القول الفصل
في
قضية الهم بين يوسف وامرأة العزيز
بقلم : محمد حامد إبراهيم سليم
إهداء
إلي نبي الله يوسف أهدي هذا الكتاب وأدعو الله أن أكون قد أصبت فيما فهمته وما كتبته وأكون قد أعطيته حقه.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، ونشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، أنزل القرآن هدى للعالمين ، وشفاءً للقلوب ، وموعظة للبشرية جميعا ، فأنار الله به قلوبا عميا ، وأسمع به آذانا صما ، وجعله نبراساً لكل إنسان ضل عن الطريق ، فإن عاد إليه وصل إلي الغاية الكبري.
وأصلي وأسلم علي المبعوث رحمة للعالمين محمد صلي الله عليه وسلم ، فإن حاولت أن أقول عنه شيئا عجز القلم عن الكتابة ، ولن أستطيع أن أقدره حق قدره بعد أن قال الله فيه في سورة القلم ? وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ٍ? القلم 4
وقد قال هو عن نفسه في مسند ألإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ?إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاقِ ٍ? ، وفي سنن البيهقي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :" إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ "
وبعد:-
هذا الكتاب هو باكورة ما كتبت وقد أخذ مني وقتا طويلا ، حوالي الست سنوات ، وذلك في البحث والدراسة لكي يخرج إلي الناس ، ولقد ترددت كثيرا في كتابتة ، لأن موضوعه قد أثار الجدل والاختلاف بين العلماء ، ومن بعدهم العامة.
وما دعاني إلي الخوض فيه ، إلا أن وجدت في نفسي الرغبة للكتابة ، وأن أضع ما فهمته وما خرجت به أمام الناس .
وقبل كل هذا استخرت الله ، وأخذت أعرض الأمر علي من يهمني رأيهم ،(1/1)
وفي نهاية الأمر توكلت علي الله ، فإن كان هناك أخطاء فأرجو الرد عليه بموضوعية ، وإنني مستعد لتقبل كل ما يقال فيه ، ومحاولة الرد على أي استفسار فيه.
فقد يسأل سائل ما دعاه إلي التفسير وهو غير مؤهل لهذا ، فأقول لست مفسرا ولا أدعيها ، ولا أحد يدعيها حتى إمامنا الشيخ محمد متولي الشعراوي ؛ كان يقول ، إنها خواطر حول القرآن الكريم.
وعلى هذا فأقول:إنها أفكار تتوالد وتتدافع لقراءتنا وتلاوتنا لكتاب الله ، وما خرجنا به بعد دراستنا وقراءتنا لما كتبه سلفنا الصالح من أئمة الفقه والتفسير ، وما وضحه لنا علماؤنا الأجلاء السابقين والمعاصرين ، فنقول ما فهمناه وما عقلناه وما استطعنا أن نخرج به من القرآن ، عسي أن ينفعنا به الله .
وهذه سمة ليست لشخص معين ، ولكنها لكل مسلم مؤمن يقرأ القرآن كثيرا بفهم وعمق ، ويقف عند كل آية يقرأها.
فإنه كلما يقرأ يجد فكرا جديدا وفهما جديدا لكل ما قرأ من القرآن الكريم ، ويفتح الله أمامه الآيات .
ويقول تبارك وتعالى في سورة الكهف ? قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَداَدًا ? الكهف 109
? وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ? لقمان 27
ولكن القرآن مفسر بذاته ، ? وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا ? إلاسراء12
? الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) ? يوسف
? وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ? القمر 17(1/2)
فإنه وبعون من الله وقدرته ، أحاول بقدر استطاعتي ، أن ألقى بعض الضوء على الآيات الخاصة بقصة سيدنا يوسف مع امرأة العزيز، وتفصيلها بعض الشئ .
وقد اعتمدت في كتابة هذا الكتاب على أمهات كتب التفسير - الطبري - القرطبي- ابن كثير- وكذا الخواطر الإيمانية لفضيلة الإمام محمد متولي الشعراوي.
وعذرا إن كنت قد أطلت بعض الشئ في ما نقلته من كتب التفسير، ثم أقول بعد ذلك ما فهمته وما استنبطته من الآيات.
وشكرا لكل من ساهم بالرأي والتوجيه حتى خرج هذا الكتاب إلى النور.
فإن كنت قد وفقت وأصبت فيما ابتغيت ، فهذا نعمة وفضل من الله تبارك وتعالى ، وما ابتغيت إلا رضوانه سبحانه وتعالى فهو نعم المولى ونعم النصير.
محمد حامد سليم
مهمة الأنبياء والرسل
يقول رب العزه في كتابه الكريم :? كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ? البقرة 213.
وقال تعالى : ? رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ? النساء (165) .
وعلى هذا فإن النبيين والمرسلين مبشرين برضوان الله تعالى لكل من وافقهم واستمع إلي رسالة الله ، وأخذ ما أرسلوا به بعين الحق ، واتبعوا أوامر الله سبحانه وتعالى.
ومنذرين لكل من خالف ما أرسلوا به بعذاب من الله في الدنيا والآخرة.(1/3)
لكن رسل الله وأنبيائه في دعوتهم يتعرضون لمواقف كثيرة صعبة ، وبعلم منه سبحانه وتعالى ، وبتقدير منه ، ثم يريهم الله كيفية الخروج من هذه المواقف ، لأنه جعلهم قدوة للبشرية تقتدي بهم في المواقف المختلفة ، ليهتدي بهم البشر، وذلك تعليما لهم.
ففي البداية ـ علم الله آدم كلمات يتوب بها إلي الله بعد غواية الشيطان له ؛
? فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ? البقرة 37.
والثانية ـ علمنا من خلال ابني آدم كيف يكون القربان إلي الله طيبا فيتقبله الله ? وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ? المائدة 27.
والثالثة ـ علمنا من خلال الغراب كيف نوارى أجسادنا التراب ? فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ? المائدة 31 .
وفى عدم الحنث باليمين ـ يعلمنا من خلال سيدنا أيوب ? وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ? ص 44.
وهكذا لجميع الأنبياء والمرسلين، فإن الله يعلمنا من خلالهم ، وما هذه إلا أمثلة(1/4)
وفى هذا الكتاب سنذكر ابتلاءً واحدا مما ابتلى به سيدنا يوسف عليه السلام ـ ألا وهى قضيه الهم التي كانت بينه وبين امرأة العزيز والتي اختلف فيها العلماء ، فيقول رب العزه ? وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ? يوسف 24.
وسنبدأ بعرض الآيات الخاصة بهذه القضية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/5)
? وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّه لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلآ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ(1/6)
مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) ?
*********(1/7)
? وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) ?
صدق الله العظيم
سوره يوسف
البداية
من الآيات السابقة ، نجد أن قصة سيدنا يوسف في مصر تبدأ بعد أن وطأت قدماه أرض مصر، وابتاعه العزيز من السيارة.
وبداية قصته مع امرأة العزيز من الآية 21 فيقول تعالى:
? وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ? يوسف (21)(1/8)
? وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ ?؛
الذي اشترى يوسف من مصر هو عزيز مصر.
ويقول ابن عباس في القرطبي: أنه وزير الملك.
ويقول ابن اسحق في ابن كثير: كان على خزائن مصر.
وعلينا أن نعرف لماذا اشتراه وعهد به إلي امرأته.
اشتراه العزيز إعجابا به لجماله وحسن صورته وصغر سنه .
وعهد به العزيز إلي امرأته ، ولم يعهد به إلي إحدى الخادمات ، أو حتى استأثر به لنفسه .
وذلك لأن العزيز لم يكن له ولد ولا يأتي النساء ، كما قالت بعض كتب التفسير.
ففي القرطبي حيث قال : قال ابن عباس: كان حصورا لا يولد له ، وكذا قال ابن إسحاق: كان لا يأتي النساء ولا يولد له وكذا قال الطبري.
ويقول الإمام الشعراوي في خواطره حول القرآن الكريم : وكان للشراء علة فهو قد اشتراه لامرأته ليقوم بخدمتها ، وكانت لا تنجب وتكثر في الإلحاح عليه في طلب العلاج ، وتقول أغلب السير أن من اشتراه كان ضعيفا من ناحية رغبته في النساء............. انتهى
وقد نميل في الرأي إلى أنه كان ضعيفا من ناحية رغبته في النساء وإلا ما كانت امرأته حاولت فعل الفاحشة مع يوسف.
كان هذا هو السبب الأول,
أما السبب الثاني: صغر سن يوسف بحيث لا يتعدى أصابع اليد الواحدة0
لأنه لو كان كبيرا لقاوم إخوته ، أو كان رفض أن يباع أو يشترى ، أو كان قال الحقيقة لمن ابتاعوه ، وكان لا يقوي على أي عمل.
ولصغر سنه هذه كان لابد من العناية به.
وعناية الصغار لا يقدر عليها إلا النساء ، لأن الله قد جعل في المرأة حنانا وعطفا واحتمالا للصغار ما يفوق الرجال ، لأن للنساء خصائصهن التي خلقها الله فيهن.(1/9)
وللرجال خصائص القوة والسعي على الرزق واحتمال مشاق هذا السعي ، فإن حاول إنسان أن يغير سنة الحياة التي فطرها الخالق ، فسدت الأرض ، حيث يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم: ? فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ? الروم 30
وعليه تجد هذه الفطرة في المخلوقات الأخرى لم تتغير، ولن تتغير، إلى أن يرث الله الأرض وما عليها ، ما لم يتدخل فيها المفسدون من البشر، كما أفسدوا عقول الجهال منهم.
ماذا قال لها ؟ قال : ? أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ?
إكرام المثوى : هو إعداد المكان الذي سيقيم فيه يوسف من مسكن و مخدع وملبس ومأكل ومشرب ، علي أن يكون لائقا به ، لأنه وبنص الآية :? عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ?: أي قد يكون ذا نفع لهم في المستقبل ، أو أن يكون لهم ابنا بديلا عن الولد الذي لم يرزقا به ، أي يتبنونه.
وهنا يقول الإمام الشعراوي :إن النفع المقصود هنا هو النفع الموصول بعاطفة من ينفع ؛ وهو غير نفع الموظفين العاملين تحت قيادة وإمرة عزيز مصر ؛ فعندما ينشأ يوسف كابن للرجل وزوجه ؛ وكإنسان تربى في بيت الرجل ؛ هنا ستختلف المسألة ؛ ويكون النفع محملا بالعاطفة التي قال عنها الرجل ? أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ? وقد علمنا من السير أنهما لم يرزقا بأولاد.......انتهى.
وعلى هذا وبالعقل والاستنباط البديهي فنعرف أن يوسف سيقيم مع امرأة العزيز ليؤنسها ويكون بمثابة الابن لها.
وبالفعل قامت امرأة العزيز بكل ما يلزم ، وأحسنت منزلة يوسف ، لأنه وقع في قلبها منذ أن رأته .
وأصبح يوسف لدى امرأة العزيز محبة له وجعلته بمثابة ابنها الذي لم تلده0(1/10)
وجد يوسف هذه العناية وهذا الاهتمام ، ووجد منها هذا الحنان وهذا العطف الذي حرم منه زمنا منذ أن فقد حنان الأمومة ، ثم عطف الأب بسبب غدر إخوته ، فتعلق بها وجعلها مثل أمه التي فقدها من قبل.
وأصبح يوسف متمكنا في بلاط العزيز، وأصبحت امرأة العزيز لا ترفض له طلبا ، وهذه هي بداية تمكين يوسف في أرض مصر.
? وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ ?: وعندما يقول الله ? وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا ? فإنه أمر واقع لا محالة وإن كان سيحدث في المستقبل ، من وصول يوسف إلي أعلى مراتب الحكم ، بالرغم من المواقف التي سيتعرض لها في حياته ، كما يقول تعالى في سورة النحل : ? أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ? النحل 1
? وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ ?: تأويل الأحاديث هنا كما تقول كتب التفسير: هو تعبير الرؤيا ، وهى نعمة من الله يخص بها بعضا من عباده .
ولقد خص الله بها نبيه يعقوب ، وورثها ابنه سيدنا يوسف عليهما السلام ، وكذا أبناؤه ، والدليل على هذا ، هو تحذيره لسيدنا ليوسف عندما رأى رؤيته :? قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ للإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ? يوسف 5.
وهذا يؤكد أن أبناء يعقوب كانوا يعرفون تعبير الرؤيا أيضا ، ولكن يوسف يختلف عن إخوته في أن الله أورثه النبوة عن أبيه.
ولكن تأويل الأحاديث ، في هذه الآية كما أفهمها ، وقد أكون مصيبا في فهمي هذا أو أكون مخطئا:
هو فهم معاني لغة أهل مصر الفرعونية ، لأن لغته الأصلية هي اللغة العبرانية، وهو كان صغيرا ولا يجيد غيرها لغة.
وسيسألني سائل ما دليلك على هذا ، أقول له: لو أنه تعلم تعبير الرؤيا في مصر، لكان أولى بمن علموه ، أن يعبروا رؤيا الملك .(1/11)
ولكنهم قالوا عندما سئلوا : ? قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ? يوسف 44 ، أي أنهم يجهلون تعبير الرؤيا0
أو أن الله قد كشف له بعضا من الغيب ، كما يقول في الآية 37 لصاحبي السجن : ? قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ? يوسف 37. والله أعلم.
?وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ? أي أن الله فعال لما يريد وما يشاء ولا يرده شيء عن مراده ، أو عن شيء قد قدره ، وإذا أراد شيئا فإنما يقول له كن، ? بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ? البقرة 117 .
? إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ? النحل 40 .
? هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ? غافر 68.
ولا يمكن لمخلوق أيا كان أن يفعل شيئا على غير مراد الله ، فالكل تحت سمائه وقدره وقدرته .
? وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ? : وأكثر الناس هم من العامة ، أو ضعيفي الإيمان ، الذين يأخذون بظاهر الأعمال ، ولا يصل تفكيرهم إلي حكمة الله من كل فعل يفعله مع عبده ، من اختبارات ، وابتلاءات ، في مرحلة ما من حياتهم ، وتكون نظرتهم ضيقة وصبرهم نافذ ، ولا يعلمون أن الصبر على البلاء ، والشكر على النعمة يكون جزاؤه في مرحلة أخرى.
بلوغ الأشد
? وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ? يوسف (22)
كبر يوسف في بيت امرأة العزيز وبلغ أشده.(1/12)
وبلوغ الأشد هنا كما يقول إمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوي في خواطره حول القرآن الكريم : وبلغ أشده أي وصل إلي غايته في النضج والاستواء ومهمة الإنسان في عمارة الأرض من بداية البلوغ.
ويقول ربيعه وزيد بن أسلم و مالك بن أنس في القرطبي : الأشد بلوغ الحلم وفى ابن كثير ، ولما بلغ يوسف أشده أي استكمل عقله وتم خلقه.
? آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً? : الحكم كما يقول الإمام الشعراوي : هو الفيصل بين قضيتين متعارضتين ويقول أيضا ، إن لم يحكم هذا الأشد حكمة وعلم فيكون هناك رعونة.
ويقول القرطبي : جعلناه المتولي على الحكم فكان يحكم في سلطان الملك أي وآتيناه علما بالحكم ، وقيل الحكم والنبوة، والعلم علم الدين ، وقيل علم الرؤيا0
ويقول ابن كثير في تفسيره ، يعنى النبوة أنه حباه بها بين أولئك الأقوام.
ومن هنا نقول والله المستعان :
? آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً? : أي آتاه الله الحكمة والنبوة ورجاحة العقل الذي يفكر قبل أن ياتى أي فعل ، ويزن الأمور بميزان دقيق ويختار الأصلح منها ، وليس بميزان الطيش ، أو العاطفة ، أو النزوة ، أو المصلحة الشخصية ، أو ميزان الهوى.
وعلينا أن نقرأ الآية ونتدبرها جيدا :? وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ? : فنجد أن الحق سبحانه قد سبق بالحكم قبل العلم ، أي آتاه رجاحة العقل أولا ليحكم بين الأمور، وليميز بين القضايا المتعارضة ، ليختار ما يناسب أوامر الله سبحانه وتعالى ، ويبتعد عما نهى الله عنه.
ثم بدأ الله في تعليمه ، لأنه إن لم يكن هناك عقل راجح متحكم في تصرفات العبد ، فإن العلم الذي سيتعلمه سيكون بلا فائدة ، فكم من أساتذة وعلماء ليس لديهم رجاحة العقل المستنير، فيستخدمون علمهم في مالا يفيد وقد يضر ومنهم من يستخدم مكانته العلمية أو ما تعلمه للإضرار والإفساد ، وهنا يسقط المتعلم الأهوج.(1/13)
وهنا أيضا عندما يؤتى الله الحكم لسيدنا يوسف ، فإنما يعده ويؤهله لما سيتعرض له في المرحلة المقبلة من حياته ، من فتنة امرأة العزيز، ثم فتنة النسوة، ثم السجن ، والحكم بعد ذلك.
? وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ?:
يقول الإمام الشعراوي : كل إنسان يحسن ما أدى من عمل يجزيه الله.
ويقول الطبري و القرطبي:? وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ? أي المؤمنين وقيل الصابرين على النوائب.
ويقول ابن كثير:? وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ? أي أنه كان محسنا في عمله عاملا بطاعة الله تعالى.
المراودة
?وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ? يوسف (23)
يقول الإمام الشعراوي في خواطره :
المراودة :هي مطالبة برفق ولين في خداع يستر ما تريده ممن تريده ، أي طالبته بلين ورفق في أسلوب يخدع ليتحرر مما هو فيه إلي ما تطلبه .
غلقت:الحدث يبالغ فيه إما لقوة الحدث أو لتكرار الحدث.
مَعَاذَ اللَّهِ : أنت لا تستغيث إلا إذا خارت قواك .
ويقول الطبري في تفسيره:
يقول تعالى ذكره: وراودت امرأة العزيز- وهي التي كان يوسف في بيتها -عن نفسه أن يواقعها ، وعن السدي ? وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ ٍ? قال أحبته.
: وقوله: ? وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ ? يقول: وغلقت المرأة أبواب البيوت ، عليها وعلى يوسف لما أرادت منه وراودته عليه ، بابا بعد باب.
وقوله: ? قَالَ مَعَاذَ اللّهِ ? يقول جل ثناؤه: قال يوسف إذ دعته المرأة إلي نفسها وقالت له هلم إلى: اعتصم بالله من الذي تدعوني إليه وأستجير به منه .
وقوله: ?إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ? يقول: إن صاحبك وزوجك سيدي .(1/14)
وقوله: ? أَحْسَنَ مَثْوَايَ ? يقول: أحسن منزلتي وأكرمني وائتمنني ، فلا أخونه عن ابن إسحاق ، قال: ? أَحْسَنَ مَثْوَايَ ? أمنني على بيته وأهله .
وقوله: ? إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ? يقول: إنه لا يدرك البقاء ، ولا ينجح من ظلم ففعل ما ليس له فعله ، وهذا الذي تدعوني إليه من الفجور ظلم وخيانة لسيدي الذي ائتمنني على منزله.
القرطبي :
أصل المراودة الإرادة والطلب برفق ولين.
? وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ ?:غلق للكثير ولا يقال غلق الباب0يقال إنها سبعة أبواب غلقتها ثم دعته إلي نفسها .
? وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ? :هلم وأقبل وتعال
قوله تعالى: ? قَالَ مَعَاذَ اللّهِ ?: أي أعوذ بالله وأستجير به مما دعوتني إليه.
? إِنَّهُ رَبِّي ?: يعني زوجها ، أي هو سيدي أكرمني فلا أخونه ؛ قاله مجاهد وابن إسحاق والسدي.
ابن كثير :
أخبر تعالى عن امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها بمصر وقد أوصاها زوجها به وبإكرامه فراودته عن نفسه أي حاولته على نفسه ودعته إليها وذلك أنها أحبته حبا شديدا لجماله وحسنه وبهائه فحملها ذلك على أن تجملت له وغلقت عليه الأبواب ودعته إلي نفسها ? وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ? فامتنع من ذلك أشد الامتناع و? مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ? وكانوا يطلقون الرب على السيد الكبير أي أن بعلك ربي أحسن مثواي أي منزلي وأحسن إلي فلا أقابله بالفاحشة في أهله ? إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ? قال ذلك مجاهد........انتهى.
وعلى هذا نقول والله المستعان:
المراودة :هي عرض الشيء بأسلوب مزخرف ومزين ، فيه لين يخدع ، ويخرج المطلوب منه ، أو المعروض عليه هذا الشيء ، عن حالته الطبيعية ليلقى قبولا لدى الطرف الآخر.
وهذه هي أولى مراحل الزنا في هذه الحالة(1/15)
شب يوسف عن الطوق ، وأصبح شابا يافعا في بلاط امرأة العزيز: ? الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا ? وكان يوسف جميلا، نظرت المرأة إلي يوسف في لحظة تملكها فيها الشيطان ، وأخذت تراود نفسها أولا ، ويزين لها الشيطان فعل الفاحشة معه.
يقول الإمام الشعراوي في خواطره :
لكل عملية شعورية يتعرض لها الإنسان في الفعل ثلاثة عوامل، إدراك ، فوجدان ، فنزوع .
كان الأول امرأة العزيز تنظر إلي يوسف لجماله ولا يوجد إربة أخرى تنظر إليه فيه لكن عندما بلغ أشده أصبح الخيال يسرح في أكثر من الإدراك وهو النزوع لأنها وجدت في نفسها إعجابا به ............انتهى.
وعلى هذا: فإن العلاقة بين امرأة العزيز ويوسف مرت بمراحل غواية منها وصد منه، وسنفصلها بعض الشيء.
مراحل الغواية والصد :
المرحلة الأولى: المراودة الخفية:
يوسف شاب في بيت امرأة العزيز، وهى التي أكرمت مثواه من قبل ، ولها الفضل عليه من تربيتها له، وجعلته في بيتها، وتعامله معاملة غير معاملة العبيد في القصر ، وله ميزة عن غيره ، وتتنازعها العاطفة تجاهه ، فإن أمرته بشيء فيجب أن يطيعها .
ولكنها تعرفه ، وتعرف أخلاقه ، وحياءه ، ورجاحة عقله ، وعلمه ، فكيف سيكون الوصول إليه .
إذاً ، عليها أن تعرض الأمر عليه بمكر المرأة ودهائها ، كإشارات،وتلميحات، وإيحاءات ، لعلها تجد منه استجابة .
فلم تجد منه ما يشير إلي أنه استجاب إلي ما ترمى إليه .
إذا فماذا تفعل ؟ أخذت تنازع نفسها ، إنها تريده ، وبأي شكل يجب أن تناله ، والمرآة لا تحب من يتجاهلها وتحب أن تكون مطلوبة ، والتجاهل يثير ثائرتها ، وتعقد العزم وتصر على أن تنال غايتها أيا كانت ، وبأي أسلوب ، أو طريقه ، ولا ترضى بالاستسلام.
المرحلة الثانية: الغواية المكشوفة:(1/16)
قامت امرأة العزيز في هذه المرحلة بالعرض ، فقد يكون يوسف خائفا أو مترددا ، فقامت بصرف العبيد وسدنتها ، ونعرف أنه يقيم في بيتها ، وقامت بغلق الأبواب (أبواب القصر) إغلاقا محكما: ? وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ ? ، وتزينت كزينة المرأة لزوجها.
وأبرزت مفاتنها له ، لعله تنازعه نفسه ، وتتحرك أحاسيسه عندما يراها في هذه الفتنة ، ويميل إليها ، خاصة ، وأنه شاب وليست لديه خبرة الرجال في تمالك الأعصاب في مثل هذه المواقف.
ولكن خاب ظنها ، فلم ينظر إليها وتجاهلها ، بل واستحي منها .
فزاد حنق امرأة العزيز على يوسف ، فما كان منها إلا أن تدخل في المرحلة التالية.
المرحلة الثالثة: التصريح الواضح لفعل الفاحشة:
ماذا تفعل امرأة تملكها الشيطان ، في رجل لم يتحرك لكل ما سبق من أساليب المراودة والغواية ، الباطنة منها ، والمكشوفة ، فكان لابد من التصريح .
? وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ? :
أي إني قد تزينت وهيأت نفسي وتجهزت من أجلك فأنالك.
هنا أسقط في يد يوسف ، واهتز داخليا في نفسه بسبب هذا الطلب الذي لم يكن يتوقعه ، المرأة التي تربى في بيتها وأكرمته ، وهى التي كانت تلاعبه وتداعبه وهو صغير، وجعلها مثل أمه التي فقدها صغيرا ، تطلب منه هذا الطلب الفاحش.
ماذا يفعل يوسف ؟ فكان لابد من التذكير ، أي تذكير امرأة العزيز لتعود إلي رشدها.
مراحل التذكير:
المرحلة الأولى:التذكير بالله:
? قَالَ مَعَاذَ اللّهِ ? : وهى أعلى مراتب التذكير والتذكر ولا تعلوها أي مرتبة أخرى.(1/17)
أي أن الله لم يأمر بهذا الفعل الفاحش ؛ وهنا نذكر حديث رسول الله في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة: 2568 - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَوْ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِى ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ إِمَامٌ عَادِلٌ وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ كَانَ قَلْبُهُ مُعَلَّقًا بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا في اللَّهِ فَاجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ حَسَبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ". سنن الترمذي
لم تتعظ امرأة العزيز بهذا التذكير لأنها لا تؤمن برب يوسف ، فنزل درجة من درجات التذكير.
ألمرحلة الثانية: التذكير بمن رباه:
فأراد أن يذكرها بمن له الفضل عليه وعليها ، لأنها زادت في الإلحاح في طلبها ، فقال لها ? إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ?.
أي أن الذي تطلبين منى أن أخونه هو من رباني ، وعهد بي إليك ، وأكرمني وأحسن وفادتي وتربيتي ، وهو الذي قال لك: ? أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ?: فكيف تطلبين منى أن أخونه .
لكن امرأة العزيز لم تلق بالا لهذا أيضا ؛ وظلت مستمرة في طلبها الشاذ ، فنزل منزلة أخرى .
المرحلة الثالثة: التذكير بسوء العاقبة :(1/18)
? إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ?: لم يكن أمام يوسف إلا الورقة الأخيرة لديه ، فهي لم تتعظ بتذكيره لها بالله ولجوؤه إلى الله ، وأن الله لم يأمر بهذا ، وأنه لا يمكن أن يخون صاحب البيت ، فكان يجب أن يكون التذكير الأخير بشدة وغلظة لصدها ، ويذكرها بآخر ما لديه من أسباب عدم الفعل فقال لها:
? إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ?:وهو أن من يفعل هذا الفعل لا يمكن أن يفلح في الدنيا أو في الآخرة ، لأنه سيكون ظالما لنفسه أمام الله ، وللرجل الذي رباه ، ولأن الله دائما بالمرصاد لكل خوان أثيم.
وللتدليل على ذلك سنعطى مثلا :
هب أن أحدا أراد منك فعل إساءة ما إلى إنسان له فضل عليك ، وأنت مخلص لله ولهذا الرجل ، فماذا كنت ستفعل ؟
أظن أنك ستقول له أولا: اتق الله ، أو أنك ستذكره بالله.
وإذا أصر وأنت لا تريد الفعل ، ستذكره بأفضال هذا الرجل عليك .
وإذا زاد إصراره وإلحاحه أظن أنك ستوبخه وستزجره .
وهذا هو ما فعله يوسف مع امرأة العزيز .
قضية الهم
? وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ? يوسف 24.
اختلف العلماء في هم يوسف بامرأة العزيز، ولكنهم اتفقوا على هم امرأة العزيز، فقالوا إن هم امرأة العزيز هو لعمل الفاحشة .
أقوال العلماء:
الطبري :
ذكر أن امرأة العزيز لما همت بيوسف وأرادت مراودته ، جعلت تذكر له محاسن نفسه ، وتشوقه إلي نفسها .
ومعنى الهم بالشيء في كلام العرب: حديث المرء نفسه بمواقعته ، ما لم يواقع . فأما ما كان من هم يوسف بالمرأة وهمها به ، فإن أهل العلم قالوا في ذلك ما أنا ذاكره ،
حدثنا أبو كريب ، وابن وكيع ، قالا: ثنا ابن عيينة ، قال: سمع عبيد الله بن أبي يزيد ابن عباس في ? وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ? قال: جلس منها مجلس الخاتن ، وحل الهيمان.(1/19)
فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يوصف يوسف بمثل هذا وهو لله نبي؟ قيل: إن أهل العلم اختلفوا في ذلك ، فقال بعضهم: كان من ابتلى من الأنبياء بخطيئة ، فإنما ابتلاه الله بها ليكون من الله عز وجل على وجل إذا ذكرها ، فيجد في طاعته إشفاقا منها ، ولا يتكل على سعة عفو الله ورحمته .
وقال آخرون: بل ابتلاهم الله بذلك ليعرفهم موضع نعمته عليهم ، بصفحه عنهم وتركه عقوبته عليه في الآخرة .
وقال آخرون: بل ابتلاهم بذلك ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء رحمة الله ، وترك اليأس من عفوه عنهم إذا تابوا .
وأما آخرون من خالف أقوال السلف وتأولوا القرآن بآرائهم ، فإنهم قالوا في ذلك أقوالا مختلفة ، فقال بعضهم: معناه: ولقد همت المرأة بيوسف ، وهم بها يوسف أن يضربها أو ينالها بمكروه لهمها به ما أرادته من المكروه ، لولا أن يوسف رأى برهان ربه ، وكفه ذلك عما هم به من أذاها ، لا أنها ارتدعت من قبل نفسها . قالوا: والشاهد على صحة ذلك قوله: ? كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء ?
قالوا: فالسوء: هو ما كان هم به من أذاها ، وهو غير الفحشاء .
وقال آخرون منهم: معنى الكلام: ولقد همت به . فتناهى الخبر عنها ، ثم أبتدئ الخبر عن يوسف ، فقيل: وهم بها يوسف ، لولا أن رأى برهان ربه . كأنهم وجهوا معنى الكلام إلي أن يوسف لم يهم بها ، وأن الله إنما أخبر أن يوسف لولا رؤيته برهان ربه لهم بها ، ولكنه رأى برهان ربه فلم يهم بها ، كما قيل: ? وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ? النساء 83 ويفسد هذين القولين أن العرب لا تقدم جواب "لولا" قبلها ، لا تقول: لقد قمت لولا زيد ، وهي تريد: لولا زيد لقد قمت ، هذا مع خلافهما جميع أهل العلم بتأويل القرآن الذين عنهم يؤخذ تأويله.(1/20)
وأما البرهان الذي رآه يوسف فترك من أجله مواقعة الخطيئة ، فإن أهل العلم مختلفون فيه ، فقال بعضهم: نودي بالنهي عن مواقعة الخطيئة.
حدثنا أبو كريب ، قال: ثنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن ابن أبى مليكة ، عن ابن عباس: ? لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ? قال: نودي: يا يوسف أتزني ، فتكون كالطير وقع ريشه فذهب يطير فلا ريش له .
قال: ثنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، قال: لم يتعظ على النداء حتى رأى برهان ربه ، قال: تمثال صورة وجه أبيه - قال سفيان: عاضا على إصبعه - فقال: يا يوسف تزني ، فتكون كالطير ذهب ريشه؟
- حدثنا ابن حميد . قال: ثنا سلمة ، عن طلحة ، عن عمرو الحضرمي ، عن ابن أبي مليكة ، قال: بلغني أن يوسف لما جلس بين رجلي المرأة فهو يحل هميانه . نودي: يا يوسف بن يعقوب لا تزن ، فإن الطير إذا زنى تناثر ريشه ! فأعرض . ثم نودي فأعرض . فتمثل له يعقوب عاضا على إصبعه ، فقام
وقال آخرون: بل البرهان الذي رأى يوسف ما أوعد الله عز وجل على الزنا أهله .
ذكر من قال ذلك:
- حدثني محمد بن سعد ، قال: ثني أبي ، قال: ثنى عمى ، قال: ثنى أبى ، عن أبيه ، عن ابن عباس: ? وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ? يقول: آيات ربه أرى تمثال الملك
- حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال: كان بعض أهل العلم فيما بلغني يقول: البرهان الذي رأى يوسف فصرف عنه السوء والفحشاء: يعقوب عاضا على إصبعه ، فلما رآه انكشف هاربا . ويقول بعضهم: إنما هو خيال إطفير سيده حين دنا من الباب ، وذلك أنه لما هرب منها واتبعته ألفياه لدى الباب .(1/21)
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر عن هم يوسف وامرأة العزيز كل واحد منهما بصاحبه ، لولا أن رأى يوسف برهان ربه ، وذلك أية من آيات الله ، زجرته عن ركوب ما هم به يوسف من الفاحشة . وجائز أن تكون تلك الآية صورة يعقوب .
وجائز أن تكون صورة الملك .
وجائز أن يكون الوعيد في الآيات التي ذكرها الله في القرآن على الزنا .
ولا حجة للعذر قاطعة بأي ذلك من أي .
والصواب أن يقال في ذلك ما قاله الله تبارك وتعالى ، والإيمان به ، وترك ما عدا ذلك إلي عالمه
وقوله: ? كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء ? يقول تعالى ذكره: كما أرينا يوسف برهاننا على الزجر عما هم به من الفاحشة ، كذلك نسبب له عليه وإتيان الزنا ، لنطهره من دنس ذلك .
وقوله: ? إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ? اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة والكوفة: ? إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ? بفتح اللام من "المخلصين" ، بتأويل: إن يوسف من عبادنا الذين أخلصناهم لأنفسنا واخترناهم لنبوتنا ورسالتنا وقرأ ذلك بعض قراء البصرة: ? إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ? بكسر اللام ، بمعنى: أن يوسف من عبادنا الذين أخلصوا توحيدنا وعبادتنا ، فلم يشركوا بنا شيئا ، ولم يعبدوا شيئا غيرنا في كل ما عرض له من هم يهم به فيما لا يرضاه ما يزجره ويدفعه عنه ؛ كي نصرف عنه ركوب ما حرمنا.
القرطبي:(1/22)
اختلف العلماء في همه. ولا خلاف أن همها كان المعصية، وأما يوسف فهم بها ? لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ? ولكن لما رأى البرهان ما هم ؛ وهذا لوجوب العصمة للأنبياء ؛ قال الله تعالى:? كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ? فإذا في الكلام تقديم وتأخير ؛ أي لولا أن رأى برهان ربه هم بها. وقال أحمد بن يحيى: أي همت زليخاء بالمعصية وكانت مصرة ، وهم يوسف ولم يواقع ما هم به ؛ فبين الهمتين فرق00 فهذا كله حديث نفس من غير عزم ، وقيل : هم بها أي بضربها ودفعها عن نفسه ، والبرهان كفه عن الضرب ؛ إذ لو ضربها لأوهم أنه قصدها بالحرام فامتنعت فضربها. وقيل: إن هم يوسف كان معصية ، وأنه جلس منها مجلس الرجل من امرأته ، وإلي هذا القول ذهب معظم المفسرين وعامتهم،
والانكفاف في مثل هذه الحالة دال على الإخلاص ، وأعظم للثواب.
وجواب "لولا" على هذا محذوف ؛: أي لولا أن رأى برهان ربه ، لأمضى ما هم به؛
قال ابن عطية: روي هذا القول عن ابن عباس وجماعة من السلف ، وقالوا: الحكمة في ذلك أن يكون مثلا للمذنبين ليروا أن توبتهم ترجع إلي ، عفو الله تعالى كما رجعت ممن هو خير منهم ولم يوبقه القرب من الذنب ، وهذا كله على أن هم يوسف بلغ فيما روت هذه الفرقة إلي أن جلس بين رجلي زليخاء وأخذ في حل ثيابه وتكته ونحو ذلك ، وهي قد استلقت له ؛ حكاه الطبري.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: وابن عباس ومن دونه لا يختلفون في أنه هم بها، وهم أعلم بالله وبتأويل كتابه ، وأشد تعظيما للأنبياء من أن يتكلموا فيهم بغير علم. وقال الحسن: إن الله عز وجل لم يذكر معاصي الأنبياء ليعيرهم بها؛ ولكنه ذكرها لكيلا تيأسوا من التوبة. قال الغزنوي: مع أن زلة الأنبياء حكما: زيادة الوجل ، وشدة الحياء بالخجل ، والتخلي عن عجب ، العمل ، والتلذذ بنعمة العفو بعد الأمل ، وكونهم أئمة رجاء أهل الزلل.(1/23)
قال القشيري أبو نصر: وقال قوم جرى من يوسف هم ، وكان ذلك الهم حركة طبع من غير تصميم للعقد على الفعل ؛ وما كان من هذا القبيل لا يؤخذ به العبد، وقد يخطر بقلب المرء وهو صائم شرب الماء البارد ؛ وتناول الطعام اللذيذ ؛ فإذا لم يأكل ولم يشرب ، ولم يصمم عزمه على الأكل والشرب لا يؤاخذ بما هجس في النفس ؛ والبرهان صرفه عن هذا الهم حتى لم يصر عزما مصمما.
قوله تعالى:? كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء ? الكاف من? كَذَلِكَ ? يجوز أن تكون رفعا ، بأن يكون خبر ابتداء محذوف، التقدير.: البراهين كذلك ، ويكون نعتا لمصدر محذوف ؛ أي أريناه البراهين رؤية كذلك.
و السُّوءَ: الشهوة وَالْفَحْشَاء: المباشرة.
وقيل: السُّوءَ ؛ الثناء القبيح ، والْفَحْشَاء؛ الزنا.
وقيل: السُّوءَ ؛ خيانة صاحبه ، والْفَحْشَاء ركوب الفاحشة.
وقيل: السُّوءَ ؛عقوبة الملك العزيز.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ? الْمُخْلَصِينَ ? بكسر اللام ؛ وتأويلها الذين أخلصوا طاعة الله.
وقرأ الباقون بفتح اللام ، وتأويلها: الذين أخلصهم الله لرسالته ؛ وقد كان يوسف صلى الله عليه وسلم بهاتين الصفتين ؛ لأنه كان مخلصا في طاعة الله تعالى ، مستخلصا لرسالة الله تعالى.
ابن كثير:
لم يزد ابن كثير في ما قاله الطبري أو القرطبي إلا أنه قال:
الصواب أن يقال أنه رأى أية من آيات الله تزجره عما كان هم به وجائز أن يكون صورة يعقوب وجائز أن يكون صورة الملك وجائز أن يكون ما رآه مكتوبا من الزجر عن ذلك ولا حجه قاطعة على تعيين شيء من ذلك فالصواب أن يطلق كما قال الله تعالى.
وقوله ? كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء ?: أي كما أريناه برهانا صرفه عما كان فيه كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره ?إنه من عبادنا المخلصين? أي من المجتبين المطهرين المختارين المصطفين الأخيار صلوات الله وسلامه عليه..............انتهى(1/24)
يقول الإمام الشعراوي في خواطره:
الهم هو حديث النفس بالشيء ، فإما أن يفعل أو لا يفعل .
لولا ، حرف امتناع لوجود ، لولا أن برهان ربه يعوقه عن الهم لهم بها. الْفَحْشَاء:هي الزنا والإتيان .
السُّوءَ:هي فكرة الهم.
وبعض المعتدلين قالوا :حينما راودته عن نفسه وخرجت بالفعل إلى مرحلة السعار فإن المسألة خرجت من المراودة في الكلام إلى منازعة الجوارح ، ومن سعار ما هي فيه تريد قتله ، وهو يريد أن يدافع عن نفسه ويريد قتلها ، وعندما يقتلها يجازى كقاتل ، فإن الله صرف السوء عنه.
وعلى هذا : وهمت به لتقتله وهم بها ليقتلها ، ولولا برهان ربه لهم بها ليقتلها ، فإن المعنى يقصد .
ولكني أطمئن (وهذا قول الإمام الشعراوي) إلي أن السوء هو فكرة الهم ، وهى مقدمات الفعل.............انتهى
وعلى هذا نقول والله المستعان:
مما سبق نجد أن العلماء والمفسرين قد اتفقوا على أن هم امرأة العزيز هو لعمل الفاحشة.
ولكنهم اختلفوا في هم يوسف : هل هو لعمل الفاحشة ؟ أم لدرئها عنه وضربها ؟
فالذين قالوا بأنه هم لعمل الفاحشة لهم أسبابهم: فهم قد حصروا تفكيرهم في أن كلمة لولا هي الدليل على هذا .
ولكنهم اختلفوا في البرهان الذي أعطاه الله له ليبتعد عن فعل الفاحشة .
والذين قالوا أنه هم لضربها لم يعطوا دليلا مقنعا لأسبابهم ، أو أن دليلهم كان ناقصا.
ولا يوجد نص صريح من السنة النبوية الشريفة، ليكون حدا فاصلا ليوضح هذه القضية.
وعلى هذا: فإنني أعزو ذلك إلي أن الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نعمل عقولنا في آياته ، لا أن نأخذ كل شيء من رسول الله ، فتصدأ عقولنا ولا نفكر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطانا من سنته وأحاديثه أشياء وسكت عن أشياء ، فما أخذناه من سنته فهو واضح لنا ، وأما ما سكت عنه فهو في القرآن الكريم ، إما واضحا أيضا ، أو لإعمال العقل فيه.(1/25)
ولكي نبدأ بعون من الله تبارك وتعالى في محاولة حل هذه المعضلة ، فعلينا أولا أن نعرف ما هو الهم ؟
هناك همان :هم حديث نفس -- وهم للفعل (حركه)
وهم حديث النفس عدة أنواع :
الأول:هو هم الحزن:
مثل الحزن على فقدان حبيب أو مال أو ما شابه ذلك
الثاني:هم حديث النفس(هم النفس):
هو انشغال العقل بقضية ما تشغل بالنا وتؤرق حياتنا ، ونتدبر فيها كيفية حلها ،
فقد يأخذ حلها وقتا ، قد يطول هذا الوقت أو قد يقصر.
فمثلا نقول: أن الدين هم بالليل ومذلة بالنهار ونفكر في كيفية تسديد هذا الدين ، أو مشكلة ما في العمل ..... وهكذا
الثالث: وهو المؤدى إلي الهم الحركي:
لكي يقوم الإنسان بعمل شيء ما فإنه يمر بعدة مراحل للقيام بهذا العمل:
(1) فكرة تمر بعقل الإنسان حديث نفس
(2) تدبر هذه الفكرة حديث نفس
(3) عقد العزم على تنفيذ هذه الفكرة حديث نفس
(4)الاستعداد للقيام للتنفيذ حديث نفس
(5)القيام بالتنفيذ فعل(حركه)
ولكن تأتى مرحلة دقيقة تلي الاستعداد للقيام بالفعل ، والقيام بالتنفيذ للفعل ، وهذه هي مرحلة الهم .
إذاً فان الهم الحركي للفعل : هو مرحلة تلي الاستعداد للعمل والعمل نفسه.
وهذا كان هم امرأة العزيز.
وهناك هم أخير، يسمى هم رد الفعل : وهذا الهم سنعطى له مثلا ولله المثل الأعلى:
هب أن رجلا قام بمحاولة الاعتداء عليك ، وهم بضربك ، فماذا كنت ستفعل ؟
هل ستتركه ؟ أم ستهم أنت أيضا بالدفاع عن نفسك.
إذا هناك همان حركيان
الأول:هم فعل
والثاني : هم رد فعل.
فبعد هذا التعريف لأنواع الهم.
إذا فعلينا أن نسوق الأدلة على براءة يوسف من هم عمل الفاحشة.
أدلة البراءة
الدليل الأول:
لو أن يوسف عليه السلام قد مال إلي امرأة العزيز، وحدثته نفسه بفعل الفاحشة، فلماذا أعرض منذ البداية عندما راودته ؟ ، ولماذا لم يحدث والطريق ممهد له بغلق إلا بواب ؟ ، و امرأة العزيز في كامل زينتها ، ولم يكن معهما أحد ، وزيادة على ذلك أنها هي التي دعته إليها .(1/26)
الدليل الثاني:
لماذا ذكرها يوسف بالله ، ثم بالرجل الذي رباه ، ثم بسوء العاقبة بعد ذلك ، أم أنه كان اعتراضا واهيا؟.
الدليل الثالث:
لماذا كان همها هي سابقا لهمه للفعل ؛ إن كان قد مال إليها وخارت قواه أمام إغراءاتها ؟.
فالأولى إن كان ضعف أمامها أن يكون هو المبتدى بالهم ، وتكون الآية (وهم بها وهمت به) لأن المرأة لها صفة الإغراء والدعوة ، وتترك للرجل أن يبدأ هو بباقي الأمور من بداية الهم حتى النهاية.
ولكن منطوق الآية:? وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ?: أي كان همها سابقا لهمه.
ونعود لسؤالنا : لماذا كان همها هي سابقا لهمه ؟
؛فنقول وبالله التوفيق :
هناك سببان لهمها:
السبب الأول:
أنها قد وجدت فيه ضعفا فأرادت أن تشجعه وتخرجه من حالة الضعف هذه .
السبب الثاني:
أنها قد وجدت فيه إعراضا قويا فأرادت أن تجبره على الفعل بالقوة .
فإلي أي السببين نميل؟.
وهذه هي إحدى الدلائل القوية على براءة يوسف من الهم بها لعمل الفاحشة ، وأن يوسف أصلا لم يمل إلي امرأة العزيز ولم تحدثه نفسه بعمل الفاحشة0
وعلينا أن نذكر هنا أبضا أن الله قال: ? وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ?: ولم يقل (وهمت به وهم بها) ، فلماذا قال الله (وَلَقَدْ) ؟ .
لأنه تأتى هنا كلمة (وَلَقَدْ) لتعطى إحساسا بقوة الهم منها ولتأكيده .
أما قوله(وهمت به وهم بها) فقط ، تعطى انطباعا برعونة الهم بينهما وأنه قد يكون مال إليها بالفعل.
الدليل الرابع :
تربية يوسف في بيت امرأة العزيز منذ صغره عندما عهد به العزيز إلي زوجته فكان عمره لم يتعدى أصابع اليد الواحدة ، ولقد دللنا على ذلك من قبل ، وتربى يوسف في بيت المرأة ، وكبر يوسف وهو يجعلها مثل أمه ،
فهل إذا تربى أحد في بيت ما منذ صغره؟ فهل عندما يكبر سيميل شهوانيا إلي من ربته مهما كانت المغريات ؟
اللهم إلا إذا كانت تربيته كانت سيئة ، وهذا البيت سيء.(1/27)
فقد يكون بيت العزيز سيئا ، فهل كانت تربية يوسف عليه السلام سيئة ؟
أم قول رب العزة : ? وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ? يوسف 21
? وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ? يوسف 22
أي أن يوسف عليه السلام تربى على أعين الله سبحانه وتعالى.
الدليل الخامس :
اعتصامه بالله وتذكيره لامرأة العزيز بأن ربه لا يرضى بهذا الفعل ولم يأمر به ? قَالَ مَعَاذَ اللّهِ ?.
ثم تذكيره لها بزوجها الذي له الفضل عليه وعليها ? إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ?.
ثم وصل به الأمر إلي أن يهددها بعاقبة الأمور? إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ? .
كل هذا في وقت واحد ، وموقف واحد ، ولا يوجد فترة زمنية للتروي ومراودة النفس للفعل ، ثم ينقلب الموقف فجأة وبدون مقدمات ليهم بها لعمل الفاحشة ، كيف هذا ؟ مع أن كل الذي قاله يوسف من أعذار شديدة ، مقدمات لعدم الفعل.
الدليل السادس:
حديث النفس للفعل يأخذ وقتا ومراودة مع النفس حتى يقتنع الإنسان بعمل الشيء ، والموقف مع امرأة العزيز لم يأخذ وقتا حتى لمراودة النفس.
الدليل السابع:
اختلاف العلماء والمفسرين في البرهان الذي أعطاه الله ليوسف ولم يدل حديث شريف على هذا البرهان ، ولكنه اجتهاد علماء ومفسرين ليس له دليل قاطع ،
والبرهان كما يقول الإمام الشعراوي في خواطره : هو الحجة على الحكم ، أو كما نقول نحن : هو ألإثبات بدليل ، والدليل إما أن يكون بالقرآن واضحا ، أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو بالاستنباط من القرآن أو السنة النبوية الشريفة أو منهما معا ، ونحن هنا نتكلم عن نبي له عصمته من الله سبحانه وتعالى فيجب أن يكون كلامنا مدعم بكل ما سبق .(1/28)
فيقول رب العزة: ? كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء ? يوسف 24. (كَذَلِكَ) : أي من أجل أن يوسف صبر على فتنة امرأة العزيز ولم يميل إليها وساق إليها الحجج لكي لا يفعل الفاحشة معها واعتصم بالله ، فإننا سنصرف عنه سوء يصيبه من وراءها ، وسنعود لهذه النقطة فيما بعد.
( لِنَصْرِفَ) : لنبعد.
(السُّوءَ) :فسره العلماء .
ونقول نحن :
السُّوءَ: هو وصم الإنسان بعمل شائن ، أو بصفة تشينه ، مثل انه (سارق - زان --كاذب - مرتش --الخ).
أو أن نقول عنه أنه حاول أن يفعل كذا ، مما يصيبه هذا السوء .
كأن نقول مثلا أن هذا الشخص سرق أو حاول السرقة فإننا بهذا نكون قد أسأنا إليه.
وذلك لينال عقوبة ما ، إما في سمعته وهذه إساءة نفسية ، أو في بدنه .
(الْفَحْشَاء) : هي فعلة الزنا حيث يقول رب العزة :? وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ? الإسراء 32
الدليل الثامن:
علينا هنا أن نقرأ الآية جيدا ? كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء ? يوسف 24، وعليه فإننا يجب أن نسأل أنفسنا: لماذا أنزل الله الآية بهذا المنطوق وبهذا الترتيب؟
أي قدم صرف السوء على الفحشاء .
فنقول وبالله التوفيق :
إن كان يوسف قد مال إلي امرأة العزيز ، وحدثته نفسه بفعل الفاحشة ، ثم رأى برهان ربه الذي منعه عن الفعل ، فان الله في هذه الحالة قد صرف عنه فعل الفاحشة.
ويكون منطوق الآية:( لنصرف عنه الفحشاء ) فقط .
وأما إذا كان الله يريد أن يصرف عنه الفحشاء كي لا يصيبه سوء بعد ذلك ، فإن منطوق الآية يكون: (لنصرف عنه الفحشاء والسوء) ، لأن الفحشاء هنا مقدمة في محاولة الفعل على السوء الذي كان سيصيبه بعد ذلك .
ولأن الله هو المتكلم فان كل أية ، وكل كلمة ، بل وكل حرف في القرآن الكريم موضوع بحساب وميزان دقيق ، لكي يؤدى المعنى والغرض الذي يريده الله منه ويهدف إليه.
إذا فعلينا أن نعمل عقولنا:(1/29)
ولنقرأ الآية كما أنزلها الله: ? لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء ?.
ونعود لسؤالنا لماذا قدم الله السوء على الفحشاء؟
والإجابة عليه في الآية التالية ، إذ يقول رب العزة :? قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? يوسف 25 .
فإن كان يوسف قد مال إليها ، وحاول فعل الفاحشة ، فإنه قد أراد بأهل العزيز سوءا بالفعل ، ومحاولة خيانة العزيز في أهله ، مهما كانت هي أغوته أو لم تغوه .
ولأنه لم تحدثه نفسه بهذا ، فإن الله قد صرف عنه هذا السوء بإظهار براءته في الآية 28 من سورة يوسف: ? فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ?.
ويأتي تأكيد براءته في الآية التالية على لسان العزيز .
? يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ? يوسف 29
وعلى هذا فإن السوء الذي سيصيب يوسف يأتي من فرية تفتريها عليه امرأة العزيز في جريمة لم يرتكبها ولم يفكر فيها .
ويسأل سائل: هذا عن السوء ، ولكن ماذا عن الفحشاء ؟
فأجيبه والله هو الموفق وإليه السبيل .
الفحشاء يأتي ذكرها في الأية33:? قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ? يوسف 33
وذلك بعد أن تكالبت عليه النسوة ، وهددته امرأة العزيز بالعقاب إن لم يفعل معها الفاحشة : ? قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ ? يوسف 32(1/30)
ويأتي صرف الفحشاء في الآية 34حيث قال رب العزة :? فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ُ? وسيأتي توضيح ذلك في حينه.
الدليل التاسع: يقول رب العزة في الآية التي نحن بصددها:? إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ? يوسف 24، والمخلصين كما قال العلماء إما بفتح اللام ، وهم من استخلصهم الله لنفسه .
أو بكسر اللام ، وهم الذين اخلصوا دينهم لله .
فهل عبد مخلص لله ، أو استخلصه الله لنفسه ، يقع بالتفكير في معصية أو فاحشة ويقع في براثن الشيطان ، مع أن الله يقول في كتابه الكريم على لسان الشيطان في سورة ص: ? فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) ? ص82،83 ، فاستثنى لعنة الله عليه عباد الله المخلصين من مجرد الغواية فيقول القرطبي : فمعنى: "لأغوينهم" لاستدعينهم إلي المعاصي ،
ويقول الإمام الشعراوي : وقد صرف الله عنه الشيطان الذي يتكفل دائما بالغواية ، فالشيطان نفسه يقر أن من يستخلصه الله لنفسه من العباد إنما يعجز هو كشيطان عن غوايته ولا يجرؤ على الاقتراب منه........... انتهى.
والغواية كما أفهمها: هي وقوع المعصية في النفس وإن لم يفعل .
ويوسف عليه السلام نبي أخلص الدين لله ، واستخلصه الله لنفسه ، فكيف يقع في براثن الشيطان ويميل إلى امرأة العزيز ويهم بعمل الفاحشة معها .
الدليل العاشر:عصمة الأنبياء :(1/31)
إن الله قد عصم الأنبياء جميعا من مجرد الوقوع في الخطيئة ، أو الاقتراب منها ، أو التفكير فيها ، ولكن جل تفكيرهم في عظمة الله سبحانه وتعالى ، واخذ الأشياء بحلالها وليس بحرامها مهما كانت المغريات ، لأن الله جعلهم قدوة وأسوة للبشر في أفعالهم ليقتاد بهم الناس ، فإن كان يوسف قد حدثته نفسه بفعل الفاحشة ، فإن هذا يكون دليلا لكل إنسان ضعيف الإيمان تحدثه نفسه بالفاحشة ويذعن لها ثم يجعل لنفسه حجة بأن الله لم يريه دليلا أو برهانا للكف أو الابتعاد عنها كما أرى يوسف برهان ربه فارتدع وابتعد .
وهناك أدلة أخرى سنوردها بإذن الله في حينها من خلال الآيات التالية .
وبعد كل ما ظهر من الأدلة السابقة واللاحقة في أن يوسف لم يهم بعمل الفاحشة مع امرأة العزيز ولم يفكر فيها.
إذا فعلينا أن نعرف ما الذي حدث أو على الأقل نتصوره ، وقبل هذا علينا أن نحلل البرهان بعد أن عرفنا معناه.
قلنا من قبل أن البرهان هو كما قال الإمام الشعراوي ، الحجة على الحكم ،
أو كما نقول نحن ، إثبات الشيء بدليل ، أي أن البرهان هو دليل إثبات لقضية أو لحكم.
فإما أن يأتي ماديا ليثبت هذه القضية .
أو أن يأتي عقليا : كأن تنشغل بقضية ما تهمك ولا تجد لها حلا ، فتهم بعمل ما قد يكون فيه ضرر لك ، ولكن تأتى إليك فكرة أخرى للخروج من هذا المأزق أو هذه القضية ، فتقول لقد كدت أن أفعل كذا ، لولا أن الله ألهمني لأبتعد عن هذا الفعل وأفعل غيره .
ونقول كما قال العلماء والمفسرين ، لولا أن رأى برهان ربه لهم بها ،
ولكن هم بماذا ؟
فإن الهم هنا ، هو القضية التي تباحث فيها العلماء ، وأدت إلي الفهم بأن هم يوسف هو لفعل الفاحشة .
ولنتصور ما حدث علي ضوء الأدلة:(1/32)
اشتد إلحاح امرأة العزيز على يوسف وزاد سخطها وغضبها ، فماذا تفعل مع هذا الرجل الواقف أمامها ، وتطلب منه فعل لو طلبته من الملوك لأجابوها إليه ، ولكن أمامها نوع آخر من الرجال لم يرفض طلبها وحسب ، ولكنه يناطحها بالحجج التي تمنعه من الفعل.
فما كان عليها إلا أن تجبره على الفعل ولو بالقوة ، فهمت بالانقضاض عليه لتمسكه من قميصه من قبل (أي من الإمام) لتشده إليها أو لتجذبه نحوها ، (وعندما نقول همت معناه أنها لم تصل إليه بعد ولم تمسكه) ، فما كان من يوسف إلا أن هم ليردها عنه ، ويدافع عن نفسه ، وكاد أن يلمسها من قميصها ، عندما وجد في وجهها هذا الهم ولكن جاءه إلهام رباني (البرهان):
أن يا يوسف لا تمدن يدك عليها لتدفعها عنك ، ولا تلمسها ، ولكن أدر لها ظهرك بسرعة ، واهرب من أمامها ، واتجه إلي الباب ، فإنا منجوك من سوء يلحقك إن لمستها ، ودليل ذلك القميص وسيأتي شرحه وتوضيحه في الآية التالية.
السوء
? وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? يوسف 25
الطبري:
يقول جل ثناؤه: واستبق يوسف وامرأة العزيز باب البيت . أما يوسف ففرارا من ركوب الفاحشة لما رأى برهان ربه فزجره عنها . وأما المرأة فطلبها يوسف لتقضي حاجتها منه التي راودته عليها ، فأدركته فتعلقت بقميصه ، فجذبته إليها مانعة له من الخروج من الباب ، فقدته من دبر، يعني: شقته من خلف لا من قدام ، لأن يوسف كان هو الهارب وكانت هي الطالبة .
وقوله: ? وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ? يقول جل ثناؤه: وصادفا سيدها وهو زوج المرأة لدى الباب ، يعني: عند الباب.
القرطبي:(1/33)
قوله تعالى: ? وَاسُتَبَقَا الْبَابَ ? قال العلماء: وهذا من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني؛ وذلك أنه لما رأى برهان ربه هرب منها فتعاديا، هي لترده إلي نفسها، وهو ليهرب عنها ، فأدركته قبل أن يخرج.
قوله تعالى: ? وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ ? أي من خلفه ؛ قبضت في أعلى قميصه فتخرق القميص عند طوقه ، ونزل التخريق إلي أسفل القميص.
والاستباق: طلب السبق إلي الشيء ؛ ومنه السباق.
والقد: القطع ، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولا.
وقوله تعالى: ? وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ?: أي وجدا العزيز عند الباب، وعني بالسيد: الزوج، فلما رأت زوجها طلبت وجها للحيلة وكادت فـ ? قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً ? : أي زنى.
و? مَا جَزَاء ?: ابتداء، وخبره :? أَن يُسْجَنَ ?
? أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ?: عطف على موضع ? أَن يُسْجَنَ ? لأن المعنى: إلا السجن. ويجوز أو عذابا أليما بمعنى: أو يعذب عذابا أليما.
ابن كثير:
يخبر تعالى عن حالهما حين خرجا ، يستبقا ، إلي الباب ، يوسف هارب ، المرأة تطلبه ليرجع إلي البيت فلحقته في أثناء ذلك فأمسكت بقميصه من ورائه فقدته قدا فظيعا يقال إنه سقط عنه واستمر يوسف هاربا ذاهبا وهي في إثره فألفيا سيدها وهو زوجها عند الباب فعند ذلك خرجت مما هي فيه بمكرها وكيدها وقالت لزوجها متنصلة وقاذفة يوسف بدائها.
? مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً ?:أي فاحشة.
? إِلاَّ أَن يُسْجَنَ ?أي يحبس? أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ?أي يضرب ضربا شديدا موجعا فعند ذلك انتصر يوسف عليه السلام بالحق وتبرأ مما رمته به من الخيانة.
الشعراوي :(1/34)
نلحظ أن الحق سبحانه يذكر هنا بابا واحدا ، وكانت امرأة العزيز قد غلقت من قبل أكثر من باب ، لكن قول الحق سبحانه:? وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ? يدلنا على أنها لحقت بيوسف عند الباب الأخير، وهى قد استبقت مع يوسف إلي الأبواب كلها حتى الباب الأخير.
هذا دليل على أنه قد سبقها إلي الباب الأخير ، فشدته من قميصه من الخلف ، وتمزق القميص في يدها ...... انتهى.
وعلى هذا نقول والله المستعان :
عود على بدء :
بسرعة أدار يوسف ظهره لامرأة العزيز وولى هاربا إلى الباب ليفتحه ، فوجدت امرأة العزيز نفسها في موقف لا تحسد عليه ، إن خرج يوسف من هذا المكان سيفتضح أمرها ، ولن يفعل ما تأمره به وهى في هذه الحالة من السعار، ولن يكون لها القدرة بعد ذلك في التعامل معه .
إذا ماذا تفعل؟ عليها أن تمنعه من الهرب ، وعليه أن يفعل ما تأمره به ، لكي لا يستطيع بعده إفشاء سرها.
بسرعة جرت وراء يوسف لتمنعه من الخروج ، وتمنعه من الباب ، فأمسكت بقميصه من الخلف لتجذبه إلي الوراء ، ولكن يوسف شاب وقوى ، فمع اندفاع يوسف وجذبها للقميص من الخلف ، انحنى ظهر يوسف للأمام ليعطى نفسه قوة في الاندفاع للهرب ومعالجة الباب لفتحه ، انقطع القميص من الخلف وتمكن يوسف من فتح الباب.
وكانت المفاجأة ، فإذا بسيدها العزيز أمام الباب .
أدركت امرأة العزيز أنها في ورطة وإن لم تخرج منها بسرعة فسوف يدرك العزيز ما حدث .
رجل يفتح الباب ، وهذا الرجل ليس ككل رجال القصر ، إنه يوسف الذي رباه ويعرف أخلاقه.
وامرأته وراءه وليست أمامه ، والمنظر العام ليس حسنا.
إذا فعليها أن تخرج بسرعة من هذه الورطة .
فكان لابد من استحضار مكر المرأة وخداعها ، واستثماره في هذه اللحظة لتبعد عنها الشكوك فقالت:? قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? يوسف 25 .(1/35)
ألقت على يوسف تهمة هو بريء منها ، فألحقت به سوءًا ، وأرادت به سوءًا ألحقت به سوءًا باتهامه بمحاولة فعل الفاحشة معها .
وأرادت به سوءًا بأن يسجن أو يعذب .
وهذه قدرة عجيبة في الخروج من المأزق الذي صنعته هي ، ثم تلحق التهمة بالبريء ، ثم تحدد العقوبة ، بل وتفرضها على زوجها لكي لا يتحقق مما حدث ، ولتجعله يصدقها .
وعلى هذا يعلمنا الله في كتابه الكريم فيقول سبحانه: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ? الحجرات6.
وكم من أناس يقعون في مشاكل ومأزق كثيرة ، بسبب تسرعهم في الحكم على الأمور ، ثم يندمون بعد ذلك.
الشاهد
? قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ? يوسف 26
الطبري:
فإن أهل العلم اختلفوا في صفة الشاهد ، فقال بعضهم: كان صبيا في المهد .
عن سعيد بن جبير: ? وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا ? قال: صبي ، عن ابن عباس ، قال: تكلم أربعة في المهد وهم صغار: ابن ما شطة بنت فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم عليه السلام .
حدثنا أبو كريب ، قال: ثنا وكيع ؛ وحدثنا ابن وكيع ، قال: ثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال: كان ذا لحية0 عن ابن عباس: ? وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا ? قال: كان من خاصة الملك .
وقوله: ? إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ?لأن المطلوب إذا كان هاربا فإنما يؤتى من قبل دبره ، فكان معلوما أن الشق لو كان من قبل لم يكن هاربا مطلوبا ، ولكن كان يكون طالبا مدفوعا ، وكان يكون ذلك شهادة على كذبه .
القرطبي:(1/36)
وقوله تعالى: ? وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا ? لأنهما لما تعارضا في القول احتاج الملك إلي شاهد ليعلم الصادق من الكاذب ، فشهد شاهد من أهلها : أي حكم حاكم من أهلها ؛ لأنه حكم منه وليس بشهادة.
الشعراوي :
كلمة شهد تأتى في القرآن بمعاني متعددة فهي مرة تكون بمعنى حضر مثل قول الحق سبحانه? وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ? النور2 .
وتأتى مرة بمعنى علم مثل قوله سبحانه? وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا ? يوسف 81
وتأتى شهد بمعنى: حكم وقضى ، أي رجح كلام على كلام لاستنباط حق في احد الاتجاهين ، والشاهد في هذه الحالة وثق القرآن إن قرابته من ناحية المحكوم عليه وهو امرأة العزيز فلو كان من طرف المحكوم له لردت شهادته.....انتهى
وعلى هذا نقول والله المستعان :
? قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ? وجد يوسف نفسه قد تورط في قضية لم يكن هو السبب فيها ، فلم يفعلها ، أو يسعى إليها ، أو يفكر فيها أصلا .
ذهل يوسف من القدرة الغريبة في لي الحقيقة ، وهذا ما نقابله ونعيشه في هذه الأيام من لي في الحقائق ، فأصبح البريء متهما ، والمجرم بريئا ، وأكل الحقوق افتخارا ، وضاعت الحقوق بين الناس ، وامتلأت المحاكم بالقضايا ومحامون درسوا القانون ليتلاعبوا به وبألفاظه ، وليس للدفاع عن المظلوم وإعطاء الحق لأصحابه ، وهم يعلمون الحقيقة من موكليهم ، فماذا يا ترى سيفعل الله بهم يوم القيامة ، أفيقي يا أمة الإسلام .
فلم يكن أمام يوسف من دفاع عن نفسه إلا جملة واحدة :? قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ?. إننا نجد هنا أن يوسف قد بدأ كلامه بكلمة (هِيَ ):أي بضمير الغائب كأنها غير موجودة ، ولم يزد أو يسترسل في حديث طويل لا طائل من ورائه ، وفيه أدب(1/37)
ووجه كلامه إلي من اتهم عنده ، ومن يهمه الأمر ، ولم يلتفت إلي المرأة ، لأنها ابتدأت الحديث بالكذب ، فلم يوبخها ، أو يؤنبها ، أو يكذبها ، ولم يقسم بأنه لم يفعل هذا الأمر ولكنه أوجز في الحديث ? قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ?
صمت العزيز ولم يتكلم ، إنه في موقف صعب ، هناك تعارض في القول ، فكلا الطرفين عزيز عنده .
المرأة: زوجته.
ويوسف هو من رباه ويعرف أخلاقه .
وكلاهما قريب من نفسه ، فماذا يفعل ؟
إن صدق زوجته في اتهامها ليوسف ، وأصدر حكمه كما أمرت زوجته ، ثم تظهر براءة يوسف بعد ذلك فقد يندم على حكمه الظالم ، ولكن الموقف الذي رآه فيه شك من كلام زوجته.
وإن صدق يوسف في دفاعه عن نفسه ، قد تكون زوجته صادقة في اتهامها.
? وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا ?: فكان لابد من عرض الأمر على شخص قريب منه ، على درجة عالية من الحكمة والعقل ، ويزن الأمور بميزان الحق والعدل ويطمئن إلي حكمه .
ليس هذا فحسب ولكن يجب أن يكون قريبا لزوجته أيضا ، أي من أهلها ، لأنه سيكتم فضيحتها إن كانت هي المخطئة ، وإن كان يوسف هو المخطىء فسوف يحكم عليه وينتهي الأمر.
تم عرض الأمر على الشاهد أو من سيعطى حكمه في هذه القضية.
فماذا قال الرجل: ? إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ? .
أي أن القميص الذي يرتديه إن كان قطع من الأمام ، فإنها تكون صادقة في كلامها ، لأنه في هذه الحالة تكون المواجهة ، ويكون هو مقبلا عليها ومحاولا الاعتداء عليها ، وتكون هي مدافعة عن نفسها ، فتدفعه عنها ، فيقطع القميص من الإمام ، ويكون هو كاذبا في هذه الحالة.
صرف السوء
? وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ? يوسف 26
الشعراوي:(1/38)
أي أن قميص يوسف عليه السلام إن كان قد من الخلف فيوسف صادق وامرأة العزيز كاذبة، ونلحظ أن الشاهد هنا قال هذا الرأي قبل أن يشاهد القميص0 بل وضع في كلماته الأساس الذي سينظر به إلي الأمر وهو إطار دليل الإثبات. انتهى.
وعلى هذا نقول والله المستعان:
الدليل الحادي عشر:
أي وإن كان القميص قطع من الخلف ، فإنها تكون كاذبة في ادعائها ، وكان هو صادقا في كلامه ، وبرهان ذلك أن ظهره كان لها وهى وراءه.
فما الذي دفعها لتقطع قميصه من الخلف.
اللهم إلا إذا كانت هي الطالبة له ، وهو في حالة فرار منها ، مما أدى إلى قطع القميص من الخلف من شدة اندفاعه وفراره منها0
أليس هذه دليل دامغ وبرهان ما بعده برهان ، على أن برهان ربه هو إيحاء من الله إلى يوسف ، بعدم الدفاع عن نفسه ، وألا يلمس المرأة ، ولكن عليه أن يعطى لها ظهره بسرعة ليهرب من أمامها.
لأنه في هذه الحالة كان ستحدث مواجهة بين الاثنين( يوسف و امرأة العزيز) ، فكانت ستمسك به من الأمام وسيحاول هو الإفلات منها مما كان سيؤدى إلي قطع القميص من الأمام .
وعلينا أن نتصور ما كان سيحدث إن كان يوسف قد مال إليها وهم بالمعصية : فهل كانت ستتركه بعد هذا الهم ، وأصبح في متناول يديها ؟
أم أنها كانت ستقبض عليه بسرعة قبل أن يذهب من أمامها ، وتمسك بقميصه من أمام ويكون هناك مشادة بينهما وتكون مواجهة ، وكان سيقطع القميص من قبل .
ومن حكمة الله سبحانه وتعالى ، أن يضع برهان البراءة في آية منفصلة ، ولم توصل بالآية السابقة ، لنتدبر آياته سبحانه ، ولا نمر عليها مر الكرام.
ومن هنا فإن الله يعلمنا كيفية استنباط الأحكام بالأدلة المادية والعقلية.
? فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ? يوسف 28
الطبري:(1/39)
وقوله: ? فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ ? خبر عن زوج المرأة ، وهو القائل لها: إن هذا الفعل من كيدكن: أي صنيعكن ، يعني من صنيع النساء ، ? إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ?وقيل: إنه خبر عن الشاهد أنه القائل ذلك.
القرطبي:
الكيد: المكر والحيلة،:? إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ?وإنما قال " عَظِيمٌ " لعظم فتنتهن واحتيالهن في التخلص من ورطتهن. وقال مقاتل عن يحيى بن أبي كثير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان لأن الله تعالى يقول: ? إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ? [النساء: 76]
ابن كثير:
وقوله ? فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ ? أي لما تحقق زوجها صدق يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به ? قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ?أي إن هذا البهت واللطخ الذي لطخت عرض هذا الشاب به من جملة كيدكن ? إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ? ثم قال آمرا ليوسف عليه السلام بكتمان ما وقع.
الشعراوي :
الكيد كما نعلم هو الاحتيال على إيقاع السوء بخفاء0 ويقوم به من لا يملك القدرة على المواجهة ، وكيد المرأة عظيم لأن ضعفها أعظم.......انتهى
? يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ?
يوسف 29
الطبري:
وهذا فيما ذكر عن ابن عباس ، خبر من الله تعالى ذكره عن قيل الشاهد أنه قال للمرآة وليوسف ، يعني بقوله: { يُوسُفُ } يا يوسف ? أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ? يقول: أعرض عن ذكر ما كان منها إليك فيما راودتك عليه فلا تذكره لأحد . كما:
- حدثنا يونس ، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال: قال ابن زيد في قوله: {يوسف أعرض عن هذا} قال: لا تذكره ، ? وَاسْتَغْفِرِي ? أنت زوجك ، يقول: سليه أن لا يعاقبك على ذنبك الذي أذنبت ، وأن يصفح عنه فيستره عليك(1/40)
? إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ? ، يقول: إنك كنت من المذنبين في مراودة يوسف عن نفسه وقيل: ? إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ? لم يقل: من الخاطئات ، لأنه لم يقصد بذلك قصد الخبر عن النساء ، وإنما قصد به الخبر عمن يفعل ذلك فيخطئ
القرطبي:
قوله تعالى: ? يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ? القائل هذا هو الشاهد. و"يوسف" نداء مفرد، أي يا يوسف، فحذف.
? أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ? أي لا تذكره لأحد واكتمه.
? وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ? أقبل عليها فقال: وأنت استغفري زوجك من ذنبك لا يعاقبك. ? إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ? ولم يقل من الخاطئات لأنه قصد الإخبار عن المذكر والمؤنث، فغلب المذكر؛ والمعنى: من الناس الخاطئين ، أو من القوم الخاطئين.
:أو إن القائل ليوسف أعرض ولها استغفري زوجها الملك ؛ وفيه قولان: أحدهما: أنه لم يكن غيورا ؛ فلذلك ، كان ساكنا.
الثاني: أن الله تعالى سلبه الغيرة وكان فيه لطف بيوسف حتى كفي بادرته وعفا عنها.
ابن كثير:
? يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ?: أي اضرب عن هذا صفحا: أي فلا تذكره لأحد ? وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ? يقول لامرأته وقد كان لين العريكة سهلا أو أنه عذرها لأنها رأت مالا صبر لها عنه فقال لها: اسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ أي الذي وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب ثم قذفه بما هو بريء منه ? إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ?.
الشعراوي:
وبهذا القول من الزوج أنهى الحق سبحانه هذا الموقف عند هذا الحد ، الذى جعل عزيز مصر يقر أن امرأته قد أخطأت ويطلب من يوسف أن يعرض عن هذا الأمر ليكتمه .......انتهى.
فنقول وبالله التوفيق:(1/41)
وجد العزيز نفسه أمام موقف يجب أن ينسى ، ولا يذكر مرة أخرى ، وإلا سينتشر الأمر ، وستكون فتنة ، وتلوك الألسن سيرة زوجته ، وسيرته وقد يفقد منصبه جراء ذلك ، فأراد أن تموت هذه الفتنة في مهدها ، وليحمى سمعته من القيل والقال ، بحيث تكون الأمور طبيعية ، وهذا من طبيعة علية القوم دائما.
من هنا اتخذ العزيز موقفه لكي لا يفتضح بيته ، فقال ليوسف بصيغة الأمر:
? يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ?:أي عليك يا يوسف أن تنسى هذا الأمر نهائيا ولا تحدث به أحد .
ثم وجه حديثه لامرأته موبخا إياها : ? وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ?:أي اطلبي الصفح والعفو والغفران لأنك أذنبت ذنبا شديدا .
لأنه ما كان لك وأنت امرأة العزيز أن تقعي في مثل ما تقع فيه سائر النساء .
مكر النسوة
? وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ? يوسف 30
الطبري:
يقول تعالى ذكره: وتحدث النساء بأمر يوسف وأمر امرأة العزيز في مدينة مصر ، وشاع من أمرهما فيها ما كان ، فلم يتكتم ، وقلن: امرأة العزيز تراود فتاها ، عبدها ، عن نفسه:
وقوله: ? قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً ? يقول قد وصل حب يوسف إلي شغاف قلبها ، فدخل تحته حتى غلب على قلبها . وشغاف القلب: حجابه وغلافه الذي هو فيه
وقوله: ? إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ? قلن: إنا لنرى امرأة العزيز في مراودتها فتاها عن نفسه وغلبة حبه عليها لفي خطأ من الفعل وجور عن قصد السبيل مبين لمن تأمله وعلمه أنه ضلال وخطأ غير صواب ولا سداد وإنما كان قولهن ما قلن من ذلك وتحدثهن بما تحدثن به من شأنها وشأن يوسف مكرا منهن فيما ذكر لتريهن يوسف.
القرطبي:(1/42)
ذلك أن القصة انتشرت في أهل مصر فتحدثت النساء. قيل: امرأة ساقي العزيز، وامرأة خبازه ، وامرأة صاحب دوابه ، وامرأة صاحب سجنه. وقيل: امرأة الحاجب؛ عن ابن عباس وغيره.
? تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ? الفتى في كلام العرب الشاب ، والمرأة فتاة.
? قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً ? قيل: شغفها غلبها. وقيل: دخل حبه في شغافها؛.
قوله تعالى: ? إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ? أي في هذا الفعل
ابن كثير :
خبر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز شاع في المدينة وهي مصر حتى تحدث به الناس ? وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ? مثل نساء الكرماء والأمراء ينكرن على امرأة العزيز وهو الوزير ويعبن ذلك عليها? امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ? أي تحاول غلامها عن نفسه وتدعوه إلي نفسها ? قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً ? أي قد وصل حبه إلي شغاف قلبها وهو غلافه قال الضحاك عن ابن عباس: الشغف الحب القاتل والشغف دون ذلك والشغاف حجاب القلب ? إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ? أي في صنيعها هذا من حبها فتاها ومراودتها إياه عن نفسه.
الشعراوي :
وما قلنه هو الحق ، لكنهن لم يقلن ذلك تعصبا للحق أو تعصبا للفضيلة ، ولكنه الرغبة للنكاية بامرأة العزيز ، وفضحا للضلال الذي أقامت فيه امرأة العزيز 0
وأردن أيضا شيئا آخر ، أن ينزلن امرأة العزيز من كبريائها ، وينشرن فضيحتها فأتين بنقيضين ، لا يمكن أن يتعدى الموقف فيهما إلا خسيس المنهج.
وقالت النسوة :? قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً ?( وقسم فضيلته الحب إلي منازل )أولها (الهوى - التعلق - الكلف - العشق - التدلة - الهيام - الجوى ) وقد شرحها فضيلته بإسهاب في خواطره .
وعلى هذا نقول والله الموفق:
انتشر الخبر في المدينة بالكيفية التي أخبر بها العلماء ، وبدأت النسوة تتكلم وتلوك سيرة امرأة العزيز? امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ?.(1/43)
وكلمة ? امْرَأَةُ الْعَزِيزِ ? هي إكبارا لها وتصغيرا لفعلها.
إكبارا لها لكونها امرأة العزيز،
وتصغيرا ، لأنها وهى في هذه المكانة العالية ، وتطلب فعل الفاحشة مع أحد الخدم في القصر .
ولأن فعلها هذا يضعهن في موضع الحرج أمام خدمهن وعلى هذا قلن.
? قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ?: أي أنها لا يمكن أن تفعل هذا الفعل ، إلا إذا كان حبه قد تمكن منها ، ووصل هذا الحب إلي شغاف قلبها ، وحبها هذا قد أوصلها إلي الضلال ، ولم تعد تدرى ما تفعل .
? فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ? يوسف 31
الطبري:
فلما سمعت امرأة العزيز بمكر النسوة اللاتي قلن في المدينة ما ذكره الله عز وجل عنهن .
- حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال: لما أظهر النساء ذلك من قولهن: تراود عبدها مكرا بها لتريهن يوسف ، وكان يوصف لهن بحسنه وجماله ؛
? فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً ?
{ وَأَعْتَدَتْ } أفعلت من العتاد ، وهو العدة ، ومعناه: أعدت لهن متكئا يعني مجلسا للطعام ، وما يتكئن عليه من النمارق والوسائد ، وهو مفتعل من قول القائل: اتكأت ، يقال: ألق له متكئا ، يعني: ما يتكئ عليه . فهذا الذي ذكرنا عمن ذكرنا عنه من تأويل هذه الكلمة ، هو معنى الكلمة وتأويل المتكأ ، وأنها أعدت للنسوة مجلسا فيه متكئا ، وطعاما، وشرابا، وأترجا .(1/44)
ثم فسر بعضهم المتكأ بأنه الطعام على وجه الخبر عن الذي أعد من أجله المتكأ ، وبعضهم عن الخبر عن الأترج ، إذ كان في الكلام: وآتت كل واحدة منهن سكينا ، لأن السكين إنما تعد للأترج وما أشبهه مما يقطع به . قال الله تعالى ذكره مخبرا عن امرأة العزيز والنسوة اللاتي تحدثن بشأنها في المدينة:
? وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً ? يعني بذلك جل ثناؤه: وأعطت كل واحدة من النسوة اللاتي حضرنها سكينا لتقطع به من الطعام ما تقطع به.
وقوله: ? وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ ?يقول تعالى ذكره: وقالت امرأة العزيز ليوسف: ? اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ? فخرج عليهن يوسف ، ? فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ ? يقول جل ثناؤه: فلما رأين يوسف أعظمنه وأجللنه .
وقوله: ? وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ? اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم: معناه: أنهن حززن بالسكين في أيديهن وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترج . وقوله: ? مَا هَذَا بَشَراً ? يقول: قلن ما هذا بشرا ، لأنهن لم يرين في حسن صورته من البشر أحدا ، فقلن: لو كان من البشر لكان كبعض ما رأينا من صورة البشر ، ولكنه من الملائكة لا من البشر .
القرطبي:
قوله تعالى: ? فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ ? أي بغيبتهن إياها ، واحتيالهن في ذمها. وقيل: إنها أطلعتهن واستأمنتهن فأفشين سرها ، فسمي ذلك مكرا. وقوله: ? أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ? في الكلام حذف ؛ أي أرسلت إليهن تدعوهن إلي وليمة لتوقعهن فيما وقعت فيه؛ قوله تعالى: " وَأَعْتَدَتْ " من العتاد ؛ وهو كل ما جعلته عدة لشيء. "متكأ" أصح ما قيل فيه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: مجلسا، وقوله تعالى: ? وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ? بالمدى حتى بلغت السكاكين إلي العظم؛
قوله تعالى: ? وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ ? أي معاذ الله.
ابن كثير:(1/45)
? فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ ?" قال بعضهم بقولهن ذهب الحب بها وقال محمد بن إسحاق بل بلغهن حسن يوسف فأحببن أن يريه فقلن ليتوصلن إلي رؤية ومشاهدته فعند ذلك? أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ? أي دعتهن إلي منزلها لتضيفهن " وأعتدت لهن "متكأ " قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والحسن والسدي وغيرهم: هو المجلس المعد فيه مفارش ومخاد وطعام فيه ما يقطع بالسكاكين من أترج ونحوه ولهذا قال تعالى? وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً ? وكان هذا مكيدة منها ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته? وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ? وذلك أنها كانت قد خبأته في مكان آخر فلما " خرج " و ? رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ ? أي أعظمنه أي أعظمن شأنه وأجللن قدره وجعلن يقطعن أيديهن دهشة برؤيته وهن يظنن أنهن يقطعن الأترج بالسكاكين والمراد أنهن حززن أيديهن بها قاله غير واحد وعن مجاهد وقتادة: قطعن أيديهن حتى ألقينها فالله أعلم وقد ذكر غير واحد أنها قالت لهن بعد ما أكلن وطابت أنفسهن مم وضعت بين أيديهن أترجا وآتت كل واحدة منهن سكينا هل لكن في النظر إلي يوسف؟ قلن نعم فبعثت إليه تأمره أن أخرج إليهن فلما رأينه جعلن يقطعن أيديهن ثم أمرته أن يرجع ليرينه مقبلا ومدبرا فرجع وهن يحززن في أيديهن فلما أحسسن بالألم جعلن يولولن فقالت أنتن من نظرة واحدة فعلتن هذا فكيف ألام أنا؟ ? وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ? ثم قلن لها: وما نرى عليك من لوم بعد هذا الذي رأينا لأنهن لم يرين في البشر شبيهه ولا قريبا منه فإنه عليه السلام كان قد أعطي شطر الحسن كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء أن رسول الله صلي الله عليه وسلم مر بيوسف عليه السلام في السماء الثالثة قال فإذا هو قد أعطى شطر الحسن وقال حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم أعطي يوسف وأمه شطر الحسن وقال سفيان(1/46)
الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: أعطي يوسف وأمه ثلث الحسن وقال أبو إسحاق أيضا عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: كان وجه يوسف مثل البرق وكانت المرأة إذا أتته لحاجة غطى وجهه مخافة أن تفتن به ورواه الحسن البصري مرسلا عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال أعطي يوسف وأمه ثلث حسن أهل الدنيا وأعطي الناس الثلثين أو قال أعطى يوسف وأمه الثلثين والناس الثلث وقال سفيان عن منصور عن مجاهد عن ربيعه الجرشي قال: قسم الحسن نصفين فأعطي يوسف وأمه سارة نصف الحسن والنصف الآخر بين سائر الخلق وقال الإمام أبو القاسم السهيلي: معناه أن يوسف عليه السلام كان على النصف من حسن آدم عليه السلام فإن الله خلق آدم بيده على أكمل صورة وأحسنها ولم يكن في ذريته من يوازيه في جماله وكان يوسف قد أعطى شطر حسنه فلهذا قال هؤلاء النسوة عند رؤيته
? حَاشَ لِلّهِ ? قال مجاهد وغير واحد معاذ الله ? مَا هَذَا بَشَراً ? وقرأ بعضهم ما هذا بشرى أي بمشترى بشراء......انتهى.
ونقول والله الموفق:
وصل إلي امرأة العزيز ما تناقلته نسوة كبار القوم ، وعلمت أنهن يمكرون بها ويسيئون إليها في أحاديثهن.
فيقول الإمام الشعراوي :
المكر هو ستر شيء خلف شيء ، كأن الحق ينبهنا على أن قولتها ليس غضبة للحق ولا كرها للضلال الذي قامت به امرأة العزيز ولكنهن أردن شيئا آخر ، وهو أن ينزلن امرأة العزيز عن كبريائها وينشرن فضيحتها .......انتهى
وعلى هذا بدأت امرأة العزيز تفكر في مكر أقوى وأشد ، لتظهر ما في أنفسهن وفى نفس الوقت يكون ردا عليهن ودفاعا عن نفسها .
أرسلت إليهن ، وأعدت لكل واحدة منهن مجلسا مجهزا بالمفارش ومخاد ومساند ليستندن إليها ، ويكن في حالة استرخاء تام .
فيقول الإمام الشعراوي:
المتكأ :هو الشيء الذي يستند إليه الإنسان حتى لا يطول به الملل........انتهى(1/47)
ثم أعطت لكل واحدة منهن سكينا ، وليست أي سكين ولكنها سكين حادة ، وطعاما مما يتم قطعه بالسكين خاصة ، وليس أي طعام أخر ، لتتأكد أنهن سيستعملن تلك السكين ، وهذا من شدة مكرها وأنها قد أعدت للأمر عدته0 وعندما وجدتهن قد انهمكن في تقطيع ما بأيديهن من طعام ، قالت ليوسف:
? اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ? .
دخل يوسف على النسوة ، فهالهن ما رأين من جماله ، ولم يكن يتخيلن أن يوجد رجلا بمثل هذا الجمال الأخاذ ، حتى أنهن نسين ما بأيديهن من طعام يقطعنه حتى وصل حد السكين إلي أيديهن فقطعتها .
فيقول الإمام الشعراوي:
أكبرنه:أي وجد على صورة فوق ما تخيلت ، وهن حين أذين امرأة العزيز بتداول خبر مراودتها له عن نفسه تخيلن له صورة ما من الحسن .
لكنهن حين رأينه فاقت حقيقته المرئية كل صورة تخيلنها عنه فحدث لهن الانبهار ، وأول مراحل الانبهار هي الذهول الذي يجعل الشئ الذي طرأ عليك يذهلك عما تكون يصدده ......انتهى
أحست النسوة بالألم من جراح أيديهن ، فعادت العقول إلي صوابها.
وكان الاعتراف:? وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ٌ?. وكلمة:? حَاشَ لِلّهِ ? :هي للتنزيه.
كما قال الإمام الشعراوي :هي تنزيه لله سبحانه عن العجز عن خلق هذا الجمال المثالي ، أو أنهن قد نزهن صاحب تلك الصورة عن حدوث منكر أو فاحشة بينه وبين امرأة العزيز،( وإنني إذ أعتبر هذا دليل براءة آخر على لسان إمام الدعاة لنبي الله يوسف)..... انتهى
وقالت النسوة تلك الكلمة: ? حَاشَ لِلّهِ ? تعظيما ليوسف واحتقارا لأنفسهن ، ثم قلن:? مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ?: لا يمكن أن يكون هذا الجمال على بشر ، امرأة كان أو رجل ، لأنه فاق التخيل والتصور ، ولا يمكن أن يكون إلا على الملائكة ، ونحن لا نظن إلا أن يكون ملك من الملائكة الكرام.
الاعتراف الأول(1/48)
? قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ ? يوسف 32
الطبري :
يقول تعالى ذكره: قالت امرأة العزيز للنسوة اللاتي قطعن أيديهن ، فهذا الذي أصابكن في رؤيتكن إياه وفي نظرة منكن نظرتن إليه ما أصابكن من ذهاب العقل وغروب الفهم ولها إليه حتى قطعتن أيديكن ، هو الذي لمتنني في حبي إياه وشغف فؤادي به ، فقلتن: قد شغف امرأة العزيز فتاها حبا إنا لنراها في ضلال مبين . ثم أقرت لهن بأنها قد راودته عن نفسه ، وأن الذي تحدثن به عنها في أمره حق ، فقالت: ? وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ? مما راودته عليه من ذلك . عن ابن عباس ، قوله: ? فَاسَتَعْصَمَ ? يقول: فامتنع وقوله: ? وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ ? تقول: ولئن لم يطاوعني على ما أدعوه إليه من حاجتي إليه ليسجنن ، تقول: ليحبسن في السجن ، وليكونا من أهل الصغار والمذلة بالحبس والسجن ، ولأهيننه .
القرطبي:
والمعنى: ذلكن الحب الذي لمتنني فيه، أي حب هذا هو ذلك الحب. واللوم الوصف بالقبيح. ثم أقرت وقالت: ? وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ? أي امتنع. وسميت العصمة عصمة لأنها تمنع من ارتكاب المعصية.
وقيل: "استعصم" أي استعصى ، والمعنى واحد.?وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ ?عاودته المراودة بمحضر منهن ، وهتكت جلباب الحياء ، ووعدت بالسجن إن لم يفعل ، وإنما فعلت هذا حين لم تخش لوما ولا مقالا خلاف أول أمرها إذ كان ذلك بينه وبينها. ? وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ ?أي الأذلاء.
ابن كثير:(1/49)
? قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ? تقول هذا معتذرة إليهن بأن هذا حقيق أن يحب لجماله وكماله ? وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ?أي فامتنع قال بعضهم لما رأين جماله الظاهر أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن وهي العفة مع هذا الجمال ثم قالت تتوعده? وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ ? فعند ذلك استعاذ يوسف عليه السلام من شرهن وكيدهن.
الشعراوي:
قالت ذلك بجرأة من رأت تأثير رؤيتهن ليوسف وأعلنت أنه استعصم.
وبتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان امرأة العزيز:? وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ ? قالت ذلك وكأنها هي التي تصدر الأحكام ، والسامعات لها هن من أكبرن يوسف لحظة رؤيته 0تعلن لهن أنه إن لم يطعها فيما تريد فلسوف تسجنه وتصغر من شأنه لإذلاله وإهانته.
أما النسوة اللاتي سمعنها فقد طمعت كل منهن أن تطرد امرأة العزيز يوسف من القص ، حتى تنفرد أي منهن به........... انتهى
ونقول والله الموفق:
وجدت امرأة العزيز ما حدث للنسوة فقالت لهن معاتبة ، وشامتة في النسوة ، ومعترفة ، ومصرة على الفعل ، في آن واحد .
أي هذا هو من قلتن فيه ? امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ? يوسف 30 ، ولقد وصلني ما قلتن في ، عنى وعنه فأردت أن أريكن إياه ، فإنكن ومن نظرة واحدة ، تاهت عقولكن ولم تدرين ما تفعلن وقطعتن أيديكن ، انبهارا لجماله ، فما بالي أنا التي أعيش معه ليل نهار0
ثم جاءت اللحظة الحاسمة للانقضاض عليهن والاعتراف بل والتباهي بما حدث منها :? وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ ? وذلك خلافا لما قالت من قبل :(1/50)
? قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? يوسف 25 الدليل الثاني عشر:
يقول رب العزة على لسان امرأة العزيز ? فَاسَتَعْصَمَ ?
وهذا دليل أخر من الأدلة الدامغة ، على أن يوسف لم يمل إلي امرأة العزيز شهوانيا ولم يهم بعمل الفاحشة.
لأنه باعترافها هي قالت:? فَاسَتَعْصَمَ ?: ولم تقل (ولكنه استعصم) ، فهناك فرق كبير بين الكلمتين ، لأن الفاء هنا تعطى سرعة رد فعل يوسف بالرفض لفعل الفاحشة وشدته ، وأن اعتصامه ورفضه لم يأخذ وقتا للمراودة مع النفس يفعل أو لا يفعل.
كما يقول رب العزة في سورة الجمعة : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ? الجمعة9 .
فالفاء هنا في كلمة (فَاسْعَوْا) هي لسرعة التلبية ، وترك كل شيء حتى الرزق ولا نفكر في شيء أخر ولم يعط لنا الحق سبحانه مجالا للتروي أو التفكير نسعى أو لا نسعى.
ولأن الله لم يقل( اسعوا) ، لان كلمة اسعوا بدون الفاء تعطى مجالا أوسع للسعي في أي وقت .
عن ابن عباس ، قوله: { فَاسَتَعْصَمَ } يقول: فامتنع ___الطبري
وعلينا أن نتذكر قول القرطبي( ثم أقرت وقالت: ? وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ? أي امتنع. وسميت العصمة عصمة لأنها تمنع من ارتكاب المعصية. وقيل: "استعصم" أي استعصى ، والمعنى واحد ) .
وكذا قول ابن كثير: ودعته إلي نفسها? وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ? فامتنع من ذلك أشد الامتناع و ? قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ? يوسف 23.
فهل بعد كل هذا يميل إلى امرأة العزيز.
الفحشاء(1/51)
ثم أظهرت إصرارها وتحديها لفعل الفاحشة مع يوسف في جرأة أمام النسوة ، لأنها وجدت في النسوة ميل إلي يوسف ، فأعلنت تحديها له: ? وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ ? يوسف 32
فأصبح الطلب مكشوفا ، ومفضوحا ، وبلا حياء لأنها وجدت نفسها وقد انهزمت من قبل أمام يوسف ، إذا فعليه الآن أن يفعل وبالأمر ، وإن لم يطع أمرها فإنه سيعاقب بالسجن ، وسينزل من المنزلة التي هو عليها الآن من كونه المقرب إليها في حاشيتها ، ورأى من مظاهر العز والترف ما لم يره غيره ، إلي السجن ، ويفعل أشياء تصغر من شأنه.
وهذا يظهر لنا ما لنساء علية القوم من تأثير في القرارات التي تصدر وتخص العامة والدولة .
وجد يوسف نفسه أمام تحد جديد ، وهو من اختبار الله له ، واختبار لإيمانه وصبره ، ويعلمنا الله من خلاله كيف نقف أمام الشدائد ، وكيف ومتى نلجأ إلي الركن الشديد .
فالمرأة مازالت مصرة على الفعل ، وهذه المرة ليست كسابقتها ، فإن لم يفعل فالسجن أمامه ، وليس السجن فقط ، ولكن سينزل من المكانة التي هو فيها الآن من ترف العيش ورغده ، إلي منازل الذين يقومون بالأعمال المشينة ، وهو غير معتاد على هذا .
أي شاب هذا الذي يترك النعيم والترف بجوار امرأة العزيز ، وينزل إلي منازل الصاغرين ، هل من أجل ليلة مع امرأة ، وأي امرأة إنها امرأة العزيز التي إن وافق على طلبها فسيكون في منزلة يحسده عليها العزيز نفسه.
وليس مع امرأة العزيز وحدها ولكن مع نساء علية القوم أيضا.
ثم أليست هذه هي الفحشاء التي تكلم الله فيها وقال فيها :? لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء ? يوسف 24.
ولكن يوسف له رأى أخر:وليتعلم منه رجال الأمة وشبابها ، الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة ، ونسوا أن لهم ربا مطلع على أفعالهم ، وسيحاسبهم بها يوم العرض عليه.
ماذا قال يوسف:(1/52)
? قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ? يوسف 33
الطبري:
وهذا الخبر من الله يدل على أن امرأة العزيز قد عاودت يوسف في المراودة عن نفسه ، وتوعدته بالسجن والحبس إن لم يفعل ما دعته إليه ، فاختار السجن على ما دعته إليه من ذلك ؛ لأنها لو لم تكن عاودته وتوعدته بذلك ، كان محالا أن يقول: ? رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ? وهو لا يدعى إلي شيء ولا يخوف بحبس . والسجن هو الحبس نفسه ، وهو بيت الحبس .. وتأويل الكلام: قال يوسف: يا رب الحبس في السجن أحب إلي مما يدعونني إليه من معصيتك ويراودنني عليه من الفاحشة . كما:
- حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال: قال يوسف ، وأضاف إلي ربه واستعانة على ما نزل به: ? رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ? : أي السجن أحب إلي من أن آتي ما تكره
وقوله: ? وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ? يقول: وإن لم تدفع عني يا رب فعلهن الذي ويفعلن بي في مراودتهن أي على أنفسهن? أصب إليهن? ، يقول: أميل إليهن ، وأتابعهن على ما يردن مني ، ويهوين
- حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق: ? وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ ? : أي ما أتخوف منهن ? أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ?
- حدثني يونس ، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال: قال ابن زيد ، في قوله: ? وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ? قال: إلا يكن منك أنت العون والمنعة ، لا يكن مني ولا عندي
وقوله: ? وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ? يقول: وأكن بصبوتي إليهن من الذين جهلوا حقك وخالفوا أمرك ونهيك . كما:(1/53)
- حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق: ? وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ? : أي جاهلا إذا ركبت معصيتك.
القرطبي :
قوله تعالى: ? قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ? أي دخول السجن، فحذف المضاف؛ قاله الزجاج والنحاس. ? أَحَبُّ إِلَيَّ ?أي أسهل علي وأهون من الوقوع في المعصية؛ لا أن دخول السجن مما يحب على التحقيق.
? وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ ? أي كيد النسوان. وقيل: كيد النسوة اللاتي رأينه؟ فإنهن أمرنه بمطاوعة امرأة العزيز، وقلن له: هي مظلومة وقد ظلمتها. وقيل: طلبت كل واحدة أن تخلو به للنصيحة في امرأة العزيز؛ والقصد بذلك أن تعذله في حقها، وتأمره بمساعدتها، فلعله يجيب؛ فصارت كل واحدة تخلو به على حدة فتقول له: يا يوسف! اقض لي حاجتي فأنا خير لك من سيدتك؛ تدعوه كل واحدة لنفسها وتراوده؛ فقال: يا رب كانت واحدة فصرن جماعة. وقيل: كيد امرأة العزيز فيما دعته إليه من الفاحشة؛ وكنى عنها بخطاب الجمع إما لتعظيم شأنها في الخطاب، وإما ليعدل عن التصريح إلي التعريض. والكيد الاحتيال والاجتهاد؛ ولهذا سميت الحرب كيدا لاحتيال الناس فيها
قوله تعالى: ? أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ? جواب الشرط، أي أمل إليهن، من صبا يصبو - إذا مال واشتاق - صبوا وصبوة
أي إن لم تلطف بي في اجتناب المعصية وقعت فيها. ? وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ?أي ممن يرتكب الإثم ويستحق الذم، أو ممن يعمل عمل الجهال؛ ودل هذا على أن أحدا لا يمتنع عن معصية الله إلا بعون الله؛ ودل أيضا على قبح الجهل والذم لصاحبه.
ابن كثير:(1/54)
? قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ? أي من الفاحشة ? وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ? أي إن وكلتني إلي نفسي فليس لي منها قدرة ولا أملك لها ضرا ولا نفعا إلا بحولك وقوتك أنت المستعان وعليك التكلان فلا تكلني إلي نفسي? أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ ?الآية وذلك أن يوسف عليه السلام عصمه الله عصمة عظيمة وحماه فامتنع منها أشد الامتناع واختار السجن على ذلك وهذا في غاية مقامات الكمال أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته وهى امرأة عزيز مصر وهي مع هذا في غاية الجمال والمال والرياسة ويمتنع من ذلك ويختار السجن على ذلك خوفا من الله ورجاء ثوابه ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه. .
الشعراوي :
ولسائل أن يقول :ولماذا جاء قول يوسف بالجمع ؛وقال
? السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ?على الرغم من أن امرأة عزيز هي التي قالت:? وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ ?يوسف32.
ونقول ؛لابد أن يوسف عليه السلام قد رأى منهن إشارات أو غمزات توحي له بألا يعرض نفسه لتلك الورطة التي ستؤدى به إلى السجن ؛ لذلك أدخل يوسف عليه السلام في قوله المفرد - امرأة العزيز -في جمع النسوة اللاتي جمعتهن امرأة العزيز ؛وهن اللاتي طلبن منه غمزا أو إشارة أن يخرج نفسه من هذا الموقف .(1/55)
ولعل أكثر من واحدة منهن قد نظرت إليه في محاولة لاستمالته ؛ وللعيون والانفعالات وقسمات الوجه تعبير ابلغ من تعبير العبارات.
وقد تكون إشارات عيونهن قد دلت يوسف على المراد الذي تطلبه كل واحدة منهن ؛وفى مثل هذه الاجتماعات تلعب لغة العيون دورا هاما.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد يوسف عليه السلام قد جمع امرأة العزيز مع النسوة ؛فقال : ? قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ?أي أن السجن أفضل لديه من أن يوافق امرأة العزيز على فعل الفحشاء ؛ أو يوافق النسوة على دعوتهن له أن يحرر نفسه من السجن بأن يستجيب لها ؛ثم يخرج إليهن من القصر من بعد ذلك .
ولكن يوسف عليه السلام دعا ربه ؛فقال: ? وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ? فيوسف عليه السلام بعرف أنه من البشر ؛ وإن لم يصرف الله عنه كيدهن ؛لاستجاب لغوايتهن ولأصبح من الجاهلين الذين لا يلتفتون إلى عواقب الأمور...... انتهى.
ونقول وبالله التوفيق :
أصبح يوسف في موقف صعب ، وهو على مفترق طريقين .
أحدهما فيه هناء الدنيا ورغدها ونعيمها ، وفيه الضغوط شديدة لفعل الفاحشة ، ولكن فيه غضب الله سبحانه.والآخر فيه السجن ، والشقاء ، والعذاب ، والتصغير من الشأن في الدنيا ، ولكن فيه رضاء الله سبحانه وتعالى ، ونعيم الآخرة . . والكيد :هو ما أضمرته امرأة العزيز والنسوة في الضغط علي يوسف لفعل الفاحشة معهن .
حسم يوسف أمره ، واتجه إلي الله بالدعاء ، وكأني أسمعه.
*يارب ، اشتد الخطب ، وزادت الأمور تعقيدا .
يارب: قد خيروننى في عمل الفاحشة معهن ، بين رغد العيش وهناء الدنيا ونعيمها ، في مقابل معصيتك ؛أو السجن والصغار في الدنيا في عدم الفعل ، في مقابل طاعتك .فأحببت السجن ودخوله ، في مقابل طاعتك ، وعدم معصيتك(1/56)
يارب : قد أحببت رضاك ، وعفوك ، ونعيمك الأبدي ، على نعيم زائل ، فيه غضبك ، ومذلة ، وخزي يوم ألقاك .
يارب :اصرفهن عنى ، واصرف كيدهن عنى ، لأنك إن لم تصرف عنى كيدهن سأكون ضعيفا أمامهن ، وليس لي قوة في مقاومتهن إلي ما يردن منى ، فأميل إليهن وأكون من الذين جهلوا أمرك فهلكوا وخسروا الدنيا والآخرة *.
..............................................................................
بين النجمتين * * بتصرف
............................................................................
وهنا نجد أن يوسف عليه السلام قد قال كلمة لها مدلول كبير على براءته من الهم لعمل الفاحشة مع امرأة العزيز حيث قال:
? قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ? يوسف 33
هنا جمع يوسف النسوة في محاولة فعل الفاحشة معه ، ولم يتكلم عن امرأة العزيز ، وهذا يؤكد أن يوسف لم تتحرك غريزته تجاه امرأة العزيز في مراودتها الأولى:
ولكن تكالب النسوة عليه ، كاد أن يغلبه فكان دعائه وتضرعه إلي الله.
صرف الفحشاء
? فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ?34يوسف
الطبري:
وتأويل الكلام: فاستجاب الله ليوسف دعاءه ، فصرف عنه ما أرادت منه امرأة العزيز وصاحباتها من معصية الله . كما:
- حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق: ? فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ?: أي نجاه من أن يركب المعصية فيهن ، وقد نزل به بعض ما حذر منهن .
وقوله: ? إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ? دعاء يوسف حين دعاه بصرف كيد النسوة عنه ودعاء كل داع من خلقه . { الْعَلِيمُ } بمطلبه وحاجته ، وما يصلحه ، وبحاجة جميع خلقه وما يصلحهم .
القرطبي :(1/57)
قوله تعالى: ? فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ ? لما قال. ? وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ ?تعرض للدعاء ، وكأنه قال: اللهم اصرف عني كيدهن ؛ فاستجاب له دعاءه ، ولطف به وعصمه عن الوقوع في الزنا. " كَيْدَهُنَّ " قيل: لأنهن جمع قد راودنه عن نفسه. وقيل: يعني كيد النساء. وقيل: يعني كيد امرأة العزيز ، على ما ذكر في الآية قبل ؛ والعموم أولى.
الشعراوي :
وهكذا تفضل عليه الله الذي خلقه وتولى تربيته وحمايته فصرف عنه كيدهن الذي تمثل في دعوتهن له أن يستسلم لما دعته إليه امرأة العزيز ثم غوايتهن له بالتلميح دون التصريح .......انتهى
فنقول وبالله التوفيق :
في هذه الآية يأتي دور صرف الفحشاء عن يوسف:? فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ? يوسف 34 :أي لبى الله نداء يوسف واستغاثته به حيث يقول رب العزة في سورة النمل:? أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ? النمل 62 : لأنه فعلا كان في حالة المضطر المستغيث .
ولأن يوسف لم يكن في حالة استغاثة أو اضطرار في قوله ? قَالَ مَعَاذَ اللّهِ ? يوسف 23: لأنه كان في حالة تنبيه وتذكير لامرأة العزيز ، ولم يكن هناك اضطرار إلي الاستغاثة والركن الكامل ، ولكن كان أمامه خيارات كثيرة ، ووقت متسع ، وحيل للهرب من الموقف الذي كان فيه من قبل .
أما في هذا الموقف فان يوسف قد أحيط به ، ولا يوجد مخرج له ، فإما الفعل ، أو السجن والصغار ، ولا يوجد خيار أخر ، فكان لابد من الركن إلي الله وهو مضطر ، (وكأنني أشعر أن هذه الآية قد أنزلت في نبي الله يوسف خاصة).(1/58)
وهنا يعلمنا الله أن العبد يجب عليه أولا أن يعمل عقله الذي خلقه الله له في الأزمات للخروج منها ، فإذا ما استعمل الإنسان عقله ، فان الله سيهديه إلي برهان للخروج من مأزقه ، كما فعل يوسف وهداه الله لحيلة الهروب إلي الباب ، ولكن إذا استنفذ العبد كل حيله وأحيط به ، فعليه أن يلجأ إلي من هو أقوى منه ومن الموقف الذي هو فيه ، فان الله سيخرجه منه بقدرته .
ولكن أن نركن إلي الدعاء فقط ولا نحاول أن نفكر للخروج من مما نحن فيه ، ونقول أن الله سيخرجنا مما نحن فيه ، فهذا يعتبر تواكلا .
وهذا هو حال الأمة الإسلامية الآن ، أعداؤها متربصون بها ، وهى في غيبوبة التواكل وعدم العمل للخروج من غفوتها ، ويتواكلون على غيرهم ليفكر لهم ، وينظم لهم حياتهم ، وأعطوا لعقولهم راحة أبدية ، فبدأ السوس ينخر فيها .
أفيقي يا أمة أعطت خيرها لمن يريد القضاء عليها.
? فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ? فصرف الله عنه ما كانت امرأة العزيز والنسوة يمكرون على فعله معه .
أما كيف صرف الله عنه كيد النسوة ، فهي من آيات الله التي لم يبين لنا أحد من المفسرين وعلمائنا الأجلاء كيف صرف الله هذا الكيد.
فنقول والله أعلم ، وقد أكون مصيبا في اجتهادي هذا وقد أكون مخطئا ، فعلى الله قصد السبيل.
قد يكون هناك سببان أو أحدهما .
الأول ، أن يكون الأمر انتشر ووصل إلي مسامع كبار القوم ، فحبس كل رجل زوجته في قصرها .
الثاني ، أن يكون العزيز قد طلب يوسف لديه وجعله بعيدا عن أعين النسوة0
فيقول البعض أن ألله قد صرف عنه كيد النسوة بوضعه في السجن .
فأقول أن السجن وضع يوسف فيه بناءً على دعوته إلي الله واختياره ، عندما قال ? رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ?.
ولكن الآية التي نحن بصددها لم تتكلم عن السجن ، ولكن تكلمت عن استجابة الدعوة في صرف الكيد .(1/59)
أما السجن فجاء في الآية التالية وبعد صرف الكيد بفترة لأن الله يقول فيها .
? ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ? يوسف 35
الطبري:
يقول تعالى ذكره: ثم بدا للعزيز زوج المرأة التي راودت يوسف عن نفسه . وقيل: " بَدَا لَهُم " ، وهو واحد ، لأنه لم يذكر باسمه ويقصد بعينه ، وذلك نظير قوله: ? الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ?أل عمران173 وقيل: إن قائل ذلك كان واحدا . وقيل: معنى قوله: ? ثُمَّ بَدَا لَهُم ? في الرأي الذي كانوا رأوه من ترك يوسف مطلقا ، ورأوا أن يسجنوه ? مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ ? ببراءته مما قذفته به امرأة العزيز . وتلك الآيات كانت: قد القميص من دبر ، وخمشا في الوجه ، وقطع أيديهن.
وقوله: ? لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ? يقول: ليسجننه إلي الوقت الذي يرون فيه رأيهم . وجعل الله ذلك الحبس ليوسف فيما ذكر عقوبة له من همه بالمرأة وكفارة لخطيئته .
وذكر أن سبب حبسه في السجن: كان شكوى امرأة العزيز إلي زوجها أمره وأمرها . كما:
- حدثنا ابن وكيع ، قال: ثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن ألسدي: ? ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ? قال: قالت المرأة لزوجها: إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يعتذر إليهم ويخبرهم أني راودته عن نفسه ، ولست أطيق أن أعتذر بعذري ، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر ، وإما أن تحبسه كما حبستني ، فذلك قول الله تعالى: ? ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ?
القرطبي:(1/60)
قوله تعالى: ? ثُمَّ بَدَا لَهُم ? أي ظهر للعزيز وأهل مشورته "من بعد أن? رَأَوُاْ الآيَاتِ ? أي علامات براءة يوسف - من قد القميص من دبر؛ وشهادة الشاهد ، وحز الأيدي ، وقلة صبرهن عن لقاء يوسف: أن يسجنوه كتمانا للقصة ألا تشيع في العامة ، وللحيلولة بينه وبينها. وقيل: هي البركات التي كانت تنفتح عليهم ما دام يوسف فيهم ؛ والأول أصح.
قال مقاتل عن مجاهد عن ابن عباس في قوله: ? ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ ? قال: القميص من الآيات ، وشهادة الشاهد من الآيات ، وقطع الأيدي من الآيات ، وإعظام النساء إياه من الآيات. وقيل: ألجأها الخجل من الناس ، والوجل من اليأس إلي أن رضيت بالحجاب مكان خوف الذهاب ، لتشتفي إذا منعت من نظره،
قوله تعالى: " لَيَسْجُنُنَّهُ " "يُسْجُنُنه" في موضع الفاعل؛ أي ظهر لهم أن يسجنوه ؛
قوله تعالى: ? حَتَّى حِينٍ ? أي إلي مدة غير معلومة ؛ قاله كثير من المفسرين.
ابن كثير:
يقول تعالى: ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رأوه أنهم يسجنونه إلي " حين " أي إلي مدة وذلك بعد ما عرفوا براءته وظهرت الآيات وهي الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته وكأنهم والله أعلم إنما سجنوه لما شاع الحديث إيهاما أنه راودها عن نفسها وأنهم سجنوه على ذلك ولهذا لما طلبه الملك الكبير في آخر المدة امتنع من الخروج حتى تتبين براءته مما نسب إليه من الخيانة فلما تقرر ذلك خرج وهو نقي العرض صلوات الله عليه وسلامه وذكر السدي أنهم إنما سجنوه لئلا يشيع ما كان منها في حقه ويبرأ عرضه فيفضحها.
الشعراوي :
وبعد أن ظهرت العلامات الشاهدة على براءة يوسف عليه السلام أمام العزيز وأهل مشورته ، وانكشف لهم انحراف امرأة العزيز وإصرارها على أن توقع بيوسف في الفعل الفاضح معها ، دون خجل أو خوف من الفضيحة .(1/61)
لذلك رأى ألعزيز وأهل مشورته أن يوضع يوسف في السجن ، ليكون في ذلك فصل بينه وبينها ، حتى تهدأ ضجة الفضيحة ، وليظهر للناس أنه مسئول عن كل هذا السوء الذي ظهر في بيت العزيز .........انتهى.
ونقول وبالله التوفيق:
ظهر للعزيز وحاشيته أن يوسف بريء ، وأن أخلاقه ، وأدبه ، ودينه لا غبار عليه ، ولكن وجوده فيه فتنة على نسائهم ، إذا فعليهم أن يتخذوا موقفا لدرء هذا الخطر .
وكان القرار ، حبس يوسف فترة من الزمن حتى تموت هذه الفتنة.
إلي هنا تنتهي علاقة يوسف مع امرأة العزيز ، ولكنه لم يبرأ التبرئة الكاملة ، فلقد دخل السجن ظلما ، ولكن الله سبحانه له تصريف آخر.
فكان تعبير رؤيا الرجلين اللذان كانا معه في السجن هي مفتاح النقلة الأخرى له ، فجاءت رؤيا الملك التي لم يستطع أحد أن يعبرها ، لتنقل يوسف نقلة أخرى ، ويتم عن طريقها كشف ما حاول العزيز وحاشيته أن يطمسوه ، ولتبرئ يوسف براءة كاملة من محاولة فعل الفاحشة مع امرأة العزيز.
فبعد أن عبر رؤيا الملك ، أدرك الملك أن من يعبر تلك الرؤيا بهذا التأويل لا يمكن أن يكون مثله في السجن ، فطلبه الملك.
الثبات علي المبدأ
? وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ? يوسف 50
الطبري:
يقول تعالى ذكره: فلما رجع الرسول الذي أرسلوه إلي يوسف ، الذي قال: ?أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ? فأخبرهم بتأويل رؤيا الملك عن يوسف ، علم الملك حقيقة ما أفتاه به من تأويل رؤياه وصحة ذلك ، وقال الملك: ائتوني بالذي عبر رؤياى هذه .(1/62)
وقوله: ? فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ ? يقول: فلما جاءه رسول الملك يدعوه إلي الملك ، ? قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ? يقول: قال يوسف للرسول: ارجع إلي سيدك ? فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ? . وأبى أن يخرج مع الرسول وإجابة الملك حتى يعرف صحة أمره عندهم مما كانوا قذفوه به من شأن النساء ، فقال للرسول: سل الملك ما شأن النسوة اللاتي قطعن أيديهن ، والمرأة التي سجنت بسببها.
قال السدي ، قال ابن عباس: لو خرج يوسف يومئذ قبل أن يعلم الملك بشأنه ، ما زالت في نفس العزيز منه حاجة ، يقول: هذا الذي راود امرأته.
وقوله: ? إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ? يقول: إن الله تعالى ذكره ذو علم بصنيعهن وأفعالهن التي فعلن بي ويفعلن بغيري من الناس ، لا يخفى عليه ذلك كله ، وهو من وراء جزائهن على ذلك . وقيل: إن معنى ذلك: إن سيدي العزيز زوج المرأة التي راودتني عن نفسي ذو علم ببراءتي مما قذفتني به من السوء
القرطبي:(1/63)
قوله تعالى: ? وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ? أي فذهب الرسول فأخبر الملك، فقال: ائتوني به. ? فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ ? أي يأمره بالخروج. ? قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ ? أي حال النسوة. ? فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ ? ذكر النساء جملة ليدخل فيهن امرأة العزيز مدخل العموم بالتلويح حتى لا يقع عليها تصريح ؛ وذلك حسن عشرة وأدب ؛ وفي الكلام محذوف ، أي فاسأله أن يتعرف ما بال النسوة. ? اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ? فأبى أن يخرج إلا أن تصح براءته عند الملك مما قذف به ، وأنه حبس بلا جرم. 00 وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلي ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ونحن أحق من إبراهيم إذ قال له ?أو لم تؤمن قال بلى ولكني ليطمئن قلبي? [البقرة: 260] قال ابن عطية: كان هذا الفعل من يوسف عليه السلام أناة وصبرا ، وطلبا لبراءة الساحة ؛ وذلك أنه - فيما روي - خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة ويسكت عن أمر ذنبه صفحا فيراه الناس بتلك العين أبدا ويقولون: هذا الذي راود امرأة مولاه ؛ فأراد يوسف عليه السلام أن يبين براءته ، ويحقق منزلته من العفة والخير؛ وحينئذ يخرج للأحظاء والمنزلة؛ فلهذا قال للرسول: ارجع إلي ربك وقل له ما بال النسوة ، ومقصد يوسف عليه السلام إنما كان: وقل له يستقصي عن ذنبي، وينظر في أمري هل سجنت بحق أو بظلم.
ابن كثير:(1/64)
قول تعالى إخبارا عن الملك لما رجعوا إليه بتعبير رؤياه التي كان رآها بما أعجبه وأيقنه فعرف فضل يوسف عليه السلام وعلمه وحسن إطلاعه على رؤياه وحسن أخلاقه على من ببلده من رعاياه فقال ? ائْتُونِي بِهِ ? أي أخرجوه من السجن وأحضروه فلما جاءه الرسول بذلك امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ورعيته براءة ساحته ونزاهة عرضه مما نسب إليه من جهة امرأة العزيز وأن هذا السجن لم يكن على أمر يقتضيه بل كان ظلما وعدوانا ? قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ?الآية وقد وردت السنة بمدحه على ذلك والتنبيه على فضله وشرفه وعلو قدره وصبره صلوات الله وسلامه عليه.
الشعراوي :
وهكذا حرص يوسف على ألا يستجيب لمن جاء يخلصه من عذاب السجن الذي هو فيه ، إلا إذا برأت ساحته براءة يعرفها الملك .
وأراد يوسف عليه السلام بذلك أن يحقق الملك في ذلك الأمر مع هؤلاء النسوة اللاتي قطعن أيديهن ؛ ودعونه إلى الفحشاء ، واكتفى يوسف بالإشارة إلى ذلك بقوله? إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ? .
ويخفى هذا القول في طياته ما قالته النسوة من قبل ليوسف بضرورة طاعة امرأة العزيز في طلبها للفحشاء .
وهكذا نجد القصص القرأنى وهو يعطينا العبرة التي تخدمنا في واقع الحياة ، فليست تلك القصص للتسلية ؛ بل هي للعبرة التي تخدمنا في قضايا الحياة.
وبراءة ساحة أي إنسان هو أمر مهم كي تزول أي ريبة من الإنسان قبل أن يسند إليه أي عمل.
ونقول وبالله التوفيق:
هنا نجد أن الخطاب قد اختلف ، فيما سبق كان الحديث عن العزيز ، أما هنا فالحديث عن الملك .
? وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ?: هذا كان طلب بصيغة الأمر من الملك بأن يأتوا بيوسف .
ذهب الرسول إلى يوسف في السجن وأخبره أن الملك يريده ، في هذه اللحظة وجد يوسف ضالته ليبرئ ساحته من محاولة فعل الفاحشة ، ولم يتعجل الخروج من السجن .
ولو كان أحد أخر من البشر لخرج مسرعا وما لبث فيه لحظة واحدة ، ثم بعد ذلك يقص على الملك قصته .(1/65)
ولكن يوسف أراد أن يظهر الحق أمام الملك ، وعلى لسان من اتهموه وتسببوا في وضعه في السجن ظلما ، فكان عليه أن يرجع الرسول إلى الملك دون أن ينفذ أمر الملك ، وهذه من الأمور العظام بل ويعتبره الملوك تمردا.
وليس هذا وحسب بل ويطلب أن يحقق الملك أولا في قضيته0
فقال للرسول:? قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ? يوسف 50
ثم حدد يوسف أطراف القضية للملك ، وبداية الخيط فيها ، ودلل عليهن باللاتي قطعن أيديهن ولكنه لم يسميهن له ، وذلك ليبحث الملك ، وهذا الذي فعله يوسف أعطى لقضيته قوة واهتماما لدى الملك .
عاد الرسول إلى الملك ، وقص عليه ما كان من يوسف ، أسقط في يد الملك إن من يقول هذا الكلام ويرفض الخروج من السجن ، وراءه خبر عظيم وشديد ، فأراد أن يعرف الحقيقة وبدأ يسأل عن حقيقة الأمر ومن هن النسوة اللاتي قطعن أيديهن ، وبدأت تظهر الحقيقة أمام الملك .
وعندما يقول يوسف عليه السلام :? إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ? ، فإنه بهذا يعرض قضيته الإيمانية ، ويخبر الملك بأن له إلها غير الذي يعبده الملك ، فيسأل الملك من إلهه هذا الذي يعرف ما لا يعرفه هو عن رعيته .
وهنا نتعلم من يوسف عليه السلام أمرين 0
الأول :
الثبات لإظهار الحق مهما كانت الصعوبات ، وبإسلوب مهذب ومدعم بالأدلة على البراءة .
الثاني :(1/66)
عرض القضية الإيمانية في ألوقت المناسب ، وبإسلوب فيه ذكاء ليجعل المتلقي يفكر ، ولا يأخذ الأمور مأخذا متكبرا ، كما عرضها من قبل على صاحبي السجن: ? قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ {37} وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ {38} يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ {39} مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ {40} ? يوسف .
وقد يكون القصد عن العزيز حيث قال من قبل? إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ? 23يوسف.
الاعتراف الثاني
? قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ? يوسف 51
الطبري :(1/67)
ويعني بقوله: ? مَا خَطْبُكُنَّ ? ما كان أمركن ، وما كان شأنكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ، فأجبنه: ? قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ? تقول: الآن تبين الحق وانكشف فظهر ، ? أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ ? وإن يوسف لمن الصادقين في قوله ?هي راودتني عن نفسي?.
وبمثل ما قلنا في معنى: ? الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ? قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك:
- حدثني المثنى ، قال: ثنا عبد الله ، قال: ثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس: ? الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ? قال: تبين
- حدثني محمد بن عمرو ، قال: ثنا أبو عاصم ، قال: ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله: ? الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ? تبين
- حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال: قالت راعيل امرأة إطفير العزيز: ? الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ? : أي الآن برز الحق وتبين ، ? أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين? فيما كان قال يوسف مما ادعت عليه
- حدثنا ابن وكيع ، قال: ثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي ، قال: قال الملك: ائتوني بهن ، فقال: ? مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ? . ولكن امرأة العزيز أخبرتنا أنها راودته عن نفسه ، ودخل معها البيت وحل سراويله ثم شده بعد ذلك ، فلا تدري ما بدا له . فقالت امرأة العزيز: ? الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ?
وأصل حصحص: حص ؛ ولكن قيل: حصحص ، كما قيل: {فكبكبوا} في "كبوا" ، وقيل: "كفكف" في "كف" ، و "ذر ذر" في "ذر" . وأصل الحص: استئصال الشيء ، يقال منه: حص شعره: إذا استأصله جزا . وإنما أريد في هذا الموضع: حصحص الحق: ذهب الباطل والكذب ، فانقطع ، وتبين الحق فظهر
القرطبي :(1/68)
قال ابن عباس: فأرسل الملك إلي النسوة وإلي امرأة العزيز - وكان قد مات العزيز فدعاهن فـ? قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ ? أي ما شأنكن. ? إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ? وذلك أن كل واحدة منهن كلمت يوسف في حق نفسها، على ما تقدم، أو أراد قول كل واحدة قد ظلمت امرأة العزيز، فكان ذلك مراودة منهن. ? قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ ? أي معاذ الله. ? مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ? أي زنى. ? قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ? لما رأت إقرارهن ببراءة يوسف ، وخافت أن يشهدن عليها إن أنكرت أقرت هي أيضا ؛ وكان ذلك لطفا من الله بيوسف. و? حَصْحَصَ الْحَقُّ ? أي تبين وظهر؛ وأصله حصص،
؛ فمعنى? حَصْحَصَ الْحَقُّ ? أي انقطع عن الباطل ، بظهوره وثباته
وقيل: هو مشتق من الحصة؛ فالمعنى: بانت حصة الحق من حصة الباطل. وقال مجاهد وقتادة: وأصله مأخوذ من قولهم ؛ حص شعره إذا استأصل قطعه ؛ ومنه الحصة من الأرض إذا قطعت منها. والحصحص بالكسر التراب والحجارة؛ ذكره الجوهري.
? أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ? وهذا القول منها - وإن لم يكن سأل عنه - إظهار لتوبتها وتحقيق لصدق يوسف وكرامته ؛ لأن إقرار المقر على نفسه أقوى من الشهادة عليه ؛ فجمع الله تعالى ليوسف لإظهار صدقه الشهادة والإقرار، حتى لا يخامر نفسا ظن ، ولا يخالطها شك. وشددت النون في " خَطْبُكُنَّ " و" رَاوَدتُّنَّ " لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر.
ابن كثير:(1/69)
وقوله تعالى ? مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ? إخبار عن الملك حين جمع النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند امرأة العزيز فقال مخاطبا لهن كلهن وهو يريد امرأة وزيره وهو العزيز قال الملك للنسوة اللاتي قطعن أيدهن? مَا خَطْبُكُنَّ ? أي شأنكن وخبرنكن ? إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ? يعني يوم الضيافة? قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ? أي قالت النسوة جوابا للملك حاش لله أن يكون يوسف متهما والله ما علمنا علية من سوء فعند ذلك ? قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ? قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: تقول الآن تبين الحق وظهر وبرز ? أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ? أي في قوله ? هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ?.
الشعراوي :
وهنا في الموقف الذي نتناوله بالخواطر نجد الملك وهو يستدعى النسوة اللاتي قطعن أيديهن وراودن يوسف عن نفسه .
ونعلم أن المراودة الأولى ليوسف كانت من امرأة العزيز واستعصم يوسف ؛ثم دعت هي النسوة إلى مجلسها........انتهى.
ونقول وبالله التوفيق:
جمع الملك الحاشية والنسوة وأراد أن يعرف الحقيقة ممن كانوا هم أبطالها وبنفسه ولا يعتمد على التقارير ، لأن الموضوع خطير وفيه ظلم لأحد رعاياه وعلى هذا بدأ كلامه مع النسوة بكلمة ، فيها حزم وقوة ، وإيحاء لمن أمامه بأنه قد علم الحقيقة ، فلا يعطى لمن أمامه فرصة للمراوغة أو الهروب من إجابة سؤاله ، أو الكذب .
? مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ? يوسف 51
والخطب كما يقول الإمام الشعراوي ، هو الحدث الجلل ، فهو حدث غير عادى يتكلم به الناس ، فهو ليس حديثا بينهم وبين أنفسهم , بل يتكلمون عنه بحديث يصل إلى درجة تهتز لها المدينة .
ويقول أيضا,(1/70)
وقول الملك هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :? قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ? يوسف 51 .
يدل على أنه قد سمع الحكاية بتفاصيلها فاهتز لها , واعتبرها خطبا مما يوضح لنا أن القيم هي القيم في كل زمان ومكان.
وبدأ النسوة الكلام:وقولهن(حَاشَ لِلّهِ) :أي ننزه يوسف عن هذا ، وتنزيهنا ليوسف أمر من الله .........انتهى.
ردت النسوة بالحق ? قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ? .
الدليل الثالث عشر:
للمرة الثانية يتم تنزيه يوسف عليه السلام ففي المرة الأولى قلن? وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ? يوسف 31 ، لكن في هذه المرة تأتى لتبرءتة حيث قلن? مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ? .
والسوء كما قال عنه العلماء :
السوء: الشهوة.
وقيل: السوء:الثناء القبيح.
وقيل: السوء:خيانة صاحبه.
وقيل: السوء:هي فكرة الهم ،
فإذا كان هذا هو السوء ، فكيف يهم بها لعمل الفاحشة والنسوة لم يعلمن عليه هذا السوء (أي مجرد العلم):لأن امرأة العزيز قد اعترفت أمام النسوة من قبل:
? وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ? يوسف 32
ولأن للنسوة أسرارهن فيما بينهن فإن كان يوسف قد هم بعمل الفاحشة معها ، فإنها كانت ستقول لهن: أنه هم للفعل ولكنه ارتد ورجع عنه ، وبهذا يكون في يوسف ضعف ويكون من السهل إغوائه ، وما كن ليقلن :? مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ?. وما كان يوسف ليرجع رسول الملك وما قال له :? قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ? يوسف50
ولأن يوسف لم يهم لعمل الفاحشة فإنهن اعترفن بما علمنه من الحقيقة من امرأة العزيز.(1/71)
وعلى هذا فهي تقول: ? قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ? يوسف 51
في هذه اللحظة لم تجد امرأة العزيز أمامها إلا الاعتراف علانية وأمام الملك وكانت من قبل قد اعترفت أمام النسوة:? وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ? يوسف 32.
أي ظهر الحق وعلاماته للجميع ولا أستطيع أن أخفيه أكثر من هذا .
? ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ {52} وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ {53} ? يوسف
القرطبي :
قوله تعالى: ? ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ? اختلف فيمن قاله، فقيل: هو من، قول امرأة العزيز، وهو متصل بقولها: ? الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ? أي أقررت بالصدق ليعلم أني لم أخنه بالغيب أي بالكذب عليه، ولم أذكره بسوء وهو غائب، بل صدقت وحدت عن الخيانة؛ ثم قالت: ? وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ? بل أنا راودته؛ وعلى هذا هي كانت مقرة بالصانع، ولهذا قالت: ? إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?. وقيل: هو من قول يوسف؛ أي قال يوسف: ذلك الأمر الذي فعلته ، من رد الرسول "ليعلم" العزيز ? أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ? قاله الحسن وقتادة وغيرهما. ومعنى " بِالْغَيْبِ " وهو غائب. قوله تعالى: ? وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ? قيل: هو من قول المرأة. وقال القشيري: فالظاهر أن قوله: ? ذَلِكَ لِيَعْلَمَ ? وقوله: ? وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ?من قول يوسف.(1/72)
قلت: إذا احتمل أن يكون من قول المرأة فالقول به أولى حتى نبرئ يوسف من حل الإزار والسراويل؛ وإذا قدرناه من قول يوسف فيكون مما خطر بقلبه، على ما قدمناه من القول المختار في قوله: "وهم بها". قال أبو بكر الأنباري: من الناس من يقول: ? ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ? إلى قوله: ? إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? من كلام امرأة العزيز ؛ لأنه متصل بقولها: ? أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ? [يوسف: 51]
مذهب الذين ينفون الهم عن يوسف عليه السلام ؛ فمن بنى على قولهم قال: من قوله: ? قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ ? [يوسف: 51]
قوله: ? إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? كلام متصل بعضه ببعض ، ولا يكون فيه وقف تام على حقيقة ؛ ولسنا نختار هذا القول ولا نذهب إليه. وقال الحسن: لما قال يوسف ? ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ? كره نبي الله أن يكون قد زكى نفسه فقال: ? وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ? لأن تزكية النفس مذمومة ؛ قال الله تعالى: ?فلا تزكوا أنفسكم? [النجم: 32](1/73)
بيناه في "النساء". وقيل: هو من قول العزيز؛ أي وما أبرئ نفسي من سوء الظن بيوسف. ? إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ? أي مشتهية له. ? إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? ? إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ ? في موضع نصب بالاستثناء؛ و"ما" بمعنى من؛ أي إلا من رحم ربي فعصمه؛ و"ما" بمعنى من كثير؛ قال الله تعالى: ? فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء ? [النساء: 3] وهو استثناء منقطع، لأنه استثناء المرحوم بالعصمة من النفس الأمارة بالسوء؛ وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما تقولون في صاحب لكم إن أنتم أكرمتموه وأطعمتموه وكسوتموه أفضى بكم إلى شر غاية وإن أهنتموه وأعريتموه وأجعتموه أفضى بكم إلى خير غاية) قالوا: يا رسول الله! هذا شر صاحب في الأرض. قال: (فوالذي نفسي بيده إنها لنفوسكم التي بين جنوبكم).
ابن كثير:(1/74)
? ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ? تقول إنما اعترفت بهذا على نفسي ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر ولا وقع المحذور الأكبر وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع فلهذا اعترفت ليعلم أني بريئة ? وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي? تقول المرأة ولست أبرئ نفسي فإن النفس تتحدث وتتمنى ولهذا راودته لأن ? إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ ? أي إلا من عصمه الله تعالى ? إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام وقد حكاه الماوردي في تفسيره وانتدب لنصره الإمام أبو العباس رحمه الله فأفرده بتصنيف على حدة وقد قيل إن ذلك من كلام يوسف عليه السلام يقول : قال ليعلم أني لم أخنه في زوجته بالغيب " الآيتين أي إنما رددت الرسول ليعلم الملك براءتي وليعلم العزيز ? أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ ? في زوجته ? بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ? الآية وهذا القول هو الذي لم يحك ابن جرير حاتم سواه قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال لما جمع الملك النسوة فسألهن هل راودتن يوسف عن نفسه؟ ? قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ?الآية قال يوسف ? ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ?فقال له جبريل عليه السلام: ولا يوم هممت بما هممت به ؟ فقال ? وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ?الآية وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وابن أبى الهذيل والضحاك والحسن وقتادة والسدي والقول الأول أقوى وأظهر لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك ولم يكن يوسف عليه السلام عندهم بل بعد ذلك أحضره الملك.
الشعراوي :(1/75)
قالت ذلك (امرأة العزيز )حتى تعلن براءة يوسف عليه السلام وأنها لم تنتهز فرصة غيابه في السجن وتنتقم منه لأنه لم يستجب لمراودتها له ، ولم تنسج له أثناء غيابه المؤامرات ، والدسائس ، والمكائد .
وبعد أن اعترفت امرأة العزيز بما فعلت قالت:? وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ? أي أنها أقرت بأنه سبحانه وتعالى لا ينفذ كيد الخاطئين ولا يوصله إلى غايته
وتواصل امرأة العزيز فتقول :? وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? هذا القول من تمام كلام امرأة العزيز وكأنها توضح سبب حضورها لهذا المجلس ؛ فهي لم تحضر لتبرىء نفسها
? إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ?.
ومجرد قول الحق سبحانه المؤكد أن النفس على إطلاقها أمارة بالسوء ؛يجعلنا نقول :إن يوسف أيضا نفس بشرية..........انتهى.
ونقول وبالله التوفيق :
يقول رب العزة على لسان امرأة العزيز: ? وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? يوسف 53
وهنا تعترف امرأة العزيز بأن نفسها الأمارة بالسوء هي التي دعتها لهذا الفعل المشين والى اتهام يوسف هذا الاتهام.
الدليل الرابع عشر :
قسم العلماء الأنفس إلى ثلاثة أقسام
الأول النفس الأمارة بالسوء مثل نفس امرأة العزيز وباعترافها وأن هذه النفس تورد صاحبها مورد الهلاك.
الثاني النفس اللوامة ? وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ? القيامة 2
وهى التي تلوم صاحبها إذا فعل خطيئة ما.
الثالث النفس المطمئنة ? يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ُ? الفجر 27
وهى النفس التي تطمئن في فعلها إلى أنها لا يمكن أن تفعل شيئا يخالف أوامر الله ، وأن الله يرضى عن أفعالها .
فعلينا أن نسأل أنفسنا سؤالا.(1/76)
نفس يوسف عليه السلام من أي نوع من تلك الأنفس وهو لله نبي.
والذي نعلمه أن أنفس الأنبياء دائما أنفس مطمئنة ، لأنها في معية الله دائما وأن الله قد جعل لها عصمة .
التمكين في الأرض
? وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ ? يوسف52
الطبري:
يقول تعالى ذكره: وقال الملك ، يعني ملك مصر الأكبر ،
- حدثنا بذلك ابن حميد ، قال: ثنا سلمة عنه: حين تبين عذر يوسف ، وعرف أمانته وعلمه ، قال لأصحابه: ? ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ? يقول: أجعله من خلصائي دون غيري
وقوله: ? فَلَمَّا كَلَّمَهُ ? يقول: فلما كلم الملك يوسف ، وعرف براءته وعظم أمانته ، قال له: إنك يا يوسف لدينا مكين أمين ؛ أي متمكن مما أردت ، وعرض لك من حاجة قبلنا ، لرفعة مكانك ومنزلتك لدينا ، أمين على ما اؤتمنت عليه من شيء .
- حدثنا ابن وكيع ، قال: ثنا عمرو ، عن أسباط ، عن ألسدي ، قال: لما وجد الملك له عذرا ، قال: ? ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ?
- حدثنا بشر ، قال: ثنا يزيد ، قال: ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله: ? أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ? يقول: أتخذه لنفسي .
القرطبي :(1/77)
قوله تعالى: ? وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ? لما ثبت للملك براءته مما نسب إليه ؛ وتحقق في القصة أمانته، وفهم أيضا صبره وجلده عظمت منزلته عنده ، وتيقن حسن خلال قال: ? ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ? فانظر إلى قول الملك أولا - حين تحقق علمه - ? ائْتُونِي بِهِ ? فقط، فلما فعل يوسف ما فعل ثانيا قال: "ائتوني به استخلصه لنفسي" وروي عن وهب بن منبه قال: لما دعي يوسف وقف بالباب فقال: حسبي ربي من خلقه ، عز جاره وجل ثناؤه ولا إله غيره. ثم دخل فلما نظر إليه الملك نزل عن سريره فخر له ساجدا؛ ثم أقعده الملك معه على سريره فقال. ? إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ ? قال له يوسف ? قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ? [يوسف: 55]
_قوله تعالى: ? أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ?جزم لأنه جواب الأمر؛ وهذا يدل على أن قوله: ? ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ? جرى في السجن. ويحتمل أنه جرى عند الملك ثم قال في مجلس آخر: ? ائْتُونِي بِهِ ? [يوسف: 50]
? أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ? أي اجعله خالصا لنفسي ، أفوض إليه أمر مملكتي ؛ فذهبوا فجاءوا به ؛ ودل على هذا قوله: ? فَلَمَّا كَلَّمَهُ ? أي كلم الملك يوسف ، وسأله عن الرؤيا فأجاب يوسف ؛ ? إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ ? "قال" الملك: ? إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ ? أي متمكن نافذ القول ، "أمين" لا تخاف غدرا.
ابن كثير:(1/78)
يقول تعالى إخبارا عن الملك حين تحقق براءة يوسف عليه السلام ونزاهة عرضه مما نسب إليه قال ? ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ? أي أجعله من خاصتي وأهل مشورتي ? فَلَمَّا كَلَّمَهُ ? أي خاطبه الملك وعرفه رأى فضله وبراعته وعلم ما هو عليه من خلق وخلق وكمال قال له الملك ? إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ ? أي إنك عندنا قد بقيت ذا مكانه وأمانه.
الشعراوي :
ونلحظ أن الملك قد قال? ائْتُونِي بِهِ ? مرتين ؛ مرة بعد أن سمع تأويل الرؤيا ، لكن يوسف رفض الخروج من السجن إلا بعد أن تثبت براءته ، أوانه خرج وحضر المواجهة مع النسوة بما فيهن امرأة العزيز ، ورأى الملك في يوسف أخلاقا رفيعة ، وسعة علم
وانتهى اللقاء الأول ليتدبر الملك ، ويفكر في صفات هذا الرجل ، والراحة النفسية التي ملأت نفس الملك ، وكيف دخل هذا الرجل قلبه .
والمرة الثانية عندما أراد الملك أن يستخلصه لنفسه ويجعله مستشارا له .
ويورد الحق سبحانه هذا المعنى فى قوله :? ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ ?
وهذا الاستخلاص قد جاء بعد أن تكلم الملك مع يوسف ؛ وبعد أن استشف خفة يوسف على نفسه ؛ وتيقن الملك من بعد الحوار مع يوسف أنه رجل قد حفظ نفسه من أعنف الغرائز ؛ غريزة الجنس .
وتيقن من أن يوسف تقبل السجن ؛ وعاش فيه فترة طالت ؛ وهو صاحب علم وقد ثبت ذلك بتأويل الرؤيا وقد فعل ذلك وهو سجين ولم يقبل الخروج من السجن إلا لإثبات براءته أو بعد إثبات البراءة.
ولكل ذلك صار من أهل الثقة عند الملك الذي أعلن الأمر بقوله: ? إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ ? وذلك ليسد باب الوشاية به ؛ أو التآمر عليه ومكانة المكين هي المكانة التي لا ينال منها أحد.(1/79)
فالمعنى أن يوسف عليه السلام أهل للثقة عند الحاكم وهو الذي سينفذ الأمور ؛ وله صلة بالمحكومين ؛ وإذا كان هو الممكن من عند الحاكم ؛ فهو أيضا أمين مع المحكومين........انتهى.
ونقول وبالله التوفيق:
ظهرت براءة يوسف أمام الملك وعرف الجميع أنه قد سجن ظلما في جريمة لم يفعلها ولم يسع إليها ولم يفكر فيها وهذا من فضل الله على عباده الذين اصطفى.
أمر الملك بأن يأتوا بيوسف ليجعله خالصا له بحيث لا يكون لأحد غيره سلطان عليه لأنه حكم عليه حكم أولى من خلال أفعاله وظهور براءته وأيضا تعبير الرؤيا ، فلم يبق أمام الملك إلا حكم أخير .
جلس يوسف إلى الملك وبدأ الملك يكلمه .
وهنا تظهر الحكمة في الكلام المباشر بين البشر .
لأنك إذا أردت أن تعرف إنسانا وتحكم على شخصيته ، وعلى علمه ، وحكمته ، وخلقه ، وأدبه فإن الحكم لا يأتي إلا بعد التكلم معه ، وذلك لأن كل إناء ينضح بما فيه .
ولأن كل منا صندوق مغلق ، لا يظهر ما فيه إلا عند الكلام والتحدث مع الآخرين فهنا يظهر الحكم الحقيقي.
ومن هنا يعلمنا ربنا ألا نغتر بالمظاهر الخادعة فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ) مسند الإمام أحمد
من هنا وجد الملك أن يوسف يتصف بصفات جليلة تجعله أمينا عنده منها:
علمه بتأويل الأحاديث -- نزاهته وحرصه على إظهار براءته -- تأنيه في الأمور -- صموده وترفعه عن الخطايا -- صدق الحديث -- أدبه .
مما سبق نجد أن رؤية الملك في يوسف قد تبلورت واكتملت من خلال ثلاث مواقف مكملة بعضها ببعض.
الموقف الأول:(1/80)
العلم :علم يوسف الذي لم يكن أحد في مصر يعرفه ألا وهو تعبير الرؤيا ، فأراد الملك أن يرى هذا الذي لديه علم لم يؤتى لأحد من رعيته ليستفيد من علمه ، ومن هنا نجد فضل العلماء ومكانتهم .
الموقف الثاني :
ثباته وإصراره على إظهار الحق ، وترفعه عن الشهوات والصغائر:مما يدل على قوة شخصيتة، وعدالة قضيته ، وأن الأهواء ليست لها طريق إليه ، وصبره وعزيمته في مواجهة التحديات ، وأن الحق والعدل هما أساس مبادئه ، حتى وإن كان على حساب حريته ، لأن كل هذا من تعاليم ربه الذي يدين له ولا يستطيع أن يخالفه في ما أمر به .
الموقف الثالث:
أسلوبه في الحديث عندما تكلم معه الملك ، فظهرت فيه صفات أخلاقية بأدبه في الحديث مع الملك وكذا سعة علمه وأفقه.
من هنا قال له الملك? إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ ? .
وفى هذه الآية اتخذ الملك موقفين مختلفين.
الأول قبل كلامه مع يوسف حيث قال:? ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ? :أى يجعله مستشارا خاصا به.
الثاني بعد كلامه مع يوسف عليه السلام حيث قال:? إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ ? وعلى هذا ظهر للملك صفات أخرى في يوسف تؤهله لمنصب ما.
ومن هنا قال له يوسف في الآية التالية :? قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ? يوسف 55.
وعلينا أن نتذكر قول الله سبحانه ? وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ? يوسف 21
خاتمة
مما سبق نجد أن براءة يوسف عليه السلام من همه لعمل الفاحشة مع امرأة العزيز تأتى من خلال آيات الله من بداية تربيته في بيت امرأة العزيز ، إلى اعتراف امرأة العزيز ، ثم النسوة وامرأة العزيز أيضا بعد ذلك ، ثم يأتي أقوال العلماء من خلال تفسيراتهم لآيات الله .(1/81)
وما كان ليوسف عليه السلام وهو لله نبي أن تتحرك غريزته الشهوانية في اتجاه ما حرمه الله ، لأنه كما دللنا من قبل له عصمته من الله ولأن الله جعله صاحب دعوة إليه سبحانه وتعالى.
وما كان لنبي أن يدخل أو يتمنى أن يدخل في تجربة ما ولكن الله هو الذي يدخلهم في هذه التجارب ليعلمنا نحن إذا تعرضنا لمواقف مشابهة ماذا نفعل.
وما كان أيضا لنبي أن يكون ذا ضعف أمام من يدعوهم إلى عبادة الله وإلا فسدت دعوته .
وعلى هذا فإن الله سبحانه وتعالى يعلمنا من خلال قصة يوسف مع امرأة العزيز مجموعة أحكام وتعاليم وعظات لا تعد ولا تحصى أشرنا إلى بعضها من خلال كتابنا هذا ويأتي جزء تعليمي لنا وهو الأساس في هذه القصة ألا وهو عندما نتعرض لموقف مثل الذي تعرض له نبي الله يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز فعلينا أن نتخذ منه عبرة لنا وهو أن نعطى ظهورنا للنساء في مثل هذه المواقف وألا ننفرد أو نكون في خلوة مع امرأة في مكان واحد ( عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال َلا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ ) سنن الترمذي
وبعد كل هذا نقول الله أعلم وعنده سبحانه العلم وما قصدنا إلا الاجتهاد في ما فهمناه من آيات الله وما نرجو إلا الثواب عنده.
المراجع
1. الطبري تفسير الطبري
2. القرطبي تفسير القرطبي
3. ابن كثير تفسير القرآن العظيم الحافظ بن كثير
4. الشعراوي تفسير الشعراوي الشيخ/ محمد متولي
الشعراوي
الفهرس
إهداء......................................................................... 1
مقدمة........................................................................... 2
مهمة الأنبياء والرسل........................................................... 5
الآيات.......................................................................... 7(1/82)
البداية........................................................................... 9
بلوغ الأشد....................................................................... 14
المراودة......................................................................... 16
مراحل الغواية والصد............................................................ 19
مراحل التذكير................................................................... 21
قضية الهم....................................................................... 23
أدلة البراءة...................................................................... 33
السوء........................................................................... 42
الشاهد........................................................................... 46
صرف السوء................................................................... 50
مكر النسوة...................................................................... 55
الاعتراف الأول................................................................ 64
الفحشاء........................................................................ 68
صرف الفحشاء................................................................. 75
الثبات علي المبدأ............................................................... 82
الاعتراف الثاني................................................................ 87
التمكين في الأرض............................................................. 97
خاتمة........................................................................... 103
المراجع........................................................................ 104
??
??
??
??(1/83)
يوسف وامرأة العزيز 13(1/84)