وهي من أول السور نزولاً فقد أخرج أحمد في مسنده بسند جيد عن أسماء بنت أبي بكر قالت: =سمعت رسول الله " وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر والمشركون يسمعون يقرأ: [فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ]+.
وهذا يقتضي أنها نزلت قبل سورة الحجر.
وللاختلاف فيها لم تحقق رتبتها في عداد نزول سور القرآن.
وعدها الجعبري ثامنة وتسعين بناءً على قول بأنها مدنية وجعلها بعد سورة الرعد وقبل سورة الإنسان.
وإذْ كان الأصح أنها مكية، وأنها نزلت قبل سورة الحج، وقبل سورة النحل، وبعد سورة الفرقان _ فالوجه أن تعد ثالثة وأربعين بعد سورة الفرقان، وقبل سورة فاطر.
وعد أهل المدينة ومكة آيها سبعاً وسبعين، وأهل الشام والكوفة ثماناً وسبعين؛ لأنهم عدوا الرحمن آية، وأهل البصرة ستاً وسبعين. 27/227_228
2_ أغراض هذه السورة: ابتدئت بالتنويه بالقرآن قال في الكشاف: =أراد الله أن يقدم في عدد آلائه أول شيء ما هو أسبق قِدَماً من ضروب آلائه، وأصناف نعمائه وهي نعمة الدين؛ فقدم من نعمة الدين ما هو أعلى مراتبها, وأقصى مراقبها, وهو إنعامه بالقرآن, وتنزيله, وتعليمه، وأَخَّر ذكر خلق الإنسان عن ذكره, ثم أتبعه إياه, ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان+ ا هـ.
وتبع ذلك من التنويه بالنبي"بأن اللهَ هو الذي علمه القرآن؛ رداً على مزاعم المشركين الذين يقولون [إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ] ورداً على مزاعمهم أن القرآن أساطير الأولين, أو أنه سحر, أو كلام كاهن أو شعر.
ثم التذكيرُ بدلائلِ قدرة الله _تعالى_ في ما أتقن صنعه مُدْمَجاً في ذلك التذكيرُ بما في ذلك كله من نعمٍ على الناس.
وخلقُ الجن, وإثباتُ جزائهم.
والموعظةُ بالفناء, وتَخلّص من ذلك إلى التذكير بيوم الحشر والجزاء، وختمت بتعظيم الله والثناء عليه.(1/225)
وتخلل ذلك إدماجُ التنويهِ بشأن العدل، والأمرُ بتوفية أصحابِ الحقوق حقوقَهم، وحاجةُ الناس إلى رحمةِ الله فيما خَلَق لهم، ومن أهمِّها نعمةُ العلم ونعمةُ البيان، وما أَعَّد من الجزاء للمجرمين, ومن الثواب والكرامة للمتقين, ووصفُ نعيم المتقين.
ومن بديع أسلوبها افتتاحها الباهر باسمه [الرَّحْمَن] وهي السورة الوحيدة المفتتحة باسم من أسماء الله لم يتقدَّمْه غيره.
ومنه التعدادُ في مقام الامتنان, والتعظيم بقوله [فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ] إذ تكرر فيها إحدى وثلاثين مرة, وذلك أسلوب عربي جليل كما سنبينه. 27/229
3_ والبيان: الإعراب عما في الضمير من المقاصد والأغراض، وهو النطق، وبه تميز الإنسان عن بقية أنواع الحيوان؛ فهو من أعظم النعم.
وأما البيان من غير النطق من إشارة، وإيماء، ولمح النظر فهو _أيضاً_ من مميزات الإنسان، وإن كان دون بيان النطق.
ومعنى تعليم الله الإنسان البيان: أنه خلق فيه الاستعداد لعلم ذلك، وألهمه وضعَ اللغة للتعارف، وقد تقدم عند قوله _تعالى_: [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] في سورة البقرة.
وفي الإشارة إلى أن نعمةَ البيانِ أجلُّ النعمِ على الإنسانِ؛ فعدّ نعمة التكاليف الدينية، وفيه تنويه بالعلوم الزائدة في بيان الإنسان، وهي خصائص اللغة وآدابها. 27/233
4_ والنجم: يطلق اسم جمع على نجوم السماء قال _تعالى_: [وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى] ويطلق مفرداً فيُجمع على نجوم، قال _تعالى_: [وَإِدْبَارَ النُّجُومِ].
وعن مجاهد تفسيره هنا بنجوم السماء.
ويطلق النجم على النبات والحشيش الذي لا سُوق له فهو متصل بالتراب.
وعن ابن عباس تفسير النجم في هذه الآية بالنبات الذي لا ساق له، والشجر: النبات الذي له ساقٌ وارتفاعٌ عن وجه الأرض، وهذان ينتفع بهما الإنسان والحيوان.(1/226)
فحصل من قوله: [وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ] بعد قوله: [الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ] قرينتان متوازيتان في الحركة والسكون، وهذا من المحسنات البديعية الكاملة. 27/236
5_[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)].
والآلاء: النعم جمع: إلْي بكسر الهمزة وسكون اللام, وأَلْي بفتح الهمزة وسكون اللام وياء في آخره ويقال أَلْوُ بواو عوض الياء وهو النعمة.
وضمير المثنى في [رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ] خطاب لفريقين من المخاطبين بالقرآن.
والوجه عندي أنه خطاب للمؤمنين والكافرين الذين ينقسم إليهما جنس الإنسان المذكور في قوله: [خَلَقَ الإِنسَانَ] وهم المخاطبون بقوله: [أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ] الآية.
والمنقسم إليهما الأنام المتقدم ذكره, أي أن نعم الله على الناس لا يجحدها كافر بَلْهَ المؤمن, وكل فريق يتوجه إليه الاستفهام بالمعنى الذي يناسب حاله.
والمقصود الأصلي: التعريض بالمشركين وتوبيخهم على أن أشركوا في العبادة مع المنعم غير المنعم, والشهادة عليهم بتوحيد المؤمنين, والتكذيب مستعمل في الجحود والإنكار.
وقيل: التثنية جرت على طريقة في الكلام العربي أن يخاطبوا الواحد بصيغة المثنى كقوله _تعالى_: [أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ].
ذكر ذلك الطبري والنسفي.
ويجوز أن تكون التثنية قائمة مقام تكرير اللفظ لتأكيد المعنى مثل: لبيك وسعديك, ومعنى هذا أن الخطاب لواحد وهو الإنسان.(1/227)
وقال جمهور المفسرين: هو خطاب للإنس والجن, وهذا بعيد؛ لأن القرآن نزل لخطاب الناس، ووعظهم ولم يأت لخطاب الجن, فلا يتعرض القرآن لخطابهم, وما ورد في القرآن من وقوع اهتداء نفر من الجن بالقرآن في سورة الأحقاف وفي سورة الجن يحمل على أن الله كلّف الجن باتباع ما يتبين لهم في إدراكهم, وقد يُكلف الله أصنافاً بما هم أهل له دون غيرهم, كما كلف أهل العلم بالنظر في العقائد، وكما كلفهم بالاجتهاد في الفروع، ولم يكلف العامة بذلك؛ فما جاء في القرآن من ذكر الجن فهو في سياق الحكاية عن تصرفات الله فيهم وليس لتوجيه العمل بالشريعة.
وأما ما رواه الترمذي عن جابر بن عبدالله الأنصاري: =أن النبي"خرج على أصحابه؛ فقرأ عليهم سورة الرحمن وهم ساكتون فقال لهم: =لقد قرأتُها على الجن ليلةَ الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم, كنت كلما أتيت على قوله: [فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِكُمَا تُكَذِّبَان] قالوا: =لا بشيء مِنْ نِعَمِك ربنا نكذب؛ فلك الحمد+.
قال الترمذي: هو حديث غريب، وفي سنده زهير بن محمد، وقد ضعفه البخاري وأحمد بن حنبل.
وهذا الحديث لو صحَّ فليس تفسيراً لضمير التثنية؛ لأن الجنَّ سمعوا ذلك بعد نزوله؛ فلا يقتضي أنهم المخاطبون به وإنما كانوا مقتدين بالذين خاطبهم الله, وقيل: الخطاب للذكور والإناث وهو بعيد. 27/243_244
6_ وفائدة التكرير توكيد التقرير بما لله _تعالى_ من نعم على المخاطبين وتعريض بتوبيخهم على إشراكهم بالله أصناماً لا نعمة لها على أحد, وكلها دلائل على تفرد الإلهية.
وعن ابن قتيبة: =أن الله عدَّدَ في هذه السورة نعماء(1) وذكر خلقه آلاءه ثم أتبع كل خلة وصفها, ونعمة وضعها بهذه, وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم، ويقررهم بها+ ا هـ.
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: نعماءَه. (م)(1/228)
وقال الحسين بن الفضل(1): =التكرير طرد للغفلة وتأكيد للحجة+.
وقال الشريف المرتضى في مجالسه وآماله المسمى الدرر والغرر: وهذا كثير في كلام العرب وأشعارهم, قال مهلهل بن ربيعة يرثي أخاه كليباً:
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا طرد اليتيم عن الجزور
وذكر المصراع الأول ثمان مرات في أوائل أبيات متتابعة، وقال الحارث بن عباد:
قَرِّبَا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حبال
ثم كرر قوله: قرِّبا مربط النعامة مني, في أبيات كثيرة من القصيد.
وهكذا القول في نظائر قوله: [فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِكُمَا تُكَذِّبَان] المذكور هنا إلى ما في آخر السورة. 27/246_247
7_ والمرجان: حيوان بحري ذو أصابع دقيقة ينشأ ليِّنا ثم يتحجر، ويتلوّن بلون الحمرة ويتصلب كلما طال مكثه في البحر، فيستخرج منه كالعروق تتخذ منه حلية، ويسمى بالفارسية (بسَذ).
وقد تتفاوت البحار في الجيد من مرجانها.
ويوجد ببحر طبرقة على البحر المتوسط في شمال البلاد التونسية.
والمرجان: لا يخرج من ملتقى البحرين: الملح والعذب، بل من البحر الملح.
وقيل: المرجان اسم لصغار الدر، واللؤلؤ كباره؛ فلا إشكال في قوله منهما. 27/250
8_ والثقلان: تثنية ثقل, وهذا المثنى اسم مفرد لمجموع الإنس والجن.
وأحسب أن الثقل هو الإنسان؛ لأنه محمول على الأرض, فهو كالثقل على الدابة, وأن إطلاق هذا المثنى على الإنس والجن من باب التغليب, وقيل غير هذا مما لا يرتضيه المتأمل.
وقد عد هذا اللفظ بهذا المعنى مما يستعمل إلا بصيغة التثنية؛ فلا يطلق على نوع الإنسان بانفراده اسم الثقل؛ ولذلك فهو مثنى اللفظ مفرد الإطلاق.
وأظن أن هذا اللفظ لم يطلق على مجموع النوعين قبل القرآن؛ فهو من أعلام الأجناس بالغلبة, ثم استعمله أهل الإسلام, قال ذو الرمة:
ومية أحسن الثقلين وجهاً ... وسالفة وأحسنه قذالا
__________
(1) _ الحسين بن الفضل بن عمير الجبلي الكوفي النيسابوري، توفي سنة 282 وعمره مائة وأربع سنين, له تفسير القرآن.(1/229)
أراد وأحسن الثقلين, وجعل الضمير له مفرداً، وقد أخطأ في استعماله؛ إذ لا علاقة للجن في شيء من غرضه. 27/257
9_ وقوله: [فَكَانَتْ وَرْدَةً] تشبيه بليغ, أي كانت كوردة.
والوردة: واحدة الورد, وهو زهر أحمر من شجرة دقيقة ذات أغصان شائكة تظهر في فصل الربيع وهو مشهور.
ووجه الشبه قيل: هو شدة الحمرة, أي يتغير لون السماء المعروف أنه أزرق إلى البياض, فيصير لونها أحمر قال _تعالى_: [يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ].
ويجوز عندي: أن يكون وجه الشبه كثرة الشقوق كأوراق الوردة. 27/261
10_ وعبقري: وصف لما كان فائقاً في صنفه عزيز الموجود، وهو نسبة إلى عبقر بفتح فسكون ففتح اسم بلاد الجن في معتقد العرب؛ فَنَسَبوا إليه كل ما تجاوز العادة في الإتقان والحسن، حتى كأنه ليس من الأصناف المعروفة في أرض البشر، قال زهير:
بِخَيْلٍ عليها جِنةٌ عبقرية ... جديرون يوماً أن ينالوا ويسْتَعْلُوا
فشاع ذلك؛ فصار العبقري وصفاً للفائق في صنفه كما قال النبي"فيما حكاه من رؤيا القليب الذي استسقى منه: =ثم أخذها (أي الذنوب) عمر فاستحالت غرباً؛ فلم أر عبقرياً يفري فَرِيَّه+.
وإلى هذا أشار المعري بقوله:
وقد كان أرباب الفصاحة كلما ... رأوا حسناً عدوه من صنعة الجن
فضربه القرآن مثلاً لما هو مألوف عند العرب في إطلاقه. 27/275
1_ سميت هذه السورة الواقعة بتسمية النبي".
روى الترمذي عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: =يا رسول الله قد شبت، قال: شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت+ وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
وروى ابن وهب، والبيهقي عن عبدالله بن مسعود بسند ضعيف أنه سمع رسول الله يقول: =من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً+.
وكذلك سميت في عصر الصحابة.
روى أحمد عن جابر بن سمرة قال: =كان رسول الله يقرأ في الفجر الواقعة ونحوها من السور+.(1/230)
وهكذا سميت في المصاحف وكتب السنة فلا يعرف لها اسم غير هذا.
وهي مكية قال ابن عطية: =بإجماع من يعتد به من المفسرين.
وقيل: فيها آيات مدنية، أي نزلت في السفر، وهذا كله غير ثابت+ ا هـ.
وقال القرطبي: عن قتادة وابن عباس استثناء قوله _تعالى_: [وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ] نزلت بالمدينة.
وقال الكلبي: إلا أربع آيات: اثنتان نزلتا في سفر النبي"إلى مكة وهما: [أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ]، واثنتان نزلتا في سفره إلى المدينة وهما: [ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنها نزلت في غزوة تبوك.
وهي السورة السادسة والأربعون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد، نزلت بعد سورة طه وقبل سورة الشعراء.
وقد عد أهل المدينة ومكة والشام آيها تسعاً وتسعين، وعدها أهل البصرة سبعاً وتسعين، وأهل الكوفة ستاً وتسعين.
وهذه السورة جامعة للتذكير قال مسروق: =من أراد أن يعلم نبأ الأولين والآخرين، ونبأ أهل الجنة، ونبأ أهل النار، ونبأ أهل الدنيا، ونبأ أهل الآخرة؛ فليقرأ سورة الواقعة+ ا هـ. 27/279_280
2_ أغراض هذه السورة: التذكيرُ بيوم القيامة, وتحقيقُ وقوعه.
ووصفُ ما يعرض لهذا(1) العالمِ الأَرضيِّ عند ساعة القيامة.
ثم صفةُ أهلِ الجنةِ وبعضِ نعيمهم.
وصفةُ أهل النار وما هم فيه من العذاب وأن ذلك لتكذيبهم بالبعث.
وإثباتُ الحشرِ والجزاءِ, والاستدلالُ على إمكان الخلق الثاني بما أبدعه الله من الموجودات بعد أن لم تكن.
والاستدلالُ بدلائل قدرة الله _تعالى_ والاستدلالُ بنزع اللهِ الأرواحَ من الأجساد والناسُ كارهون لا يستطيع أحدٌ مَنْعَها من الخروج على أن الذي قَدِرَ على نزعها بدون مُدافِعٍ قادرٌ على إرجاعها متى أراد أن يميتهم.
__________
(1) _ لعل ما أُثبت هو الصواب، وفي الأصل: وهذا. (م)(1/231)
وتأكيدُ أن القرآن مُنَزَّل من عند الله, وأنه نعمةٌ أنعم الله بها عليهم, فلم يشكروها, وكذبوا بما فيه. 27/280
3_ [ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)].
وقد أفاد التفصيل أن الأصناف ثلاثة: صنف منهم أصحاب الميمنة، وهم الذين يجعلون في الجهة اليمنى في الجنة أو في المحشر.
واليمين جهة عناية وكرامة في العرف، واشتقت من اليمن، أي البركة.
وصنف أصحاب المشأمة، وهي اسم جهة مشتقة من الشؤم، وهو ضد اليمن فهو الضر وعدم النفع، وقد سميا في الآية الآتية أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، فجعل الشمال ضد اليمين كما جُعل المشأمة هنا ضد الميمنة؛ إشعاراً بأن حالهم حال شؤم وسوء، وكل ذلك مستعار لما عرف في كلام العرب من إطلاق هذين اللفظين على هذا المعنى الكنائي الذي شاع حتى ساوى الصريح.
وأصله جاء من الزجر والعيافة(1) إذ كانوا يتوقعون حصول خير من أغراضهم من مرور الطير أو الوحش من يمين الزاجر إلى يساره، ويتوقعون الشر من مروره بعكس ذلك، وقد تقدم تفصيله عند قوله _تعالى_: [قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِينِ] في سورة الصافات، وتقدم شيء منه عند قوله _تعالى_: [يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ] في سورة الأعراف، وعند قوله _تعالى_: [قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ] في سورة يس. 27/285_286
__________
(1) _ الزجر: المقصود به زجر الطير وتنفيرها.
والعيافة هي: زجر الطير، وتنفيرها، وإرسالها، والتفاؤل، أو التشاؤم بأسمائها، وأصواتها، وممراتها؛ فعن العيافة يكون الفأل، أو التشاؤم. (م)(1/232)
4_ والسدر: شجر من شجر العِضاه ذو ورق عريض مدوَّر وهو صنفان: عُبْرِي بضم العين وسكون الموحدة وياء نسب نسبة إلى العِبْر بكسر العين وسكون الموحدة على غير قياس وهو عبر النهي(1) أي ضفته، له شوك ضعيف في غصونه لا يضير.
والصنف الثاني الضَّالُ _بضاد ساقطة ولام مخففة_ وهو ذو شوك.
وأجود السدر الذي ينبت على الماء وهو يشبه شجر العناب، وورقه كورق العناب، وورقه يجعل غسولاً ينظف به، يخرج مع الماء رغوة كالصابون.
وثمر هذا الصنف هو النبق _بفتح النون وكسر الموحدة وقاف_ يشبه ثمر العناب إلا أنه أصفر مُزّ _بالزاي_ يفوِّح الفم، ويفوح الثياب، ويُتَفَكَّه به.
وأما الضال وهو السدر البري الذي لا ينبت على الماء فلا يصلح ورقه للغسول، وثمره عَفِصٌ لا يسوغ في الحلق، ولا ينتفع به، ويخبط الرعاة ورقه للراعية، وأجود ثمر السدر ثمر سدر هَجَر أشد نَبِقٍ حلاوةً، وأطيبه رائحة.
ولما كان السدر من شجر البادية، وكان محبوباً للعرب، ولم يكونوا مستطيعين أن يجعلوا منه في جناتهم وحوائطهم؛ لأنه لا يعيش إلا في البادية، فلا ينبت في جناتهم _ خص بالذكر من بين شجر الجنة؛ إغراباً به وبمحاسنه التي كان محروماً منها من لا يسكن البوادي، وبوفرة ظله، وتهدُّل أغصانه، ونكهة ثمره.
ووصف بالمخضود، أي المُزال شوكُه، فقد كملت محاسنه بانتفاء ما فيه من أذىً. 27/298_299
5_ والطلح: شجرٌ من شجر العِضَاه، واحدهُ طلحة، وهو من شجر الحجاز ينبت في بطون الأودية، شديدُ الطول، غليظ الساق، من أصلب شجر العِضاه عُوداً، وأغصانه طوال عظام شديدة الارتفاع في الجو، ولها شوك كثير قليلةُ الورق، شديدة الخضرة، كثيرةُ الظل من التفاف أغصانها، وصَمْغُها جيَّد، وشوكها أقل الشوك أذىً، ولها نَوْرٌ طيب الرائحة، وتسمى هذه الشجرة أم غيلان، وتسمى في صفاقس غيلان، وفي أحواز تونس تسمى مِسْكَ صَنادِق.
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: عبر النهر. (م)(1/233)
والمنضود: المتراص المتراكب بالأغصان ليست له سوق بارزة، أو المنضَّد بالحمل، أي النُوَّار فتكثر رائحته.
وعلى ظاهر هذا اللفظ يكون القول في البشارة لأصحاب اليمين بالطلح على نحو ما قرر في قوله: [فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ] ويعتاض عن نعمة نكهة ثمر السدر بنعمة عَرْف نَوْر الطلح.
وفسر الطلح بشجر الموز روي ذلك عن ابن عباس وابن كثير، ونسب إلى علي بن أبي طالب.
والامتنان به على هذا التفسير امتنان بثمره؛ لأنه ثمر طيب لذيذ، ولشجره من حسن المنظر، ولم يكن شائعاً في بلاد العرب لاحتياجه إلى كثرة الماء. 27/299
6_ والعُرُب: جمع عَروب بفتح العين، ويقال: عَرِبه بفتح فكسر، فيجمع على عَرِبات كذلك، وهو اسم خاص بالمرأة.
وقد اختلفت أقوال أهل اللغة في تفسيره.
وأحسن ما يجمعهما أن العَروب: المرأة المتحببة إلى الرجل، أو التي لها كيفية المتحببة، وإن لم تقصد التحبب، بأن تكثر الضحك بمرأى الرجل، أو المزاح أو اللهو، أو الخضوع في القول، أو اللثغ في الكلام بدون علة، أو التغزل في الرجل، أو المساهلة في مجالسته، والتدلل، وإظهار معاكسة أميال الرجل، لعِباً لا جِدّاً، وإظهار أذاه كذلك كالمغاضبة من غير غضب، بل للتورك على الرجل. 27/301
7_ ويقال للعروب بلغة أهل مكة: العَرِبة والشَّكِلَةُ.
ويقال لها بلغة أهل المدينة: الغَنجَة.
وبلغة العراق: الشّكِلة، أي ذات الشَّكَل بفتح الكاف وهو الدلال والتعرُّبُ. 27/302
8_ والحميم: الماء الشديد الحرارة.
واليحموم: الدخان الأسود على وزن يفعول مشتق من الحُمَم بوزن صُرَد اسم للفحم.
والحُممة: الفحمة، فجاءت زنة يفعول فيه اسماً ملحوظاً فيه هذا الاشتقاق وليس ينقاس. 27/304(1/234)
1_ هذه السورة تسمى من عهد الصحابة (سورة الحديد) فقد وقع في حديث إسلام عمر بن الخطاب عند الطبراني، والبزار أن عمر دخل على أخته قبل أن يسلم فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد، فقرأه حتى بلغ: [آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ] فأسلم.
وكذلك سميت في المصاحف وفي كتب السنة؛ لوقوع لفظ (الْحَدِيدَ) فيها في قوله _تعالى_: [وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ].
وهذا اللفظ وإن ذُكر في سورة الكهف في قوله _تعالى_: [آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ] وهي سابقة في النزول على سورة الحديد على المختار، فلم تسم به؛ لأنها سميت باسم الكهف؛ للاعتناء بقصة أهل الكهف، ولأن الحديد الذي ذكر هنا مراد به حديدُ السلاح من سيوف ودروع وخُوذ؛ تنويهاً به إذ؛ هو أثر من آثار حكمة الله في خلق مادته، وإلهام الناس صنعه؛ لتحصل به منافع؛ لتأييد الدين، ودفاع المعتدين كما قال _تعالى_: [فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ].
وفي كون هذه السورة مدنية أو مكية اختلاف قوي لم يختلَف مثله في غيرها، فقال الجمهور: مدنية.
وحكى ابن عطية عن النقاش: أن ذلك إجماع المفسرين، وقد قيل: إن صدرها مكي لما رواه مسلم في صحيحه والنسائي وابن ماجه عن عبدالله ابن مسعود أنه قال: =ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ] إلى قوله: [وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ] إلا أربع سنين.
عبدالله بن مسعود من أول الناس إسلاماً؛ فتكون هذه الآية مكية.(1/235)
وهذا يعارضه ما رواه ابن مردويه عن أنس وابن عباس: أن نزول هذه الآية بعد ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة من ابتداء نزول القرآن؛ فيصار إلى الجمع بين الروايتين أو الترجيح، ورواية مسلم وغيره عن ابن مسعود أصح سنداً، وكلام ابن مسعود يرجّح على ما رُوي عن أنس وابن عباس؛ لأنه أقدم إسلاماً، وأعلم بنزول القرآن، وقد علمتَ آنفاً أن صدر هذه السورة كان مقروءاً قبل إسلام عمر بن الخطاب.
قال ابن عطية: =يشبه صدرها أن يكون مكياً والله أعلم، ولا خلاف أن فيها قرآناً مدنياً+. ا هـ
وروي أن نزولها كان يوم ثلاثاء؛ استناداً إلى حديث ضعيف رواه الطبراني عن ابن عمر ورواه الديلمي عن جابر بن عبدالله.
وأقول: الذي يظهر أن صدرها مكي كما توسمه ابن عطية، وأن ذلك ينتهي إلى قوله: [وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ] وأن ما بعد ذلك بعضه نزل بالمدينة _كما تقتضيه معانيه مثل حكاية أقوال المنافقين_ وبعضه نزل بمكة مثل آية: [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا] الآيةَ، كما في حديث مسلم.
ويشبه أن يكون آخر السورة قوله: [إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] نزل بالمدينة ألحق بهذه السورة بتوقيف من النبي"في خلالها أو في آخرها.
قلت: وفيها آية: [لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ] الآية، وسواء كان المراد بالفتح في تلك الآية فتح مكة أو فتح الحديبية فإنه أطلق عليه اسم الفتح وبه سميت (سورة الفتح) فهي متعينة؛ لأن تكون مدنية؛ فلا ينبغي الاختلاف في أن معظم السورة مدني.
وروي أن نزولها كان يوم الثلاثاء استناداً إلى حديث ضعيف رواه الطبراني عن ابن عمر ورواه الديلمي عن جابر بن عبدالله.(1/236)
وقد عدت السورة الخامسة والتسعين في ترتيب نزول السور؛ جرياً على قول الجمهور: إنها مدنية فقالوا: نزلت بعد سورة الزلزال، وقبل سورة القتال، وإذا روعي قول ابن مسعود: إنها نزلت بعد البعثة بأربع سنين، وما روي من أن سبب إسلام عمر بن الخطاب أنه قرأ صحيفة لأخته فاطمة فيها صدر سورة الحديد _ لم يستقم هذا العد؛ لأن العبرة بمكان نزول صدر السورة لا نزول آخرها، فيشكل موضعها في عد نزول السورة.
وعلى قول ابن مسعود يكون ابتداء نزولها آخر سنة أربع من البعثة، فتكون من أقدم السور نزولاً، فتكون نزلت قبل سورة الحجر وطه، وبعد غافر؛ فالوجه أن معظم آياتها نزل بعد سورة الزلزال.
وعدت آيها في عد أهل المدينة ومكة والشام ثماناً وعشرين، وفي عد أهل البصرة والكوفة تسعاً وعشرين.
وورد في فضلها مع غيرها من السور المفتتحة بالتسبيح ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن العرباض بن سارية: =أن النبي " كان يقرأ بالمسبحات قبل أن يرقد ويقول: =إن فيهن آيةً أفضل من ألف آية+.
وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
وظن ابن كثير أن الآية المشار إليها في حديث العرباض هي قوله _تعالى_: [هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] لما ورد في الآثار من كثرة ذكر رسول الله " إياها. 27/353_355
2_ أغراضها: الأغراضُ التي اشتملت عليها هذه السورة: التذكيرُ بجلال الله _تعالى_ وصفاتِه العظيمة، وسعةِ قدرته وملكوته، وعمومِ تصرفه، ووجوبِ وجوده، وسعةِ علمه، والأمرُ بالإيمان بوجوده، وبما جاء به رسوله"، وما أنزل عليه من الآيات البينات.
والتنبيهُ لما في القرآن من الهُدى وسبيلِ النجاة، والتذكيرُ برحمة الله ورأفته بخلقه.
والتحريضُ على الإنفاق في سبيل الله، وأن المالَ عرضٌ زائل لا يبقى منه لصاحبه إلا ثوابُ ما أنفق منه في مرضاة الله.(1/237)
والتخلصُ إلى ما أعدَّ اللهُ للمؤمنين والمؤمنات يوم القيامة من خير, وضِدِّ ذلك للمنافقين والمنافقات.
وتحذيرُ المسلمين من الوقوع في مهواة قساوة القلوب التي وقع فيها أهلُ الكتابِ مِنْ قَبْلِهم من إهمالِ ما جاءهم مِنَ الهدى حتى قست قلوبُهم وجرَّ ذلك إلى الفسوق كثيراً منهم.
والتذكيرُ بالبعث, والدعوةِ إلى قلة الاكتراث بالحياة الفانية, والأمرُ بالصبر على النوائب, والتنويهُ بحكمة إرسال الرسلِ والكتبِ؛ لإقامة أمور الناس على العدل العام.
والإيماءُ إلى فضل الجهاد في سبيل الله.
وتنظيرُ رسالةِ محمد"برسالة نوح وإبراهيم _ عليهما السلام _ على أن في ذريتهما مهتدين وفاسقين, وأن اللهَ أَتْبَعَهُما برسلٍ آخرين منهم عيسى _ عليه السلام _ الذي كان آخرَ رسولٍ أُرْسِلَ بشرع قبل الإسلام، وأن أتباعَه كانوا على سُنَّةِ مَنْ سبقهم: منهم مؤمن، ومنهم كافر.
ثم أهاب بالمسلمين أن يُخْلِصوا الإيمانَ؛ تعريضاً بالمنافقين, وَوَعَدَهم بحسن العاقبة, وأن الله فضَّلهم على الأمم؛ لأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء. 27/355_356
3_ [ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)].
استئناف ثالث انْتُقِل به الخطاب إلى المؤمنين؛ فهذه الآية يظهر أنها مبدأُ الآيات المدنية في هذه السورة، ويزيد ذلك وضوحاً عطف قوله: [وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] الآيات _كما سيأتي قريباً_.
والخطاب هنا وإن كان صالحاً لتقرير ما أفادته جملة: [وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ].(1/238)
ولكن أسلوب النظم وما عطف على هذه الجملة يقتضيان أن تكون استئنافاً انتقالياً هو من حسن التخلص إلى خطاب المسلمين، ولا تفوته الدلالة على تقرير ما قبله؛ لأن التقرير يحصل من انتساب المعنيين: معنى الجملة السابقة، ومعنى هذه الجملة الموالية.
فهذه الجملة بموقعها ومعناها وعلتها وما عُطف عليها أفادت بياناً، وتأكيداً، وتعليلاً، وتذييلاً، وتخلصاً لغرض جديد، وهي أغراض جمعتها جمعاً بلغ حد الإعجاز في الإيجاز، مع أن كل جملة منها مستقلة بمعنى عظيم من الاستدلال والتذكير والإرشاد والامتنان. 27/371
4_ [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)].
قد علم من صدر تفسير هذه السورة أن هذه الآية نزلت بمكة سنة أربع أو خمس من البعثة.
رواه مسلم وغيره عن عبدالله بن مسعود أنه قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ] إلى: [وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ] إلا أربع سنين.
والمقصود من [الَّذِينَ آمَنُوا]: إما بعض منهم ربما كانوا مقصرين عن جمهور المؤمنين يومئذ بمكة؛ فأراد الله إيقاظ قلوبهم بهذا الكلام المجمل على عادة القرآن وأقوال الرسول "في التعريض مثل قوله: =ما بال أقوام يفعلون كذا+ وقوله _تعالى_: [وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ].
وليس ما قاله ابن مسعود مقتضياً أن مثله من أولئك الذين ذكرهم الله بهذه الآية، ولكنه يخشى أن يكون منهم؛ حذراً، وحيطة.(1/239)
فالمراد بـ[الَّذِينَ آمَنُوا] المؤمنون حقاً لا من يظهرون الإيمان من المنافقين؛ إذ لم يكن في المسلمين بمكة منافقون، ولا كان داعٍ إلى نفاق بعضهم.
وعن ابن مسعود: =لما نزلت جعل بعضنا ينظر إلى بعض ونقول: ما أحدثنا+.
وإما أن يكون تحريضاً للمؤمنين على مراقبة ذلك والحذر من التقصير. 27/389_390
5_ والمقصود التحذير لا أنهم تلبسوا بذلك، ولم يأن لهم الإقلاع عنه.
والتحذير مُنْصَبُّ إلى ما حدث لأهل الكتاب من قسوة القلوب بعد طول الأمد عليهم في مزاولة دينهم، أي فليحذر الذين آمنوا من أن يكونوا مثلهم على حدثان عهدهم بالدين.
وليس المقصود عذر الذين أوتوا الكتاب بطول الأمد عليهم؛ لأن طول الأمد لا يكون سبباً في التفريط فيما طال فيه الأمد، بل الأمر بالعكس، ولا قصد تهوين حصوله للذين آمنوا بعد أن يطول الأمد؛ لأن ذلك لا يتعلق به الغرض قبل طول الأمد.
وإنما المقصود النهي عن التشبه بالذين أوتوا الكتاب في عدم خشوع قلوبهم.
ولكنه يفيد تحذير المؤمنين بعد أن يطول الزمان من أن يقعوا فيما وقع فيه أهل الكتاب.
ويستتبع ذلك الأنباء بأن مدة المسلمين تطول قريباً أو أكثر من مدة أهل الكتاب الذين كانوا قبل البعثة؛ فإن القرآن موعظة للعصور والأجيال.
ويجوز أن تجعل (لا) حرف نهي وتعلق النهي بالغائب التفاتاً أو المراد: أَبْلِغْهم أن لا يكونوا. 27/391_392
6_ والمعنى: أنهم نَسُوا ما أوصوا به، فخالفوا أحكام شرائعهم، ولم يخافوا عقاب الله؛ يأخذون عرض هذا الأدنى، ويقولون سيغفر لنا، فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً، وصار ديدناً لهم رويداً رويداً حتى ضَرِئوا بذلك؛ فقست قلوبهم، أي تمردت على الاجتراء على تغيير أحكام الدين. 27/392
7_ [اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)].(1/240)
افتتاح الكلام بـ(اعلموا) ونحوه يؤذن بأن ما سُيْلَقى جديرٌ بتوجه الذهن بشراشره إليه, كما تقدم عند قوله _تعالى_: [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ] في سورة البقرة، وقوله: [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ] الآية في سورة الانفال.
وهو هنا يشير إلى أن الكلام الذي بُعده مغزى عظيم غير ظاهر, وذلك أنه أريد به تمثيل حال احتياج القلوب المؤمنة إلى ذكر الله بحال الأرض الميتة في الحاجة إلى المطر, وحال الذكر في تزكية النفوس واستنارتها بحال الغيث في إحياء الأرض الجدبة.
ودل على ذلك قوله بعده: [قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ].
وإلا فإن إحياء الله الأرض بعد موتها بما يصيبها من المطر لا خفاء فيها؛ فلا يقتضي أن يفتتح الإخبار عنه بمثل: [اعْلَمُوا] إلا لأن فيه دلالةً غيرَ مألوفةٍ وهي دلالة التمثيل, ونظيره قول النبي"لأبي مسعود البدري وقد رآه لطم وجه عبدٍ له: =اعلم أبا مسعود, اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا+.
فالجملة بمنزلة التعليل لجملة: [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ] إلى قوله: [فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ] لما تتضمنه تلك من التحريض على الخشوع لذكر الله, ولكن هذه بمنزلة العلة فصلت ولم تعطف, وهذا يقتضي أن تكون مما نزل مع قوله _تعالى_: [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ] الآية.
والخطاب في قوله: [اعْلَمُوا] للمؤمنين على طريقة الالتفات؛ إقبالاً عليهم للاهتمام.
وقوله: [أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا] استعارة تمثيلية مصرحة، ويتضمن تمثيلية مَكْنية بسبب تضمنه تشبيه حالِ ذكر الله والقرآن في إصلاح القلوب بحال المطر في إصلاحه الأرض بعد جدبها.(1/241)
وطُوي ذكر الحالةِ المشبهِ بها، ورُمز إليها بلازمها وهو إسناد إحياء الأرض إلى الله؛ لأن الله يحيى الأرض بعد موتها بسبب المطر كما قال _تعالى_: [ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها](1).
والمقصود الإرشاد إلى وسيلة الإنابة إلى الله، والحث على تعهد النفس بالموعظة, والتذكير بالإقبال على القرآن وتدبره، وكلام الرسول"وتعليمه، وأن في اللجأ إلى كتاب الله وسنة رسوله"نجاةً، وفي المفزع إليهما عصمة، وقد قال النبي": =تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي+.
وقال: =مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً؛ فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب, وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا، وسقوا، وزرعوا, وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً، ولا تنبت كلأً, فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فعَلِم وعلَّم, ومثل من لم يرفع لذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به+. 27/393_394
8_ [اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ].
أعقب التحريض على الصدقات والإنفاق بالإشارة إلى دحض سبب الشح أنه الحرص على استبقاء المال؛ لإنفاقه في لذائذ الحياة الدنيا، فضُرب لهم مثلُ الحياة الدنيا بحالٍ محقَّرةٍ على أنها زائلةٌ تحقيراً لحاصلها، وتزهيداً فيها؛ لأن التعلق بها يعوق عن الفلاح قال _تعالى_: [وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]، وقال: [وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً].
__________
(1) _ لعله يشير إلى الآية: [وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا] (النحل: 65). (م)(1/242)
كل ذلك في سياق الحث على الإنفاق الواجب وغيره، وأشير إلى أنها ينبغي أن تتخذ الحياة وسيلة للنعيم الدائم في الآخرة، ووقاية من العذاب الشديد.
وما عدا ذلك من أحوال الحياة فهو متاع قليل، ولذلك أعقب مثل الحياة الدنيا بالإخبار عن الآخرة بقوله: [وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ] الخ. 27/400_401
9_ وقد ذكر هنا من شؤون الحياة ما هو الغالب على الناس وما لا يخلو من مقارفة تضييع الغايات الشريفة أو اقتحام مساوٍ ذميمة، وهي أصول أحوال المجتمع في الحياة.
وهي _أيضاً_ أصول أطوار آحاد الناس في تطور كل واحد منهم؛ فإن اللعب طور سِنّ الطفولة والصبا، واللهوَ طور الشباب، والزينة طور الفتوة، والتفاخرَ طور الكهولة، والتكاثر طور الشيخوخة، وذكر هنا خمسة أشياء:
فاللعب: اسم لقول أو فعل يراد به المزاح والهزل؛ لتمضية الوقت، أو إزالة وحشة الوحدة، أو السكون، أو السكوت، أو لجلب فرح ومسرة للنفس، أو يجلب مثل ذلك للحبيب، أو يجلب ضده للبغيض، كإعمال الأعضاء وتحريكها؛ دفعاً لوحشة السكون، والهذيان المقصود لدفع وحشة السكوت، ومنه العبث، وكالمزاح مع المرأة لاجتلاب إقبالها ومع الطفل، تحبباً أو إرضاءً له.
واللعب: هو الغالب على أعمال الأطفال والصبيان؛ فطور الطفولة طور اللعب ويتفاوت غيرهم في الإتيان منه؛ فيقل ويكثر بحسب تفاوت الناس في الأطوار الأولى من الإنسان، وفي رجاحة العقول، وضعفها.
والإفراط فيه من غير أصحاب طوره يؤذن بخسة العقل، ولذلك قال قوم إبراهيم له: [أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنْ اللاَّعِبِينَ].
واللعب يكثر في أحوال الناس في الدنيا؛ فهو جزء عظيم من أحوالها، وحسبك أنه يَعمُر معظم أحوال الصبا.
واللهو: اسم لفعل أو قول يقصد منه التذاذ النفس به، وصرفها عن ألم حاصل من تعب الجسد أو الحزن أو الكمد، يقال: لها عن الشيء، أي تشاغل عنه، قال امرؤ القيس:
وبيضة خدر لا يرام خِباؤها ... تمتعتُ من لَهْو بها غيرَ معجَل(1/243)
وقال النابغة يذكر حجه:
حيَّاكِ ربي فإنا لا يحل لنا ... لَهْوُ النساء وإن الدِّين قد عَزمَا
ويغلب اللهو على أحوال الشباب، فطور الشباب طوره، ويكثر اللهو في أحوال الدنيا من تطلب اللذات والطرب.
والزينة: تحسين الذات أو المكان بما يجعل وقعه عند ناظره مُسراً له، وفي طباع الناس الرغبة في أن تكون مناظرهم حسنة في عين ناظريهم وذلك في طباع النساء أشد، وربما كان من أسباب شدته فيهن كثرة إغراء الرجال لهن بذلك.
ويكثر التزين في طور الفتوة؛ لأن الرجل يشعر بابتداء زوال محاسن شبابه, والمرأة التي كانت غانية تحب أن تكون حالية, وليس ذلك لأجل تعرضها للرجال _ كما يتوهمه الرجال فيهن غروراً بأنفسهم _ بل ذلك لتكون حسنة في الناس من الرجال والنساء.
ويغلب التزين على أحوال الحياة؛ فإن معظم المساكن والملابس يراد منه الزينة، وهي ذاتية ومعنوية، ومن المعنوية ما يسمى في أصول الفقه بالتحسيني.
والتفاخر: الكلام الذي يفخر به، والفخر: حديث المرء عن محامده والصفات المحمودة منها فيه بالحق أو الباطل.
وصيغ منه زِنَة التفاعل؛ لأن شأن الفخر أن يقع بين جانبين كما أنبأ به تقييده بظرف (بينكم).
والناس يتفاخرون بالصفات المحمودة في عصورهم وأجيالهم وعاداتهم؛ فمن الصفات ما الفخر به غير باطل.
وهو الصفات التي حقائقها محمودة في العقل أو الشرع.
ومنها ما الفخر به باطل من الصفات والأعمال التي اصطلح قوم على التمدح بها، وليست حقيقة بالمدح مثل التفاخر بالإغلاء في ثمن الخمور، وفي الميسر، والزنى، والفخر بقتل النفوس، والغارة على الأموال في غير حق.
وأغلب التفاخر في طور الكهولة واكتمال الأشُدَّ؛ لأنه زمن الإقبال على الأفعال التي يقصد منها الفخر.
والتفاخر كثير في أحوال الناس في الدنيا، ومنه التباهي والعُجب، وعنه ينشأ الحسد.(1/244)
والتكاثر: تفاعل من الكثرة، وصيغة التفاعل هنا للمبالغة في الفعل بحيث ينزل منزلة من يغالب غيره في كثرة شيء؛ فإنه يكون أحرص على أن يكون الأكثر منه عنده؛ فكان المرء ينظر في الكثرة من الأمر المحبوب إلى امرىء آخر له الكثرة منه، ألا ترى إلى قول طرفة:
فلو شاء ربي كنت قيس بن عاصم(1) ... ولو شاء ربي كنت عمرو بنَ مرثدِ
فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي ... بنونَ كرامٌ سادة لمسوَّد
ثم شاع إطلاق صيغة التكاثر؛ فصارت تستعمل في الحرص على تحصيل الكثير من غير مراعاة مغالبة الغير ممن حصل عليه، قال _تعالى_: [أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ]. 27/401_403
10_ والمعنى: أن الله أقام نظام أحوال الناس في الحياة الدنيا على حكمة أن تكون الحياة وسيلة لبلوغ النفوس إلى ما هيَّأها الله له من العروج إلى سمو المَلَكِيَّة كما دل عليه قوله: [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] فكان نظام هذه الحياة على أن تجري أمور الناس فيها على حسب تعاليم الهدى؛ للفوز بالحياة الأبدية في النعيم الحق بعد الممات والبعث؛ فإذا الناس قد حرفوها عن مهيعها، وقد تضمن ذلك قوله _تعالى_: [مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]. 27/403_404
11_ [كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً].
فضرب مثل الحياة الدنيا لأطوار ما فيها من شباب وكهولة وهرم ففناء، ومن جِدَّةٍ وتبذّل وبِلىً، ومن إقبال الأمور في زمن إقبالها ثم إدبارها بعد ذلك، بأطوار الزرع، وكلها أعراض زائلة وآخرها فناء.
وتندرج فيها أطوار المرء في الحياة المذكورة في قوله: [لَعِبٌ وَلَهْوٌ] إلى: [وَالأَولادِ] كما يظهر بالتأمل. 27/406_407
__________
(1) _ هكذا في الأصل، وفي ديوان طرفة: قيس بن خالد. (م)(1/245)
12_ ويفهم من هذا أن ما كان من أحوال الحياة مقصوداً لوجه الله فإنه من شؤون الآخرة؛ فلا يدخل تحت هذا التمثيل إلا ظاهراً.
فأعمال البِر ودراسة العلم ونحو ذلك لا يعتريها نقص ما دام صاحبها مقبلاً عليها، وبعضها يزداد نماءً بطول المدة، وتقدم نظير هذه الآية في سورة الزمر. 27/406
13_ [سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)].
وعبر عن العناية والاهتمام بفعل المسابقة؛ لإلهاب النفوس بصرف العناية بأقصى ما يمكن من الفضائل كفعل من يسابق غيره إلى غاية فهو يحرص على أن يكون المجلِّيَّ، ولأن المسابقة كنايةٌ عن المنافسة، أي واتركوا المقتصرين على متاع الحياة الدنيا في الأخريات والخوالف. 27/407
14_ [إِلاَّ فِي كِتَابٍ].
وهذا الكلام يجمع الإشارة إلى ما قدمناه من أن الله _تعالى_ وضع نظام هذا العالم على أن تترتب المسببات على أسبابها، وقدر ذلك وعلمه، وهذا مثل قوله: [وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ] ونحو ذلك. 27/411
15_ [وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ].
والمقصود من هذا لفت بصائر السامعين إلى الاعتبار بحكمة الله _تعالى_ من خلق الحديد وإلهام صنعه، والتنبيه على أن ما فيه من نفع وبأس إنما أريد به أن يوضع بأسه حيث يستحق، ويوضع نفعه حيث يليق به، لا لتجعل منافعه لمن لا يستحقها مثل قطّاع الطريق والثوار على أهل العدل، ولتجهيز الجيوش؛ لحماية الأوطان من أهل العدوان، وللادخار في البيوت؛ لدفع الضاريات والعاديات على الحُرم والأموال.(1/246)
وكان الحكيم (انتيثنوس) اليوناني تلميذ سقراط إذا رأى امرأة حالية متزينة في أثينا يذهب إلى بيت زوجها ويسأله أن يريه فرسه وسلاحه، فإذا رآهما كاملين أذن لامرأته أن تتزين؛ لأن زوجها قادر على حمايتها من داعر يغتصبها، وإلا أمرها بترك الزينة وترك الحلي.
وهذا من باب سد الذريعة، لا ليجعل بأسه لإخضاد شوكة العدل وإرغام الآمرين بالمعروف على السكوت؛ فإن ذلك تحريف لما أراد الله من وضع الأشياء النافعة والقارة، قال _تعالى_: [وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ].
وقال على لسان أحد رسله [إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ]. 27/417
16_ والرهبانية: اسم للحالة التي يكون الراهب متصفاً بها في غالب شؤون دينه، فيها ياء النسبة إلى الراهب على غير قياس؛ لأن قياس النسب إلى الراهب الراهبية، والنون فيها مزيدة للمبالغة في النسبة كما زيدت في قولهم: شَعْراني، لكثير الشعر، ولحياني لعظيم اللحية، وروحاني، ونصراني. 27/421
17_ فالراهب يمتنع من التزوج؛ خيفة أن تشغله زوجه عن عبادته، ويمتنع من مخالطة الأصحاب؛ خشية أن يلهو عن العبادة، ويترك لذائد المآكل والملابس؛ خشية أن يقع في اكتساب المال الحرام، وأنهم أرادوا التشبه بعيسى _عليه السلام_ في الزهد في الدنيا وترك التزوج، فلذلك قال الله _تعالى_: [ابْتَدَعُوهَا] أي أحدثوها؛ فإن الابتداعَ الإتيانُ بالبدعة والبِدَعِ، وهو ما لم يكن معروفاً، أي أحدثوها بعد رسولهم؛ فإن البدعة ما كان محدثاً بعد صاحب الشريعة. 27/422
1_ سميت هذه السورة في كتب التفسير وفي المصاحف وكتب السنة (سورة المجادلة) بكسر الدال أو بفتحه كما سيأتي.
وتسمى (سورة قد سمع) وهذا الاسم مشتهر في الكتاتيب في تونس، وسميت في مصحف أُبيّ بن كعب (سورة الظهار).
ووجه تسميتها (سورة المجادلة) لأنها افتتحت بقضية مجادلة امرأة أوس ابن الصامت لدى النبي"في شأن مظاهرة زوجها.(1/247)
ولم يذكر المفسرون ولا شارحوا كتب السنة ضبطه بكسر الدال أو فتحها.
وذكر الخفاجي في حاشية البيضاوي عن الكشف أن كسر الدال هو المعروف _ولم أدر ما أراد الخفاجي بالكشف الذي عزا إليه هذا_ فكشف القزويني على الكشاف لا يوجد فيه ذلك، ولا في التفسير المسمى الكشفَ والبيان للثعلبي.
فلعل الخفاجي رأى ذلك في الكشف الذي ينقل عنه الطيبي في مواضع تقريرات لكلام الكشاف وهو غير معروف في عداد شروح الكشاف.
وكسر الدال أظهر؛ لأن السورة افتتحت بذكر التي تجادل في زوجها؛ فحقيقة أن تضاف إلى صاحبة الجدال، وهي التي ذكرها الله بقوله: [الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا].
ورأيت في نسخة من حاشية محمد الهمذاني على الكشاف المسماة توضيح المشكلات، بخط مؤلفها جعل علامة كسرة تحت دال المجادلة.
وأما فتح الدال فهو مصدر مأخوذ من فعل: [تُجَادِلُكَ] كما عبر عنها بالتحاور في قوله _تعالى_: [وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا].
وهذه السورة مدنية قال ابن عطية بالإجماع.
وفي تفسير القرطبي عن عطاء: أن العشر الأُوَلَ منها مدني وباقيها مكي.
وفيه عن الكلبي أنها مدنية إلا قوله _تعالى_: [مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ] الآية نزلت بمكة.
وهي السورة المائة وثلاث في عداد نزول سور القرآن، نزلت بعد سورة المنافقين وقبل سورة التحريم.
والذي يظهر أن سورة المجادلة نزلت قبل سورة الأحزاب؛ لأن الله _تعالى_ قال في سورة الأحزاب: [وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ] وذلك يقتضي أن تكون هذه الآية نزلت بعد إبطال حكم الظهار بما في سورة المجادلة؛ لأن قوله: [مَا جَعَلَ] يقتضي إبطال التحريم بالمظاهرة، وإنما أبطل بآية سورة المجادلة.
وقال السخاوي: نزلت سورة المجادلة بعد سورة المنافقين وقبل سورة الحجرات.(1/248)
وآيها في عد أهل المدينة وأهل مكة إحدى وعشرون، وفي عد أهل الشام والبصرة والكوفة اثنتان وعشرون. 28/5_6
2_ أغراض هاته السورة: الحكمُ في قضيةِ مُظَاهَرَةِ أوسِ بنِ الصامتِ من زوجِهِ خولة.
وإبطالُ ما كان في الجاهلية من تحريم المرأةِ إذا ظاهر منها زوجُها, وأن عَمَلَهم مخالفٌ لما أراده الله, وأنه من أوهامهم وزورهم التي كبتهم الله بإبطالها, وتَخَلَّص من ذلك إلى ضلالات المنافقين ومنها مناجاتهم بمرأى المؤمنين؛ ليغيظوهم ويحزنوهم.
ومنها موالاتُهم اليهودَ, وحَلِفُهم على الكذب.
وتخلل ذلك التعرضُ لآداب مجلس الرسول " وشرعُ التصدقِ قبلَ مناجاةِ الرسول"والثناءُ على المؤمنين في مجافاتهم اليهودَ والمشركين, وأن اللهَ ورسولَه وحزبَهما هم الغالبون. 28/6
3_ [قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)].
افتتحت آيات أحكام الظهار بذكر سبب نزولها؛ تنويهاً بالمرأة التي وجَّهت شكواها إلى الله _تعالى_ بأنها لم تُقَصِّر في طلب العدل في حقها وفي بَنِيها.
ولم ترضَ بعُنجهية زوجها، وابتداره إلى ما ينثر عقد عائلته دون تبصّر ولا رويَّة، وتعليماً لنساء الأمة الإسلامية، ورجالها واجبَ الذودِ عن مصالحها.
تلك هي قضية المرأة خولة أو خُويلة مصغراً أو جميلة بنت مالك بن ثعلبة أو بنت دُلَيْج _مصغراً_ العوفية.
وربما قالوا: الخزرجية، وهي من بني عوف بن مالك بن الخزرج من بطون الأنصار مع زوجها أوس بن الصامت الخزرجي أخي عبادة بن الصامت.
قيل: إن سبب حدوث هذه القضية أن زوجها رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم، فلما سلمت أرادها، فأبت، فغضب، وكان قد ساء خلقه، فقال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي.(1/249)
قال ابن عباس: وكان هذا في الجاهلية تحريماً للمرأة مؤبَّداً _أي وعمل به المسلمون في المدينة بعلم من النبي"وإقراره الناسَ عليه؛ فاستقر مشروعاً_.
فجاءت خولة رسول الله"وذكرت له ذلك، فقال لها: حَرُمْتِ عليه، فقالت للرسول": إن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا، فقال =ما عندي في أمرك شيء، فقالت: يا رسول الله ما ذكر طلاقاً، وإنما هو أبو وَلَدِي وأحب الناس إلي، فقال: حَرُمتِ عليه، فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي كلما قال رسول الله"حَرُمتِ عليه هتفت وشكت إلى الله+ فأنزل الله هذه الآيات.
وهذا الحديث رواه أبو داود في كتاب الظهار مجملاً بسند صحيح.
وأما تفصيل قصته فمن روايات أهل التفسير، وأسباب النزول يزيد بعضها على بعض، وقد استقصاها الطبري بأسانيده عن ابن عباس، وقتادة، وأبي العالية، ومحمد بن كعب القرظي، وكلها متفقة على أن المرأة المجادِلة هي خولة أو خويلة أو جميلة، وعلى أن زوجها أوس بن الصامت. 28/6_7
4_ والسماع في قوله: [وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا] مستعمل في معناه الحقيقي المناسب لصفات الله؛ إذ لا صارف يصرف عن الحقيقة.
وكون الله _تعالى_ عالماً بما جرى من المحاورة معلوم لا يراد من الإخبار به إفادة الحكم، فتعين صرف الخبر إلى إرادة الاعتناء بذلك التحاور، والتنويه به، وبعظيم منزلته لاشتماله على ترقّب النبي"ما ينزله عليه من وحي، وترقب المرأة الرحمة، وإلا فإن المسلمين يعلمون أن الله عالم بتحاورهما. 28/9
5_ وجملة: [اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] تذييل لجملة: [وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا] أي أن الله عالم بكل صوت وبكل مرئي. 28/9
6_ [ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنْ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)].(1/250)
ومعناه أن يقول الرجل لزوجه: أنت علي كظهر أمي.
وكان هذا قولاً يقولونه في الجاهلية يريدون به تأبيدَ تحريم نكاحها وبتّ عصمته.
وهو مشتق من الظهر ضد البطن لأن الذي يقول لامرأته أنت علي كظهر أمي يريد بذلك أنه حرمها على نفسه كما أن أمه حرام عليه، فإسناد تركيب التشبيه إلى ضمير المرأة على تقدير حالة من حالاتها، وهي حالة الاستمتاع المعروف، سلكوا في هذا التحريم مسلك الاستعارة المكنية بتشبيه الزوجة حين يقربها زوجها بالراحلة، وإثبات الظهر لها تخيل للاستعارة، ثم تشبيه ظهر زوجته بظهر أمه، أي في حالة من أحواله، وهي حالة الاستمتاع المعروف، وجعل المشبه ذات الزوجة.
والمقصود أخص أحوال الزوجة، وهو حال قربانها؛ فآل إلى إضافة الأحكام إلى الأعيان.
فالتقدير: قربانك كقربان ظهر أمي، أي اعتلائها الخاص.
ففي هذه الصيغة حذفٌ، ومجيءُ حروفِ لفظِ ظهر في صيغة ظهار أو مظاهرة يشير إلى صيغة التحريم التي هي: (أنت علي كظهر أمي) إيماءٌ إلى تلك الصيغة على نحو ما يستعمل في النحت وليس هو من النحت؛ لأن النحت يشتمل على حروف من عدة كلمات.
قال المفسرون وأهل اللغة كان الظهار طلاقاً في الجاهلية يقتضي تأبيد التحريم.
وأحسب أنه كان طلاقاً عند أهل يثرب وما حولها؛ لكثرة مخالطتهم اليهود، ولا أحسب أنه كان معروفاً عند العرب في مكة وتهامة ونجد وغيرها، ولم أقف على ذلك في كلامهم.
وحسبك أن لم يذكر في القرآن إلا في المدني هنا، وفي سورة الأحزاب.
والذي يَلُوُح لي أن أهل يثرب ابتدعوا هذه الصيغة؛ للمبالغة في التحريم؛ فإنهم كانوا قبل الإسلام ممتزجين باليهود، متخلقين بعوائدهم، وكان اليهود يمنعون أن يأتي الرجل امرأته من جهة خلفها كما تقدم في قوله _تعالى_: [فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ] في سورة البقرة؛ فلذلك جاء في هذه الصيغة لفظ الظهر؛ فجمعوا في هذه الصيغة تغليظاً من التحريم وهي أنها كأمه، بل كظهر أمه؛ فجاءت صيغة شنيعة فضيعة. 28/10_11(1/251)
7_ وأخذوا من صيغة: (أنت علي كظهر أمي) أصرحَ ألفاظِها، وأخصَّها بغرضها وهو لفظ ظهر؛ فاشتقوا منه الفعل بِزِناةٍ(1) متعددة، يقولون: ظاهر من امرأته، وظهّر مثل ضاعف وضعّف، ويدخلون عليهما تاء المطاوعة.
فيقولون: تظاهر منها وتظهَّر، وليس هذا من قبيل النحت نحو: بسمل، وهلّل؛ لعدم وجود حرف من الكلمات الموجودة في الجملة كلها. 28/11
8_ و[أَلَمْ تَرَى] من الرؤية العلمية؛ لأن علم الله لا يرى، وسَدَّ المصدر مسدَّ المفعول.
والتقدير : ألم تر الله عالماً.
و[مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] يعم المبصرات والمسموعات فهو أعم من قوله: [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] لاختصاصه بعلم المشاهدات؛ لأن الغرض المفتتح به هذه الجملة هو علم المسموعات. 28/26
1_ اشتهرت تسمية هذه السورة (سورة الحشر) وبهذا الاسم دعاها النبي".
روى الترمذي عن معقل بن يسار: =قال رسول الله ": من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر+ الحديث، أي الآيات التي أولها: [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ] إلى آخر السورة.
وفي صحيح البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس سورة الحشر قال: =قل: بني النضير+ أي سورة بني النضير؛ فابن جبير سماها باسمها المشهور، وابن عباس يسميها سورة بني النضير.
ولعله لم يبلغه تسمية النبي"إياها (سورة الحشر) لأن ظاهر كلامه أنه يرى تسميتها (سورة بني النضير) لقوله لابن جبير (قل: بني النضير).
وتأول ابن حجر كلام ابن عباس على أنه كره تسميتها بـ(الحشر) لئلا يظن أن المراد بالحشر يوم القيامة، وهذا تأول بعيد.
وأحسن من هذا أن ابن عباس أراد أن لها اسمين، وأن الأمر في قوله: (قل)، للتخيير.
فأما وجه تسميتها (الحشر) فلوقوع لفظ (الحَشْرِ) فيها.
__________
(1) _ يعني بأوزان. (م)(1/252)
ولكونها ذكر فيها حشر بني النضير من ديارهم أي من قريتهم المسماة الزهرة قريباً من المدينة؛ فخرجوا إلى بلاد الشام إلى أريحا وأذرعات، وبعض بيوتهم خرجوا إلى خيبر، وبعض بيوتهم خرجوا إلى الحيرة.
وأما وجه تسميتها (سورة بني النضير) فلأن قصة بني النضير ذكرت فيها.
وهي مدنية بالاتفاق.
وهي الثامنة والتسعون في عداد نزول السور عند جابر بن زيد، نزلت بعد سورة البينة وقبل سورة النصر.
وكان نزولها عقب إخراج بني النضير من بلادهم سنة أربع من الهجرة.
وعدد آيها أربع وعشرون باتفاق العادين. 28/62_63
2_ أغراض هذه السورة: وقع الاتفاق على أنها نزلت في شأن بني النضير، ولم يُعَيِّنوا ما هو الغرضُ الذي نزلت فيه, ويظهر أن المقْصِدَ منها حكمُ أموالِ بني النضير بعد الانتصار عليهم _كما سنبينه في تفسير الآية الأولى منها_.
وقد اشتملت على أن ما في السماوات وما في الأرض دالٌّ على تنزيه الله، وكونِ ما في السماوات والأرض مُلْكَهُ، وأنه الغالبُ المدبر.
وعلى ذكرِ نِعْمَةِ اللهِ على ما يَسَّرَ من إجلاء بني النضير مع ما كانوا عليه من المَنَعةِ والحصون والعدة، وتلك آيةٌ من آيات تأييدِ رسول الله"وغلبته على أعدائه.
وذكرُ ما أجراه المسلمون من إتلافِ أموالِ بني النَّضير, وأحكامُ ذلك في أموالهم, وتَعْيِيْن مستحقيه من المسلمين.
وتعظيمُ شأنِ المهاجرين والأنصارِ والذين يجيئُون بعدَهم من المؤمنين.
وكشفُ دخائلِ المنافقين ومواعيدِهم لبني النضير أن ينصروهم, وكيف كذبوا وعدهم, وأنحى على بني النضير والمنافقين بالجبن وتفرُّق الكلمةِ، وتنظير حال تغرير المنافقين لليهود بتغرير الشيطان للذين يكفرون بالله، وتَنَصُّلِه من ذلك يوم القيامة؛ فكان عاقبةُ الجميعِ الخلودَ في النار.
ثم خطابُ المؤمنين بالأمر بالتقوى, والحذرِ من أحوال أصحابِ النار, والتذكيرُ بتفاوت حال الفريقين.
وبيانُ عظمةِ القرآن، وجلالتِه، واقتضائه خشوعَ أهلِه.(1/253)
وتخلل ذلك إيماءٌ إلى حكمةِ شرائعِ انتقالِ الأموال بين المسلمين بالوجوه التي نظَّمها الإسلام بحيث لا تَشُقُّ على أصحاب الأموال.
والأمرُ باتباع ما يشرعه الله على لسان رسوله".
وخُتِمَتْ بصفاتٍ عظيمة من الصفات الإلهية, وأنه يسبح له ما في السماوات والأرض؛ تزكيةً لحال المؤمنين, وتعريضاً بالكافرين. 28/63_64
3_ والخطاب في قوله: [يَا أُولِي الأَبْصَارِ] موجه إلى غير معين.
ونودي أولوا الأبصار بهذه الصلة؛ ليشير إلى أن العبرة بحال بني النضير واضحة مكشوفة لكل ذي بصر ممن شاهد ذلك، ولكل ذي بصر يرى مواقع ديارهم بعدهم؛ فتكون له عبرة قدرة الله _تعالى_ على إخراجهم وتسليط المسلمين عليهم من غير قتال.
وفي انتصار الحق على الباطل، وانتصار أهل اليقين على المذبذبين.
وقد احتج بهذه الآية بعض علماء الأصول لإثبات حجية القياس بناء على أنه من الاعتبار. 28/72
4_ والمقصود من ذلك إبطال ما كان معتاداً في العرب قبل الإسلام من استئثار قائد الجيش بأمور من المغانم وهي: المرباع، والصفايا، وما صالح عليه عدوه دون قتال، والنشيطة والفضول.
قال عبدالله بنُ عَنمةَ الضبي يخاطب بسطام بن قيس سيد بني شيبان وقائدهم في أيامهم:
لك المرباع منه والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
فالمرباع: ربع المغانم كان يستأثر به قائد الجيش.
والصفايا: النفيس من المغانم الذي لا نظير له فتعذر قسمته، كان يستأثر به قائد الجيش.
وأما حكمه فهو ما أعطاه العدو من المال إذا نزلوا على حكم أمير الجيش.
والنشيطة: ما يصيبه الجيش في طريقه من مال عدوهم قبل أن يصلوا إلى موضع القتال.
والفضول: ما يبقى بعد قسمة المغانم مما لا يقبل القسمة على رؤوس الغزاة مثل بعير وفرس.(1/254)
وقد أبطل الإسلام ذلك كله؛ فجعل الفيء مصروفاً إلى ستة مصارف راجعة فوائدها إلى عموم المسلمين؛ لسد حاجاتهم العامة والخاصة؛ فإن ما هو لله وللرسول " إنما يجعله الله لما يأمر به رسوله " وجعل الخمس من المغانم كذلك لتلك المصارف.
وقد بدا من هذا التعليل أن من مقاصد الشريعة أن يكون المال دولة بين الأمة الإسلامية على نظام محكم في انتقاله من كل مال لم يسبق عليه ملك لأحد مثل الموات، والفيء، واللقطات، والركاز، أو كان جزءاً معيناً مثل: الزكاة، والكفارات، وتخميس المغانم، والخراج، والمواريث، وعقود المعاملات التي بين جانبي مال وعمل مثل: القراض، والمغارسة، والمساقاة، وفي الأموال التي يظفر بها الظافر بدون عمل وسعي مثل: الفيء والركاز، وما ألقاه البحر، وقد بينت ذلك في الكتاب الذي سميته (مقاصد الشريعة الإسلامية).
والدولة بضم الدال: ما يتداوله المتداولون.
والتداول: التعاقب في التصرف في شيء، وخصها الاستعمال بتداول الأموال.
والدولة بفتح الدال: النوبة في الغلبة والملك؛ ولذلك أجمع القراء المشهورون على قراءتها في هذه الآية بضم الدال. 28/84_86
5_ وفي الحديث في بيان أفضل الصدقة: =أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى+.
ولكن النفوس تتفاوت في هذا المقدار فإذا غلب عليها بمنع المعروف والخير فذلك مذموم، ويتفاوت ذمه بتفاوت ما يمنعه.
قال وقد أحسن وصفه من قال، لم أقف على قايله:
يمارس نفساً بين جنبيه كزة ... إذا همَّ بالمعروف قالت له مهلا
فمن وقي شح نفسه، أي وقي من أن يكون الشح المذموم خلقاً له، لأنه إذا وقي هذا الخلق سلم من كل مواقع ذمه؛ فإن وقي من بعضه كان له من الفلاح بمقدار ما وقيه. 28/94_95
6_ [بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14)].(1/255)
استئناف بياني؛ لأن الإخبار عن أهل الكتاب وأنصارهم بأنهم لا يقاتلون المسلمين إلا في قرى محصنة المفيد أنهم لا يتفقون على جيش واحد متساندين فيه مما يثير في نفس السامع أن يسأل عن موجب ذلك مع أنهم متفقون على عداوة المسلمين.
فيجاب بأن بينهم بأساً شديداً وتدابراً؛ فهم لا يتفقون.
وافتتحت الجملة بـ[بَأْسُهُمْ] للاهتمام بالأخبار عنه بأنه بينهم، أي متسلط من بعضهم على بعض وليس بأسهم على المسلمين، وفي تهكم.
ومعنى بينهم: أن مجال البأس في محيطهم؛ فما في بأسهم من إضرار فهو منعكس إليهم، وهذا التركيب نظير قوله _تعالى_: [رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ].
وجملة: [تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً] إلى آخرها استئناف عن جملة: [بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ] لأنه قد يسأل السائل: كيف ذلك ونحن نراهم متفقين? فأجيب بأن ظاهر حالهم حال اجتماع واتحاد، وهم في بواطنهم مختلفون؛ فآراؤهم غير متفقة لا إلفة بينهم؛ لأن بينهم إحناً وعداوات؛ فلا يتعاضدون.
والخطاب لغير مُعَيَّن؛ لأن النبي"لا يحسب ذلك، وهذا تشجيع للمسلمين على قتالهم، والاستخفاف بجماعتهم.
وفي الآية تربية للمسلمين؛ ليحذروا من التخالف والتدابر، ويعلموا أن الأمة لا تكون ذات بأس على أعدائها إلا إذا كانت متفقة الضمائر يرون رأياً متماثلاً في أصول مصالحهما المشتركة، وإن اختلفت في خصوصياتها التي لا تنقض أصول مصالحها، ولا تفرق جامعتها، وأنه لا يكفي في الاتحاد توافق الأقوال ولا التوافق على الأغراض إلا أن تكون الضمائر خالصة من الإحن والعداوات. 28/105_106
1_ عرفت هذه السورة في كتب التفسير وكتب السنة وفي المصاحف بـ(سورة الممتحنة).
قال القرطبي: والمشهور على الألسنة النطق في كلمة (الممتحنة) بكسر الحاء وهو الذي جزم به السهيلي.(1/256)
ووجه التسمية أنها جاءت فيها آية امتحان إيمان النساء اللاتي يأتين من مكة مهاجرات إلى المدينة وهي آية: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ] إلى قوله: [بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ].
فوصف الناس تلك الآية بالممتحنة؛ لأنها شرعت الامتحان، وأضيفت السورة إلى تلك الآية.
وقال السهيلي: أسند الامتحان إلى السورة مجازاً كما قيل لسورة براءة الفاضحة، يعني أن ذلك الوصف مجاز عقلي.
وروي بفتح الحاء على اسم المفعول.
قال ابن حجر: وهو المشهور أي المرأة الممتحنة على أن التعريف تعريف العهد والمعهود أول امرأة امتحنت في إيمانها، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط امرأة عبد الرحمن بن عوف.
كما سميت سورة قد سمع الله (سورة المجادلة) بكسر الدال.
ولك أن تجعل التعريف تعريف الجنس، أي النساء الممتحنة.
قال في الإتقان: وتسمى (سورة الامتحان) و(سورة المودة) وعزا ذلك إلى كتاب جمال القراء لعلي السخاوي، ولم يذكر سنده.
وهذه السورة مدنية بالاتفاق.
واتفق أهل العدد على عد آيها ثلاث عشرة آية، وآياتها طوال.
واتفقوا على أن الآية الأولى نزلت في شأن كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين من أهل مكة.
روى البخاري من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار يبلغ به إلى علي ابن أبي طالب ÷ قصة كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة ثم قال: قال عمرو بن دينار: نزلت فيه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ].
قال سفيان: =هذا في حديث الناس لا أدري الآية في الحديث أو قول عمرو، حفظته من عمرو وما تركت منه حرفاً+. ا هـ
وفي صحيح مسلم وليس في حديث أبي بكر، وزهير (من الخمسة الذين روى عنهم مسلم يروون عن سفيان بن عيينة) ذكر الآية.
وجعلها إسحاق _أي ابن إبراهيم_ أحد من روى عنهم مسلم هذا الحديث في روايته من تلاوة سفيان. ا هـ(1/257)
ولم يتعرض مسلم لرواية عمرو الناقد وابن أبي عمر عن سفيان، فلعلهما لم يذكرا شيئاً في ذلك.
واختلفوا في أن كتابه إليهم أكان عند تجهز رسول الله " للحديبية وهو قول قتادة، ودرج عليه ابن عطية، وهو مقتضى رواية الحارث عن علي بن أبي طالب عند الطبري قال: لما أراد النبي "أن يأتي مكة أفشى في الناس أنه يريد خيبر وأسر إلى ناس من أصحابه منهم حاطب بن أبي بلتعة أنه يريد مكة؛ فكتب حاطب إلى أهل مكة... إلى آخره.
فإن قوله: أفشى، أنه يريد خيبر يدل على أن إرادته مكة إنما هي إرادة عمر(1) الحديبية لا غزو مكة؛ لأن خيبر فتحت قبل فتح مكة.
ويؤيد هذا ما رواه الطبري أن المرأة التي أرسل معها حاطب كتابه كان مجيئها المدينة بعد غزوة بدر بسنتين: وقال ابن عطية: نزلت هذه السورة سنة ست.
وقال جماعة: كان كتاب حاطب إلى أهل مكة عند تجهز رسول الله"لفتح مكة، وهو ظاهر صنيع جمهور أهل السير، وصنيع البخاري في كتاب المغازي من صحيحه في ترتيبه للغزوات، ودرج عليه معظم المفسرين.
ومعظم الروايات ليس فيها تعيين ما قصده رسول الله"من تجهزه إلى مكة أهو لأجل العمرة، أم لأجل الفتح، فإن كان الأصح الأول وهو الذي نختاره كانت السورة جميعها نازلة في مدة متقاربة، فإن امتحان أم كلثوم بنت عقبة كان عقب صلح الحديبية.
ويكون نزول السورة مرتباً على ترتيب آياتها وهو الأصل في السور.
وعلى القول الثاني يكون صدور السورة نازلاً بعد آيات الامتحان وما بعدها حتى قال بعضهم: إن أول السورة نزل بمكة بعد الفتح، وهذا قول غريب لا ينبغي التعويل عليه.
وهذه السورة قد عدت الثانية والتسعين في تعداد نزول السور.
عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة العقود وقبل سورة النساء. 28/129_131
2_ أغراض هذه السورة: اشتملت من الأغراض على تحذيرِ المؤمنين من اتخاذ المشركين أولياءَ مع أنهم كفروا بالدين الحق, وأخروجهم من بلادهم.
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: عمرة. (م)(1/258)
وإعلامِهم بأن اتخاذَهم أولياءَ ضلالٌ, وأنهم لو تمكنوا من المؤمنين لأساؤوا إليهم بالفعل والقول، وأن ما بينهم وبين المشركين من أواصر القرابة لا يُعْتَدُّ به تُجاهَ العداوة في الدين، وضربَ لهم مثلاً في ذلك قطيعةَ إبراهيمَ لأبيه وقومِه.
وأردف ذلك باستئناسِ المؤمنين برجاءِ أن تَحْصُلَ مودةٌ بينهم وبين الذين أمرهم اللهُ بمعاداتهم أي هذه معاداة غير دائمة.
وأردف بالرخصة في حسن معاملة الكفرة الذين لم يقاتلوا المسلمين قتالَ عداوةٍ في دين, ولا أخرجوهم من ديارهم.
وهذه الأحكامُ إلى نهاية الآية التاسعة.
وحكمُ المؤمناتِ اللاءِ يأتين مهاجراتٍ, واختبارُ صدقِ إيمانهن, وأن يُحْفظن من الرجوع إلى دار الشرك, ويُعَوَّضُ أزواجُهن المشركون ما أعطوهن من المهور, ويقع الترادُّ كذلك مع المشركين.
ومبايعةُ المؤمنات المهاجرات؛ لِيُعْرَفَ التزامُهن لأحكام الشريعة الإسلامية، وهي الآية الثانية عشرة.
وتحريمُ تزوِّجِ المسلمينِ المشركاتِ وهذا في الآيتين العاشرة والحادية عشرة.
والنهي عن موالاة اليهود وأنهم أشبهوا المشركين وهي الآية الثالثة عشرة. 28/131_132
3_[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي].
والمعنى: لا يقع منكم اتخاذُ عدوي وعدوكم أولياء، ومودتُهم، مع أنهم كفروا بما جاءكم من الحق، وأخرجوكم لأجل إيمانكم.
إن كنتم خرجتم من بلادكم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي، فكيف توالون من أخرجوكم وكان إخراجهم إياكم لأجلي وأنا ربكم؟! 28/137
1_ اشتهرت هذه السورة باسم (سورة الصف) وكذلك سميت في عصر الصحابة.(1/259)
روى ابن أبي حاتم سنده إلى عبدالله بن سلام أن ناساً قالوا: =لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن أحب الأعمال+ إلى أن قال: =فدعا رسول الله"أولئك النفر حتى جمعهم ونزلت فيهم سورة سبح لله الصف+ الحديث، رواه ابن كثير.
وبذلك عنونت في صحيح البخاري وفي جامع الترمذي، وكذلك كتب اسمها في المصاحف وفي كتب التفسير.
ووجه التسمية وقوع لفظ: [صَفّاً] فيها وهو صف القتال، فالتعريف باللام تعريف العهد.
وذكر السيوطي في الإتقان: أنها تسمى (سورة الحواريين) ولم يسنده.
وقال الآلوسي: تسمى (سورة عيسى) ولم أقف على نسبته لقائل.
وأصله للطبرسي فلعله أخذ من حديث رواه في فضلها عن أبي بن كعب بلفظ (سورة عيسى).
وهو حديث موسوم بأنه موضوع.
والطبرسي يكثر من تخريج الأحاديث الموضوعة.
فتسميتها (سورة الحواريين) لذكر الحواريين فيها، ولعلها أول سورة نزلت ذكر فيها لفظ الحواريين.
وإذا ثبت تسميتها (سورة عيسى) فلما فيها من ذكر (عيسى) مرتين.
وهي مدنية عند الجمهور كما يشهد لذلك حديث عبدالله بن سلام.
وعن ابن عباس ومجاهد وعطاء أنها مكية ودرج عليه في الكشاف والفخر.
وقال ابن عطية: الأصح أنها مدنية ويشبه أن يكون فيها المكي.
واختلف في سبب نزولها وهل نزلت متتابعة أو متفرقة متلاحقة.
28/171_172
2_ وهي السورة الثامنة والمائة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد. نزلت بعد سورة التغابن وقبل سورة الفتح، وكان نزولها بعد وقعة أحد.
وعدد آيها أربع عشرة آية باتفاق أهل العدد. 28/173
3_ أغراضها: أولُ أغراضِها التحذيرُ من إخلافِ الوعدِ والالتزام بواجبات الدين.
والتحريضُ على الجهاد في سبيل الله والثباتُ فيه، وصدقُ الإيمانِ، والثباتُ في نصرة الدين، والائتساءُ بالصادقين مثل الحواريين.
والتحذيرُ من أذى الرسول"تعريضاً باليهود مثل كعب بن الأشرف.
وَضْربُ المثل لذلك بفعل اليهود مع موسى وعيسى _ عليهما السلام _.
والتعريضُ بالمنافقين.(1/260)
والوعدُ على إخلاص الإيمانِ والجهادِ بحسن مثوبة الآخرة والنصر والفتح. 28/173
4_ [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)].
استئناف بياني ناشئ عن الإخبار عنهم بأنهم افتروا على الله الكذب في حال أنهم يدعون إلى الإسلام؛ لأنه يثير سؤال سائل عما دعاهم إلى هذا الافتراء؛ فأجيب بأنهم يريدون أن يخفوا الإسلام عن الناس، ويعوقوا انتشاره، ومثلت حالتهم بحالة نفر يبتغون الظلام للتلصص أو غيره مما يراد فيه الاختفاء.
فلاحت له ذبالة مصباح تضيء للناس، فكرهوا ذلك وخشوا أن يشع نوره على الناس فتفتضح ترهاتهم، فعمدوا إلى إطفائه بالنفخ عليه فلم ينطفىء، فالكلام تمثيل دال على حالة الممثل لهم.
والتقدير: يريدون عوق ظهور الإسلام كمثل قوم يريدون إطفاء النور، فهذا تشبيه الهيئة بالهيئة تشبيه المعقول بالمحسوس. 28/189_190
5_ وإنما كانت كراهية الكافرين ظهور نور الله حالة يظن انتفاء تمام النور معها، لأن تلك الكراهية تبعثهم على أن يتألبوا على إحداث العراقيل وتضليل المتصدين للاهتداء، وصرفهم عنه بوجود المكر، والخديعة، والكيد، والإضرار.
وشمل لفظ: [الْكَافِرُونَ] جميع الكافرين بالإسلام من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم.
ولكن غلب اصطلاح القرآن على تخصيص وصف الكافرين بأهل الكتاب ومقابلتهم بالمشركين أو الظالمين. 28/191
1_ سميت هذه السورة عند الصحابة وفي كتب السنة والتفاسير (سورة الجمعة) ولا يعرف لها اسم غير ذلك.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: =كنا جلوساً عند النبي فأنزلت عليه سورة الجمعة+ الحديث.
وسيأتي عند تفسير قوله _تعالى_: [وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ].
ووجه تسميتها وقوع لفظ: [الْجُمُعَةِ] فيها، وهو اسم لليوم السابع من أيام الأسبوع في الإسلام.(1/261)
وقال ثعلب: إن قريشاً كانت تجتمع فيه عند قُصيّ بدار الندوة، ولا يقتضي في ذلك أنهم سموا ذلك اليوم الجمعة.
ولم أَرَ في كلام العرب قبل الإسلام ما يثبت أن اسم الجمعة أطلقوه على هذا اليوم.
وقد أطلق اسم (الجمعة) على الصلاة المشروعة فيه على حذف المضاف لكثرة الاستعمال.
وفي حديث ابن عمر أن رسول الله " قال: =إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل+.
ووقع في كلام عائشة: =كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم والعوالي+ الخ.
وفي كلام أنس: =كنا نقيل بعد الجمعة+.
ومن كلام ابن عمر: =كان رسول الله لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف+ أي من المسجد.
ومن كلام سهل بن سعد: =ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة+.
فيحتمل أن يكون لفظ الجمعة الذي في اسم هذه السورة معنياً به صلاة الجمعة؛ لأن في هذه السورة أحكاماً لصلاة الجمعة.
ويحتمل أن يراد به يوم الجمعة؛ لوقوع لفظ يوم الجمعة في السورة في آية صلاة الجمعة.
وهي مدنية بالاتفاق.
ويظهر أنها نزلت سنة ست وهي سنة خيبر، فظاهر حديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه آنفاً أن هذه السورة نزلت بعد فتح خيبر؛ لأن أبا هريرة أسلم يوم خيبر.
وظاهره أنها نزلت دفعة واحدة؛ فتكون قضية ورود العير من الشام هي سبب نزول السورة _وسيأتي ذكر ذلك_.
وكان فرض صلاة الجمعة متقدماً على وقت نزول السورة؛ فإن النبي" فرضها في خطبة خطب بها للناس، وصلاها في أول يوم جمعة بعد يوم الهجرة في دارٍ لبني سالم بن عوف.
وثبت أن أهل المدينة صلوها قبل قدوم رسول الله"المدينة _كما سيأتي_.
فكان فرضها ثابتاً بالسنة قولاً وفعلاً.
وما ذكر في هذه السورة من قوله: [إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ] ورد مورد التأكيد لحضور صلاة الجمعة وترك البيع، والتحذير من الانصراف عند الصلاة قبل تمامها _كما سيأتي_.(1/262)
وقد عدت هذه السورة السادسة بعد المائة في ترتيب نزول السور عند جابر ابن زيد، نزلت بعد سورة التحريم وقبل سورة التغابن.
وظاهر حديث أبي هريرة يقتضي أن هذه السورة أنزلت دفعة واحدة غير منجمة.
وعدت آيها إحدى عشرة آية باتفاق العادين من قراء الأمصار. 28/204_205
2_ أغراضُها: أولُ أغراضِها ما نزلت لأجله وهو التحذيرُ من التخلفِ عن صلاة الجمعة, والأمرُ بتركِ ما يشغلُ عنها في وقت أدائها.
وقُدِّم لذلك: التنويهُ بجلال الله _تعالى_ والتنويهُ بالرسول"وأنه رسول إلى العرب ومن سيلحق بهم، وأن رسالته لهم فضلٌ من الله.
وفي هذا توطئةٌ لذمِّ اليهود؛ لأنهم حسدوا المسلمين على تشريفهم بهذا الدين.
ومن جملة ما حسدوهم عليه ونقموه أن جُعِل يومُ الجمعة اليومَ الفاضل في الأسبوع بعد أن كان يوم السبت, وهو المعروف في تلك البلاد.
وإبطالُ زعمهم أنهم أولياء الله.
وتوبيخُ قومٍ انصرفوا عنها؛ لمجيء عِيْرِ تجارةٍ من الشام. 28/205_206
3_ والمراد بـ[الأُمِّيِّينَ]: العرب؛ لأن وصف الأمية غالب على الأمة العربية يومئذ.
ووصف الرسول بـ[مِنْهُمْ] أي لم يكن غريباً عنهم كما بُعِث لوطاً إلى أهل سلوم، ولا كما بُعِث يونس إلى أهل نينوى، وبُعِثَ إلياس إلى أهل صيدا من الكنعانيين الذين يعبدون بَعْل؛ فـ(مِنْ) تبعيضية، أي رسولاً من العرب.
وهذه منة موجهة للعرب؛ ليشكروا نعمة الله على لطفه بهم؛ فإنَّ كون رسولِ القوم منهم نعمةٌ زائدةٌ على نعمة الإرشاد والهدي، وهذا استجابة لدعوة إبراهيم إذ قال: [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ].
فتذكيرهم بهذه النعمة استنزال لطائر نفوسهم وعنادهم.(1/263)
وفيه تورك عليهم إذ أعرضوا عن سماع القرآن؛ فإن كون الرسول منهم وكتابه بلغتهم هو أعون على تلقي الإرشاد منه؛ إذ ينطلق(1) بلسانهم، وبحملهم(2) على ما يصلح أخلاقهم؛ ليكونوا حملة هذا الدين إلى غيرهم.
والأميين: صفة لموصوف محذوف دلَّ عليه صيغة جمع العقلاء، أي في الناس الأميين.
وصيغة جمع المذكور في كلام الشارع تشمل النساء بطريقة التغليب الاصطلاحي، أي في الأميين والأميات؛ فإن أدلة الشريعة قائمة على أنها تعم الرجال والنساء إلا في أحكام معلومة.
والأميون: الذين لا يقرؤون الكتابة ولا يكتبون، وهو جمع أمي نسبة إلى الأمة، يعنون بها أمة العرب؛ لأنهم لا يكتبون إلا نادراً؛ فغلبت هذا التشبيه في الإطلاق عند العرب حتى صارت تطلق على من لا يكتب ولو من غيرهم قال _تعالى_ في ذكر بني إسرائيل: [وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ] وقد تقدم في سورة البقرة.
وأوثر التعبير به هنا توركاً على اليهود؛ لأنهم كانوا يقصدون به الغض من العرب ومن النبي"جهلاً منهم؛ فيقولون: هو رسول الأميين وليس رسولاً إلينا.
وقد قال ابن صياد للنبي"لما قال له: =أتشهد أني رسول الله+: أشهد أنك رسول الأميين.
وكان ابن صياد متديناً باليهودية؛ لأن أهله كانوا حلفاء لليهود.
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: ينطق، وربما أراد انطلاق الألسنة كما في قوله _تعالى_: [وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوْا] فيكون ما أُثبت هو الصواب. (م)
(2) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: ويحملهم. (م)(1/264)
وكان اليهود ينتقصون المسلمين بأنهم أميون قال _تعالى_: [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] فتحدى الله اليهود بأنه بعث رسولاً إلى الأميين وبأن الرسول أمي، وأعلمهم أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء _كما في آخر الآية_ وأن فضل الله ليس خاصاً باليهود، ولا بغيرهم وقد قال _تعالى_ من قَبْلُ لموسى: [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ].
ووصف الرسول بأنه منهم، أي من الأميين شامل لمماثلته لهم في الأمية، وفي القومية.
وهذا من إيجاز القرآن البديع. 28/208_209
4_ وفي وصف الأمي بالتلاوة وتعليم الكتاب والحكمة وتزكية النفوس ضرب من محسن الطباق؛ لأن المتعارف أن هذه مضادة للأمية.
وابتدئ بالتلاوة لأن أول تبليغ الدعوة بإبلاغ الوحي، وثني بالتزكية لأن ابتداء الدعوة بالتطهير من الرجس المعنوي وهو الشرك، وما يعلق به من مساوي الأعمال والطباع. 28/209
5_ وموضع جملة: [لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ] موضع الحال، وينشأ عن هذا المعنى إيماء إلى أن الأمم التي تدخل في الإسلام بعد المسلمين الأولين يصيرون مثلهم، وينشأ منه _أيضاً_ رمز إلى أنهم يتعربون لفهم الدين والنطق بالقرآن فكم من معان جليلة حوتها هذه الآية سكت عنها أهل التفسير.
وهذه بشارة غيبية بأن دعوة النبي " ستبلغ أمماً ليسوا من العرب وهم فارس، والأرمن، والأكراد، والبربر، والسودان، والروم، والترك، والتتار، والمغول، والصين، والهنود، وغيرهم.
وهذا من معجزات القرآن من صنف الإخبار بالمغيبات.
وفي الآية دلالة على عموم رسالة النبي"لجميع الأمم. 28/212
6_ وصلاة الجمعة هي صلاة ظهر يوم الجمعة، وليست صلاة زائدة على الصلوات الخمس؛ فأسقط من صلاة الظهر ركعتان لأجل الخطبتين.(1/265)
روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: =وإنما قصرت الجمعة لأجل الخطبة+(1).
وأحسب أن ذلك تخفيف على الناس إذ وجبت عليهم خطبتان مع الصلاة؛ فكانت كل خطبة بمنزلة ركعة، وهذا سبب الجلوس بين الخطبتين للإيماء إلى أنهما قائمتان مقام الركعتين ولذلك كان الجلوس خفيفاً.
غير أن الخطبتين لم تعطيا أحكام الركعتين؛ فلا يضر فوات إحداهما أو فواتهما معاً، ولا يجب على المسبوق تعويضهما، ولا سجود لنقصهما عند جمهور فقهاء الأمصار، روي عن عطاء ومجاهد وطاووس: أن من فاتته الخطبة يوم الجمعة صلى أربعاً صلاة الظهر.
وعن عطاء: أن من أدرك ركعة من صلاة الجمعة أضاف إليها ثلاث ركعات وهو أراد أن فاتته الخطبة وركعة من صلاة الجمعة(2).
وجعلت القراءة في الصلاة جهراً مع أن شأن صلوات النهار إسرار القراءة لفائدة إسماع الناس سوراً من القرآن كما أسمعوا الخطبة؛ فكانت صلاة إرشاد لأهل البلد في يوم من كل أسبوع.
والإجماع على أن صلاة الجمعة قائمة مقام صلاة الظهر في يوم الجمعة فمن صلاها لا يصلي معها ظهراً فأما من لم يصلها لعذر أو لغيره فيجب عليه أن يصلي الظهر.
ورأيت في الجامع الأموي في دمشق قام إمام يصلي بجماعة ظهراً بعد الفراغ من صلاة الجمعة، وذلك بدعة. 28/222_223
1_ سميت هذه السورة في كتب السنة وكتب التفسير (سورة المنافقين) اعتباراً بذكر أحوالهم وصفاتهم فيها.
ووقع هذا الاسم في حديث زيد بن أرقم عند الترمذي قوله: =فلما أصبحنا قرأ رسول الله " سورة المنافقين+ وسيأتي قريباً.
وروى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال: كان رسول الله"يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة؛ فيحرض بها المؤمنين، وفي الثانية بسورة المنافقين؛ فيقرع بها المنافقين.
__________
(1) _ رواه أبو بكر الرازي الجصاص في أحكام القرآن له جزء 3 ص 548.
(2) _ ذكره الجصاص ص548 ج3 من أحكام القرآن للجصاص.(1/266)
ووقع في صحيح البخاري وبعض كتب التفسير تسميتها (سورة المنافقون) على حكاية اللفظ الواقع في أولها، وكذلك ثبت في كثير من المصاحف المغربية، والمشرقية.
وهي مدنية بالاتفاق.
واتفق العادون على عد آيها إحدى عشرة آية.
وقد عدت الثانية بعد المائة في عداد نزول السور عند جابر بن زيد، نزلت بعد سورة الحج وقبل سورة المجادلة.
والصحيح أنها نزلت في غزوة بني المصطلق ووقع في جامع الترمذي عن محمد ابن كعب القرظي أنها نزلت في غزوة تبوك.
ووقع فيه _أيضاً_ عن سفيان: أن ذلك في غزوةِ بني المصطَلِق، وغزوةُ بني المصطلق سنة خمس، وغزوة تبوك سنة تسع.
ورجح أهل المغازي وابن العربي في العارضة وابن كثير: أنها نزلت في غزوة بني المصطلق وهو الأظهر؛ لأن قول عبدالله بن أبي بن سلول: =ليخرجن الأعز منها الأذل+ يناسب الوقت الذي لم يضعف فيه شأن المنافقين وكان أمرهم كل يوم في ضعف وكانت غزوة تبوك في آخر سني النبوءة وقد ضعف أمر المنافقين.
وسبب نزولها ما روي عن زيد بن أرقم أنه قال: كنا في غزاة فكسع(1)رجل من المهاجرين رجلاً جهنياً حليفاً للأنصار فقال الجهني: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين: فسمع ذلك رسول الله " فقال: =ما بال دعوى الجاهلية؟+.
قالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال: =دعوها فإنها منتنة+ _أي اتركوا دعوة الجاهلية: يآل كذا_ فسمع هذا الخبر عبدالله بن أُبَي فقال: أقد فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل+.
__________
(1) _ كسع: ضربه على دبره, وكان ذلك لخصومة في حوض ماء شربت منه ناقة الأنصاري.(1/267)
وقال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، قال زيد ابن أرقم: فسمعت ذلك، فأخبرت به عمي، فذكره للنبي"فدعاني، فحدثته، فأرسل رسول الله إلى عبدالله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فكذبني رسول الله، وصدقه، فأصابني همٌّ لم يصبني مثله، فقال عمي ما أردت إلا أن كذَّبك رسول الله، وفي رواية: إلى أن كذبك، فلما أصبحنا قرأ رسول الله سورة المنافقين وقال لي: =إن الله قد صدقك+.
وفي رواية للترمذي في هذا الحديث: =أن المهاجريَّ أعرابُي، وأن الأنصاري من أصحاب عبدالله بن أبي، وأن المهاجري ضرب الأنصاري على رأسه بخشبة فشجه، وأن عبدالله بن أبي قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله+ يعني الأعراب.
وذكر أهل السير أن المهاجري من غفار اسمه جهجاه أجير لعمر بن الخطاب، وأن الأنصاري جهني اسمه سنان حليف لابن أبيٍّ، ثم يحتمل أن تكون الحادثة واحدة.
واضطرب الراوي عن زيد بن أرقم في صفتها؛ ويجوز أن يكون قد حصل حادثتان في غزاة واحدة.
وذكر الواحدي في أسباب النزول: أن رسول الله " أرسل إلى عبدالله ابن أُبَي وقال له: =أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني+.
فقال عبدالله بن أبي: والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من هذا، وإن زيداً لكاذب.
والظاهر أن المقالة الأولى قالها ابن أبيّ في سورة غضبٍ؛ تهييجاً لقومه، ثم خشي انكشاف نفاقه؛ فأنكرها.
وأما المقالة الثانية فإنما أدرجها زيد بن أرقم في حديثه، وإنما قالها ابن أبيّ في سورة الناصح _كما سيأتي في تفسير حكايتها_.
وعلى الأصح فهي قد نزلت قبل سورة الأحزاب، وعلى القول بأنها نزلت في غزوة تبوك تكون نزلت مع سورة براءة، أو قبلها بقليل وهو بعيد. 28/231_233(1/268)
2_ أغراضُها: فضحُ أحوالِ المنافقين بعد كثير من دخائلهم وتولُّد بعضها عن بعض من كذب، وخَيْسٍ بِعَهْد الله، واضطرابٍ في العقيدة، ومن سفالةِ نفوسٍ في أجسام تَغُرُّ وتعجب، ومن تصميمٍ على الإعراض عن طلب الحق والهدى، وعلى صدِّ الناس عنه.
وكان كل قسم من آيات السورة المفتتح بـ(إذا) خص بغرض من هذه الأغراض؛ وقد علمت أن ذلك جرت إليه الإشارة إلى تكذيب عبد الله بن أُبَي ابن سلول فيما حلف عليه من التنصل مما قاله.
وخُتِمَت بموعظة المؤمنين وحثِّهم على الإنفاق والادخار للآخرة قبل حلول الأجل. 28/233
3_ [يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ] هذه الجملة بمنزلة بدل البعض من مضمون جملة: [كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ] أي من مخالفة باطنِهِمُ المشوهِ للظاهر المموه، أي هم أهل جبن في صورة شجعان.
وهذا من جملة ما فضحته هذه السورة من دخائلهم ومطاوي نفوسهم كما تقدم في الآيات السابقة، وإن اختلفت مواقعها من تفنن أساليب النظم؛ فهي مشتركة في التنبيه على أسرارهم.
والصيحة: المرة من الصياح، أي هم؛ لسوء ما يضمرونه للمسلمين من العداوة لا يزالون يتوجسون خيفة من أن ينكشف أمرهم عند المسلمين؛ فهم في خوف وهلع إذا سمعوا صيحة في خصومة، أو أنشدت ضالة خشوا أن يكون ذلك غارة من المسلمين عليهم؛ للإيقاع بهم. 28/240_241
1_ سميت هذه السورة (سورة التغابن) ولا تعرف بغير هذا الاسم، ولم ترد تسميتها بذلك في خبر مأثور عن رسول الله " سوى ما ذكره ابن عطية عن الثعلبي عن ابن عمر من أن النبي " قال: =ما من مولود إلا وفي تشابيك مكتوب خمس آيات فاتحة سورة التغابن+.
والظاهر أن منتهى هذه الآيات قوله _تعالى_: [وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] فتأمله، ورواه القرطبي عن ابن عمر ولم ينسبه إلى التعليق، فلعله أخذه من تفسير ابن عطية.
ووجه التسمية وقوع لفظ: [التَّغَابُنِ] فيها، ولم يقع في غيرها من القرآن.(1/269)
وهي مدنية في قول الجمهور وعن الضحاك هي مكية.
وروى الترمذي عن عكرمة عن ابن عباس: =أن تلك الآيات نزلت في رجال أسلموا من أهل مكة، وأرادوا الهجرة، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتون رسول الله"+ الحديث.
وقال مجاهد: نزلت في شأن عوف الأشجعي _كما سيأتي_.
وهي معدودة السابعة والمائة في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة الجمعة وقبل سورة الصف بناء على أنها مدنية.
وعدد آيها ثمان عشرة. 28/258
2_ أغراضُها: واشتملت هذه السورةُ على التذكير بأن من في السماء ومن في الأرض يسبحون لله، أي ينزهونه عن النقائص تسبيحاً متجدداً.
وأن الملكَ لله وحده؛ فهو الحقيقُ بإفراده بالحمد؛ لأنه خالق الناس كلِّهم, فآمن بوحدانيته ناسٌ, وكفر ناسٌ ولم يشكروا نعمه؛ إذ خلقهم في أحسن صورة, وتحذيرُهم من إنكار رسالة محمد".
وإنذارُهم على ذلك؛ ليعتبروا بما حل بالأمم الذين كذبوا رسلَهم، وجحدوا بَيِّناتهم؛ تكبراً أن يهتدوا بإرشاد بشرٍ مثلِهم.
والإعلامُ بأن اللهَ عليمٌ بالظاهر والخفي في السماوات والأرض؛ فلا يجري أمر في العالم إلا على ما اقتضته حكمته.
وأنحى عليهم إنكارَ البعث, وبيَّن لهم عدمَ استحالَتِه, وهدَّدهم بأنهم يَلْقَون حين يبعثون جزاءَ أعمالهم, فإن أرادوا النجاة فليؤمنوا بالله وحده, وليصدقوا رسولَه"والكتابَ الذي جاء به, ويؤمنوا بالبعث, فإنهم إن آمنوا كُفِّرت عنهم سيئاتُهم, وإلا فجزاؤهم النار خالدين فيها.
ثم تثبيتُ المؤمنين على ما يلاقونه من ضرِّ أهل الكفر بهم؛ فليتوكلوا على الله في أمورهم.
وتحذيرُ المؤمنين من بعض قرابتهم الذين تغلغل الإشراك في نفوسهم؛ تحذيراً من أن يثبطوهم عن الإيمان والهجرة.
وعَرَّض لهم بالصبر على أموالهم التي صادرها المشركون.
وأمرَهم بإنفاق المال في وجوه الخير التي يُرْضون بها ربَّهم, وبتقوى الله والسمعِ له والطاعة. 28/259(1/270)
3_ والإخبار عن بعض الأزواج والأولاد بأنهم عدو يجوز أن يحمل على الحقيقة؛ فإن بعضهم قد يضمر عداوة لزوجه وبعضهم لأبويه من جراء المعاملة بما لا يروق عنده مع خباثة في النفس، وسوء تفكير، فيصير عدواً لمن حقه أن يكون له صديقاً، ويكثر أن تأتي هذه العداوة من اختلاف الدين، ومن الانتماء إلى الأعداء.
ويجوز أن يكون على معنى التشبيه البليغ، أي كالعدو في المعاملة بما هو من شأن معاملة الأعداء كما قيل في المثل: يفعل الجاهل بنفسه ما يفعل العدو لعدوه.
وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. 28/284
1_ سورة [يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ] الخ، شاعت تسميتها في المصاحف وفي كتب التفسير وكتب السنة: سورة الطلاق، ولم ترد تسميتها بهذا في حديث عن رسول الله " موسوم بالقبول.
وذكر في الإتقان أن عبدالله بن مسعود سماها سورة النساء القصرى أخذاً مما أخرجه البخاري وغيره عن مالك بن عامر قال: كنا عند عبدالله بن مسعود فذكر عنده أن الحامل المتوفى عنها تعتد أقصى الأجلين _أي أجل وضع الحمل إن كان أكثر من أربعة أشهر وعشر، وأجل الأربعة الأشهر وعشر_ فقال: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى [وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ] ا هـ.
وفي الإتقان عن الداودي إنكار أن تدعى هذه السورة بالقصرى؛ للتنزه عن وصف القرآن بصفة نقص، ورده ابن حجر بأن القصر أمر نسبي، أي ليس مشعراً بنقص على الإطلاق.
وابن مسعود وصفها بالقصرى؛ احترازاً عن السورة المشهورة باسم سورة النساء التي هي السورة الرابعة في المصحف التي أولها: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ].(1/271)
وأما قوله الطولى فهو صفة لموصوف محذوف أي بعد السورة الطولى يعني سورة البقرة؛ لأنها أطول سور القرآن، ويتعين أن ذلك مراده؛ لأن سورة البقرة هي التي ذُكرت فيها عدة المتوفى عنها.
وقد يتوهم أن سورة البقرة تسمى سورة النساء الطولى من مقابلتها بسورة النساء القصرى في كلام ابن مسعود، وليس كذلك كما تقدم في سورة النساء.
وهي مدنية بالاتفاق.
وعدد آيها اثنتا عشرة آية في عدد الأكثر، وعدها أهل البصرة إحدى عشرة آية.
وهي معدودة السادسة والتسعين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة الإنسان وقبل سورة البينة.
وسبب نزولها ما رواه مسلم عن طريق ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع عبدالرحمن بن أيمن يسأل ابن عمر كيف ترى في الرجل طلَّق امرأته حائضاً؛ فقال طلق ابن عمر امرأته حائضاً على عهد رسول الله " فسأل عمر رسول الله" فقال له: ليراجعها، فردها وقال: إذا طهرت، فليطلق أو ليمسك، قال ابن عمر وقرأ النبي: [يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ].
وظاهر قوله: وقرأ النبي " الخ أنها نزلت عليه ساعة إذ.
ويحتمل أن تكون نزلت قبل هذه الحادثة.
وقال الواحدي عن السدي: أنها نزلت في قضية طلاق ابن عمر، وعن قتادة أنها نزلت بسبب أن النبي " طلق حفصة ولم يصح.
وجزم أبو بكر بن العربي بأن شيئاً من ذلك لم يصح، وأن الأصح أن الآية نزلت بياناً لشرع مبتدأ. 28/292_293
2_ أغراضُها: الغرضُ من آيات هذه السورة تحديدُ أحكامِ الطلاق, وما يَعْقُبُه من العِدَّة والإرضاع والإنفاق والإسكان؛ تتميماً للأحكام المذكورة في سورة البقرة.
والإيماءُ إلى حكمةِ شرعِ العِدَّة, والنهيُ عن الإضرار بالمطلقاتِ والتضييِق عليهن.
والإشهادُ على التطليقِ, وعلى المراجعة, وإرضاعُ المطلَّقة ابنَها بأجرٍ على الله.
والأمرُ بالائتمار, والتشاور بين الأبوين في شأن أولادهما.(1/272)
وتخلل ذلك الأمرُ بالمحافظة الوعد بأن الله يؤيد من يتقي الله, ويتبع حدوده، ويجعل له من أمره يسراً، ويُكَفِّر عنه سيئاته.
وأن الله وضع لكل شيء حُكْمَهَ لا يعجزه تنفيذُ أحكامه.
وأعقب ذلك بالموعظة بحال الأمم الذين عتوا عن أمر الله ورسله, وهو حثٌّ للمسلمين على العمل بما أمرهم به الله ورسوله"لئلا يَحِقَّ عليهم وصفُ العتو عن الأمر.
وتشريفُ وحيِ اللهِ _تعالى_ بأنه منزلٌ من السماوات وصادرٌ عن علم الله وقدرته _تعالى_. 28/293_294
3_ والطلاق مباح لأنه قد يكون حاجياً لبعض الأزواج؛ فإن الزوجين شخصان اعتشرا اعتشاراً حديثاً في الغالب لم تكن بينهما قبله صلة من نسب ولا جوار، ولا تخلق بخلق متقارب أو متماثل؛ فيكثر أن يحدث بينهما بعد التزوج تخالف في بعض نواحي المعاشرة قد يكون شديداً، ويعسر تذليله، فَيَمَلُّ أحدهما، ولا يوجد سبيل إلى إراحتهما من ذلك إلا التفرقة بينهما؛ فأحله الله؛ لأنه حاجي، ولكنه ما أحله إلا لدفع الضر؛ فلا ينبغي أن يجعل الإذن فيه ذريعة للنكاية من أحد الزوجين بالآخر، أو من ذوي قرابتهما، أو لقصد تبديل المذاق؛ ولذلك قال النبي": =أبغض الحلال إلى الله الطلاق+. 28/295_296
1_ سورة [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ] الخ، سميت (سورة التحريم) في كتب السنة وكتب التفسير.
ووقع في رواية أبي ذر الهروي لصحيح البخاري تسميتها باسم (سورة اللِّمَ تُحرّم) بتشديد اللام، وفي الإتقان وتسمى (سورة اللِّم تحرّم) وفي تفسير الكواشي أي بهمزة وصل وتشديد اللام مكسورة وبفتح الميم وضم التاء محققه وتشديد الراء مكسورة بعدها ميم على حكاية جملة: [لِمَ تُحَرِّمُ] وجعلها بمنزلة الاسم وإدخال لام تعريف العهد على ذلك اللفظ وإدغام اللامين.
وتسمى (سورة النبي") وقال الآلوسي: إن ابن الزبير سماها (سورة النساء) قلت: ولم أقف عليه ولم يذكر صاحب الإتقان هذين في أسمائها.(1/273)
واتفق أهل العدد على أن عدة آيها اثنتا عشرة.
وهي مدنية.
قال ابن عطية: بإجماع أهل العلم، وتبعه القرطبي، وقال في الإتقان عن قتادة: إن أولها إلى تمام عشر آيات وما بعدها مكي، كما وقعت حكاية كلامه، ولعله أراد إلى عشر آيات، أي أن الآية العاشرة من المكي؛ إذ من البعيد أن تكون الآية العاشرة مدنية والحادية عشر مكية.
وهي معدودة الخامسة بعد المائة في عداد نزول سور القرآن، نزلت بعد سورة الحجرات وقبل سورة الجمعة. 28/343
2_ أغراضُ هذه السورةِ: ما تضمنه سبب نزولها أن أحداً لا يُحَرِّم على نفسه ما أحل الله له لإرضاء أحد؛ إذ ليس ذلك بمصلحة له ولا للذي يسترضيه؛ فلا ينبغي أن يُجْعل كالنذر؛ إذ لا قُرْبَةَ فيه, وما هو بطلاق؛ لأن التي حرمها جاريةٌ ليست بزوجة؛ فإنما صلاحُ كلِّ جانبٍ فيما يعود بنفع على نفسه أو ينفع به غيره نفعاً مرضياً عند الله, وتنبيهُ نساء النبي"إلى أن غيرة الله على نبيه أعظم من غيرتهن عليه، وأسمى مقصداً.
وأن الله يُطْلِعُه على ما يخصه من الحادثات.
وأنَّ مَنْ حلف على يمين فرأى حِنْثَها خيراً من بِرِّها أن يُكَفِّر عنها, ويفعل الذي هو خير.
وقد ورد التصريح بذلك في حديث وفد عبد القيس عن رواية أبي موسى الأشعري، وتقدم في سورة براءة.
وتعليمُ الأزواج أن لا يكثرن من مضايقة أزواجهن؛ فإنها ربما أدت إلى الملال، فالكراهية، فالفراق.
وموعظةُ الناس بتربية بعض الأهل بعضاً، ووعظِ بعضِهِمْ بعضاً.
وأتبع ذلك بوصفِ عذابِ الآخرةِ ونعيمِها وما يفضي إلى كليهما من أعمال الناس صالحاتِها وسيئاتِها.
وذيَّل ذلك بضرب مثلين من صالحات النساء, وضدُّهن لما في ذلك من العظمة لنساء المؤمنين ولأمهاتهم. 28/345
3_ ومن شروط التوبة تدارك ما يمكن تداركه مما وقع التفريط فيه مثل المظالم للقادر على ردها.(1/274)
روي عن علي÷ يجمع التوبة ستة أشياء: الندامة على الماضي من الذنوب، وإعادة الفرائض، ورد المظالم، واستحلال الخصوم، وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية، وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي. 28/368
4_ ومن تمام التوبة تمكين التائب من نفسه أن ينفذ عليها الحدود كالقود والضرب.
قال إمام الحرمين: =هذا التمكين واجب خارج عن حقيقة التوبة؛ لأن التائب إذا ندم ونوى أن لا يعود صحت توبته عند الله وكان منعه من تمكين نفسه معصيةً متجددةً تستدعي توبة+.
وهو كلام وجيه؛ إذ التمكين من تنفيذ ذلك يشق على النفوس مشقة عظيمة؛ فلها عذر في الإحجام عن التمكين منه. 28/368
5_ وتصح التوبة من ذنب دون ذنب خلافاً لأبي هاشم الجبائي المعتزلي، وذلك فيما عدا التوبة من الكفر.
وأما التوبة من الكفر بالإيمان فصحيحة في غفران إثم الكفر، ولو بقي متلبساً ببعض الكبائر بإجماع علماء الإسلام.
والذنوب التي تجب منها التوبة هي الكبائر ابتداءً، وكذلك الصغائر، وتمييز الكبائر من الصغائر مسألة أخرى محلها أصول الدين، وأصول الفقه، والفقه.
إلا أن الله تفضل على المسلمين؛ فغفر الصغائر لمن أجتنب الكبائر، أُخِذَ ذلك من قوله _تعالى_: [الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ].
وقد مضى القول فيه في تفسير سورة النجم.
ولو عاد التائب إلى بعض الذنوب أو جميعها ما عدا الكفر اختلف فيه علماء الأمة؛ فالذي ذهب إليه أهل السنة أن التوبة تنتقض بالعودة إلى بعض الذنوب في خصوص الذنب المَعُود إليه ولا تنتقض فيما سواه، وأن العود معصية تجب التوبة منها.
وقال المعتزلة: تنتقض بالعودة إلى بعض الذنوب؛ فتعود إليه ذنوبه، ووافقهم الباقلاني.(1/275)
وليس في أدلة الكتاب والسنة ما يشهد لأحد الفريقين(1). 28/369
6_ وامرأة فرعون هذه هي امرأة فرعون الذي أرسل إليه موسى وهو منفطح الثالث، وليست امرأة فرعون التي تبنت موسى حين التقطته من اليم؛ لأن ذلك وقع في زمن فرعون رعمسيس الثاني، وكان بين الزمنين ثمانون سنة، ولم يكن عندهم علم بدين قبل أي يرسل إليهم موسى.
ولعل امرأة فرعون هذه كانت من بنات إسرائيل تزوجها فرعون؛ فكانت مؤمنة برسالة موسى _عليه السلام_.
وقد حكى بعض المفسرين أنها عمة موسى، أو تكون هداها الله إلى الإيمان بموسى كما هدى الرجل المؤمن من آل فرعون الذي تقدم ذكره في سورة غافر.
وسماها النبي " آسية في قوله: =كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران وآسية امرأة فرعون+ رواه البخاري. 28/376_377
7_ والظاهر أن قولها: [ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ] مؤذن بأن فرعون وقومه صدوها عن الإيمان به، وزينوا لها أنها إن آمنت بموسى تضيِّع ملكاً عظيماً، وقصراً فخيماً، أو أن فرعون وعظها بأنها إن أصرت على ذلك تقتل؛ فلا يكون مدفنها الهرم الذي بناه فرعون لنفسه؛ لدفنه في بادئ الملوك.
ويؤيد هذا ما رواه المفسرون أن بيتها في الجنة من درة واحدة؛ فتكون مشابهة الهرم الذي كان معداً؛ لحفظ جثتها بعد موتها وزوجها.
فقولها ذلك كقول السحرة الذين آمنوا جواباً عن تهديد فرعون: [لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ] الآية في سورة طه. 28/377
1_ سماها النبي " (سورة تبارك الذي بيده الملك) في حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي " أن سورةً من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غُفِر له وهي: =سورة تبارك الذي بيده الملك+.
قال الترمذي: =هذا حديث حسن+.
__________
(1) _ الصحيح أن الذي يعود إثمُ الذنب الجديد المستأنف، أما إثم الذنب الماضي فلا يعود. انظر تفصيل ذلك في كتاب التوبة وظيفة العمر. (م)(1/276)
فهذا تسمية للسورة بأول جملة وقعت فيها, فتكون تسمية بجملة كما سمي ثابت بن جابر: تأبط شراً .
ولفظ (سورة) مضاف إلى تلك الجملة المحكية.
وسميت _أيضاً_ (تبارك الملك) بمجموع الكلمتين في عهد النبي"وبسمعٍ منه فيما رواه الترمذي عن ابن عباس: =أن رجلاً من أصحاب النبي"قال له: ضربت خبائي على قبرٍ وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا فيه إنسان _أي دفين فيه_ يقرأ سورة =تبارك الملك+ حتى ختمها, فقال رسول الله": = هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر+ حديث حسن غريب.
فيكون اسم السورة مجموع هذين اللفظين على طريقة عدّ الكلمات في اللفظ دون إضافة إحداهما إلى الأخرى مثل تسمية (لام الف).
ونظيره أسماء السور بالأحرف المقطعة التي في أولها على بعض الأقوال في المراد منها, وعليه فيحكى لفظ (تَبَارَكَ) بصيغة الماضي ويحكى لفظ (الْمُلْكُ) مرفوعاً كما هو في الآية؛ فيكون لفظ (سورة) مضافاً من إضافة المسمى إلى الاسم؛ لأن المقصود تعريف السورة بهاتين الكلمتين على حكاية اللفظين الواقعين في أولها مع اختصار ما بين الكلمتين, وذلك قصداً للفرق بينها وبين (تبارك الفرقان).
كما قالوا: عبيدالله الرقيات، بإضافة مجموع (عبيدالله) إلى (الرقيات) تمييزاً لعبيدالله بن قيس العامري(1) الشاعر عن غيره ممن يشبه اسمُه اسمَه مثل عبيدالله ابن عبدالله بن عتبة بن مسعود, أو لمجرد اشتهاره بالتشبيب في نساء كان اسم كل واحدة منهن رقية(2) وهن ثلاث.
ولذلك يجب أن يكون لفظ (تَبَارَكَ) في هذا المركب مفتوح الآخر, ولفظ (الْمُلْكُ) مضموم الكاف, وكذلك وقع ضَبْطُه في نسخة جامع الترمذي وكلتاهما حركةُ حكايةٍ.
__________
(1) 1_ هو من بني عامر بن لؤي شاعر مجيد من شعراء العصر الأموي.
(2) 2_ هي رقية بنت عبدالواحد بن أبي سعد من بني عامر بن لؤي, وابنة عم لها يقال لها: رقية, ورقية أخرى امرأة من بني أمية، وكن في عصر واحد.(1/277)
والشائع في كتب السنة وكتب التفسير وفي أكثر المصاحف تسمية هذه السورة سورة الملك, وكذلك ترجمها الترمذي: = باب ما جاء في فضل سورة الملك+.
وكذلك عنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه.
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: =كنا نسميها على عهد رسول الله المانعة+.
أي أخذاً من وصف النبي"إياها بأنها المانعة المنجية _كما في حديث الترمذي المذكور آنفاً_ وليس بالصريح في التسمية.
وفي الإتقان عن تاريخ ابن عساكر من حديث أنس: =أن رسول الله" سماها المنجية+.
ولعل ذلك من وصفه إياها بالمنجية في حديث الترمذي وليس _أيضاً_ بالصريح في أنه اسم.
وفي الإتقان عن كتاب جمال القراء تسمى _أيضاً_ (الواقية) وتسمى (المنَّاعة) بصيغة المبالغة.
وذكر الفخر: أن ابن عباس كان يسميها (المُجادِلة) لأنها تجادل عن قارئها عند سؤال الملكين, ولم أره لغير الفخر.
فهذه ثمانية أسماء سميت بها هذه السورة.
وهي مكية قال ابن عطية والقرطبي: باتفاق الجميع.
وفي الإتقان أخرج جويبر(1) في تفسيره: =عن الضحاك عن ابن عباس نزلت تبارك الملك في أهل مكة إلا ثلاث آيات+ ا هـ.
فيحتمل أن الضحاك عنى استثناء ثلاث آيات نزلت في المدينة.
وهذا الاحتمال هو الذي يقتضيه إخراج صاحب الإتقان هذا النقل في عداد السور المختلف في بعض آياتها.
__________
(1) 1_ كتب في نسخة مخطوطة جويبر بصيغة تصغير جابر, والذي في المطبوعة جبير بصيغة تصغير جبر ترجمه في طبقات المفسرين في اسم جبير بن غالب يكنى أبا فراس كان فقيهاً شاعراً خطيباً فصيحاً, له كتاب أحكام القرآن, وكتاب السنن والأحكام, والجامع الكبير في الفقه, وله رسالة كتب بها إلى مالك ابن أنس, ذكره ابن النديم, وعدّه من الشّراة من الخوارج.(1/278)
ويحتمل أن يريد أن ثلاث آيات منها غير مخاطب بها أهل مكة، وعلى كلا الاحتمالين فهو لم يعين هذه الآيات الثلاث, وليس في آيات السورة ثلاث آيات لا تتعلق بالمشركين خاصة, بل نجد الخمس الآيات الأوائل يجوز أن يكون القصد منها الفريقين من أول السورة إلى قوله: [عَذَابَ السَّعِيرِ].
وقال في الإتقان _أيضاً_ : =فيها قول غريب (لم يعْزه) أن جميع السورة مدني+.
وهي السادسة والسبعون في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة المؤمنين وقبل سورة الحاقة.
وآيها في عد أهل الحجاز إحدى وثلاثون وفي عد غيرهم ثلاثون. 29/5_7
2_ أغراضُ السورة: والأغراضُ التي في هذه السورة جاريةٌ على سنن الأغراض في السور المكية.
ابتدأت بتعريف المؤمنين معانيَ من العلم بعظمة الله _تعالى_ وتفرده بالمُلْكِ الحقِّ, والنظرِ في إتقان صنعه الدال على تفرده بالإلهية؛ فبذلك يكون في تلك الآيات حظٌّ لِعِظَةِ المشركين.
ومن ذلك التذكيرُ بأنه أقام نظامَ الموتِ والحياة؛ لتظهر في الحالين مجاريْ أعمالِ العِبَاد في ميادينِ السبق إلى أحسنِ الأعمال ونتائجِ مجاريها, وأنه الذي يجازي عليها.
وانفرادُه بخلق العوالم العليا خلقاً بالغاً غايةَ الإتقان فيما تراد له.
وأتبعه بالأمرِ بالنظر في ذلك, وبالإرشاد إلى دلائله الإجمالية, وتلك دلائل على انفراده بالإلهية مُتَخَلِّصاً من ذلك إلى تحذير الناس من كيد الشياطين، والارتباقِ معهم في ربقة عذاب جهنم, وأن في اتباع الرسول"نجاةً من ذلك, وفي تكذيبه الخسرانَ، وتنبيهُ المعاندين للرسول"إلى علم الله بما يحوكونه للرسول ظاهراً وخُفْيَةً بأن علمَ اللهِ محيطٌ بمخلوقاته.
والتذكيرُ بِمِنَّةِ خلقِ العالم الأرضي، ودقَّةِ نظامه، وملاءمته لحياة الناس، وفيها سعيُهم ومنها رزقهم.
والموعظةُ بأن اللهَ قادرٌ على إفساد ذلك النظام, فيصبح الناس في كرب وعناء؛ ليتذكروا قيمةَ النعم بتصور زوالها.(1/279)
وضَربَ لهم مثلاً في لطفه _تعالى_ بهم بلطفه بالطير في طيرانها.
وأيَّسهم من التوكل على نصرة الأصنام، أو على أن ترزقهم رزقاً.
وفظَّع لهم حالةَ الضلال التي ورَّطوا أنفسهم فيها.
ثم وبَّخ المشركين على كفرهم نعمةَ اللهِ _تعالى_ وعلى وقاحتهم في الاستخفاف بوعيده, وأنه وشيكُ الوقوعِ بهم.
ووبَّخهم على استعجالهم موت النبي"ليستريحوا من دعوته.
وأوعدهم بأنهم سيعلمون ضلالهم حين لا ينفعهم العلم، وأنذرهم بما قد يحل بهم من قحط وغيره.29/7_8
3_ واشتمل التذكير بعجيب خِلْقة الطيرِ في طيرانها على ضرب من الإطناب؛ لأن الأوصاف الثلاثة المستفادة من قوله: [فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ] تصور صورةَ حركاتِ الطيران للسامعين؛ فتنبههم لدقائق ربما أغفلهم عن تدقيق النظر فيها نشأتهم بينها من وقت ذهول الإدراك في زمن الصبا؛ فإن المرء التونسي أو المغربي _مثلاً_ إذا سافر إلى بلاد الهند أو إلى بلاد السودان, فرأى الفيلة وهو مكتمل العقل دقيقَ التمييزِ أدرك من دقائق خِلْقَةِ الفيل ما لا يدركه الرجل من أهل الهند الناشئ بين الفيلة.
وكم غفل الناس عن دقائق في المخلوقات من الحيوان والجماد ما لو تتبعوه لتجلى لهم منها ما يملأ وصفُه الصحف. 29/37
4_ وقد رأيت بعض من شاهد البحر وهو كبير، ولم يكن شاهده من قبل كيف امتلكه من العجب ما ليس لأحدٍ ممن ألفوه معشاره. 29/38
5_ فالآية تشتمل على ثلاث استعارات تمثيلية, فقوله: [يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ] تشبيه لحال المشرك في تقسم أمره بين الآلهة؛ طلباً للذي ينفعه منها, الشاكُّ في انتفاعه بها _ بحال السائر قاصداً أرضاً معينة ليس لها طريق جادة؛ فهو يتتبع بنيات الطريق الملتوية, وتلتبس عليه, ولا يوقن بالطريقة التي تبلغ إلى مقصده, فيبقى حائراً متوسماً يتعرف آثار أقدام الناس, وأخفاف الإبل؛ فيعلم بها أن الطريق مسلوكةٌ أو متروكةٌ.(1/280)
وفي ضمن هذه التمثيلية تمثيلية أخرى مبنية عليها بقوله:[مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ] بتشبيه حال المتحير المتطلب للآثار في الأرض بحال المُكِبِّ على وجهه في شدة اقترابه من الأرض.
وقوله:[مَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً] تشبيه لحالِ الذي آمن برب واحد الواثقِ بنصر ربه وتأييده, وبأنه مصادف للحق_ بحال الماشي في طريق جادةٍ واضحة لا ينظر إلا إلى اتجاه وجهه, فهو مستوٍ في سَيْره.
وقد حصل في الآية إيجاز حذف؛ إذ اسْتُغْني عن وصف الطريق بالالتواء في التمثيل الأول لدلالة مقابلته بالاستقامة في التمثيل الثاني.
والفاء التي في صدر الجملة للتفريع على جميع ما تقدم من الدلائل والعبر من أول السورة إلى هنا، والاستفهام تقريري. 29/ 45_46
6_ والقصر المستفاد من تعريف المسند إليه والمسند في قوله: [هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ] إلى آخره قصر إفراد بتنزيل المخاطبين؛ لشركهم منزلةَ مَنْ يعتقد أن الأصنام شاركت الله في الإنشاء وإعطاء الإحساس والإدراك. 29/47
7_ والاستفهام بقولهم: [مَتَى هَذَا الْوَعْدُ] مستعمل في التهكم؛ لأن من عادتهم أن يستهزئوا بذلك، قال _تعالى_: [فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ]. 29/49
8_ [قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ].
ومن النوادر المتعلقة بهذه الآية ما أشار إليه في الكشاف مع ما نقل عنه في بيانه، قال: وعن بعض الشطار _هو محمد بن زكريا الطبيب كما بينه المصنف فيما نقل عنه_ أنها _أي هذه الآية_ تُليت عنده, فقال: تجيء به _أي الماء_ الفؤوس والمعاول؛ فذهب ماء عينيه.
نعوذ بالله من الجرأة على الله, وعلى آياته، والله أعلم. 29/56
1_ سميت هذه السورة في معظم التفاسير وفي صحيح البخاري (سورة ن والقلم) على حكاية اللفظين الواقعين في أولها، أي سورة هذا اللفظ.(1/281)
وترجمها الترمذي في جامعه، وبعض المفسرين سورة (ن) بالاقتصار على الحرف المفرد الذي افتتحت به مثل ما سميت سورة (ص) وسورة (ق).
وفي بعض المصاحف سميت (سورة القلم) وكذلك رأيت تسميتها في مصحف مخطوط بالخط الكوفي في القرن الخامس.
وهي مكية، قال ابن عطية: =لا خلاف في ذلك بين أهل التأويل+.
وذكر القرطبي عن الماوردي: أن ابن عباس وقتادة قالا: أولها مكي، إلى قوله: [عَلَى الْخُرْطُومِ] ومن قوله: [إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ] إلى: [لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] مدني، ومن قوله: [إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ] إلى قوله: [فَهُمْ يَكْتُبُونَ] مكي, ومن قوله: [فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ] إلى قوله: [مِنْ الصَّالِحِينَ] مدني، ومن قوله: [وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا] إلى آخر السورة مكي.
وفي الإتقان عن السخاوي: أن المدني منها من قوله: [إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ] إلى: [لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] ومن قوله: [فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ] إلى قوله: [مِنْ الصَّالِحِينَ] فلم يجعل قوله: [إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ] إلى قوله: [فَهُمْ يَكْتُبُونَ] مدنياً خلافاً لما نسبه الماوردي إلى ابن عباس.
وهذه السورة عدها جابر بن زيد ثانية السور نزولاً, قال: نزلت بعد سورة [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ] وبعدها سورة المزمل, ثم سورة المدثر، والأصح حديث عائشة: =أن أول ما أنزل سورة اقرأ باسم ربك, ثم فتر الوحي, ثم نزلت سورة المدثر+.
وما في حديث جابر بن عبدالله: =أن سورة المدثر نزلت بعد فترة الوحي+ يحمل على أنها نزلت بعد سورة: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ] جمعاً بينه وبين حديث عائشة _رضي الله عنها_.
وفي تفسير القرطبي: أن معظم السورة نزل في الوليد بن المغيرة وأبي جهل.
واتفق العادون على عد آيها ثنتين وخمسين. 29/57_58(1/282)
2_ أغراضُها: جاء في هذه السورة الإيماءُ بالحرف الذي في أولها إلى تحدي المعاندين بالتعجيز عن الإتيان بمثل سور القرآن وهذا أول التحدي الواقع في القرآن؛ إذ ليس في سورة العلق, ولا في المزمل, ولا في المدثر إشارةٌ إلى التحدي ولا تصريح.
وفيها إشارةٌ إلى التحدي بمعجزة الأمية بقوله [وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ].
وابتدئت بخطاب النبي"تأنيساً له، وتسليةً عما لقيه من أذى المشركين.
وإبطالُ مطاعن المشركين في النبي".
وإثباتُ كمالاته في الدنيا والآخرة وهديه, وضلال معانديه, وتثبيته.
وأُكَّد ذلك بالقسم بما هو من مظاهر حكمة الله _تعالى_ في تعليم الإنسان الكتابة؛ فَتَضَمَّن تشريفَ حروفِ الهجاء والكتابة, والعلم؛ لتهيئة الأمة لخلع دثارِ الأمية عنهم, وإقبالِهم على الكتابة والعلم؛ لتكون الكتابةُ والعلمُ سبباً لحفظ القرآن.
ثم أنحى على زعماء المشركين مثل أبي جهل والوليد بن المغيرة بمذَمَّات كثيرة, وتوعدهم بعذاب الآخرة, وببلايا في الدنيا بأنْ ضَرَبَ لهم مثلاً بمن غَرَّهُمْ عِزُّهُمْ وثراؤهم؛ فأزال الله ذلك عنهم, وأباد نعمتهم.
وقابل ذلك بحال المؤمنين المتقين, وأن اللهَ اجتباهم بالإسلام، وأن آلهتهم لا يغنون عنهم شيئاً من العذاب في الدنيا ولا في الآخرة.
ووعظهم بأن ما هم فيه من النعمة استدراجٌ وإملاءٌ؛ جزاءَ كيدهم, وأنهم لا معذرة لهم فيما قابلوا به دعوة النبي"من طغيانهم, ولا حرج عليهم في الإنصات إليها.
وأَمَرَ رسولَه "بالصبر في تبليغ الدعوة, وتلقيْ أذى قومِه، وأن لا يضجر في ذلك ضجراً عاتب الله عليه نبيه يونس _ عليه السلام _.29/58_59
3_ [وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ].
ومن فوائد هذا القسم أن هذا القرآن كتاب الإسلام، وأنه سيكون مكتوباً مقروءاً بين المسلمين، ولهذا كان رسول الله "يأمر أصحابه بكتابة ما يوحى به إليه.(1/283)
وتعريف (القلم) تعريف الجنس؛ فالقسم بالقلم لشرفه, بأنه يُكْتَبُ به القرآن, وكتبت به الكتب المقدسة, وتكتب به كتب التربية ومكارم الأخلاق والعلوم وكل ذلك مما له حظ شرف عند الله _تعالى_.
وهذا يرجحه أن الله نَوَّهَ بالقلم في أول سورة نزلت من القرآن بقوله: [اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]. 29/60
4_ والخلق العظيم: هو الخلق الأكرم في نوع الأخلاق, وهو البالغ أشد الكمال المحمود في طبع الإنسان؛ لاجتماع مكارم الأخلاق في النبي"فهو حُسْنُ معامَلَتِهِ الناسَ على اختلاف الأحوال المقتضية لحسن المعاملة؛ فالخلق العظيم أرفع من مطلق الخلق الحسن. 29/64
5_ واعلم أن جماع الخلق العظيم الذي هو أعلى الخلق الحسن هو التدين، ومعرفة الحقائق، وحلم النفس، والعدل، والصبر على المتاعب، والاعتراف للمحسن، والتواضع، والزهد، والعفة، والعفو، والجمود(1)، والحياء، والشجاعة، وحسن الصمت(2)، والتؤدة، والوقار، والرحمة، وحسن المعاملة والمعاشرة.
والأخلاق كامنةٌ في النفس, ومظاهرُها تصرفاتٌ صاحِبها في كلامه، وطلاقة وجهه، وثباته، وحُكْمِه، وحركته وسكونه، وطعامه وشرابه، وتأديب أهله ومَنْ لنظره، وما يترتب على ذلك من حرمته عند الناس, وحسن الثناء عليه والسمعة.
وأما مظاهرها في رسول الله"ففي ذلك كله, وفي سياسيته(3) أُمَّتَهُ، وفيما خص به من فصاحة كلامه، وجوامع كلمه. 29/65
__________
(1) 1_ هكذا في الأصل, ولعل الصواب: الجود. (م)
(2) _ ولعل الصواب: وحسن السمت، وربما تكون حسن الصمت؛ لأن الصمت في وقته أحسن من الكلام في غير وقته. (م)
(3) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: في سياسته. (م)(1/284)
6_ قال _تعالى_: [ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ (50)].
والمعنى: لَنَبَذه الحوتُ أو البحرُ بالفضاء الخالي؛ لأن الحوت الذي ابتلعه من النوع الذي يرضع فراخه؛ فهو يقترب من السواحل الخالية المترامية الأطراف؛ خوفاً على نفسه وفراخه.
والمعنى: أن الله أنعم عليه بأن أنبت عليه شجرة اليقطين _كما في سورة الصافات_.
وأدمج في ذلك فضل التوبة والضراعة إلى الله، وأنه لولا توبته وضراعته إلى الله, وإنعامُ الله عليه نعمةً بعد نعمة لقذفه الحوت من بطنه ميتاً؛ فأخرجه الموج إلى الشاطئ؛ فلكان مُثْلةً للناظرين, أو حياً منبوذاً بالعراء لا يجد إسعافاً، أو لنجا بعد لأْيٍ, واللهُ غاضب عليه؛ فهو مذموم عند الله مسخوط عليه.
وهي نعم كثيرة عليه؛ إذ أنقذه من هذه الورطات كلها إنقاذاً خارقاً للعادة.
وهذا المعنى طوي طياً بديعاً, وأشير إليه إشارةً بليغةً بجملة: [لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ]. 29/105_106
1_ سميت (سورة الحاقة) في عهد النبي " وروى أحمد بن حنبل أن عمر ابن الخطاب قال: =خرجت يوماً بمكة أتعرض لرسول الله قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد الحرام, فوقفت خلفه, فاستفتح سورة الحاقة, فجعلت أعجب من تأليف القرآن فقلت: هذا والله شاعر _أي قلت في خاطري_ فقرأ: [وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ] قلت: كاهن، فقرأ: [وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ] إلى آخر السورة، فوقع الإسلام في قلبي كل موقع+ .
وباسْمِ (الحاقة) عُنْونَتْ في المصاحف وكتب السنة وكتب التفسير.(1/285)
وقال الفيروزأبادي في بصائر ذوي التمييز: إنها تسمى _أيضاً_ سورة السلسلة, لقوله: [ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ] وسماها الجعبري في منظومته في ترتيب نزول السور (الواعية) ولعله أخذه من وقوع قوله: [وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ] ولم أَرَ له سلفاً في هذه التسمية.
ووجه تسميتها (سورة الحاقة) وقوعُ هذه الكلمة في أولها, ولم تقع في غيرها من سور القرآن.
وهي مكية بالاتفاق, ومقتضى الخبر المذكور عن عمر بن الخطاب أنها نزلت في السنة الخامسة قبل الهجرة؛ فإن عمر أسلم بعد هجرة المهاجرين إلى الحبشة, وكانت الهجرة إلى الحبشة سنة خمس قبل الهجرة إلى المدينة.
وقد عدت هذه السورة السابعة والسبعين في عداد ترتيب النزول, نزلت بعد سورة تبارك, وقبل سورة المعارج.
واتفق العادون من أهل الأمصار على عد آيها إحدى وخمسين آية.
29/110_111
2_ أغراضُها:اشتملت هذه السورةُ على تهويلِ يومِ القيامةِ, وتهديدِ المكذبين بوقوعه, وتذكيرِهم بما حل بالأمم التي كذبت به من عذاب في الدنيا ثم عذاب الآخرة, وتهديدِ المكذبين لرسل الله _تعالى_ بالأمم التي أشركت وكذبت.
وأُدْمج في ذلك أن الله نجى المؤمنين من العذاب، وفي ذلك تذكيرٌ بنعمة الله على البشر؛ إذ أبقى نوعَهم بالإنجاء من الطوفان.
ووصفُ أهوالٍ من الجزاء, وتفاوتُ الناسِ يومئذ فيه، ووصفُ فظاعةِ حالِ العقاب على الكفر, وعلى نبذ شريعة الإسلام، والتنويه بالقرآن.
وتنزيهُ الرسول"وعن أن يكون غير رسول, وتنزيهُ الله _تعالى_ عن أن يقر من يَتَقَّول عليه, وتثبيت الرسول"وإنذارُ المشركين بتحقيق الوعيد الذي في القرآن. 29/111
3_ وإيتاء الكتاب باليمين, علامة على أنه إيتاء كرامة وتبشير، والعرب يذكرون التناول باليمين كناية عن الاهتمام بالمأخوذ، والاعتزاز به، قال الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
29/130(1/286)
4 _ والغسلين: بكسر الغين ما يدخل في أفواه أهل النار من المواد السائلة من الأجساد وماء النار ونحو ذلك مما يعلمه الله, فهو علم على ذلك مثل سِجِّين، وسرقين، وعرنين؛ فقيل: إنه فعلين من الغَسل؛ لأنه سال من الأبدان؛ فكأنه غُسل عنها, ولا موجب لبيان اشتقاقه. 29/140
1_ سميت هذه السورة في كتب السنة, وفي صحيح البخاري, وجامع الترمذي، وفي تفسير الطبري, وابن عطية, وابن كثير (سورة سأل سائل).
وكذلك رأيتها في بعض المصاحف المخطوطة بالخط الكوفي بالقيروان في القرن الخامس.
وسميت في معظم المصاحف المشرقية والمغربية, وفي معظم التفاسير (سورة المعارج).
وذكر في الإتقان أنها تسمى (سورة الواقع).
وهذه الأسماء الثلاثة مقتبسة من كلمات وقعت في أولها، وأَخَصُّها بها جملةُ [سَأَلَ سَائِلٌ] لأنها لم يرد مثلها في غيرها من سور القرآن إلا أنها غلب عليها اسم (سورة المعارج) لأنه أخف.
وهي مكية بالاتفاق, وشذ من ذكر أن آية [وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ] مدنية.
وهي السورة الثامنة والسبعون في عداد نزول سور القرآن عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة الحاقة, وقبل سورة النبأ.
وعد جمهور الأمصار آيها أربعاً وأربعين, وعدها أهل الشام ثلاثاً وأربعين. 29/152_153
2_ أغراضها:حوت من الأغراض تهديدَ الكافرين بعذاب يوم القيامة، وإثباتَ ذلك اليوم, ووصفَ أهواله, ووصفَ شيءٍ من جلالِ الله فيه، وتهويلَ دارِ العذابِ وهي جهنمُ, وذِكْرَ أسبابِ استحقاق عذابها, ومقابلةَ ذلك بأعمال المؤمنين التي أوجبت لهم دارَ الكرامةِ, وهي أضدادُ صفاتِ الكافرين, وتثبيتَ النبي", وتسليتهُ على ما يلقاه من المشركين, ووصفَ كثيرٍ من خصال المسلمين التي بثها الإسلام فيهم، وتحذيرَ المشركين من استئصالهم وتبديلهم بخير منهم. 29/153(1/287)
3_ والذي استخلصته من تتبع استعمالات كلمة الهلع: أن الهلع قلةُ إمساك النفس عند اعتراء ما يحزنها, أو ما يسرها, أو عند توقع ذلك، والإشفاق منه.
وأما الجزع فمن آثار الهلع، وقد فسر بعض أهل اللغة الهلع بالشَّرَه، وبعضهم بالضَجَر، وبعضهم بالشُّح، وبعضهم بالجوع، وبعضهم بالجبن عند اللقاء.
وما ذكرناه في ضبطه يجمع هذه المعاني, ويريك أنها آثار لصفة الهلع.
ومعنى [خُلِقَ هَلُوعاً]: أن الهلع طبيعة كامنة فيه مع خَلْقِه تظهر عند ابتداء شعوره بالنافع والمضار؛ فهو من طباعه المخلوقة كغيرها من طباعه البشرية؛ إذ ليس في تعلق الحال بعاملها دلالة على قصر العامل عليها، ولا في اتصاف صاحب الحال بالحال دلالة على أنه لا صفة له غيرها.
وقد تكون للشيء الحالةُ وضدُّها باختلاف الأزمان والدواعي، وبذلك يستقيم تعلق النهي عن حال مع تحقق تَمَكُّن ضدِّها من المنهي؛ لأن عليه أن يروِّض نفسَه على مقاومة النقائص وإزالتها عنه.
وإذ ذكر الله الهلع هنا عقب مذمة الجمع والإيعاء _ فقد أشعر بأن الإنسان يستطيع أن يكفَّ عن هلعه إذا تدبر في العواقب؛ فيكون في قوله: [خُلِقَ هَلُوعاً] كناية بالخَلْقِ عن تمكن ذلك الخُلُق منه, وغلبته على نفسه.
والمعنى: أن من مقتضى تركيب الإدراك البشري أن يحدث فيه الهلع.
بيان ذلك أن تركيب المدارك البشرية رُكِّز بحكمة دقيقة تجعلها قادرة على الفعل والكف، وساعيةً إلى الملائم, ومعرضةً عن المنافر.
وجعلت فيها قوى متضادة الآثار يتصرف العقل والإدراك في استخدامها كما يجب في حدود المَقْدِرَة البدنية التي أُعطها النوع والتي أعطيها أفراد النوع، كل ذلك لِيَصْلُحَ الإنسانُ لإعمار هذا العالم الأرضي الذي جعله الله خليفة فيه؛ ليصلحه إصلاحاً يشمله, ويشمل من معه في هذا العالم؛ إعداداً لصلاحيته لإعمار عالم الخلود.(1/288)
ثم جعل له إدراكاً يميز الفرق بين آثار الموجودات, وآثار أفعالها بين النافع منها والضار والذي لا نفع فيه ولا ضر.
وخلق فيه إلهاماً يحب النافع, ويكره الضار، غير أن اختلاط الوصفين في بعض الأفعال, وبعض الذوات قَدْ يُرِيْهِ الحالَ النافع منها, ولا يريه الحال الضار؛ فيبتغي ما يظنه نافعاً غير شاعر بما في مطاويه من أضرار في العاجل والآجل، أو شاعراً بذلك ولكنَّ شَغَفَه بحصول النفع العاجل يُرَجِّحُ عنده تناوله الآن؛ لعدم صبره على تركه مقدراً معاذيرَ أو حيلاً يقتحم بها ما فيه من ضر آجل.
وإن اختلاط القوى الباطنية مع حركات التفكير قد تَسْتُر عنه ضُرَّ الضارِ، ونفعَ النافع؛ فلا يهتدي إلى ما ينبغي سلوكُه أو تجنُبه، وقد لا تستر عنه ذلك, ولكنها تحدث فيه إيثاراً لاتباع الضار؛ لملائمة فيه ولو في وقت أو عند عارض؛ إعراضاً عن اتباع النافع؛ لكلفة في فعله, أو منافرة لوجدانه، وذلك من اشتمال تركيب قُواهُ الباعثةِ والصارفة وآلاتها التي بها تعمل، وتدفع على شيء من التعاكس في أعمالها؛ فحدثت من هذا التركيب(1) والبديع صلاَحيةٌ للوفاء بالتدبير الصالح المنوط بعهدة الإنسان، وصلاحية لإفساد ذلك أو بعثرته.
غير أن الله جعل للإنسان عقلاً وحكمةً إنْ هو أحسن استعمالها نَخَلت صفاته، وثقَّفت من قناته، ولم يُخْلِهِ من دعاة إلى الخير يصفون له كيف يَرِيْضُ جامحَ نفسه، وكيف يوفق بين إدراكه وحسه، وهؤلاء هم الرسل والأنبياء والحكماء.
فإذا أخبر عن الإنسان بشدة تَلَبُّسه ببعض النقائص, وجعل ذلك في قالَب أنه جُبِل عليه_ فالمقصود من ذلك: إلقاء تبعة ذلك عليه؛ لأنه فَرَّط في إراضة نفسه على ما فيها من جِبِلَّة الخير، وأرخى لها العِنَان إلى غاية الشر، وفرَّط في نصائح الشرائع والحكماء.
__________
(1) 1_ هكذا في الأصل, ولعل الصواب: من هذا التركيب البديع _أي بدون واو. (م)(1/289)
وإذا أَسْنَد ما يأتيه الإنسانُ من الخير إلى الله _تعالى_ فالمقصود: التنبيه إلى نعمة الله عليه بخلق القوة الجالبة للخير فيه، ونعمة إرشاده وإيقاظه إلى الحق، كما أشار إلى ذلك قوله _تعالى_: [مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ] عقب قوله: [قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً].
وفي هذا المجال زلت أفهام المعتزلة، وحلكت عليهم الأجواء، ففكروا وقدَّروا, وما استطاعوا مَخْلَصاً وما قَدِروا. 29/167_169
1_ بهذا الاسم سميت هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير، وترجمها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه بترجمة (سورة إنا أرسلنا نوحاً).
ولعل ذلك كان الشائع في كلام السلف, ولم يترجم لها الترمذي في جامعه.
وهي مكية بالاتفاق.
وقد عدت الثالثة والسبعين في ترتيب نزول السور، نزلت بعد نزول أربعين آية من سورة النحل, وقبل سورة الطور.
وعدَّ العادون بالمدينة ومكة آيها ثلاثين آية، وعدَّها أهلُ البصرة والشام تسعاً وعشرين آية، وعدها أهل الكوفة ثماناً وعشرين آية. 29/185
2_ أغراضها: أعظمُ مقاصدِ السورةِ ضَرْبُ المثلِ للمشركين بقوم نوحٍ وهم أول المشركين الذين سلط عليهم عقاب في الدنيا، وهو أعظمُ عقابٍ أعني الطوفان, وفي ذلك تمثيلٌ لحال النبي"مع قومه بحالهم.
وفيها تفصيلٌ كثيرٌ من دعوة نوح _ عليه السلام _ إلى توحيد الله ونبذِ عبادة الأصنام, وإنذارِه قومَهُ بعذاب أليم, واستدلاِله لهم ببدائع صنع الله _تعالى_ وتذكيرِهم بيوم البعث, وتصميمِ قومه على عصيانه، وعلى تصلُّبهم في شركهم, وتسميةِ الأصنامِ التي كانوا يعبدونها, ودعوةِ نوحٍ على قومه بالاستئصال.
وأشارت إلى الطوفانِ, ودعاءِ نوحٍ بالمغفرة له وللمؤمنين، وبالتبار للكافرين كلهم.
وتخلل ذلك إدماجُ وعدِ المطيعين بسعةِ الأرزاق, وإكثارِ النسل, ونعيمِ الجنة. 29/185_186(1/290)
1_ سميت في كتب التفسير وفي المصاحف التي رأيناها ومنها الكوفي المكتوب بالقيروان في القرن الخامس (سورة الجن).
وكذلك ترجمها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه، وترجمها البخاري في كتاب التفسير (سورة قل أوحي إلي).
واشتهرت على ألسنة المُكَتِّبين والمتعلمين في الكتاتيب القرآنية باسم (قل أوحي).
ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور التي لها أكثر من اسم، ووجه التسميتين ظاهر.
وهي مكية بالاتفاق.
ويظهر أنها نزلت في حدود سنة عشر من البعثة؛ ففي الصحيحين وجامع الترمذي من حديث ابن عباس أنه قال: انطلق رسول الله"في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ بنخلة وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر, وأنه استمع فريق من الجن إلى قراءته فرجعوا إلى طائفتهم فقالوا: [إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً] وأنزل الله على نبيه: [قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ].
وذكر ابن إسحاق أن نزول هذه السورة كان بعد سفر رسول الله"إلى الطائف يطلب النصرة من ثقيف، أي وذلك يكون في سنة عشر بعد البعثة وسنة ثلاث قبل الهجرة.
وقد عُدَّت السورة الأربعين في نزول السور، نزلت بعد الأعراف وقبل يس.
واتفق أهل العدد على عد آيها ثماناً وعشرين. 29/216_217
2_ أغراضها: إثباتُ كرامةٍ للنبي"بأنَّ دعوتَه بلغت إلى جنس الجن وإفهامهم فَهْمَ معانٍ من القرآن الذي استمعوا للنبي"وفهمَ ما يدعو إليه من التوحيد والهدى، وعلمهم بعظمة الله، وتنزيهه عن الشريك، والصاحبة، والولد.
وإبطالُ عبادةِ ما يُعْبَدُ من الجن, وإبطالُ الكهانة وبلوغِ علم الغيب إلى غير الرسل الذين يُطْلِعُهم اللهُ على ما يشاء.
وإثباتُ أنَّ لله خلقاً يُدْعَون الجنَّ, وأنهم أصنافٌ منهم الصالحون ومنهم دون ذلك بمراتب، وتضليلُ الذين يتقوَّلون على الله ما لم يَقُلْه، والذين يعبدون الجن، والذين ينكرون البعثَ، وأن الجنَّ لا يُفْلِتُون من سلطان الله _تعالى_.(1/291)
وتَعَجُّبُهم من الإصابة برجوم الشهب المانعة من استراق السمع، وفي المراد من هذا المنعِ، والتخلصُ من ذلك إلى ما أوحى الله إلى رسوله"في شأن(1) القحط الذي أصاب المشركين؛ لشركهم ولمنعهم مساجدَ الله، وإنذارِهم بأنهم سيندمون على تألُّبِهم على النبي"ومحاولتِهم منه العدولَ عن الطعنِ في دينهم. 29/217
3_ ولعل كيفية حدوث رجم الجن بالشهب كان بطريقة تصريف الوحي إلى الملائكة في مجارٍ تمر على مواقع انقضاض الشهب حتى إذا اتصلت قوى الوحي بموقع أحد الشهب انفصل الشهاب بقوة ما يَغُطَّه من الوحي؛ فسقط مع مجرى الوحي؛ لِيحرسه من اقتراب المسترق حتى يبلغ إلى الملك المُوحى إليه, فلا يجد في طريقه قوة شيطانية أو جنية إلا أحرقها؛ وبخَّرها, فهلكت أو استطيرت, وبذلك بَطَلت الكهانة، وكان ذلك من خصائص الرسالة المحمدية. 29/230
1_ ليس لهذه السورة إلا اسم (سورة المزمل) عرفت بالإضافة لهذا اللفظ الواقع في أولها، فيجوز أن يراد حكاية اللفظ، ويجوز أن يراد به النبي" موصوفاً بالحال الذي نودي به في قوله _تعالى_: [ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ].
قال ابن عطية: هي في قول الجمهور مكية إلا قوله _تعالى_: [ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ] إلى نهاية السورة؛ فذلك مدني, وحكى القرطبي مثل هذا عن الثعلبي.
وقال في الإتقان: إن استثناء قوله: [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ] إلى آخر السورة يَرُدُّه ما أخرجه الحاكم عن عائشة: =نزل بعد نزول صدر السورة بسنة، وذلك حين فرض قيام الليل في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس+ ا هـ.
يعني وذلك كلُّه بمكة، أي فتكون السورة كلها مكية؛ فتعيَّن أن قوله: [قُمْ اللَّيْلَ] أُمِرَ به في مكة.
__________
(1) _ في الأصل: =من في شأن ...+ ولعل الصواب: ما أُثبت. (م)(1/292)
والروايات تظاهرت على أن قوله: [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ] إلى آخر السورة نزل مفصولاً عن نزول ما قبله بمدة مُخْتَلَفٌ في قدرها، فقالت عائشة: =نزل بعد صدر السورة بسنة+.
ومثله روى الطبري عن ابن عباس.
وقال الجمهور: نزل صدر السورة بمكة، ونزل: [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ] إلى آخرها بالمدينة، أي بعد نزول أولها بسنين.
فالظاهر أن الأصح أن نزول: [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ] إلى آخر السورة نزل بالمدينة لقوله_تعالى_: [وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] إن لم يكن ذلك إنباء بمغيب على وجه المعجزة.
وروى الطبري عن سعيد بن جبير قال: =لما أنزل الله على نبيه"يا أيها المزمل مكث النبي"على هذا الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله, وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه, فأنزل الله بعد عشر سنين: [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ] إلى: [وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ]+ ا هـ.
أي نزلت الآيات الأخيرة في المدينة؛ بناءً على أن مقام النبي"بمكة كان عشر سنين وهو قول جمٍّ غفير.
والروايات عن عائشة مضطربة بعضُها يقتضي أن السورة كلَّها مكيةٌ، وأن صدرها نزل قبل آخرها بسنة قبل فرض الصلاة, وهو ما رواه الحاكم في نقل صاحب الإتقان, وذلك يقتضي أن أول السورة نزل بمكة.
وبعض الروايات يقول فيها: إنها كانت تَفْرِشُ لرسول الله"حصيراً, فصلى عليه من الليل, فتسامع الناس,فاجتمعوا, فخرج مغضباً, وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل, ونزل: [يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً].
فكتبت عليهم بمنزلة الفريضة, ومكثوا على ذلك ثمانية أشهر, ثم وضع الله ذلك عنهم؛ فأنزل: [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ] إلى: [فَتَابَ عَلَيْكُمْ] فردهم إلى الفريضة, ووضع عنهم النافلة.
وهذا ما رواه الطبري بسندين إلى أبي سلمة بن عبدالرحمن عن عائشة.(1/293)
وهو يقتضي أن السورة كلَّها مدنية؛ لأن النبي"لم يَبْنِ بعائشة إلا في المدينة، ولأن قولها: =فخرج مغضباً+ يقتضي أنه خرج من بيته المفضي إلى مسجده، ويؤيده أخبار تُثبت قيام الليل في مسجده.
ولعل سببَ هذا الاضطرابِ اختلاطٌ في الرواية بين فرض قيام الليل وبين الترغيب فيه.
ونسب القرطبي إلى تفسير الثعلبي قال: قال النخعي في قوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ]: =كان النبي"متزملاً بقطيفة عائشة، وهي مرَطٌ نِصْفُه عليها وهي نائمة, ونصفه على النبي"وهو يصلي+ا هـ.
وإنما بنى النبي"بعائشة في المدينة، فالذي نعتمد عليه أن أول السورة نزل بمكة لا محالة كما سنبينه عند قوله _تعالى_: [إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً] وأن قوله: [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ] إلى آخر السورة نزل بالمدينة بعد سنين من نزول أول السورة؛ لأن فيه ناسخاً لوجوب قيام الليل, وأنه ناسخ لوجوب قيام الليل على النبي"وأن ما رووه عن عائشة أن أول ما فرض قيام الليل قبل فرض الصلاة غريب.
وحكى القرطبي عن الماوردي: أن ابن عباس وقتادة قالا: إن آيتين وهما [وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ] إلى قوله: [وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً] نزلتا بالمدينة.
واختلف في عد هذه السورة في ترتيب نزول السور، والأصح التي تضافرت عليه الأخبار الصحيحة: أن أول ما نزل سورة العلق, واختلف فيما نزل بعد سورة العلق، فقيل: سورة ن والقلم، وقيل: نزل بعد العلق سورة المدثر.
ويظهر أنه الأرجح, ثم قيل: نزلت سورة المزمل بعد القلم, فتكون ثالثة.(1/294)
وهذا قول جابر بن زيد في تعداد نزول السور، وعلى القول بأن المدثر هي الثانية, يحتمل أن تكون القلم ثالثة، والمزمل رابعة، ويحتمل أن تكون المزمل هي الثالثة، والقلم رابعة، والجمهور على أن المدثر نزلت قبل المزمل، وهو ظاهر حديث عروة بن الزبير عن عائشة في بدء الوحي من صحيح البخاري, وسيأتي عند قوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ].
والأصح أن سبب نزول: [يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ] ما في حديث جابر بن عبدالله الآتي عند قوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ] الآية.
وعُدَّت آيُها في عد أهل المدينة ثمان عشرة آية، وفي عد أهل البصرة تسع عشرة, وفي عد من عداهم عشرون. 29/253_254
2_ أغراضُها: الإشعارُ بملاطفة الله _تعالى_ رسولَه " بندائه بوصفه بصفة تزمُّلِه.
واشتملت على الأمرِ بقيام النبي"غالبَ الليل, والثناءِ على طائفة من المؤمنين حملوا أنفسهم على قيام الليل.
وعلى تثبيت النبي"بتحَمُّل إبلاغ الوحي.
والأمرُ بإدامةِ إقامة الصلاة, وأداءِ الزكاة, وإعطاءِ الصدقات.
وأمرُه بالتَّمَحُّضِ للقيام بما أمره اللهُ من التبليغِ, وبأن يتوكل عليه.
وأمرُه بالإعراضِ عن تكذيب المشركين.
وتَكَفُّلُ اللهِ له بالنصر عليهم, وأن جزاءَهم بيد الله.
والوعيدُ لهم بعذاب الآخرة.
ووعظُهم مما حل بقوم فرعونَ لما كذبوا رسول الله إليهم.
وذِكْرُ يومِ القيامة, وَوَصْفُ أهواله.
ونسخُ قيَام معظم الليل بالاكتفاء بقيام بعضه؛ رعياً للأعذار الملازمة.
والوعدُ بالجزاءِ العظيم على أفعال الخيرات, والمبادرةُ بالتوبة, وأدمج في ذلك أدبُ قراءةِ القرآنِ وتدبرِه.
وأن أعمالَ النهارِ لا يغني عنها قيامُ الليل.
وفي هذه السورة مواضعُ عويصةٌ, وأساليبُ غامضةٌ؛ فعليك بتدبرها. 29/254_255(1/295)
3_ وقال: في قوله [أَوْ زِدْ عَلَيْهِ] وهو عود إلى الترغيب في أن تكون مدة القيام أكثر من نصف الليل؛ ولذلك لم يقيد [زِدْ عَلَيْهِ] بمثل ما قيد به [أَوْ انْقُصْ مِنْهُ] لتكون الزيادة على النصف متسعة، وقد ورد في الحديث أن النبي"أخذ بالعزيمة، فقام حتى تورمت قدماه، وقيل له في ذلك: =إن الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر+ فقال: =أفلا أكون عبداً شكوراً+. 29/259
4_ وتخصيص الليل بالصلاة فيه؛ لأنه وقت النوم عادة؛ فأمر الرسول" بالقيام فيه زيادة في إشغال أوقاته بالإقبال على مناجاة الله, ولأن الليل وقتُ سكونِ الأصوات, وإشتغال الناس؛ فتكون نفس القائم فيه أقوى استعداداً؛ لتلقي الفيض الرباني. 29/259_260
5_ ووصفُ الصلاة بالناشئة؛ لأنها أنشأها المصلي؛ فنشأت بعد هدأة الليل؛ فأشبهت السحابة التي تتنشأ من الأفق بعد صحو.
وإذا كانت الصلاة بعد نوم فمعنى النشء فيها أقوى، ولذلك فسرتها عائشة بالقيام بعد النوم, وفسر ابن عباس [نَاشِئَةَ اللَّيْلِ] بصلاة الليل كلها, واختاره مالك, وعن علي بن الحسين: أنها ما بين المغرب والعشاء, وعن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير: أن أصل هذا مُعَرَّب عن الحبشة، وقد عدها السبكي في منظومته في معربات القرآن.
وإيثار لفظ ناشئة في هذه الآية دون غيره من نحو: قيام، أو تهجد _ لأجل ما يحتمله من هذه المعاني؛ ليأخذ الناس فيه بالاجتهاد. 29/262
6_ ومن أكبر التبتل إلى الله الانقطاع عن الإشراك، وهو معنى الحنيفية، ولذلك عقب قوله: [وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً] بقوله: [رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ].(1/296)
وخلاصة المعنى: أن النبي"مأمور أن لا تخلو أوقاتُه عن إقبال على عبادة الله ومراقبته, والانقطاع للدعوة لدين الحق، وإذ قد كان النبي"من قبل غير غافل عن هذا الانقطاع بإرشاد من الله كما ألهمه التحنثَ في غار حراء, ثم بما أفاضه عليه من الوحي والرسالة _ فالأمر في قوله: [وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ] مرادٌ به الدوام على ذلك؛ فإنه قد كان يذكر الله فيما قبل؛ فإن في سورة القلم _وقد نزلت قبل المزمل_: [وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ] على أن القرآن الذي أنزل أولاً أكثره إرشاد للنبي"إلى طرائق دعوة الرسالة؛ فلذلك كان غالب ما في هذه السور الأُول منه مقتصراً على سن التكاليف الخاصة بالرسول". 29/266
7_ والهجر الجميل: هو الحسن في نوعه؛ فإن الأحوال والمعاني منها حسن, ومنها قبيح في نوعه، وقد يقال: كريم، وذميم، وخالص، وكدر، ويعرض الوصف للنوع بما من شأنه أن يقترن به من عوارض تناسب حقيقة النوع, فإذا جُرِّدَتِ الحقيقة عن الأعراض التي قد تعتلق بها كان نوعها خالصاً، وإذا ألصق بالحقيقة ما ليس من خصائصها كان النوع مكدراً قبيحاً، وقد أشار إلى هذا قوله _تعالى_: [لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى].
وتقدم عند قوله _تعالى_: [إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ] في سورة النمل، ومن هذا المعنى قوله: [فَصَبْرٌ جَمِيلٌ] في سورة يوسف، وقوله: [فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً] في سورة المعارج.
فالهجر الجميل: هو الذي يقتصر صاحبه على حقيقة الهجر، وهو ترك المخالطة؛ فلا يقرنها بجفاءٍ آخرَ أو أذىً.
ولما كان الهجر ينشأ عن بغض المهجور، أو كراهية أعماله _ كان معرضاً لأن يتعلق به أذىً من سبٍّ أو ضرب أو نحو ذلك؛ فأمر الله رسولَه بهجر المشركين هجراً جميلاً، أي أن يهجرهم ولا يزيد على هجرهم سباً أو انتقاماً.(1/297)
وهذا الهجر: هو إمساك النبي"عن مكافاتهم بمثل ما يقولونه مما أشار إليه قوله _تعالى_: [وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ].
وليس منسحباً على الدعوة للدين؛ فإنها مستمرة, ولكنها تبليغ عن الله _تعالى_ فلا ينسب إلى النبي".
وقد انتزع فخر الدين من هذه الآية منزعاً خُلُقياً بأن الله جمع ما يحتاج إليه الإنسان في مخالطة الناس في هاتين الكلمتين؛ لأن المرء إما أن يكون مخالطاً؛ فلا بد له من الصبر على أذاهم وإيحاشهم؛ لأنه إن أطمع نفسه بالراحة معهم لم يجدها مستمرة, فيقع في الغموم إن لم يَرُضْ نَفْسَهُ بالصبر على أذاهم، وإن ترك المخالطة فذلك هو الهجر الجميل. 29/268_269
8_ والنَّعمة: هنا بفتح النون باتفاق القراء, وهي اسم للتَّرَفُّه، وجَمْعُها أَنْعُم بفتح الهمزة وضم العين.
وأما النِّعمة بكسر النون فاسم للحالة الملائمة لرغبة الإنسان من عافية، وأمن ورزق، ونحو ذلك من الرغائب.
وجَمْعها: نِعَمٌ بكسر النون وفتح العين، وتجمع جمع سلامة على نِعَمات بكسر النون وبفتح العين لجمهور العرب, وتكسر العين في لغة أهل الحجاز كسرة إتباع.
والنُّعمة بضم النون اسم للمسرة؛ فيجوز أن تجمع على نُعْم على أنه اسم جمع، ويجوز أن تجمع على نُعَم بضم ففتح مثل: غرفة وغرف، وهو مطرد في الوزن.
وجعلهم ذوي النعمة المفتوحة النون للإشارة إلى أنه قصارى حظهم في هذه الحياة هي النعمة، أي الانطلاق في العيش بلا ضيق، والاستظلال بالبيوت والجنات، والإقبال على لذيذ الطعوم ولذائذ الانبساط إلى النساء والخمر والميسر، وهم معرضون عن كمالات النفس, ولذة الاهتداء والمعرفة, قال _تعالى_: [أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً] وتعريف [النَّعْمَةِ] للعهد. 29/270(1/298)
9_ وهذه الآية اقتضت رفع وجوب قيام الليل عن المسلمين إن كان قد وجب عليهم من قبل على أحد الاحتمالين، أو بيان لم يوجب عليهم وكانوا قد التزموه؛ فبين لهم أن ما التزموه من التأسي بالنبي"في ذلك غير لازم لهم, وعلل عدم وجوبه عليهم بأن الأمة يكثر فيها أصحاب الأعذار التي يشق معها قيام الليل؛ فلم يجعله الله واجباً عليهم أو رفع وجوبه.
ولولا اعتبارُ المظنةِ العامة لأبقي حكمُ القيامِ، ورخُّص لأصحاب العذر في مدة العذر فقط, فتبين أن هذا تعليل الحكم الشرعي بالمظنة والحكم هنا عدمي, أي عدم الإيجاب؛ فهو نظيرُ قصرِ الصلاة في السفر على قول عائشة أم المؤمنين: =إن الصلاةَ فرضت ركعتين ثم زِيْدَ في ثلاث من الصلوات في الحضر، وأبقيت صلاة السفر+.
وعلةُ بقاءِ الركعتين هو مظنةُ المشقةِ في السفر.
وأوجب الترخصَ في قيام الليل أنه لم يكن ركناً من أركان الإسلام؛ فلم تكن المصلحة الدينية قوية فيه.
وأما حكم القيام فهو ما دل عليه قوله: [قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً] وما دلت عليه أدلة التحريض عليه من السنة.
وقد مضى ذلك كله؛ فهذه الآية صالحة لأن تكون أصلاً للتعليل بالمظنة, وصالحة لأن تكون أصلاً تقاس عليه الرخص العامة التي تراعى فيها مشقة غالب الأمة مثل رخصة بيع السَّلم دون الأحوال الفردية والجزئية. 29/286_287
1_ تسمى في كتب التفسير (سورة المدثر) وكذلك سميت في المصاحف التي رأيناها ومنها كتب في القيروان في القرن الخامس.
وأريد بالمدثر النبي"موصوفاً بالحالة التي نُودي بها، كما سميت بعض السور بأسماء الأنبياء الذين ذُكروا فيها.
وإما تسمية باللفظ الذي وقع فيها، ونظيره ما تقدم في تسمية =سورة المزمل+، ومثله ما تقدم في (سورة المجادلة) من احتمال فتح الدال أو كسرها.
وهي مكية حكى الاتفاق على ذلك ابن عطية والقرطبي, ولم يذكرها في الإتقان في السور التي بعضها مدني.(1/299)
وذكر الآلوسي أن صاحب التحرير (محمد بن النقيب المقدسي المتوفى سنة 698 له تفسير) ذكر قول مقاتل أو قوله _تعالى_: [وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً] الخ نزل بالمدينة ا هـ.
ولم نقف على سنده في ذلك, ولا رأينا ذلك لغيره وسيأتي.
قيل: إنها ثانية السور نزولاً, وإنها لم ينزل قبلها إلا سورة: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ] وهو الذي جاء في حديث عائشة في الصحيحين في صفة بدأ الوحي: =أن النبي"جاءه الحق وهو في غار حراء, فجاءه الملك فقال: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] إلى: [مَا لَمْ يَعْلَمْ] ثم قالت: ثم فتر الوحي+.
فلم تذكر نزول وحي بعد آيات: [اقرأ باسم ربك].
وكذلك حديث جابر بن عبدالله من رواية أبي سلمة بن عبدالرحمن من طرق كثيرة وبألفاظ يزيد بعضها على بعض.
وحاصل ما يجتمع من طرقه: قال جابر بن عبدالله وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: =إن النبي"قال: فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء, فنوديت, فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي, فلم أر شيئاً, فرفعت رأسي, فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض, فجئت منه رَعِباً, فأتيت خديجة, فقلت: دثروني فدثروني+.
زاد غير ابن شهاب من روايته: =وصبوا علي ماءً بارداً فدثروني وصَبوا علي ماءً بارداً+.
قال النووي: =صب الماء لتسكين الفزع؛ فأنزل الله: [يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ] إلى: [وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ] ثم حمي الوحي وتتابع+ا هـ.
ووقع في صحيح مسلم عن جابر: =أنها أول القرآن سورة المدثر+.
وهو الذي يقول في حديثه أن رسول الله يحدث عن فترة الوحي، وإنما تقع الفترة بين شيئين؛ فتقتضي وحياً نزل قبل سورة المدثر, وهو ما بُيِّن في حديث عائشة.
وقد تقدم في صدر سورة المزمل قول جابر بن زيد: أن سورة القلم نزلت بعد سورة العلق, وأن سورة المزمل ثالثة, وأن سورة المدثر رابعة.
وقال جابر بن زيد: =نزلت بعد المدثر سورة الفاتحة+.(1/300)
ولا شك أن سورة المدثر نزلت قبل المزمل, وأن عناد المشركين كان قد تزايد بعد نزول سورة المدثر, فكان التعرض لهم في سورة المزمل أوسع.
وقد وقع في حديث جابر بن عبدالله في صحيح البخاري، وجامع الترمذي من طريق ابن شهاب أن نزول هذه السورة كان قبل أن تفرض الصلاة.
والصلاة فرضت بعد فترة الوحي سواء كانت خمساً أو أقل, وسواء كانت واجبة _ كما هو ظاهر قولهم: فرضت _ أم كانت مفروضة بمعنى مشروعة.
وفترة الوحي مختلف في مدتها اختلافاً كثيراً فقيل كانت سنتين ونصفاً، وقيل: أربعين يوماً، وقيل: خمسة عشر يوماً، والأصح أنها كانت أربعين يوماً؛ فيظهر أن المدثر نزلت في السنة الأولى من البعثة, وأن الصلاة فرضت عقب ذلك كما يُشْعِرُ به ترتيبُ ابنِ إسحاق في سوق حوادث سيرته.
وعدَّ أهل المدينة في عدهم الأخير الذي أرسوا عليه وأهل الشام آيها خمساً وخمسين، وعدَّها أهل البصرة والكوفة وأهل المدينة في عدهم الأول الذي رجعوا عنه ستاً وخمسين. 29/291_293
2_ أغراضها: جاء فيها من الأغراض تكريمُ النبي"والأمرُ بإبلاغ دعوة الرسالة، وإعلانُ وحدانيةِ الله بالإلهية, والأمرُ بالتطهر الحسيِّ والمعنوي, ونبذِ الأصنامِ, والإكثارِ من الصدقات, والأمرُ بالصبرِ, وإنذارُ المشركين بهول البعث, وتهديدُ مَنْ تصدى للطعن في القرآن, وزَعَم أنه قول البشر, وكُفْرُ الطاعنِ نعمةَ اللهِ عليه؛ فأقدم على الطعن في آياته مع عِلْمِهِ بأنها حقٌّ.
ووصُف أهوالِ جهنمَ, والردُّ على المشركين الذين استخفوا بها, وزعموا قلةَ عَددِ حَفَظَتِها, وتحدي أهلِ الكتاب بأنهم جهلوا عَدَدَ حفظتِها, وتأييسُهُمْ من التخلص من العذاب, وتمثيلُ ضلالهم في الدنيا, ومقابلةُ حالهم بحال المؤمنين أهل الصلاة والزكاة والتصديق بيوم الجزاء. 29/293
1_ عنونت هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة بـ(سورة القيامة) لوقوع القسم بيوم القيامة في أولها, ولم يقسم به فيما نزل قبلها من السور.(1/301)
وقال الآلوسي: يقال لها: (سورة لا أقسم) ولم يذكرها صاحب الإتقان في عداد السور ذات أكثر من اسم.
وهي مكية بالاتفاق.
وعدت الحاديةَ والثلاثين في عداد نزول سور القرآن, نزلت بعد سورة القارعة, وقبل سورة الهمزة.
وعدد آيها عند أهل العدد من معظم الأمصار تسعاً وثلاثين آية، وعدها أهل الكوفة أربعين. 29/336
2_ أغراضها: اشتملت على إثباتِ البعثِ, والتذكيرِ بيوم القيامة وذكرِ أشراطه, وإثباتِ الجزاء على الأعمالِ التي عملها الناس في الدنيا, واختلافِ أحوال أهل السعادة وأهل الشقاء وتكريم أهل السعادة, والتذكيرِ بالموت وأنه أولُ مراحلِ الآخرةِ, والزجرِ عن إيثار منافعِ الحياةِ العاجلةِ على ما أعدَّ لأهل الخير من نعيم الآخرة.
وفي تفسيرِ ابنِ عطيةَ عن عمرَ بنِ الخطابِ ولم يسنده: أنه قال: =من سأل عن القيامة, أو أراد أن يعرف حقيقة وقوعها فليقرأ هذه السورة+.
وأُدمج فيها آيات [لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ] إلى [وَقُرْآنَهُ] لأنها نزلت في أثناء نزول هذه السورة. 29/337
1_ سميت في زمن أصحاب رسول الله " =سورة هل أتى على الإنسان+.
روى البخاري في باب القراءة في الفجر من صحيحه عن أبي هريرة قال: =كان النبي"يقرأ في الفجر بـ (ألم السجدة) و[هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ]+.
واقتصر صاحب الإتقان على تسمية هذه السورة (سورة الإنسان) عند ذكر السور المكية والمدنية، ولم يذكرها في عداد السور التي لها أكثر من اسم.
وتسمى (سورة الدهر) في كثير من المصاحف.
وقال الخفاجي: تسمى (سورة الأمشاج) لوقوع لفظ الأمشاج فيها, ولم يقع في غيرها من القرآن.
وذكر الطبرسي : أنها تسمى (سورة الأبرار) لأن فيها ذكر نعيم الأبرار, وذكرهم بهذا اللفظ ولم أره لتغيره(1).
فهذه خمسة أسماء لهذه السورة.
واختلف فيها فقيل هي مكية، وقيل مدنية، وقيل بعضها مكي وبعضها مدني. 29/369_370
__________
(1) _ هكذا في الأصل, والصواب: لغيره. (م)(1/302)
2_ واتفق العادون على عد آيها إحدى وثلاثين. 29/370
3_ أغراضها: التذكيرُ بأن كل إنسان كُوِّن بعد أن لم يكن, فكيف يَقْضي باستحالة إعادة تكوينه بعد عدمه.
وإثباتُ أن الإنسان محقوقٌ بإفراد الله بالعبادة؛ شكراً لخالقه؛ ومُحَذَّرٌ من الإشراك به.
وإثباتُ الجزاء على الحالين مع شيء من وصف ذلك الجزاء بحالتيه والإطناب في وصف جزاء الشاكرين.
وأُدمج في خلال ذلك الامتنانُ على الناس بنعمة الإيجاد ونعمة الإدراك, والامتنانُ بما أعطيه الإنسان من التمييز بين الخير والشر, وإرشاده إلى الخير بواسطة الرسل؛ فمن الناس من شكر نعمة الله ومنهم من كفرها, فعبد غيره.
وتثبيتُ النبي"على القيام بأعباء الرسالة, والصبر على ما يلحقه في ذلك، والتحذير من أن يلين للكافرين، والإشارة إلى أن الاصطفاء للرسالة نعمة عظيمة يستحق الله الشكر عليها بالاضطلاع بها(1) اصطفاه له، وبالإقبال على عبادته.
والأمر بالإقبال على ذكر الله والصلاة في أوقات من النهار. 29/371
4_ والكأس: بالهمز الإناء المجعول للخمر؛ فلا يسمى كأساً إلا إذا كان فيه خمر، وقد تسمى الخمر كأساً على وجه المجاز المرسل بهذا الاعتبار. 29/380
5_ والمزاج: بكسر الميم ما يمزج به غيره، أي يُخْلَط, وكانوا يمزجون الخمر بالماء إذا كانت الخمر مُعَتّقة شديدة؛ ليخففوا من حدتها, وقد ورد ذكر مزج الخمر في أشعار العرب كثيراً. 29/380
6_ والكافور: زيت يستخرج من شجرة تشبه الدِّفْلَى تنبت في بلاد الصين وجاوة, يتكون فيها إذا طالت مدتها نحواً من مائتي سنة فيُغلَّى حطبها, ويستخرج منه زيت يسمى الكافور, وهو ثَخِنٌ قد يتصلب, فيصير كالزُّبْد, وإذا يقع حطب شجرة الكافور في الماء صار نبيذاً يتخمر؛ فيصير مُسْكِراً.
والكافور أبيض اللون, ذكي الرائحة, منعش. 29/380
__________
(1) _كأن في الكلام سِقْطاً, ولعل صوابه: = من اصطفاه ...+. (م)(1/303)
7_ وزنجبيل: كلمة معربة، وأصلها بالكاف الأعجمية عوض الجيم, قال الجواليقي والثعالبي: هي فارسية، وهو اسم لجذور مثل جذور السُّعْد بضم السين وسكون العين تكون في الأرض, كالجزر الدقيق, واللفت الدقيق لونها إلى البياض لها نبات له زهر، وهي ذات رائحة عطرية طيبة, وطعمها شبيه بطعم الفُلفل، وهو ينبت ببلادِ الصين والسند وعمان والشحر، وهو أصناف أحسنها ما ينبت ببلاد الصين، ويدخل في الأدوية والطبخ كالأفاويه, ورائحته بهارية، وطعمه حريف, وهو مُنَبِّه, ويستعمل منقوعاً في الماء, ومُرَبَّىً بالسُّكَّر.
وقد عرفه العرب, وذكره شعراء العرب في طيب الرائحة.
أي يمزجون الخمر بالماء المنقوع فيه الزنجبيل؛ لطيب رائحته وحسن طعمه. 29/395
1_ لم ترد لها تسمية صريحة عن النبي"بأن يضاف لفظ سورة إلى جملتها الأولى.
وسميت في عهد الصحابة سورة [وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً] ففي حديث عبدالله ابن مسعود في الصحيحين: =بينما نحن مع رسول الله " في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة والمرسلات عُرفاً؛ فإنه ليتلوها, وإني لأتلقاها من فيه، وإن فاه لرطب بها إذ خرجت علينا حية+ الحديث.
وفي الصحيح عن ابن عباس قال: =قرأت سورة والمرسلات عرفاً, فسمعتني أم الفضل _امرأة العباس_ فبكت وقالت: بُنَيّ أذكرتني بقرائتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت رسول الله " يقرأ بها في صلاة المغرب+.
وسميت (سورة المرسلات) روى أبو داود عن ابن مسعود: =كان النبي" يقرأ النظائر السورتين في ركعة الرحمن والنجم في ركعة, واقتربت والحاقة في ركعة+.
ثم قال: =وعم يتساءلون، والمرسلات في ركعة+.
فجعل هذه الألفاظ بدلاً من قوله السورتين، وسماها المرسلات بدون واو القسم؛ لأن الواو التي في كلامه واو العطف مثل أخواتها في كلامه.
واشتهرت في المصاحف باسم (المرسلات) وكذلك في التفاسير وفي صحيح البخاري.
وذكر الخفاجي، وسعد الله الشهير بسعدي في حاشيتيهما على البيضاوي أنها تسمى (سورة العُرْف).(1/304)
ولم يسنداه، ولم يذكرها صاحب الإتقان في عداد السور ذات أكثر من اسم.
وفي الإتقان عن كتاب ابن الضريس عن ابن عباس في عدّ السور التي نزلت بمكة, فذكرها باسم (المرسلات).
وفيه عن دلائل النبوة للبيهقي عن عكرمة والحسن في عدّ السور التي نزلت بمكة, فذكرها باسم (المرسلات).
وهي مكية عند جمهور المفسرين من السلف، وذلك ظاهر حديث ابن مسعود المذكور آنفاً، وهو يقتضي أنها من أوائل سور القرآن نزولاً؛ لأنها نزلت والنبي" مختفٍ في غارٍ بمنى مع بعض أصحابه.
وعن ابن عباس وقتادة: أن آية [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ] مدنية نزلت في المنافقين، ومحمل ذلك أنه تأويل ممن رواه عنه نظراً إلى أن الكفار الصرحاء لا يؤمرون بالصلاة، وليس في ذلك حجة؛ لكون الآية مدنية؛ فإن الضمير في قوله: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ] وارد على طريقة الضمائر قبله, وكلها عائدة إلى الكفار وهم المشركون.
ومعنى: [قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا]: كناية عن أن يقال لهم أسلموا, ونظيره قوله _تعالى_: [وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ] فهي في المشركين وقوله: [قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ] إلى قوله: [وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ].
وعن مقاتل نزلت: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ] في شأن وفد ثقيف حين أسلموا بعد غزوة هوازن وأتوا المدينة, فأمرهم النبي"بالصلاة فقالوا: لا نُجَبِّي؛ فإنها مسبة علينا, فقال لهم: لا خير في دين ليس فيه ركوع وسجود.
وهذا _أيضاً_ أضعف، وإذا صح ذلك؛ فإنما أراد مقاتل أن النبي"قرأ عليهم الآية.
وهي السورة الثالثة والثلاثون في عداد ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد.
واتفق العادون على عد آيها خمسين. 29/417_419(1/305)
2_ أغراضها: اشتملت على الاستدلال على وقوع البعث عَقِبَ فناء الدنيا, ووصفِ بعضِ أشراط ذلك, والاستدلالِ على إمكان إعادة الخلق بما سبق من خلق الإنسان وخلق الأرض, ووعيدِ منكريه بعذاب الآخرة, ووصفِ أهواله, والتعريضِ بعذابٍ لهم في الدنيا كما استُؤصلت أممٌ مكذِّبةٌ مِنْ قَبْلُ, ومقابلة ذلك بجزاء الكرامة للمؤمنين, وإعادةِ الدعوة إلى الإسلام والتصديقِ بالقرآن لظهور دلائله. 29/419
1_ سميت هذه السورة في أكثر المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة (سورة النبأ) لوقوع كلمة (النَّبَأ) في أولها.
وسميت في بعض المصاحف, وفي صحيح البخاري, وفي تفسير ابن عطية, والكشاف (سورة عم يتساءلون).
وفي تفسير القرطبي سماها (سورة عم) أي بدون زيادة (يَتَسَاءَلُونَ) تسمية لها بأول جملة فيها.
وتسمى (سورة التساؤل) لوقوع (يَتَسَاءَلُونَ) في أولها.
وتسمى (سورة المعصرات) لقوله _تعالى_ فيها: [وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً].
فهذه خمسة أسماء, واقتصر الإتقان على أربعة أسماء: عم، والنبأ، والتساؤل، والمعصرات.
وهي مكية بالاتفاق, وعدت السورة الثمانين في ترتيب نزول السور عند جابر ابن زيد ، نزلت بعد سورة المعارج, وقبل سورة النازعات.
وفي ما روي عن ابن عباس والحسن ما يقتضي أن هذه السورة نزلت في أول البعث، روي عن ابن عباس: =كانت قريش تجلس لما نزل القرآن, فتتحدث فيما بينها, فمنهم المصدق, ومنهم المكذب به؛ فنزلت: [عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ].
وعن الحسن لما بعث النبي"جعلوا يتساءلون بينهم, فأنزل الله: [عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ] يعني الخبر العظيم.
وعدَّ آيَها أصحابُ العدد من أهل المدينة والشام والبصرة أربعين, وعدَّها أهلُ مكة وأهل الكوفة إحدى وأربعين آية. 30/5(1/306)
2_ أغراضها: اشتملت هذه السورة على وصفِ خوضِ المشركين في شأن القرآن وما جاء به مما يخالف معتقداتهم، ومن ذلك إثباتُ البعث، وسؤالُ بعضهم بعضاً عن الرأي في وقوعه مستهزئين بالإخبار عن وقوعه.
وتهدُيدهم على استهزائهم.
وفيها إقامةُ الحجةِ على إمكان البعثِ بخلق المخلوقات التي هي أعظم من خلق الإنسان بعد موته, وبالخلق الأول للإنسان وأحواله.
ووصفُ الأهوالِ الحاصلةِ عند البعث من عذاب الطاغين مع مقابلة ذلك بوصف نعيم المؤمنين.
وصفةُ يوم الحشر؛ إنذاراً للذين جحدوا به, والإيماءُ إلى أنهم يعاقبون بعذابٍ قريبٍ قبل عذابِ يومِ البعث.
وأدمج في ذلك أن علم الله _تعالى_ محيطٌ بكل شيء, ومن جملة الأشياء أعمالُ الناس. 30/6
3_ [عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)].
افتتاح الكلام بالاستفهام عن تساؤل جماعة عن نبأ عظيم _ افتتاح تشويق، ثم تهويل لما سيذكر بعده، فهو من الفواتح البديعة؛ لما فيها من أسلوب عزيز غير مألوف, ومن تشويق بطريقة الإجمال ثم التفصيل المحصلة لتمكن الخبر الآتي بعده في نفس السامع أكمل تَمَكُّن.
وإذ كان هذا الافتتاح مؤذناً بعظيمِ أمرٍ كان مؤذناً بالتصدي لقولٍ فَصْلٍ فيه.
ولَمَّا كان في ذلك إشعارُ بأهمِّ ما فيه خوضهم يومئذ _ يُجْعَلُ افتتاحُ الكلام به من براعة الاستهلال. 30/6
4_ ولفظ [عَمَّ]: مركب من كلمتين هما حرف (عن) الجار، و(ما) التي هي اسم استفهام بمعنى: أيُّ شيءٍ، ويتعلق [عَمَّ] بفعل [يَتَسَاءَلُونَ] فهذا مركب.
وأصل ترتيبه: يتساءلون عن ما، فقدم اسم الاستفهام؛ لأنه لا يقع إلا في صدر الكلام المستفهم به، وإذ قد كان اسم الاستفهام مقترناً بحرف الجر الذي تعدى به الفعل إلى اسم الاستفهام, وكان الحرف لا ينفصل عن مجروره _ قُدِّما معاً؛ فصار عما يتساءلون.(1/307)
وقد جرى الاستعمال الفصيح على أن (ما) الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجر يحذف الألف المختومة هي به؛ تفرقة بينها وبين (ما) الموصولة. 30/7
5_ والنبأ: الخبر، قيل مطلقاً؛ فيكون مرادفاً للفظ الخبر، وهو الذي جرى عليه إطلاق القاموس والصحاح واللسان.
وقال الراغب: =النبأ الخبر ذو الفائدة العظيمة يحصل به علم، أو غلبة ظن، ولا يقال للخبر نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة، ويكون صادقاً+ا هـ.
وهذا فرق حسن, ولا أحسب البلغاء جروا إلا على نحو ما قال الراغب؛ فلا يقال للخبر عن الأمور المعتادة نبأ, وذلك ما تدل عليه موارد استعمال لفظ النبأ في كلام البلغاء.
وأحسب أن الذين أطلقوا مرادفة النبأ للخبر راعوا ما يقع في بعض كلام الناس من تسامح بإطلاق النبأ بمعنى مطلق الخبر؛ لضرب من التأويل, أو المجاز المرسل بالإطلاق والتقييد؛ فكثر ذلك في الكلام كثرة عَسُرَ معها تحديدُ مواقع الكلمتين.
ولكن أبلغ الكلام لا يليق تخريجه إلا على أدقِّ مواقع الاستعمال. 30/9_10
6_ ووصف [النَّبَإِ] بـ[الْعَظِيمِ] هنا زيادةٌ في التنويه به؛ لأن كونه وارداً من عالم الغيب زاده عِظَم أوصافٍ وأهوال، فوصفُ النبأ بالعظيم باعتبار ما وصف فيه من أحوال البعث في ما نزل من آيات القرآن قبل هذا، ونظيره قوله _تعالى_: [قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ] في سورة ص. 30/10
7_ ومناسبة ذكر الجبال دعا إليها ذِكْرُ الأرض, وتشبيهها بالمهاد الذي يكون داخل البيت؛ فلما كان البيت من شأنه أن يخطر ببال السامع من ذكر المهاد كانت الأرض مشبهة بالبيت على طريقة المكنية, فشبهت جبال الأرض بأوتاد البيت؛ تخييلاً للأرض مع جبالها بالبيت ومهاده وأوتاده.(1/308)
وأيضاً فإن كثرة الجبال الناتئة على وجه الأرض قد يخطر في الأذهان أنها لا تناسب جعل الأرض مهاداً؛ فكان تشبيه الجبال بالأوتاد مُسْتَمْلحاً بمنزلة حسن الاعتذار؛ فيجوز أن تكون الجبال مُشَبَّهةً بالأوتاد في مجرد الصورة مع هذا التخييل كقولهم: رأيت أُسوداً غابها الرماح.
ويجوز أن تكون الجبال مشبهة بأوتاد الخيمة في أنها تشد الخيمة من أن تقلعها الرياح, أو تزلزلها بأن يكون في خلق الجبال للأرض حكمةٌ لتعديل سَبْح الأرض في الكرة الهوائية؛ إذ نتوُّ الجبال على الكرة الأرضية يجعلها تَكْسِرُ تيارَ الكرةِ الهوائية المحيطة بالأرض؛ فيعتدل تياره حتى تكون حركة الأرض في كرة الهواء غير سريعة.
على أن غالب سكان الأرض وخاصة العرب لهم منافع جمة في الجبال؛ فمنها مسايل الأودية، وقرارات المياه في سفوحها، ومراعي أنعامهم، ومستعصمهم في الخوف، ومراقب الطرق المؤدية إلى ديارهم إذا طرقها العدو؛ ولذلك كثر ذكر الجبال مع ذكر الأرض. 30/15
8_ والمعنى من جعل الليل لباساً يحوم حول وصف حالة خاصة بالليل عبر عنها باللباس.
فيجوز أن يكون اللباس محمولاً على معنى الاسم وهو المشهور في إطلاقه، أي ما يلبسه الإنسان من الثياب؛ فيكون وصف الليل به على تقدير كاف التشبيه على طريقة التشبيه البليغ، أي جعلنا الليل للإنسان كاللباس له، فيجوز أن يكون وجه الشبه هو التغشية.
وتحته ثلاثة معان: أحدها: أن الليل ساتر للإنسان كما يستره اللباس؛ فالإنسان في الليل يختلي بشؤونه التي لا يرتكبها في النهار؛ لأنه لا يحب أن تراها الأبصار.(1/309)
وفي ذلك تعريض بإبطال أصل من أصول الدهريين أن الليل ربُّ الظلمة وهو معتقد المجوس, وهم الذين يعتقدون أن المخلوقات كلها مصنوعة من أصلين أي إلهين: إله النور وهو صانع الخير، وإله الظلمة وهو صانع الشر,ويقال لهم: الثنوية؛ لأنهم أثبتوا إلهين اثنين، وهم فرق مختلفة المذاهب في تقرير كيفية حدوث العالم عن ذينك الأصلين، وأشهر هذه الفرق فرقة تسمى المانوية نسبة إلى رجل يقال له (ماني) فارسي قبل الإسلام، وفرقة تسمى مزدكية نسبة إلى رجل يقال له (مزدك) فارسي قبل الإسلام.
وقد أخذ أبو الطيب معنى هذا التعريض في قوله:
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تُخَبِّر أن المانويَّةَ تكذب
المعنى الثاني من معنيي وجه الشبه باللباس: أنه المشابهة في الرفق باللابس, والملاءمة لراحته؛ فلما كان الليل راحة للإنسان, وكان محيطاً بجميع حواسه وأعصابه _ شُبِّه باللباس في ذلك.
ونُسِب مُجْمَلُ هذا المعنى إلى سعيد بن جبير, والسدي, وقتادة؛ إذ فسروا [سُبَاتاً]: سكناً.
المعنى الثالث: أن وجه الشبه باللباس هو الوقاية، فالليل يقي الإنسان من الأخطار والاعتداء عليه؛ فكان العرب لا يُغْير بعضهم على بعض في الليل, وإنما تقع الغارة صباحاً؛ ولذلك إذا غِيْرَ عليهم يصرخ الرجل بقومه بقوله: يا صباحاه, ويقال: صَبَّحَهُمُ العدو.
وكانوا إذا أقاموا حرساً على الربى ناظُورة على ما عسى أن يطرقهم من الأعداء يقيمونه نهاراً, فإذا أظلم الليل نزل الحرس، كما قال لبيد يذكر ذلك, ويذكر فرسه:
حتى إذا ألقت يداً في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها
أسْهَلتُ وانْتَصَبَتْ كجذع منيفة ... جرداء يَحْصَر دونها جُرَّامُها
30/20_21
9_ [ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً (11)].
لما ذكر خلق نظام الليل قوبل بذكر خلق نظام النهار، فالنهار: الزمان الذي يكون فيه ضوء الشمس منتشرا على جزء كبير من الكرة الأرضية.(1/310)
وفيه عبرة بدقة الصنع وإحكامه؛ إذ جعل نظامان مختلفان منشؤهما سطوع نور الشمس, واحتجابه فوق الأرض، وهما نعمتان للبشر مختلفتان في الأسباب والآثار؛ فنعمةُ الليل راجعة إلى الراحة والهدوء، ونِعْمَةُ النهار راجعة إلى العمل والسعي؛ لأن النهار يُعْقِبُ الليل؛ فيكون الإنسان قد استجد راحته, واستعاد نشاطه, ويتمكن من مختلف الأعمال بسبب إبصار الشخوص والطرق.
ولما كان معظم العمل في النهار لأجل المعاش أخبر عن النهار بأنه معاش, وقد أشعر ذِكْرُ النهار بعد ذِكْرِ كلٍّ من النوم والليل بملاحظة أن النهار ابتداءُ وقت اليقظة التي هي ضد النوم؛ فصارت مقابلتهما بالنهار في تقدير: وجعلنا النهار واليقظة فيه معاشاً، ففي الكلام اكتفاءً دلت عليه المقابلة، وبذلك حصل بين الجمل الثلاث مطابقتان من المحسنات البديعة لفظاً وضِمْناً. 30/21
10_ وقوله: [لا يَرْجُونَ حِسَاباً]: نفي لرجائهم وقوع الجزاء.
والرجاء أشْتُهر في ترقب الأمر المحبوب، والحساب ليس خيراً لهم حتى يُجْعَلَ نَفْيُ ترقُّبه من قبيل نفي الرجاء؛ فكان الظاهر أن يعبر عن ترقبه بمادة التوقع الذي هو ترقب الأمر المكروه؛ فيظهر أن وجه العدول عن التعبير بمادة التوقع إلى التعبير بمادة الرجاء _ أن الله لما أخبر عن جزاء الطاغين وعذابهم، تلقى المسلمون ذلك بالمسرة, وعلموا أنهم ناجون مما سيلقاه الطاغون؛ فكانوا مترقبين يوم الحساب تَرَقُّبَ رجاءٍ، فَنَفْيُ رجاءِ يوم الحساب عن المشركين جامعٌ بصريحه معنى عدم إيمانهم بوقوعه، وبكنايته رجاءَ المؤمنين وُقُوعَه بطريقة الكناية التعريضية؛ تعريضاً بالمسلمين، وهي _أيضاً_ تلويحية لما في لازم مدلول الكلام من الخفاء.
ومن المفسرين من فسر: [يَرْجُونَ] بمعنى: يخافون، وهو تفسير بحاصل المعنى، وليس تفسيراً للفظ. 30/39
11_ والكواعب: جمع كاعب، وهي الجارية التي بلغت سن خمس عشرة سنة ونحوها.(1/311)
ووصفت بكاعب؛ لأنها تَكَعَّبَ ثدْيُها، أي صار كالكعب، أي استدار ونتأ، يقال: كعبت من باب قعد، ويقال: كعبت بتشديد العين.
ولما كان كاعبٌ وصفاً خاصاً بالمرأة لم تلحقه هاء التأنيث, وجُمِعَ على فواعل.
والأتراب: جمع تِرْب بكسر فسكون: هو المساوي غيره في السن، وأكثر ما يطلق على الإناث.
قيل: هو مشتق من التراب؛ فقيل: لأنه حين يولد يقع على التراب مثل الآخر، أو لأن التِرْب ينشأ مع لِدَته في سن الصبا يلعب بالتراب.
وقيل: مشتق من الترائب؛ تشبيهاً في التساوي بالترائب وهي ضلوع الصدر؛ فإنها متساوية.
وتقدم الأتراب في قوله _تعالى_: [عُرُباً أَتْرَاباً] في الواقعة؛ فيجوز أن يكون وصفهن بالأتراب بالنسبة بينهن في تساوي السن لزيادة الحسن، أي لا تفوت واحدة منهن غيرها، أي فلا تكون النفس إلى إحداهن أميل منها إلى الأخرى؛ فتكون بعضهن أقل مسرة في نفس الرجل.
ويجوز أن يكون هذا الوصف بالنسبة بينهن وبين أزواجهن؛ لأن ذلك أحب إلى الرجال في معتاد أهل الدنيا؛ لأنه أوفق بطرح التكلف بين الزوجين, وذلك أحلى المعاشرة. 30/44_45
12_ والكأس: إناءٌ معدٌّ لشرب الخمر, وهو اسم مؤنث تكون من زجاج ومن فضة ومن ذهب، وربما ذُكِر في كتب اللغة أن الكأس الزجاجة فيها الشراب، ولم أقف على أن لها شكلاً معيناً يميزها عن القَدَحِ وعن الكوب وعن الكوز، ولم أجد في قواميس اللغة التعريف بالكأس بأنها: إناء الخمر, وأنها الإناء ما دام فيه الشراب.
وهذا يقتضي أنها لا تختص بصنف من الآنية.
وقد يطلقون على الخمر اسم الكأس، وأريد بالكأس الجنس؛ إذ المعنى وأكؤساً.
وعدل عن صيغة الجمع؛ لأن كأساً بالإفراد أخفُّ من أكؤس وكؤوس, ولأن هذا المركب جرى مجرى المثل _ كما سيأتي _.
ودهاق: اسم مصدر دهق من باب جعل، أو اسم مصدر أدهق، ولكونه في الأصل مصدراً لم يقترن بعلامة تأنيث.
والدهق والإدهاق مَلءُ الإناء من كثرة ما صُبَّ فيه.(1/312)
ووصف الكأس بالدهق من إطلاق المصدر على المفعول كالخَلْق بمعنى المخلوق فإن الكأس مدهقة لا داهقة.
ومركب (كأس دهاق) يجري مجرى المثل, قال عكرمة: قال ابن عباس: =سمعت أبي في الجاهلية يقول: اسقنا كأساً دهاقاً+.
ولذلك أفرد [كَأْساً] ومعناه مملوءة خمراً، أي دون تقتير؛ لأن الخمر كانت عزيزة, فلا يكيل الحانُويُّ للشارب إلا بمقدار؛ فإذا كانت الكأس ملأى كان ذلك أسرَّ للشارب. 30/45
13_ وقوله: [لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً]: المقصود منها أن خمر الجنة سليمة مما تسببه خمر الدنيا من آثار العربدة من هذيان، وكذب وسباب.
واللغوُ والكذبُ من العيوب التي تعرض لمن تَدِبُّ الخمرُ في رؤوسهم، أي فأهل الجنة ينعمون بلذة السكر المعروفة في الدنيا قبل تحريم الخمر, ولا تأتي الخمر على كمالاتهم النفسية كما تأتي عليها خمر الدنيا.
وكان العرب يمدحون من يمسك نفسه عن اللغو ونحوه في شرب الخمر، قال عمارة بن الوليد:
ولسنا بَشَربٍ أمَّ عمرو إذا انتشوا ... ثياب الندامى بينهم كالغنائم
ولكننا يا أمَّ عمرو نديمنا ... بمنزلة الريان ليس بعائم
وكان قيس بن عاصم المنقري ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية وقال:
فإن الخمر تفضح شاربيها ... وتجنيهم بها الأمر العظيما
30/45_46
14_ وجملة [وَقَالَ صَوَاباً]: يجوز أن تكون في موضع الحال من اسم الموصول، أي وقد قال المأذون له في الكلام صواباً، أي بإذن الله له في الكلام إذا علم أنه سيتكلم بما يرضي الله.
ويجوز أن تكون عطفاً على جملة [أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ] أي وإلا من قال صواباً, فعلم أن من لا يقول الصواب لا يؤذن له.
وفعل [وَقَالَ صَوَاباً] مستعمل في معنى المضارع، أي ويقول صواباً، فعبر عنه بالماضي؛ لإفادة تحقق ذلك، أي في علم الله.(1/313)
وإطلاق صفة [الرَّحْمَنُ] على مقام الجلالة إيماء إلى أن إذن الله لمن يتكلم في الكلام أثر من آثار رحمته؛ لأنه أذن فيما يحصل به نفع لأهل المحشر من شفاعة أو استغفار. 30/53
1_ سميت في المصاحف وأكثر التفاسير (سورة النازعات) بإضافة سورة إلى النازعات بدون واو، جعل لفظ (النَّازِعَاتِ) علماً عليها, لأنه لم يذكر في غيرها.
وعنونت في كتاب التفسير من صحيح البخاري وفي كثير من كتب المفسرين بسورة (وَالنَّازِعَاتِ) بإثبات الواو على حكاية أول ألفاظها.
وقال سعد الله الشهير بسعدي والخفاجي: إنها تسمى (سورة الساهرة) لوقوع لفظ (السَّاهِرَةِ) في أثنائها ولم يقع في غيرها من السور.
وقالا: تسمى سورة الطامة _أي لوقوع لفظ الطامة فيها, ولم يقع في غيرها_ ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور التي لها أكثر من اسم.
ورأيت في مصحف مكتوب بخط تونسي عنون اسمها (سورة فالمدبرات) وهو غريب؛ لوقوع لفظ المدبرات فيها ولم يقع في غيرها.
وهي مكية بالاتفاق, وهي معدودة الحادية والثمانين في ترتيب النزول، نزلت بعد سورة النبأ وقبل سورة الانفطار.
وعَدَدُ آيها خمسٌ وأربعون عند الجمهور، وعدها أهل الكوفة ستاً وأربعين آية. 30/59
2_ أغراضها: اشتملت على إثباتِ البعث والجزاء، وإبطالِ إحالةِ المشركين وقوعَه, وتهويلِ يومِه, وما يعتري الناس حينئذ من الهول(1) وإبطالِ قول المشركين بتعذر الإحياء بعد انعدام الأجساد.
وعَرَّض بأن نُكْرَانَهم إياه مُنْبَعِثٌ عن طغيانهم؛ فكان الطغيان صاداً لهم عن الإصغاء إلى الإنذار بالجزاء, فأصبحوا آمنين في أنفسهم غير مترقبين حياةً بعد هذه الحياة الدنيا بأن جَعَلَ مَثَلَ طغيانِهم كطغيان فرعونَ وإعراضِه عن دعوة موسى _ عليه السلام _ وإن لهم في ذلك عبرةً، وتسليةً لرسول الله".
__________
(1) _ في الأصل: الوهل، ولعل الصواب ما أُثبت. (م)(1/314)
وانعطف الكلامُ إلى الاستدلال على إمكان البعث بأنَّ خَلْقَ العوالم, وتدبير نظامه أعظم من إعادة الخلق.
وأُدمج في ذلك إلْفاتٌ إلى ما في خلق السماوات والأرض من دلائل على عظيم قدرة الله _تعالى_.
وأُدمج فيه امتنانٌ في خلق هذا العالمِ من فوائدَ يَجْتنونها, وأنه إذا حل عالمُ الآخرة, وانقرض عالم الدنيا جاء الجزاءُ على الأعمالِ بالعقاب والثواب.
وكُشِف عن شبهتهم في إحالة البعث باستبطائهم إياه, وجَعْلِهِمْ ذلك أمارةً على انتفائه؛ فلذلك يسألون الرسول"عن تعيين وقت الساعة سؤالَ تَعَنُّتٍ، وأن شأن الرسول أن يذكِّرهم بها, وليس شأنُه تعيينَ إبَّانها، وأنها يوشك أن تَحلَّ؛ فيعلمونها عياناً, وكأنهم مع طول الزمن لم يلبثوا إلا جزءاً من النهار. 30/59_60
3_ وجاء في آخر القصة بحوصلة وفَذْلَكَةٌ لما تقدم فقال: [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى] فهو في معنى البيان لمضمون جملة: [هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى] الآيات.
والإشارة بقوله: [فِي ذَلِكَ] إلى: [حَدِيثُ مُوسَى].
والعبرة: الحالة التي ينتقل الذهن من معرفتها إلى معرفة عاقبتها أو عاقبة أمثالها.
وهي مشتقة من العَبْر، وهو الانتقال من ضفَّة واد أو نهر إلى ضفته الأخرى.
والمراد بالعبرة هنا الموعظة. 30/82
4_ وفي القصة كلها تعريض بسادة قريش من أهل الكفر مثل أبي جهل بتنظيرهم بفرعون, وتنظير الدهماء بالقوم الذين حشرهم فرعون ونادى فيهم بالكفر، وقد علم المسلمون مضرب هذا المثل؛ فكان أبو جهل يوصف عند المسلمين بفرعون هذه الأمة. 30/82
5_ وإضافة (ضحى) إلى ضمير (العشية) جرى على استعمال عربي شائع في كلامهم, قال الفراء: =أضيف الضحى إلى العشية، وهو اليوم الذي يكون فيه على عادة العرب يقولون:آتيك الغداة أو عشيتها، وآتيك العشية أو غداتها، وأنشدني بعض بني عقيل:
نحن صبحنا عامراً في دارها ... جُرْداً تَعادى طرفي نهارها
عشيةَ الهلال أو سِرارها(1/315)
أراد عشية الهلال, أو عشية سرار العشية؛ فهو أشد من: =آتيك الغداة أو عشيتها+ ا هـ.
ومُسوِّغُ الإضافة أن الضحى أسبق من العشية؛ إذ لا تقع عشية إلا بعد مرور ضحىً، فصار ضحى ذلك اليوم يعرف بالإضافة إلى عشية اليوم؛ لأن العشية أقرب إلى علم الناس؛ لأنهم يكونون في العشية بعد أن كانوا في الضحى؛ فالعشية أقرب والضحى أسبق.
وفي هذه الإضافة _أيضاً_ رعاية على الفواصل التي هي على حرف الهاء المفتوحة من [أَيَّانَ مُرْسَاهَا]. 30/98_99
1_ سميت هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة (سورة عبس).
وفي أحكام ابن العربي عنونها: (سورة ابن أم مكتوم) ولم أر هذا لغيره.
وقال الخفاجي: تسمى (سورة الصاخة) وقال العيني في شرح صحيح البخاري: تسمى (سورة السفرة) وتسمى سورة (الأعمى).
وكلُّ ذلك تسميةٌ بألفاظٍ وقعت فيها لم تقع في غيرها من السور, أو بصاحب القصة التي كانت سبب نزولها.
ولم يذكرها صاحبُ الإتقان في السور التي لها أكثر من اسم وهو عبس.
وهي مكية بالاتفاق, وقال في العارضة: =لم يحقق العلماء تعيين النازل بمكة من النازل بالمدينة في الجملة ولا يحقق وقت إسلام ابن أم مكتوم+ا هـ.
وهو مخالف لاتفاق أهل التفسير على أنها مكية؛ فلا مُحَصَّل لكلام ابن العربي.
وعدت الرابعة والعشرين في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة والنجم, وقبل سورة القدر.
وعدد آيها عند العادين من أهل المدينة وأهل مكة وأهل الكوفة اثنتان وأربعون، وعند أهل البصرة إحدى وأربعون وعند أهل الشام أربعون.
وهي أولى السور من أواسط المفصل.
وسبب نزولها يأتي ذكره عند قوله _تعالى_: [عَبَسَ وَتَوَلَّى]. 30/101(1/316)
2_ أغراضُها: تعليمُ رسول الله"الموازنة بين مراتب المصالح, ووجوب الاستقراء لِخَفِيَّاتها؛ كي لا يُفْيتَ الاهتمامُ بالمهمِّ منها في بادئ الرأي مُهمّاً آخرَ مساوياً في الأهمية أو أرجح؛ ولذلك يقول علماء أصول الفقه: إن على المجتهد أن يبحث عن معارضِ الدليل الذي لاح له.
والإشارةُ إلى اختلافِ الحالِ بين المشركين المعرضين عن هدي الإسلام وبين المسلمين المقبلين على تَتَبُّع مواقعه.
وقُرِنَ ذلك بالتذكير بإكرام المؤمنين, وسموَّ درجتهم عند الله _تعالى_.
والثناءِ على القرآن وتعليمه لمن رغب في علمه.
وانْتُقِل من ذلك إلى وصف شِدَةِ الكفر من صناديد قريش بمكابرة الدعوة التي شغلت النبي"عن الالتفاتِ إلى رغبة ابن أُمِّ مكتوم.
والاستدلالُ على إثبات البعث وهو مما كان يدعوهم إليه حين حضورِ ابنِ أُمِّ مكتوم, وذلك كان من أعظم ما عُني به القرآن من حيث إن إنكارَ البعثِ هو الأصلُ الأصيلُ في تصميم المشركين على وجوب الإعراضِ عن دعوة القرآن؛ توهماً منهم بأنه يدعو إلى المحال؛ فاسْتَدَلَّ عليهم بالخَلْقِ الذي خلقه الإنسان، واستدل بعده بإخراج النبات والأشجار من أرض ميتة.
وأُعْقِبَ الاستدلالُ بالإنذار بحلول الساعة, والتحذيرِ من أهوالها, وبما يعقبها من ثواب المتقين وعقاب الجاحدين.
والتذكيرُ بنعمة الله على المنكرين عسى أن يشكروه.
والتنويهُ بضعفاء المؤمنين, وعلوِّ قدرهم ووقوع الخير من نفوسهم, والخشية، وأنهم أعظم عند الله من أصحاب الغنى الذين فقدوا طهارة النفس، وأنهم أحرياء بالتحقير والذم، وأنهم أصحاب الكفر والفجور. 30/102
3_ وعبّر عن ابن أم مكتوم بـ[الأَعْمَى] ترقيقاً للنبي"ليكون العتاب ملحوظاً فيه أنه لما كان صاحب ضَرارة؛ فهو أجدر بالعناية به؛ لأن مثله يكون سريعاً إلى انكسار خاطره. 30/104(1/317)
4_ ويظهر أن النبي " رجا من ذلك المجلس أن يُسلموا؛ فيسلم بإسلامهم جمهور قريش أو جميعهم؛ فكان دخول ابن أم مكتوم قطعاً لسلك الحديث، وجعل يقول للنبي ": يا رسول الله استدنني، علمني، أرشدني، ويناديه, ويكثر النداء والإلحاح؛ فظهرت الكراهية في وجه الرسول"لعله لقطعه عليه كلامه, وخشيته أن يفترق النفر المجتمعون، وفي رواية الطبري أنه أستقرأ النبي"آية من القرآن. 30/105
5_ والحاصل أن الله _تعالى_ أعلم رسوله"أن ذلك المشرك الذي مَحَضَهُ نُصْحَه لا يرجى منه صلاح، وأن ذلك المؤمن الذي استبقى العناية به إلى وقت آخر يزداد صلاحاً تفيد المبادرة به؛ لأنه في حالة تلهفه على التلقي من رسول الله"أشد استعداداً منه في حين آخر.
فهذه الحادثة منوالٌ ينسج عليها الاجتهاد النبوي إذا لم يرد له الوحي؛ ليعلم أن من وراء الظواهر خبايا، وأن القرائن قد تستر الحقائق. 30/111
6_ فإن قال قائل: فلماذا لم يُعلم الله رسوله"من وقت حضور ابن أم مكتوم بما تضمنه هذا التعليم الذي ذكرتم؟
قلنا: لأن العلم الذي يحصل عن تبيُّن غفلة، أو إشعار بخفاء يكون أرسخ في النفس من العلم المسوق عن غير تَعَطُّش؛ ولأن وقوع ذلك بعد حصول سببه أشهر بين المسلمين, وليحصل للنبي"مَزِيّةُ كِلا المقامين: مقام الاجتهاد، ومقام الإفادة.
وحكمة ذلك كله أن يُعلم الله رسوله"بهذا المهيع من عليِّ الاجتهاد؛ لتكون نفسه غير غافلة عن مثله, وليتأسى به علماء أمته, وحكامها, وولاة أمورها. 30/112
7_ هذا ما لاح لي في تفسير هذه الآيات تأصيلاً وتفصيلاً، وهو بناء على أساس ما سبق إليه المفسرون مِنْ جعلهم مناط العتاب مجموع ما في القصة من الإعراض عن إرشاد ابن أم مكتوم، ومن العبوس له، والتولي عنه، ومن التصدي القوي لدعوة المشرك والإقبال عليه.(1/318)
والأظهر عندي أن مناط العتاب الذي تؤتيه لهجة الآية والذي روي عن النبي"ثبوته من كثرة ما يقول لابن أم مكتوم: =مرحباً بمن عاتبني ربي لأجله+ إنما هو عتاب على العبوس والتولي، لا على ما حف بذلك من المبادرة بدعوة، وتأخير إرشاد؛ لأن ما سلكه النبي"في هذه الحادثة من سبيل الإرشاد لا يستدعي عتاباً؛ إذ ما سلك إلا سبيل الاجتهاد القويم؛ لأن المقام الذي أقيمت فيه هذه الحادثة تقاضاه إرشادان لا محيص من تقديم أحدهما على الآخر، هما: إرشاد كافر إلى الإسلام عساه أن يسلم, وإرشاد مؤمن إلى شعب الإسلام عساه أن يزداد تزكية.
وليس في حال المؤمن ما يُفِيْتُ إيماناً, وليس في تأخير إرشاده على نية التفرغ إليه بعد حين ما يُنَاكِد زيادة صلاحه؛ فإن زيادة صلاحه مستمرة على ممر الأيام.
ومن القواعد المستقراة من تصاريف الشريعة, والشاهدة بها العقول السليمة تقديم درء المفاسد على جلب المصالح، ونفي الضر الأكبر قبل نفي الضر الأصغر، فلم يسلك النبي"إلا مسلك الاجتهاد المأمور به فيما لم يوح إليه فيه. 30/112_113
8_ [قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)]: وهذه الجملة بلغت نهاية الإيجاز, وأرفع الجزالة بأسلوب غليظ دال على السخط بالغ حد المذمة، جامع للملامة، ولم يسمع مثلها قبلها؛ فهي من جوامع الكلم القرآنية. 30/121
9_ =والأبُّ+: بفتح الهمزة وتشديد الباء: الكلأ الذي ترعاه الأنعام، روي أن أبا بكر الصديق سئل عن الأب: ما هو? =فقال أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به+.
وروي أن عمر بن الخطاب قرأ يوماً على المنبر :[فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً] إلى: [وَأَبّاً] فقال: =كل هذا قد عرفناه فما الأب? ثم رفع عصاً كانت في يده، وقال: هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأَبّ؛ ابتغوا ما بُيّن لكم من هذا الكتاب فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه+.(1/319)
وفي صحيح البخاري عن عمر بعض هذا مختصراً.
والذي يظهر لي في انتفاء علم الصديق والفاروق بمدلول الأب وهما من خُلَّص العرب لأحد سببين: إما لأن هذا اللفظ كان قد تنوسي من استعمالهم, فأحياه القرآن؛ لرعاية الفاصلة؛ فإن الكلمة قد تشتهر في بعض القبائل أو في بعض الأزمان, وتنسى في بعضها مثل اسم السِّكين عند الأوس والخزرج، فقد قال أنس بن مالك: =ما كنا نقول إلا المدية حتى سمعت قول رسول الله"يذكر أن سليمان _عليه السلام_ قال: =ائيتوني بالسكين أقسم الطفل بينهما نصفين+.
وإما أن كلمة الأبّ تطلق على أشياء كثيرة منها النبت الذي ترعاه الأنعام، ومنها التبن، ومنها يابس الفاكهة؛ فكان إمساك أبي بكر وعمر عن بيان معناه؛ لعدم الجزم بما أراد الله منه على التعيين، وهل الأب مما يرجع إلى قوله: [مَتَاعاً لَكُمْ] أو إلى قوله: [وَلأَنْعَامِكُمْ] في جمع ما قسم قبله. 30/133
10_ [يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ]: وكون أقرب الناس للإنسان يفر منهم يقتضي هولَ ذلك اليوم بحيث إذا رأى ما يحل من العذاب بأقرب الناس إليه توهم أن الفرار منه ينجيه من الوقوع في مثله؛ إذ قد علم أنه كان مماثلاً لهم فيما ارتكبوه من الأعمال, فَذُكِرَتْ هنا أصنافُ من القرابة؛ فإن القرابة آصرةٌ تكون لها في النفس معزةٌ وحرصٌ على سلامة صاحبها وكرامته, والإِلف يحدث في النفس حرصاً على الملازمة والمقارنة، وكلا هذين الوَجَدَانين يصد صاحبه عن المفارقة؛ فما ظنك بهول يغشى على هذين الوجدانين فلا يترك لهما مجالاً في النفس؟
ورتبت أصناف القرابة في الآية حسب الصعود من الصنف إلى من هو أقوى منه؛ تدرجاً في تهويل ذلك اليوم.(1/320)
فابتدىء بالأخ؛ لشدة اتصاله بأخيه من زمن الصبا, فينشأ بذلك إلف بينهما يستمر طول الحياة، ثم ارتقي من الأخ إلى الأبوين وهما أشد قرباً لابنيهما، وقدمت الأم في الذكر؛ لأن إلف ابنها بها أقوى منه بأبيه, وللرعي على الفاصلة، وانتقل إلى الزوجة والبنين وهما مجتمع عائلة الإنسان, وأشد الناس قرباً به وملازمة.
وأطنب بتعداد هؤلاء الأقرباء دون أن يقال: يوم يفر المرء من أقرب قرابته مثلاً؛ لإحضار صورة الهول في نفس السامع. 30/135_136
1_ لم يثبت عن النبي"أنه سماها تسمية صريحة, وفي حديث الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله": =من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت+.
وليس هذا صريحاً في التسمية؛ لأن صفة يوم القيامة ليست في جميع هذه السورة, بل هو في الآيات الأول منها؛ فتعين أن المعنى: فليقرأ هذه الآيات.
وعُنْوَنَتْ في صحيح البخاري, وفي جامع الترمذي =سورة إذا الشمس كورت+ وكذلك عنونها الطبري.
وأكثر التفاسير يسمونها (سورة التكوير) وكذلك تسميتها في المصاحف, وهو اختصار لمدلول (كُوِّرَتْ).
وتسمى (سورة كورت) تسمية بحكاية لفظ وقع فيها.
ولم يعدَّها في الإتقان مع السور التي لها أكثر من اسم.
وهي مكية بالاتفاق.
وهي معدودة السابعة في عداد نزول سور القرآن، نزلت بعد سورة الفاتحة وقبل سورة الأعلى.
وعدد آيها تسع وعشرون. 30/139
2_ أغراضها: اشتملت على تحقيقِ الجزاءِ صريحاً, وعلى إثبات البعثِ, وابتُدىء بوصفِ الأهوالِ التي تتقدمه, وانْتُقل إلى وصفِ أهوالٍ تَقَعُ عَقِبَه.
وعلى التنويهِ بشأنِ القرآن الذي كذبوا به؛ لأنه أوعدهم بالبعث زيادةً لتحقيقِ وقوعِ البحث؛ إذ رموا النبيَّ"بالجنونِ, والقرآنَ بأنه يأتيه به شيطان. 30/139_140(1/321)
3_ وظاهر الآية أن سؤال الموؤدة, وعقوبة من وأدها أول ما يقضى فيه يوم القيامة كما يقتضي ذلك جعلُ هذا السؤال وقتاً تعلم عنده كل نفس ما أحضرت؛ فهو من أول ما يعلم به حين الجزاء.
والوأد: دفن الطفلة وهي حية: قيل: هو مقلوب آداه، إذا أثقله؛ لأنه إثقال الدفينة بالتراب.
قال في الكشاف: =كان الرجل إذا وُلِدتْ له بنتٌ؛ فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية يقول لأمها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها, وقد حفر لها بئراً في الصحراء؛ فيبلغ بها البئر, فيقول لها: انظري فيها ثم يدفعها من خلفها، ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض .
وقيل: كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفرة, فتمخضت على رأس الحفرة, فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإن ولدت ابناً حبسته+ا هـ.
وكانوا يفعلون ذلك؛ خشية من إغارة العدو عليهم, فيسبي نساءهم, ولخشية الإملاق في سني الجدب؛ لأن الذكر يحتال للكسب بالغارةِ وغيرِها, والأنثى عالةٌ على أهلها، قال _تعالى_: [وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ] وقال: [وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ].
وإذ قد فشى فيهم كراهية ولادة الأنثى فقد نما في نفوسهم بغضها, فتحركت فيها الخواطر الإجرامية؛ فالرجل يكره أن تولد له أنثى لذلك، وامرأته تكره أن تولد لها أنثى؛ خشيةً من فراق زوجها إياها, وقد يهجر الرجل امرأته إذا ولدت أنثى.
وقد توارثت هذا الجهل أكثرُ الأمم على تفاوت بينهم فيه، ومن كلام بعضهم وقد ماتت ابنته: =نعم الصهر القبر+.(1/322)
ومن آثار هذا الشعور حرمانُ البنات من أموال آباءهن بأنواع من الحيل، مثل: وقف أموالهم على الذكور دون الإناث, وقد قال مالك: =إن ذلك من سنة الجاهلية+، ورأى ذلك الحُبس باطلاً، وكان كثير من أقرباء الميت يلجئون بناته إلى إسقاط حقهن في ميراث أيهن لأخوتهن في فور الأسف على موت أبيهن؛ فلا يمتنعن من ذلك، ويرين الامتناع من ذلك عاراً عليهن؛ فإن لم يفعلن قطعهن أقرباؤهن.
وتعرف هذه المسألة في الفقه بهبة بنات القبائل, وبعضهم يعدها من الإكراه.
ولم يكن الوأد معمولاً به عند جميع القبائل، قيل: أول من وأد البنات من القبائل ربيعة، وكانت كندة تئد البنات، وكان بنو تميم يفعلون ذلك، ووأد قيس ابن عاصم المنقري من بني تميم ثمان بنات له قبل إسلامه.
ولم يكن الوأد في قريش البتة, وكان صعصعة بن ناجية جد الفرزدق من بني تميم يفتدي من يعلم أنه يريد وأد بنته من قومه بناقتين عشراوين وجمل, فقيل: إنه افتدى ثلاثمائة وستين موءودة، وقيل؛ وسبعين, وفي الأغاني: وقيل: أربعمائة.
وفي تفسير القرطبي: فجاء الإسلام وقد أحيا سبعين موءودة, ومثل هذا في كتاب الشعراء لابن قتيبة وبين العددين بون بعيد؛ فلعل في أحدهما تحريفاً.
وفي توجيه السؤال إلى الموءودة [بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] في ذلك الحشر إدخال الروع على مَنْ وأدها، وجعل سؤالها عن تعيين ذنب أوجب قتلها؛ للتعريض بالتوبيخ والتخطئة للذي وأدها, وليكون جوابُها شهادةً على من وأدها؛ فيكون استحقاقُهُ العقابَ أشدَّ وأظهر. 30/145_146
4_ [ فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِي الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ].
و[الخُنَّس]: جمع خانسة، وهي التي تخنس، أي تختفي، يقال: خنست البقرة والظبية، إذا اختفت في الكناس.
و[الْجَوَارِي]: جمع جارية، وهي التي تجري، أي تسير سيراً حثيثاً.(1/323)
و[الْكُنَّسِ]: جمع كانسة، يقال: كنس الظبي، إذا دخل كِناسه بكسر الكاف, وهو البيت الذي يتخذه للمبيت.
وهذه الصفات أريد بها صفات مجازية؛ لأن الجمهور على أن المراد بموصوفاتها الكواكب، وصفن بذلك لأنها تكون في النهار مختفية عن الأنظار؛ فشبهت بالوحشية المختفية في شجر ونحوه، فقيل: الخنس وهو من بديع التشبيه؛ لأن الخنوس اختفاء الوحش عن أنظار الصيادين ونحوهم دون السكون في كناس.
وكذلك الكواكب؛ لأنها لا ترى في النهار؛ لغلبة شعاع الشمس على أفقها, وهي مع ذلك موجودة في مطالعها.
وشبه ما يبدو للأنظار من تنقلها في سمت الناظرين للأفق باعتبار اختلاف ما يسامتها من جزء من الكرة الأرضية بخروج الوحش, فشُبِّهت حالةُ بُدُوّها بعد احتجابها مع كونها كالمتحركة بحالة الوحش تجري خنوسها تشبيه التمثيل, وهو يقتضي أنها صارت مرئية؛ فلذلك عقَّب بعد ذلك بوصفها بالكنس أي عند غروبها؛ تشبيهاً لغروبها بدخول الظبي أو البقرة الوحشية كِناسَها بعد الانتشار والجري.
فشبه طلوع الكوكب بخروج الوحشية من كناسها، وشبه تنقل مرآها للناظر بجري الوحشية عند خروجها من كِناسها صباحاً، قال لبيد:
حتى إذا انحسر الظلام وأسفرت ... بَكَرَتْ تَزِلُّ عن الثرى أزلامُها
وشبه غروبها بعد سيرها بكنوس الوحشية في كناسها، وهو تشبيه بديع؛ فكان قوله: [بِالْخُنَّسِ] استعارة, وكان: [الْجَوَارِي الْكُنَّسِ] ترشيحين للاستعارة.
وقد حصل من مجموع الأوصافِ الثلاثِ ما يُشْبِهُ اللغز يحسب به أن الموصوفات ظباءٌ أو وحوشٌ؛ لأن تلك الصفات حقائقها من أحوال الوحوش، والألغاز طريقةٌ مستملحة عند بلغاء العرب, وهي عزيزة في كلامهم، قال بعض شعرائهم وهو من شواهد العربية:
فقلت أعيراني القَدوم لعلني ... أخُطُّ بها قبرا لأبيض ماجد
أراد أنه يصنع بها غمداً لسيف صقيل مهند.(1/324)
وعن ابن مسعود، وجابر بن عبدالله، وابن عباس: حَمْلُ هذه الأوصاف على حقائقها المشهورة، وأن الله أقسم بالظباء, وبقر الوحش. 30/152_153
5_ وعسعس الليل عَسْعَاساً وعسة، قال مجاهد عن ابن عباس: أقبل بظلامه، وقال مجاهد _أيضاً_ عن ابن عباس معناه: أدبر ظلامه، وقاله زيد ابن أسلم, وجزم به الفراء, وحكى عليه الإجماع, وقال المبرد والخليل: هو من الأضداد(1) يقال: عسعس، إذا أقبل ظلامه، وعسعس، إذا أدبر ظلامه, قال ابن عطية: =قال المبرد: أقسم الله بإقبال الليل وإدباره معاً+ ا هـ. 30/154
6_ والتنفس: حقيقته خروج النفس من الحيوان، أستعير لظهور الضياء مع بقايا الظلام على تشبيه خروج الضياء بخروج النفس على طريقة الاستعارة المصرحة، أو لأنه إذا بدا الصباح أقبل معه نسيم فجُعل ذلك كالتنفس له على طريقة المكنية بتشبيه الصبح بذي نفس مع تشبيه النسيم بالأنفاس. 30/154
1_ سميت هذه السورة (سورة الانفطار) في المصاحف ومعظم التفاسير.
وفي حديث رواه الترمذي عن ابن عمر قال: =قال رسول الله ": من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت+ قال الترمذي: حديث حسن غريب.
وقد عرفت ما فيه من الاحتمال في أول سورة التكوير.
وسميت في بعض التفاسير (سورة إذا السماء انفطرت) وبهذا الاسم عنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه, ولم يعدَّها صاحبُ الإتقان مع السور ذات أكثر من اسم وهو (الانفطار).
__________
(1) _ الأضداد، ويقال: التضاد، والمتضاد من مباحث علم فقه اللغة، وهو نوع من المشترك، وهو: دلالة اللفظ الواحد على معنيين متضادين.
أو هو: أن يطلق اللفظ على المعنى وضده، مثل الجون: يطلق على الأبيض والأسود، والحميم على الحار والبارد، ويفهم المراد من خلال السياق.
ومن أعظم الكتب المؤلفة فيه: كتاب الأضداد لأبي بكر بن الأنباري. (م)(1/325)
ووجه التسمية وقوع جملة [إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ] في أولها؛ فعرفت بها.
وسميت في قليل من التفاسير (سورة انفطرت) وقيل تسمى (سورة المنفطرة) أي السماء المنفطرة.
وهي مكية بالاتفاق.
وهي معدودة الثانية والثمانين في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة النازعات, وقبل سورة الانشقاق.
وعدد آيها تسع عشرة آية. 30/169
2_ أغراضها: واشتملت هذه السورةُ على: إثباتِ البعث، وذكرِ أهوالٍ تتقدمه.
وإيقاظُ المشركين للنظر في الأمور التي صرفتهم عن الاعتراف بتوحيد الله _تعالى_ وعن النظر في دلائلِ وقوعِ البعث والجزاء.
والإعلام بأن الأعمالَ محصاةٌ, وبيانُ جزاءِ الأعمال خيرِها وشرِّها.
وإنذار الناس بأن لا يحسبوا شيئاً ينجيهم من جزاء الله إياهم على سيِّئ أعمالهم. 30/169_170
3_ وانفطرت: مطاوع فَطَر، إذا جعل الشيء مفطوراً، أي مشقوقاً ذا فطور، وتقدم في سورة الملك.
وهذا الانفطار: انفراج يقع فيما يسمى بالسماء, وهو ما يشبه القُبَّة في نظر الرائي يراه تسير فيه الكواكب في أسمات مضبوطة تسمى بالأفلاك تشاهد بالليل، ويعرف سَمْتُها في النهار، ومشاهدتها في صورة متماثلة مع تعاقب القرون تدل على تجانس ما هي مصورة منه؛ فإذا اختل ذلك, وتخللته أجسام أو عناصر غريبة عن أصل نظامه تفككت تلك الطباق, ولاح فيها تشقُّقٌ؛ فكان علامةً على انحلال النظام المتعلق بها كله.
والظاهر أن هذا الانفطار هو المعبر عنه بالانشقاق _أيضاً_ في سورة الانشقاق، وهو حدث يكون قبل يوم البعث, وأنه من أشراط الساعة؛ لأنه يحصل عند إفساد النظام الذي أقام الله عليه حركات الكواكب, وحركة الأرض, وذلك يقتضيه قَرْنُهُ بانتثار الكواكب, وتفجر البحار, وتبعثر القبور.(1/326)
وأما الكشط الذي تقدم في سورة التكوير في قوله: [وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ] فذلك عَرَضٌ آخر يعرض للسماوات يوم الحشر؛ فهو من قبيل قوله _تعالى_: [وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً]. 30/171
1_ سميت هذه السورة في كتب السنة, وفي بعض التفاسير (سورة ويل للمطففين) وكذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه، والترمذي في جامعه.
وسميت في كثير من كتب التفسير والمصاحف (سورة المطففين) اختصاراً.
ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور ذوات أكثر من اسم, وسماها (سورة المطففين) وفيه نظر.
وقد اختلف في كونها مكية أو مدنية, أو بعضها مكي وبعضها مدني؛ فعن ابن مسعود، والضحاك، ومقاتل في رواية عنه: أنها مكية، وعن ابن عباس في الأصح عنه، وعكرمة، والحسن، والسدي، ومقاتل في رواية أخرى عنه: أنها مدنية، قال: وهي أول سورة نزلت بالمدينة، وعن ابن عباس في رواية عنه وقتادة: هي مدنية إلا ثمان آيات من آخرها من قوله: [إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا] إلى آخرها.
وقال الكلبي، وجابر بن زيد: نزلت بين مكة والمدينة؛ فهي لذلك مكية؛ لأن العبرة في المدني بما نزل بعد الهجرة على المختار من الأقوال لأهل علم القرآن.
قال ابن عطية: =احتج جماعة من المفسرين على أنها مكية بذكر الأساطير فيها أي قوله: [إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ].
والذي نختاره: أنها نزلت قبل الهجرة؛ لأن معظم ما اشتملت عليه التعريض بمنكري البعث+.(1/327)
ومن اللطائف أن تكون نزلت بين مكة والمدينة, لأن التطفيف كان فاشياً في البلدين, وقد حصل من اختلافهم أنها: إما آخر ما أنزل بمكة، وإما أول ما أنزل بالمدينة، والقول بأنها نزلت بين مكة والمدينة قول حسن, فقد ذكر الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس قال: =لما قدم النبي"المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً؛ فأنزل الله _تعالى_: [وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ] فأحسنوا الكيل بعد ذلك+.
وعن القرظي: =كان بالمدينة تجار يطففون الكيل، وكانت يباعاتهم كسبة القمار، والملامسة، والمنابزة، والمخاصرة؛ فأنزل الله _تعالى_ هذه الآية؛ فخرج رسول الله"إلى السوق، وقرأها، وكانت عادةٌ فشت فيهم من زمن الشرك؛ فلم يتفطن بعض الذين أسلموا من أهل المدينة؛ لما فيه من أكل مال الناس؛ فأريد إيقاظهم لذلك؛ فكانت مقدمة لإصلاح أحوال المسلمين في المدينة مع تشنيع أحوال المشركين بمكة ويثرب بأنهم الذين سنوا التطفيف+.
وما أنسب هذا المقصد بأن تكون نزلت بين مكة والمدينة؛ لتطهير المدينة من فساد المعاملات التجارية قبل أن يدخل إليها النبي"لئلا يشهد فيها منكراً عاماً؛ فإن الكيل والوزن لا يخلو وقت عن التعامل بهما في الأسواق, وفي المبادلات.
وهي معدودة السادسة والثمانين في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة العنكبوت, وقبل سورة البقرة.
وعدد آيها ست وثلاثون. 30/187_188
2_ أغراضها: اشتملت على التحذيرِ من التطفيف في الكيل والوزن وتفظيعه بأنه تَحَيُّلٌ على أكلِ مالِ الناس في حال المعاملة أخذاً وإعطاءً.
وأن ذلك مما سيحاسبون عليه يوم القيامة.
وتهويلُ ذلك اليوم بأنه وقوفٌ عند ربهم؛ ليفصل بينهم, وليجازيهم على أعمالهم وأن الأعمال محصاة عند الله.
ووعيدُ الذين يكذبون بيوم الجزاء والذين يكذبون بأن القرآن منزل من عند الله.
وقوبل حالُهم بضدِّه مِنْ حالِ الأبرار أهل الإيمان, ورفعِ درجاتهم وإعلان كرامتهم بين الملائكة والمقربين, وذكر صور من نعيمهم.(1/328)
وانتقل من ذلك إلى وصف حال الفريقين في هذا العالم الزائل؛ إذ كان المشركون يسخرون من المؤمنين, ويلمزونهم, ويستضعفونهم, وكيف انقلب الحالُ في العالم الأبدي. 30/188_189
3_ والتطفيف: النقص عن حق المقدار في الموزون أو المكيل، وهو مصدر طفَّف إذ بلغ الطفافة, والطُفَاف بضم الطاء وتخفيف الفاء ما قَصُر عن ملء الإناء من شراب أو طعام، ويُقال: الطَفَّ بفتح الطاء دون هاء تأنيث، وتطلق هذه الثلاثة على ما تجاوز حرف المكيال مما يملأ به, وإنما يكون شيئاً قليلاً زائداً على ما ملأ الإناء؛ فمن ثمَّ سُمِّيت طفافة، أي قليل زيادة.
ولا نعرف له فعلاً مجرداً؛ إذ لم ينقل إلا بصيغة التفعيل، وفِعْلُه: طفَّف، كأنهم راعوا في صيغة التفعيل معنى التكلف والمحاولة؛ لأن المطفف يحاول أن ينقص الكيل دون أن يشعر به المكتال، ويقابله الوفاء. 30/189
4_ وهذه الآية تحذير للمسلمين من التساهل في التطفيف؛ إذ وجوده(1) فاشياً في المدينة في أول هجرتهم، وذم للمشركين من أهل المدينة وأهل مكة.
وحسبهم أن التطفيفَ يجمع ظلماً، واختلاساً، ولؤماً، والعرب كانوا يتعيرون بكل واحد من هذه الخلال متفرقة، ويتبرؤون منها، ثم يأتونها مجتمعة، وناهيك بذلك أفناً. 30/192
5_ [ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)].
جملة: [إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ] وما عطف عليها ابتدائية, وقد اشتملت الجملة ومعطوفاها على أنواع ثلاثة من الويل وهي الإهانة، والعذاب، والتقريع مع التأييس من الخلاص من العذاب.
فأما الإهانة فَحَجْبُهم عن ربهم، والحجب هو الستر، ويستعمل في المنع من الحضور لدى الملك, ولدى سيد القوم، قال الشاعر الذي لم يُسَمَّ وهو من شواهد الكشاف:
__________
(1) _ هكذا في الأصل, ولعل الصواب: إذ وجدوه. (م)(1/329)
إذا اعتروا باب ذي عُبِّيَّه رجبوا ... والناس من بين مرجوب ومحجوب
وكلا المعنيين مراد هنا؛ لأن المكذبين بيوم الدين لا يرون الله يوم القيامة حين يراه أهل الإيمان. 30/200_201
6_ و[يَنظُرُونَ] في موضع الحال من الأبرار, وحذف مفعول [يَنظُرُونَ] إما لدلالة ما تقدم عليه من قوله في ضدهم: [إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ] والتقدير: ينظرون إلى ربهم، وإما لقصد التعميم، أي ينظرون كلَّ ما يبهج نفوسهم، ويسرهم بقرينة مقاعد الوعد والتكريم. 30/205
7_ ومرادهم بالضلال: فساد الرأي؛ لأن المشركين لا يعرفون الضلال الشرعي، أي هؤلاء سيئوا الرأي؛ إذ اتبعوا الإسلام وانسلخوا عن قومهم، وفرَّطوا في نعيم الحياة؛ طمعاً في نعيمٍ بعد الموت, وأقبلوا على الصلاة والتخلق بالأخلاق التي يراها المشركون أوهاماً وعنتاً؛ لأنهم بمعزل عن مقدرةِ قَدْرِ الكمال النفساني, وما همهم إلا التلذذ الجثماني. 30/213
8_ ولم يعرج أحد من المفسرين على بيان مفاد جملة: [وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ] مع ما قبلها.
وقال المهايمي في تبصرة الرحمن: وإذا رأوهم يؤثرون الكمالات الحقيقية على الحسية, فقدر مفعولاً محذوفاً لفعل [رَأَوْهُمْ] لإبداء المغايرة بين مضمون هذه الجملة ومضمون الجمل التي قبلها, وقد علمت عدم الاحتياج إليه, ولقد أحسن في التنبيه عليه. 30/213
1_ سميت في زمن الصحابة (سورة إذا السماء انشقت) ففي الموطأ عن أبي سلمة: =أن أبا هريرة قرأ بهم إذا السماء انشقت, فسجد فيها, فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله"سجد فيها+.
فضمير (فِيهَا) عائد إلى: [إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ] بتأويل السورة، وبذلك عنونها البخاري والترمذي, وكذلك سماها في الإتقان.
سماها المفسرون وكُتَّابُ المصاحف (سورة الانشقاق) باعتبار المعنى، كما سميت السورة السابقة (سورة التطفيف) و(سورة انشقت) اختصاراً.(1/330)
وذكرها الجعبري في نظمه في تعداد المكي والمدني بلفظ (كَدْح) فيحتمل أنه عنى أنه اسم للسورة، ولم أقف على ذلك لغيره.
ولم يذكرها في الإتقان مع السور ذوات الأكثر من اسم.
وهي مكية بالاتفاق.
وقد عدت الثالثة والثمانين في تعداد نزول السور، نزلت بعد سورة الانفطار وقبل سورة الروم.
وعد آيها خمساً وعشرين أهل العدد بالمدينة ومكة والكوفة وعدها أهل البصرة والشام ثلاثاً وعشرين. 30/217
2_ أغراضها: ابتدئت بوصفِ أشراطِ الساعةِ، وحلولِ يومِ البعثِ، واختلاف أحوال الخلق يومئذ بين أهل نعيم وأهل شقاء. 30/217
3_ والانشقاق: هذا هو الانفطار الذي تقدم في قوله: [إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ] وهو انشقاق يلوح للناس في جو السماء من جراء اختلال تركيب الكرة الهوائية, أو من ظهور أجرام كوكبية تخرج عن دوائرها المعتادة في الجو الأعلى, فتنشق القبة الهوائية, فهو انشقاق يقع عند اختلال نظام هذا العالم. 30/218
4_ والأجر غير الممنون: هو الذي يعطاه صاحبه مع كرامة بحيث لا يعرض له بمنة كما أشار إليه قوله _تعالى_: [جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ونحوه مما ذكر فيه مع الجزاء سببه.
والمعنى: أن أجرهم سرور لهم لا تشوبه شائبة كدر؛ فإن المن ينغص الإنعام قال _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى].
وقال النابغة:
علي لعمرو نعمةٌ بعد نعمةٍ ... لوالده ليست بذات عقارب
30/235
1_ روى أحمد عن أبي هريرة: =أن رسول الله"كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج+.
وهذا ظاهر في أنها تسمى (سورة السماء ذات البروج) لأنه لم يحك لفظ القرآن؛ إذ لم يذكر الواو.
وأخرج أحمد _أيضاً_ عن أبي هريرة: =أن رسول الله " أمر أن يقرأ في العشاء بالسماوات+.
أي السماء ذات البروج, والسماء والطارق؛ فمجمعهما جمع سماء, وهذا يدل على أن اسم السورتين: سورة السماء ذات البروج، سورة السماء والطارق.(1/331)
وسميت في المصاحف وكتب السنة وكتب التفسير (سورة البروج).
وهي مكية باتفاق.
ومعدودة السابعة والعشرين في تعداد نزول السور، نزلت بعد سورة: [وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا] وسورة: [التِّينِ].
وآيها اثنتان وعشرون آية. 30/236
2_ من أغراض هذه السورة: ابتدئت أغراضُ هذه السورةِ بضرب المثل للذين فتنوا المسلمين بمكةَ بأنهم مثلُ قوم فَتَنوا فريقاً ممن آمن بالله؛ فجعلوا أخدوداً من نار؛ لتعذيبهم؛ ليكون المثلُ تثبيتاً للمسلمين, وتصبيراً لهم على أذى المشركين, وتذكيرِهم بما جرى على سلفهم في الإيمان من شدة التعذيب الذي لم ينلهم مثلُه, ولم يصدَّهم ذلك عن دينهم.
وإشعارُ المسلمين بأن قوةَ اللهِ عظيمةٌ؛ فسيلقى المشركون جزاءَ صنيعهم, ويلقى المسلمون النعيم الأبدي والنصر.
والتعريضُ للمسلمين بكرامتهم عند الله _تعالى_.
وضربُ المثلِ بقومِ فرعونَ وبثمودَ, وكيف كانت عاقبةُ أمرِهم ما كذبوا الرسل, فحصلت العبرةُ للمشركين في فتنهم المسلمين, وفي تكذيبهم الرسول"والتنويه بشأن القرآن. 30/236_237
3_ والبروج: تطلق على علامات من قُبَّةِ الجوِّ يتراءى للناظر أن الشمس تكون في سَمْتِها مدةَ شهر من أشهر السنة الشمسية؛ فالبروج: اسم منقول من اسم البرج بمعنى القصر؛ لأن الشمس تنزله, أو منقول من البرج بمعنى الحصن.
والبرج السماوي يتألف من مجموعة نجوم قريب بعضها من بعض لا تختلف أبعادها أبداً.
وإنما سمي برجاً؛ لأن المصطلحين تخيلوا أن الشمس تَحُلُّ فيه مدةً؛ فهو كالبرج، أي القصر، أو الحصن، ولما وجدوا كل مجموعة منها يخال منها شكل لو أحيط بإطار لخطٍّ مفروض لأشبه محيطها محيط صورة تخيلية لبعض الذوات من حيوان أو نبات أو آلات _ ميزوا بعض تلك البروج من بعض بإضافته إلى اسم ما تشبهه تلك الصورة تقريباً؛ فقالوا: برج الثور، برج الدلو، برج السنبلة مثلاً.(1/332)
وهذه البروج هي في التحقيق: سموت تقابلها الشمس في فلكها مدة شهر كامل من أشهر السنة الشمسية يوقتون بها الأشهر والفصول بموقع الشمس نهاراً في المكان الذي تطلع فيه نجوم تلك البروج ليلاً، وقد تقدم عند قوله _تعالى_: [تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً] في سورة الفرقان. 30/238
4_ والروايات كلها تقتضي أن المفتونين بالأخدود قوم اتبعوا النصرانية في بلاد اليمن على أكثر الروايات، أو في بلاد الحبشة على بعض الروايات، وذكرت فيها روايات متقاربة تختلف بالإجمال والتفصيل، والترتيب، والزيادة، والتعيين.
وأصحها ما رواه مسلم والترمذي عن صهيب أن النبي"قص هذه القصة على أصحابه.
وليس فيما روي تصريح بأن النبي"ساقها تفسيراً لهذه الآيةِ, والترمذيُّ ساق حديثها في تفسير سورة البروج.
وعن مقاتل كان الذين اتخذوا الأخاديد في ثلاث من البلاد في نجران، وبالشام، وبفارس.
أما الذين بالشام فـ(انطانيوس) الرومي، وأما الذي بفارق(1) فهو (بختنصر)، والذي بنجران فـ(يوسف ذو نواس).
ولنذكر القصة التي أشار إليها القرآن تؤخذ من سيرة ابن إسحاق على أنها جرت في نجران من بلاد اليمن، وأنه كان ملك وهو ذو نواس له كاهن أو ساحر, وكان للساحر تلميذ اسمه عبدالله بن الثامر, وكان يجد في طريقه إذا مشى إلى الكاهن صومعة فيها راهب كان يعبد الله على دين عيسى _عليه السلام_ ويقرأ الإنجيل اسمه (فيميون) بفاء، فتحتية, فميم، فتحتية وضبط في الطبعة الأوربية من سيرة ابن إسحاق _التي يلوح أن أصلها المطبوعة عليه أصل صحيح_ بفتح فسكون فكسر فضم.
__________
(1) _ هكذا في الأصل, والصواب بـ: فارس. (م).(1/333)
قال السهيلي: ووقع للطبري للقاف عوض الفاء, وقد يحرف, فيقال: ميمون بميم في أوله وبتحتية واحدة أصله من غسان من الشام, ثم ساح, فاستقر بنجران، وكان منعزلاً عن الناس مختفياً في صومعته, وظهرت لعبدالله في قومه كرامات, وكانت كلما ظهرت له كرامة دعا من ظهرت لهم إلى أن يتبعوا النصرانية؛ فكثر المنتصرون في نجران, وبلغ ذلك الملك ذا نواس وكان يهودياً, وكان أهل نجران مشركين يعبدون نخلة طويلة، فقتل الملك الغلام, وقتل الراهب, وأمر بأخاديد وجمع فيها حطب وأشعلت، وعرض أهل نجران عليها, فمن رجع عن التوحيد تركه, ومن ثبت على الدين الحق قذفه في النار.
فكان أصحاب الأخدود ممن عذب من أهل دين المسيحية في بلاد العرب, وقصص الأخاديد كثيرة في التاريخِ، والتعذيبُ بالحرق طريقةٌ قديمة، ومنها: نار إبراهيم _عليه السلام_.
وأما تحريق عمرو بن هند مائة من بني تميم, وتلقيبه بالمحرِّق _ فلا أعرف أن ذلك كان باتخاذ أخدود.
وقال ابن عطية: =رأيت في بعض الكتب أن أصحاب الأخدود هو محرق وآله الذي حرق من بني تميم مائة+. 30/241_242
5_ والأخدود: بوزن أفعول وهو صيغة قليلة الدوران غير مقيسة، ومنها قولهم: أفحوص مشتق من فحصت القطاة والدجاجة إذا بحثت في التراب موضعاً تبيض فيه، وقولهم أسلوب اسم لطريقة، ولِسَطْر النخل، وأقنوم اسم لأصل الشيء.
وقد يكون هذا الوزنُ مع هاء تأنيثٍ مثل أكرومة، وأعجوبة، وأطروحة، وأضحوكة. 30/242
6_ والذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات: هم مشركو قريش، وليس المراد أصحاب الأخدود؛ لأنه لا يلاقي قوله: [ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا] إذ هو تعريض بالترغيب في التوبة، ولا يلاقي دخول الفاء في خبر [إِنَّ] من قوله: [فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ] كما سيأتي.
وقد عُدَّ من الذين فتنوا المؤمنين أبو جهل رأس الفتنة ومُسْعِرُها، وأميةُ ابن خلف, وصفوان بن أمية، والأسود بن عبديغوث، والوليد بن المغيرة، وأم أنمار، ورجل من بني تيم.(1/334)
والمفتونون: عد منهم بلال بن رباح كان عبداً لأمية بن خلف, فكان يعذبه، وأبو فكيهة كان عبداً لصفوان بن أمية، وخباب بن الأرت كان عبداً لأم أنمار، وعمار بن ياسر، وأبوه ياسر، وأخوه عبدالله كانوا عبيداً لأبي حذيفة بن المغيرة؛ فوكَّل بهم أبا جهل، وعامر بن فهيرة كان عبداً لرجل من بني تيم.
والمؤمنات المفتونات منهن: حمامة أم بلال أمة أمية بن خلف، وزنيرة، وأم عنيس كانت أمة للأسود بن عبديغوث، والنهدية وابنتها كانتا للوليد بن المغيرة، ولطيفة، ولبينة بنت فهيرة كانت لعمر بن الخطاب قبل أن يسلم كان عمر يضربها، وسمية أم عمار بن ياسر كانت لعم أبي جهل.
وفتن ورجع إلى الشرك الحارث بن ربيعة بن الأسود، وأبو قيس بن الوليد ابن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاصي بن المنبه بن الحجاج.
وعطف [الْمُؤْمِنَاتِ] للتنويه بشأنهن؛ لئلا يظن أن هذه المزية خاصة بالرجال، ولزيادة تفظيع فعل الفاتنين بأنهم اعتدوا على النساءِ, والشأنُ أن لا يتعرض لهن بالغلظة. 30/245_246
7_ وضرب المثل بفرعون لأبي جهل, وكان يلقب عند المسلمين بفرعون هذه الأمة، وضرب المثل للمشركين بقوم فرعون؛ لأنهم أكبر أمة تألَّبت على رسول من رسل الله بعثه الله لإعتاق بني إسرائيل من ذل العبودية لفرعون، وناووه؛ لأنه دعا إلى عبادة الرب الحق؛ فغاظ ذلك فرعون الزاعم أنه إله القبط, وابن آلهتهم. 30/251
1_ روى أحمد بن حنبل عن أبي هريرة: =أن رسول الله " كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج والطارق+ا هـ.
فسماها أبو هريرة (السماء والطارق) لأن الأظهر أن الواو من قوله والسماء والطارق واو العطف، ولذلك لم يذكر لفظ الآية الأولى منها, بل أخذ لها اسماً من لفظ الآية كما قال في (السماء ذات البروج).
وسميت في كتب التفسير, وكتب السنة, وفي المصاحف (سورة الطارق) لوقوع هذا اللفظ في أولها.
وفي تفسير الطبري وأحكام ابن العربي ترجمت سورة (والسماء والطارق).(1/335)
وهي سبع عشرة آية.
وهي مكية بالاتفاق نزلت قبل سنة عشر من البعثة, أخرج أحمد بن حنبل عن خالد بن أبي جبل العدواني أنه أبصر رسول الله"في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصا حين أتاهم يبتغي عندهم النصر, فسمعته يقول: [وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ] حتى ختمها قال: =فوعيتها في الجاهلية ثم قرأتها في الإسلام+ الحديث.
وعددها في ترتيب نزول السور السادسة والثلاثين, نزلت بعد سورة: [لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ] وقبل سورة: [اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ]. 30/257
2_ أغراضها: إثباتُ إحصاءِ الأعمالِ, والجزاءِ على الأعمال.
وإثباتُ إمكانِ البعثِ بنقض ما أحاله المشركون ببيان إمكانِ إعادةِ الأجسام.
وأدمج في ذلك التذكيرُ بدقيق صنعِ الله وحكمتِه في خلق الإنسان.
والتنويهُ بشأن القرآن.
وصدقُ ما ذُكِرَ فيه من البعث؛ لأن إخبارَ القرآنِ به لمَّا استبعدوه, وموهوا على الناس بأن ما فيه غير صدق, وتهديد المشركين الذين ناووا المسلمين.
وتثبيتُ النبي"وَوَعْدُه بأن اللهَ منتصرٌ له غير بعيد. 30/257_258
3_ والصُّلب: العمود العظمي الكائن في وسط الظهر، وهو ذو الفقرات.
والترائب: جمع تريبة، ويقال: تريب, ومحررُ أقوال اللغويين فيها أنها عظام الصدر التي بين الترقوتين والثديين ووسموه بأنه موضع القلادة من المرأة.
والترائب تضاف إلى الرجل وإلى المرأة، ولكن أكثر وقوعها في كلامهم في أوصاف النساء؛ لعدم احتياجهم إلى وصفها في الرجال.
وقوله: [يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ] الضمير عائد إلى: [مَاءٍ دَافِقٍ] وهو المتبادر؛ فتكون جملة يخرج حالاً من [مَاءٍ دَافِقٍ] أي يمر ذلك الماء بعد أن يُفْرَزَ من بين صلب الرجل وترائبه.(1/336)
وبهذا قال سفيان والحسن، أي أن أصلَ تَكَوُّنِ ذلك الماء وتنقله من بين الصلب والترائب، وليس المعنى أنه يمر بين الصلب والترائب؛ إذ لا يتصور ممر بين الصلب والترائب؛ لأن الذي بينهما هو ما يحويه باطن الصدر والضلوع من قلب ورئتين.
فجعل الإنسان مخلوقاً من ماء الرجل؛ لأنه لا يتكون جسم الإنسان في رحم المرأة إلا بعد أن يخالطها ماء الرجل؛ فإذا اختلط ماء الرجل بما يسمى ماء المرأة وهو شيء رطب كالماء يحتوي على بويضات دقيقة يثبت منها ما يتكوَّن منه الجنين, ويطرح ما عداه.
وهذا مخاطبةٌ للناس بما يعرفون يومئذ بكلامٍ مجملٍ مع التنبيه على أن خلق الإنسان من ماء الرجل وماء المرأة بذكر الترائب؛ لأن الأشهر أنها لا تطلق إلا على ما بين ثديي المرأة.
ولا شك أن النسلَ يتكون من الرجل والمرأة, فيتكون من ماء الرجل وهو سائل فيه أجسام صغيرة تسمى في الطب الحيوانات المنوية، وهي خيوط مستطيلة مؤلفة من طرف مُسَطَّح بيضوي الشكل، وذنب دقيق كخيط، وهذه الخيوط يكون منها تلقيح النسل في رحم المرأة, ومقرها الأنثيان, وهما الخصيتان فيندفع إلى رحم المرأة.
ومن ماء هو للمرأة كالمني للرجل, ويسمى ماء المرأة، وهو بويضات دقيقة كروية الشكل تكون في سائل مقره حويصلة من حويصلات يشتمل عليها مبيضان للمرأة, وهما بمنزلة الأنثيين للرجل؛ فهما غدتان تكونان في جانبي رحم المرأة، وكل مبيض يشتمل على عدد من الحويصلات يتراوح من عشر إلى عشرين.
وخروج البيضة من الحويصلة يكون عند انتهاء نمو الحويصلة, فإذا انتهى نموها انفجرت, فخرجت البيضة في قناة تبلغ بها إلى تجويف الرحم، وإنما يتم بلوغ البيضة النمو وخروجها من الحويصلة في وقت حيض المرأة؛ فلذلك يكثر العلوق إذا باشر الرجل المرأة بقرب انتهاء حيضها.(1/337)
وأصل مادة كلا الماءين مادة دموية تنفصل عن الدماغ, وتنزل في عرقين خلف الأذنين، فأما في الرجل فيتصل العرقان بالنخاع، وهو الصلب, ثم ينتهي إلى عرق ما يسمى الحبل المنوي مؤلف من شرايين وأوردة وأعصاب, وينتهي إلى الانثيين, وهما الغدتان اللتان تفرزان المني, فيتكون هنالك بكيفية دهنية, وتبقى منتشرة في الأنثيين إلى أن تفرزها الأنثيان مادة دهنية شحمية, وذلك عند دغدغة ولذع القضيب المتصل بالأنثيين, فيندفق في رحم المرأة.
وأما بالنسبة إلى المرأة فالعرقان اللذان خلف الأذنين يمران بأعلى صدر المرأة وهو الترائب؛ لأن فيه موضع الثديين وهما من الأعضاء المتصلة بالعروق التي يسير فيها دم الحيض الحامل للبويضات التي منها النسل.
والحيض يسيل من فوهات عروق في الرحم، وهي عروق تنفتح عند حلول إبَّان المحيض، وتنقبض عقب الطهر, والرحم يأتيها عصب من الدماغ.
وهذا من الإعجاز العلمي في القرآن الذي لم يكن علم به للذين نزل بينهم، وهو إشارة مجملة, وقد بينها حديث مسلم عن أم سلمة وعائشة: =أن رسول الله"سئل عن احتلام المرأة، فقال: تغتسل إذا أبصرت الماء فقيل له: أترى المرأة ذلك فقال: =وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك إذا علا ماءُ المرأة ماءَ الرجل أشبه الولد أخواله, وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه+. 30/263_264
1_ هذه السورة وردت تسميتها في السنة سورة: [سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى] ففي الصحيحين عن جابر بن عبدالله قال: =قام معاذ فصلى العشاء الآخرة، فطوَّل، فشكاه بعض من صلى خلفه إلى النبي"فقال النبي: =أفتان أنت يا معاذ أين كنت عن سبح اسم ربك الأعلى, والضحى+ ا هـ.
وفي صحيح البخاري عن البراء بن عازب قال: =ما جاء رسول الله"المدينة حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى+ في سور مثلها.
وروى الترمذي عن النعمان بن بشير: =أن رسول الله"كان يقرأ في العيد ويوم الجمعة سبح اسم ربك الأعلى, وهل أتاك حديث الغاشية+.(1/338)
وسمتها عائشة (سبح) روى أبو داود والترمذي عنها: =كان النبي يقرأ في الوتر في الركعة الأولى سبح+ الحديث.
فهذا ظاهر في أنها أرادت التسمية؛ لأنها لم تأتِ بالجملة القرآنية كاملة، وكذلك سماها البيضاوي وابن كثير؛ لأنها اختصت بالافتتاح بكلمة (سَبِّحْ) بصيغة الأمر.
وسماها أكثر المفسرين, وكتَّابُ المصاحف (سورة الأعلى) لوقوع صفة الأعلى فيها دون غيرها.
وهي مكية في قول الجمهور, وحديث البراء بن عازب الذي ذكرناه آنفاً يدل عليه، وعن ابن عمر وابن عباس أن قوله _تعالى_: [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى] نزل في صلاة العيد وصدقة الفطر، أي فهما مدنيتان؛ فتكون السورة بعضها مكي, وبعضها مدني.
وعن الضحاك أن السورة كلها مدنية.
وما اشتملت عليه من المعاني يشهد لكونها مكية, وحسبك بقوله _تعالى_: [سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى].
وهي معدودة ثامنة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد، نزلت بعد سورة التكوير, وقبل سورة الليل.
وروي عن ابن عباس، وعكرمة، والحسن أنها سابعة قالوا: أول ما نزل من القرآن: اقرأ باسم ربك، ثم ن، ثم المزمل، ثم المدثر، ثم تبت، ثم إذا الشمس كورت، ثم سبح اسم ربك.
وأما جابر بن زيد فعد الفاتحة بعد المدثر, ثم عدَّ البقية؛ فهي عنده ثامنة؛ فهي من أوائل السور وقوله _تعالى_: [سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى] ينادي على ذلك.
وعدد آيها تسع عشرة آية باتفاق أهل العدد. 30/271_272
2_ أغراضها: اشتملت على تنزيه الله _تعالى_ والإشارةُ إلى وحدانيته؛ لانفراده بخلق الإنسان, وخلقِ ما في الأرض مما فيه بقاؤه.
وعلى تأييد النبي"وتثبيته على تلقي الوحي.
وأن اللهَ معطيه شريعةً سمحةً, وكتاباً يتذكر به أهلُ النفوسِ الزكيةِ الذين يخشون ربَّهم، ويُعْرِضُ عنهم أهلُ الشقاوةِ الذين يؤثرون الحياة الدنيا, ولا يعبأون بالحياة الأبدية.(1/339)
وأن ما أوحي إليه يصدِّقه ما في كتب الرسل من قبله, وذلك كلُّه تهوين لما يلقاه من إعراض المشركين. 30/272
3_ [ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى] بعد أن ثبَّت الله رسوله"تكفل له ما أزال فَرَقَهُ من أعباء الرسالة, وما اطمأنت به نفسه من دفع ما خافه من ضعف عن أدائه الرسالةَ على وجهها, وتكفَّل له دفْعَ نسيانِ ما يُوحَى إليه إلا ما كان إنساؤه مراداً لله _تعالى_ ووعده بأنه وفَّقَهُ وهيَّأه لذلك, ويسَّره عليه؛ إذ كان الرسول"وهو في مبدأ عهده بالرسالة _ إذ كانت هذه السورة ثامنة السور _ لا يعلم ما سيتعهد الله به, فيخشى أن يقصر عن مراد الله؛ فيلحقه غضب منه أو ملام.
أعقب ذلك بأن أمره بالتذكير، أي التبليغ، أي بالاستمرار عليه؛ إرهافاً لعزمه، وشحذاً لنشاطه؛ ليكون إقباله على التذكير بشراشره؛ فإن امتثال الأمر إذا عاضده إقبالُ النفس على فعل المأمور به كان فيه مسرة للمأمور؛ فجمع بين أداء الواجب, وإرضاء الخاطر. 30/283_284
1_ سميت في المصاحف والتفاسير (سورة الغاشية) وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه؛ لوقوع لفظ (الْغَاشِيَةِ) في أولها.
وثبت في السنة تسميتها: [هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ] ففي الموطأ أن الضحاك ابن قيس سأل النعمان بن بشير: =بم كان رسول الله يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة? قال: هل أتاك حديث الغاشية+.
وهذا ظاهر في التسمية؛ لأن السائل سأل عما يقرأ مع سورة الجمعة, فالمسؤول عنه السورة الثانية، وبذلك عنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه.
وربما سميت (سورة هل أتاك) بدون كلمة (حديث الغاشية).
وبذلك عنونها ابن عطية في تفسيره وهو اختصار.
وهي مكية بالاتفاق, وهي معدودة السابعة والستين في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة الذاريات وقبل سورة الكهف.
وآياتها ست وعشرون. 30/293(1/340)
2_ أغراضها: اشتملت هذه السورة على تهويلِ يومِ القيامة, وما فيه من عقاب قوم مشوهةٍ حالتُهم، ومن ثواب قومٍ ناعمةٍ حالتُهم, وعلى وجه الإجمال المرهِّب أو المرغِّب.
والإيماءِ إلى ما يبين ذلك الإجمالَ كلَّه بالإنكار على قوم لم يهتدوا بدلالة مخلوقات من خلق الله _وهي نُصْبَ أعينهم_ على تفرده بالإلهية؛ فيعلم السامعون أن الفريق المهدد هم المشركون.
وعلى إمكان إعادته بعض مخلوقاته خلقاً جديداً بعد الموت يوم البعث.
وتثبيت النبي"على الدعوة إلى الإسلام, وأن لا يعبأ بإعراضهم.
وأن وراءهم البعثَ؛ فهم راجعون إلى الله, فهو مجازيهم على كفرهم, وإعراضهم. 30/293_294
1_ لم يختلف في تسمية هذه السورة (سورة الفجر) بدون الواو في المصاحف, والتفاسير, وكتب السنة.
وهي مكية باتفاق سوى ما حكى ابن عطية عن أبي عمرو الداني أنه حكى عن بعض العلماء أنها مدنية.
وقد عُدَّتِ العاشرة في عداد نزول السور, نزلت بعد سورة الليل, وقبل سورة الضحى.
وعدد آيها اثنتان وثلاثون عند أهل العدد بالمدينة، ومكة عدوا قوله: [وَنَعَّمَهُ] منتهى آية، وقوله: [رِزْقَهُ] منتهى آية.
ولم يعدها غيرهم منتهى آية، وهي ثلاثون عند أهل العدد بالكوفة والشام, وعند أهل البصرة تسع وعشرون.
فأهل الشام عدوا: [بِجَهَنَّمَ] منتهى آية, وأهل الكوفة عدوا: [فِي عِبَادِي] منتهى آية. 30/311
2_ أغراضها: حَوَتْ من الأغراضِ ضربَ المثلِ لمشركي أهل مكة في إعراضهم عن قبول رسالة ربهم بمثل عادٍ وثمودَ وقومِ فرعونَ.
وإنذارُهم بعذاب الآخرة, وتثبيتُ النبي"مع وعده باضمحلال أعدائه.
وإبطالُ غرورِ المشركين من أهل مكة؛ إذ يحسبون أن ما هم فيه من النعيم علامةٌ على أن الله أكرمهم, وأن ما فيه المؤمنون من الخصاصة علامةٌ على أن الله أهانهم.
وأنهم أضاعوا شكرَ الله على النعمة؛ فلم يواسوا ببعضها الضعفاء, وما زادتهم إلا حرصاً على التكثر منها.(1/341)
وأنهم يندمون يوم القيامة على أن لم يقدموا لأنفسهم من الأعمال ما ينتفعون به يوم لا ينفع نفساً مالُها ولا ينفعها إلا إيمانها, وتصديقها بوعد ربها؛ وذلك ينفع المؤمنين بمصيرهم إلى الجنة. 30/311_312
3_ [فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلاَّ].
والمعنى: هذا شأن ربك الجاري على وفق علمه وحكمته.
فأما الإنسان الكافر فيتوهم خلاف ذلك؛ إذ يحسب أن ما يناله من نعمة وسعة في الدنيا تكريماً من الله له، وما يناله من ضيق عيش إهانة أهانه الله بها.
وهذا التوهم يستلزم ظنهم أفعال الله _تعالى_ جارية على غير حكمة, قال _تعالى_: [وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ].
فأعلم الله رسوله"والمؤمنين بالحقيقة الحق ونبههم لتجنب تخليط الدلائل الدقيقة السامية، وتجنب تحكيم الواهمة والشاهية، وذكرهم بأن الأحوال الدنيوية أعراض زائلة ومتفاوتة الطول والقصر.
وفي ذلك كله إبطال لمعتقد أهل الشرك وضلالهم الذي كان غالباً على أهل الجاهلية؛ ولذلك قال النابغة في آل غسان الذين لم يكونوا مشركين, وكانوا متدينين بالنصرانية:
مجلتهم ذاتُ الإلهِ ودينُهم ... قويمٌ فما يرجون غيرَ العواقب
ولا يحسبون الخيرَ لا شرَّ بعده ... ولا يحسبون الشرَّ ضربةَ لازبِ
وقد أعقب الله ذلك بالردع والإبطال بقوله: [كَلاَّ] فمناط الردع والإبطال كلا القولين؛ لأنهما صادران عن تأويل باطل, وشبهة ضالة كما ستعرفه عند قوله _تعالى_: [فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ].(1/342)
واقتصار الآية على تقتير الرزق في مقابلة النعمة دون غير ذلك من العلل والآفات؛ لأن غالب أحوال المشركين المتحدث عنهم صحة المزاج وقوة الأبدان؛ فلا يهلكون إلا بقتل أو هرم فيهم، وفي ذويهم قال النابغة:
غشى متالف لا ينظرنك الهرما
ولم يعرج أكثر المفسرين على بيان نظم الآية واتصالها بما قبلها عدا الزمخشري وابن عطية.
وقد عرف هذا الاعتقاد الضال من كلام أهل الجاهلية, قال طرفة:
فلو شاء ربي كنت قيس بن عاصم(1)
ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي
بنون كرام سادة لمسود
وجعلوا هذا الغرور مقياساً لمراتب الناس, فجعلوا أصحاب الكمال أهل المظاهر الفاخرة، ووصموا بالنقص أهل الخصاصة وضعفاء الناس؛ لذلك لما أتى الملأ من قريش ومن بني تميم وفزارة للنبي"وعنده عمار، وبلال، وخباب، وسالم مولى أبي حذيفة، وصبيح مولى أسيد، وصهيب، في أناس آخرين من ضعفاء المؤمنين قالوا للنبي: =أطردهم عنك؛ فلعلك إن طردتهم أن نتبعك+.
وقالوا لأبي طالب: =لو أن ابنَ أخيك طرد هؤلاء الأعبدَ والحلفاءَ كان أعظم له في صدورنا, وأدلى لاتباعنا إياه+.
وفي ذلك نزل قوله _تعالى_: [وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ] الآية كما تقدم في سورة الأنعام.
__________
(1) _ هكذا في الأصل، والصواب: ... (م)
0@.............................. قيس بن خالد(1/343)
فنبه الله على خطأ اعتقادهم بمناسبة ذكر مماثله مما اعتقده الأمم قبلهم الذي كان موجباً صَبَّ العذاب عليهم، وأعلمهم أن أحوال الدنيا لاتتخذ أصلاً في اعتبار الجزاء على العمل، وأن الجزاء المطَّرد هو جزاء يوم القيامة. 30/325_326 4_ واعلم أن من ضلال أهل الشرك, ومن فتنة الشيطان لبعض جهلة المؤمنين أن يخيل إليهم ما يحصل لأحد بجعل الله من ارتباط المسببات بأسبابها, والمعلولات بعللها؛ فيضعوا ما يصادف نفعَ أحدِهم من الحوادث موضعَ كرامةٍ من الله للذي صادفته منافع ذلك؛ تحكيماً للشاهية, ومحبة النفس, ورجماً بالغيب, وافتياتاً على الله.
وإذا صادف أحدهم من الحوادث ما جلب له ضراً تخيَّله بأوهامه انتقاماً من الله قصده به؛ تشاؤماً منهم.
فهؤلاء الذين زعموا ما نالهم من نعمة الله إكراماً من الله لهم ليسوا أهلاً لكرامة الله.
وهؤلاء الذين توهموا ما صادفهم من فتور الرزق إهانة من الله لهم ليسوا بأحط عند الله من الذين زعموا أن الله أكرمهم بما هم فيه من نعمة.
فذلك الاعتقاد أوجب تغلغل أهل الشرك في إشراكهم, وصرف أنظارهم عن التدبر فيما يخالف ذلك، وربما جرت الوساوس الشيطانية فتنة من ذلك لبعض ضعفاء الإيمان, وقصار الأنظار والجهال بالعقيدة الحق كما أفصح أحمد ابن الراوندي(1) عن تزلزل فهمهم، وقلة علمه بقوله:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأفهام حائرة ... وصيَّر العالم النحرير زنديقا
وذلك ما صرف الضالين عن تطلب الحقائق من دلائلها، وصرفهم عن التدبر فيما ينيل صاحبه رضى الله وما يوقع في غضبه.
__________
(1) _ هو أحمد بن يحيى أبو الحسين ابن الراوندي بواو مفتوحة ثم نون ساكنة نسبة إلى راوند قرية من قرى قاسان بنواحي أصبهان, كان من المعتزلة ثم صار ملحداً توفي سنة خمسين ومائتين, وقيل: سنة خمس وأربعين, وقيل: سنة ثمان وتسعين.(1/344)
وعِلْمُ اللهِ واسعُ, وتصرفاته شتى, وكلها صادرة عن حكمة [وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ].
فقد يأتي الضر للعبد من عدة أسباب, وقد يأتي النفع من أخرى, وبعض ذلك جار في الظاهر على المعتاد، ومنه ما فيه سِمَةُ خرقِ العادة, فربما أتت الرزايا من وجوه الفوائد، والموفق يتيقظ للأمارات.
قال _تعالى_: [فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ].
وقال: [وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ] وقال: [أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ].
وتصرفات الله متشابهة بعضها يدل على مراده من الناس, وبعضها جارٍ على ما قدره من نظام العالم.
وكل قد قضاه وقدره, وسبق علمه به, وربط مسبباته بأسبابه مباشرة أو بواسطة أو وسائط.
والمتبصر يأخذ بالحيطة لنفسه وقومه, ولا يقول على الله ما يمليه عليه وهْمُهُ, ولم تنهض دلائله، ويفوض ما أشكل عليه إلى علم الله.
وليس مثل هذا المحكي عنهم من شأن المسلمين المهتدين بهدي النبي" والمتبصرين في مجاري التصرفات الربانية.
وقد نجد في بعض العوام ومن يشبههم من الغافلين بقايا من اعتقاد أهل الجاهلية لإيجاد التخيلات التي تمليها على عقولهم؛ فالواجب عليهم أن يتعظوا بموعظة الله في هذه الآية.(1/345)
لا جرم أن الله قد يعجل جزاء الخير لبعض الصالحين من عباده كما قال: [مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً].
وقد يعجل العقاب لمن يغضب عليه من عباده, وقد حكي عن نوح قوله لقومه: [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ] وقال _تعالى_: [وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً].
ولهذه المعاملة علامات أظهرها أن تجري على خلاف المألوف كما نرى في نصر النبي"والخلفاء على الأمم العظيمة القاهرة, وتلك مواعيد من الله يحققها, أو وعيد منه يحيق بمستحقيه. 30/327_328
1_ سميت هذه السورة في ترجمتها عن صحيح البخاري (سورة لا أقسم) وسميت في المصاحف وكتب التفسير (سورة البلد).
وهو إما على حكاية اللفظ الواقع في أولها, وإما لإرادة البلد المعروف وهو مكة.
وهي مكية، وحكى الزمخشري والقرطبي الاتفاق عليه, واقتصر عليه معظم المفسرين, وحكى ابن عطية عن قوم: أنها مدنية.
ولعل هذا قول مَنْ فسر قوله: [وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ] أن الحلَّ الإذنُ له في القتال يوم الفتح, وحمل [وَأَنْتَ حِلٌّ] على معنى: وأنت الآن حل، وهو يرجع إلى ما روى القرطبي عن السدي وأبي صالح, وعُزِي لابن عباس.
وقد أشار في الكشاف إلى إبطاله بأن السورة نزلت بمكة بالاتفاق، وفي رده بذلك مصادرة؛ فالوجه أن يورد بأن في قوله: [أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ] إلى قوله: [فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ] ضمائر غيبة يتعين عودها إلى الإنسان في قوله: [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ] وإلا لخلت الضمائر عن معاد.
وحكى في الإتقان قولاً أنها مدنية إلا الآيات الأربع من أولها.(1/346)
وقد عدت الخامسة والثلاثين في عدد نزول السور، نزلت بعد سورة ق وقبل سورة الطارق.
وعدد آيها عشرون آية. 30/345
2_ أغراضها: حوتْ من الأغراضِ التنويهَ بمكةَ, وبمُقامِ النبي"بها, وبركتِه فيها وعلى أهلها.
والتنويهَ بأسلاف النبي"من سكانها الذين كانوا من الأنبياء مثلِ إبراهيم وإسماعيل, أو من أتباع الحنيفية مثل عدنان ومضر.
والتخلصَ إلى ذمِّ سيرةِ أهل الشرك, وإنكارهم البعث, وما كانوا عليه من التفاخرِ المُبَالَغِ فيه، وما أهملوه من شُكْرِ النعمة على الحواس، ونعمةِ النطق، ونعمةِ الفكر، ونعمةِ الإرشاد؛ فلم يشكروا ذلك بالبذل في سبل الخير وما فرطوا فيه من خصال الإيمان وأخلاقه.
ووعيدَ الكافرين، وبشارةُ الموقنين. 30/345_346
3_ [أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ] تعليل للإنكار والتوبيخ في قوله: [أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ] أو قوله: [أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ] أي هو غافل عن قدرة الله _تعالى_ وعن علمه المحيط بجميع الكائنات الدال عليهما أنه خلق مشاعر الإدراك التي منها العينان، وخلق آلات الإبانة وهي اللسان والشفتان، فكيف يكون مفيض العلم على الناس غير قادر وغير عالم بأحوالهم قال _تعالى_: [أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ]؟.
والاستفهام يجوز أن يكون تقريرياً, وأن يكون إنكارياً.
والاقتصار على العينين؛ لأنهما أنفع المشاعر, ولأن المعلل إنكار ظنه إن لم يره أحد, وذكر الشفتين مع اللسان؛ لأن الإبانة تحصل بهما معاً؛ فلا ينطق اللسان بدون الشفتين، ولا تنطق الشفتان بدون اللسان.
ومن دقائق القرآن أنه لم يقتصر على اللسان, ولا على الشفتين خلاف عادة كلام العرب أن يقتصروا عليه يقولون: ينطق بلسان فصيح، ويقولون: لم ينطق ببنت شفة، أو لم ينبس ببنت شفة؛ لأن المقام مقام استدلال؛ فجيء فيه بما له مزيد تصوير لخلق آلة النطق.(1/347)
وأعقب ما به اكتساب العلم, وما به الإبانة عن المعلومات بما يرشد الفكر إلى النظر والبحث, وذلك قوله: [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ].
فاستكمل الكلام أصول التعلم والتعليم؛ فإن الإنسان خلق محباً للمعرفة محباً للتعريف بمشاعر الإدراك, يكتسب المشاهدات, وهي أصول المعلومات اليقينية، وبالنطق يفيد ما يَعْلَمه لغيره، وبالهدي إلى الخير والشر يميز بين معلوماته, ويمحصها. 30/353_354
4_ [أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)].
لما نوه بالذين آمنوا أعقب التنويه بالثناء عليهم, وبشارتهم مفتتحاً باسم الإشارة؛ لتميزهم أكمل تمييز لإحضارهم بصفاتهم في ذهن السامع مع ما في اسم الإشارة من إرادة التنويه والتعظيم.
والميمنة جهة اليمين، فهي مفعلة للمكان مأخوذة من فعل يَمَنَهُ (فعلاً ماضياً) إذا كان على يمينه، أي على جهة يده اليمنى، أو مأخوذة من يمنه الله يمناً، إذا باركه.
وإحدى المادتين مأخوذة من الأخرى، قيل: سميت اليد اليمنى يميناً, ويمنى؛ لأنها أعود نفعاً على صاحبها في يسر أعماله؛ ولذلك سمي بلاد اليمن يمناً؛ لأنها عن جهة يمين الواقف مستقبلاً الكعبة من بابها, لأن باب الكعبة شرقي؛ فالجهة التي على يمين الداخل إلى الكعبة هي الجنوب وهي جهة بلاد اليمن, وكانت بلاد اليمن مشهورة بالخيرات؛ فهي ميمونة, وكان جغرافيو اليونان يصفونها بالعربية السعيدة.
وتفرع على ذلك اعتبارهم ما جاء عن اليمين من الوحش والطير مبشراً بالخير في عقيدة أهل الزجر والعيافة؛ فالأيامن الميمونة، قال المرقش يُفَنِّد ذلك:
فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم
ونشأ على اعتبار عكس ذلك تسمية بلاد الشام شأماً بالهمز مشتقة من الشؤم؛ لأن بلاد الشام من جهة شمال الداخل إلى الكعبة.
وقد أبطل الإسلام ذلك بقول النبي":=اللهم بارك لنا في شأمنا وفي يمننا+.(1/348)
وما تسميتهم ضد اليد اليمنى يساراً إلا لإبطال ما يتوهم من الشؤم فيها.
ولما كانت جهة اليمين جهة مكرمة تعارفوا الجلوس على اليمين في المجامع؛ كرامةً للجالس، وجعلوا ضدهم بعكس ذلك.
وقد أبطله الإسلام, فكان الناس يجلسون حين انتهى بهم المجلس.
وسمي أهل الجنة [أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ] و[أَصْحَابِ الْيَمِينِ] وسمي أهل النار [أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ] و[وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ] في سورة الواقعة، فقوله: [أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ] أي أصحاب الكرامة عند الله.
وقوله: [هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ] أي هم محقَّرون, وذلك كناية مبنية على عرف العرب يومئذ في مجالسهم, ولا ميمنة ولا مشأمة على الحقيقة؛ لأن حقيقة الميمنة والمشأمة تقتضيان حيزاً لمن تنسب إليه الجهة. 30/362_363
1_ سميت هذه السورة في المصاحف وفي معظم كتب التفسير (سورة الشمس) بدون واو, وكذلك عنونها الترمذي في جامعه بدون واو في نسخ صحيحة من جامع الترمذي, ومن عارضة الأحوذي لابن العربي.
وعنونها البخاري سورة (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) بحكاية لفظ الآية، وكذلك سميت في بعض التفاسير وهو أولى أسمائها؛ لئلا تلتبس على القارئ بسورة إذا الشمس كورت المسماة سورة التكوير.
ولم يذكرها في الإتقان مع السور التي لها أكثر من اسم.
وهي مكية بالاتفاق.
وعُدَّت السادسة والعشرين في عدد نزول السور، نزلت بعد سورة القدر، وقبل سورة البروج.
وآياتها خمس عشرة آية في عدد جمهور الأمصار، وعدَّها أهل مكة ست عشرة آية. 30/365
2_ أغراضها: تهديدُ المشركين بأنهم يُوشِكُ أن يصيبهم عذابٌ بإشراكهم وتكذيبهم برسالة محمد"كما أصاب ثمودَ بإشراكهم وعتوِّهم على رسول الله إليهم الذي دعاهم إلى التوحيد.(1/349)
وقُدِّم لذلك تأكيدُ الخبر بالقسم بأشياءَ معظمةٍ, وذُكِرَ منْ أحوالها ما هو دليل على بديع صنع الله _تعالى_ الذي لا يشاركه فيه غيرُه؛ فهو دليلٌ على أنه المنفردُ بالإلهية, والذي لا يستحق غيرُه الإلهية.
وخاصةُ أحوالِ النفوسِ ومراتبها في مسالك الهدى والضلال, والسعادة والشقاء. 30/365_366
3_ وفي الآية إشارة إلى أن نور القمر مستفاد من نور الشمس، أي من توجه أشعة الشمس إلى ما يقابل الأرض من القمر، وليس نيراً بذاته، وهذا إعجاز علمي من إعجاز القرآن, وهو مما أشرت إليه في المقدمة العاشرة. 30/367
4_ وابتدئ بالشمس؛ لمناسبة المقام؛ إيماءً للتنويه بالإسلام, لأن هديه كنور الشمس لا يترك للضلال مسلكاً.
وفيه إشارة إلى الوعد بانتشاره في العالم كانتشار نور الشمس في الأفق، واتبع بالقمر؛ لأنه ينير في الظلام كما أنار الإسلام في ابتداء ظهوره في ظلمة الشرك، ثم ذكر النهار والليل معه, لأنهما مَثَلٌ لوضوح الإسلام بعد ضلالة الشرك, وذلك عكس ما في سورة الليل لما يأتي.
ومناسبة استحضارِ السماء عقب ذكر الشمس والقمر، واستحضار الأرض عقب ذكر النهار والليل _ واضحة، ثم ذكرت النفس الإنسانية؛ لأنها مظهر الهدى والضلال, وهو المقصود. 30/367
5_ والإلهام: مصدر ألهم، وهو فعل متعدٍّ بالهمزة, ولكن المجرد منه مُمَاتٌ(1).
والإلهام اسم قليل الورود في كلام العرب, ولم يذكر أهل اللغة شاهداً له من كلام العرب.
ويطلق الإلهام إطلاقاً خاصاً على حدوث علم في النفس بدون تعليم, ولا تجربة, ولا تفكير؛ فهو علم يحصل من غير دليل سواء ما كان منه وجدانياً كالانسياق إلى المعلومات الضرورية والوجدانية، وما كان منه عن دليل كالتجريبيات والأمور الفكرية النظرية.
وإيثار هذا الفعل هنا؛ ليشمل جميع علوم الإنسان، قال الراغب: =الإلهام: إيقاع الشيء في الرُّوع, ويختص ذلك بما كان من جهة الله _تعالى_ وجهة الملأ الأعلى+ ا هـ.
__________
(1) _ يعني لا يستعمل. (م)(1/350)
ولذلك فهذا اللفظ إن لم يكن من مبتكرات القرآن يكن مما أحياه القرآن؛ لأنه اسم دقيق الدلالة على المعاني النفسية, وقليلٌ رواجُ أمثالِ ذلك في اللغة قبل الإسلام؛ لقلة خُطور مثل تلك المعاني في مخاطبات عامة العرب.
وهو مشتق من اللَّهم وهو البلع دفعة، يقال: لَهَمَ كفرح، وأما إطلاق الإلهام على علم يحصل للنفس بدون مستند فهو إطلاق اصطلاحي للصوفية. 30/369_370
1_ سميت هذه السورة في معظم المصاحف وبعض كتب التفسير (سورة الليل) بدون واو، وسميت في معظم كتب التفسير (سورة والليل) بإثبات الواو، وعنونها البخاري والترمذي (سورة والليل إذا يغشى).
وهي مكية في قول الجمهور، واقتصر عليه كثير من المفسرين، وحكى ابن عطية عن المهدوي أنه قيل: إنها مدنية، وقيل: بعضها مدني، وكذلك ذكر الأقوال في الإتقان، وأشار إلى أن ذلك لما روي من سبب نزول قوله _تعالى_: [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى] إذ روي أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري في نخلة كان يأكل أيتام من ثمرها, وكانت لرجل من المنافقين؛ فمنعهم من ثمرها؛ فاشتراها أبو الدحداح بنخيل؛ فجعلها لهم, وسيأتي.
وعدت التاسعة في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة الأعلى، وقبل سورة الفجر.
وعدد آيها عشرون. 30/377
2_ أغراضها: احتوت على بيان شرفِ المؤمنين, وفضائلِ أعمالِهم, ومذمةِ المشركين, ومساويهم, وجزاء كلٍّ.
وأن اللهَ يهدي الناسَ إلى الخير؛ فهو يجزي المهتدين بخير الحياتين, والضالين بعكس ذلك.
وأنه أَرَسَل رسولَه"للتذكير بالله وما عنده؛ فينتفع مَنْ يخشى؛ فيفلح, وَيْصدِفُ عن الذكرى مَنْ كان شقياً؛ فيكون جزاؤه النارَ الكبرى, وأولئك هم الذين صدهم عن التذكر إيثارُ حبِّ ما هم فيه في هذه الحياة.
وأدمج في ذلك الإشارةُ إلى دلائل قدرة الله _تعالى_ وبديع صنعه. 30/377_378(1/351)
3_ وفي القسم بالليل والنهار التنبيه على الاعتبار بهما في الاستدلال على حكمة نظام الله في هذا الكون, وبديع قدرته، وخص بالذكر ما في الليل من الدلالة من حالة غشيانه الجانب الذي يغشاه من الأرض, ويغشى فيه من الموجودات؛ فتعمها ظلمته, فلا تبدو للناظرين؛ لأن ذلك أقوى أحواله.
وخص بالذكر من أحوال النهار حالة تجليته عن الموجودات, وظهور على الأرض كذلك. 30/378
4_ وابتدئ في هذه السورة بذكر الليل، ثم ذكر النهار عكس ما في سورة الشمس؛ لأن هذه السورة نزلت قبل سورة الشمس بمدة, وهي سادسة السور وأيامئذ كان الكفر مخيماً على الناس إلا نفراً قليلاً، وكان الإسلام قد أخذ في التجلي؛ فناسب تلك الحالة بإشارة إلى تمثيلها بحالة الليل حين يعقبه ظهور النهار، ويتضح هذا في جواب القسم بقوله: [إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى] إلى قوله: [إِذَا تَرَدَّى]. 30/378
1_ سميت هذه السورة في أكثر المصاحف وفي كثير من كتب التفسير وفي جامع الترمذي (سورة الضحى) بدون الواو.
وسميت في كثير من التفاسير وفي صحيح البخاري (سورة والضحى) بإثبات الواو.
ولم يبلغنا عن الصحابة خبر صحيح في تسميتها.
وهي مكية بالاتفاق.
وسبب نزولها ما ثبت في الصحيحين يزيد أحدهما على الآخر عن الأسود ابن قيس عن جندب بن سفيان البجلي قال: =دميت إصبع رسول الله" فاشتكى, فلم يقم ليلتين أو ثلاثة, فجاءت امرأة _وهي أم جميل بنت حرب زوج أبي لهب كما في رواية عن ابن عباس ذكرها ابن عطية_ فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أَرَهُ قربك منذ ليلتين أو ثلاث؛ فأنزل الله: [وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى].
وروى الترمذي عن ابن عيينة عن الأسود عن جندب البجلي قال: كنت مع النبي"في غار، فدميت إصبعه فقال: هل أنت إلا إصبع دميت, وفي سبيل الله ما لقيت.(1/352)
قال: فأبطأ عليه جبريل، فقال المشركون: قد وُدِّع محمد؛ فأنزل الله _تعالى_: [مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى] وقال: حديث حسن صحيح.
ويظهر أن قول أم جميل لم يسمعه جندب؛ لأن جندباً كان من صغار الصحابة, وكان يروي عن أبي بن كعب, وعن حذيفة كما قال ابن عبد البر.
ولعله أسلم بعد الهجرة, فلم يكن قوله: =كنت مع النبي"في غارٍ+ مقارناً لقول المشركين: =وقد ودع محمد+، ولعل جندباً روى حديثين جمعهما ابن عيينة, وقيل: إن كلمة: =في غار+ تصحيف، وأن أصلها: كنت غازياً, ويتعين حينئذ أن يكون حديثه جمع حديثين.
وعدت هذه السورة حاديةَ عشرةَ في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة الفجر, وقبل سورة الانشراح.
وعدد آيها إحدى عشرة آية.
وهي أول سورة في قصار المفصل. 30/393_394
2_ أغراضها: إبطالُ قولِ المشركين؛ إذ زعموا أن ما يأتي من الوحي للنبي"قد انقطع عنه.
وزاده بشارةً بأن الآخرةَ خيرٌ له من الأولى على معنيين في الآخرة والأولى, وأنه سيعطيه ربُّه ما فيه رضاه, وذلك يغيظ المشركين.
ثم ذكَّره اللهُ بما حفَّه به من ألطافه وعنايته في صباه, وفي فتوته، وفي وقت اكتهاله, وأمره بالشكر على تلك النعم بما يناسبها من نفع لعبيده, وثناء على الله بما هو أهله. 30/394
3_ ومناسبة القسم بـ[وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ] أن الضحى وقت انبثاق نور الشمس؛ فهو إيماء إلى تمثيل نزول الوحي, وحصول الاهتداء به، وأن الليل وقت قيام النبي"بالقرآن، وهو الوقت الذي كان يسمع فيه المشركون قراءته من بيوتهم القريبة من بيته أو من المسجد الحرام. 30/394_395(1/353)
4_ والاختلاف في سبب نزول هذه السورة يدل على عدم وضوحه للرواة؛ فالذي نظنه أن احتباس الوحي في هذه المرة كان لمدة نحو من اثني عشر يوماً, وأنه ما كان إلا للرفق بالنبي"كي تستجم نفسه, وتعتاد قوته تَحَمُّل أعباء الوحي؛ إذ كانت الفترة الأولى أربعين يوماً, ثم كانت الثانية اثنى عشر يوماً أو نحوها، فيكون نزول سورة الضحى هو النزول الثالث، وفي المرة الثالثة يحصل الارتياض في الأمور الشاقة, ولذلك يكثر الأمر بتكرر بعض الأعمال ثلاثاً.
وبهذا الوجه يجمع بين مختلف الأخبار في سبب نزول هذه السورة, وسبب نزول سورة المدثر. 30/396
1_ سميت في معظم التفاسير وفي صحيح البخاري، وجامع الترمذي سورة (ألم نشرح)، وسميت في بعض التفاسير سورة الشرح، ومثله في بعض المصاحف المشرقية تسمية بمصدر الفعل الواقع فيها من قوله _تعالى_: [أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ] وفي بعض التفاسير تسميتها سورة الانشراح .
وهي مكية بالاتفاق.
وقد عدت الثانية عشرة في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة الضحى بالاتفاق وقبل سورة العصر.
وعن طاووس، وعمر بن عبدالعزيز أنهما كانا يقولان ألم نشرح من سورة الضحى, وكانا يقرءانهما بالركعة الواحدة لا يفصلان بينهما يعني في الصلاة المفروضة.
وهذا شذوذ مخالف لما اتفقت عليه الأمة من تسوير المصحف الإمام.
وعدد آيها ثمان. 30/407
2_ أغراضها: احتوت على ذكرِ عنايةِ الله _تعالى_ لرسوله"بلطف الله له, وإزالةِ الغمّ والحرجِ عنه، وتيسير(1) ما عسر عليه، وتشريفِ قدره؛ لِيُنَفِّسَ عنه؛ فمضمونُها شبيهٌ بأنه حجةٌ على مضمون سورة الضحى؛ تثبيتاً له بتذكيره سالف عنايته به, وإنارة سبيل الحق, وترفيع الدرجة؛ ليعلم أن الذي ابتدأه بنعمته ما كان لِيقطع عنه فضله، وكان ذلك بطريقة التقرير بماض يعلمه(2) النبي".
__________
(1) _ في الأصل: وتفسير، ولعل الصواب ما أُثبت. (م)
(2) _ في الأصل: يعمله، ولعل الصواب ما أُثبت. (م)(1/354)
وأتبع ذلك بوعده بأنه كلما عَرَضَ له عُسْرٌ فسيجد من أمره يسراً كدأب الله _تعالى_ في معاملته؛ فَلْيَتَحَمَّلْ متاعبَ الرسالةِ, ويرغبَ إلى الله عونه. 30/407_408
3_ وجملة: [إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً] مؤكدة لجملة: [فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً] وفائدة هذا التأكيد تحقيق اطراد هذا الوعد, وتعميمه؛ لأنه خبر عجيب.
ومن المفسرين من جعل اليسر في الجملة الأولى يسر الدنيا وفي الجملة الثانية يسر الآخرة, وأسلوب الكلام العربي لا يساعد عليه؛ لأنه متمحض لكون الثانية تأكيداً.
هذا وقول النبي": =لن يغلب عسر يسرين+ قد ارتبط لفظه ومعناه بهذه الآية.
وصرح في بعض رواياته بأنه قرأ هذه الآية حينئذ, وتضافر المفسرون على انتزاع ذلك منها, فوجب التعرض لذلك، وشاع بين أهل العلم أن ذلك مستفاد من تعريف كلمة العسر وإعادتها معرفة، ومن تنكير كلمة (يسر) وإعادتها منكرة، وقالوا: إن اللفظ النكرة إذا أعيد نكرة فالثاني غير الأول, وإذا أعيد اللفظ معرفة فالثاني عين الأول كقوله _تعالى_: [كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ].
وبناء كلامهم على قاعدة إعادة النكرة معرفة خطأ, لأن تلك القاعدة في إعادة النكرة معرفة لا في إعادة المعرفة معرفة، وهي خاصة بالتعريف بلام العهد دون لام الجنس.
وهي _أيضاً_ في إعادة اللفظ في جملة أخرى, والذي في الآية ليس بإعادة لفظ في كلام ثان بل هي تكرير للجملة الأولى، فلا ينبغي الالتفات إلى هذا المأخذ.(1/355)
وقد أبطله من قبل أبو على الحسين الجرجاني(1) مسافة في كتاب النظم كما في معالم التنزيل, وأبطله صاحب الكشاف _أيضاً_ وجعل ابن هشام في المغني اللبيب تلك القاعدة خطأ.
والذي يظهر في تقرير معنى قوله: =لن يغلب عسر يسرين+ أن جملة: [إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً] تأكيد لجملة: [فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً].
ومن المقرر أن المقصود من تأكيد الجملة في مثله هو تأكيد الحكم الذي تضمنه الخبر.
ولا شك أن الحكم المستفاد من هذه الجملة هو ثبوت التحاق اليسر بالعسر عند حصوله؛ فكان التأكيد مفيداً ترجيح أثر اليسر على أثر العسر، وذلك الترجيح عُبِّر عنه بصيغة التثنية في قوله يسرين؛ فالتثنية هنا كنايةٌ رمزية عن التغلب والرجحان؛ فإن التثنية قد يكنى بها عن التكرير المراد منه التكثير كما في قوله _تعالى_: [ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ]. أي أرجع البصر كثيراً, لأن البصر لا ينقلب حسيراً من رجعتين.
ومن ذلك قول العرب: لبيك، وسعديك، ودواليك.
والتكرير يستلزم قوة الشيء المكرر, فكانت القوة لازمُ لازمِ التثنية وإذا تعددت اللوازم كانت الكناية رمزية.
وليس ذلك مستفاداً من تعريف (الْعُسْرِ) باللام ولا من تنكير (اليسر) وإعادته منكراً. 30/415_416
4_ [ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7)] تفريع على ما تقرر من التذكير باللطف, والعناية, ووعده وبتيسير ما هو عسير عليه في طاعته التي أعظمها تبليغ الرسالة دون ملل ولا ضجر.
والفراغ: خلو باطن الظرف, أو الإناء؛ لأن شأنه أن يظرف فيه.
__________
(1) _ قال حمزة بن يوسف السهمي المتوفي سنة 427 في تاريخ علماء جرجان: =هو أبو علي الحسين ابن يحيى بن نصر الجرجاني, له تصانيف عدة, منها في نظم القرآن مجلدتان, كان من أهل السنة روى عن العباس بن يحيى (أو ابن عيسى) العقيلي+ ا هـ.(1/356)
وفعل فرغ يفيد أن فاعله كان مملوءاً بشيء، وفراغ الإنسان: مجاز في إتمامه ما شأنه أن يعمله.
ولم يذكر هنا متعلق [فَرَغْتَ] وسياق الكلام يقتضي أنه لازم أعمال يعلمها الرسول"كما أن مساق السورة في تيسير مصاعب الدعوة وما يحف بها؛ فالمعنى إذا أتممت عملاً من مهام الأعمال فأقبل على عمل آخر بحيث يعمر أوقاته كلها بالأعمال العظيمة.
ومن هنا قال رسول الله"عند قُفوله من إحدى غزواته: =رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر+.
فالمقصود بالأمر هو: [فَانصَبْ].
وأما قوله: [فَإِذَا فَرَغْتَ] فتمهيد, وإفادة لإيلاء العمل بعمل آخر في تقرير الدين، ونفع الأمة.
وهذا من صيغ الدلالة على تعاقب الأعمال, ومثله قول القائل: ما تأتيني من فلان صلة إلا أَعْقَبَتْها أخرى.
واختلفت أقوال المفسرين من السلف في تعيين المفروغ منه، وإنما هو اختلاف في الأمثلة, فحذف المتعلق هنا؛ لقصد العموم, وهو عمومٌ عُرْفي لنوع من الأعمال التي دل عليها السياق؛ ليشمل كلَّ متعلق عمله مما هو مهم كما علمت, وهو أعلم بتقديم بعض الأعمال على بعض إذا لم يمكن اجتماع كثير منها بقدر الإمكان كما أقر الله بأداء الصلاة مع الشغل بالجهاد بقوله: [وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ] إلى قوله: [كِتَاباً مَوْقُوتاً] في سورة النساء.
وهذا الحكم ينسحب على كل عمل ممكن من أعماله الخاصة به, مثل قيام الليل, والجهاد عند تقوي المسلمين, وتدبير أمور الأمة.
وتقديم: [فَإِذَا فَرَغْتَ] على: [فَانصَبْ] للاهتمام بتعليق العمل بوقت الفراغ من غيره؛ لتتعاقب الأعمال.
وهذه الآية من جوامع الكلم القرآنية لما احتوت عليه من كثرة المعاني. 30/416_417(1/357)
1_ سميت في معظم كتب التفسير ومعظم المصاحف (سورة والتين) بإثبات الواو تسمية بأول كلمة فيها, وسماها بعض المفسرين (سورة التين) بدون الواو؛ لأن فيها لفظ [التِّينِ] كما قالوا (سورة البقرة) وبذلك عنونها الترمذي، وبعض المصاحف.
وهي مكية عند أكثر العلماء، قال ابن عطية: =لا أعرف في ذلك خلافاً بين المفسرين+.
ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور المختلف فيها.
وذكر القرطبي عن قتادة أنها مدنية، ونسب _أيضاً_ إلى ابن عباس، والصحيح عن ابن عباس أنه قال: =هي مكية+.
وعدت الثامنة والعشرين في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة البروج, وقبل سورة الإيلاف.
وعدد آياتها ثمان. 30/419
2_ أغراضها: احتوت هذه السورةُ على التنبيهِ بأنَّ اللهَ خلق الإنسانَ على الفطرةِ المستقيمة, ليعلموا أن الإسلام هو الفطرةُ كما قال في الآية الأخرى [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا].
وأن ما يخالف أصولَه بالأصالةِ أو بالتحريف فسادٌ وضلالٌ، ومتبعي ما يخالف الإسلام أهلُ ضلالةٍ.
والتعريضُ بالوعيد للمكذبين بالإسلام.
والإشارةُ بالأمور المُقْسَمِ بها إلى أطوار الشرائع الأربعة؛ إيماءً إلى أن الإسلامَ جاء مصدقاً لها, وأنها مشاركةٌ أصولُها لأصول دين الإسلام.
والتنويهُ بحسنِ جزاءِ الذين اتبعوا الإسلامَ في أصوله وفروعه.
وشملت الامتنان على الإنسان بخلقه على أحسن نظام في جثمانه ونفسه. 30/419_420(1/358)
3_ والتين ظاهره: الثمرة المشهورة بهذا الاسم، وهي ثمرة يشبه شكلها شكل الكُمَّثْرى ذات قشر لونه أزرق إلى السواد، تتفاوت أصنافه في قتومة قشره، سهلة التقشير تحتوي على مثل وعاء أبيض في وسطه عسل طيب الرائحة مخلوط ببزور دقيقة مثل السمسم الصغير، وهي من أحسن الثمار صورةً وطعماً، وسهولة مضغ؛ فحالتها دالة على دقة صنع الله, ومؤذنة بعلمه وقدرته؛ فالقسم بها لأجل دلالتها إلى صفات إلهية كما يقسم بالاسم لدلالته على الذات، مع الإيذان بالمنة على الناس؛ إذ خلق لهم هذه الفاكهة التي تنبت في كل البلاد, والتي هي سهلة النبات لا تحتاج إلى كثرة عمل وعلاج.
والزيتون _أيضاً_ ظاهرُه: الثمرةُ المشهورة ذات الزيت الذي يعصر منها, فيطعمه الناس, ويستصبحون به.
والقسم بها كالقسم بالتين من حيث إنها دالة على صفات الله، مع الإشارة إلى نعمة خلق هذه الثمرة النافعة الصالحة التي تكفي الناس حوائج طعامهم وإضاءتهم.
وعلى ظاهر الاسمين للتين والزيتون حملهما جمع من المفسرين الأولين ابن عباس, ومجاهد, والحسن, وعكرمة, والنخعي, وعطاء, وجابر بن زيد, ومقاتل, والكلبي؛ وذلك لما في هاتين الثمرتين من المنافع للناس المقتضية الامتنان عليهم بأن خلقها الله لهم. 30/420
4_ ولكن مناسبة ذكر هذين مع [طُورِ سِينِينَ] ومع [الْبَلَدِ الأَمِينِ] تقتضي أن يكون لهما محمل أوفق بالمناسبة؛ فروي عن ابن عباس _ أيضاً _ تفسير التين بأنه مسجد نوح الذي بني على الجودي بعد الطوفان.
ولعل تسمية هذا الجبلِ التينَ, لكثرته فيه؛ إذ قد تسمى الأرض باسم ما يكثر فيها من الشجر كقول امرئ القيس:
أمَرْخٌ ديارُهُمُ أم عُشَرْ
وسمي بالتين موضع جاء في شعر النابغة يصف سحابات بقوله:
صهب الظلال أتين التين عن عرض ... يزجين غيماً قليلاً ماؤه شبما(1/359)
والزيتون: يطلق على الجبل الذي بني عليه المسجد الأقصى؛ لأنه ينبت الزيتون, وروي هذا عن ابن عباس والضحاك, وعبدالرحمن بن زيد, وقتادة وعكرمة, ومحمد بن كعب القرظي.
ويجوز عندي أن يكون القسم بـ[التِّينِ وَالزَّيْتُونِ] معنياً بهما شجر هاتين الثمرتين، أي اكتسب نوعاهما شرفاً من بين الأشجار يكون كثير منه نابتاً في هذين المكانين المقدسين كما قال جرير:
أتذكر حين تصقل عارضيها ... بفرع بشامة سقي البشام(1)
فدعا لنوع البشام بالسقي؛ لأجل عود بشامة الحبيبة.
وأما [طُورِ سِينِينَ] فهو الجبل المعروف بـ (طور سينا).
والطور: الجبل بلغة النبط, وهم الكنعانيون، وعرف هذا الجبل بـ[طُورِ سِينِينَ] لوقوعه في صحراء (سينين) و(سينين) لغة في سين, وهي صحراء بين مصر وبلاد فلسطين.
وقيل: سينين اسم الأشجار بالنبطية أو بالحبشة، وقيل: معناه الحسن بلغة الحبشة.
وقد جاء تعريبه في العربية على صيغة تشبه صيغة جمع المذكر السالم وليس بجمع؛ مجاز(2) في إعرابه أن يعرب مثل إعراب جمع المذكر بالواو نيابة عن الضمة، أو الياء نيابة عن الفتحة أو الكسرة، وأن يحكى على الياء مع تحريك نونه بحركات الإعراب مثل: صفين ويبرين, وقد تقدم عند قوله _تعالى_: [وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ].
والبلد الأمين: مكة، سمي الأمين؛ لأن من دخله كان آمناً؛ فالأمين فعيل بمعنى مُفْعِل مثل الداعي السميع في بيت عمرو بن معد يكرب، ويجوز أن يكون بمعنى مفعول على وجه الإسناد المجازي، أي المأمون ساكنوه قال _تعالى_: [وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ].
والإشارة إليه للتعظيم, ولأن نزول السورة في ذلك البلد؛ فهو حاضر بمرأى ومسمع من المخاطبين نظير قوله: [لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ]. 30/421_422
__________
(1) _ وفي رواية التبريزي في شرح الحماسة: أتنسى إذ توعدنا سليمى بعود ... الخ ص50 ج 1
(2) _ هكذا في الأصل, ولعل الصواب: فجاز. (م).(1/360)
5_ وعلى ما تقدم ذكره من المحملين الثانيين للتين والزيتون تتم المناسبة بين الأيمان, وتكون إشارة إلى موارد أعظم الشرائع الواردة للبشر؛ فالتين إيماء إلى رسالة نوح, وهي أول شريعة لرسول، والزيتون إيماء إلى شريعة إبراهيم؛ فإنه بنى المسجد الأقصى كما ورد في الحديث وقد تقدم في أول الإسراء، و[طُورِ سِينِينَ] إيماء إلى شريعة التوراة، و[الْبَلَدِ الأَمِينِ] إيماء إلى مهبط شريعة الإسلام، ولم يقع إيماء إلى شريعة عيسى؛ لأنها تكملة لشريعة التوراة.
وقد يكون الزيتون على تأويله بالمكان, وبأنه المسجد الأقصى إيماء إلى مكان ظهور شريعة عيسى _عليه السلام_ لأن المسجد الأقصى بناه سليمان _عليه السلام_ فلم تنزل فيه شريعة قبل شريعة عيسى.
ويكون قوله: [وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ] إيماء إلى شريعة إبراهيم, وشريعة الإسلام, فإن الإسلام جاء على أصول الحنيفية, وبذلك يكون إيماء هذه الآية ما صرح به في قوله _تعالى_: [شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى].
وبذلك يكون ترتيب الإيماء إلى شرائع نوح، وموسى، وعيسى، ومحمد _عليهم الصلاة والسلام_ غير جار على ترتيب ظهورها؛ فتوجيه مخالفة الترتيب الذكري للترتيب الخارجي أنه لمراعاة اقتران الاسمين المنقولين عن اسمي الثمرتين، ومقارنة الاسمين الدالين على نوعين من أماكن الأرض _ يتأتَّى مُحَسِّنُ مراعاةِ النظير, ومُحَسِّن التورية، وليناسب [سِينِينَ] فواصل السورة.
وفي ابتداء السورة بالقَسَم بما يشمل إرادة مهابط أشهر الأديان الإلهية براعةُ استهلالٍ؛ لغرض السورة, وهو أن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم، أي خلقه على الفطرة السليمة مدركاً لأدلة وجود الخالق ووحدانيته.(1/361)
وفيه إيماء إلى أن ما خالف ذلك من النِّحل والملل قد حاد عن أصول شرائع الله كلها بقطع النظر عن اختلافها في الفروع، ويكفي في تَقَوُّم معنى براعة الاستهلال ما يلوح في المعنى من احتمال. 30/422_423
6_ والتقويم: جعل الشيء في قَوام _بفتح القاف_ أي عَدْل وتسوية.
وحُسْن التقوِيم أكملُه, وأليقه بنوع الإنسان، أي أحسن تقويم له، وهذا يقتضي أنه تقويم خاص بالإنسان لا يشاركه فيه غيره من المخلوقات.
ويتضح ذلك في تعديل القوى الظاهرة والباطنة بحيث لا تكون إحدى قواه موقعة له فيما يفسده، ولا يعوق بعض قواه البعض الآخر عن أداء وظيفته؛ فإن غيره من جنسه كان دونه في التقويم. 30/423_424
7_ فأفادت الآية أن الله كَوَّن الإنسان تكويناً ذاتياً متناسباً ما خلق له نوعه من الإعداد لنظامه وحضارته، وليس تقويم صورة الإنسان الظاهرة هو المعتبر عند الله _تعالى_ ولا جديراً بأن يقسم عليه؛ إذ لا أثر له في إصلاح النفس، وإصلاح الغير، والإصلاح في الأرض، ولأنه لو كان هو المراد لذهبت المناسبة التي في القسم بالتين والزيتون، وطور سنين، والبلد الأمين.
وإنما هو متمم لتقويم النفس قال النبي": =إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم+(1).
فإن العقل أشرف ما خص به نوع الإنسان من بين الأنواع.
فالمرضي عند الله هو تقويم إدراك الإنسان, ونظره العقلي الصحيح؛ لأن ذلك هو الذي تصدر عنه أعمال الجسد؛ إذ الجسم آلة خادمة للعقل, فلذلك كان هو المقصود من قوله _تعالى_: [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ].
__________
(1) _ راوه مسلم, ورواه غيره يزيد بعضهم على بعض.(1/362)
وأما خلق جسد الإنسان في أحسن تقويم فلا ارتباط له بمقصد السورة, ويظهر هذا كمال الظهور في قوله: [ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ] فإنه لو حمل الرد أسفل سافلين على مصير الإنسان في أرذل العمر إلى نقائص قوته كما فسر به كثير من المفسرين لكان نُبُوُّه عن غرض السورة أشدَّ، وليس ذلك مما يقع فيه تردد السامعين حتى يحتاج إلى تأكيده بالقسم.
ويدل ذلك قوله بعده: [إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا] لأن الإيمان أثرُ التقويم لعقل الإنسان الذي يلهمه السير في أعماله على الطريق الأقوم، ومعاملة بني نوعه السالمين من عدائه معاملة الخير معهم على حسب توافقهم معه في الحق؛ فذلك هو الأصل في تكوين الإنسان إذا سلم من عوارض عائقة من بعض ذلك مما يعرض له وهو جنين؛ إما من عاهة تلحقه لمرض أحد الأبوين، أو لفساد هيكله من سقطة أو صدمة في حمله، وما يعرض له بعد الولادة من داء معضل يعرض له يترك فيه اختلال مزاجه؛ فيحرف شيئاً من فطرته كحماقة السوداويين والسكريين, أو خبال المختبلين، ومما يدخله على نفسه من مساوي العادات كشرب المسكرات, وتناول المخدرات مما يورثه على طول انثلام تعقله, أو خور عزيمته. 30/424_425
8_ والذي نأخذه من هذه الآية أن الإنسان مخلوق على حالة الفطرة الإنسانية التي فطر الله النوع؛ ليتصف بآثارها، وهي الفطرة الإنسانية الكاملة في إدراكه إدراكاً مستقيماً مما يتأدى من المحسوسات الصادقة، أي الموافقة لحقائق الأشياء الثابتة في نفس الأمر، بسبب سلامة ما تؤديه الحواس السليمة، وما يتلقاه العقل السليم من ذلك ويتصرف فيه بالتحليل والتركيب المنتظمين، بحيث لو جانبته التلقينات الضالة, والعوائد الذميمة، والطبائع المنحرفة, والتفكير الضار, أو لو تسلطت عليه تسلطاً ما فاستطاع دفاعها عنه بدلائل الحق والصواب _ لجرى في جميع شؤونه على الاستقامة، ولما صدرت منه إلا الأفعال الصالحة.(1/363)
ولكنه قد يتعثر في ذيول اغتراره, ويرخي العنان لهواه وشهوته؛ فترمي به في الضلالات، أو يتغلب عليه دعاة الضلال بعامل التخويف أو الإطماع؛ فيتابعهم طوعاً أو كرهاً، ثم لا يلبث أن يستحكم فيه ما تقلَّده, فيعتاده, وينسى الصواب والرشد.
ويفسر هذا المعنى قول النبي": =ما من مولود إلا يولد على الفطرة, ثم يكون أبواه هما اللذان يهودانه, أو ينصرانه, أو يمجسانه+ الحديث.
ذلك أن أبويه هما أول من يتولى تأديبه وتثقيفه, وهما أكثر الناس ملازمة له في صباه؛ فهما اللذان يلقيان في نفسه الأفكار الأولى، فإذا سلم من تضليل أبويه فقد سار بفطرته شوطاً, ثم هو بعد ذلك عُرْضَةٌ لعديد من المؤثرات فيه، إن خيراً فخير, وإن شراً فشر.
واقتصر النبي"على الأبوين؛ لأنهما أقوى أسباب الزج في ضلالتهما، وأشد إلحاحاً على ولدهما.
ولم يعرج المفسرون قديماً وحديثاً على تفسير التقويم بهذا المعنى العظيم, فَقَصَرُوا التقويم على حسن الصورة.
وروي عن ابن عباس, ومجاهد, وقتادة, والكلبي, وإبراهيم, وأبي العالية: أو على استقامة القامة.
وروي عن ابن عباس: أو على الشباب والجلادة، وروي عن عكرمة وابن عباس.
ولا يلائم مقصد السورة إلا أن يتأول بأن ذلك ذكر نعمة على الإنسان عكس الإنسان شكرها؛ فكفر بالمنعم؛ فَرُدَّ أسفل سافلين، سوى ما حكاه ابن عطية عن الثعلبي عن أبي بكر بن طاهر(1) أنه قال: =تقويم الإنسان عقله, وإدراكه اللذان زَيَّناه بالتمييز+.
ولفظه عند القرطبي قريب من هذا مع زيادة يتناول مأكوله بيده.
وما حكاه الفخر عن الأصم(2) أن: [أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] أكمل عقل وفهم وأدب وعلم وبيان.
__________
(1) _ لم أقف على تعيينه وليس يبعد أن يكون هو الأصم.
(2) _ الأصم لقب أبي بكر عبدالرحمن بن كيسان من أصحاب هشام الفوطي من المعتزلة, وقال ابن حجر في لسان الميزان: =إنه كان من طبقة أبي الهذيل العلاف المعتزلي+.(1/364)
وتفيد الآية أن الإنسان مفطور على الخير, وأن في جِبِلَّته جلبَ النفع والصلاح لنفسه, وكراهة ما يظنه باطلاً أو هلاكاً، ومحبة الخير والحسن من الأفعال؛ لذلك تراه يسر بالعدل والإنصاف، وينصح بما يراه مجلبة لخير غيره، ويغيث الملهوف, ويعامل بالحسنى، ويغار على المستضعفين، ويشمئز من الظلم ما دام مجرداً عن روم نفع يجلبه لنفسه, أو إرضاء شهوة يريد قضاءها, أو إشفاء غضب يجيش بصدره.
تلك العوارض التي تحول بينه وبين فطرته زمناً، ويهش إلى كلام الوعاظ والحكماء والصالحين, ويكرمهم, ويعظمهم, ويود طول بقائهم.
فإذا ساورته الشهوةُ السيئةُ, فزينت له ارتكاب المفاسد, ولم يستطع ردها عن نفسه _ انصرف إلى سوء الأعمال، وَثقَلَ عليه نصحُ الناصحين, ووعظ الواعظين على مراتب في كراهية ذلك بمقدار تحكم الهوى في عقله.
ولهذا كان الأصل في الناس الخير، والعدالة، والرشد، وحسن النية عند جمهور من الفقهاء والمحدثين. 30/425_427
1_ اشتهرت تسمية هذه السورة في عهد الصحابة والتابعين باسم (سورة اقرأ باسم ربك) روي في المستدرك عن عائشة: =أول سورة نزلت من القرآن اقرأ باسم ربك+.
فأخبرت عن السورة بـ[اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ].
وروي ذلك عن أبي سلمة بن عبدالرحمن, وأبي رجاء العطاردي, ومجاهد, والزهري، وبذلك عنونها الترمذي.
وسميت في المصاحف ومعظم التفاسير (سورة العلق) لوقوع لفظ (العلق) في أوائلها، وكذلك سميت في بعض كتب التفسير.
وعنونها البخاري سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ).
وتسمى (سورة اقرأ) وسماها الكواشي في التخليص (سورة اقرأ والعلق).
وعنونها ابن عطية, وأبو بكر بن العربي (سورة القلم).
وهذا اسم سميت به (سورة ن والقلم) ولكن الذين جعلوا اسم هذه السورة (سورة القلم) يسمون الأخرى (سورة ن).
ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور ذات أكثر من اسم.(1/365)
وهي مكية باتفاق, وهي أول سورة نزلت في القرآن كما ثبت في الأحاديث الصحيحة الواضحة، ونزل أولها بغار حراء على النبي"وهو مجاور فيه في رمضان ليلة سبعة عشرة منه من سنة أربعين بعد الفيل إلى قوله: [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ].
ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة عن عائشة, وفيه حديث عن أبي موسى الأشعري, وهو الذي قاله أكثر المفسرين من السلف والخلف.
وعن جابر أول سورة المدثر، وتؤول بأن كلامه نص أن سورة المدثر أول سورة نزلت بعد فترة الوحي كما في الإتقان، كما أن سورة الضحى نزلت بعد فترة الوحي الثانية.
وعدد آيها في عد أهل المدينة ومكة عشرون، وفي عد أهل الشام ثمان عشرة، وفي عد أهل الكوفة والبصرة تسع عشرة. 30/433_434
2_ أغراضها: تلقينُ محمدٍ"الكلام القرآني وتلاوته؛ إذ كان لا يعرف التلاوة من قبل.
والإيماءُ إلى أن عِلْمَهُ بذلك ميسرٌ؛ لأن اللهَ الذي ألهم البشرَ العلمَ بالكتابة قادرٌ على تعليم مَنْ يشاء ابتداءً.
وإيماءٌ إلى أن أمته ستصير إلى معرفةِ القراءةِ والكتابة والعلم.
وتوجيهُه إلى النظر في خلق الله الموجودات, وخاصة خَلْقَهُ الإنسانَ خلقاً عجيباً مستخرجاً من عَلَقَةٍ؛ فذلك مبدأُ النظر.
وتهديدُ مَنْ كذَّب النبيَّ"وتعرَّضَ؛ ليصده عن الصلاة, والدعوة إلى الهدى والتقوى.
وإعلامُ النبي"أن اللهَ عالمٌ بأمرِ مَنْ يناوونه, وأنه قامعهم وناصر رسوله.
وتثبيتُ الرسولِ على ما جاءه من الحق, والصلاة, والتقرب إلى الله.
وأنْ لا يعبأَ بقوةِ أعدائه؛ لأن قوةَ اللهِ تقهرهم. 30/434(1/366)
3_ ومن إعجاز القرآن العلمي ذكر العلقة؛ لأن الثابت في العلم الآن أن الإنسان يتخلق من بويضة دقيقة جداً لا ترى إلا بالمرآة المكبرة أضعافاً تكون في مبدأ ظهورها كُروية الشكل, سابحة في دم حيض المرأة؛ فلا تقبل التخلق حتى تخالطها نطفة الرجل, فتمتزج معها, فتأخذ في التخلق إذا لم يَعُقْها عائق كما قال _تعالى_: [مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ].
فإذا أخذت في التخلق والنمو امتد تَكَوُّرها قليلاً, فشابهت العلقة التي في الماء مشابهة تامة في دقة الجسم وتلونها بلون الدم الذي هي ساحبة(1) فيه وفي كونها سابحة في سائل كما تسبح العلقة، وقد تقدم هذا في سورة غافر وأشرت إليه في المقدمة العاشرة. 30/438
4_ [وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)] جملة معطوفة على جملة [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ] فلها حكم الاستئناف، و[رَبُّكَ] مبتدأ، وخبره إما: [الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ] وإما جملة: [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] وهذا الاستئناف بياني.
فإذا نظرت إلى الآية مستقلة عما تضمنه حديث عائشة في وصف سبب نزولها كان الاستئناف ناشئاً عن سؤال يجيش في خاطر الرسول"أن يقول كيف: أقرأ وأنا لا أحسن القراءة والكتابة؛ فأجيب بأن الذي علم القراءة بواسطة القلم، أي بواسطة الكتابة يعلمك ما لم تعلم.
وإذا قرنت بين الآية وبين الحديث المذكور كان الاستئناف جواباً عن قوله لجبريل: =ما أنا بقارئ+.
فالمعنى: لا عجب في أن تقرأ وإن لم تكن من قبل عالماً بالقراءة؛ إذ العلم بالقراءة يحصل بوسائل أخرى مثل الإملاء, والتلقين, والإلهام, وقد علم الله آدم الأسماء ولم يكن آدم قارئاً.
__________
(1) _ هكذا في الأصل, ولعل الصواب: سابحة. (م).(1/367)
ومقتضى الظاهر: وعلم بالقلم؛ فعدل عن الإضمار لتأكيد ما يشعر به ربك من العناية المستفادة من قوله: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ] وأن هذه القراءة شأنٌ من شؤون الرب اختص بها عبده؛ إتماماً لنعمة الربوبية عليه.
وليجري على لفظ الرب وصف الأكرم.
ووصف [الأَكْرَمُ] مصوغ للدلالة على قوة الاتصاف بالكرم, وليس مصوغاً للمفاضلة؛ فهو مسلوب المفاضلة.
والكرم : التفضل بعطاء ما ينفع المعطي، ونعم الله عظيمة لا تحصى ابتداءً من نعمة الإيجاد، وكيفية الخلق، والإمداد.
وقد جمعت هذه الآيات الخمس من أول السورة أصول الصفات الإلهية؛ فوصف الرب يتضمن الوجود والوحدانية، ووصف [الَّذِي خَلَقَ] ووصف [الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ] يقتضيان صفات الأفعال، مع ما فيه من الاستدلال القريب على ثبوت ما أشير إليه من الصفات بما تقتضيه الموصولية من الإيماء إلى وجه بناء الخبر الذي يذكر معها, ووصف [الأَكْرَمُ] يتضمن صفات الكمال والتنزيه عن النقائص. 30/439_440
5_ وقد حَصَلَتْ من ذكر التعليم بالقلم والتعليم الأعم إشارةٌ إلى ما يتلقاه الإنسان من التعاليم سواء كان بالدرس, أم بمطالعة الكتب, وأن تحصيل العلوم يعتمد أموراً ثلاثة: أحدها: الأخذ عن الغير بالمراجعة والمطالعة، وطريقهما الكتابة وقراءة الكتب؛ فإن بالكتابة أَمْكَنَ للأممِ تدوينَ آراءِ علماءِ البشرِ, ونقلَها إلى الأقطار النائية, وفي الأجيال الجائية.
والثاني: التلقي من الأفواه بالدرس والإملاء.
والثالث: ما تنقدح به العقول من المستنبطات والمخترعات.
وهذان داخلان تحت قوله _تعالى_: [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ].
وفي ذلك اطمئنان لنفس النبي"بأن عدم معرفته الكتابةَ لا يحول دون قراءته؛ لأن الله علم الإنسان ما لم يعلم؛ فالذي علَّم القراءة لأصحاب المعرفة بالكتابة قادر على أن يعلمك القراءة دون سبق معرفة بالكتابة. 30/441(1/368)
6_ وعلة هذا الخُلُق أن الاستغناء تحدث صاحبَه نَفْسُه بأنه غير محتاج إلى غيره, وأن غيره محتاج, فيرى نفسه أعظم من أهل الحاجة, ولا يزال ذلك التوهم يربو في نفسه حتى يصير خلقاً؛ حيث لا وازع يزعه من دين أو تفكير صحيح, فيطغى على الناس؛ لشعوره بأنه لا يخاف بأسهم؛ لأن له ما يدفع به الاعتداء من لامة سلاح, وخدم, وأعوان, وعفاة, ومنتفعين بماله من شركاء, وعمال, وأجراء؛ فهو في عزة عند نفسه.
فقد بينت هذه الآية حقيقة نفسية عظيمة من الأخلاق وعلم النفس, ونبهت على الحذر من تغلغلها في النفس. 30/444_445
1_ سميت هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة (سورة القدر) وسماها ابن عطية في تفسيره وأبو بكر الجصاص في أحكام القرآن (سورة ليلة القدر).
وهي مكية في قول الجمهور, وهو قول جابر بن زيد, ويُروى عن ابن عباس.
وعن ابن عباس _أيضاً_ والضحاك أنها مدنية, ونسبه القرطبي إلى الأكثر. وقال الواقدي: هي أول سورة نزلت بالمدينة، ويرجحه أن المتبادر أنها تتضمن الترغيب في إحياء ليلة القدر، وإنما كان ذلك بعد فرض رمضان بعد الهجرة.
وقد عدها جابر بن زيد الخامسة والعشرين في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة عبس وقبل سورة الشمس، فأما قول من قالوا: إنها مدنية فيقتضي أن تكون نزلت بعد المطففين وقبل البقرة.
وآياتها خمس في العدد المدني والبصري والكوفي، وست في العد المكي والشامي. 30/455
2_ أغراضُها: التنويهُ بفضلِ القرآن وعظمته بإسناد إنزاله إلى الله _تعالى_.
والردُّ على الذين جحدوا أن يكون القرآنُ منزلاً من الله _تعالى_.
ورَفْعُ شأنِ الوقت الذي أُنزل فيه, ونزولُ الملائكة في ليلة إنزاله.
وتفضيلُ الليلةِ التي توافق ليلةَ إنزالِه من كل عام.
ويستتبع ذلك تحريضُ المسلمين على تحيُّنِ ليلةِ القدر بالقيام والتصدق. 30/455_456(1/369)
3_ [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ]: اشتملت هذه الآية على تنويه عظيم بالقرآن؛ فافتتحت بحرف (إنَّ) وبالإخبار عنها بالجملة الفعلية، وكلاهما من طرق التأكيد والتقوي. 30/456
4 _ وفي ضمير العظمة وإسناد الإنزال إليه تشريف عظيم للقرآن. 30/456
5_ ومن تسديد ترتيب المصحف أن وضعت سورة القدر عقب سورة العلق مع أنها أقل عدد آيات من سورة البينة وسور بعدها، كأنه إماء إلى أن الضمير في [أَنزَلْنَاهُ] يعود إلى القرآن الذي ابتدئ نزوله بسورة العلق.
ويجوز أن يكون الضمير عائداً على المقدار الذي أنزل في تلك الليلة, وهو الآيات الخمس من سورة العلق؛ فإن كل جزء من القرآن يسمى قرآناً، وعلى كلا الوجهين فالتعبير بالمضي في فعل [أَنزَلْنَاهُ] لا مجاز فيه, وقيل: أطلق ضمير القرآن على بعضه مجازاً بعلاقة البعضية.
والآية صريحة في أن الآياتِ الأُولَ من القرآن نزلت ليلاً, وهو الذي يقتضيه حديث بدء الوحي في الصحيحين لقول عائشه فيه: =فكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد+.
فكان تعبده ليلاً، ويظهر أن يكون الملك قد نزل عليه إثر فراغه من تعبده.
وأما قول عائشة: =فرجع بها رسولُ اللهِ يرجف فؤاده+ فمعناه أنه خرج من غار حراء إثر الفجر بعد انقضاء تلقينه الآيات الخمس؛ إذ يكون نزولها عليه في آخر تلك الليلة, وذلك أفضل أوقات الليل كما قال _تعالى_: [وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ]. 30/456_457
6_ وليلة القدر: اسم جعله الله لليلة التي ابتدئ فيها نزول القرآن، ويظهر أن أول تسميتها بهذا الاسم كان في هذه الآية, ولم تكن معروفة عند المسلمين, وبذلك يكون ذِكْرُها بهذا الاسم؛ تشويقاً لمعرفتها؛ ولذلك عقب بقوله: [وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ].
والقدر: الذي عُرفت الليلة بالإضافة إليه هو بمعنى الشرف والفضل، كما قال _تعالى_ في سورة الدخان: [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ].(1/370)
أي ليلة القدر والشرف عند الله _تعالى_ مما أعطاها من البركة؛ فتلك ليلة جعل الله لها شرفاً؛ فجعلها مظهراً لما سبق به علمه؛ فجعلها مبدأ الوحي إلى النبي". 30/457
7_ والمقصود من تشريف الليلة التي كان ابتداء إنزال القرآن فيها تشريف آخر للقرآن بتشريف زمان ظهوره؛ تنبيهاً على أنه _تعالى_ اختار لابتداء إنزاله وقتاً شريفاً مباركاً؛ لأن عظم قدر الفعل يقتضي أن يُختار لإيقاعه فَضْل الأوقات والأمكنة؛ فاختيار فضل الأوقات لابتداء إنزاله ينبئ عن علو قدره عند الله _تعالى_ كقوله: [لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ] على الوجهين في المراد من المطهرين. 30/458
8_ وتفضيلها بالخير على ألف شهر: إنما هو بتضعيف فضل ما يحصل فيها من الأعمال الصالحة, واستجابة الدعاء, ووفرة ثواب الصدقات, والبركة للأمة فيها؛ لأن تفاضل الأيام لا يكون بمقادير أزمنتها، ولا بما يحدث فيها من حر أو برد، أو مطر، ولا بطولها أو بقصرها؛ فإن تلك الأحوال غير معتد بها عند الله _تعالى_ ولكن الله يعبأ بما يحصل من الصلاح للناس أفراداً وجماعات, وما يعين على الحق والخير ونشر الدين.
وقد قال في فضل الناس: [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] فكذلك فضل الأزمان إنما يقاس بما يحصل فيها؛ لأنها ظروف للأعمال, وليست لها صفات ذاتية يمكن أن تتفاضل بها كتفاضل الناس؛ ففضلها بما أعده الله لها من التفضيل كتفضيل ثلث الليل الأخير للقربات.
وعَدَدُ الأَلْفِ يظهر أنه مستعمل في وفرة التكثير كقوله: =واحد كألف+.
وعليه جاء قوله _تعالى_: [يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ] وإنما جعل تمييز عدد الكثرة هنا بالشهر؛ للرعي على الفاصلة التي هي بحرف الراء.(1/371)
وفي الموطأ: =قال مالك: إنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول إن رسول الله"أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك؛ فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثلما بلغ غيرهم في طول العمر؛ فأعطاه الله: [لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ]+ا هـ. 30/459
9_ ومما ينبغي التنبيه له ما وقع في جامع الترمذي بسنده إلى القاسم بن الفضل الحداني عن يوسف بن سعد قال: =قام رجل إلى الحسن بن علي بعدما بايع معاوية فقال: سودت وجوه المؤمنين، أو يا مسود وجوه المؤمنين فقال: لا تؤنبني رحمك الله فإن النبي"أري بني أمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت: [إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ] يا محمد يعني نهراً في الجنة، ونزلت: [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)] يملكها بنو أمية يا محمد.
قال القاسم: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا يزيد يوم ولا ينقص+.
قال أبو عيسى الترمذي: =هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه, وقد قيل عن القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازن نعرفه، والقاسم بن الفضل ثقة، ويوسف بن سعد رجل مجهول+ ا هـ.
قال ابن كثير في تفسيره: =ورواه ابن جرير من طريق القاسم بن الفضل عن عيسى بن مازن كذا قال، وعيسى بن مازن غير معروف، وهذا يقتضي اضطراباً في هذا الحديث، أي لاضطرابهم في الذي يروي عنه القاسم بن الفضل، وعلى كل احتمال فهو مجهول+.
وأقول: وأيضاً ليس في سنده ما يفيد أن يوسف بن سعد سمع ذلك من الحسن÷.
وفي تفسير الطبري عن عيسى بن مازن أنه قال: قلت للحسن: يا مسود وجوه المؤمنين إلى آخر الحديث, وعيسى بن مازن غير معروف أصلاً، فإذا فرضنا توثيق يوسف بن سعد فليس في روايته ما يقتضي أنه سمعه، بل يجوز أن يكون أراد ذكر قصة تروى عن الحسن.(1/372)
واتفق حذاق العلماء على أنه حديث منكر صرَّح بذلك ابن كثير، وذكره عن شيخه المزي، وأقول: هو مختل المعنى, وسمات الوضع لائحة عليه وهو من وضع أهل النحل المخالفة للجماعة؛ فالاحتجاج به لا يليق أن يصدر مثله عن الحسن مع فرط علمه وفطنته، وأيَّةُ مُلازمةٍ بين ما زعموه من رؤيا رسول الله" وبين دفع الحسن التأنيب عن نفسه؟.
ولا شك أن هذا الخبر من وضع دعاة العباسيين على أنه مخالف للواقع؛ لأن المدة التي بين تسليم الحسن الخلافة إلى معاوية، وبين بيعة السفاح وهو أول خلفاء العباسية ألف شهر واثنان وتسعون شهراً أو أكثر بشهر أو بشهرين؛ فما نسب إلى القاسم الحداني من قوله: =فعددناها فوجدناها+ الخ كذب لا محالة.
والحاصل أن هذا الخبر الذي أخرجه الترمذي منكر كما قاله المزي. 30/459_461
10_ وحكمة إخفاء تعيينها إرادة أن يكرر المسلمون حسناتهم في ليال كثيرة؛ توخياً لمصادفة ليلة القدر كما أخفيت ساعة الإجابة يوم الجمعة. 30/462
11_ هذا محصل ما أفاده القرآن في فضل ليلة القدر من كل عام, ولم يبين أنها أية ليلة، ولا من أي شهر، وقد قال _تعالى_: [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ] فتبين أن ليلة القدر الأولى هي من ليالي شهر رمضان لا محالة؛ فبنا أن نتطلب تعيين ليلة القدر الأولى التي ابتدئ إنزال القرآن فيها؛ لنطلب تعيين ما يماثلها من ليالي رمضان في جميع السنين، وتعيين صفة المماثلة، والمماثلة تكون في صفات مختلفة.
فلا جائز أن تماثلها في اسم يومها نحو الثلاثاء أو الأربعاء، ولا في الفصل من شتاء أو صيف أو نحو ذلك مما ليس من الأحوال المعتبرة في الدين؛ فعلينا أن نتطلب جهة من جهات المماثلة لها في اعتبار الدين وما يرضي الله.(1/373)
وقد اختلف في تعيين المماثلة اختلافاً كثيراً وأصح ما يعتمد في ذلك: أنها من ليالي شهر رمضان من كل سنة, وأنها من ليالي الوتر كما دل عليه الحديث الصحيح: =تحروا ليلة القدر في الوتر في العشر الأواخر من رمضان+.
والوتر: أفضل الأعداد عند الله كما دل عليه حديث: =إن الله وتر يحب الوتر+.
وأنها ليست ليلة معينة مطردة في كل السنين بل هي متنقلة في الأعوام، وأنها في رمضان.
وإلى هذا ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وأكثر أهل العلم, قال ابن رشيد: وهو أصح الأقاويل, وأولاها بالصواب, وعلى أنها متنقلة في الأعوام, فأكثر أهل العلم على أنها لا تخرج عن شهر رمضان.
والجمهور على أنها لا تخرج عن العشر الأواخر منه، وقال جماعة: لا تخرج عن العشر الأواسط، والعشر الأواخر.
وتأولوا ما ورد من الآثار ضبطها على إرادة الغالب أو إرادة عام بعينه.
ولم يرد في تعيينها شيء صريح يروى عن النبي"لأن ما ورد في ذلك من الأخبار محتمل لأنْ يكون أراد به تعيينها في خصوص السنة التي أخبر عنها وذلك مبسوط في كتب السنة؛ فلا نطيل به، وقد أتى ابن كثير منه بكثير. 30/462_463
1_ وردت تسمية هذه السورة في كلام النبي"[ لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا].
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي"قال لأبي بن كعب: =إن الله أمرني أن أقرأ عليك: [لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] قال: وسماني لك? قال: نعم، فبكى+.
فقوله: أن أقرأ عليك [لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] واضح أنه أراد السورة كلها؛ فسماها بأول جملة فيها.
وسميت هذه السورة في معظم كتب التفسير وكتب السنة سورة (لم يكن) بالاقتصار على أول كلمة منها، وهذا الاسم هو المشهور في تونس بين أبناء الكتاتيب.
وسميت في أكثر المصاحف (سورة القيمة) وكذلك في بعض التفاسير, وسميت في بعض المصاحف (سورة البينة).(1/374)
وذكر في الإتقان أنها سميت في مصحف أُبَيٍّ (سورة أهل الكتاب) أي لقوله _تعالى_: [لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] وسميت سورة (البرية) وسميت (سورة الانفكاك) فهذه ستة أسماء.
واختلف في أنها مكية أو مدنية، قال ابن عطية: الأشهر أنها مكية وهو قول جمهور المفسرين.
وعن ابن الزبير وعطاء بن يسار هي مدنية.
وعكس القرطبي فنسب القول بأنها مدنية إلى الجمهور وابن عباس, والقول بأنها مكية إلى يحيى بن سلام.
وأخرج ابن كثير عن أحمد بن حنبل بسنده إلى أبي حبة البدري قال: =لما نزلت [لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] إلى آخرها قال جبريل: يا رسول الله إن الله يأمرك أن تقرئها أبياً+ الحديث.
أي وأبي من أهل المدينة.
وجزم البغوي, وابن كثير بأنها مدنية، وهو الأظهر؛ لكثرة ما فيها من تخطئة أهل الكتاب, ولحديث أبي حبة البدري، وقد عدها جابر بن زيد في عداد السور المدنية, قال ابن عطية: =إن النبي"إنما دفع إلى مناقضة أهل الكتاب بالمدينة+.
وقد عدت المائة وإحدى في ترتيب النزول نزلت بعد سورة الطلاق، وقبل سورة الحشر، فتكون نزلت قبل غزوة بني النضير، وكانت غزوة النضير سنة أربع في ربيع الأول؛ فنزول هذه السورة آخر سنة ثلاث أو أول سنة أربع.
وعدد آياتها ثمان عند الجمهور، وعدها أهل البصرة تسع آيات.
30/467_468
2_ أغراضها: توبيخُ المشركين وأهل الكتاب على تكذيبهم بالقرآن والرسول".
والتعجيبُ من تناقض حالهم؛ إذ هم ينتظرون أن تأتيَهم البينةُ, فلما أتتهم البينةُ كفروا بها.
وتكذيبُهم في ادعائهم أن اللهَ أوجب عليهم التمسكَ بالأديان التي هم عليها.
ووعيدُهم بعذابِ الآخرة, والتسجيلُ عليهم بأنهم شرُّ البرية.
والثناءُ على الذين آمنوا وعملوا الصالحات, وَوَعْدُهُم بالنعيم الأبدي ورضى اللهِ عنهم, وإعطائه إياهم ما يرضيهم.(1/375)
وتخلل ذلك تنويهٌ بالقرآن, وفضله على غيره باشتماله على ما في الكتب الإلهية التي جاء بها الرسول"من قبل وما فيه من فضل وزيادة. 30/468
3_ قال _تعالى_:[ لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)].
وقد تعددت أقوال المفسرين, فبلغت بضعة عشر قولاً ذكر الآلوسي أكثرها, وذكر القرطبي معظمها غير معزو، وتداخل بعض ما ذكره الآلوسي, وزاد أحدهما ما لم يذكره الآخر.
ومراجع تأويل الآية تؤول إلى خمسة:
الأول: تأويل الجملة بأسرها بأن يؤول الخبر إلى معنى التوبيخ والتعجيب، وإلى هذا ذهب الفراء, ونفطويه, والزمخشري.
الثاني: تأويل معنى [مُنفَكِّينَ] بمعنى الخروج عن إمهال الله إياهم, ومصيرهم إلى مؤاخذتهم، وهو لابن عطية.
الثالث: تأويل متعلق [مُنفَكِّينَ] بأنه عن الكفر وهو لعبدالجبار، أو عن الاتفاق على الكفر وهو للفخر وأبي حيان, أو منفكين عن الشهادة للرسول"بالصدق قبل بعثته وهو لابن كيسان عبدالرحمن الملقب بالأصم، أو منفكين عن الحياة، أي هالكين، وعزي إلى بعض اللغويين.
الرابع: تأويل [حَتَّى] أنها بمعنى (إنْ) الاتصالية, والتقدير: وإن جاءتهم البينة.
الخامس: تأويل [رَسُولٌ] بأنه رسول من الملائكة يتلو عليهم صحفاً من عند الله, فهو في معنى قوله _تعالى_: [يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنْ السَّمَاءِ].
وعزاه الفخر إلى أبي مسلم, وهو يقتضي صرف الخبر إلى التهكم.
هذا والمراد بـ[الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] أنهم كفروا برسالة محمد"مثل ما في قوله _تعالى_: [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ].(1/376)
وأنت لا يعوزك إرجاعُ أقوال المفسرين إلى هذه المعاقد, فلا نحتاج إلى التطويل بذكرها؛ فدونك فراجعها إن شئت؛ فبنا أن نهتم بتفسير الآية على الوجه البين.
إن هذه الآيات وردت مَوْرِدَ إقامةِ الحجة على الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب, وعلى المشركين بأنهم متنصلون من الحق, متعللون للإصرار على الكفر عناداً؛ فلنسلك بالخبر مسلك مورد الحجة, لا مسلك إفادة النسبة الخبرية؛ فتعين علينا أن نصرف التركيب عن استعمال ظاهره إلى استعمال مجازي على طريقة المجاز المرسل المركب من قبيل استعمال الخبر في الإنشاء, والاستفهام في التوبيخ, ونحو ذلك الذي قال فيه التفتزاني في المطول: إن بيان أنه من أي أنواع النجاز هو مما لم يَحُمْ أحدٌ حوله، والذي تصدى السيد الشريف لبيانه بما لا يبقي فيه شبهة.
فهذا الكلام مسوق مساق نقل الأقوال المستغربة المضطربة الدالة على عدم ثبات آراء أصحابها؛ فهو من الحكاية لما كانوا يعدون به فهو حكاية بالمعنى كأنه قيل: كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه حتى تأتينا البينة، وهذا تعريض بالتوبيخ بأسلوب الإخبار المستعمل في إنشاء التعجيب أو الشكاية من صلف المخبر عنه، وهو استعمال عزيز بديع وقريب منه قوله _تعالى_: [يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ] إذ عبر بصيغة يحذر, وهم إنما تظاهروا بالحذر, ولم يكونوا حاذرين حقاً؛ ولذلك قال الله _تعالى_: [قُلْ اسْتَهْزِئُوا].(1/377)
فالخبر موجَّهٌ لكل سامع، ومضمونه قول: =كان صدر من أهل الكتاب, واشتهر عنهم, وعرفوا به وتقرر تعلل المشركين به لأهل الكتاب حين يدعونهم إلى اتباع اليهودية أو النصرانية, فيقولوا: لم يأتنا رسول كما أتاكم قال _تعالى_: [أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ].
وتقرر تعلل أهل الكتاب به حين يدعوهم النبي"للإسلام، قال _تعالى_: [الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ] الآية.
وشيوعه عن الفريقين قرينة على أن المراد من سياقه دمغهم بالحجة, وبذلك كان التعبير بالمضارع المستقبل في قوله: [حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ] مصادفاً المَحَزَّ؛ فإنهم كانوا يقولون ذلك قبل مجيء الرسول".
وقريب منه قوله _تعالى_ في أهل الكتاب: [وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ].
وحاصل المعنى: أنكم كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه من الدين حتى تأتينا البينة، أي العلامة التي وعدنا بها.
وقد جعل ذلك تمهيداً وتوطئة لقوله بعده: [رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً] الخ.
وإذ اتضح موقع هذه الآية, وانقشع أشكالها فلننتقل إلى تفسير ألفاظ الآية. 30/470_472(1/378)
1_ سميت هذه السورة في كلام الصحابة سورة [إِذَا زُلْزِلَتْ] روى الواحدي في أسباب النزول عن عبد الله بن عمرو: =نَزَلَتْ إذا زلزلت وأبو بكر قاعد فبكى+ الحديث(1).
وفي حديث أنس بن مالك مرفوعاً عند الترمذي [إِذَا زُلْزِلَتْ] تعدل نصف القرآن، وكذلك عنونها البخاري, والترمذي.
وسميت في كثير من المصاحف, ومن كتب التفسير (سورة الزلزال).
وسميت في مصحف بخط كوفي قديم من مصاحف القيروان (زلزلت) وكذلك سماها في الإتقان في السور المختلف في مكان نزولها، وكذلك تسميتها في تفسير ابن عطية، ولم يعدها في الإتقان في عداد السور ذوات أكثر من اسم؛ فكأنه لم ير هذه ألقاباً لها, بل جعلها حكاية بعض ألفاظها, ولكن تسميتها سورة الزلزلة تسمية بالمعنى لا بحكاية بعض كلماتها.
واختلف فيها, فقال ابن عباس، وابن مسعود، ومجاهد، وعطاء، والضحاك: هي مكية, وقال قتادة، ومقاتل: مدنية, ونسب إلى ابن عباس _أيضاً_.
والأصح أنها مكية, واقتصر عليه البغوي, وابن كثير, ومحمد بن الحسن النيسابوري في تفاسيرهم.
وذكر القرطبي عن جابر أنها مكية, ولعله يعني: جابر بن عبد الله الصحابي؛ لأن المعروف عن جابر بن زيد أنها مدنية؛ فإنها معدودة في نزول السور المدنية فيما روي عن جابر بن زيد.
وقال ابن عطية: =آخرها وهو [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه] الآية نزل في رجلين كانا بالمدينة+ ا هـ.
وستعلم أنه لا دلالة فيه على ذلك.
وقد عدت الرابعة والتسعين في عداد نزول السور فيما روي عن جابر بن زيد, ونظمه الجعبري وهو بناء على أنها مدنية جعلها بعد سورة النساء, وقبل سورة الحديد.
__________
(1) _ تمامه: فقال له رسول الله": =ما يبكيك يا أبا بكر+؟ فقال: أبكاني هذه السورة، فقال النبي": =لو أنكم لا تخطئون ولا تذنبون لخلق الله أمة بعدكم يخطئون ويذنبون ويستغفرون فيغفر لهم+.(1/379)
وعدد آيها تسع عند جمهور أهل العدد، وعدها أهل الكوفة ثماني؛ للاختلاف في أن قوله: [يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ] آيتان أو آية واحدة. 30/489_490
2_ أغراضها: إثباتُ البعثِ, وذكرُ أشراطِه, وما يعتري الناس عند حدوثها من الفزع.
وحضورُ الناس للحشر, وجزائهم على أعمالهم من خير أو شر, وهو تحريضٌ على فعل الخير, واجتناب الشر. 30/490
3_ والتعريف في [الإِنسَانُ]: تعريف الجنس المفيد للاستغراق، أي وقال الناس: ما لها، أي الناس الذين هم أحياء, ففزعوا, وقال بعضهم لبعض، أو قال كل أحد في نفسه حتى استوى في ذلك الجبان والشجاع، والطائش والحكيم؛ لأنه زلزال تجاوز الحد الذي يصبر على مثله الصبور. 30/491
4 _ قال _تعالى_:[ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه (8)].
وهذه الآية معدودة من جوامع الكلم, وقد وصفها النبي"بالجامعة الفاذة ففي الموطأ أن النبي"قال: =الخيل لثلاثة+ الحديث, فسئل عن الحمر فقال: =لم ينزل علي فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه].
وعن عبدالله بن مسعود أنه قال: =هذه أحكم آية في القرآن+.
وقال الحسن: قدم صعصعة بن ناجية جد الفرزدق على النبي"يستقرئ النبي القرآن, فقرأ عليه هذه الآية فقال صعصعة: =حسبي؛ فقد انتهت الموعظة لا أبالي أن لا أسمع من القرآن غيرها+.
وقال كعب الأحبار لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف: [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه].
وإذ قد كان الكلام مسوقاً للترغيب والترهيب معاً أُوثِرَ جانب الترغيب بالتقديم في التقسيم؛ تنويهاً بأهل الخير. 30/495(1/380)
1_ سميت في المصاحف القيروانية العتيقة والتونسية والمشرقية (سورة العاديات) بدون واو، وكذلك في بعض التفاسير؛ فهي تسمية لما ذكر فيها دون حكاية لفظه.
وسميت في بعض كتب التفسير (سورة والعاديات) بإثبات الواو.
واختلف فيها, فقال ابن مسعود، وجابر بن زيد، وعطاء، والحسن، وعكرمة: هي مكية, وقال أنس بن مالك، وابن عباس، وقتادة: هي مدنية.
وعدت الرابعة عشرة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد بناءً على أنها مكية نزلت بعد سورة العصر, وقبل سورة الكوثر.
وآيها إحدى عشرة.
ذكر الواحدي في أسباب النزول عن مقاتل وعن غيره أن رسول الله"بعث خيلاً سرية إلى بني كنانة، وأمر عليها المنذر بن عمرو الأنصاري؛ فأسهبت _أي أمعنت في سهب, وهي الأرض الواسعة_ شهراً وتأخر خيرهم(1) فأرجف المنافقون وقالوا: قتلوا جميعاً، فأخبر الله عنهم بقوله: [وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً] الآيات؛ إعلاماً بأن خيلهم قد فعلت جميع ما في تلك الآيات.
وهذا الحديث قال في الإتقان: =رواه الحاكم وغيره+.
وقال ابن كثير: =روى أبو بكر البزار هنا حديثاً غريباً جداً+ وساق الحديث قريباً مما للواحدي.
وأقول غرابة الحديث لا تناكد قبوله, وهو مروي عن ثقات إلا أن في سنده حفص بن جميع وهو ضعيف؛ فالراجح أن السورة مدنية. 30/497
2_ أغراضها: ذمُّ خصالٍ تُفضي بأصحابها إلى الخسران في الآخرة، وهي خصالٌ غالية على المشركين والمنافقين، ويراد تحذير المسلمين منها.
ووعظُ الناسِ بأن وراءهم حساباً على أعمالهم بعد الموت؛ ليتذكره المؤمن, ويُهَدَّد به الجاحد.
وأُكِّد ذلك كلُّه بأن اُفتُتِحَ بالقسم، وأُدْمِج في القسم التنويهُ بخيل الغزاة, أو رواحل الحجيج. 30/498
3_ والضبح: اضطراب النفس المتردد في الحنجرة دون أن يخرج من الفم, وهو من أصوات الخيل والسباع.
وعن عطاء: سمعت ابن عباس يصف الضبح أح أح.
__________
(1) _ هكذا في الأصل, ولعل الصواب: خبرهم. (م).(1/381)
وعن ابن عباس: =ليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس، والكلب، والثعلب+.
وهذا قول أهل اللغة, واقتصر عليه في القاموس.
روى ابن جرير بسنده إلى ابن عباس قال: =بينما أنا جالس في الحجر جاءني رجل فسألني عن [الْعَادِيَاتِ ضَبْحاً] فقلت له: الخيل حين تغير في سبيل الله, ثم تأوي إلى الليل, فيصنعون طعامهم, ويورون نارهم، فانفتل عني فذهب إلى علي بن أبي طالب وهو تحت سقاية زمزم فسأله عنها، فقال: سألت عنها أحد قبلي? قال : نعم، سألت ابن عباس فقال: الخيل تغزو في سبيل الله، قال اذهب فادعه لي، فلما وقفت عند رأسه، قال: تفتي الناس بما لا علم لك به, والله لكانت أول غزوة في الإسلام لبدر, وما كان معنا إلا فرسان: فرسٌ للزبير، وفرسٌ للمقداد؛ فكيف تكون العاديات ضبحاً؟ إنما العاديات ضبحاً الإبل من عرفة إلى المزدلفة, ومن المزدلفة إلى منى يعني بذلك أن السورة مكية قبل ابتداء الغزو الذي أوله غزوة بدر, قال ابن عباس: فنزعت عن قولي ورجعت إلى الذي قال علي+.
وليس في قول علي÷تصريح بأنها مكية ولا مدنية, وبمثل ما قال علي، قال ابن مسعود، وإبراهيم، ومجاهد، وعبيد بن عمير. 30/498_499
4_ والضبح لا يطلق على صوت الإبل في قول أهل اللغة؛ فإذا حمل [الْعَادِيَاتِ] على أنها الإبل، فقال المبرد وبعض أهل اللغة: =من جعلها للإبل جعل [ضَبْحاً] بمعنى ضبعاً، يقال: ضبحت الناقة في سيرها وضبعت، إذا مدت ضبعيها في السير+.
وقال أبو عبيدة: =ضبحت الخيل وضبعت إذا عدت، وهو أن يمد الفرس ضبعيه إذا عدا+ أي فالضبح لغة في الضبع وهو من قلب العين حاء.
قال في الكشاف =وليس بثبت+.
ولكن صاحب القاموس اعتمده وعلى تفسير (العاديات) بأنها الإبل يكون الضبح استعير لصوت الإبل، أي من شدة العدو قويت الأصوات المترددة في حناجرها حتى أشبهت ضبح الخيل, أو أريد بالضبح الضبع على لغة الإبدال. 30/499(1/382)
5_ وإذا فسر [الْمُغِيرَاتِ] بالإبل المسرعات في السير، فالمراد: دفعها من مزدلفة إلى منى صباح يوم النحر وكانوا يدفعون بكرة عندما تشرق الشمس على ثبير، ومن أقوالهم في ذلك: =أشْرِقْ ثَبير كيما نغير+.
و[أَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً]: أصعدن الغبار من الأرض من شدة عدوهن، والإثارة: الإهاجة، والنقع: الغبار. 30/500_501
6_ ومن بديع النظم وإعجازه إيثار كلمات =العاديات وضبحاً، والموريات وقدحاً، والمغيرات وصبحاً، ووسطن وجمعاً+ دون غيرها؛ لأنها برشقاتها(1) تتحمل أن يكون المقسم به خيل الغزو، ورواحل الحج. 30/501
7_ والكنود: وصف من أمثلة المبالغة من كند, ولغات العرب مختلفة في معناه؛ فهو في لغة مضر وربيعة: الكفور بالنعمة، وبلغة كنانة: البخيل، وفي لغة كندة وحضرموت: العاصي، والمعنى: الشديد الكفران لله.
والتعريف في [الإِنسَانَ] تعريف الجنس وهو يفيد الاستغراق غالباً، أي أن في طبع الإنسان الكنود لربه، أي كفران نعمته، وهذا عارض يعرض لكل إنسان على تفاوت فيه, ولا يسلم منه إلا الأنبياء, وكُمُّلُ أهل الصلاح؛ لأنه عارض ينشأ عن إيثار المرء نفسه, وهو أمر في الجبلة لا تدفعه إلا المراقبة النفسية, وتذكُّرُ حقِّ غيره.
وبذلك قد يذهل أو ينسى حق الله، والإنسان يحس بذلك من نفسه في خطراته، ويتوانى أو يغفل عن مقاومته؛ لأنه يشتغل بإرضاء داعية نفسه, والأنفس متفاوتة في تمكن هذا الخلق منها، والعزائم متفاوتة في استطاعة مغالبته. 30/502_503
1_ اتفقت المصاحف, وكتب التفسير, وكتب السنة على تسمية هذه السورة (سورة القارعة) ولم يُرْوَ شيء في تسميتها من كلام الصحابة والتابعين.
واتفق على أنها مكية.
وعدت الثلاثين في عداد نزول السور نزلت بعد سورة قريش وقبل سورة القيامة.
وآيها عشر في عد أهل المدينة وأهل مكة، وثمان في عد أهل الشام والبصرة، وإحدى عشرة في عد أهل الكوفة. 30/509
__________
(1) _ هكذا في الأصل, ولعل الصواب: برشاقتها. (م).(1/383)
2_ أغراضُها: ذُكِرَ فيها إثباتُ وقوعِ البعث, وما يسبق ذلك من الأهوال.
وإثباتُ الجزاءِ على الأعمال, وأن أهلَ الأعمالِ الصالحة المعتبرةِ عند الله في نعيم، وأهلَ الأعمالِ السيئةِ التي لا وزن لها عند الله في قعر الجحيم. 30/509
3_ في قوله: [يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5)].
والمقصود بهذا التوقيت زيادةُ التهويل بما أضيف إليه [يَوْمَ] من الجملتين المفيدتين أحوالاً هائلة، إلا أن شأن التوقيت أن يكون بزمان معلوم، وإذ قد كان هذا الحال الموقت بزمانه غير معلوم مداه _ كان التوقيت له إطماعاً في تعيين وقت حصوله؛ إذ كانوا يسألون متى هذا الوعد، ثم توقيته بما هو مجهول لهم إبهاماً آخر للتهويل والتحذير من مفاجأته، وأُبْرِزَ في صورة التوقيت للتشويق إلى البحث عن تقديره، فإذا باءَ الباحث بالعجز عن أخذٍ بحيطة الاستعداد؛ لحلوله بما ينجيه من مصائبه التي قرعت به الأسماع في آي كثيرة.
فحصل في هذه الآية تهويلٌ شديدٌ بثمانية طرق: وهي الابتداء باسم القارعة المؤذن بأمر عظيم، والاستفهام المستعمل في التهويل، والإظهار في مقام الإضمار أول مرة، والاستفهام عما ينبئ بِكُنْه القارعة، وتوجيه الخطاب إلى غير معين، والإظهار في مقال الإضمار ثاني مرة، والتوقيت بزمان مجهول حصوله وتعريف ذلك الوقت بأحوال مهولة. 30/511_512
4_ وقوله: [فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ]: إخبار عنه بالشقاء وسوء الحال، فالأم هنا يجوز أن تكون مستعملة في حقيقتها.
وهاوية: هالكة، والكلام تمثيل لحال من خفت موازينه يومئذ بحال الهالك في الدنيا؛ لأن العرب يكنون عن حال المرء بحال أمه في الخير والشر؛ لشدة محبتها ابنَها؛ فهي أشد سروراً بسروره, وأشد حزناً بما يحزنه.
صلى أعرابي وراء إمام فقرأ الإمام: [وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً] فقال الأعرابي: =لقد قرَّت عين أم إبراهيم+.(1/384)
ومنه قول ابن زيابة حين تهدده الحارث بن همام الشيباني:
يا لهف زيابة للحارث الصا ... بح فالغانم فالآيب
ويقولون في الشر: هوت أمه، أي أصابه ما تهلك به أمه، وهذا كقولهم: ثكلته أمه، في الدعاء، ومنه ما يستعمل في التعجب وأصله الدعاء كقول كعب ابن سعد الغنوي في رثاء أخيه أبي المغوار:
هوت أمه ما يبعث الصبح غادياً ... وماذا يرد الليل حين يؤوب
أي ماذا يبعث الصبح منه غادياً, وما يرد الليل حين يؤوب غانماً، وحذف منه في الموضعين؛ اعتماداً على قرينة رفع الصبح والليل وذكر: غادياً ويؤوب و(من) المقدرة تجريدية, فالكلام على التجريد مثل: لقيت منه أسداً.
فاستعمل المركب الذي يقال عند حال الهلاك وسوء المصير في الحالة المشبهة بحال الهلاك، ورمز إلى التشبيه بذلك المركب، كما تضرب الأمثال السائرة.
ويجوز أن يكون [أُمُّهُ] مستعاراً لمقره ومآله؛ لأنه يأوي إليه كما يأوي الطفل إلى أمه.
و[هَاوِيَةٌ] المكان المنخفض بين الجبلين الذي إذا سقط فيه إنسان أو دابة هلك يقال: سقط في الهاوية.
وأريد بها جهنم، وقيل: هي اسم لجهنم، أي فمأواه جهنم.
ويجوز أن يكون [أُمُّهُ] على حذف مضاف، أي أم رأسه وهي أعلى الدماغ, وهاوية: ساقطة من قولهم: سقط على أم رأسه، أي هلك. 30/514_515
1_ قال الآلوسي أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال: =كان أصحاب رسول الله"يسمونها (المقبرة)+ ا هـ.
وسميت في معظم المصاحف ومعظم التفاسير (سورة التكاثر) وكذلك عنونها الترمذي في جامعه, وهي كذلك معنونة في بعض المصاحف العتيقة بالقيروان.
وسميت في بعض المصاحف: (سورة ألهاكم) وكذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه.
وهي مكية عند الجمهور قال ابن عطية: =هي مكية لا أعلم فيها خلافاً+.
وعن ابن عباس والكلبي ومقاتل: أنها نزلت في مفاخرة جرت بين بني عبدمناف وبني سهم في الإسلام _كما يأتي قريباً_ وكانوا من بطون قريش بمكة, ولأن قبور أسلافهم بمكة.(1/385)
وفي الإتقان: المختار أنها مدنية, قال: ويَدَلُّ له ما أخرجه ابن أبي حاتم أنها نزلت في قبيلتين من الأنصار تفاخروا، وما أخرجه البخاري عن أبي بن كعب أن رسول الله"قال: =لو أن لابن آدم وادياً من ذهب أحب أن يكون له واديان ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب+.
قال أُبيٌّ: =كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت: [أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ]+ ا هـ.
يريد المستدل بهذا أن أبياً أنصاريٌّ, وأن ظاهرَ قوله: =حتى نزلت: [أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ]+ أنها نزلت بعد أن كانوا يعدون =لو أن لابن آدم وادياً من ذهب الخ من القرآن+.
وليس في كلام أُبيُّ دليل ناهض؛ إذ يجوز أن يريد بضمير (كنا) المسلمين، أي كان من سبق منهم يعد ذلك من القرآن حتى نزلت سورة التكاثر وبين لهم النبي"أن ما كانوا يقولونه ليس بقرآن.
والذي يظهر من معاني السورة, وغلظةِ وعيدها أنها مكية, وأن المخاطب بها فريق من المشركين؛ لأن ما ذكر فيها لا يليق بالمسلمين أيامئذ.
وسبب نزولها _فيما قاله الواحدي والبغوي عن مقاتل والكلبي والقرطبي عنهما وعن ابن عباس_: أن بني عبدمناف وبني سهم من قريش تفاخروا, فتعادّوا السادة والأشراف من أيهم أكثر عدداً؛ فكثر بنو عبدمناف بني سهم ثم قالوا نعد موتانا حتى زاروا القبور؛ فعدوا القبور؛ فَكَثَرَهم بنو سهم بثلاثة أبيات؛ لأنهم كانوا أكثر عدداً في الجاهلية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بريدة الجرمي قال: نزلت في قبيلتين من الأنصار بني حارثة وبني الحارث تفاخروا وتكاثروا بالأحياء ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور؛ فجعلت إحدى الطائفتين تقول: فيكم مثل فلان، تشير إلى القبر، ومثل فلان، وفعل الآخرون مثل ذلك، فأنزل الله: [أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ].
وقد عدت السادسة عشرة في ترتيب نزول السور، ونزلت بعد سورة الكوثر, وقبل سورة الماعون؛ بناءً على أنها مكية.
وعدد آياتها ثمان. 30/517_518(1/386)
2_ أغراضها: اشتملت على التوبيخِ على اللهو عن النظرِ في دلائل القرآن, ودعوة الإسلامِ بإيثار المال, والتكاثر به, والتفاخر بالأسلاف, وعدمِ الإقلاع عن ذلك إلى أن يصيروا في القبور كما صار مَنْ كان قبلَهم، وعلى الوعيد على ذلك.
وحثهم على التدبر فيما يُنْجِيهم من الجحيم.
وأنهم مبعوثون ومسؤولون عن إهمال شكر المنعم العظيم. 30/518
3_ في قوله: [حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ] غاية؛ فيحتمل أن يكون غاية لفعل [أَلْهَاكُمْ] كما في قوله _تعالى_: [قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى] أي دام إلهاء التكاثر إلى أن زرتم المقابر، أي استمر بكم طول حياتكم؛ فالغاية مستعملة في الإحاطة بأزمان المُغَيَّا لا في تنهيته, وحصول ضده؛ لأنهم إذا صاروا إلى المقابر انقطعت أعمالهم كلها.
ولكون زيارة المقابر على هذا الوجه عبارة عن الحلول فيها، أي قبور المقابر _وحقيقة الزيارة الحلول في المكان حلولاً غير مستمر_ فأطلق فعل الزيارة هنا؛ تعريضاً بهم بأن حلولهم في المقابر يعقبهم خروجٌ منها.
والتعبير بالفعل الماضي في [زُرْتُمْ] لتنزيل المستقبل منزلة الماضي؛ لأنه محقق وقوعه مثل قوله: [أَتَى أَمْرُ اللَّهِ].
ويحتمل أن تكون الغاية للمتكاثر به الدال عليه التكاثر، أي بكل شيء حتى بالقبور تعدونها.
وهذا يجري على ما روى مقاتل والكلبي أن بني عبدمناف وبني سهم تفاخروا بكثرة السادة منهم، كما تقدم في سبب نزولها آنفاً، فتكون الزيارة مستعملة في معناها الحقيقي، أي زرتم المقابر؛ لتعدوا القبور، والعرب يكنون بالقبر عن صاحبه، قال النابغة:
لئن كان للقبرين قبر بجلق ... وقبر بصيداء الذي عند حاربِ
وقال عصام بن عبيد الزماني، أو همام الرَّقَاشي:
لو عدَّ قبر وقبر كنت أقربهم ... قبراً وأبعدهم من منزل الذام
أي كنت أقربهم منك قبراً، أي صاحب قبر.(1/387)
والمقابر جمع مقبرة بفتح الموحدة وبضمها, والمقبرة الأرض التي فيها قبور كثيرة. 30/520_521
1_ ذكر ابن كثير أن الطبراني روى بسنده عن عبيدالله بن حصين قال: =كان الرجلان من أصحاب رسول الله " إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر+ الخ ما سيأتي.
وكذلك تسميتها في مصاحف كثيرة, وفي معظم كتب التفسير, وكذلك هي في مصحف عتيق بالخط الكوفي من المصاحف القيروانية في القرن الخامس.
وسميت في بعض كتب التفسير, وفي صحيح البخاري (سورة العصر) بإثبات الواو على حكاية أول كلمة فيها، أي سورة هذه الكلمة.
وهي مكية في قول الجمهور, وإطلاق جمهور المفسرين, وعن قتادة ومجاهد ومقاتل أنها مدنية, وروي عن ابن عباس, ولم يذكرها صاحب الإتقان في عداد السور المختلف فيها.
وقد عدت الثالثة عشرة في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الانشراح, وقبل سورة العاديات.
وآيها ثلاث آيات.
وهي إحدى سور ثلاث هن أقصر السور عدد آيات: هي, والكوثر, وسورة النصر.30/527
2_ أغراضها: واشتملت على إثباتِ الخسرانِ الشديدِ لأهل الشرك, ومَنْ كان مِثلَهم مِنْ أهلِ الكفر بالإسلام بعد أن بلغت دعوتُه، وكذلك مَنْ تقلَّد أعمالَ الباطلِ التي حذر الإسلامُ المسلمين منها.
وعلى إثبات نجاةِ وفوزِ الذين آمنوا وعملوا الصالحات, والداعين منهم إلى الحق.
وعلى فضيلةِ الصبرِ على تزكية النفس ودعوةِ الحق.
وقد كان أصحاب رسول الله"اتخذوها شعاراً لهم في ملتقاهم, روى الطبراني بسنده إلى عبيدالله بن عبدالله بن الحصين الأنصاري _من التابعين_ أنه قال: =كان الرجلان من أصحاب رسول الله إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها, ثم يسلم أحدهما على الآخر _أي سلام التفرق_ وهو سنة _أيضاً_ مثل سلام القدوم+.
وعن الشافعي: =لو تدبَّرَ الناسُ هذه السورةَ لَوَسعتهم+.
وفي رواية عنه: =لو لم ينزلْ إلى الناس إلا هي لكفتهم+.(1/388)
وقال غيره: =إنها شملت جميع علوم القرآن+ وسيأتي بيانه. 30/527_528
3_ وللعصر معانٍ يتعين أن يكون المراد منها لا يعدو أن يكون حالة دالة على صفة من صفات الأفعال الربانية، يتعين إما بإضافته إلى ما يقدر، أو بالقرينة، أو بالعهد.
وأَيَّاً مَا كان المراد منه هنا فإن القسم به باعتبار أنه زمن يذكر بعظيم قدرة الله _تعالى_ في خلق العالم وأحواله، وبأمور عظيمة مباركةٍ مثل الصلاة المخصوصة, أو عصر معين مبارك.
وأشهر إطلاق لفظ العصر أنه علم بالغلبة لوقت ما بين آخر وقت الظهر وبين اصفرار الشمس؛ فمبدؤه إذا صار ظل الجسم مثله بعد القدر الذي كان عليه عند زوال الشمس, ويمتد إلى أن يصير ظل الجسم مِثْلَيْ قَدْرِهِ بعد الظل الذي كان له عند زوال الشمس, وذلك وقت اصفرار الشمس، والعصر مبدأ العشي, ويعقبه الأصيل والاحمرار وهو ما قبل غروب الشمس قال الحارث بن حلزة:
آنست نبأة وأفزعها القنـ ... ـاص عصراً وقد دنا الإمساء
فذلك وقت يؤذن بقرب انتهاء النهار، ويذكر بخلقة الشمس والأرض، ونظام حركة الأرض حول الشمس، وهي الحركة التي يتكون منها الليل والنهار كل يوم, وهو من هذا الوجه كالقسم بالضحى, وبالليل, والنهار, وبالفجر, من الأحوال الجوية المتغيرة بتغير توجه شعاع الشمس نحو الكرة الأرضية.
وفي ذلك الوقت يتهيأ الناس للانقطاع عن أعمالهم في النهار كالقيام على حقولهم وجناتهم، وتجاراتهم في أسواقهم، فيذكِّر بحكمة نظام المجتمع الإنساني, وما ألهم الله في غريزته من دأب على العمل, ونظام لابتدائه وانقطاعه, وفيه يتحفز الناس للإقبال على بيوتهم؛ لمبيتهم والتأنس بأهليهم وأولادهم؛ وهو من النعمة أو من النعيم، وفيه إيماء إلى التذكير بمثل الحياة حين تدنو آجال الناس بعد مضي أطوار الشباب والاكتهال والهرم.
وتعريفه باللام على هذه الوجوه تعريف العهد الذهني أي كل عصر.
ويطلق العصر على الصلاة الموقتة بوقت العصر؛ وهي صلاةٌ معظمة.(1/389)
قيل: هي المراد بالوسطى في قوله _تعالى_: [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى].
وجاء في الحديث: =من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله+.
وورد في الحديث الصحيح: =ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة+ فذكر =ورجلٌ حلف يميناً فاجرة بعد العصر على سلعة لقد أعطي بها ما لم يعط+.
وتعريفه على هذا تعريف العهد, وصار علماً بالغلبة كما هو شأن كثير من أسماء الأجناس المعرفة باللام مثل العقبة.
ويطلق العصر على مدة معلومة لوجود جيل من الناس، أو ملك, أو نبي، أو دين، ويعين بالإضافة، فيقال: عصر الفطحل، وعصر إبراهيم، وعصر الإسكندر، وعصر الجاهلية؛ فيجوز أن يكون مراد هذا الإطلاق هنا، ويكون المعني به عصر النبي" والتعريف فيه تعريف العهد الحضوري مثل التعريف في (اليوم) من قولك: فعلت اليوم كذا؛ فالقسم به كالقسم بحياته في قوله _تعالى_: [لَعَمْرُكَ] قال الفخر: =فهو _تعالى_ أقسم بزمانه في هذه الآية, وبمكانه في قوله _تعالى_: [وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ]، وبعمره في قوله: [لَعَمْرُكَ]+. ا هـ.
ويجوز أن يراد عصر الإسلام كله, وهو خاتمة عصور الأديان لهذا العالم، وقد مثل النبي"عصر الأمة الإسلامية بالنسبة إلى عصر اليهود وعصر النصارى بما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس بقوله: =مثل المسلمين، واليهود، والنصارى كمثل رجل استأجر أجراء يعملون له يوماً إلى الليل, فعملت اليهود إلى نصف النهار ثم قالوا لا حاجة لنا إلى أجرك وما عملنا باطل، واستأجر آخرين بعدهم فقال: أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت لهم, فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: لك ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا، واستأجر قوماً أن يعملوا بقية يومهم, فعملوا حتى غابت الشمس, واستكملوا أجر الفريقين كليهما فأنتم هم+.
فلعل ذلك التمثيل النبوي له اتصال بالرمز إلى عصر الإسلام في هذه الآية.(1/390)
ويجوز أن يفسر العصر في هذه الآية بالزمان كله, فقال ابن عطية: =قال أبي ابن كعب: سألت رسول الله"عن العصر فقال: =أقسم ربكم بآخر النهار+.
وهذه المعاني لا يفي باحتمالها غير لفظ العصر.
ومناسبة القسم بالعصر لغرض السورة على إرادة عصر الإسلام ظاهرة؛ فإنها بينت حال الناس في عصر الإسلام بين من كفر به, ومن آمن واستوفى حظه من الأعمال التي جاء بها الإسلام، ويعرف منه حال من أسلموا وكان في أعمالهم تقصير متفاوت.
أما أحوال الأمم التي كانت قبل الإسلام فكانت مختلفة بحسب مجيء الرسل إلى بعض الأمم، وبقاء بعضِ الأمم بدون شرائع متمسكة بغير دين الإسلام من الشرك، أو بدين جاء الإسلام بنسخه، مثل: اليهودية، والنصرانية.
قال _تعالى_: [وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ] في سورة آل عمران. 30/528_530
4_ ومن أكبر الأعمال الصالحات التوبة من الذنوب لمقترفيها؛ فمن تحقق فيه وصف الإيمان, ولم يعمل السيئات أو عملها وتاب منها فقد تحقق له ضد الخسران وهو الربح المجازي، أي حسن عاقبة أمره، وأما من لم يعمل الصالحات, ولم يتب من سيئاته فقد تحقق فيه حكم المستثنى منه وهو الخسران.
وهذا الخسر متفاوت؛ فأعظمه وخالده الخسر المْنَجَرُّ عن انتفاء الإيمان بوحدانية الله وصدق الرسول"ودون ذلك تكون مراتب الخسر متفاوتة بحسب كثرة الأعمال السيئة ظاهرها وباطنها, وما حدده الإسلام لذلك من مراتب الأعمال وغفران بعض اللمم إذا ترك صاحبه الكبائر والفواحش وهو ما فسر به قوله _تعالى_: [إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ]. 30/531_532
5_ وتنكير [خُسْرٍ] يجوز أن يكون للتنويع، ويجوز أن يكون مفيداً للتعظيم والتعميم في مقام التهويل وفي سياق القسم. 30/532(1/391)
6_ وعُطف على عمل الصالحات التواصي بالحق والتواصي بالصبر وإن كان ذلك من عمل الصالحات، عطف الخاص على العام للاهتمام به؛ لأنه قد يُغْفَلُ عنه يُظَنُّ أن العمل الصالح هو ما أثره عمل المرء في خاصته؛ فوقع التنبيه على أن من العمل المأمور به إرشاد المسلم غيره, ودعوته إلى الحق؛ فالتواصي بالحق يشمل تعليم حقائق الهدي وعقائد الصواب, وإراضة النفس على فهمها بفعل المعروف وترك المنكر.
والتواصي بالصبر عطف على التواصي بالحق عطف الخاص على العام _أيضاً_ وإن كان خصوصه خصوصاً من وجه؛ لأن الصبر تحمل مشقة إقامة الحق وما يعترض المسلم من أذى في نفسه في إقامة بعض الحق. 30/532_533
7_ ومن الصبرِ الصبرُ على ما يلاقيه المسلم إذا أمر بالمعروف من امتعاض بعض المأمورين به, أو من أذاهم بالقول كمن يقول لآمره: هلا نظرت في أمر نفسك، أو نحو ذلك.
وأما تحمل مشقة فعل المنكرات كالصبر على تجشم السهر في اللهو والمعاصي، والصبر على بشاعة طعم الخمر لشاربها _ فليس من الصبر؛ لأن ذلك التحمل منبعث عن رجحان اشتهاء تلك المشقة على كراهية المشقة التي تعترضه في تركها. 30/533
8_ والتخلق بالصبر ملاك فضائل الأخلاق كلها, فإن الارتياض بالأخلاق الحميدة لا يخلو من حمل المرء نفسه على مخالفة شهوات كثيرة؛ ففي مخالفتها تعب يقتضي الصبر عليه حتى تصير مكارم الأخلاق ملكة لمن راض نفسه عليها، كما قال عمرو بن العاص:
إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه ... ولم يَنْهَ قلباً غاوياً حيث يمما
فيوشك أن تلفى له الدهر سبةٌ ... إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
وكذلك الأعمال الصالحة كلها لا تخلو من إكراه النفس على ترك ما يميل إليه, وفي الحديث: =حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات+.
وعن علي بن أبي طالب: =الصبر مطية لا تكبو+. 30/533_534(1/392)
9_ وأفادت صيغة التواصي بالحق وبالصبر أن يكون شأن حياة المؤمنين قائماً على شيوع التآمر بهما ديدناً لهم, وذلك يقتضي اتصاف المؤمنين بإقامة الحق وصبرهم على المكاره في مصالح الإسلام وأمته؛ لما يقتضيه عرف الناس من أن أحداً لا يوصي غيره بملازمة أمر إلا وهو يرى ذلك الأمر خليقاً بالملازمة؛ إذ قل أن يقدم أحد على أمر بحق هو لا يفعله, أو أمر بصبر وهو ذو جزع، وقد قال _تعالى_ توبيخاً لبني إسرائيل: [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ].
وقد تقدم هذا المعنى عند قوله _تعالى_: [وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ] في سورة الفجر. 30/534
1_ سميت هذه السورة في المصاحف, ومعظم التفاسير (سورة الهمزة) بلام التعريف, وعنونها في صحيح البخاري وبعض التفاسير (سورة ويل لكل همزة) وذكر الفيروز آبادي في بصائر ذوي التمييز أنها تسمى (سورة الحطمة) لوقوع هذه الكلمة فيها.
وهي مكية بالاتفاق.
وعدت الثانية والثلاثين في عداد نزول السور نزلت بعد سورة القيامة, وقبل سورة المرسلات.
وآيها تسع بالاتفاق.
روي أنها نزلت في جماعة من المشركين كانوا أقاموا أنفسهم للمز المسلمين, وسبهم, واختلاق الأحدوثات السيئة عنهم.
وسمي من هؤلاء المشركين: الوليد بن المغيرة المخزومي، وأمية بن خلف، وأبي بن خلف، وجميل بن معمر بن بني جمح _وهذا أسلم يوم الفتح وشهد حنيناً_ والعاص بن وائل من بني سهم.
وكلهم من سادة قريش, وسمي الأسود بن عبد يغوث، والأخنس بن شريق الثقفيان من سادة ثقيف أهل الطائف.
وكل هؤلاء من أهل الثراء في الجاهلية، والازدهاء بثرائهم وسؤددهم.
وجاءت آية السورة عامة؛ فعم حُكْمُها المسمَّيْنَ ومن كان على شاكلتهم من المشركين, ولم تذكر أسماءهم. 30/535(1/393)
2_ أغراضها: فَغَرَضُ هذه السورةِ وعيدُ جماعةٍ من المشركين جعلوا هَمْزَ المسلمين ولَمْزَهُمْ ضرباً من ضروب أذاهم؛ طمعاً في أن يلجئهم المللُ من أصناف الأذى إلى الانصراف عن الإسلام، والرجوع إلى الشرك. 30/535_536
3_ وهُمَزَة: وصف مشتق من الهمز, وهو أن يعيب أحدٌ أحداً بالإشارة بالعين, أو بالشدق, أو بالرأس بحضرته، أو عند توليه، ويقال: هامز وهماز، وصيغة فُعَلَة يدل على تمكن الوصف من الموصوف. 30/537
4_ ولمزة: وصف مشتق من اللمز وهو المواجهة بالعيب، وصيغته دالة على أن ذلك الوصف ملكة لصاحبه كما في هُمزة.
وهذان الوصفان من معاملة أهل الشرك للمؤمنين يومئذ، ومن عامل من المسلمين أحداً من أهل دينه بمثل ذلك كان له نصيب من هذا الوعيد.
فمن اتصف بشيء من هذا الخلق الذميم من المسلمين مع أهل دينه فإنها خصلة من خصال أهل الشرك.
وهي ذميمة تدخل في أذى المسلم, وله مراتب كثيرة بحسب قوة الأذى وتكرره, ولم يعد من الكبائر إلا ضرب المسلم, وسب الصحابة _رضي الله عنهم_ وإدمان هذا الأذى بأن يتخذه ديدناً؛ فهو راجع إلى إدمان الصغائر, وهو معدود من الكبائر. 30/537
5_ ومعنى إيصادها عليهم: ملازمة العذاب, واليأس من الإفلات منه كحال المساجين الذين أغلق عليهم باب السجن تمثيلُ تقريبٍ؛ لشدة العذاب بما هو متعارف في أحوال الناس، وحالُ عذابِ جهنمَ أشدُّ مما يبلغه تصور العقول المعتاد. 30/541
6_ وقوله: [فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ] حال: إما من ضمير [عَلَيْهِمْ] أي في حال كونهم في عمد، أي موثوقين في عمد كما يوثق المسجون المغلظ عليه من رجليه في فلقة ذات ثقب يدخل في رجله, أو في عنقه كالقرام, وإما حال من ضمير [إِنَّهَا] أي أن النار الموقدة في عمد، أي متوسطة عمداً كما تكون نار الشواء؛ إذ توضع عمد, وتجعل النار تحتها؛ تمثيلاً لأهلها بالشواء. 30/541_542(1/394)
1_ وردت تسميتها في كلام بعض السلف سورة (أَلَمْ تَرَ) روى القرطبي في تفسير (سورة قريش) عن عمرو بن ميمون قال: صليت المغرب خلف عمر ابن الخطاب فقرأ في الركعة الثانية (أَلَمْ تَرَ) و(لإِيلافِ قُرَيْشٍ).
وكذلك عنونها البخاري, وسميت في جميع المصاحف وكتب التفسير (سورة الفيل).
وهي مكية بالاتفاق.
وقد عدت التاسعة عشرة في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة [قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ] وقبل (سورة الفلق).
وقيل: قبل (سورة قريش) لقول الأخفش إن قوله _تعالى_: [لإِيلافِ قُرَيْشٍ] متعلق بقوله: [فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ] ولأن أبي بن كعب جعلها وسورة قريش سورة واحدة في مصحفه, ولم يفصل بينهما بالبسملة, ولخبر عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب المذكور آنفاً روى أن عمر بن الخطاب قرأ مرة في المغرب في الركعة الثانية سورة الفيل وسورة قريش، أي ولم يكن الصحابة يقرأون في الركعة من صلاة الفرض سورتين؛ لأن السنة قراءة الفاتحة وسورة؛ فدل أنهما عنده سورة واحدة.
ويجوز أن تكون سورة قريش نزلت بعد سورة الفلق, وألحقت بسورة الفيل, فلا يتم الاحتجاج بما في مصحف أبي بن كعب, ولا بما رواه عمرو بن ميمون.
وآيها خمس. 30/543
2_ أغراضها: وقد تضمنت التذكيرَ بأن الكعبةَ حرمُ الله, وأن اللهَ حَمَاه ممن أرادوا به سوءاً أو أظهر غَضَبَهُ عليهم, فعذبهم؛ لأنهم ظلموا بطمعهم في هدم مسجد إبراهيمَ, وهو عندهم في كتابهم، وذلك ما سماه الله كيداً، وليكون ما حل بهم تذكرةً لقريش بأن فاعلَ ذلك هو ربُّ ذلك البيتِ, وأنْ لا حظَّ فيه للأصنام التي نصبوها حوله.
وتنبيهَ قريشٍ, أو تذكيرَهُمْ بما ظهر من كرامةِ النبي"عند الله؛ إذ أهلك أصحاب الفيل في عام ولادته.(1/395)
ومن وراء ذلك تثبيتُ النبي"بأن اللهَ يَدْفَعُ عنه كيدَ المشركين, فإن الذي دَفَعَ كيدَ مَنْ يكيد لبيته لأَحَقُّ بأن يدفع كيدَ مَنْ يكيد لرسوله"ودينه, ويشعر بهذا قوله [أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ].
ومن وراء ذلك كلِّه التذكيرُ بأن اللهَ غالبٌ على أمره، وأن لا تغرَّ المشركين قُوَّتُهم, وَوَفْرَةُ عددهم, ولا يوهنَ النبي"تَأَلُّبَ قبائِلهم عليه؛ فقد أهلك الله من هو أشدُّ منهم قوةً وأكثرُ جمعاً.
ولم يتكرر في القرآن ذِكْر إهلاكِ أصحاب الفيل خلافاً لقصص غيرهم من الأمم لوجهين: أحدهما: أن إهلاك أصحاب الفيل لم يكن لأجل تكذيب رسولٍ من الله.
وثانيهما: أن لا يَتَّخِذَ منه المشركون غروراً بمكانةٍ لهم عند الله كغرورهم بقولهم المحكي في قوله _تعالى_: [أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] الآيةَ، وقوله: [وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ]. 30/543_544
1_ سميت هذه السورة في عهد السلف (سورة لإيلاف قريش) قال عمرو ابن ميمون الأودي: =صلى عمر بن الخطاب المغرب فقرأ في الركعة الثانية (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ) و(لإِيلافِ قُرَيْشٍ)+.
وهذا ظاهر في إرادة التسمية, ولم يعدها في الإتقان في السور التي لها أكثر من اسم.
وسميت في المصاحف وكتب التفسير (سورة قريش) لوقوع اسم قريش فيها, ولم يقع في غيرها، وبذلك عنونها البخاري في صحيحه.
والسورة مكية عند جماهير العلماء, وقال ابن عطية: بلا خلاف, وفي القرطبي عن الكلبي والضحاك أنها مدنية، ولم يذكرها في الإتقان مع السور المختلف فيها.
وقد عدت التاسعة والعشرين في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة التين وقبل سورة القارعة.
وهي سورة مستقلة بإجماع المسلمين على أنها سورة خاصة.(1/396)
وجعلها أبي بن كعب مع سورة الفيل سورة واحدة, ولم يفصل بينهما في مصحفه بالبسملة التي كانوا يجعلونها علامة فصل بين السور، وهو ظاهر خبر عمرو بن ميمون عن قراءة عمر بن الخطاب.
والإجماع الواقع بعد ذلك نقض ذلك.
وعدد آياتها أربع عند جمهور العادين, وعدها أهل مكة والمدينة خمس آيات.
ورأيت في مصحف عتيق من المصاحف المكتوبة في القيروان عددها أربع آيات مع أن قراءة أهل القيروان قراءة أهل المدينة. 30/553
2_ أغراضها: أَمْرُ قريشٍ بتوحيد الله _تعالى_ بالربوبية؛ تذكيراً لهم بنعمةِ أن اللهَ مكَّن لهم السَير في الأرض للتجارة برحلتي الشتاء والصيف لا يخشون عادياً يعدو عليهم.
وبأنه أَمَّنهم من المجاعات, وأمنَّهم من المخاوف؛ لما وقر في نفوس العرب من حرمتهم؛ لأنهم سكان الحرم وعمار الكعبة.
وبما أَلْهَمَ الناسَ من جلب المِيْرَةِ إليهم من الآفاق المجاورة كبلاد الحبشة.
ورد القبائل, فلا يغير على بلدهم أحد قال _تعالى_: [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ] فأكسبهم ذلك مهابةً في نفوس الناس وعطفاً منهم. 30/554
3_ افتتاح مبدع؛ إذ كان بمجرور بلام التعليل وليس بإثره بالقرب ما يصلح للتعليق به؛ ففيه تشويق إلى متعلق هذا المجرور, وزاده الطول تشويقاً؛ إذ فصل بينه وبين متعلَّقه _بالفتح_ بخمس كلمات، فيتعلق [لإِيلافِ] بقوله: [فَلْيَعْبُدُوا].
وتقديم هذا المجرور للاهتمام به؛ إذ هو من أسباب أمرهم بعبادة الله التي أعرضوا عنها بعبادة الأصنام والمجرور متعلق بفعل (ليعبدوا).
وأصل نظم الكلام: (لتعبد قريش رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف؛ لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف+.(1/397)
فلما اقتضى قصد الاهتمام بالمعمول تقديمه على عامله تولَّد من تقديمه معنى جعله شرطاً لعامله, فاقترن عامله بالفاء التي هي من شأن جواب الشرط؛ فالفاء الداخلة في قوله: [فَلْيَعْبُدُوا] مؤذنة بأن ما قبلها في قوة الشرط، أي مؤذنة بأن تقديم المعمول مقصود به اهتمام خاص, وعناية قوية هي عناية المشترط بشرطه، وتعليق بقية كلامه عليه لما ينتظره من جوابه، وهذا أسلوب من الإيجاز بديع. 30/554_555
4_ وقريش: لقب الجد الذي يجمع بطوناً كثيرةً وهو فهر بن مالك بن النضر ابن كنانة.
هذا قول جمهور النسابين وما فوق فهر فهم من كنانة، ولُقِّب فهر بلقب قريش بصيغة التصغير, وهو على الصحيح تصغير قَرْش _بفتح القاف, وسكون الراء, وشين معجمة_ اسم نوع من الحوت قوي يعدو على الحيتان, وعلى السفن.
وقال بعض النسابين: إن قريشاً لقب النضر بن كنانة, وروي عن النبي": =أنه سئل من قريش? فقال: =من ولد النضر+.
وفي رواية أنه قال: =إنا ولد النضر بن كنانة لا نقفوا أُمَّنَا ولا ننتفي من أبينا+.
فجميع أهل مكة هم قريش وفيهم كانت مناصب أهل مكة في الجاهلية موزعة بينهم, وكانت بنو كنانة بخَيْف منى, ولهم مناصب في أعمال الحج خاصة منها النسيء. 30/556
5_ والسَّنَةُ بالتحقيق أربعة فصول: الصيف: ثلاثة أشهر، وهو الذي يسميه أهل العراق وخراسان الربيع، ويليه القيظ ثلاثة أشهر، وهو شدة الحر، ويليه الخريف ثلاثة أشهر، ويليه الشتاء ثلاثة أشهر.
وهذه الآية صالحة للاصطلاحين.
واصطلاح علماء الميقات تقسيم السنة إلى ربيع, وصيف, وخريف, وشتاء، ومبدأ السنة الربيع هو دخول الشمس في برج الحمل, وهاتان الرحلتان هما رحلة تجارة وميرة كانت قريش تجهزهما في هذين الفصلين من السنة إحداهما في الشتاء إلى بلاد الحبشة, ثم اليمن يبلغون بها بلاد حمير، والأخرى في الصيف إلى الشام يبلغون بها مدينة بصرى من بلاد الشام. 30/558(1/398)
6_ ومعنى الآية تذكير قريش بنعمة الله عليهم؛ إذ يسر لهم ما لم يتأتَّ لغيرهم من العرب من الأمن من عدوان المعتدين, وغارات المغيرين في السنة كلها بما يسر لهم من بناء الكعبة, وشرعة الحج وأن جعلهم عُمَّار المسجد الحرام, وجعل لهم مهابةً وحرمةً في نفوس العرب كلهم في الأشهر الحرم وفي غيرها.
وعند القبائل التي تحرم الأشهر الحرم والقبائل التي لا تحرمها مثل طيء وقضاعة وخثعم, فتيسرت لهم الأسفار في بلاد العرب من جنوبها إلى شمالها، ولاذ بهم أصحاب الحاجات يسافرون معهم، وأصحاب التجارات يحمِّلونهم سلعهم، وصارت مكة وسطاً تجلب إليها السلع من جميع البلاد العربية, فتوزع إلى طالبيها في بقية البلاد، فاستغنى أهل مكة بالتجارة؛ إذ لم يكونوا أهل زرع ولا ضرع؛ إذ كانوا بواد غير ذي زرع, وكانوا يجلبون أقواتهم, فيجلبون من بلاد اليمن الحبوب من بر، وشعير، وذرة، وزبيب، وأديم، وثياب، والسيوف اليمانية، ومن بلاد الشام الحبوب، والتمر، والزيت، والزبيب، والثياب، والسيوف المشرفية، زيادة على ما جعل لهم مع معظم العرب من الأشهر الحرم، وما أقيم لهم من مواسم الحج وأسواقه كما يشير إليه قوله _تعالى_: [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ].
فذلك وجه تعليل الأمر بتوحيدهم الله بخصوص نعمة هذا الإيلاف مع أن لله عليهم نعماً كثيرة؛ لأن هذا الإيلاف كان سبباً جامعاً لأهم النعم التي بها قوام بقائهم. 30/560
7_ والعبادة التي أمروا بها عبادة الله وحده دون إشراك الشركاء معه في العبادة؛ لأن إشراك مَنْ لا يستحق العبادة مع الله الذي هو الحقيق بها ليس بعبادة, أو لأنهم شغلوا بعبادة الأصنام عن عبادة الله؛ فلا يذكرون الله إلا في أيام الحج في التلبية على أنهم قد زاد بعضهم فيها بعد قولهم: لبيك لا شريك لك, إلا شريكاً هو لك, تملكه وما ملك. 30/560
1_ سميت هذه السورة في كثير من المصاحف وكتب التفسير (سورة الماعون) لورود لفظ الماعون فيها دون غيرها.(1/399)
وسميت في بعض التفاسير (سورة أرأيت) وكذلك في مصحف من مصاحف القيروان في القرن الخامس، وكذلك عنونها في صحيح البخاري.
وعنونها ابن عطية بـ(سورة أرأيت الذي) وقال الكواشي في التلخيص: (سورة الماعون والدِّين وأرأيت) وفي الإتقان: وتسمى (سورة الدين) وفي حاشيتي الخفاجي وسعدي تسمى (سورة التكذيب) وقال البقاعي في نظم الدرر: تسمى (سورة اليتيم) وهذه ستة أسماء.
وهي مكية في قول الأكثر, وروي عن ابن عباس، وقال القرطبي عن قتادة: هي مدنية, وروي عن ابن عباس _أيضاً_ وفي الإتقان: قيل: نزل ثلاثٌ أولها بمكة أي إلى قوله: [الْمِسْكِينِ] وبقيتها نزلت بالمدينة، أي بناء على أن قوله: [فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ] إلى آخر السورة أريد بها المنافقون, وهو مروي عن ابن عباس, وقاله هبة الله الضرير(1) وهو الأظهر.
وعدت السابعة عشرة في عداد نزول السور، بناءً على أنها مكية، نزلت بعد سورة التكاثر وقبل سورة الكافرون.
وعدت آياتها ستاً عند معظم العادين: وحكى الآلوسي: أن الذين عدوا آياتها ستاً أهل العراق _أي البصرة والكوفة_ وقال الشيخ علي النوري الصفاقسي في غيث النفع: =وآيها سبع حمصي _أي شامي_ وست في الباقي+. وهذا يخالف ما قاله الآلوسي. 30/563_564
2_ أغراضها: من مقاصدِها التعجيبُ مِنْ حالِ مَنْ كذَّبوا بالبعث, وتفظيع أعمالهم من الاعتداءِ على الضعيف واحتقارِه, والإمساكِ عن إطعام المسكين، والإعراضِ عن قواعد الإسلام من الصلاة والزكاة؛ لأنه لا يخطر بباله أن يكون في فعله ذلك ما يجلب له غضبُ اللهِ وعقابه. 30/564
3_ وقوله: [الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ] صفة للمصلين مقيدة لحكم الموصوف؛ فإن الويل للمصلي الساهي عن صلاته لا للمصلي على الإطلاق.
__________
(1) _ هبة الله بن سلامة بن نصر بن علي أبو القاسم الضرير البغدادي المفسر له كتاب الناسخ والمنسوخ كانت له حلقة في جامع المنصور توفي سنة 410 (تاريخ بغداد ونكت الهميان).(1/400)
فيكون قوله: [الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ] ترشيحاً للتهكم الواقع في إطلاق وصف المصلين عليهم.
وعُدي [سَاهُونَ] بحرف [عَنْ] لإفادة أنهم تجاوزوا إقامة صلاتهم, وتركوها, ولا علاقة لهذه الآية بأحكام السهو في الصلاة.
وقوله: [الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ] يجوز أن يكون معناه الذين لا يؤدون الصلاة إلا رياءً, فإذا خلوا تركوا الصلاة.
ويجوز أن يكون معناه: الذين يصلون دون نية وإخلاص؛ فهم في حالة الصلاة بمنزلة الساهي عما يفعل, فيكون إطلاق [سَاهُونَ] تهكماً كما قال _تعالى_: [يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً] في المنافقين في سورة النساء.
ويراءون يقصدون أن يرى الناس أنهم على حال حسن وهم بخلافه؛ ليتحدث الناس لهم بمحاسن ما هم بموصوفين بها, ولذلك كثر أن تعطف السمعة على الرياء فيقال: رياء وسمعة. 30/567_568
4_ والماعون: يطلق على الإعانة بالمال، فالمعنى: يمنعون فضلهم, أو يمنعون الصدقة على الفقراء؛ فقد كانت الصدقة واجبة في صدر الإسلام بغير تعيين قبل مشروعية الزكاة.
وقال سعيد بن المسيب وابن شهاب: الماعون المال بلسان قريش.
وروى أشهب عن مالك: الماعون الزكاة: ويشهد له قول الراعي:
قوم على الإسلام لما يمنعوا ... ماعونهم ويضيعوا التهليلا
لأنه أراد بالتهليل الصلاة؛ فجمع بينها وبين الزكاة.
ويطلق على ما يستعان به على عمل البيت من آنية, وآلات طبخ, وشد, وحفر, ونحو ذلك مما لا خسارة على صاحبه في إعارته وإعطاءه.
وعن عائشة: =الماعون الماء والنار والملح+.
وهذا ذم لهم بمنتهى البخل, وهو الشح بما لا يزرئهم. 30/568
5_ واعلم أنه إذا أراد الله إنزال شيء من القرآن ملحقاً بشيء قبله جعل نظم الملحق مناسباً لما هو متصل به؛ فتكون الفاء للتفريع.
وهذه نكتة لم يسبق لنا إظهارها؛ فعليك بملاحظتها في كل ما ثبت أنه نزل من القرآن ملحقاً بشيء نزل قبله منه. 30/569(1/401)
1_ سميت هذه السورة في جميع المصاحف التي رأيناها في جميع التفاسير _أيضاً_ (سورة الكوثر) وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه, وعنونها البخاري في صحيحه سورة [إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ] ولم يعدها في الإتقان مع السور التي لها أكثر من اسم.
ونقل سعد الله الشهير بسعدي في حاشيته على تفسير البيضاوي عن البقاعي أنها تسمى (سورة النحر).
وهل هي مكية أو مدنية? تعارضت الأقوال والآثار في أنها مكية أو مدنية تعارضاً شديداً، فهي مكية عند الجمهور, واقتصر عليه أكثر المفسرين، ونقل الخفاجي عن كتاب النشر قال: أجمع من نعرفه على أنها مكية, قال الخفاجي: =وفيه نظر مع وجود الاختلاف فيها+.
وعن الحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة: هي مدنية, ويشهد لهم ما في صحيح مسلم عن أنس بن مالك: =بينا رسول الله"ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه, وقال: أنزلت علي آنفاً سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم [إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ].
ثم قال: أتدرون ما الكوثر? قلنا الله ورسوله أعلم, قال: فإنه نهر وعَدَنِيْهُ ربي _ عز وجل _ عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة+ الحديث.
وأنس أسلم في صدر الهجرة, فإذا كان لفظ (آنفاً) في كلام النبي"مستعملاً في ظاهر معناه وهو الزمن القريب _ فالسورة نزلت منذ وقت قريب من حصول تلك الرؤيا.
ومقتضى ما يروى في تفسير قوله _تعالى_: [إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ] أن تكون السورة مكية، ومقتضى ظاهر تفسير قوله _تعالى_: [وَانْحَرْ] من أن النحر في الحج, أو يوم الأضحى تكون السورة مدنية, ويبعث على أن قوله _تعالى_: [إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ] ليس رداً على كلام العاصي بن وائل كما سنبين ذلك.
والأظهر أن هذه السورة مدنية وعلى هذا سنعتمد في تفسير آياتها.(1/402)
وعلى القول بأنها مكية عدوها الخامسة عشرة في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة العاديات وقبل سورة التكاثر, وعلى القول بأنها مدنية فقد قيل: إنها نزلت في الحديبية.
وعدد آيها ثلاث بالاتفاق.
وهي أقصر سور القرآن عدد كلمات وعدد حروف، وأما في عدد الآيات فسورة العصر وسورة النصر مثلها, ولكن كلماتها أكثر. 30/571_572
2_ أغراضها: اشتملت على بشارةِ النبي"بأنه أعطي الخيرَ الكثيرَ في الدنيا والآخرة.
وأَمْرُهُ بأن يشكرَ اللهَ على ذلك بالإقبال على العبادة.
وأن ذلك هو الكمالُ الحقُّ لا ما يتطاول به المشركون على المسلمين بالثروة والنعمة, وهم مغضوبٌ عليهم من الله _تعالى_ لأنهم أبغضوا رسولَه، وغضبُ الله بَتْرٌ لهم إذا كانوا بمحل السخط من الله.
وأن انقطاع الولد الذكر فليس بتراً؛ لأن ذلك لا أثر له في كمال الإنسان. 30/572
3_ والكوثر: اسم في اللغة للخير الكثير صيغ على زنة فوعل، وهي من صيغ الأسماء الجامدة غالباً نحو الكوكب، والجورب، والحوشب والدوسر(1) ولا تدل في الجوامد على غير مسماها، ولما وقع هنا فيها مادة الكَثْر كانت صيغته مفيدة شدة ما اشتقت منه بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى، ولذلك فسره الزمخشري بالمفرط في الكثرة، وهو أحسن ما فسر به وأضبطه، ونضيره: جوهر، بمعنى الشجاع كأنه يجاهر عدوه، والصومعة؛ لاشتقاقها من وصف أصمع وهو دقيق الأعضاء؛ لأن الصومعة دقيقة؛ لأن طولها أَفْرُط من غِلَظِها.
ويوصف الرجل صاحب الخير الكثير بكوثر من باب الوصف بالمصدر كما في قول لبيد في رثاء عوف بن الأحوص الأسدي:
وصاحبُ ملحوبٍ فُجِعنا بفقده ... وعند الرداع بيت آخر كوثر
(
__________
(1) _ الجوارب: ثوب يجعل في صورة خف وتلف فيه الرجل؛ والحوشب: المنتفخ الجنبين وعظم في باطن الحافر, واسم للأرنب الذكر, والثعلب الذكر, والدوسر: الضخم الشديد.(1/403)
ملحوب والرداع) كلاهما ماء لبني أسد بن خزيمة، فوصف البيت بالكوثر, ولاحظ الكميت هذا في قوله في مدح عبدالملك بن مروان:
وأنت كثير يا ابن مروان طيب ... وكان أبوك ابن العقايل كوثرا
وسمي نهر الجنة كوثراً كما في حديث مسلم عن أنس بن مالك المتقدم آنفاً.
وقد فسر السلف الكوثر في هذه الآية بتفاسير أعمها أنه الخير الكثير، وروي عن ابن عباس قال سعيد بن جبير: =فقلت لابن عباس: إن ناساً يقولون هو نهر في الجنة، فقال: هو من الخير الكثير+.
وعن عكرمة: الكوثر هنا: النبوءة والكتاب، وعن الحسن: هو القرآن، وعن المغيرة: أنه الإسلام، وعن أبي بكر بن عياش: هو كثرة الأمة، وحكى الماوردي: أنه رفعة الذكر، وأنه نور القلب، وأنه الشفاعة.
وكلام النبي " المروي في حديث أنس لا يقتضي حصر معاني اللفظ فيما ذكره. 30/572_573
4_ وأريد من هذا الخبر بشارة النبي"وإزالة ما عسى أن يكون في خاطره من قول من قال فيه: هو أبتر، فقوبل معنى الأبتر بمعنى الكوثر؛ إبطالاً لقولهم.
وقوله: [فَصَلِّ لِرَبِّكَ] اعتراض, والفاء للتفريع على هذه البشارة بأن يشكر ربه عليها؛ فإن الصلاة أفعال وأقوال دالة على تعظيم الله والثناء عليه وذلك شكر لنعمته.
وناسب أن يكون الشكر بالازدياد مما عاداه عليه المشركون وغيرهم ممن قالوا مقالتهم الشنعاء: إنه أبتر؛ فإن الصلاة لله شكر له, وإغاظة للذين ينهونه عن الصلاة كما قال _تعالى_: [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى] لأنهم إنما نهوه عن الصلاة التي هي لوجه الله دون العبادة لأصنامهم، وكذلك النحر لله. 30/573_574
1_ عنونت هذه السورة في المصاحف التي بأيدينا قديمها وحديثها، وفي معظم التفاسير (سورة الكافرون) بإضافة (سورة) إلى (الكافرون) وثبوت واو الرفع في (الْكَافِرُونَ) على حكاية لفظ القرآن الواقع في أولها.(1/404)
ووقع في الكشاف، وتفسير ابن عطية، وحرز الأماني (سورة الكافرين) بياء الخفض في لفظ (الكافرين) بإضافة (سورة) إليه أن المراد سورة ذكر الكافرين، أو نداء الكافرين، وعنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه سورة [قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ].
قال في الكشاف والإتقان: وتسمى هي وسورة (قل هو الله أحد) بالمقشقشتين؛ لأنهما تُقشقشان من الشرك أي تبرئان منه يقال: قشقش، إذا أزال المرض.
وتسمى _أيضاً_ سورة الإخلاص؛ فيكون هذان الاسمان مشتركين بينها وبين سورة قل هو الله أحد.
وقد ذكر في سورة براءة أن سورة براءة تسمى المقشقشة؛ لأنها تقشقش، أي تبرئ من النفاق فيكون هذا مشتركاً بين السور الثلاث؛ فيحتاج إلى التمييز.
وقال سعد الله _المعروف بسعدي_ عن جمال القراء: أنها تسمى (سورة العبادة) وفي بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي تسمى (سورة الدين).
وهي مكية بالاتفاق في حكاية ابن عطية وابن كثير، وروي عن ابن الزبير أنها مدنية.
وقد عدت الثامنة عشرة في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الماعون, وقبل سورة الفيل.
وعدد آياتها ست. 30/579_580
2_ أغراضها: وسبب نزولها _ فيما حكاه الواحدي في أسباب النزول وابن إسحاق في السيرة _ أن رسول الله"كان يطوف في الكعبة, فاعترضه الأسودُ ابن المطلب بنِ أسد، والوليدُ بنُ المغيرةِ، وأميةُ بنُ خلف، والعاصُ بنُ وائلِ, وكانوا ذوي أسنان في قومهم، فقالوا: يا محمد: هلم فلنعبد ما تعبد سنة, وتعبد ما نعبد سنة, فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد كنا قد أخذنا بحظه منه, وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه, فقال: =معاذ الله أن أشرك به غيره+.(1/405)
فأنزل الله فيهم [قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ] السورة كلها, فغدا رسولُ اللهِ"إلى المسجد الحرام, وفيه الملأُ من قريشٍ, فقرأها عليهم, فيئسوا منه عند ذلك, وإنما عَرضوا عليه ذلك؛ لأنهم رأوا حِرْصَه على أن يؤمنوا؛ فطمعوا أن يستنزلوه إلى الاعتراف بإلهية أصنامهم .
وعن ابن عباس: =فيئسوا منه، وآذوه, وآذوا أصحابه+.
وبهذا يُعْلَمُ الغرضُ الذي اشتملت عليه، وأنه تأييسهم من أن يوافقهم في شيء مما هم عليه من الكفر بالقول الفصل المؤكد في الحال والاستقبال, وأن دينَ الإسلام لا يخالط شيئاً من دين الشرك. 30/580
3_ والسور المفتتحة بالأمر بالقول خمس سور: قل أوحي، وسورة الكافرون، وسورة الإخلاص، والمعوذتان؛ فالثلاث الأول لقول يبلِّغه، والمعوذتان لقول يقوله لتعويذ نفسه. 30/581
1_ سميت هذه السورة في كلام السلف (سورة إذا جاء نصر الله والفتح).
روى البخاري: =أن عائشة قالت: لما نزلت سورة إذا جاء نصر الله والفتح+ الحديث.
وسميت في المصاحف وفي معظم التفاسير (سورة النصر) لذكر نصر الله فيها، فسميت بالنصر المعهود عهداً ذِكْرياً.
وهي معنونة في جامع الترمذي (سورة الفتح) لوقوع هذا اللفظ فيها, فيكون هذا الاسم مشتركاً بينها وبين سورة [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً].
وعن ابن مسعود أنها تسمى (سورة التوديع) في الإتقان, لما فيها من الإيماء إلى وداعه"ا هـ.
يعني من الإشارة إلى اقتراب لحاقه بالرفيق الأعلى _ كما سيأتي عن عائشة _.
وهي مدنية بالاتفاق. 30/587
2_ ولم يختلف أهل التأويل أن المراد بالفتح في الآية هو فتح مكة وعليه فالفتح مستقبل, ودخول الناس في الدين أفواجاً مستقبل _أيضاً_ وهو الأليق باستعمال (إِذَا) ويحمل قول النبي"جاء نصر الله والفتح على أنه استعمال الماضي في معنى المضارع؛ لتحقق وقوعه, أو لأن النصر في خيبر كان بادرة لفتح مكة. 30/587_588(1/406)
3_ وقد تظافرت الأخبار رواية وتأويلاً أن هذه السورة تشتمل على إيماء إلى اقتراب أجل رسول الله"وليس في ذلك ما يرجح أحد الأقوال في وقت نزولها؛ إذ لا خلاف في أن هذا الإيماء يشير إلى توقيت مجيء النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجاً, فإذا حصل ذلك حان الأجل الشريف. 30/588
4_ وعدد آياتها ثلاث وهي مساوية لسورة الكوثر في عدد الآيات إلا أنها أطول من سورة الكوثر عدة كلمات، وأقصر من سورة العصر.
وهاته الثلاث متساوية في عدد الآيات, وفي حديث ابن أبي شيبة عن أبي إسحاق السبعي(1) في حديث: =طُعن عمر بن الخطاب ÷ فصلى عبدالرحمن ابن عوف صلاة خفيفة بأقصر سورتين في القرآن [إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ] و[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]. 30/589
5_ أغراضها: والغرضُ منها الوعدُ بنصرٍ كاملٍ من عند الله أو بفتح مكة، والبشارةُ بدخول خلائقَ كثيرةٍ في الإسلام بفتحٍ، وبدونه إن كان نزولها عند مُنْصَرَفِ النبيِّ"من خيبر _كما قال ابن عباس في أحد قوليه_.
والإيماءُ إلى أنه حين يقع ذلك فقد اقترب انتقالُ رسولِ اللهِ"إلى الآخرة.
ووعدُه بأن الله غَفَرَ له مغفرةً تامةً لا مؤاخذةَ عليه بعدها في شيء مما يختلج في نفسِه الخوف أن يكون منه تقصيرٌ يقتضيه تحديدُ القوةِ الإنسانية الحدّ الذي لا يفي بما تطلبه هِمَّتُه الملكيةُ بحيث يكون قد ساوى الحدَّ الملكي الذي وصفه الله _تعالى_ في الملائكة بقوله [يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ]. 30/589
__________
(1) _ هكذا في الأصل, والصواب: السبيعي. (م).(1/407)
6_ وقرن التسبيح بالحمد بباء المصاحبة المقتضية أن التسبيح لاحق للحمد؛ لأن باء المصاحبة بمعنى (مع) فهي مثل (مع) في أنها تدخل على المتبوع فكان حمد الله على حصول النصر والفتح ودخول الناس في الإسلام شيئاً مفروغاً منه لا يحتاج إلى الأمر بإيقاعه, لأن شأن الرسول"أنه قد فعله، وإنما يحتاج إلى تذكيره بتسبيح خاص لم يحصل من قبل في تسبيحاته، وباستغفار خاص لم يحصل من قبل في استغفاره.
ويجوز أن يكون التسبيح المأمور به تسبيح ابتهاج وتعجب من تيسير الله _تعالى_ له ما لا يخطر ببال أحد أن يتم له ذلك؛ فإن سبحان الله ونحوه يستعمل في التعجب كقول الأعشى:
قد قلتُ لما جاءني فخرُه ... سبحان مَنْ علقمةَ الفاخِر
30/593_594
7_ وفي تقديم الأمر بالتسبيح والحمد على الأمر بالاستغفار تمهيدٌ لإجابة استغفاره على عادة العرب في تقديم الثناء قبل سؤال الحاجة كما قال ابن أبي الصلت:
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه عن تعرضه الثناء
فإن رسول الله"لم يكن يخلو عن تسبيح الله, فأريد تسبيح يقارن الحمد على ما أعطيه من النصر والفتح, ودخول الأمة في الإسلام. 30/594
8_ والكلام من قبيل الكناية الرمزية, وهي لا تنافي إرادة المعنى الصريح بأن يحمل الأمر بالتسبيح والاستغفار على معنى الإكثار من قول ذلك.
وقد دل ذوقُ الكلام بعضَ ذوي الأفهام النافذة من الصحابة على هذا المعنى, وغاصت عليه مثل أبي بكر, وعمر, والعباس, وابنه عبدالله, وابن مسعود؛ فعن مقاتل: =لما نزلت قرأها النبي"على أصحابه, ففرحوا, واستبشروا, وبكى العباس فقال له النبي": ما يبكيك يا عم?
قال: نعيت إليك نفسك, فقال: إنه لكما تقول+.
وفي رواية نزلت في منى فبكى عمر, والعباس؛ فقيل لهما، فقالا: فيه نعي رسول الله فقال النبي": =صدقتما نعيت إلي نفسي+.(1/408)
وفي صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس: =كان عمر يأذن لأهل بدر ويأذن لي معهم, فوجد بعضهم من ذلك، فقال لهم عمر: إنه من قد علمتم, قال: فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم، فسألهم عن هذه السورة [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] فقالوا: أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه.
فقال: ما تقول يابن عباس? قلت: ليس كذلك, ولكن أخبر الله نبيه حضور أجله فقال: [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] فذلك علامة موتك? فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول+ فهذا فهم عمر، والعباس، وعبدالله ابنه.
وقال في الكشاف: روي أنه لما نزلت خطب رسول الله"فقال: =إن عبداً خيَّره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله عز وجل+.
فعلم أبو بكر فقال: =فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا+ ا هـ.
قال ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف: =الحديث متفق عليه إلا صدره دون أوله من كونه كان عند نزول السورة+ ا هـ.
ويحتمل أن يكون بكاء أبي بكر تكرر مرتين: أولاهما عند نزول سورة النصر _كما في رواية الكشاف_ والثانية عند خطبة النبي"في مرضه.
وعن ابن مسعود أن هذه السورة (تسمى سورة التوديع) أي لأنهم علموا أنها إيذان بقرب وفاة الرسول". 30/594_595
1_ سميت هذه السورة في أكثر المصاحف (سورة تبت) وكذلك عنونها الترمذي في جامعه, وفي أكثر كتب التفسير، تسمية لها بأول كلمة فيها.
وسميت في بعض المصاحف وفي بعض التفاسير (سورة المسد) واقتصر في الإتقان على هذين.
وسماها جمع من المفسرين (سورة أبي لهب) على تقدير: سورة ذكر أبي لهب, وعنونها أبو حيان في تفسيره (سورة اللهب) ولم أره لغيره.
وعنونها ابن العربي في أحكام القرآن (سورة ما كان من أبي لهب) وهو عنوان, وليس باسم.
وهي مكية بالاتفاق.
وعدت السادسة من السور نزولاً، نزلت بعد سورة الفاتحة, وقبل سورة التكوير.
وعدد آيها خمس.(1/409)
روي أن نزولها كان في السنة الرابعة من البعثة, وسبب نزولها على ما في الصحيحين عن ابن عباس قال: =صعد رسول الله"ذات يوم على الصفا, فنادى يا =صباحاه+ _كلمة ينادى بها للإنذار من عدو يصبح القوم_ فاجتمعت إليه قريش, فقال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد أرأيتم لو أني أخبرتكم أن العدو ممسيكم أو مصبحكم أكنتم تصدقوني? قالوا: ما جربنا عليك كذباً، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا? فنزلت تبت يدا أبي لهب+.
ووقع في الصحيحين من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ورهطك منهم المخلصين خرج رسول الله"حتى صعد الصفا+ إلى آخر الحديث المتقدم.
ومعلوم أن آية [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] من سورة الشعراء, وهي متأخرة النزول عن سورة تبت، وتأويل ذلك أن آية تشبه آية سورة الشعراء نزلت قبل سورة أبي لهب؛ لما رواه أبو أسامة يبلغ ابن عباس لما نزلت [وأنذر عشيرتك الأقربين وقومك منهم المخلصين] (ولم يقل من سورة الشعراء) خرج رسول الله"حتى صعد الصفا؛ فتعين أن آية سورة الشعراء تشبه صدر الآية التي نزلت قبل نزول سورة أبي لهب. 30/599_600
2_ أغراضها: زجرُ أبي لهبٍ على قوله: =تباً لك ألهذا جمعتنا?+ ووعيدُه على ذلك، ووعيد امرأته على انتصارها لزوجها، وبغضِها النبي". 30/600
3_ وكانت أم جميل هذه تحمل حطب العضاه والشوك؛ فتضعه في الليل في طريق النبي"الذي يسلك منه إلى بيته؛ ليعقر قدميه.
فلما حصل لأبي لهب وعيد مقتبس من كنيته جعل لامرأته وعيد مقتبس لفظه من فعلها وهو حمل الحطب في الدنيا، فأُنذرت بأنها تحمل الحطب في جهنم؛ ليوقد به على زوجها، وذلك خزي لها ولزوجها؛ إذ جعل شدة عذابه على يد أحب الناس إليه، وجعلها سبباً لعذاب أعز الناس عليها. 30/605
1_ المشهور في تسميتها في عهد النبي"وفيما جرى من لفظه وفي أكثر ما روي عن الصحابة تسميتها (سورة قل هو الله أحد).(1/410)
روى الترمذي عن أبي هريرة، وروى أحمد عن أبي مسعود الأنصاري، وعن أم كلثوم بنت عقبة أن رسول الله"قال: =قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن+.
وهو ظاهر في أنه أراد تسميتها بتلك الجملة؛ لأجل تأنيث الضمير من قوله تعدل فإنه على تأويلها بمعنى السورة.
وقد روي عن جمع من الصحابة ما فيه تسميتها بذلك، فذلك هو الاسم الوارد في السنة.
ويؤخذ من حديث البخاري عن إبراهيم عن أبي سعيد الخدري ما يدل على أن رسول الله " قال: =الله الواحد الصمد+ ثلث القرآن؛ فذكر ألفاظاً تخالف ما تقرأ به، ومحمله على إرادة التسمية.
وذكر القرطبي أن رجلاً لم يُسَمِّه قرأ كذلك، والناس يستمعون, وادعى أن ما قرأ به هو الصواب, وقد ذمه القرطبي وسبه.
وسميت في أكثر المصاحف, وفي معظم التفاسير, وفي جامع الترمذي (سورة الإخلاص) واشتهر هذا الاسم؛ لاختصاره وجمعه معاني هذه السورة؛ لأن فيها تعليمَ الناس إخلاصَ العبادة لله _تعالى_ أي سلامة الاعتقاد من الإشراك بالله غيره في الإلهية.
وسميت في بعض المصاحف التونسية سورة التوحيد؛ لأنها تشتمل على إثبات أنه _تعالى_ واحد.
وفي الإتقان أنها تسمى سورة الأساس, لاشتمالها على توحيد الله, وهو أساس الإسلام.
وفي الكشاف: =روى أُبي، وأنس عن النبي":=أْسَّتْ السماوات السبع والأرضون السبع على [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ](1).
يعني ما خلقت إلا لتكون دلائل على توحيد الله ومعرفة صفاته.
وذكر في الكشاف: أنها وسورة الكافرون تسميان المقشقشتين، أي المبرئتين من الشرك ومن النفاق, وسماها البقاعي في نظم الدرر (سورة الصمد) وهو من الأسماء التي جمعها الفخر. 30/609_610
2_ وهي مكية في قول الجمهور، وقال قتادة, والضحاك, والسدي, وأبو العالية, والقرظي: هي مدنية, ونسب كلا القولين إلى ابن عباس. 30/611
__________
(1) _ يقال أسَّ البناءَ إذا أقامه, وفي نسخة أُسست, وهذا الحديث ضعيف.(1/411)
3_ وعلى الأصح من أنها مكية، عدت السورة الثانية والعشرون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الناس, وقبل سورة النجم.
وآياتها عند أهل العدد بالمدينة، والكوفة، والبصرة أربع، وعند أهل مكة، والشام خمس باعتبار [لَمْ يَلِدْ] آية [وَلَمْ يُولَدْ] آية. 30/611_612
4_ أغراضها: إثباتُ وحدانية الله _تعالى_.
وأنه لا يُقْصَدُ في الحوائجِ غيرُه, وتنزيهُه عن سماتِ المحدثاتِ, وإبطالُ أن يكونَ له ابنٌ.
وإبطالُ أن يكونَ المولودُ إلهاً مثل عيسى _ عليه السلام _.
والأحاديثُ في فضائلها كثيرةٌ وقد صح أنها تعدل ثُلُثَ القرآنِ, وتأويلُ هذا الحديثِ مذكورٌ في شرح الموطأ والصحيحين. 30/612
5_ في قوله _تعالى_:[قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] والمعنى: أن الله منفرد بالإلهية لا يشاركه فيها شيء من الموجودات، وهذا إبطال للشرك الذي يدين به أهل الشرك، وللتثليث الذي أحدثه النصارى الملكانية, وللثانوية عند المجوس، وللعدد الذي لا يحصى عند البراهمة.
فقوله: [اللَّهُ أَحَدٌ] نظير قوله في الآية الأخرى: [إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ].
وهذا هو المعنى الذي يدركه المخاطبون بهذه الآية السائلون عن نسبة الله، أي حقيقته؛ فابتدئ لهم بأنه واحد؛ ليعلموا أن الأصنام ليست من الإلهية في شيء.
ثم أن الأحدية تقتضي الوجود لا محالة، فبطل قول المعطلة والدهريين. 30/615_616
6_ فالصمد من الأسماء التسعة والتسعين في حديث أبي هريرة عند الترمذي, ومعناه: المفتقر إليه كل ما عداه؛ فالمعدوم مفتقر وجوده إليه, والموجود مفتقر في شؤونه إليه.
وقد كثرت عبارات المفسرين من السلف في معنى الصمد، وكلها مندرجة تحت هذا المعنى الجامع، وقد أنهاها فخر الدين إلى ثمانية عشر قولاً.
ويشمل هذا الاسم صفات الله المعنوية الإضافية وهي كونه _تعالى_ حياً، عالماً، مريداً، قادراً، متكلماً، سميعاً، بصيراً؛ لأنه لو انتفى عنه أحد هذه الصفات لم يكن مصموداً إليه. 30/617(1/412)
7_ وقد وردت في فضل هذه السورة أخبار صحيحة وحسنة استوفاها المفسرون, وثبت في الحديث الصحيح في الموطأ والصحيحين من طرق عدة: أن رسول الله " قال: =قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن+.
واختلفت التأويلات التي تأول بها أصحاب معاني الآثار بهذا الحديث, ويجمعها أربع تأويلات:
الأول: أنها تعدل ثلث القرآن في ثواب القراءة، أي تعدل ثلث القرآن إذا قرئ بدونها حتى لو كررها القارئ ثلاث مرات كان له ثواب من قرأ القرآن كله.
الثاني: أنها تعدل ثلث القرآن إذا قرأها من لا يحسن غيرها من سور القرآن.
الثالث: أنها تعدل ثلث معاني القرآن باعتبار أجناس المعاني؛ لأن معاني القرآن أحكام وأخبار وتوحيد، وقد انفردت هذه السورة بجمعها أصول العقيدة الإسلامية ما لم يجمعه غيرها.
وأقول: إن ذلك كان قبل نزول آيات مثلها مثل آية الكرسي، أو لأنه لا توجد سورة واحدة جامعة لما في سورة الإخلاص.
التأويل الرابع: أنها تعدل ثلث القرآن في الثواب مثل التأويل الأول, ولكن لا يكون تكريرها ثلاث مرات بمنزلة قراءة ختمة كاملة.
قال ابن رشد في البيان والتحصيل(1): =أجمع العلماء على أن من قرأ: [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] ثلاث مرات لا يساوي في الأجر من أحيا بالقرآن كله+ ا هـ.
فيكون هذا التأويل قيداً للتأويل الأول، ولكن في حكايته الإجماع على أن ذلك هو المراد نظر؛ فإن في بعض الأحاديث ما هو صريح في أن تكريرها ثلاث مرات يعدل قراءة ختمة كاملة.
قال ابن رشد: =واختلافهم في تأويل الحديث لا يرتفع بشيء منه عن الحديث الإشكال, ولا يتخلص عن أن يكون فيه اعتراض+.
وقال أبو عمر بن عبدالبر: =السكوت على هذه المسألة أفضل من الكلام فيها+. 30/620_621
1_ سمى النبي"هذه السورة [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ].
__________
(1) _ في سماع ابن القاسم عن مالك من كتاب الصلاة الثاني.(1/413)
روى النسائي عن عقبة بن عامر قال: =اتبعت رسول الله " وهو راكب, فوضعت يدي على قدمه فقلت: أقرئني يا رسول الله سورة هود، وسورة يوسف، فقال: =لن تقرأ شيئاً أبلغ عند الله من =قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس+.
وهذا ظاهر في أنه أراد سورة [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ] لأنه كان جواباً على قول عقبة: أقرئني سورة هود الخ، ولأنه عطف على قوله: [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ] قوله: [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ] ولم يتم سورة [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ].
عنونها البخاري في صحيحه (سورة قل أعوذ برب الفلق) بإضافة سورة إلى أول جملة منها.
وجاء في كلام بعض الصحابة تسميتها مع سورة الناس (المعوذتين) روى أبو داود، والترمذي، وأحمد عن عقبة بن عامر قال: =أمرني رسول الله"أن أقرأ بالمعِّوذات _ بكسر الواو المشددة, وبصيغة الجمع بتأويل الآيات المعوذات، أي آيات السورتين _ وفي رواية =بالمعوذتين في دبر كل صلاة+.
ولم يذكر أحد من المفسرين أن الواحدة منهما تسمى المعوذة بالإفراد.
وقد سماها ابن عطية سورة المعوذة الأولى؛ فإضافة (سورة) إلى (المعوذة) من إضافة المسمى إلى الاسم، ووصف السورة بذلك مجاز يجعلها كالذي يدل الخائف على المكان الذي يعصمه من مخيفه, أو كالذي يدخله المعاذ.
وسميت في أكثر المصاحف ومعظم كتب التفسير (سورة الفلق).
وفي الإتقان: =أنها وسورة الناس تسميان (المشقشقتين) _بتقديم الشينين على القافين_ من قولهم خطيب مشقشق+ ا هـ.
أي مسترسل القول, تشبيهاً له بالفحل الكريم من الإبل يهدر بشقشقة, وهي كاللحم يبرز من فيه إذا غضب، ولم أحقق وجه وصف المعوذتين بذلك.
وفي تفسير القرطبي, والكشاف أنها وسورة الناس تسميان (المقشقشتين) _بتقديم القاف على الشينين_.
زاد القرطبي: =أي تبرئان من النفاق+.
وكذلك قال الطيبي؛ فيكون اسم المقشقشة مشتركاً بين أربع سور هذه، وسورة الناس، وسورة براءة، وسورة الكافرون. 30/623_624(1/414)
2_ والأصح أنها مكية؛ لأن رواية كريب عن ابن عباس مقبولة بخلاف رواية أبي صالح عن ابن عباس, ففيها متكلم. 30/624
3_ وقال الواحدي: قال المفسرون: =إنها نزلت بسبب أن لبيد بن الأعصم سحر النبي"+.
وليس في الصحاح أنها نزلت بهذا السبب، وبنى صاحب الإتقان عليه ترجيح أن السورة مدنية, وسنتكلم على قصة لبيد بن الأعصم عند قوله _تعالى_: [وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ].
وقد قيل: إن سبب نزولها والسورة بعدها: أن قريشاً ندبوا، أي ندبوا من اشتهر بينهم أنه يصيب النبي"بعينه؛ فأنزل الله المعوذتين, ليتعوذ منهم بهما، ذكره الفخر عن سعيد بن المسيب, ولم يسنده.
وعدت العشرين في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة الفيل، وقبل سورة الناس.
وعدد آياتها خمس بالاتفاق.
واشتهر عن عبدالله بن مسعود في الصحيح أنه كان ينكر أن تكون (المعوذتان) من القرآن ويقول: إنما أمر رسول الله أن يتعوذ بهما، أي ولم يؤمر بأنهما من القرآن, وقد أجمع أصحاب رسول الله"على القراءة بهما في الصلاة وكتبتا في مصاحفهم، وصح أن النبي"قرأ بهما في صلاته. 30/624_625
4_ أغراضها: والغرضُ منها تعليمُ النبيِّ"كلماتٍ للتعوذ بالله من شر ما يُتَّقىَ شرُّه من المخلوقات الشريرة، والأوقاتِ التي يكثر فيها حدوثُ الشر، والأحوالِ التي يستر أفعال الشر من ورائها؛ لئلا يرمى فَاعِلوها بِتَبِعاتها؛ فعلَّم الله نبيه هذه المعوذة؛ ليتعوذ بها، وقد ثبت أن النبيَّ"كان يتعوذُ بهذه السورةِ وأختِها, ويأمر أصحابَه بالتعوذ بهما؛ فكان التعوذُ بهما مِنْ سُنَّةِ المسلمين. 30/625
5_ والفلق: الصبح، وهو فَعَلَ بمعنى مفعول مثل الصَّمَد؛ لأن الليل شبه بشيء مُغْلَقُ ينفلق عن الصبح، وحقيقة الفلق: الانشقاق عن باطن شيء، واستعير لظهور الصبح بعد ظلمة الليل. 30/626
6_ ورب الفلق: هو الله؛ لأنه الذي خلق أسباب ظهور الصبح.(1/415)
وتخصيصُ وصفِ الله بأنه رب الفلق دون وصف آخر؛ لأن شراً كثيراً يحدث في الليل من لصوص، وسباع، وذوات سموم، وتعذرِ السير، وعسرِ النجدة، وبعدِ الاستغاثة, واشتداد آلام المرضى، حتى ظن بعض أهل الضلالة الليل إله الشر.
والمعنى: أعوذ بفالق الصبح منجاةً من شرور الليل؛ فإنه قادر على أن ينجيني في الليل من الشر كما أنجي أهل الأرض كلهم بأن خلق لهم الصبح؛ فوصف الله بالصفة التي فيها تمهيد للإجابة. 30/626
7_ والغاسق: وصف الليل إذا اشتدت ظلمته يقال: غسق الليل يغسق، إذا أظلم قال _تعالى_: [إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ] فالغاسق صفة لموصوف محذوف لظهوره من معنى وصفه مثل الجواري في قوله _تعالى_: [وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ] وتنكير [غَاسِقٍ] للجنس؛ لأن المراد جنس الليل.
وتنكير [غَاسِقٍ] في مقام الدعاء يراد به العموم؛ لأن مقام الدعاء يناسب التعميم. 30/627
8_ وتقييد ذلك بظرف [إِذَا وَقَبَ] أي إذا اشتد ظلمته؛ لأن ذلك وقت يتحيَّنه الشُّطار, وأصحاب الدعارة والعيث؛ لتحقق غلبة الغفلة والنوم على الناس فيه، يقال: أغدر الليل؛ لأنه إذا اشتد ظلامه كثر الغدر فيه، فعبر عن ذلك بأنه أغدر، أي صار ذا غدر على طريق المجاز العقلي. 30/627
9_ فالمراد بـ[النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ]: النساء الساحرات، وإنما جيء بصفة المؤنث؛ لأن الغالب عند العرب أن يتعاطى السحر النساء؛ لأن نساءهم لا شغل لهن بعد تهيئة لوازم الطعام، والماء، والنظافة؛ فلذلك يكثر انكبابهن على مثل هاته السفاسف من السحر والتكهن, ونحو ذلك؛ فالأوهام الباطلة تتفشى بينهن. 30/628
10_ والعقد: جمع عقدة وهي ربط في خيط, أو وتر يزعم السحرة أنه سحر المسحور يستمر ما دامت تلك العقدة معقودة، ولذلك يخافون من حلها؛ فيدفنونها أو يخبئونها في محل لا يُهتدى إليه.(1/416)
أمر الله رسوله"بالاستعاذة من شر السحرة؛ لأنه ضمن له أن لا يلحقه شر السحرة، وذلك إبطال لقول المشركين في أكاذيبهم إنه مسحور، قال _تعالى_: [وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً]. 30/628
11_ والحسد: إحساس نفساني مركب من استحسان نعمة في الغير مع تمني زوالها عنه؛ لأجل غيره على اختصاص الغير بتلك الحالة أو على مشاركته الحاسد فيها.
وقد يطلق اسم الحسد على الغبطة مجازاً.
والغبطة: تمني المرء أن يكون له من الخير مثل ما لمن يروق حاله في نظره، وهو محمل الحديث الصحيح: =لا حسد إلا في اثنتين+ أي لا غبطة، أي لا تحقق الغبطة إلا في تينك الخصلتين.
وقد بين شهاب الدين القرافي الفرق بين الحسد والغبطة في الفرق الثامن والخمسين والمائتين.
وقد يغلب الحسد صبر الحاسد وأناته؛ فيحمله على إيصال الأذى للمحسود بإتلاف أسباب نعمته أو إهلاكه رأساً.
وقد كان الحسد أول أسباب الجنايات في الدنيا, إذ حسد أحد ابني آدم أخاه على أن قبل قربانه ولم يقبل قربان الآخر، كما قصه الله _تعالى_ في سورة العقود. 30/629_630
1_ تقدم عند تفسير أول سورة الفلق أن النبي"سمى سورة الناس (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ).
وتقدم في سورة الفلق أنها وسورة الناس تسميان (المعوذتين) و(المشقشقتين) بتقديم الشينين على القافين، وتقدم _أيضاً_ أن الزمخشري والقرطبي ذكرا أنهما تسميان (المقشقشتين) بتقديم القافين على الشينين، وعنونها ابن عطية في المحرر الوجيز (سورة المعوذة الثانية) بإضافة (سورة) إلى (المعوذة) من إضافة الموصوف إلى الصفة.
وعنونهما الترمذي (المعوذتين) وعنونها البخاري في صحيحه (سورة قل أعوذ برب الناس).
وفي مصاحفنا القديمة، والحديثة المغربية والمشرقية تسمية هذه السورة (سورة الناس) وكذلك أكثر كتب التفسير.
وهي مكية في قول الذين قالوا في سورة الفلق: إنها مكية، ومدنية في قول الذين قالوا في سورة الفلق إنها مدنية.(1/417)
والصحيح أنهما نزلتا متعاقبتين؛ فالخلاف في إحداهما كالخلاف في الأخرى.
وقال في الإتقان: أن سبب نزولها قصة سحر لبيد بن الأعصم، وأنها نزلت مع (سورة الفلق) وقد سبقه إلى ذلك القرطبي والواحدي، وقد علمت تزييفه في سورة الفلق.
وعلى الصحيح من أنها مكية فقد عدت الحادية والعشرين من السور، نزلت عقب سورة الفلق وقبل سورة الإخلاص.
وعدد آيها ست آيات، وذكر في الإتقان قولاً: إنها سبع آيات وليس معزواً لأهل العدد. 30/631_632
2_ أغراضها: إرشادُ النبيِّ"لأن يَتَعَوَّذَ بالله ربِّه من شرِّ الوسواس الذي يحاول إفسادَ عملِ النبي" وإفسادَ إرشادِه الناسَ, ويلقي في نفوس الناسِ الإعراضَ عن دعوته.
وفي هذا الأمرِ إيماءٌ إلى أن الله _تعالى_ معيذُه من ذلك, فَعَاصِمُه في نفسه من تسلط وسوسة الوسواس عليه، ومتمم دعوته حتى تعمَّ في الناس.
ويتبع ذلك تعليمُ المسلمين التعوذَ بذلك؛ فيكون لهم من هذا التعوذ ما هو حظُّهم من قابلية التعرضِ إلى الوسواس، ومن السلامة منه بمقدار مراتبهم في الزلفى. 30/632
3_ شابهت فاتحتها فاتحة سورة الفلق إلا أن سورة الفلق تعوذ من شرور المخلوقات من حيوان وناس، وسورة الناس تعوذ من شرور مخلوقات خفية وهي الشياطين. 30/632
4_ والخناس: الشديد الخنس, والكثيرة, والمراد أنه صار عادة له, والخنس والخنوس: الاختفاء.
والشيطان يلقب بـ[الْخَنَّاسِ] لأنه يتصل بعقل الإنسان وعزمه من غير شعور منه, فكأنه خنس فيه، وأهل المكر والكيد والتختل خناسون؛ لأنهم يتحينون غفلات الناس, ويتسترون بأنواع الحيل, لكيلا يشعر الناس بهم. 30/634
5_ وأما تكريره المرة الرابعة بقوله: [مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ] فلأنه بيان لأحد صنفي الذي يوسوس في صدور الناس، وذلك غير ما صَدَق كلمة [النَّاسِ] في المرّات السابقة.
والله يكفينا شر الفريقين، وينفعنا بصالح الثقلين.
تم تفسير (سورة الناس) وبه تم تفسير القرآن العظيم.(1/418)
يقول محمد الطاهر ابن عاشور: قد وفيت بما نويت، وحقق الله ما ارتجيت, فجئت بما سمح به الجهد من بيان معاني القرآن، ودقائق نظامه، وخصائص بلاغته، مما اقتبس الذهن من أقوال الأئمة، واقتدح من زند لإنارة الفكر وإلهاب الهمة، وقد جئت بما أرجو أن أكون وفقت فيه للإبانة عن حقائق مغفول عنها، ودقائق ربما جلت وجوهاً ولم تَجْلُ كُنْهاً؛ فإن هذا منال لا يبلغ العقل البشري إلى تمامه، ومن رام ذلك فقد رام والجوزاء دون مرامه(1).
وإن كلام رب الناس، حقيق بأن يخدم سعياً على الرأس، وما أدى هذا الحق إلا قلم المفسر يسعى على القرطاس، وإن قلمي طالما استن بشوط فسيح، وكم زجر عند الكَلاَلِ والإعياء زَجْر المَنيح، وإذ قد أتى على التمام فقد حَقَّ له أن يستريح.
وكان تمام هذا التفسير عصر يوم الجمعة الثاني عشر من شهر رجب عام ثمانين وثلاثمائة وألف, فكانت مدة تأليفه تسعاً وثلاثين سنة وستة أشهر, وهي حِقْبَةٌ لم تَخْلُ من أشغال صارفة، ومؤلفات أخرى أفنانها وارفة، ومنازعَ بقريحة شاربة طوراً وطوراً غارفة، وما خلا ذلك من تشتت بال، وتطور أحوال، مما لم تَخلُ عن الشكاية منه الأجيال، ولا كفران لله, فإن نعمه أوفى، ومكاييل فضله علي لا تطفَّفُ ولا تُكْفا.
وأرجو منه _تعالى_ لهذا التفسير أن ينجد ويغور، وأن ينفع به الخاصة والجمهور، ويجعلني به من الذين يرجون تجارة لن تبور.
وكان تمامه بمنزلي ببلد المرسى شرقي مدينة تونس، وكتب محمد الطاهر ابن عاشور. 30/636_637
سورة الحج ... 3
1_5_ تسميتها، ونزولها ... 3
6_ أغراضها ... 4
7_ المجوس: بحث في المجوس، والمزدكية، والمانونية وغيرها ... 6
8_ التفث 9_ الشعائر 10_ القانع ... 8
11_ مسألة في بيع لحوم الهدي أو تصبيرها ... 11
12_ حُكْمُ الهدايا مُرَكَّبٌ من تَعَبُّدٍ وتعليل ... 12
13_ الصوامع، والبِيع، والصلوات، والمساجد ... 12
__________
(1) _ تضمين لمصراع بيت المعرى:
برومك والجوزاء دون مرامه ... عدوٌّ بعيب البدر عند تمامه(1/419)
14_ المراد بالمعروف 15_ الإملاء 16_ التمني ... 13
17_18_ معنى إلقاء الشيطان في أمنية النبي والرسول ... 15
19_ حديث عن قصة الغرانيق ... 17
20_ الخطاب بـ [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] للمشركين ... 19
21_ تفسير صاحب الكشاف المثل بالصفة الغريبة ... 20
سورة المؤمنون ... 21
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 21
2_ أغراضها ... 22
3_ الرعي ... 24
4_ في قوله: [فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ...] الآية ... 24
5_ بحث في شجر الزيتون ... 25
6_ بحث في كلمة [هَيْهَاتَ] ... 28
7_ في قوله: [قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ...] الآية ... 30
سورة النور ... 33
1_2_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 33
3_ أغراضها ... 34
4_ بحث في قول النبي": =أتعجبون من غيرة سعد....+ ... 35
5_ في قوله: [وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ] ... 35
6_ في قوله: [إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ] ... 35
7_9_ بحث في: =الأيامى+ ... 36
10_15_ في قوله: [مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ] ... 38
16_18_ في قوله: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم...] الآية 19_ جملة [وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ... 42
سورة الفرقان ... 46
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 46
2_ أغراضها ... 47
3_ في قوله: [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ] ... 48
4_ العض: ... 49
5_ في قوله: [الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً] ... 49
6_8_ في قوله: [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ] ... 50
9_ قصة بين المهدي والمأمون ... 52
10_ في قوله: [وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ...] الآية ... 53
سورة الشعراء ... 54
1_5_ تسميتها، ونزولها، والمراد بالشعراء فيها، وترتيبها، وعدد آيها ... 54
6_ أغراضها ... 55
7_ بحث حول الخُلُق ... 56
8_ تعليل تمثيل حال الشعراء بحال الهائمين بأودية كثيرة ... 57(1/420)
9_ الكذب عند الشعراء، وقصة للفرزدق مع سليمان بن عبدالملك، وقصة للنعمان بن عدي مع عمر بن عبدالعزيز ... 57
10_11_ المذموم والمحمود من الشعر والشعراء ... 58
سورة النمل ... 62
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 62
2_ من أغراض السورة ... 62
3_ عُلْمُ منطقِ الطيرِ الذي أوتيه سليمان ... 63
4_ بحثٌ حولَ الهدهدِ 5_ بحث في عقوبة الحيوان ... 65
6_ معنى جعل الحاجز بين البحرين ... 66
7_ معنى كون الجبال جامدةً وهي تمر مر السحاب، وتَعَرُّضٌ لمسألة دوران الأرض حول الشمس ... 67
سورة القصص ... 70
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 70
2_ أغراضها ... 71
3_ معنى إفساد فرعون، ذكر خمس مفاسد ... 72
4_ في قوله: [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى]، وبيان أن هذه الآية جمعت خبرين، وأمرين، ونهيين، وبشارتين ... 75
5_ معنى: قرة العين ... 76
6_ في قوله: [فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ...] الآية، وذكرُ عشرِ عِبَرٍ فيها ... 76
7_ معنى: حين الغفلة ... 79
8_ معنى: كون هذا من شيعته وهذا من عدوه، ومعنى: الوكز، وقضى عليه، ومعنى: قال هذا من عمل الشيطان ... 80
9_ مسألة جواز صدور الذنب من النبي ... 82
10_ بحث في مدين ... 82
11_ اسم المرأتين اللتين تذودان، وبيان أن التعبير عن النبي بالكاهن اصطلاح ... 83
12_ في جواز عرض الرجل مولاته على من يتزوجها ... 84
13_ في قوله: [أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ] إلى قوله: [لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ] وذكر سبع من خصال أهل الكمال خلال الآيات ... 84
14_ في قوله: [إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى]، بحث حول قارون ... 87
15_ بحث في كلمة =ويكأن+ ... 89
16_ في قوله: [تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا...] الآية ... 90
سورة العنكبوت ... 92
1_2_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 92
3_ أغراضها ... 93
4_ في قوله: [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ] ... 94
5_ قطع السبيل ... 95
6_ في قوله: [مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ] ... 95(1/421)
7_ تعليل أمره بإقامة الصلاة، ومعنى كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ... 95
8_ وجه الوصاية بالحسنى في مجادلة أهل الكتاب ... 99
سورة الروم ... 100
1_2_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 100
3_ أغراضها ... 101
4_ الروم بحث في أصلهم ... 102
5_6_ فائدة ذكر [مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ]، وآثار في غلب الروم لفارس ... 105
7_ في قوله: [لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ] ... 107
8_ معنى الروضة ... 108
9_ إخراج الحي من الميت يظهر في أحوال كثيرة ... 109
10_ اختلاف ألوان البشر آية 11_ كان أصل اللون البياض ... 109
12_ حالة النوم حالة عجيبة من أحوال الإنسان والحيوان........ ... 110
13_17_ تحرير بارع في معنى الفطرة، وحديث عن الأوهام والعوائد والمألوفات، ودور العلماء في التصدي لها، ومناسبة الإسلام لجميع العصور ... 111
سورة لقمان ... 114
1_3_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 114
4_ أغراضها ... 115
5_ اللهو ... 116
6_7_ بحث في لقمان ... 118
8_ فائدة ذكر الحال في قوله: [وَهُوَ يَعِظُهُ] ... 122
9_ بحث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... 123
10_ إيراد سبعين حكمة من حكم لقمان ... 123
11_ معنى حصر مفاتح الغيب في هذه الخمسة ... 129
سورة السجدة ... 131
1_3_ أسماؤها، ونزولها، وعدد آياتها ... 131
4_ أغراضها ... 133
5_ في قوله: [فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ] ... 134
سورة الأحزاب ... 135
1_ اسمها، ومكان نزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 135
2_ إبطال قول الرافضة بأن القرآن قد تلاشى منه كثير ... 135
3_ أغراضها ... 136
4_ معنى إحباط الأعمال 5_ معنى حفظ الفروج ... 137
6_8_ في قوله _تعالى_: [وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ...] الآية، وحديث عن تزوج الرسول "زينب ... 138
9_ إجماع الصحابة على أن محمداً "خاتم الرسل والأنبياء ... 144
10_ كُفْرُ مَنْ يثبت نبوةً لأحد بعد محمد ... 144
11_ السين والتاء في [يَسْتَنكِحَهَا] ليستا للطلب ... 147(1/422)
12_ في قوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ...] الآية ... 147
13_ بحث عن الثِّقل والثُّقلاء 14_ طعام الوليمة والضيافة ملك للمضيف ... 148
15_ بحث عن كلمة يؤذي، وورودها في بيت للمتنبي ... 149
16_ في قوله: [وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً] ... 150
17_ في قوله: [إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً] ... 151
18_ جملة [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ] ... 152
19_21_معنى:[وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً]وبحث عن الصلاة والسلام على النبي وآله ... 152
22_ الإرجاف 23_ الوجيه ... 155
24_ في قوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً...] وحديث عن القول السديد، وأمثلة عليه، وبيان لآثاره ... 155
25_26_ كلام حول معنى قوله: [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ]، وبيان تردد المفسرين في تأويلها، وأنهم اختلفوا فيها على عشرين قولاً ... 158
سورة سبأ ... 164
1_2_ اسمها، ومكان نزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 164
3_ أغراضها ... 165
4_ بحث في الكلمات: (يلج)، و(يخرج)، و(ينزل)، و(يعرج) ... 166
5_ لفتة عند قوله _تعالى_: [الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] ... 166
6_ المراد من الذين أوتوا العلم في هذه السورة ... 167
7_ تحريم الإسلام للتماثيل المجسمة ... 168
8_ بحث حول سيل العرم، وسد مأرب ... 168
9_ الخمط، والأثل، والسدر 10_ معنى قوله: [بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا] ... 171
11_ التفرق الشهير الذي أصيبت به قبيلة سبأ ... 172
12_ فائدة الجمع بين [صَبَّارٍ] و [شَكُورٍ] ... 173
13_ الحق الذي على الولاة وأهل العلم ... 174
14_ في قوله _تعالى_: [قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ...]الآية، وبيان أن فيها ثلاثَ محسناتٍ من البديع ونكتة من البيان ... 175
15_ في قوله: [وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً...] ... 175(1/423)
16_ أبيات لابن الراوندي ونَقْدُها 17_ في قوله:[قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ...] ... 176
سورة فاطر ... 178
1_ اسمها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 178
2_ أغراضها ... 178
3_ معنى: [يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ] ... 179
4_ معنى: [اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ...] الآية ... 180
5_ معنى: [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ] ... 181
6_ الظالمون لأنفسهم، والمقتصدون، والسابقون ... 181
7_ في قوله: [وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ] ... 182
8_9_ جملة [وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ]، وما اشتملت عليه من بلاغة ... 183
سورة يس ... 186
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها، وفضلها ... 186
2_ أغراضها ... 187
3_ في قوله: [يس] ... 189
4_5_ في قوله: [إِنَّا تَطَيَّرْنَا]، بحث في التطير ... 190
6_ في قوله: [وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ...] ... 192
7_8_ في قوله: [وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ] إلى قوله: [وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ]، بحث لطيف نادر محرر في نفي أن يكون القرآن شِعراً ... 195
سورة الصافات ... 206
1_ تسميتها، ونزولها، وعدد آيها ... 206
2_ أغراضها ... 206
3_ في قوله: [إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الأَثِيمِ] ... 208
4_ في قوله: [فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ...] إلى قوله: [مِنْ الصَّابِرِينَ] الآيات، ومعنى الحليم ... 208
5_ الفاء في: [فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ] ... 209
6_ أمر الله إبراهيم بذبح ولده أمر ابتلاء........ ... 209
7_8_ في قوله: [وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ...] إلى قوله: [وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ]، وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيب لا يجري أمرهما على العِرْقِ والعنصر ... 211
9_ إلياس وإيليا 10_ بعل: اسم صنم الكنعانيين ... 212
11_ سنة الاقتراع في أسفار البحر كانت مُتَّبعة عند الأقدمين، وكانت طريقة من طرق القضاء، وقصةٌ ذكرها الصفدي في شرح الطغرائية ... 213(1/424)
12_ حرف =أو+ في قوله: [أَوْ يَزِيدُونَ] ... 215
سورة ص ... 217
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 217
2_ أغراضها ... 218
3_ في قوله: [وَقَلِيلٌ مَا هُمْ] ... 218
4_ في قوله: [هَذَا أَخِي]، وحديث عن حكم القصص التمثيلية التي يقصد فيها التربية والموعظة، وعن مشروعية القضاء في المسجد ... 219
5_ معنى الهوى 6_ نزعة إبليس في الكبر والعصيان ... 220
سورة الزمر ... 222
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 222
2_ أغراضها ... 223
3_7_ في الإخلاص وفضله ... 225
8_ في قوله _تعالى_: [يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ] الآية، وبيان خلق أطوار الإنسان العشرة، والظلمات الثلاث ... 227
9_ في قوله: [أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ] ... 229
10_ معنى كونِ القرآنِ أحسنَ الحديث ... 230
11_ طريقة السلف في ما يجب تجاه الصحابة ... 231
12_ في قوله: [قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا] الآية ... 231
سورة المؤمن ... 233
1_2_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 233
3_ أغراضها ... 235
4_ في قوله: [وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ...] الآية 5_ معنى: [لا جَرَمَ] ... 236
سورة فصلت ... 239
1_ تسميتها، ونزولها، وعدد آيها ... 239
2_ أغراضها ... 240
3_ معنى الخوف والحزن ... 241
4_ في قوله: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ] ... 241
5_ في قوله: [بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ... 241
6_ في قوله: [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا] الآية ... 243
7_8_ في قوله: [وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ] ... 244
9_ في قوله: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا...] وما تحتها من إعجاز ... 245
سورة الشورى ... 247
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 247
2_ أغراضها ... 248
3_ في قوله: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ] ... 250
4_ في بعض آداب الشورى ... 251
سورة الزخرف ... 253
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 253
2_ أغراضها ... 253
3_ في قوله: [وَلا يَكَادُ يُبِينُ] 4_ معنى: الأساورة ... 255
سورة الدخان ... 257(1/425)
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 257
2_ أغراضها ... 258
3_4_ في بركة ليلة القدر وزمانها ... 259
سورة الجاثية ... 260
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 260
2_ أغراضها ... 261
3_ في قوله: [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ] ... 262
سورة الأحقاف ... 263
1_2_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 263
3_ أغراضها ... 264
سورة محمد ... 265
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 265
2_ أغراضها ... 266
3_ مقصد الجمع بين النهي عن الوهن، والدعاء إلى السلم ... 266
سورة الفتح ... 268
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 268
2_ أغراضها ... 270
3_ في قوله: [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ...] الآية ... 270
4_ معنى: الحسد ... 271
5_ معنى: [أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] ... 271
سورة الحجرات ... 274
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 274
2_ أغراضها ... 274
3_ في قوله: [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ... 275
سورة ق ... 277
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 277
2_ أغراضها ... 279
سورة الذاريات ... 280
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 280
2_ أغراضها ... 280
سورة الطور ... 282
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 282
2_ أغراضها ... 283
سورة النجم ... 284
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 284
2_ أغراضها ... 285
3_ في معنى: اللمم 4_ معنى قوله: [سَامِدُونَ] ... 286
سورة القمر ... 288
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 288
2_ أغراضها ... 289
3_ في قوله: [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ] ... 289
سورة الرحمن ... 291
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 291
2_ أغراضها ... 293
3_ معنى: (البيان) 4_ معنى: (النجم) ... 294
5_ في قوله: [فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ] ... 295
6_ فائدة تكرير قوله: [فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ] ... 297
7_ المرجان 8_ الثقلان ... 298(1/426)
9_ في قوله: [فَكَانَتْ وَرْدَةً] 10_ في قوله: [وَعَبْقَرِيٍّ] ... 299
سورة الواقعة ... 300
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها، وكونها جامعةً للتذكير ... 300
2_ أغراضها ... 301
3_ في قوله: [فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ...] إلى قوله: [فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ] ... 301
4_ السدر 5_ الطلح، والمنضود 6_7_ العُرُب 8_ الحميم، واليحموم ... 302
الحديد ... 306
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها، وفضلها ... 306
2_ أغراضها ... 309
3_ في قوله: [هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ...] الآية ... 310
4_6_ في قوله: [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا] ... 311
7_ في قوله: [اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا] ... 312
8_9_ في قوله: [اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ...] الآية، مع بيان معنى اللعب، واللهو، والزينة، والتفاخر، والتكاثر ... 314
10_الحياة وسيلة للكمالات ... 318
11_12_ في قوله: [كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ...] الآية ... 318
13_ في قوله: [سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ...] الآية ... 319
14_ في قوله: [إِلاَّ فِي كِتَابٍ] ... 319
15_ في قوله: [وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ]، وفيه نبذة عن فوائد الحديد ... 320
16_17_ الرهبانية، وسبب امتناع الراهب من الزواج، ومعنى البدعة ... 320
سورة المجادلة ... 322
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 322
2_ أغراضها ... 323
3_ في قوله: [قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ...] الآية ... 324
4_ السماع في قوله: [وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا] مستعمل في معناه الحقيقي المناسب لصفات الله ... 325
5_ جملة [اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] تذييل لجملة [وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا] ... 325
6_7_ في قوله: [الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ...] الآية ... 325(1/427)
8_ [أَلَمْ تَرَ] هي الرؤية العلمية......... ... 327
سورة الحشر ... 328
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 328
2_ أغراضها ... 329
3_ الخطاب في قوله: [يَا أُولِي الأَبْصَارِ] موجه إلى غير معين...... ... 330
4_ بحث في أمور المغانم: المرباع، والصفايا، وحكم قائد الجيش، والنشيطة، والفضول، وحديث عن الدولة ... 330
5_ حديث عن الشح، وتفاوت الناس فيه ... 332
6_ في قوله: [بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ...] الآية ... 332
سورة الممتحنة ... 334
1_ تسميتها، ونزولها، وعدد آيها ... 334
2_ أغراضها ... 336
3_ في قوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ...] الآية ... 337
سورة الصف ... 338
1_ اسمها، ونزولها ... 338
2_ ترتيبها، وعدد آيها ... 339
3_ أغراضها ... 339
4_5_ في قوله: [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ...] الآية ... 339
سورة الجمعة ... 341
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 341
2_ أغراضها ... 343
3_ معنى: [الأُمِّيِّينَ] 4_ في وصف الأمي بالتلاوة ضربٌ من محاسن الطباق ... 343
5_ موضع جملة [لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ] موضع الحال ... 345
6_ صلاة الجمعة هي صلاة ظهر يوم الجمعة، والحكمة من كونها جهراً ... 346
سورة المنافقون ... 348
1_ تسميتها، ونزولها ، وعدد آيها، وترتيبها ... 348
2_ أغراضها ... 350
3_ في قوله: [يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ]، ومعنى: الصيحة ... 351
سورة التغابن ... 352
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 352
2_ أغراضها ... 352
3_ معنى كون بعض الأزواج والأولاد عدواً ... 353
سورة الطلاق ... 355
1_ تسميتها، ونزولها ، وعدد آيها، وترتيبها ... 355
2_ أغراضها ... 356
3_ في الطلاق ... 357
سورة التحريم ... 358
1_ تسميتها، ونزولها ، وعدد آيها، وترتيبها ... 358
2_ أغراضها ... 358
3_5_ مسائل ولطائف في التوبة 6_7_ بحث في امرأة فرعون ... 359
سورة تبارك ... 363
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 363
2_ أغراضها ... 366(1/428)
3_4_ التذكير بعجيب خِلْقة الطير، وبيان أن الرجل المكتمل العقل يدرك ما لا يدركه الناس ... 367
5_ اشتمال قوله _تعالى_: [يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ] على ثلاث استعارات تمثيلية ... 368
6_ في قوله: [هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ] ... 369
7_ الاستفهام في قوله: [مَتَى هَذَا الْوَعْدُ] ... 369
8_ في قوله: [ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ] ... 369
سورة القلم ... 370
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 370
2_ أغراضها ... 371
3_ في قوله: [وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ] 4_5_ في الخُلُقِ العظيم وجِمَاعُه ... 371
6_ في قوله: [ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ...] إلى قوله: [الصَّالِحِينَ] ... 372
سورة الحاقة ... 375
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 375
2_ أغراضها ... 376
3_ معنى إيتاء الكتاب باليمين 4_ معنى الغسلين ... 376
سورة المعارج ... 377
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 377
2_ أغراضها ... 377
3_ استعمالات كلمة: (هلع) ... 378
سورة نوح ... 381
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 381
2_ أغراضها ... 381
سورة الجن ... 382
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 382
2_ أغراضها ... 383
3_ كيفية حدوث رجم الجن بالشهب ... 383
سورة المزمل ... 384
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 384
2_ أغراضها ... 387
3_ في قوله: [أَوْ زِدْ عَلَيْهِ] ... 388
4_5_ سبب تخصيص الليل بالصلاة فيه، ومعنى وصف الصلاة بالناشئة ... 388
6_ مِنْ أكبرِ التبتلِ إلى اللهِ الانقطاعُ عن الإشراك، وخلاصة معنى: (التبتل) ... 389
7_ الهجر الجميل 8_ النَّعمة، والنِّعمة، والنُّعمة ... 389
9_ رفع وجوب قيام الليل عن المسلمين، وحكم القيام ... 391
سورة المدثر ... 393
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 393
2_ أغراضها ... 395
سورة القيامة ... 396
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 396
2_ أغراضها ... 396
سورة الإنسان ... 397
1_2 تسميتها، ونزولها، وعدد آيها ... 397(1/429)
3_ أغراضها ... 397
4_7_ معنى: الكأس، والمزاج، والكافور، والزنجبيل ... 398
سورة المرسلات ... 400
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 400
2_ أغراضها ... 402
سورة النبأ ... 403
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 403
2_ أغراضها ... 404
3_5_ في قوله: [عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ] إلى قوله: [مُخْتَلِفُونَ] ... 404
6_ معنى: وصف [النَّبَإِ] بـ [الْعَظِيمِ] ... 406
7_ مناسبة ذكر الجبال دعا إليها ذكر الأرض ... 406
8_ معنى: جعل الليل لباساً، ولطائف في ذلك المعنى ... 407
9_ في قوله: [وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً]، ذكر لبعض نعم الليل والنهار ... 408
10_ في قوله: [لا يَرْجُونَ حِسَاباً] ... 409
11_12_ معنى: الكواعب، والأتراب، والكأس، ودهاق ... 409
13_ في قوله: [لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً] ... 411
14_ جملة [وَقَالَ صَوَاباً] ... 412
سورة النازعات ... 413
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 413
2_ أغراضها ... 413
3_ في قوله: [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى] ... 414
4_ في القصة الواردة تعريض بسادة قريش من أهل الكفر ... 415
5_ إضافة =ضحى+ إلى ضمير =العشية+......، ومسوغ الإضافة أن الضحى أسبق من العشية ... 415
سورة عبس ... 416
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 416
2_ أغراضها ... 417
3_7_ في قصة ابن مكتوم وما فيها من الدلائل والعبر ... 418
8_ في قوله: [قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ] ... 420
9_ معنى: الأبّ ... 420
10_ في قوله: [يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ] إلى قوله: [وَبَنِيهِ] ... 421
سورة التكوير ... 422
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 422
2_ أغراضها ... 422
3_ في الموءودة والوأد ... 423
4_ في قوله: [ فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ] إلى قوله: [وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ] ... 425
5_6_ معنى: عسعس الليل، وتنفس الصبح ... 426
سورة الانفطار ... 428
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 428
2_ أغراضها ... 428
3_ معنى: انفطرت ... 429
سورة المطففين ... 430(1/430)
1_ تسميتها، ونزولها، وشيء من لطائفها، وترتيبها، وعدد آيها ... 430
2_ أغراضها ... 431
3_4_ معنى: التطفيف، وتحذير المسلمين من التساهل فيه ... 432
5_ في قوله: [إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ] إلى قوله: [تُكَذِّبُونَ] ... 433
6_ في قوله: [يَنظُرُونَ] 7_8_ المراد بالضلال ... 433
سورة الانشقاق ... 435
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 435
2_ أغراضها ... 435
3_4_ معنى: الانشقاق، والأجر غير الممنون ... 435
سورة البروج ... 437
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 437
2_ أغراضها ... 437
3_ معنى: البروج ... 438
4_6_ المفتونون بالأخدود، وحديث عن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ... 439
7_ ضرب المثل بفرعون لأبي جهل ... 442
سورة الطارق ... 443
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 443
2_ أغراضها ... 443
3_ معنى: الصُّلب، والترائب، وبحث في قوله: [مَاءٍ دَافِقٍ]، وبحث عن الحيض ... 444
سورة الأعلى ... 447
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 447
2_ أغراضها ... 448
3_ في قوله: [فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى] ... 449
سورة الغاشية ... 450
1_ تسميتها، ونزولها، وعدد آيها ... 450
2_ أغراضها ... 450
سورة الفجر ... 452
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 452
2_ أغراضها ... 452
3_4_ في قوله: [فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ] إلى قوله: [كَلاَّ] ... 453
سورة البلد ... 458
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 458
2_ أغراضها ... 458
3_ في قوله: [أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ] ... 459
4_ في قوله: [أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ] إلى قوله: [مُؤْصَدَةٌ] ... 460
سورة الشمس ... 462
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آياتها ... 462
2_ أغراضها ... 462
3_ نور القمر مستفاد من نور الشمس 4_ سبب الابتداء بالشمس ... 463
5_ الإلهام ... 463
سورة الليل ... 465
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 465
2_ أغراضها ... 465(1/431)
3_4_ سر القسم بالليل والنهار، وسر ابتداء السورة بالليل ... 466
سورة الضحى ... 467
1_ تسميتها، ونزولها ... 467
2_ أغراضها ... 468
3_ مناسبة القسم بـ [وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ] ... 468
4_ الاختلاف في سبب نزول هذه السورة ... 469
سورة الشرح ... 470
1_ تسميتها ... 470
2_ أغراضها ... 470
3_ جملة [إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً] مؤكدة لجملة [فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً]، وتحقيق لمعنى: =لن يغلب عسر يسرين+ ... 471
4_ في قوله: [فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ] ... 473
سورة التين ... 475
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آياتها ... 475
2_ أغراضها ... 475
3_5_ بحث في التين والزيتون، وما تحتهما من معان ... 476
6_7_ معنى: التقويم، وتكوين الله للإنسان بما يناسب ما خلق له ... 480
8_ الإنسان مخلوق على حال الفطرة ... 481
سورة العلق ... 484
1_ تسميتها، ونزولها، وعدد آيها ... 484
2_ أغراضها ... 485
3_ من إعجاز القرآن العلمي ذكر العلقة ... 485
4_5_ في قوله: [وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ] إلى قوله: [مَا لَمْ يَعْلَمْ] ... 485
6_ علة كون الإنسان يستغني عن غيره ... 488
سورة القدر ... 489
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آياتها ... 489
2_ أغراضها ... 489
3_4_ في قوله: [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ] ... 490
5_ من تسديد ترتيب المصحف وضع سورة القدر بعد سورة العلق ... 490
6_8_ معنى ليلة القدر، والمقصود من تشريفها وتفضيلها ... 490
9_ تنبيه على حديث في جامع الترمذي بشأن مبايعة الحسن لمعاوية ... 492
10_11_ حكمة إخفاء ليلة القدر ... 494
سورة البينة ... 496
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آياتها ... 496
2_ أغراضها ... 497
3_ في قوله: [لَمْ يَكُنْ] إلى قوله: [فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ] ... 498
سورة الزلزلة ... 502
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 502
2_ أغراضها ... 503
3_ التعريف في [الإِنسَانُ] تعريف....... ... 503
4_ في قوله: [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ...] الآيات، وبيان أنها من أحكم آيات القرآن ... 503
سورة العاديات ... 505(1/432)
1_ تسميتها، ونزولها، وعدد آيها ... 505
2_ أغراضها ... 506
3_5_ معنى: الضَّبح، والمغيرات، وأثرن به نقعاً ... 506
6_ من بديع النظم وإعجازه في سورة العاديات ... 508
7_ معنى: الكنود ... 508
سورة القارعة ... 509
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 509
2_ أغراضها ... 509
3_ في قوله: [يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ] إلى قوله: [الْمَنفُوشِ] ... 509
4_ في قوله: [فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ] ... 510
سورة التكاثر ... 512
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 512
2_ أغراضها ... 513
3_ في قوله: [حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ] ... 514
سورة العصر ... 516
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 516
2_ أغراضها ... 516
3_ من معاني العصر ... 517
4_ من أكبر الأعمال الصالحات التوبة من الذنوب لمقترفيها..... ... 520
5_ تنكير [خُسْرٍ]...... ... 521
6_ فائدة عطف التواصي بالحق والتواصي بالصبر وإن كان على عمل الصالحات ... 521
7_8_ في الصبر وكونه ملاك الفضائل ... 521
9_ فائدة صيغة التواصي بالحق والصبر ... 522
سورة الهمزة ... 523
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 523
2_ أغراضها ... 524
3_4_ معنى: همزة، ولمزة 5_ معنى: إيصاد النار 6_في قوله: [فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ] ... 524
سورة الفيل ... 526
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 526
2_ أغراضها ... 526
سورة قريش ... 528
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آياتها ... 528
2_ أغراضها ... 529
3_ افتتاح مبدع ... 529
4_ قريش ... 530
5_ السَّنَةُ بالتحقيق أربعة فصول ... 530
6_7_ تذكير قريش بنعمة الله عليهم، وبيان أن العبادة التي أمروا بها عبادة الله وحده ... 531
سورة الماعون ... 533
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آياتها ... 533
2_ أغراضها ... 534
3_ في قوله: [الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ] ... 534
4_ معنى إطلاق الماعون ... 535
5_ نكتة في إلحاق ما نزل بشيء نزل قبله ... 535
سورة الكوثر ... 536
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 537
2_ أغراضها ... 537
3_ معنى: الكوثر ... 538(1/433)
4_ إرادة البشارة للنبي"بإعطائه الكوثر، ومعنى قوله: [فَصَلِّ لِرَبِّكَ] ... 539
سورة الكافرون ... 540
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 540
2_ أغراضها ... 541
3_ السور المفتتحة بالأمر بالقول خمس سور ... 541
سورة النصر ... 542
1_4_ تسميتها، ونزولها، والمراد بالفتح فيها، وكونها تشتمل على إيماء إلى اقتراب أجل الرسول"، وعدد آيها ... 542
5_ أغراضها ... 543
6_7_ العلة من قرن التسبيح بالحمد، والحكمة من تقديم الأمر بالتسبيح على الأمر بالاستغفار ... 543
8_ الكلام من قبيل الكناية الرمزية ... 543
سورة المسد ... 546
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 546
2_ أغراضها ... 547
3_ أم جميل كانت تحمل حطب العضاه......... ... 547
سورة الإخلاص ... 548
1_3_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 548
4_ أغراضها ... 549
5_7 في قوله: [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]، وفي معنى الصمد، وفضل هذه السورة ... 550
سورة الفلق ... 553
1_3_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آياتها ... 553
4_ أغراضها ... 555
5_6_ معنى: الفلق، ورب الفلق ... 555
7_8_ معنى: الغاسق، وإذا وقب ... 556
9_11_ في قوله: [النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ]، ومعنى الحسد والغبطة ... 556
سورة الناس ... 558
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 558
2_ أغراضها ... 559
3_ مشابهة فاتحة الفلق لفاتحة الناس 4_ معنى الخناس ... 559
5_ تكريره المرة الرابعة بقوله: [مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ]........ ... 560
_ كلمة مؤثرة للمؤلف في ختام تفسيره ... 560
_ الفهرس ... 563(1/434)