" صفحة رقم 805 "
فالتفت وهو يدعو فإذا هو بطير من نحو اليمن فقال : والله إنها لطير غريبة ما هي ببحرية ولا تهامية . وفيه : أنّ أهل مكة قد احتووا على أموالهم ، وجمع عبد المطلب من جواهرهم وذهبهم الجور ، وكان سبب يساره . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سئل عن الطير فقال : حمام مكة منها . وقيل : جاءت عشية ثم صبحتهم . وعن عكرمة : من أصابته جدّرته وهو أوّل جدرى ظهر . وقرىء : ( ألم تر ) بسكون الراء للجد في إظهار أثر الجازم : والمعنى : أنك رأيت أثار فعل الله بالحبشة ، وسمعت الأخبار به متواترة ، فقامت لك مقام المشاهدة . و ) كَيْفَ ( في موضع نصب بفعل ربك ، لا بألم تر ؛ لما في ) كَيْفَ ( من معنى الاستفهام ) فِى تَضْلِيلٍ ( في تضييع وإبطال . يقال : ضلل كيده ، إذا جعله ضالاً ضائعاً . ومنه قوله تعالى : ) وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ ( ( غافر : 25 ) وقيل : لامريء القيس : الملك الضليل ؛ لأنه ضلل ملك أبيه ، أي : ضيعه ، يعني : أنهم كادوا البيت أوّلاً ببناء القليس ، وأرادوا أن ينسخوا أمره بصرف وجوه الحاج إليه ، فضلل كيدهم بإيقاع الحريق فيه ؛ وكادوه ثانياً بإرادة هدمه ، فضلل بإرسال الطير عليهم ) أَبَابِيلَ ( حزائق ، الواحدة : إبالة . وفي أمثالهم : ضغث على إبالة ، وهي : الحزمة الكبيرة ، شبهت الحزقة من الطير في تضامّها بالإبالة . وقيل : أبابيل مثل عباديد ، وشماطيط لا واحد لها ، وقرأ أبو حنيفة رحمه الله : ( يرميهم ) أي : الله تعالى أو الطير ، لأنه اسم جمع مذكر ؛ وإنما يؤنث على المعنى . وسجيل : كأنه علم لديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار ، كما أن سجيناً علم الديوان أعمالهم ، كأنه قيل : بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدوّن ، واشتقاقه من الإسجال وهو الإرسال ؛ لأنّ العذاب موصوف بذلك ، وأرسل عليهم طيراً ، فأرسلنا عليهم الطوفان . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من طين مطبوخ كما يطبخ الآجر . وقيل : هو معرب من سنككل . وقيل : من شديد عذابه ؛ ورووا بيت ابن معقل :
ضَرْباً تَوَاصَتْ بِهِ الأَبْطَالُ سِجِّيلاَ(4/805)
" صفحة رقم 806 "
وإنما هو سجينا ، والقصيدة نونية مشهورة في ديوانه ؛ وشبهوا بورق الزرع إذا أكل ، أي : وقع فيه الأكال : وهو أن يأكله الدود . أو بتبن أكلته الدواب وراثته ، ولكنه جاء على ما عليه آداب القرآن ، كقوله : ) كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ ( ( المائدة : 75 ) أو أريد : أكل حبه فبقي صفراً منه .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1343 ) ( من قرأ سورة الفيل أعفاه الله أيام حياته من الخسف والمسخ ) .
( سورة قريش )
مكية ، وآياتها 4 ( نزلت بعد التين )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) لإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنْ خوْفٍ (
قريش : ( 1 - 4 ) لإيلاف قريش
) لإِيلَافِ قُرَيْشٍ ( متعلق بقوله : ) فَلْيَعْبُدُواْ ( أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين فإن قلت : فلم دخلت الفاء ؟ قلت : لما في الكلام من معنى الشرط لأن المعنى : إما لا فليعبدوه لإيلافهم ، على معنى : أنّ نعم الله عليهم لا تحصى ، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه ، فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة . وقيل : المعنى : عجبوا لإيلاف قريش . وقيل : هو متعلق بما قبله ، أي : فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش ، وهذا بمنزلة التضمين في الشعر : وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقاً لا يصحّ إلاّ به ، وهما في مصحف أبيّ سورة واحدة ، بلا فصل . وعن عمر : أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب . وقرأ في الأولى : ( والتين ) . والمعنى أنه أهلك الحبشة الذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك ، فيتهيبوهم زيادة تهيب ، ويحترموهم فضل احترام ، حتى ينتظم لهم الأمن في رحلتهم ، فلا يجترىء أحد عليهم ، وكانت لقريش رحلتان ؛ يرحلون في(4/806)
" صفحة رقم 807 "
الشتاء إلى اليمن ، وفي الصيف إلى الشام ، فيمتارون ويتجرون ، وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله وولاة بيته ، فلا يتعرّض لهم ، والناس غيرهم يتخطفون ويغار عليهم ، والإيلاف من قولك : آلفت المكان أولفه إيلافاً : إذا ألفته ، فأنا مألف . قال : مِنَ الْمُؤَلِفَاتِ الرَّهْوِ غَيْرِ الأوَالِكِ
وقرىء : ( لئلاف قريش ) أي : لمؤالفة قريش . وقيل : يقال : ألفته إلفاً وإلافاً . وقرأ أبو جعفر : ( لإلف قريش ) ، وقد جمعهما من قال :
زَعَمْتُمْ أَنْ إخْوَتَكُمْ قُرَيْش لَهُمْ إلْفٌ وَلَيْسَ لَكُمْ إلاَفُ
وقرأ عكرمة : ( ليألف قريش إلفهم رحلة الشتاء والصيف ) . وقريش : ولد النضر بن كنانة سموا بتصغير القرش : وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن ، ولا تطاق إلاّ بالنار . وعن معاوية أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما : بم سميت قريش ؟ قال : بدابة في البحر تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعالى . وأنشد :
وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُن الْبَحْرَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشاً
والتصغير للتعظيم . وقيل : من القرش وهو الكسب : لأنهم كانوا كسابين بتجاراتهم وضربهم في البلاد . أطلق الإيلاف ثم أبدل عنه المقيد بالرحلتين ، تفخيماً لأمر الإيلاف ، وتذكيراً بعظم النعمة فيه ؛ ونصب الرحلة بإيلافهم مفعولاً به ، كما نصب ( يتيماً ) بإطعام ، وأراد رحلتي الشتاء والصيف ، فأفرد لأمن الإلباس ، كقوله :
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ . . . . . . ;
وقرىء : ( رحلة ) بالضم : وهي الجهة التي يرحل إليها : والتنكير في ) جُوعٍ ( و ) خوْفٍ ( لشدتهما ، يعني : أطعمهم بالرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما ، وآمنهم من خوف عظيم وهو خوف أصحاب الفيل ، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم .(4/807)
" صفحة رقم 808 "
وقيل : كانوا قد أصابتهم شدّة حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة ، وآمنهم من خوف الجذام فلا يصيبهم ببلدهم . وقيل : ذلك كله بدعاء إبراهيم صلوات الله عليه . ومن بدع التفاسير : وآمنهم من خوف ، من أن تكون الخلافة في غيرهم . وقرىء : ( من خوف ) بإخفاء النون .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1344 ) ( من قرأ سورة لإيلاف قريش أعطاه الله عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها ) .
( سورة الماعون )
مكية ، ثلاث آيات الأول ، مدنية البقية ؛ وآياتها 7 ( نزلت بعد التكاثر )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (
الماعون : ( 1 - 7 ) أرأيت الذي يكذب . . . . .
قرىء : ( رأيت ) ، بحذف الهمزة ، وليس بالاختيار ؛ لأنّ حذفها مختص بالمضارع ، ولم يصحّ عن العرب : ريت ، ولكن الذي سهل من أمرها وقوع حرف الاستفهام في أوّل الكلام . ونحوه : صَاحِ هَلْ رَيْتَ أَوْ سَمِعْتَ بِرَاع
رَدَّ فِي الضَّرْعِ مَا قَرَى فِي الْحِلاَب
وقرأ ابن مسعود : ( أرأيتك ) بزيادة حرف الخطاب ، كقوله : ( أرأيتك هذا الذي(4/808)
" صفحة رقم 809 "
كرّمت عليّ ) والمعنى : هل عرفت الذي يكذب بالجزاء من هو ؟ إن لم تعرفه ) فَذَلِكَ الَّذِى ( يكذب بالجزاء ، هو الذي ) يَدُعُّ الْيَتِيمَ ( أي : يدفعه دفعاً عنيفاً بجفوة وأذى ، وبردّه ردّاً قبيحاً بزجر وخشونة . وقرىء : ( يدع ) أي : يترك ويجفو ) وَلاَ يَحُضُّ ( ولا يبعث أهله على بذل طعام المسكين ، جعل علم التكذيب بالجزاء منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف ، يعني : أنه لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد ، لخشى الله تعالى وعقابه ولم يقدم على ذلك ، فحين أقدم عليه : على أنه مكذب ، فما أشدّه من كلام ، وأما أخوفه من مقام . وما أبلغه في التحذير من المعصية وأنها جديرة بأن يستدلّ بها على ضعف الإيمان ورخاوة عقد اليقين ، ثم وصل به قوله ) فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ( كأنه قال : فإذا كان الأمر كذلك ، فويل للمصلين الذين يسهون عن الصلاة قلة مبالاة بها ، حتى تفوتهم أو يخرج وقتها ، أو لا يصلونها كما صلاها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والسلف ولكن ينقرونها نقراً من غير خشوع وإخبات ولا اجتناب لما يكره فيها : من العبث باللحية والثياب وكثرة التثاؤب والالتفات ، لا يدري الواحد منهم عن كم انصرف ، ولا ما قرأ من السور ، كما ترى صلاة أكثر من ترى الذين عادتهم الرياء بأعمالهم ومنع حقوق أموالهم . والمعنى : أن هؤلاء أحق بأن يكون سهوهم عن الصلاة التي هي عماد الدين ، والفارق بين الإيمان والكفر والرياء الذي هو شعبه من الشرك ، ومنع الزكاة التي هي شقيقة الصلاة وقنطرة الإسلام علماً على أنهم مكذبون بالدين . وكم ترى من المتسمين بالإسلام ، بل من العلماء منهم من هو على هذه الصفة ، فيا مصيبتاه . وطريقة أخرى : أن يكون ) فَذَلِكَ ( عطفاً على ) الَّذِى يُكَذّبُ ( إمّا عطف ذات على ذات ، وصفة على صفة ، ويكون جواب ) أَرَأَيْتَ ( محذوفاً لدلالة ما بعده عليه ، كأنه قيل : أخبرني ، وما تقول فيمن يكذب بالجزاء ؟ وفيمن يؤذي اليتيم ولا يطعم المسكين ؟ أنِعم ما يصنع ؟ ثم قال : ) فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ( أي : إذا علم أنه مسىء ، فويل للمصلين ، على معنى : فويل لهم ، إلا أنه وضع صفتهم موضع ضميرهم ؛ لأنهم مع التكذيب وما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة مرائين ، غير مزكين أموالهم . فإن قلت : كيف جعلت المصلين قائماً مقام ضمير الذي يكذب ، وهو واحد ؟ قلت : معناه الجمع ، لأنّ المراد به الجنس . فإن قلت : أيّ فرق بين قوله : ) عَن صَلَاتِهِمْ ( وبين قولك : ( في صلاتهم ) ؟ قلت : معنى : ( عن ) : أنهم ساهون عنها سهو ترك لها وقلة التفات إليها ؛ وذلك فعل المنافقين أو الفسقة الشطار من المسلمين . ومعنى ( في ) : أنّ السهو يعتريهم فيها بوسوسة شيطان أو حديث نفس ، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم .(4/809)
" صفحة رقم 810 "
( 1345 ) وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقع له السهو في صلاته فضلاً عن غيره ؛ ومن ثم أثبت الفقهاء باب سجود السهو في كتبهم . وعن أنس رضي الله عنه : الحمد لله على أن لم يقل في صلاتهم . وقرأ ابن مسعود : ( لاهون ) فإن قلت : ما معنى المراآة قلت : هي مفاعلة من الإراءة ، لأنّ المرائي يرى الناس عمله ، وهم يرونه الثناء عليه والإعجاب به ، ولا يكون الرجل مرائياً بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة ، فمن حقّ الفرائض الإعلان بها وتشهيرها ، لقوله عليه الصلاة السلام :
( 1346 ) ( ولا غمة في فرائض الله ) لأنها أعلام الإسلام وشعائر الدين ؛ ولأن تاركها يستحق الذمّ والمقت ، فوجب إماطة التهمة بالإظهار ؛ وإن كان تطوعاً ، فحقه أن يخفي ، لأنه مما لا يلام برتكه ولا تهمة فيه ؛ فإن أظهره قاصداً للاقتداء به كان جميلاً ، وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين ، فيثني عليه بالصلاح . وعن بعضهم : أنه رأى رجلاً في المسجد قد سجد سجدة الشكر وأطالها ، فقال : ما أحسن هذا لو كان في بيتك ؛ وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة ؛ على أن اجتناب الرياء صعب إلاّ على المرتاضين بالإخلاص . ومن ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1347 ) ( الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة المظلمة على المسح الأسود ) ) الْمَاعُونَ ( الزكاة ، قال الراعي : قِوْمٌ عَلَى الإسْلاَمِ لما يَمْنَعُوا
مَاعُونَهُمْ وِيُضَيِّعُوا التَّهْلِيلاَ(4/810)
" صفحة رقم 811 "
وعن ابن مسعود : ما يتعاور في العادة من الفأس والقدر والدلو والمقدحة ونحوها . وعن عائشة الماء والنار والملح ؛ وقد يكون منع هذه الأشياء محظوراً في الشريعة إذا استعيرت عن اضطرار ، وقبيحاً في المروءة في غير حال الضرورة .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1348 ) ( من قرأ سورة أرأيت غفر الله له إن كان للزكاة مؤديا ) .
( سورة الكوثر )
مكية ، وآياتها ثلاث ( نزلت بعد العاديات )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاٌّ بْتَرُ (
الكوثر : ( 1 ) إنا أعطيناك الكوثر
( 1349 )في قراءة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إنا أنظيناك ) بالنون . وفي حديثه ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1350 ) ( وانطوا الثبجة ) والكوثر فوعل من الكثرة وهو المفرط الكثرة . وقيل لأعرابية رجع ابنها من السفر : بم آب ابنك ؟ قالت : آب بكوثر . وقال :
وَأَنْتَ كَثِيرٌ يَا ابْنَ مَرْوَانَ طَيِّب
وَكَانَ أَبُوكَ ابْنَ الْعَقَاثِلِ كَوْثَرَا
وقيل : ( الكوثر ) نهر في الجنة . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم )(4/811)
" صفحة رقم 812 "
:
( 1351 ) أنه قرأها حين أنزلت عليه فقال : ( أتدرون ما الكوثر ؟ إنه نهر في الجنة وعدنيه ربي ، فيه خير كثير ) وروي في صفته :
( 1352 ) أحلى من العسل ، وأشدّ بياضاً من اللبن ، وأبرد من الثلج ، وألين من الزبد ؛ حافتاه الزبرجد ، وأوانيه من فضة عدد نجوم السماء . وروى :
( 1353 ) لا يظمأ من شرب منه أبداً : أول وارديه : فقراء المهاجرين : الدنسو الثياب ، الشعث الرؤوس ، الذين لا يزوجون المنعمات ، ولا تفتح لهم أبواب السدد ، يموت أحدهم وحاجته تتلجلج في صدره ، لو أقسم على الله لأبرّه ) . وعن ابن عباس أنه فسر الكوثر بالخير الكثير ، فقال له سعيد بن جبير : إن ناساً يقولون : هو نهر في الجنة ا فقال : هو من الخير الكثير . والنحر : نحر البدن ؛ وعن عطية : هي صلاة الفجر بجمع ، والنحر بمنى . وقيل : صلاة العيد والتضحية . وقيل : هي جنس الصلاة . والنحر : وضع اليمين على الشمال ، والمعنى : أعطيت ما لا غاية لكثرته من خير الدارين الذي لم يعطه أحد غيرك ، ومعطى ذلك كله أنا إلاه العالمين ، فاجتمعت لك الغبطتان السنيتان : إصابة أشرف عطاء ، وأوفره ، من أكرم معط وأعظم منعم ؛ فاعبد ربك الذي أعزّك بإعطائه ،(4/812)
" صفحة رقم 813 "
وشرفك وصانك من منن الخلق ، مراغماً لقومك الذين يعبدون غير الله ، وانحر لوجهه وباسمه إذا نحرت ، مخالفاً لهم في النحر للأوثان ( إن ) من أبغضك من قومك لمخالفتك لهم ) هُوَ الاْبْتَرُ ( لا أنت ؛ لأنّ كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أولادك وأعقابك ، وذكرك موفوع على المنابر والمنار ، وعلى لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر ، يبدأ بذكر الله ويثني بذكرك ، ولك في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف ، فمثلك لا يقال له أبتر : وإنما الأبتر هو شانئك المنسي في الدنيا والآخرة ، وإن ذكر ذكر باللعن . وكانوا يقولون : إنّ محمداً صنبور : إذا مات مات ذكره . وقيل : نزلت في العاص بن وائل ، وقد سماه الأبتر ، والأبتر : الذي لا عقب له . ومنه الحمار الأبتر الذي لا ذنب له .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1354 ) ( من قرأ سورة الكوثر سقاه الله من كل نهر في الجنة ويكتب له عشر حسنات بعدد كل قربان قربه العباد في يوم النحر أو يقربونه ) .
( سورة الكافرون )
مكية ، وهي ست آيات ( نزلت بعد الماعون ) ويقال لها ولسورة الإخلاص : المقشفشتان ، أي : المبرئتان من النفاق
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) قُلْ ياأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ (
الكافرون : ( 1 ) قل يا أيها . . . . .
المخاطبون كفرة مخصوصون قد علم الله منهم أنهم لا يؤمنون . روى أنّ رهطاً من قريش قالوا : يا محمد ، هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك : تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلاهك سنة ، فقال : ( معاذ الله أن أشرك بالله غيره ) فقالوا : فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلاهك ، فنزلت ؛ فغدا إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم فقرآها عليهم .(4/813)
" صفحة رقم 814 "
فأيسوا . ) لاَ أَعْبُدُ ( أريدت به العبادة فيما يستقبل ، لأنّ ( لا ) لا تدخل إلاّ على مضارع في معنى الاستقبال ، كما أن ( ما ) لا تدخل إلاّ على مضارع في معنى الحال ، ألا ترى أن ( لن ) تأكيد فيما تنفيه ( لا ) . وقال الخليل في ( لن ) : أنّ أصله ( لا أن ) والمعنى : لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلاهي ) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ( أي : وما كنت قطّ عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه يعني : لم تعهد مني عبادة صنم في الجاهلية ، فكيف ترجى مني في الإسلام ) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( أي : وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته . فإن قلت : فهلا قيل : ما عبدت ، كما قيل : ما عبدتم ؟ قلت : لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل المبعث ، وهو لم يكن يعبد الله تعالى في ذلك الوقت . فإن قلت : فلم جاء على ( ما ) دون ( من ) ؟ قلت : لأن المراد الصفة ، كأنه قال : لا أعبد الباطل ، ولا تعبدون الحق . وقيل : إن ( ما ) مصدرية ، أي : لا أعبد عبادتكم ، ولا تعبدون عبادتي ) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ ( لكم شرككم ، ولي توحيدي . والمعنى : أني نبيّ مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة ، فإذا لم تقبلوا مني ولم تتبعوني ، فدعونى كفافاً ولا تدعوني إلى الشرك .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1355 ) ( من قرأ سورة الكافرون فكأنما قرأ ربع القرآن وتباعدت منه مردة(4/814)
" صفحة رقم 815 "
الشياطين ، وبرىء من الشرك ويعافي من الفزع الأكبر ) .
( سورة النصر )
نزلت بمنى في حجة الوداع ، فتعد مدنية ، وهي آخر من نزل من السور
وآياتها 3 ( نزلت بعد التوبة )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوابَا (
النصر : ( 1 ) إذا جاء نصر . . . . .
) إِذَا جَاء ( منصوب بسبح ، وهو لما يستقبل . والاعلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوّة . روى أنها نزلت في أيام التشريق بمنى في حجة الوداع . فإن قلت : ما الفرق بين النصر والفتح حتى عطف عليه ؟ قلت : النصر الإغاثة والإظهار على العدوّ . ومنه : نصر الله الأرض غاثها . والفتح : فتح البلاد والمعنى نصر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على العرب أو على قريش وفتح مكة وقيل : جنس نصر الله للمؤمنين وفتح بلاد الشرك عليهم . وكان فتح مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان ، ومع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف العرب ، وأقام بها خمس عشرة ليلة ، ثم خرج إلى هوازن ، وحين دخلها
( 1356 ) وقف على باب الكعبة ، ثم قال : ( لا إلاه إلاّ الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ) ، ثم قال : ( يا أهل مكة ، ما ترون أني فاعل بكم ؟ ) قالوا : خيراً أخ كريم وابن أخ كريم ) . قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، فأعتقهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقد كان الله تعالى أمكنه من رقابهم عنوة ، وكانوا له فيئاً ، فلذلك سمى(4/815)
" صفحة رقم 816 "
أهل مكة الطلقاء ، ثم بايعوه على الإسلام ) فِى دِينِ اللَّهِ ( في ملة الإسلام التي لا دين له يضاف إليه غيرها ) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ( ( آل عمران : 85 ) . ) أَفْوَاجاً ( جماعات كثيفة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعد ما كانوا يدخلون فيه واحداً واحداً واثنين اثنين . وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه :
( 1357 ) أنه بكى ذات يوم ، فقيل له . فقال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( دخل الناس في دين الله أفواجا وسيخرجون منه أفواجا ) وقيل : أراد بالناس أهل اليمن . وقال أبو هريرة :
( 1358 ) لما نزلت قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الله أكبر جاء نصر الله والفتح ، وجاء أهل اليمن : قوم رقيقة قلوبهم ، الإيمان يمان ، والفقه يمان ، والحكمة يمانية ) وقال :
( 1359 ) أجد نفير ربكم من قبل اليمن ) . وعن الحسن : لما فتح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مكة أقبلت العرب بعضها على بعض ، فقالوا : أما إذ ظفر بأهل الحرم فليس به يدان ، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل وعن كل من أرادهم ، فكانوا يدخلون في الإسلام(4/816)
" صفحة رقم 817 "
أفواجاً من غير قتال . وقرأ ابن عباس : فتح الله والنصر . وقرىء : ( يدخلون ) على البناء للمفعول . فإن قلت : ما محل يدخلون ؟ قلت : النصب إما على الحال ، على أن رأيت بمعنى أبصرت أو عرفت . أو هو مفعول ثانٍ على أنه بمعنى علمت ) فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ ( فقل سبحان الله : حامداً له ، أي : فتعجب لتيسير الله ما لم يخطر ببالك وبال أحد من أن يغلب أحد من أهل الحرم ، واحمده على صنعه . أو : فاذكره مسبحاً حامداً ، زيادة في عبادته والثناء عليه ، لزيادة إنعامه عليك . أو فصل له . روت أمّ هانيء :
( 1360 ) أنه لما فتح باب الكعبة صلى صلاة الضحى ثماني ركعات ، وعن عائشة :
( 1361 ) كان عليه الصلاة والسلام يكثر قبل موته أن يقول : ( سبحانك اللهم وبحمدك ، أستغفرك وأتوب إليك ، والأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر بما هو قوام أمر الدين : من الجمع بين الطاعة والاحتراس من المعصية ، ليكون أمره بذلك مع عصمته لطفاً لأمته ، ولأنّ الاستغفار من التواضع لله وهضم النفس ، فهو عبادة في نفسه . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1362 ) ( إني لأستغفر في اليوم والليلة مائة مرة ) وروي :(4/817)
" صفحة رقم 818 "
( 1363 ) أنه لما قرآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه استبشروا وبكى العباس ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما يبكيك يا عم ) ؟ قال : نعيت إليك نفسك . قال : ( إنها لكما تقول ) فعاش بعدها سنتين لم ير فيهما ضاحكاً مستبشراً ، وقيل :
( 1364 ) إن ابن عباس هو الذي قال ذلك ؛ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لقد أوتي هذا الغلام علماً كثيراً ) وروي :
( 1365 ) أنها لما نزلت خطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين لقائه ، فاختار لقاء الله ، فعلم أبو بكر رضي الله عنه ، فقال : فديناك بأنفسما وأموالنا وآبائنا وأولادنا .
( 1366 ) وعن ابن عباس أن عمر رضي الله عنهما كان يدينه ويأذن له مع أهل بدر ، فقال عبد الرحمن : أتأذن لهذا الفتى معنا وفي آبائنا من هو مثله ؟ فقال إنه ممن قد علمتم . قال ابن عباس : فأذن لهم ذات يوم ، وأذن لي معهم ، فسألهم عن قول الله تعالى : ) إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ ( ولا أراه سألهم إلاّ من أجلي ؛ فقال بعضهم : أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه ؛ فقلت : ليس كذلك ، ولكن نعيت إليه نفسه ؛ فقال عمر : ما أعلم منها إلاّ مثل ما تعلم ، ثم قال : كيف تلومونني عليه بعدما ترون ؟ وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1367 ) أنه دعا فاطمة رضي الله عنها فقال : ( يا بنتاه إنه نعيت إليّ نفسي ) ، فبكت ، فقال : ( لا تبكي ، فإنك أوّل أهلي لحوقاً بي ) . وعن ابن مسعود أنّ هذه السورة(4/818)
" صفحة رقم 819 "
تسمى سورة التوديع ) كَانَ تَوبَا ( أي : كان في الأزمنة الماضية منذ خلق المكلفين تواباً عليهم إذا استغفروا ، فعلى كل مستغفر أن يتوقع مثل ذلك .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1368 ) ( من قرأ سورة إذا جاء نصر الله أعطي من الأجر كمن شهد مع محمد يوم فتح مكة ) .
( سورة المسد )
مكية ، وآياتها 5 ( نزلت بعد الفاتحة )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (
المسد : ( 1 ) تبت يدا أبي . . . . .
التباب : الهلاك . ومنه قولهم : أشابة أم تابة ، أي : هالكة من الهرم والتعجيز . والمعنى : هلكت يداه ، لأنه فيما يروى : أخذ حجراً ليرمي به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وَتَبَّ ( وهلك كله . أو جعلت يداه هالكتين . والمراد : هلاك جملته ، كقوله تعالى : ) بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ( ( الحج : 10 ) ومعنى : ) وَتَبَّ ( : وكان ذلك وحصل ، كقوله : جَزَانِي جَزَاهُ اللَّهُ شَرَّ جَزَائِه
جَزَاءَ الْكلاَبِ الْعَاوِيَاتِ وَقَدْ فَعَلْ
ويدلّ عليه قراءة ابن مسعود : ( وقد تب ) وروي :
( 1369 ) أنه لما نزل ) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ ( ( الشعراء : 214 ) رقى الصفا(4/819)
" صفحة رقم 820 "
وقال : يا صباحاه ، فاستجمع إليه الناس من كل أوب . فقال : يا بني عبد المطلب ، با بني فهر ، إن أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلاً أكنتم مصدقيَّ ؟ قالوا : نعم ؛ قال : فإني نذير لكم بين يدي الساعة ؛ فقال أبو لهب : تباً لك ، ألهذا دعوتنا ؟ فنزلت . فإن قلت : لم كناه ، والتكنية تكرمة ؟ قلت : فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أن يكون مشتهراً بالكنية دون الاسم ، فقد يكون الرجل معروفاً بأحدهما ، ولذلك تجري الكنية على الاسم ، أو الاسم على الكنية عطف بيان ، فما أريد تشهيره بدعوة السوء ، وأن تبقى سمة له ، ذكر الأشهر من علميه ويؤيد ذلك قراءة : من قرأ يدا أبو لهب ) ، كما قيل : علي بن أبو طالب . ومعاوية بن أبو سفيان ؛ لئلا يغير منه شيء فيشكل على السامع ، ولفليتة بن قاسم أمير مكة ابنان ، أحدهما : عبد الله بالجرّ ، والآخر عبد الله بالنصب . كان بمكة رجل يقال له : عبد الله بجرّة الدال ، لا يعرف إلاّ هكذا . والثاني : أنه كان اسمه عبد العزّى ، فعدّل عنه إلى كنيته . والثالث : أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب ، وافقت حاله كنيته ؛ فكان جديراً بأن يذكر بها . ويقال : أبو لهب ، كما يقال : أبو الشر للشرير . وأبو الخير للخير ، وكما كنى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبا المهلب : أبا صفرة ، بصفرة في وجهه . وقيل : كنى بذلك لتهلب وجنتيه وإشراقهما ، فيجوز أن يذكر بذلك تهكماً به ، وبافتخاره بذلك . وقرىء : ( أبي لهب ) بالسكون . وهو من تغيير الأعلام ، كقولهم : شمس بن مالك بالضم ) مَا أَغْنَى ( استفهام في معنى الإنكار ، ومحله النصب أو نفي ) وَمَا كَسَبَ ( مرفوع . وما موصولة أو مصدرية بمعنى : ومكسوبه . أو : وكسبه . والمعنى : لم ينفعه ماله وما كسب بماله ، يعني : رأس المال والأرباح . أو ماشيته وما كسب من نسلها ومنافعها ، وكان ذا سابياء . أو ماله الذي ورثه من أبيه والذي كسبه بنفسه . أو ماله التالد والطارف . وعن ابن عباس : ما كسب ولده . وحكى أن بني أبي لهب احتكموا إليه ، فاقتتلوا ، فقام يحجز بينهم ، فدفعه بعضهم فوقع فغضب ، فقال : أخرجوا عني الكسب الخبيث ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : ( إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه ) وعن الضحاك : ما ينفعه ماله وعمله الخبيث ، يعني كيده في عداوة رسول(4/820)
" صفحة رقم 821 "
الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وعن قتادة : عمله الذي ظنّ أنه منه على شيء ، كقوله : ) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ ( ( الفرقان : 23 ) وروي أنه كان يقول : إن كان ما يقول ابن أخي حقاً فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي ( سيصلى ) قرىء : بفتح الياء وبضمها مخففاً ومشدداً ، والسين للوعيد ، أي : هو كائن لا محالة وإن تراخى وقته ) وَامْرَأَتُهُ ( هي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان ، وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعدان فتنثرها بالليل في طريق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وقيل : كانت تمشى بالنميمة ويقال : للمشاء بالنمائم المفسد بين الناس : يحمل الحطب بينهم ، أي : يوقد بينهم النائرة ويورث الشرّ . قال : مِنَ الْبِيضِ لَمْ تَصْطَدْ عَلَى ظَهْرِ لَأْمَة
وَلَمْ تَمْشِ بَيْنَ الْحَيِّ بالْحَطَبِ الرَّطْبِ
جعله رطباً ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشرّ ، ورفعت عطفاً على الضمير في ) سَيَصْلَى ( أي : سيصلى هو وامرأته . و ) فِى جِيدِهَا ( في موضع الحال ، أو على الابتداء ، وفي جيدها : الخبر . وقرىء : ( حمالة الحطب ) بالنصب على الشتم ؛ وأنا أستحب هذه القراءة وقد توسل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بجميل : من أحب شتم أم جميل . وقرىء : ( حمالة الحطب ) وحمالة للحطب : بالتنوين ، والرفع والنصب . وقرىء : ( ومريته ) بالتصغير . المسد : الذي فتل من الحبال فتلاً شديداً ، من ليف كان أو جلد ، أو غيرهما . قال : وَمَعَدٍ أُمِرَّ مِنْ أَيَانِقِ
ورجل ممسود الخلق مجدوله . والمعنى : في جيدها حبل مما مسد من الحبال ، وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون : تخسيساً لحالها ، وتحقيراً لها ، وتصويراً لها بصورة بعض الحطابات من المواهن ، لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها ؛ وهما في بيت العزّ والشرف . وفي منصب الثروة والجدة . ولقد غير بعض الناس الفضل بن العباس ابن عتبة ابن أبي لهب بحمالة الحطب ، فقال :
مَاذَا أَرَدْتَ إلَى شَتْمِي وَمَنْقَصَتِي أَمْ مَا تَعَيَّرُ مِنْ حَمَّالَةِ الْحَطَب(4/821)
" صفحة رقم 822 "
غَرَّاءَ شَادِخَةٍ فِي الْمَجْدِ غُرَّتُهَا
كَانَتْ سَلِيلَةَ شَيْخٍ نَاقِبِ الحَسَبِ
ويحتمل أن يكون المعنى : أنّ حالها تكون من نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك ؛ فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم أو من الضريع وفي جيدها حبل من ما مسد من سلاسل النار ؛ كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه .
وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1370 ) ( من قرأ سورة تبت رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة ) .
( سورة الإخلاص )
مكية ، وقيل : مدنية ، وآياتها 4 ( نزلت بعد الناس
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (
الإخلاص : ( 1 - 4 ) قل هو الله . . . . .
) هُوَ ( ضمير الشأن ، و ) اللَّهُ أَحَدٌ ( هو الشأن ، كقولك : هو زيد منطلق ، كأنه قيل : الشأن هذا ، وهو أن الله واحد لا ثاني له . فإن قلت : ما محل هو ؟ قلت : الرفع على الابتداء والخبر الجملة . فإن قلت : فالجملة الواقعة خبراً لا بد فيها من راجع إلى المبتدإ ، فأين الراجع ؟ قلت : حكم هذه الجملة حكم المفرد في قولك : ( زيد غلامك ) في أنه هو المبتدأ في المعنى ، وذلك أن قوله : ) اللَّهُ أَحَدٌ ( هو الشأن الذي هو عبارة عنه ، وليس كذلك ( زيد أبوه منطلق ) فإن زيداً والجملة يدلان على معنيين مختلفين ، فلا بد مما يصل بينهما . وعن ابن عباس : قالت قريش : يا محمد ، صف لنا ربك الذي تدعونا إليه ، فنزلت : يعني : الذي سألتموني صفه هو الله ، أحد : بدل من قوله ، الله .(4/822)
" صفحة رقم 823 "
أو على : هو أحد ، وهو بمعنى واحد ، وأصله وحد . وقرأ عبد الله وأبيّ : ( هو الله أحد ) بغير ) قُلْ ( وفي قراءة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الله أحد ) بغير ) قُلْ هُوَ ( وقال من قرأ : الله أحد ، كان بعدل القرآن . وقرأ الأعمش : ( قل هو الله الواحد ) . وقرىء : ( أحد الله ) بغير تنوين : أسقط لملاقاته لام التعريف . ونحوه : وَلاَ ذَاكِراً اللَّهِ إلاّ قَلِيلاً ;
والجيد هو التنوين ، وكسره لالتقاء الساكنين . و ) الصَّمَدُ ( فعل بمعنى مفعول ، من صمد إليه إذا قصده ، وهو السيد المصمود إليه في الحوائج . والمعنى : هو الله الذي تعرفونه وتقرّون بأنه خالق السماوات والأرض وخالقكم ، وهو واحد متوحد بالإلاهية لا يشارك فيها ، وهو الذي يصمد إليه كل مخلوق ولا يستغنون عنه ، وهو الغني عنهم ) لَمْ يَلِدْ ( لأنه لا يجانس ، حتى يكون له من جنسه صاحبه فيتوالدا . وقد دلّ على هذا المعنى بقوله : ) أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ ( ( الأنعام : 101 ) . ) وَلَمْ يُولَدْ ( لأنّ كل مولود محدث وجسم ، وهو قديم لا أوّل لوجوده وليس بجسم ولم يكافئه أحد ، أي : لم يماثله ولم يشاكله . ويجوز أن يكون من الكفاءة في النكاح ، نفياً للصاحبة : سألوه أن يصفه لهم ، فأوحى إليه ما يحتوى على صفاته ، فقوله : ) هُوَ اللَّهُ ( إشارة لهم إلى من هو خالق الأشياء وفاطرها ، وفي طيّ ذلك وصفه بأنه قادر عالم ؛ لأنّ الخلق يستدعي القدرة والعلم ، لكونه واقعاً على غاية إحكام واتساق وانتظام . وفي ذلك وصفه بأنه حي سميع بصير . وقوله : ) أَحَدٌ ( وصف بالوحدانية ونفي الشركاء . وقوله : ) الصَّمَدُ ( وصف بأنه ليس إلاّ محتاجاً إليه ، وإذا لم يكن إلاّ محتاجاً إليه : فهو غني . وفي كونه غنياً مع كونه عالماً : أنه عدل غير فاعل للقبائح ، لعلمه بقبح القبيح وعلمه بغناه عنه . وقوله : ) لَمْ يُولَدْ ( وصف بالقدم والأوّلية . وقوله : ) لَمْ يَلِدْ ( نفي للشبه والمجانسة . وقوله : ) وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ( تقرير لذلك وبت للحكم به ، فإن قلت : الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم ،(4/823)
" صفحة رقم 824 "
وقد نصّ سيبويه على ذلك في كتابه ، فما باله مقدّماً في أفصح كلام وأعربه ؟ قلت : هذا الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات الباري سبحانه ؛ وهذا المعنى مصبه ومركزه هو هذا الظرف ، فكان لذلك أهم شيء وأعناه ، وأحقه بالتقدم وأجراه . وقرىء : ( كفؤاً ) بضم الكاف والفاء . وبضم الكاف وكسرها مع سكون الفاء : فإن قلت : لم كانت هذه السورة وعدل القرآن كله على قصر منها وتقارب طرفيها ؟ قلت : لأمر ما يسود من يسود ، وما ذاك إلا لاحتوائها على صفات الله تعالى وعدله وتوحيده ، وكفى دليلاً من اعتراف بفضلها وصدق بقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيها : إنّ علم التوحيد من الله تعالى بمكان ، وكيف لا يكون كذلك والعلم تابع للمعلوم : يشرف بشرفه ، ويتضع بضعه ؛ ومعلوم هذا العلم هو الله تعالى وصفاته ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ، فما ظنك بشرف منزلته وجلالة محله ، وإنافته على كل علم ، واستيلائه على قصب السبق دونه ؛ ومن ازدراه فلضعف علمه بمعلومه ، وقلة تعظيمه له ، وخلوه من خشيته ، وبعده من النظر لعاقبته . اللهم احشرنا في زمرة العالمين بك العاملين لك ، القائلين بعدلك وتوحيدك ، الخائفين من وعيدك . وتسمى سورة الأساس لاشتمالها على أصول الدين ، وروى : أبيّ وأنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1371 ) ( أسست السماوات السبع والأرضون السبع على قل هو الله أحد ) يعني ما خلقت إلاّ لتكون دلائل على توحيد الله ومعرفة صفاته التي نطقت بها هذه السورة . عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1372 ) أنه سمع رجلاً يقرأ : قل هو الله أحد فقال : ( وجبت ) . قيل : يا رسول الله وما وجبت ؟ قال : ( وجبت له الجنة ) .(4/824)
" صفحة رقم 825 "
( سورة الفلق )
مكية ، وقيل : مدنية وآياتها 5 ( نزلت بعد الفيل )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (
الفلق : ( 1 ) قل أعوذ برب . . . . .
الفلق والفرق : الصبح ، لأنّ الليل يفلق عنه ويفرق : فعل بمعنى مفعول . يقال في المثل : هو أبين من فلق الصبح ، ومن فرق الصبح . ومنه قولهم : سطع الفرقان ، إذا طلع الفجر . وقيل : هو كل ما يفلقه الله ، كالأرض عن النبات ، والجبال عن العيون ، والسحاب عن المطر ، والأرحام عن الأولاد ، والحب والنوى وغير ذلك . وقيل : هو واد في جهنم أواجب فيها من قولهم لما اطمأن من الأرض ، الفلق ، والجمع : فلقان . وعن بعض الصحابة أنه قدم الشأم فرأى دور أهل الذمّة وما هم فيه من خفض العيش وما وسع عليهم من دنياهم ، فقال : لا أبالى ، أليس من ورائهم الفلق ؟ فقيل : وما الفلق ؟ قال : بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدّة حرّه ) مِن شَرّ مَا خَلَقَ ( من شر خلقه . وشرّهم : ما يفعله المكلفون من الحيوان من المعاصي والمآثم ، ومضارة بعضهم بعضاً من ظلم وبغي وقتل وضرب وشتم وغير ذلك ، وما يفعله غير المكلفين منه من الأكل والنهس واللذع والعضّ كالسباع والحشرات ، وما وضعه الله في الموات من أنواع الضرر كالإحراق في النار والقتل في السم . والغاسق : الليل إذا اعتكر ظلامه من قوله تعالى : ) أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ ( ( الإسراء : 78 ) ومنه : غسقت العين امتلأت دمعاً ، وغسقت الجراحة : امتلأت دماً . ووقوبه : دخول ظلامه في كل شيء ، ويقال :(4/825)
" صفحة رقم 826 "
وقبت الشمس إذا غابت . وفي الحديث :
( 1373 ) لما رأى الشمس قد وقبت قال : هذا حين حلها ، يعني صلاة المغرب . وقيل : هو القمر إذا امتلأ ، وعن عائشة رضي الله عنها :
( 1374 ) أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيدي فأشار إلى القمر فقال : تعوّذي من شرّ هذا ، فإنه الغاسق إذا وقب . ووقوبه : دخوله في الكسوف واسوداده . ويجوز أن يراد بالغاسق : الأسود من الحيات : ووقبه : ضربه ونقبه . والوقب : النقب . ومنه : وقبة الثريد ؛ والتعوّذ من شرّ الليل ؛ لأن انبثاثه فيه أكثر ، والتحرّز منه أصعب . ومنه قولهم : الليل أخفى للويل . وقولهم : أغدر الليل ؛ لأنه إذا أظلم كثر في الغدر وأسند الشرّ إليه لملابسته له من حدوثه فيه ) النَّفَّاثَاتِ ( النساء ، أو النفوس ، أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقداً في خيوط وينفثن عليها ويرقين : والنفث النفخ من ريق ، ولا تأثير لذلك ، اللهم إلاّ إذا كان ثم إطعام شيء ضار ، أو سقيه ، أو إشمامه . أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه ؛ ولكن الله عزّ وجلّ قد يفعل عند ذلك فعلاً على سبيل الامتحان الذي يتميز به الثبت على الحقّ من الحشوية والجهلة من العوام ، فينسبه الحشوية والرعاع إليهنّ وإلى نفثهن ، والثابتون بالقول الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ولا يعبئون به ، فإن قلت : فما معنى الاستعاذة من شرّهن ؟ قلت : فيها ثلاثة أوجه ، أحدها : أن يستعاذ من عملهن الذي هو صنعة السحر ومن إثمهنّ في ذلك . والثاني : أن يستعاذ من فتنتهنّ الناس(4/826)
" صفحة رقم 827 "
بسحرهنّ وما يخدعنهم به من باطلهن . والثالث : أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشرّ عند نفثهن ، ويجوز أن يراد بهنّ النساء الكيادات ، من قوله : ) ءانٍ كَيْدَهُنَّ عظِيمٌ ( ( يوسف : 28 ) تشبيهاً لكيدهن بالسحر والنفث في العقد . أو اللاتي يفتن الرجال بتعرضهنّ لهم ومحاسنهنّ ، كأنهنّ يسحرنهم بذلك ) إِذَا حَسَدَ ( إذا ظهر حسده ، وعمل بمقتضاه : من بغي الغوائل للمحسود ، لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمره فلا ضرر يعود منه على من حسده ، بل هو الضارّ لنفسه لاغتمامه بسرور غيره . وعن عمر بن عبد العزيز : لم أر ظالماً أشبه بالمظلوم من حاسد . ويجوز أن يراد بشرّ الحاسد : إثمه وسماجة حاله في وقت حسده ، وإظهاره أثره . فإن قلت : قوله : ) مِن شَرّ مَا خَلَقَ ( تعميم في كل ما يستعاذ منه ، فما معنى الاستعاذة بعده من الغاسق والنفاثات والحاسد ؟ قلت : قد خص شرّ هؤلاء من كلّ شر لخفاء أمره ، وأنه يلحق الإنسان من حيث لا يعلم ، كأنما يغتال به . وقالوا : المداجي الذي يكيدك من حيث لا تشعر . فإن قلت : فلم عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه ؟ قلت : عرفت النفاثات ، لأن كل نفاثة شريرة ، ونكر غاسق ، لأنّ كل غاسق لا يكون فيه الشر ، إنما يكون في بعض دون بعض ، وكذلك كل حاسد لا يضرّ . ورب حسد محمود ، وهو الحسد في الخيرات . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :
( 1375 ) ( لا حسد إلاّ في اثنتين ) وقال أبو تمام : وَمَا حَاسِدٌ فِي المَكْرُمَاتِ بِحَاسِدِ ;
وقال :
إنَّ الْعُلاَ حَسَنٌ فِي مِثْلِهَا الْحَسَدُ ;
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :(4/827)
" صفحة رقم 828 "
( 1376 ) ( من قرأ المعوّذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تعالى كلها ) .
( سورة الناس )
مكية ، وقيل : مدنية ، وآياتها 6 ( نزلت بعد الفلق )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَاهِ النَّاسِ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (
الناس : ( 1 ) قل أعوذ برب . . . . .
قرىء : ( قل أعوذ ) بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام ، ونحوه . فخذ أربعة . فإن قلت : لم قيل ) بِرَبّ النَّاسِ ( مضافاً إليهم خاصة ؟ قلت : لأنّ الاستعاذة وقعت من شرّ الموسوس في صدور الناس ، فكأنه قيل : أعوذ من شرّ الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم ، وهو إلاههم ومعبودهم ، كما يستغيث بعض الموالى إذا اعتراهم خطب بسيدهم ومخدومهم ووالي أمرهم . فإن قلت : ) مَلِكِ النَّاسِ إِلَاهِ النَّاسِ ( ما هما من رب الناس ؟ قلت : هما عطف بيان ، كقولك : سيرة أبي حفص عمر الفاروق . بين بملك الناس ، ثم زيد بياناً بإلاه الناس ، لأنه قد يقال لغيره : رب الناس ، كقوله : ) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ ( ( التوبة : 31 ) وقد يقال : ملك الناس . وأمّا ) إِلَاهِ النَّاسِ ( فخاص لا شركة فيه ، فجعل غاية للبيان . فإن قلت : فهلا اكتفى بإظهار المضاف إليه الذي هو الناس مرّة(4/828)
" صفحة رقم 829 "
واحدة ؟ قلت : لأنّ عطف البيان للبيان ، فكان مظنة للإظهار دون الإضمار ) الْوَسْوَاسِ ( اسم بمعنى الوسوسة ، كالزلزال بمعنى الزلزلة . وأمّا المصدر فوسواس بالكسر كزلزال . المراد به الشيطان ، سمي بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه ، لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه . أو أريد ذو الوسواس . والوسوسة : الصوت الخفي . ومنه : وسواس الحلي . و ) الْخَنَّاسِ ( الذي عادته أن يخنس ، منسوب إلى الخنوس وهو التأخر كالعواج والبتات ، لما روي عن سعيد بن جبير : إذا ذكر الإنسان ربه خنس الشيطان وولى ، فإذا غفل وسوس إليه ) الَّذِى يُوَسْوِسُ ( يجوز في محله الحركات الثلاث ، فالجر على الصفة ، والرفع والنصب على الشتم ، ويحسن أن يقف القارىء على ) الْخَنَّاسِ ( ويبتدىء ) الَّذِى يُوَسْوِسُ ( على أحد هذين الوجهين ) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ( بيان للذي يوسوس ، على أن الشيطان ضربان : جنى وإنسي ، كما قال شياطين الإنس ؟ والجن وعن أبي ذر رضي الله عنه قال لرجل : هل تعوذت بالله من شيطان الإنس ؟ ويجوز أن يكون ( من ) متعلقاً بيوسوس ، ومعناه : ابتداء الغاية ، أي : يوسوس في صدروهم من جهة الجنّ ومن جهة الناس ، وقيل : من الجنّة والناس بيان للناس ، وأن اسم الناس ينطلق على الجنة ، واستدلّوا ( بنفر ) و ( رجال ) في سورة الجن . وما أحقه ؛ لأن الجن سموا ( جنا ) لاجنتنانهم ، والناس ( ناساً ) لظهورهم ، من الإيناس وهو الإبصار ، كما سموا بشراً ؛ ولو كان يقع على الناس على القبيلين ، وصحّ ذلك وثبت : لم يكن مناسباً لفصاحة القرآن وبعده من التصنع . وأجود منه أن يراد بالناس : الناسي ، كقوله : ) يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ ( ( القمر : 6 ) كما قرىء : ) مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ( ( البقرة : 199 ) ثم يبين بالجنة والناس ؛ لأنّ الثقلين هما النوعان الموصوفان بنسيان حق الله عزّ وجلّ .
وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1877 ) ( لقد أنزلت عليّ سورتان ما أنزل مثلهما ، وإنك لن تقرأ سورتين أحب(4/829)
" صفحة رقم 830 "
ولا أرضى عند الله منهما ) يعني : المعوذتين . ويقال للمعوذتين : المقشقشتان .(4/830)