهة من وجه لا تقتضي المماثلة في الذات والصفات والمقدار) الدرء 10/108 .(1/20)
و قال في الصفدية 1/99-102 : (والمقصود هنا التنبيه على مجامع الأقوال ومنشأ الضلال حيث أخذوا لفظ التشبيه بمعنًى مشترك مجمل ، فأرادوا نفيه بكل معنى من المعاني ومن المعلوم أنه ما من موجودين إلا و بينهما قدر يتفقان فيه ، و إن كان المعنى الكلي المشترك وجوده في الأذهان لا في الأعيان فلا بد أن يكون بين أفراد الاسم العام الكلي نوع من المشابهة باعتبار اتفاقهما في ذلك المعنى العام ، و هذا موضع غلط فيه كثير من الناس في أحكام الأمور الكلية التي تشتبه فيها أعيانها ...) إلى قوله : ( فيقال لهؤلاء : التشبيه الممتنع إنما هو مشابهة الخالق للمخلوق في شيء من خصائص المخلوق ، أو أن يماثله في شيء من صفات الخالق ، فإن الرب تعالى منزه عن أن يوصف بشيء من خصائص المخلوق أو أن يكون له مماثل في شيء من صفات كماله ، و كذلك يمتنع أن يشاركه غيره في شيء من أموره بوجه من الوجوه ، بل يمتنع أن يشترك مخلوقان في شيء موجود في الخارج ، بل كل موجود في الخارج فإنه مختص بذاته وصفاته القائمة به ، لا يشاركه غيره فيها ألبتة ....) ، و فيها : ( و ليس مطلق الموافقة في بعض الأسماء والصفات الموجبة نوعا من المشابهة = تكون مقتضية للتماثل والتكافؤ ، بل ذلك لازم لكل موجودين ، فإنهما لا بد أن يتفقا في بعض الأسماء والصفات ، و يشتبها من هذا الوجه ، فمن نفى ما لا بد منه = كان معطلا ، ومن جعل شيئا من صفات الله مماثلا لشيء من صفات المخلوقين = كان ممثلا ، والحق هو نفي التمثيل ونفي التعطيل ، فلا بد من إثبات صفات الكمال المستلزمة نفى التعطيل ولا بد من إثبات اختصاصه بما له على وجه ينفي التمثيل .(1/21)
ولكن طائفة من الناس يجعلون التمثيل والتشبيه واحدا ويقولون : يمتنع أن يكون الشيء يشبه غيره من وجه ويخالفه من وجه ، بل عندهم كل مختلفين كالسواد والبياض فإنهما لم يشتبها من وجه ، وكل مشتبهين كالأجسام عندهم يقولون بتماثلها ، فإنها مماثلة عندهم من كل وجه لا اختلاف بينهما إلا في أمور عارضة لها .
... وأما جمهور الناس فيقولون : إن الشيء قد يشبه غيره من وجه دون وجه ، وهذا القول هو المنقول عن السلف والأئمة ..) إلى آخر كلامه و هو نفيس يحسن الوقوف عليه .
و هذه المسألة – أعني مسألة الألفاظ المجملة و منها لفظ التشبيه - لشيخ الإسلام ابن تيمية بها اعتناء ظاهر ، يظهر لك لمن له عناية بمصنفاته رحمه الله .
نقض ما توصل إليه الدكتور سعيد جمعة
قبل بيان أوجه بطلان ما توصل إليه الدكتور الفاضل يحسن بي التنبيه إلى مسألتين مهمتين تطرق إليهما الدكتور :
الأولى : هي الفرق بين التحدي و الإعجاز ، فأقول : الإعجاز هو أثر التحدي ، فهو نتيجة له ، فالتحدي كان بالإتيان بمثل القرآن أو بعضه ، فلما لم يفعلوا = حصل العجز منهم و هو الإعجاز .
الثانية: أن لفظ الإعجاز و المعجزة لم يأت في كتاب الله و لا في سنة النبي × و قد أفاض الكلام فيها شيخ الإسلام في كتابه العظيم " النبوات " ، و بين أن الله سماها آيات و براهين و بينات ، قال رحمه الله : ( والآيات والبراهين الدالة على نبوة محمد كثيرة متنوعة وهي أكثر وأعظم من آيات غيره من الأنبياء ويسميها من يسميها من النظار معجزات وتسمى دلائل النبوة وأعلام النبوة .
وهذه الألفاظ إذا سميت بها آيات الأنبياء كانت أدل على المقصود من لفظ المعجزات ولهذا لم يكن لفظ المعجزات موجودا في الكتاب والسنة وإنما فيه لفظ الآية والبينة والبرهان ) ( الجواب الصحيح 5/412 ).(1/22)
ثم أقول : إذا تبيين للقارئ معنى التحدي المراد من الآيات ، و وجه اعتراض المشركين ، و المراد بالمثلية في اللغة و الشرع = تبين له بطلان النتيجة التي توصل إليها الأخ الكريم الدكتور سعيد ، و هي أن مناط التحدي في الإتيان بكلام من عند الله ، كما أن محمدا جاء بكلام من عند الله ، و ذلك في أوجه :
أولا : أن هذا التفسير الذي قال به الدكتور الفاضل = غير مقبول عقلا ، فالدعوى هي نبوة محمد × ، و المشركون يرفضون نبوته و يطعنون فيما جاء به بأنه كلام افتراه و تقوله ، فكيف يتحداهم بما طالبوا إقامة الدليل عليه ، هذه مصادرة على المطلوب ، و يلزم منها الدور ، و هو باطل عقلا ، فلو قال مشرك للنبي × جدلا على تفسيركم : دعواك أن هذا الكلام من عند الله = محض دعوى عارية عن البرهان ، فما برهانك على صحة دعواك ؟ ، فقال له : إيت بسورة من عند الله – على تفسيركم للمثلية – فسيقول المشرك : هذا مصادرة على المطلوب ، فأنا لم أدع ذلك حتى أطالب بأن آتي بكلام أنسبه إلى الله ، فالمطالب بذلك هو المدعي ، و هذا بين .
فالقائل :إن كلامي هذا من عند الله هو قائل بنوته و انه نبي الله .
و الدكتور بقوله هذا جعل الدعوى – دعوى النبوة - جزءا من الدليل ، كما فعل الأشاعرة في تعريفهم للمعجزة .
و هذا القول قال عنه شيخ الإسلام إنه خلاف الكتاب و الإجماع ؛ بل خلاف قول العقلاء جميعا .
فالمعارضة على رأي الدكتور لا تكون إلا مقترنة بدعوى النبوة و هي أنه كلام من عند الله ، قال شيخ الإسلام في النبوات 1/538 : (فلو أتوا بمثل القرآن من غير دعوى النبوة لم يكونوا عارضوه وهذا خلاف ما في القرآن وخلاف ما أجمع المسلمون بل العقلاء ).(1/23)
بل قال رحمه الله في معرض رده لمعتقد الأشاعرة في تعريفهم للمعجزة : (الوجه الثالث المعارضة بالمثل أن يأتي بحجة مثل حجة النبي وحجته عندهم مجموع دعوى النبوة والاثبات بالخارق فيلزم على هذا أن تكون المعارضة بأن يدعي غيره النبوة ويأتي بالخارق وعلى هذا فليست معارضة الرسول بأن يأتوا بالقرآن أو عشر سور أو سورة بل أن يدعي أحدهم النبوة ويفعل ذلك وهذا خلاف العقل والنقل ولو قال الرسول لقريش لا يقدر أحد منكم أن يدعي النبوة ويأتي بمثل القرآن وهذا هو الآية وإلا فمجرد تلاوة القرآن ليس آية بل قد يقرأه المتعلم له فلا تكون آيه لأنه لم يدع النبوة ولو ادعاها لكان الله ينسيه إياه أو يقيض له من يعارضه كما ذكرتم لكانت قريش وسائر العلماء يعلمون أن هذا باطل ) ( النبوات 1/490).
ثانيا : يقال للدكتور الفاضل : لو كان مناط التحدي في المثلية هو نسبة ذلك إلى الله = فلم افترق القرآن عن باقي الكتب السماوية ، لم كان التحدي بالقرآن خاص بمحمد دون باقي الأنبياء ؟ مع أنهم شاركوه في أصل التلقي بالوحي ؟؟
كان المفترض على رأيكم أن تتساوى الكتب السماوية في ذلك ، و أن يتحدى كل نبي قومه بما أوحي إليه !!
و كلام رسول الله بين في هذا ، قال ×: " ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " و الحديث في الصحيحين .
فالتوراة و الإنجيل و الزبور كذلك من الوحي المنزل ، فلم خصه الله بالتحدي دون باقي آياته الأخرى .
قال ابن تيمية : (بل لم ينقل عنه التحدي إلا في القرآن خاصة ولا نقل التحدي عن غيره من الأنبياء مثل موسى والمسيح وصالح ) النبوات 1/541 .(1/24)
و قال رحمه الله 2/793-794 في رده على الأشاعرة في تعريفهم اشتراطهم للمعجزة دعوى النبوة : (منها : أنهم جعلوا المدلول عليه وهو إخبار النبي بنبوته وشهودها وثبوتها جزءا من الدليل ) و قال : ( وأيضا فإن عامة معجزات الرسول لم يكن يتحدى بها ويقول : ائتوا بمثلها ، والقرآن إنما تحداهم لما قالوا : إنه افتراه ، ولم يتحدهم به ابتداء وسائر المعجزات لم يتحد بها ، وليس فيما نقل تحد إلا بالقرآن ؛ لكن قد علم أنهم لا يأتون بمثل آيات الانبياء ).
و على قول الدكتور الفاضل : لو كان القرآن نزل على قلب محمد و تحداهم على أن يأتوا بمثله من غير دعواه النبوة = لأمكن الإتيان بمثله ؛ إذ لم ينسبه إلى الله و لم يدع نبوة بعدُ .
و هذا من أبطل الباطل ، و لذا كان هذا القول هو سبب ضلال طوائف كثيرة في باب النبوة ، و قد أفاض شيخ الإسلام في نقض شبهاتهم في كتابه العظيم النبوات ، فارجع إليه ؛ فإنه لولا خشية الإطالة لنقلت لك ما يظهر لك تطابق القولين .
يقول الجويني و هو من أئمة الأشاعرة : ( إن المعجزة لا تدل لعينها و إنما لتعلقها بدعوى النبي و الرسالة ) الإرشاد ص 319
و قال الشهرستاني : ( إذا لم يدع الكاذب النبوة فلا محذور و لا مانع من ظهور الخوارق ) نهاية الإقدام ص 434 .
و لذلك عندهم يقع من الساحر و الكاذب و الدجال ما يقع من الأنبياء و أكثر إلا أنها من غير اقتران بدعوى النبوة .
قال ابن تيمية ) :و لهذا يقيم أكابر فضلائهم مدة يطلبون الفرق بين المعجزات و السحر فلا يجدون فرقا ؛ إذ لا فق عندهم في نفس الأمر ) النبوات 2/798.
ثالثا : يقال على تفسيركم للمثلية هنا ، لم تتبعوا في هذا المعاني اللغوية التي تطلق عليها المثلية ، فلا أعرف أحدا سبقكم إلى تفسيركم المذكور ، و فسر المثلية هنا ، بوحدة المصدر و المنشأ .
فلا السياق القرآني في الآيات يدل عليه ، و لا الدلالة اللغوية لكلمة المثل .(1/25)
فالسياق القرآني بين واضح جلي ، فالمشركون يقولون عن اللفظ القرآني المتلو عليهم : إنه مفترى ، و هو قول محمد×، فالاعتراض على شيء ظاهر و هو القرآن ، فهم لا يسلمون للنبي أنه كلام الله ، فجاءت الآيات مطالبة إياهم بالإتيان بمثله ، أي : بكلام مثله .
فالمثلية هنا في الكلام لا في المصدر ، و هذا لا يختلف فيه .
و قد سقت كلام أئمة التفسير بما لا مجال لإعادته .
رابعا : معلوم أن دعوى النبوة في محل اعتراض المشركين ، و المدعي مطالب بإقامة الحجة عليها لا العكس .
و المسألة هكذا صورتها : حصلت دعوى الرسول في رسالته و نبوته ، ثم جاءت المطالبة من المشركين له بإثبات ذلك ، فجاء بالدليل المبرهن و المبين لصحة نبوته ، وهو القرآن ، فكذبوا الدليل : و أن الكلام هو كلامه اختلقه و افتراه ، وليس كلام الله ، فحينئذ جاء التحدي بأن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بعضه ، فلو كان هذا بمقدور البشر ، فليستعينوا بمن شاؤوا من الجن والإنس ، فلم يفعلوا و هذا كافٍ في إثبات نبوته فكيف إذا انضاف إلى هذا الإخبار بأنه لن يفعلوا في المستقبل ؛ " فهذا لا يقدم عليه ويخبر به إلا عن علم لا يخالجه شك مستند إلى وحي من الله تعالى " .
قال شيخ الإسلام : ( وهؤلاء جعلوا من جملة الدليل :دعوى النبوة ،والاحتجاج به ، والتحدي بالمثل :ثلاثة أشياء ، وهذه الثلاثة هي أجزاء الدليل .
ودعوى النبوة هو الذي تقام عليه البينة والذي تقام عليه الحجة ليس هو جزءا من الحجة ) النبوات 1/542.
و التحدي جاء بعد دعوى افترائه .
قال شيخ الإسلام : ( و الله تعالى لم يقل {فليأتوا بحديث مثله } إلا حين قالوا : افتراه) النبوات 1/605.
خامسا : لو كان التحدي محصورا في دعوى النبوة و أنه كلام من عند الله لكان كافيا في إثبات عجزهم التحدي بآية واحدة .(1/26)
فلو قرأ عليهم آية من كتاب الله و نسبها إلى الله و تحداهم في الإتيان بمثلها من عند الله لكان كافيا في إثبات عجزهم على حد تفسيركم المذكور ، فلما لم يحصل ذلك = دل على بطلان تفسيركم للمثلية بمثلية الوحي .
سادسا : أن التفسير المذكور منكم يلزم منه أن لا يكون القرآن معجزا في نفسه ؛ لأن قولكم بالإعجاز تابع لتفسيركم لمناط التحدي ، و ما ذكرتموه من أنكم تقولون بالإعجاز ينافي تفسيركم لمناط التحدي ، فعل أيِّ شيء بنيتم إعجازه ما دمتم لا ترون التحدي في نفس الكلام ، بل في مصدره و هو الوحي .
سابعا : أن محل التحدي جاء مصرحا – كما أشرت قبل – في الآيات بأنه في القرآن ، فقال تعالى{ وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} .
فالمشار إليه في الآيات هو هذا القرآن ، و طلب الإتيان بالمثل = كان به كلِّه ، أو بسور أو بسورة منه ، و كلها دالة على أن المماثلة المطلوبة في شيء ظاهر لا شيء خفي ، ثم إنه طالبهم بالاستعانة في ذلك بمن يستطيعون ، و في هذا دلالة على أن مثله ليس في مقدور فرد معارضته ؛ و لا كذلك في مقدور جميع الثقلين ؛ و لو كان التحدي في دعوى نسبته إلى الله = لكان هذا مقدورا لكل أحد ، كما فعل مسليمة الكذاب .
فصنيعه منتقض – مع أنه نسبه إلى الله – لكن لم يكن أبدا مثل كلام الله في لفظه و معناه و نظمه ، و لهذا كانت عبارة الصديق دقيقة المعنى و اللفظ حيث قال : ((إن هذا كلام لم يخرج من إِلٍّ ، أي : من ربٍّ )) .
و لم يقل : لم ينسبه إلى الله ، أو لم يدع أنه كلام الله ؛ لأن الواقع يدل على خلافه ، و أن مسليمة زعم أنه وحي من الله إليه .
تلكم هي أوجه بطلانه ، و هناك غيرها ، لكن فيما ذكرت كفاية .
و قبل الختام أسلط الضوء عن بيان مواقع الإعجاز في الكلام الإلهي الخالد(1/27)
فأقول : إن العلماء المتقدمين منهم و المتأخرين لما خاضوا في غمار البحث عن موقع الإعجاز في كتاب الله إنما كان دافعهم إلى ذلك معرفة ما الذي أعجز الكفار بل الثقلين عن الإتيان بمثل كلام الله .
فإنه لما جاء التحدي الإلهي في الإتيان بمثل سورة من كلامه أو سور منه أو بمثله كله = عجزت الخليقة كلها – وحق لها أن تعجز ؛ لأن المتحدى به هو كلام الله – حينئذ لجأ العلماء إلى البحث في أثر هذا التحدي و محله في كتاب الله .
و هي المميزات التي تميز بها هذا الكلام الإلهي و خالف بها سائر الكلام .
و لقد وقفت على كلام كثير لشيخي الإسلام ابن تيمية و ابن القيم في قضية الإعجاز و مواقعه في كتاب الله =رأيت أنه يحسن بي سياقها .
قال شيخ الإسلام : (( وكون القرآن أنه معجزة ليس هو من جهة فصاحته وبلاغته فقط ، أو نظمه وأسلوبه فقط ، ولا من جهة إخباره بالغيب فقط ، ولا من جهة صرف الدواعي عن معارضته فقط ، ولا من جهة سلب قدرتهم على معارضته فقط ، بل هو آية بينة معجزة من وجوه متعددة :
1 -من جهة اللفظ ، 2- ومن جهة النظم 3 - ومن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى 4 - ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته وغير ذلك
5 – و من جهة معانيه التي أخبر بها عن الغيب الماضي وعن الغيب المستقبل 6 - ومن جهة ما أخبر به عن المعاد 7 - ومن جهة ما بين فيه من الدلائل اليقينية والأقيسة العقلية التي هي الأمثال المضروبة كما قال تعالى { ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا} و قال تعالى{ ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} وقال {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون} .
و كل ما ذكره الناس من الوجوه في إعجاز القرآن هو حجة على إعجازه ولا تناقض في ذلك ، بل كل قوم تنبهوا لما تنبهوا له.(1/28)
ومن أضعف الأقوال قول من يقول من أهل الكلام إنه معجز بصرف الدواعي مع تمام الموجب لها أو بسلب القدرة التامة أو بسلبهم القدرة المعتادة في مثله سلبا عاما مثل قوله تعالى لزكريا {آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا} و هو أن الله صرف قلوب الأمم عن معارضته مع قيام المقتضي التام ؛ فإن هذا يقال على سبيل التقدير والتنزيل ، وهو أنه إذا قدر أن هذا الكلام يقدر الناس على الإتيان بمثله فامتناعهم جميعهم عن هذه المعارضة مع قيام الدواعي العظيمة إلى المعارضة = من أبلغ الآيات الخارقة للعادات بمنزلة من يقول : إني آخذ أموال جميع أهل هذا البلد العظيم وأضربهم جميعهم وأجوِّعهم وهم قادرون على أن يشكوا إلى الله أو إلى ولي الأمر وليس فيهم مع ذلك من يشتكي = فهذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة .
ولو قدِّر أن واحدا صنف كتابا يقدر أمثاله على تصنيف مثله أو قال شعرا يقدر أمثاله أن يقولوا مثله وتحداهم كلهم فقال : عارضوني وإن لم تعارضوني فأنتم كفار مأواكم النار ودماؤكم لي حلال = امتنع في العادة أن لا يعارضه أحد ، فإذا لم يعارضوه = كان هذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة .
والذي جاء بالقرآن قال للخلق كلهم : أنا رسول الله إليكم جميعا ، ومن آمن بي دخل الجنة ومن لم يؤمن بي دخل النار ، وقد أبيح لي قتل رجالهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم ووجب عليهم كلهم طاعتي ، ومن لم يطعني كان من أشقى الخلق ، ومن آياتي هذا القرآن ، فإنه لا يقدر أحد على أن يأتي بمثله ، و أنا أخبركم أن أحدا لا يأتي بمثله.
فيقال : لا يخلو ؛ إما أن يكون الناس قادرين على المعارضة أو عاجزين.(1/29)
فإن كانوا قادرين ولم يعارضوه ، بل صرف الله دواعي قلوبهم ومنعها أن تريد معارضته مع هذا التحدي العظيم أو سلبهم القدرة التي كانت فيهم قبل تحديه - فإن سلب القدرة المعتادة أن يقول رجل: معجزتي أنكم كلكم لا يقدر أحد منكم على الكلام ولا على الأكل والشرب فإن المنع من المعتاد كإحداث غير المعتاد - = فهذا من أبلغ الخوارق.
و إن كانوا عاجزين =ثبت أنه خارق للعادة .
فثبت كونه خارقا على تقدير النقيضين النفي والإثبات ، فثبت أنه من العجائب الناقضة للعادة في نفس الأمر .
فهذا غاية التنزل ؛ وإلا فالصواب المقطوع به أن الخلق كلهم عاجزون عن معارضته لا يقدرون على ذلك ولا يقدر محمد نفسه من تلقاء نفسه على أن يبدل سورة من القرآن بل يظهر الفرق بين القرآن وبين سائر كلامه لكل من له أدنى تدبر كما قد أخبر الله به في قوله { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} .
وأيضا فالناس يجدون دواعيهم إلى المعارضة حاصلة ، لكنهم يحسون من أنفسهم العجز عن المعارضة ولو كانوا قادرين لعارضوه .
وقد انتدب غير واحد لمعارضته لكن جاء بكلام فضح به نفسه وظهر به تحقيق ما أخبر به القرآن من عجز الخلق عن الإتيان بمثله ؛ مثل قرآن مسيلمة الكذاب ، كقوله : " يا ضفدع بنت ضفدعين نقِّي كم تنقين ، لا الماء تكدرين ، ولا الشارب تمنعين ، رأسك في الماء وذنبك في الطين ).
وكذلك أيضا يعرفون أنه لم يختلف حال قدرتهم قبل سماعه وبعد سماعه ، فلا يجدون أنفسهم عاجزين عما كانوا قادرين عليه ، كما وجد زكريا عجزه عن الكلام بعد قدرته عليه).(1/30)
و قال : ( وليس في العلوم المعتادة أن يعلم الإنسان أن جميع الخلق لا يقدرون أن يأتوا بمثل كلامه إلا إذا علم العالم أنه خارج عن قدرة البشر والعلم بهذا يستلزم كونه معجزا ، فإنا نعلم ذلك وإن لم يكن علمنا بذلك خارقا للعادة ، ولكن يلزم من العلم ثبوت المعلوم و إلا كان العلم جهلا = فثبت أنه على كل تقدير يستلزم كونه خارقا للعادة.
وأما التفصيل ، فيقال :
نفس نظم القرآن وأسلوبه عجيب بديع ليس من جنس أساليب الكلام المعروفة ، و لم يأت أحد بنظير هذا الأسلوب ، فإنه ليس من جنس الشعر ولا الرجز ولا الخطابة ولا الرسائل ، ولا نظمه نظم شيء من كلام الناس : عربهم وعجمهم .
و نفس فصاحة القرآن وبلاغته هذا عجيب خارق للعادة ، ليس له نظير في كلام جميع الخلق ، وبسط هذا وتفصيله طويل ، يعرفه من له نظر وتدبر.
ونفس ما أخبر به القرآن في باب توحيد الله وأسمائه وصفاته = أمرٌ عجيب خارق للعادة ، لم يوجد مثل ذلك في كلام بشر لا نبي ولا غير نبي .
وكذلك ما أخبر به عن الملائكة والعرش والكرسي والجن وخلق آدم وغير ذلك ، و نفس ما أمر به القرآن من الدين والشرائع كذلك ، و نفس ما أخبر به من الأمثال وبينَهُ من الدلائل هو أيضا كذلك.
و من تدبر ما صنفه جميع العقلاء في العلوم الإلهية والخلقية والسياسية - وجد بينه وبين ما جاء في الكتب الإلهية : التوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء = وجد بين ذلك وبين القرآن من التفاوت أعظم مما بين لفظه ونظمه ، و بين سائر ألفاظ العرب ونظمهم.(1/31)
فالإعجاز في معناه أعظم وأكثر من الإعجاز في لفظه ، وجميع عقلاء الأمم عاجزون عن الإتيان بمثل معانيه أعظم من عجز العرب عن الإتيان بمثل لفظه وما في التوراة والإنجيل : - ولو قدر أنه مثل القرآن - لا يقدح في المقصود ؛ فإن تلك كتب الله أيضا ، ولا يمتنع أن يأتي نبي بنظير آية نبي ، كما أتى المسيح بإحياء الموتى ، وقد وقع إحياء الموتى على يد غيره ، فكيف وليس ما في التوراة والإنجيل مماثلا لمعاني القرآن ؛ لا في الحقيقة ولا في الكيفية ولا الكمية ؟
بل يظهر التفاوت لكل من تدبر القرآن وتدبر الكتب.
وهذه الأمور من ظهرت له من أهل العلم والمعرفة ظهر له إعجازه من هذا الوجه .
ومن لم يظهر له ذلك اكتفى بالأمر الظاهر الذي يظهر له ولأمثاله ؛ كعجز جميع الخلق عن الإتيان بمثله مع تحدي النبي وإخباره بعجزهم ؛ فإن هذا أمر ظاهر لكل أحد .
ودلائل النبوة من جنس دلائل الربوبية ، فيها الظاهر البين لكل أحد كالحوادث المشهودة مثل خلق الحيوان والنبات والسحاب وإنزال المطر وغير ذلك وفيها ما يختص به من عرفه مثل دقائق التشريح ومقادير الكواكب وحركاتها وغير ذلك ، فإن الخلق كلهم محتاجون إلى الإقرار بالخالق والإقرار برسله وما اشتدت الحاجة إليه في الدين والدنيا فإن الله يجود به على عباده جودا عاما ميسرًا ....) الجواب الصحيح 5/428-435.
و انظر ما قبله أيضا في الجواب : 5/408-411 .
وقال : (وهذا التحدي والتعجيز ثابت في لفظه ونظمه ومعناه كما هو مذكور في غير هذا الموضع ) (المجموع 33/42-43).(1/32)
و قال في النبوات : (و القرآن آيته باقية على طول الزمان من حين جاء به الرسول تتلى آيات التحدي به ويتلى قوله {فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين }و {فأتوا بعشر سور مثله }و {بسورة مثله ...} و يتلى قوله {قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } فنفس إخبار الرسول بهذا في أول الأمر وقطعه بذلك مع علمه بكثرة الخلق = دليل على أنه كان خارقا يعجز الثقلين عن معارضته ، وهذا لا يكون لغير الأنبياء ، ثم مع طول الزمان ، قد سمعه الموافق والمخالف والعرب والعجم ، وليس في الأمم من أظهر كتابا يقرأه الناس ، وقال : إنه مثله ، وهذا يعرفه كل أحد ، وما من كلام تكلم به الناس و إن كان في أعلى طبقات الكلام لفظًا ومعنى إلا وقد قال الناس نظيره و ما يشبهه و يقاربه سواء كان شعرا أو خطابة أو كلاما في العلوم والحكمة والاستدلال والوعظ والرسائل وغير ذلك وما وجد من ذلك شيء إلا و وُجد ما يشبهه ويقاربه .
والقرآن مما يعلم الناس عربهم و عجمهم أنه لم يوجد له نظير، مع حرص العرب وغير العرب على معارضته ؛ فلفظه آية ونظمه آية وإخباره بالغيوب آية وأمره ونهيه آية ووعده ووعيده آية وجلالته وعظمته وسلطانه على القلوب آية .
وإذا ترجم بغير العربي = كانت معانيه آية ، كل ذلك لا يوجد له نظير في العالم .
و إذا قيل : إن التوراة والإنجيل والزبور لم يوجد لها نظير أيضا لم يضرنا ذلك ؛ فإنا قلنا إن آيات الانبياء لا تكون لغيرهم ، وإن كانت لجنس الأنبياء كالإخبار بغيب الله ، فهذه آية يشتركون فيها ...) النبوات 1/515-517 و انظر باقيه فهو مهم .
و في الختام
لقد تبين بجلاء تام أن دعوى أن مناط التحدي كان في مصدر الكلام وهو الوحي و التنزيل = دعوى عارية عن البرهان ، مخالفة للمعقول و المنقول ، بل مخالفة – كما قال شيخ الإسلام – لإجماع العقلاء .(1/33)
و للأسف الشديد فإن هذه الدعوى تصدر عن قول الأشاعرة و الماتريدية في تعريفهم للإعجاز و المعجزة ، و ينتج عنها من الباطل ما لا يوصف ، و قد ذكر شيخ الإسلام و غيره أن لازم القول بما تقوله الأشاعرة في الباب = نفي النبوة ، والله المستعان .
هذا ، و الله أسأل لي و لإخواني المسلمين التوفيق لما فيه خير الإسلام و المسلمين ، والحمد لله رب العالمين و صلواته و سلامه على سيدنا محمد و على آله و صحبه .
و كتب أبو تيمية إبراهيم بن شريف الميلي – عفا الله عنه و عن والديه و جميع المسلمين -(1/34)