الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد.
فإن القرآن الكريم كلام الله _عز وجل_ أنزله على قلب نبينا محمد " ليكون من المنذرين.
وما زال العلماء _منذ نزوله_ يتعاقبون على دراسته، ويعكُفون على النهل من معينه، والتزود من هدايته.
هذا وإن لعلماء التفسير من ذلك أوفرَ الحظ والنصيب؛ حيث صرفوا همهم لتدبر كتاب الله، وفهم مراده _عز وجل_ فكان من ذلك المؤلفاتُ العظيمةُ في التفسير على اختلاف مناهج أصحابها.
ومن أعظم ما أُلِّف في هذا الشأن في العصور المتأخرة ما رقمته يراعةُ العلامة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور×وذلك في تفسيره المعروف بـ: التحرير والتنوير.
فهو تفسيرٌ عظيمٌ حافلٌ بما لذَّ وطاب من العلوم، ولا غرو في ذلك؛ فصاحبه عالم كبير، وجهبذ نحرير، له يد طولى، وقِدْحٌ مُعَلَّى في علوم شتى.
والذي يطَّلع على مؤلفاته الكثيرة المتنوعة يراها تحمل طابعاً مميزاً، وطرزاً فريداً لا تجده إلا عند الندرة من العلماء، وفي القليل من المؤلفات.
ومع ذلك فإن هذا العالم لم يأخذ حظَّه من الذيوع والشهرة.
ونظراً لعظم شأن تفسيره، ولأنه مليء بكنوز من العلم والمعارف، والثقافة، ولكونه مطولاً يقع في ثلاثين جزءاً، وفي صفحات يصل عددها إلى أحد عشر ألفاً ومائة وسبع وتسعين صفحة من غير الفهارس، وبخط صغير، ولو كان الخط أكبر لكانت الصفحات أكثر، وهذا مما يصرف عن قراءته _ فقد رأيت أن أستخرج بعض اللطائف الرائعة، واللفتات البارعة التي احتوى عليها ذلك التفسير العظيم؛ رغبةً في عموم النفع، وإسهاماً في التعريف بذلك العمل الجليل الذي لا يخطر لكثير من طلبة العلم _فضلاً عن غيرهم_ ما يشتمل عليه من نفائس العلم وغواليه؛ إذ إن بعضهم يظنون أنه متمحض في إبراز بلاغة القرآن فحسب، دون أن يكون له عناية ببقية العلوم.
وهذا الظن خلاف الواقع _كما سيتبين عند الحديث عن منهجه في تفسيره_.(1/1)
وقد خطر لي في بداية الأمر أن أُرَتِّب تلك النقول المنتقاة، وذلك بتصنيف الفوائد، وترتيبها، على حسب الفنون؛ فَيُفْرَدَ فَصْلٌ للمسائل الأصولية، وفصلٌ للمسائل الفقهية، وفصلٌ لمباحث العقيدة والفِرق، وفصلٌ للمسائل النحوية، وفصلٌ للنكت البلاغية، وفصلٌ للنظرات في الطب، وفصلٌ لآرائه في النقد والأدب، وفصلٌ لعلوم الطبيعة، وهَلُمَّ جَرَّا.
فرأيت أن ذلك سيطول، وأنه يحتاج إلى عدد من الرسائل العلمية خصوصاً وأن المقطع الواحد من كلامه يشتمل على عدد كبير من العلوم.
فليس لي _ إذاً _ إلا مجرد الانتقاء، ولم أشأ إثقال الكتاب بالحواشي؛ فما وجد من ذلك فهو من صنيع المؤلف، وإذا كان مني فإني أرمز إليه بـ(م).
ثم إن هذه النقول ستكون على هيئة فقرات من التفسير، بحيث تأخذ كل مقدمة من المقدمات العشر، أو سورة من السور ترقيماً خاصاً بها بحسب ما يُنتقى؛ فهذا العمل أشبه بالاختصار لما جاء في ذلك الكتاب العظيم، مع ملاحظة أن ما جاء في هذه النقول هو نص عبارة المؤلف دون تصرف أو اختزال.
وقبل الشروع في إيراد تلك اللطائف المنتقاة يحسن أن تُسبق بإلقاء نظرة عامة على سيرة المؤلف، وعلى تعريفٍ عام بالكتاب، ومنهجِ مؤلفه فيه، وعلى نبذة موجزة في علم البلاغة الذي احتفل به المؤلف في تفسيره، واعتنى بالنكت البلاغية عناية بالغة لم تكن لأحد ممن كان قبله من المفسرين.
وهذه النظرة ستكون من خلال توطئة، وأربعة مباحث، وهي كما يلي:
توطئة: وتشتمل على ستة تنبيهات.
المبحث الأول: معالم عامة في سيرة ابن عاشور.
المبحث الثاني: تعريف عام بتفسير التحرير والتنوير.
المبحث الثالث: منهج ابن عاشور في تفسيره، وخلاصة ما اشتمل عليه.
المبحث الرابع: مقدمة في علم البلاغة.(1/2)
وبعد طول تردد في تسمية هذا الكتاب سميته بـ: (التقريب لتفسير التحرير والتنوير) (1).
وقد جعلته في جزأين، ووضعت لكل جزء فهرساً مفصلاً؛ ليسهل على القارئ الوصولُ إلى مراده، وليكون ذلك عوناً له على القراءة.
وأخيراً أسأل الله _بأسمائه الحسنى وصفاته العلى_ أن ينفع بهذا العمل، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يغفر للشيخ ابن عاشور، وأن يسكنه فسيح جناته؛ إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
محمد بن إبراهيم الحمد
الزلفي: ص.ب: 460
13/2/1429هـ
جامعة القصيم _ كلية الشريعة وأصول الدين
قسم العقيدة
www.toislam.net
alhamad@toislam.net
قبل الدخول في سيرة ابن عاشور، ومنهجه المجمل والمفصل في تفسيره _ يحسن التنبيه إلى الأمور التالية:
1_ أن هذه المباحث التي يشتمل عليها منهج ابن عاشور في تفسيره أشبه ما تكون بالقراءة، أو الانطباع العام؛ فلم يكن المقصود _ابتداءً_ دراسة هذا الكتاب بقدر ما كان إبرازاً لمزاياه، ولفتاً للأنظار إليه.
وليس من ضرورة ذلك تتبع المؤلف في كل صغيرة وكبيرة، والوقوف عند كل شاردة وواردة في تفسيره.
2_ أن ابن عاشور عالم كبير متفنِّن، وقد أمضى ما يقرب من أربعين سنة في تفسيره؛ فيحتاج في مناقشته في بعض الأمور إلى كبير مثله، أو مجموعة متخصصين في شتى الفنون؛ فلا يحسن _والحالة هذه_ أن يسارع إلى تخطئته؛ لقوة عارضته، وكثرة مخارجه، وجزالة عبارته، وإن كان هذا الأمر نسبياً، ويختلف من شخص لآخر.
3_ أن كلامه في بعض المواضع يحمل على بعض؛ فقد يظهر في موضعٍ ما إشكال، أو إجمال؛ فإذا انتقلت إلى موضع آخر في نفس الموضوع ربما زال الإشكال.
4_ أننا بحاجة إلى إبراز الوجه المشرق _وما أكثره_ في سير علمائنا ومؤلفاتهم.
__________
(1) _ سبق أن استللتُ من هذا الكتاب قبل طبعه كتابين، وهما (أغراض السور في تفسير التحرير والتنوير) و(مدخل لتفسير التحرير والتنوير).(1/3)
فليس بالضرورة إذا ذكر شخص أو عالم أن تُذكر هفواته، أو تُتَلمس عثراته، أو يُفصل فيها من غير حاجة.
أما إذا احْتِيْجَ إلى الرد والمناقشة مع أحد منهم فلذلك موضعه، ومناسبته، وما يليق به.
وإذا كانت الحاجة إلى التفصيل فُصِّل في ذلك، وإلا ذكرت أخطاؤه إجمالاً.
وبذلك نحفظ لعلمائنا وعظمائنا أقدارهم بلا وكس، ولا شطط.
كيف إذا استحضرنا أن الشيخ ابن عاشور قد عاش في مرحلة حرجة من مراحل تاريخ أمة الإسلام خصوصاً في بلدان المغرب العربي؟
حيث إن الاستعمار كان يضرب بجرانه فيها، ويجوس خلال ديارها؛ سعياً في تغريبها، وتفريقها، وطمس هويَّتها، والقضاء على ما بقي من معالم دينها، وعلومها، وعفتها؛ فذلك يدعو إلى الاحتفاء بهذا العالم، ويقود إلى التماس المعاذير له.
ولا يعني ذلك أن يساير في خطئه، وإنما المقصود أن يحفظ له قدره، وألا يغمط إحسانه، وفضله.
يقول العلامة الأستاذ محمد كرد علي × في مذكراته 1/ 274 : =دخل عليَّ مستشار المعارف, وأنا في مكتبي بالوزارة ظاهر الغضب على محرر جريدتنا المقتبس؛ لنشره في الجريدة تعريضاً ببعض رصفائي الوزراء؛ خدمة لأعراض من يخدمهم من حزبه؛ فسألني المستشار عن غضبي على خلاف عادتي, فذكرت له السبب, فقال: لا أعرف كيف أعلل هذه الأخلاق فيكم تسقطون أبداً رجالَكم من الأعين, ورجالُكُم قليلون مهما بلغ عددهم لا يتجاوز المائة؛ فإذا أسقطتموهم كلهم فمن يبقى يخدمكم في السراء والضراء, وينفعكم باسمه ومكانته؟!+.
وقال الأستاذ محمد كرد علي _أيضاً_ : =كان أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري وهو على سرير الموت يقول لمن حوله من أصحابه: اذكروا مَنْ عندكم من الرجال الذين ينفعونكم في الشدائد, ودوِّنوا أسماءهم في جريدة؛ لئلا تنسوهم, ونوِّهوا بهم عند كل سانحة, واحرصوا عليهم حرصَكم على أعزِّ عزيز.
وأظنهم على كثرة ماكدَّوا حافظتهم وذاكرتهم لم يعدوا أكثر من خمسين رجلاً.(1/4)
وكان يقول لنا _أي الشيخ طاهر_ تجاوزوا عن سيئاتهم, وانتفعوا بحسناتهم.
وشيخنا هذا قضى عمره في السعي إلى الإصلاح والتجدد+.
5_ أن المؤلف × يرى أن القرآن الكريم كتاب هدى وإصلاح، ومنبع علوم وآداب؛ فلا عجب _إذاً_ أن تجد في تفسيره تعرُّضاً لكثير من العلوم، والفنون، وشتى المعارف من صناعة، وطب، ونظريات في الفلك وغير ذلك من فروع الثقافة المختلفة التي قد يرى غيره أنها ليس من صميم عمل المفسر.
ولكن إذا علم منهجه زال العجب، وكان ذلك أدعى لقبول ما يورده؛ إذ هو ينطلق من القرآن الكريم إلى كلِّ ما مِنْ شأنِه رفعةُ الأمةِ في علومها، وشؤون حياتها الأولى والأخرى.
6_ أن من أسباب دراسة سيرة الشيخ ابن عاشور وتفسيره التحرير والتنوير _ الرغبةَ في مزيد من الصلة بعلماء المغرب _بكافة دوله_ حيث إن بُعد المسافة، وقلة التواصل سبب للحرمان من الإفادة والتقارب.
وقد لمست شيئاً من ذلك من خلال كثير من الرسائل التي تصل عبر البريد العادي أو الإلكتروني؛ حيث وجدت الرغبة في مزيد من التواصل، بل والتعجب من أولئك في كوننا في بلادنا نعرف أو نُعنى بعلماء تلك البلاد كالشيخ ابن عاشور، والشيخ محمد الخضر حسين وهما من تونس، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي من الجزائر _رحم الله الجميع_.
ولا ريب أن العلم رحمٌ بين أهله، ولئن بُسط العذر في الزمن الماضي لقلة وسائل الاتصال _ فهو الآن غير مبسوط؛ لتيسر الاتصال _ولله الحمد_.
فهذه بعض التنبيهات التي أحببت الإشارة إليها في بداية هذا الكتاب.
هو العلامة الشيخ محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، ولد في ضاحية المرسى في تونس جمادى الأولى سنة 1296هـ بقصر جده للأم الصدر الوزير محمد العزيز بو عتور.
وقد شب في أحضان أسرة علمية، ونشأ بين أحضان والد يأمل أن يكون على مثال جده في العلم والنبوغ والعبقرية، وفي رعاية جده لأمه الوزير الذي كان يحرص على أن يكون خليفة لهم في العلم والسلطان والجاه.(1/5)
تلقى العلم كأبناء جيله، حيث حفظ القرآن، واتجه إلى حفظ المتون السائدة في وقته، ولما بلغ الرابعة عشرة التحق بجامع الزيتونة سنة 1310، وشرع ينهل من معينه في تعطُّشٍ وحبٍّ للمعرفة، ثم برز ونبغ في شتى العلوم سواء في علوم الشريعة، أو اللغة، أو الآداب أو غيرها من المعارف، والثقافات، بل والطب، وإتقان الفرنسية؛ فكان آية في ذلك كله.
له مؤلفات كثيرة في شتى الفنون، منها تفسيره المسمى بالتحرير والتنوير، ومقاصد الشريعة، وأصول النظام الاجتماعي في الإسلام، وكشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطا، وردٌّ على كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبدالرازق، وأصول التقدم في الإسلام، وأصول الإنشاء والخطابة، وأليس الصبح بقريب، وغيرها كثيرٌ كثيرٌ سواء أكان مطبوعاً أم مخطوطاً.
وكان ذا عقل جبار، وذا تدفُّق وتدفُّع في العلم؛ فكأنه إذا كتب في أي فنٍّ أو موضوع _ يغرف من بحر، وينحت من صخر؛ فإذا رأيت عنوان الموضوع الذي يريد الكتابة فيه قلت: ماذا سيقول؟ فإذا قرأت ما تحته رأيت العجب العجاب؛ لذا فإنك تحتاج وأنت تقرأ له أن تُحضر ذهنك، ولا تتشاغل عنه.
وكان ذا أسلوب محكم النسج، شديد الأسر، يذكر بأرباب البيان الأوائل.
وكان إذا كتب استجمع مواهبه العلمية، واللغوية، والأدبية، والاجتماعية، والتاريخية، والتربوية وغيرها لخدمة غرضه الذي يرمي إليه.
فلا غروَ _إذاً_ أن تجد في كتاباته عن أي موضوع: القصةَ، والحادثةَ التاريخيةَ، والنكتةَ البلاغيةَ، والمسألةَ النحويةَ، والأبياتِ الشعريةَ، والمقاصدَ الشرعيةَ، والمناقشةَ الحرةَ، والترجيحَ والموازنةَ.
كل ذلك بأدب عالٍ، وأسلوب راقٍ، ونَفَسٍ مستريض؛ فتشعر إذا قرأت له أن هذا البحث كتبه مجموعةٌ من المتخصصين في فنون شتى.(1/6)
يقول الأستاذ محمد الطاهر الميساوي _حفظه الله_ في مقدمة كتاب مقاصد الشريعة لابن عاشور: =ومن ثمَّ فلا غرابة أن جاءت هذه السيرة وارفة الأفنان، متنوعة العطاء، دانية القطوف، وكأنما أنت في حضرة مجمع من العلماء ضُمَّ في صعيد واحد: اللغوي، والأديب، والمفسر، والمحدث، والأصولي، والفقيه، والمربي، والمؤرخ، والفيلسوف، والمنطقي، بل وحتى العالم بأمور الطب.
ويكفي لمعرفة مكانة ابن عاشور في التفسير الإحالة على موسوعته تفسير التحرير والتنوير.
أما في الحديث فهو حافظ حجة له إسناد جامع لصحيحي البخاري ومسلم، وله كذلك إسناد عزيز روى به أحاديث البخاري يعرف بسند المحمّدين، وقد أجاز بذلك عدداً من العلماء من تونس والجزائر والمغرب.
هذا إلى تحقيقاته وشروحه على مرويات الإمامين مالك بن أنس (كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطا) وأبي عبدالله البخاري (النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح) التي استدرك فيها على الكثيرين من سابقيه.
أما رسوخ قدمه في الفقه وأصوله فيكفي شاهداً له كتاب (المقاصد) الذي بين أيدينا، وشرحه المسهب وتحقيقاته المتينة على كتاب تنقيح الفصول في الأصول للقرافي(1).
وابن عاشور إلى هذا وذاك لُغوي محقِّق بالمعنى الواسع لعلوم اللغة، سَلَّمَتْ له بالإمامة في ذلك المجامعُ العلمية كمجمعيْ دمشق والقاهرة اللَّذيْن اعتمداه عضواً مراسلاً بهما، وما تزال مداخلاته وأنظاره على صفحات مجلتيهما تنتظر الجمع والتحقيق والنشر.
ذلك فضلاً عن العدد الكبير من كتب اللغة والأدب ودواوين الشعر التي حققها، فمنها ما نشر، ومنها ما لا يزال مخطوطاً.
__________
(1) _ يقول الميساوي: =العنوان الكامل لهذا الكتاب المهم هو: حاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات التنقيح على شرح تنقيح الفصول في الأصول، وقد نَشَرَتْه في أربعة أجزاء مطبعةُ النهضة بتونس سنة 1341هـ.
وسنقوم بإعداده للنشر في القريب العاجل بعون الله _تعالى_+.(1/7)
وللفلسفة والمنطق عند ابن عاشور مكانة وتقدير؛ فقد كان يدرِّس المنطق والحكمة، وكان كتاب النجاة للشيخ الرئيس أبي علي بن سينا من جملة الكتب التي درَّسها بجامع الزيتونة، جنباً إلى جنب مع المقدمة لابن خلدون، ودلائل الإعجاز لعبدالقاهر الجرجاني، والموافقات للشاطبي..إلخ.
وهو كثيراً ما يستشهد بأقوال الفلاسفة وينوه بآرائهم، ويوظف مناهجهم في استدلالاته وتحليلاته، ويدرأ ما حاق بأنظارهم من سوء فهم وسوء تأويل.
أما ما قد يثير الاستغراب حقّاً فهو صلته بالطب التي تحتاج إلى تحقيق، خاصة وأن له في هذا كتاباً مخطوطاً بعنوان تصحيح وتعليق على كتاب الانتصار لجالينوس للحكيم ابن زهر.
أما التاريخ فله فيه كذلك آثار ما تزال مخطوطة منها كتاب (تاريخ العرب) وكتابات في السير والتراجم+.(1)
وقال الميساوي: =ولكن على الرغم من سمات الغزارة والتنوع والشمول والأصالة التي طبعت شخصيته فاصطبغت بها آثاره وأعماله _ فإن ما صُرِف له من عناية الباحثين وجهود الدارسين لا يكاد يفي بمعشار ما يستحق، بل إن طوائف كبيرة من المهتمين بحركة الفكر الإسلامي ومصائره في العصر الحديث لا يكادون يعرفون عنه شيئاً ذا بال، ناهيك عن عامة المثقفين وسائر جمهور المسلمين.
فمن العسير العثور على دراسة علمية ضافية تترجم لشخصيته ترجمة موثقة ووافية، وتعرف بتراثه العلمي تعريفاً دقيقاً، فضلاً عن أن تحيط بذلك التراث تحليلاً لمكوناته وأبعاده، واستجلاءً لمواطن الأصالة والابتكار فيه، وتقديراً وتقويماً لمكانته في سياق حركة الفكر والثقافة الإسلاميين في موطن نشأته _تونس_ على وجه الخصوص، وفي العالم الإسلامي بوجه العموم.
بل إن آثاره العلمية لم يتح لها من الانتشار والتداول ما يجعلها في متناول الدارسين والباحثين، فضلاً عن سواهم من طلاب المعرفة والمثقفين.
__________
(1) _ مقدمة مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي ص16_17.(1/8)
فكثيرٌ مما طُبع منها قد تطاول عليه العهد ونفد من المكتبات، ولم يجد من أهل العزم من المحققين والناشرين من يتولَّى نفضَ الغبار عنه، وإخراجه للناس إخراجاً جديداً.
أما ما لَمْ يُطبع _وهو غزير_ فلا يزال طيَّ النسيان يقبع مخطوطاً على رفوف المكتبة العاشورية بالمرسى في تونس، ويتراكم عليه غبارُ السنين، وتتهدده آفاتُها بالإتلاف، وكأنما تواطأت صروفُ الزمان، وإهمال الإنسان أو تدبيرُه على تغييب مَعْلَمٍ مهم من معالِم الحياة الفكرية والعلمية للمسلمين في القرن العشرين!
فالرجل =لم يلق حظه+ كما قال بحق المرحوم الشيخ محمد الغزالي.
إن ابن عاشور ليس اسماً عاديّاً في محيط الثقافة الإسلامية، بل إن اسمه وجهاده قد ارتبطا ارتباطاً وثيقاً بواحدة من أهم مؤسسات هذه الثقافة وبرمز من أبرز رموزها في النصف الأول من القرن العشرين، ألا وهي جامعة الزيتونة.
وهو _بدون شك_ آخر العمالقة الذين عرفهم التاريخ المديد لهذه المؤسسة العريقة، قبل أن يتم الإجهازُ عليها، وطمسُها في ظل عهود الاستقلال الموهوم، والتحديث المزيف.
لقد عَرَفَتِ الزيتونةُ محمداً الطاهر ابن عاشور طالباً نابهاً متميزاً في تحصيله العلمي، وخَبَرتْهُ أَرْوِقتُها مدرِّساً متحمساً مقتدراً، وَعِهدَه طلابُها وأساتيذُها داعيةً لإصلاح التعليم الزيتوني، وحاملاً للوائه، وعاملاً في سبيله من مواقع مختلفة، كما عرفت تونس ابن عاشور شيخاً لجامعها الأعظم _الزيتونة_ وخبرته قاضياً ومفتياً يتوخَّى تحقيقَ العدل والالتزام بالحق في أقضيته وفتاويه مهما كان في ذلك من معارضة لرغبات المتقاضين، أو مناقضة لأهواء المستفتين+.(1)
هذا وقد تولى مناصب علمية وإدارية بارزة كالتدريس، والقضاء، والإفتاء، وعضويات المجامع العلمية، وغيرها.
__________
(1) _ المرجع السابق ص17_19.(1/9)
أوليات ابن عاشور(1): اعتنى الأوَّلون بالتصنيف بالأوائل, مثل أبي هلال العسكري, والجراعي, والسيوطي.
وللشيخ محمد الطاهر ابن عاشور أوّليات تستحقّ الوقوف عندها, والإشارة إليها, وهي مظهر من مظاهر تميّز المترجم له × وفيما يلي شيء من ذلك:
1_ وهو أوّل مَنْ جمع بين منصب شيخ الإسلام المالكي, وشيخ الجامع الأعظم (الزيتونة).
2_ وهو أوَّل مَنْ سُمِّي شيخاً للجامع الأعظم سنة (1351هـ _ 1932م) ليتولَّى الإصلاحات العلمية والتعليمية, فكان أوّل شيخ لإدارة التعليم بجامع الزيتونة عوضاً عن النظارة(2) التي كانت هي المسيّرة للتعليم به.
3_ وأوَّل مَنْ لُقِّبَ بشيخ الإسلام, وهو لقب تفخيمي تداولته الرئاسة الشرعية الحنفية بتونس منذ القرن العاشر الهجري, ولم يكن لدى المالكية بتونس هذا اللقب.
وقد أُطلق على رئيس المجلس الشرعي الأعلى للمالكية بصفة رسمية عليه.
4_ وهو أوَّل مَنَََْ تقلَّد جائزة الدولة التقديرية للدولة التونسية ونال وسام الاستحقاق الثقافي سنة (1968م) وهو أعلى وسام ثقافي قررت الدولة التونسية إسناده إلى كلّ مفكر امتاز بإنتاجه الوافر ومؤلفاته العميقة الأبحاث, ودعوته الإصلاحية ذات الأثر البعيد المدى في مختلف الأوساط الفكرية.
وحصل على جائزة رئيس الجمهورية في الإسلاميات عامي 1972م_1973م.
5_ وهو أوَّل مَنْ أحيا التصنيف في مقاصد الشريعة في عصرنا الحالي بعد العزّ ابن عبدالسلام (ت 660هـ) والشاطبي (790هـ).
__________
(1) _ انظر شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر بن عاشور حياته وآثاره د. بلقاسم الغالي ص56_62، ومحمد الطاهر بن عاشور علامة الفقه وأصوله، والتفسير وعلومه للأستاذ خالد الطباع ص78_80.
(2) _ النظارة: هي الهيئة المشرفة على التعليم.(1/10)
6_ وهو أوَّلُ مَن أدخل إصلاحاتٍ تعليميّةً وتنظيميّة في الجامع الزيتوني في إطار منظومة تربوية فكرية, صاغها في كتابه: (أليس الصبح بقريب) الذي ألفه في بواكير حياته، والذي دل على عقلية تربوية فذة، وكان شاهداً على الإصلاح التربوي والتعليمي الشرعي المنشود.
فأضاف إلى الدراسة موادَّ جديدةً كالكيمياء والفيزياء والجبر وغيرها, وأكثر من دروس الصرف, ومن دروس أدب اللغة, وشَرَع بنفسه في تدريس ديوان الحماسة, ولعلّه أول من درّس ذلك في الزيتونة.
أخلاق ابن عاشور وشمائله: كان الشيخ × تزينه أخلاق رضية، وتواضع جم، فلم يكن على سعة اطلاعه وغزارة معارفه مغروراً كشأن بعض الأدعياء ممن لم يبلغ شأوه.
كان مترفعاً عن صغائر الأمور، إن نظرت إليه _كما يقول مترجموه_ لم تقل إلا أنه رجل من النبلاء جمع بين النبل في الحسب والنسب، والنبل في العلم والأخلاق حتى قال فيه الشيخ محمد الخضر حسين: =ليس إعجابي بوضاءة أخلاقه وسماحة آدابه بأقل من إعجابي بعبقريته في العلم+(1).
وقد اشتهر × بالصبر، وقوة الاحتمال، وعلو الهمة، والاعتزاز بالنفس، والصمود أمام الكوارث، والترفع عن الدنايا، تراه في كتاباته عفيف القلم، حلو المحاضرة، طيب المعاشرة مع تلاميذه حتى إنك لا تجد بين كتاباته رداً على أحد ممن وقف ضده موقف الخصم، بل أسبغ على كتاباته طابع العلم الذي يجب أن يُبَلِّغه، لا مظهر الردود التي تضيع أوقات طالب العلم، وتقود إلى الأحقاد والتعصب.
بل إن أشهر ما عُرِف به الشيخُ رحابة صدره مع منتقدي فتاويه، ومخالفيه في الرأي؛ فهو لا يغلظ لهم القول، ولا ينقدهم النقد اللاذع، بل يُلَمِّح باحترام وتقدير ولطف دون أن يتعدى دائرة النطاق العلمي النزيه.
__________
(1) _ تونس وجامع الزيتونة ص81، وانظر محمد الطاهر بن عاشور للطباع ص81.(1/11)
وما عَرف لسانُه ولا قلمه نابيَ الكلام؛ فإذا احتاج إلى الرد على أحد _ عَلَت ردودَه مسحةٌ من الأدب الجم، واحترام آراء الآخرين، وترك الاستخفاف أو الاستنقاص للمخالفين كيفما كانت شخصياتهم، ومهما كانت آراؤهم.
ولذلك لم يَنْزِل طيلة حياته إلى الإسفاف في القول كما هو الشأن في المناقشات التي ظهرت في عصره، والمعارك الأدبية والعلمية التي كانت يومئذ محط أنظار الناس(1).
يقول فيه صديقه في الطلب الشيخ محمد الخضر حسين متحدثاً عن شيء من أخلاقه: =شب الأستاذ على ذكاء فائق، وألمعية وقادة، فلم يلبث أن ظهر نبوغه بين أهل العلم+(2).
ويقول فيه: =وللأستاذ فصاحة منطق، وبراعة بيان، ويضيف إلى غزارةِ العلمِ وقوةِ النظرِ صفاءَ الذوقِ، وسعةَ الاطلاعِ في آداب اللغة.
وأذكر أنه كانَ يوماً في ناحية من جامع الزيتونة ومعه أديبان من خيرة أدبائنا، وكنتُ أقرأ درساً في ناحية أخرى من الجامع، فبعث إليَّ بورقة بها هذان البيتان:
تأَلَّقَتِ الآدابُ كالبدر في السَّحَرْ ... وقد لفظ البحران موجُهما الدرر
فما لي أرى منطيقها الآن غائباً ... وفي مجمع البحرين لا يُفقد (الخضر)(3)
__________
(1) _ انظر شيخ الجامع الأعظم ص150، ومحمد الطاهر بن عاشور للطباع ص81.
(2) _ تونس وجامع الزيتونة ص125_126.
(3) _ انظر شيخ الجامع الأعظم ص63، ومحمد الطاهر بن عاشور ص82.(1/12)
وقد وصف ابن عاشور نفسه بقوله: =ولا آنَسُ برفقة ولا حديثٍ أُنْسي بمسامرة الأساتيذ والإخوان في دقائق العلم ورقائق الأدب, ولا حُبِّبَ إليِّ شيء ما حُبّبت إليّ الخلوة إلى الكتاب والقرطاس متنكّباً كلَّ ما يجري من مشاغل تكاليف الحياة الخاصة, ولا أعباء الأمانات العامة التي حُمِّلتُها فاحتملتُها في القضاء وإدارة التعليم حالت بيني وبين أنسي في دروس تضيء منها بروق البحث الذكي, والفهم الصائب بيني وبين أبنائي الذين ما كانوا إلاَّ قرَّة عين وعدّة فخر, ومنهم اليوم علماء بارزون, أو في مطالعة تحارير أَخْلُصُ فيها نجيّاً إلى الماضي من العلماء والأدباء الذين خلَّفوا لنا آثارهم الجليلة ميادين فسيحة ركضنا فيها الأفهام والأقلام مرامي بعيدة سدَّدنا إليها صائب المهام+.(1)
ووصفه أحدهم فقال: =رأيتُ فيه شيخاً مهيباً يمثّل امتداداً للسلف الصالح في سمته, ودخل في عقده العاشر ولم تَنَلْ منه السنون شيئاً..
قامة سمهرية خفيفة اللحم, وعقلية شابة ثرية بحصيلتها, وقلب حافظ أصاب من علوم القدماء والمحدثين, ولسان لافظ يقدر على الخوض في كلّ شيء من المعارف, وذهن متفتّح يشقّق الحديث روافد مع وقار يزيّنه, وفضل يبيّنه, وأخلاق وشمائل حسنة تهش للأضياف، وترحّب بالوارد, وتعطي في عمق لمن يريد الاغتراف من بحر كثرت مياهه, وقد ازدحمت العلوم فيه+.(2)
__________
(1) _ محمد الطاهر بن عاشور ص82.
(2) _ مجلة جوهر الإسلام عدد1، السنة 1963م ص56، وانظر شيخ الجامع الأعظم ص63.(1/13)
ووصفه الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة فقال: =كان فريداً مع تقدّم السنّ في حضور واستحضار ما يسأل عنه من مسائل؛ أذكر أنّني طلبتُ منه ذات يوم من شهر أوت (أغسطس _آب ) (1963م) بعد أن جلستُ إليه في زيارتي له بعد العصر عن وجه إعراب خفي عليّ, فإذا الإمام _ رحمة الله عليه _ يفيض في بيان ذلك، ويشرح الوجوه المختلفة، فيستشهد بما أوردهُ ابن هشام في (المغني) وفي (التصريح), وكأنه يقرأ في كتاب.
وكذلك كان شأنه في كلِّ ما يُسأل عنه من قضايا العلم اللغوي أو الشرعي, كان خزانة علم تتنقل يجد لديه كل طالب بغيته, أعانه على حصول ذلك وبلوغ المرتبة العالية العجيبة فيه اشتغاله المتواصل بالمراجعة والتدريس والتحقيق والتأليف, مع صحة ذهن, وجودة طبع, وقوة عارضة, وطلاقة لسان.
والشيخ صبور على المحن, فلم يَشْكُ من أحد؛ رغم الحملات التي أُثيرت ضدّه، ولم أعثر في نقده العلمي على ما يمسُّ الذوق، أو يخدش الكرامة, عفّ اللسان, كريم, مُحِبٌّ لأهل العلم ولطلبته، ولمن كان أهلاً للمحبة.
وكان في مناقشاته العلمية لا يجرح أحداً، ولا يحطّ من قدره, فإذا لاحظ تهافتاً في الفكر لمَّح إلى ذلك تلميحاً.
ولم أجد في خصوماته الفكرية ما يمسّ شخصية أحد قطّ, ورغم الحملات التي شُنَّت ضده في فتوى التجنّس وغيرها لم ينزل عن المستوى الخلقي الذي يتصف به العلماء, بل لم يُشِرْ إلى خصومه, ولم يشكُ منهم قط.
وأما عاداته ومعاملاته فكان الشيخ كثير الإحسان إلى مساعديه من المستكتبين والعملة, ومن عاداته عدم تناول وجبة العشاء, فإذا حضر مأدبة تظاهر بالأكل مجاملةً+.(1)
قال داغر: =امتاز إلى جانب علمه ودأبه ومعرفته الواسعة وتحرره الفكري, بالتواضع، والنفس الخيرّة، والعقل الراجح، والتدبير القويم+.(2)
__________
(1) _ شيخ الجامع الأعظم ص63_74.
(2) _ محمد الطاهر بن عاشور ص84.(1/14)
ويقول فيه الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة: =هو نمطٌ فريد من الأشياخ لم نعرف مثله بين معاصريه أو طلابه أو من كان في درجتهم من أهل العلم؛ إذ كان انكبابه على الدرس متميّزاً, واشتغاله بالمطالعة غير منقطع, مع عناية دائمة مستمرة بالتدوين والكتابة, وتقديم ما يحتاج إليه الناس من معارف وعلوم, وأذواق وآداب, وملاحظات وتأملات؛ فلا بدع إذا اطّرَدتْ جهودُه، واستمرّ عطاؤه في مختلف مجالات الدرس والثقافة: في حقول المعرفة الشرعية الدينية, وفي الدراسات اللغوية, وفي معالجة أوضاع التعليم في الزيتونة, والعمل على إصلاحها, مع ذبّه عن الإسلام أصوله وآدابه, وتطلعه كل يوم إلى مزيدٍ من المعرفة بكلّ ما يمكن أن يقع تحت يده من كتب فريدة, ومخطوطات ومصنفات في شتّى العلوم والفنون.
وقد وهبه الله متانة علمٍ, وسعة ثقافة, وعمق نظر, وقدرة لا تفتر على التدوين والنشر, وملكات نقدية يتضح أثرها في طريقة الجمع بين الأصول والتعريفات, وما يلحق بها من ابتداعات وتصرفات.
وهكذا صدرت مقالاته وتحقيقاته، وبحوثه وتآليفه متدفقة متوالية من غير انقطاع أو ضعف, فَنُشِر ما نُشِرَ, وبقي الكثير منها محفوظاً بخزانة آل عاشور ينتظر من يتولى نشره وطبعه وتحقيقه+.(1)
ومن لطائف ذكائه ما ذكره تلميذه أبو الحسن بن شعبان الأديب الشاعر حيث حكى عن نفسه أنه كان يحضر دروس العلامة الإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في (الموطأ) وهو إذ ذاك شيخ الزيتونة, وشيخ الإسلام المالكي حوالي عام(1933م) وفي ذات مرة ناقش الشيخ ابن عاشور في مدلول لفظة لغوية, والشيخ ابن عاشور متمكِّن في مادة اللغة, متثبت في نقله, مع سمو ذوق وقدرة على الترجيح بين الأقوال, في أسلوب علمي وحُسن عرض, ولما طالت المناقشة أراد المترجم أن يفحم الشيخ ابن عاشور؛ فاخترع لوقته شاهداً شعرياً على صحّة زعمه, فأجابه الشيخ ابن عاشور بديهةً ومن الوزن والرويّ نفسه:
__________
(1) _ محمد الطاهر بن عاشور ص84_85.(1/15)
يروون من الشعر ما لا يوجد(1)
ففغر فاه مبهوتاً من شدة ذكاء الشيخ، وسرعة بديهته.
وأخيراً هذه مقالةٌ تجمع كثيراً من معالم سيرة الشيخ ابن عاشور كتبها الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي الجزائري 1306_1385هـ في الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، ونُشرت في جريدة البصائر سنة 1948هـ، وهي في آثار البشير 3/548_552، بعنوان (الرجال أعمال _ محمد الطاهر بن عاشور وعبدالحميد بن باديس إماما النهضة العلمية في الشمال الإفريقي).
ومما جاء في تلك المقالة التي كتبها البشير × قوله:
=الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور علم من الأعلام الذين يعدُّهم التاريخ الحاضر من ذخائره؛ فهو إمام متبحِّر في العلوم الإسلامية، مستقلٌّ في الاستدلال لها، واسع الثراء من كنوزها، فسيح الذّرع بتحمّلها، نافذ البصيرة في معقولها، وافر الاطلاع على المنقول منها، أقرأ وأفاد، وتخرّجت عليه طبقات ممتازة في التحقيق العلمي، وتفرّد بالتوسع والتجديد لفروع من العلم ضيَّقها المنهاجُ الزيتوني، وأبلاها الركودُ الذهنيُّ، وأنزلتها الاعتبارات التقليدية دون منزلتها بمراحل؛ فأفاض عليها هذا الإمام من روحه وأسلوبه حياةً وجِدَّةً، وأشاع فيها مائية ورونقاً، حتى استرجعت بعض قيمتها في النفوس، ومنزلتها في الاعتبار+.
وقال: =هذه لمحات دالة _في الجملة_ على منزلته العلميةِ، وخلاصتُها أنه إمام في العلميات لا يُنازع في إمامته أحد.
__________
(1) _ هكذا في كتاب الأستاذ الطباع، والبيت هكذا لا يستقيم وزنه، ولعل الصواب:
يروي من الأشعار ما لا يوجد(1/16)
وأما العمليات فلا نعدّ منها التدريس في جامع الزيتونة، وإنما نعدّ منها إصلاح التعليم في جامع الزيتونة، وقد اجتمعت في الأستاذِ وسائلُه، وتكاملت أدواته، من عقل راجح لا يخيس وزنُه، وبصيرة نافذة إلى ما وراء المظاهر الغرَّارة، وفكر غوّاص على حقائق الأشياء، وذكاء تشفُّ له الحُجُب، واطلاع على تاريخنا العلمي في جميع أطواره، واستعدادٍ قوي متمكن للتجديد والإصلاح.
ومن شأن هذه المواهب المتجمعة في أمثال الأستاذ أنها تكمن حتى تُظهرها الحاجة والضرورة، والحاجة إذا ألحَّت كشفت عن رجل الساعة، وأخرجت القائم المنتظر، وقد وُجدت الحاجة إلى الإصلاح في كليتنا، فوُجد الرجل المدّخر، فكان الأستاذ محمد الطاهر بن عاشور.
وإن تدبير الأحوال الاجتماعية لأقوى وأبقى من تدبير الجماعات، وإن تدبير الجماعات لأَثَرٌ من روح الاجتماع وإن غفل الناس عن ذلك.
تقلّد الأستاذ مشيخةَ الجامعِ للمرة الأولى، فدلّت المصائر على أن التدبير الاجتماعي لم يكمُل، وكان من الظواهر المحسوسة أنها وظيفة جديدة لم يطمئن موطنها، ولم يدمّث موطئها، ولم تهشّ لها النفوس المبتلاة بالتقليد، والمريضةُ بالمنافسة، خصوصاً وهي _في حقيقتها_ نزع للسلطة من جماعة وحصرها في واحد.
والخروج عن المألوفات العادية يراه المجدّدون وضعاً للإصْر، وانطلاقاً من الأسر، ويراه الجامدون فساداً في الأرض وشرطاً من أشراط الساعة.
ثم قُلِّد الأستاذُ مشيخةَ الجامع للمرة الثانية، وكان الأمر قد استتبّ، والنفوس النافرة من التجديد قد اطمأنَّت، والضرورة الداعية إلى الإصلاح قد رَجَحت؛ ومعنى ذلك كله أن التدبير الاجتماعي قد كمل؛ فخبّ الجواد في مضماره، وشع نور ذلك الاستعداد من ناره، وكان ما سرّ نفوس المصلحين من إصلاح وإن لم يبلغ مداه بعد.
لم يرَ جامع الزيتونة في عهوده الأخيرة عهداً أزهر من هذا العهد، ولم يرَ في الرجال المسيرين له رجلاً أقدر على الإصلاح، وأمدّ باعاً من شيخه الحالي.(1/17)
وإذا كان الإصلاح يسير ببطء فما الذنب ذنبه، وإنما الذنب لطبيعة الزمان والمكان، وضعف المقتضيات، وقوّة الموانع.
وحسبه أنه حرَّك الخامد، وزعزع الجامد، وأجال اليد المُصلحة في الإدارة وفي كتب الدراسة وفي أشياء أُخر.
وتلك هي مبادئ الإصلاح التي ينبني عليها أساسه.
وحسبه _أيضاً_ أنه نبّه الأذهان إلى أن إصلاحاتِ خير الدين كعهد الأمان، كلاهما لا يصلح لهذا الزمان.
وشتّان ما زمنٌ كله ممهد بالاحتلال، وزمن كل ما فيه ينادي بالاستقلال+.
وقال: =وإن الزيتونة لا تتبوّأ مكانها الرفيع إلا بواسطة جهاز داخلي متماسك الأجزاء من علمائها، يؤُمّهم إمامٌ مدرّب محنّك فقيه في المذاهب الإدارية، مجتهد في أصولها.
وإن ذلك الإمامَ المدرّبَ الفقيه المجتهد الجامع لشروط الإمامة في هذا الباب _ لهو الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
إن الذين يُثيرون في وجهه الغبار، أو يضعون في وجهته العواثر _ لمجرمون.
وإنا _إن شاء الله_ للأستاذ الأكبر في طريقه الإصلاحي لمؤيدون وناصرون+.
وفاته: بعض من ترجموا للشيخ ابن عاشور يذكرون أنه توفي سنة 1393هـ.
ولعل أقرب الناس صلة بالشيخ تلميذه معالي الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة _حفظه الله_.
وقد ذكر أن الشيخ توفي بالمرسى يوم الأحد 13 رجب 1394هـ، 12 أغسطس 1973م، ووري التراب في مقبرة الزلاج في مدينة تونس(1).
وقد ذكر الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة أن عمر الشيخ ابن عاشور 94 سنة، ولعل ذلك يصدق عليه بالتاريخ الميلادي حيث ولد في سبتمبر عام 1879م، وتوفي _كما مر_ عام 1973م.
أما في التاريخ الهجري فيكون عمره 98 سنة؛ حيث ولد في جمادى الأولى عام 1296، وتوفي عام 1394هـ.
لعل الترجمة الماضية تغنينا عن كثرة التفصيل؛ ولذا سيكون التعريف بالكتاب من خلال ما يلي:
__________
(1) _ انظر شيخ الإسلام الإمام الأكبر محمد الطاهر بن عاشور، للشيخ محمد الحبيب بن الخوجة 1/169.(1/18)
أولاً: اسم الكتاب: يقول مؤلفه ابن عاشور في مقدمة كتابه 1/8_9: =وسميته (تحرير المعنى السديد، وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد) واختصرت هذا الاسم باسم: (التحرير والتنوير من التفسير)+.
فهذه تسمية مؤلفه له.
ثم اشتهر هذا التفسير باسم: (التحرير والتنوير) و(تفسير التحرير والتنوير) كما هو على غلاف الكتاب المطبوع.
ثانياً: قصة تأليفه للكتاب وبدايته ونهايته: لقد كان تفسير الكتاب المجيد أكبر أمنية كان يتمناها الشيخ ابن عاشور _ كما يقول في مقدمته _.
ولكنه كان يتردد كثيراً، فتارة يقدم، وتارة يحجم؛ إذ كانت الصوارف تعوقه، والتهيب من الإقدام على هذا الأمر العظيم يقف دونه.
وبعد تردد، واستخارة، واستعانة بالله _عز وجل_ عقد العزم على الشروع في التفسير، وأقدم عليه _كما يقول_: إقدام الشجاع على وادي السباع.
وكانت بداية تأليفه للتفسير عام 1341هـ، وفرغ منه عام 1380هـ.
وبعد فراغه منه ختمه بكلمة عظيمة مؤثرة قال فيها: =وإن كلام رب الناس حقيق بأن يُخدم سعياً على الرأس, وما أدّى هذا الحقَّ إلا قلمُ مُفَسِّرٍ يسعى على القرطاس, وإنَّ قلمي استنَّ بشوط فسيح, وكم زُجِرَ عند الكَلالِ والإعياء زجر المنيح, وإذ قد أتى على التمام فقد حقَّ له أنْ يستريح.
وكان تمام هذا التفسير عصر يوم الجمعة الثاني عشر من شهر رجب عام ثمانين وثلاثمائة وألف, فكانت مدة تأليفه تسعاً وثلاثين سنة وستة أشهر, وهي حقبة لم تَخْلُ من أشغالٍ صارفةٍ, ومؤلفات أخرى أفنانُها وارفة, ومنازعَ بقريحةٍ شاربةٍ طوراً, وطوراً غارفة, وما خلال ذلك من تشتت بال, وتطور أحوال, مما لم تَخْلُ عن الشكاية منه الأجيال, ولا كُفران لله فإن نِعَمَهُ أوفى, ومكاييلَ فضلِه عَلَيَّ لا تُطَفَّفُ ولا تُكْفا.
وأرجو منه _تعالى_ لهذا التفسير أن يُنجد ويغور, وأن ينفع به الخاصة والجمهور, ويجعلني به من الذين يرجون تجارةً لن تبور.(1/19)
وكان تمامه بمنزلي ببلد المرسى شرقيّ مدينة تونس, وكَتَبَ محمد الطاهر ابن عاشور+(1).
وقد طبع هذا التفسير في دار سحنون للنشر والتوزيع بتونس.
وقد جاء في ثلاثين جزءاً، في خمسة عشر مجلداً، وعدد صفحات التفسير كلها أحد عشر ألفاً ومائة وسبع وتسعون صفحة (11197 صفحة) عدا صفحات فهارس كل جزء، فإنها لم تذكر في هذه الطبعة أعني طبعة دار سحنون.
أولاً: منهج ابن عاشور المجمل
لقد سلك ابن عاشور في تفسيره منهجاً متميزاً، فجاء محتوياً على مزايا عظيمة، متضمناً علوماً كثيرة، وفوائد جمة وربما كانت عزيزة.
وقد بذل في هذا التفسير قصارى جهده، واستجمع قواه العقلية والعلمية؛ فتجلت فيه مواهبه المتعددة، وتبين من خلاله علوُّ كعبه، ووفرة اطلاعه، وعلميته الفذة النادرة، ومنهجه التربوي، ونظراته الإصلاحية.
ولقد بين × في مقدمته الرائعة منهجه بإجمال، ويمكن حصر ذلك بما يلي:
1_ بدأ تفسير ه بمقدمات عشر؛ لتكون _ كما يقول _ عوناً للباحث في التفسير، وتغنيه عن مُعاد كثير، وهذه المقدمات تضمنت علماً غزيراً عظيماً.
2_ اهتم ببيان وجوه الإعجاز، ونكت البلاغة العربية، وأساليب الاستعمال.
3_ اهتم ببيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض.
4_ لم يغادر سورة إلا وبين أغراضها، وما تشتمل عليها بإجمال.
5_ اهتم بتحليل الألفاظ، وتبيين معاني المفردات بضبط وتحقيق مما خلت عن ضبط كثير منه قواميسُ اللغة.
6_ عُنِيَ باستنباط الفوائد، وربطها بحياة المسلمين.
7_ حَرِصَ على استلهام العبر من القرآن؛ لتكون سبباً في النهوض بالأمة.
فهذا مجمل منهجه الذي بيَّنه، وسار عليه.
ثانياً: منهج ابن عاشور المفصل في تفسيره
أما منهجه على وجه التفصيل فيحتاج إلى مزيد بسط وبيان.
وفيما يلي بيان لذلك، ومن خلاله سيتبين خلاصة ما اشتمل عليه التفسير من العلوم والمعارف.
__________
(1) _ تفسير التحرير والتنوير 30/636_637.(1/20)
1_ منهجه في العقيدة: لقد سار _في الجملة_ على منهج السلف الصالح في أبواب العقيدة عدا آيات الصفات؛ فهو يسير فيها على وفق منهج الأشاعرة، وإن كان يخالفهم أحياناً، ويقترب من منهج السلف.
وإذا تعرَّض لتأويل آية جاء بأقوال السلف، وربما انتصر لهم، وإذا خالفهم في تأويل صفة أثنى عليهم، واعتذر لهم دون تعنيف أو تسفيه.
بل أحياناً يكون له في الصفة الواحدة قول يسير فيه على منهج أهل التأويل، وفي موضع آخر يوافق فيها السلف _كما في مسألة الرؤية_ فتراه _على سبيل المثال_ يتردد فيها في بعض المواضع، وفي سورة المطففين عند قوله _تعالى_: [كَلاَّ إِنَّهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوْبُوْن] تجده يثبت الرؤية، ولعلَّه رأيه الذي انتهى إليه.
ويُلتمس له العذر فيما وقع فيه من تأويلٍ وقع فيه كثير من المفسرين _ بأنه نشأ في بيئة علمية أشعرية؛ فهذا بالنسبة لباب الصفات.
أما بقية أبواب العقيدة كإثبات الوحدانية، أو الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر _ فهو يسير فيها _في الجملة_ على طريقة السلف.
وكذلك الحال بالنسبة لباب الإيمان، وحكم مرتكب الكبيرة، ومسألة الشفاعة، ومسائل الحكمة والتعليل، وفي باب الصحابة وغير ذلك من أبواب العقيدة _ يسير فيها على وفق منهج السلف.
بل إنه يرد على المخالفين في ذلك؛ فتراه يناقش المعتزلة، والخوارج في مسألة مرتكب الكبيرة، ويُفنِّد رأيهم، وتراه يُخطِّئ الفلاسفة ويرد عليهم في عدد من المسائل كقولهم: بعلم الله بالكليات دون الجزئيات، وقولهم: في صدور المعلول عن العلة، أو إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد.(1/21)
وتراه يُخطِّئ الشيعة والباطنية وغيرهم في كثير من مخالفاتهم العقدية، بل يخالف الأشاعرة في عدد من المسائل في باب القدر وغيره، فعلى الرغم من أن ابن عاشور قد نشأ في جوٍّ يسود فيه المذهب الأشعري إلا أنه لم يكن يتحرج من توجيه النقد لما آل إليه المذهب الأشعري(1).
كما أنه × يُنكر البدع الحادثة، والأباطيل والخرافات كالطيرة، وأداء صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة، وغيرها مما ورد في التفسير، وإن كان _أحياناً_ يميل إلى تسويغ بعض البدع كما في سورة القدر؛ حيث قال في قوله _تعالى_: [تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ] الآيةَ: =وفي هذا أصل عظيم لإقامة المواكب؛ لإحياء ذكرى أيام مجد الإسلام، وأن من كان له عمل في أصل تلك الذكرى ينبغي أن لا يخلو عنه موكب البهجة بتذكارها+ 30/463.
كما أنه يرد على أباطيل الصوفية، وإن كان أحياناً يورد أقوالاً لبعضهم كابن عربي دون تعليق عليها.
فهذا مجمل منهجه في العقيدة، وسيتضح مزيد بيان لهذه الفقرة في الفقرات التالية.
2_ العناية بالحديث الشريف: فكثيراً ما يورد الأحاديث النبوية، ويستشهد بها، ويحرص على بيان صحيحها من ضعيفها، ويستعين بها على تفسير آية، أو ترجيح قول، أو بيان سبب نزول.
وربما ذكر الحديثَ دون عزوٍ أو بيانٍ لدرجة صحته.
3_ الإلمام بالفقه: فكثيراً ما يتعرض للمسائل الفقهية التي يمر بها تفسيره، فيبين ما فيها من خلاف، ويوضح أقوال أهل المذاهب، ثم يرجِّح ما يراه راجحاً.
وقد يتعرض للمسائل التي يحتاج إليها الناس في وقته، أو التي وقع فيها الخلاف كمسألة أخذ الأجر على القربات، ومسألة نقل لحوم الهدي من مكة، ومسألة أحكام الخروج من البلد الذي يفتن فيه المسلم في دينه، إلى غير ذلك من المسائل.
4_ العناية بعلم القراءات: فهو يورد القراءات، ويرجح ذلك القول بناءً على تلك القراءة أو غيرها، وهكذا...
__________
(1) _ انظر مقدمة الميساوي على مقاصد الشريعة ص71.(1/22)
5_ العناية بمقاصد الشريعة: فهو يؤكد كثيراً على إثبات أن هناك مقاصد للتشريع، وأن منها ما هو خاص، وما هو عام، وتراه يعنى بالمصالح العليا، والغايات الكبرى التي ينبني عليها التشريع؛ فتفسيره مليء بالإشارة إلى ذلك العلم.
ولا غرو في ذلك فهو إمام له باع طويل، ونظرات في ذلك العلم _علم المقاصد_ بل هو باعثه، ومجدده في العصر الحديث خصوصاً في كتابه العظيم (مقاصد الشريعة الإسلامية) الذي قال في مقدمته أنه قصد فيه: =خصوص البحث عن مقاصد الإسلام من التشريع في قوانين المعاملات، والآداب التي رأى أنها الجديرة بأن تُخصَّ باسم الشريعة، والتي هي مظهر ما راعاه الإسلام من تعاريف المصالح والمفاسد وترجيحاتها مما هو مظهر عظمة الشريعة الإسلامية بين بقية الشرائع، والقوانين، والسياسات الاجتماعية لحفظ نظام العالم، وإصلاح المجتمع+(1).
ولهذا تراه في تفسيره يُشير _أحياناً_ إلى كتابه المذكور عند التعرُّض لشيء من مقاصد الشريعة.
ومما يمر بقارئ التفسير من تلك المقاصد _زيادة على ما مضى_ تعرض المؤلف لتعليل الأحكام، والحديث عن سماحة الشريعة الإسلامية، وملاءمتها للفطرة، وعلى نوط الأحكام بمعان وأوصاف لا بأسماء وأشكال.
وتراه يتعرض للحرية من حيث معناها، ومداها، ومراتِبُها في نظر الشريعة، وتراه يُبدي ويُعيد حول مقصد الشريعة من نظام الأمة، وأن تكون قويةً مرهوبةَ الجناب، مطمئنة البال.
وتجده يُبيِّن أن من مقاصد الشريعة تعيينَ أنواع الحقوق لأنواع مستحقيها، ويوضح مقاصدَ أحكامِ العائلة، وآصرةَ النكاح، والنسب، والقرابة، ومقاصد التصرفات المالية، وأحكام التبرعات، والمقصد من العقوبات.
إلى غير ذلك مما سيأتي إشارة إليه في الفقرات التالية.
6_ تلمس الحكم: فتراه يحرص على تلمس الحكم من الأحكام، والتشريعات، وأزمنتها، وأماكنها، وأعدادها.
__________
(1) _ انظر مقاصد الشريعة الإسلامية، ص175.(1/23)
من أمثلة ذلك حديثه عن الحكمة من كون الأيام التي يجب على الحاج المتمتع صومها إذا لم يجد الهدي عشراً، وعن فائدة جعل بعضها في الحج.
قال × عند قوله _تعالى_: [فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ].
قال: =وقد سئلت عن حكمة كون الأيام عشرة فأجبت: بأنه لعله نشأ من جمع سبعة وثلاثة؛ لأنهما عددان مباركان، ولكن فائدة التوزيع ظاهرة، وحكمة كون التوزيع كان إلى عددين متفاوتين لا متساويين ظاهرة؛ لاختلاف حالة الاشتغال بالحج؛ ففيها مشقة، وحالة الاستقرار بالمنزل.
وفائدة جعل بعض الصوم في مدة الحج جعل بعض العبادة عند سببها، وفائدة التوزيع إلى ثلاثة وسبعة أن كليهما عدد مبارك ضبطت بمثله الأعمال دينية وقضائية+. 2/229
وكما في حديثه عن تقديم الأفئدة على الأبصار 7/443.
وحديثه عن حكمة تحريم الربا 4/86_87.
وحديثه عن حكمة جعل التيمم عوضاً عن الطهارة بالماء 5/68_69.
وحكمة الرخصة في أكل ذبائح أهل الكتاب 6/120_121.
7_ العناية بالقواعد الأصولية: حيث جاء ذلك التفسير حافلاً بذكرها، وبيان حدودها، وما يندرج تحتها من أفراد بحسب ما يتيسر له مما يناسب المقام.
8_ العناية بالمسائل النحوية، والصرفية: فالكتاب حافل بأوجه الأعاريب، واختلاف النحاة، وترجيح ما يراه المؤلف صواباً، والاستدراك على بعض المفسرين، والنحاة فيما فاتهم.
وقل مثل ذلك في شأن المسائل الصرفية، حيث يُعنى ببنية الكلمات التي يتعرض لها، ويحرص على ردها إلى أصولها، ويتطرق إلى الأوزان، والجموع وما جرى مجرى ذلك من المسائل الصرفية.(1/24)
9_ العناية بمسائل فقه اللغة: فالمؤلف × عُني كثيراً بمسائل فقه اللغة، وسنن العرب في كلامها، فتراه يتطرق لمسألة نشأة اللغة كما في تفسيره لقوله _تعالى_: [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا].
وتراه يتعرض للغة العربية، وفضلها، وامتيازها.
وتراه يبحث في المشترك، والمترادف، والمتضاد، والمُعَرَّب، والقياس، كما عني بمبتكرات القرآن _كما سيأتي في فقرة آتية_ والنحت وما إلى ذلك من مباحث ذلك العلم.
10_ العناية بالبلاغة العربية، وأساليب البيان: فهو فارس ذلك الميدان الذي لا يُشق له غبار.
وسيكون الحديث عن ذلك مفرداً في مبحث آتٍ.
11_ العناية بالقصص القرآني: ويتجلى ذلك من خلال تنويهه بقصص القرآن، وذكر تميزه عن غيره من القصص.
كما يتجلى من خلال اهتمامه بقصص الأنبياء وأممهم، واستلهام العبر من تلك القصص.
12_ التعرض للكتب السماوية المحرفة: فكثيراً ما ينقل من التوراة وأسفارها الخمسة، ويبين ما في ذلك من التحريف، والباطل، والصواب.
ويوضح من خلال ذلك صحة القرآن، وسلامته من التحريف.
13_ التنويه بأمهات العبادات: كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج وغيرها.
فتراه عند مروره بها يعرج على فوائدها، وحكمها، وآثارها الدنيوية والأخروية.
14_ التنويه بمكارم الأخلاق وأصول الفضائل: كالصبر، والحلم، والشكر، والصفح، والعفو، والكرم، وحسن الخلق، والشجاعة، وعلو الهمة، وأصالة الرأي، وعزة النفس، وإباءة الضيم.
فتراه _في كل سانحة_ يُنَوِّه بتلك المكارم والفضائل، ويُعلي من شأنها، ويبين حدودها، والفروق بينها، ويدعو إلى التحلي بها، ويبين آثارها الحميدة على الأفراد والأمة.
15_ التحذير من مساوئ الأخلاق وسفاسف الأمور: فتراه كثيراً ما يُحذِّر من الجور، والظلم، والبخل، والفساد، والكذب، والنفاق، والتبذير، وما جرى مجرى ذلك.(1/25)
16_ العناية بمعالم الإصلاح العامة: فقد جاء تفسيره حافلاً بما ينهض بالأمة، ويُعلي منارها، وينزلها منزلتها اللائقة بها، ويوصلها إلى أعلى مراتب السيادة، وأقصى درجات المجادة.
ولهذا تراه يحرص على بيان أصول الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى فقه المصالح والمفاسد.
وتراه يحرص على ما يرفع من شأن الأمة كي تستقل عن غيرها في نحو الصناعة، والاقتصاد، وما جرى مجرى ذلك.
17_ الاهتمام بأصول التربية والتعليم: فكثيراً ما يبين السبل التي ترتقي بالتربية، والتعليم، كيف لا، وهو المربي الحكيم الذي باشر التعليم، وسبر أحواله، وخبر علله وأدواءه؟ كيف لا، وقد ألَّف كتابه العظيم (أليس الصبح بقريب) وهو في بواكير حياته؛ حيث كتبه وهو في الرابعة والعشرين من عمره، ذلك الكتاب الذي لم يُؤلَّف مثله في بابه، والذي تحدث فيه عن العلم، وتاريخ العلوم، وتطورها، وأسباب الرقي بمستوى التعلم العربي والإسلامي.
ولهذا جاء تفسيراً حافلاً بالنظرات التربوية؛ حيث يقف عند الآيات التي تشير وترشد إلى معالم التربية، وأصولها، كما في قوله _تعالى_ في سورة النساء: [كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ].
18_ الاعتداد بالسلف الصالح، والاعتزاز بالأمة وتاريخها: فمع أنَّه ألَّف تفسيره في وقت ضعف المسلمين، وتسلط الاستعمار، وسقوط الخلافة، وتغلغل الأفكار الغربية، وحدوث الهزيمة النفسية، وتأثر الكثير من المثقفين بكل ما مضى _ إلا أن ذلك لم يَنَلْ نَيْلَه من الشيخ ابن عاشور بل كان محباً لسلفه الصالح، مفاخراً بهم، معتزاً بأمته، محتفلاً بتاريخها المجيد، نافياً عنه ما علق به من زيف وتحريف.
19_ التنويه بما شاده الأوائل، والحرصُ على الإفادة منه وألا يُقتصر عليه ويوقف عنده: قال × في مقدمته الرائعة 1/7 مشيراً إلى هذا المعنى: =فإن الاقتصار على الحديث المعاد تعطيل لفيض القرآن الذي ما له من نفاد.(1/26)
ولقد رأيت الناس حول كلام الأقدمين أحدَ رجلين: رجلٍ معتكفٍ فيما شاده الأقدمون، وآخرَ آخذٍ بمعوله في هدم ما مضت عليه القرون، وفي كلتا الحالتين ضرٌّ كثير، وهنالك حالة أخرى ينجبر بها الجناحُ الكسير، وهي أن نعمد إلى ما أشاده الأقدمون فَنُهَذِّبَهُ ونزيده، وحاشا أن ننقضه أو نبيده، عالماً بأن غمض فضلهم كفران للنعمة، وجحد مزايا سلفها ليس من حميد خصال الأمة، فالحمد لله الذي صدق الأمل، ويسر إلى هذا الخير ودل+.
20_ الاعتزاز باللغة العربية: فتراه يتفاخر بها، ويُعلي من شأنها، ويرى أنها أعذب اللغات وأعظمها، وأوسعها مع أنه عاش في وقت الهزيمة _كما مرَّ_ وفي وقت كانت العربية توصم بالجمود، وتلاقي كلَّ جحود وكنود.
ومع ذلك لم يفقد ثقته بِلُغَتِه، ولم تنل منه تلك الدعايات فتيلاً أو قطميراً.
كيف لا، وهو الخبير باللغة، العالم بأسرارها، البصير بآدابها وشتَّى فنونها وعلومها.
21_ العناية بالضوابط، والتعريفات، والحدود: بحيث يتطرق للألفاظ التي تمر به في التفسير، فيعرفها بدقة، ووضوح، وشمول لا تكاد تجده عند غيره.
22_ العناية بمبتكرات القرآن، ولطائفه، وعاداته: ويعني بمبتكرات القرآن ما تميز به لفظ القرآن عن بقية كلام العرب، وأنه جاء على أسلوب يخالف الشعر، والخطابة، وعلى طريقة ليس فيها اتباع لطرائق العرب القديمة في الكلام، كما في 1/120.
كما عني باللطائف القرآنية، وذلك كثير في تفسيره، كما في 8_1/212.
كما عني × بعادات القرآن، وبيَّن أنه حق على المفسِّر أن يتعرف عادات القرآن من نظمه وكلمه، وبيَّن أن بعض السلف قد تعرض لشيء منها كابن عباس _رضي الله عنهما_ حيث يرى أن كل كأس في القرآن فالمراد بها الخمر، وأن كل ما جاء من [يَا أَيُّهَا النَّاْسُ] فالمراد به أهل مكة.
وابن عيينة يرى أن الله ما سمَّى مطراً في القرآن إلا عذاباً، وهكذا. انظر 1/124_125.(1/27)
23_ الربط بين هداية القرآن لمصالح المعاش الدنيوي، والمعاد الأخروي: كما في تفسيره لقول الله _ عز وجل _: [وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ].
فإنه أتى بكلام بديع حول هذا المعنى، وهكذا دأبه في كل مناسبة تمر به.
24_ العناية بعلم الجغرافيا: فقد تبين في تفسيره مدى نبوغه وضلوعه في هذا العلم؛ فكثر إيراده له؛ لأنه يحتاج إليه في تحديد المواضع والأماكن التي ورد ذكرها في القرآن الكريم؛ فلهذا كان يتحرى الصواب، ويحرص على تحقيق مواقع تلك المواضع والأماكن كبابل، ومدين، وثمود، والأحقاف وغيرها.
وقل مثل ذلك في عنايته بخطوط الطول، ودوائر العرض، كما في تفسيره لقوله _تعالى_: [قَالَ مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ].
25_ العناية بالتاريخ: ويظهر ذلك من خلال تتبعه الأحداثَ، ومعرفة أسباب النزول؛ فتراه يرجح أن هذه السورة أو الآية نزلت أولاً؛ بناءً على ما ترجح عنده من الحوادث التاريخية وهكذا...
وتراه يفيد من التاريخ في الأحوال التي نزلت فيها النوازل، فأفتى فيها علماء ذلك المِصْرِ بكذا وكذا، وأفتى غيرهم بكذا وكذا.
26_ الاستشهاد بأقوال الفلاسفة، والحكماء: فهو يورد أقوالهم، ويفند ما خالف الحق من آرائهم، ويوظف الحكمة في الاستدلال، والتحليل.
ولهذا تراه يتعرض لأقوال أفلاطون، وأرسطو، وينقل آراء الفلاسفة المنتسبين للإسلام كالكندي، والفارابي، وابن سيناء، ويبين ما فيها من حق، وباطل.
27_ التعرض لبعض مسائل الطب، والتشريح، والأحياء: فقد جاء تفسيره محتوياً على نظرات في ذلك الميدان، كما في تفسير قوله _تعالى_: [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا] وغيرها من الآيات.
كما في حديثه في سورة النور عن أن أصل لون البشر البياض، وأن التشريح أثبت أن ألوان لحوم البشر التي تحت الطبقة الجلدية متحدة اللون 21/74_75.
وكما في حديثه في السورة نفسها عن حالة النوم 21/76.(1/28)
وكما في حديثه عن أطوار خلق الإنسان كما في سورة الزمر 23/333_334.
وكما في حديثه عن قوله _تعالى_ [يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ والتَّرَائِبِ] 30/263_264.
28_ التعرض لمسائل في باب الإعجاز العلمي: وهذه الفقرة قريبة من الفقرة التي قبلها والتي بعدها.
والمقصود بالإعجاز العلمي ههنا الحقائقُ العلمية التي كشف عنها العلم، ووافقت أحدث ما انتهى إليه الكشف العلمي في هذا العصر مع كونها مجهولة في عصر النبوة وما بعده لقرون عديدة.
والشيخ ابن عاشور _كما يقول الدكتور بلقاسم الغالي_: =حين يأخذ بهذا اللون من الإعجاز إنما يأخذ به في اعتدال فهو يخالف الشاطبي الذي يرى (أن الشريعة أمية ليس فيها من علوم المتقدمين والمتأخرين شيء؛ لذلك لا ينبغي تناول آيات القرآن من وجهة نظر العلوم الحكمية بجميع أنواعها).
وهو يخالف المغالين الذين أسرفوا في تأويل آيات إلى حد التكلف والمجافاة للفظ القرآن وسياقه، ولم يخرج الألفاظ والتراكيب عند مدلولاتها اللغوية، ولم يحمل النصوص ما لا تحتمل+(1).
وقد تعرض الشيخ ابن عاشور في تفسيره لمسائل في الإعجاز العلمي، ونص على هذه التسمية في مواضع عديدة كما في المقدمة العاشرة من تفسيره، وكما في تفسيره لقوله _تعالى_: [أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً...] الأنبياء:30.
وكما في تفسيره لقوله _تعالى_: [خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ] العلق.
ولقد أوغل الشيخ ابن عاشور في هذا الباب برفق؛ حيث لم يكن ممن أنكروا ذلك، ولم يكن _أيضاً_ ممن أغرق في النظريات العلمية، واسترسل مع دقائقها؛ فلعل هذا هو المنهج الراشد في هذه المسألة.
__________
(1) _ شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر ابن عاشور _حياته وآثاره_ د. بلقاسم الغالي ص83_84.(1/29)
29_ التعرض لنظريات في علم الفلك، والطبيعة، وعلم النفس: كما في تفسيره للآيات التي فيها تعرض لبعض المظاهر الفلكية، والطبيعية كالحديث عن السماء، والأرض، والسحاب، والمطر، وتكوين الجنين، وخصائص النبات ونحو ذلك، كما في تفسير قوله _تعالى_: [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً] وغيرها من الآيات.
وكذلك تعرَّض لبعض النظريات في علم النفس، وما جاء في القرآن من الإشارات إلى ذلك العلم.
30_ العناية بعالم الحيوان، والطير: فكثيراً ما يتعرض لها عند ورودها في الآيات، كالكلب، والذئب، والخنزير، والغراب، والهدهد، وغيرها، فتراه يذكر تعريفها، وطبائعها، وفصائلها، ومواطنها، وأنواعها، وغرائب عجائبها.
31_ التعرض للمعادن، وما يستخرج من الأرض: ومن أمثلة ذلك ما جاء في تفسير سورة الإسراء من قوله _تعالى_: [قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً (50)].
فإنه تكلم عن الحديد بكلام عجيب بديع، حيث قسم أصنافه إلى ثمانية عشر صنفاً باعتبار تركيب أجزائه، وبين خصائص كل صنف.
وقل مثل ذلك في حديثه عن الزجاج في سورة النور، حيث تكلم عليه بكلام علمي، بين فيه تعريفه، واسمه في اصطلاح الكيمياء، واسمه عند العرب، وغيرهم، ومن اشتهر بصناعته، إلى غير ذلك.
32_ إيراد النوادر والمُلح: فكثيراً ما يورد ذلك في تضاعيف تفسيره لبعض الآيات؛ حتى يعضد المعنى الذي يرجحه أو يميل إليه، ولأجل أن يخفف من جفوة المباحث الجادة، ويلطف من عنف الممارسة للمناقشات القوية الرصينة؛ فلهذا أودع تفسيرَه كثيراً من القصص التاريخية، والنظرات النقدية، والمُلح والنوادر والأفاكيه الأدبية التي تُروِّح عن القارئ، وتعضد ما هو بصدده.(1/30)
33_ احترامه لمشايخه، ونقله عنهم: فكان يشيد بهم، وينوه بعلمهم، وينقل عنهم ما أفاده منهم ولو عن طريق المشافهة، وذلك كما في نقله عن شيخه سالم بو حاجب، وشيخه وجده الوزير العزيز بوعتور، كما في 10/143_145، و12/121 و16/113_114.
بل لقد كان ينقل عن أصحابه وأقرانه، كإيراده بيتاً لصاحبه الشيخ محمد الخضر حسين، كما في سورة البقرة عند قوله _تعالى_: [وَمِنَ النَّاْسِ مَنْ يَقُوْلُ آمَنَّا] الآية.
وكما في استشهاده ببيت لصاحبه الشيخ عبدالعزيز المسعودي 19/236_238.
34_ جزالة الأسلوب: فقد كتب تفسيره بأسلوب عربي بليغ قوي أخَّاذ، شديد الأسر، محكم النسج.
35_ توظيف الثقافة والمعارف: فقد وظَّف ثقافته ومعارفه أحسن توظيف لخدمة الغرض الذي يرمي إليه؛ فجاء تفسيره حافلاً بالشواهد التاريخية، والأساليب البيانية، والفوائد العلمية، والاقتباسات، والتضمينات، والإشارات.
ومن الأمثلة على ذلك قوله في 1/274: = فلا ينبغي لمنتسب أن يجازف بقولة سخيفة ناشئة عن قلة تأمل، وإحاطة بموارد الشريعة، وإغضاء عن غرضها، ويَؤُول إلى تكفير جمهور المسلمين، وانتقاض الجامعة الإسلامية، بل إنما ينظر إلى موارد الشريعة نظرة محيطة؛ حتى لا يكون ممن غابت عنه أشياء وحضره شيء(1)، بل يكون حكمه في المسألة كحكم فتاة الحي(2)
__________
(1) _ هذا تضمين لبيت أبي نواس الذي يقول فيه:
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة ... علمت شيئاً وغابت عنك أشياءُ ... (م)
(2) _ هذا تضمين لبيت النابغة:
احكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حَمَام شِراع وارد الثَّمد
يَحَفُّه جانباً نيقٍ وتتبعه ... مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد
قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونِصفُه فَقَدِ
فحسَّبوه فألفوه كما حسبت ... تسعاً وتسعين لم تنقص ولن تزدِ
قوله: (فتاة الحي): هي زرقاء اليمامة، وكان يضرب بها المثل في حدة البصر.
وقوله: (شِراع): مجتمعة، (والثمد): الماء القليل يكون في الشتاء، ويقل في الصيف.
وقوله: (يحفه): يحيط به، (والنيق): الجبل، وقوله: (قد): أي حسب، والحسبة: الحساب.
والمعنى أنها أسرعت في أخذ حساب الطير في تلك الناحية.
ومعنى البيت: أصِبْ في أمري، ولا تخطئ فيه كما أصابت الزرقاء في عدد الحمام ولم تخطئ.
والقصة _ كما زعموا _ أن زرقاء اليمامة _وهي من بقايا طسم وجديس_ كان لها قطاة؛ فمر بها سرب من القطا بين جبلين، فقالت:
ليت الحمام ليه ... إلى حمامتيه
أو نصفه قَدِيَه ... تم الحمام ميه
فهذ قصة فتاة الحي، ومقصود ابن عاشور ×: انظر إلى الشريعة نظرة شاملة؛ حتى إذا حكمت في أي مسألة _ كان حكمك مصيباً جازماً كحكم فتاة الحي.
وهكذا وظف تلك القصة لخدمة غرضه. (م)(1/31)
+.
وقوله في 1/274 بعد أن قرر مسألة العفو عن العصاة: =ولا عجب أعجب من مرور الأزمان على مثل قولة الخوارج، والإباضية، والمعتزلة، ولا ينبري من حذاق علمائهم من يهذب المراد، أو يؤول قول قدمائه ذلك التأويل المعتاد، وكأني بوميض فطنة نبهائهم أخذ يلوح من خلل الرماد(1)+.
36_ إرجاع الأشياء إلى أصولها، وأسبابها الأولى: فإذا مر به عادة من العادات، أو خرافة من الخرافات، أو عمل يعد رمزاً لأمر من الأمور _ رجع إلى أصل ذلك، ومبدئه، وسببه.
ومن ذلك حديثه عن شجرة الزيتون _كما في سورة النور_ حيث تحدث عن أصل تلك الشجرة، وأنها معروفة قبل الطوفان، وتحدث عن أماكن نباتها.
37_ لزوم العدل، وتحري الإنصاف: قال × في مقدمته 1/7: =فجعلت حقاً عليَّ أن أبدي في تفسير القرآن نكتاً لم أرَ من سبقني إليها، وأن أقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين تارةً لها وآونةً عليها+.
وقد صدق × في ذلك؛ فكان يلزم العدل، ويتحرى الإنصاف في مسائل الخلاف التي يوردها.
38_ الحرص على الموازنة، والترجيح، والمناقشة الحرة: وهذه الفقرة قريبة من سابقتها؛ فهو يوازن، ويرجح، ويناقش بنزاهة وحرية بعيداً عن التعصب؛ فمع أنه مالكي المذهب إلا أنه قد يخالف المالكية، وقد ينتقد بعض علمائهم فيما يوردونه.
وتراه يورد كلاماً لأئمة اللغة وأساطين البلاغة، وعلماء التفسير كالزمخشري، والسكاكي، وابن عطية، فيوازن بين أقوالهم، ويناقشهم، وربما استدرك عليهم وخالفهم.
39_ سمو العبارة، وهدوء النبرة، ولزوم الأدب: فلا ترى عنده تسفيهاً للخصوم، ولا رمياً بالتهم جزافاً، ولا تعنيفاً على المخالف.
بل تجد عنده العبارة المهذبة، والأدب العالي، والرفق بالمخالف.
40_ الأمانة العلمية: وتتجلى هذه المزية في عزو النقول، والدقة في ذلك، وترك التزيُّد على المخالفين إلى غير ذلك.
__________
(1) _ هذا تضمين لبيت من أبيات لنصر بن سيار يقول مطلعها:
أرى خلل الرماد وميض جَمْرٍ ... ويوشك أن يكون لها ضرام ... (م)(1/32)
41_ طول النَّفس، والاستقراء، والدأب في تتبع المسائل: فتراه يورد المسألة ويطيل فيها، ويورد الأقوال عليها، فلا يَفْرُغ منها إلا وقد قتلها بحثاً وتحريراً.
ولا تراه يقنع بكل ما قيل، بل يَرُدُّ ما لا يعضده البحث والدليل كما في حديثه عن الحروف المقطعة في القرآن، وسرد الأقوال الواردة فيها 1/207_216، وكما في حديثه عن مسألة براءة القرآن من الشعر عند تفسير قوله _تعالى_ في سورة يس: [وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ] 23/57_65، وكما في حديثه عن معنى كون الإسلام هو الفطرة 21/90_92.
ولا أدل على طول نفسه من كونه فسر القرآن في مدة تسعة وثلاثين عاماً وستة أشهر، وهو _في ذاته_ عُمْرٌ.
ومما يدل على ذلك _أيضاً_ استدراكه على نفسه فقد يقرر شيئاً، أو يفوته شيء، أو يتبين له الصواب، أو يظهر له مزيد فائدة فيما بعد؛ فتراه بعد ذلك ينبه القارئ، ويوصيه بأن يُلحق الفائدة الجديدة بنظيراتها مما سبق تفسيره.
ولا ريب أن طول مدة التأليف تمده بما يستجد له من المعارف والأبحاث.
ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في تفسيره لقوله _تعالى_: [فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ] 30/451، حيث تكلم في تفسير هذه الآية عن دار الندوة، وتاريخها وأن الخليفة العباسي المعتضد بالله =لمَّا زاد المسجد الحرام جعل مكان دار الندوة مسجداً متصلاً بالمسجد الحرام، فاستمر كذلك، ثم هُدم، وأُدخلت مساحته في مساحة المسجد الحرام في الزيادة التي زادها الملك سعود بن عبدالعزيز ملك الحجاز ونجد سنة 1379هـ+.
ويُلاحظ أن تاريخ هذه الزيارة التي ذكرها ابن عاشور كانت قُبَيْل انتهائه من التفسير بسنة واحدة.
وهذا يدلُّ على دأبه، وتتبعه.
كما أن من أجلِّ ما تميز به تفسير التحرير والتنوير أن مؤلفه ابتنى كثيراً من أحكامه على الاستقراء في اللغة والبلاغة، والفقه وغير ذلك.
وتلك خصيصة لا يقوم بها إلا الأفذاذ.(1/33)
42_ تعاهده لتفسيره بالتهذيب، والتشذيب، والزيادة: وهذه الفقرة قريبة من السابقة؛ فيظهر أنه بعد أن فرغ من تفسيره صار يتعاهده بالتشذيب، والتهذيب قبل أن يطبع، بدليل أنه قد أشار في خاتمة التفسير أنه انتهى منه عام 1380هـ، ومع ذلك يورد فوائد ونقولاً من كتب ثم يحيل إليها في الهامش، وربما ذكر تاريخ طباعة تلك الكتب المحال إليها وهي تحمل تاريخاً حديثاً بالنسبة لتاريخ انتهائه من التفسير، أي أنها صدرت بعد انتهائه من تفسيره.
مثال ذلك ما نجده في تفسير سورة الإسراء 15/19، حيث نقل كلاماً من كتاب، ثم عزا إليه في الهامش، وقال: =حرَّره عارف عارف في المجلة المسماة: (رسالة العلم) بالمملكة الأردنية عدد 2 من السنة 12 كانون الأول سنة 1968م+ ا_هـ.
وهذه السنة الميلادية توافق بالتاريخ الهجري سنة 1388هـ تقريباً.
وهذا يعني أنه أضاف هذه الفائدة بعد فراغه من التفسير بثمان سنوات.
43_ كثرة النقول: فالتفسير طافح بالنقول عن الأئمة والعلماء في شتى الفنون سواءٌ كانت شرعية، أو لغوية، أو بلاغية، أو غيرها من فروع العلم والثقافة العامة.
44_ كثرة الاستشهاد: سواء بالأشعار، أو الأمثال، أو الحوادث العامة، فجاء تفسيره حافلاً بالشواهد من هذا القبيل، كما في قصة الوزير الأندلسي محمد ابن الخطيب السلماني مع ملك المغرب.
حيث قال ×: في تفسير قوله _تعالى_: [يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]: أعيد خطاب بني إسرائيل بطريق النداء مماثلاً لما وقع في خطابهم الأول؛ لقصد التكرير للاهتمام بهذا الخطاب، وما يترتب عليه؛ فإن الخطاب الأول قُصِدَ منه تذكيرهم بنعم الله _تعالى_ ليكون ذلك التذكير داعية لامتثال ما يَرِدُ إليهم من الله من أمر، ونهي على لسان نبيه".(1/34)
غير أنه لما كان الغرض المقصود من ذلك هو الامتثالَ كان حقُّ البلاغة أن يفضي البليغ إلى المقصود، ولا يطيل في المقدمة، وإنما يلم بها إلماماً، ويشير إليها إجمالاً؛ تنبيهاً بالمبادرة إلى المقصود على شدة الاهتمام به.
ولم يزل الخطباء، والبلغاء يعدون مثل ذلك من نباهة الخطيب، ويذكرونه في مناقب وزير الأندلس محمد بن الخطيب السلماني؛ إذ قال عند سفارته عن ملك غرناطة إلى ملك المغرب ابن عنان أبياته المشهورة التي ارتجلها عند الدخول عليه طالعها:
خليفةَ الله ساعدَ القدرُ ... عُلاك ما لاح في الدجا قمر
ثم قال:
والناس طُرَّا بأرض أندلس ... لولاك ما وطَّنوا ولا عمروا
وقد أهمتهم نفوسهم ... فوجهوني إليك وانتظروا
فقال له أبو عنان: ما ترجع إليهم إلا بجميع مطالبهم، وأذن له في الجلوس، فسلم عليه.
قال القاضي أبو القاسم الشريف(1) _وكان من جملة الوفد_: =لم نسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا+.
فكان الإجمالُ في المقدمة قضاءً لحقِّ صدارتها بالتقديم، وكان الإفضاءُ إلى المقصود قضاءً لحقه في العناية، والرجوعُ إلى تفصيل النعم قضاءً لِحَقِّهَا من التعداد؛ فإن ذكر النعم تمجيد للمنعم، وتكريم للمنعم عليه، وعظة له ولمن يبلغهم خبر ذلك تبعث على الشكر؛ فللتكرير هنا نكتةُ جمعِ الكلامين بعد تفريقهما، ونكتةُ التعداد لما فيه إجمال معنى النعمة. 1/482_483
45_ التكرار: فكثيراً ما يورد الشاهد، أو القصة، أو الحادثة، أو المسألة في أكثر من موضع ومناسبة، كما في استشهاده ببيت عمرو بن معدي كرب:
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع
وكما في بيت الأحوص:
وإذا تزول تزول عن مُتَخَمِّط ... تخشى بوادرُه على الأقران
وكما في بيت بشار:
بكِّرا صاحبيَّ قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير
__________
(1) _ هو أبو القاسم محمد بن أحمد الحسيني السبتي ثم الغرناطي قاضي غرناطة المتوفى سنة 760 وله الشرح المشهور على مقصورة حازم القرطاجني.(1/35)
وكما في استشهاده بقصة سيف الدولة مع المتنبي في بيتيه اللذين يقول فيهما:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضَّاح وثغرك باسم
وكما في تكراره لبعض المسائل والألفاظ والمصطلحات، كتكراره لبعض المصطلحات البلاغية _كما سيأتي_ وتكراره لبعض المصطلحات النحوية كقوله: هذه حال مؤسسة، أو حال مؤكدة، ويعني بالمؤسسة: ما تفيد معنى جديداً كقوله: =جاء زيداً راكباً+.
ويعني بالمؤكدة ما تؤكد معنى موجوداً كقوله _تعالى_: [وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً] وقوله: [ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ].
وكثيراً ما يورد بعض الألفاظ والمصطلحات في فقه اللغة ككلمة (فَذْلَكَة)، فتراه يقول: =هذه فذلكة+، أو =فكان هذا الختام فذلكة+.
والفذلكة: كلمة مُحْدَثة، ومعناها مُجْمَل ما فُصِّل وخلاصته، ومنه فَذْلَكَ الحسابَ: أي أنهاه وفرغ منه.
وهي منحوتة من: فَذَلِكَ كذا وكذا إذا أجمل حسابه.
إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة المكررة.
فهذا هو مجمل منهج الشيخ ابن عاشور في تفسيره، وخلاصة مزاياه، وما اشتمل عليه.
ولم أُكثر من إيراد الأمثلة، والشواهد على ما ذُكر؛ رغبة في الإيجاز.
ومن خلال ذلك يتضح لنا أن ابن عاشور يرى أن القرآن كتاب هدى وإصلاح، ومنبع علوم وآداب.
تمهيد: البلاغة في تفسير التحرير والتنوير
لم يحفل تفسيرٌ من التفاسير بالبلاغة العربية، وأساليب الاستعمال كما حفل به تفسير التحرير والتنوير.
ولم يخصَّ أحدٌ من المفسرين _كما يقول ابن عاشور في مقدمة تفسيره_ فن دقائق البلاغة بكتابٍ كما خصوا الأفانين الأخرى.
ومن أجل ذلك _كما يقول_ التزم ألا يُغفل التنبيه على ما يلوح له من هذا الفن العظيم في آية من آي القرآن العظيم؛ كلما أُلْهِمَهُ بحسب مبلغ الفهم والتدبر(1).
__________
(1) _ انظر مقدمة تفسير التحرير والتنوير 1/8، وستأتي كاملةً بنصها بعد قليل.(1/36)
ولهذا جاء تفسيره حافلاً بدقائق البلاغة، ونكتها، وأفانينها؛ فلا تكاد تمر بآيةٍ إلا وتجده قد بيَّن أنها مشتملةٌ على فنٍّ أو أكثر من فنون البلاغة.
ولا تبالغ إذا قلت: إن هذا التفسير خيرُ تطبيقٍ عملي لقواعد البلاغة العربية على آيات القرآن الكريم.
ومن أجل ذلك كثر إيراده للمصطلحات البلاغية؛ فتراه كثيراً ما يقول: وهذا تذييل، أو تتميم، أو اعتراض، أو حذف، أو إيجاز، أو إيغال، أو استفهام نوعه كذا وكذا، وتراه يورد الكثير من مسائل التشبيه، والاستعارة بأنواعها، والبديع وأقسامه، وما جرى مجرى ذلك.
فإذا لم يكن القارئ على علمٍ بالبلاغة _ حصل عنده إشكالاتٌ كثيرة، والتبس عليه المقصود في مواطن عدة، وفاته علمٌ غزيرٌ، وخيرٌ كثيرٌ، وربما عدَّ العناية بالبلاغة، ومسائلها ضرباً من الترف، أو التملح.
ومن أجل ذلك هذه نبذةٌ موجزة في علم البلاغة تُبِيْن عن شيءٍ من فضل هذا العلم، وتاريخه، وتطوره، وأشهر الكتب فيه.
وبعد ذلك يكون الحديث عن علوم البلاغة الثلاثة _المعاني، والبيان، والبديع_ وعن بعض ما يدخل تحت هذه الأقسام من الموضوعات بشيء من الإيجاز.
قال أبو هلال العسكري × متحدثاً عن فضل هذا العلم ومسيس الحاجة إليه: =اعلم _علَّمك الله الخير، ودلَّك عليه، وقَيَّضه لك، وجعلك من أهله_ أنَّ أحق العلوم بالتعلم، وأولاها بالتحفظ _بعد المعرفة بالله جل ثناؤه_ علم البلاغة، ومعرفة الفصاحة، الذي به يعرف إعجاز كتاب الله _تعالى_ الناطق بالحق، الهادي إلى سبيل الرشد، المدلول به على صدق الرسالة وصحة النبوة، التي رفعت أعلام الحق، وأقامت منار الدين، وأزالت شبه الكفر ببراهينها، وهتكت حجب الشك بيقينها.(1/37)
وقد عَلِمْنا أن الإنسان إذا أغفل علم البلاغة، وأخلَّ بمعرفة الفصاحة لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خصه الله به من حسن التأليف، وبراعة التركيب، وما شحنه به من الإعجاز البديع، والاختصار اللطيف؛ وضمَّنه من الحلاوة، وجلله من رونق الطلاوة، مع سهولة كلمهِ وجزالتها، وعذوبتها وسلاستها، إلى غير ذلك من محاسنه التي عجز الخلق عنها، وتحيرت عقولهم فيها.
وإنما يعرف إعجازه من جهة عجز العرب عنه، وقصورهم عن بلوغ غايته، في حسنه وبراعته، وسلاسته ونصاعته(1)، وكمال معانيه، وصفاء ألفاظه.
وقبيحٌ _لعمري_ بالفقيه المؤتم به؛ والقارئ المهتدَى بهديه، والمتكلم المشار إليه في حسن مناظرته، وتمام آلته في مجادلته، وشدة شكيمته في حِجَاجه(2) وبالعربي الصليب(3)، والقرشي الصريح(4) _ ألا يعرف إعجاز كتاب الله _تعالى_ إلا من الجهة التي يعرفه منها الزنجي(5) والنبطي(6) أو أن يستدل عليه بما استدل به الجاهل الغبي+(7).
إلى أن قال ×: =ولهذا العلم بعد ذلك فضائل مشهورة، ومناقب معروفة؛ منها أن صاحب العربية إذا أخل بطلبه، وفرَّط في التماسه، ففاتته فضيلته، وَعَلقَتْ به رذيلةُ فَوْتِهِ _ عفّى على جميع محاسنه، وعمَّى(8) سائر فضائله؛ لأنه إذا لم يفرق بين كلام جيد، وآخر رديء؛ ولفظٍ حسن، وآخر قبيح؛ وشعر نادر، وآخر بارد _ بان جهله، وظهر نقصه.
__________
(1) _ النصاعة هنا: الوضوح.
(2) _ شديد الشكيمة: أبيّ لا ينقاد. والحِجَاج: مصدر حاجه: إذا غلبه في الحجة.
(3) _ الصليب: الخالص النسب.
(4) _ الصريح: الخالص النسب.
(5) _ الزنجي : بفتح الزاي وكسرها: واحد الزنوج وهم جيل من السودان.
(6) _ النبطي: واحد النبط بفتحتين وهم جيل من العجم كانوا ينزلون بالبطائح بين العراقين.
(7) _ كتاب الصناعتين ص1_2.
(8) _ عَمَّى: أخفى. والسائر: الباقي.(1/38)
وهو _أيضاً_ إذا أراد أن يصنع قصيدة، أو ينشئ رسالة _وقد فاته هذا العلم_ مزج الصفو بالكدر، وخلط الغُرر بالعُرر(1) واستعمل الوحشي العكر؛ فجعل نفسه مهزأة(2) للجاهل، وعبرةً للعاقل؛ كما فعل ابن جحدر في قوله:
حلفتُ بما أرقَلَتْ حَوْلَهُ ... هَمَرْجَلَةٌ خَلْقُها شَيْظَمُ(3)
وما شَبْرَقَتْ من تَنُوفيَّةٍ ... بها مِنْ وَحَى الجنِّ زِيزَيَمُ(4)
وأنشده ابن الأعرابي، فقال: إن كنت كاذباً فالله حسيبك.
وكما ترجم بعضهم كتابه إلى بعض الرؤساء: مُكَركَسَة تَرَبُوتَا ومحبوسة بِسَرِّيتا.
فدلَّ على سخافة عقله، واستحكام جهله؛ وضرَّه الغريب الذي أتقنه ولم ينفعه، وحطه ولم يرفعه لمَّا فاته هذا العلم، وتخلف عن هذا الفن.
وإذا أراد _أيضاً_ تصنيف كلام منثور، أو تأليف شعر منظوم، وتخطى هذا العلم ساء اختياره له، وقبحت آثاره فيه؛ فأخذ الرديء المرذول، وترك الجيد المقبول، فدل على قصور فهمه، وتأخر معرفته وعلمه.
وقد قيل: اختيار الرجل قطعة من عقله؛ كما أن شعرَه قطعةٌ من علمه+(5).
هذا العلم كان مندرجاً في جملة علم الأدب، وكانت مسائله شُعْبَةً من شعب النحو والأدب؛ وكانت مبثوثة في تضاعيف مؤلفات العلماء ككتاب سيبويه، وكطبقات الشعراء لابن سلام، والبيان والتبيين للجاحظ، والبديع لابن المعتز، ونقد الشعر لقدامة بن جعفر، والموازنة بين أبي تمام والبحتري للآمدي، والوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي علي بن عبدالعزيز الجرجاني.
__________
(1) _ الغرة: النفيس من كل شيء، والعرة: القذر.
(2) _ هزؤاً.
(3) _ أرقلت: أسرعت، والهمرجلة: الناقة، والشيظم: الطويل الجسيم الفتيّ من الإبل والخيل والناس.
(4) _ شبرقت. الشبرقة: عدو الدابة وخْدَاً. والتنوفية: المفازة والأرض الواسعة البعيدة الأطراف، والوَحَى: الصوت الخفي، وزيزيم: صوت الجن.
(5) _ كتاب الصناعتين ص2_3.(1/39)
ثم ألَّف أبو هلال العسكري ت 395هـ كتابه العظيم (كتاب الصناعتين: الكتابة والشعر) فعرض زبدة تلك الكتب، وصار كتابه من أمهات البلاغة.
ثم جاء الشيخ عبدالقاهر الجرجاني ت 471هـ فخصَّ علم البلاغة بالتدوين في كتابيه: (كتاب دلائل الإعجاز) و(كتاب أسرار البلاغة) فأعطى ألقاباً للمسائل، وأخرج الكلام في الإعجاز عن الصفة الجزئية إلى قواعد كلية مسهبة مبرهنة.
ولم يَصِرْ عِلْمُ البلاغةِ فنَّاً مهذَّباً مبوباً إلا منذ صنف يوسف السكاكي ت 626هـ القسم الثالث من كتابه (مفتاح علوم العربية).
حيث جمع زبدة ما كتبه الأئمة قبله في هذه الفنون، ونظم لآلئها المتفرقة في تضاعيف كتبهم، وأحاط بكثير من قواعدها المبعثرة في الأمهات، ورتبها أحسن ترتيب، وبوَّبها خير تبويب، وفَصَل فنونَ البيان(1) الثلاثة بعضها من بعض؛ لما كان له من واسع الاطلاع على علوم المنطق والفلسفة.
وقد اختصر مؤلَّفه في كتاب آخر سماه (التبيان) ولخَّص (المفتاح) بعض المتأخرين في أمهات مشهورة كما فعل ابن مالك في كتابه (المصباح) والخطيب جلال الدين محمد بن عبدالرحمن القزويني المتوفى سنة 739هـ في كتابيه (تلخيص المفتاح) و(شرح الإيضاح).
والأخير مؤلف جليل جمع فيه مؤلفه خلاصة (المفتاح) و(دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة) و (سر الفصاحة) لابن سنان الخفاجي.
ثم طفق المؤلفون من القرن الثامن وما بعده يوسعون الشروح والحواشي على المفتاح وتلخيصه للقزويني، وصرفوا جلَّ همتهم في تفسير ما أشكل من عبارات المؤلفين، والجمع بين ما تناقض من آرائهما.
__________
(1) _ كانت مسائل البلاغة كلها تسمى بـ: علم البيان، كما كان يسميها عبدالقاهر الجرجاني، ثم أفصح السكاكي عن الفرق في مباحث البلاغة؛ فصارت فنونها الثلاثة المعروفة: المعاني، والبيان، والبديع؛ فتتابع الناس من بعده على هذه الاصطلاحات.(1/40)
ومن أجلِّ تلك الشروح شروح مسعود سعد الدين التفتازاني ت 791هـ، وشروح السيد الجرجاني ت 816هـ، ثم تتابعت التقريرات، والحواشي توضح ما انبهم من تلك التراكيب المجملة، والعبارات الغامضة.
ومما يحسن التنبيه عليه أن أساليب التأليف في تلك العصور قد ملكت عليها العجمةُ أمرَها، ومن ثم لم يكن للقارئ أن يجعلها قدوة في أساليبها؛ فهي أحرى أن تكون أساليب اصطلاحية علمية لا لغوية أدبية، تشرح كلام العرب، وتبين مزاياه.
ثم أنشئت في العصر الحديث المدارسُ العالية والثانوية في مصر، فَأُلِّفَت المختصرات التي تناسب تلك البرامج المدرسية، ومن جملة ذلك ما أُلِّفَ في البلاغة، فهي _وإن اختلف ترتيبها، وتبويبها_ تنحو في الجملة منحى ما كتبه صاحب التلخيص وشراحه.(1)
ومن أهمها كتاب: بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة لعبدالمتعال الصعيدي.
ومن الكتب التي أُلِّفت فيها _ زيادة على ما ذكر آنفاً _ المثل السائر لابن الأثير، هذا في القديم.
أما في العصر الحديث فهناك كتب كثيرة منها: موجز البلاغة لابن عاشور، والبلاغة الواضحة لعلي الجارم، ومصطفى أمين، وهو كتاب سهل ميسور، وسلسلة (في البلاغة العربية) د.عبدالعزيز عتيق، والبلاغة تطور وتاريخ د. شوقي ضيف، ومعجم البلاغة د. بدوي طبانة، والبلاغة العربية د. بكري شيخ أمين.
مرَّ قبل قليل أن مسائل البلاغة تُسمى علم البيان، ثم استقر الأمر على يد السكاكي الذي ميَّز بعضها عن بعض تمييزاً تاماً، وجعل لكل مبحث منها علماً خاصاً؛ فكان من هذه علوم البلاغة الثلاثة السابقة _المعاني، والبيان، والبديع_.
ثم أتى مَنْ بَعْده؛ فكان عمدتَهم على هذا الترتيب.
وإليك فيما يلي نبذة عن تعريف البلاغة، وأقسامها الثلاثة، وبعض ما يدخل تحت هذه الأقسام من موضوعات، مع ملاحظة أنني سأقتصر على التعريفات الاصطلاحية فحسب دون تفصيل؛ إيثاراً للاختصار.
__________
(1) _ انظر علوم البلاغة لأحمد مصطفى المراغي ص9_11.(1/41)
1_ تعريف البلاغة: هي الإتيان بالكلام الخالي من التعقيد، الخالص من تنافر الكلمات وضعف التأليف، المطابق لمقتضى الحال الذي يتمكن في النفوس مع صورة مقبولة، ومعرض حسن.(1)
وهذا التعريف يشمل أقسام البلاغة الثلاثة.
2_ تعريف علم المعاني: هو ما يبحث عن مطابقة الكلام لمقتضى حال التعبير.(2)
وقيل: هو قواعدُ يُعرف بها كيفية مطابقة الكلام مقتضى الحال؛ حتى يكون وَفْقَ الغرض الذي سيق له.(3)
ويدخل تحت علم المعاني أبواب عديدة وهي: الخبر، والإنشاء، والذكر، والحذف، والتقديم، والتعريف، والتنكير، والتقييد، والخروج عن مقتضى الظاهر، والقصر، والفصل، والوصل، والإيجاز، والإطناب، والمساواة.
ولكل واحد من هذه الأبواب تعريفات، ويدخل تحته عدد من المباحث لا يتسع المجال لذكرها، ويمكن الرجوع إليها في كتب البلاغة.
وفائدة هذا العلم: الوقوف على أسرار البلاغة، ومعرفة وجه إعجاز القرآن وما اشتمل عليه من حسن التأليف، وبراعة التركيب، وما تضمنه من عذوبة، وجزالة، وسلاسة.
ولهذا ترى الشيخ ابن عاشور × يورد هذه المصطلحات كثيراً؛ فتارة يقول: في هذه الآية حذف، أو يقول: والتنكير ههنا للتعظيم أو التفخيم، وهكذا.
وربما تطرق لبعض ما يدخل تحت الأبواب السابقة من أبواب علم المعاني، فيقول: وهذه الآية، أو في هذه الآية تذييل، أو اعتراض، أو تتميم، أو تكرير، أو تكميل.
وهذه المصطلحات _على وجه الخصوص_ ترد كثيراً في التفسير، وهي داخلة ضمن باب الإطناب.
أ_ فالتذييل: هو الإتيان بجملة مستقلة عقب الجملة الأولى التي تشتمل على معناها للتأكيد.
وتحت التذييل أضرب وتقسيمات.
وقد أكثر ابن عاشور في تفسيره من إيراد التذييل؛ لما له من الأهمية، والشرف.
__________
(1) _ انظر كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري ص10، والإيضاح للخطيب القزويني ص19.
(2) _ انظر أليس الصبح بقريب لابن عاشور ص222.
(3) _ علوم البلاغة لأحمد مصطفى المراغي ص41.(1/42)
قال أبو هلال العسكري ×: =وللتذييل في الكلام موقع جليل، ومكان شريف خطير؛ لأن المعنى يزداد به انشراحاً، والمقصد انفتاحاً+(1).
وقال: =فأما التذييل فهو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى بعينه؛ حتى يظهر لمن لم يفهمه، ويتوكد عند من فهمه+(2).
ب_ والاعتراض: هو أن يؤتى في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنىً _ بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب.
وهو من دقائق البلاغة وله فوائد عديدة.
ج _ والتتميم: هو أن يُؤتى في كلام لا يوهم خلاف المقصود بِفَضْلَه، كمقول أو حال أو نحو ذلك لقصد المبالغة.
د_ والتكرير: يراد به تكرير المعاني والألفاظِ، وحَدُّهُ تكرير اللفظ على المعنى مردداً.
هـ _ والتكميل: هو ما يُسمى بالاحتراس وهو أن يُؤتى بكلام يوهم خلاف المراد بما يدفعه.
و_ الإدماج: أحدُ ضروب الإطناب، وهو أن يُدمج المتكلم غرضاً في جملة من المعاني قدْ نحاه؛ ليوهم السامع أنه لم يقصده، وإنما عرض في كلامه لتتمة معناه الذي قصد.
ومن أمثلة ذلك قول الله _تعالى_: [وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُوْنَ شَهْراً].
ومعناه أن الوالدة تكلفت بحمل مولودها، ورضاعه ثلاثين شهراً، وأدمج فيه أن أقل الحمل ستة أشهر؛ إذ يسقط من الثلاثين شهراً _ حَوْلان؛ للرضاع، بدليل قوله _تعالى_: [والوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ].
فيبقى للحمل ستة أشهر، وهو أقله. (3)
والأمثلة على ما مضى كثيرة في تفسير ابن عاشور.
3_ تعريف علم البيان: هو علم يُعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه. (4)
ويدخل تحت هذا الفن ثلاثة أبواب هي:
__________
(1) _ كتاب الصناعتين ص313.
(2) _ كتاب الصناعتين ص313.
(3) _ انظر بغية الإيضاح لتلخيص علوم المفتاح لعبدالمتعال الصعيدي 1/35_240 و2/3_160، وعلوم البلاغة ص41_206، ومعجم البلاغة العربية د. بدوي طبانة، ص227_228.
(4) _ انظر بغية الإيضاح 3/2_3.(1/43)
أ_ التشبيه. ب_ الحقيقة والمجاز. ج_ الكناية.
أ ــ التشبيه: هو إلحاق أمرٍ (المُشَبَّه) بأمرٍ (المشَبَّه به) في معنى مشترك (وجه الشبه) بأداة (الكاف أو ما في معناها) لغرض (فائدة).
ومما سبق يتبيَّن أن للتشبيه أربعة أركان، وهي المشبَّه، والمشبَّه به، وهذان طرفا التشبيه، ووجه الشبه، والأداة.
مثال: زيد كالأسد.
فالمشبَّه زيد، والمشبَّه به الأسد، ووجه الشبه الشجاعة، والأداة الكاف.
وللتشبيه فوائد عديدة منها إيضاح المعنى المقصود مع الإيجاز والاختصار.
ومنها ما يُحدثه في النفس من تأثير، وذلك بما يحدثه فيها من الأنس بإخراجها من خفي إلى جلي كالانتقال مما يحصل بالفكرة إلى ما يعلم بالفطرة، أو بإخراجها مما لم تألف إلى ما ألفته، أو مما لا تعلمه إلى ما هي به أعلم كالانتقال من المعقول إلى المحسوس إلى ذلك من فوائده وآثاره.(1)
هذا ويدخل تحت باب التشبيه تقسيمات وتفريعات كثيرة كالتفصيل في أركان التشبيه، وأغراضه، وأقسامه، وغرائبه، ومحاسنه، وعيوبه.
ب ــ الحقيقة والمجاز: وهو الفن الثاني من أبواب علم البيان، وذلك مما يرد كثيراً في كتب البلاغة، والأصول، والعقائد وغيرها، وفيما يلي نبذة يسيرة عن الحقيقة والمجاز.
_ تعريف الحقيقة: هي الكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له من غير تأويل في الوضع.
أو هي: استعمال اللفظ فيما وضع له في الأصل.
مثل كلمة (أسد): تدل على الحيوان المعروف، وكلمة (الشمس): تدل على الكوكب العظيم المعروف، وكلمة (البحر): تدل على الماء العظيم الملح؛ وهكذا جميع ألفاظ اللغة.
_ تعريف المجاز: المجاز في اللغة: اسم مكان كالمطاف والمزار، والألف فيه منقلبة عن واو، وقيل: هو مصدر ميمي، أي بمعنى: التجوُّز.
وفي الاصطلاح: هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له في الأصل؛ لعلاقة بين المعنيين الحقيقي والمجازي مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي.
__________
(1) _ انظر بغية الإيضاح 3/10_11.(1/44)
_ شرح مفردات تعريف المجاز: قوله: =في غير ما وضع له+: أي المعنى الوضعي للَّفظ، ويسمى الحقيقي أو الأصلي الذي ذكرته معاجم اللغة، كوضع كلمة الأسد للحيوان المعروف الكاسر، وكذلك القمر.
قوله: (لِعِلاقة): العلاقة هي الشيء الذي يربط بين المعنى الأصلي للفظ، والمعنى المجازي، كالشجاعة في قولك: رأيت أسداً يكرُّ بسيفه !
فالأسد هنا لا يقصد به الحيوان؛ وإنما يقصد به الرجل الشجاع، إذاً فقد انتقل من معناه الحقيقي إلى المعنى المجازي، والعلاقة هي الشجاعة.
قوله: (القرينة) القرينة: هي التي تمنع الذهن من أن ينصرف إلى المعنى الوضعي الأصلي للفظ، مثل قولك (يكر بسيفه) في قولك: (رأيت أسداً يكر بسيفه) لأن الأسد لا يكر بالسيف؛ فَعُلم أن المقصود باللفظ مجازه لا حقيقته؛ لأن الأسد لا يحمل السيف.
وكذلك قولك في الرجل الكريم: جاء البحر، ونحو ذلك من الأمثلة مما سيأتي ذكره.
_ تطبيق: إليك هذا التطبيق الذي يبين لك ما ذكر بصورة أجلى: قال أهل المدينة في استقبالهم للنبي"لما قدم من تبوك هو وأصحابه:
طلع البدرُ علينا ... من ثَنِيَّات الوداع
فالمجاز في هذا البيت واقع في لفظ (البدر) حيث يريدون به النبي " وهذا استعمال مجازي؛ ذلك لأن الاستعمال الحقيقي للبدر إنما هو الكوكب العظيم الذي يكون في السماء ليلاً.
والعلاقة بين المعنيين الحقيقي والمجازي هي الحسن والإشراق؛ فالبدر حَسَنٌ مشرق، وكذلك النبي ".
والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي الحقيقي هي: (من ثنيات الوداع) فهي التي أثبتت مجازية البدر، والسبب أن البدر الحقيقي لا يظهر بين ثنيات الوداع وهي الجبال الصغيرة، وإنما يظهر في السماء كما هو معلوم؛ فعلم بذلك أن اللفظ أريد به مجازُه لا حقيقته.
_ أمثلة لألفاظ يتبين فيها الحقيقة من المجاز:
1_ الشمس لها دلالتان: إحداهما حقيقية وهي دلالة الكوكب العظيم المعروف.
والأخرى مجازية وهي: الوجه المليح.(1/45)
2_ البحر له دلالتان: إحداهما حقيقته، وهي دلالته على الماء العظيم الملح.
والأخرى مجازية وهي: دلالته على الرجل الجواد الكثير العطاء، أو العالم الغزير العلم.
3_ اليد لها دلالتان: إحداهما حقيقته، وهي الجارحة المعروفة، كما تقول: كتبت بيدي.
والأخرى مجازية بمعنى النعمة، كما تقول: لفلانٍ عليَّ يدٌ، أي: نعمة.
_ مسائل عامة في المجاز:
أ_ يفرق بين الحقيقة والمجاز بسياق الكلام، وقرائن الأحوال، ولا يمكن أن يقال: إن كلا الدلالتين الحقيقية والمجازية سواء؛ بحيث إذا أطلق اللفظ دل عليهما معاً.
ب_ أن كل مجاز له حقيقة؛ لأنه لم يطلق عليه لفظ مجاز إلا لنقله عن حقيقة موضوعة.
وليس مِنْ ضرورةِ كلِّ حقيقة أن يكون لها مجاز.
ج_ أن الأصل في الكلام الحقيقة، ولا ينصرف الكلام عن حقيقته إلى مجازه إلا بقرينة _ كما مر في الأمثلة الماضية _.
_ الخلاف في أصل وقوع المجاز: اختلف العلماء في أصل وقوع المجاز وثبوته في اللغة والقرآن، على ثلاثة أقوال:
أ_ أن المجاز واقع في اللغة والقرآن: وهذا مذهب جماهير العلماء، والمفسرين، والأصوليين، واللغويين، والبلاغيين، وغيرهم؛ بل حكى الإجماع على ذلك يحيى بن حمزة العلوي في كتابه (الطراز) غير أن في تلك الدعوى توسعاً؛ لوجود المخالف المعتبر.
ب_ إنكار المجاز مطلقاً في اللغة والقرآن: وقد ذهب إلى ذلك أبو إسحاق الاسفراييني، وتبعه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.
ج_ أن المجاز واقع في اللغة دون القرآن: وقد ذهب إلى ذلك داود الظاهري، وابنه محمد، وابن القاصّ الشافعي، وابن خويز منداد المالكي، ومنذر بن سعيد البلوطي، ومن المعاصرين الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي.
_ خاتمة الحديث عن المجاز: وبعد أن وقفت على شيء من أمر المجاز، وما جاء في الخلاف حول إثباته أو نفيه _ يتبين لك أن أعظم الأسباب التي دعت إلى نفيه وإنكاره أن أهل التعطيل اتخذوه مطية لتحريف بعض نصوص الشرع لاسيما في باب الصفات.(1/46)
فهذا هو الذي دعا بعض العلماء أن يشدد في النكير على القائلين بالمجاز.
ويدخل تحت باب الحقيقة والمجاز مباحث عديدة تدور حول أقسام المجاز، وعلاقاته، والاستعارة، وأقسامها، وما جرى مجرى ذلك.
ج ــ الكناية: هي في اصطلاح أهل البلاغة: لفظ أطلق وأريد به لازم معناه مع جواز إرادة ذلك المعنى.
مثال ذلك قولهم: (فلان طويل النجاد) أي طويل القامة، مع جواز أن يراد حقيقةً طول النجاد _أيضاً_ فالنجاد حمائل السيف، وطول النجاد يستلزم طول القامة، فإذا قيل: فلان طويل النجاد فالمراد أنه طويل القامة؛ فقد استعمل اللفظ في لازم معناه.
ومثل: (فلانة نؤوم الضحى) أي مرفهة محترمة، ومثل: (فلان كثير الرماد) أي كريم، وهكذا...
ويدخل تحت باب الكناية أقسامها، والتعريض، والتلويح، والرمز، والإيحاء، والإشارة.
4_ تعريف علم البديع: هو علمٌ يعرف به الوجوه، والمزايا التي تكسب الكلام حُسْناً، وقبولاً بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال(1).
وتنقسم المحسنات إلى قسمين:
أ_ محسنات معنوية: وهي التي يكون التحسين بها راجعاً إلى المعنى.
ب_ محسنات لفظية: وهي التي يكون التحسين بها راجعاً إلى اللفظ.
والمحسنات المعنوية كثيرةٌ، وأشهرها:
أ_ الطباق: وهو الجمع بين معنيين متقابلين؛ نحو: [وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ].
ب_ المقابلة: وهي أن يؤتى بمعنيين متوافقين، أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على سبيل الترتيب، نحو قوله _تعالى_: [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى].
ج_ مراعاة النظير: وهو أن يجمع في الكلام بين أمرين، أو أمورٍ متناسبةٍ لا بالتضاد، كقوله _تعالى_: [الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ].
ويعرف هذا النوع بالتناسب، والائتلاف.
__________
(1) _ انظر: البلاغة العربية ص 318.(1/47)
د_ الإرصاد: وهو أن يجعل قبل آخر الفقرة، أو البيت ما يفهمها عند معرفة الروي، كقوله _تعالى_: [ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ].
هـ _ المشاكلة: وهي ذكر الشيء بلفظ غيره؛ لوقوعه في صحبته تحقيقاً، أو تقديراً.
فالأول كقوله _تعالى_: [وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا].
والثاني كقوله _تعالى_: [صِبْغَةَاللهِ].
و_ التورية: وهي أن يذكر المتكلم لفظاً له معنيان: أحدهما قريب، ودلالة اللفظ عليه ظاهرة، والآخر بعيد، ودلالة اللفظ عليه خفية، وهو المراد، ويورَّى عنه بالمعنى القريب، فيتوهم السامع لأول وهلة أنه يريده، وهي ليس بمراد.
مثل: قول أبي بكر ÷ وقد سئل عن النبي " حين الهجرة، فقيل له: من هذا؟ فقال: =هادٍ يهديني السبيل+.
وهناك محسنات معنوية أخرى، كالعكس، والرجوع، واللف والنشر، والجمع، والتفريق، والتقسيم، والتجريد، وحسن التعليل، والتفريع، وتجاهل العارف، وغيرها(1).
أما المحسنات اللفظية، فكثيرةٌ _أيضاً_ ومن أشهرها ما يلي:
أ_ الجناس أو التجنيس: وهو تشابه الكلمتين في اللفظ، مع اختلاف المعنى، وينقسم إلى قسمين:
تام: وهو ما اتفق فيه اللفظان في هيئة الحروف، وعددها، ونوعها، وترتيبها، كقوله _تعالى_: [وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ].
وغير تام: وهو ما اختلف فيه اللفظ في واحدٍ من الأربعة المتقدمة، كقوله _تعالى_: [وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ].
ب_ رد العجز على الصدر: وهو جعل أحد اللفظين المكررين، أو المتجانسين، أو ملحقين بهما اشتقاقاً، أو شبه اشتقاق في أول الفقرة والآخر في صدرها.
فالمكرران نحو: [وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ] والمتجانسان نحو: [اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً].
__________
(1) _ انظر: علوم البلاغة ص 318 – 353.(1/48)
ومن المحسنات اللفظية _أيضاً_ السجع، والموازنة، والقلب(1).
فهذه نبذةٌ يسيرة عن علم البلاغة.
وفي خاتمة الحديث عن منهج ابن عاشور في تفسيره، وعمَّا تضمنه من العلوم والمعارف _ تحسن الإشارة إلى أن هذا الكتاب يحتاج إلى مزيد عناية واهتمام؛ فعسى أن ينفر بعض المتخصصين لخدمة ذلك التفسير إما عبر رسائل علمية، أو جهود ذاتية؛ حتى تتم الفائدة المرجوة من الكتاب.
وقد لا يحتاج ذلك إلى كبير جهد بل يكفي في ذلك أن تُشرح بعض الألفاظ، أو المصطلحات التي تغلق العبارة، وينبهم معها المعنى ككثير من المصطلحات البلاغية، أو النحوية، أو الإشارات التاريخية، أو نحو ذلك.
كما أنه هناك بعض الأخطاء المطبعية الواضحة خصوصاً في طبعة دار سحنون، وهناك بعض الأخطاء في نسبة بعض الشواهد وذلك قليل.
كما أن بعض الأبيات الشعرية كُتبت كتابةً غير صحيحة كأن يُكتب البيت على أنه مدوَّر وهو ليس كذلك.
وقد سمعت من بعض طلبة العلم ممن زاروا أسرة الشيخ ابن عاشور قريباً، ونظروا في خزانة آل عاشور _ أن للشيخ × حواشيَ كثيرةً على تفسيره بعدما فرغ منه، وأنها موجودة عند أسرته في تونس.
ولا ريب أن تلك الحواشي ستكون خلاصة ما انتهى إليه، خاصة وأنه عاش بعد فراغه من التفسير مدة ثلاث عشرة سنة؛ فعسى الله أن يُقيِّض لذلك التفسير من يقوم على خدمته، ويبرزه في حلة قشيبة، ومعرض حسن.
ولعل من درسوا ابن عاشور من خلال رسائل علمية أو غيرها، ولم ينشروها_ أن يقوموا بنشرها؛ لتعم الفائدة، ويحصل الأجر _إن شاء الله_.
ثم إن في هذا التفسير مادة ضخمة من المعارف، والعلوم، والمباحث التي تفيد طلاب العلم، والدارسين ممن يبحثون عن موضوعات يكتبون فيها سواء كانت أكاديمية أو غيرها.
فمما يُقترح البحث فيه من خلال تفسير التحرير والتنوير موضوعات في علوم الشريعة، وفي اللغة، وفي الأدب، والمنطق، ونحو ذلك.
__________
(1) _ انظر: علوم البلاغة ص 354 – 366.(1/49)
وإليك أيها القارئ الكريم نماذج من ذلك على سبيل العموم والإجمال، مع مراعاة أن بعضها قد يكون مما بحث، ولكن لم أطلع عليه، أو أنه يحتاج إلى مزيد بحث.
1_ مسائل العقيدة في تفسير التحرير والتنوير، ومنهج ابن عاشور في تقريرها.
وتحت هذا العنوان مادة خصبة؛ حيث إنه × يتناول تلك المسائل بالبحث والتقرير، فيُحتاج إلى معرفة منهجه في ذلك على وجه التحديد، وهل هو أشعري بحت يقرر ما يقرره الأشاعرة في أصول معتقدهم؟ أو أنه يتلمس الحق من أي أحد؟ لأن من يرى بعض أقواله قد يظن أنه مضطرب، ولكن الذي يظهر أنه لا يتقيد بمنهج الأشاعرة.
وكذلك يحتاج إلى معرفة مقاصده من إطلاقاته في ذلك الشأن عندما يقول _على سبيل المثال_: وهذا قول الأشاعرة، أو عندما يقول: وهذا قول أهل السنة، أو: وقد كان أهل السنة محقين في كذا وكذا، أو عندما يذكر السلف الصالح.
وهل يعد نفسه من الأشاعرة أوْ لا؟
مسائل تحتاج إلى بحث وتحرير بعدل وإنصاف وإحسان.
كما يمكن بحث بعض مسائل العقيدة مفردة، كمسائل القدر والحكمة والتعليل، أو تقرير الوحدانية عند ابن عاشور، أو نحو ذلك.
كما يمكن بحث: موقف ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير من الفرق الإسلامية.
إلى غير ذلك من المباحث العقدية الجديرة بالعناية.
2_ علوم الحديث في تفسير التحرير والتنوير.
3_ المسائل الأصولية في تفسير التحرير والتنوير، أو منهج ابن عاشور في تقرير مسائل الأصول في تفسيره التحرير والتنوير.
4_ مقاصد الشريعة من خلال تفسير التحرير والتنوير.
5_ مبتكرات القرآن من خلال تفسير التحرير والتنوير.
6_ المسائل الفقهية من خلال تفسير التحرير والتنوير.
7_ المسائل النحوية من خلال تفسير التحرير والتنوير.
8_ المسائل الصرفية من خلال تفسير التحرير والتنوير.
9_ فقه اللغة من خلال تفسير التحرير والتنوير، أو بحث بعض مسائل فقه اللغة كالمشترك، والمترادف، والمعرب، ونحو ذلك.(1/50)
10_ الاقتباس والتضمين في تفسير التحرير والتنوير.
11_ موقف ابن عاشور من الفلسفة والفلاسفة من خلال تفسير التحرير والتنوير.
12_ الأدب العربي من خلال تفسير التحرير والتنوير.
13_ آراء ابن عاشور النقدية من خلال تفسير التحرير والتنوير.
14_ منهج ابن عاشور في الترجيح، ويدخل تحت هذا عدة موضوعات سواء كانت في العقيدة، أو الفقه، أو الأصول، أو اللغة، أو الأدب، أو غير ذلك.
15_ منهج ابن عاشور في الضوابط والتعريفات من خلال تفسير التحرير والتنوير.
16_ منج ابن عاشور الإصلاحي من خلال تفسير التحرير والتنوير.
17_ منهج ابن عاشور التربوي من خلال تفسير التحرير والتنوير.
18_ منهج ابن عاشور الاجتماعي من خلال تفسير التحرير والتنوير.
19_ منهج ابن عاشور في التتبع والاستقراء في تفسير التحرير والتنوير.
20_ الإعجاز العلمي في تفسير التحرير والتنوير.
21_ موقف ابن عاشور من الكتب السماوية في تفسير التحرير والتنوير.
22_ علم الأخلاق من خلال تفسير التحرير والتنوير.
23_ عالم الطير والحيوان في تفسير التحرير والتنوير.
24_ النوادر والملح في تفسير التحرير والتنوير.
فهذه أمثلة يسيرة مقترحة لما يمكن أن يبحث في ذلك الكتاب القيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.(1/51)
الحمد لله على أن بيَّن للمستهدين معالم مراده، ونصب لجحافل المستفتحين أعلام أمداده فأنزل القرآن قانوناً عاماً معصوماً، وأعجز بعجائبه فظهرت يوماً فيوماً، وجعله مصدقاً لما بين يديه ومهيمناً، وما فرط فيه من شيء يعظ مسيئاً ويَعِدُ محسناً؛ حتى عرفه المنصفون من مؤمن وجاحد، وشهد له الراغب والمحتار والحاسد؛ فكان الحال بتصديقه أنطقَ من اللسان، وبرهان العقل فيه أبصر من شاهد العيان، وأبرز آياته في الآفاق فتبين للمؤمنين أنه الحق، كما أنزله على أفضل رسول فبشر بأن لهم قدم صدق؛ فبه أصبح الرسول الأمي سيدَ الحكماء المربين، وبه شرح صدره إذ قال: [إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ] فلم يزل كتابه مُشِعَّاً نيِّراً، محفوظاً من لدنه أن يترك فيكون مبدلاً ومغيراً.
ثم قيض لتبيينه أصحابَه الأشداءَ الرحماءَ، وأبان أسراره من بعدهم في الأمة من العلماء؛ فصلاة الله وسلامه على رسوله وآله الطاهرين، وعلى أصحابه نجوم الاقتداء للسائرين والماخرين(1) أما بعد:
__________
(1) _ قال رسول الله ": =أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم+ فبنيت على هذا التشبيه تشبيه المقتدين بهم بفريقين: فريق سائرون في البر وفي ذلك تشبيه عملهم في الإهداء، وهو اتباع طريق السنة؛ بالسير في طرق البر.
= وفريق ماخرون أي سائرون في الفلك المواخر في البحر، وتضمن ذلك تشبيه عملهم في الإهداء وهو الخوض في العلوم بالمخر في البحر. ومن ذلك الإشارة إلى أن العلم كالبحر _كما هو شائع_ وأن السنة كالسبيل المُبَلِّغ للمقصود.(1/52)
فقد كان أكبر أمنيتي منذ أمد بعيد تفسير الكتاب المجيد، الجامع لمصالح الدنيا والدين، ومُوْثِقِ شديد العرى من الحق المتين، والحاوي لكليات العلوم ومعاقد استنباطها، والآخذِ قوس البلاغة من محل نياطها؛ طمعاً في بيان نُكَتٍ من العلم وكلياتٍ من التشريع، وتفاصيلَ من مكارم الأخلاق، كان يلوح أنموذج من جميعها في خلال تدبره، أو مطالعة كلام مفسِّرِه(1).
ولكني كنت على كلفي بذلك أَتَجَّهم التقَحُّم على هذا المجال، وأحجم عن الزجّ بِسيَةِ قوسي في هذا النضال؛ اتقاءَ ما عسى أن يعرَِّض له المرءُ نفسه من متاعب تنوء بالقوة، أو فلتاتِ سهامِ الفهم وإن بلغ ساعدُ الذهن كمالَ الفُتُوَّة؛ فبقِيتُ أسوّف النفس مرة ومرة أسومها زَجراً، فإن رأيتُ منها تصميماً أحَلْتُها على فرصة أخرى، وأنا آمل أن يُمْنَح من التيسير ما يشجّع على قصد هذا الغرض العسير.
وفيما أنا بين إقدام وإحجام، أتخيل هذا الحَقل مَرَةً القتاد وأخرى الثُّمام(2)
__________
(1) _ أشير بهذا إلى أن المهم من كلام المفسرين يرشد إلى الزيادة على ما ذكروه، والذي دون ذلك من كلامهم ينبه إلى تقويم ما ذكروه، والمفسر هنا مراد به الجنس.
(2) _ قوله: =القتاد+: يشير به إلى الصعوبة؛ لأن القتاد هو الشوك؛ ولهذا يقال لما عَزَّ وصعب وعسر: دونه خرط القتاد.
وقوله: =الثُّمام+: هو نبت قريب سهل التناول؛ لأنه لا يطول؛ فصار يضرب به المثل لما قرب وسهل تناوله.(م)(1/53)
إذا أنا بأملي قد خُيِّل إليَّ أنه تباعد أو انقضى؛ إذ قُدِّر أن تسند إلي خطة القضا(1)، فبقيت متلهفاً ولات حين مناص، وأضمرت تحقيق هاته الأمنية متى أجمل الله الخلاص، وكنت أحادث بذلك الأصحاب والإخوان، وأضرب المثل بأبى الوليد ابن رشد في كتاب البيان(2).
ولم أزل كلما مضت مدة يزداد التمني وأرجو إنجازه، إلى أن أوشك أن تمضي عليه مدة الحيازة، فإذا الله قد مَنَّ بالنُّقلة إلى خطة الفتيا(3)، وأصبحت الهمة مصروفة إلى ما تنصرف إليه الهمم العليا؛ فتحول إلى الرجاء ذلك اليأس، وطمعت أن أكون ممن أوتي الحكمة؛ فهو يقضي بها ويعلمها الناس(4).
هنالك عقدت العزم على تحقيق ما كنت أضمرته، واستعنت بالله _تعالى_ واستخرته، وعلمت أن ما يهول من توقع كلل أو غلط لا ينبغي أن يحول بيني وبين نسج هذا النمط إذا بذلت الوسع من الاجتهاد، وتوخيت طرق الصواب والسداد.
__________
(1) _ في 26 رمضان 1331 والقضاء هنا بالقصر لمراعاة السجع.
(2) _ حيث ذكر أنه شرع فيه, ثم عاقه عنه تقليد خطة القضاء بقرطبة فعزم على الرجوع إليه إن أريح من القضاء, وأنه عرض عزمه على أمير المؤمنين علي بن يوسف ابن تاشفين, فأجابه لذلك وأعفاه من القضاء. ليعود إلى إكمال كتابه =البيان والتحصيل+ وهذا الكتاب هو شرح جليل على كتاب العتبية الذي جمع فيه العتبي سماع أصحاب مالك منه, وسماع أصحاب ابن القاسم منه.
(3) _ في 26 رجب 1341
(4) _ أردت الإشارةَ إلى الحديث: =لا حسد إلا في اثنتين+ لأنه يتعين أن لا يكون المراد خصوص الجمع بين القضاء بها وتعليمها، بل يحصل المقصود ولو بأن يقضي بها مدة, ويعلمها الناس مدة أخرى.(1/54)
أقدمت على هذا المهم(1) إقدام الشجاع، على وادي السباع(2) متوسطاً في معترك أنظار الناظرين، وزائر(3) بين ضباح الزائرين(4) فجعلت حقاً علي أن أبدي في تفسير القرآن نُكَتاً لم أَرَ مَنْ سبقني إليها، وأن أقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين تارةً لها وآونةً عليها؛ فإن الاقتصار على الحديث المعاد تعطيل لفيض القرآن الذي ما له من نفاد.
ولقد رأيت الناس حول كلام الأقدمين أحدَ رجلين: رجلٍ معتكفٍ فيما شاده الأقدمون، وآخرَ آخذٍ بمعوله في هدم ما مضت عليه القرون، وفي كلتا الحالتين ضرٌّ كثير، وهنالك حالة أخرى ينجبر بها الجناح الكسير، وهي أن نعمد إلى ما أشاده الأقدمون فنهذبه ونزيده، وحاشا أن ننقضه أو نبيده، عالماً بأن غمض فضلهم كفران للنعمة، وجحد مزايا سلفها ليس من حميد خصال الأمة، فالحمد لله الذي صدق الأمل، ويسر إلى هذا الخير ودل.(5)
والتفاسير _وإن كانت كثيرة_ فإنك لا تجد الكثير منها إلا عالة على كلام سابق؛ بحيث لاحظّ لمؤلفه إلا الجمع على تفاوت بين اختصار وتطويل.
__________
(1) _ يعني بالمهم: الأمر العظيم، وهو تفسير القرآن الكريم، ولعل الكلمة: المَهْمَه: وهو المفازة والمكان القَفْر، ولعل سياق الكلام يعضد اللفظ الثاني. (م)
(2) _ وادي السباع موضع بين مكة والبصرة، وهو واد قفر من السكان تكثر به السباع قال سحيم ابن وثيل الرياحي:
مررتُ على وادي السباع ولا أَرى ... كوادي السباع حين يُظْلَمُ وَاديا
أَقلَّ به ركبٌ أَتَوْهُ تَئِيَّةً ... وأخوفَ إلاَّ ما وقَى اللهُ ساريا
(3) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: زائراً.
(4) _ الزائرين هنا اسم فاعل من زأر بهمزة بعد الزاي, وهو الذي مصدره الزئير, وهو صوت الأسد قال عنترة:
حَلَّتْ بأرض الزائرِينَ فأصبحتْ ... عَسِراً عليَّ طِلاَبُكِ ابنةَ مَخْرَمِ
(5) _ تأمل هذا الكلام العظيم الذي يدل على نفس كبيرة، وهمة عالية. (م)(1/55)
وإن أهم التفاسير تفسير الكشاف، و المحرر الوجيز لابن عطية، ومفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي، وتفسير البيضاوي الملخص من الكشاف ومن مفاتيح الغيب بتحقيق بديع، وتفسير الشهاب الآلوسي، وما كتبه الطيبي، والقزويني، والقطب، والتفتزاني على الكشاف، وما كتبه الخفاجي على تفسير البيضاوي، وتفسير أبي السعود، وتفسير القرطبي، والموجود من تفسير الشيخ محمد بن عرفة التونسي من تقييد تلميذه الأبي، وهو بكونه تعليقاً على تفسير ابن عطية أشبه منه بالتفسير؛ لذلك لا يأتي على جميع آي القرآن وتفاسير الأحكام، وتفسير الإمام محمد بن جرير الطبري، وكتاب درة التنزيل المنسوب لفخر الدين الرازي، وربما ينسب للراغب الأصفهاني.
ولقصد الاختصار أعرض عن العزو إليها، وقد ميزت ما يفتح الله لي من فهم في معاني كتابه، وما أجلبه من المسائل العلمية، مما لا يذكره المفسرون، وإنما حسبي في ذلك عدم عثوري عليه فيما بين يدي من التفاسير في تلك الآية خاصة، ولست أدعي انفرادي به في نفس الأمر؛ فكم من كلام تنشئه تَجِدُكَ قد سبقك إليه متكلم، وكم من فهم تستظهره وقد تقدمك إليه متفهم، وقديماً قيل:
هل غادر الشعراء من متردم
إن معاني القرآن ومقاصده ذاتُ أفانينَ كثيرةٍ بعيدةِ المدى، متراميةِ الأطراف، موزعةِ على آياته؛ فالأحكام مبينة في آيات الأحكام، والآداب في آياتها، والقصص في مواقعها، وربما اشتملت الآية الواحدة على فنين من ذلك أو أكثر.
وقد نحا كثير من المفسرين بعض تلك الأفنان، ولكن فَنَّاً من فنون القرآن لا تخلو عن دقائقه ونُكَتِهِ آيةٌ من آيات القرآن، وهو فن دقائق البلاغة هو الذي لم يخصه أحد من المفسرين بكتاب كما خصوا الأفانين الأخرى.
من أجل ذلك التزمت أن لا أغفل التنبيه على ما يلوح لي من هذا الفن العظيم في آية من آي القرآن كلما أُلْهِمْتُهُ بحسب مبلغ الفهم، وطاقة التدبر.(1/56)
وقد اهتممت في تفسيري هذا ببيان وجوه الإعجاز، ونكت البلاغة العربية، وأساليب الاستعمال، واهتممت _أيضاً_ ببيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض، وهو منزع جليل قد عني به فخر الدين الرازي، وألف فيه برهان الدين البقاعي كتابه المسمى: (نظم الدرر في تناسب الآي والسور).
إلا أنهما لم يأتيا في كثير من الآي بما فيه مقنع؛ فلم تزل أنظار المتأملين لفصل القول تتطلع.
أما البحث عن تناسب مواقع السور بعضها إثر بعض فلا أراه حقاً على المفسر.
ولم أغادر سورةً إلا بينت ما أحيط به من أغراضها؛ لئلا يكون الناظر في تفسير القرآن مقصوراً على بيان مفرداته ومعاني جمله كأنها فقر متفرقة تصرفه عن روعة انسجامه، وتحجب عنه روائع جماله.
واهتممت بتبيين معاني المفردات في اللغة العربية بضبط وتحقيق مما خلت عن ضبط كثير منه قواميسُ اللغة، وعسى أن يجد فيه المطالع تحقيق مراده، ويتناول منه فوائد ونكتاً على قدر استعداده؛ فإني بذلت الجهد في الكشف عن نكت من معاني القرآن وإعجازه خلت عنها التفاسير، ومن أساليب الاستعمال الفصيح ما تصبو إليه همم النحارير، بحيث ساوى هذا التفسير على اختصاره مطولات القماطير؛ ففيه أحسن ما في التفاسير، وفيه أحسن مما في التفاسير.
وسميته: (تحرير المعنى السديد، وتنوير العقل الجديد، من تفسير الكتاب المجيد).
واختصرت هذا الاسم باسم: (التحرير والتنوير من التفسير).
وها أنا(1) أبتدئ بتقديم مقدماتٍ تكون عوناً للباحث في التفسير، وتغنيه عن معاد كثير. 1/5_9
1_ التفسير: مصدر فَسَّر بتشديد السين الذي هو مضاعف فسر بالتخفيف من بابي نصر وضرب الذي مصدرُه الفسر، وكلاهما فعلٌ متعدٍّ، فالتضعيف ليس للتعدية. 1/10
__________
(1) _ عن قصد قلت: =وها أنا+ ولم أقل: =وها أنا ذا+ كما التزمه كثير من المحذلقين؛ أَخْذاً بظاهر كلام مغني اللبيب لما بينته عند قوله _تعالى_: [ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤلاء تَقْتُلُوْنَ أَنْفُسَكُمْ] سورة البقرة.(1/57)
2_ والفسر: الإبانة، والكشف لمدلول كلام أو لفظ بكلام آخر هو أوضح لمعنى المفسر عند السامع، ثم قيل: المصدران والفعلان متساويان في المعنى، وقيل: يختص المضاعف بإبانة المعقولات. 1/10
3_ والتفسير في الاصطلاح نقول: هو اسم للعلم الباحث عن بيان معاني ألفاظ القرآن، وما يستفاد منها باختصار أو توسع. 1/11
4_ وموضوع التفسير: ألفاظ القرآن من حيث البحثُ عن معانيه، وما يستنبط منه.
وبهذه الحيثية خالف عِلْمَ القراءات؛ لأن تمايز العلوم _ كما يقولون _ بتمايز الموضوعات، وحيثيات الموضوعات. 1/12
5_ والتفسير أول العلوم الإسلامية ظهوراً؛ إذ قد ظهر الخوض فيه في عصر النبي"إذ كان بعض أصحابه قد سأل عن بعض معاني القرآن كما سأله عمر÷عن الكلالة، ثم اشتهر فيه بعد من الصحابة علي وابن عباس وهما أكثر الصحابة قولاً في التفسير، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وعبد الله ابن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص _ رضي الله عنهم _.
وكثر الخوض فيه، حين دخل في الإسلام من لم يكن عربي السجية؛ فلزم التصدي لبيان معاني القرآن لهم، وشاع عن التابعين وأشهرهم في ذلك مجاهد وابن جبير.
وهو _أيضاً_ أشرف العلوم الإسلامية ورأسها على التحقيق. 1/14(1/58)
6_ وأما تصنيفه فأول من صنف فيه عبد الملك بن جريج المكي المولود سنة 80هـ والمتوفي سنة 149هـ صنف كتابه في تفسير آيات كثيرة، وجمع فيه آثاراً وغيرها، وأكثر روايته عن أصحاب ابن عباس مثل عطاء ومجاهد، وصنفت تفاسير، ونسبت روايتها إلى ابن عباس، لكن أهل الأثر تكلموا فيها، وهي تفسير محمد بن السائب الكلبي المتوفي سنة 146هـ عن أبي صالح عن ابن عباس، وقد رُمي أبو صالح بالكذب حتى لقب بكلمة: (دروغدت) بالفارسية بمعنى الكذاب(1) وهي أوهى الروايات، فإذا انضم إليها رواية محمد بن مروان السدى عن الكلبي فهي سلسلة الكذب(2) أرادوا بذلك أنها ضد ما لقبوه بسلسلة الذهب، وهي مالك عن نافع عن ابن عمر.
وقد قيل: إن الكلبي كان من أصحاب عبد الله بن سبأ اليهودي الأصل الذي أسلم وطعن في الخلفاء الثلاثة وغلا في حب علي بن أبي طالب، وقال: إن علياً لم يمت، وإنه يرجع إلى الدنيا، وقد قيل: إنه ادعى إلهية علي. 1/14_15
7_ وقد جرت عادة المفسرين بالخوض في بيان معنى التأويل، وهل هو مساو للتفسير أو أخص منه أو مباين؟
وجماع القول في ذلك أن من العلماء من جعلهما متساويين، وإلى ذلك ذهب ثعلب وابن الأعرابي وأبو عبيدة، وهو ظاهر كلام الراغب.
ومنهم من جعل التفسير للمعنى، الظاهر والتأويل للمتشابه.
ومنهم من قال: التأويل صرف اللفظ عن ظاهر معناه إلى معنى آخر محتمل لدليل؛ فيكون هنا بالمعنى الأصولي، فإذا فسر قوله _تعالى_: [يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ] بإخراج الطير من البيضة فهو التفسير، أو بإخراج المسلم من الكافر فهو التأويل.
__________
(1) _ تفسير القرطبي.
(2) _ الإتقان.(1/59)
وهنالك أقوال أخر لا عبرة بها، وهذه كلها اصطلاحات لا مشاحة فيها إلا أن اللغة والآثار تشهد للقول الأول؛ لأن التأويل مصدر أَوَّله إذا أرجعه إلى الغاية المقصودة، والغاية المقصودة من اللفظ هو معناه وما أراده منه المتكلم به من المعاني، فساوى التفسير على أنه لا يطلق إلا على ما فيه تفصيل معنى خفي معقول، قال الأعشى:
على أنها كانت تَأَوُّلُ حُبِّهَا ... تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السقاب فأَصْحَبا
أي تبيين تفسير حبها أنه كان صغيراً في قلبه، فلم يزل يشب حتى صار كبيراً كهذا السقب، أي ولد الناقة الذي هو من السقاب الربيعية لم يزل يشب حتى كبر، وصار له ولد يصحبه.
قاله أبو عبيدة، وقد قال الله _تعالى_: [هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ]: أي ينتظرون إلا بيانه الذي هو المراد منه.
وقال " في دعائه لابن عباس: =اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل+: أي فَهْمَ معاني القرآن.
وفي حديث عائشة _رضي الله عنها_ كان " يقول في ركوعه: =سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي+ يتأول القرآن: أي يعمل بقوله _تعالى_: [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ].
فلذلك جمع في دعائه التسبيح، والحمد، وذكر لفظ الرب، وطلب المغفرة، فقولها يتأول صريح في أنه فسر الآية بالظاهر منها، ولم يحملها على ما تشير إليه من انتهاء مدة الرسالة، وقرب انتقاله " الذي فهمه منها عمر وابن عباس _رضي الله عنهما_. 1/16_17.
1_ استمداد العلم يراد به توقفه على معلومات سابق وجودها على وجود ذلك العلم عند مدونيه؛ لتكون عوناً لهم على إتقان تدوين ذلك العلم.
وسمي ذلك في الاصطلاح بالاستمداد عن تشبيه احتياج العلم لتلك المعلومات بطلب المدد، والمدد: العون والغواث؛ فقرنوا الفعل بحرفي الطلب وهما السين والتاء، وليس كل ما يذكر في العلم معدوداً من مدده، بل مدده ما يتوقف عليه تَقَوُّمه. 1/18(1/60)
فاستمداد علم التفسير للمفسر العربي والمولد من المجموع الملتئم من علم العربية، وعلم الآثار، ومن أخبار العرب، وأصول الفقه، قيل: وعلم الكلام، وعلم القراءات. 1/18
2_ ولذلك _ أي لإيجاد الذوق أو تكميله _ لم يكن غنى للمفسر في بعض المواضع من الاستشهاد على المراد في الآية ببيت من الشعر، أو بشيء من كلام العرب؛ لتكميل ما عنده من الذوق عند خفاء المعنى، ولإقناع السامع والمتعلم اللذين لم يكمل لهما الذوق في المشكلات. 1/21
3_ وتشمل الآثار إجماع الأمة على تفسير معنى؛ إذ لا يكون إلا عن مستند كإجماعهم على أن المراد من الأخت في آية الكلالة الأولى هي الأخت للأم، وأن المراد من الصلاة في سورة الجمعة هي صلاة الجمعة، وكذلك المعلومات بالضرورة كلها ككون الصلاة مراداً منها الهيئة المخصوصة دون الدعاء، والزكاة المال المخصوص المدفوع. 1/25
4_ وأما القراءات فلا يحتاج إليها إلا في حين الاستدلال بالقراءة على تفسير غيرها، وإنما يكون في معنى الترجيح لأحد المعاني القائمة من الآية أو لاستظهار على المعنى؛ فذكر القراءة كذكر الشاهد من كلام العرب؛ لأنها إن كانت مشهورة فلا جرم أنها تكون حجة لغوية، وإن كانت شاذة فحجتها لا من حيث الرواية؛ لأنها لا تكون صحيحة الرواية، ولكن من حيث إن قارئها ما قرأ بها إلا استناداً لاستعمال عربي صحيح. 1/25
5_ وأما أخبار العرب فهي من جملة أدبهم، وإنما خصصتها بالذكر؛ تنبيهاً لمن يتوهم أن الاشتغال بها من اللغو؛ فهي يستعان بها على فهم ما أوجزه القرآن في سوقها؛ لأن القرآن إنما يذكر القصص والأخبار للموعظة والاعتبار، لا لأن يتحادث بها الناس في الأسمار؛ فبمعرفة الأخبار يعرف ما أشارت له الآيات من دقائق المعاني، فنحو قوله _تعالى_: [وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً] وقوله: [قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ] يتوقف على معرفة أخبارهم عند العرب. 1/25(1/61)
6_ وأما أصول الفقه فلم يكونوا يعدونه من مادة التفسير، ولكنهم يذكرون أحكام الأوامر والنواهي والعموم، وهي من أصول الفقه؛ فَتَحَصَّل أن بعضه يكون مادة للتفسير، وذلك من جهتين: إحداهما: أن علم الأصول قد أُوْدِعَتْ فيه مسائل كثيرة هي من طرق استعمال كلام العرب، وفهم موارد اللغة أهمل التنبيه عليها علماء العربية مثل مسائل الفحوى، ومفهوم المخالفة، وقد عد الغزالي علم الأصول من جملة العلوم التي تتعلق بالقرآن وبأحكامه؛ فلا جرم أن يكون مادة للتفسير.
الجهة الثانية: أن علم الأصول يضبط قواعد الاستنباط، ويفصح عنها، فهو آلة للمفسر في استنباط المعاني الشرعية من آياتها. 1/25_26
7_ تنبيه: اعلم أنه لا يعد من استمداد علم التفسير، الآثار المروية عن النبي"في تفسير آيات، ولا ما يروى عن الصحابة في ذلك؛ لأن ذلك من التفسير لا من مدده، ولا يعد _أيضاً_ من استمداد التفسير ما في بعض آي القرآن من معنى يفسر بعضاً آخر منها؛ لأن ذلك من قبيل حمل بعض الكلام على بعض، كتخصيص العموم، وتقييد المطلق، وبيان المجمل، وتأويل الظاهر، ودلالة الاقتضاء، وفحوى الخطاب، ولحن الخطاب، ومفهوم المخالفة.
ذكر ابن هشام في مغني اللبيب في حرف (لا) عن أبي علي الفارسي أن القرآن كله كالسورة الواحدة، ولهذا يذكر الشيء في سورة وجوابه في سورة أخرى، نحو [وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ] وجوابه: [مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ]. اهـ
وهذا كلام لا يحسن إطلاقه؛ لأن القرآن قد يحمل بعض آياته على بعض وقد يستقل بعضها عن بعض؛ إذ ليس يتعين أن يكون المعنى المقصود في بعض الآيات مقصوداً في جميع نظائرها، بله ما يقارب غرضها.(1/62)
واعلم أن استمداد علم التفسير من هذه المواد لا ينافي كَوْنَه رأسَ العلومِ الإسلامية كما تقدم؛ لأن كونه رأس العلوم الإسلامية معناه أنه أصل لعلوم الإسلام على وجه الإجمال، فأما استمداده من بعض العلوم الإسلامية فذلك استمداد لقصد تفصيل التفسير على وجه أتم من الإجمال، وهو أصل لما استمد منه باختلاف الاعتبار. 1/27
1_ ثم لو كان التفسير مقصوراً على بيان معاني مفردات القرآن من جهة العربية؛ لكان التفسير نزراً ونحن نشاهد كثرة أقوال السلف من الصحابة فمن يليهم في تفسير آيات القرآن، وما أكثر ذلك الاستنباط برأيهم وعلمهم. 1/28
2_ فمن يركب متن عمياء، ويخبط خبط عشواء فحق على أساطين العلم تقويم اعوجاجه، وتمييز حلوه من أجاجه، تحذيراً للمطالع، وتنزيلاً في البرج والطالع. 1/37
1_ إن القرآن أنزله الله _تعالى_ كتاباً لصلاح أمر الناس كافة؛ رحمة لهم؛ لتبليغهم مراد الله منهم.
قال الله _تعالى_: [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ].
فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية، والجماعية، والعمرانية.
فالصلاح الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها، ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد؛ لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير، ثم صلاح السريرة الخاصة، وهي العبادات الظاهرة كالصلاة، والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر.
أما الصلاح الجماعي فيحصل أولاً من الصلاح الفردي؛ إذ الأفراد أجزاء المجتمع، ولا يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه، ومن شيء زائد على ذلك وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات، ومواثبة القوى النفسانية، وهذا هو علم المعاملات، ويعبر عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية.(1/63)
وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك؛ إذ هو حِفْظُ نظام العالم الإسلامي، وضَبْطُ تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع، ورَعْيُ المصالح الكلية الإسلامية، وحِفْظُ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها، ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع. 1/38
2_ فغرض المفسر بيان ما يصل إليه أو ما يقصده من مراد الله _تعالى_ في كتابه بأتم بيان يحتمله المعنى، ولا يأباه اللفظ من كل ما يوضح المراد من مقاصد القرآن، أو ما يتوقف عليه فهمه أكمل فهم، أو يخدم المقصد تفصيلاً وتفريعاً كما أشرنا إليه في المقدمة الأولى مع إقامة الحجة على ذلك إن كان به خفاء، أو لتوقع مكابرة من معاند أو جاهل، فلا جرم كان رائدُ المُفَسِّر في ذلك أن يعرف _على الإجمال_ مقاصدَ القرآن مما جاء لأجله، ويعرف اصطلاحه في إطلاق الألفاظ، وللتنزيل اصطلاح وعادات. 1/41_42
1_ أولع كثير من المفسرين بتطلب أسباب نزول آي القرآن، وهي حوادث يروى أن آيات من القرآن نزلت لأجلها؛ لبيان حكمها، أو لحكايتها، أو إنكارها، أو نحو ذلك، وأغربوا في ذلك وأكثروا؛ حتى كاد بعضهم أن يوهم الناس أن كل آية من القرآن نزلت على سبب، وحتى رفعوا الثقة بما ذكروا.
بيد أنا نجد في بعض آي القرآن إشارة إلى الأسباب التي دعت إلى نزولها، ونجد لبعض الآي أسباباً ثبتت بالنقل دون احتمال أن يكون ذلك رأي الناقل؛ فكان أمر أسباب نزول القرآن دائراً بين القصد والإسراف، وكان في غض النظر عنه، وإرسال حبله على غاربه خطر عظيم في فهم القرآن؛ فذلك الذي دعاني إلى خوض هذا الغرض في مقدمات التفسير؛ لظهور شدة الحاجة إلى تمحيصه في أثناء التفسير، وللاستغناء عن إعادة الكلام عليه عند عروض تلك المسائل غير مدخر ما أراه في ذلك رأياً يجمع شتاتها.(1/64)
وأنا عاذرٌ المتقدمين الذين ألفوا في أسباب النزول، فاستكثروا منها بأن كل من يتصدى لتأليف كتاب في موضوع غير مشبع تمتلكه محبة التوسع فيه؛ فلا ينفك يستزيد من ملتقطاته؛ ليذكي قبسه، ويمد نفسه؛ فيرضى بما يجد رضى الصبِّ بالوعد، ويقول: زدني من حديثك يا سعد غير هياب لعاذل، ولا متطلب معذرة عاذر، وكذلك شأن الولع إذا امتلك القلب.
ولكني لا أعذر أساطين المفسرين الذين تلقفوا الروايات الضعيفة؛ فأثبتوها في كتبهم، ولم ينبهوا على مراتبها قوة وضعفاً، حتى أوهموا كثيراً من الناس أن القرآن لا تنزل آياته إلا لأجل حوادث تدعو إليها، وبئس هذا الوهم؛ فإن القرآن جاء هادياً إلى ما به صلاح الأمة في أصناف الصلاح؛ فلا يتوقف نزوله على حدوث الحوادث الداعية إلى تشريع الأحكام.
نعم إن العلماء توجسوا منها، فقالوا إن سبب النزول لا يخصَّص، إلا طائفة شاذة ادعت التخصيص بها، ولو أن أسباب النزول كانت كلها متعلقة بآيات عامة لما دخل من ذلك ضر على عمومها؛ إذ قد أراحنا أئمة الأصول حين قالوا: =العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب+.
ولكن أسباباً كثيرة رام رواتها تعيين مراد من تخصيص عام، أو تقييد مطلق، أو إلجاء إلى محمل، فتلك هي التي قد تقف عرضة أمام معاني التفسير قبل التنبيه على ضعفها أو تأويلها. 1/46
2_ وثمة فائدة أخرى عظيمة لأسباب النزول وهي أن في نزول القرآن عند حدوث حوادث دلالة على إعجازه من ناحية الارتجال، وهي إحدى طريقتين لبلغاء العرب في أقوالهم؛ فنزوله على حوادث يقطع دعوى من ادعوا أنه أساطير الأولين. 1/50(1/65)
1_ لولا عنايةُ كثيرٍ من المفسرين بذكرِ اختلافِ القراءاتِ في ألفاظ القرآن حتى في كيفيات الأداء _ لكنت بمعزل عن التكلم في ذلك؛ لأن علم القراءات علم جليل مستقل، قد خص بالتدوين والتأليف، وقد أشبع فيه أصحابه، وأسهبوا بما ليس عليه مزيد، ولكني رأيتني بمحل الاضطرار إلى أن ألقي عليكم جملاً في هذا الغرض تعرفون بها مقدار تعلق اختلاف القراءات بالتفسير، ومراتب القراءات قوةً وضعفاً? كي لا تعجبوا من إعراضي عن ذكر كثير من القراءات في أثناء التفسير. 1/51
2_ من أجل ذلك اتفق علماء القراءات والفقهاء على أن كل قراءة وافقت وجهاً في العربية، ووافقت خط المصحف _أي مصحف عثمان_ وصح سند راويها فهي قراءة صحيحة لا يجوز ردها.
قال أبو بكر ابن العربي: ومعنى ذلك عندي أن تواترها تبعٌ لتواتر المصحف الذي وافقته، وما دون ذلك فهو شاذ، يعني وأن تواتر المصحف ناشئ عن تواتر الألفاظ التي كتبت فيه. 1/53
3_ ثم إن القراءاتِ العشرَ الصحيحةَ المتواترةَ قد تتفاوت بما يشتمل عليه بعضها من خصوصيات البلاغة، أو الفصاحة، أو كثرة المعاني، أو الشهرة، وهو تمايز متقارب، وقل أن يكسب إحدى القراءات في تلك الآية رجحاناً.
على أن كثيراً من العلماء كان لا يرى مانعاً من ترجيح قراءة على غيرها، ومن هؤلاء الإمام محمد بن جرير الطبري، والعلامة الزمخشري وفي أكثر ما رُجح به نظر سنذكره في مواضعه.
وقد سئل ابن رشد عما يقع في كتب المفسرين، والمعربين من اختيار إحدى القراءتين المتواترتين، وقولهم هذه القراءة أحسن: أذاك صحيح أم لا?(1/66)
فأجاب: أما ما سألت عنه مما يقع في كتب المفسرين، والمعربين من تحسين بعض القراءات، واختيارها على بعض؛ لكونها أظهر من جهة الإعراب، وأصح في النقل، وأيسر في اللفظ _ فلا ينكر ذلك، كرواية ورش التي اختارها الشيوخ المتقدمون عندنا _أي بالأندلس_ فكان الإمام في الجامع لا يقرأ إلا بها؛ لما فيها من تسهيل النبرات، وترك تحقيقها في جميع المواضع، وقد تؤول ذلك فيما روي عن مالك من كراهية النبر في القرآن في الصلاة. 1/61_62
4_ تنبيه: أنا أقتصر في هذا التفسير على التعرض لاختلاف القراءات العشر المشهورة خاصة في أشهر روايات الراوين عن أصحابها؛ لأنها متواترة، وإن كانت القراءات السبع قد امتازت على بقية القراءات بالشهرة بين المسلمين في أقطار الإسلام.
وأبني أول التفسير على قراءة نافع برواية عيسى بن مينا المدني الملقب بقالون؛ لأنها القراءة المدنية إماماً وراوياً، ولأنها التي يقرأ بها معظم أهل تونس، ثم أذكر خلاف بقية القراء العشرة خاصة.
والقراءات التي يقرأ بها اليوم في بلاد الإسلام من هذه القراءات العشر، هي قراءة نافع برواية قالون في بعض القطر التونسي، وبعض القطر المصري، وفي ليبيا، وبرواية ورش في بعض القطر التونسي، وبعض القطر المصري، وفي جميع القطر الجزائري، وجميع المغرب الأقصى، وما يتبعه من البلاد والسودان.
وقراءة عاصم برواية حفص عنه في جميع الشرق من العراق، والشام، وغالب البلاد المصرية، والهند، وباكستان، وتركيا، والأفغان.
وبلغني أن قراءة أبي عمرو البصري يقرأ بها في السودان المجاور مصر. 1/63
1_ امتن الله على رسوله"بقوله: [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ].(1/67)
فعلمنا من قوله: [أَحْسَنَ] أن القصص القرآنية لم تسق مساق الإحماض(1) وتجديد النشاط، وما يحصل من استغراب مبلغ تلك الحوادث من خير أو شر؛ لأن غرض القرآن أسمى وأعلى من هذا، ولو كان من هذا لساوى كثيراً من قصص الأخبار الحسنة الصادقة فما كان جديراً بالتفضيل على كل جنس القصص.
والقصة: الخبر عن حادثة غائبة عن المخبر بها، فليس ما في القرآن من ذكر الأحوال الحاضرة في زمن نزوله قصصاً مثل ذكر وقائع المسلمين مع عدوهم، وجمع القصة قِصَص بكسر القاف.
وأما القَصَص بفتح القاف فاسم للخبر المقصوص، وهو مصدر سمي به المفعول، يقال: قص على فلان إذا أخبره بخبر.
وأبصر أهل العلم أن ليس الغرض من سوقها قاصراً على حصول العبرة والموعظة مما تضمنته القصة من عواقب الخير أو الشر، ولا على حصول التنويه بأصحاب تلك القصص في عناية الله بهم، أو التشويه بأصحابها فيما لقوه من غضب الله عليهم، كما تقف عنده أفهام القانعين بظواهر الأشياء وأوائلها، بل الغرض من ذلك أسمى وأجل.
إن في تلك القصص لعبراً جمة، وفوائد للأمة؛ ولذلك نرى القرآن يأخذ من كل قصة أشرف مواضيعها، ويعرض عما عداه؛ ليكون تعرضه للقصص منزهاً عن قصد التَفَكُّه بها.
من أجل ذلك كُلِّه لم تأت القصص في القرآن متتالية متعاقبة في سورة أو سور كما يكون كتاب تاريخ، بل كانت مفرقة موزعة على مقامات تناسبها؛ لأن معظم الفوائد الحاصلة منها لها علاقة بذلك التوزيع، هو ذكر وموعظة لأهل الدين؛ فهو بالخطابة أشبه.
وللقرآن أسلوبٌ خاص هو الأسلوب المعبر عنه بالتذكير، وبالذكر في آيات يأتي تفسيرها؛ فكان أسلوبه قاضياً للوطرين، وكان أجلُّ من أسلوب القصاصين في سَوْق القصص؛ لمجرد معرفتها؛ لأن سَوْقَها في مناسباتها يكسبها صفتين: صفة البرهان، وصفة التبيان.
__________
(1) _ من أحمض القوم: أفاضوا فيما يؤنسهم.(1/68)
ونجد من مميزات قصص القرآنِ نَسْجَ نظمها على أسلوب الإيجاز؛ ليكون شبهها بالتذكير أقوى من شبهها بالقصص، مثال ذلك قوله _تعالى_ في سورة القلم: [فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ].
فقد حكيت مقالته هذه في موقع تذكيره أصحابه بها؛ لأن ذلك مَحَزُّ حكايتها، ولم تحك أثناء قوله: [إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ] وقوله: [فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ (21) أَنْ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ].
ومن مميزاتها طَيُّ ما يقتضيه الكلام الوارد كقوله _تعالى_ في سورة يوسف: [وَاسْتَبَقَا الْبَابَ] فقد طُوي ذِكْرُ حضورِ سيدها، وطرقِه البابَ، وإسراعِهما إليه لفتحه؛ فإسراع يوسف، ليقطع عليها ما توسمه فيها من المَكْرِ بِهِ؛ لتري سيدها أنه أراد بها سوءاً، وإسراعها هي لضد ذلك؛ لتكون البادئة بالحكاية، فتقطع على يوسف ما توسمته فيه من شكاية، فدل على ذلك ما بعده من قوله: [وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً] الآيات.
ومنها أن القصص بُثَّت بأسلوب بديع؛ إذ ساقها في مظان الاتعاظ بها مع المحافظة على الغرض الأصلي الذي جاء به القرآن من تشريع وتفريع. 1/64_65
1_ هذا غرض له مزيد اتصال بالقرآن، وله اتصال متين بالتفسير؛ لأن ما يتحقق فيه ينتفع به في مواضع كثيرة من فواتح السور، ومناسبة بعضها لبعض؛ فيغني المفسر عن إعادته.(1/69)
معلوم لك أن موضوع علم التفسير هو القرآن؛ لتبيان معانيه، وما يشتمل عليه من إرشادٍ، وهدىً، وآداب، وإصلاح حال الأمة في جماعتها، وفي معاملتها مع الأمم التي تخالطها: بفهم دلالته اللغوية والبلاغية؛ فالقرآن هو الكلام الذي أوحاه الله _تعالى_ كلاماً عربياً إلى محمد"بواسطة جبريل على أن يبلغه الرسول إلى الأمة باللفظ الذي أوحي به إليه للعمل به، ولقراءة ما يتيسر لهم أن يقرأوه منه في صلواتهم، وجعل قراءته عبادة. 1/70
2_ فالقرآن اسم للكلام الموحى به إلى النبي"وهو جملة المكتوب في المصاحف المشتمل على مائة وأربع عشرة سورة، أولاها الفاتحة، وأخراها سورة الناس، صار هذا الاسم عَلَماً على هذا الوحي، وهو على وزن فُعْلان، وهي زنة وردت في أسماء المصادر مثل غُفْران، وشُكْران، وبُهتان، ووردت زيادة النون في أسماء أعلام مثل عثمان، وحسان، وعدنان.
واسم قرآن صالح للاعتبارين؛ لأنه مشتق من القراءة؛ لأن أول ما بدئ به الرسول من الوحي [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ] الآية.
وقال _تعالى_: [وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً]. 1/71
3_ فاسم القرآن هو الاسم الذي جُعِل علماً على الوحي المنزل على محمد" ولم يسبق أن أُطلق على غيره قبله، وهو أشهر أسمائه، وأكثرها وروداً في آياته، وأشهرها دوراناً على ألسنة السلف. 1/71
4_ وله أسماء أخرى هي في الأصل أوصاف، أو أجناس أنهاها في الإتقان إلى نَيِّفٍ وعشرين، والذي اشتهر إطلاقه عليه منها ستة: التنزيل، والكتاب، والفرقان، والذكر، والوحي، وكلام الله. 1/72(1/70)
5_ الآية: هي مقدار من القرآن مركب ولو تقديراً أو إلحاقاً؛ فقولي: =ولو تقديراً+: لإدخال قوله _تعالى_: [مُدْهَامَّتَانِ] إذ التقدير: هما مدهامتان، ونحو [وَالْفَجْرِ] إذ التقدير أقسم بالفجر، وقولي: =أو إلحاقاً+: لإدخال بعض فواتح السور من الحروف المقطعة؛ فقد عد أكثرها في المصاحف آيات ما عدا: آلر، وآلمر، وطس، وذلك أمر توقيفي، وسنة متبعة، ولا يظهر فرق بينها وبين غيرها.
وتسميةُ هذه الأجزاءِ آياتٌ هو من مبتكرات القرآن، قال _تعالى_: [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ] وقال: [كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ].
وإنما سميت آية؛ لأنها دليل على أنها موحى بها من عند الله إلى النبي"لأنها تشتمل على ما هو من الحد الأعلى في بلاغة نظم الكلام، ولأنها لوقوعها مع غيرها من الآيات جُعِلت دليلاً على أن القرآن منزل من عند الله، وليس من تأليف البشر؛ إذ قد تحدى النبي به أهل الفصاحة، والبلاغة من أهل اللسان العربي؛ فعجزوا عن تأليف مثل سورة من سوره. 1/74
6_ وكان المسلمون في عصر النبوة، وما بعده يقدرون تارة بعض الأوقات بمقدار ما يقرأ القارئ عدداً من الآيات كما ورد في حديث سحور النبي"أنه كان بينه وبين طلوع الفجر مقدار ما يقرأ القارئ خمسين آية.
قال أبو بكر ابن العربي: =وتحديد الآية من معضلات القرآن؛ فمن آياته طويل وقصير، ومنه ما ينقطع، ومنه ما ينتهي إلى تمام الكلام+.
وقال الزمخشري: =الآيات علم توقيفي+.
وأنا أقول: لا يبعد أن يكون تعيين مقدار الآية تبعاً لانتهاء نزولها، وأمارته وقوع الفاصلة.
والذي استخلصته أن الفواصل هي الكلماتُ التي تتماثل في أواخر حروفها، أو تتقارب، مع تماثلِ أو تقاربِ صِيَغِ النُّطْقِ بها، وتُكرَّر في السورة تكرراً يؤذن بأن تماثلها، أو تقاربَها مقصودٌ من النظم في آيات كثيرة متماثلة، تكثر وتقل، وأكثرها قريب من الأسجاع في الكلام المسجوع.(1/71)
والعبرةُ فيها بتماثل صيغ الكلمات من حركات وسكون، وهي أكثر شبهاً بالتزام ما لا يلزم في القوافي، وأكثرها جارٍ على أسلوب الأسجاع.
والذي استخلصته _أيضاً_ أن تلك الفواصلَ كلَّها منتهى آيات، ولو كان الكلام الذي تقع فيه لم يتم فيه الغرض المسوق إليه، وأنه إذا انتهى الغرض المقصود من الكلام، ولم تقع عند انتهائه فاصلة لا يكون منتهى الكلام نهاية آية إلا نادراً كقوله _تعالى_: [ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ].
فهذا المقدار عُدَّ آية وهو لم ينته بفاصلة، ومثله نادر؛ فإن فواصل تلك الآيات الواقعة في أول السورة أقيمت على حرف مفتوح بعده ألف مد بعدها حرف، مثل: شقاق، مناص، كذاب، عجاب.
وفواصل بنيت على حرف مضموم مشبع بواو، أو على حرف مكسور مشبع بياء ساكنة، وبعد ذلك حرف، مثل: [أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ] [إِذْ يَسْتَمِعُونَ] [نَذِيرٌ مُبِينٌ] [ مِنْ طِينٍ].
فلو انتهى الغرض الذي سيق له الكلام وكانت فاصلة تأتي بعد انتهاء الكلام_ تكون الآية غير منتهية ولو طالت، كقوله _تعالى_: [قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ] إلى قوله: [وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ] فهذه الجمل كلها عدت آية واحدة. 1/75_76
7_ واعلم أن هذه الفواصلَ من جملة المقصود من الإعجاز؛ لأنها ترجع إلى مُحَسِّنات الكلام، وهي من جانب فصاحة الكلام؛ فمن الغرض البلاغي الوقوف عند الفواصل؛ لتقع في الأسماع؛ فتتأثر نفوس السامعين بمحاسن ذلك التماثل، كما تتأثر بالقوافي في الشعر، وبالأسجاع في الكلام المسجوع، فإن قوله _تعالى_: [إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ] إلى آخر الآيات، فقوله: [فِي الْحَمِيمِ] متصل بقوله: [يُسْحَبُونَ] وقوله: و [مِنْ دُونِ اللَّهِ] متصل بقوله: [تُشْرِكُونَ].(1/72)
وينبغي الوقف عند نهاية كل آية منها.
وقوله _تعالى_: [وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ] آية، وقوله: [مِنْ دُونِهِ] ابتداء الآية بعدها في سورة هود.
ألا ترى أن من الإضاعة لدقائق الشعر أن يُلْقِيَهُ مُلْقِيْهِ على مسامع الناس دون وقف عند قوافيه؟ فإن ذلك إضاعةٌ لجهود الشعراء، وتغطيةٌ على محاسن الشعر، وإلحاق للشعر بالنثر.
وأن إلفاء(1) السجع دون وقوف عند أسجاعه هو كذلك لا محالة؟
ومن السذاجة أن ينصرف ملقي الكلام عن محافظة هذه الدقائق؛ فيكون مضيعاً لأمر نفيس أجهد فيه قائله نفسه وعنايته.
والعلة بأنه يريد أن يبين للسامعين معاني الكلام فضول، فإن البيان وظيفةُ ملقي دَرْسٍ لا وظيفة منشد الشعر، ولو كان هو الشاعر نفسه. 1/76
8_ وآياتُ القرآنِ متفاوتةٌ في مقادير كلماتها؛ فبعضها أطول من بعض، ولذلك فتقدير الزمان بها في قولهم: مقدار ما يقرأ القارئ خمسين آية مثلاً، تقدير تقريبي، وتفاوت الآيات في الطول تابع لما يقتضيه مقام البلاغة من مواقع كلمات الفواصل على حسب ما قبلها من الكلام. 1/77
9_ وأما ترتيب الآي بعضها عقب بعض فهو بتوقيف من النبي"حسب نزول الوحي، ومن المعلوم أن القرآن نزل مُنَجَّماً آيات؛ فربما نزلت عدة آيات متتابعة أو سورة كاملة. 1/79
10_ واتساق الحروف، واتساق الآيات، واتساق السور، كله عن رسول الله". 1/79
11_ إن الغرض الأكبر للقرآن هو إصلاح الأمة بأسرها؛ فإصلاحُ كُفَّارها بدعوتهم إلى الإيمان، ونبذِ العبادة الضالة، واتباع الإيمان، والإسلام.
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: إلقاء. (م)(1/73)
وإصلاح المؤمنين بتقويم أخلاقهم، وتثبيتهم على هداهم، وإرشادهم إلى طرق النجاح، وتزكية نفوسهم، ولذلك كانت أغراضه مرتبطة بأحوال المجتمع في مدة الدعوة، فكانت آيات القرآن مستقلاً بعضُها عن بعض؛ لأن كل آية منه ترجع إلى غرض الإصلاح والاستدلال عليه، وتكميله وتخليصه من تسرب الضلالات إليه، فلم يلزم أن تكون آياته متسلسلة، ولكن حال القرآن كحال الخطيب يتطرق إلى معالجة الأحوال الحاضرة على اختلافها، وينتقل من حال إلى حال بالمناسبة، ولذلك تكثر في القرآن الجمل المعترضة؛ لأسباب اقتضت نزولها أو بدون ذلك؛ فإن كل جملة تشتمل على حكمة وإرشاد، أو تقويم معوج، كقوله: [وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ] إلى قوله: [قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ] فقوله: [قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ] جملة معترضة. 1/81_82
12_ وقوف القرآن: الوَقْفُ هو قطعُ الصوتِ عن الكلمة حصة يتنفس في مثلها المتنفس عادة، والوقف عند انتهاء جملة من جمل القرآن قد يكون أصلاً لمعنى الكلام؛ فقد يختلف المعنى باختلاف الوقف مثل قوله _تعالى_: [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ].
فإذا وقف عند كلمة (قتل) كان المعنى أن أنبياء كثيرين قتلهم قومهم وأعداؤهم، ومع الأنبياء أصحابهم؛ فما تزلزلوا لقتل أنبيائهم؛ فكان المقصود تأييس المشركين من وهن المسلمين على فرض قتل النبي"في غزوته على نحو قوله _تعالى_ في خطاب المسلمين: [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] الآية.(1/74)
وإذا وصل قوله: [قُتِلَ] عند قوله: [كَثِيرٌ] كان المعنى أن أنبياء كثيرين قتل معهم رجال من أهل التقوى، فما وهن من بقي بعدهم من المؤمنين وذلك بمعنى قوله _تعالى_: [وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً] إلى قوله: [وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ]. 1/82
13_ ولما كان القرآن مراداً منه فهم معانيه، وإعجاز الجاحدين به، وكان قد نزل بين أهل اللسان _ كان فهم معانيه مفروغاً من حصوله عند جميعهم، فأما التحدي بعجز بلغائهم عن معارضته فأمر يرتبط بما فيه من الخصوصيات البلاغية التي لا يستوي في القدرة عليها جميعهم، بل خاصة بلغائهم من خطباء وشعراء، وكان من جملة طرق الإعجاز ما يرجع إلى محسنات الكلام من فن البديع، ومن ذلك فواصل الآيات التي هي شبه قوافي الشعر، وأسجاع النثر، وهي مرادة في نظم القرآن لا محالة كما قدمناه عند الكلام على آيات القرآن، فكان عدم الوقف عليها تفريطاً في الغرض المقصود منها. 1/83
14_ سور القرآن: السورة قطعة من القرآن معينة بمبدأ ونهاية لا يتغيران، مسماة باسم مخصوص، تشتمل على ثلاث آيات فأكثر في غرض تام ترتكز عليه معاني آيات تلك السورة، ناشئ عن أسباب النزول، أو عن مقتضيات ما تشتمل عليه من المعاني المتناسبة.
وكونُها تشتمل على ثلاث آياتٍ مأخوذٌ من استقراء سور القرآن مع حديث عمر فيما رواه أبو داود عن الزبير قال: =جاء الحارث بن خزيمة _هو المسمى في بعض الروايات خزيمة وأبا خزيمة_ بالآيتين من آخر سورة براءة فقال: أشهد أني سمعتهما من رسول الله، فقال عمر: وأنا أشهد لقد سمعتهما منه، ثم قال: لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة+ إلخ.
فدل على أن عمر ما قال ذلك إلا عن علم بأن ذلك أقل مقدار سورة.(1/75)
وتسميةُ القطعة المعينة من عدة آيات القرآن سورة من مصطلحات القرآن، وشاعت تلك التسمية عند العرب حتى المشركين منهم، فالتحدي للعرب بقوله _تعالى_: [فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ] وقوله: [فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ] لا يكون إلا تحدياً باسم معلوم المسمى، والمقدارِ عندهم وقتَ التحدي؛ فإن آياتِ التحدي نزلت بعد السور الأُوَل.
وقد جاء في القرآن تسمية سورة النور باسم سورة في قوله _تعالى_: [سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا] أي هذه سورة،وقد زادته السنة بياناً، ولم تكن أجزاء التوراة، والإنجيل، والزبور مسماة سوراً عند العرب في الجاهلية، ولا في الإسلام.
ووجهُ تسميةِ الجزء المعين من القرآن سورة قيل: مأخوذة من السُّوْر بضم السين، وتسكين الواو، وهو الجدار المحيط بالمدينة أو بِمَحَلَّة قومٍ، زادوه هاء تأنيث في آخره مراعاة لمعنى القطعة من الكلام، كما سموا الكلام الذي يقوله القائل خطبة، أو رسالة، أو مقامة.
وقيل: مأخوذة من السُّؤر بهمزة بعد السين، وهو البقية مما يشرب الشارب بمناسبة أن السؤرَ جزءٌ مما يُشْرب، ثم خففوا الهمزة بعد الضمة فصارت واواً.
قال ابن عطية: =وترك الهمز في سورة هو لغة قريش، ومن جاورها من هذيل، وكنانة، وهوازن، وسعد بن بكر.
وأما الهمز فهو لغة تميم، وليست إحدى اللغتين بدالَّةٍ على أن أصل الكلمة من المهموز أو المعتل؛ لأن للعرب في تخفيفِ المهموز وهمزِ المخفف من حروف العلة طريقتين، كما قالوا: أُجوه، وإِعاء، وإِشاح في وُجوه، ووعاء، ووشاح، وكما قالوا: الذئب بالهمز، والذيب بالياء+.
قال الفراء: =ربما خرجت بهم فصاحتهم إلى أن يهمزوا ما ليس مهموزاً، كما قالوا: رثأت الميت، ولبأت بالحج، وحلأت السويق بالهمز+.
وجمع سُوْرَة سُوَرٌ بتحريك الواو كغرف، ونقل في شرح القاموس عن الكراع أنها تجمع على سور بسكون الواو.(1/76)
وتسوير القرآن من السنة في زمن النبي"فقد كان القرآن يومئذ مقسماً إلى مائة وأربع عشرة سورة بأسمائها، ولم يخالف في ذلك إلا عبد الله بن مسعود؛ فإنه لم يثبت المعوذتين في سور القرآن، وكان يقول: =إنما هما تعوذٌ أمر الله رسوله بأن يقوله وليس هو من القرآن+.
وأثبت القنوت الذي يقال في صلاة الصبح، على أنه سورة من القرآن سماها سورة الخلع، والخنع، وجعل سورة الفيل، وسورة قريش سورة واحدة.
وكل ذلك استناداً لما فهمه من نزول القرآن، ولم يُحْفَظْ عن جمهور الصحابة حين جمعوا القرآن أنهم ترددوا، ولا اختلفوا في عدد سوره، وأنها مائة وأربع عشرة سورة، روى أصحاب السنن عن ابن عباس أن رسول الله"كان إذا نزلت الآية يقول: =ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا+.
وكانت السور معلومة المقادير منذ زمن النبي"محفوظة عنه في قراءة الصلاة وفي عرض القرآن، فترتيب الآيات في السور هو بتوقيف من النبي". 1/85_86
15_ واعلم أن الصحابة لم يثبتوا في المصحف أسماء السور، بل اكتفوا بإثبات البسملة في مبدأ كل سورة، علامة على الفصل بين السورتين، وإنما فعلوا ذلك؛ كراهة أن يكتبوا في أثناء القرآن ما ليس بآية قرآنية، فاختاروا البسملة؛ لأنها مناسبة للافتتاح مع كونها آية من القرآن، وفي الإتقان أن سورة البينة سميت في مصحف أبيّ سورة أهل الكتاب.
وهذا يُؤْذِنُ بأنه كان يسمي السور في مصحفه، وكتبت أسماء السور في المصاحف باطراد في عصر التابعين ولم ينكر عليهم ذلك. 1/91
1_ إن العرب أمة جبلت على ذكاء القرائح، وفطنة الأفهام؛ فعلى دعامة فطنتهم وذكائهم أقيمت أساليب كلامهم، وبخاصة كلام بلغائهم.(1/77)
ولذلك كان الإيجاز عمودَ بلاغتهم؛ لاعتماد المتكلمين على أفهام السامعين، كما يقال: =لمحة دالة+ لأجل ذلك كثر في كلامهم: المجاز، والاستعارة، والتمثيل، والكناية، والتعريض، والاشتراك والتسامح في الاستعمال كالمبالغة، والاستطراد ومستتبعات التراكيب، والأمثال، والتلميح، والتمليح، واستعمال الجملة الخبرية في غير إفادة النسبة الخبرية، واستعمال الاستفهام في التقرير أو الإنكار، ونحو ذلك. 1/93
2_ وملاك ذلك كله توفير المعاني، وأداء ما في نفس المتكلم بأوضح عبارة وأخصرها؛ ليسهل اعتلاقها بالأذهان.
وإذ قد كان القرآن وحياً من العلام _ سبحانه _ وقد أراد أن يجعله آية على صدق رسوله، وتحدى بلغاء العرب بمعارضة أقصر سورة منه _كما سيأتي في المقدمة العاشرة_ فقد نُسِجَ نَظْمُه نسجاً بالغاً منتهى ما تسمح به اللغة العربية من الدقائق، واللطائف لفظاً ومعنىً بما يفي بأقصى ما يراد بلاغة إلى المرسل إليهم.(1/78)
فجاء القرآن على أسلوب أبدع مما كانوا يعهدون وأعجب؛ فأعجز بلغاء المعاندين عن معارضته، ولم يَسَعْهُمْ إلا الإذعان، سواء في ذلك من آمن منهم، مثل: لبيد بن ربيعة، وكعب بن زهير، والنابغة الجعدي، ومن استمر على كفره عناداً مثل: الوليد بن المغيرة؛ فالقرآن من جانب إعجازه يكون أكثر معاني من المعاني المعتادة التي يودعها البلغاء في كلامهم، وهو لكونه كتابَ تشريعٍ، وتأديب، وتعليم كان حقيقاً بأن يودع فيه من المعاني، والمقاصد أكثر ما تحتمله الألفاظ في أقل ما يمكن من المقدار، بحسب ما تسمح به اللغةُ الواردُ هو بها التي هي أسمح اللغات بهذه الاعتبارات؛ ليحصل تمام المقصود من الإرشاد الذي جاء لأجله في جميع نواحي الهدى؛ فمعتادُ البلغاءِ إيداعُ المتكلمِ معنىً يدعوه إليه غرضُ كلامِه، وتركُ غيره، والقرآنُ ينبغي أن يودع من المعاني كُلَّ ما يحتاج السامعون إلى علمه، وكل ما له حظ في البلاغة سواء كانت متساوية أم متفاوتة في البلاغة إذا كان المعنى الأعلى مقصوداً، وكان ما هو أدنى منه مراداً معه لا مراداً دونه، سواء كانت دلالة التركيب عليها متساوية في الاحتمال والظهور، أم كانت متفاوتة بعضها أظهر من بعض، ولو أن تبلغ حد التأويل، وهو حمل اللفظ على المعنى المحتمل المرجوح.
أما إذا تساوى المعنيان فالأمر أظهر، مثل قوله _تعالى_: [وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً] أي ما تيقنوا قتله ولكن توهموه، أو ما أيقن النصارى الذين اختلفوا في قتل عيسى علم ذلك يقيناً بل فهموه خطأ.(1/79)
ومثل قوله: [فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ] ففي كل من كلمة (ذِكْرَ) و(رَبِّهِ) معنيان، ومثل قوله: [قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ] ففي لفظ (رب) معنيان، وقد تكثر المعاني بإنزال لفظ الآية على وجهين أو أكثر؛ تكثيراً للمعاني مع إيجاز اللفظ، وهذا من وجوه الإعجاز، ومثاله قوله _تعالى_: [إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ] بالمثناة التحتية وقرأ الحسن البصري: =أباه+ بالباء الموحدة؛ فنشأ احتمال فيمن هو الواعد. 1/93_94
3_ وإنك لتمر بالآية الواحدة فتتأملها، وتتدبرها، فتنهال عليك معانٍ كثيرةً يسمح بها التركيب على اختلاف الاعتبارات في أساليب الاستعمال العربي.
وقد تتكاثر عليك فلا تَكُ من كثرتها في حصر، ولا تجعل الحمل على بعضها منافياً للحمل على البعض الآخر إن كان التركيب سمحاً بذلك. 1/97
4_ ومن أدق ذلك وأجدره بأن ننبه عليه في هذه المقدمة استعمال اللفظ المشترك في معنييه، أو معانيه دفعة، واستعمال اللفظ في معناه الحقيقي، ومعناه المجازي معاً، بَلْهَ إرادةِ المعاني المكنَّى عنها مع المعاني المصرح بها، وإرادة المعاني المسْتَتْبَعات بفتح الباء من التراكيب المستتبِعة بكسر الباء.
وهذا الأخير قد نبه عليه علماء العربية الذين اشتغلوا بعلم المعاني والبيان، وبقي المبحثان الأولان وهما: استعمال المشترك في معنييه أو معانيه، واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه _ محَلَّ ترددٍّ بين المتصدِّين لاستخراج معاني القرآن تفسيراً وتشريعاً، سَبَبُهُ أنه غير وارد في كلام العرب قبل القرآن، أو واقع بندرة؛ فلقد تجد بعض العلماء يدفع محملاً من محامل بعض آيات بأنه محمل يفضي إلى استعمال المشترك في معنييه، أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، ويعدون ذلك خطباً عظيماً.(1/80)
من أجل ذلك اختلف علماء العربية، وعلماء أصول الفقه في جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى من مدلوله اختلافاً ينبئ عن ترددهم في صحة حمل ألفاظ القرآن على هذا الاستعمال.
وقد أشار كلام بعض الأئمة إلى أن مثار اختلافهم هو عدم العهد بمثله عند العرب قبل نزول القرآن، إذ قال الغزالي وأبو الحسين البصري(1): يصح أن يراد بالمشترك عدة معان لكن بإرادة المتكلم، وليس بدلالة اللغة.
وظني بهما أنهما يريدان تصيير تلك الإرادة إلى أنها دلالة من مستتبعات التراكيب؛ لأنها دلالة عقلية لا تحتاج إلى علاقة وقرينة، كدلالة المجاز والاستعارة.
والحق أن المشترك يصحُّ إطلاقُه على عدة من معانيه جميعاً أو بعضاً إطلاقاً لغوياً، فقال قوم: هو من قبيل الحقيقة، ونسب إلى الشافعي، وأبي بكر الباقلاني، وجمهور المعتزلة.
وقال قوم: هو المجاز، وجزم ابن الحاجب بأنه مراد الباقلاني من قوله في كتاب التقريب والإرشاد: =إن المشترك لا يحمل على أكثر من معنى إلا بقرينة+.
ففهم ابن الحاجب أن القرينة من علامات المجاز، وهذا لا يستقيم؛ لأن القرينة التي هي من علامات المجاز هي القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي، وهي لا تُتَصَوَّر في موضوعنا؛ إذ معاني المشترك كلها من قبيل الحقيقة، وإلا لانتقضت حقيقة المشترك؛ فارتفع الموضوع من أصله.
وإنما سها أصحاب هذا الرأي عن الفرق بين قرينة إطلاق اللفظ على معناه المجازي، وقرينة إطلاق المشترك على عدة من معانيه؛ فإن قرينة المجاز مانعة من إرادة المعنى الحقيقي، وقرينة المشترك مُعَيِّنة للمعاني المرادة كُلاًّ أو بعضاً. 1/98_99
__________
(1) _ محمد بن علي البصري الشافعي المعتزلي، المتوفى سنة 439هـ، له كتاب (المعتمد في أصول الفقه).(1/81)
1_ لم أر غرضاً تناضلت له سهام الأفهام، ولا غاية تسابقت إليها جياد الهمم، فرجعت دونها حسرى، واقتنعت بما بلغته من صبابة نزراً _ مثل الخوض في وجوه إعجاز القرآن؛ فإنه لم يزل شغل أهل البلاغة الشاغل، ومَوْرِدَها للمعلول والناهل، ومُغْلَى سبائها للنديم والواغل.
ولقد سبق أن أُلِّف عِلْمُ البلاغة مشتملاً على نماذج من وجوه إعجازه، والتفرقة بين حقيقته ومجازه، إلا أنه باحثٌ عن كل خصائص الكلام العربي البليغ؛ ليكون معياراً للنقد أو آلة للصنع، ثم ليظهر من جراء ذلك كيف تفوق القرآن على كل كلام بليغ بما توفر فيه من الخصائص التي لا تجتمع في كلام آخر للبلغاء حتى عجز السابقون واللاحقون منهم عن الإتيان بمثله.
قال أبو يعقوب السكاكي في كتاب المفتاح: =واعلم أني مهدت لك في هذا العلم قواعد متى بنيت عليها أعجب كل شاهد بناؤها، واعترف لك بكمال الحذق في البلاغة أبناؤها+.
إلى أن قال: =ثم إذا كنت ممن ملك الذوق، وتصفحت كلام رب العزة_ أطلعْتُك على ما يوردك موارد العزة، وكشفت عن وجه إعجازه القناع+ اهـ. 1/101
2_ فأما أنا فأردت في هذه المقدمة أَنْ أُلِمَّ بك _ أيها المتأمل _ إلمامةً ليست كخطرة طيف، ولا هي كإقامة المُنْتَجِعِ في المَرْبَع؛ حتى يظله الصيف، وإنما هي لمحة ترى منها كيف كان القرآن معجزاً، وتتبصر منها نواحي إعجازه، وما أنا بمستقصٍ دلائل الإعجاز في آحاد الآيات والسور؛ فذلك له مصنفاته، وكل صغير وكبير مستطر، ثم ترى منها بلاغة القرآن، ولطائف أدبه التي هي فتح لفنون رائعة من أدب لغة العرب؛ حتى ترى كيف كان هذا القرآن فتح بصائر، وفتح عقول، وفتح ممالك، وفتح أدبٍ غَضٍّ ارتقى به الأدب العربي مرتقىً لم يبلغه أدبُ أمةٍ من قبل.(1/82)
وكنت أرى الباحثين ممن تقدمني يخلطون هذين الغرضين خلطاً، وربما أهملوا معظم الفن الثاني، وربما ألموا به إلماماً وخلطوه بقسم الإعجاز، وهو الذي يحق أن يكون البحث فيه من مقدمات علم التفسير، ولعلك تجد في هذه المقدمة أصولاً ونكتاً أغفلها من تقدموا ممن تكلموا في إعجاز القرآن مثل الباقلاني، والرماني، وعبد القاهر، والخطابي، وعياض، والسكاكي، فكونوا منها بالمرصاد، وافْلُوا عنها كما يفلي عن النار الرماد.
وإن علاقة هذه المقدمة بالتفسير: هي أن مفسر القرآن لا يعد تفسيره لمعاني القرآن بالغاً حد الكمال في غرضه ما لم يكن مشتملاً على بيان دقائق من وجوه البلاغة في آيه المفسرة بمقدار ما تسمو إليه الهمة من تطويل واختصار؛ فالمفسر بحاجة إلى بيان ما في آي القرآن من طرق الاستعمال العربي وخصائص بلاغته، وما فاقت به آي القرآن في ذلك حسبما أشرنا إليه في المقدمة الثانية؛ لئلا يكون المفسر حين يعرض عن ذلك بمنزلة المترجم لا بمنزلة المفسر. 1/101_102
3_ فمن أعجب ما نراه خلو معظم التفاسير عن الاهتمام بالوصول إلى هذا الغرض الأسمى إلا عيون التفاسير؛ فَمِنْ مقُلٍّ مثل معاني القرآن لأبي إسحاق الزجاج، والمحرر الوجيز للشيخ عبد الحق بن عطية الأندلسي، ومن مكثر مثل الكشاف، ولا يعذر في الخلو عن ذلك إلا التفاسير التي نحت ناحية خاصة من معاني القرآن مثل أحكام القرآن، على أن بعض أهل الهمم العلية من أصحاب هذه التفاسير لم يهمل هذا العِلْقَ النفيس كما يصف بعض العلماء كتاب أحكام القرآن لإسماعيل بن إسحاق بن حماد المالكي البغدادي، وكما نراه في مواضع من أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي. 1/102(1/83)
4_ واعلم أنه لا شك في أن خصوصياتِ الكلام البليغ، ودقائقَهُ مرادةٌ لله _تعالى_ في كون القرآن معجزاً، وملحوظة للمتحدَّيْن به على مقدار ما يبلغ إليه بيان المبين، وإن إشاراتٍ كثيرةً في القرآن تلفت الأذهان لذلك، ويحضرني الآن من ذلك أمور: أحدها: ما رواه مسلم، والأربعة عن أبي هريرة قال رسول الله": قال الله _تعالى_: =قسمت الصلاة _أي سورة الفاتحة_ بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله _تعالى_: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله _تعالى_ أثنى علي عبدي، وإذ قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إلي عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل+.
ففي هذا الحديث تنبيه على ما في نظم فاتحة الكتاب من خصوصية التقسيم؛ إذ قسَّم الفاتحة ثلاثةَ أقسامٍ، وحسنُ التقسيم من المحسنات البديعية مع ما تضمنه ذلك التقسيم من محسن التخلص في قوله: فإذا قال: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] قال: هذا بيني وبين عبدي؛ إذ كان ذلك مزيجاً من القسمين الذي قبله والذي بعده.
وفي القرآن مراعاة التجنيس في غير ما آية، والتجنيس من المحسنات، ومنه قوله _تعالى_: [وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ]. 1/108
5_ نرى من أفانين الكلام الالتفات: وهو نقل الكلام من أحد طرق التكلم، أو الخطاب أو الغيبة إلى طريق آخر منها.
وهو بمجرده معدود من الفصاحة، وسماه ابن جني شجاعة العربية؛ لأن ذلك التغيير يجدد نشاط السامع، فإذا انضم إليه اعتبار لطيف يناسب الانتقال إلى ما انتقل إليه صار من أفانين البلاغة.
وكان معدوداً عند بلغاء العرب من النفائس، وقد جاء منه في القرآن ما لا يحصى كثرة مع دقة المناسبة في الانتقال.(1/84)
وكان للتشبيه والاستعارة عند القوم المكان القصيّ، والقدر العَلِيّ في باب البلاغة، وبه فاق امرؤُ القيس، ونَبُهَتْ سمعته، وقد جاء في القرآن من التشبيه والاستعارة ما أعجز العرب كقوله: [وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً] وقوله: [وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ] وقوله: [وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ] وقوله _تعالى_: [ابْلَعِي مَاءَكِ] وقوله: [صِبْغَةَ اللَّهِ] إلى غير ذلك من وجوه البديع. 1/109
6_ ومما يجب التنبيه له أن مراعاة المقام في أن ينظم الكلام على خصوصيات بلاغية، هي مراعاة من مقومات بلاغة الكلام، وخاصة في إعجاز القرآن؛ فقد تشتمل آية من القرآن على خصوصيات تتساءل نفس المفسر عن دواعيها، وما يقتضيها؛ فيتصدى لِتَطَلُّب مقتضيات لها ربما جاء بها متكلفة، أو مغصوبة؛ ذلك لأنه لم يلتفت إلا إلى مواقع ألفاظ الآية، في حال أن مقتضياتها في الواقع منوطة بالمقامات التي نزلت فيها الآية. 1/111
7_ ومرجع هذا الصنف من الإعجاز إلى ما يسمى في عرف علماء البلاغة بالنكت البلاغية؛ فإن بلغاءهم كان تنافُسُهم في وفرة إيداع الكلام من هذه النكت، وبذلك تفاضل بلغاؤهم، فلما سمعوا القرآن انثالت على كل من سمعه من بلغائهم من النكت التي تَفَطَّن لها ما لم يجد من قدرته قِبَلاً بمثله.
وأحسب أن كل بليغ منهم قد فكر في الاستعانة بزملائه من أهل اللسان؛ فَعُلِمَ ألا مَبْلَغَ بهم إلى التظاهر على الإتيان بمثل القرآن فيما عهده كل واحد من ذوق زميله، هذا كله بحسب ما بلغت إليه قريحة كل واحد ممن سمع القرآن منهم من التفطن إلى نكت القرآن وخصائصه. 1/111_112(1/85)
8_ نرى من أعظم الأساليب التي خالف بها القرآن أساليب العرب أنه جاء في نظمه بأسلوب جامع بين مقصديه وهما: مقصد الموعظة، ومقصد التشريع؛ فكان نظمه يمنح بظاهره السامعين ما يحتاجون أن يعلموه، وهو في هذا النوع يُشْبِهُ خُطَبَهم، وكان في مطاوي معانيه ما يستخرج منه العالم الخبير أحكاماً كثيرة في التشريع والآداب وغيرها، وقد قال في الكلام على بعضه: [وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ] هذا من حيث ما لمعانيه من العموم، والإيماء إلى العلل، والمقاصد، وغيرها. 1/115_116
9_ ومن أساليبه، ما أسميه بالتفنن: وهو بداعة تنقلاته من فن إلى فن بطرائق الاعتراض، والتنظير، والتذييل، والإتيان بالمترادفات عند التكرير؛ تجنباً لثقل تكرير الكلم، وكذلك الإكثار من أسلوب الالتفات المعدود من أعظم أساليب التفنن عند بلغاء العربية؛ فهو في القرآن كثير، ثم الرجوع إلى المقصود؛ فيكون السامعون في نشاط متجدد بسماعه وإقبالهم عليه.
ومن أبدع أمثلة ذلك قوله: [مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]. 1/116(1/86)
10_ فجاء القرآن بأسلوب في الأدب غَضٍّ جديدٍ صالح لكل العقول، متفنن إلى أفانين أغراض الحياة كلها، معطٍ لكل فن ما يليق به من المعاني، والألفاظ، واللهجة: فتضمن المحاورةَ، والخَطابة، والجدل، والأمثال _أي الكلم الجوامع_ والقصص، والتوصيف، والرواية.
وكان لفصاحة ألفاظه، وتناسبها في تراكيبه، وترتيبه على ابتكار أسلوب الفواصل العجيبة المتماثلة في الأسماع، وإن لم تكن متماثلة الحروف في الأسجاع _ كان لذلك سريعَ العُلوق بالحوافظ، خفيفَ الانتقال والسير في القبائل، مع كون مادتِه ولُحْمَتِه هي الحقيقةَ دون المبالغات الكاذبة، والمفاخرات المزعومة؛ فكان بذلك له صولةُ الحق، وروعةٌ لسامعيه، وذلك تأثير روحاني، وليس بلفظي، ولا معنوي.
وقد رأيت المحسنات في البديع جاءت في القرآن أكثر مما جاءت في شعر العرب، وخاصة الجناس كقوله: [وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً].
والطباق كقوله: [كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ].
وقد ألَّفَ ابنُ أبي الإصبع كتاباً في بديع القرآن.
وصار _لمجيئه نثراً_ أدباً جديداً، غضاً، ومتناولاً لكل الطبقات.
وكان لبلاغته، وتناسقه نافذ الوصول إلى القلوب؛ حتى وصفوه بالسحر، وبالشعر [أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ]. 1/119
11_ مبتكرات القرآن: هذا وللقرآن مبتكرات تميز بها نظمه عن بقية كلام العرب.
فمنها أنه جاء على أسلوب يخالف الشعر لا محالة، وقد نبه عليه العلماء المتقدمون، وأنا أضم إلى ذلك أن أسلوبه يخالف أسلوب الخطابة بعض المخالفة، بل جاء بطريقة كتاب يُقصد حفظه وتلاوته، وذلك من وجوه إعجازه؛ إذ كان نظمه على طريقة مبتكرة ليس فيها اتباع لطرائقها القديمة في الكلام. 1/120(1/87)
12_ ومنها أن جاء على أسلوب التقسيم والتسوير: وهي سنة جديدة في الكلام العربي أدخل بها عليه طريقة التبويب والتصنيف، وقد أومأ إليها في الكشاف إيماءً. 1/120
13_ ومنها الأسلوب القصصي في حكاية أحوال النعيم، والعذاب في الآخرةِ، وفي تمثيل الأحوال، وقد كان لذلك تأثير عظيم على نفوس العرب؛ إذ كان فَنُّ القصص مفقوداً من أدب العربية إلا نادراً، كان في بعض الشعر كأبيات النابغة في الحية التي قتلت الرجل، وعاهدت أخاه وغدر بها.
فلما جاء القرآن بالأوصاف بُهِتَ به العرب كما في سورة الأعراف من وصف أهل الجنة، وأهل النار، وأهل الأعراف [وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ] الآية، وفي سورة الحديد [فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ] الآيات. 1/120
14_ ومن هذا القبيل حكاية الأسماء الواقعة في القصص؛ فإن القرآن يغيرها إلى ما يناسب حسن مواقعها في الكلام من الفصاحة، مثل تغيير شاول إلى طالوت، وتغيير اسم تارح أبي إبراهيم إلى آزر. 1/121
15_ ومن أبدع الأساليب في كلام العرب الإيجاز: وهو متنافسهم، وغاية تتبارى إليها فصحاؤهم، وقد جاء القرآن بأبدعه؛ إذ كان _مع ما فيه من الإيجاز المُبَيَّن في علم المعاني_ فيه إيجاز عظيم آخر وهو صَلُوْحِيَّةُ معظمِ آياته لأن تؤخذ منها معانٍ متعددةٌ كلُّها تصلح لها العبارة باحتمالات لا ينافيها اللفظ، فبعض تلك الاحتمالات مما يمكن اجتماعه، وبعضها وإن كان فرض واحد منه يمنع من فرض آخر فتحريك الأذهان إليه، وإخطاره بها يكفي في حصول المقصد من التذكير به للامتثال، أو الانتهاء، وقد أشرنا إلى هذا في المقدمة التاسعة. 1/121
16_ ومن بديع الإيجاز في القرآن وأكثره ما يسمى بالتضمين, وهو يرجع إلى إيجاز الحذف, والتضمين أن يضمَّن الفعلُ أو الوصفُ معنى فعلٍ أو وصفٍ آخر ويشار إلى المعنى المضمن بذكر ما هو من متعلقاته من حرف أو معمول فيحصل بالجملة معنيان. 1/123(1/88)
17_ عادات القرآن: يحق على المفسر أن يتعرف عادات القرآن من نظمه وكلمه، وقد تعرض بعض السلف لشيء منها، فعن ابن عباس: =كل كاس في القرآن فالمراد بها الخمر+ وذكر ذلك الطبري عن الضحاك _ أيضاً _.
وفي صحيح البخاري في تفسير سورة الأنفال قال ابن عيينة: ما سمى الله مطراً في القرآن إلا عذاباً، وتسميه العرب الغيث كما قال _تعالى_: [وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا].
وعن ابن عباس: أن كل ما جاء من (يا أيها الناس) فالمقصود به أهل مكة المشركون.
وقال الجاحظ في البيان: =وفي القرآن معان لا تكاد تفترق، مثل الصلاة والزكاة، والجوع والخوف، والجنة والنار، والرغبة والرهبة، والمهاجرين والأنصار، والجن والإنس+.
قلت: والنفع والضر، والسماء والأرض.
وذكر صاحب الكشاف، وفخر الدين الرازي أن من عادة القرآن أنه ما جاء بوعيد إلا أعقبه بوعد، وما جاء بنذارة إلا أعقبها ببشارة، ويكون ذلك بأسلوب الاستطراد، والاعتراض لمناسبة التضاد، ورأيت منه قليلاً في شعر العرب كقول لبيد:
فاقطعْ لُبانَة مَنْ تعرَّضَ وصلُه ... فلشرُّ واصِل خلَّة صَرَّامُها
وأحْبُ الُمجامِلَ بالجزيلِ وصرمُه ... باقٍ إذا ظلِعَتْ وزاغَ قِوامها
1/124_125
18_ وقد استقريت بجهدي عادات كثيرة في اصطلاح القرآن سأذكرها في مواضعها، ومنها أن كلمة (هؤلاء) إذا لم يرد بعدها عطف بيان يبين المشار إليهم فإنها يراد بها المشركون من أهل مكة كقوله _تعالى_: [بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ] وقوله: [فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ].
وقد استوعب أبو البقاء الكفوي في كتاب الكليات في أوائل أبوابه كليات مما ورد في القرآن من معاني الكلمات، وفي الإتقان للسيوطي شيء من ذلك.(1/89)
وقد استقريت أنا من أساليب القرآن أنه إذا حكى المحاورات والمجاوبات حكاها بلفظ =قال+ دون حروف عطف، إلا إذا انتقل من محاورة إلى أخرى، انظر قوله _تعالى_: [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] إلى قوله: [أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ]. 1/125
19_ إن العلم نوعان علم اصطلاحي، وعلم حقيقي، فأما الاصطلاحي فهو ما تواضع الناس في عصر من الأعصار على أن صاحبه يعد في صف العلماء، وهذا قد يتغير بتغير العصور، ويختلف باختلاف الأمم والأقطار، وهذا النوع لا تخلو عنه أمة.
وأما العلم الحقيقي فهو معرفةُ ما بمعرفته كمال الإنسان، وما به يبلغ إلى ذروة المعارف، وإدراك الحقائق النافعة عاجلاً وآجلاً، وكلا العِلْمين كمال إنساني، ووسيلة لسيادة أصحابه على أهل زمانهم، وبين العلمين عموم وخصوص من وجه، وهذه الجهة خلا عنها كلام فصحاء العرب؛ لأن أغراض شعرهم كانت لا تعدو وصف المشاهدات، والمتخيلات، والافتراضات المختلفة، ولا تحوم حول تقرير الحقائق، وفضائل الأخلاق التي هي أغراض القرآن، ولم يقل إلا صدقاً كما أشار إليه فخر الدين الرازي.(1/90)
وقد اشتمل القرآن على النوعين؛ فأما النوع الأول فتناوله قريب لا يحتاج إلى كَدِّ فِكْر، ولا يقتضي نظراً؛ فإن مبلغ العلم عندهم يومئذ علوم أهل الكتاب، ومعرفة الشرائع، والأحكام، وقصص الأنبياء والأمم، وأخبار العالم، وقد أشار إلى هذا القرآن بقوله: [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ] وقال: [تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا] ونحو هذا من محاجة أهل الكتاب. 1/126
20_ وأما النوع الثاني من إعجازه العلمي فهو ينقسم إلى قسمين: قسم يكفي لإدراكه فهمه وسمعه، وقسم يحتاج إدراك وجه إعجازه إلى العلم بقواعد العلوم؛ فينبلج للناس شيئاً فشيئاً انبلاج أضواء الفجر على حسب مبالغ الفهوم، وتطورات العلوم.
وكلا القسمين دليل على أنه من عند الله؛ لأنه جاء به أمي في موضع لم يعالج أهلُه دقائقَ العلومِ، والجائي به ثاوٍ بينهم لم يفارقهم. 1/127
1_ سورة الفاتحة من السور ذات الأسماء الكثيرة: أنهاها صاحب الإتقان إلى نيف وعشرين بين ألقاب وصفات جرت على ألسنة القراء من عهد السلف.
ولم يثبت في السنة الصحيحة والمأثور من أسمائها إلا فاتحة الكتاب، والسبع المثاني، وأم القرآن، أو أم الكتاب؛ فلنقتصر على بيان هذه الأسماء الثلاثة. 1/131(1/91)
2_ وقد ذكروا لتسمية الفاتحة أم القرآن وجوهاً ثلاثة: أحدها: أنها مبدوة ومفتتحة؛ فكأنها أصلُه ومنشؤه؛ يعني أن افتتاحه الذي هو وجود أول أجزاء القرآن قد ظهر فيها؛ فجعلت كالأم للولد في أنها الأصل والمنشأ؛ فيكون أم القرآن تشبيهاً بالأم التي هي منشأ الولد؛ لمشابهتها بالمنشأ من حيث ابتداء الظهور والوجود.
الثاني: أنها تشتمل محتوياتها على أنواع مقاصد القرآن، وهي ثلاثة أنواع: الثناء على الله ثناءً جامعاً لوصفه بجميع المحامد، وتنزيهه من جميع النقائص، ولإثبات تفرده بالإلهية، وإثبات البعث والجزاء، وذلك من قوله: [الْحَمْدُ لِلَّهِ] إلى قوله: [مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ] والأوامر والنواهي من قوله: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ] والوعد والوعيد من قوله: [صِرَاطَ الَّذِينَ] إلى آخرها؛ فهذه هي أنواع مقاصد القرآن كله، وغيرها تكملات لها؛ لأن القصدَ من القرآن إبلاغُ مقاصدِه الأصلية وهي صلاح الدارين، وذلك يحصل بالأوامر والنواهي، ولما توقفت الأوامر والنواهي على معرفة الآمر، وأنه الله الواجب وجوده خالق الخلق لزم تحقيق معنى الصفات، ولما توقف تمام الامتثال على الرجاء في الثواب، والخوف من العقاب لزم تحقق الوعد والوعيد.
والفاتحة مشتملة على هاته الأنواع؛ فإن قوله: [الْحَمْدُ لِلَّهِ] إلى قوله: [يَوْمِ الدِّينِ] حمد وثناء، وقوله: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ] إلى قوله: [الْمُسْتَقِيمَ] من نوع الأوامر والنواهي، وقوله: [صِرَاطَ الَّذِينَ] إلى آخرها من نوع الوعد والوعيد مع أن ذكر المغضوب عليهم، والضالين يشير _أيضاً_ إلى نوع قصص القرآن، وقد يؤيد هذا الوجه بما ورد في الصحيح في [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] أنها تعدل ثلث القرآن لأن ألفاظها كلها ثناء على الله _تعالى_.(1/92)
الثالث: أنها تشتمل معانيها على جملة معاني القرآن من الحكم النظرية، والأحكام العملية؛ فإن معاني القرآن، إما علوم تُقْصَدُ معرفتها، وإما أحكام يقصد منها العمل بها؛ فالعلوم كالتوحيد، والصفات، والنبوءات، والمواعظ، والأمثال، والحكم، والقصص، والأحكام إما عمل الجوارح وهو العبادات والمعاملات، وإما عمل القلوب أي العقول وهو تهذيب الأخلاق وآداب الشريعة، وكلها تشتمل عليها معاني الفاتحة بدلالة المطابقة، أو التضمن، أو الالتزام. 1/133_134
3_ وهذه السورة وضعت في أول السور؛ لأنها تنزل منها منزل ديباجة الخطبة أو الكتاب، مع ما تضمنته من أصول مقاصد القرآن _كما علمت آنفاً_ وذلك شأن الديباجة من براعة الاستهلال.
وهذه السورة مكية باتفاق الجمهور، وقال كثير: إنها أول سورة نزلت، والصحيح أنه نزل قبلها [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ] وسورة المدثر، ثم الفاتحة.
وقيل نزل قبلها _أيضاً_ [ن وَالْقَلَمِ] وسورة المزمل.
وقال بعضهم: هي أول سورة نزلت كاملة أي غير منجمة، بخلاف سورة القلم.
وقد حقق بعض العلماء أنها نزلت عند فرض الصلاة؛ فقرأ المسلمون بها في الصلاة عند فرضها، وقد عدت في رواية عن جابر بن زيد السورة الخامسة في ترتيب نزول السور.
وأيا ما كان فإنها قد سماها النبي " فاتحة الكتاب، وأمر بأن تكون أول القرآن.
قلت: ولا يناكد ذلك نزولها بعد سور أخرى؛ لمصلحة اقتضت سبقها قبل أن يَتَجمَّع من القرآن مقدارُ يصير به كتاباً، فحين تجمَّع ذلك أنزلت الفاتحة؛ لتكون ديباجة الكتاب. 1/135_136
4_ البسملة اسم لكلمة باسم الله، صيغ هذا الاسم على مادة مؤلفة من حروف الكلمتين (باسم) و(الله) على طريقة تسمى النحت(1)
__________
(1) _ النحت في اصطلاح علماء فقه اللغة: أن يُؤخذ من كلمتين فأكثر كلمة واحدة.
أو هو: استخراج كلمة واحدة من كلمتين فأكثر.
وله تفصيلات ليس هذا محلَّها. (م)(1/93)
وهو صوغُ فعل مُضِيٍّ على زنة فَعْلَلَ مؤلفة مادته من حروف جملة، أو حروف مركب إضافي، مما ينطق به الناس اختصاراً عن ذكر الجملة كلها؛ لقصد التخفيف؛ لكثرة دوران ذلك على الألسنة.
وقد استعمل العرب النحت في النسب إلى الجملة أو المركب إذا كان في النسب إلى صدر ذلك أو إلى عجزه التباس، كما قالوا في النسبة إلى عبد شمس: عَبْشَمِيّ؛ خشية الالتباس بالنسب إلى عبدٍ أو إلى شمس، وفي النسبة إلى عبدالدار: عَبْدَرِيّ كذلك، وإلى حضرموت: حضرمي. 1/137
5_ وقد رسم أسلوب الفاتحة للمنشئين ثلاث قواعد للمقدمة: القاعدة الأولى: إيجاز المقدمة؛ لئلا تمل نفوس السامعين بطول انتظار المقصود، وهو ظاهر في الفاتحة، وليكون سنة للخطباء؛ فلا يطيلوا المقدمة؛ كي لا ينسبوا إلى العي؛ فإنه بمقدار ما تطال المقدمة يقصر الغرض، ومن هذا يظهر وجه وضعها قبل السور الطوال مع أنها سورة قصيرة.
الثانية: أن تشير إلى الغرض المقصود، وهو ما يسمى براعة الاستهلال؛ لأن ذلك يهيئ السامعين؛ لسماع تفصيل ما سيرد عليهم؛ فيتأهبوا لتلقيه إن كانوا من أهل التلقي فحسب، أو لنقده وإكماله إن كانوا في تلك الدرجة، ولأن ذلك يدل على تمكن الخطيب من الغرض، وثقته بسداد رأيه فيه بحيث ينبه السامعين لوعيه، وفيه سنة للخطباء؛ ليحيطوا بأغراض كلامهم.
وقد تقدم بيان اشتمال الفاتحة على هذا عند الكلام على وجه تسميتها أم القرآن.
الثالثة: أن تكون المقدمة من جوامع الكلم، وقد بين ذلك علماء البيان عند ذكرهم المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها.
الرابع: أن تفتتح بحمد الله. 1/153 (1)
__________
(1) _ يُلاحظ أن المؤلف × قال في بداية الفقرة: =وقد رسم أسلوب الفاتحة للمنشئين ثلاث قواعد للمقدمة ...+ ثم ذكر الرابع. (م)(1/94)
6_ فالفاتحةُ تضمَّنت مناجاةً للخالق جامعةً التنزهَ عن التعطيلِ، والإلحاد، والدّهرية بما تضمنه قولُه: [مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ] وعن الإشراك بما تضمّنه [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] وعن المكابرةِ والعناد بما تضمنه [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ].
فإنَّ طلبَ الهدايةِ اعترافٌ بالاحتياج إلى العلم، وَوَصْفَ الصراطِ بالمستقيم اعترافٌ بأن من العلم ما هو حقٌّ، ومنه ما هو مشوبٌ بِشُبَهٍ وغَلَط.
ومَنِ اعترَفَ بهذين الأمرين فَقَدْ أعدَّ نفسَه لاتِّباع أَحْسَنِهما، وعن الضلالات التي تعتري العلومَ الصحيحةَ، والشرائعَ الحقةَ؛ فتذهبُ بفائدتها، وتُنْزِلُ صاحبها إلى دركةٍ أقلَّ مما وقفَ عنده الجاهلُ البسيطُ، وذلك بما تضمَّنه قولُه: [غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ] كما أجملناه قريباً.
ولأجل هذا سُمِّيَتْ هاتِه السورةُ أمَّ القرآن _كما تقدم_.
ولما لُقِّن المؤمنون هاتِهِ المناجاةَ البديعةَ التي لا يهتدي إلى الإحاطة بها في كلامه غيرُ علامِ الغيوب _سبحانه_ قُدَّم الحمدُ عليها؛ ليضَعَه المناجون كذلك في مناجاتهم جرياً على طريقة بلغاء العرب عند مخاطبة العظماء أن يفتتحوا خطابهم إياهم، وَطِلْبَتَهم بالثناء، والذكرِ الجميل.
قال أميةُ بنُ أبي الصلتِ يمدحُ عبدَ اللهِ بنَ جُدْعان:
أَأَذْكُرُ حاجتي أم قَدْ كَفاني ... حياؤك إن شيمتَك الحياءُ
إذا أثنى عليك المرءُ يوماً ... كفَاه عن تعرُّضه الثناءُ
فكان افتتاحُ الكلامِ بالتحميد سُنَّةَ الكتابِ المجيد، لكل بليغ مُجيد. 1/153_154(1/95)
7_ واعلم أن الغضب عند حكماء الأخلاق مبدأ من مجموع الأخلاق الثلاثة الأصلية التي يعبر عن جميعها بالعدالة وهي: الحكمة، والعفة، والشجاعة، فالغضب مبدأ الشجاعة إلا أن الغضب يعبر به عن مبدأ نفساني لأخلاق كثيرة متطرفة، ومعتدلة، فيلقبون بالقوة الغضبية ما في الإنسان من صفات السبعية، وهي حب الغلبة، ومن فوائدها دفع ما يضره، ولها حد اعتدال، وحد انحراف؛ فاعتدالها الشجاعة، وكبر الهمة، وثبات القلب في المخاوف.
وانحرافها إما بالزيادة فهي التهور، وشدة الغضب من شيء قليل، والكبر، والعجب، والشراسة، والحقد، والحسد، والقساوة، أو بالنقصان فالجبن، وخور النفس، وصغر الهمة؛ فإذا أطلق الغضب لُغَةً انصرف إلى بعض انحراف الغضبية، ولذلك كان من جوامع كلم النبي"أن رجلاً قال له أوصني قال: =لا تغضب+ فكر مراراً، فقال: =لا تغضب+ رواه الترمذي.
وسئل بعض ملوك الفرس: بم دام ملككم? فقال: =لأنا نعاقب على قَدْرِ الذنب لا على قَدْرِ الغضب+.
فالغضب المنهي عنه: هو الغضب للنفس؛ لأنه يصدر عنه الظلم والعدوان.
ومن الغضب محمودٌ: وهو الغضب لحماية المصالح العامة، وخصوصاً الدينية وقد ورد أن النبي كان لا يغضب لنفسه، فإذا انتهكت حرمة من حرمات الله غضب لله. 1/198
1_ كذا سميت هذه السورة سورة البقرة في المروي عن النبي"وما جرى في كلام السلف، فقد ورد في الصحيح أن النبي"قال: =من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه+.
وفيه عن عائشة لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا، قرأهن رسول الله، ثم قام فحرم التجارة في الخمر.
ووجه تسميتها أنها ذكرت فيها قصة البقرة التي أمر الله بني إسرائيل بذبحها؛ لتكون آية ووصف سوء فهمهم لذلك، وهي مما انفردت به هذه السورة بذكره، وعندي أنها أضيفت إلى قصة البقرة؛ تمييزاً لها عن السور آل، آلم، من الحروف المقطعة؛ لأنهم كانوا ربما جعلوا تلك الحروف المقطعة أسماء للسور الواقعة هي فيها، وعرفوها بها نحو: طه، ويس، وص.(1/96)
وفي الاتفاق(1) عن المستدرك أن النبي"قال: = إنها سنام القرآن+.
وسنامُ كلِّ شيءٍ أعلاه، وهذا ليس عَلَماً لها، ولكنه وصف تشريف، وكذلك قول خالد بن معدان: إنها فسطاط القرآن، والفسطاط ما يحيط بالمكان؛ لإحاطتها بأحكام كثيرة. 1/201
2_ نزلت سورة البقرة بالمدينة بالاتفاق، وهي أول ما نزل في المدينة، وحكى ابن حجر في شرح البخاري الاتفاق عليه، وقيل: نزلت سورة المطففين قبلها بناء على أن سورة المطففين مدنية.
ولا شك أن سورة البقرة فيها فرض الصيامِ، والصيامُ فُرِض في السنة الأولى من الهجرة، فرض فيها صوم عاشوراء، ثم فرض صيام رمضان في السنة الثانية؛ لأن النبي"صام سبع رمضانات، أولها رمضان من العام الثاني من الهجرة؛ فتكون سورة البقرة نزلت في السنة الأولى من الهجرة في أواخرها، أو في الثانية.
وفي البخاري عن عائشة: =ما نزلت سورة البقرة إلا وأنا عنده+.
تعني النبي"وكان بناء رسول الله على عائشة في شوال من السنة الأولى للهجرة.
وقيل: في أول السنة الثانية، وقد رُوِيَ عنها أنها مكثت عنده تسع سنين، فتوفي وهي بنت ثمان عشرة سنة، وبنى بها وهي بنت تسع سنين، إلا أن اشتمال سورة البقرة على أحكام الحج والعمرة، وعلى أحكام القتال من المشركين في الشهر الحرام، والبلد الحرام، ينبئ بأنها استمر نزولها إلى سنة خمس، وسنة ست كما سنبينه عند آية [فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ].
وقد يكون ممتداً إلى ما بعد سنة ثمان، كما يقتضيه قوله: [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ] الآيات إلى قوله: [لِمَنْ اتَّقَى].
على أنه قد قيل: إن قوله: [وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ] الآية هو آخر ما نزل من القرآن، وقد بينا في المقدمة الثامنة، أنه قد يستمر نزول السورة؛ فتنزل في أثناء مدة نزولها سور أخرى.
__________
(1) _ هكذا في الأصل: ولعل الصواب: الإتقان. (م)(1/97)
وقد عدت سورة البقرة السابعة والثمانين في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة المطففين، وقبل آل عمران. 1/201_202
3_ وعدد آيها مائتان وخمس وثمانون آية عند أهل العدد بالمدينة، ومكة، والشام، وست وثمانون عند أهل العدد بالكوفة، وسبع وثمانون عند أهل العدد بالبصرة. 1/202
4_ محتوياتُ هذه السورة: هذه السورةُ متراميةٌ أطرافُها، وأساليبُها ذاتُ أفنانٍ، قد جمعت من وشائجِ أغراض السور ما كان مصداقاً لتلقيبها فُسطاطَ القرآنِ؛ فلا تستطيعُ إحصاءَ محتوياتِها بِحُسْبان، وعلى الناظر أن يترقَّب تفاصيلَ منها فيما يأتي لنا من تفسيرها، ولكن هذا لا يحجم بنا عن التعرض إلى لائحات منها.
وقد حِيْكَتْ بنسج المناسبات، والاعتبارات البلاغية من لُحْمةٍ مُحْكَمَةٍ في نظم الكلام، وسُدَىً(1) متينٍ من فصاحة الكلمات.
ومعظمُ أغراضها ينقسم إلى قسمين: قسمٍ يُثْبِتُ سموَّ هذا الدين على ما سبقه، وعلوَّ هَدْيِهِ، وأصولَ تطهيره النفوسَ.
وقسمٍ يُبَيِّن شرائعَ هذا الدين لأتباعه، وإصلاح مجتمعهم.
وكان أسلوبُها أحسنَ ما يأتي عليه أسلوبٌ جامعٌ لمحاسنِ الأساليبِ الخطابيةِ، وأساليبِ الكتبِ التشريعيةِ، وأساليبِ التذكيرِ والموعظةِ، يتجدد بمثله نشاطُ السامعين بتفنن الأفانين.
__________
(1) _ اللُّحمة والسَّدى: يطلقان على عدة أمور، ومنها قولهم: لحمة الثوب وسداه، فاللحمة أعلاه، والسَّدى أسفله. انظر لسان العرب 12/538، و14/374. (م)(1/98)
ويحضر لنا من أغراضها أنها ابتدئت بالرمز إلى تحدي العرب المعاندين تحدياً إجمالياً بحروف التَّهَجِّي المفتتح بها رمزاً يقتضي استشرافَهم لِما يَرِدُ بَعْدَه، وانتظارَهم لبيان مَقْصِدِه؛ فَأَعْقَبَ بالتنويه بشأن القرآن؛ فَتَحَوُّلُ الرمزِ إيماءً إلى بعض المقصود من ذلك الرمز له أشدُّ وقعاً على نفوسهم؛ فَتَبْقَى في انتظار ما يَتَعَقَّبُه من صريح التعجيز الذي سيأتي بعد قوله: [وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ] الآيات.
فعدَل بهم إلى ذاتِ جهة التنويه بفائق صدق هذا الكتاب وهديه، وتخلَّص إلى تصنيف الناس تجاهَ تلَقِّيهم هذا الكتاب، وانتفاعهم بهديه أصنافاً أربعة، وكانوا قبل الهجرة صنفين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك التلقي.
وإذ قد كان أخصُّ الأصناف انتفاعاً بهديه هم المؤمنين بالغيب المقيمين الصلاة؛ يعني المسلمين _ ابتُدئ بذكرهم.
ولمَّا كان أشدَّ الأصناف عناداً وحقداً صِنْفا المشركين الصرحاء، والمنافقين _ لُفَّ الفريقان لَفَّاً واحداً؛ فَقُورعوا بالحجج الدامغة، والبراهين الساطعة.
ثم خصَّ بالإطناب صِنْفَ أهلِ النفاق؛ تشويهاً لنفاقهم، وإعلاناً لدخائلهم، ورد مطاعنهم.
ثم كان خاتمةُ ما قُرِعَتْ به أنوفُهم صريحَ التحدي الذي رمز إليه بدءاً تحدياً يلجئهم إلى الاستكانة، ويُخْرِسُ ألسنتَهم عن التطاول والإبانة، ويُلْقي في قرارات أنفسهم مذلةَ الهزيمة، وصدقَ الرسول الذي تحداهم؛ فكان ذلك من رد العجز على الصدر(1)
__________
(1) _ رد العجز على الصدر هو أحد فنون البديع من علم البلاغة وهو جعل أحد اللفظين المكررين، أو المتجانسين، أو ملحقين بهما اشتقاقاً، أو شبه اشتقاق في أول الفقرة والآخر في صدرها.
فالمكرران نحو: [وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ] والمتجانسان نحو: [اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً]. (م)(1/99)
فاتسع المجالُ لدعوة المُنصِفين إلى عبادة الرب الحق الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض، وأنعم عليهم بما في الأرض جميعاً، وتَخَلَّص إلى صفة بدء خلق الإنسان؛ فإن في ذلك تذكيراً لهم بالخلق الأول قبل أن توجد أصنامُهم التي يزعمونها من صالحي قوم نوح، ومَنْ بعدهم، ومِنَّةً على النوع بتفضيل أصلِهم على مخلوقات هذا العالم، وبمزيته بِعِلْمِ ما لم يَعْلَمْهُ أهلُ الملأ الأعلى، وكيف نشأت عداوةُ الشيطان له ولنسله؛ لتهيئة نفوس السامعين لاتهام شهواتها، ولمحاسبتها على دعواتها؛ فهذه المنَّةُ التي شملت كلَّ الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها كانت مناسبةً للتخلص إلى مِنَّة عظمى تخص الفريق الرابع، وهم أهل الكتاب الذين هم أشدُّ الناس مقاومة لهدى القرآن، وأَنْفَذُ الفرقِ قولاً في عامة العرب؛ لأن أهلَ الكتاب يومئذ هم أهلُ العلم، ومظنةُ اقتداءِ العامة لهم من قوله: [يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي] الآيات، فأطنب في تذكيرهم بنعم الله، وأيامه لهم، ووصف ما لاقوا به نِعَمَهُ الجمةَ من الانحراف عن الصراط السوي انحرافاً بلغ بهم حد الكفر، وذلك جامع لخلاصة تكوين أمةِ إسرائيل، وجامعتِهم في عهد موسى، ثم ما كان من أهم أحداثهم مع الأنبياء الذين قَفَوا موسى إلى أن تلقوا دعوة الإسلام بالحسد والعداوة؛ حتى على المَلَكِ جبريلَ، وبيان أخطائهم؛ لأن ذلك يلقي في النفوس شكاً في تأهلهم للاقتداء بهم، وذَكَر من ذلك نموذجاً من أخلاقهم من تعلق الحياة [وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ] ومحاولة العمل بالسحر [وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ] الخ، وأذى النبي بموجَّه الكلام: [لا تَقُولُوا رَاعِنَا].(1/100)
ثم قُرِنَ اليهودُ والنصارى والمشركون في قَرن حسدهم المسلمين، والسخط على الشريعة الجديدة [مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ] إلى قوله: [وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ] ثم ما أثير من الخلاف بين اليهود والنصارى، وادعاء كل فريق أنه هو المحق [وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ] إلى [يَخْتَلِفُونَ].
ثم خُص المشركون بأنهم أظلم هؤلاء الأصناف الثلاثة؛ لأنهم منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام، وسعوا بذلك في خرابه، وأنهم تشابهوا في ذلك هم واليهود والنصارى، واتحدوا في كراهية الإسلام.
وانتقل بهذه المناسبة إلى فضائل المسجد الحرام، وبانيه، ودعوتِه لذريته بالهدى، والاحترازِ عن إجابتها في الذين كفروا منهم، وأن الإسلام على أساس ملة إبراهيم وهو التوحيد، وأن اليهودية والنصرانية ليستا ملة إبراهيم، وأن من ذلك الرجوعَ إلى استقبال الكعبةِ ادخره الله للمسلمين آية على أن الإسلام هو القائم على أساس الحنيفية، وذَكَرَ شعائر الله بمكة، وإبكاتَ أهل الكتاب في طعنهم على تحويل القبلة، وأن العناية بتزكية النفوس أجدر من العناية باستقبال الجهات [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ].
وذُكِّروا بنسخ الشرائع؛ لصلاح الأمم، وأنه لا بدع في نسخ شريعة التوراة، أو الإنجيل بما هو خير منهما.
ثم عاد إلى محاجة المشركين بالاستدلال بآثار صنعة الله [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ] إلخ، ومحاجة المشركين في يوم يتبرأون فيه من قادتهم، وإبطال مزاعم دين الفريقين في محرمات من الأكل [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ].(1/101)
وقد كَمَّل ذلك بذكر صنفٍ من الناس قليلٍ وهم المشركون الذين لم يظهروا الإسلام، ولكنهم أظهروا مودة المسلمين [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا].
ولما قَضَى حق ذلك كله بأبدع بيان، وأوضح برهان انتقل إلى قسم تشريعات الإسلام إجمالاً بقوله: [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ] ثم تفصيلاً: القصاصُ، الوصيةُ، الصيامُ، الاعتكافُ، الحجُ، الجهادُ، ونظامُ المعاشرة والعائلة، والمعاملاتُ المالية، والإنفاقُ في سبيل الله، والصدقاتُ، والمسكراتُ، واليتامى، والمواريثُ، والبيوعُ، والربا، والديونُ، والإشهادُ، والرهنُ، والنكاحُ، وأحكامُ النساء، والعدةُ، والطلاقُ، والرضاعُ، والنفقاتُ، والأيمانُ.
وخُتِمَتِ السورةُ بالدعاء المتضمن لخصائص الشريعة الإسلامية، وذلك من جوامع الكلم؛ فكان هذا الختام تذييلاً(1) وفذلكة(2) [
__________
(1) _ التذييل: هو أحد ضروب الإطناب، والإطناب أحد أبواب القسم الأول من أقسام علم البلاغة، وهو علم المعاني.
والتذييل: هو الإتيان بجملة مستقلة عقب الجملة الأولى التي تشتمل على معناها للتأكيد.
وتحت التذييل أضرب وتقسيمات.
وقد أكثر ابن عاشور في تفسيره من إيراد التذييل؛ لما له من الأهمية، والشرف.
قال أبو هلال العسكري ×: =وللتذييل في الكلام موقع جليل، ومكان شريف خطير؛ لأن المعنى يزداد به انشراحاً، والمقصد انفتاحاً+. كتاب الصناعتين ص313
وقال: =فأما التذييل فهو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى بعينه؛ حتى يظهر لمن لم يفهمه، ويتوكد عند من فهمه+. كتاب الصناعتين ص313 (م)
(2) _ الفَذْلَكَة: كلمة محدثة، ومعناها: مجمل ما فصِّل وخلاصته.
ومنه: فَذْلَكَ الحساب: أي أنهاه، وفرغ منه.
وهي منحوتة من قوله: فذلك كذا وكذا: إذا أجمل حسابه. انظر المعجم الوسيط 2/678. (م)(1/102)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ] الآيات.
وكانت في خلال ذلك كله أغراضٌ شتى سبقت في معرض الاستطراد في متفرق المناسبات؛ تجديداً لنشاط القارئ والسامع كما يسفر وجهُ الشمسِ إثرَ نزولِ الغيوثِ الهوامع، وتَخْرُج بوادِرُ الزَّهرِ عَقِبَ الرُّعودِ القوارع، من تمجيد الله وصفاته [اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ] ورحمتِه وسماحةِ الإسلام، وضربِ أمثال [أَوْ كَصَيِّبٍ] واستحضارِ نظائر [وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ] [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ] وعلمٍ وحكمةٍ، ومعانيْ الإيمانِ والإسلامِ، وتثبيتِ المسلمين [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ] والكمالاتِ الأصليةِ، والمزايا التحسينيةِ، وأخذِ الأعمال والمعاني من حقائقها وفوائدها لا من هيئاتها، وعدمِ الاعتداد بالمصطلحات إذا لم تَرْمِ إلى غايات [وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا] [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ]، [وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ] والنظرِ والاستدلالِ، ونظامِ المحاجَّةِ، وأخبارِ الأمم الماضية، والرسلِ وتفاضلِهم، واختلافِ الشرائع. 1/203_206
5_ [ألم (1) ]:
تحير المفسرون في محلِّ هاتِهِ الحروفِ الواقعة في أول هاته السور، وفي فواتح سورٍ أخرى عدة، جميعها تسع وعشرون سورة، ومعظمها في السور المكية، وكان بعضها في ثاني سورة نزلت وهي [ن وَالْقَلَمِ].
وأَخْلِقْ بها أن تكون مثار حيرة، ومصدر أقوال متعددة، وأبحاث كثيرة.(1/103)
ومجموع ما وقع من حروف الهجاء أوائل السور أربعة عشر حرفاً، وهي نصف حروف الهجاء، وأكثر السور التي وقعت فيها هذه الحروف: السور المكية عدا البقرة وآل عمران، والحروف الواقعة في السور هي ا، ح، ر، س، ص، ط، ع، ق، ك، ل، م، ن، هـ، ي، بعضها تكرر في سور، وبعضها لم يتكرر، وهي من القرآن لا محالة، ومن المتشابه في تأويلها. 1/206
6_ والذي يستخلص من أقوال العلماء بعد حذف متداخله، وتوحيد متشاكله يؤول إلى واحد وعشرين قولاً، ولشدة خفاء المراد من هذه الحروف لم أَرَ بُدَّاً من استقصاء الأقوال على أننا نضبط انتشارها بتنويعها إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: يرجع إلى أنها رموز اقْتُضِبَتْ مِنْ كلم أو جمل، فكانت أسراراً يفتح غَلْقَها مفاتيحُ أهل المعرفة، ويندرج تحت هذا النوع ثمانية أقوال: الأول: أنها علم استأثر الله _تعالى_ به، ونسب هذا إلى الخلفاء الأربعة في روايات ضعيفة، ولعلهم يثبتون إطْلاع اللهِ على المقصودِ منها رسولَه" وقاله الشعبي وسفيان.
والثاني: أنها حروف مقتضبة من أسماء وصفات لله _تعالى_ المفتتحة بحروف مماثلة لهذه الحروف المقطعة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقاله محمد ابن القرظي، أو الربيع بن أنس؛ فـ[الم] مثلاً: الألف إشارة إلى أحد أو أول أو أزلي، واللام إلى لطيف، والميم إلى ملك أو مجيد ونحو ذلك، وعلى هذا يُحْتَاج في بيانها إلى توقيف وأنى لهم به.
الثالث: أنها رموز لأسماء الله _تعالى_ وأسماء الرسول _عليه السلام_ والملائكة فـ[الم] مثلاً: الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد، قاله الضحاك، ولا بد من توقيف في كل فاتحة منها، ولعلنا سننبه على ذلك في مواضعه.(1/104)
الرابع: جزم الشيخ محيي الدين في الباب الثامن والتسعين والمائة في الفصل 27 منه من كتابه الفتوحات: أن هاته الحروف المقطعة في أوائل السور أسماء للملائكة، وأنها إذا تليت كانت كالنداء لملائكتها؛ فتصغي أصحاب تلك الأسماء إلى ما يقوله التالي بعد النطق بها، فيقولون: صدقت إن كان ما بعدها خبر، ويقولون: هذا مؤمن حقاً نطق حقاً، وأخبر بحق فيستغفرون له، وهذا لم يقله غيره وهو دعوى.
الخامس: أنها رموز كلها لأسماء النبي"وأوصافه خاصة، قاله الشيخ محمد ابن صالح المعروف بابن ملوكة التونسي(1) في رسالة له، قال: إن كل حرف من حروف الهجاء في فواتح السور مكنى به عن طائفة من أسمائه الكريمة، وأوصافه الخاصة، فالألف مكنى به عن جملة أسمائه المفتتحة بالألف كأحمد وأبي القاسم، واللام مُكَنَّى به عن صفاته مثل لب الوجود، والميم مكنى به عن محمد ونحوه مثل مبشر ومنذر، فكلها منادى بحرف نداء مقدر بدليل ظهور ذلك الحرف في يس، ولم يعز هذا القول إلى أحد، وعلق على هذه الرسالة تلميذه شيخ الإسلام محمد معاوية تعليقة أكثر فيها من التعداد، وليست مما ينثلج لمباحثه الفؤاد، وهي وأصلها موجودة بخزنة جامع الزيتونة بتونس عدد 514 ويرد هذا القول التزام حذف حرف النداء، وما قاله من ظهوره في يس مبني على قول من قال: إن يس بمعنى يا سيد وهو ضعيف؛ لأن الياء فيه حرف من حروف الهجاء، ولأن الشيخ نفسه عد يس بعد ذلك من الحروف الدالة على الأسماء مدلولاً لنحو الياء من [كهيعص].
__________
(1) _ كان من الزهاد والمربين، درس علوماً كثيرة، وخاصة الفرائض والحساب، وله شرحان على الدرة البيضاء توفي في تونس.(1/105)
القول السادس: أنها رموز لمدة دوام هذه الأمة بحساب الجمل(1)
__________
(1) _ حساب الجُمَّل بضم الجيم وتشديد الميم المفتوحة هو جعل أعداد لكل حرف من حروف المعجم من آحاد وعشرات ومئات وألف واحد, فإذا أريد خط رقم حسابي وُضِع الحرف عوضاً عن الرقم وقد كان هذا الاصطلاح قديماً ووسمت به عدة أناشيد من كتاب داود، واشتهر ترقيم التاريخ به عند الرومان ولعله نقل إلى العرب منهم أو من اليهود. انتهى كلام ابن عاشور.
ومما يزيد حساب الجمَّل وضوحاً أن يقال:
هذا النوع من الحساب يسمى بـ: (التاريخ الشعري) أو (حساب الجُمَّل) أما طريقة حسابه فتعتمد على ترتيب حروف الهجاء الترتيب الأبجدي لا الترتيب الألفبائي الذي نستخدمه، والترتيب الأبجدي كما يلي: أبجد، هوز، حُطي، كَلَمُن، سعفص، قرشت، ثخذ، ضظغ.
وكل حرف من هذه الحروف له قيمة عددية وهي كالتالي:
آحاد ... عشرات ... مئات
أ=1 ... ي=10 ... ق=100
ب=2 ... ك=20 ... ر=200
ج=3 ... ل=30 ... ش=300
د=4 ... م=40 ... ت=400
هـ=5 ... ن=50 ... ث=500
و=6 ... س=60 ... خ=600
ز=7 ... ع=70 ... ذ=700
ح=8 ... ف=80 ... ض=800
ط=9 ... ص=90 ... ظ=900
غ=1000
وقد اشترط أصحاب هذا الفن عدة شروط لضبطه وحسن استخدامه منها:
أن يتقدم على ألفاظه كلمة أرّخ أو أرّخوا، أو ما يدل على التاريخ، وإذا تصرف الشاعر في تقديم أو تأخير أو زيادة بعد لفظة (التاريخ) أشار إلى ذلك؛ لئلا يستغلق على القارئ.
ومن شروطه ألا يكون التاريخ في بيتين، بل في بيت واحد، ويستحسن أن يكون في عجز البيت لا في صدره.
ومن الأمثلة على ذلك قول ابن المبلط يؤرخ جلوس السلطان سليم الثاني سنة 974 هـ:
ودولة ملك قلت فيها مؤرخاً ... بعز وتأييد ونصر وسلطان
تولى مليك العصر وابن مليكه ... =سليم تولى الملك بعد سليمان+
ولو حسبنا جمل قوله: =سليم تولى الملك بعد سليمان+ لوجدناه يساوي =974+ وهو تاريخ جلوسه على العرش.
= ومن شروطه أن تحسب الحروف على صورتها الكتابية لا حسب لفظها، فألف (فتى) تحسب ياءً، وتاء (التأنيث المنقطة) تحسب تاءً، و(غير المنقطة) تحسب هاءً، والحرف (المشدد) يحسب واحداً، و(الهمزة الواقعة على السطر) لا تحسب شيئاً كما أن (ألف الإطلاق) تعد ألفاً.
وبعض الشعراء يتفنن في هذا تفنُّنَاً ويأتي بما يشبه المعجزات، ومن ذلك أن بعضهم أرَّخ عُرساً جَرى بحلب، فجعلَ جُمّل الحروف المهملة في البيت الأخير تاريخ العرس، وهو سنة 1130هـ، وجعل الحروف المعجمة في البيت ذاتِه التاريخَ نفسَه، وأضاف إلى ذلك ذكر التاريخ صراحة، والأبيات هي:
أيها الكامل يا من أخبرت ... في علاه فئة بعد فئه
خذ تواريخاً ثلاثاً جمعت ... لك في مفرد بيت منبئه
بصريح وحروف أعجمت ... وحروف أهملت مختبئه
عم حول وسرور العرس وهـ ... وثلاثون وألف ومئه
ونظم البهلول بيتين جعل التاريخ في كل شطر، بل جعل التاريخ مكرراً في الشطر الواحد، حتى إنه كرر التاريخ ثماني مرات في البيتين وهما:
أهديك مدحاً بليغاً ... يا سني غداً ... بحر الفتوحات ... باهي الفضل والمنن
1136 ... 1136 ... 1136 ... 1136
ألفاظه كنجوم ... فهي تشرق ما ... بدا سنا بدرها ... أرخه عبد غني
1136 ... 1136 ... 1136 ... 1136(1/106)
قاله أبوالعالية: أخذاً بقصة رواها ابن إسحاق عن جابر بن عبد الله بن وثاب قال: =جاء أبو ياسر بن أخطب، وحيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف فسألوا رسول الله عن (الم) وقالوا: هذا أجل هذه الأمة من السنين إحدى وسبعون سنة، فضحك رسول الله وقال لهم (ص) و(المر) فقالوا: اشتبه علينا الأمر، فلا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير+ اهـ.
وليس في جواب رسول الله إياهم بعدة حروف أخرى من هذه الحروف المتقطعة في أوائل السور تقرير لاعتبارها رموزاً لأعداد مدة هذه الأمة، وإنما أراد إبطال ما فهموه بإبطال أن يكون مفيداً لزعمهم على نحو الطريقة المسماة بالنقض في الجدل، ومرجعها إلى المنع، والمانع لا مذهب له، وأما ضحكه"فهو تعجب من جهلهم.
القول السابع: أنها رموز كل حرف رمز إلى كلمة فنحو [الم] أنا الله أعلم، و [المر] أنا الله أرى، و [المص] أنا الله أعلم وأَفْصل، رواه أبو الضحى عن ابن عباس، ويوهنه أنه لا ضابط له؛ لأنه أخذ مرة بمقابلة الحرف بحرف أول الكلمة، ومرة بمقابلته بحرف وسط الكلمة أو آخرها، ونَظَّروه بأن العرب قد تتكلم بالحروف المقطعة بدلاً من كلمات تتألف من تلك الحروف نظماً ونثراً، من ذلك قول زهير:
بالخير خيرات وإن شرٌّ فَا ... ولا أريد الشر إلا أنْ تا
أراد وإن شر فشر، وأراد إلا أن تَشا، فأتى بحرف من كل جملة، وقال الآخر قرطبي:
ناداهم ألا الجموا ألا تا ... قالوا جميعاً كلهم ألا فا
أراد بالحرف الأول ألا تركبون، وبالثاني ألا فاركبوا.
وقال الوليد بن المغيرة عامل عثمان يخاطب عدي بن حاتم:
قلت لها قفي لنا قالت قاف ... لا تَحْسِبَنِّي قد نسيت الإيجاف(1)
__________
(1) _ يوجد في أكثر الكتب قلت لها قفي فقالت قاف, وهو مشتمل على زحاف ثقيل, وفي بعض نسخ البيضاوي: فقالت لي، وهي مصححة, وفي الخصائص لابن جني: قلت قفي لنا قالت قاف, وبعد هذا البيت: ... وعزف قينات علينا عزاف
0@والنشوات من معتق صاف(1/107)
أراد قالت وقفت، وفي الحديث: =من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة+ قال شقيق: هو أن يقول: =أُقْ+ مكان اقتل.
وفي الحديث _ أيضاً _: =كفى بالسيف شا+ أي شاهداً(1).
وفي كامل المبرد من قصيدة لعلي بن عيسى القمي وهو مُوَلَّد:
ولبس العجاجة والخافقات ... تريك المنا برؤوس الأسل
أي تريك المنايا.
وفي تلع من صحاح الجوهري قال لبيد:
درس المَنَا بمتالعٍ فأبانِ ... فتقادمت بالحبس فالسوبان
أراد درس المنازل، وقال علقمة الفحل (خصائص ص82):
كأن إبريقهم ظبي على شرف ... مفدم بِسَبَا الكَتان ملثوم
أراد بسبائب الكتان، وقال الراجز:
حين ألقت بقباء بَرْكَها ... واستمر القتل في عبد الأشل
أي عبد الأشهل، وقول أبي دؤاد:
يدرين حندل حائر لجنوبها ... فكأنما تُذْكى سنابكها الحُبَا
أراد الحباحب، وقال الأخطل:
أمست مناها بأرض ما يبلِّغها ... بصاحب الهم إلا الجسرة الأُجد
أراد منازلها، ووقع (طراز المجالس _ المجلس)(2) للمتأخرين من هذا كثير مع التورية كقول ابن مكانس:
لم أنس بدراً زارني ليلة ... مستوفزاً مُطَّلِعاً للخطر
فلم يقم إلا بمقدار ما ... قلت له أهلا وسهلا ومَرْ
أراد بعض كلمة مرحباً.
وقد أكثرت من شواهده؛ توسعة في مواقع هذا الاستعمال الغريب، ولست أريد بذلك تصحيح حمل حروف فواتح السور على ذلك؛ لأنه لا يحسن تخريج القرآن عليه، وليس معها ما يشير إليه مع التورية بجعل (مرَّ) من المرور.
__________
(1) _ هو حديث سعد بن عبادة =كفى بالسيف شاهداً+ أخرجه ابن ماجه.
(2) _ نسبه إليه المبرد في الكامل ص245، وسيبويه في كتابه ص57 جزء 2 وتبعهما المفسرون.(1/108)
القول الثامن: أنها إشارات إلى أحوال من تزكية القلب، وجعلها في الفتوحات(1) في الباب الثاني إيماءً إلى شعب الإيمان، وحاصله أن جملة الحروف الواقعة في أوائل سور القرآن على تكرار الحروف ثمانية وسبعون حرفاً، والثمانية هنا هي حقيقة البضع حصل له ذلك بالكشف، فيكون عدد الحروف ثمانية وسبعين، وقد قال النبي": =الإيمان بضع وسبعون شعبة+.
فهذه الحروف هي شعب الإيمان، ولا يكمل لأحد أسرار الإيمان؛ حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها.
وكيف يزعم زاعم أنها واردة في معان غير معروفة مع ثبوت تلقي السامعين لها بالتسليم من مؤمن ومعاند.
ولولا أنهم فهموا منها معنى معروفاً دلت عليه القرائن لسأل السائلون، وتورك المعاندون.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: =لولا أن العرب كانوا يعرفون لها مدلولاً متداولاً بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي"بل تلا عليهم (حم) فصلت و (ص) وغيرهما، فلم ينكروا ذلك مع تشوفهم إلى عثرة وحرصهم على زلة+.
قلت: وقد سألوا عن أوضح من هذا فقالوا: وما الرحمن.
وأما ما استشهدوا به من بيت زهير، وغيره فهو من نوادر كلام العرب، ومما أخرج مخرج الألغاز والتمليح، وذلك لا يناسب مقام الكتاب المجيد.
النوع الثاني: يجمع الأقوال الراجعة إلى أن هاته الحروف وضعت بتلك الهيئات أسماء، أو أفعالاً، وفيه من الأقوال أربعة:
__________
(1) _ يعني ابن عربي الصوفي. (م)(1/109)
التاسع: في عداد الأقوال في أولها لجماعة من العلماء، والمتكلمين، واختاره الفخر أنها أسماء للسور التي وقعت فيها، قاله زيد بن أسلم، ونسب لسيبويه في كتابه باب أسماء السور من أبواب مالا ينصرف، أو للخليل، ونسبه صاحب الكشاف للأكثر، ويعضده وقوع هاته الحروف في أوائل السور؛ فتكون هاته الحروف قد جعلت أسماء بالعلامة على تلك السور، وسميت بها كما نقول الكراسة ب، والرزمة ج، ونظَّره القفال بما سمَّت العرب بأسماء الحروف كما سموا لام الطائي والد حارثة، وسموا الذهب عين، والسحاب غين، والحوت نون، والجبل قاف، وأقول: وحاء قبيلة من مذحج، وقال شريح بن أوفى العنسي أو العبسي:
يذكرني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم(1)
يريد حم عسق التي فيها [قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى].
ويبعد هذا القول بعداً ما إن الشأن أن يكون الاسم غير داخل في المسمى، وقد وجدنا هذه الحروف مقروءة مع السور بإجماع المسلمين، على أنه يرده اتحاد هذه الحروف في عدة سور، مثل آلم، وآلر، وحم، وأنه لم توضع أسماء السور الأخرى في أوائلها.
القول العاشر: وقال جماعة: إنها أسماء للقرآن اصطلح عليها، قاله الكلبي، والسدي، وقتادة.
ويبطله أنه قد وقع بعد بعضها ما لا يناسبها لو كانت أسماء للقرآن، نحو [الم (1) غُلِبَتْ الرُّومُ]، و [الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ].
القول الحادي عشر: أن كل حروف مركبة منها هي اسم من أسماء الله رووا عن علي أنه كان يقول: يا كهيعص، يا حم عسق، وسكت عن الحروف المفردة، فيرجع بها إلى ما يناسبها أن تندرج تحته من الأقوال.
__________
(1) _ الضمير في يذكرني راجع لمحمد بن طلحة السجاد بن عبيدالله القرشي من بني مرة بن كعب, وأراد بحم سورة الشورى لأن فيها [قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرَاً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِيْ الْقُرْبَى] فكانت دالة على قرابة النبي"لقريش الذين منهم محمد السجاد.(1/110)
ويبطله عدم الارتباط بين بعضها وبين ما بعده لأن يكون خبراً أو نحوه عن اسم الله، مثل [الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ]، و [المص (1) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ].
الثاني عشر: قال الماوردي: هي أفعال؛ فإن حروف آلمص كتاب: فعل ألم، بمعنى نزل، فالمراد آلم ذلك الكتاب: أي نزل عليكم.
ويبطل كلامه أنها لا تقرأ بصيغ الأفعال على أن هذا لا يتأتى في جميعها نحو كهيعص، وآلمص، وآلر، ولولا غرابة هذا القول لكان حرياً بالإعراض عنه.
النوع الثالث: تندرج فيه الأقوال الراجعة إلى أن هاته الحروف حروف هجاء مقصودة بأسمائها لأغراض داعية لذلك وفيه من الأقوال:
القول الثالث عشر: أن هاته الحروف أقسم الله _تعالى_ بها كما أقسم بالقلم؛ تنويهاً بها؛ لأن مسمياتها تألفت منها أسماء الله _تعالى_ وأصول التخاطب والعلوم، قاله الأخفش.
وقد وهن هذا القول بأنها لو كانت مقسماً بها لذكر حرف القسم؛ إذ لا يحذف إلا مع اسم الجلالة عند البصريين، وبأنها قد ورد بعدها في بعض المواضع قسم نحو [ن وَالْقَلَمِ] و [حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ].
قال صاحب الكشاف: وقد استكرهوا الجمع بين قسمين على مقسم واحد، حتى قال الخليل في قوله _تعالى_: [وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى] أن الواو الثانية هي التي تضم الأسماء للأسماء أي واو العطف.
والجواب عن هذا أن اختصاص الحذف باسم الجلالة مختلف فيه، وأن كراهية جمع قسمين تندفع بجعل الواو التالية لهاته الفواتح واو العطف على أنهم قد جمعوا بين قسمين، قال النابغة:
والله والله لنعم الفتى الـ ... حارث لا النكس ولا الخامل(1/111)
القول الرابع عشر: أنها سيقت مساق التهجي مسرودة على نمط التعديد في التهجية؛ تبكيتاً للمشركين، وإيقاظاً لنظرهم في أن هذا الكتاب المتلو عليهم _وقد تُحدوا بالإتيان بسورة مثله_ هو كلام مؤلف من عين حروف كلامهم كأنه يغريهم بمحاولة المعارضة، ويستأنس لأنفسهم بالشروع في ذلك بتهجي الحروف، ومعالجة النطق؛ تعريضاً بهم بمعاملتهم معاملة مَنْ لم يعرف تقاطيع اللغة؛ فيلقنها كتهجي الصبيان في أول تعلمهم بالكُتَّاب؛ حتى يكون عجزهم عن المعارضة بعد هذه المحاولة عجزاً لا معذرة لهم فيه.
وقد ذهب إلى هذا القول المبرد، وقطرب، والفراء.
قال في الكشاف: =وهذا القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزلة+.
وقلت: وهو الذي نختاره وتظهر المناسبة لوقوعها في فواتح السور: أن كل سورة مقصودة بالإعجاز؛ لأن الله _تعالى_ يقول: [فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ] فناسب افتتاح ما به الإعجاز بالتمهيد؛ لمحاولته ويؤيد هذا القول أن التهجي ظاهر في هذا المقصد؛ فلذلك لم يسألوا عنه لظهور أمره، وأن التهجي معروف عندهم للتعليم، فإذا ذكرت حروف الهجاء على تلك الكيفية المعهودة في التعليم في مقام غير صالح للتعليم عرف السامعون أنهم عوملوا معاملة المتعلم؛ لأن حالهم كحاله في العجز عن الإتيان بكلام بليغ.
ويعضد هذا الوجه تعقيب هاته الحروف في غالب المواقع بذكر القرآن، وتنزيله، أو كتابيته إلا في كهيعص، وآلم أحسب الناس، وآلم غلبت الروم.(1/112)
ووجه تخصيص بعض تلك الحروف بالتهجي دون بعض، وتكرير بعضها؛ لأمر لا نعلمه، ولعله لمراعاة فصاحة الكلام، ويؤيده أن معظم مواقع هذه الحروف في أوائل السور المكية عدا البقرة على قول من جعلوها كلها مدنية وآل عمران، ولعل ذلك لأنهما نزلتا بقرب عهد الهجرة من مكة، وأن قصد التحدي في القرآن النازل بمكة قَصْدٌ أوَّلي، ويؤيده _أيضاً_ الحروف التي أسماؤها مختومة بألف ممدودة مثل الياء، والهاء، والراء، والطاء، والحاء قرئت فواتح السور مقصودة على الطريقة التي يتهجى بها للصبيان في الكتاب؛ طلباً للخفة _كما سيأتي قريباً في آخر هذا المبحث من تفسير (آلم)_.
القول الخامس عشر: أنها تعليم للحروف المقطعة؛ حتى إذا وردت عليهم بعد ذلك مؤلفة كانوا قد علموها كما يتعلم الصبيان الحروف المقطعة، ثم يتعلمونها مركبة، قاله عبد العزيز بن يحيى، يعني إذ لم يكن فيهم من يحسن الكتابة إلا بعض المدن كأهل الحيرة، وبعض طيء، وبعض قريش، وكنانة من أهل مكة.(1/113)
ولقد تقلبت أحوال العرب في القراءة والكتابة تقلبات متنوعة في العصور المختلفة، فكانوا بادئ الأمر أهل كتابة؛ لأنهم نزحوا إلى البلاد العربية من العراقِ بعد تبلبل الألسن، والعراقُ مَهْدُ القراءة والكتابة، وقد أثبت التاريخ أن ضخم ابن إرم أول من علم العرب الكتابة، ووضع حروف المعجم التسعة والعشرين، ثم إن العرب لما بادوا أي سكنوا البادية تناست القبائل البادية بطول الزمان القراءة والكتابة، وشغلهم حالهم عن تلقي مبادئ العلوم؛ فبقيت الكتابة في الحواضر كحواضر اليمن والحجاز، ثم لما تفرقوا بعد سيل العرم نقلوا الكتابة إلى المواطن التي نزلوها؛ فكانت طيء بنجد يعرفون القراءة والكتابة، وهم الفرقة الوحيدة من القحطانيين ببلاد نجد، ولذلك يقول أهل الحجاز ونجد: إن الذين وضعوا الكتابة ثلاثة نفر من بني بولان من طيء، يريدون من الوضع أنهم علموها للعدنانيين بنجد، وكان أهل الحيرة يعلمون الكتابة؛ فالعرب بالحجاز تزعم أن الخط تعلموه عن أهل الأنبار والحيرة، وقصة المتلمس في كتب الأدب تذكرنا بذلك؛ إذ كان الذي قرأ له الصحيفة غلام من أغيلمة الحيرة.
ولقد كان الأوس والخزرج مع أنهم من نازحة القحطانيين قد تناسوا الكتابة؛ إذ كانوا أهل زرع وفروسية وحروب؛ فقد ورد في السير أنه لم يكن أحد من الأنصار يحسن الكتابة بالمدينة، وكان في أسرى المشركين يوم بدر من يحسن ذلك؛ فكان من لا مال له من الأسرى يفتدي بأن يُعَلِّم عشرة من غلمان أهل المدينة الكتابة؛ فتعلم زيد بن ثابت في جماعة، وكانت الشفاء بنت عبد الله القرشية تحسن الكتابة وهي علمتها لحفصة أم المؤمنين.
ويوجد في أساطير العرب ما يقتضي أن أهل الحجاز تعلموا الكتابة من أهل مدين في جوارهم؛ فقد ذكروا قصة وهي أن المحض بن جندل من أهل مدين، وكان ملكاً كان له ستة أبناء وهم: (أبجد، وهوز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت).(1/114)
فجعل أبناءه ملوكاً على بلاد مدين وما حولها، فجعل أبجد بمكة، وجعل هَوَّزاً وحَطِّياً بالطائف ونجد، وجعل الثلاثة الباقين بمدين، وأن كَلِمَناً كان في زمن شعيب، وهو من الذين أخذهم عذاب يوم الظلة(1) قالوا: فكانت حروف الهجاء أسماء هؤلاء الملوك، ثم ألحقوا بها ثخذ، وضغظ.
فهذا يقتضي أن القصة مصنوعة لتلقين الأطفال حروف المعجم بطريقة سهلة تناسب عقولهم، وتقتضي أن حروف ثخذ وضغظ لم تكن في معجم أهل مدين، فألحقها أهل الحجاز، وحقاً إنها من الحروف غير الكثيرة الاستعمال، ولا الموجودة في كل اللغات إلا أن هذا القول يبعده عدم وجود جميع الحروف في فواتح السور، بل الموجود نصفها _ كما سيأتي بيانه من كلام الكشاف _.
القول السادس عشر: أنها حروف قصد منها تنبيه السامع مثل النداء المقصود به التنبيه في قولك: يا فتى؛ لإيقاظ ذهن السامع، قاله: ثعلب، والأخفش، وأبو عبيدة.
قال ابن عطية: =كما يقول في إنشاد أشهر القصائد لا وبل لا+.
قال الفخر في تفسير سورة العنكبوت: =إن الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة، أو مشغول البال يقدم على الكلام المقصود شيئاً؛ ليلفت المخاطب إليه بسبب ذلك المقدم ثم يشرع في المقصود، فقد يكون ذلك المقدم كلاماً مثل النداء، وحروف الاستفتاح، وقد يكون المقدم صوتاً كمن يصفق؛ لِيُقْبِلَ عليه السامع؛ فاختار الحكيم للتنبيه حروفاً من حروف التهجي؛ لتكون دلالتها على قصد التنبيه متعينة؛ إذ ليس لها مفهوم، فتمحضت للتنبيه على غرض مهم+.
__________
(1) _ الظلة: السحابة وقد أصابتهم صواعق فذكروا أن حارثة ابنة كلمن قالت ترثي أباها:
كلمن هدم ركني ... هلكه وسط المحلة
سيد القوم أتاه الـ ... ـحتف ناراً وسط ظله
كونت ناراً وأضحت ... دار قومي مضمحله
ومسحة التوليد ظاهرة في هاته الأبيات.(1/115)
القول السابع عشر: أنها إعجاز بالفعل، وهو أن النبي الأمي الذي لم يقرأ قد نطق بأصول القراءة كما ينطق بها مهرة الكتبة؛ فيكون النطق بها معجزة، وهذا بين البطلان؛ لأن الأمي لا يعسر عليه النطق بالحروف.
القول الثامن عشر: أن الكفار كانوا يُعْرِضون عن سماع القرآن، فقالوا: [لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ] فَأُوردت لهم هذه الحروف؛ ليقبلوا على طلب فهم المراد منها؛ فيقع إليهم ما يتلوها بلا قصد، قاله: قطرب، وهو قريب من القول السادس عشر.
القول التاسع عشر: أنها علامة لأهل الكتاب، وُعِدُوا بها من قبل أنبيائهم أن القرآن يفتتح بحروف مقطعة.
القول العشرون: قال التبريزي: =علم الله أن قوماً سيقولون بقدم القرآن، فأراهم أنه مؤلف من حروف كحروف الكلام+.
وهذا وهم؛ لأن تأليف الكلام من أصوات الكلمات أشد دلالة على حدوثه من دلالة الحروف المقطعة؛ لقلة أصواتها.
القول الحادي والعشرون: روي عن ابن عباس: أنها ثناء أثنى الله به على نفسه، وهو يرجع إلى القول الأول، أو الثاني.(1/116)
هذا جماع الأقوال، ولا شك أن قراءة كافة المسلمين إياها بأسماء حروف الهجاء مثل ألف، لام، ميم دون أن يقرأوا ألم، وأن رسمها في الخط بصورة الحروف يزيف جميع أقوال النوع الأول، ويعين الاقتصار على النوعين الثاني، والثالث في الجملة، على أن ما يندرج تحت ذينك النوعين متفاوت في درجات القبول؛ فإن الأقوال الثاني، والسابع، والثامن، والثاني عشر، والخامس عشر، والسادس عشر، يبطلها أن هذه الحروف لو كانت مقتضبة من أسماء، أو كلمات لكان الحق أن ينطق بسمياتها لا بأسمائها؛ فإذا تعين هذان النوعان، وأسقطنا ما كان من الأقوال المندرجة تحتمها واهياً _ خَلُصَ أن الأرجح من تلك الأقوال ثلاثة: وهي كون تلك الحروف لتبكيت المعاندين، وتسجيلاً لعجزهم عن المعارضة، أو كونها أسماء للسور الواقعة هي فيها، أو كونها أقساماً أقسم بها لتشريف قدر الكتابة، وتنبيه العرب الأميين إلى فوائد الكتابة؛ لإخراجهم من حالة الأمية، وأرجح هذه الأقوال الثلاثة هو أولها. 1/207_216
7_ والهدى الشرعي: هو الإرشاد إلى ما فيه صلاح العاجل الذي لا ينقض صلاح الآجل. 1/225
8_ والمتقي: من اتصف بالاتقاء: وهو طلب الوقاية، والوقاية الصيانة، والحفظ من المكروه؛ فالمتقي هو الحذر المتطلب للنجاة من شيء مكروه مضر، والمراد هنا المتقين اللهَ: أي الذين هم خائفون غَضَبَهُ، واستعدوا لطلب مرضاته، واستجابة طلبه، فإذا قرئ عليهم القرآن استمعوا له، وتدبروا ما يدعو إليه؛ فاهتدوا. 1/226
9_ والتقوى الشرعية: هي امتثال الأوامر، واجتناب المنهيات من الكبائر، وعدم الاسترسال على الصغائر ظاهراً وباطناً؛ أي اتقاء ما جعل الله الاقتحام فيه موجباً غضبه وعقابه؛ فالكبائر كلها متوعد فاعلها بالعقاب دون اللمم. 1/226(1/117)
10_ والرزق شرعاً عند أهل السنة، كالرزق لغة؛ إذ الأصل عدم النقل إلا لدليل؛ فيصدق اسم الرزق على الحلال والحرام؛ لأن صفة الحل والحرمة غير ملتفت إليها هنا، فبيان الحلال من الحرام له مواقع أخرى، ولا يقبل الله إلا طيباً، وذلك يختلف باختلاف أحوال التشريع، مثل: الخمر والتجارة فيها قبل تحريمها، بل المقصود أنهم ينفقون مما في أيديهم.
وخالفت المعتزلة في ذلك في جملة فروع مسألة خلق المفاسد والشرور وتقديرهما، ومسألة الرزق من المسائل التي جرت فيها المناظرة بين الأشاعرة، والمعتزلة كمسألة الآجال، ومسألة السعر، وتمسك المعتزلة في مسألة الرزق بأدلة لا تنتج المطلوب. 1/235
11_ والإنفاق: إعطاء الرزق فيما يعود بالمنفعة على النفس، والأهل، والعيال ومن يرغب في صلته، أو التقرب لله بالنفع له من طعام أو لباس، وأريد به هنا بثه في نفع الفقراء، وأهل الحاجة، وتسديد نوائب المسلمين بقرينة المدح، واقترانه بالإيمان، والصلاة. 1/235
12_ والمراد من القلوب هنا: الألباب والعقول، والعرب تطلق القلب على اللحمة الصنوبرية، وتطلقه على الإدراك والعقل، ولا يكادون يطلقونه على غير ذلك بالنسبة للإنسان، وذلك غالب كلامهم على الحيوان، وهو المراد هنا، ومقره الدماغ لا محالة، ولكن القلب هو الذي يمده بالقوة التي بها عمل الإدراك. 1/255
13_ العذاب: الألم، وقد قيل إن أصله الإعذاب مصدر أعذب إذا أزال العذوبة؛ لأن العذاب يزيل حلاوة العيش؛ فَصِيْغَ منه اسم مصدر بحذف الهمزة، أو هو اسم موضوع للألم بدون ملاحظة اشتقاق من العذوبة؛ إذ ليس يلزم مصير الكلمة إلى نظيرتها في الحروف. 1/258(1/118)
14_ وقوله: [وَمِنْ النَّاسِ] خبر مقدم لا محالة، وقد يتراءى أن الإخبار بمثله قليل الجدوى؛ لأنه إذا كان المبتدأ دالاً على ذات مثله، أو معنى لا يكون إلا في الناس كان الإخبار عن المبتدأ بأنه من الناس، أو في الناس غير مجد بخلاف قولك: الخضر من الناس، أي لا من الملائكة؛ فإن الفائدة ظاهرة، فوجه الإخبار بقولهم من الناس في نحو الآية، ونحو قول بعض أعزة الأصحاب(1) في تهنئة لي بخطة القضاء:
في الناس من ألقى قلادتها إلى ... خلف فحرم ما ابتغى وأباحا
أن القصد إخفاء مدلول الخبر عنه، كما تقول: قال هذا إنسان، وذلك عندما يكون الحديث يكسب ذماً أو نقصاناً. 1/259_260
15_ قلت: وكان الشان أن إجراء الأحكام الإسلامية عليه في الدنيا، يقتضي أنه غير خالد؛ إذ لا يعقل أن تجري عليه أحكام المسلمين، وتنتفي عنه الثمرة التي لأجلها فارق الكفر؛ إذ المسلم إنما أسلم؛ فراراً من الخلود في النار، فكيف يكون ارتكاب بعض المعاصي موجباً لانتقاض فائدة الإسلام؟
وإذا كان أحد لا يَسْلَمُ مِنْ أن يقارف معصية، وكانت التوبة الصادقة قد تتأخر، وقد لا تحصل فيلزمهم(2) ويلزم الخوارج أن يعدوا جمهور المسلمين كفاراً.
وبئس منكراً من القول، على أن هذا مما يجرئ العصاة على نقض عرى الدين؛ إذ ينسل عنه المسلمون؛ لانعدام الفائدة التي أسلموا لأجلها، بحكم:
أنا الغريق فما خوفي من البلل(3)
__________
(1) _ يعني به صديقه العلامة الشيخ محمد الخضر حسين الذي بعث إليه بقصيدة عنوانها =تهنئة بالقضاء+ عند ولايته القضاء بتونس، وهي من ثلاثة عشر بيتاً، ومطلع القصيدة يقول:
بسط الهناء على القلوب جناحاً ... فأعاد مسودَّ الحياة صباحا
ومنها:
يا طاهر الهمم احتمت بك خطة ... تبغي هدىً ومروءةً وسماحا
سحبت رداء الفخر واثقة بما ... لك من فؤادٍ يعشق الإصلاحا ... (م)
(2) _ يعني المعتزلة. (م)
(3) _ هذا شطر بيت للمتنبي، وصدره:
والهجر أَقْتَلُ لي مما أراقبه ... ................................. (م)(1/119)
ومن العجيب أن يصدر هذا القول من عاقل فضلاً عن عالم، ثم الأعجب منه عكوف أتباعهم عليه تلوكه ألسنتهم، ولا تفقهه أفئدتهم، وكيف لم يُقَيَّض فيهم عالم منصف ينبري لهاته التُّرَّهات، فيهذبها أو يؤولها كما أراد جمهور علماء السنة من صدر الأمة فمن يليهم. 1/270
16_ فالأعمال _إذن_ لها المرتبة الثانية بعد الإيمان والإسلام؛ لأنها مكملة المقصد لا ينازع في هذين _ أعني كونها في الدرجة الثانية، وكونها مقصودة _ إلا مكابر.
ومما يؤيد هذا أكمل تأييد ما ورد في الصحاح في حديث معاذ بن جبل: أن النبي"كان بعثه إلى اليمن، فقال له: =إنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله (أي ينطقوا بذلك نطقاً مطابقاً لاعتقادهم) فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة+ إلخ.
فلولا أن للإيمان، وللإسلام الحظَّ الأولَ لما قَدَّمه، ولولا أن الأعمال لا دخل لها في مسمى الإسلام لما فرق بينهما؛ لأن الدعوة للحق يجب أن تكون دفعة، وإلا لكان الرضا ببقائه على جزء من الكفر ولو لحظة مع توقع إجابته للدين رضىً بالكفر، وهو من الكفر، فكيف يأمر بسلوكه المعصوم عن أن يقر أحداً على باطل؟ فانتظم القول الثالث للقولين. 1/272_273(1/120)
17_ ثم على العالم المتشبع بالاطلاع على مقاصد الشريعة، وتصاريفها أن يفرق بين مقامات خطابها؛ فإن منها مقامَ موعظةٍ، وترغيب، وترهيب، وتبشير، وتحذير، ومنها مقام تعليم، وتحقيق؛ فَيَرَدُّ كل وارد من نصوص الشريعة إلى مورده اللائق، ولا تتجاذبه المتعارضات مجاذبة المُمَاذق، فلا يحتج أحد بما ورد في أثبت أوصاف الموصوف، وأثبت أحد تلك الأوصاف تارة في سياق الثناء عليه؛ إذ هو متصف بها جميعاً؛ فإذا وصف تارة بجميعها لم يكن وصفه تارة أخرى بواحد منها دالاً على مساواة ذلك الواحد لبقيتها؛ فإذا عرضت لنا أخبار شرعية جمعت بين الإيمان والأعمال في سياق التحذير، أو التحريض لم تكن دليلاً على كون حقيقة أحدهما مركبة، ومقومة من مجموعهما، فإنما يحتج محتج بسياق التفرقة والنفي، أو بسياق التعليم والتبيين، فلا ينبغي لمنتسب أن يجازف بقولة سخيفة ناشئة عن قلة تأمل، وإحاطة بموارد الشريعة، وإغضاء عن غرضها، ويَؤُول إلى تكفير جمهور المسلمين، وانتقاض الجامعة الإسلامية، بل إنما ينظر إلى موارد الشريعة نظرة محيطة؛ حتى لا يكون ممن غابت عنه أشياء وحضره شيء، بل يكون حكمه في المسألة كحكم فتاة الحي.
أما مسألة العفو عن العصاة، فهي مسألة تتعلق بغرضنا وليست منه، والأشاعرة قد توسعوا فيها، وغيرهم ضيقها، وأمرها موكول إلى علم الله، إلا أن الذي بلغنا من الشرع، هو اعتبار الوعد والوعيد، وإلا لكان الزواجر كضرب في بارد الحديد، وإذا علمتم أن منشأ الخلاف فيها هو النظر لدليل الوجوب، أو الجواز علمتم خروج الخلاف فيها من الحقيقة إلى المجاز.
ولا عجب أعجب من مرور الأزمان على مثل قولة الخوارج، والإباضية، والمعتزلة، ولا ينبري من حذاق علمائهم من يهذب المراد، أو يؤول قول قدمائه ذلك التأويل المعتاد، وكأني بوميض فطنة نبهائهم أخذ يلوح من خلل الرماد. 1/273_274(1/121)
18_ والخداع فعل مذموم إلا في الحرب، والانخداع تمشي حيلة المخادع على المخدوع، وهو مذموم _أيضاً_ لأنه من البله.
وأما إظهار الانخداع مع التفطن للحيلة إذا كانت غير مضرة فذلك من الكرم والحلم قال الفرزدق:
استمطروا من قريش كل منخدع ... إن الكريمَ إذا خادعته انخدعا
وفي الحديث =المؤمن غر كريم+ أي من صفاته الصفح والتغاضي حتى يُظَنَّ أنه غر؛ ولذلك عقبه بكريم لدفع الغِرِّية المؤذنة بالبله؛ فإن الإيمان يزيد الفطنة؛ لأن أصول اعتقاده مبنية على نبذ كل ما من شأنه تضليلُ الرأي، وطمس البصيرة.
ألا ترى إلى قوله: =والسعيد من وعظ بغيره+ مع قوله: =لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين+ وكلها تنادي على أن المؤمن لا يليق به البله.
وأما معنى =المؤمن غر كريم+ فهو أن المؤمن لما زكت نفسه عن ضمائر الشر وخطورها بباله وحمل أحوال الناس على مثل حاله فعرضت له حالة استئمان تشبه الغِرِّيَّة.1/274_275
19_ والنفس في لسان العرب: الذات، والقوة الباطنية المعبر عنها بالروح، وخاطر العقل. 1/278
20_ والمرض حقيقة في عارض للمزاج يخرجه عن الاعتدال الخاص بنوع ذلك الجسم خروجاً غير تام، وبمقدار الخروج يشتد الألم، فإن تم الخروج فهو الموت. 1/279
21_ وقد عَنَّ لي في بيان إيقاعهم الفساد أنه مراتب: أولها: إفسادهم أنفسهم بالإصرار على تلك الأدواء القلبية التي أشرنا إليها فيما مضى، وما يترتب عليها من المذام، ويتولد من المفاسد.
الثانية: إفسادهم _ أي المنافقين _ الناس ببث تلك الصفات والدعوة إليها، وإفسادهم أبناءهم، وعيالهم في اقتدائهم بهم في مساويهم كما قال نوح _عليه السلام_ [إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً].
الثالثة: إفسادهم بالأفعال التي ينشأ عنها فساد المجتمع، كإلقاء النميمة، والعداوة، وتسعير الفتن، وتأليب الأحزاب على المسلمين، وإحداث العقبات في طريق المصلحين. 1/284(1/122)
22_ فالإفساد في الأرض منه تصيير الأشياء الصالحة مضرة كالغش في الأطعمة، ومنه إزالة الأشياء النافعة كالحرق، والقتل للبرآء، ومنه إفساد الأنظمة كالفتن والجور، ومنه إفساد المساعي كتكثير الجهل، وتعليم الدعارة، وتحسين الكفر، ومناوأة الصالحين المصلحين.
ولعل المنافقين قد أخذوا من ضروب الإفساد بالجميع، فلذلك حذف متعلق [تُفْسِدُوا] تأكيداً للعموم المستفاد من وقوع الفعل في حيز النفي. 1/284_285
23_ والشياطين: جمع شيطان، جمع تكسير، وحقيقة الشيطان أنه نوع من المخلوقات المجردة، طبيعتها الحرارة النارية، وهم من جنس الجن قال _تعالى_ في إبليس: [كَانَ مِنْ الْجِنِّ] وقد اشتهر ذكره في كلام الأنبياء، والحكماء، ويطلق الشيطان على المفسد، ومثير الشر، تقول العرب: فلان من الشياطين، ومن شياطين العرب وذلك استعارة، وكذلك أطلق هنا على قادة المنافقين في النفاق، قال _تعالى_: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ] إلخ. 1/290
24_ وقوله: [وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]: احتراس من توهم الانقطاع بما تعودوا من انقطاع اللذات في الدنيا؛ لأن جميع اللذات في الدنيا معرضة للزوال، وذلك ينغصها عند المُنْعَم عليه، كما قال أبو الطيب:
أشد الغم عندي في سرور ... تحقَّقَ(1) عنه صاحبه انتقالا
1/357
25_ والاستحياء والحياء واحد، فالسين والتاء فيه للمبالغة، مثل استقدم، واستأخر، واستجاب: وهو انقباض النفس من صدور فعل، أو تلقيه لاستشعار أنه لا يليق، أو لا يحسن في متعارف أمثاله، فهو هيئة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال يظهر أثرها على الوجه، وفي الإمساك عن ما من شأنه أن يُفعل. 1/361
26_ و[مَا] إبهامية تتصل بالنكرة، فتؤكد معناها من تنويع، أو تفخيم، أو تحقير، نحو: لأمرٍ ما وأعطاه شيئاً ما، والأظهر أنها مزيدة؛ لتكون دلالتها على التأكيد أشد، وقيل: اسم بمعنى النكرة المبهمة.
__________
(1) _ في ديوان المتنبي: تيقَّن ..... (م)(1/123)
و[بَعُوضَةً] بدل أو بيان من قوله: [مَثَلاً] والبعوضة: واحدة البعوض: وهي حشرة صغيرة طائرة، ذات خرطوم دقيق، تحوم على الإنسان؛ لتمتص بخرطومها من دمه غذاءً لها، وتعرف في لغة هُذيل بالخموش، وأهل تونس يسمونه الناموس، واحدته الناموسة.
وقد جعلت هنا مثلاً؛ لشدة الضعف والحقارة. 1/362
27_ و[كَيْفَ] اسم لا يعرف اشتقاقه، يدل على حالة خاصة، وهي التي يقال لها: الكيفية؛ نسبة إلى كيف، ويتضمن معنى السؤال في أكثر موارد استعماله؛ فلدلالته على الحالة كان في عداد الأسماء؛ لأنه أفاد معنى في نفسه، إلا أن المعنى الأسمى الذي دل عليه لما كان معنى مبهماً شابه معنى الحرف، فلما أشربوه معنى الاستفهام قوى شبهه بالحروف لكنه لا يخرج عن خصائص الأسماء؛ فلذلك لا بُدَّ له من محل إعراب، وأكثر استعماله اسم استفهام، فيعرب إعراب الحال، ويستفهم بكيف عن الحال العامة، والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب والإنكار بقرينة قوله: [وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً] إلخ أي أن كفركم مع تلك الحالة شأنه أن يكون منتفياً لا تركن إليه النفس الرشيدة؛ لوجود ما يصرف عنه، وهو الأحوال المذكورة بَعْدُ؛ فكان من شأنه أن ينكر؛ فالإنكار متولد من معنى الاستفهام؛ ولذلك فاستعماله فيهما من إرادة لازم اللفظ، وكأن المنكر يريد أن يقطع مَعْذِرَة المخاطب، فيظهر له أنه يتطلب منه الجواب بما يظهر السبب؛ فيبطل الإنكارُ، والعجبُ حتى إذا لم يبد ذلك كان حقيقاً باللوم والوعيد. 1/373_374(1/124)
28_ والكفر: بضم الكاف مصدر سماعي لكَفَرَ الثلاثيِّ القاصر، وأصله جحد المنعم عليه نعمة المنعم اشتق من مادة الكفر بفتح الكاف، وهو الحجب والتغطية؛ لأن جاحد النعمة قد أخفى الاعتراف بها كما أن شاكرها أعلنها، وضده الشكر؛ ولذلك صيغ له مصدر على وزان الشكر، وقالوا _أيضاً_: كفران على وزن شكران، ثم أطلق الكفر في القرآن على الإشراك بالله في العبادة، بناءً على أنه أشد صور كفر النعمة؛ إذ الذي يترك عبادة مَنْ أنعم عليه في وقت من الأوقات قد كفر نعمته في تلك الساعة؛ إذ توجَّه بالشكر لغير المنعم، وترك المنعم حين عزمه على التوجه بالشكر، ولأن عزم نفسه على مداومة ذلك استمرار في عقد القلب على كفر النعمة، وإن لم يتفطن لذلك؛ فكان أكثر إطلاق الكفر بصيغة المصدر في القرآن على الإشراك بالله، ولم يرد الكفر بصيغة المصدر في القرآن لغير معنى الإشراك بالله، وقلَّ ورودُ فعلِ الكفر، أو وصف الكافر في القرآن لجحد رسالة محمد " وذلك حيث تكون قرينة على إرادة ذلك كقوله: [مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ] وقوله: [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ] يريد اليهود.
وأما إطلاقه في السنة، وفي كلام أئمة المسلمين فهو الاعتقاد الذي يخرج معتقده عن الإسلام، وما يدل على ذلك الاعتقاد من قولٍ أو فعلٍ دلالةً لا تحتمل غير ذلك.
وقد ورد إطلاق الكفر في كلام الرسول _عليه السلام _ وكلام بعض السلف على ارتكاب جريمة عظيمة في الإسلام إطلاقاً على وجه التغليظ بالتشبيه المفيد؛ لتشنيع ارتكاب ما هو من الأفعال المباحة عند أهل الكفر.
ولكنَّ بَعْضَ فرق المسلمين يتشبثون بظاهر ذلك الإطلاق؛ فيقضون بالكفر على مرتكب الكبائر، ولا يلتفتون إلى ما يعارض ذلك في إطلاقات كلام الله ورسوله.(1/125)
وفِرَقُ المسلمين يختلفون في أن ارتكاب بعض الأعمال المنهي عنها يدخل في ماهية الكفر، وفي أن إثبات بعض الصفات لله _تعالى_ أو نفي بعض الصفات عنه _تعالى_ داخل في ماهية الكفر على مذاهب شتى، ومذهب أهل الحق من السلف، والخلف أنه لا يكفر أحد من المسلمين بذنب، أو ذنوب من الكبائر؛ فقد ارتكبت الذنوب الكبائر في زمان رسول الله"والخلفاء فلم يعاملوا المجرمين معاملة المرتدين عن الدين، والقول بتكفير العصاة، خطر على الدين؛ لأنه يؤول إلى انحلال جامعة الإسلام، ويهون على المذنب الانسلاخ من الإسلام منشداً: =أنا الغريق فما خوفي من البلل+. 1/374_375
29_ والحياة: ضد الموت، وهي في نظر الشرع نفخ الروح في الجسم، وقد تعسر تعريف الحياة، أو تعريف دوامها على الفلاسفة المتقدمين، والمتأخرين تعريفاً حقيقياً بالحد، وأوضح تعاريفها بالرسم أنها قوة ينشأ عنها الحس والحركة، وأنها مشروطة باعتدال المزاج، والأعضاء الرئيسية التي بها تدوم الدورة الدموية.
والمراد بالمزاجِ التركيبُ الخاصُّ المناسبُ مناسبةً تليق بنوع ما من المركبات العنصرية، وذلك التركيب يحصل من تعادل قوى وأجزاء بحسب ما اقتضته حالة الشيء المركب مع انبثاث الروح الحيواني؛ فباعتدال ذلك التركيب يكون النوع معتدلاً، ولكل صنف من ذلك النوع مزاج يخصه بزيادة تركيب، ولكل شخص من الصنف مزاج يخصه، ويتكون ذلك المزاج على النظام الخاص تنبعث الحياة في ذي المزاج في إبان نفخ الروح فيه، وهي المعبر عنها بالروح النفساني.
وقد أشار إلى هذا التكوين حديث الترمذي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله"قال: =إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح+.(1/126)
فأشار إلى حالات التكوين التي بها صار المزاج مزاجاً مناسباً؛ حتى انبعثت فيه الحياة، ثم بدوام انتظام ذلك المزاج تدوم الحياة، وباختلاله تزول الحياة، وذلك الاختلال هو المعبر عنه بالفساد.
ومن أعظم الاختلال فيه اختلال الروح الحيواني، وهو الدم إذا اختلت دورته فعرض له فساد، وبعروض حالة توقف عمل المزاج، وتعطل آثاره يصير الحي شبيهاً بالميت كحالة المغمى عليه، وحالة العضو المفلوج، فإذا انقطع عمل المزاج فذلك الموت، فالموت عدم، والحياة ملكة، وكلاهما موجود مخلوق قال _تعالى_: [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ] في سورة الملك. 1/376_377
30_ ومن العجائب أنهم يسلمون أن أفعال الله _تعالى_ لا تخلو عن الثمرة، والحكمة، ويمنعون أن تكون تلك الحكم عللاً وأغراضاً، مع أن ثمرة فعل الفاعل العالم بكل شيء لا تخلو من أن تكون غرضاً؛ لأنها تكون داعياً للفعل ضرورة تحقق علم الفاعل وإرادته، ولم أدر أي حرج نظروا إليه حين منعوا تعليل أفعال الله _تعالى_ وأغراضها.
ويترجح عندي أن هاته المسألة اقتضاها طرد الأصول في المناظرة؛ فإن الأشاعرة لما أنكروا وجوب فعل الصلاح، والأصلح أورد عليهم المعتزلة، أو قدَّروا هم في أنفسهم أن يورد عليهم أن الله _تعالى_ لا يفعل شيئاً إلا لغرض، وحكمة، ولا تكون الأغراض إلا المصالح؛ فالتزموا أن أفعال الله _تعالى_ لا تناط بالأغراض، ولا يعبر عنها بالعلل.
وينبئ عن هذا أنهم لما ذكروا هذه المسألة ذكروا في أدلتهم الإحسان للغير ورعي المصلحة، وهنالك سبب آخر لفرض المسألة، وهو التنزه عن وصف أفعال الله _تعالى_ بما يوهم المنفعة له، أو لغيره وكلاهما باطل؛ لأنه لا ينتفع بأفعاله، ولأن الغير قد لا يكون فِعْلُ الله بالنسبة إليه منفعة.(1/127)
هذا وقد نقل أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات عن جمهور الفقهاء، والمتكلمين أن أحكام الله _تعالى_ معللة بالمصالح، ودرء المفاسد، وقد جمع الأقوال الشيخ ابن عرفة في تفسيره، فقال: =هذا هو تعليل أفعال الله _تعالى_ وفيه خلاف، وأما أحكامه فمعللة+. 1/380_381
31_ وأرجح القولين هو أن السماء خلقت قبل الأرض؛ لأن لفظ: [بَعْدِ ذَلِكَ] أظهر في إفادة التأخر من قوله: [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ] ولأن أنظار علماء الهيئة ترى أن الأرض كرة انفصلت عن الشمس كبقية الكواكب السيارة من النظام الشمسي، وظاهر سفر التكوين يقتضي أن خلق السماوات متقدم على الأرض، وأحسب أن سلوك القرآن في هذه الآيات أسلوب الإجمال في هذا الغرض؛ لقطع الخصومة بين أصحاب النظريتين. 1/384
32_ وهذه الآية دليل على عموم العلم، وقد قال بذلك جميع الملِّيِّين كما نقله المحقق السلكوتي في الرسالة الخاقانية، وأنكر الفلاسفة علمه بالجزئيات، وزعموا أن تعلق العلم بالجزئيات لا يليق بالعلم الإلهي، وهو توهُّمٌ لا داعي إليه. 1/386(1/128)
33_ والظاهر أن الأسماء التي عُلِّمها آدم هي ألفاظ تدل على ذوات الأشياء التي يحتاج نوع الإنسان إلى التعبير عنها لحاجته إلى ندائها، أو استحضارها، أو إفادة حصول بعضها مع بعض، وهي أي الإفادة ما نسميه اليوم بالأخبار، أو التوصيف، فيظهر أن المراد بالأسماء ابتداء أسماء الذوات من الموجودات، مثل الأعلام الشخصية، وأسماء الأجناس من الحيوان، والنبات، والحجر، والكواكب مما يقع عليه نظر الإنسان ابتداء مثل اسم جنة، وملك، وآدم، وحواء، وإبليس، وشجرة، وثمرة، ونجد ذلك بحسب اللغة البشرية الأولى؛ ولذلك نرجح أن لا يكون فيما علمه آدم ابتداء شيء من أسماء المعاني والأحداث، ثم طرأت بعد ذلك، فكان إذا أراد أن يخبر عن حصول حدث، أو أمر معنوي لذات قرن بين اسم الذات واسم الحدث نحو ماء برد: أي ماء بارد، ثم طرأ وضع الأفعال، والأوصاف بعد ذلك فقال: الماء بارد، أو برد الماء، وهذا يرجح أن أصل الاشتقاق: هو المصادر لا الأفعال؛ لأن المصادر صنف دقيق من نوع الأسماء، وقد دلنا على هذا قوله _تعالى_: [ثُمَّ عَرَضَهُمْ] كما سيأتي. 1/409
34_ وتعريف الأسماء يفيد أن الله علم آدم كل اسم ما هو مسماه ومدلوله، والإتيان بالجمع هنا متعين؛ إذ لا يستقيم أن يقول: وعلم آدم الاسم، وما شاع من أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع في المعرف باللام كلام غير محرر، وأصله مأخوذ من كلام السكاكي، وسنحققه عند قوله _تعالى_: [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ] في هذه السورة.
و[كُلَّهَا] تأكيد لمعنى الاستغراق؛ لئلا يتوهم منه العهد، فلم تزد كلمة كل العموم شمولاً، ولكنها دفعت عنه الاحتمال. 1/409(1/129)
35_ والآية تقتضي مزية عظمى لهذا النوع في هذا الباب، وفي فضل العلم، ولكنها لا تدل على أفضلية النوع البشرى على الملائكة؛ إذ المزية لا تقتضي الأفضلية _كما بينه الشهاب القرافي في الفرق الحادي والتسعين_ فهذه فضيلة من ناحية واحدة، وإنما يعتمد التفضيل المطلق مجموع الفضائل _كما دل عليه حديث موسى والخضر_. 1/419
36_ والجَنَّةُ: قطعة من الأرض فيها الأشجار المثمرة، والمياه وهي أحسن مقر للإنسان إذا لفحه حر الشمس، ويأكل من ثمره إذا جاع، ويشرب من المياه التي يشرب منها الشجر، ويروقه منظر ذلك كله؛ فالجنة تجمع ما تطمح إليه طبيعة الإنسان من اللذات.
وتعريف الجنة، تعريف العهد: وهي جنة معهودة لآدم يشاهدها، إذا كان التعريف في الجنة حكاية لما يرادفه فيما خوطب به آدم، أو أريد بها المعهود لنا إذا كانت حكاية قول الله لنا بالمعنى، وذلك جائز في حكاية القول.
وقد اختلف علماء الإسلام في تعيين هذه الجنة، فالذي ذهب إليه جمهور السلف أنها جنة الخلد التي وعد الله المؤمنين، والمصدقين رسله، وجزموا بأنها موجودة في العالم العلوي عالم الغيب _أي في السماء_ وأنها أعدها الله لأهل الخير بعد القيامة، وهذا الذي تقلده أهل السنة. 1/430
37_ فإن الأخلاق تُوْرَثُ، وكيف لا وهي مما يعدي بكثرة الملابسة، والمصاحبة وقد قال أبو تمام:
لأعديتني بالحلم إن العلا تُعدي
ووجه المناسبة بين هذا الأثر، وبين منشئه الذي هو الأكل من الشجرة أن الأكل من الشجرة كان مخالفة لأمر الله _تعالى_ ورفضاً له، وسوء الظن بالفائدة منه، دعا لمخالفته الطمع، والحرص على جلب نفع لأنفسهما، وهو الخلود في الجنة، والاستئثار بخيراتها مع سوء الظن بالذي نهاهما عن الأكل منها، وإعلامه لهما بأنهما إن أكلا منها ظلما أنفسهما؛ لقول إبليس لهما: [مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ].(1/130)
فكذلك كانت عداوة أفراد البشر مع ما جبلوا عليه من الألفة، والأنس، والاتحاد _ منشؤها رفضُ تلك الألفة، والاتحاد؛ لأجل جلب النفع للنفس، وإهمال منفعة الغير؛ فلا جرم كان بين ذلك الخاطر الذي بعثهما على الأكل من الشجرة، وبين أثره الذي بقي في نفوسهما، والذي سيورثونه نسلهما؛ فيخلق النسل مركبة عقولهم على التخلق بذلك الخلق الذي طرأ على عقل أبويهما.
ولا شك أن ذلك الخُلُقَ الراجع لإيثار النفس بالخير، وسوء الظن بالغير هو منبع العداوات كلها؛ لأن الواحد لا يعادي الآخر إلا لاعتقاد مزاحمة في منفعة، أو لسوء ظن به في مضرة.
وفي إشارة إلى مسألة أخلاقية وهي أن أصل الأخلاق حسنها، وقبيحها هو الخواطر الخيِّرة، والشريرة ثم ينقلب الخاطر إذا ترتب عليه فعل، فيصير خلقاً، وإذا قاومه صاحبه، ولم يفعل صارت تلك المقاومة سبباً في اضمحلال ذلك الخاطر؛ ولذلك حذرت الشريعة من الهم بالمعاصي، وكان جزاء ترك فعل ما يهم به منها حسنة، وأمرت بخواطر الخير؛ فكان جزاء مجرد الهم بالحسنة حسنة، ولو لم يعملها، وكان العمل بذلك الهم عشر حسنات، كما ورد في الحديث الصحيح: =من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة+.
ثم قال: =ومن همَّ بسيئة فعملها كتبت له سيئة واحدة+.
وجعل العفو عن حديث النفس منة من الله _تعالى_ ومغفرة في حديث: =إن الله تجاوز عن أمتي فيما حدثت به نفوسها+. 1/435_436
38_ [فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)] جاء بالفاء إيذاناً بمبادرة آدم بطلب العفو.
والتلقي استقبال إكرام ومسرة قال _تعالى_: [تَتَلَقَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ].(1/131)
ووجه دلالته على ذلك أنه صيغة تَفَعُّل من لقيه، وهي دالة على التكلف لحصوله وتطلبه، وإنما يتكلف ويتطلب لقاء الأمر المحبوب، بخلاف لاقى فلا يدل على كون الملاقي محبوباً، بل تقول: لاقى العدو، واللقاء الحضور نحو الغير بقصد أو بغير قصد، وفي خير أو شر، قال _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً] الآيةَ؛ فالتعبير بتلقي هنا مؤذن بأن الكلمات التي أخذها آدم كلمات نافعة له؛ فَعُلِم أنها ليست كلمات زجر وتوبيخ، بل كلمات عفو، ومغفرة، ورضى، وهي إما كلمات لُقِّنها آدم من قِبَلِ الله _تعالى_ ليقولها طالباً المغفرة، وإما كلمات إعلام من الله إياه بأنه عفا عنه بعد أن أهبطه من الجنة؛ اكتفاء بذلك في العقوبة.
ومما يدل على أنها كلماتُ عفوٍ عَطْفُ [فَتَابَ عَلَيْهِ] بالفاء؛ إذ لو كانت كلمات توبيخ لما صح التسبب.
وتَلَقِّي آدم للكلمات إما بطريق الوحي،أوالإلهام.
ولهم في تعيين هذه الكلمات روايات أعرضنا عنها؛ لقلة جدوى الاشتغال بذلك، فقد قال آدم الكلمات، فتيب عليه؛ فَلنَهْتَمَّ نحن بما ينفعنا من الكلام الصالح، والفعل الصالح. 1/437_438
39_ والتوبة تتركب من علم، وحال، وعمل، فالعلم هو: معرفة الذنب، والحال هو: تألم النفس من ذلك الضرر، ويسمى ندماً، والعمل هو: الترك للإثم، وتدارك ما يمكن تداركه، وهو المقصود من التوبة.
وأما الندم فهو: الباعث على العمل، ولذلك ورد في الحديث: =الندم توبة+ قاله الغزالي.
قلت: أي لأنه سببها ضرورة أنه لم يقصر؛ لأن أحد الجزءين غير معرفة. 1/438
40_ فعلماؤنا منهيون على أن يأتوا بما نهي عنه بنو إسرائيل من الصَّدْفِ عن الحق لأعراض الدنيا، وكذلك كانت سيرة السلف _ رضي الله عنهم _. 1/466(1/132)
41_ ومن هنا فرضت مسألة جعلها المفسرون متعلقة بهاته الآية وإن كان تعلقها بها ضعيفاً _ وهي مسألة أخذ الأجرة على تعليم القرآنِ والدينِ، ويتفرع عنها أخذُ الأجرة على تعليم العلم وعلى بعض ما فيه عبادة كالأذان والإمامة. وحاصل القول فيها أن الجمهور من العلماء أجازوا أخذ الأجر على تعليم القرآن فضلاً عن الفقه والعلم؛ فقال بجواز ذلك الحسن وعطاء والشعبي وابن سيرين ومالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والجمهور.
وحجتهم في ذلك الحديث الصحيح عن ابن عباس أن النبي"قال: =إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله+.
وعليه فلا محل لهاته الآية على هذا المعنى عندهم بحال؛ لأن المراد بالاشتراء فيها معناه المجازي وليس في التعليم استبدالٌ، ولا عدول، ولا إضاعة.
وقد نقل ابن رشد إجماع أهل المدينة على الجواز، ولعله يريد إجماع جمهور فقهائهم.
وفي المُدَوَّنة: لا بأس بالإجارة على تعليم القرآن، ومنع ذلك ابن شهاب من التابعين من فقهاء المدينة، وأبو حنيفة، وإسحاق بن راهويه.
وتمسكوا بالآية، وبأن التعليم لذلك طاعة وعبادة كالصلاة والصوم؛ فلا يؤخذ عليها أجر. 1/466_467
42_ وهذه المسألة كانت قد حدثت بين ابن عرفة والدُّكَّالي وهي أنه ورد على تونس في حدود سنة سبعين وسبعمائة رجل زاهد من المغرب اسمه محمد الدكالي فكان لا يصلي مع الجماعة ولا يشهد الجمعة؛ معتلاً بأن أئمة تونس يأخذون الأجور على الإمامة، وذلك جرحة في فاعله؛ فأنكر عليه الشيخ ابن عرفة، وشاع أمره عند العامة، وحدث خلاف بين الناس؛ فخرج إلى المشرق فاراً بنفسه، وبلغ أنه ذهب لمصر؛ فكتب ابن عرفة إلى أهل مصر أبياتاً هي:
يا أهلَ مصرٍ ومَنْ في الدين شاركهم ... تنبهوا لسؤالٍ معضلٍ نزلا
لزومُ فسقكم أو فسقِ مَنْ زعمت ... أقوالُه أنه بالحق قد عملا
في تركه الجُمْعَ والجُمْعاتِ خَلْفَكُمُ ... وشرطُ إيجابِ حكمِ الكلِّ قد حصلا
إن كان شأنكم التقوى فغيركم ... قد باء بالفسق حتى عنه ما عدلا(1/133)
وإن يكن عكسه فالأمر منعكس ... قولوا بحق فإن الحق ما اعتزلا
فيقال إن أهل مصر أجابوه بأبيات منها:
ما كان من شيم الأبرار أن يسموا ... بالفسق شيخاً على الخيرات قد جُبلا
لا لا ولكن إذا ما أبصروا خللاً ... كسوه من حسن تأويلاتهم حُللا
أليس قد قال في المنهاج صاحبه ... يسوغ ذاك لمن قد يختشي زللا
ومنها:
وقد رويتَ عن ابن القاسم العُتَقَى ... فيما اختصرت كلاماً أوضح السبلا
ما إن ترد شهادة(1) لتاركها ... إن كان بالعلم والتقوى قد احتفلا
نعم وقد كان في الأعلين منزلةً ... من جانب الجمع والجمعات واعتزلا
كمالك غيرُ مُبْدٍ فيه معذرةً ... إلى الممات ولم يُسأل وما عُذلا
هذا وإن الذي أبداه متجهاً ... أخذ الأئمة أجراً مَنْعُهُ نقلا
وهبك أنك راءٍ حله نظرا ... فما اجتهادك أولى بالصواب ولا
هكذا نسبت هذه الأبيات في بعض كتب التراجم للمغاربة أنها وردت من أهل مصر، وقد قيل: إنها نظمها بعض أهل تونس؛ انتصاراً للدكالي ذكر ذلك الخفاجي في طراز المجالس، وقال: إن المجيب هو أبو الحسن علي السلمي التونسي، وذكر أن السراج البلقيني ذكر هاته الواقعة في فتاواه، وذكر أن والده أجاب في المسألة بأبيات لامية انظرها هناك. 1/468_469
43_ والنسيان: ذهاب الأمر المعلوم من حافظة الإنسان؛ لضعف الذهن أو الغفلة، ويرادفه السهو.
وقيل: السهو: الغفلة اليسيرة بحيث يتنبه بأقل تنبيه, والنسيان: زواله بالكلية. 1/475
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: =شهادات+ ليستقيم الوزن. (م)(1/134)
44_ والصلاة أريد بها هنا معناها الشرعي في الإسلام، وهي مجموع محامد لله _تعالى_ قولاً، وعملاً، واعتقاداً؛ فلا جرم كانت الاستعانة المأمور بها هنا راجعة لأمرين: الصبر، والشكر، وقد قيل: إن الإيمان نصفه صبر، ونصفه شكر _كما في الإحياء_ وهو قول حسن، ومعظم الفضائل ملاكها الصبر؛ إذ الفضائل تنبعث عن مكارم الخلال، والمكارم راجعة إلى قوة الإرادة، وكبح زمام النفس عن الإسامة في شهواتها بإرجاع القوتين الشهوية، والغضبية عما لا يفيد كمالاً، أو عما يورث نقصاناً؛ فكان الصبر ملاك الفضائل؛ فما التحلم، والتكرم، والتعلم، والتقوى، والشجاعة، والعدل، والعمل في الأرض، ونحوها _ إلا من ضروب الصبر.
ومما يُؤثر عن علي÷: =الشجاعة صبر ساعة+. 1/478
45_ وأنت إذا تأملت وجدت أصل التدين، والإيمان من ضروب الصبر؛ فإن فيه مخالفة النفس هواها، ومألوفها في التصديق بما هو مغيب عن الحس الذي اعتادته، وبوجوب طاعتها واحداً من جنسها لا تراه يفوقها في الخلقة، وفي مخالفة عادة آبائها، وأقوامها من الديانات السابقة؛ فإذا صار الصبر خلقاً لصاحبه هَوَّنَ عليه مخالفة ذلك كله؛ لأجل الحق، والبرهان؛ فظهر وجه الأمر بالاستعانة على الإيمان، وما يتفرع عنه بالصبر؛ فإنه خلق يفتح أبوابَ النفوسِ لقبول ما أمروا به من ذلك. 1/479
46_ وأما الاستعانة بالصلاة فلأن الصلاة شكر، والشكر يذكِّر بالنعمة؛ فيبعث على امتثال المنعم، على أن في الصلاة صبراً من جهات في مخالفة حال المرء المعتادة، ولزومه حالة في وقت معين لا يسوغ له التخلف عنها، ولا الخروج منها، على أن في الصلاة سراً إلهياً لعله ناشئ عن تجلي الرضوان الرباني على المصلي؛ فلذلك نجد للصلاة سراً عظيماً في تجلية الأحزان، وكشف غم النفس، وقد ورد في الحديث أن النبي " كان إذا حزبه _بزاي وباء موحدة: أي نزل به_ أمر فزع إلى الصلاة.(1/135)
وهذا أمر يجده من راقبه من المصلين، وقال _تعالى_: [إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] لأنها تجمع ضروباً من العبادات.
وأما كون الشكر من حيث هو معيناً على الخير فهو من مقتضيات قوله _تعالى_: [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]. 1/479
47_ وقوله: [وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ] اختلف المفسرون في معاد ضمير [إِنَّهَا] فقيل: عائد إلى الصلاة والمعنى: أن الصلاة تصعب على النفوس؛ لأنها سجن للنفس، وقيل: الضمير للاستعانة بالصبر، والصلاة المأخوذة من استعينوا على حد [اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] وقيل: راجع إلى المأمورات المتقدمة من قوله _تعالى_: [اذْكُرُوا نِعْمَتِي] إلى قوله: [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ].
وهذا الأخير مما جوزه صاحب الكشاف، ولعله من مبتكراته، وهذا أوضح الأقوال وأجمعها، والمحامل مرادة.
والمراد بالكبيرة هنا الصعبة التي تشق على النفوس، وإطلاق الكِبَر على الأمر الصعب، والشاق مجازٌ مشهور في كلام العرب؛ لأن المشقة من لوازم الأمر الكبير في حمله، أو تحصيله قال _تعالى_: [وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ] وقال: [وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ] الآية، وقال: [كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ]. 1/479
48_ [يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]: أعيد خطاب بني إسرائيل بطريق النداء مماثلاً لما وقع في خطابهم الأول؛ لقصد التكرير للاهتمام بهذا الخطاب، وما يترتب عليه؛ فإن الخطاب الأول قُصِدَ منه تذكيرهم بنعم الله _تعالى_ ليكون ذلك التذكير داعية لامتثال ما يَرِدُ إليهم من الله من أمر، ونهي على لسان نبيه".(1/136)
غير أنه لما كان الغرض المقصود من ذلك هو الامتثالَ كان حقُّ البلاغة أن يفضي البليغ إلى المقصود، ولا يطيل في المقدمة، وإنما يلم بها إلماماً، ويشير إليها إجمالاً؛ تنبيهاً بالمبادرة إلى المقصود على شدة الاهتمام به.
ولم يزل الخطباء، والبلغاء يعدون مثل ذلك من نباهة الخطيب، ويذكرونه في مناقب وزير الأندلس محمد بن الخطيب السلماني؛ إذ قال عند سفارته عن ملك غرناطة إلى ملك المغرب ابن عنان أبياته المشهورة التي ارتجلها عند الدخول عليه طالعها:
خليفةَ الله ساعدَ القدرُ ... عُلاك ما لاح في الدجا قمر
ثم قال:
والناس طُرَّا بأرض أندلس ... لولاك ما وطَّنوا ولا عمروا
وقد أهمتهم نفوسهم ... فوجهوني إليك وانتظروا
فقال له أبو عنان: ما ترجع إليهم إلا بجميع مطالبهم، وأذن له في الجلوس، فسلم عليه.
قال القاضي أبو القاسم الشريف(1) _وكان من جملة الوفد_: =لم نسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا+.
فكان الإجمالُ في المقدمة قضاءً لحقِّ صدارتها بالتقديم، وكان الإفضاءُ إلى المقصود قضاءً لحقه في العناية، والرجوعُ إلى تفصيل النعم قضاءً لِحَقِّهَا من التعداد؛ فإن ذكر النعم تمجيد للمنعم، وتكريم للمنعم عليه، وعظة له ولمن يبلغهم خبر ذلك تبعث على الشكر؛ فللتكرير هنا نكتةُ جمعِ الكلامين بعد تفريقهما، ونكتةُ التعداد لما فيه إجمال معنى النعمة. 1/482_483
49_ ومعنى العالمين تقدم عند قوله: [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] والمراد به هنا: صنف من المخلوقات.
__________
(1) _ هو أبو القاسم محمد بن أحمد الحسيني السبتي ثم الغرناطي قاضي غرناطة المتوفى سنة 760 وله الشرح المشهور على مقصورة حازم القرطاجني.(1/137)
ولا شك أن المخلوقات تصنف أصنافاً متنوعة على حسب تصنيف المتكلم أو السامع، فالعالمون في مقام ذكر الخلق هم أصناف المخلوقات كالإنس، والدواب، والطير، والحوت، والعالمون في مقام ذكر فضائل الخلق، أو الأمم، أو القبائل يراد بها أصناف تلك المتحدث عنها؛ فلا جرم أن يكون المراد من العالمين هنا هم الأمم الإنسانية؛ فيعم جميع الأمم؛ لأنه جَمْعٌ مُعَرّفٌ باللام، ولكن عمومه هنا عرفي يختص بأمم زمانهم كما يختص نحو: جَمَعَ الأميرُ الصاغةَ بصاغة مكانه أي بلده، ويختص _أيضاً_ بالأمم المعروفة، كما يختص جمع الأمير الصاغة بالصاغة المتخذين الصياغة صناعة دون كل من يعرف الصياغة، وذلك كقولك هو أشهر العلماء، وأنجب التلامذة؛ فالآية تشير إلى تفضيل بني إسرائيل المخاطبين، أو سلفهم على أمم عصرهم، لا على بعض الجماعات الذين كانوا على دين كامل مثل نصارى نجران؛ فلا علاقة له بمسألة تفضيل الأنبياء على الملائكة بحال، ولا التفات إلى ما يشذ في كل أمة، أو قبيلة من الأفراد؛ فلا يلزم تفضيل كل فرد من بني إسرائيل على أفراد من الأمم بلغوا مرتبة صالحة، أو نبوءة؛ لأن التفضيل في مثل هذا يراد به تفضيل المجموع، كما تقول قريش أفضل من طيء، وإن كان في طيء حاتم الجواد.(1/138)
فكذلك تفضيل بني إسرائيل على جميع أمم عصرهم، وفي تلك الأمم أمم عظيمة كالعرب، والفرس، والروم، والهند، والصين، وفيهم العلماء، والحكماء، ودعاة الإصلاح، والأنبياء؛ لأنه تفضيل المجموع على المجموع في جميع العصور، ومعنى هذا التفضيل أن الله قد جمع لهم من المحامد التي تتصف بها القبائل، والأمم ما لم يجمعه لغيرهم وهي: شرف النسب، وكمال الخلق، وسلامة العقيدة، وسعة الشريعة، والحرية، والشجاعة، وعناية الله _تعالى_ بهم في سائر أحوالهم، وقد أشارت إلى هذا آية [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ] وهذه الأوصاف ثبتت لأسلافهم في وقت اجتماعها.
وقد شاع أن الفضائل تعود على الخلف بحسن السمعة، وإن كان المخاطبون يومئذ لم يكونوا بحال التفضيل على العالمين، ولكنهم ذكروا بما كانوا عليه؛ فإن فضائل الأمم لا يلاحظ فيها الأفراد ولا العصور، ووجه زيادة الوصف بقوله: [الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ] مرَّ في أختها الأولى. 1/483_484
50_ والشفاعة: السعي والوساطة في حصول نفع، أو دفع ضر سواء كانت الوساطة بطلب من المنتفع بها، أم كانت بمجرد سعي المتوسط، ويقال لطالب الشفاعة: مستشفع.
وهي مشتقة من الشفع؛ لأن الطالب، أو التائب يأتي وحده، فإذا لم يجد قبولاً ذهب، فأتى بمن يتوسل به؛ فصار ذلك الثاني شافعاً للأول أي مصيّره شفعاً. 1/486(1/139)
51_ واتفق المسلمون على ثبوت الشفاعة يوم القيامة للطائعين، والتائبين؛ لرفع الدرجات، ولم يختلف في ذلك الأشاعرة، والمعتزلة؛ فهذا اتفاق على تخصيص العموم ابتداء، والخلاف في الشفاعة لأهل الكبائر، فعندنا تقع الشفاعة لهم في حط السيئات وقت الحساب، أو بعد دخول جهنم، لما اشتهر من الأحاديث الصحيحة في ذلك كقوله": =لكل نبي دعوة مستجابة، وقد ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي+ وغير ذلك.
قال القاضي أبو بكر الباقلاني: إن الأحاديث في ذلك بلغت مبلغ التواتر المعنوي _كما أشار إليه القرطبي في نقل كلامه_.
وعند المعتزلة لا شفاعة لأهل الكبائر؛ لوجوه منها الآيات الدالة على عدم نفع الشفاعة كهاته الآية، وقوله: [فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ]، [مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ]، [مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ].
قالوا: والمعصية ظلم، ومنها قوله _تعالى_: [وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى] وصاحب الكبيرة ليس بمرتضى، ومنها قوله: [فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا].
والجواب عن الجميع أن محل ذلك كله في الكافرين جمعاً بين الأدلة، وأن قوله: [لِمَنْ ارْتَضَى] يدل على أن هنالك إذناً في الشفاعة كما قال: [إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ] وإلا لكان الإسلام مع ارتكاب بعض المعاصي مساوياً للكفر، وهذا لا ترضى به حكمة الله، وأما قوله: [فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا] فدعاء لا شفاعة.
والظاهر أن الذي دعا المعتزلة إلى إنكار الشفاعة منافاتها لخلود صاحب الكبيرة في العذاب الذي هو مذهب جمهورهم الذين فسروا قول واصل بن عطاء بالمنزلة بين المنزلتين بمعنى إعطاء العاصي حكم المسلم في الدنيا، وحكم الكافر في الآخرة، ولا شك أن الشفاعة تنافي هذا الأصل، فما تمسكوا به من الآيات إنما هو لقصد التأبيد، ومقابلة أدلة أهل السنة بأمثالها.(1/140)
ولم نر جوابهم عن حديث الشفاعة، وأحسب أنهم يجيبون عنه بأن أخبار الآحاد لا تنقض أصول الدين، ولذلك احتاج القاضي أبو بكر إلى الاستدلال بالتواتر المعنوي.
والحق أن المسألة أعلقُ بالفروع منها بالأصول؛ لأنها لا تتعلق بذات الله، ولا بصفاته، ولو جاريناهم في القول بوجوب إثابة المطيع، وتعذيب العاصي فإن الحكمة تظهر بدون الخلود، وبحصول الشفاعة بعد المكث في العذاب، فلما لم نجد في إثبات الشفاعة ما ينقض أصولهم فنحن نقول لهم: لم يبقَ إلا أن هذا حكم شرعي في تقدير صاحب الكبيرة غير التائب، وهو يُتَلَقَّى من قبل الشارع، وعليه فيكون تحديد العذاب بمدة معينة، أو إلى حصول عفو الله، أو مع الشفاعة، ولعل الشفاعة تحصل عند إرادة الله _تعالى_ إنهاء مدة التعذيب.
وبعد: فمن حق الحكمة أن لا يستوي الكافرون والعصاة في مدة العذاب، ولا في مقداره؛ فهذه قولة ضعيفة من أقوالهم حتى على مراعاة أصولهم.
وقد حكى القاضي أبو بكر الباقلاني إجماع الأمة قبل حدوث البدع على ثبوت الشفاعة في الآخرة، وهو حق؛ فقد قال سواد بن قارب يخاطب رسول الله ":
فكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة ... بمغنٍ فتيلاً عن سواد بن قارب
وأما الشفاعة الكبرى العامة لجميع أهل موقف الحساب الوارد فيها الحديث الصحيح المشهور _ فإن أصول المعتزلة لا تأباها. 1/487_488
52_ جاء في التاريخ أن مبدأ استقرار بني إسرائيل بمصر كان سببه دخول يوسف _عليه السلام_ في تربية العزيز طيفار كبير شرط فرعون، وكانت مصر منقسمة إلى قسمين مصر العليا الجنوبية المعروفة اليوم بالصعيد لحكم فراعنة من القبط وقاعدتها طيوة، ومصر السفلى وهي الشمالية وقاعدتها منفيس وهي القاعدة الكبرى التي هي مقر الفراعنة.(1/141)
وهذه قد تغلَّب عليها العمالقة من الساميين أبناء عمِّ ثمود وهم الذين يلقبون في التاريخ المصري بالرعاة الرحالين وبالهكصوص في سنة 3300 أو سنة 1900 قبل المسيح على خلاف ناشئ عن الاختلاف في مدة بقائهم بمصر الذي انتهى سنة 1700 ق م عند ظهور العائلة الثامنة عشرة.
فكان يوسف عند رئيس شرط فرعون العمليقي، واسم فرعون يومئذ أبو فيس أو أبيي.
وأهل القصص ومن تلقف كلامهم من المفسرين سموه ريان بن الوليد، وهذا من أوهامهم وكان ذلك في حدود سنة 1739 قبل ميلاد المسيح، ثم كانت سكنى بني إسرائيل مصر بسبب تنقل يعقوب وأبنائه إلى مصر حين ظهر أمر يوسف، وصار بيده حكم المملكة المصرية السفلى.
وكانت معاشرة الإسرائيليين للمصريين حسنة زمناً طويلاً غير أن الإسرائيليين قد حافظوا على دينهم ولغتهم وعاداتهم، فلم يعبدوا آلهة المصريين وسكنوا جميعاً بجهة يقال لها أرض جاسان، ومكث الإسرائيليون على ذلك نحواً من أربعمائة سنة تغلَّب في خلالها ملوك المصريين على ملوك العمالقة، وطردوهم من مصر حتى ظهرت في مصر العائلة التاسعة عشرة، وملك ملوكها جميع البلاد المصرية، ونبغ فيهم رعمسيس الثاني الملقب بالأكبر في حدود سنة 1311 قبل المسيح، وكان محارباً باسلاً، وثارت في وجهه الممالك التي أخضعها أبوه، ومنهم الأمم الكائنة بأطراف جزيرة العرب، فحدثت أسباب أو سوء ظنون أوجبت تنكر القبط على الإسرائيليين، وكلفوهم أشقَّ الأعمال، وسخروهم في خدمة المزارع والمباني، وصنع الآجُرّ.
وتقول التوراة: إنهم بنوا لفرعون مدينة مخازن (فيثوم) ومدينة رعمسيس، ثم خشي فرعون أن يكون الإسرائيليون أعواناً لأعدائه عليه؛ فأمر باستئصالهم وكأنه اطلع على مساعدة منهم لأبناء نسبهم من العمالقة والعرب؛ فكان يأمر بقتل أبنائهم، وسبي نسائهم، وتسخير كبارهم.(1/142)
ولا بد أن يكون ذلك لما رأى منهم من التنكر، أو لأن القبط لما أفرطوا في استخدام العبرانيين علم فرعون أنه إن اختلطت جيوشه في حرب لا يسلم من ثورة الإسرائيليين؛ فأمر باستئصالهم.
وأما ما يحكيه القصاصون أن فرعون أخبره كاهن أن ذهاب ملكه يكون على يد فتى من إسرائيل فلا أحسبه صحيحاً؛ إذ يبعد أن يروج مثل هذا على رئيس مملكة، فيفني به فريقاً من رعاياه، اللهم إلا أن يكون الكهنة قد أغروا فرعون باليهود؛ قصداً لتخليص المملكة من الغرباء، أو تفرسوا من بني إسرائيل سوء النوايا؛ فابتكروا ذلك الإنباء الكهنوتي؛ لإقناع فرعون بوجوب الحذر من الإسرائيليين.
ولعل ذبح الأبناء كان من فعل المصريين؛ استخفافاً باليهود، فكانوا يقتلون اليهودي في الخصام القليل كما أنبأت بذلك آية [فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِيْ مِنْ شِيْعَتِهِ عَلَى الَّذِيْ مِنْ عَدُوِّهِ].
والحاصل أن التاريخ يفيد _على الإجمال_ أن عداوة عظيمة نشأت بين القبط واليهود آلت إلى أن استأصل القبط الإسرائيليين.
ولقد أبدع القرآن في إجمالها؛ إذ كانت تفاصيل إجمالها كثيرة لا يتعلق غرض التذكير ببيانها. 1/490_492
53 _ وقد اتفقت القراءات المتواترة العشر على قراءة [فَرَقْنا] بالتخفيفِ، والتخفيفُ منظور فيه إلى عظيم قدرة الله _تعالى_ فكان ذلك الفَرْقُ الشديد خفيفاً.
وتصغر في عين العظيم العظائم
و(ال) في (البحر) للعهد وهو البحر الذي عهدوه أعني بحر القلزم المسمى اليوم بالبحر الأحمر، وسمته التوراة بحر سوف.1/494
54_ والصاعقة: نار كهربائية من السحاب تحرق من أصابته، وقد لا تظهر النار، ولكن يصل هواؤها إلى الأحياء؛ فيختنقون بسبب ما يخالط الهواء الذي يتنفسون فيه من الحوامض الناشئة عن شدة الكهربائية، وقد قيل: إن الذي أصابهم نار، وقيل سمعوا صعقة فماتوا. 1/507(1/143)
55_ والمنّ: مادة صمغية جوية ينزل على شجر البادية شبه الدقيق المبلول، فيه حلاوة إلى الحموضة، ولونه إلى الصفرة ويكثر بوادي تركستان وقد ينزل بقلة غيرها، ولم يكن يعرف قبل في برية سينا.
وقد وصفته التوراة(1) بأنه، دقيق مثل القشور يسقط ندىً كالجليد على الأرض، وهو مثل بزر الكزبرة أبيض، وطعمه كرقاق بعسل.
وسَمَّتْهُ بنو إسرائيل منَّاً، وقد أمروا أن لا يبقوا منه للصباح؛ لأنه يتولد فيه دود وأن يلتقطوه قبل أن تحمى الشمس؛ لأنها تذيبه، فكانوا إذا التقطوه طحنوه بالرحا، أو دقوه بالهاون، وطبخوه في القدور، وعملوه مِلاتَّ، وكان طعمه كطعم قطائف بزيت(2) وأنهم أكلوه أربعين سنة حتى جاؤوا إلى طرف أرض كنعان يريد إلى حبرون. 1/509
56_ وأما السلوى: فهي اسم جنس جمعي واحدته سلواة، وقيل: لا واحد له، وقيل: واحده وجمعه سواء وهو طائر بري، لذيذ اللحم، سهل الصيد كانت تسوقه لهم ريح الجنوب كل مساء، فيمسكونه قبضاً ويسمى هذا الطائر _أيضاً_ السُّمَانى بضم السين وفتح الميم مخففة بعدها ألف فنون مقصور كحُبارى.
وهو _أيضاً_ اسم يقع للواحد والجمع، وقيل: هو الجمع، وأما المفرد فهو سماناة. 1/510
57_ وقوله: [فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين] كونوا أمر تكوين، والقردة بكسر القاف وفتح الراء جمع قرد، وتكوينهم قردة يحتمل أن يكون بتصيير أجسامهم أجسامَ قردةٍ مع بقاء الإدراك الإنساني، وهذا قول جمهور العلماء والمفسرين.
ويحتمل أن يكون بتصيير عقولهم كعقول القردة مع بقاء الهيكل الإنساني وهذا قول مجاهد.
__________
(1) _ سفر الخروج الإصحاح16.
(2) _ سفر العدد الإصحاح 11.(1/144)
والعبرة حاصلة على كلا الاعتبارين، والأول أظهر في العبرة؛ لأن فيه اعتبارهم بأنفسهم واعتبار الناس بهم بخلاف الثاني، والثاني أقرب للتاريخ؛ إذ لم ينقل مسخ في كتب تاريخ العبرانيين، والقدرة صالحة للأمرين، والكلُّ معجزة للشريعة، أو لداود(1) ولذلك قال الفخر: ليس قول مجاهد ببعيد جداً، لكنه خلاف الظاهر من الآية، وليس الآية صريحة في المسخ.
ومعنى كونهم قردة أنهم لما لم يتلقوا الشريعة بفهم مقاصدها ومعانيها، وأخذوا بصورة الألفاظ فقد أشبهوا العجماوات في وقوفها عند المحسوسات؛ فلم يتميزوا عن العجماوات إلا بالشكل الإنساني، وهذه القردة تشاركهم في هذا الشبه وهذا معنى قول مجاهد هو مسخ قلوب لا مسخ ذوات.
ثم إن القائلين بوقوع المسخ في الأجسام اتفقوا أو كادوا على أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام، وأنه لا يتناسل.
وروى ذلك ابن مسعود عن النبي"في صحيح مسلم أنه قال: =لم يهلك الله قوماً أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلاً+.
وهو صريح في الباب، ومن العلماء من جوز تناسل الممسوخ وزعموا أن الفيل والقرد والضب والخنزير من الأمم الممسوخة، وقد كانت العرب تعتقد ذلك في الضب، قال أحد بني سليم _وقد جاء لزوجه بضب فأبت أن تأكله_:
قالت وكنت رجلاً فطينا ... هذا لعمر الله إسرائينا
حتى قال بعض الفقهاء بحرمة أكل الفيل ونحوه بناء على احتمال أن أصله نسل آدمي. 1/544_545
58_ والجهل ضد العلم وضد الحلم، وقد ورد لهما في كلام العرب، فمن الأول قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ومن الثاني قول الحماسي:
فليس سواء عالم وجهول
وقول النابغة:
وليس جاهل شيء مثل من علما
1/548
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: لموسى. (م)(1/145)
59_ وذهب قوم إلى أن إثبات كاد يستلزم نفي الخبر على الوجه الذي قررناه في تقرير المذهب الأول، وأن نفيها يصير إثباتا على خلاف القياس، وقد اشتهر هذا بين أهل الأعراب حتى ألغز فيه أبو العلاء المعري بقوله:
أنحوي هذا العصر ما هي لفظة ... أتت في لساني جُرْهمٍ وثمود
إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت ... وإن أثبتت قامت مقام جحود
وقد احتجوا لذلك بقوله _تعالى_ [فذبحوها وما كادوا يفعلون].
وهذا من غرائب الاستعمال الجاري على خلاف الوضع اللغوي.
وقد جرت في هذا نادرة أدبية ذكرها الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز وهي أن عنبسة العنسي الشاعر قال: قدم ذو الرمة الكوفة فوقف على ناقته بالكناسة(1) ينشد قصيدته الحائية التي أولها:
أمنزلتي ميٍّ سلام عليكما ... على النأي والنائي يود وينصح
حتى بلغ قوله فيها:
إذا غير النأيُ المحبين لم يكد ... رسيسُ الهوى مِنْ حُبِّ ميةَ يبرح
وكان في الحاضرين ابن شبرمة فناداه ابن شبرمة: يا غيلان أراه قد برح، قال: فشنق ناقته، وجعل يتأخر بها ،ويتفكر، ثم قال: =لم أجد+ عوض =لم يكد+.
قال عنبسة: فلما انصرفت حدثت أبي، فقال لي: أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرمة، وأخطأ ذو الرمة حين غير شعره؛ لقول ابن شبرمة، إنما هذا كقول الله _تعالى_: [ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا].
وإنما هو لم يرها، ولم يكد.
وذهب قوم منهم أبو الفتح بن جني وعبد القاهر وابن مالك في التسهيل إلى أن أصل كاد أن يكون نفيها لنفي الفعل بالأولى كما قال الجمهور إلا أنها قد يستعمل نفيها للدلالة على وقوع الفعل بعد بطء وجهد وبعد أن كان بعيداً في الظن أن يقع.
__________
(1) _ الكناسة: بضم الكاف أصله اسم لما يكنس, وسمي بها ساحة بالكوفة مثل المربد بالبصرة.(1/146)
وأشار عبد القاهر إلى أن ذلك استعمال جرى في العرف وهو يريد بذلك أنها مجاز تمثيلي بأن تشبه حالة من فعل الأمر بعد عناء بحالة من بعد عن الفعل، فاستعمل المركب الدال على حالة المشبه به في حالة المشبه، ولعلهم يجعلون نحو قوله فذبحوها قرينة على هذا القصد. 1/558
60_ والأمي من لا يعرف القراءة والكتابة، والأظهر أنه منسوب إلى الأمة بمعنى عامة الناس؛ فهو يرادف العامي.
وقيل: منسوب إلى الأم وهي الوالدة أي أنه بقي على الحالة التي كان عليها مدةَ حضانةِ أمِّه إياه، فلم يكتسب علما جديداً.
ولا يعكِّر عليه أنه لو كان كذلك لكان الوجه في النسب أن يقولوا: أمهي بناءً على أن النسب يرد الكلمات إلى أصولها، وقد قالوا في جمع الأم: أمهات فردُّوا المفرد إلى أصله، فدلوا على أن أصل أم أمهة؛ لأن الأسماء إذا نقلت من حالة الاشتقاق إلى جعلها أعلاماً قد يقع فيها تغيير لأصلها.1/573
61_ وجعل الإحسان لسائر الناس بالقول؛ لأنه القدر الذي يمكن معاملة جميع الناس به، وذلك أن أصل القول أن يكون عن اعتقاد، فهم إذا قالوا للناس حسناً فقد أضمروا لهم خيراً، وذلك أصل حسن المعاملة مع الخلق، قال النبي": =لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه+.
وقد علمنا الله _تعالى_ ذلك بقوله: [وَلاَ تَجْعَلْ فِيْ قُلُوْبِنَا غِلاًّ لِلَّذِيْنَ آمَنُوْا] على أنه إذا عرض ما يوجب تَكَدُّرَ الخاطر فإن القول الحسن يزيل ما في نفس القائل من الكدر؛ ويري للمقول له الصفاء، فلا يعامله إلا بالصفاء قال المعري:
والخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر
على أن الله أمر بالإحسان الفعلي حيث يتعين ويدخل تحت قدرة المأمور، وذلك الإحسان للوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين وإيتاء الزكاة، وأمر بالإحسان القولي إذا تعذر الفعلي على حد قول أبي الطيب:
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
1/583(1/147)
62_ وعيسى اسم مُعَرَّب من يشوع أو يسوع، وهو اسم عيسى ابن مريم قلبوه في تعريبه قلباً مكانياً؛ ليجري على وزن خفيف؛ كراهية اجتماع ثقل العجمة، وثقل ترتيب حروف الكلمة؛ فإن حرفي علة في الكلمة وشيناً والختم بحرف حلق لا يجري هذا التنظيم على طبيعة ترتيب الحروف مع التنفس عند النطق بها؛ فقدموا العين؛ لأنها حلقية؛ فهي مبدأ النطق، ثم حركوا حروفه بحركات متناسبة، وجعلوا شينه المعجمة الثقيلة سينا مهملة؛ فللَّه فصاحة العربية.
ومعنى يشوع بالعبرانية السيد أو المبارك.
ومريم هي أم عيسى وهذا اسمها بالعبرانية نقل للعربية على حاله، لخفته، ولا معنى لمريم في العربية غير العلمية إلا أن العرب المتنصرة عاملوه معاملة الصِّفة في معنى المرأة المتباعدة عن مشاهدة النساء؛ لأن هاته الصفة اشتهرت بها مريم؛ إذ هي أول امرأة عبرانية خدمت بيت المقدس؛ فلذلك يقولون: امرأةٌ مريمٌ أي معرضة عن صفات النساء كما يقولون رجل حاتم بمعنى جواد، وذلك معلوم منهم في الأعلام المشتهرة بالأوصاف. 1/594
63_ وعيسى _عليه السلام_ هو ابن مريم كَوَّنه الله في بطنها بدون مس رجل، وأمه مريم ابنة عمران من سبط يهوذا.
ولد عيسى في مدة سلطنة أغسطس ملك رومية وفي مدة حكم هيردوس على القدس من جهة سلطان الرومان وذلك في سنة 430 عشرين وستمائة(1) قبل الهجرة المحمدية، وكانت ولادته بقرية تعرف ببيت لحم اليهودية، ولما بلغ ثلاثين سنة بعث رسولاً إلى بني إسرائيل وبقي في الدنيا إلى أن بلغ سنه ثلاثاً وثلاثين سنة.
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب 620، أو الكتابة عشرين وستمائة خطأٌ وصوابها: ثلاثين وأربعمائة. (م)(1/148)
وأما مريم أمه فهي مريم ابنة عمران بن ماثان من سبط يهوذا ولَدَتْ عيسى وهي ابنة ثلاث عشرة سنة؛ فتكون ولادتها في سنة ثلاث عشرة قبل ميلاد عيسى وتوفيت بعد أن شاخت، ولا تعرف سنة وفاتها، وكان أبوها مات قبل ولادتها، فكفلها زكرياء من بني أبيا وهو زوج اليصابات خالة مريم وكان كاهناً من أحبار اليهود. 1/595
64_ والروح: جوهر نوراني لطيف أي غير مدرك بالحواس؛ فيطلق على النفس الإنساني الذي به حياة الإنس.
ولا يطلق على ما به حياة العجماوات إلا لفظ نفس، قال _تعالى_: [وَيَسْأَلُوْنَكَ عَنِ الرُّوْحِ قُلِ الرُّوْحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّيْ].
ويطلق على قوة من لدن الله _تعالى_ يكون بها عمل عجيب ومنه قوله: [فَنَفَخْنَا فِيْهَا مِنْ رُوْحِنَا].
ويطلق على جبريل كما في قوله: [نَزَلَ بِهِ الرًّوْحُ الأَمِيْنُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُوْنَ مِنَ المُنْذَرِيْنَ] وهو المراد في قوله _تعالى_: [تَنَزَّلُ المَلاَئِكَةُ وَالرُّوْحُ فِيْهَا]. 1/595
65_ و[قَلِيْلا] يجوز أن يكون باقياً على حقيقته مشاراً به إلى إيمانهم ببعض الكتاب أو إِلى إيمانهم ببعض ما يدعو له النبي"مما يوافق دينهم القديم كالتوحيد ونبوءة موسى، أو إلى إيمان أفراد منهم في بعض الأيام؛ فإن إيمان أفراد قليلة منهم يستلزم صدور إيمان من مجموع بني إسرائيل في أزمنة قليلة أو حصول إيمانات قليلة.
ويجوز أن يكون قليلٌ هنا مستعملاً في معنى العدم، فإن القلة تستعمل في العَدَم في كلام العرب، قال أبو كبير الهذلي(1):
قليلُ التشكي للمهمِّ يصيبه ... كثيرُ الهوى شتى النوى والمسالك
أراد أنه لا يتشكى.
__________
(1) _ ومنه قول عبيد بن الأبرص:
أشمُّ نديٌ كثيرُ النوادي ... قليل المثالب والقادحات
وقول ذو الرمة يصف ناقة:
أنيخت فالقت بلدة فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلا بغامها
ة
أراد: لا أصوات فيها. (م)(1/149)
وقال عون بن عبدالله بن عتبة بن مسعود في أرض نصيبين: =كثيرة العقارب قليلة الأقارب+ أراد عديمة الأقارب، ويقولون: فلان قليل الحياء.1/600
66_ وقوله: [ولتجدنهم] من الوَجَدَان القلبي المتعدي إلى مفعولين، والمراد من الناس في الظاهر جميع الناس أي جميع البشر فهم أحرصهم على الحياة؛ فإن الحرص على الحياة غريزة في الناس إلا أن الناس فيه متفاوتون قوة وكيفية وأسباباً قال أبو الطيب:
أرى كلنا يهوى الحياة بسعيه ... حريصاً عليها مستهاماً بها صَبَّا
فحب الجبان النفس أورده التقى ... وحب الشجاع النفس أورده الحربا
ونكَّر الحياة قصداً للتنويع، أي كيفما كانت تلك الحياة، وتقول يهود تونس ما معناه: =الحياة وكفى+. 1/617
67_ والقلب هنا بمعنى النفس وما به الحفظ والفهم، والعرب تطلق القلب على هذا الأمر المعنوي نحو: [إِنَّ فيْ ذَلِكَ لَذِكْرَى لمَنْ كَاْنَ لَهُ قَلْبٌ].
كما يطلقونه _أيضاً_ على العضو الباطني الصنوبري كما قال(1):
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً
1/622
68_ وفي ميكائيل لغات إحداها ميكائيل بهمزة بعد الألف وياء بعد الهمزة وبها قرأ الجمهور.
الثانية: (ميكائل) بهمزة بعد الألف وبلا ياء بعد الهمزة وبها قرأ نافع.
الثالثة: (ميكال) بدون همز ولا ياء وبها قرأ أبو عمرو وحفص وهي لغة أهل الحجاز. 1/623_624
__________
(1) _ القائل امروء القيس، وعجز البيت:
...................................... لدى وكرها العناب والحشف الحالي (م)(1/150)
69_ وسليمان هو النبي سليمان بن داود بن يسي من سبط يهوذا ولد سنة 1032 (اثنتين وثلاثين وألف قبل المسيح) وتوفي في أورشليم سنة 975 (خمس وسبعين وتسعمائة قبل المسيح) وولي ملك إسرائيل سنة 1014 (أربع عشرة وألف قبل المسيح) بعد وفاة أبيه داود النبي ملك إسرائيل، وعَظُمَ مُلْكُ بني إسرائيل في مدته وهو الذي أمر ببناء مسجد بيت المقدس، وكان نبياً حكيماً شاعراً، وجعل لمملكته أسطولاً بحرياً عظيماً كانت تمخر سفنه البحار إلى جهات قاصية مثل شرق إفريقيا. 1/629_630
70_ والسحر من المعارف القديمة التي ظهرت في منبع المدنية الأولى أعني ببلاد المشرق؛ فإنه ظهر في بلاد الكلدان والبابليين وفي مصر في عصر واحد وذلك في القرن الأربعين قبل المسيح مما يدل على أنها كانت في تينك الأمتين من تعاليم قوم نشأوا قبلهما؛ فقد وُجِدَتْ آثارٌ مصريةٌ سحريةٌ في عصر العائلة الخامسة من الفراعنة والعائلة السادسة 3951_3703 ق.م.
وللعرب في السحر خيالٌ واسعٌ وهو أنهم يزعمون أن السحر يقلب الأعيان، ويقلب القلوب، ويطوِّع المسحورَ للساحر؛ ولذلك كانوا يقولون: إن الغول ساحرة الجن ولذلك تتشكل للرائي بأشكال مختلفة.
وقالت قريش لما رأوا معجزات رسول الله: إنه ساحر، قال الله _تعالى_: [وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ] وقال الله _تعالى_: [وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنْ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ].
وفي حديث البخاري عن عمران بن حصين: أن القوم عطشوا في سفر مع رسول الله، فطلبوا الماء فوجدوا امرأة على بعير لها مزادتان من ماء، فأتيا بها رسول الله فسقى رسول الله جميع الجيش ثم رد إليها مزادتيها كاملتين، فقالت لقومها: =فوالله إنه لأسحر من بين هذه وهذه _تعني السماء والأرض_+ وفي الحديث: =إن من البيان لسحراً+.(1/151)
ولم أر ما يدل على أن العرب كانوا يتعاطون السحر؛ فإن السحر مستمد من خصائص الأمور الطبيعية والتركيب، ولم يكن للعرب ضلاعة في الأمور اليدوية بل كانت ضلاعتهم فكرية محضة، وكان العرب يزعمون أن أعلم الناس بالسحر اليهود والصابئة وهم أهل بابل، ومساق الآية يدل على شهرة هؤلاء بالسحر عند العرب.
وقد اعتقد المسلمون أن اليهود في يثرب سحروهم، فلا يولد لهم، فلذلك استبشروا لما ولد عبد الله بن الزبير، وهو أول مولود للمهاجرين بالمدينة _كما في صحيح البخاري_.
ولذلك لم يكثر ذكر السحر بين العرب المسلمين إلا بعد أن هاجروا إلى المدينة؛ إذ قد كان فيها اليهود، وكانوا يوهمون بأنهم يسحرون الناس. 1/631_632
71_ وأصول السحر ثلاثة: الأول: زجر النفوس بمقدمات توهيمية وإرهابية بما يعتاده الساحر من التأثير النفساني في نفسه، ومن الضعف في نفس المسحور، ومن سوابقَ شاهدَها المسحورُ واعتقدها، فإذا توجه إليه الساحر سخَّر له.
وإلى هذا الأصل الإشارة بقوله _تعالى_ في ذكر سحرة فرعون: [سَحَرُوْا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوْهُمْ].
الثاني: استخدام مؤثرات من خصائص الأجسام من الحيوان والمعدن، وهذا يرجع إلى خصائص طبيعية كخاصية الزئبق، ومن ذلك العقاقير المؤثرة في العقول صلاحاً أو فساداً، والمفترة للعزائم، والمخدرات والمرقدات على تفاوت تأثيرها وإلى هذا الإشارة بقوله _تعالى_ في سحرة فرعون: [إِنَّ مَاْ صَنَعُوْا كَيْدُ سَاْحِرٍ].
الثالث: الشعوذة واستخدام خفايا الحركة والسرعة والتموج حتى يخيل الجماد متحركا وإليه الإشارة بقوله _تعالى_: [يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى].
هذه أصول السحر بالاستقراء، وقد قسمها الفخر في التفسير إلى ثمانية أقسام لا تعدو هذه الأصول الثلاثة، وفي بعضها تداخل.
ولعلماء الإفرنج تقسيم آخر ليس فيه كبير جدوى. 1/633(1/152)
72_ ثم إن لتأثير هاته الأسباب أو الأصول الثلاثة شروطاً وأحوالاً بعضها في ذات الساحر وبعضها في ذات المسحور، فيلزم في الساحر أن يكون مفرط الذكاء، منقطعاً لتجديد المحاولات السحرية، جسوراً قوي الإرادة، كتوماً للسر، قليلَ الاضطراب للحوادث، سالمَ البنيةِ، مرتاضَ الفكرِ خفيَّ الكيد والحيلة.
ولذلك كان غالبُ السحرةِ رجالاً، ولكن كان الحبشة يجعلون السواحر نساءً، وكذلك كان الغالب في الفرس والعرب قال _تعالى_: [وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ في الْعُقَدِ] فجاء بجمع الإناث، وكانت الجاهلية تقول: إن الغيلان عجائز من الجن ساحرات؛ فلذلك تستطيع التَّشَكُّل بأشكال مختلفة، وكان معلمو السحر يمتحنون صلاحية تلامذتهم لهذا العلم بتعريضهم للمخاوف، وأَمْرِهِمْ بارتكاب المشاق؛ تجربةً لمقدار عزائمهم وطاعتهم.
وأما ما يلزم في المسحور فَخَوَرُ العقلِ، وضَعْفُ العزيمة، ولطافة البنية، وجهالة العقل، ولذلك كان أكثر الناس قابليةً له النساء والصبيان والعامة ومن يَتَعَجَّبُ في كل شيء.
ولذلك كان من أصول السحر إلقاء أقوال كاذبة على المسحور؛ لاختبار مقدار عقله في التصديق بالأشياء الواهية والثقة بالساحر، قال _تعالى_: [وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)] فجعلوا ذلك القول الغريب سحراً. 1/634_635
73_ فكان السحرُ قرينَ خباثةِ نفسٍ، وفسادِ دينٍ، وشرِّ عملٍ، وإرعابٍ وتهويلٍ على الناس؛ من أجل ذلك ما فتئت الأديان الحقة تحذر الناس منه وتعد الاشتغال به مُرُوقاً عن طاعة الله _تعالى_ لأنه مبني على اعتقاد تأثير الآلهة والجن المنسوبين إلى الآلهة في عقائد الأقدمين. 1/636(1/153)
74_ وبابل بلد قديم من مدن العالم؛ وأصل الاسم باللغة الكلدانية باب إيلو أي باب الله، ويرادفه بالعبرانية باب إيل، وهو بلد كائن على ضفتي الفرات بحيث يخترقه الفرات يَقْرُبُ موضعُه من موقع بلد الحلة الآن على بعد أميال من ملتقى الفرات والدجلة.
كانت من أعظم مدن العالم القديم بناها أولاً أبناء نوح بعد الطوفان فيما يقال، ثم توالى عليها اعتناء أصحاب الحضارة بمواطن العراق في زمن الملك النمروذ في الجيل الثالث من أبناء نوح، ولكن ابتداء عظمة بابل كان في حدود سنة 3755 (ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وخمسين قبل المسيح) فكانت إحدى عواصم أربعة لمملكة الكلدانيين وهي أعظمها وأشهرها، ولم تزل همم ملوك الدولتين الكلدانية والأشورية منصرفةً إلى تعمير هذا البلد وتنميقه؛ فكان بلد العجائب من الأبنية والبساتين ومنبع المعارف الأسيوية، والعجائب السحرية، وقد نسبوا إليها قديماً الخمر المعتقة والسحر قال أبو الطيب:
سقى الله أيام الصبا ما يسرها ... ويفعل فعل البابلي المعتق(1)
1/641_642
__________
(1) _ الذي ذكره الواحدي والمعري في تفسير البيت أنه أراد بالبابلي الخمر، وكنت رأيت في بعض كتب الأدب أن بعض من ناظر المتنبي انتقد هذا الإطناب مع أنه كان يستطيع أن يقول سقاها خمراً لا سيما وقد قال: ما يسرها, قلت: وقرينة كونه المراد وصفه بالمعتق وهو من أوصاف الخمر, والعذر للمتنبي أنه أراد سقاها الله خمراً كخمر بابل؛ فلا ضير في ذلك.(1/154)
75_ و[هاروت وماروت] بدل من [الملكين] وهما اسمان كلدانيان دخلهما تغيير التعريف؛ لإجرائهما على خفة الأوزان العربية، والظاهر أن هاروت معرب هاروكا، وهو اسم القمر عند الكلدانيين، وأن ماروت معرب ماروداخ وهو اسم المشتري عندهم، وكانوا يعدون الكواكب السيارة من المعبودات المقدسة التي هي دون الآلهة لا سيما القمر؛ فإنه أشد الكواكب تأثيراً عندهم في هذا العالم وهو رمز الأنثى، وكذلك المشتري؛ فهو أشرف الكواكب السبعة عندهم، ولعله كان رمز الذَّكَر عندهم كما كان بَعْلُ عند الكنعانيين الفنيقيين.
ومن المعلوم أن إسناد هذا التقديس للكواكب ناشئ عن اعتقادهم أنهم كانوا من الصالحين المقدَّسين، وأنهم بعد موتهم رُفِعُوا للسماء في صورة الكواكب، فيكون هاروكا و ماروداخ قد كانا من قدماء علمائهم وصالحيهم والحاكمين في البلاد، وهما اللذان وضعا السحر.
ولعل هذا وجه التعبير عنهما في القصة بالملكين بفتح اللام.
ولأهل القصص هنا قصة خرافية من موضوعات اليهود في خرافاتهم الحديثة اعتاد بعض المفسرين ذكرها منهم ابن عطية والبيضاوي، وأشار المحققون مثل البيضاوي، والفخر، وابن كثير، والقرطبي، وابن عرفة _ إلى كَذِبِها، وأنها من مرويات كعب الأحبار.
وقد وهم فيها بعض المتساهلين في الحديث فنسبوا روايتها عن النبي"أو عن بعض الصحابة بأسانيد واهية والعجب للإمام أحمد ابن حنبل × _تعالى_ كيف أخرجها مسندة للنبي"ولعلها مدسوسة على الإمام أحمد، أو أنه غَرَّه فيها ظاهر حال رواتها مع أن فيهم موسى بن جبير، وهو متكلم فيه، واعتذر عبدالحكيم، بأن الرواية صحيحة إلا أن المروي راجع إلى أخبار اليهود؛ فهو باطل في نفسه ورواته صادقون فيما رووا.
وهذا عذر قبيح لأن الرواية أسندت إلى النبي"قال ابن عرفة في تفسيره: وقد كان الشيوخ يخطئون ابن عطية في هذا الموضع لأجل ذكره القصة، ونقل بعضهم عن القرافي أن مالكاً×أنكر ذلك في حق هاروت وماروت. 1/642_643(1/155)
76_ وتوفي إبراهيم سنة 1773 (ثلاث وسبعين وسبعمائة وألف قبل ميلاد المسيح) وفي اسمه لغات للعرب: إحداها إبراهيم وهي المشهورة وقرأ بها الجمهور، والثانية إبراهام وقعت في قراءة هشام عن ابن عامر حيثما وقع اسم إبراهيم، الثالثة إبراهم وقعت في رجز لزيد بن عمرو بن نفيل:
عذت بما عاذ به إبراهِمْ ... مستقبل الكعبة وهو قائم
وذكر أبو شامة في شرح حرز الأماني عن الفراء في إبراهيم ست لغات: إبراهيم، أبراهام، إبراهوم، إبراهم، بكسر الهاء، إبراهم بفتح الهاء إبراهم بضم الهاء.
ولم يقرأ جمهور القراء العشرة إلا بالأولى وقرأ بعضهم بالثانية في ثلاثة وثلاثين موضعاً سيقع التنبيه عليها في مواضعها، ومع اختلاف هذه القراءات فهو لم يكتب في معظم المصاحف الأصلية إلا إبراهيم بإثبات الياء. 1/702
77_ والثمرات جمع ثمرة وهي ما تحمل به الشجرة، وتنتجه، مما فيه غذاء للإنسان أو فاكهة له، وكأن اسمه منتسب من اسم التمر بالمثناة؛ فإن أهل الحجاز يريدون بالثمر بالمثلثة التمر الرطب، وبالمثناة التمر اليابس.
وللثمرة جموع متعددة وهي ثَمَرٌ بالتحريك، وثمار، وثُمُرٌ، بضمتين، وأثمار، وأثامير، قالوا: ولا نظير له في ذلك إلا أَكَمَةٌ جُمعت على أَكَمٌ وإكام وأُكُم وآكام وأكاميم. 1/715
78_ [وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ].
لما كان من شأن أهل الحق والحكمة أن يكونوا حريصين على صلاح أنفسهم وصلاح أمتهم _ كان من مكملات ذلك أن يحرصوا على دوام الحق في الناس متبعاً مشهوراً؛ فكان من سننهم التوصية لمن يظنونهم خلفاً عنهم في الناس بأن لا يحيدوا عن طريق الحق، ولا يفرِّطوا فيما حصل لهم منه؛ فإن حصوله بمجاهدة نفوس ومرور أزمان؛ فكان لذلك أمراً نفيساً يجدر أن يحتفظ به.(1/156)
والإيصاء: أمر أو نهي يتعلق بصلاح المخاطب خصوصاً أو عموماً، وفي فوته ضر؛ فالوصية أبلغ من مطلق أمر ونهي؛ فلا تطلق إلا في حيث يخاف الفوات إما بالنسبة للموصي؛ ولذلك كثر الإيصاء عند توقع الموت كما سيأتي عند قوله _تعالى_: [أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي].
وفي حديث العرباض: =وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يارسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا+ الحديث.
وأما بالنسبة إلى الموصَى كالوصية عند السفر في حديث معاذ حين بعثه رسول الله"لليمن كان آخر ما أوصاني رسول الله حين وضعت رجلي في الغرز أن قال: =حسن خلقك للناس+ وجاء رجل إلى النبي"فقال له: أوصني، قال: =لا تغضب+.
فوصية إبراهيم ويعقوب إما عند الموت كما تشعر به الآية الآتية: [إذ حضر يعقوب الموت] وإما في مظان خشية الفوات. 1/727_728
79_ وهذه الوصية جاءت عند الموت، وهو وقت التعجيل بالحرص على إبلاغ النصيحة في آخر ما يبقى من كلام الموصي؛ فيكونُ له رسوخٌ في نفوس الموصَين.
أخرج أبو داوود والترمذي عن العرباض بن سارية قال: =وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا+ الحديث.
وجاء يعقوب في وصيته بأسلوب الاستفهام؛ لينظر مقدار ثباتهم على الدين حتى يطلع على خالص طويتهم؛ ليلقي إليهم ما سيوصيهم به من التذكير، وجيء في السؤال بما الاستفهامية دون مَنْ؛ لأن (ما) هي الأصل عند قصد العموم؛ لأنه سألهم عما يمكن أن يعبده العابدون.
واقترن ظرف (بعدي) بحرف (مِنْ) لقصد التوكيد؛ فإن (مِنْ) هذه في الأصل ابتدائية؛ فقولك جئت من بعد الزوال يفيد أنك جئت في أول الأزمنة بعد الزوال، ثم عُومِلَتْ معاملةَ حرفِ تأكيد.(1/157)
وبنو يعقوبَ هم الأسباط أي أسباط إسحاق ومنهم تشعبت قبائل بني إسرائيل وهم اثنا عشر ابناً: رأوبين، وشمعون، ولاوى، ويهوذا، ويساكر، وزبولون (وهؤلاء أمهم ليئة) ويوسف، وبنيامين (أمهما راحيل) ودان ونفتالي (أمهما بلهة) وجاد،وأشير (أمهما زلفة). 1/732
80_ وأما إسحاق فهو ابن إبراهيم وهو أصغر من إسماعيل بأربع عشرة سنة، وأمه سارة، ولد سنة 1896 (ست وتسعين وثمانمائة وألف قبل ميلاد المسيح) وهو جد بني إسرائيل وغيرهم من أمم تقرب لهم. 1/733
81_ واليهود يقولون: إن الابن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه وفداه الله هو إسحاق، والحق أن الذي أمر بذبحه هو إسماعيل في صغره حين لم يكن لإبراهيم ولد غيره؛ ليظهر كمال الامتثال.
ومن الغريب أن التوراة لما ذكرت قصة الذبيح وصفته بالابن الوحيد لإبراهيم ولم يكن إسحاق وحيداً قط.
وتوفي إسحاق سنة ثمان وسبعمائة وألف قبل الميلاد، ودُفِنَ مع أبيه وأمه في مغارة المكفيلة في حبرون (بلد الخليل). 1/733_734
82_ والحنيف: فعيل بمعنى فاعل مشتق من الحَنَف بالتحريك، وهو الميل في الرجل، قالت أم الأحنف بن قيس فيما ترقِّصه به:
والله لولا حنفٌ برجله ... ما كان في فتيانكم من مثله
والمراد الميل(1) في المذهب أن الذي به حنف يميل في مشيه عن الطريق المعتاد.
وإنما كان هذا مدحاً للملة لأن الناس يوم ظهور ملة إبراهيم كانوا في ضلالة عمياء؛ فجاء دين إبراهيم مائلاً عنهم، فلُقِّب بالحنيف ثم صار الحنيف لقب مدح بالغلبة.1/737
83_ [سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ].
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: والمراد من الميل، أو: والمراد بالميل. (م)(1/158)
قد خفي موقع هذه الآية من الآي التي بعدها؛ لأن الظاهر منها أنها إخبار عن أمر يقع في المستقبل، وأن القبلةَ المذكورةَ فيها هي القبلةُ التي كانت في أول الهجرة بالمدينة، وهي استقبال بيت المقدس، وأن التولي عنها هو نسخها باستقبال الكعبة؛ فكان الشأن أن يترقب طعن الطاعنين في هذا التحويل بعد وقوع النسخ أي بعد الآيات الناسخة لاستقبال بيت المقدس؛ لما هو معلوم من دأبهم من الترصد للطعن في تصرفات المسلمين؛ فإن السورة نزلت متتابعة، والأصل موافقة التلاوة للنزول في السورة الواحدة إلا ما ثبت أنه نزل متأخراً، ويتلى متقدماً.
والظاهر أن المراد بالقبلةِ المحمولةِ القبلةُ المنسوخةُ وهي استقبال بيت المقدس _أعني الشرق_ وهي قبلة اليهود، ولم يشفِ أحدٌ من المفسرين وأصحاب أسباب النزولِ الغليلَ في هذا على أن المناسبة بينها وبين الآي الذي قبلها غير واضحة؛ فاحتاج بعض المفسرين إلى تكلُّف إبدائها.
والذي استقر عليه فهمي أن مناسبة وقوع هذه الآية هنا مناسبة بديعة، وهي أن الآياتِ التي قبلها تكرر فيها التنويهُ بإبراهيمَ وملتِهِ والكعبةِ، وأن من يرغب عنها قد سَفِهَ نَفْسَهُ؛ فكانت مثاراً لأن يقول المشركون: ما ولَّى محمداً وأتباعه عن قبلتهم التي كانوا عليها بمكة أي استقبال الكعبة مع أنه يقول: إنه على ملة إبراهيم، ويأبى عن اتباع اليهودية والنصرانية؛ فكيف ترك قبلة إبراهيم واستقبل بيت المقدس؟ ولأنه قد تكررت الإشارة في الآيات السابقة إلى هذا الغرض بقوله: [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ] وقوله: [وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] كما ذكرناه هنالك.(1/159)
وقد علم الله ذلك منهم فأنبأ رسوله بقولهم، وأتى فيه بهذا الموقع العجيب وهو أَنْ جَعَلَه بعد الآيات المشيرة له، وقبل الآيات التي أنزلت إليه في نسخ استقبال بيت المقدس والأمر بالتوجه في الصلاة إلى جهة الكعبة؛ لئلا يكون القرآن الذي فيه الأمر باستقبال الكعبة نازلاً بعد مقالة المشركين، فيشمخوا بأنوفهم يقولون غَيَّر محمد قبلته من أجل اعتراضنا عليه؛ فكان لموضع هذه الآية هنا أفضلَ تَمَكُّنٍ، وأوثقَ ربطٍ.
وبهذا يظهر وجهُ نزولها قبل آية النسخ وهي قوله: [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ] الآيات؛ لأن مقالةَ المشركين أو توقُّعَها حاصلٌ قبل نسخ استقبال بيت المقدس، وناشئٌ عن التنويه بملة إبراهيم والكعبة.
فالمراد بالسفهاء المشركون، ويدل لذلك تبيينه بقوله: [مِنْ النَّاسِ] فقد عرف في اصطلاح القرآن النازل بمكة أن لفظ الناس يراد به المشركون _كما روي ذلك عن ابن عباس_.
ولا يظهر أن يكون المراد به اليهود أو أهل الكتاب؛ لأنه لو كان ذلك لناسب أن يقال: سيقولون بالإضمار؛ لأن ذكرهم لم يزل قريباً من الآية السابقة إلى قوله: [وَلاَ تُسْأَلُوْنَ] الآية. 2/5_6
84_ والسفهاء: جمع سفيه الذي هو صفة مشبهة من سَفُه بضم الفاء إذا صار السفهُ له سجيةً، وتقدم القولُ في السفه عند قوله _تعالى_: [وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ].
وفائدة وصفهم بأنهم من الناس مع كونه معلوماً هو التنبيه على بلوغهم الحدَّ الأقصى من السفاهة بحيث لا يوجد في الناس سفهاء غير هؤلاء؛ فإذا قُسِّمَ نوعُ الإنسان أصنافاً كان هؤلاء صنفَ السفهاء؛ فَيُفْهَمُ أنه لا سفيه غيرهم على وجه المبالغة، والمعنى أن كل من صدر منه هذا القول هو سفيه سواء كان القائل اليهود أو المشركين من أهل مكة. 2/7(1/160)
85_ والقبلة: في أصل الصيغة اسم على زنة فِعْلَة بكسر الفاء وسكون العين، وهي زنة المصدر الدال على هيئة فعل الاستقبال أي التوجه اشتق على غير قياس بحذف السين والتاء ثم أطلقت على الشيء الذي يستقبله المستقبل مجازاً وهو المراد هنا؛ لأن الانصراف لا يكون عن الهيئة قال حسان في رثاء أبي بكر÷:
أَلَيْسَ أَوَّلَ من صلّى لقبلتكم
والأظهر عندي أن تكون القبلةُ اسمَ مفعولٍ على وزن فعل كالذِّبْح والطِّحْن وتأنيثه باعتبار الجهة كما قالوا: ما له في هذا الأمر قِبْلَة ولا دِبْرة أي وجهة.
وإضافة القبلة إلى ضمير المسلمين للدلالة على مزيد اختصاصها بهم؛ إذ لم يستقبلها غيرهم من الأمم؛ لأن المشركين لم يكونوا من المصلين وأهل الكتاب لم يكونوا يستقبلون في صلاتهم. 2/8
86_ واعلم أن اليهود يستقبلون بيت المقدس، وليس هذا الاستقبال من أصل دينهم؛ لأن بيت المقدس إنما بُني بعد موسى _عليه السلام_ بناه سليمان _عليه السلام_ فلا تجد في أسفار التوراة الخمسة ذِكراً لاستقبال جهة معينة في عبادة الله _تعالى_ والصلاة والدعاء.
ولكن سليمان _عليه السلام_ هو الذي سنَّ استقبال بيت المقدس؛ ففي سفر الملوك الأول أن سليمان لما أتمَّ بناء بيت المقدس جمع شيوخ إسرائيل وجمهورهم، ووقف أمام المذبح في بيت المقدس، وبسط يديه ودعا الله دعاءً جاء فيه: =إذا انكسر شعب إسرائيل أمام العدو ثم رجعوا واعترفوا وصلوا نحو هذا البيت فأرجعهم إلى الأرض التي أعطيت لآبائهم، وإذا خرج الشعب لمحاربة العدو، وصلوا إلى الرب نحو المدينة التي اخترتها، والبيتِ الذي بنيته لاسمكَ فاسمع صلاتهم وتضرعهم+ الخ.
وذكر بعد ذلك أن الله تجلى لسليمان وقال له: =قد سمعت صلاتك وتضرعك الذي تضرعت به أمامي+.(1/161)
وهذا يدل على أن استقبال بيت المقدس شرط في الصلاة في دين اليهود، وقصاراه الدلالة على أن التوجه نحو بيت المقدس بالصلاة والدعاء هيئة فاضلة؛ فلعل بني إسرائيل التزموه لا سيما بعد خروجهم من بيت المقدس أو أن أنبياءهم الموجودين بعد خروجهم أمروهم بذلك بوحي من الله. 2/9
87_ وأما استقبال الكعبة في الحنيفية فالظاهر أن إبراهيم _عليه السلام_ لما بنى الكعبة استقبلها عند الدعاء، وعند الصلاة؛ لأنه بناها للصلاة حولها؛ فإن داخِلَها لا يسع الجماهير من الناس وإذا كان بناؤها للصلاة حولها فهي أول قبلة وضعت للمصلي تجاهها، وبذلك اشتهرت عند العرب، ويدل عليه قول زيد ابن عمرو بن نفيل:
عذت بما عاذ به إبراهِمْ ... مستقبل الكعبة وهو قائم
أما توجهه إلى جهتها من بلد بعيد عنها فلا دليل على وقوعه؛ فيكون الأمر بالتزام الاستقبال في الصلاة من خصائص هذه الشريعة، ومن جملة معاني إكمال الدين بها _كما سنبينه_. 2/10
88_ فتحويل القبلة كان في رجب سنة اثنتين من الهجرة قبل بدر بشهرين، وقيل: يوم الثلاثاء نصف شعبان منها. 2/11
89_ والوَسَط: اسم للمكان الواقع بين أمكنة تحيط به، أو للشيء الواقع بين أشياء محيطة به ليس هو إلى بعضها أقرب منه إلى بعض عرفاً، ولما كان الوصول إليه لا يقع إلا بعد اختراق ما يحيط به أخذ فيه معنى الصيانة والعزة؛ طبعاً كوسط الوادي لاتصل إليه الرعاة والدواب إلا بعد أكل ما في الجوانب؛ فيبقى كثير العشب والكلأ, ووضعاً كوسط المملكة يجعل مَحَلَّ قاعدتِها، ووسط المدينة يُجْعل موضع قصبتها؛ لأن المكان الوسط لا يصل إليه العدو بسهولة, وكواسطة العقد لأنفسِ لُؤلؤة فيه؛ فمن أجل ذلك صار معنى النفاسة والعزة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفاً؛ فأطلقوه على الخيار النفيس؛ كنايةً قال زهير:
هُمُ وسَطٌ يَرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعضل
وقال تعالى: [قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ].(1/162)
ويقال: أوسط القبيلة لصميمها.
وأما إطلاق الوسط على الصفة الواقعة عدلاً بين خُلُقين ذميمين فيهما إفراط وتفريط كالشجاعة بين الجبن والتهور, والكرم بين الشح والسرف، والعدالة بين الرحمة والقساوة _ فذلك مجاز بتشبيه الشيء الموهوم بالشيء المحسوس؛ فلذلك روي حديث =خير الأمور أوسطها+ وسنده ضعيف.
وقد شاع هذان الإطلاقان حتى صارا حقيقتين عرفيتين.
فالوسط في هذه الآية فُسِّر بالخيار لقوله _تعالى_: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
وفُسِّر بالعدل، والتفسير الثاني رواه الترمذي في سننه عن حديث أبي سعيد الخدري عن النبي"وقال: =حسن صحيح+.
والجمع في التفسيرين هو الوجه _كما قدمناه في المقدمة التاسعة_.2/17_18
90_ وقوله: [لتكونوا شهدآء] علة لجعلهم وسطاً؛ فإن أفعال الله _تعالى_ كلها منوطة بحِكَمٍ وغايات لعلمه _تعالى_ وحكمته، وذلك عن إرادة واختيار لا كصدور المعلول عن العلة _كما يقول بعض الفلاسفة_ ولا بوجوب وإلجاء كما توهمه عبارات المعتزلة وإن كان مرادهم منها خيراً فإنهم أرادوا أن ذلك واجب لذاته _تعالى_ لكمال حكمته. 2/20
91_ ومن مكملات معنى الشهادة على الناس في الدنيا وجوب دعوتنا الأمم للإسلام؛ ليقوم ذلك مقام دعوة الرسول إياهم حتى تتم الشهادة للمؤمنين منهم على المعرضين. 2/21
92_ والأهواء: جمع هَوىً وهو الحُب البليغ بحيث يقتضي طلبَ حصول الشيء المحبوب ولو بحصول ضر لمحصِّله؛ فلذلك غلب إطلاق الهوى على حُبٍّ لا يقتضيه الرشد ولا العقل، ومن ثَمَّ أُطلق على العشق, وشاع إطلاق الهوى في القرآن على عقيدة الضلال، ومن ثم سَمَّى علماءُ الإسلام أهلَ العقائد المنحرفة بأهل الأهواء.2/37
93_ [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ].(1/163)
وجيء بكلمة (شيء) تهويناً للخبر المفجع، وإشارة إلى الفرق بين هذا الابتلاء وبين الجوع والخوف اللذين سلطهما الله على بعض الأمم عقوبة، كما في قوله: [فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ].
ولذلك جاء هنا بكلمة (شيء) وجاء هنالك بما يدل على الملابسة والتمكن، وهو أَنِ استعار لها اللباس الملازم للابس؛ لأن كلمة شيء من أسماء الأجناس العالية العامة، فإذا أضيفت إلى اسم جنس أو بُينت به _ عُلم أن المتكلم ما زاد كلمة شيء قبل اسم ذلك الجنس إلا لقصد التقليل؛ لأن الاقتصار على اسم الجنس الذي ذكره المتكلم بعدها لو شاء المتكلم لأغنى غناءها؛ فما ذكر كلمة شيء إلا والقصد أن يدل على أن تنكير اسم الجنس ليس للتعظيم، ولا للتنويع؛ فبقى له الدلالة على التحقير. 2/54_55
94_ ووصف الصابرين بأنهم [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا] إلخ، لإفادة أن صبرهم أكمل الصبر؛ إذ هو صبر مقترن ببصيرة في أمر الله _تعالى_ إذ يعلمون عنه المصيبة أنهم ملك لله _تعالى_ يتصرف فيهم كيف يشاء؛ فلا يجزعون مما يأتيهم، ويعلمون أنهم صائرون إليه؛ فيثيبهم على ذلك؛ فالمراد من القول هنا القول المطابق للاعتقاد؛ إذ الكلام إنما وضع للصدق، وإنما يكون ذلك القول معتبراً إذا كان تعبيراً عما في الضمير؛ فليس لمن قال هاته الكلمات بدون اعتقاد لها فضل، وإنما هو كالذي ينعق بما لا يسمع، وقد علمهم الله هذه الكلمة الجامعة؛ لتكون شعارهم عند المصيبة؛ لأن الاعتقاد يقوى بالتصريح؛ لأن استحضار النفس للمدركات المعنوية ضعيف يحتاج إلى التقوية بشيء من الحس، ولأن في تصريحهم بذلك إعلانا لهذا الاعتقاد، وتعليماً له للناس. 2/57
95_ وحقيقة الصلاة في كلام العرب أنها أقوال تنبئ عن محبة الخير لأحد، ولذلك كان أشهر معانيها هو الدعاء. 2/57_58(1/164)
96_ والصفا والمروة اسمان لجبيلين متقابلين؛ فأما الصفا فهو رأس نهاية جبل أبي قبيس، وأما المروة فرأس هو منتهى جبل قُعِيْقِعَان.
وسُمِّىَ الصفا؛ لأن حجارته من الصفا وهو الحجر الأملس الصلب، وسُمِّيَت المروةُ مروةً؛ لأن حجارتها من المرو وهي الحجارة البيضاء اللينة التي توري النار، ويُذبح بها؛ لأن شذرها يُخْرِج قطعاً محددة الأطراف، وهي تضرب بحجارة من الصفا، فتتشقق قال أبو ذؤيب:
حتى كأنِّي للحَوَادِث مَرْوَةٌ ... بصَفَا المُشَقَّرِ(1) كلَّ يوم تقرع
وكأن الله _تعالى_ لطف بأهل مكة؛ فجعل لهم جبلاً من المروة؛ للانتفاع به في اقتداحهم وفي ذبائحهم، وجعل قبالته الصفا؛ للانتفاع به في بنائهم.
والصفا والمروة بقرب المسجد الحرام، وبينهما مسافة سبعمائة وسبعين ذراعاً، وطريق السعي بينهما يمر حذو جدار المسجد الحرام، والصفا قريب من باب يسمى باب الصفا من أبواب المسجد الحرام، ويصعد الساعي إلى الصفا والمروة بمثل المدرجة. 2/60_61
97_ والشعائر جمع شَعيرة بفتح الشين، وشِعَارة بكسر الشين، بمعنى العلامة مشتق من شَعُر إذا عَلِمَ وفطن، وهي فعيلة بمعنى مفعولة أي مُعَلَّم بها، ومنه قولهم أُشْعِر البعير إذا جعل له سِمَة في سنامه بأنه مُعَدٌّ للهدي.
فالشعائر ما جُعِل علامةً على أداء عمل من عمل الحج والعمرة، وهي المواضع المعظمة مثل المواقيت التي يقع عندها الإحرام، ومنها الكعبة، والمسجد الحرام، والمقام، والصفا، والمروة، وعرفة، والمشعر الحرام بمزدلفة، ومنى، والجمار. 2/61
__________
(1) _ المشقر كمعظَّم جبل باليمن تُتَّخذ من حجارته فؤوس تكسر الحجارة لصلابتها.(1/165)
98_ فالعالِمُ يحرم عليه أن يكتم من علمه ما فيه هدى للناس؛ لأن كتم الهدى إيقاع في الضلالة سواء في ذلك العلم الذي بلغ إليه بطريق الخبر كالقرآن والسنة الصحيحة والعلم الذي يحصل عن نظر كالاجتهادات إذا بلغت مبلغ غلبة الظن بأن فيها خيراً للمسلمين، ويحرم عليه بطريق القياس الذي تومئ إليه العلة أن يبث في الناس ما يوقعهم في أوهام بأن يلقنها وهو لا يحسن تنزيلها، ولا تأويلها. 2/69
99_ قال ابن عرفة في التفسير: لا يحل للعالم أن يذكر للظالم تأويلاً أو رخصة يتمادى منها إلى المفسدة كمن يذكر للظالم ما قال الغزالي في الإحياء من أن بيت المال إذا ضعف، واضطر السلطان إلى ما يجهز به جيوش المسلمين لدفع الضرر عنهم فلا بأس أن يوظف على الناس العشر أو غيره لإقامة الجيش وسد الخلة، قال ابن عرفة: وذكر هذه المظلمة مما يحدث ضرراً فادحاً في الناس.
وقد سأل سلطانُ قُرْطُبَةَ عبدُالرحمن بنُ معاوية الداخلُ يحيى بنَ يحيى الليثيَّ عن يومٍ أفطره في رمضان عامداً غلبته الشهوة على قربان بعض جواريه فيه، فأفتاه بأنه يصوم ستين يوماً والفقهاء حاضرون ما اجترؤوا على مخالفة يحيى، فلما خرجوا سألوه لم خَصَصْتَهُ بأحد المخيرات فقال: لو فتحنا له هذا الباب لوطئ كل يوم، وأعتق، أو أطعم؛ فحملته على الأصعب؛ لئلا يعود. اهـ
قلت: فهو في كتمه عنه الكفارتين المخيَّر فيهما قد أعمل دليل دفع مفسدة الجرأة على حرمة فريضة الصوم. 2/70
100_ وقوله: [إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا] استثناء من [الَّذِينَ يَكْتُمُونَ] أي فهم لا تلحقهم اللعنة، وهو استثناء حقيقي منصوب على تمام الكلام من [الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا] إلخ.
وشُرِطَ للتوبة أن يصلحوا ما كانوا أفسدوا، وهو بإظهار ما كتموه، وأن يبينوه للناس؛ فلا يكفي اعترافهم وحدهم أو في خلواتهم؛ فالتوبة هنا الإيمان بمحمد" فإنه رجوع عن كتمانهم الشهادةَ له الواردةَ في كتبهم.(1/166)
وإطلاقُ التوبة على الإيمان بعد الكفر وارد كثيراً؛ لأن الإيمان هو توبة الكافر من كفره، وإنما زاد بعده [وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا] لأن شرط كل توبة أن يتدارك التائب ما يمكن تداركه مما أضاعه بفعله الذي تاب عنه. 2/71_72
101_ وعليه فما رُوي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى عمرو بن العاص أن لا يحمل جيش المسلمين في البحر مُؤَوَّلٌ على الاحتياط، وترك التغرير.
وأنا أحسبه قد قصد منه خشيةَ تَأَخُّرِ نجداتِ المسلمين في غزواتهم؛ لأن السفن قد يتأخر وصولها إذا لم تساعفها الرياح التي تجري بما لا تشتهي السفن، ولأن ركوب العدد الكثير في سفن ذلك العصر مَظِنَّةُ وقوع الغرق، ولأن عدد المسلمين يومئذ قليل بالنسبة للعدو فلا ينبغي تعريضه للخطر؛ فذلك من النظر في المصلحة العامة في أحوال معينة؛ فلا يحتج به في أحكام خاصة للناس.
ولما مات عمر استأذن معاوِيةُ عثمانَ فأذن له في ركوبه؛ فركبه لغزو قبرص ثم لغزو القسطنطينية، وفي غزوة قبرص ظهر تأويل رؤيا النبي"في حديث أم حرام، وقد قيل: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة نهى عن ركوبه ثم ركبه الناس بعده، ورُوي عن مالك كراهية سفر المرأة في البحر للحج والجهاد، قال ابن عبد البر وحديث أم حرام يرد هذه الرواية، ولكن تأولها أصحابه بأنه كره ذلك؛ لخشية اطلاعهن على عورات الرجال؛ لعسر الاحتراز من ذلك؛ فخصه أصحابه بسفن أهل الحجاز؛ لصغرها، وضيقها، وتزاحم الناس فيها مع كون الطريق من المدينة إلى مكة من البر ممكناً سهلاً.
وأما السفن الكبار كسفن أهل البصرة التي يمكن فيها الاستتار، وقلة التزاحم_ فليس بالسفر فيها للمرأة بأس عند مالك. 2/82
102_ ومن وفوائد هاته الرياح الإعانة على تكوين السحاب، ونقله من موضع إلى موضع، وتنقية الكرة الهوائية مما يحل بها من الجراثيم المضرة.
وهذان الأمران موضع عبرة ونعمة لأهل العلم. 2/86(1/167)
103_ فالتحقيق أن الحُبَّ يتعلق بِذِكْرِ المرء، وحصول النفع منه، وحسن السمعة وإن لم يره؛ فنحن نحب الله لما نعلمه من صفات كماله، ولما يصلنا من نعمته وفضله ورحمته، ونحب رسوله لما نعلم من كماله، ولما وصل إلينا على يديه، ولما نعلم من حرصه على هدينا ونجاتنا، ونحب أجدادنا، ونحب أسلافنا من علماء الإسلام، ونحب الحكماء والمصلحين من الأولين والآخرين، ولله درّ أبي مدين في هذا المعنى:
وكم من محب قد أحب وما رأى ... وعشقُ الفتى بالسمع مرتبة أخرى
2/90
104_ والاقتداء بالشيطان إرسال النفس على العمل بما يوسوسه لها من الخواطر البشرية؛ فإن الشياطين موجودات مُدْرَكَةٌ لها اتصال بالنفوس البشرية لَعَلَّه كاتصال الجاذبية بالأفلاك والمغناطيس بالحديد؛ فإذا حصل التوجه من أحدهما إلى الآخر بأسباب غير معلومة حدثت في النفس خواطر سيئة؛ فإن أرسل المكلف نفسه لاتباعها ولم يردعها بما له من الإرادة والعزيمة _ حققها في فعله، وإن كبحها وصدها عن ذلك غلبها.
ولذلك أودع الله فينا العقل والإرادة والقدرة، وكمَّل لنا ذلك بالهدي الديني؛ عوناً وعصمة عن تلبيتها؛ لئلا تُضِلُّنا الخواطرُ الشيطانية حتى نرى حسناً ما ليس بالحسن. 2/103
105_ والفحشاء: اسم مشتق من فَحُش إذا تجاوز الحد المعروف في فعله أو قوله واختص في كلام العرب بما تجاوز حد الآداب، وعظم إنكاره. 2/105
106_ والحرام: الممنوع منعاً شديداً. 2/115
107_ وأما الدم فإنما نَصَّ اللهُ على تحريمه؛ لأن العرب كانت تأكل الدم، كانوا يأخذون المباعر فيملأونها دماً، ثم يشوونها بالنار ويأكلونها.(1/168)
وحكمة تحريم الدم أن شُرْبَه يورث ضراوةً في الإنسان؛ فتغلظ طباعه، ويصير كالحيوان المفترس، وهذا منافٍ لمقصد الشريعة؛ لأنها جاءت لإتمام مكارم الأخلاق، وإبعاد الإنسان عن التهور والهمجية، ولذلك قُيِّدَ في بعض الآيات بالمسفوح أي المهراق؛ لأنه كثير لو تناوله الإنسان اعتاده، ولو اعتاده أورثه ضراوة؛ ولذا عَفَتِ الشريعةُ عما يبقى في العروق بعد خروج الدم المسفوح بالذبح أو النحر، وقاس كثير من الفقهاء نجاسة الدم على تحريم أكله وهو مذهب مالك، ومداركهم في ذلك ضعيفة، ولعلهم رأوا مع ذلك أن فيه قذارة.2/118
108_ والدم معروف مدلوله في اللغة، وهو إفراز من المفرزات الناشئة عن الغذاء، وبه الحياة، وأصل خلقته في الجسد آتٍ من انقلاب دم الحيض في رحم الحامل إلى جسد الجنين بواسطة المصران المتصل بين الرحم وجسد الجنين، وهو الذي يُقْطَع حين الولادة، وتجدده في جسد الحيوان بعد بروزه من بطن أمه يكون من الأغذية بواسطة هضم الكبد للغذاء المنحدر إليها من المعدة بعد هضمه في المعدة، ويخرج من الكبد مع عرق فيها، فيصعد إلى القلب الذي يدفعه إلى الشرايين، وهي العروق الغليظة، وإلى العروق الرقيقة بقوة حركة القلب بالفتح والإغلاق حركة ماكينية هوائية، ثم يدور الدم في العروق متنقلاً من بعضها إلى بعض بواسطة حركة القلب، وتنفس الرئة، وبذلك الدوران يسلم من التعفن؛ فلذلك إذا تعطلت دورته حصةً طويلة مات الحيوان. 2/118
109_ وحكمة تحريم لحم الخنزير أنه يتناول القاذورات بإفراط؛ فتنشأ في لحمه دودة مما يقتاته لا تهضمها معدته؛ فإذا أصيب بها آكله قتلته. 2/119
110_ فلله هذا الاستقراء البديع الذي يعجز عنه كل خطيب وحكيم غير العلام الحكيم، وقد جمعت هذه الخصال جماع الفضائل الفردية والاجتماعية الناشئ عنها صلاح أفراد المجتمع من أصول العقيدة وصالحات الأعمال.(1/169)
فالإيمان وإقام الصلاة هما منبع الفضائل الفردية؛ لأنهما ينبثق عنهما سائرُ التحليات المأمور بها، والزكاة وإيتاء المال أصل نظام الجماعة صغيرها وكبيرها، والمواساة تقوى عنها الأخوة والاتحاد، وتسدد مصالح للأمة كثيرة، وببذل المال في الرقاب يتعزز جانب الحرية المطلوبة للشارع حتى يصير الناس كلهم أحراراً، والوفاء بالعهد فيه فضيلة فردية وهي عنوان كمال النفس، وفضيلة اجتماعية وهي ثقة الناس بعضهم ببعض. 2/132
111_ ونَصْبُ [الصَّابِرِينَ] وهو معطوف على مرفوعات نَصْبٌ على الاختصاص على ما هو المتعارف في كلام العرب في عطف النعوت من تخيير المتكلم بين الإتباع في الإعراب للمعطوف عليه وبين القطع قاله الرضيُّ.
والقطع يكون بنصب ما حقُّه أن يكون مرفوعاً أو مجروراً، وبرفع ما هو بعكسه؛ ليظهر قصد المتكلم القطعَ حين يختلف الإعراب؛ إذ لا يعرف أن المتكلم قصد القطع إلا بمخالفة الإعراب، فأما النصب فبتقدير فعل مدح أو ذم بحسب المقام، والأظهر تقدير فعل (أخص) لأنه يفيد المدح بين الممدوحين والذم بين المذمومين.
وقد حصل بنصب [الصَّابِرِينَ] هنا فائدتان: إحداهما عامة في كل قطع من النعوت، فقد نُقِلَ عن أبي علي الفارسي أنه إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن يخالف إعرابها، ولا تجعل كلها جارية على موصوفها؛ لأن هذا من مواضع الإطناب؛ فإذا خولف إعراب الأوصاف كان المقصود أكمل لأن الكلام عند اختلاف الإعراب يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان.
قال في الكشاف: =نُصِبَ على المدح وهو باب واسع كسره سيبويه على أمثلة وشواهد. اهـ+.(1/170)
قلت: قال سيبويه في باب ما ينتصب على التعظيم والمدح: =وإن شئت جعلته صفة فجرى على الأول، وإن شئت قطعته فابتدأته، مثل ذلك قوله _تعالى_: [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] إلى قوله: [والصَّابِرِينَ] ولو رفع الصابرين على أول الكلام كان جيداً، ولو ابتدأته فرفعته على الابتداء كان جيداً، ونظير هذا النصب قول الخِرْنِقِ:
لا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الذين هُمُوا ... سُم العُداةِ وآفة الجزْرِ
النازِلينَ بكل مُعْتَرَكٍ ... والطيِّبون مَعَاقِدَ الأُزْرِ
بنصب النازلين+.
ثم قال: =وزعم الخليل أن نصب هذا على أنك لم ترد أن تحدث الناس، ولا من تخاطب بأمر جهلوه، ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمت، فجعلته ثناءً وتعظيماً ونصبه على الفعل كأنه قال أَذْكُرُ أهل ذلك، وأذكر المقيمين، ولكنه فِعْلٌ لا يستعمل إظهاره+ اهـ.
قلت: يؤيد هذا الوجه أنه تكرر مثله في نظائر هذه الآية في سورة النساء [وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ] عطفاً على [لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ]، وفي سورة العقود [وَالصَّابِئُونَ] عطفاً على [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا].
الفائدة الثانية أن في نصب الصابرين بتقدير أخص أو أمدح تنبيهاً على خصيصية الصابرين، ومزية صفتهم التي هي الصبر. 2/132_133
112_ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى].(1/171)
تلك أحكام متتابعة من إصلاح أحوال الأفراد وأحوال المجتمع، وابتدئ بأحكام القصاص؛ لأن أعظم شيء من اختلال الأحوال اختلال حفظ نفوس الأمة، وقد أفرط العرب في إضاعة هذا الأصل، يعلم ذلك من له إلمام بتاريخهم وآدابهم وأحوالهم؛ فقد بلغ بهم تطرفهم في ذلك إلى وشك الفناء لو طال ذلك، فلم يتداركهم الله فيه بنعمة الإسلام؛ فكانوا يُغير بعضُهم على بعض؛ لغنيمة أنعامه وعبيده ونسائه، فيدافع المُغَار عليه، وتتلف نفوسٌ بين الفريقين، ثم ينشأ عن ذلك طلب الثارات؛ فيسعى كل من قُتِلَ له قتيلٌ في قَتْلِ قاتلِ وليِّه، وإن أعوزه ذلك قتلَ به غيرَه من واحد كفء له، أو عدد يراهم لا يوازونه ويسمون ذلك بالتكايل في الدم، أي كأن دم الشريف يكال بدماء كثيرة؛ فربما قدروه باثنين أو بعشرة أو بمائة، وهكذا يدور الأمر، ويتزايد تزايداً فاحشاً حتى يصير تفانياً، قال زهير:
تداركتما عبساً وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم(1)
وينتقل الأمر من قبيلة إلى قبيلة بالولاء والنسب والحلف والنصرة، حتى صارت الإحن فاشية؛ فتخاذلوا بينهم واستنصر بعض القبائل على بعض؛ فوجد الفرس والروم مدخلاً إلى التفرقة بينهم، فحكموهم، وأرهبوهم.
__________
(1) _ في معلقته المشهورة يمدح الهرم بن سنان، والحارث بن عوف، ومعنى (دقوا عطر منشم) كناية عن القتل؛ لأن منشماً رجل كان يصنع الحنوط للموتى؛ فصار يضرب به المثل؛ لكثرة القتل. (م)(1/172)
وإلى هذا الإشارة والله أعلم بقوله _تعالى_: [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا] أي كنتم أعداءً بأسباب الغارات والحروب فألَّف بينكم بكلمة الإسلام، وكنتم على وشك الهلاك فأنقذكم منه؛ فضرب مثلاً للهلاك العاجل الذي لا يُبقي شيئاً بحفرة النار؛ فالقائم على حافتها ليس بينه وبين الهلاك إلا أقل حركة. 2/134_135
113_ والوصية الأمر بفعل شيءٍ أو تركه مما فيه نفع للمأمور أو للآمر في مغيب الآمر في حياته، أو فيما بعد موته, وشاع إطلاقها على أمر بشيء يصلح بعد موت الموصي. 1/147
114_ حُكْمُ الصيامِ حُكْمٌ عظيم من الأحكام التي شرعها الله _تعالى_ للأمة، وهو من العبادات الرامية إلى تزكية النفس ورياضتها، وفي ذلك صلاح حال الأفراد فرداً فرداً؛ إذ منها يتكون المجتمع. 2/154
115_ وإذا قد كان من المتعذر على الهيكل البشري بما هو مستودع حياة حيوانية أن يتجرد عن حيوانيته _ فمن المتعذر عليه الانقطاع البات عن إمداد حيوانيته بمطلوباتها؛ فكان من الّلازم لتطلب ارتقاء نفسه أن يتدرج به في الدرجات الممكنة من تهذيب حيوانيته، وتخليصه من التوغل فيها بقدر الإمكان؛ لذلك كان الصوم من أهم مقدمات هذا الغرض؛ لأن فيه خصلتين عظيمتين؛ هما الاقتصاد في إمداد القوى الحيوانية، وتعود الصبر بردِّها عن دواعيها.
وإذ قد كان البلوغ إلى الحد الأتم من ذلك متعذراً _كما علمت_ حاول أساطين الحكمة النفسانية الإقلال منه؛ فمنهم من عالج الإقلال بنقص الكميات وهذا صوم الحكماء, ومنهم من حاوله من جانب نقص أوقات التمتع بها وهذا صوم الأَديان، وهو أبلغ إلى القصد، وأظهر في ملكة الصبر.(1/173)
وبذلك يحصل للإنسان دربة على ترك شهواته, فيتأهل للتخلق بالكمال؛ فإن الحائل بينه وبين الكمالات والفضائل هو ضعف التحمل للانصراف عن هواه وشهواته.
إذا المرء لم يَتْرُك طعاما يُحِبُّه ... ولم يَنْهَ قلباً غاوياً حيث يمما
فيُوشك أن تلقَى له الدهرَ سُبَّةً ... إذا ذُكِرتْ أمثالُها تَملأُ الفما
2/160
116_ وقوله: [تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ] فَذْلَكَةُ(1) الحساب، أي جامعته فالحاسب إذا ذكر عددين فصاعداً قال عند إرادة جمع الأعداد: فذلك أي المعدود كذا؛ فصيغت لهذا القول صيغة نحت(2) مثل: بسمل؛ إذا قال: باسم الله، وحوقل؛ إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فحروف فذلكة متجمعة من حروف فذلك؛ كما قال الأعشى:
ثلاث بالغداة فهن حسبي ... وست حين يدركني العشاء
فذلك تسعة في اليوم ريي ... وشرب المرء فوق الريِّ داء
فلفظ (فذلكة) كلمة مولدة لم تُسمع من كلام العرب، غلب إطلاق اسم الفذلكة على خلاصة جمع الأعداد، وإن كان اللفظ المحكي جرى بغير كلمة (ذلك) كما نقول في قوله: [تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ] إنها فذلكة مع كون الواقع في المحكي لفظ تلك لا لفظ ذلك، ومثله قول الفرزدق:
ثلاث واثنتان فتلك خمس ... وسادسة تميل إلى الشمام
أي إلى الشم والتقبيل. 2/228
__________
(1) _ الفذلكة: كلمة محدثة، ومعناها: مجمل ما فصِّل، وخلاصته.
ومنه: فَذْلَك الحساب: أي أنهاه، وفرغ منه.
وهي منحوتة من قوله: فذلك كذا وكذا: إذا أجمل حسابه. انظر المعجم الوسيط 2/678. (م)
(2) _ النحت في اصطلاح علماء فقه اللغة: أن يجعل من كلمتين فأكثر كلمة واحدة، مثل ما ذكره المؤلف، ومثل قولهم: عبشمي: نسبة إلى عبد شمس، وعبدري نسبة إلى عبد الدار. (م)(1/174)
117_ وقد سئلت عن حكمة كون الأيام عشرة فأجبت: بأنه لعله نشأ من جمع سبعة وثلاثة؛ لأنهما عددان مباركان، ولكن فائدة التوزيع ظاهرة، وحكمة كون التوزيع كان إلى عددين متفاوتين لا متساويين ظاهرة؛ لاختلاف حالة الاشتغال بالحج؛ ففيها مشقة، وحالة الاستقرار بالمنزل.
وفائدة جعل بعض الصوم في مدة الحج جعل بعض العبادة عند سببها، وفائدة التوزيع إلى ثلاثة وسبعة أن كليهما عدد مبارك ضبطت بمثله الأعمال دينية وقضائية. 2/229
118_ والألباب: جمع لب وهو العقل، واللب من كل شيء: الخالص منه، وفعله لَبُبَ يَلُبُّ بضم اللام قالوا: وليس في كلام العرب فَعُل يفعل بضم العين في الماضي والمضارع من المضاعف إلا هذا الفعل حكاه سيبويه عن يونس، وقال ثعلب: ما أعرف له نظيراً. 2/236
119_ ودلت الآية على طلب ذكر الله _تعالى_ في أيام رمي الجمار وهو الذكر عند الرمي وعند نحر الهدايا.
وإنما أُمروا بالذكر في هذه الأيام؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يشغلونها بالتفاخر ومغازلة النساء, قال العرجي(1):
ما نَلتقي إلا ثلاثَ مِنى ... حتى يُفَرِّقَ بيننا النَّفْر
وقال عمر بن أبي ربيعة:
بَدَا ليَ منها مِعْصَمٌُ حينَ جَمَّرَتْ(2) ... وكَفٌّ خَضيبٌ زُيِّنَتْ ببَنَان
فواللهِ ما أدري وإن كُنْتُ دَارياً ... بسَبْعٍ رَمَيْتُ الجَمْرَ أمْ بثَمَان
لأنهم كانوا يرون أن الحج قد انتهى بانتهاء العاشر بعد أن أمسكوا عن ملاذِّهم مدة طويلة؛ فكانوا يعودون إليها, فأمرهم الله _تعالى_ بذكرِ الله فيها، وذكْرُ الله فيها هو ذكره عند رمي الجمار.
__________
(1) _ وقال:
نلبث حولاً كاملاً كله ... لا نلتقي إلا على منهج
الحج إن حجت فماذا منى ... وأهله إن هي لم تحجج ... (م)
(2) _ يعني رمت الجمار. (م)(1/175)
والأيام المعدودات الثلاثة تُرمى الجمار الثلاثة في كل يوم منها بعد الزوال يُبْتَدأ بالجمرة التي تلي مسجد منى بسبع حصيات, ثم ترمى الجمرتان الأخريان كل جمرة بمثل ذلك، ويكبر مع كل حصاة, وآخرها جمرة العقبة, وفي أحكام الرمي، ووقته، وعكس الابتداء فيه بجمرة مسجد منى والمبيت بغير منى _ خلافات بين الفقهاء. 2/262
120_ والإعجاب: إيجاد العجب في النفس، والعجب: انفعال يعرض للنفس عند مشاهدة أمر غير مألوف خفي سببه.
ولما كان شأن ما يخفى سَبَبُهُ أن ترغب فيه النفس صار العجب مستلزماً للاستحسان؛ فيقال: أعجبني الشيء، بمعنى أوجب لي استحسانه.
قال الكواشي في الاستحسان: أعجبني كذا, وفي الإنكار: عجبت من كذا, فقوله: يعجبك أي يحسن عندك قوله.2/266
121_ وجهنم علم على دار العقاب الموقدة ناراً, وهو اسم ممنوع من الصرف قال بعض النحاة: للعَلَمِيَّة والتأنيث؛ لأن العرب اعتبرته كأسماء الأماكن.
وقال بعضهم: للعَلَمِيَّة والعُجْمة، وهو قول الأكثر جاء من لغة غير عربية, ولذلك لا حاجة إلى البحث عن اشتقاقه.
ومن جعله عربياً زعم أنه مشتق من الجهم وهو الكراهية؛ فزعم بعضهم أن وزنه فُعَنَّل بزيادة نونين أصله فُعْنَل بنون واحدة ضعفت وقيل وزنه فَعَلَّل بتكرير لامه الأولى، وهي النون إلحاقاً له بالخماسي، ومن قال: أصلها بالفارسية كَهنَّام، فعربت جهنم.
وقيل: أصلها عبرانية كِهِنَّام بكسر الكاف وكسر الهاء، فعربت، وأن من قال: إن وزن فعنل لا وجود له لا يُلْتَفَتُ لقوله؛ لوجود دَوْنَك اسم واد بالعالية وحَفَنْكى اسم للضعيف وهو بحاء مهملة وفاء مفتوحتين، ونون ساكنة، وكاف وألف، وهما نادران؛ فيكون جهنم نادراً.(1/176)
وأما قول العرب رُكَيَّةُ جهنم أي بعيد القعر فلا حجة فيه؛ لأنه ناشئ عن تشبيه الركية بجهنم؛ لأنهم يصفون جهنم أنها كالبئر العميقة الممتلئة ناراً، قال ورقة ابن نوفل أو أمية بن أبي الصلت يرثي زيداً بن عمرو بن نفيل وكانا معاً ممن ترك عبادة الأوثان في الجاهلية:
رَشَدْتَ وأنعمت ابن عمروٍ وإنما ... تَجَنَّبْتَ تَنُّوراً من النار مُظْلِما
2/271_272
122_ وعلامة الباطن تكون في تصرفات المرء؛ فالذي يحب الفساد ويهلك الحرث والنسل لا يكون صاحب ضمير طيب، وأن الذي لا يصغي إلى دعوة الحق إذا دعوته إليه ويظهر عليه الاعتزاز بالظلم _ لا يرعوي عن غيه ولا يترك أخلاقه الذميمة، والذي لا يشح بنفسه في نصرة الحق ينبئ خلقه عن إيثار الحق والخير على الباطل والفساد، ومن لا يرأف فالله لا يرأف به. 2/274
123_ ومعنى تزيين الحياة لهم: إما أَنَّ ما خلق زيناً في الدنيا قد تمكن من نفوسهم، واشتد توغُّلهم في استحسانه؛ لأن الأشياء الزَّيْنَةَ هي حسنةٌ في أعين جميع الناس؛ فلا يختص الذين كفروا بجعلها لهم زينة كما هو مقتضى قوله: [لِلَّذِينَ كَفَرُوا] فإن اللام تشعر بالاختصاص، وإما ترويج تزيينها في نفوسهم بدعوة شيطانية تُحَسِّنُ ما ليس بالحسن كالأقيسة الشعرية، والخواطر الشهوية.
والمزيِّن على المعنى الأول هو الله _تعالى_ إلا أنهم أفرطوا في الإقبال على الزينة، والمزيِّن على المعنى الثاني هو الشيطان ودعاته.(1/177)
وحُذِفَ فاعل التزيين؛ لأن المزين لهم أمور كثيرة: منها خلق بعض الأشياء حسنة بديعة كمحاسن الذوات والمناظر، ومنها إلقاءُ حسنِ بعض الأشياء في نفوسهم وهي غير حسنة كقتل النفس، ومنها إعراضهم عمن يدعوهم إلى الإقبال على الأمور النافعة حتى انحصرت هممهم في التوغل من المحاسن الظاهرة التي تحتها العار لو كان بادياً، ومنها ارتياضهم على الانكباب على اللذات دون الفكر في المصالح، إلى غير ذلك من أمور يصلح كل منها أن يعد فاعلاً للتزيين حقيقة أو عرفاً؛ فلأجل ذلك طوى ذكرَ هذا الفاعل؛ تجنباً للإطالة. 2/294
124_ وقد استقريت مواقع التزيين المذموم فحصرتها في ثلاثة أنواع: الأول: ما ليس بزين أصلاً لا ذاتاً ولا صفة؛ لأن جَمِيْعَهُ ذمٌّ وأذىً، ولكنه زُيِّن للناس بأوهام وخواطر شيطانية، وتخييلات شعرية كالخمر.
الثاني: ما هو زينٌ حقيقةً لكن له عواقب تجعله ضراً وأذى كالزنا.
الثالث: ما هو زين لكنه يحف به ما يصيره ذميماً كنجدة الظالم، وقد حضر لي التمثيل لثلاثتها بقول طرفة:
ولولا ثلاثٌ هُنَّ من عيشة الفتى ... وجَدِّك لم أَحْفَلْ متى قام عُوَّدِي
فمنهن سَبْقي العاذِلاتِ بشَربة ... كُمَيْتٍ متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبِدِ
وتقصيرُ يومَ الدَّجْنِ والدَّجْنُ مُعْجِبٌ ... بَبْهكَنَةٍ تحتَ الخِبَاءِ المُعَمَِّد(1/178)
وكَرِّي إذا نادَى المضافُ مُجَنَّباً ... كَسِيدِ الغَضَا نَبَّهْتَه المُتَوَرِّدِ(1)
2/295
125_ فآدم خُلِقَ في أحسن تقويم يليق بالذَّكر جسماً وعقلاً، وألهمه معرفة الخير واتباعه، ومعرفة الشر وتجنبه؛ فكانت آراؤه مستقيمة تتوجه ابتداءً لما فيه النفع، وتهتدي إلى ما يحتاج للاهتداء إليه، وتتعقل ما يشار به عليه؛ فتميز النافع من غيره، ويساعده على العمل بما يهتدي إليه فِكْرُه جسدٌ سليمٌ قويٌّ متينٌ.
وحواء خلقت في أحسن تقويم يليق بالأنثى خلقاً مشابهاً لخلق آدم؛ إذ إنها خلقت كما خلق آدم، قال _تعالى_: [خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا] فكانت في انسياق عقلها واهتدائها وتعقُّلها ومساعدة جسدها على ذلك _ على نحو ما كان عليه آدم.
__________
(1) _ قوله: (جدِّك) قَسَم، والجَدُّ: هو الحظ والبخت، وقوله: (لم أحفل): لم أبالِ، وقوله: (عُوَّدي) جمع عائد من العيادة للمريض، وقوله: (كميت) وصف للخمرة، وهي التي لونها بين السواد والحمرة، وقوله: (المضاف) المذعور الذي ضافته الهموم، وقوله: (محنباً) المحنب هو الفرس الذي في يديه الحناء، وقوله: (سِيْد الغضا) نوع من الذئاب، وهو أخبثها، ويُسمى ذئب الغضا، وقوله: (المتورد) الذي ورد الماء، وقوله: (الدجن) الغيم في السماء، وتقصير يوم الدجن: تقطيعه بالعبث، وجعله قصيراً باللعب، وقوله: (البهكنة) المرأة الجميلة الحسنة الخلق، وقوله: (الخباء المعمد) الخيمة.
ومعنى الأبيات: لولا حبي ثلاثَ خصالٍ هن من اللذات لم أبالِ متى قام عودي من عندي ؛ آيسين من حياتي .
وهذه الثلاث هي : شرب الخمر , وإغاثة المذعور , وتقطيع اليوم الذي تلبدت سماؤه بالغيوم بالتمتع بامرأة حسناء تحت الخباء المعمد .
هذا هو غاية همته ، ومنتهى طموحه ، ولولا ذلك _كما يقول_ لم يبال بالمنية متى نزلت به ! (م)(1/179)
ولا شك أن أقوى عنصر في تقويم البشر عند الخِلقة هو العقل المستقيم، فبالعقل تَأَتَّى للبشر أن يتصرف في خصائصه، وأن يضعها في مواضع الحاجة إليها.
هكذا كان شأن الذكر والأنثى؛ فما وَلَدا من الأولاد نشأ مثل نشأتهما في الأحوال كلها، ألم تر كيف اهتدى أحد بني آدم إلى دفن أخيه من مشاهدة فعل الغراب الباحث في الأرض؛ فكان الاستنباط الفكري والتقليدُ به أُسَّّّّ الحضارة البشرية؟!
فالصلاح هو الأصل الذي خلق عليه البشر، ودام عليه دهراً ليس بالقصير، ثم أخذ يرتد إلى أسفل سافلين؛ ذلك أن ارتداد الإنسان إلى أسفل سافلين إنما عرض له بعوارضَ كانت في مبدأ الخليقة قليلة الطُّرُوِّ أو معدومته؛ لأن أسباب الانحراف عن الفطرة السليمة لا تعدو أربعة أسباب:
الأولى: خلل يعرض عند تكوين الفرد في عقله أو في جسده؛ فينشأ منحرفاً عن الفضيلة لتلك العاهة.
الثاني: اكتساب رذائل من الأخلاق من مخترعات قواه الشهوية والغضبية، ومن تقليد غيره بداعية استحسان ما في غيره من مفاسد يخترعها، ويدعو إليها.
الثالث: خواطر خيالية تحدث في النفس مخالفة لما عليه الناس كالشهوات، والإفراط في حب الذات، أو في كراهية الغير مما توسوس به النفس؛ فيفكر صاحبها في تحقيقها.
الرابع: صدور أفعال تصدر من الفرد بدواع حاجية أو تكميلية، ويجدها ملائمة له أو لذيذة عنده؛ فيلازمها حتى تصير له عادة، وتشتبه عنده بعد طول المدة بالطبيعة؛ لأن العادة إذا صادفت سذاجة من الفعل غير بصيرة بالنواهي رسخت، فصارت طبعاً.
فهذه أربعة أسباب للانحطاط عن الفطرة الطيبة، والأول كان نادر الحدوث في البشر؛ لأن سلامة الأبدان، وشباب واعتدال الطبيعة وبساطة العيش، ونظام البيئة كل تلك كانت موانع من طُرُوِّ الخلل التكويني، ألا ترى أن نوع كل حيوان يلازم حال فطرته؛ فلا ينحرف عنها باتباع غيره؟(1/180)
والثاني كان غير موجود، لأن البشر يومئذ كانوا عائلة واحدة في موطن واحد يسير على نظام واحد، وتربية واحدة، وإحساس واحد؛ فمن أين يجيئه الاختلاف؟
والثالث ممكن الوجود لكن المحبة الناشئة عن حسن المعاشرة وعن الإلف، والشفقة الناشئة عن الأخوة والمواعظ الصادرة عن الأبوين _ كانت حُجُبَاً لما يهجس من هذا الإحساس.
والرابع لم يكن بالذي يكثر في الوقت الأول من وجود البشر؛ لأن الحاجاتِ كانت جارية على وفق الطباع الأصلية، ولأن التحسينات كانت مفقودة، وإنما هذا السبب الرابع من موجبات الرقي والانحطاط في أحوال الجمعيات البشرية الطارئة. 2/303_304
126_ والبشارة: الإعلام بخيرٍ حصل، أو سيحصل.
والنِّذارة بكسر النون: الإعلام بشرٍّ، و ضُرٍّ حصل أو سيحصل.
وذلك هو الوعد والوعيد الذي تشتمل عليه الشرائع. 2/307
127_ و[لَمَّا] أخت (لم) في الدلالة على نفي الفعل، ولكنها مُرَكَّبة من لم وما النافية؛ فأفادت توكيد النفي؛ لأنها ركبت من حرفي نفي، ومن هذا كان النفي بها مشعراً بأن السامع كان يترقب حصول الفعل المنفي بها؛ فيكون النفي بها نفياً لحصول قريب، وهو يُشعر بأن حصول المنفي بها يكون بعد مدة، وهذا استعمال دل عليه الاستقراء، واحتجوا له بقول النابغة:
أزِفَ الترحُّلُ غيرَ أن ركابنا ... لما تَزُلْ برحالنا وكأنْ قدِ
فنفى بلما، ثم قال: وكأن قد، أي وكأنه قد زالت. 2/315
128_ فالقتال كريه للنفوس، لأنه يحول بين المقاتل وبين طمأنينته ولذاته ونومه وطعامه وأهله وبيته، ويُلْجِئ الإنسان إلى عداوة من كان صاحبه، ويعرِّضه لخطر الهلاك، أو ألم الجراح.
ولكن فيه دفع المذلة الحاصلة من غلبة الرجال واستضعافهم، وفي الحديث =لا تمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتم فاصبروا+.
وهو إشارة إلى أن القتال من الضرورات التي لا يحبها الناس إلا إذا كان تركها يفضي إلى ضر عظيم، قال العقيلي:
ونَبِكي حينَ نَقتُلُكم عليكم ... ونقَتلكم كأنَّا لا نُبالي(1/181)
ومعلوم أن كراهية الطبع لا تنافي تلقي التكليف به برضاً؛ لأن أكثر التكليف لا يخلو عن مشقة. 2/320_321
129_ فإن الشيء قد يكون لذيذاً ملائماً، ولكن ارتكابه يفضي إلى الهلاك، وقد يكون كريهاً منافراً وفي ارتكابه صلاح.
وشأنُ جمهورِ الناس الغفلة عن العاقبة والغاية أو جهلهما؛ فكانت الشرائع وَحَمَلَتُها من العلماء والحكماء تحرض الناس على الأفعال والتروك باعتبار الغايات والعواقب. 2/322
130_ ثم إن الله _تعالى_ جعل نظام الوجود في هذا العالم بتولد الشيء من بين شيئين وهو المعبر عنه بالازدواج، غير أن هذا التولد يحصل في الذوات بطريقة التولد المعروفة قال _تعالى_: [وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ].
وأما حصوله في المعاني فإنما يكون بحصول الصفة من بين معني صفتين أخريين متضادتين تتعادلان في نفس؛ فينشأ عن تعادلهما صفة ثالثة.
والفضائل جُعِلَت متولدة من النقائص؛ فالشجاعة من التهور والجبن، والكرم من السرف والشح ولا شك أن الشيء المتولد من شيئين يكون أقل مما تولد منه، لأنه يكون أقل من الثلث؛ إذ ليس كلما وجد الصفتان حصل منهما تولد صفة ثالثة، بل حتى يحصل التعادل والتكافؤ بين تَيْنِكِ الصفتين المتضادتين، وذلك عزيز الحصول.
ولا شك أن هاته الندرة قضت بقلة اعتياد النفوس هاته الصفات، فكانت صعبة عليها لقلة اعتيادها إياها.
ووراء ذلك فالله حدد للناس نظاماً لاستعمال الأشياء النافعة والضارة فيما خلقت لأجله؛ فالتبعة في صورة استعمالها على الإنسان وهذا النظام كله تهيئة لمراتب المخلوقات في العالم الأبدي عالم الخلود وهو الدار الآخرة كما يقال: =الدنيا مزرعة الآخرة+. 2/323
131_ ومن سب النبي"قتل ولا تقبل توبته. 2/336
132_ هذا، واعلم أن الردة في الأصل هي الخروج من عقيدة الإسلام عند جمهور المسلمين.2/336(1/182)
133_ ويدل على خروج المسلم من الإسلام تصريحه به بإقراره نصاً أو ضمناً؛ فالنص ظاهر، والضمن أن يأتي أحد بلفظ أو فعل يتضمن ذلك لا يحتمل غيره بحيث يكون قد نص الله ورسوله أو أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا عن كافر مثل السجود للصنم، والتردد إلى الكنائس بحالة أصحاب دينها. 2/336
134_ وحكمة تشريع قتل المرتد _ مع أن الكافر بالأصالة لا يقتل _ أن الارتداد خروج فرد أو جماعة من الجامعة الإسلامية؛ فهو بخروجه من الإسلام بعد الدخول فيه ينادي على أنه لما خالط هذا الدين وجَدَه غير صالح، ووجد ما كان عليه قبل ذلك أصلح؛ فهذا تعريض بالدين واستخفاف به، وفيه _أيضاً_ تمهيد طريق لمن يريد أن يَنْسَلَّ من هذا الدين، وذلك يفضي إلى انحلال الجامعة؛ فلو لم يجعل لذلك زاجر ما انزجر الناس.
ولا نجد شيئاً زاجراً مثل توقع الموت؛ فلذلك جُعل الموت هو العقوبة للمرتد؛ حتى لا يدخل أحد في الدين إلا على بصيرة، وحتى لا يخرج منه أحد بعد الدخول فيه.
وليس هذا من الإكراه في الدين المنفي بقوله _تعالى_: [لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] على القول بأنها غير منسوخة؛ لأن الإكراه في الدين هو إكراه الناس على الخروج من أديانهم، والدخول في الإسلام.
وأما هذا فهو من الإكراه على البقاء في الإسلام. 2/336_337
135_ والميسر: قمار كان للعرب في الجاهلية، وهو من القمار القديم المتوغل في القدم كان لعاد من قبل، وأولُ مَنْ وَرَدَ ذِكْرُ لَعِبِ الميسر عنه في كلام العرب هو لقمان بن عاد، ويقال لقمان العادي، والظاهر أنه ولد عاد بن عوص بن إرم ابن سام، وهو غير لقمان الحكيم.
والعرب تزعم أن لقمان كان أكثر الناس لعباً بالميسر حتى قالوا في المثل: (أيسر من لقمان).
وزعموا أنه كان له ثمانية أيسار لا يفارقونه هم من سادة عاد وأشرافهم، ولذلك يشبهون أهل الميسر إذا كانوا من أشراف القوم بأيسار لقمان قال طرفة ابن العبد:(1/183)
وهُمُ أَيْسَار لُقْمانَ إذا ... أغْلَتِ الشَّتْوة أَبْدَاءَ الجُزُرْ
2/346_347
136_ التوبة تطهر روحاني، والتطهير جثماني.2/370
137_ [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ].
فإن الله دعانا إلى خلق حميد، وهو العفو عن الحقوق، ولما كان ذلك الخلق قد يعسر على النفس؛ لما فيه من ترك ما تحبه من الملائم، من مال وغيره كالانتقام من الظالم، وكان في طباع الأنفس الشح _ عَلَّمنا الله _تعالى_ دواء هذا الداء بدواءين:
أحدهما دنيوي عقلي: وهو قولُه: [وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ] المذكرُ بأن العفوَ يقرب إليك البعيد، ويصير العدو صديقاً، وإنك إن عفوت فيوشك أن تقترف ذنباً فَيُعْفَى عنك إذا تعارف الناس الفضل بينهم، بخلاف ما إذا أصبحوا لا يتنازلون عن الحق.
الدواء الثاني أخروي روحاني: وهو الصلاة التي وصفها الله _تعالى_ في آية أخرى بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ فلما كانت معينة على التقوى، ومكارم الأخلاق حث الله على المحافظة عليها.
ولك أن تقول: لما طال تعاقب الآيات المبينةِ تشريعاتٍ تَغْلِبُ فيها الحظوظُ الدنيوية للمكلفين _ عُقبت تلك التشريعات بتشريع تغلب فيه الحظوظ الأخروية؛ لكي لا يشتغل الناس بدراسة أحد الصنفين من التشريع، عن دراسة الصنف الآخر. 2/465_466
138_ والشفاعة: الوساطة في طلب النافع ، والسعي إلى من يراد استحقاق رضاه على مغضوب منه عليه أو إزالة وحشة أو بغضاء بينهما ، فهي مشتقة من الشفع ضد الوتر. 3/15
139_ وبهذا يظهر أن الشفاعة تكون في دفع المضرة، وتكون في جلب المنفعة. 3/15(1/184)
140_ والنوم: معروف وهو فتور يعتري أعصاب الدماغ من تعب أعمال الأعصاب، ومن تصاعد الأبخرة البدنية الناشئة عن الهضم والعمل العصبي؛ فيشتدّ عند مغيب الشمس ومجيءِ الظلمة؛ فيطلب الدمَاغ والجهاز العصبي الذي يدبّره الدمَاغ استراحةً طبيعية؛ فيغيب الحِسّ شيئاً فشيئاً، وتثقل حركة الأعضاء، ثم يغيب الحسّ إلى أن تسترجع الأعصاب نشاطها؛ فتكون اليقظة. 3/19
141_ والحكمة: إتقان العلم وإجراء الفعل على وفق ذلك العلم؛ فلذلك قيل: نزلت الحكمة على ألسنة العرب، وعقول اليونان، وأيدي الصينيين.
وهي مشتقة من الحُكْم _وهو المنع_ لأنها تمنع صاحبها من الوقوع في الغلط والضلال، قال _تعالى_: [كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ] ومنه سميت الحديدة التي في اللجام وتجعل في فم الفرس، حَكَمَة. 3/61
142_ ومن يشاء الله _تعالى_ إيتاءه الحكمة هو الذي يخلقه مستعدَّاً إلى ذلك، من سلامة عقله واعتدال قواه، حتى يكون قابلاً لفهم الحقائق منقاداً إلى الحق إذا لاح له، لا يصدّه عن ذلك هوى ولا عصبية ولا مكابرة ولا أنفة، ثم ييسّر له أسباب ذلك من حضور الدعاة، وسلامة البقعة من العُتاة.
فإذا انضمّ إلى ذلك توجّه إلى الله بأن يزيد أسبابه تيسيراً، ويمنع عنه ما يحجب الفهم _ فقد كمل له التيسير .
وفسرت الحكمة بأنّها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بما تبلغه الطاقة، أي بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض، ولا يغلط في العلل والأسباب. 3/61
143_ والحكمة قسمت أقساماً مختلفة الموضوع اختلافاً باختلاف العصور والأقاليم.
ومبدأ ظهور علم الحكمة في الشرق عند الهنود البراهمة والبوذيين، وعند أهل الصين البوذيين .
وفي بلاد فارس في حكمة زرادشت، وعند القبط في حكمة الكهنة.
ثم انتقلت حكمة هؤلاء الأمم الشرقية إلى اليونان، وهُذّبت وصحّحت، وفرعت، وقسمت عندهم إلى قسمين: حكمة عملية، وحكمة نظرية.
فأما الحكمة العملية فهي المتعلقة بما يصدر من أعمال الناس.(1/185)
وهي تنحصر في تهذيب النفس، وتهذيب العائلة، وتهذيب الأمة.
والأول: علم الأخلاق: وهو التخلق بصفات العلو الإلهيّ بحسب الطاقة البشرية، فيما يصدر عنه كمال في الإنسان.
والثاني: علم تدبير المنزل.
والثالث: علم السياسة المدنية والشرعية.
وأما الحكمة النظرية فهي الباحثة عن الأمور التي تعلم وليست من الأعمال، وإنما تعلم لتمام استقامة الأفهام والأعمال، وهي ثلاثة علوم:
علم يلقب بالأسفل وهو الطبيعي، وعلم يلقب بالأوسط وهو الرياضي، وعلم يلقب بالأعلى وهو الإلهي.
فالطبيعي: يبحث عن الأمور العامة للتكوين والخواص والكون والفساد، ويندرج تحته حوادث الجو، وطبقات الأرض والنبات والحيوان والإنسان، ويندرج فيه الطب والكيمياء والنجوم.
والرياضي: الحساب، والهندسة، والهيئة، والموسيقى، ويندرج تحته الجبر والمساحة والحيل المتحركة (الماكينية) وجرّ الأثقال.
وأما الإلهي: فهو خمسة أقسام: معاني الموجودات، وأصول ومبادئ وهي المنطق ومناقضة الآراء الفاسدة، وإثبات واجب الوجود وصفاته، وإثبات الأرواح والمجردات، وإثبات الوحي والرسالة، وقد بيّن ذلك أبو نصر الفارابي وأبو علي ابن سينا.
فأما المتأخرون _ من حكماء الغرب _ فقد قصروا الحكمة في الفلسفة على ما وراء الطبيعة، وهو ما يسمى عند اليونان بالإلهيات.3/61_62
144_ والمهم من الحكمة في نظر الدين أربعة فصول:
أحدها: معرفة الله حق معرفته وهو علم الاعتقاد الحق، ويسمى عند اليونان العلم الإلهي أو ما وراء الطبيعة .
الثاني: ما يصدر عن العلم به كمالُ نَفْسِيَّةِ الإنسان، وهو علم الأخلاق.
الثالث: تهذيب العائلة، وهو المسمى عند اليونان علم تدبير المنزل.
الرابع: تقويم الأمة وإصلاح شؤونها وهو المسمى علم السياسة المدنية، وهو مندرج في أحكام الإمامة والأحكام السلطانية.
ودعوة الإسلام في أصوله وفروعه لا تخلو عن شعبة من شعب هذه الحكمة.(1/186)
وقد ذكر الله الحكمة في مواضع كثيرة من كتابه مراداً بها ما فيه صلاح النفوس من النبوءة والهدى والإرشاد .
وقد كانت الحكمة تطلق عند العرب على الأقوال التي فيها إيقاظ للنفس، ووصاية بالخير، وإخبار بتجارب السعادة والشقاوة، وكليات جامعة لجماع الآداب.
وذكر الله _تعالى_ في كتابه حكمة لقمان ووصاياه في قوله _تعالى_: [وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ] الآيات.
وقد كانت لشعراء العرب عناية بإيداع الحكمة في شعرهم وهي إرسال الأمثال، كما فعل زهير في الأبيات التي أولها(1):
رأيت المنايا خبط عشواء ... ..............................
والتي افتتحها بمَنْ ومَنْ في معلقته(2).
وقد كانت بيد بعض الأحبار صحائف فيها آداب ومواعظ مثل شيء من جامعة سليمان _عليه السلام_ وأمثاله؛ فكان العرب ينقلون منها أقوالاً .
وفي صحيح البخاري في باب الحياء من كتاب الأدب أن عمران بن حصين قال: =قال رسول الله": =الحياء لا يأتي إلا بخير+.
فقال بشير بن كعب العدوي: مكتوب في الحكمة إن من الحياء وقاراً، وإن من الحياء سكينة، فقال له عمران: أحدِّثك عن رسول الله وتحدِّثني عن صحيفتك+.
والحكيم: هو النابغ في هاته العلوم أو بعضها، فبحكمته يعتصم من الوقوع في الغلط والضلال بمقدار مبلغ حكمته، وفي الغرض الذي تتعلق به حكمته.3/63
145_ وعلوم الحكمة: هي مجموع ما أرشد إليه هدي الهداة من أهل الوحي الإلهي الذي هو أصل إصلاح عقول البشر، فكان مبدأ ظهور الحكمة في الأديان؛ ثم ألحق بها ما أنتجه ذكاء أهل العقول من أنظارهم المتفرعة على أصول الهدى الأول.
__________
(1) _ يشير إلى معلقة زهير بن أبي سُلمى التي مطلعها:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ... .......................................... ... (م)
(2) _ يعني افتتح أبياتها بهذه الأداة من الشرط كقوله:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ........................................... ... (م)(1/187)
وقد مهد قدماء الحكماء طرائق من الحكمة؛ فنبعت ينابيع الحكمة في عصور متقاربة كانت فيها مخلوطة بالأوهام والتخيلات والضلالات؛ بين الكلدانيين والمصريين والهنود والصين، ثم درسها حكماء اليونان، فهذّبوا وأبدعوا، وميزوا علم الحكمة عن غيره، وتوخوا الحق ما استطاعوا، فأزالوا أوهاماً عظيمة، وأبقوا كثيراً .
وانحصرت هذه العلوم في طريقتي سقراط وهي نفسية، وفيثاغورس وهي رياضية عقلية .
والأولى يونانية والثانية لإيطاليا اليونانية،وعنهما أخذ أفلاطون، واشتهر أصحابه بالإشراقيين(1) ثم أخذ عنه أفضل تلامذته وهو أرسططاليس(2) وهذّب طريقته ووسّع العلوم، وسميت أتباعه بالمشَّائين، ولم تزل الحكمة من وقت ظهوره معوّلة على أصوله إلى يومنا هذا. 3/63_64
146_ ما يخطر في النفس إن كان مجردَ خاطرٍ وتردد من غير عزم فلا خلاف في عدم المؤاخذة به؛ إذ لا طاقة للمكلف بصرفه عنه، وهو مورد حديث التجاوز للأمة عمّا حدّثت به أنفسها.
وإن كان قد جاش في النفس عزم، فإما أن يكون من الخواطر التي تترتّب عليها أفعال بدنية أو لا، فإن كان من الخواطر التي لا تترتّب عليها أفعال: مثل الإيمان، والكفر، والحسد، فلا خلاف في المؤاخذة به؛ لأن ممّا يدخل في طوق المكلّف أن يصرفه عن نفسه، وإن كان من الخواطر التي تترتّب عليها آثار في الخارج، فإن حصلت الآثار فقد خرج من أحوال الخواطر إلى الأفعال كمن يعزم على السرقة فيسرق، وإن عزم عليه ورجع عن فعله اختياراً لغير مانع منعه فلا خلاف في عدم المؤاخذة به وهو مورد حديث: =من همَّ بسيئةٍ فلم يعملها كُتبت له حسنة+.
__________
(1) _ هم أصحاب الفلسفة الإشراقية مأخوذة من إشراق النفس، واستعدادها.
وهي _عندهم_ تُنال بالحدس، والإلهام، وموضوعها العلوم الإلهية. (م)
(2) _ هو أرسطو المقدوني الذي يعد أبرز تلامذة أفلاطون، وسُميت فلسفته بالمشائية؛ لأنه كان يعلِّم أتباعه وتلاميذه وهو يمشي؛ تعظيماً لشأن الحكمة. (م)(1/188)
وإن رجع لمانع قهره على الرجوع ففي المؤاخذة به قولان: أي إن قوله _تعالى_ [يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ] محمول على معنى يجازيكم، وأنه مجمل تبيِّنه موارد الثواب والعقاب في أدلة شرعية كثيرة. 3/130_131
1_ ووجه تسميتها بسورة آل عمران أنها ذكرت فيها فضائل آل عمران وهو عمران بن ماتان أبو مريم، وآله هم زوجه حنة وأختها زوجة زكريا النبي، وزكريا كافل مريم؛ إذ كان أبوها عمران توفي وتركها حملاً؛ فكفلها زوج خالتها.
ووصفها رسول الله " بالزهراء في حديث أبي أمامة المتقدم.
وذكر الآلوسي أنها تسمى: الأمان، والكنز، والمجادلة، وسورة الاستغفار. ولم أره لغيره، ولعله اقتبس ذلك من أوصاف وصفت بها هذه السورة مما ساقه القرطبي في المسألة الثالثة والرابعة من تفسير أول السورة.
وهذه السورة نزلت بالمدينة بالاتفاق بعد سورة البقرة، فقيل: إنها ثانية لسورة البقرة على أن البقرة أول سورة نزلت بالمدينة.
وقيل: نزلت بالمدينة سورة المطففين أولاً، ثم البقرة، ثم نزلت سورة آل عمران، ثم نزلت الأنفال في وقعة بدر.
وهذا يقتضي: أن سورة آل عمران نزلت قبل وقعة بدر؛ للاتفاق على أن الأنفال نزلت في وقعة بدر، ويبعد ذلك أن سورة آل عمران اشتملت على التذكير بنصر المسلمين يوم بدر، وأن فيها ذكر يوم أحد، ويجوز أن يكون بعضها نزل متأخراً. 3/143_144(1/189)
2_ واشتملت هذه السورة من الأغراض على: الابتداء بالتنويه بالقرآن، ومحمد"، وتقسيم آيات القرآن، ومراتبِ الأفهام في تلقِّيها، والتنويهِ بفضيلة الإسلام، وأنه لا يَعْدِلُه دين، وأنه لا يُقْبَلُ دينٌ عند الله بعد ظهور الإسلام، غير الإسلام، والتنويهِ بالتوراةِ والإنجيل، والإيماء إلى أنهما أنزلا قبل القرآن؛ تمهيداً لهذا الدين؛ فلا يَحِقُّ للناس أن يَكْفُروا به، وعلى التعريفِ بدلائل إلهية الله _تعالى_ وانفراده، وإبطالِ ضلالة الذين اتخذوا آلهة من دون الله: مَنْ جعلوا له شركاء، أو اتخذوا له أبناءً، وتهديدِ المشركين بأن أمرَهم إلى زوالٍ، وألا يغرهم ما هم فيه مِنَ البذخ، وأن ما أعد للمؤمنين خيرٌ من ذلك، وتهديدِهم بزوال سلطانهم، ثم الثناءِ على عيسى _عليه السلام_ وآل بيته، وذكرِ معجزةِ ظهورِه، وأنه مخلوق لله.(1/190)
وذِكْرُ الذين آمنوا به حقاً، وإبطالُ إلهية عيسى، ومِنْ ثَمَّ أفضى إلى قضية وفد نجران ولجَاجتهم، ثم محاجةِ أهل الكتابين في حقيقة الحنيفية، وأنهم بُعَدَاءُ عنها، وما أَخَذَ اللهُ مِنَ العهد على الرسل كلِّهم: أن يؤمنوا بالرسولِ الخاتَم، وأن الله جعل الكعبةَ أولَ بيتٍ وُضِعَ للناس، وقد أعاد إليه الدينَ الحنيفَ كما ابتدأه فيه، وأوجب حَجَّهَ على المؤمنين، وأظهر ضلالاتِ اليهودِ، وسوءَ مقالتِهم، وافتراءَهم في دينهم، وكتمانَهم ما أنزل إليهم، وذَكَّر المسلمين بنعمته عليهم بدين الإسلام، وأَمَرهم بالاتحاد والوِفاق، وذكَّرهم بسابق سوءِ حالهم في الجاهلية، وهَوَّنَ عليهم تظاهرَ معانديهم من أهل الكتاب والمشركين، وذكَّرهم بالحذر من كيدهم وكيدِ الذين أظهروا الإسلامَ ثم عادوا إلى الكفر؛ فكانوا مثلاً لتمييز الخبيث مِنَ الطيب، وأَمَرهم بالاعتزاز بأنفسهم، والصبرِ على تلقي الشدائد، والبلاء، وأذى العدو، ووعدهم على ذلك بالنصر والتأييد وإلقاء الرعب منهم في نفوس عدوهم، ثم ذكَّرهم بيوم أحد، ويوم بدر، وضرب لهم الأمثال بما حصل فيهما، ونوَّه بشأن الشهداء من المسلمين، وأمر المسلمين بفضائل الأعمال: من بذل المال في مواساة الأمة، والإحسان، وفضائل الأعمال، وترك البخل، ومذمة الربا، وختمت السورة بآيات التفكير في ملكوت الله. 3/144_145
3_ والتوراة: اسم للكتاب المنزل على موسى _عليه السلام_.
وهو اسم عبراني أصله طورا بمعنى الهدي، والظاهر أنه اسم للألواح التي فيها الكلمات العشر التي نزلت على موسى _عليه السلام_ في جبل الطور؛ لأنها أصل الشريعة التي جاءت في كتب موسى؛ فأطلق ذلك الاسم على جميع كتب موسى.
واليهود يقولون: سفر طورا؛ فلما دخل هذا الاسم إلى العربية أدخلوا عليه لام التعريف التي تدخل على الأوصاف والنكرات؛ لتصير أعلاماً بالغلبة: مثل العقبة.(1/191)
ومن أهل اللغة والتفسير من حاولوا توجيهاً لاشتقاقه اشتقاقاً عربياً، فقالوا: إنه مشتق من الوَرْي وهو الوقد، بوزن تَفعَلة أو فَوْعَلَة، وربما أقدمهم على ذلك أمران: أحدهما: دخول حرف التعريف عليه، وهو لا يدخل على الأسماء العجمية، وأجيب بأن لا مانع من دخولها على المعرب كما قالوا: الإسكندرية، وهذا جواب غير صحيح؛ لأن الإسكندرية وزن عربي؛ إذ هو نسب إلى إسكندر، فالوجه في الجواب أنه إنما ألزم التعريف؛ لأنه معرب عن اسم بمعنى الوصف اسم علم فلما عربوه ألزموه اللام لذلك.
الثاني: أنها كتبت في المصحف بالياء، وهذا لم يذكروه في توجيه كونه عربياً، وسبب كتابته كذلك الإشارة إلى لغة إمالته.3/148_149
4_ وأما الإنجيل: فاسم للوحي الذي أوحي به إلى عيسى _عليه السلام_ فجمعه أصحابه.
وهو اسم معرب قيل من الرومية وأصله (إثانجيليوم) أي الخبر الطيب؛ فمدلوله مدلول اسم الجنس، ولذلك أدخلوا عليه كلمة التعريف في اللغة الرومية، فلما عربه العرب أدخلوا عليه حرف التعريف.
وذكر القرطبي عن الثعلبي أن الإنجيل في السريانية وهي الآرامية (أنكليون).
ولعل الثعلبي اشتبه عليه الرومية بالسريانية؛ لأن هذه الكلمة ليست سريانية وإنما لما نطق بها نصارى العراق وظنها سريانية، أو لعل في العبارة تحريفاً وصوابها اليونانية وهو في اليونانية (أووانيليون) أي اللفظ الفصيح.
وقد حاول بعض أهل اللغة والتفسير جعله مشتقاً من النجل وهو الماء الذي يخرج من الأرض، وذلك تعسف _أيضاً_.
وهمزة الإنجيل مكسورة في الأَشْهَرِ؛ ليجري على وزن الأسماء العربية؛ لأن إفعيلاً موجود بقلة مثل: إبزيم.
وربما نُطق به بفتح الهمزة، وذلك لا نظير له في العربية. 3/149
5_ وقد اختلف علماء الإسلام في تعيين المقصود من المحكمات والمتشابهات على أقوال: مرجعها إلى تعيين مقدار الوضوح والخفاء.(1/192)
فعن ابن عباس: أن المحكم مالا تختلف فيه الشرائع كتوحيد الله _تعالى_ وتحريم الفواحش، وذلك ما تضمنته الآيات الثلاث من أواخر سورة الأنعام [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ] والآيات من سورة الإسراء [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ] وأن المتشابهَ المجملاتُ التي لم تُبَيَّن كحروف أوائل السور.
وعن ابن مسعود، وابن عباس _أيضاً_: أن المحكم ما لم ينسخ، والمتشابه المنسوخ وهذا بعيد عن أن يكون مراداً هنا؛ لعدم مناسبته للوصفين ولا لبقية الآية.
وعن الأصم: المحكم ما اتضح دليله، والمتشابه ما يحتاج إلى التدبر، وذلك كقوله _تعالى_:[وَالَّذِي نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ] فأولها محكم، وآخرها متشابه.
وللجمهور مذهبان: أولهما: أن المحكم ما اتضحت دلالته، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه، ونسب هذا القول لمالك، في رواية أشهب من جامع العتبيَّة، ونسبه الخفاجي إلى الحنفية، وإليه مال الشاطبي في الموافقات.
وثانيهما: أن المحكمَ الواضحُ الدلالةِ، والمتشابهَ الخفيُّها ، وإليه مال الفخر؛ فالنص والظاهر هما المحكم؛ لاتضاح دلالتهما، وإن كان أحدهما أي الظاهر يتطرقه احتمال ضعيف، والمجمل والمؤول هما المتشابه؛ لاشتراكهما في خفاء الدلالة وإن كان أحدهما _أي المؤول_ دالاًّ على معنى مرجوح، يقابله معنى راجح، والمجمل دالاًّ على معنى مرجوح يقابله مرجوح آخر، ونسبت هذه الطريقة إلى الشافعية.
قال الشاطبي: فالتشابه: حقيقي، وإضافي؛ فالحقيقي: مالا سبيل إلى فهم معناه، وهو المراد من الآية، والإضافي: ما اشتبه معناه؛ لاحتياجه إلى مراعاة دليل آخر .
فإذا تقصَّى المجتهدُ أدلةَ الشريعةِ وجد فيها ما يبين معناه، والتشابه بالمعنى الحقيقي قليل جداً في الشريعة، وبالمعنى الإضافي كثير.3/155_156(1/193)
6_ وقد دلت هذه الآية على أن من القرآن محكماً ومتشابهاً، ودلت آيات أخر على أن القرآن كله محكم، قال _تعالى_: [كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ].
وقال: [تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ].
والمراد أنه أحكم وأتقن في بلاغته، كما دلت آيات على أن القرآن كله متشابه، قال _تعالى_: [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً].
والمعنى أنه تشابه في الحسن والبلاغة والحقيَّة، وهو معنى [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً].
فلا تعارض بين هذه الآيات: لاختلاف المراد بالإحكام والتشابه في مواضعها، بحسب ما تقتضيه المقامات. 3/156
7_ وليس من المتشابه ما صرح فيه بأنا لا نصل إلى علمه كقوله: [قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي]ولا ما صرح فيه بجهل وقته كقوله [لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً].
وليس من المتشابه ما دل على معنى يعارض الحمل عليه دليل آخر منفصل عنه؛ لأن ذلك يرجع إلى قاعدة الجمع بين الدليلين المتعارضين، أو ترجيح أحدهما على الآخر، مثل قوله _تعالى_ خطاباً لإبليس: [وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ] الآية في سورة الإسراء مع ما في الآيات المقتضية [فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ] و[اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ]. 3/158_160
8_ فزيغ القلب يتسبب عن عوارض تعرض للعقل: من خلل في ذاته، أو دواع من الخلطة أو الشهوة، أو ضعف الإرادة، تَحُولُ بالنفس عن الفضائل المتحلية بها إلى رذائل كانت تهجس بالنفس، فتذودها النفس عنها بما استقر في النفس من تعاليم الخير المسماة بالهدى.(1/194)
ولا يدري المؤمن، ولا العاقل، ولا الحكيم، ولا المهذب: أَيَّة ساعة تحل فيها به أسباب الشقاء، وكذلك لا يدري الشقي، ولا المنهمك، الأَفِن: أَيَّة ساعةٍ تَحُفُّ فيها به أسباب الإقلاع عما هو مُتَلَبَّس به من تغير خَلْق، أو خُلُق، أو تبدل خليط، قال _تعالى_: [وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ].
ولذا كان دأبُ القرآنِ قَرْنَ الثناءِ بالتحذير، والبشارة بالإنذار. 3/170
9_ وقوله: [وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً] طلبوا أثر الدوام على الهدى وهو الرحمة في الدنيا والآخرة، ومنع دواعي الزيغ والشر.
وجُعلتِ الرحمةُ من عند الله؛ لأن تيسيرَ أسبابِها، وتكوينَ مهيئاتها بتقدير الله؛ إذ لو شاء الله لكان الإنسان مُعَرَّضاً لنزول المصائب والشرور في كل لمحة؛ فإنه محفوفٌ بموجودات كثيرة، حية وغير حية، هو تلقائها في غاية الضعف لولا لطف الله به بإيقاظ عقله؛ لاتقاء الحوادث، وبإرشاده لاجتناب أفعال الشرور المهلكة، وبإلهامه إلى ما فيه نفعه، وبجعل تلك القوى الغالبة له قوى عمياء لا تهتدي سبيلاً إلى قصده، ولا تصادفه إلا على سبيل الندور.
ولهذا قال _تعالى_: [اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ].
ومن أجلى مظاهرِ اللطفِ أحوالُ الاضطرارِ والالتجاءِ، وقد كنت قلت كلمة: اللطف عند الاضطرار. 3/170
10_ وكان إصلاحُ الاعتقادِ أَهمَّ ما ابتدأ به الإسلام، وأكثر ما تعرض له؛ وذلك لأن إصلاح الفكرة هو مبدأ كل إصلاح؛ ولأنه لا يرجى صلاح لقوم تلطَّخت عقولهم بالعقائد الضالة، وخسئت نفوسهم بآثار تلك العقائدِ المثيرةِ خوفاً من لا شيء، وطمعاً في غير شيء.
وإذا صلح الاعتقاد أمكن صلاح الباقي؛ لأن المرء إنسان بروحه لا بجسمه.
ثم نشأ عن هذا الاعتقاد الإسلامي: عزة النفس، وأصالة الرأي، وحرية العقل، ومساواة الناس فيما عدا الفضائل.(1/195)
وقد أكثر الإسلامُ شرحَ العقائدِ إكثاراً لا يشبهه فيه دين آخر، بل إنك تنظر إلى كثير من الأديان الصحيحة؛ فلا ترى فيها من شرح صفات الخالق إلا قليلاً. 3/194
11_ وحبط الأعمال: إزالة آثارها النافعة من ثواب ونعيم في الآخرة، وحياة طيبة في الدنيا.
وإطلاق الحبط على ذلك تمثيل بحال الإبل التي يصيبها الحبط وهو انتفاخ في بطونها من كثرة الأكل، يكون سبب موتها، في حين أكلت ما أكلت للالتذاذ به. 3/207
12_ وآدم اسم أبي البشر عند جميع أهل الأديان، وهو عَلَمٌ عليه وضعه لنفسه بإلهام من الله _تعالى_ كما وضع مبدأ اللغة.
ولا شك أنَّ مِنْ أول ما يحتاج إليه هو وزوجه أن يعبر أحدهما للآخر، وظاهر القرآن أن الله أسماه بهذا الاسم مِنْ قَبْلِ خروجه من جنة عدن ولا يجوز أن يكون اسمه مشتقاً من الأدمة، وهي اللون المخصوص؛ لأن تسمية ذلك اللون بالأدمة خاص بكلام العرب؛ فلعل العرب وضعوا اسم ذلك اللون أخذاً من وصف لون آدم أبي البشر. 3/229
13_ والسيد فيعل: من ساد يسود إذا فاق قومه في محامد الخصال حتى قدموه على أنفسهم، واعترفوا له بالفضل.
فالسؤدد عند العرب في الجاهلية يعتمد كفايةَ مهماتِ القبيلة والبذل لها، وإتعاب النفس لراحة الناس، قال الهذلي:
وإن سيادة الأقوام فاعلم ... لها صعداء مطلبها طويل
أترجو أن تسود ولن تُعَنَّى ... وكيف يسود ذو الدعة البخيل
وكان السؤدد عندهم يعتمد خلالاً مرجعها إلى إرضاء الناس على أشرف الوجوه، وملاكه بذل الندى، وكف الأذى، واحتمال العظائم، وأصالة الرأي، وفصاحة اللسان.3/240
14_ والسيد في اصطلاح الشرع: من يقوم بإصلاح حال الناس في دنياهم وأخراهم معاً، وفي الحديث: =أنا سيد ولد آدم ولا فخر+ وفيه: =إن ابني هذا سيد+ يعني الحسن بن علي؛ فقد كان الحسن جامعاً خصال السؤدد الشرعي، وحسبك من ذلك أنه تنازل عن حق الخلافة؛ لجمع كلمة الأمة، ولإصلاح ذات البين.(1/196)
وفي تفسير ابن عطية عن عبد الله بن عمر، أنه قال: =ما رأيت أحداً أسود من معاوية بن أبي سفيان، فقيل له: وأبو بكر وعمر قال: هما خير من معاويةَ، ومعاويةُ أسود منهما+.
قال ابن عطية: =أشار إلى أن أبا بكر وعمر كانا من الاستصلاح وإقامة الحقوق بمنزلة هما فيها خير من معاوية، ولكن مع تَتَبُّعِ الجادةِ، وقلةِ المبالاة برضا الناس ينخرم فيه كثير من خصال السؤدد.
ومعاوية قد برز في خصال السؤدد التي هي الاعتمال في إرضاء الناس على أشرف الوجوه، ولم يواقع محذوراً+. 3/240_241
15_ والوجيه ذو الوجاهة وهي: التقدم على الأمثال، والكرامة بين القوم، وهي وصف مشتق من الوجه للإنسان وهو أفضل أعضائه الظاهرة منه، وأجمعها لوسائل الإدراك وتصريف الأعمال. 3/246
16_ والكهل: من دخل في عشرة الأربعين وهو الذي فارق عصر الشباب، والمرأة شَهْلَة بالشين، ولا يقال: كَهْلَة كما لا يقال: شهل للرجل إلا أن العرب قديماً سموا شهلاً مثل شهل بن شيبان الملقب: الفِند الزماني؛ فدلنا ذلك على أن الوصف أميت.
وقد كان عيسى _عليه السلام_ حين بعث ابن نَيِّفٍ وثلاثين. 3/247
17_ والقصص _بفتح القاف والصاد_: اسم لما يقص، يقال: قص الخبر قَصَّاً إذا أخبر به، والقص أخص من الإخبار؛ فإن القص إخبار بخبر فيه طول وتفصيل، وتسمى الحادثة التي من شأنها أن يخبر بها قصة بكسر القاف أي مقصوصة أي مما يقصها القصاص، ويقال للذي ينتصب لتحديث الناس بأخبار الماضينَ قصَّاص بفتح القاف.
فالقصص اسم لما يُقَصُّ، قال _تعالى_:[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ].
وقيل: هو اسم مصدر وليس هو مصدراً، ومن جرى على لسانه من أهل اللغة أنه مصدر فذلك تسامح من تسامح الأقدمين؛ فالقَصُّ بالإدغام مصدر، والقصص بالفك اسم للمصدر واسم للخبر المقصوص. 3/267(1/197)
18_ والبر: كمال الخير وشموله في نوعه؛ إذ الخير قد يعظم بالكيفية، وبالكمية، وبهما معاً؛ فبذل النفس في نصر الدين يعظم بالكيفية في ملاقاة العدو الكثير بالعدد القليل، وكذلك إنقاذ الغريق في حالة هول البحر، ولا يتصور في مثل ذلك تعدد(1) وإطعام الجائع يعظم بالتعدد، والإنفاق يعظم بالأمرين جميعاً، والجزاء على فعل الخير إذا بلغ كمال الجزاء وشموله كان براً _أيضاً_. 4/5
19_ و[بكة]: اسم مكة، وهو لغة بإبدال الميم باء في كلمات كثيرة عدت من المترادف: مثل لازب في لازم، وأربد وأرمد أي في لون الرماد.
وفي سماع ابن القاسم من العُتَبِية عن مالك: أن بكة بالباء اسم موضع البيت، وأن مكة بالميم اسم بقية الموضوع؛ فتكون باء الجر هنا لظرفية مكان البيت خاصة، لا لسائر البلد الذي فيه البيت.
والظاهر عندي أن بكة اسم بمعنى البلدة وضعه إبراهيم علماً على المكان الذي عَيَّنَهُ لسكنى ولده بِنِيَّة أن يكون بلداً؛ فيكون أصله من اللغة الكلدانية: لغة إبراهيم، ألا ترى أنهم سموا مدينة (بعلبك) أي بلد بعل، وهو معبود الكلدانيين.
ومن إعجاز القرآن هذا اللفظ عند ذكر كونه أولَّ بيتٍ؛ فلاحظ _أيضاً_ الاسم الأول، ويؤيد قوله: [رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ] وقوله: [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً]. وقد قيل: إن بكة مشتق من البك، وهو الازدحام، ولا أحسب قصد ذلك لواضع الاسم. 4/12_13
__________
(1) _ قد يتصور في ذلك تعدد، كحال من ينقذ أكثر من غريق في حالة هول البحر، وقد وقع ذلك في حادثة غرق الباخرة المصرية (السلام 98) في 4/1/1427هـ حيث أنقذ بعضُ ركَّابها الأشاوس ممن أعرفهم في بلدنا الزلفي عدداً كبيراً من الركاب الذين أشرفوا على الهلاك. (م)(1/198)
20_ والبطانة بكسر الباء: في الأصل داخل الثوب، وجمعها بطائن، وفي القرآن [بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ] وظاهر الثوب يسمى الظهارة بكسر الظاء، والبطانة _أيضاً_ الثوب الذي يجعل تحت ثوب آخر، ويسمى الشعار، وما فوقه الدثار، وفي الحديث =الأنصار شعار والناس دثار+.
ثم أطلقت البطانة على صديق الرجل، وخصيصه الذي يطلع على شؤونه؛ تشبيهاً ببطانة الثياب في شدة القرب من صاحبها.
ومعنى اتخاذهم بطانةً أنهم كانوا يخالفونهم، ويودونهم من قبل الإسلام؛ فلما أسلم من أسلم من الأنصار بقيت المودة بينهم وبين من كانوا أحلافهم من اليهود، ثم كان من اليهود من أظهروا الإسلام، ومنهم من بقي على دينه. 4/63
21_ والطمأنة والطمأنينة: السكون، وعدم الاضطراب. 4/78
22_ وحكمة تحريم الربا: هي قصد الشريعة حمل الأمة على مواساة غَنِيِّها محتاجَها احتياجاً عارضاً موقتاً بالقرض؛ فهو مرتبة دون الصدقة، وهو ضرب من المواساة إلا أن المواساة منها فرض كالزكاة، ومنها ندب كالصدقة والسلف؛ فإن انتدب لها المكلف حَرُمَ عليه طلبُ عوضٍ عنها.
وكذلك المعروف كله، وذلك أن العادة الماضية في الأمم _وخاصة العرب_ أن المرء لا يتداين إلا لضرورة حياته؛ فلذلك كان حق الأمة مواساته.
والمواساة يظهر أنها فرض كفاية على القادرين عليها، فهو غير الذي جاء يريد المعاملة للربح كالمتبايعين والمتقارضين؛ للفرق الواضح في العرف بين التعامل وبين التداين، إلا أن الشرع مَيَّز هاته المواهي(1) بعضها عن بعض بحقائقها الذاتية، لا باختلاف أحوال المتعاقدين.
__________
(1) _ المواهي: جمع ماهية، وماهية الشيء حقيقته. (م)(1/199)
فلذلك لم يسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الربا في السلف، ولو كان المستسلف غير محتاج، بل كان طالب سعة وإثراء بتحريك المال الذي يتسلَّفه في وجوه الربح والتجارة ونحو ذلك، وسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الشركة والتجارة ودَيْنِ السَّلَم، ولو كان الربح في ذلك أكثر من مقدار الربا؛ تفرقة بين المواهي الشرعية.
ويمكن أن يكون مقصد الشريعة من تحريم الربا البعد بالمسلمين عن الكسل في استثمار المال، وإلجاؤهم إلى التشارك والتعاون في شؤون الدنيا؛ فيكون تحريم الربا ولو كان قليلاً، مع تجويز الربح من التجارة والشركات ولو كان كثيراً؛ تحقيقاً لهذا المقصد. 4/86_87
23_ ولقد قضى المسلمون قروناً طويلة لم يروا أنفسهم فيها محتاجين إلى التعامل بالربا، ولم تكن ثروتهم أيامئذ قاصرة عن ثروة بقية الأمم في العالم، أَزْمَانَ كانت سيادة العالم بيدهم، أو أزمان كانوا مستقلين بإدارة شؤونهم، فلما صارت سيادة العالم بيد أمم غير إسلامية، وارتبط المسلمون بغيرهم في التجارة والمعاملة، وانتظمت سوق الثروة العالمية على قواعد القوانين التي لا تتحاشى المراباة في المعاملات، ولا تعرف أساليب مواساة المسلمين _ دهش المسلمون، وهم اليوم يتساءلون، وتحريم الربا في الآية صريح، وليس لما حرمه الله مبيح.
ولا مخلص من هذا المضيق إلا أن تجعل الدول الإسلامية قوانين مالية تُبنى على أصول الشريعة في المصارف، والبيوع، وعقود المعاملات المركبة من رؤوس الأموال وعمل العمال، وحوالات الديون، ومقاصتها، وبيعها.
وهذا يقضي بإعمال أنظار علماء الشريعة والتدارس بينهم في مجمع يحوي طائفة من كل فرقة كما أمر الله _تعالى_. 4/87
24_ وقد أجرى على المتقين صفات ثناء وتنويه هي ليست جماع التقوى، ولكن اجتماعها في محلها مؤذن بأن ذلك المحل الموصوف بها قد استكمل ما به التقوى، وتلك هي مقاومة الشح المطاع، والهوى المتَّبع.
الصفة الأولى: الإنفاق في السراء والضراء.(1/200)
والإنفاق تقدم غير مرة وهو الصدقة، وإعطاء المال، والسلاح، والعدة في سبيل الله.
والسراء: فعلاء، اسم لمصدر سره سراً وسروراً.
والضراء: كذلك من ضره، أي في حالي الاتصاف بالفرح والحزن، وكأن الجمع بينهما هنا لأن السراء فيها ملهاة عن الفكرة في شأن غيرهم، والضراء فيها ملهاة وقلة مَوجدة.
فملازمة الإنفاق في هذين الحالين تدل على أن محبة نفع الغير بالمال، الذي هو عزيز على النفس، قد صار لهم خلقاً لا يحجبهم عنه حاجب، ولا ينشأ ذلك إلا عن نفس طاهرة.
الصفة الثانية: الكاظمين الغيظ.
وكظم الغيظ: إمساكه، وإخفاؤه حتى لا يظهر عليه، وهو مأخوذ من كَظَمَ القربة إذا ملأها وأمسك فمها، قال المبرد: فهو تمثيل الإمساك مع الامتلاء.
ولا شك أن أقوى القوى تأثيراً على النفس القوةُ الغاضبةُ؛ فتشتهي إظهار آثار الغضب، فإذا استطاع إمساك مظاهرها، مع الامتلاء منها دل ذلك على عزيمة راسخة في النفس، وقهر الإرادة للشهوة، وهذا من أكبر قوى الأخلاق الفاضلة.
الصفة الثالثة: العفو عن الناس فيما أساؤوا إليهم.
وهي تكملة لصفة كظم الغيظ بمنزلة الاحتراس؛ لأن كظم الغيظ قد تعترضه ندامة؛ فيستعدي على من غاظه بالحق، فلما وُصِفوا بالعفو عمن أساء إليهم دل ذلك على أن كظم الغيظ وصفٌ متأصِّل فيهم، مستمر معهم.
وإذا اجتمعت هذه الصفات في نفسٍ سَهُلَ ما دونها لديها.
وبجماعها يجتمع كمال الإحسان ولذلك ذيّل الله _تعالى_ ذكرها بقوله: [وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] لأنه دال على تقدير أنهم بهذه الصفات محسنون والله يحب المحسنين.4/90_91
25_ [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ(135)].(1/201)
إن كان عطف فريق آخر فهم غير المتقين الكاملين، بل هم فريق من المتقين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وإن كان عطف صفات، فهو تفضيل آخر لحال المتقين بأن ذكر أولاً حال كمالهم، وذكر بعده حال تداركهم نقائصهم.
4/91_92
26_ [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ(143)].
كلام ألقي إليهم بإجمال بالغ غاية الإيجاز، ليكون جامعاً بين الموعظة، والمعذرةِ، والملامِ.
والواوُ عاطفةٌ أو حالية، والخطاب للأحياء لا محالة الذين لم يذوقوا الموت، ولم ينالوا الشهادة، والذين كان حظُّهم في ذلك اليوم هو الهزيمةَ، فقوله: [كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ] أريد به تمني لقاء العدو يوم أحد، وعدم رضاهم بأن يتحصنوا بالمدينة، ويقفوا موقف الدفاع، كما أشار به الرسول _عليه الصلاة والسلام_ ولكنهم أظهروا الشجاعة وحب اللقاء، ولو كان فيه الموت؛ نظراً لقوة العدو وكثرته؛ فالتمني هو تمني اللقاء، ونصر الدين بأقصى جهدهم.
ولما كان ذلك يقتضي عدم اكتراث كل واحد منهم بتلف نفسه في الدفاع؛ رجاء أن يكون قبل هلاكه قد أبلى في العدو، وهيأ النصر لمن بقي بعده _ جعل تمنيهم اللقاء كأنه تمني الموت من أول الأمر؛ تنزيلاً لغاية التمني منزلة مبدئه. 4/107_108
27_ واللين هنا: مجاز في سعة الخلق مع أمة الدعوة والمسلمين، وفي الصفح عن جفاء المشركين، وإقالة العثرات. 4/145
28_ أرسل محمد " مفطوراً على الرحمة؛ فكان لينه رحمة من الله بالأمة في تنفيذ شريعته بدون تساهل وبرفق وإعانة على تحصيلها؛ فلذلك جعل لينه مصاحباً لرحمة من الله أودعها الله فيه؛ إذ هو قد بعث للناس كافة، ولكن اختار الله أن تكون دعوته بين العرب أول شيء لحكمة أرادها الله _تعالى_ في أن يكون العرب هُمْ مُبَلِّغي الشريعةِ للعالم.
والعرب أمة عرفت بالأنفة، وإباء الضيم، وسلامة الفطرة، وسرعة الفهم.(1/202)
وهم المتلقون الأولون للدين؛ فلم تكن تليق بهم الشدة والغلظة، ولكنهم محتاجون إلى استنزال طائرهم في تبليغ الشريعة لهم؛ ليتجنبوا بذلك المكابرة التي هي الحائل الوحيد بينهم وبين الإذعان إلى الحق.
وورد أن صفح النبي"وعفوه ورحمته كان سبباً في دخول كثير في الإسلام، كما ذكر بعض ذلك عياض في كتاب الشفاء. 4/145
29_ والذوق حقيقته: إدراك الطُّعوم، واستعمل هنا مجازاً مرسلاً في الإحساس بالعذاب؛ فعلاقته الإطلاق، ونكتته أن الذوق في العُرْف يستتبع تكرر ذلك الإحساس؛ لأن الذوق يتبعه الأكل، وبهذا الاعتبار يصح أن يكون [ذُوقُوا] استعارة.
وقد شاع في كلام العرب إطلاق الذوق على الإحساس بالخير أو بالشر، وورد في القرآن كثيراً. 4/184_185
1_ سميت هذه السورة في كلام السلف سورة النساء؛ ففي صحيح البخاري عن عائشة قالت: =ما نزلت سورة البقرة وسورة النساء إلا وأنا عنده+.
وكذلك سميت في المصاحف وفي كتب السنة وكتب التفسير، ولا يعرف لها اسم آخر، لكن يؤخذ مما روي في صحيح البخاري عن ابن مسعود من قوله: =لنزلت سورة النساء القُصْرى+ يعني سورة الطلاق أنها شاركت هذه السورة في التسمية لسورة النساء، وأن هذه السورة تميز عن سورة الطلاق باسم سورة النساء الطولى، ولم أقف عليه صريحاً.
ووقع في كتاب بصائر ذوي التمييز للفيروز أبادي أن هذه السورة تسمى سورة النساء الكبرى، واسم سورة الطلاق سورة النساء الصغرى، ولم أره لغيره.(1)
ووجه تسميتها بإضافة إلى النساء أنها افتتحت بأحكام صلة الرحم، ثم بأحكام تخص النساء، وأن فيها أحكاماً كثيرة من أحكام النساء: الأزواج، والبنات،وختمت بأحكام تخص النساء. 4/210
__________
(1) _ صفحة169 جزء 1 مطابع شركة الاعلانات الشرقية بالقاهرة سنة 1384.(1/203)
2_ وقد اشتملت على أغراضٍ وأحكام كثيرةٍ أَكْثَرُها تشريعُ معاملاتِ الأقرباء وحقوقهم؛ فكانت فاتحتُها مناسِبةً لذلك بالتذكير بنعمة خلق الله، وأنهم محقوقون بأن يشكروا ربَّهم على ذلك، وأن يراعوا حقوقَ النوعِ الذي خُلِقوا منه بأن يصلوا أرحامَهم القريبةَ والبعيدةَ، وبالرفق بضعفاءِ النوعِ من اليتامى، ويراعوا حقوقَ صنفِ النساء من نوعهم بإقامة العدل في معاملاتهن، والإشارةِ إلى عقود النكاحِ والصداقِ، وشَرْعِ قوانين المعاملة مع النساء في حالتي الاستقامة والانحرافِ من كلا الزوجين، ومعاشرتِهن والمصالحةِ معهن، وبيانِ ما يحل للتزوج منهن، والمحرماتِ بالقرابة أو الصهر، وأحكامِ الجواري بملك اليمين.
وكذلك حقوقُ مصيرِ المالِ إلى القرابة، وتقسيمُ ذلك، وحقوقُ حفظِ اليتامى في أموالهم، وحفظِها لهم، والوصايةُ عليهم.
ثم أحكامُ المعاملاتِ بين جماعة المسلمين في الأموال والدماء، وأحكامُ القتلِ عمداً وخطأً، وتأصيلُ الحكمِ الشرعيِّ بين المسلمين في الحقوق والدفاع عن المعتدى عليه، والأمرُ بإقامة العدل بدون مصانعةٍ، والتحذيرُ من اتباع الهوى، والأمرُ بالبرِّ، والمواساةِ، وأداءِ الأمانات، والتمهيدُ لتحريم شرب الخمر.
وطائفةٌ من أحكامِ الصلاةِ، والطهارةِ، وصلاةِ الخوفِ.
ثم أحوالُ اليهود؛ لكثرتهم بالمدينة، وأحوالُ المنافقين وفضائحُهم، وأحكامُ الجهادِ لدفع شوكةِ المشركين، وأحكامُ معاملةِ المشركين، ومساويهم، ووجوبُ هجرةِ المؤمنين من مكة، وإبطالُ مآثر الجاهلية.
وقد تخلل ذلك مواعظُ وترغيبٌ، ونهيٌ عن الحسد، وعن تمني ما للغير من المزايا التي حرم منها من حرم بحكم الشرع، أو بحكم الفطرة، والترغيب في التوسط في الخير والإصلاح، وبث المحبة بين المسلمين.4/213_214
3_ وقد شرع الله تعدد النساء للقادر العادل لمصالح جمة منها: أن في ذلك وسيلة إلى تكثير عدد الأمة بازدياد المواليد فيها.(1/204)
ومنها: أن ذلك يعين على كفالة النساء اللائي هن أكثر من الرجال في كل أمة؛ لأن الأنوثة في المواليد أكثر من الذكورة، ولأن الرجال يعرض لهم من أسباب الهلاك في الحروب والشدائد ما لا يعرض للنساء، ولأن النساء أطول أعماراً من الرجال غالباً بما فطرهن الله عليه.
ومنها: أن الشريعة قد حرمت الزنا، وضيقت في تحريمه؛ لما يجر إليه من الفساد في الأخلاق والأنساب ونظام العائلات؛ فناسب أن توسع على الناس في تعدد النساء لمن كان من الرجال ميالاً للتعدد مجبولاً عليه، ومنها قصد الابتعاد عن الطلاق إلا لضرورة. 4/226
4_ ولم يكن في الشرائع السالفة ولا في الجاهلية حد للزوجات، ولم يثبت أن جاء عيسى _عليه السلام_ بتحديد للتزوج، وإن كان ذلك توهمه بعض علمائنا مثل القرافي، ولا أحسبه صحيحاً.
والإسلام هو الذي جاء بالتحديد، فأما أصل التحديد فحكمته ظاهرة؛ من حيث إن العدل لا يستطيعه كل أحد، وإذا لم يقم تعدد الزوجات على قاعدة العدل بينهن اختل نظام العائلة، وحدثت الفتن فيها، ونشأ عقوق الزوجات أزواجهن، وعقوق الأبناء آباءهم بأذاهم في زوجاتهم وفي أبنائهم؛ فلا جرم أن كان الأذى في التعدد لمصلحة يجب أن تكون مضبوطة غير عائدة على الأصل بالإبطال. 4/227
5_ وأما الانتهاء في التعدد إلى الأربع فقد حاول كثير من العلماء توجيهه فلم يبلغوا إلى غاية مرضية، وأحسب أن حكمته ناظرة إلى نسبة عدد النساء من الرجال في غالب الأحوال، واعتبار المعدل في التعدد؛ فليس كل رجل يتزوج أربعاً، فلنفرض المعدل يكشف عن امرأتين لكل رجل، يدلنا على أن النساء ضعف الرجال.
وقد أشار إلى هذا ما جاء في الصحيح: أنه يكثر النساء في آخر الزمان حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد. 4/227(1/205)
6_ قد تكره النفوس ما في عاقبته خير؛ فبعضه يمكن التوصل إلى معرفة ما فيه من الخير عند غوص الرأي؛ وبعضه قد علم الله أن فيه خيراً لكنه لم يظهر للناس؛ قال سهل بن حنيف، حين مرجعه من صفين: =اتَّهِموا الرأي فلقد رأيتنا يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نرد على رسول الله أمره لرددنا، والله ورسوله أعلم+.
وقد قال _تعالى_ في سورة البقرة:[وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ].
والمقصود من هذا: الإرشاد إلى إعماق النظر، وتغلغل الرأي في عواقب الأشياء، وعدم الاغترار بالبوارق الظاهرة، ولا بميل الشهوات إلى ما في الأفعال من ملائم، حتى يسبره بمسبار الرأي، فيتحقق سلامة حسن الظاهر من سوء خفايا الباطن. 4/287
7_ والأمهات جمع أُمَّةٍ أو أُمَّهةٍ، والعرب أماتوا أمهة وأمة وأبقوا جَمْعَهُ، كما أبقوا أم وأماتوا جَمْعَه، فلم يسمع منهم الأُمَّات، وورد أُمَّة نادراً في قول شاعر أنشده ابن كيسان:
تقبلتها عن أُمَّةٍ لك طالما ... تُنوزع في الأسواق منها خمارها
وورد أمهة نادراً في بيت يعزى إلى قصي بن كلاب:
عند تناديهم بهالٍ وهبي ... أمهتي خِنْدِفُ وإلياس أبي
وجاء في الجمع أمهات بكثرة، وجاء أُمَّات قليلاً في قول جرير:
لقد ولد الأخيطل أمَّ سوء ... مقلدةً من الأُمَّات عارا
وقيل: إن أمات خاص بما لا يعقل، قال الراعي:
كانت نجائب منذر ومحرق ... أماتهن وطرقهن فحيلا
فيحتمل أن أصل أم أُمَّا أو أُمَّها؛ فوقع فيه الحذف ثم أرجعوها في الجمع. 4/294
8_ ويترتب على إثبات الكبائر والصغائر أحكام تكليفية: منها المخاطبة بتجنب الكبيرة تجنباً شديداً، ومنها وجوب التوبة منها عند اقترابها، ومنها أن ترك الكبائر يعتبر توبةً من الصغائر، ومنها سلب العدالة عن مرتكب الكبائر، ومنها نقض حكم القاضي المتلبس بها، ومنها جواز هجران المتجاهر بها، ومنها تغيير المنكر على المتلبس بها.(1/206)
وتترتب عليها مسائل في أصول الدين منها: تكفير مرتكب الكبيرة عند طائفة من الخوارج التي تفرق بين المعاصي الكبائر والصغائر، واعتباره منزلة بين الكفر والإسلام عند المعتزلة، خلافاً لجمهور علماء الإسلام.
فمن العجائب أن يقول قائل: إن الله لم يميز الكبائر عن الصغائر؛ ليكون ذلك زاجراً للناس عن الإقدام على كل ذنب، ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات، وليلة القدر في ليالي رمضان، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة، هكذا حكاه الفخر في التفسير.
وقد تبين ذهول هذا القائل، وذهول الفخر عن رده؛ لأن الأشياء التي نظروا بها ترجع إلى فضائل الأعمال التي لا يتعلق بها تكليف؛ فإخفاؤها يقصد منه الترغيب في توخي مظانها؛ ليكثر الناس من فعل الخير، ولكن إخفاء الأمر المكلف به إيقاع في الضلالة فلا يقع ذلك من الشارع. 5/27
9_ والتيمم من خصائص شريعة الإسلام كما في حديث جابر أن النبي" قال: =أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي فذكر منها وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً+.
والتيمم بَدَلٌ جَعَلَهُ الشَّرْعُ عن الطهارة، ولم أر لأحد من العلماء بياناً في حكمة جعل التيمم عوضاً عن الطهارة بالماء، وكان ذلك من همي زمناً طويلاً وقت الطلب ثم انفتح لي حكمة ذلك.
وأحسب أن حِكْمَةَ تشريعِهِ تقريرُ لزومِ الطهارة في نفوس المؤمنين، وتقرير حرمة الصلاة، وترفيع شأنها في نفوسهم؛ فلم تترك لهم حالة يعدون فيها أنفسهم مصلين بدون طهارة؛ تعظيماً لمناجاة الله _تعالى_ فلذلك شرع لهم عملاً يشبه الإيماء إلى الطهارة؛ ليستشعروا أنفسهم متطهرين، وجعل ذلك بمباشرة اليدين صعيد الأرض التي هي منبع الماء، ولأن التراب مستعمل في تطهير الآنية ونحوها، ينظفون به ما علق لهم من الأقذار في ثيابهم وأبدانهم وماعُونِهِمْ.
وما الاستجمار إلا ضرب من ذلك، مع ما في ذلك من تجديد طلب الماء لفاقده، وتذكيره بأنه مطالب به عند زوال مانعه.(1/207)
وإذا قد كان التيممُ طهارةً رمزيةً اقتنعت الشريعة فيه بالوجه والكفين في الطهارتين الصغرى والكبرى، كما دل عليه حديث عمار بن ياسر، ويؤيد هذا المقصد أن المسلمين لما عدموا الماء في غزوة المريسيع صلوا بدون وضوء؛ فنزلت آية التيمم.
هذا منتهى ما عرض لي من حكمة مشروعية التيمم بعد طول البحث والتأمل في حكمة مقنعة في النظر، وكنت أعد التيمم هو النوع الوحيد بين الأحكام الشرعية في معنى التعبد بنوعه، وأما التعبد ببعض الكيفيات والمقادير من أنواع عبادات أخرى فكثير، مثل عدد الركعات في الصلوات، وكأن الشافعي لما اشترط أن يكون التيمم بالتراب خاصة وأن ينقل المتيمم منه إلى وجهه ويديه راعى فيه معنى التنظيف كما في الاستجمار، إلا أن هذا القول لم ينقل عن أحد من السلف وهو ما سبق إلى خاطر عمار بن ياسر حين تمرغ في التراب لما تعذر عليه الاغتسال، فقال له النبي": = يكفيك من ذلك الوجه والكفان+. 5/68_69
10_ ونجد القوانين التي سنها الحكماء أمكن في تحقيق منافع العدل مثل قوانين أثينة وإسبرطة، وأعلى القوانين هي الشرائع الإلهية لمناسبتها لحال من شرعت لأجلهم، وأعظمها شريعة الإسلام؛ لابتنائها على أساس المصالح الخالصة أو الراجحة، وإعراضها عن أهواء الأمم والعوائد الضالة؛ فإنها لا تعبأ بالأنانية والهوى، ولا بعوائد الفساد، ولأنها لا تبنى على مصالح قبيلة خاصة، أو بلد خاص، بل تبتنى على مصالح النوع البشري، وتقويمه، وهديه إلى سواء السبيل؛ ومن أجل هذا لم يزل الصالحون من القادة يدونون بيان الحقوق؛ حفظاً للعدل بقدر الإمكان وخاصة الشرائع الإلهية، قال _تعالى_: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ] أي العدل.
فمنها المنصوص عليه على لسان رسول البشرية، ومنها ما استنبطه علماء تلك الشريعة؛ فهو مُدْرَجٌ فيها، ومُلْحَقٌ بها. 5/95(1/208)
11_ ومن أسرار الشريعة الإسلامية حرصها على تعميم الحرية في الإسلام بكيفية منتظمة؛ فإن الله لما بعث رسوله بدين الإسلام كانت العبودية متفشية في البشر، وأقيمت عليها ثروات كثيرة، وكانت أسبابها متكاثرة: وهي الأسر في الحروب، والتصيير في الديون، والتخطف في الغارات، وبيع الآباء والأمهات أبناءهم، والرهائن في الخوف، والتداين.
فأبطل الإسلام جميع أسبابها عدا الأسر، وأبقى الأسر لمصلحة تشجيع الأبطال، وتخويف أهل الدعارة من الخروج على المسلمين؛ لأن العربي ما كان يتقي شيئاً من عواقب الحروب مثل الأسر، قال النابغة:
حذاراً على أن لا تُنال مقادتي ... ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا
ثم داوى تلك الجراح البشرية بإيجاد أسباب الحرية في مناسبات دينية جمة: منها واجبة، ومنها مندوب إليها.
ومن الأسباب الواجبة كفارة القتل المذكورة هنا، وقد جعلت كفارة قتل الخطأ أمرين: أحدهما: تحرير رقبة مؤمنة، وقد جعل هذا التحرير بدلاً من تعطيل حق الله في ذات القتيل؛ فإن القتيل عبدٌ من عباد الله، ويرجى من نسله من يقوم بعبادة الله وطاعة دينه؛ فلم يَخْلُ القاتلُ من أن يكون فوت بقتله هذا الوصف.
وقد نبهت الشريعة بهذا على أن الحرية حياة، وأن العبودية موت؛ فمن تسبب في موت نفس حية كان عليه السعي في إحياء نفس كالميتة وهي المستعبدة.
وسنزيد هذا بياناً عند قوله _تعالى_: [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً] في سورة المائدة.
فإن تأويله أن الله أنقذهم من استعباد الفراعنة؛ فصاروا كالملوك لا يحكمهم غيرهم. 5/158_159
12_ وثانيهما الدية، والدية مال يدفع لأهل القتيل خطأً؛ جبراً لمصيبة أهله فيه من حيوان، أو نقدين، أو نحوهما _كما سيأتي_.
والدية معروفة عند العرب بمعناها ومقاديرها؛ فلذلك لم يفصِّلها القرآن.(1/209)
وقد كان العرب جعلوا الدية على كيفيات مختلفة؛ فكانت عوضاً عن دم القتيل في العمد وفي الخطأ، فأما في العمد فكانوا يتعيرون بأخذها، قال الحماسي:
فلو أن حيَّاً يقبل المال فديةً ... لسقنا لهم سَيْباً من المال مفعما
ولكن أبى قومٌ أصيب أخوهم ... رضى العار فاختاروا على اللبن الدما
وإذا رضي أولياء القتيل بدية بشفاعة عظماء القبيلة قدَّروها بما يتراضون عليه. قال زهير:
تُعَفَّى الكلومُ بالمئين فأصبحت ... ينجِّمها من ليس فيها بمجرم
وأما في الخطأ فكانوا لا يأبون أخذ الدية، قيل: إنها كانت عشرة من الإبل، وأن أول من جعلها مائة من الإبل عبدالمطلب بن هاشم؛ إذ فدى ولده عبدالله بعد أن نذر ذبحه للكعبة بمائة من الإبل، فجرت في قريش كذلك، ثم تبعهم العرب.
وقيل: أول من جعل الدية مائة من الإبل أبو سيارة عُمَيْلَة العَدواني، وكانت دية الملك ألفاً من الإبل، ودية السادة مائتين من الإبل، ودية الحليف نصف دية الصميم، وأول من ودي بالإبل هو زيد بن بكر بن هوازن؛ إذ قتله أخوه معاوية جد بني عامر بن صعصعة.
وأكثر ما ورد في السنة من تقدير الدية هو مائة من الإبل مخمَّسة أخماساً: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون.
ودية العمد إذا رضي أولياء القتيل بالدية، مربَّعة: خمس وعشرون من كل صنف من الأصناف الأربعة الأول، وتُغَلَّظ الدية على أحد الأبوين تغليظاً بالصنف لا بالعدد إذا قتل ابنه خطأ: ثلاثون جذعة، وثلاثون حقة، وأربعون خلفة، أي نوقاً في بطونها أجنتها.
وإذا كان أهل القتيل غير أهل إبل نقلت الدية إلى قيمة الإبل تقريباً، فجعلت على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم.
وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه جعل الدية على أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الغنم ألفي شاة.
وفي حديث أبي داود أن الدية على أهل الحُلل، أي أهل النسيج مثل أهل اليمن، مائة حلة، والحلة ثوبان من نوع واحد.(1/210)
ومعيار تقدير الديات باختلاف الأعصار والأقطار، الرجوع إلى قيمة مقدارها من الإبل المعيّن في السُّنَّة.
ودية المرأة القتيلة على النصف من دية الرجل.
ودية الكتابي على النصف من دية المسلم.
ودية المرأة الكتابية على النصف من دية الرجل الكتابي.
وتدفع الدية منجَّمة في ثلاث سنين بعد كل سنة نجم، وابتداء تلك النجوم من وقت القضاء في شأن القتل، أو التراوض بين أولياء القتيل وعاقلة القاتل.
والدية بتخفيف الياء مصدر ودى، أي أعطى، مثل رمى، ومصدره ودي مثل وعد، حذفت فاء الكلمة تخفيفاً؛ لأن الواو ثقيلة، كما حذفت في عِدَة، وعُوِّض عنها الهاء في آخر الكلمة مثل شية من الوشي.
وأشار قوله: [مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ] إلى أن الدية ترضية لأهل القتيل.
وذُكر الأهل مجملاً، فعُلم أن أحق الناس بها أقرب الناس إلى القتيل؛ فإن الأهل هو القريب، والأحق بها الأقرب.
وهي في حكم الإسلام يأخذها ورثة القتيل على حسب الميراث إلا أن القاتل خطأً إذا كان وارثاً للقتيل لا يرث من ديته، وهي بمنزلة تعويض المتلفات، جعلت عوضاً لحياة الذي تسبب القاتل في قتله، وربما كان هذا المعنى هو المقصود من عهد الجاهلية، ولذلك قالوا: تكايل الدماء، وقالوا: هما بواء، أي كفآن في الدم، وزادوا في دية سادتهم.
وجعل عفو أهل القتيل عن أخذ الدية صدقة منه؛ ترغيباً في العفو.
وقد أجمل القرآن من يجب عليه دفع الدية، وبينته السنة بأنهم العاقلة، وذلك تقرير لما كان عليه الأمر قبل الإسلام.
والعاقلة: القرابة من القبيلة تجب على الأقرب فالأقرب بحسب التقدم في التعصيب. 5/159_161
13_ وقوله: [خَالِداً فِيهَا] محمله عند جمهور علماء السنة على طول المكث في النار؛ لأجل قتل المؤمن عمداً؛ لأن قتل النفس ليس كفراً بالله ورسوله، ولا خلودَ في النار إلا للكفر على قول علمائنا من أهل السنة ، فتعين تأويل الخلود بالمبالغة في طول المكث، وهو استعمال عربي.(1/211)
قال النابغة في مرض النعمان بن المنذر :
ونحن لديه نسأل الله خلده ... يرد لنا ملكاً وللأرض عامرا
ومحمله عند من يكفر بالكبائر من الخوارج ، وعند من يوجب الخلود على أهل الكبائر على وتيرة إيجاب الخلود بارتكاب الكبيرة. 5/164
14_ وأقول: هذا مقام قد اضطربت فيه كلمات المفسرين _كما علمت_ وملاكه أن ما ذكره الله هنا في وعيد قاتل النفس قد تجاوز فيه الحد المألوف من الإغلاظ؛ فرأى بعض السلف أن ذلك موجب لحمل الوعيد في الآية على ظاهره دون تأويل، لشدة تأكيده تأكيداً يمنع من حمل الخلود على المجاز؛ فيثبت للقاتل الخلود حقيقة، بخلاف بقية آي الوعيد، وكأن هذا المعنى هو الذي جعلهم يخوضون في اعتبار هذه الآية محكمة أو منسوخة؛ لأنهم لم يجدوا ملجأً آخر يأوون إليه في حملها على ما حملت عليه آيات الوعيد: من محامل التأويل، أو الجمع بين المتعارضات؛ فآووا إلى دعوى نسخ نصها بقوله _تعالى_ في سورة الفرقان: [وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ] إلى قوله: [إِلاَّ مَنْ تَابَ] لأن قوله: [وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ] إما أن يراد به مجموع الذنوب المذكورة، فإذا كان فاعلُ مجموعِها تنفعه التوبة ففاعل بعضها وهو القتل عمداً أجدر، وإما أن يراد فاعل واحدة منها فالقتل عمداً مما عد معها.
ولذا قال ابن عباس لسعيد بن جبير: =إن آية النساء آخر آية نزلت، وما نسخها شيء+.
ومن العجب أن يقال كلام مثل هذا، ثم أن يطال وتتناقله الناس وتمر عليه القرون في حين لا تعارض بين هذه الآية التي هي وعيد لقاتل النفس وبين آيات قبول التوبة.
وذهب فريق إلى الجواب بأنها نسخت بآية:[وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] بناءً على أن عموم [مَنْ يَشَاءُ] نسخ خصوص القتل.(1/212)
وذهب فريق إلى الجواب بأن الآية نزلت في مقيس بن صبابة، وهو كافر؛ فالخلود لأجل الكفر، وهو جواب مبني على غلط؛ لأن لفظ الآية عام؛ إذ هو بصيغة الشرط؛ فتعين أن (من) شرطية، وهي من صيغ العموم؛ فلا تحمل على شخص معين؛ إلا عند من يرى أن سبب العام يخصصه بسببه لا غير، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه.
وهذه كلها ملاجئ لا حاجة إليها، لأن آيات التوبة ناهضةٌ مُجْمَعٌ عليها متظاهرةٌ ظواهرُها، حتى بلغت حدَّ النصِّ المقطوعِ به؛ فيحمل عليها آيات وعيد الذنوب كلها حتى الكفر.
على أن تأكيد الوعيد في الآية إنما يرفع احتمال المجاز في كونه وعيداً لا في تعيين المتوعد به وهو الخلود؛ إذ المؤكدات هنا مختلفة المعاني؛ فلا يصح أن يعتبر أحدها مؤكداً لمدلول الآخر، بل إنما أكدت الغرض، وهو الوعيد لا أنواعه، وهذا هو الجواب القاطع لهاته الحيرة، وهو الذي يتعين اللجأ إليه، والتعويل عليه. 5/165_166
15_ قوله [كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ]: أي كنتم كفاراً، فدخلتم الإسلام بكلمة الإسلام؛ فلو أن أحداً أبى أن يُصَدِّقكم في إسلامكم أكان يرضيكم ذلك.
وهذه تربية عظيمة، وهي أن يستشعر الإنسان عند مؤاخذته غيره أحوالاً كان هو عليها تساوي أحوالَ مَنْ يؤاخذه، كمؤاخذة المعلمِ التلميذَ بسوء إذا لم يقصر في إعمال جهده.
وكذلك هي عظةٌ لمن يمتحنون طلبة العلم؛ فيعتادون التشديد عليهم، وتطلب عثراتهم، وكذلك ولاة الأمور وكبار الموظفين في معاملة من لنظرهم من صغار الموظفين، وكذلك الآباء مع أبنائهم إذا بلغت بهم الحماقة أن ينتهروهم على اللعب المعتاد، أو على الضجر من الآلام.(1/213)
وقد دلت الآية على حكمة عظيمة في حفظ الجامعة الدينية، وهي بث الثقة والأمان بين أفراد الأمة، وطرح ما من شأنه إدخال الشك؛ لأنه إذا فتح هذا الباب عسر سده، وكما يتهم المتهم غيره فللغير أن يتهم من اتهمه، وبذلك ترتفع الثقة، ويسهل على ضعفاء الإيمان المروق؛ إذ قد أصبحت التهمة تُظِلُّ الصادق والمنافق، وانظر معاملة النبي"المنافقين معاملة المسلمين.
على أن هذا الدين سريع السريان في القلوب؛ فيكتفي أهله بدخول الداخلين فيه من غير مناقشة؛ إذ لا يلبثون أن يألفوه، وتخالط بشاشته قلوبهم؛ فهم يقتحمونه على شك وتردد، فيصير إيماناً راسخاً، ومما يعين على ذلك ثقة السابقين فيه باللاحقين بهم.
ومن أجل ذلك أعاد الله الأمر فقال: [فََتَبَيَّنُوا] تأكيداً لـ[تَبَيَّنُوا] المذكور قبله، وذيَّله بقوله: [إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً] وهو يجمع وعيداً ووعداً. 5/168_169
16_ [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99)].(1/214)
وقد اختلف في المراد به في هذه الآية، فقال ابن عباس: المراد به الكفر، وأنها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا قد أسلموا حين كان الرسول " بمكة، فلما هاجر أقاموا مع قومهم بمكة ففتنوهم فارتدوا، وخرجوا يوم بدر مع المشركين؛ فَكَثَّروا سواد المشركين؛ فقتلوا ببدر كافرين، فقال: المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، ولكنهم أكرهوا على الكفر والخروج؛ فنزلت هذه الآية فيهم، رواه البخاري عن ابن عباس، قالوا: وكان منهم أبو قيس بن الفاكه، والحارث ابن زمعة، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص ابن منبه بن الحاج؛ فهؤلاء قتلوا.
وكان العباس بن عبدالمطلب، وعقيل ونوفل ابنا أبي طالب فيمن خرج معهم، ولكن هؤلاء الثلاثة أسروا وفَدَوا أنفسهم وأسلموا بعد ذلك، وهذا أصح الأقوال في هذه الآية.
وقيل: أريد بالظلم عدم الهجرة؛ إذ كان قوم من أهل مكة أسلموا، وتقاعسوا عن الهجرة.
قال السدي: كان من أسلم ولم يهاجر يعتبر كافراً حتى يهاجر، يعني ولو أظهر إسلامه وترك حال الشرك.
وقال غيره: بل كانت الهجرة واجبة، ولا يكفر تاركها.
فعلى قول السدي فالظلم مراد به _أيضاً_ الكفر؛ لأنه معتبر من الكفر في نظر الشرع، أي أن الشرع لم يكتف بالإيمان إذا لم يهاجر صاحبه مع التمكن من ذلك.
وهذا بعيد فقد قال _تعالى_: [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ] الآية؛ فأوجب على المسلمين نصرهم في الدين إن استنصروهم، وهذه حالة تخالف حالة الكفار.
وعلى قول غيره: فالظلم المعصية العظيمة، والوعيد الذي في هذه الآية صالح للأمرين، على أن المسلمين لم يَعُدُّوا الذين لم يهاجروا قبل فتح مكة في عداد الصحابة.(1/215)
قال ابن عطية: لأنهم لم يتعين الذين ماتوا منهم على الإسلام، والذين ماتوا على الكفر؛ فلم يَعْتَدُّوا بما عرفوا منهم قبل هجرة النبي". 5/174_ 175
17_ وقد اتفق العلماء على أن حكم هذه الآية انقضى يوم فتح مكة، لأن الهجرة كانت واجبة؛ لمفارقة أهل الشرك وأعداء الدين، وللتمكن من عبادة الله دون حائل يحول عن ذلك، فلما صارت مكة دار إسلام ساوت غيرها، ويؤيده حديث: =لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية+.
فكان المؤمنون يبقون في أوطانهم إلا المهاجرين يحرم عليهم الرجوع إلى مكة.
وفي الحديث: =اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم+ قاله بعد أن فتحت مكة.
غير أن القياس على حكم هذه الآية يفتح للمجتهدين نظراً في أحكام وجوب الخروج من البلد الذي يفتن فيه المؤمن في دينه، وهذه أحكام يجمعها ستة أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون المؤمن ببلد يفتن فيه في إيمانه؛ فيرغم على الكفر وهو يستطيع الخروج؛ فهذا حكمه حكم الذين نزلت فيهم الآية، وقد هاجر مسلمون من الأندلس حين أكرههم النصارى على التنصر، فخرجوا على وجوههم في كل واد تاركين أموالهم وديارهم ناجين بأنفسهم وإيمانهم، وهلك فريق منهم في الطريق وذلك في سنة 902 وما بعدها إلى أن كان الجلاء الأخير سنة 1016.
الحالة الثانية: أن يكون ببلد الكفر غير مفتون في إيمانه ولكن يكون عرضة للإصابة في نفسه أو ماله بأسر أو قتل أو مصادرة مال؛ فهذا قد عرض نفسه للضر وهو حرام بلا نزاع، وهذا مسمى الإقامة ببلد الحرب المفسرة بأرض العدو.
الحالة الثالثة: أن يكون ببلد غلب عليه غير المسلمين إلا أنهم لم يفتنوا الناس في إيمانهم، ولا في عباداتهم، ولا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم.
ولكنه بإقامته تجري عليه أحكام غير المسلمين إذا عرض له حادث مع واحد من أهل ذلك البلد الذين هم غير مسلمين.
وهذا مثل الذي يقيم اليوم ببلاد أوروبا النصرانية.(1/216)
وظاهر قول مالك أن المقام في مثل ذلك مكروه كراهة شديدة؛ من أجل أنه تجري عليه أحكام غير المسلمين، وهو ظاهر المدونة في كتاب التجارة إلى أرض الحرب والعتبية، كذلك تأول قول مالك فقهاء القيروان، وهو ظاهر الرسالة، وصريح كلام اللخمي في طالعة كتاب التجارة إلى أرض الحرب من تبصرته، وارتضاه ابن محرز وعبدالحق، وتأوله سحنون وابن حبيب على الحرمة، وكذلك عبدالحميد الصائغ والمازري، وزاد سحنون فقال: إن مقامه جرحة في عدالته، ووافقه المازري وعبدالحميد، وعلى هذا يجري الكلام في السفر في سفن النصارى إلى الحج وغيره.
وقال البرزلي عن ابن عرفة: إن كان أمير تونس قوياً على النصارى جاز السفر، وإلا لم يجز؛ لأنهم يهينون المسلمين.
الحالة الرابعة: أن يتغلب الكفار على بلد أهله مسلمون ولا يفتنوهم في دينهم، ولا في عبادتهم، ولا في أموالهم، ولكنهم يكون لهم حكم القوة عليهم فقط، وتجري الأحكام بينهم على مقتضى شريعة الإسلام كما وقع في صقلية حين استولى عليها رجير النرمندي، وكما وقع في بلاد غرناطة حين استولى عليها طاغية الجلالقة على شروط منها احترام دينهم؛ فإن أهلها أقاموا بها مدة، وأقام منهم علماؤهم، وكانوا يلون القضاء، والفتوى، والعدالة، والأمانة ونحو ذلك، وهاجر فريق منهم، فلم يَعِب المهاجر على القاطن، ولا القاطن على المهاجر.
الحالة الخامسة: أن يكون لغير المسلمين نفوذ وسلطان على بعض بلاد الإسلام، مع بقاء ملوك الإسلام فيها، واستمرار تصرفهم في قومهم، وولاية حكامهم منهم، واحترام أديانهم وسائر شعائرهم، ولكن تصرف الأمراء تحت نظر غير المسلمين وبموافقتهم، وهو ما يسمى بالحماية والاحتلال والوصاية والانتداب، كما وقع في مصر مدة احتلال جيش الفرنسيس بها، ثم مدة احتلال الأنقليز، وكما وقع بتونس والمغرب الأقصى من حماية فرانسا، وكما وقع في سوريا والعراق أيام الانتداب، وهذه لا شبهة في عدم وجوب الهجرة منها.(1/217)
الحالة السادسة: البلد الذي تكثر فيه المناكر والبدع، وتجري فيه أحكام كثيرة على خلاف صريح الإسلام بحيث يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ولا يجبر المسلم فيها على ارتكابه خلاف الشرع، ولكنه لا يستطيع تغييرها إلا بالقول، أو لا يستطيع ذلك أصلاً.
وهذه روي عن مالك وجوب الخروج منها، رواه ابن القاسم، غير أن ذلك قد حدث في القيروان أيام بني عبيد؛ فلم يحفظ أن أحداً من فقهائها الصالحين دعا الناس إلى الهجرة، وحسبك بإقامة الشيخ أبي محمد بن أبي زيد وأمثاله.
وحدث في مصر مدة الفاطميين _أيضاً_ فلم يغادرها أحد من علمائها الصالحين.
ودون هذه الأحوال الستة أحوالٌ كثيرة هي أولى بجواز الإقامة، وأنها مراتب، وإن لبقاء المسلمين في أوطانهم إذا لم يفتنوا في دينهم مصلحة كبرى للجامعة الإسلامية. 5/178_180
18_ [وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112)].
وأحسن ما قيل في تفسير هذه الآية: أن عمل السوء أريد به عمل السوء مع الناس، وهو الاعتداء على حقوقهم، وأن ظلم النفس هو المعاصي الراجعة إلى مخالفة المرء في أحواله الخاصة ما أمر به، أو نهي عنه. 5/195_196
19_ وَذِكْرُ الخطيئةِ والإثم هنا يدل على أنهما متغايران، فالمراد بالخطيئة المعصيةُ الصغيرة، والمراد بالإثمِ: الكبيرةُ. 5/196
20_ وقوله: [وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ] تعريض بما كانت تفعله أهل الجاهلية من تغيير خلق الله؛ لدواع سخيفة، فمن ذلك ما يرجع إلى شرائع الأصنام مثل فقء عين الحامي، وهو البعير الذي حمى ظهره من الركوب؛ لكثرة ما أنسل، ويسيّب للطواغيت.(1/218)
ومنه ما يرجع إلى أغراض ذميمة كالوشم إذ أرادوا به التزين، وهو تشويه، وكذلك وسم الوجوه بالنار.
ويدخل في معنى تغيير خلق الله وضع المخلوقات في غير ما خلقها الله له، وذلك من الضلالات الخرافية؛ كجعل الكواكب آلهة، وجعل الكسوفات والخسوفات دلائل على أحوال الناس.
ويدخل فيه تسويل الإعراض عن دين الإسلام، الذي هو دين الفطرة، والفطرة خلق الله؛ فالعدول عن الإسلام إلى غيره تغيير لخلق الله.
وليس من تغيير خلق الله التصرف في المخلوقات بما أذن الله فيه، ولا ما يدخل في معنى الحسن؛ فإن الختان من تغيير خلق الله، ولكنه لفوائد صحية، وكذلك حلق الشعر لفائدة دفع بعض الأضرار، وتقليم الأظفار لفائدة تيسير العمل بالأيدي، وكذلك ثقب الآذان للنساء لوضع الأقراط والتزين.
وأما ما ورد في السنة من لعن الواصلات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن فمما أشكل تأويله؛ وأحسب تأويله أن الغرض منه النهي عن سمات كانت تعد من سمات العواهر في ذلك العهد، أو من سمات المشركات، وإلا فلو فرضنا هذه منهياً عنها لما بلغ النهي إلى حد لعن فاعلات ذلك.
وملاك الأمر أن تغيير خلق الله إنما يكون إثماً إذا كان فيه حظ من طاعة الشيطان، بأن يجعل علامة لنحلة شيطانية، كما هو سياق الآية واتصال الحديث بها.
وقد أوضحنا ذلك في كتابي المسمى: النظر الفسيح على مشكل الجامع الصحيح. 5/205_206
21_ وجعل الأمر بالتقوى وصية: لأن الوصية قول فيه أمر بشيء نافع جامع لخير كثير؛ فلذلك كان الشأن في الوصية إيجاز القول؛ لأنها يقصد منها وعي السامع، واستحضاره كلمة الوصية في سائر أحواله.
والتقوى تجمع الخيرات؛ لأنها امتثال الأوامر واجتناب المناهي، ولذلك قالوا: ما تكرر لفظ في القرآن ما تكرر لفظ التقوى، يعنون غير الأعلام كاسم الجلالة. 5/220(1/219)
22_[لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً(149)].
موقع هذه الآية عقب الآي التي قبلها: أن الله لما شَوَّه حال المنافقين، وشهَّر بفضائحهم تشهيراً طويلاً، كان الكلام السابق بحيث يثير في نفوس السامعين نفوراً من النفاق وأحواله، وبغضاً للملموزين به، وخاصة بعد أن وصفهم باتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وأنهم يستهزئون بالقرآن، ونهى المسلمين عن القعود معهم؛ فحذر الله المسلمين من أن يغيظهم ذلك على من يتوسمون فيه النفاق؛ فيجاهروهم بقول السوء، ورخص لمن ظلم من المسلمين أن يجهر لظالمه بالسوء؛ لأن ذلك دفاع عن نفسه.
روى البخاري: أن رجالاً اجتمعوا في بيت عتبان بن مالك لطعام صنعه لرسول الله"فقال قائل: أين مالك بن الدخشم، فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال رسول الله: =لا تقل ذلك ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله، يريد بذلك وجه الله+.
فقال: فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين... الحديث.
فظن هذا القائل بمالك أنه منافق؛ لملازمته للمنافقين؛ فوصفه بأنه منافق لا يحب الله ورسوله.
فلعل هذه الآية نزلت؛ للصد عن المجازفة بظن النفاق بمن ليس منافقاً.
وأيضاً لما كان من أخص أوصاف المنافقين إظهار خلاف ما يبطنون فقد ذكرت نجواهم، وذكر رؤياهم في هذه السورة، وذكرت أشياء كثيرة من إظهارهم خلاف ما يبطنون في سورة البقرة كان ذلك يثير في النفوس خشية أن يكون إظهار خلاف ما في الباطن؛ نفاقاً فأراد الله تبين الفارق بين الحالين. 6/5(1/220)
23_ وقوله: [شُبِّهَ لَهُمْ] يحتمل أن يكون معناه: أن اليهود الذين زعموا قتلهم المسيحَ في زمانهم قد شُبِّهَ لهم مُشَبَّهٌ بالمسيح فقتلوه، ونجى الله المسيح من إهانة القتل، فيكون قوله: (شُبِّهَ) فعلاً مبنياً للمجهول، مشتقاً من الشبه، وهو المماثلة في الصورة، وحذف المفعول الذي حقه أن يكون نائب فاعل (شبه) لدلالة فعل (شُبِّهَ) عليه؛ فالتقدير: شُبِّه مُشَبَّه، فيكون (لَهُمْ) نائباً عن الفاعل، وضمير (لَهُمْ) على هذا الوجه عائد إلى الذين قالوا: [إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ] وهم يهود زمانه، أي وقعت لهم المشابهة، واللام على هذا بمعنى عند كما تقول: حصل لي ظن بكذا، والاستدراك بيِّن على هذا الاحتمال.
ويحتمل أن يكون المعنى ولكن شبه لليهود الأولين والآخرين خبر صلب المسيح، أي اشتبه عليهم الكذب بالصدق؛ فيكون من باب قول العرب: خيل إليك، واختلط على فلان، وليس ثمة شبيه بعيسى ولكن الكذب في خبره شبيه بالصدق، واللام على هذا لام الأَجْل: أي لُبس الخبرُ كذبُه بالصدق لأجلهم، أي لتضليلهم، أي أن كبراءهم اختلقوه لهم؛ ليبردوا غليلهم من الحنق على عيسى؛ إذ جاء بإبطال ضلالاتهم؛ أو تكون اللام بمعنى (على) للاستعلاء المجازي، كقوله _تعالى_: [وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا].
ونكتة العدول عن حرف (على) تضمين فعل شبه معنى صنع، أي صنع الأحبار هذا الخبر، لأجل إدخال الشبهة على عامتهم.
وفي الأخبار أن يهوذا الاسخريوطي أحد أصحاب المسيح، وكان قد ضل ونافق هو الذي وشى بعيسى _عليه السلام_ وهو الذي أُلقي عليه شَبَهُ عيسى، وأنه الذي صلب، وهذا أصله في إنجيل برنابي أحد تلاميذ الحواريين.
وهذا يلائم الاحتمال الأول.(1/221)
ويقال: إن (بيلاطس) والي فلسطين، سئل في رومة عن قضية قتل عيسى وصلبه، فأجاب بأنه لا علم له بشيء من هذه القضية، فتأيد بذلك اضطراب الناس في وقوع قتله وصلبه، ولم يقع، وإنما اختلق اليهود خبره، وهذا يلائم الاحتمال الثاني.
والذي يجب اعتقاده بنص القرآن: أن المسيح لم يقتل، ولا صلب، وأن الله رفعه إليه، ونجاه من طالبيه، وأما ما عدا ذلك فالأمر فيه محتمل.
وقد تقدم الكلام في رفعه في قوله _تعالى_:[إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ] في سورة آل عمران. 6/21_22
24_ والتثليث أصل في عقيدة النصارى كلهم، ولكنهم مختلفون في كيفيته.
ونشأ من اعتقاد قدماء الإلهيين من نصارى اليونان أن الله _تعالى_ (ثالوث)، أي أنه جوهر واحد، وهذا الجوهر مجموع ثلاثة أقانيم، واحدها أقنوم بضم الهمزة وسكون القاف، قال في القاموس: هو كلمة رومية، وفسره القاموس بالأصل، وفسره التفتزاني في كتاب المقاصد بالصفة.
ويظهر أنه معرب كلمة (قنوم) بقاف معقد عجمي وهو الاسم، أي الكلمة.
وعبروا عن مجموع الأقانيم الثلاثة بعبارة (آباً_ابناً_روحاً_قدساً) وهذه الأقانيم يتفرع بعضها عن بعض: فالأقنوم الأول أقنوم الذات، أو الوجود القديم، وهو الأب، وهو أصل الموجودات.
والأقنوم الثاني أقنوم العلم، وهو الابن، وهو دون الأقنوم الأول، ومنه كان تدبير جميع القوى العقلية.
والأقنوم الثالث أقنوم الروح القدس، وهو صفة الحياة، وهي دون أقنوم العلم، ومنها كان إيجاد عالم المحسوسات.(1/222)
وقد أهملوا ذكر صفات تقتضيها الإلهية، مثل القدم والبقاء، وتركوا صفة الكلام والقدرة والإرادة، ثم أرادوا أن يتأولوا ما يقع في الإنجيل من صفات الله، فسموا أقنوم الذات بالأب، وأقنوم العلم بالابن، وأقنوم الحياة بالروح القدس؛ لأن الإنجيل أَطْلَقَ اسمَ الأبِ على الله، وأطلق اسمَ الابن على المسيح رسوله، وأطلق الروح القدس على ما به كون المسيح في بطن مريم، على أنهم أرادوا أن ينبهوا على أن أقنوم الوجود هو مفيض الأقنومين الآخرين، فراموا أن يدلوا على عدم تأخر بعض الصفات عن بعض فعبروا بالأب والابن، كما عبر الفلاسفة اليونان بالتولد.
وسموا أقنوم العلم بالكلمة لأن من عبارات الإنجيل إطلاق الكلمة على المسيح، فأرادوا أن المسيح مظهر علم الله، أي أنه يعلم ما علمه الله ويبلغه، وهو معنى الرسالة؛ إذ كان العلم يوم تدوين الأناجيل مُكَلَّلاً بالألفاظ الاصطلاحية للحكمة الإلهية الرومية، فلما اشتبهت عليهم المعاني أخذوا بالظواهر؛ فاعتقدوا أن الأرباب ثلاثة وهذا أصل النصرانية، وقاربوا عقيدة الشرك، ثم جرهم الغلو في تقديس المسيح، فتوهموا أن علم الله اتحد بالمسيح، فقالوا: إن المسيح صار ناسوته لاهوتاً، باتحاد أقنوم العلم به؛ فالمسيح جوهران وأقنوم واحد، ثم نشأت فيهم عقيدة الحلول، أي حلول الله في المسيح بعبارات متنوعة، ثم اعتقدوا اتحاد الله بالمسيح، فقالوا: الله هو المسيح، هذا أصل التثليث عند النصارى، وعنه تفرعت مذاهب ثلاثة أشار إلى جميعها قوله _تعالى_: [وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ] وقوله: [لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ] وقوله: [أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ].
وكانوا يقولون: في عيسى لاهوتية من جهة الأب، وناسوتية أي إنسانية من جهة الأم.(1/223)
وظهر بالإسكندرية راهب اسمه آريوس قال بالتوحيد، وأن عيسى عبد الله مخلوق، وكان في زمن قسطنطينوس سلطان الروم باني القسطنطينية، فلما تديَّن قسطنطينوس المذكور بالنصرانية سنة 327 تبع مقالة آريوس، ثم رأى مخالفة معظم الرهبان، له فأراد أن يوحد كلمتهم، فجمع مجمعاً من علماء النصارى في أواخر القرن الرابع من التاريخ المسيحي، وكان في هذا المجمع نحو ألفي عالم من النصارى فوجدهم مختلفين اختلافاً كثيراً، ووجد أكثر طائفة منهم على قول واحد ثلاثمائة وبضعة عشر عالماً، فأخذ قولهم، وجعله أصل المسيحية ونصره، وهذه الطائفة تلقب الملكانية نسبة للملك.
واتفق قولهم على أن كلمة الله اتحدت بجسد عيسى، وتقمصت في ناسوته، أي إنسانيته، ومازجته امتزاج الخمر بالماء، فصارت الكلمة ذاتاً في بطن مريم، وصارت تلك الذات ابناً لله _تعالى_ فالإله مجموع ثلاثة أشياء: الأول الأب ذو الوجود، والثاني الابن ذو الكلمة، أي العلم، والثالث روح القدس.
ثم حدثت فيهم فرقة اليعقوبية وفرقة النسطورية(1) في مجامع أخرى انعقدت بين الرهبان.
__________
(1) _ اليعقوبية منسوبة إلى راهب اسمه يعقوب البرذعاني, كان راهباً بالقسطنطينية والنسطورية نسبة إلى نسطور الحكيم, راهب ظهر في زمن الخليفة المأمون وشرح الأناجيل, كذا قال الشهرستاني في كتاب الملل والنحل, والظاهر أنّه من اشتباه الأسماء في أخبار هذه النحلة، والذي يقوله مؤرخو الكنيسة أنّ نحلة النسطورية موجودة من أوائل القرن الخامس من التاريخ المسيحي وأنّ مؤسسها هو البطريق نسطوريوس, بطريق القسطنطينية السوري, المولود في حدود سنة 380 مسيحية، والمتوفى في برقة في حدود سنة 440، وهاتان النحلتان تعتبران عند الملكانية مبتدعين.(1/224)
فاليعقوبية، ويسمون الآن أرثودكس، ظهروا في أواسط القرن السادس المسيحيي، وهم أسبق من النسطورية؛ قالوا: انقلبت الإلهية لحماً ودماً؛ فصار الإله هو المسيح، فلأجل ذلك صدرت عن المسيح خوارق العادات من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص؛ فأشبه صنعه صنع الله _تعالى_ مما يعجز عنه غير الله _تعالى_.
وكان نصارى الحبشة يَعَاقِبَةٌ، وسنتعرض لذكرها عند قوله _تعالى_: [لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَم] في سورة المائدة، وعند قوله _تعالى_: [فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ].
والنَّسطورية قالت: اتحدت الكلمة بجسد المسيح بطريق الإشراق كما تشرق الشمس من كُوَّةٍ من بَلّور؛ فالمسيح إنسان، وهو كلمة الله؛ فلذلك هو إنسان إله، أو هو له ذاتيتان ذات إنسانية وأخرى إلهية، وقد أطلق على الرئيس الديني لهذه النحلة لقب جاثليق.
وكانت النحلة النسطورية غالبة على نصارى العرب.
وكان رهبان اليعاقبة، ورهبان النسطوريين يتسابقون لِبَثِّ كلِّ فريقٍ نِحْلَته بين قبائل العرب.
وكان الأكاسرة حماة للنسطورية، وقياصرة الروم حماة لليعقوبية.
وقد شاعت النصرانية بنحلتيها في بكر، وتغلب، وربيعة، ولخم، وجذام، وتنوخ، وكلب، ونجران، واليمن، والبحرين.
وقد بسطت هذا ليعلم حسن الإيجاز في قوله _تعالى_: [وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ] وإتيانه على هذه المذاهب كلها؛ فلله هذا الإعجاز العلمي. 6/54_56
1_ هذه السورة سميت في كتب التفسير، وكتب السنة، بسورة المائدة؛ لأن فيها قصة المائدة التي سألها الحواريون من عيسى _عليه السلام_ وقد اختصت بذكرها.
وفي مسند أحمد بن حنبل وغيره وقعت تسميتها سورة المائدة في كلام عبدالله ابن عمر، وعائشة أم المؤمنين، وأسماء بنت يزيد، وغيرهم.
فهذا أشهر أسمائها.
وتسمى _أيضاً_ سورة العقود؛ إذ وقع هذا اللفظ في أولها.(1/225)
وتسمى _أيضاً_ المنقذة؛ ففي أحكام ابن الفرس: روي عن النبي"قال: =سورة المائدة تدعى في ملكوت السماوات المنقذة+.
قال: أي أنها تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب.
وفي كتاب كنايات الأدباء لأحمد الجرجاني(1) يقال: فلان لا يقرأ سورة الأخيار، أي لا يفي بالعهد، وذلك أن الصحابة _ رضي الله عنهم _ كانوا يسمون سورة المائدة سورة الأخيار، قال جرير:
إن البعيث وعبد آل متاعس ... لا يقرآن بسورة الأخيار
6/69
2_ وقد امتازت هذه السورة باتساع نطاق المجادلة مع النصارى، واختصار المجادلة مع اليهود، عما في سورة النساء، مما يدل على أن أمر اليهود أخذ في تراجع ووهن، وأن الاختلاط مع النصارى أصبح أشد منه من ذي قبل.
وفي سورة النساء تحريم السكر عند الصلوات خاصة، وفي سورة المائدة تحريمه بتاتاً؛ فهذا متأخر عن بعض سورة النساء لا محالة.
وليس يلزم أن لا تنزل سورة حتى ينتهي نزول أخرى، بل يجوز أن تنزل سورتان في مدة واحدة.
وهي _أيضاً_ متأخرة عن سورة براءة؛ لأن براءة تشتمل على كثير من أحوال المنافقين وسورة المائدة لا تذكر من أحوالهم إلا مرة، وذلك يؤذن بأن النفاق حين نزولها قد انقطع، أو خضدت شوكة أصحابه.
وإذ قد كانت سورة براءة نزلت في عام حج أبي بكر بالناس، أعني سنة تسع من الهجرة _ فلا جرم أن بعض سورة المائدة نزلت في عام حجة الوداع، وحسبك دليلاً اشتمالها على آية: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] التي اتفق أهل الأثر على أنها نزلت يوم عرفة، عام حجة الوداع كما في خبر عن عمر بن الخطاب.
وفي سورة المائدة قوله _تعالى_: [الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ].
وفي خطبة حجة الوداع يقول رسول الله": =إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا، ولكنه قد رضي بما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم+. 6/71_72
__________
(1) _ صفحة 121 من المنتخب من كنايات الأدباء طبع السعادة بمصر سنة 1326.(1/226)
3_ وقد احتوت هذه السورةُ على تشريعاتٍ كثيرةٍ تُنْبِئُ بأنها أُنزلت لاستكمال شرائع الإسلام، ولذلك افْتُتِحَتْ بالوصايةِ بالوفاءِ بالعقودِ، أي بما عاقدوا الله عليه حين دخولهم في الإسلام من التزامِ ما يؤمرون به؛ فقد كان النبي"يأخذ البيعةَ على الصلاةِ والزكاةِ والنصحِ لكلِّ مسلم، كما في حديث جابر بن عبد الله في الصحيح، وأخذَ البيعةَ على الناس بما في سورة الممتحنة، كما روى عبادة ابن الصامت، وَوَقَعَ في أولها قولُه _تعالى_: [إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ] فكانت طالعتُها براعةَ استهلالٍ.6/72_73
4_ وقد احتوتْ على تمييز الحلالِ من الحرام في المأكولات، وعلى حفظ شعائر الله في الحج والشهر الحرام، والنهي عن بعض المحرمات من عوائد الجاهلية مثل الأزلام، وفيها شرائعُ الوضوءِ، والغسلِ، والتيممِ، والأمرِ بالعدل في الحكم، والأمر بالصدق في الشهادة، وأحكامُ القصاص في الأنفسِ والأعضاء، وأحكامُ الحرابةِ، وتسليةُ الرسول " عن نفاق المنافقين، وتحريمُ الخمرِ والميسرِ، والأيمانُ وكفارتُها، والحكمُ بين أهل الكتابِ، وأصولُ المعاملةِ بين المسلمين، وبين أهل الكتاب، وبين المشركين والمنافقين، والخشيةُ من ولايتهم أن تُفْضَي إلى ارتداد المسلم عن دينه، وإبطالُ العقائد الضالة لأهل الكتابين، وذكرُ مساوٍ من أعمال اليهود، وإنصافُ النصارى فيما لهم من حسن الأدب، وأنهم أرجى للإسلام، وذكرُ قضيةِ التيهِ، وأحوالُ المنافقين، والأمرُ بتخلق المسلمين بما يناقض أخلاق الضالين في تحريم ما أُحِلَّ لهم، والتنويهُ بالكعبة وفضائلها وبركاتها على الناس، وما تخلَّلَ ذلك أو تَقَدَّمه من العبر، والتذكيرُ للمسلمين بنعم الله _تعالى_ والتعريضُ بما وقع فيه أهل الكتاب من نبذ ما أُمِرُوا به، والتهاون فيه، واستدعاؤهم للإيمان بالرسول الموعود به.(1/227)
وخُتِمَتْ بالتذكير بيوم القيامة، وشهادةِ الرسل على أممهم، وشهادةِ عيسى على النصارى، وتمجيدِ الله _تعالى_.6/73_74
5_ وذكر ابن عطية: أن النقاش حكى: أن أصحاب الكندي قالوا له: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، قال: نعم أعمل لكم مثل بعضه؛ فاحتجب عنهم أياماً، ثم خرج، فقال: والله ما أقدر عليه، ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد أمر بالوفاء، ونهى عن النكث وحلل تحليلاً عامّاً ثم استثنى استثناءً بعد استثناءٍ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يستطيع أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد _جمع جِلد أي أسفار_. 6/81
6_ والدم هنا: هو الدم المهراق، أي المسفوح، وهو الذي يمكن سيلانه كما صرح به في آية الأنعام؛ حملاً لمطلق هذه الآية على مقيد آية الأنعام، وهو الذي يخرج من عروق جسد الحيوان بسبب قطع العرق وما عليه من الجلد، وهو سائل لزج أحمر اللون متفاوت الحمرة باختلاف السن واختلاف أصناف العروق.
والظاهر أن علة تحريمه القذارة؛ لأنه يكتسب رائحة كريهة عند لقائه الهواء، ولذلك قال كثير من الفقهاء بنجاسة عينه، ولا تعرض في الآية لذلك، أو لأنه يحمل ما في جسد الحيوان من الأجزاء المضرة التي لا يحاط بمعرفتها، أو لما يحدثه تَعَوُّدُ شربِ الدم من الضراوة التي تعود على الخلق الإنساني بالفساد.
وقد كانت العرب تأكل الدم؛ فكانوا في المجاعات يفصدون من إبلهم ويخلطون الدم بالوبر ويأكلونه، يسمونه العِلْهِز بكسر العين والهاء وكانوا يملأون المصير بالدم ويشوونها ويأكلونها، وقد تقدم ذلك عند قوله _تعالى_:[إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ] في سورة البقرة. 6/89_90
7_ [وَالْمُنْخَنِقَةُ]: هي التي عرض لها ما يخنقها، والخنق: سد مجاري النفس بالضغط على الحلق، أو بسده، وقد كانوا يربطون الدابة عند خشبة، فربما تخبطت، فانخنقت، ولم يشعروا بها، ولم يكونوا يخنقونها عند إرادة قتلها.(1/228)
ولذلك قيل هنا: المنخنقة، ولم يقل المخنوقة بخلاف قوله: [وَالْمَوْقُوذَةُ] فهذا مراد ابن عباس بقوله: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة وغيرها، فإذا ماتت أكلوها.
وحكمة تحريم المنخنقة أن الموت بانحباس النفس يفسد الدم باحتباس الحوامض الفحمية الكائنة فيه، فتصير أجزاء اللحم المشتمل على الدم مضرة لآكله. 6/91
8_ [وَالْمَوْقُوذَةُ]: المضروبة بحجر أو عصا ضرباً تموت به دون إهراق الدم، وهو اسم مفعول من وقذ إذا ضرب ضرباً مثخناً.
وتأنيث هذا الوصف لتأويله بأنه وصف بهيمة، وحكمة تحريمها تماثل حكمة تحريم المنخنقة.
[وَالْمُتَرَدِّيَةُ]: هي التي سقطت من جبل أو سقطت في بئر تردياً تموت به، والحكمة واحدة.
[وَالنَّطِيحَةُ]: فعيلة بمعنى مفعولة، والنطح ضرب الحيوان ذي القرنين بقرنيه حيواناً آخر، والمراد التي نطحتها بهيمة أخرى، فماتت. 6/91
9_ [وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ]: هو ما كانوا يذبحونه من القرابين والنشرات فوق الأنصاب، والنُّصُب بضمتين: الحجر المنصوب؛ فهو مفرد مراد به الجنس، وقيل: هو جمع وواحده نصاب، ويقال: نَصْب بفتح فسكون [كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ].
وهو قد يطلق بما يرادف الصنم، وقد يخص الصنم بما كانت له صورة، والنصب بما كان صخرة غير مصورة مثل ذي الخلصة ومثل سعد.
والأصح أن النصب هو حجارة غير مقصود منها أنها تمثال للآلهة، بل هي موضوعة لأن تذبح عليها القرابين والنسائك التي يتقرب بها للآلهة وللجن؛ فإن الأصنام كانت معدودة، ولها أسماء وكانت في مواضع معينة تقصد للتقرب.(1/229)
وأما الأنصاب فلم تكن معدودة، ولا كانت لها أسماء، وإنما كانوا _يتخذها كلُّ حي_ يتقربون عندها؛ فقد روى أئمة أخبار العرب: أن العرب كانوا يعظمون الكعبة، وهم ولد إسماعيل، فلما تفرق بعضهم، وخرجوا من مكة عَظُمَ عليهم فراقُ الكعبةِ فقالوا: الكعبة حجر؛ فنحن ننصب في أحيائنا حجارة تكون لنا بمنزلة الكعبة؛ فنصبوا هذه الأنصاب، وربما طافوا حولها، ولذلك يسمونها الدُّوَّار بضم الدال المشددة وبتشديد الواو، ويذبحون عليها الدماء المتقرب بها في دينهم.
وكانوا يطلبون لذلك أحسن الحجارة، وعن أبي رجاء العطاردي في صحيح البخاري: كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً خيراً منه ألقينا الأول، وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجراً _أي في بلاد الرمل_ جمعنا جثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة، فحلبناها عليه، ليصير نظير الحجر ثم طفنا به.
فالنصب: حجارة أعدت للذبح وللطواف على اختلاف عقائد القبائل، مثل حجر الغبغب الذي كان حول العزى، وكانوا يذبحون على الأنصاب ويشرّحون اللحم ويشوونه، فيأكلون بعضه ويتركون بعضاً للسدنة، قال الأعشى يذكر وصايا النبي"في قصيدته التي صنعها في مدحه:
وذا النُصَُبَ المَنْصُوب لا تَنْسُكَنَّه
وقال زيد بن عمرو بن نفيل للنبي"قبل البعثة، وقد عرض عليه الرسول سفرة؛ ليأكل معه في عكاظ: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم .
وفي حديث فتح مكة: كان حول البيت ثلاثمائة ونيف وستون نصباً، وكانوا إذا ذبحوا عليها رشوها بالدم، ورشوا الكعبة بدمائها. 6/93_95
10_ ومن الاستقسام بالأزلام ضرب آخر كانوا يفعلونه في الجاهلية يتطلبون به معرفة عاقبة فعل يريدون فعله: هل هي النجاح والنفع أو هي خيبة وضر؟
وإذ قد كان لفظ الاستقسام يشمله فالوجه أن يكون مراداً من النهي _أيضاً_ على قاعدة استعمال المشترك في معنييه؛ فتكون إرادته إدماجاً، وتكون السين والتاء للطلب، أي طلب القِسْمِ، وطلبُ القِسْم بالكسر أي الحظ من خير أو ضده، أي طلب معرفته.(1/230)
كان العرب كغيرهم من المعاصرين مولعين بمعرفة الاطلاع على ما سيقع من أحوالهم أو على ما خفي من الأمور المكتومة، وكانوا يتوهمون بأن الأصنام والجن يعلمون تلك المغيبات؛ فسولت سدنةُ الأصنام لهم طريقةً يموِّهون عليهم بها؛ فجعلوا أزلاماً.
والأزلام: جمع زَلَم بفتحتين، ويقال له: قِدْح بكسر القاف وسكون الدال وهو سهم لا حديدة فيه.
وكيفية استقسام الميسر: المقامرة على أجزاء جزور ينحرونه، ويتقامرون على أجزائه، وتلك عشرة سهام تقدم الكلام عليها عند قوله _تعالى_: [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ] الآية في سورة البقرة.
وكان مقتضى الظاهر أن يقال: وما استقسمتم عليه بالأزلام، فغير الأسلوب وعدل إلى: [وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ] ليكون أشمل للنهي عن طريقتي الاستقسام كلتيهما، وذلك إدماج بديع.
وأشهر صور الاستقسام ثلاثة قداح: أحدهما مكتوب عليه (أمرني ربي) وربما كتبوا عليه (افعل) ويسمونه الآمر، والآخر مكتوب عليه (نهاني ربي) أو (لا تفعل) ويسمونه الناهي، والثالث غُفْل بضم الغين المعجمة وسكون الفاء أخت القاف أي متروك بدون كتابة.
فإذا أراد أحدهم سفراً أو عملاً لا يدري أيكون نافعاً أم ضاراً _ ذهب إلى سادن صنمهم؛ فأجال الأزلام، فإذا خرج الذي عليه كتابة فعلوا ما رسم لهم، وإذا خرج الغفل أعادوا الإجالة.
ولما أراد امرؤ القيس أن يقوم لأخذ ثار أبيه حُجْر، استقسم بالأزلام عند ذي الخلصة _صنم خثعم_ فخرج له الناهي، فكسر القداح وقال:
لو كنت ياذا الخلص الموتورا ... مثلي وكان شيخك المقبورا
لم تنه عن قتل العداة زورا
وقد ورد في حديث فتح مكة: أن رسول الله"وجد صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام فقال: =كذبوا والله إن استقسم بها قط+.
وهم قد اختلقوا تلك الصورة، أو توهموها لذلك؛ تنويهاً بشأن الاستقسام بالأزلام، وتضليلاً للناس الذين يجهلون.(1/231)
وكانت لهم أزلام أخرى عند كل كاهن من كهانهم، ومن حكامهم، وكان منها عند (هبل) في الكعبة سبعة قد كتبوا على كل واحد شيئاً من أهم ما يعرض لهم في شؤونهم، كتبوا على أحدها العقل في الدية، إذا اختلفوا في تعيين من يحمل الدية منهم وأزلام لإثبات النسب، مكتوب على واحد (منكم) وعلى واحد (من غيركم) وفي آخر (ملصق).
وكانت لهم أزلام لإعطاء الحق في المياه إذا تنازعوا فيها.
وبهذه استقسم عبدالمطلب حين استشار الآلهة في فداء ابنه عبدالله من النذر الذي نذره أن يذبحه إلى الكعبة بعشرة من الإبل، فخرج الزَّلم على عبد الله فقالوا له: أَرْضِ الآلهةَ، فزاد عشرة حتى بلغ مائة من الإبل، فخرج الزلم على الإبل فنحرها.
وكان الرجل قد يتخذ أزلاماً لنفسه، كما ورد في حديث الهجرة: أن سراقة ابن مالك لما لحق النبي" ليأتي بخبره إلى أهل مكة استقسم الأزلام؛ فخرج له ما يكره. 6/96_98
11_ والدّين: ما كلَّف اللهُ به الأمةُ من مجموع العقائد، والأعمال، والشرائع، والنظم. 6/103
12_ فإكمال الدين: هو إكمال البيان المراد لله _تعالى_ الذي اقتضت الحكمة تنجيمه، فكان بعد نزول أحكام الاعتقاد، التي لا يسع المسلمين جهلها، وبعد تفاصيل أحكام قواعد الإسلام التي آخرها الحج بالقول والفعل، وبعد بيان شرائع المعاملات وأصول النظام الإسلامي _ كان بعد ذلك كله قد تم البيان المراد لله _تعالى_ في قوله: [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ] وقوله: [لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ] بحيث صار مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنة كافياً في هدي الأمة في عبادتها، ومعاملتها، وسياستها في سائر عصورها، بحسب ما تدعو إليه حاجاتها؛ فقد كان الدين وافياً في كل وقت بما يحتاجه المسلمون. 6/103(1/232)
13_ ولكن ابتدأت أحوال جماعة المسلمين بسيطة ثم اتسعت جامعتهم، فكان الدين يكفيهم لبيان الحاجات في أحوالهم بمقدار اتساعها؛ إذ كان تعليم الدين بطريق التدريج؛ ليتمكن رسوخه؛ حتى استكملت جامعة المسلمين كل شؤون الجوامع الكبرى، وصاروا أمةً كأكمل ما تكون أمة؛ فكمل من بيان الدين ما به الوفاء بحاجاتهم كلها، فذلك معنى إكمال الدين لهم يومئذ.
وليس في ذلك ما يشعر بأن الدين كان ناقصاً، ولكن أحوال الأمة في الأممية غير مستوفاة؛ فلما توفرت كمل الدين لهم فلا إشكال على الآية.
وما نزل من القرآن بعد هذه الآية لعله ليس فيه تشريع شيء جديد، ولكنه تأكيد لما تقرر تشريعه من قبل بالقرآن أو السنة.
فما نجده في هذه السورة من الآيات بعد هذه الآية مما فيه تشريع أُنُفٌ مثل جزاء صيد المحرم _ نجزم بأنها نزلت قبل هذه الآية وأن هذه الآية لما نزلت أمر بوضعها في هذا الموضع.
وعن ابن عباس: لم ينزل على النبي بعد ذلك اليوم تحليل، ولا تحريم، ولا فرض.
فلو أن المسلمين أضاعوا كل أثارة من علم _ والعياذ بالله _ ولم يبق بينهم إلا القرآن؛ لاستطاعوا الوصول به إلى ما يحتاجونه في أمور دينهم.
قال الشاطبي: القرآن _مع اختصاره_ جامع، ولا يكون جامعاً إلا والمجموع فيه أمور كلية، لأن الشريعة تمت بتمام نزوله لقوله _تعالى_: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] وأنت تعلم: أن الصلاة، والزكاة، والجهاد، وأشباه ذلك، لم تبين جميع أحكامها في القرآن، إنما بينتها السنة، وكذلك العادِيَّات من العقود والحدود وغيرها، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال، وهي: الضروريات، والحاجيات، والتحسينات، ومكمل كل واحد منها؛ فالخارج عن الكتاب من الأدلة: وهو السنة، والإجماع، والقياس _ إنما نشأ عن القرآن. 6/103_104
14_ وأما المجوس: فليسوا أهل كتاب بالإجماع، فلا تؤكل ذبائحهم، وشذ من جعلهم أهل كتاب.(1/233)
وأما المشركون وعبدة الأوثان فليسوا من أهل الكتاب دون خلاف.
وحكمة الرخصة في أهل الكتاب: لأنهم على دين إلهي يحرم الخبائث، ويتقي النجاسة، ولهم في شؤونهم أحكام مضبوطة متبعة لا تظن بهم مخالفتها، وهي مستندة للوحي الإلهي، بخلاف المشركين وعبدة الأوثان.
وأما المجوس فلهم كتاب لكنه ليس بالإلهي، فمنهم أتباع (زراد شت) لهم كتاب الزندفستا وهؤلاء هم محل الخلاف.
وأما المجوس المانوية فهم إباحية فلا يختلف حالهم عن حال المشركين وعبدة الأوثان، أو هم شر منهم.
وقد قال مالك: ما ليس فيه ذكاة من طعام المجوس فليس بحرام يعني إذا كانوا يتقون النجاسة.
وفي جامع الترمذي: أن أبا ثعلبة الخشني سأل رسول الله"عن قدور المجوس، فقال له: =أنقوها غسلاً واطبخوا فيها+.
وفي البخاري: أن أبا ثعلبة سأل رسول الله"عن آنية أهل الكتاب، فقال له: =إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها+.
قال ابن العربي: =فَغَسْلُ آنيةِ المجوس فرض، وغسل آنية أهل الكتاب ندب+.
يريد لأن الله أباح لنا طعام أهل الكتاب، فقد علم حالهم، وإنما يسري الشك إلى آنيتهم من طعامهم وهو مأذون فيه، ولم يبح لنا طعام المجوس، فذلك منزع التفرقة بين آنية الفريقين. 6/120_121
15_ ومعنى [إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ]: إذا عزمتم على الصلاة، لأن القيام يطلق في كلام العرب بمعنى الشروع في الفعل، قال الشاعر:
فقام يذود الناس عنها بسيفه ... وقال: ألا لا من سبيل إلى هند
وعلى العزم على الفعل، قال النابغة:
قاموا فقالوا حمانا غير مقروب
أي عزموا رأيهم فقالوا.
والقيام هنا كذلك بقرينة تعديته بـ(إلى) لتضمينه معنى عَمَدْتُم إلى أن تصلّوا.
وروى مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم أنه فسر القيام بمعنى الهبوب من النوم، وهو مروي عن السدي؛ فهذه وجوه الأقوال في تفسير معنى القيام في هذه الآية، وكلها تؤول إلى أن إيجاب الطهارة؛ لأجل أداء الصلاة.(1/234)
وأما ما يرجع إلى تأويل معنى الشرط الذي في قوله: [إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ] الآية _ فظاهر الآية الأمر بالوضوء عند كل صلاة؛ لأن الأمر بغسل ما أمر بغسله شرط بـ[إِذَا قُمْتُمْ] فاقتضى طلب غسل هذه الأعضاء عند كل قيام إلى الصلاة، والأمر ظاهر في الوجوب. 6/128_129
16_ ومن اللطائف ما ذكره ابن هشام، في شرح قصيدة كعب بن زهير عند قول كعب:
لكنها خلة قد سيط من دمها ... فجع وولع وإخلاف وتبديل
أن الزمخشري قال: =إنه رأى نفسه في النوم يقول: العداوة مشتقة من عدوة الوادي، أي جانبه؛ لأن المتعاديين يكون أحدهما مفارقاً للآخر؛ فكأن كل واحد منهما على عدوة+ اهـ.
فيكون مشتقاً من الاسم الجامد وهو بعيد. 6/149
17_ وأسباب العداوة والبغضاء شدة الاختلاف؛ فتكون من اختلافهم في نحل الدين بين يعاقبة، وملكانية، ونسطورية، وهراتقة _بروتستانت_.
وتكون من التحاسد على السلطان ومتاع الدنيا، كما كان بين ملوك النصرانية، وبينهم وبين رؤساء ديانتهم. 6/149
18_ فإن قيل: كيف أغريت بينهم العداوة وهم لم يزالوا إلباً على المسلمين? فجوابه: أن العداوة ثابتة بينهم في الدين بانقسامهم فرقاً، كما قدمناه في سورة النساء عند قوله _تعالى_: [وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ] وذلك الانقسام يجر إليهم العداوة وخذل بعضهم بعضاً.
ثم إن دولهم كانت منقسمة ومتحاربة، ولم تزل كذلك، وإنما تألبوا في الحروب الصليبية على المسلمين ثم لم يلبثوا أن تخاذلوا وتحاربوا، ولا يزال الأمر بينهم كذلك إلى الآن.
وكم ضاعت مساعي الساعين في جمعهم على كلمة واحدة، وتأليف اتحاد بينهم، وكان اختلافهم لُطْفاً بالمسلمين في مختلف عصور التاريخ الإسلامي، على أن اتفاقهم على أمة أخرى لا ينافي تمكن العداوة فيما بينهم، وكفى بذلك عقاباً لهم على نسيانهم ما ذكروا به. 6/149(1/235)
19_ ومعنى التشبيه في قوله: [فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً] حَثُّ جميع الأمة على تعقب قاتل النفس، وأخذه أينما ثقف، والامتناع من إيوائه أو الستر عليه، كُلٌّ مخاطبٌ على حسب مقدرته وبقدر بسطة يده في الأرض، من ولاة الأمور إلى عامة الناس.
فالمقصود من ذلك التشبيهِ تهويلُ القتلِ، وليس المقصود أنه قد قتل الناس جميعاً، ألا ترى أنه قابل للعفو من خصوص أولياء الدم دون بقية الناس!؟
على أن فيه معنى نفسانياً جليلاً، وهو أن الداعي الذي يقدم بالقاتل على القتل يرجع إلى ترجيح إرضاء الداعي النفساني الناشئ عن الغضب وحب الانتقام على دواعي احترام الحق، وزجر النفس، والنظر في عواقب الفعل من نظم العالم؛ فالذي كان من حيلته ترجيح ذلك الداعي الطفيف على جملة هذه المعاني الشريفة فذلك ذو نفس يوشك أن تدعوه دوماً إلى هضم الحقوق، فكلما سنحت له الفرصة قتل، ولو دعته أن يقتل الناس جميعاً لفعل.
ولك أن تجعل المقصد من التشبيه توجيه حكم القصاص وحَقِّيَته، وأنه منظور فيه لحق المقتول بحيث لو تمكن لما رضي إلا بجزاء قاتله بمثل جرمه؛ فلا يتعجب أحد من حكم القصاص قائلاً: كيف نصلح العالم بمثل ما فسد به، وكيف نداوي الداء بداء آخر، فبين لهم أن قاتل النفس عند ولي المقتول كأنما قتل الناس جميعاً.
وقد ذُكرت وجوه في بيان معنى التشبيه لا يقبلها النظر. 6/178
20_ فالسارق: المتصف بالسرقة، والسرقةُ معروفةٌ عند العرب مميزة عن الغارة، والغصب، والاغتصاب، والخلسة، والمؤاخذة بها ترجع إلى اعتبار الشيء المسروق مما يشح به معظم الناس.
فالسرقة: أَخْذُ أحدٍ شيئاً لا يملكه خفيةً عن مالكه مخرجاً إياه من موضع هو حرز مثله لم يؤذن آخذه بالدخول إليه.
والمسروق: ما له منفعة لا يتسامح الناس في إضاعته. 6/191
21_ والموعظة: الكلام الذي يلين القلب، ويزجر عن فعل المنهيات. 6/219
22_ والشرعة والشريعة: الماء الكثير من نهر أو واد، يقال: شريعة الفرات.(1/236)
وسميت الديانة شريعة على التشبيه؛ لأن فيها شفاءَ النفوس وطهارتَها.
والعرب تشبه بالماء وأحواله كثيراً. 6/223
23_ والمنهاج: الطريق الواسع، وهو هنا تخييل أريد به طريق القوم إلى الماء، كقول قيس بن الخطيم:
وأتبعت دلوي في السماح رشاءها
فذكر الرشاء مجرد تخييل، ويصح أن يجعل له رديف في المشبه بأن تشبه العوائد المنتزعة من الشريعة، أو دلائل التفريع عن الشريعة، أو طرق فهمها بالمنهاج الموصل إلى الماء؛ فمنهاج المسلمين لا يخالف الاتصال بالإسلام، فهو كمنهاج المهتدين إلى الماء. 6/223
24_ وقوله: [ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ] أي بعد ذلك الضلال والإعراض عن الرشد، وما أعقبه من سوء العمل والفساد في الأرض.
وقد استفيد من قوله: [أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ] وقوله: [ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ] أنهم قد أصابتهم الفتنة بعد ذلك العمى والصمم، وما نشأ عنها عقوبة لهم، وأن الله لما تاب عليهم رفع عنهم الفتنة، ثم عموا وصموا، أي عادوا إلى ضلالهم القديم وعملهم الذميم؛ لأنهم مصرون على حسبان أن لا تكون فتنة، فأصابتهم فتنة أخرى.
وقد وقف الكلام عند هذا العمى والصمم الثاني، ولم يذكر أن الله تاب عليهم بعده، فدل على أنهم أعرضوا عن الحق إعراضاً شديداً مرة ثانية فأصابتهم فتنة لم يتب الله عليهم بعدها.
ويتعين أن ذلك إشارة إلى حادثين عظيمين من حوادث عصور بني إسرائيل بعد موسى _عليه السلام_ والأظهر أنهما حادث الأسر البابلي؛ إذ سلط الله عليهم بختنصر ملك أشور فدخل بيت المقدس مرات سنة 606 وسنة 598 وسنة 588 قبل المسيح، وأتى في ثالثتها على مدينة أورشليم؛ فأحرقها، وأحرق المسجد، وحمل جميع بني إسرائيل إلى بابل أسارى، وأن توبة الله عليهم كان مظهرها حين غلب كورش ملك فارس على الآشوريين، واستولى على بابل سنة 530 قبل المسيح، فأذن لليهود أن يرجعوا إلى بلادهم، ويعمروها؛ فرجعوا وبنوا مسجدهم.(1/237)
وحادث الخراب الواقع في زمن تيطس القائد الروماني وهو ابن الامبراطور الروماني وسبسيانوس؛ فإنه حاصر أورشليم حتى اضطر اليهود إلى أكل الجلود، وأن يأكل بعضهم بعضاً من الجوع، وقتل منهم ألف ألف رجل، وسبى سبعة وتسعين ألفاً على ما في ذلك من مبالغة، وذلك سنة 69 للمسيح، ثم قفاه الامبراطور أدريان الروماني من سنة 117 إلى سنة 138 للمسيح، فهدم المدينة، وجعلها أرضاً، وخلط ترابها بالملح؛ فكان ذلك انقراض دولة اليهود ومدينتهم وتفرقهم في الأرض.
وقد أشار القرآن إلى هذين الحدثين بقوله: [وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ].
وهذا هو الذي اختاره القفال، وفي الآية أقوال أخر استقصاها الفخر.
6/277_278
25_ والقسيسون: جمع سلامة لقسيس بوزن سجين، ويقال: قَسٌّ بفتح القاف وتشديد السين وهو عالم دين النصرانية، وقال قطرب: هي بلغة الروم، وهذا مما وقع فيه الوفاق بين اللغتين.
والرهبان هنا: جمع راهب، مثل ركبان جمع راكب، وفرسان جمع فارس، وهو غير مقيس في وصف على فاعل.
والراهب من النصارى المنقطع في دير أو صومعة للعبادة.
وقال الراغب: الرهبان يكون واحداً وجمعاً، فمن جعله واحداً جمعه على رهابين ورهابنة.(1/238)
وهذا مروي عن الفراء، ولم يحك الزمخشري في الأساس أن رهبان يكون مفرداً.
وإطلاقه على الواحد في بيت أنشده ابن الأعرابي:
لو أبصرت رهبان دير بالجبل ... لانحدر الرهبان يسعى ويزِل
وإنما كان وجود القسيسين والرهبان بينهم سبباً في اقتراب مودتهم من المؤمنين؛ لما هو معروف بين العرب من حسن أخلاق القسيسين والرهبان وتواضعهم وتسامحهم.
وكانوا منتشرين في جهات كثيرة من بلاد العرب يعمرون الأديرة والصوامع والبيع، وأكثرهم من عرب الشام الذين بلغتهم دعوة النصرانية على طريق الروم، فقد عرفهم العرب بالزهد، ومسالمة الناس وكثر ذلك في كلام شعرائهم، قال النابغة:
لو أنها برزت لأشمط راهب ... عبد الاله صرورة متعبدِ
لرنا لطلعتها وحسن حديثها ... ولَخَالَهُ رشداً وإن لم يَرْشُدِ
فوجود هؤلاء فيهم، وكونهم رؤساء دينهم مما يكون سبباً في صلاح أخلاق أهل مِلَّتِهم.
والاستكبار السين والتاء فيه للمبالغة، وهو يطلق على التكبر والتعاظم، ويطلق على المكابرة وكراهية الحق، وهما متلازمان؛ فالمراد من قوله: [لا يَسْتَكْبِرُونَ] أنهم متواضعون منصفون.
وضمير [وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ] يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير [بِأَنَّ مِنْهُمْ] أي وأن الذين قالوا: إنا نصارى لا يستكبرون، فيكون قد أثبت التواضع لجميع أهل ملة النصرانية في ذلك العصر.
وقد كان نصارى العرب متحلين بمكارم من الأخلاق، قال النابغة يمدح آل النعمان الغساني وكانوا متنصرين:
مَجَلّتُهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب
ولا يحسبون الخير لا شر بعده ... ولا يحسبون الشرَّ ضربةَ لازبِ(1/239)
وظاهر قوله: [الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى] أن هذا الخلق وصف للنصارى كلهم من حيث إنهم نصارى؛ فيتعين أن يحمل الموصول على العموم العرفي، وهم نصارى العرب؛ فإن اتباعهم النصرانية على ضعفهم فيها ضم إلى مكارم أخلاقهم العربية مكارم أخلاق دينية، كما كان عليه زهيرُ، ولبيد، وورقة ابن نوفل، وأضرابُهم. 7/7_8
26_ والبَحيرة: بفتح الباء الموحدة وكسر الحاء المهملة فعيلة بمعنى مفعولة، أي مبحورة، والبحر الشق، يقال: بحر: شق، وفي حديث حفر زمزم أن عبدالمطلب بحرها بحراً، أي شقها ووسَّعها، فالبَحيرة: هي الناقة، كانوا يشقون أذنها بنصفين طولاً علامة على تخليتها، أي أنها لا تركب، ولا تنحر، ولا تمنع عن ماء ولا عن مرعى، ولا يجزرونها، ويكون لبنها لطواغيتهم، أي أصنامهم، ولا يَشْرَبُ لَبَنَها إلا ضيفٌ، والظاهر أنه يشربه إذا كانت ضيافةً لزيارة الصنم، أو إضافة سادنه؛ فكل حي من أحياء العرب تكون بحائرهم لصنمهم.
وقد كانت للقبائل أصنام تدين كل قبيلة لصنم أو أكثر.
وإنما يجعلونها بحيرة إذا نُتجت(1) عشرة أبطن على قول أكثر أهل اللغة، وقيل: إذا نتجت خمسة أبطن وكان الخامس ذكراً، وإذا ماتت حتف أنفها حل أكل لحمها للرجال، وحرم على النساء. 7/72
27_ والسائبة: البعير أو الناقة يُجْعَل نذراً عن شفاء من مرض، أو قدوم من سفر، فيقول: أجعله لله سائبة؛ فالتاء فيه للمبالغة في الوصف كتاء نسابة، ولذلك يقال: عبد سائبة، وهو اسم فاعل بمعنى الانطلاق والإهمال، وقيل: فاعل بمعنى مفعول، أي مسيب.
وحكم السائبة كالبحيرة في تحريم الانتفاع، فيكون ذلك كالعتق، وكانوا يدفعونها إلى السدنة؛ ليطعموا من ألبانها أبناء السبيل.
__________
(1) _ نتجت مبني للمفعول وهو يتعدى إلى مفعولين؛ فأولهما جعل نائب فاعل، وثانيها هو المنصوب.(1/240)
وكانت علامتها أن تقطع قطعة من جلدة فقار الظهر، فيقال لها: صريم، وجمعه صرم، وإذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلهن إناث متتابعة سيَّبوها _أيضاً_ فهي سائبة، وما تلده السائبة يكون بحيرة في قول بعضهم، والظاهر أنه يكون مثلها سائبة. 7/72
28_ والوصيلة من الغنم: هي الشاة تلد أنثى بعد أنثى، فتسمى الأم وصيلة؛ لأنها وصلت أنثى بأنثى، كذا فسرها مالك في رواية ابن وهب عنه، فعلى هذه الرواية تكون الوصيلة هي المُتَقَرَّبَ بها، ويكون تسليط نفي الجعل عليها ظاهراً.
وقال الجمهور: الوصيلة أن تلد الشاةُ خمسةَ أبطنٍ أو سبعة على اختلاف مصطلح القبائل؛ فالأخير إذا كان ذكراً ذبحوه لبيوت الطواغيت؛ وإن كانت أنثى استحيوها، أي للطواغيت، وإن أتأمت استحيوهما جميعاً، وقالوا: وصلت الأنثى أخاها؛ فمنعته من الذبح.
فعلى هذا التأويل فالوصيلة حالة من حالات نسل الغنم، وهي التي أبطلها الله _تعالى_ ولم يتعرضوا لبقية أحوال الشاة.
والأظهر أن الوصيلة اسم للشاة التي وصلت سبعة أبطن إناثاً؛ جمعاً بين تفسير مالك وتفسير غيره؛ فالشاة تسيب للطواغيت، وما ذكروه من ذبح ولدها أو ابنتها هو من فروع استحقاق تسييبها، لتكون الآية شاملة لأحوالها كلها.
وعن ابن إسحاق: الوصيلة الشاة تُتْئِم في خمسة أبطن عشرة إناث فما ولدت بعد ذلك فهو للذكور منهم دون النساء إلا أن يموت شيء منها، فيشترك في أكله الرجال والنساء.
وفي صحيح البخاري عن سعيد بن المسيب: أن الوصيلة من الإبل إذا بكرت الناقة في أول إنتاج الإبل بأنثى، ثم تثني بعد بأنثى في آخر العام، فكانوا يجعلونها لطواغيتهم.
وهذا قاله سعيد من نفسه، ولم يروه عن النبي".
ووقع في سياق البخاري إيهامٌ اغْتَرَّ به بعضُ الشارحين، ونبه عليه في فتح الباري.
وعلى الوجوه كلها فالوصيلة فعلية بمعنى فاعلة. 7/73(1/241)
29_ والحامي: هو فحل الإبل إذا نتجت من صلبه عشرة أبطن، فَيُمْنَع من أن يُرْكَب، أو يُحمل عليه، ولا يمنع من مرعى ولا ماء.
ويقولون: إنه حمى ظهره، أي كان سبباً في حمايته؛ فهو حام.
قال ابن وهب عن مالك، كانوا يجعلون عليه ريش الطواويس، ويسيبونه؛ فالظاهر أنه يكون بمنزلة السائبة لا يؤكل حتى يموت، وينتفع بوبره للأصنام. 7/73_74
30_ وسنة الشهادة وكمالها: هو صدقها، والتثبت فيها، والتنبه لما يغفل عنه من مختلف الأحوال التي قد يستخف بها في الحال، وتكون للغفلة عنها عواقبُ تُضِيع الحقوق، أي ذلك يعلمهم وجه التثبت في التحمل والأداء، وتوخي الصدق، وهو يدخل في قاعدة لزوم صفة اليقظة للشاهد.
وفي الآية إيماء إلى حكمة مشروعية الإعذار في الشهادة بالطعن أو المعارضة؛ فإن في ذلك ما يحمل شهود الشهادة على التثبت في مطابقة شهادتهم للواقع؛ لأن المعارضة والإعذار يكشفان عن الحق. 7/93
31_ والعيد: اسم ليوم يعود كل سنة؛ ذكرى لنعمة أو حادثة وقعت فيه للشكر أو للاعتبار، وقد ورد ذكره في كلام العرب.
وأشهر ما كانت الأعياد في العرب عند النصارى منهم قال العجاج:
كما يعود العيد نصراني
مثل يوم السباسب في قول النابغة:
يحيون بالريحان يوم السباسب
وهو عيد الشعانين عند النصارى.
وقد سمى النبي"يوم الفطر عيداً في قوله لأبي بكر لما نهى الجواري اللاء كن يغنين عند عائشة: =إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا+.
وسمى يوم النحر عيداً في قوله: =شهرا عيد لا ينقصان: رمضان، وذو الحجة+.
والعيد مشتق من العود، وهو اسم على زنةِ فِعْل، فجعلت واوه ياء، لوقوعها إثر كسرة لازمة، وجمعوه على أعياد بالياء على خلاف القياس؛ لأن قياس الجمع أنه يرد الأشياء إلى أصولها؛ فقياس جمعه أعواد، لكنهم جمعوه على أعياد، وصغروه على عُييد، تفرقة بينه وبين جمع عود وتصغيره. 7/108_109(1/242)
32_ ومعنى نفع الصدق صاحبه في ذلك اليوم أن ذلك اليوم يوم الحق؛ فالصادق ينتفع فيه بصدقه؛ لأن الصدق حسن؛ فلا يكون له في الحق إلا الأثر الحسن، بخلاف الحال في عالم الدنيا عالم حصول الحق والباطل؛ فإن الحق قد يجر ضراً لصاحبه بتحريف الناس للحقائق، أو بمؤاخذته على ما أخبر به بحيث لو لم يخبر به لما أطلع عليه أحد.
وأما ما يترتب عليه من الثواب في الآخرة فذلك من النفع الحاصل في يوم القيامة.
وقد ابتلي كعب بن مالك÷في الصدق ثم رأى حسن مغبته في الدنيا. 7/118
1_ ليس لهذه السورة إلا هذا الاسم من عهد رسول الله".
روى الطبراني بسنده إلى عبدالله بن عمر: قال رسول الله": =نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة، وشيّعها سبعون ألفاً من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد+.
وورد عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن مسعود، وأنس بن مالك، وجابر بن عبدالله، وأسماء بنت يزيد بن السكن _ تسميتها في كلامهم سورة الأنعام، وكذلك ثبتت تسميتها في المصاحف، وكتب التفسير والسنة.
وسميت سورة الأنعام لما تكرر فيها من ذكر لفظ الأنعام ست مرات من قوله: [وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً] إلى قوله: [إِذْ وَصَّاكُمْ اللَّهُ بِهَذَا]. 7/121
2_ وهي مكية بالاتفاق، فعن ابن عباس: أنها نزلت بمكة ليلاً جملةً واحدة، كما رواه عنه عطاء، وعكرمة، والعوفي، وهو الموافق لحديث ابن عمر عن رسول الله " المتقدم آنفاً.
وروي أن قوله _تعالى_: [وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ...] الآية، نزل في مدة حياة أبي طالب، أي قبل سنة عشر من البعثة؛ فإذا صح كان ضابطاً لِسَنَةِ نزول هذه السورة.(1/243)
وروى الكلبي عن ابن عباس: أن ست آيات منها نزلت بالمدينة، ثلاثاً من قوله: [وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ] إلى منتهى ثلاث آيات، وثلاثاً من قوله: [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ] إلى قوله: [ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ].
وعن أبي جحيفة أن آية: [وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلائِكَةَ] مدنية.
وقيل: نزلت آية: [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ] الآية بالمدينة،بناء على ما ذكر من سبب نزولها الآتي.
وقيل: نزلت آية: [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ...]الآية، وآية: [فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ...]الآية كلتاهما بالمدينة؛ بناءً على ما ذكر من أسباب نزولهما _كما سيأتي_.
وقال ابن العربي في أحكام القرآن عند قوله _تعالى_: [قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً] الآيةَ _ أنها في قول الأكثر نزلت يوم نزول قوله _تعالى_: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] الآيةَ _ أي سنة عشر؛ فتكون هذه الآيات مستثناة من مكية السورة ألحقت بها.
وقال ابن عطية في تفسير قوله _تعالى_: [وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ...]الآية من هذه السورة: إن النَّقَّاش حكى أن سورة الأنعام كلها مدنية، ولكن قال ابن الحصار: لا يصح نقل في شيء نزل من الأنعام في المدينة.
وهذا هو الأظهر وهو الذي رواه أبو عبيد، والبيهقي، وابن مردويه، والطبراني عن ابن عباس، وأبو الشيخ عن أبي بن كعب.
وعن ابن عباس أنها نزلت بمكة جملة واحدة، ودعا رسول الله"الكُتَّاب؛ فكتبوها من ليلتهم.
وروى سفيان الثوري، وشريك عن أسماء بنت يزيد الأنصارية: نزلت سورة الأنعام على رسول الله " جملةً وهو في مسير، وأنا آخذة بزمام ناقته إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة.(1/244)
ولم يعينوا هذا المسير ولا زمنه غير أن أسماء هذه لا يعرف لها مجيء إلى رسول الله " قبل هجرته، ولا هي معدودة فيمن تابع في العقبة الثانية حتى يقال: إنها لقيته قبل الهجرة، وإنما المعدودة أسماء بنت عمرو بن عدي؛ فحالُ هذا الحديث غير بَيِّن، ولعله التبس فيه قراءة السورة في ذلك السفر بأنها نزلت حينئذ.
قالوا: ولم تنزل من السور الطوال سورة جملة واحدة غيرها. 7/121_122
3_ أغراض هذه السورة: ابتدأت بإشعار الناس بأن حقَّ الحمدِ ليس إلا لله؛ لأنه مبدع العوالم جواهرَ(1) وأعراضاً(2) فعلم أنه المتفردُ بالإلهية.
وإبطالُ تأثيرِ الشركاء من الأصنام والجن بإثبات أنه المتفردُ بخلق العالمِ جواهرِه وأعراضِهِ، وخلقِ الإنسان، ونظامِ حياته وموته بحكمته _تعالى_ وعلمه، ولا تملك آلهتهم تصرفاً ولا علماً.
وتنزيهُ الله عن الولد والصاحبة.
قال أبو إسحاق الإسفرائيني: =في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد+.
__________
(1) _ الجواهر: جمع جوهر، والجوهر خلاف العَرَض؛ الجوهر ما كان قائماً بنفسه كالجسم مثلاً، والعرض ما كان قائماً بغيره كاللون كبياض الثلج، وسواد القار؛ فهي قائمة بغيرها لا بنفسها.
(2) _ الأعراض: جمع عرض، والعرض هو ما لا ثبات له أو هو: ما ليس بلازم للشيء.
أو هو: ما لا يمتنع انفكاكه عن الشيء. انظر التعريفات للجرجاني ص153_154
ومن الأمثلة على ذلك: الفرح بالنسبة للإنسان فهو عَرَض؛ لأنه لا ثبات، بل هو عارض يعرض ويزول.
وكذلك الغضب، والرضا.
والعَرَض في اصطلاح المتكلمين _كما قال الفيومي_: =ما لا يقوم بنفسه، ولا يوجد إلا في محل يقوم به+. المصباح المنير للفيومي ص209.
وقال الراغب الأصفهاني: =والعرض ما لا يكون له ثبات، ومنه استعار المتكلمون العَرَض لما لا ثبات له إلا بالجوهر كاللون والطعم+. معجم مفردات ألفاظ القرآن ص342. (م)(1/245)
وموعظةُ المعرضين عن آيات القرآن والمكذبين بالدين الحق، وتهديدُهم بأن يَحِلَّ بهم ما حل بالقرون المكذبين من قبلهم والكافرين بنعم الله _تعالى_ وأنهم ما يضرون بالإنكار إلا أنفسهم.
ووعيدُهم بما سيلقون عند نزع أرواحهم، ثم عند البعث.
وتسفيهُ المشركين فيما اقترحوه على النبي " من طلب إظهار الخوارق؛ تهكماً.
وإبطالُ اعتقادهم أن الله لَقَّنهم على عقيدة الإشراك؛ قصداً منهم لإفحام الرسول"وبيانُ حقيقة مشيئة الله، وإثباتُ صدق القرآن بأن أهل الكتاب يعرفون أنه الحق، والإنحاء على المشركين تكذيبَهم بالبعث، وتحقيقُ أنه واقعٌ، وأنهم يشهدون بعده العذابَ، وتتبرأ منهم آلهتُهم التي عبدوها، وسيندمون على ذلك، كما أنها لا تغني عنهم شيئاً في الحياة الدنيا؛ فإنهم لا يَدْعون إلا الله عند النوائب.
وتثبيتُ النبيِّ " وأنه لا يؤاخذ بإعراض قومه، وأَمْرُه بالإعراض عنهم.
وبيانُ حكمةِ إرسال الله الرسل، وأنها الإنذارُ والتبشيرُ، وليست وظيفةُ الرسل إخبارَ الناس بما يتطلبون عِلْمَه من المغيبات.
وأن تفاضل َالناس بالتقوى، والانتساب إلى دين الله.
وإبطالُ ما شرعه أهلُ الشرك من شرائعِ الضلال.
وبيانُ أن التقوى الحقَّ ليست مجردَ حرمانِ النفسِ من الطيبات، بل هي حرمان النفس من الشهوات التي تَحُولُ بين النفس وبين الكمال والتزكية.
وضربُ المثلِ للنبي مع قومه بمثل إبراهيم مع أبيه وقومه، وكان الأنبياء والرسل على ذلك المثل مَنْ تَقَدَّمَ منهم، ومَنْ تَأَخَّر.
والمنةُ على الأمة بما أنزل الله من القرآن؛ هدىً لهم كما أنزل الكتاب على موسى، وبأن جعلها الله خاتمة الأمم الصالحة.
وبيانُ فضيلةِ القرآنِ ودينِ الإسلام، وما منحَ اللهُ لأهله من مضاعفة الحسنات.
وتخلَّلت ذلك قوارعُ للمشركين، وتنويهٌ بالمؤمنين، وامتنانٌ بِنَعَمٍ اشتملت عليها مخلوقاتُ اللهِ، وذكرُ مفاتح الغيب. 7/123_124(1/246)
4_ وهي أجمعُ سورِ القرآن لأحوال العرب في الجاهلية، وأشدُّها مقارعةَ جدالٍ لهم واحتجاج على سفاهة أحوالهم من قوله: [وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً] وفيما حرموه على أنفسهم مما رزقهم الله. 7/125
5_ واللعب: عمل أو قول في خفة وسرعة وطيش ليست له غاية مفيدة، بل غايته إراحة البال وتقصير الوقت، واستجلاب العقول في حالة ضعفها كعقل الصغير وعقل المتعب، وأكثره أعمال الصبيان.
قالوا: ولذلك فهو مشتق من اللَّعاب، وهو ريق الصبي السائل، وضد اللعب الجد.
واللهو: ما يشتغل به الإنسان مما ترتاح إليه نفسه، ولا يتعب في الاشتغال به عقله؛ فلا يُطْلَقُ إلا على ما فيه استمتاعٌ ولذةٌ وملائمةٌ للشهوة.
وبين اللهو واللعب العموم والخصوص الوجهي؛ فهما يجتمعان في العمل الذي فيه ملاءمة، ويقارنه شيء من الخفة والطيش كالطرب واللهو بالنساء.
وينفرد اللعب في لعب الصبيان، وينفرد اللهو في نحو الميسر والصيد. 7/193
6_ والمماثلة في قوله: [أَمْثَالُكُم] التشابه في فصول الحقائق والخاصات التي تميز كل نوع من غيره، وهي النُّظُم الفطرية التي فطر الله عليها أنواع المخلوقات.
فالدواب والطير تماثل الأناسي في أنها خلقت على طبيعة تشترك فيها أفراد أنواعها، وأنها مخلوقة لله، معطاةٌ حياةً مقدرةً مع تقدير أرازقها وولادتها وشبابها وهرمها، ولها نظم لا تستطيع تبديلها.
وليست المماثلة براجعة إلى جميع الصفات؛ فإنها لا تماثل الإنسان في التفكير والحضارة المكتسبة من الفكر الذي اختص به الإنسان.
ولذلك لا يصح أن يكون لغير الإنسان نظام دولة، ولا شرائع، ولا رسل ترسل إليهن؛ لانعدام عقل التكليف فيهن، وكذلك لا يصح أن توصف بمعرفة الله _تعالى_.
وأما قوله _تعالى_: [وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ] فذلك بلسان الحال في العجماوات حين نراها بهجة عند حصول ما يلائمها فنراها مرحة فرحة.(1/247)
وإنما ذلك بما ساق الله إليها من النعمة وهي لا تفقه أصلها، ولكنها تحس بأثرها فتبتهج، ولأن في كل نوع منها خصائص لها دلالة على عظيم قدرة الله وعلمه تختلف عن بقية الأنواع من جنسه.
والمقصد من هذا صرف الأفهام إلى الاعتبار بنظام الخلق الذي أودعه الله في كل نوع.
والخطاب في قوله: [أَمْثَالُكُمْ] موجه إلى المشركين. 7/217
7_ وظهور ما في البر للناس على الجملة أقوى من ظهور ما في البحر، وذِكْرُ البر والبحر؛ لقصد الإحاطة بجميع ما حوته هذه الكُرَة؛ لأن البر هو سطح الأرض الذي يمشي فيه الحيوان غير سابح، والبحر هو الماء الكثير الذي يغمر جزءاً من الأرض سواء كان الماء ملحاً أم عذباً.
والعرب تسمي النهر بحراً كالفرات ودجلة. 7/272
8_ واعلم أني تطلبت كشف القناع عن وجه الاقتصار على تسمية هؤلاء الأنبياء من بين سائر الأنبياء من ذرية إبراهيم أو ذرية نوح على الوجهين في معاد ضمير [ذُرِّيَّتِهِ] فلم يتضح لي، وتطلبت وجه ترتيب أسمائهم هذا الترتيب، وموالاة بعض هذه الأسماء لبعض في العطف، فلم يبد لي.
وغالب ظني أن من هذه الوجوه كون هؤلاء معروفون(1) لأهل الكتاب وللمشركين الذين يقتبسون معرفة الأنبياء من أهل الكتاب، وأن المناسبة في ترتيبهم لا تخلو من أن تكون ناشئة عن الابتداء بذكر أن إسحاق ويعقوب موهبة لإبراهيم، وهما أب وابنه؛ فنشأ الانتقال من واحد إلى آخر بمناسبة للانتقال، وأن توزيع أسمائهم على فواصل ثلاث لا يخلو عن مناسبة تجمع بين أصحاب تلك الأسماء في الفاصلة الشاملة لأسمائهم.
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: معروفين؛ لأنه خبر الكون. (م)(1/248)
ويجوز أن خفة أسماء هؤلاء في تعريبها إلى العربية حروفاً ووزناً لها أثر في إيثارها بالذكر دون غيرها من الأسماء نحو (شمعون وشمويل وحزقيال ونحميا) وأن المعدودين في هذه الآيات الثلاث توزعوا الفضائل؛ إذ منهم الرسل والأنبياء والملوك، وأهل الأخلاق الجليلة العزيزة من الصبر وجهاد النفس، والجهاد في سبيل الله، والمصابرة لتبليغ التوحيد والشريعة، ومكارم الأخلاق، كما أشار إلى ذلك قوله _تعالى_ في آخر الآيات: [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ] ومن بينهم أصلاً الأمتين العربية والإسرائيلية.
فلما ذكر إسحاق ويعقوب أردف ذِكْرَهما بذكر نبيين من ذرية إسحاق ويعقوب، وهما أب وابنه من الأنبياء هما داود وسليمان مبتدءاً بهما على بقية ذرية إسحاق ويعقوب؛ لأنهما نالا مجدين عظيمين: مجدَ الآخرة بالنبوة، ومجدَ الدنيا بالملك.
ثم أردف بذكر نبيين تماثلا في أن الضر أصاب كليهما، وأن انفراج الكرب عنهما بصبرهما.
وهما أيوب ويوسف، ثم بذكر رسولين أخوين هما موسى وهارون، وقد أصاب موسى مثل ما أصاب يوسف من الكيد له لقتله، ومن نجاته من ذلك، وكفالته في بيت الملك؛ فهؤلاء الستة شملتهم الفاصلة الأولى المنتهية بقوله _تعالى_: [وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ].
ثم بذكر نبيين أب وابنه وهما زكريا ويحيى؛ فناسب أن يذكر بعدهما رسولان لا ذرية لهما، وهما عيسى وإلياس، وهما متماثلان في أنهما رفعا إلى السماء؛ فأما عيسى فرفعه مذكور في القرآن، وأما إلياس فرفعه مذكور في كتب الإسرائيليين، ولم يذكره المفسرون من السلف.
وقد قيل: إن إلياس هو إدريس وعليه؛ فرفعه مذكور في قوله _تعالى_:[وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً] في سورة مريم.(1/249)
وابتدئ بعيسى عطفاً على يحيى؛ لأنهما قريبان ابنا خالة، ولأن عيسى رسول، وإلياس نبي غير رسول، وهؤلاء الأربعة تضمنتهم الفاصلة الثانية المنتهية بقوله _تعالى_: [كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ].
وعطف اليسع؛ لأنه خليفة إلياس، وتلميذه، وأدمج بينه وبين إلياس إسماعيل؛ تَنْهِيَةً بذكر النبي الذي إليه ينتهي نسب العرب من ذرية إبراهيم.
وخُتِموا بيونس ولوط؛ لأن كلا منهما أرسل إلى أمة صغيرة.
وهؤلاء الأربعة تضمنتهم الفاصلة الثالثة المنتهية بقوله: [وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ]. 7/347_348
9_ والسب: كلام يدل على تحقير أحد، أو نسبته إلى نقيصة أو مَعَرَّة بالباطل أو بالحق، وهو مرادف الشتم.
وليس من السب النسبة إلى خطإ في الرأي أو العمل، ولا النسبة إلى ضلال في الدين إن كان صدر من مخالف في الدين. 7/427
10_ ووجه النهي عن سب أصنامهم: هو أن السب لا تترتب عليه مصلحة دينية؛ لأن المقصود من الدعوة هو الاستدلال على إبطال الشرك، وإظهار استحالة أن تكون الأصنام شركاء لله _تعالى_ فذلك هو الذي يتميز به الحق عن الباطل، وينهض به المحق، ولا يستطيعه المبطل.
فأما السب فإنه مقدور للمحق وللمبطل؛ فيظهر بمظهر التساوي بينهما.
وربما استطاع المبطل بوقاحته وفحشه ما لا يستطيعه المحق؛ فَيَلُوحُ للناس أنه تغلب على المحق.
على أن سب آلهتهم لما كان يُحْمِي غيظَهم، ويزيد تصلبهم قد عاد منافياً لمراد الله من الدعوة؛ فقد قال لرسوله _عليه الصلاة والسلام_: [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ].
وقال لموسى وهارون _عليهما السلام_: [فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً].
فصار السب عائقاً عن المقصود من البعثة؛ فتمحض هذا السب للمفسدة، ولم يكن مشوباً بمصلحة.
وليس هذا مثل تغيير المنكر إذا خيف إفضاؤه إلى مفسدة، لأن تغيير المنكر مصلحة بالذات، وإفضاؤه إلى المفسدة بالعَرَض.(1/250)
وذلك مجال تتردد فيه أنظارُ العلماءِ المجتهدين بحسب الموازنة بين المصالح والمفاسد قوةً وضعفاً، وتحققاً واحتمالاً.
وكذلك القول في تعارض المصالح والمفاسد كلها. 7/430
11_ وتقديم الأفئدة على الأبصار لأن الأفئدة بمعنى العقول، وهي محل الدواعي والصوارف؛ فإذا لاح للقلب بارق الاستدلال وجَّهَ الحواسَّ إلى الأشياء، وتأمَّل منها.
والظاهر أن وجه الجمع بين الأفئده والأبصار، وعدم الاستغناء بالأفئدة عن الأبصار؛ لأن الأفئدة تختص بإدراك الآيات العقلية المحضة، مثل آية الأمية، وآية الإعجاز.
ولما لم تكفهم الآيات العقلية، ولم ينتفعوا بأفئدتهم لأنها مُقَلَّبة عن الفطرة، وسألوا آياتٍ مرئيةً مبصرةً، كأن يرقى في السماء، ويُنَزِّل عليهم كتاباً في قرطاس، وأخبر الله رسوله " والمسلمين بأنهم لو جاءتهم آية مبصرة لما آمنوا؛ لأن أبصارهم مُقَلَّبة _أيضاً_ مثل تقليب عقولهم. 7/443
12_ وقوله: [أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً] عطف على [آمَنَتْ] أي أو لم تكن كسبت في إيمانها خيراً.
و(في) للظرفية، وإنما يصلح للظرفية مدة الإيمان، لا الإيمان، أي أو كسبت في مدة إيمانها خيراً.
والخير هو الأعمال الصالحة والطاعات.
و(أو) للتقسيم في صفات النفس فيستلزم تقسيم النفوس التي خصصتها الصفتان إلى قسمين: نفوس كافرة لم تكن آمنت من قبل؛ فلا ينفعها إيمانها يوم يأتي بعض آيات الله، ونفوس آمنت ولم تكسب خيراً في مدة إيمانها؛ فهي نفوس مؤمنة؛ فلا ينفعها ما تكسبه من خير يوم يأتي بعض آيات ربك.
وهذا القسم الثاني ذو مراتب متفاوتة؛ لأن التقصير في اكتساب الخير متفاوت؛ فمنه إضاعةٌ لأعمال الخير كلها، ومنه إضاعةٌ لبعضها، ومنه تفريطٌ في الإكثار منها.
وظاهر الآية يقتضي أن المرادَ نفوسٌ لم تكسبْ في إيمانها شيئاً من الخير أي اقتصرت على الإيمان، وفرطت في جميع أعمال الخير.(1/251)
وقد عُلِمَ من التقسيم أن هذه النفوس لا ينفعها اكتساب الخير من بعد مجيء الآيات، ولا ما يقوم مقام اكتساب الخير عند الله، وهو ما مَنَّ به على هذه الأمة من غفران السيئات عند التوبة؛ فالعزم على الخير هو التوبة، أي العزم على اكتساب الخير؛ فوقع في الكلام إيجازُ حذفٍ؛ اعتماداً على القرينة الواضحة.
والتقدير: لا ينفع نفساً غير مؤمنة إيمانها، أو نفساً لم تكن كسبت خيراً في إيمانها من قبل كسبها، يعني أو ما يقوم مقام كسب الخير، مثل التوبة؛ فإنها بعض اكتساب الخير؛ وليس المراد أنه لا ينفع نفساً مؤمنةً إيمانها إذا لم تكن قد كسبت خيراً بحيث يضيع الإيمان إذا لم يقع اكتساب الخير، لأنه لو أريد ذلك لما كانت فائدة للتقسيم، ولكفى أن يُقال: لا ينفع نفساً إيمانها لم تكسب خيراً؛ لأن الأدلة القطعية ناهضةٌ على أن الإيمان الواقع قبل مجيء الآيات لا يُدْحَض إذا فرط صاحبه في شيء من الأعمال الصالحة، ولأنه لو كان كذلك وسلَّمناه لما اقتضى أكثر من أن الذي لم يفعل شيئاً من الخير عَدَا أنه آمن لا ينفعه إيمانه، وذلك إيجاد قِسْم لم يقل به أحد من علماء الإسلام.
وبذلك تعلم أن الآية لا تنهض حجة للمعتزلة ولا الخوارج الذين أوجبوا خلود مرتكب الكبيرة غير التائب في النار، والتسوية بينه وبين الكافر، وإن كان ظاهرها قبل التأمل يوهم أنها حجة لهم، ولأنه لو كان الأمر كما قالوا لصار الدخول في الإيمان مع ارتكاب كبيرة واحدة عبثاً لا يرضاه عاقل لنفسه؛ لأنه يدخل في كلفة كثير من الأعمال بدون جدوى عليه منها، ولكان أهون الأحوال على مرتكب الكبيرة أن يخلع ربقة الإيمان إلى أن يتوب من الأمرين جميعاً.
وسخافة هذا اللازم لأصحاب هذا المذهب سخافةٌ لا يرضاها مَنْ له نظر ثاقب.(1/252)
والاشتغال بتبيين ما يستفاد من نظم الآية من ضبط الحد الذي ينتهي عنده الانتفاع بتحصيل الإيمان وتحصيل أعمال الخير _ أجدى من الخوض في لوازم معانيها من اعتبار الأعمال جزءاً من الإيمان، لا سيما مع ما في أصل المعنى من الاحتمال المسقط للاستدلال.
فَصِفَةُ: [لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ] تحذير للمشركين من التريث عن الإيمان؛ خشية أن يبغتهم يوم ظهور الآيات، وهم المقصود من السياق.
وصفة [أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً] إدماج في أثناء المقصود؛ لتحذير المؤمنين من الإعراض عن الأعمال الصالحة.8_1/187_189
13_ ومعنى كون الإسلام ملةَ إبراهيمَ: أنه جاء بالأصول التي هي شريعة إبراهيم وهي: التوحيد, ومسايرة الفطرة, والشكر, والسماحة, وإعلان الحق.8_1/200
14_ ومن لطائف القرآن الاقتصار في وصف [سَرِيعُ الْعِقَابِ] على مؤكد واحد، وتعزيز وصف [الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] بمؤكدات ثلاثة وهي إن، ولام الابتداء، والتوكيد اللفظي؛ لأن [الرَّحِيم] يؤكد معنى [الْغَفُورُ] لِيُطَمْئِنَ أهل العمل الصالح إلى مغفرة الله ورحمته، ولِيَسْتَدعيَ أهل الإعراض والصدوف إلى الإقلاع عما هم فيه. 8_1/212
1_ هذا هو الاسم الذي عرفت به هذه السورة، من عهد النبي".
أخرج النسائي، من حديث أبي مليكة، عن عروة بن زيد بن ثابت: أنه قال لمروان بن الحكم: ما لي أراك تقرأ في المغرب بقصار السور وقد رأيت رسول الله"يقرأ فيها بأطول الطوليين.
قال مروان قلت: يا أبا عبد الله ما أطول الطوليين، قال: الأعراف. 8_2/5
2_ ووجه تسميتها أنها ذكر فيها لفظ الأعراف بقوله _تعالى_: [وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ] الآية.(1/253)
ولم يذكر في غيرها من سور القرآن، ولأنها ذكر فيها شأن أهل الأعراف في الآخرة، ولم يذكر في غيرها من السور بهذا اللفظ، ولكنه ذكر بلفظ [سُورٍ] في قوله: [فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ] في سورة الحديد. 8_2/5
3_ وربما تدعى بأسماء الحروف المقطعة التي في أولها وهي: =ألف _ لام _ ميم _ صاد+.
أخرج النسائي من حديث أبي الأسود، عن عروة، عن زيد بن ثابت: أنه قال لمروان: لقد رأيت رسول الله"يقرأ في المغرب بأطول الطوليين: =ألف، لام، ميم، صاد+.
وهو يجيء على القول بأن الحروف المقطعة التي في أوائل بعض السور هي أسماء للسور الواقعة فيها، وهو ضعيف، فلا يكون [المص] اسماً للسورة، وإطلاقه عليها إنما هو على تقدير التعريف بالإضافة إلى السورة ذات ألمص. 8_2/5_6
4_ وذكر الفيروز بادي في كتاب بصائر ذوي التمييز أن هذه السورة تسمى سورة الميقات؛ لاشتمالها على ذكر ميقات موسى في قوله: [وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا] وأنها تسمى سورة الميثاق؛ لاشتمالها على حديث الميثاق في قوله: [أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى].8_2/6
5_ وهي مكية بلا خلاف، ثم قيل: جميعها مكي. 8_2/6
6_ وهي من السبع الطوال التي جعلت في أول القرآن لطولها وهي سُوَرُ: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، وبراءة.
وقدم المدني منها وهي سور: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة؛ ثم ذكر المكي وهو: الأنعام، والأعراف على ترتيب المصحف العثماني؛ اعتباراً بأن سورة الأنعام أنزلت بمكة بعد سورة الأعراف؛ فهي أقرب إلى المدني من السور الطوال. 8_2/7(1/254)
7_ أغراضها: افتتحت هذه السورةُ بالتنويهِ بالقرآن، والوعدِ بتيسيره على النبي" لِيُبَلِّغَهُ، وكان افتتاحها كلاماً جامعاً وهو مناسب لما اشتملت عليه السورة من المقاصد؛ فهو افتتاح وارد على أحسن وجوه البيان، وأكملها شأنَ سورِ القرآن.
وتدورُ مقاصدُ هذه السورةِ على محورِ مقاصدَ منها: النهيُ عن اتخاذ الشركاء من دون الله، وإنذارُ المشركين عن سوء عاقبة الشرك في الدنيا والآخرة، ووصفُ ما حلَّ بالمشركين والذين كذبوا الرسل: من سوء العذاب في الدنيا، وما سيحل بهم في الآخرة، وتذكيرُ الناس بنعمة خلق الأرض، وتمكينِ النوع الإنساني من خيرات الأرض، وبنعمةِ الله على هذا النوع بخلق أصله وتفضيله.
وما نشأ من عداوة جنس الشيطان لنوع الإنسان.
وتحذيرُ الناسِ من التلبس ببقايا مكر الشيطان من تسويله إياهم حرمانَ أنفسِهم الطيباتِ، ومن الوقوع فيما يَزُجُّ بهم في العذاب في الآخرة.
ووصفُ أهوالِ يومِ الجزاءِ للمجرمين، وكراماتِه للمتقين.
والتذكيرُ بالبعث، وتقريبُ دليله.
والنهيُ عن الفساد في الأرض التي أصلحها الله لفائدةِ الإنسان.
والتذكيرُ ببديع ما أوجده الله لإصلاحها وإحيائها.
والتذكيرُ بما أودع اللهُ في فطرةِ الإنسان من وقت تكوين أصله أن يقبلوا دعوةَ رسلِ الله إلى التقوى والإصلاح.
وأفاضَ في أحوال الرسل مع أقوامهم المشركين، وما لاقوه من عنادهم وأذاهم، وأنذر بعدم الاغترار بإمهالِ اللهِ الناسَ قبل أن ينزل بهم العذاب، وإعذاراً لهم أن يُقْلعوا عن كفرهم وعنادهم؛ فإن العذاب يأتيهم بغتة بعد ذلك الإمهال.
وأطال القولَ في قصة موسى _عليه السلام_ مع فرعون وفي تصرفات بني إسرائيل مع موسى _عليه السلام_.
وتخلَّلَ قِصتَه بشارةُ اللهِ ببعثة محمد " وصفةُ أمته، وفضلُ دينه.
ثم تَخَلَّصَ إلى موعظة المشركين كيف بدَّلوا الحنيفية، وتقلَّدوا الشرك، وضربَ لهم مثلاً بمن آتاه الله الآيات، فوسوس له الشيطان؛ فانسلخ عن الهدى.(1/255)
ووصفُ حالِ أهل الضلالة، ووصفُ تكذيبهم بما جاء به الرسول، ووصفُ آلهتهم بما ينافي الإلهية، وأن لله الصفاتِ الحسنى صفاتِ الكمال.
ثم أمر الله رسوله _عليه الصلاة والسلام_ والمسلمين بسعة الصدر، والمداومة على الدعوة، وحذرهم من مداخل الشيطان بمراقبة الله بذكره سراً وجهراً، والإقبالِ على عبادته. 8_2/7_9
8_ [وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ] عطف على جملة: [وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ].
فهذا تذكير لهم بأن الله هو ولي الخلق؛ لأنه خالقهم على وجه الأرض، وخالق ما بِهِ عَيْشُهم الذي به بقاءُ وجودِهم إلى أجل معلوم، وتوبيخٌ على قلة شكرها، كما دل عليه تذييل الجملة بقوله: [قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ] فإن النفوس التي لا يزجرها التهديد قد تنفعها الذكريات الصالحة، وقد قال أحد الخوارج وطُلِبَ منه أن يخرج إلى قتال الحجاج بن يوسف وكان قد أسدى إليه نعماً.
أأقاتل الحجاج عن سلطانه ... بيَدٍ تُقِرُّ بأنها مولاته
8_2/33
9_ وقوله: [وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ] أشد في التحذير من أن ينهى عن الأكل منها؛ لأن النهي عن قربانها سدٌّ لذريعة الأكل منها، وقد تقدم نظيره في سورة البقرة.
والنهي عن قربان شجرة خاصة من شجر الجنة يُحْتَملُ أن يكون نهي ابتلاء، جعل الله شجرة مستثناة من شجر الجنة من الإذن بالأكل منها؛ تهيئةً للتكليف بمقاومة الشهوة؛ لامتثال النهي.
فلذلك جعل النهي عن تناولها محفوفةً بالأشجار المأذون فيها؛ ليلتفت إليها ذِهْنَهما بتركها، وهذا هو الظاهر؛ ليتكون مختلفُ القوى العقلية في عقل النوع بتأسيسها في أصل النوع؛ فتنتقل بعده إلى نسله.
وذلك من اللطف الإلهي في تكوين النوع، ومن مظاهر حقيقة الربوبية والمربوبية؛ حتى تحصل جميع القوى بالتدريج؛ فلا يشق وضعها دفعة على قابلية العقل.(1/256)
وقد دلت الآياتُ على أن آدمَ لما ظهر منه خاطرُ المخالفةِ أَكَلَ من الشجرة المنهيِّ عنها، فأعقبه الأكل حدوث خاطر الشعور بما فيه من نقائصَ أدركها بالفطرة، فمعناه أنه زالت منه البساطة والسذاجة.
ويحتمل أن يكون ذلك لخصوصية في طبع تلك الشجرة أن تثير في النفس علم الخير والشر كما جاء في التوراة أن الله نهاه عن أكل شجرة معرفة الخير والشر.
وهذا _عندي_ بعيد، وإنما حكى الله لنا هيئة تطور العقل البشري في خِلْقَةِ أصل النوع البشري نظيرَ صُنْعِهِ في قوله: [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]. 8_2/54_55
10_ فقوله _تعالى_: [فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا] لا يدل على أكثر من حصول ظهور السوآت عند ذوق الشجرة، أي أن الله جعل الأمرين مقترنين في الوقت، ولكن هذا التقارن هو لكون الأمرين مُسَبَّبين عن سبب واحد، وهو خاطر السوء الذي نفثه الشيطان فيهما؛ فَسَبَّبَ الإقدامَ على المخالفة للتعاليم الصالحة، والشعور بالنقيصة؛ فقد كان آدم وزوجه في طور سذاجة العلم، وسلامة الفطرة شبيهين بالملائكة لا يقدمان على مفسدة ولا مضرة، ولا يعرضان عن نصح ناصح علما صِدْقَه إلى خبرِ مُخْبِرٍ يَشُكَّان في صدقه، ويتوقعان غرورَه، ولا يشعران بالسوء في الأفعال، ولا في ذرائعها ومقارناتها؛ لأن الله خلقهما في عالم ملكي، ثم تطورت عقليتهما إلى طور التصرف في تغيير الوجدان، فَتَكَوَّن فيهما فعلُ ما نهيا عنه، ونشأ من ذلك التطورِ الشعورُ بالسوءِ للغير، وبالسوءِ للنفس، والشعور بالأشياء التي تؤدي إلى السوءِ، وتُقَارِنُ السوءَ وتلازمه. 8_2/62_63
11_ فالطفل في أول عمره يكون بريئاً من خواطر السوء؛ فلا يستاء من تلقاء نفسه إلا إذا لحق به مؤلم خارجي، ثم إذا ترعرع أخذت خواطر السوء تنتابه في باطن نفسه، فيفرضها، ويولدها، وينفعل بها، أو يفعل بما تشيرُ بِهِ عليه. 8_2/63_64(1/257)
12_ وإذ قد كانت نفوس الشياطين داعية إلى الشر بالجِبِلَّة تعيَّن أن عقل الإنسان منصرفٌ بِجِبِلَّته إلى الخير، ولكنه معرضٌ لوسوسة الشياطين؛ فيقع في شذوذ عن أصل فطرته، وفي هذا ما يكون مفتاحاً لمعنى كون الناس يولدون على الفطرة، وكون الإسلام دين الفطرة، وكون الأصل في الناس الخير.
أما كون الأصل في الناس العدالة أو الجرح فذلك منظور فيه إلى خشية الوقوع في الشذوذ من حيث لا يدري الحاكم ولا الراوي؛ لأن أحوال الوقوع في ذلك الشذوذ مبهمةٌ؛ فوجب التبصر في جميع الأحوال. 8_2/68
13_ فقوله: [قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ]: نقض لدعواهم أن الله أمرهم بها أي بتلك الفواحش، وهو ردٌّ عليهم، وتعليمٌ لهم، وإفاقةٌ لهم من غرورهم؛ لأن الله متصف بالكمال، فلا يأمر بما هو نقص لم يَرْضَهُ العقلاءُ وأنكروه؛ فكونُ الفعلِ فاحشةً كافٍ في الدلالة على أن الله لا يأمر به؛ لأن الله له الكمال الأعلى، وما كان اعتذارهم بأن الله أمر بذلك إلا عن جهل؛ ولذلك وبخهم الله بالاستفهام التوبيخي بقوله: [أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ].
أي ما لا تعلمون أن الله أمر به؛ فحذف المفعول لدلالة ما تقدم عليه؛ لأنهم لم يعلموا أن الله أمرهم بذلك؛ إذ لا مستند لهم فيه، وإنما قالوه عن مجرد التوهم، ولأنهم لم يعلموا أن الله لا يليق بجلاله وكماله أن يأمر بمثل تلك الرذائل. 8_2/84_85
14_ وبهذا الرد تمحض عملهم تلك الفواحشَ للضلال والغرور، واتباع وحي الشياطين إلى أوليائهم أئمة الكفر، وقادة الشرك مثل عمرو بن لحي الذي وضع عبادة الأصنام، ومثل أبي كبشة الذي سن عبادة الشِّعرى من الكواكب، ومثل ظالم بن أسعد الذي وضع عبادة العُزَّى، ومثل القَلَمّس الذي سن النسيء، إلى ما اتصل بذلك من موضوعات سدنة الأصنام، وبيوت الشرك. 8_2/85(1/258)
15_ وإقامة الوجوه تمثيل لكمال الإقبال على عبادة الله _تعالى_ في مواضع عبادته _ بحال المتهيئ لمشاهدة أمرٍ مُهِمٍّ حين يوجِّه وجْهَهُ إلى صوبه، لا يلتفت يمنة ولا يسرة؛ فذلك التوجه المحض يطلق عليه إقامة؛ لأنه جعل الوجه قائماً، أي غير متغاضٍ ولا متوانٍ في التوجه، وهو في إطلاق القيام على القوة في الفعل كما يقال: قامت السوق، وقامت الصلاة، وقد تقدم في أول سورة البقرة عند قوله: [وَيُقِيمُونَ الصَّلاة] ومنه قوله _تعالى_: [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً].
فالمعنى أن الله أمر بإقامة الوجوه عند المساجد؛ لأن ذلك هو تعظيم المعبود، ومكان العبادة.
ولم يأمر بتعظيمه ولا تعظيم مساجده بما سِوَى ذلك مثل التعري.
وإشراكُ الله بغيره في العبادة منافٍ لها _أيضاً_ وهذا كما ورد في الحديث: =المصلي يناجي ربه؛ فلا يبصقن قبل وجهه+.
فالنهي عن التعري مقصود هنا؛ لشمول اللفظ إياه، ولدلالة السياق عليه بتكرير الامتنان والأمر باللباس ابتداءً من قوله: [لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا]إلى هنا. 8_2/87_88
16_ فالمقصد من قوله: [خُذُوا زِينَتَكُمْ]: إبطال ما زعمه المشركون من لزوم التعري في الحج في أحوال خاصة، وعند مساجد معينة؛ فقد أخرج مسلم عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عُرْيانةٌ وتقول من يعيرني تطوافاً تجعله على فرجها وتقول:
اليوم يبدو بعضُه أو كُلُّه ... وما بدا منه فلا أحلُّه
وأخرج مسلم عن عروة بن الزبير، قال: =كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحُمْس، والحمسُ قريش وما ولدت، فكان غيرهم يطوفون عراة إلا أن يعطيهم الحمس ثياباً، فيُعْطِي الرجالُ الرجالَ، والنساءُ النساءَ+.
وعنه: =أنهم كانوا إذا وصلوا إلى منى طرحوا ثيابهم، وأتوا المسجد عراة+.
وروي أن الحمس كانوا يقولون: نحن أهل الحرم؛ فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا.(1/259)
فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوباً، ولا يجد ما يستأجر به _ كان بين أحد أمرين إما أن يطوف بالبيت عرياناً، وإما أن يطوف في ثيابه، فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه؛ فلم يمسه أحد وكان ذلك الثوب يسمى: اللقى بفتح اللام قال شاعرهم:
كفى حزناً كرِّي عليه كأنه ... لَقَىً بين أيدي الطائفين حرامُ
وفي الكشاف، عن طاووس: كان أحدهم يطوف عُرْياناً، ويدع ثيابه وراء المسجد، وإن طاف وهي عليه ضُرِبَ، وانْتُزِعَتْ منه؛ لأنهم قالوا: لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها.
وقد أبطله النبي " إذ أمر أبا بكر ÷ عام حجته سنة تسع أن ينادي في الموسم: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. 8_2/92_93
17_ والإسراف: تقدم عند قوله _تعالى_: [وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً] في سورة النساء، وهو تجاوز الحد المتعارف في الشيء أي: ولا تسرفوا في الأكل بكثرة أكل اللحوم والدسم؛ لأن ذلك يعود بأضرار على البدن، وتنشأ منه أمراض معضلة.
وقد قيل: إن هذه الآية جمعت أصول حفظ الصحة من جانب الغذاء؛ فالنهي عن السرف نهي إرشاد لا نهي تحريم بقرينة الإباحة اللاحقة في قوله: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ] إلى قوله: [وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ].
ولأن مقدار الإسراف لا ينضبط؛ فلا يتعلق به التكليف، ولكن يُوْكَلُ إلى تدبير الناس مصالِحَهُم، وهذا راجع إلى معنى القسط الواقع في قوله سابقاً: [قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ] فإن ترك السرف من معنى العدل. 8_2/95
18_ وقد اشتهر عند العرب نسبة العقول الراجحة إلى عاد، ونسبة كمال قوى الأجسام إليهم قال النابغة:
أحلامُ عادٍ وأجسامٌ مطهرةٌ ... من المَعَقَّةِ والآفات والإثم
وقال ودّاك بن ثميل المازني في الحماسة:
وأحلامُ عادٍ لا يخاف جليسهم ... ولو نطق العُوَّارَ غَرْبُ لسانِ
وقال قيس بن عبادة:
وأن لا يقولوا غاب قيسٌ وهذه ... سراويل عادي نَمَتهُ ثمود
8_2/206(1/260)
19_ والقوم الذين أرسل إليهم لوط _عليه السلام_ هم أهل قرية سدوم، وعمورة من أرض كنعان، وربما أطلق اسم سدوم وعمورة على سكانهما.
وهم أسلاف الفينيقيين وكانتا على شاطئ السديم، وهو بحر الملح، كما جاء في التوراة(1) وهو البحر الميت المدعو بحيرة لوط بقرب أرشليم.
وكانت قرب سدوم ومن معهم أحدثوا فاحشة استمتاع الرجال بالرجال، فأمر الله لوطاً _عليه السلام_ لما نزل بقريتهم سدوم في رحلته مع عمه إبراهيم عليه السلام أن ينهاهم، ويغلظ عليهم.
فالاستفهام في [أَتَأْتُونَ] إنكاري توبيخي، والإتيان المستفهم عنه مجاز في التلبس والعمل، أي أتعملون الفاحشة، وكني بالإتيان على العمل المخصوص وهي كناية مشهورة.
والفاحشة: الفعل الدنيء الذميم، وقد تقدم الكلام عليها عند تفسير قوله _تعالى_: [وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً]: والمراد هنا فاحشة معروفة؛ فالتعريف للعهد.
وجملة: [مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ] مستأنفةٌ استئنافاً ابتدائياً؛ فإنه بعد أن أنكر عليهم إتيان الفاحشة، وعبر عنها بالفاحشة، وبّخهم بأنهم أحدثوها، ولم تكن معروفة في البشر؛ فقد سنوا سنةً سيئة للفاحشين في ذلك. 8_2/230
20_ وقوله: [مِنْ دُونِ النِّسَاءِ] زيادة في التفظيع، وقطع للعذر في فعل هذه الفاحشة، وليس قيداً للإنكار؛ فليس إتيان الرجال مع إتيان النساء بأقل من الآخر فظاعة، ولكن المراد أن إتيان الرجال كله واقع في حالة من حقها إتيان النساء، كما قال في الآية الأخرى: [وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ]. 8_2/231
21_ ووصفهم بالإسراف بطريق الجملة الاسمية الدالة على الثبات، أي أنتم قوم تَمَكَّن منهم الإسراف في الشهوات، فلذلك اشتهوا شهوةً غريبةً لما سئموا الشهوات المعتادة.
وهذه شِنْشَنةُ الاسترسالِ في الشهوات حتى يصبح المرء لا يَشْفي شَهْوَتَهُ شيءٌ.
__________
(1) _ الإصحاح 14 من سفر التكوين.(1/261)
ونحوُه قوله عنهم في آية أخرى: [بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ]. 8_2/232
22_ ووجه تسمية هذا الفعل الشنيع فاحشةً وإسرافاً أنه يشتمل على مفاسد كثيرة: منها استعمال الشهوة الحيوانية المغروزة في غير ما غرزت عليه؛ لأن الله خلق في الإنسان الشهوة الحيوانية، لإرادة بقاء النوع بقانون التناسل، حتى يكون الداعي إليه قَهْرِيٌّ يَنساق إليه الإنسانُ بطبعه؛ فقضاءُ تلك الشهوة في غير الغرض الذي وضعها الله لأجله اعتداءٌ على الفطرة وعلى النوع، ولأنه يغير خصوصية الرُّجلَةِ بالنسبة إلى المفعول به؛ إذ يصير في غير المنزلة التي وضعه الله فيها بخلقته، ولأن فيه امتهاناً محضاً للمفعول به؛ إذ يُجْعَلُ آلة لقضاء شهوة غيره على خلاف ما وضع الله في نظام الذكورة والأنوثة من قضاء الشهوتين معاً، ولأنه مُفْضٍ إلى قطع النسل أو تقليله، ولأن ذلك الفعل يجلب أضراراً للفاعل والمفعول بسبب استعمال محلين في غير ما خلقا له. 8_2/232
23_ والتطهر تكلف الطهارة، وحقيقتها النظافة، وتطلق الطهارة _مجازاً_ على تزكية النفس والحذر من الرذائل، وهي المراد هنا، وتلك صفة كمال، لكن القوم لما تمردوا على الفسوق كانوا يعدون الكمال منافراً لطباعهم؛ فلا يطيقون معاشرة أهل الكمال، ويذمون ما لهم من الكمالات؛ فيسمونها ثِقْلاً، ولذا وصفوا تنزه لوط _ عليه السلام _ وآله تطهراً، بصيغة التكلف والتصنع، ويجوز أن يكون حكاية لما في كلامهم من التهكم بلوط _ عليه السلام _ وآله، وهذا من قلب الحقائق لأجل مشايعة العوائد الذميمة.
وأهل المجون والانخلاع، يسمون المتعفف عن سيرتهم بالتائب أو نحو ذلك، فقولهم [إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ] قصدوا به ذمهم.(1/262)
وهم قد علموا هذا التطهر من خلق لوط _عليه السلام_ وأهله لأنهم عاشروهم، ورأوا سيرتهم، ولذلك جيء بالخبر جملة فِعلَّية مُضَارَعيَّه؛ لدلالتها على أن التطهر متكرر منهم، ومتجدد، وذلك أدعى لمنافرتهم طباعهم، والغضب عليهم، وتجهم إنكار لوط _ عليه السلام _ عليهم. 8_2/235_236
24_ وأهل لوط _عليه السلام_ هم زوجه وابنتان له بكران، وكان له ابنتان متزوجتان _كما ورد في التوراة_ امتنع زوجاهما من الخروج مع لوط _عليه السلام_ فهلكتا مع أهل القرية.
وأما امرأة لوط _عليه السلام_ فقد أخبر الله عنها هنا أن الله لم يُنْجِها، فهلكت مع قوم لوط، وذكر في سورة هود ما ظاهره أنها لم تمتثل ما أمر الله لوطاً _عليه السلام_ أن لا يلتفت هو ولا أحد من أهله الخارجين معه إلى المدن حين يصيبها العذاب؛ فالتفتت امرأته فأصابها العذاب، وذكر في سورة التحريم أن امرأة لوط _عليه السلام_ كانت كافرة.
وقال المفسرون: كانت تُسِرُّ الكفر، وتظهر الإيمان، ولعل ذلك سبب التفاتها؛ لأنها كانت غير موقنة بنزول العذاب على قوم لوط، ويحتمل أنها لم تخرج مع لوط _عليه السلام_ وأن قوله: [إِلاَّ امْرَأَتَكَ] في سورة هود، استثناء من [أَهْلِكَ] لا من [أَحَدٌ].
لعل امرأة لوط _عليه السلام_ كانت من أهل سدوم تزوجها لوط _عليه السلام_ هنالك بعد هجرته؛ فإنه أقام في سدوم سنين طويلة بعد أن هلكت أم بناته وقبل أن يُرْسَل، وليست هي أم بنتيه؛ فإن التوراة لم تذكر امرأة لوط _عليه السلام_ إلا في آخر القصة. 8_2/236_237
25_ وكان الذي أصاب قوم لوط حجراً وكبريتاً من أعلى القرى _كما في التوراة_.
وكان الدخان يظهر من الأرض مثل دخان الأتون.
وقد ظن بعض الباحثين أن آبار الحمر التي ورد في التوراة أنها كانت في عمق السديم، كانت قابلة للالتهاب بسبب زلازل أو سقوط صواعق عليها.(1/263)
وقد ذكر في آية أخرى في القرآن أن الله جعل عالي تلك القرى سافلاً، وذلك هو الخسف، وهو من آثار الزلازل، ومن المستقرب(1) أن يكون البحر الميت هنالك قد طغى على هذه الآبار أو البراكين من آثار الزلزال. 8_2/237_238
26_ وحاصل ما أمر به شعيب _ عليه السلام _ قومه، بعد الأمر بالتوحيد، ينحصر في ثلاثة أصول: هي حفظ حقوق المعاملة المالية، وحفظ نظام الأمة ومصالحها، وحفظ حقوق حرية الاستهداء. 8_2/243
27_ والصبر: حبس النفس في حال الترقب، سواء كان تَرَقُّبَ محبوبٍ، أم ترقب مكروه، وأشهر استعماله أن يطلق على حبس النفس في حال فقدان الأمر المحبوب. 8_2/250
28_ و[يَطَّيَّرُوا] أصله يتطيروا، وهو تَفَعُّل، مشتق من اسم الطير، كأنهم صاغوه على وزن التفعل؛ لما فيه من تكلُّف معرفة حظ المرء بدلالة حركات الطير، أو هو مطاوعة(2) سمي بها ما يحصل من الانفعال من إِثْر طيران الطير.
وكان العرب إذا خرجوا في سفر لحاجة، نظروا إلى ما يلاقيهم أول سيرهم من طائر، فكانوا يزعمون أن في مروره علاماتِ يُمْنٍ وعلاماتِ شؤمٍ؛ فالذي في طيرانه علامةُ يُمْنٍ في اصطلاحهم يسمونه السانح، وهو الذي ينهض، فيطير من جهة اليمين للسائر، والذي علامته الشؤم هو البارح وهو الذي يمر على اليسار.
وإذا وجد طيراً جاثماً أثاره؛ لينظر أيّ جهة يطير، وتسمى تلك الإثارة زَجْرَاً؛ فمن الطير ميمون، ومنه مشؤوم، والعرب يدعون للمسافر بقولهم على الطائر الميمون، ثم غلب استعمال لفظ التطير في معنى التشاؤم خاصة، يقال الطيرة _أيضاً_ كما في الحديث =لا طيرة وإنما الطيرة على من تطير+.
__________
(1) _ لعل معناه: القريب. (م)
(2) _ يقصد بقوله: مطاوعة: أن التاء في التطير هي تاء المطاوعة المعروفة عند النحاة، ومعنى المطاوعة: الموافقةُ، والتاءُ من أحرف الزيادة التي تعني عند زيادتها في الفعل حدوث الموافقة، مثل: عَلَّمته فتَعَلَّم، وكسَّرته فتكَسَّر. (م)(1/264)
أي: الشؤم يقع على من يتشاءم، جعل الله ذلك عقوبة له في الدنيا؛ لسوء ظنه بالله، وإنما غلب لفظ الطيرة على التشاؤم؛ لأن للأثر الحاصل من دلالة الطيران على الشؤم دلالةً أشد على النفس؛ لأن توقع الضر أدخل في النفوس من رجاء النفع.
والمراد به في الآية أنهم يتشاءمون بموسى ومن معه؛ فاستعمل التطير في التشاؤم بدون دلالة من الطير؛ لأن قوم فرعون لم يكونوا ممن يزجر الطير فيما علمنا من أحوال تاريخهم، ولكنهم زعموا أن دعوة موسى فيهم كانت سبب مصائب حلت بهم؛ فعبر عن ذلك بالتطير على طريقة التعبير العربي.
والتشاؤم: هو عد الشيء مشؤوماً، أي: يكون وجوده سبباً في وجود ما يُحْزِنُ ويضر.
فمعنى [يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى] يحسبون حلول ذلك بهم مُسَبَّباً عن وجود موسى ومن آمن به؛ وذلك أن آل فرعون كانوا متعلقين بضلال دينهم، وكانوا يحسبون أنهم إذا حافظوا على اتِّباعه كانوا في سعادة عيش؛ فحسبوا وجود من يخالف دينهم سبباً في حلول المصائب والإضرار بهم؛ فتشاءموا بهم، ولم يعلموا أن سبب المصائب هو كفرهم وإعراضهم؛ لأن حلول المصائب بهم يلزم أن يكون مُسَبَّباً عن أسباب فيهم لا في غيرهم.
وهذا من العماية في الضلالة؛ فيبقون منصرفين عن معرفة الأسباب الحقيقية، ولذلك كان التطير من شعار أهل الشرك؛ لأنه مبني على نسبة المسببات لغير أسبابها، وذلك من مخترعات الذين وضعوا لهم ديانة الشرك وأوهامها.
في الحديث =الطيرة شرك+(1).
وتأويله: أنها من بقايا دين الشرك، ويقع بعد فعل التطير باء، وهي باء السببية تدخل على موجب التطير، وقد يقال _أيضاً_: تطير من كذا. 9/65_66
29_ والطوفان: السيح الغالب من الماء الذي يغمر جهات كثيرة ويطغى على المنازل والمزارع.
قيل: هو مشتق من الطواف؛ لأن الماء يطوف بالمنازل، أي: تتكرر جريته حولها.
ولم يدخل الطوفان الأرض التي كان بها بنو إسرائيل وهي أرض جاسان.
__________
(1) _ رواه أصحاب السنن.(1/265)
والجراد: الحشرة الطائرة من فصيلة الصرصر والخنافس، له أجنحة ستة ذات ألوان صفر وحمر تنتشر عند طيرانه، يكون جنوداً كثيرة يسمى الجند منها رِجْلاً.
وهو مهلك للزرع والشجر، يأكل الورق والسنبل، وورق الشجر وقشره؛ فهو من أسباب القحط أصاب أرض قوم فرعون، ولم يصب أرض بني إسرائيل.
والقُمَّل _بضم القاف وتشديد الميم المفتوحة في القراءات المشهورة_: اسم نوع من القراد عظيم يسمى الحُمْنَان _بضم الحاء المهملة وميم ساكنة ونونين_ واحدته حمنانة وهو يمتص دم الإنسان _وهو غير القَمْل بفتح القاف وسكون الميم الذي هو من الحشرات الدقيقة التي تكون في شعر الرأس وفي جلد الجسد يتكون من تعفن الجلد؛ لوسخه، ودُسُومته، ومن تعفن جلد الرأس كثيراً.
أصاب القِبْطَ جُنْدٌ كثيرٌ من الحُمنان عسر الاحتراز عنه؛ ولعله أصاب مواشيهم.
والضفادع: جمع ضفدع وهو حيوان يمشي على أرجل أربع؛ ويسحب بطنه على الأرض ويسبح في المياه، ويكون في الغدران ومناقع المياه، صوته مثل القراقر يسمى نقيقاً.
أصابهم جندٌ كثيرٌ منه يقع في طعامهم يرتمي إلى القدور، ويقع في فِيِّ العيون والأسقية وفي البيوت؛ فيفسد ما يقع فيه وتطؤه أرجل الناس، فَتَتَقَذَّر به البيوت، وقد سلمت منه بلاد جاسان _منزل بني إسرائيل_.
والدم معروف، قيل: أصابهم رُعَافٌ متفشٍّ فيهم، وقيل: صارت مياه القبط كالدم في اللون _كما في التوراة_.
ولعل ذلك من حدوثِ دودٍ أحمرَ في الماء؛ فشبه الماء بالدم، وسلمت مياه جاسان قرية بني إسرائيل. 9/69_70
30_ والنفس في الليل أكثر تجرداً للكمالات النفسانية، والأحوال الملكية، منها في النهار؛ إذ قد اعتادت النفوس بحسب أصل التكوين الاستئناس بنور الشمس والنشاط به؛ للشغل فلا يفارقها في النهار الاشتغال بالدنيا ولو بالتفكر وبمشاهدة الموجودات.(1/266)
وذلك ينحط في الليل والظلمة، وتنعكس تفكُّرات النفس إلى داخلها، ولذلك لم تزل الشريعة تُحَرِّض على قيام الليل وعلى الابتهال فيه إلى الله _تعالى_ قال: [تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً] الآية.
وقال: [وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ].
وفي الحديث: =ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الأخير فيقول: هل من مستغفر فأغفر له، هل من داع فأستجيب له+.
ولم يزل الشغل في السهر من شعار الحكماء والمرتاضين؛ لأن السهر يُلَطِّف سلطان القوة الحيوانية كما يلطفها الصوم. 9/86
31_ ولذلك كان أئمة أهل السنة محقين في الاستدلال بسؤال موسى رؤية الله على إمكانها بكيفية تليق بصفات الإلهية لا نعلم كنهها وهو معنى قولهم =بلا كيف+.
وكان المعتزلة غير محقين في استدلالهم بذلك على استحالتها بكل صفة.
وقد يؤول الخلاف بين الفريقين إلى اللفظ، فإن الفريقين متفقان على استحالة إحاطة الإدراك بذات الله واستحالة التحيز، وأهل السنة قاطعون بأنها رؤية لا تنافي صفات الله _تعالى_.
وأما ما تبجح به الزمخشري في الكشاف فذلك من عدوان تعصبه على مخالفيه على عادته، وما كان ينبغي لعلماء طريقتنا التنازل لمهاجاته بمثل ما هاجاهم به، ولكنه قال؛ فَأَوْجَب.
واعلم أن سؤال موسى رؤية الله _تعالى_ طلب على حقيقته كما يؤذن به سياق الآية وليس هو السؤال الذي سأله بنو إسرائيل المحكي في سورة البقرة بقوله [وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ].
وما تمحل به في الكشاف من أنه هو ذلك السؤال تكلف لا داعي له. 9/91_92(1/267)
32_ [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ].
فقيل المعنيُّ به أمية بن أبي الصلت الثقفي، وروي هذا عن عبد الله بن عمرو ابن العاصي، بأسانيد كثيرة عند الطبري، وعن زيد بن أسلم.
وقال القرطبي في التفسير: هو الأشهر، وهو قول الأكثر؛ ذلك أن أمية بن أبي الصلت الثقفي كان ممن أراد اتباع دين غير الشرك طالباً دين الحق، ونظر في التوراة والإنجيل؛ فلم ير النجاة في اليهودية ولا النصرانية، وتزهَّد وتوخَّى الحنيفية دين إبراهيم، وأخبر أن الله يبعث نبياً في العرب؛ فطمع أن يكونه، ورفض عبادة الأصنام، وحرم الخمر، وذكر في شعره أخباراً من قصص التوراة.
ويُروى أنه كانت له إلهامات ومكاشفات وكان يقول:
كل دين يوم القيامة عند الله ... إلا دين الحنيفية(1) زورٌ
وله شعرٌ كثيرٌ في أمور الإلهية؛ فلما بعث محمداً " أسف أن لم يكن هو الرسول المبعوث في العرب، وقد اتفق أن خرج إلى البحرين قبل البعثة وأقام هنالك ثمان سنين، ثم رجع إلى مكة؛ فوجد البعثة، وتردَّد في الإسلام، ثم خرج إلى الشام، ورجع بعد وقعة بدر فلم يؤمن بالنبي"حسداً، ورثى من قتل من المشركين يوم بدر، وخرج إلى الطائف بلاد قومه فمات كافراً.
وكان يذكر في شعره الثواب والعقاب واسم الله وأسماء الأنبياء، وقد قال فيه النبي": =كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم+.
ورُوي عن أمية أنه قال لما مرض مرض موته أنا أعلم أن الحنيفية حق، ولكن الشك يداخلني في محمد.
__________
(1) _ هكذا في الأصل: ولعل الصواب (الحنيفة) حتى يستقيم وزن البيت. (م)(1/268)
فمعنى [آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا] أن الله ألهم أمية كراهية الشرك، وألقى في نفسه طلب الحق، ويسَّر له قراءة كتب الأنبياء، وحبب إليه الحنيفية؛ فلما انفتح له باب الهدى وأشرق نور الدعوة المحمدية كابر، وحسد، وأعرض عن الإسلام؛ فلا جرم أن كانت حاله أنه انسلخ عن جميع ما يُسِّر له، ولم ينتفع به عند إبَّان الانتفاع، فكان الشيطان هو الذي صرفه عن الهدى فكان من الغاوين؛ إذ مات على الكفر بمحمد".
وقال سعيد بن المسيب نزلت في أبي عامر بن صيفي الراهب، واسمه النعمان الخزرجي، وكان يلقب بالراهب في الجاهلية؛ لأنه قد تنصر في الجاهلية، ولبس الممسوح(1) وزعم أنه على الحنيفية، فلما قدم النبي"المدينة دخل على النبي فقال: يا محمد ما الذي جئت به قال: =جئت بالحنيفية دين إبراهيم+.
قال: فإني عليها فقال النبي: لستَ عليها؛ لأنك أدخلت فيها ما ليس منها؛ فكفر وخرج إلى مكة يحرض المشركين على قتال النبي"ويخرج معهم، إلى أن قاتل في حنين بعد فتح مكة، فلما انهزمت هوازن يئس وخرج إلى الشام، فمات هنالك.
وذهب كثير من المفسرين إلى أنها نزلت في رجل من الكنعانيين وكان في زمن موسى _عليه السلام_ يقال له: بلعام بن باعور، وذكروا قصته، فخلطوها، وغيروها، واختلفوا فيها.
والتحقيق أن بلعام هذا كان من صالحي أهل مدين وعَرَّافيهم في زمن مرور بني إسرائيل على أرض مؤاب، ولكنه لم يتغير عن حال الصلاح، وذلك مذكور في سفر العدد من التوراة في الإصحاحات 22_23_24 فلا ينبغي الالتفات إلى هذا القول، لاضطرابه واختلاطه. 9/174_175
__________
(1) _ هكذا في الأصل: ولعل الصواب: المُسوح، وهي ثياب الرهبان في الأديرة. (م)(1/269)
33_ والكلب: حيوان من ذوات الأربع، ذو أنياب وأظفار، كثير النبح في الليل، قليل النوم فيه، كثير النوم في النهار، يألف من يعاشره، يحرس مكانه من الطارقين الذين لا يألفهم، ويحرس الأنعام التي يعاشرها، ويعدو على الذئاب، ويقبل التعليم؛ لأنه ذكي، ويلهث إذا أتعب، أو اشتد عليه الحر، ويلهث بدون ذلك؛ لأن في خلقته ضيقاً في مجاري النفس يرتاح له باللهث. 9/178
34_ [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ (199)].
وقد جمعت هذه الآية مكارم الأخلاق؛ لأن فضائل الأخلاق لا تعدو أن تكون عفواً عن اعتداء، فتدخل في[خُذْ الْعَفْوَ] أو إغضاءً عما لا يلائم؛ فتدخل في [وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ] أو فعلَ خيرٍ واتساماً بفضيلة؛ فتدخل في [وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ] كما تقدم من الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء، وهذا معنى قول جعفر بن محمد: في هذه الآية أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق.
وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها، وهي صالحة لأن يبين بعضها بعضاً؛ فإنَّ الأمر بأخذ العفو يتقيد بوجوب الأمر بالعرف، وذلك في كل ما لا يقبل العفو والمسامحة من الحقوق، وكذلك الأمر بالعرف يتقيد بأخذ العفو، وذلك بأن يدعو الناس إلى الخير بلين ورفق. 9/229
1_ عرفت بهذا الاسم من عهد أصحاب رسول الله": روى الواحدي في أسباب النزول عن سعد بن أبي وقاص قال: =لما كان يوم بدر قتل أخي عمير، وقتلتُ سعيد بن العاصي، فأخذت سيفه، فأتيت به النبي"فقال: اذهب القَبَض _بفتحتين الموضع الذي تجمع فيه الغنائم_ فرجعت في ما لا يعلمه إلا الله؛ قُتِل أخي، وأُخذ سلبي؛ فما جاوزتُ قريباً حتى نزلت سورة الأنفال+.
وأخرج البخاري، عن سعيد بن جبير، قال: =قلت لابن عباس سورة الأنفال؟ قال: نزلت في بدر+.(1/270)
فباسم الأنفال عرفت بين المسلمين، وبه كتبت تسميتها في المصحف حين كتبت أسماء السور في زمن الحجاج، ولم يثبت في تسميتها حديث، وتسميتها سورة الأنفال من أنها افتتحت بآية فيها اسم الأنفال، ومن أجل أنها ذكر فيها حكم الأنفال _كما سيأتي_.
وتسمى _أيضاً_ سورة بدر؛ ففي الإتقان أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: =قلت لابن عباس: سورة الأنفال؟ قال: تلك سورة بدر+.
وقد اتفق رجال الأثر كلهم على أنها نزلت في غزوة بدر، قال ابن إسحاق: أنزلت في أمر بدر سورة الأنفال بأسرها، وكانت غزوة بدر في رمضان من العام الثاني للهجرة بعد عام ونصف من يوم الهجرة، وذلك بعد تحويل القبلة بشهرين، وكان ابتداء نزولها قبل الانصراف من بدر؛ فإن الآية الأولى منها نزلت والمسلمون في بدر قبل قسمة مغانمها، كما دل عليه حديث سعد بن أبي وقاص والظاهر أنها استمر نزولها إلى ما بعد الانصراف من بدر.
وفي كلام أهل أسباب النزول ما يقتضي أن آية [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً] إلى [مَعَ الصَّابِرِينَ] نزلت بعد نزول السورة بمدة طويلة، كما روي عن ابن عباس، وسيأتي تحقيقه هنالك.
وقال جماعة من المفسرين: إن آيات [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ] إلى [لا يَفْقَهُونَ] نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل ابتداء القتال؛ فتكون تلك الآية نزلت قبل نزول أول السورة.
نزلت هذه السورة بعد سورة البقرة، ثم قيل: هي الثانية نزولاً بالمدينة، وقيل: نزلت البقرة ثم آل عمران ثم الأنفال، والأصح أنها ثانيةُ السور بالمدينة نزولاً بعد سورة البقرة. 9/245_246
2_ ونزولها بسبب اختلاف أهل بدر في غنائم يوم بدر وأنفاله، وقيل: بسبب ما سأله بعضُ الغزاةِ النبيَّ " أن يعطيهم من الأنفال، كما سيأتي عند تفسير أول آية منها. 9/246(1/271)
3_ أغراضُ هذه السورة: ابتدأت ببيانِ أحكامِ الأنفال، وهي الغنائمُ وقسمتُها، ومصارفُها، والأمرِ بتقوى الله في ذلك وغيره، والأمرِ بطاعة الله ورسوله، في أمر الغنائم وغيرها.
وأمرِ المسلمين بإصلاح ذات بينهم، وأن ذلك من مقومات معنى الإيمان الكامل.
وذكرِ الخروج إلى غزوة بدر، وبخوفهم من قوة عددهم، وما لقوا فيها من نصرٍ، وتأييدٍ من الله ولطفه بهم.
وامتنانِ الله عليهم بأن جعلهم أقوياء.
وَوَعَدَهم بالنصر والهداية(1) إن اتقوا بالثبات للعدو، والصبر.
والأمرُ بالاستعداد لحرب الأعداء، والأمر باجتماع الكلمة والنهي عن التنازع، والأمر بأن يكون قصدُ النصرةِ للدين نُصْبَ أعينهم.
ووصفُ السببِ الذي أخرج المسلمين إلى بدر، وذِكْرُ مواقع الجيشين، وصفاتُ ما جرى من القتال.
وتذكيرُ النبي"بنعمة الله عليه؛ إذ أنجاه من مكر المشركين به بمكة، وخَلَّصُه من عنادهم، وأن مقامَه بمكة كان أماناً لأهلها، فلما فارقهم فَقَدْ حقَّ عليهم عذابُ الدنيا بما اقترفوا من الصد عن المسجد الحرام.
ودعوةُ المشركين للانتهاء عن مناوأة الإسلام، وإيذانُهم بالقتال.
والتحذيرُ من المنافقين.
وضربُ المثلِ بالأمم الماضية التي عاندت رسل الله، ولم يشكروا نعمة الله.
وأحكامُ العهدِ بين المسلمين والكفار، وما يترتب على نقضهم العهد، ومتى يحسن السلم.
وأحكامُ الأسرى، وأحكامُ المسلمين الذين تخلفوا في مكة بعد الهجرة، وولايتُهم، وما يترتب على تلك الولاية. 9/247
4_ والأنفال جمع نَفَل _بالتحريك_ والنفل مشتق من النافلة، وهي الزيادة في العطاء، وقد أطلق العرب في القديم الأنفال على الغنائم في الحرب كأنهم اعتبروها زيادة على المقصود من الحرب، لأن المقصود الأهم من الحرب هو إبادة الأعداء، ولذلك ربما كان صناديدهم يأبون أخذ الغنائم كما قال عنترة:
يخبرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأَعَفُّ عند المغنم
__________
(1) _ في الأصل: الهواية، ولعل الصواب ما أُثبت. (م)(1/272)
وأقوالهم في هذا كثيرة؛ فإطلاق الأنفال في كلامهم على الغنائم مشهور قال عنترة:
إنا إذا احمر الوغى نروي القنا ... ونعف عند مقاسم الأنفال
وقد قال في القصيدة الأخرى أعف عند المغنم؛ فعلمنا أنه يريد من الأنفال المغانم وقال أوس بن حجر الأسدي وهو جاهلي:
نكصتم على أعقابكم ثم جئتموا ... تُرَجُّون أنفالَ الخميس العرمرم
ويقولون: نفلني كذا يريدون أغنمني، حتى صار النفل يطلق على ما يعطاه المقاتل من المغنم زيادة على قِسْطِه من المغنم؛ لمزية له في البلاء والغِناء، أو على ما يعثر عليه من غير قتيله، وهذا صنف من المغانم. 9/249
5_ فالأنفال في هذه الآية قال الجمهور: المراد بها ما كان زائداً على المغنم؛ فيكون النظر فيه لأمير الجيش يصرفه لمصلحة المسلمين، أو يعطيه لبعض أهل الجيش؛ لإظهار مزية البطل، أو لخصلة عظيمة يأتي بها، أو للتحريض على النكاية في العدو؛ فقد قال رسول الله"يوم حنين: =من قتل قتيلاً فله سلبه+.
وقد جعلها القرآن لله وللرسول، أي لما يأمر به الله رسوله أو لما يراه الرسول".
قال مالك في الموطأ: =ولم يبلغنا أن رسول الله قال من قتل قتيلاً فله سلبه إلا يوم حنين، ولا بلغنا عن الخلفاء من بعده+.
يعني مع تكرر ما يقتضيه؛ فأراد ذلك أن تلك قضية خاصة بيوم حنين .
فالآية محكمةٌ غير منسوخة بقوله [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ].
فيكون لكل آية منهما حكمها؛ إذ لا تداخل بينهما.
قال القرطبي: =وهو ما حكاه المازري عن كثير من أصحابنا+. 9/250
6_ وعن ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وعطاء: أن المراد بالأنفال في هذه الآية الغنائم مطلقاً.(1/273)
وجعلوا حكمها هنا أنها جعلت لله وللرسول أي أن يقسمها الرسول" بحسب ما يراه بلا تحديد ولا اطِّراد، وأن ذلك كان في أول قسمة وقعت ببدر كما في حديث ابن عباس، ثم نسخ ذلك بآية [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ] الآيةَ؛ إذ كان قد عيَّن أربعة الأخماس للجيش، فجعل لله وللرسول الخمس، وجعل أربعة الأخماس حقاً للمجاهدين، يعني وبقي حكم الفيء المذكور في سورة الحشر غير منسوخ ولا ناسخ؛ فلذلك قال مالك والجمهور: =لا نفل إلا من الخمس على الاجتهاد من الإمام+.
وقال مالك: =إعطاء السلب من التنفيل+.
وقال مجاهد: =الأنفال هي خمس المغانم وهو المجعول لله، والرسول، ولذي القربى+. 9/251
7_ والغشي والغشيان: كون الشيء غاشياً أي غاماً ومُغَطِّيَاً؛ فالنوم يغطي العقل، والنعاس النوم غير الثقيل، وهو مِثْلَ السِّنة. 9/278
8_ وإنما كان النعاس أمناً لهم لأنهم لما ناموا زال أثر الخوف من نفوسهم في مدة النوم؛ فتلك نعمة، ولما استيقظوا وجدوا نشاطاً، ونشاط الأعصاب يكسب صاحبه شجاعة، ويزيل شعور الخوف الذي هو فتور الأعصاب. 9/278
9_ والبنان: اسم جمع بنانة وهي الإصبع، وقيل: طرف الإصبع، وإضافة كل إليه؛ لاستغراق أصحابها.
وإنما خُصَّتِ الأعناق والبنان؛ لأن ضرب الأعناق إتلافٌ لأجساد المشركين، وضربُ البنان يُبْطِلُ صلاحيةَ المضروب للقتال؛ لأن تناول السلاح إنما يكون بالأصابع، ومن ثَمَّ كثُر في كلامهم الاستغناء بذكر ما تتناوله اليد، أو ما تتناوله الأصابع عن ذكر السيف، قال النابغة:
وأن تلادي أن نظرت وشِكَّتِي ... ومُهْري وما ضَمَّتْ إليَّ الأناملُ
يعني سيفه.
وقال أبو الغول الطهوي:
فَدَتْ نفسي وما ملكت يميني ... فوارسُ صُدِّقت فيهم ظنوني
يريد السيف، ومثل ذلك كثير في كلامهم؛ فضرب البنان يحصل به تعطيل عمل اليد؛ فإذا ضربت اليد كلها فذلك أجدر. 9/283(1/274)
10_ وضرب الملائكة يجوز أن يكون مباشرة بتكوين قطع الأعناق والأصابع بواسطة فعل الملائكة على كيفية خارقة للعادة، وقد ورد في بعض الآثار عن بعض الصحابة ما يشهد لهذا المعنى؛ فإسناد الضرب حقيقة.
ويجوز أن يكون بتسديد ضربات المسلمين، وتوجيه المشركين إلى جهاتها، فإسناد الضرب إلى الملائكة مجاز عقلي؛ لأنهم سببه.
وقد قيل: الأمر بالضرب للمسلمين، وهو بعيد؛ لأن السورة نزلت بعد انكشاف الملحمة. 9/283
11_ والرمي حقيقته: إلقاء شيء أمسكته اليد، ويطلق الرمي على الإصابة بسوء من فعل أو قول كما في قول النابغة:
رمى الله في تلك الأكفّ الكوانع
أي أصابها بما يشلها، وقول جميل:
رمى الله في عينيْ بثينةَ بالقذى ... وفي الغُرِّ من أنيابها بالقوازح
9/294_295
12_ [وَاعْلَمُوْا أَنَّ الله يَحُوْلُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُوْنَ(24)].
والمقصود من هذا تحذير المؤمنين من كل خاطر يخطر في النفوس: من التراخي في الاستجابة إلى دعوة الرسول " والتنصل منها، أو التستر في مخالفته، وهو معنى قوله: [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ].
وبهذا يظهر وقع قوله: [وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] عَقِبَه؛ فكان ما قبله تحذيراً، وكان هو تهديداً.
وفي الكشاف، وابن عطية قيل: إن المرادَ الحثُّ على المبادرة بالامتثال، وعدمُ إرجاء ذلك إلى وقت آخر؛ خشيةَ أن تعترض المرءَ موانعُ من تنفيذ عزمه على الطاعة أي فيكون الكلام على حذف مضاف تقديره: أن أجل الله يحول بين المرء وقلبه، أي بين عمله وعزمه قال _تعالى_: [وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ] الآية. 9/315
13_ والمُكاء على صيغة مصادر الأصوات، كالرُّغاء، والثغاء، والبكاء، والنواح.(1/275)
يقال مكا يمكو إذا صفَّر بِفِيْهِ، ومنه سمي نوع من الطير المَكَّاء بفتح الميم وتشديد الكاف، وجمعُه مكاكئ بهمزة في آخره بعد الياء وهو طائر أبيض يكون بالحجاز.
وعن الأصمعي قلت لمنتجع بن نبهان: =ما تمكو؟ فشبك بين أصابعه، ثم وضعها على فمه ونفخ+.
والتَّصْدية: التصفيق مشتقاً من الصدى، وهو الصوت الذي يرده الهواء محاكياً لصوت صالح في البراح من جهة مقابلة.
ولا تعرف للمشركين صلاةٌ؛ فتسمية مكائهم وتصديتهم صلاة مشاكلة تقديرية؛ لأنهم لما صدوا المسلمين عن الصلاة وقراءة القرآن في المسجد الحرام عند البيت _ كان من جملة طرائق صدهم إياهم تشغيبهم عليهم، وسخريتهم بهم يحاكون قراءة المسلمين، وصلاتهم بالمكاء والتصدية. 9/338_339
14_ وتعبيرات السلف في التفرقة بين الغنيمة والنفل غير مضبوطة، وهذا ملاك الفصل في هذا المقام لتمييز أصناف الأموال المأخوذة في القتال؛ فأما صور قسمتها فسيأتي بعضها في هذه الآية.
فاصطلحوا على أن الغنيمة، ويقال لها المغنم: ما يأخذه الغُزاة من أمتعة المقاتلين غصباً، بقتل أو بأسر، أو يقتحمون ديارهم غازين، أو ما يتركه الأعداء في ديارهم إذا فروا عند هجوم الجيش عليهم بعد ابتداء القتال.
فأما ما يظفر به الجيش في غير حالة الغزو من مال العدو، وما يتركه العدو من المتاع إذا أخلوا بلادهم قبل هجوم جيش المسلمين _فذلك الفيء، وسيجيء في سورة الحشر.
وقد اختلف فقهاء الأمصار في مقتضى هذه الآية مع آية [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ] الآيةَ، فقال مالك: ليس أموال العدو المقاتل حق(1) لجيش المسلمين إلا الغنيمة والفيء.
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: ليس في أموال العدو المقاتل حق، أو ليس أموال العدو المقاتل حقاً. (م)(1/276)
وأما النفل فليس حقاً مستقلاً بالحكم، ولكنه ما يعطيه الإمام من الخمس لبعض المقاتلين زائداً على سهمه من الغنيمة على ما يرى من الاجتهاد، ولا تعيين لمقدار النفل في الخمس، ولا حدَّ له، ولا يكون فيما زاد على الخمس.
هذا قول مالك، ورواية عن الشافعي، وهو الجاري على ما عمل به الخلفاء الثلاثة بعد رسول الله ".
وقال أبو حنيفة، والشافعي في أشهر الروايتين عنه، وسعيد بن المسيب: النفل من الخمس، وهو خمس الخمس.
وعن الأوزاعي، ومكحول، وجمهور الفقهاء: النفل ما يعطى من الغنيمة يخرج من ثلث الخمس. 10/6_7
15_ والعُدوة بتثليث العين ضفة الوادي وشاطئه، والضم والكسر في العين أفصح، وعليهما القراءات المشهورة، فقرأه الجمهور بضم العين وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب بكسر العين.
والمراد بها شاطئ وادي بدرٍ، وبدرٌ اسم ماء، و[الدُّنْيَا] هي القريبة أي العدوة التي من جهة المدينة؛ فهي أقرب لجيش المسلمين من العدوة التي من جهة مكة.
والعدوة القصوى هي التي مما يلي مكة، وهي كثيب، وهي قصوى بالنسبة لموقع بلد المسلمين.
والوصف بالدنيا والقصوى يَشْعُر المخاطبون بفائدته، وهي أن المسلمين كانوا حريصين أن يسبقوا المشركين إلى العدوة القصوى؛ لأنها أصلب أرضاً فليس للوصف بالدنوِّ والقصوِّ أثرٌ في تفضيل إحدى العدوتين على الأخرى، ولكنه صادف أن كانت القصوى أسعدَ بنزول الجيش؛ فلما سبق جيش المشركين إليها اغتم المسلمون، فلما نزل المسلمون بالعدوة الدنيا أرسل الله المطر، وكان الوادي دَهْسَا فَلَبَّد المطرُ الأرض، ولم يعقهم عن المسير، وأصاب الأرض التي بها قريش، فعطلهم عن الرحيل، فلم يبلغوا بدراً إلا بعد أن وصل المسلمون، وتخيروا أحسن موقع، وسبقوا إلى الماء، فاتخذوا حوضاً يكفيهم، وغوروا الماء، فلما وصل المشركون إلى الماء وجدوه قد احتازه المسلمون، فكان المسلمون يشربون، ولا يجد المشركون ماءً. 10/16(1/277)
16_ والفشل: الجبن والوهن، والتنازع: الاختلاف، والمراد بالأمر: الخطة التي يجب اتباعها في قتال العدو من ثبات أو انجلاء عن القتال. 10/24
17_ والذوق: مستعمل في مطلق الإحساس، بعلاقة الإطلاق. 10/41
18_ والثقف: الظفر بالمطلوب، أي: فإن وجدتهم وظفرت بهم في حرب، أي انتصرت عليهم.
والتشريد: التطريد والتفريق، أي: فبعّد بهم من خلفهم، وقد يجعل التشريد كناية عن التخويف والتنفير. 10/50
1_ سميت هذه السورة، في أكثر المصاحف، وفي كلام السلف: سورة براءة ففي الصحيح عن أبي هريرة، في قصة حج أبي بكر بالناس، قال أبوهريرة: =فأذّن معنا علي بن أبي طالب في أهل منى ببراءة+.
وفي صحيح البخاري، عن زيد بن ثابت قال: =آخر سورة نزلت سورة براءة+.
وبذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه، وهي تسمية لها بأول كلمة منها.
وتسمى سورة التوبة في كلام بعض السلف في مصاحف كثيرة، فعن ابن عباس =سورة التوبة هي الفاضحة+.
وترجم لها الترمذي في جامعه باسم التوبة، ووجه التسمية: أنها وردت فيها توبة الله _تعالى_ عن الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وهو حدث عظيم.
ووقع هذان الاسمان معاً في حديث زيد بن ثابت، في صحيح البخاري، في باب جمع القرآن، قال زيد: =فتتبعت القرآن حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ], حتى خاتمة سورة براءة+.
وهذان الاسمان هما الموجودان في المصاحف التي رأيناها.
ولهذه السورة أسماء أخر وقعت في كلام السلف، من الصحابة والتابعين، فروي عن ابن عمر، عن ابن عباس: كنا ندعوها (أي سورة براءة) المُقشْقِشَة _بصيغة اسم الفاعل وتاء التأنيث من قَشْقَشَه: إذا أبراه من المرض_ كان هذا لقباً لها ولسورة الكافرون لأنهما تخلصان من آمن بما فيهما من النفاق والشرك؛ لما فيهما من الدعاء إلى الإخلاص، ولما فيهما من وصف أحوال المنافقين.(1/278)
وكان ابن عباس يدعوها الفاضحة، قال: =ما زال ينزل فيها (ومنهم ومنهم) حتى ظننا أنه لا يبقى أحد إلا ذكر فيها+.
وأحسب أن ما تحكيه من أحوال المنافقين يعرف به المتصفون بها أنهم المراد، فعرف المؤمنون كثيراً من أولئك مثل قوله _تعالى_: [وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي] فقد قالها: بعضهم، وسُمِعَتْ منهم، وقوله: [وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ] فهؤلاء نقلت مقالتهم بين المسلمين، وقوله [وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ].
وعن حذيفة: أنه سماها سورة العذاب؛ لأنها نزلت بعذاب الكفار، أي عذاب القتل والأخذ حين(1) يثقفون.
وعن عبيد بن عمير أنه سماها المُنَقِّرة _بكسر القاف مشددة_ لأنها نَقَّرت عمَّا في قلوب المشركين _لعله يعني من نوايا الغدر بالمسلمين والتمالي على نقض العهد، وهو من (نَقَرَ الطائر) إذا أنفى بمنقاره موضعاً من الحصى ونحوه؛ ليَبِيْضَ فيه_.
وعن المقداد بن الأسود، وأبي أيوب الأنصاري: تسميتها البَحُوث _بباء موحدة مفتوحة في أوله وبمثلثة في آخره بوزن فعول_ بمعنى الباحثة وهو مثل تسميتها المنقرة.
وعن الحسن البصري أنه دعاها الحافرة،؛كأنها حفرت عما في قلوب المنافقين من النفاق؛ فأظهرته للمسلمين.
وعن قتادة: أنها تسمى المثيرة؛ لأنها أثارت عورات المنافقين، وأظهرتها.
وعن ابن عباس أنه سماها المُبَعْثِرة؛ لأنها بعثرت عن أسرار المنافقين، أي أخرجتها من مكانها.
وفي الإتقان: أنها تسمى المخزية بالخاء والزاي المعجمة وتحتية بعد الزاي وأحسب أن ذلك لقوله _تعالى_: [أَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ].
وفي الإتقان أنها تسمى المنكِّلة، أي بتشديد الكاف.
وفيه أنها تسمى المشددة.
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: حيث. (م)(1/279)
وعن سفيان أنها تسمى المُدَمْدِمة بصيغة اسم الفاعل من دمدم إذا أهلك لأنها كانت سبب هلاك المشركين. فهذه أربعة عشر اسماً. 10/95_97
2_ وهي مدنية بالاتفاق، قال في الإتقان: واستثنى بعضهم قوله: [مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى] الآية.
ففي صحيح البخاري أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي"فقال: =يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله+ فقال أبو جهل وعبدالله ابن أبي أمية: =يا أبا طالب أترغب عن ملة عبدالمطلب+؛ فكان آخر قول أبي طالب: أنه على ملة عبدالمطلب، فقال النبي =لأستغفرن لك ما لم أنه عنك+.
وتوفي أبو طالب فنزلت [مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ]. 10/97
3_ فافتتحت السورةُ بتحديد مدةِ العهودِ التي بين النبي"وبين المشركين، وما يتبع ذلك من حالة حرب وأمن، وفي خلال مدة الحرب مدة تمكينهم من تلقي دعوة الدين وسماع القرآن.
وأتبع بأحكام الوفاء والنكث وموالاتهم.
ومنعُ المشركين من دخول المسجد الحرامِ وحضورِ مناسك الحج.
وإبطالُ مناصبِ الجاهلية التي كانوا يعتزون بأنهم أهلُها.
وإعلانُ حالةِ الحرب بين المسلمين وبينهم.
وإعلانُ الحربِ على أهل الكتاب من العرب حتى يعطوا الجزية، وأنهم ليسوا بعيداً من أهل الشرك، وأن الجميع لا تنفعهم قُوَّتُهم ولا أموالُهم.
وحرمةُ الأشهرِ الحرامِ، وضبطُ السَّنَةِ الشرعيةَ، وإبطالُ النسيء الذي كان عند الجاهلية.
وتحريضُ المسلمين على المبادرة بالإجابة إلى النفير للقتال في سبيل الله، ونصر النبي"وأن الله ناصرُ نبيِّه، وناصرُ الذين ينصرونه.
وتذكيرُهم بنصر الله رسولَه يومَ حنين، وبنصره إذ أنجاه من كيد المشركين بما هَيَّأَ له من الهجرة إلى المدينة، والإشارةُ إلى التجهيز بغزوة تبوك.(1/280)
وذمُّ المنافقين المتثاقلين والمعتذرين والمستأذنين في التخلف بلا عذر.
وصفاتُ أهل النفاق من جبن، وبخل، وحِرْصٍ على أخذ الصدقات مع أنهم ليسوا بمستحقيها.
وذكرُ أذاهم الرسولَ " بالقول، وأيمانِهم الكاذبةِ، وأمرِهم بالمنكرِ، ونهيِهم عن المعروفِ، وكذبِهم في عهودهم، وسخريتِهم بضعفاء المؤمنين.
والأمرُ بضرب الجزية على أهل الكتاب، ومذمةُ ما أدخله الأحبارُ والرهبانُ في دينهم من العقائد الباطلة، ومن التكالب على الأموال.
وأمرُ اللهِ بجهاد الكفار والمنافقين.
ونهيُ المؤمنين عن الاستعانة بهم في جهادهم، والاستغفارِ لهم.
ونهيُ نبيه " عن الصلاة على موتاهم.
وضربُ المثلِ بالأمم الماضية.
وذكرُ الذين اتخذوا مسجد الضرارِ عن سوء نية، وفَضْلُ مسجدِ قباء ومسجد الرسول بالمدينة.
وانتقل إلى وصف حالة الأعراب من محسنهم ومسيئهم، ومهاجرهم ومتخلِّفهم.
وقوبلت صفاتُ أهلِ الكفر والنفاق بأضدادها صفاتِ المسلمين، وذكر ما أعد لهم من الخير.
وذُكِرَ في خلال ذلك فَضْلُ أبي بكر، وفَضْلُ المهاجرين والأنصار.
والتحريضُ على الصدقة، والتوبة، والعمل الصالح.
والجهاد، وأنه فرضٌ على الكفاية.
والتذكيرُ بنصر الله المؤمنين يوم حنين بعد يأسهم.
والتنويهُ بغزوةِ تبوكَ وجيشها.
والذين تاب اللهُ عليهم من المتخلفين عنها.
والامتنانُ على المسلمين بأن أرسل فيهم رسولاً منهم جَبَلَه على صفاتٍ فيها كلُّ خير لهم.
وشَرْعُ الزكاةِ ومصارفها، والأمرُ بالفقه في الدين، ونَشْرُ دعوةِ الدين. 10/99_101
4_ [بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] افتتحت السورة كما تفتتح العهود، وصكوك العقود بأدل كلمة على الغرض الذي يراد منها كما في قولهم هذا ما عهد به فلان، وهذا ما اصطلح عليه فلان وفلان، وقول الموثقين: باع أو وكل أو تزوج، وذلك هو مقتضى الحال في إنشاء الرسائل والمواثيق ونحوها.(1/281)
وتنكيرُ (براءة) تنكير التنويع، وموقع (براءة) مبتدأ، وسوغ الابتداء به ما في التنكير من معنى التنويع للإشارة إلى أن هذا النوع كافٍ في فهم المقصود. 10/102_103
5_ والبراءة: الخروج والتفصي مما يتعب، ورَفْعُ التبعة.
ولما كان العهد يوجب على المتعاهدين العمل بما تعاهدوا عليه، ويعد الإخلاف بشيء منه غدراً على المُخْلِف _ كان الإعلان بفسخ العهد براءةً من التبعات التي كانت بحيث تنشأ عن إخلاف العهد؛ فلذلك كان لفظ (براءة) هنا مفيداً معنى فسخ العهد، ونبذه؛ ليأخذ المعاهدون حذرهم.
وقد كان العرب ينبذون العهد، ويردون الجوار إذا شاءوا؛ تنهية الالتزام بهما، كما فعل ابن الدّغُنّه في رد جوار أبي بكر عن قريش، وما فعل عثمان بن مظعون في رد جوار الوليد بن المغيرة إياه قائلاً: =رضيت بجوار ربي، ولا أريد أن أستجير غيره+.
وقال _تعالى_: [وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ] أي: ولا تَخُنْهم لظنك أنهم يخونونك فإذا ظننته فافسخ عهدك معهم. 10/103
6_ وجملة [وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] معطوفة على جملة [وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ] لما تتضمنه تلك الجملة من معنى الأمر، فكأنه قيل: فآذنوا الناس ببراءة الله ورسوله من المشركين، وبأن من تاب منهم فقد نجا، ومن أعرض فقد أوشك على العذاب، ثم قال: وبشر المعرضين المشركين بعذاب أليم.
والبشارة: أصلها الإخبار بما فيه مسرة، وقد استعيرت هنا للإنذار، وهو الإخبار بما يسوء، على طريقة التهكم، كما تقدم في قوله _تعالى_: [فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] في سورة آل عمران.
والعذاب الأليم: هو عذاب القتل، والأسر، والسبي، وفيء الأموال، كما قال _تعالى_: [وَأَنزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ].(1/282)
فإن تعذيبهم يوم حنين بعضه بالقتل، وبعضه بالأسر والسبي، وغَنْم الأموال، أي: أنذر المشركين بأنك مقاتلهم وغالبهم بعد انقضاء الأشهر الحرم، كما يدل عليه قوله: [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]. 10/111
7_ وفي الكلام تنويه بمعالي أخلاق المسلمين، وغَضٌّ من أخلاق أهل الشرك، وأن سبب ذلك الغض الإشراك الذي يفسد الأخلاق، ولذلك جُعِلوا قوماً لا يعلمون دون أن يقال بأنهم لا يعلمون؛ للإشارة إلى أن نفي العلم مطرد فيهم، فيشير إلى أن سبب اطراده فيهم هو نشأته عن الفكرة الجامعة لأشتاتهم، وهي عقيدة الإشراك.
والعلم، في كلام العرب: بمعنى العقل، وأصالة الرأي، وأن عقيدة الشرك مضادة لذلك، أي كيف يعبد ذو الرأي حجراً صنعه، وهو يعلم أنه لا يغني عنه. 10/120
8_ و(السقاية): صيغة للصناعة، أي صناعة السقي، وهي السقي من ماء زمزم، ولذلك أضيفت السقاية إلى الحاج.
وكذلك (العمارة): صناعة التعمير، أي القيام على تعمير شيء، بالإصلاح والحراسة ونحو ذلك، وهي هنا:غير ما في قوله: [مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ] وقوله: [إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ] وأضيفت إلى المسجد الحرام لأنها عمل في ذات المسجد.
وتعريف الحاج تعريف الجنس.
وقد كانت سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من أعظم مناصب قريش في الجاهلية، والمناصب عشرة، وتسمى المآثر؛ فكانت السقاية لبني هاشم ابن عبدمناف بن قصي وجاء الإسلام وهي للعباس بن عبدالمطلب، وكانت عمارة المسجد، وهي السدانة، وتسمى الحجابة، لبني عبدالدار بن قصي وجاء الإسلام وهي لعثمان بن طلحة.
وكانت لهم مناصب أخرى ثمانية أبطلها الإسلام رأيتها بخط جدي العلامة الوزير(1) وهي: الديات، والحمالات، السفارة، الراية، الرفادة، المشورة، الأعنة والقبة، الحكومة وأموال الآلهة، الأيسار.
__________
(1) _ يعني جده لأمه الوزير بوعتور. (م)(1/283)
فأما الديات والحمالات: فجمع دية وهي عوض دم القتيل خطأً أو عمداً إذا صولح عليه؛ وجمع حمالة بفتح الحاء المهملة وهي الغرامة التي يحملها قوم عن قوم، وكانت لبني تيم بن مرة بن كعب، ومرة جد قصي، وجاء الإسلام وهي بيد أبي بكر الصديق.
وأما السَِّفارة _بكسر السين وفتحها_: فهي السعي بالصلح بين القبائل.
والقائم بها يسمى سفيراً، وكانت لبني عدي بن كعب أبناء عم لقصي، وجاء الإسلام وهي بيد عمر بن الخطاب.
وأما الراية، وتسمى: العُقَاب _بضم العين_ لأنها تخفق فوق الجيش كالعقاب، فهي راية جيش قريش، وكانت لبني أمية، وجاء الإسلام وهي بيد أبي سفيان بن حرب.
وأما الرفادة: فهي أموال تخرجها قريش؛ إكراماً للحجيج، فيطعمونهم جميع أيام الموسم يشترون الجُزُر والطعام والزبيب _للنبيذ_ وكانت لبني نوفل ابن عبدمناف، وجاء الإسلام وهي بيد الحارث بن عامر بن نوفل.
وأما المشورة: فهي ولاية دار الندوة، وكانت لبني أسد بن عبدالعزى ابن قصي، وجاء الإسلام وهي بيد زيد بن زمعة.
وأما الأعنة والقُبَّة: فقبة يضربونها يجتمعون إليها عند تجهيز الجيش، وسميت الأعنة وكانت لبني مخزوم، وهم أبناء عم قصي، وجاء الإسلام وهي بيد خالد ابن الوليد.
وأما الحكومة وأموال الآلهة ولم أقف على حقيقتها: فأحسب أن تسميتها الحكومة، لأن المال المتجمع بها هو ما يحصل من جزاء الصيد في الحرم، أو في الإحرام.
وأما تسميتها أموال الآلهة لأنها أموال تحصل من نحو السائبة والبحيرة، وما يوهب للآلهة من سلاح ومتاع؛ فكانت لبني سهم، وهم أبناء عم لقصي، وجاء الإسلام وهي بيد الحارث بن قيس بن سهم.
وأما الأيسار وهي الأزلام التي يستقسمون بها: فكانت لبني جمح، وهم أبناء عم لقصي، وجاء الإسلام وهي بيد صفوان بن أمية بن خلف.(1/284)
وقد أبطل الإسلام جميع هذه المناصب، عدا السدانة والسقاية، لقول النبي"في خطبة حجة الوداع: =ألا إن كل مأثُرة من مآثر الجاهلية تحت قدمي هاتين إلا سقاية الحاج، وسدانة البيت+. 10/143_145
9_ و(نجس): صفة مشبهة، اسم للشيء الذي النجاسة صفة ملازمة له، وقد أنيط وصف النجاسة بهم بصفة الإشراك؛ فعلمنا أنها نجاسة معنوية نفسانية، وليست نجاسة ذاتية.
والنجاسة المعنوية: هي اعتبار صاحب وصف من الأوصاف محقراً متجنباً من الناس؛ فلا يكون أهلاً لفضل ما دام متلبساً بالصفة التي جعلته كذلك؛ فالمشرك نجس لأجل عقيدة إشراكه، وقد يكون جسده نظيفاً مطيباً لا يستقذر، وقد يكون مع ذلك مستقذر الجسد ملطخاً بالنجاسات؛ لأن دينه لا يطلب منه التطهر، ولكن تنظفهم يختلف باختلاف عوائدهم وبيئتهم.
والمقصود من هذا الوصف لهم في الإسلام تحقيرهم وتبعيدهم عن مجامع الخير.
ولا شك أن خباثة الاعتقاد أدنى بصاحبها إلى التحقير من قذارة الذات، ولذلك أوجب الغسل على المشرك إذا أسلم؛ انخلاعاً عن تلك القذارة المعنوية بالطهارة الحسية لإزالة خباثة نفسه، وإن طهارة الحدث لقريب من هذا. 10/159_160
10_ والجزية: اسم لمال يعطيه رجالُ قومٍ جزاءً على الإبقاء بالحياة، أو على الإقرار بالأرض، بنيت على وزن اسم الهيئة، ولا مناسبة في اعتبار الهيئة هنا؛ فلذلك كان الظاهر هذا الاسم أنه مُعَرَّب عن كلمة (كِزْيَتْ) بالفارسية بمعنى الخراج نقله المفسرون عن الخوارزمي، ولم أقف على هذه الكلمة في كلام العرب في الجاهلية، ولم يعرج عليها الراغب في مفردات القرآن.
ولم يذكروها في مُعَرَّب القرآن؛ لوقوع التردد في ذلك لأنهم وجدوا مادة الاشتقاق العربي صالحة فيها.
ولا شك أنها كانت معروفة المعنى للذين نزل القرآن بينهم؛ ولذلك عرفت في هذه الآية. 10/166
11_ والأحبار: جمع حَبْر _ بفتح الحاء _ وهو العالم من علماء اليهود.(1/285)
الرهبان: اسم جمع لراهب، وهو التقي المنقطع لعبادة الله من أهل دين النصرانية، وإنما خص الحبر بعالم اليهود؛ لأن عظماء دين اليهودية يشتغلون بتحرير علوم شريعة التوراة؛ فهم علماء في الدين، وخص الراهب بعظيم دين النصرانية؛ لأن دين النصارى قائم على أصل الزهد في الدنيا والانقطاع للعبادة. 10/170
12_ والباطل يشمل وجوهاً كثيرة، منها تغيير الأحكام الدينية لموافقة أهواء الناس، ومنها القضاء بين الناس بغير إعطاء صاحب الحقِّ حقَّه المعين له في الشريعة، ومنها جحد الأمانات عن أربابها أو عن ورثتهم، ومنها أكل أموال اليتامى، وأموال الأوقاف والصدقات. 10/175
13_ [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ] استئناف ابتدائي لإقامة نظام التوقيت للأمة على الوجه الحق الصالح لجميع البشر، والمناسب لما وضع الله عليه نظام العالم الأرضي، وما يتصل به من نظام العوالم السماوية بوجه محكم لا مدخل لتحكمات الناس فيه، وليوضّح تعيين الأشهر الحرم من قوله: [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ] بعد ما عقب ذلك من التفاصيل في أحكام الأمن والحرب مع فرق الكفار من المشركين وغيرهم.
والمقصود ضبط الأشهر الحرم، وإبطال ما أدخله المشركون فيها من النسيء الذي أفسد أوقاتها، وأفضى إلى اختلاطها، وأزال حُرْمَةَ ما له حُرْمَةٌ منها، وأكسب حرمةً لما لا حرمةَ له منها.
وإن ضبط التوقيت من أصول إقامة نظام الأمة ودفع الفوضى عن أحوالها.
وافتتاح الكلام بحرف التوكيد للاهتمام بمضمونه؛ لتتوجه أسماع الناس وألبابهم إلى وعيه.(1/286)
والمراد بالشهور: الشهور القمرية بقرينة المقام؛ لأنها المعروفة عند العرب وعند أغلب الأمم، وهي أقدمُ أَشْهُرِ التوقيت في البشر، وأضْبَطُها؛ لأن اختلاف أحوال القمر مساعد على اتخاذ تلك الأحوال مواقيت للمواعيد والآجال، وتاريخ الحوادث الماضية، بمجرد المشاهدة؛ فإن القمر كُرَةٌ تابعةٌ لنظام الأرض.
قال _تعالى_: [لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ].
ولأن الاستناد إلى الأحوال السماوية أضبط وأبعد عن الخطأ؛ لأنها لا تتناولها أيدي الناس بالتغيير والتبديل، وما حدثت الأشهر الشمسية وسنتها إلا بعد ظهور علم الفلك والميقات؛ فانتفع الناس بنظام سير الشمس في ضبط الفصول الأربعة، وجعلوها حساباً لتوقيت الأعمال التي لا يصلح لها إلا بعض الفصول، مثل الحرث والحصاد، وأحوال الماشية.
وقد كان الحساب الشمسي معروفاً عند القبط والكلدانيين، وجاءت التوراة بتعيين الأوقات القمرية للأشهر، وتعيين الشمسية للأعياد.
ومعلوم أن الأعياد في الدرجة الثانية من أحوال البشر؛ لأنها راجعة إلى التحسين؛ فأما ضبط الأشهر فيرجع إلى الحاجي؛ فألهم الله البشر فيما ألهمهم من تأسيس أصول حضارتهم أَنِ اتخذوا نظاماً لتوقيت أعمالهم المحتاجة للتوقيت، وأَنْ جعلوه مستنداً إلى مشاهدات بينةٍ واضحة لسائر الناس، لا تنحجب عنهم إلا قليلاً في قليل، ثم لا تلبث أن تلوح لهم واضحة باهرة.
وألهمهم أَنِ اهتدوا إلى ظواهر مما خلق الله له نظاما مطرداً، وذلك كواكب السماء ومنازلها، كما قال في بيان حكمة ذلك: [هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ].
وأَنْ جعلوا توقيتهم اليومي مستنداً إلى ظهور نور الشمس ومغيبه عنهم؛ لأنهم وجدوه على نظام لا يتغير، ولاشتراك الناس في مشاهدة ذلك، وبذلك تنظم اليوم والليلة.(1/287)
وجعلوا توقيتهم الشهري بابتداء ظهور أول أجزاء القمر وهو المسمى هلالاً إلى انتهاء مَحَاقِه، فإذا عاد إلى مثل الظهور الأول فذلك ابتداء شهر آخر.
وجعلوا مراتبَ أعدادِ أجزاءِ المدةِ المسماة بالشهر مرتبةً بتزايد ضوء النصف المضيء من القمر كل ليلة، وبإعانة منازل ظهور القمر كل ليلة حَذْوَ شكلٍ من النجوم سموه بالمنازل.
وقد وجدوا ذلك على نظام مطرد، ثم ألهمهم، فَرَقَبُوا المدة التي عاد فيها الثمر أو الكلأ الذي ابتدأوا في مثله العد وهي أوقات الفصول الأربعة، فوجدوها قد احتوت على اثني عشر شهراً؛ فسموا تلك المدة عاماً، فكانت الأشهر لذلك اثني عشر شهراً؛ لأن ما زاد على ذلك يعود إلى مثل الوقت الذي ابتدأوا فيه الحساب أول مرة، ودعوها بأسماء؛ لتمييز بعضها عن بعض؛ دفعاً للغلط.
وجعلوا لابتداء السنين بالحوادث على حسب اشتهارها عندهم إن أرادوا ذلك، وذلك واسع عليهم؛ فلما أراد الله أن يجعل للناس عباداتٍ ومواسمَ وأعياداً دوريةً تكون مرة في كل سنة _ أمرهم أن يجعلوا العبادة في الوقت المماثل لوقت أختها؛ فَفُرِضَ على إبراهيمَ وبنيه حَجُّ البيت كل سنة في الشهر الثاني عشر، وجعل لهم زمناً محترماً بينهم يأمنون فيه على نفوسهم وأموالهم ويستطيعون فيه السفر البعيد وهي الأشهر الحرم؛ فلما حصل ذلك كله بمجموع تكوين الله _تعالى_ للكواكب، وإيداعه الإلهام بالتفطن لحكمتها، والتمكن من ضَبْطِ مُطَّرد أحوالها، وتعيينه ما عين من العبادات والأعمال بمواقيتها _ كان ذلك كله مراداً عنده؛ فلذلك قال: [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ].(1/288)
فمعنى قوله: [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً]: أنها كذلك في النظام الذي وضع عليه هذه الأرض التي جعلها مَقَرَّ البشر باعتبار تمايز كل واحد فيها عن الآخر، فإذا تجاوزت الاثني عشر صار ما زاد على الاثني عشر مماثلاً لنظير له في وقت حلوله فاعتبر شيئاً مكرراً. 10/180_182
14_ ومعنى [فِي كِتَابِ اللَّهِ]: في تقديره، وهو التقدير الذي به وجدت المقدورات، أعني تعلق القدرة بها تعلقاً تنجيزياً كقوله: [كِتَاباً مُؤَجَّلاً] أي قدراً محدداً، فكتاب هنا مصدر.
بيان ذلك أنه لما خلق القمر على ذلك النظام أراد من حكمته أن يكون طريقاً لحساب الزمان كما قال: [وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ] ولذلك قال هنا: [يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ] فـ (يوم) ظرف لـ(كتاب الله) بمعنى التقدير الخاص؛ فإنه لما خلق السماوات والأرض كان مما خلق هذا النظام المنتسب بين القمر والأرض.
ولهذا الوجه ذكرت الأرض مع السماوات دون الاقتصار على السماوات؛ لأن تلك الظواهر التي للقمر، وكان بها القمر مجزءاً أجزاءً منذ كونه هلالاً إلى ربعه الأول، إلى البدر، إلى الربع الثالث، إلى المحاق، وهي مقادير الأسابيع _ إنما هي مظاهر بحسب سمته من الأرض وانطباع ضوء الشمس على المقدار البادي منه للأرض، ولأن المنازل التي يحل فيها بعدد ليالي الشهر هي منازل فَرَضِيَّة بمرأى العين على حسب مسامتته الأرضَ من ناحية إحدى تلك الكتل من الكواكب، التي تبدو للعين مجتمعة، وهي في نفس الأمر لها أبعاد متفاوتة لا تآلف بينها ولا اجتماع، ولأن طلوع الهلال في مثل الوقت الذي طلع فيه قبل أحد عشر طلوعاً من أي وقت ابتدئ منه العد من أوقات الفصول _ إنما هو باعتبار أحوال أرضية.(1/289)
فلا جَرَمَ كان نظام الأشهر القمرية وسنتها حاصلاً من مجموع نظام خلق الأرض وخلق السماوات، أي الأجرام السماوية وأحوالها في أفلاكها، ولذلك ذكرت الأرض والسماوات معاً.
وهذه الأشهر معلومة بأسمائها عند العرب، وقد اصطلحوا على أن جعلوا ابتداء حسابها بعد موسم الحج، فمبدأ السنة عندهم هو ظهور الهلال الذي بعد انتهاء الحج وذلك هلال المحرم، فلذلك كان أول السنة العربية شهر المحرم بلا شك، ألا ترى قول لبيد:
حتى إذا سلخا جمادى ستةً ... جزءاً فطال صيامُه وصيامُها
أراد جمادى الثانية فوصفه بستة لأنه الشهر السادس من السنة العربية.
وقرأ الجمهور [اثْنَا عَشَر] بفتح شين (عشر) وقرأه أبو جعفر [اثْنَا عَشَر] بسكون عين (عشر) مع مد ألف (اثنا) مشبعاً.
والأربعة الحرم هي المعروفة عندهم: ثلاثة منها متوالية لا اختلاف فيها بين العرب وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، والرابع فرد وهو رجب عند جمهور العرب، إلا ربيعة فهم يجعلون الرابع رمضان، ويسمونه رجباً.
وأحسب أنهم يصفونه بالثاني مثل ربيع وجمادى، ولا اعتداد بهؤلاء؛ لأنهم شذوا كما لم يعتد بالقبيلة التي كانت تحل أشهر السنة كلها، وهي قضاعة.
وقد بين إجمال هذه الآية النبي"في خطبة حجة الوداع بقوله: =منها أربعة حرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان+.
وتحريم هذه الأشهر الأربعة مما شرعه الله لإبراهيم _عليه السلام_ لمصلحة الناس، وإقامة الحج، كما قال _تعالى_: [جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ]. 10/182_184(1/290)
15_ واعلم أن تفضيل الأوقات والبقاع يشبه تفضيل الناس؛ فتفضيل الناس بما يصدر عنهم من الأعمال الصالحة، والأخلاق الكريمة، وتفضيل غيرهم مما لا إرادة له بما يقارنه من الفضائل الواقعة فيه، أو المقارنة له؛ فتفضيل الأوقات والبقاع إنما يكون بجعل الله _تعالى_ بخبر منه، أو بإطلاع على مراده؛ لأن الله إذا فضَّلها جعلها مظانَّ لِتَطَلُّب رضاه، مثل كونها مظانَّ إجابةِ الدعوات، أو مضاعفة الحسنات، كما قال _تعالى_: [لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ] أي من عبادة ألف شهر لمن قبلنا من الأمم.
وقال النبي ": =صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام+.
والله العليم بالحكمة التي لأجلها فضل زمن على زمن، وفضل مكان على مكان، والأمور المجعولة من الله _تعالى_ هي شؤون وأحوال أرادها الله؛ فَقَدَّرها؛ فأشبهت الأمور الكونية، فلا يبطلها إلا إبطال من الله _تعالى_ كما أبطل تقديس السبت بالجمعة.
وليس للناس أن يجعلوا تفضيلاً في أوقات دينية؛ لأن الأمور التي يجعلها الناس تشبه المصنوعات اليدوية، ولا يكون لها اعتبار إلا إذا أريدت بها مقاصد صالحة؛ فليس للناس أن يغيروا ما جعله الله _تعالى_ من الفضل لأزمنة أو أمكنة أو ناس. 10/184
16_ فكون عدة الشهور اثني عشر تحقق بأصل الخلقة؛ لقوله عقبه: [فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ].
وكون أربعةٍ من تلك الأشهر أشهراً حرماً تحقق بالجعل التشريعي للإشارة عقبه بقوله [ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ].
فحصل من مجموع ذلك أن كون الشهور اثني عشر وأن منها أربعة حرماً اعتبر من دين الإسلام، وبذلك نُسِخَ ما كان في شريعة التوراة من ضبط مواقيت الأعياد الدينية بالتاريخ الشمسي، وأبطل ما كان عليه أهل الجاهلية. 10/185(1/291)
17_ والنسيء: يطلق على الشهر الحرام الذي أُرْجِئَت حُرْمَتُه، وجعلت لشهر آخر؛ فالنسيء فعيل بمعنى مفعول من نسأ المهموز اللام، ويطلق مصدراً بوزن فعيل مثل نذير من قوله [فَكَيْفَ كَانَ نَذِيْر].
ومثل النكير والعذر(1) وفعله نسأ المهموز، أي أَخَّر؛ فالنسيء بهمزة بعد الياء في المشهور، وبذلك قرأه جمهور العشرة، وقرأه ورش عن نافع بياء مشددة في آخره على تخفيف الهمزة ياء وإدغامها في أختها، والإخبار عن النسيء بأنه زيادة إخبار بالمصدر كما أخبر عن هاروت وماروت بالفتنة في قوله: [إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ].
والنسيء عند العرب: تأخيرٌ يجعلونه لشهر حرام؛ فَيُصَيِّرونه حلالاً، ويحرمون شهراً آخر من الأشهر الحلال عوضاً عنه في عامه.
والداعي الذي دعا العرب إلى وضع النسيء أن العرب سَنَتُهُم قَمَرِيَّةٌ تبعاً للأشهر، فكانت سَنَتُهم اثني عشر شهراً قمرية تامة، وداموا على ذلك قروناً طويلة ثم بدا لهم؛ فجعلوا النسيء.
وأحسن ما روي في صفة ذلك قول أبي وائل(2)أن العرب كانوا أصحاب حروب وغارات، فكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها؛ فقالوا: لئن توالت علينا ثلاثة أشهر لا نصيب فيها شيئاً لنهلكن.
وسكت المفسرون عما نشأ بعد قول العرب هذا، ووقع في بعض ما رواه الطبري والقرطبي ما يوهم أن أول من نسأ لهم النسيء هو جنادة بن عوف وليس الأمر ذلك؛ لأن جنادة بن عوف أدرك الإسلام وأَمْرُ النسيءِ مُتَوَغِّلٌ في القدم.
والذي يجب اعتماده أن أول من نسأ النسيء هو حذيفة بن عبدنعيم أو فقيم _ولعل نعيم تحريف فقيم؛ لقول ابن عطية اسم نعيم لم يعرف في هذا_ وهو الملقب بالقَلَمّس؛ ولا يوجد ذكر بني فقيم في جمهرة ابن حزم، وقد ذكره صاحب القاموس وابن عطية.
__________
(1) _ لعله: العذير. (م)
(2) _ هكذا يؤخذ من مجموع كلام الطبري وابن عطية والقربي مع حذف المتداخل.(1/292)
قال ابن حزم أول من نسأ الشهور سرير _كذا ولعله سري_ بن ثعلبة ابن الحارث بن مالك بن كنانة، ثم ابن أخيه عدي بن عامر بن ثعلبة.
وفي ابن عطية خلاف ذلك قال: انتدب القَلَمَّسُ وهو حذيفة بن عبدفقيم، فنسأ لهم الشهور، ثم خلفه ابنه عباد، ثم ابنه قُلَع، ثم ابنه أمية، ثم ابنه عوف، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة، وعليه قام الإسلام، قال ابن عطية: =كان بنو فقيم أهل دين في العرب، وتَمسُّكٍ بشرع إبراهيم؛ فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة ابن عبدفقيم، فنسأ الشهور للعرب+.
وفي تفسير القرطبي عن الضحاك عن ابن عباس: =أول من نسأ عمرو ابن لحي+ _أي الذي أدخل عبادة الأصنام في العرب وبحر البحيرة وسيب السائبة_.
وقال الكلبي: =أول من نسأ رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة+. 10/189_190
18_ وتقريب زمن ابتداء العمل بالنسيء في أواخر القرن الثالث قبل الهجرة، أي في حدود سنة عشرين ومائتين قبل الهجرة. 10/191
19_ ووجه كونه كفراً أنهم يعلمون أن الله شرع لهم الحج، وَوَقَّتَه بشهر من الشهور القمرية المعدودة المسماة بأسماء تميزها عن الاختلاط، فلما وضعوا النسيء قد علموا أنهم يجعلون بعض الشهور في غير موقعه، ويسمونه بغير اسمه، ويصادفون إيقاع الحج في غير الشهر المعين له، أعني شهر ذي الحجة؛ ولذلك سموه النسيء اسماً مشتقاً من مادة النَّسَاء وهو التأخير، فهم قد اعترفوا بأنه تأخير شيء عن وقته، وهم في ذلك مستخفون بشرع الله _تعالى_ ومخالفون لما وقت لهم عن تَعَمُّدٍ مثبتين الحِلَّ لشهر حرام، والحرمةَ لشهر غير حرام، وذلك جرأة على دين الله واستخفاف به؛ فلذلك يشبه جعلهم لله شركاء؛ فكما جعلوا لله شركاء في الإلهية جعلوا من أنفسهم شركاء لله في التشريع يخالفونه فيما شرعه؛ فهو بهذا الاعتبار كالكفر؛ فلا دلالة في الآية على أن الأعمال السيئة توجب كفر فاعلها، ولكن كفر هؤلاء أوجب عملهم الباطل. 10/191(1/293)
20_ و[خِفَافاً] جمع خفيف وهو صفة مشبهة من الخفة، وهي حالة للجسم تقتضي قلة كمية أجزائه بالنسبة إلى أجسام أخرى متعارفة، فيكون سهل التنقل سهل الحمل.
والثقال: ضد ذلك، وتقدم الثقل آنفاً عند قوله: [اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ].
والخفاف والثقال هنا مستعاران لما يشابههما من أحوال الجيش وعلائقهم؛ فالخفة تستعار للإسراع إلى الحرب، وكانوا يتمادحون بذلك لدلالتها على الشجاعة والنجدة، قال قريط بن أنيف العنبري:
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا
فالثقل الذي يناسب هذا هو الثبات في القتال كما في قول أبي الطيب:
ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا
وتستعار الخفة لقلة العدد، والثقل لكثرة عدد الجيش كما في قول قريط: =زرافات ووحدانا+.
وتستعار الخفة لتكرير الهجوم على الأعداء، والثقل للتثبت في الهجوم. وتستعار الخفة لقلة الأزواد أو قلة السلاح، والثقل لضد ذلك.
وتستعار الخفة لقلة العيال، والثقل لضد ذلك، وتستعار الخفة للركوب؛ لأن الراكب أخف سيراً، والثقل للمشي على الأرجل وذلك في وقت القتال، قال النابغة:
على عارفاتٍ للطعان عوابسٍ ... بهن كلومٌ بين دامٍ وجالب(1)
إذ استُنْزِلوا عنهن للضرب أرقلوا ... إلى الموت إرقال الجمال المصاعب
وكل هذه المعاني صالحة للإرادة من الآية.
ولما وقع [خِفَافاً وَثِقَالاً] حالاً من فاعل [انفِرُوا] كان محمل بعض معانيهما على أن تكون الحال مقدرة والواو العاطفة لإحدى الصفتين على الأخرى للتقسيم، فهي بمعنى (أو) والمقصود الأمر بالنفير في جميع الأحوال.
والمجاهدة: المغالبة للعدو، وهي مشتقة من الجُهد بضم الجيم أي بذل الاستطاعة في المغالبة، وهو حقيقة في المدافعة بالسلاح؛ فإطلاقه على بذل المال في الغزو من إنفاق على الجيش واشتراء الكراع والسلاح مجاز بعلاقة السببية.
__________
(1) _ أي على خيل عارفات للطعان أي متعودات به.(1/294)
وقد أمر الله بكلا الأمرين، فمن استطاعهما معاً وجبا عليه، ومن لم يستطع إلا واحداً منهما وجب عليه الذي استطاعه منهما.
وتقديم الأموال على الأنفس هنا: لأن الجهاد بالأموال أقل حضوراً بالذهن عند سماع الأمر بالجهاد؛ فكان ذكره أهم بعد ذكر الجهاد مجملاً. 10/206_207
21_ والعَرَض: ما يعرض للناس من متاع الدنيا، وتقدم في قوله _تعالى_: [يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى] في سورة الأعراف، وقوله: [تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا] في سورة الأنفال والمراد به الغنيمة.
والقريب: الكائن على مسافة قصيرة، وهو هنا مجاز في السهل حصولُه.
و[قَاصِداً] أي وسطاً في المسافة غير بعيد.
واسم كان محذوف دل عليه الخبر، أي لو كان العرض عرضاً قريباً، والسفر سفراً متوسطاً، أو لو كان ما تدعوهم إليه عرضاً قريباً وسفراً.
والشُّقَّة _ بضم الشين _ المسافة الطويلة. 10/208
22_ [اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ].
وعن الشعبي، وعروة، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة أن عبد الله بن أُبَي ابن سلول مرض فسأل ابنه عبدالله بن عبدالله النبي"أن يستغفر له؛ ففعل؛ فنزلت؛ فقال النبي"إن الله قد رخص لي فسأزيد على السبعين؛ فنزلت [سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ].(1/295)
والذي يظهر لي أن رسول الله"لما أوحي إليه بآية سورة المنافقين، وفيه أن استغفاره وعدمه سواء في حقهم _ تأول ذلك على الاستغفار غير المؤكد، وبَعَثَتْهُ رَحْمَتُهُ بالناس، وحِرْصُه على هُداهم، وتَكَدُّرُه من اعتراضهم عن الإيمان _ أن يستغفر للمنافقين استغفاراً مكرراً مؤكداً عسى أن يغفر الله لهم، ويزول عنهم غضبه _تعالى_ فيهديهم إلى الإيمان الحق بما أن مخالطتهم لأحوال الإيمان ولو في ظاهر الحال قد يجر إلى تعلق هديه بقلوبهم بأقل سبب؛ فيكون نزول هذه الآية تأييساً من رضى الله عنهم، أي عن البقية الباقية منهم تأييساً لهم، ولمن كان على شاكلتهم ممن أطلع على دخائلهم، فاغتبط بحالهم بأنهم انتفعوا بصحبة المسلمين والكفار، فالآية تأييس من غير تعيين. 10/277
23_ و[سَبْعِينَ مَرَّةً]: غير مراد به المقدار من العدد بل هذا الاسم من أسماء العدد التي تستعمل في معنى الكثرة.
قال الكشاف: =السبعون جار مجرى المثل في كلامهم؛ للتكثر+.
ويدل له قول النبي": =لو أعلم أني لو زدت على السبعين غُفِرَ له _ لزدت+.
وهو ما رواه البخاري والترمذي من حديث عمر بن الخطاب.
وأما ما رواه البخاري من حديث أنس بن عياض وأبي أسامة عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر أن النبي " قال: =وسأزيد على السبعين+ فهو توهم من الراوي؛ لمنافاته رواية عمر بن الخطاب، ورواية عمر أرجح؛ لأنه صاحب القصة، ولأن تلك الزيادة لم تروَ من حديث يحيى بن سعيد عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر عند الترمذي وابن ماجه والنسائي. 10/278
24_ [فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]: تفريع كلام على الكلام السابق من ذكر فرحهم، ومن إفادة قوله: [قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً] من التعريض بأنهم أهلها وصائرون إليها.
والضحك هنا: كناية عن الفرح، أو أريد ضحكهم فرحاً؛ لاعتقادهم ترويج حيلتهم على النبي"إذ أذن لهم بالتخلف.(1/296)
والبكاء: كناية عن حزنهم في الآخرة فالأمر بالضحك وبالبكاء مستعمل في الإخبار بحصولهما قطعاً؛ إذ جعلا من أمر الله، أو هو أمر تكوين مثل قوله: [فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا] والمعنى أن فرحهم زائل، وأن بكاءهم دائم.
والضحك: كيفية في الفم تتمدد منها الشفتان، وربما أسفرتا عن الأسنان، وهي كيفية تعرض عند السرور والتعجب من الحسن.
والبكاء: كيفية في الوجه والعينين تنقبض بها الوجنتان والأسارير والأنف، ويسيل الدمع من العينين، وذلك يعرض عند الحزن والعجز عن مقاومة الغلب.
وقوله: [جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] حال من ضميرهم، أي جزاء لهم، والمجعول جزاء هو البكاء المعاقب للضحك القليل؛ لأنه سلب نعمة بنقمة عظيمة.
وما كانوا يكسبون هو أعمال نفاقهم، واختير الموصول في التعبير عنه؛ لأنه أشمل مع الإيجاز. 10/381_382
25_ [الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] استئناف ابتدائي رجع به الكلام إلى أحوال المعذِّرين من الأعراب والذين كذبوا الله ورسوله منهم، وما بين ذلك استطراد دعا إليه قرن الذين كذبوا الله ورسوله في الذكر مع الأعراب؛ فلما تقضَّى الكلام على أولئك تخلص إلى بقية أحوال الأعراب.
وللتنبيه على اتصال الغرضين وقع تقديم المسند إليه، وهو لفظ [الأَعْرَابُ] للاهتمام به من هذه الجهة، ومن وراء ذلك تنبيه المسلمين لأحوال الأعراب؛ لأنهم؛ لبعدهم عن الاحتكاك بهم، والمخالطة معهم قد تخفى عليهم أحوالهم، ويظنون بجميعهم خيراً.
و[أَشَد] و[أَجْدَر]: اسما تفضيل، ولم يذكر معهما ما يدل على مفضل عليه، فيجوز أن يكونا على ظاهرهما، فيكون المفضل عليه أهل الحضر، أي كفار ومنافقي المدينة، وهذا هو الذي تواطأ عليه جميع المفسرين.
وازديادهم في الكفر والنفاق هو بالنسبة لكفار ومنافقي المدينة.
ومنافقوهم أشد نفاقاً من منافقي المدينة.(1/297)
وهذا الازدياد راجع إلى تَمَكُّن الوصفين من نفوسهم، أي كفرهم أمكن في النفوس من كفر كفار المدينة، ونفاقهم أمكن من نفوسهم كذلك، أي أمكن في جانب الكفر منه، والبعد عن الإقلاع عنه وظهور بوادر الشر منهم؛ وذلك أن غلظ القلوب، وجلافة الطبع تزيد النفوس السيئة وحشةً ونفوراً.
ألا تعلم أن ذا الخويصرة التميمي، وكان يَدَّعي الإسلام لما رأى النبي"أعطى الأقرع بن حابس ومن معه من صناديد العرب مَنْ ذَهَب قَسْمُه _ قال ذو الخويصرة مواجهاً النبي": =اعدل+ فقال له النبي": =ويحك ومن يعدل إن لم أعدل؟!+.
فإن الإعراب لنشأتهم في البادية كانوا بعداء عن مخالطة أهل العقول المستقيمة وكانت أذهانهم أبعد عن معرفة الحقائق، وأملأ بالأوهام، وهم لبعدهم عن مشاهدة أنوار النبي"وأخلاقه وآدابه وعن تلقي الهدى صباح مساء _ أجهل بأمور الديانة وما به تهذيب النفوس، وهم لتوارثهم أخلاق أسلافهم وبعدهم عن التطورات المدنية التي توثِّر سمواً في النفوس البشرية، وإتقاناً في وضع الأشياء في مواضعها، وحكمةً تقليديةً تتدرج بالأزمان _ يكونون أقرب سيرة بالتوحش، وأكثر غلظة في المعاملة، وأوضع للتراث العلمي والخلقي؛ ولذلك قال عثمان لأبي ذر لما عزم على سكنى الربذة: =تعهد المدينة؛ كيلا ترتد أعرابياً+.
فأما في الأخلاق التي تحمد فيها الخشونة والغلظة والاستخفاف بالعظائم مثل الشجاعة، والصراحة، وإباء الضيم، والكرم _ فإنها تكون أقوى في الأعراب بالجبلة، ولذلك يكونون أقرب إلى الخير إذا اعتقدوه، وآمنوا به.
ويجوز أن يكون (أشد) و(أجدر) مسلوبي المفاضلة مستعملين لقوة الوصفين في الموصوفين بهما على طريقة قوله _تعالى_: [قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ](1).
__________
(1) _ وقوله: [أَصْحَاْبُ الجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرَّاً]. (م)(1/298)
فالمعنى أن كفرهم شديد التمكن من نفوسهم ونفاقهم كذلك، من غير إرادة أنهم أشد كفراً ونفاقاً من كفار أهل المدينة ومنافقيها. 11/10_12
26_ وجملة [سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ] استئناف بياني للجواب على سؤال يثيره قوله [نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ] وهو أن يسأل سائل عن أثر كون الله _تعالى_ يَعْلَمُهم، فأعلم أنه سيعذبهم على نفاقهم، ولا يفلتهم منه عدم علم الرسول _عليه الصلاة والسلام_ بهم.
والعذاب الموصوف بمرتين عذاب في الدنيا؛ لقوله بعده [ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ].
وقد تحير المفسرون في تعيين المراد من المرتين، وحملوه كلُّهم على حقيقة العدد، وذكروا وجوهاً لا ينشرح لها الصدر.
والظاهر عندي أن العدد مستعمل لمجرد قصد التكرير المفيد للتأكيد كقوله _تعالى_: [ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ] أي تأمل تأملاً متكرراً.
ومنه قول العرب: لبيك وسعديك، فأسم التثنية نائب مناب إعادة اللفظ.
والمعنى: سنعذبهم عذاباً شديداً متكرراً مضاعفاً، كقوله _تعالى_: [يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ] وهذا التكرر تختلف أعدداه باختلاف أحوال المنافقين، واختلاف أزمان عذابهم.
والعذاب العظيم: هو عذاب جهنم في الآخرة. 11/20
27_ [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ].
لما كان من شرط التوبة تداركُ ما يمكن تداركُه مما فات، وكان التخلف عن الغزو مشتملاً على أمرين هما عدمُ المشاركةِ في الجهاد، وعدمُ إنفاقِ المال في الجهاد _ جاء في هذه الآية إرشادٌ لطريقِ تداركِهم ما يمكن تداركُه مما فات وهو نفع المسلمين بالمال؛ فالإنفاق العظيم على غزوة تبوك استنفد المالَ المعدَّ لنوائب المسلمين؛ فإذا أُخِذ من المُخَلَّفين شيءٌ من المال انجبر به بعض الثلم الذي حل بمال المسلمين؛ فهذا وجه مناسبة ذكر هذه الآية عقب التي قبلها.(1/299)
وقد روي أن الذين اعترفوا بذنوبهم قالوا للنبي": هذه أموالنا التي بسببها تخلفنا عنك خذها؛ فتصدق بها، وطهِّرنا، واستغفر لنا، فقال لهم: =لم أؤمر بأن آخذ من أموالكم+ حتى نزلت هذه الآية فأخذ منهم النبي"صدقاتهم؛ فالضمير عائد على آخرين اعترفوا بذنوبهم. 11/22
28_ والسَّكَن: بفتحتين ما يُسكن إليه، أي يطمأن إليه، ويرتاح به.
وهو مشتق من السكون بالمعنى المجازي، وهو سكون النفس، أي سلامتها من الخوف ونحوه؛ لأن الخوف يوجب كثرة الحذر واضطراب الرأي؛ فتكون النفس كأنها غير مستقرة، ولذلك سمي ذلك قلقاً؛ لأن القلق كثرة التحرك؛ وقال _تعالى_: [وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً] وقال: [وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً] ومن أسماء الزوجة السكن.
أو لأن دعاءه لهم يزيد نفوسهم صلاحاً وسكوناً إلى الصالحات؛ لأن المعصية تَرَدُّدٌ واضطراب، كما قال _تعالى_: [فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ].
والطاعة اطمئنان ويقين، كما قال _تعالى_: [أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]. 11/23
29_ ولفظ =أواه+ مثال مبالغة: الذي يكثر قول أوه بلغاته الثلاث عشرة التي عدها في القاموس، وأشهرها أَوَّه بفتح الهمزة وواو مفتوحة مشددة وهاء ساكنة.
قال المرادي في شرح التسهيل: وهذه أشهر لغاتها، وهي اسم فعل مضارع بمعنى أتوجع لإنشاء التوجع، لكن الوصف بـ=أواه+ كناية عن الرأفة، ورقة القلب، والتضرع حين يوصف به من ليس به وجع.
والفعل المشتق منه (أواه) حقه أن يكون ثلاثياً؛ لأن أمثلة المبالغة تصاغ من الثلاثي.
وقد اختلف في استعمال فعل ثلاثي له، فأثبته قطرب، وأنكره عليه غيره من النحاة.
وإتباعُ [لأَوَّاهٌ] بوصف [حَلِيمٌ] هنا وفي آيات كثيرة _ قرينة على الكناية، وإيذانٌ بمثار التأوه عنده.(1/300)
والحليم: صاحب الحِلْمِ، والحِلْمُ _بكسر الحاء_: صفة في النفس، وهي رجاحة العقل، وثباتة، ورصانة، وتباعد عن العدوان؛ فهو صفة تقتضي هذه الأمور، ويجمعها عدم القسوة.
ولا تنافي الانتصار للحق لكن بدون تجاوز للقدر المشروع في الشرائع أو عند ذوي العقول.
قال(1):
حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب
11/46
1_ سميت في المصاحف وفي كتب التفسير والسنة سورة يونس؛ لأنها انفردت بذكر خصوصية لقوم يونس، أنهم آمنوا بعد أن توعدهم رسولهم بنزول العذاب؛ فعفا الله عنهم لما آمنوا، وذلك في قوله _تعالى_: [فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ].
وتلك الخصوصية كرامةٌ ليونس _عليه السلام_ وليس فيها ذكر ليونس غير ذلك، وقد ذكر يونس في سورة الصافات بأوسع مما في هذه السورة، ولكن وجه التسمية لا يوجبها.
والأظهر عندي أنها أضيفت إلى يونس تمييزاً لها عن أخواتها الأربع المفتتحة بـ[الر].
ولذلك أضيفت كل واحدة منها إلى نبي أو قوم نبي عوضاً عن أن يقال: (الر) الأولى و(الر) الثانية، وهكذا؛ فإن اشتهار السور بأسمائها أول ما يشيع بين المسلمين بأولى الكلمات التي تقع فيها وخاصة إذا كانت فواتحها حروفاً مقطعة؛ فكانوا يدعون تلك السور بآل حم وآل ألر ونحو ذلك.
وهي مكية في قول الجمهور؛ وهو المروي عن ابن عباس في الأصح عنه.
__________
(1) _ هو سعد بن كعب العنوي في أخيه أبي المغوار، ومنها:
حليم إذا ما سورة الجهل أطلقت ... حُبى الشِّيب للنفس اللجوج غلوب
لقد كان أما حِلْمُهُ فمروَّحٌ ... علينا وأما جهلُه فعزيبُ ... (م)(1/301)
وفي الإتقان عن عطاء عنه أنها مدنية، وفي القرطبي عن ابن عباس أن ثلاث آيات منها مدنية وهي قوله _تعالى_: [فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ] إلى قوله: [حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ].
وجزم بذلك القمي النيسابوري.
وفي ابن عطية عن مقاتل إلا آيتين مدنيتين هما: [فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ] إلى قوله: [مِنْ الْخَاسِرِينَ].
وفيه عن الكلبي أن آية واحدة نزلت بالمدينة وهي قوله _تعالى_: [وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ]إلى [أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ] نزلت في شأن اليهود.
وقال ابن عطية: =قالت فرقة: نزل نحو من أربعين آية من أولها بمكة ونزل باقيها بالمدينة، ولم ينسبه إلى معين+.
وأحسب أن هذه الأقوال ناشئة عن ظن أن ما في القرآن من مجادلة مع أهل الكتاب لم ينزل إلا بالمدينة، فإن كان كذلك فظن هؤلاء مخطئ، وسيأتي التنبيه عليه.
وعدد آيها مائة وتسع آيات في عد أكثر الأمصار، ومائة وعشر في عد أهل الشام.
وهي السورة الحادية والخمسون في ترتيب نزول السور.
نزلت بعد سورة بني إسرائيل وقبل سورة هود، وأحسب أنها نزلت سنة إحدى عشرة بعد البعثة؛ لما سيأتي عند قوله _تعالى_: [وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا]. 11/77_78
2_ من أغراض هذه السورة: ابتدئت بمقصد إثباتِ رسالة محمد"بدلالة عجزِ المشركين عن معارضة القرآن دلالةً نُبِّه عليها بأسلوب تعريضي دقيق بُني على الكناية بتهجية الحروف المقطعة في أول السورة كما تقدم في مفتتح سورة البقرة، ولذلك أتبعت تلك الحروف بقوله _تعالى_ [تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ] إشارة إلى أن إعجازه لهم هو الدليل على أنه من عند الله، وقد جاء التصريح بما كني عنه هنا في قوله [قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ].
وأُتْبِعَ بإثبات رسالة محمد " وإبطالِ إحالةِ المشركين أن يرسل اللهُ رسولاً بشراً.(1/302)
وانتقل من ذلك إلى إثبات انفراد اللهِ _تعالى_ بالإلهية بدلالة أنه خالقُ العالمِ ومدبره؛ فَأَفضى ذلك إلى إبطالِ أن يكونَ لله شركاءُ في إلهيته، وإلى إبطال معاذيرِ المشركين بأن أصنامَهم شفعاءُ عند الله.
وأُتْبِعَ ذلك بإثبات الحشر والجزاء؛ فذلك إبطال أصول الشرك.
وتخلل ذلك بذكر دلائل من المخلوقات، وبيانِ حكمة الجزاء، وصفةِ الجزاء، وما في دلائل المخلوقات من حكم ومنافع للناس.
ووعيد منكري البعث المعرضين عن آيات الله، وبضد أولئك وَعْد الذين آمنوا؛ فكان معظمُ هذه السورةِ يدور حول محورِ تقريرِ هذه الأصول.
فمن ذلك التنبيهُ على أن إمهالَ اللهِ _تعالى_ الكافرين دون تعجيل العذاب هو حكمةٌ منه.
ومن ذلك التذكيرُ بما حل بأهل القرون الماضية لما أشركوا وكذَّبوا الرسل.
والاعتبارُ بما خلق اللهُ للناس من مواهبِ القدرة على السير في البر والبحر، وما في أحوال السير في البحر من الإلطاف.
وضَرْبُ المثل للدنيا وبهجتها وزوالها، وأن الآخرةَ هي دارُ السلام.
واختلافُ أحوالِ المؤمنين والكافرين في الآخرة، وتبرؤُ الآلهة الباطلة من عبدتها.
وإبطالُ إلهيةِ غير الله _تعالى_ بدليل أنها لا تغني عن الناس شيئاً في الدنيا ولا في الآخرة.
وإثباتُ أن القرآن منزَّل من الله، وأن الدلائلَ على بطلان أن يكون مفترىً واضحةٌ.
وتحديْ المشركين بأن يأتوا بسورة مثله، ولكنَّ الضلالةَ أعمت أبصار المعاندين.
وإنذارُ المشركين بعواقبِ ما حل بالأمم التي كذبت بالرسل، وأنهم إن حل بهم العذاب لا ينفعهم إيمانهم، وأن ذلك لم يلحق قومَ يونسَ؛ لمصادفة مبادرتهم بالإيمان قبل حلول العذاب.
وتوبيخُ المشركين على ما حَرَّمُوه مما أحل الله من الرزق.
وإثباتُ عموم العلم لله _تعالى_.
وتبشيرُ أولياءِ اللهِ في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وتسليةُ الرسولِ عما يقوله الكافرون.
وأنه لو شاء لآمن مَنْ في الأرض كلهم.(1/303)
ثم تَخَلَّص إلى الاعتبارِ بالرسل السابقين: نوحٍ ورسلٍ من بعده، ثم موسى وهارونَ.
ثم استشهد على صدق رسالة محمد"بشهادة أهل الكتاب.
وختمت السورةُ بتلقين الرسول _عليه الصلاة والسلام_ مما يُعْذَر به لأهل الشك في دين الإسلام، وأن اهتداءَ مَنِ اهتدى لنفسه وضلالَ مَنْ ضَلَّ عليها، وأن اللهَ سيحكم بينه وبين معانديه. 11/78_80
3_ فجعل الشمس ضياءً؛ لانتفاع الناس بضيائها في مشاهدة ما تَهُمُّهُمْ مشاهدتُه بما به قوامُ أعمالِ حياتهم في أوقات أشغالهم.
وجعل القمر نوراً؛ للانتفاع بنوره انتفاعاً مناسباً للحاجة التي قد تعرض إلى طلب رؤية الأشياء في وقت الظلمة وهو الليل.
ولذلك جعل نوره أضعف؛ لينتفع به بقدر ضرورة المنتفع؛ فمن لم يضطرَّ إلى الانتفاع به لا يشعر بنوره، ولا يصرفه ذلك عن سكونه الذي جعل ظلام الليل لحصوله.
ولو جعلت الشمس دائمة الظهور للناس لاستووا في استدامة الانتفاع بضيائها؛ فيشغلهم ذلك عن السكون الذي يستجدون به ما فَتَر من قواهم العصبية التي بها نشاطهم وكمال حياتهم. 11/94
4_ والزيادة يتعين أنها زيادة لهم ليست داخلة في نوع الحسنى بالمعنى الذي صار علماً بالغلبة، فلا ينبغي أن تفسر بنوع مما في الجنة لأنها تكون حينئذ مما يستغرقه لفظ الحسنى؛ فتعين أنها أمر يرجع إلى رفعة الأقدار، فقيل: هي رضى الله _تعالى_ كما قال: [وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ] وقيل: هي رؤيتهم اللهَ _تعالى_ وقد ورد ذلك عن النبي"في صحيح مسلم وجامع الترمذي عن صهيب عن النبي"في قوله _تعالى_: [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ] قال: =إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، قالوا: ألم تبيض وجوهنا وتنجنا من النار وتدخلنا الجنة، قال: فيكشف الحجاب، قال: فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه+.
وهو أصرح ما ورد في تفسيرها. 11/146(1/304)
5_ وقد أورد الشيخ ابن عرفة سؤالاً عن وجه التفرقة بين قوله: [مَنْ يَسْتَمِعُونَ] وقوله: [مَنْ يَنْظُرُ] إذ جيء بضمير الجمع في الأول وبضمير المفرد في الثاني، وأجاب عنه: =بأن الإسماع يكون من الجهات كلها، وأما النظر فإنما يكون من الجهة المقابلة+.
وهو جواب غير واضح؛ لأن تعدد الجهات الصالحة لأحد الفعلين لا يؤثر إذا كان المستمعون والناظرون متحدين، ولأن الجمع والإفراد هنا سواء لأن مفاد (مَنْ) الموصولة فيهما هو من يصدر منهم الفعل وهم عدد وليس الناظر شخصاً واحداً.
والوجه أن كلا الاستعمالين سواء في مراعاة لفظ (من) ومعناها، فلعل الابتداء بالجمع في صلة (من) الأولى الإشارة إلى أن المراد بـ (من) غير واحد معين، وأن العدول عن الجمع في صلة (من) الثانية هو التفنن، وكراهية إعادة صيغة الجمع؛ لثقلها لا سيما بعد أن حصل فهم المراد، أو لعل اختلاف الصيغتين للمناسبة مع مادة فعلي (يستمع) و(ينظر) ففعل (ينظر) لا تلائمه صيغة الجمع؛ لأن حروفه أثقل من حروف (يستمع) فيكون العدول استقصاء لمقتضى الفصاحة. 11/179_180
6_ [وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ].
ومعنى تَبَوُّؤِ البيوت لقومهما أن يأمرا قومهما باتخاذ البيوت على الوصف الذي يأمرانهم به.
وإذ قد كان لبني إسرائيل ديار في مصر من قبل؛ إذ لا يكونون قاطنين مصر بدون مساكن، وقد كانوا ساكنين أرض (جاسان) قرب مدينة منفيس قاعدة المملكة يومئذ في جنوب البلاد المصرية _كما بيناه في سورة البقرة_ لا جرم أن تكون البيوت المأمور بتبوئها غير البيوت التي كانوا ساكنيها.(1/305)
واضطرب المفسرون في المراد من هذه البيوت، وذكروا روايات غير ملائمة لحالة القوم يومئذ؛ فقيل: أريد بالبيوت بيوت العبادة أي مساجد يصلون فيها، وربما حمل على هذا التفسير من تأوله وقوع قوله: [وَأَقِيْمُوْا الصَّلاَةَ] عقبه، وهذا بعيد؛ لأن الله علم أن بني إسرائيل مفارقون مصر قريباً بإذنه.
وقيل: البيوت بيوت السكنى، وأمسكوا عن المقصود من هذه البيوت.
وهذا القول هو المناسب للتبوؤ؛ لأن التبوؤ: السكنى، والمناسب _أيضاً_ لإطلاق البيوت، وكونها بمصر.
فالذي يظهر؛ بناءً عليه أن هذه البيوت خيام أو أخصاص أمرهم الله باتخاذها؛ تهيئة للارتحال، وهي غير ديارهم التي كانوا يسكنونها في (جاسان) قرب مدينة فرعون، وقد جاء في التوراة ما يشهد بهذا التأويل في الفصل الرابع من سفر الخروج: أن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل إلى البادية؛ ليعملوا عيد الفصح ثلاثة أيام، وأن ذلك أول ما سأله موسى من فرعون، وأن فرعون منعهم من ذلك، وأن موسى كرر طلب ذلك من فرعون كل ذلك يمنعه كما في الفصل السابع والفصل الثامن من سفر الخروج، وقد صار لهم ذلك عيداً بعد خروجهم.
وقوله: [وَاجْعَلُوْا بُيُوْتَكُمْ قِبْلَةً] أي هذه الخيام أو الأخصاص التي تتخذونها تجعلونها مفتوحة إلى القبلة، قاله ابن عطية عن ابن عباس. 11/265_266(1/306)
7_ والقبلة: اسم في العربية لجهة الكعبة، وتلك الجهة هي ما بين المشرق والمغرب؛ لأن قبلة بلاد مصر كقبلة المدينة ما بين المشرق والمغرب وهي الجنوب، فيجوز أن يكون التعبير عن تلك الجهة بالقبلة في الآية حكاية لتعبير موسى عنها بما يدل على معنى التوجه إلى الجهة التي يصلون إليها، وهي قبلة إبراهيم؛ فيكون أَمْرُ بني إسرائيل يومئذ جارياً على الملة الحنيفية قبل أن يُنْسخ بالاستقبال إلى صخرة القدس، ويجوز أن يكون موسى قد عبر بما يفيد معنى الجنوب، فحكيت عبارته في القرآن باللفظ المرادف له الشائع في التعبير عن الجنوب عند العرب وهو كلمة قبلة.
والحكمة في جعل البيوت إلى القبلة أن الشمس تدخلها من أبوابها في غالب أوقات النهار في جميع الفصول وفي ذلك منافع كثيرة.
والذين فسروا البيوت بأنها بيوت السكنى فسروا (قبلة): إما بمعنى متقابلة، وإما بمعنى اجعلوا بيوتكم محل صلاتكم، وكلا التفسيرين بعيد عن الاستعمال.
وأما الذين تأولوا البيوت بالمساجد فقد فسروا القبلة بأنها قبلة الصلاة، أي جهة الكعبة.
وعن ابن عباس: =كانت الكعبة قبلة موسى+.
وعن الحسن: =كانت الكعبة قبلة كل الأنبياء+.
وهذا التفسير يلائم تركيب [اجْعَلُوْا بُيُوْتَكُمْ قِبْلَةً] لأن التركيب اقتضى أن المجعول قبلة هو البيوت أنفسها لا أن تجعل الصلاة فيها إلى جهة القبلة، فإذا افتقدنا التأويلات كلها لا نجدها إلا مفككة متعسفة خلا التفسير الذي عَوَّلنا عليه، وقد اختلفوا فيه؛ فهدانا الله إليه. 11/266
8_ [أَلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ].11/277(1/307)
اعلم أن هذه الآية أصرح آية في القرآن دلالة على أن فرعون الذي أرسل إليه موسى، والذي أتبع بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر قد أصابه الغرق، وقد أشارت إليه آية سورة الأعراف، وآية سورة البقرة.
وفرعون هذا هو منفطاح الثاني، ويقال له (ميرنبتا) _بباء فارسية_ أو (منفتاح) أو (منيفتا) وهو ابن رعمسيس الثاني المعروف عند اليونان باسم (سيزوستريس) من ملوك العائلة التاسعة عشرة من الأسر الفرعونية، وكانوا في حدود سنة 1491 قبل المسيح.
قال ابن جريج: كان فرعون هذا قصيراً أحمر، فلا نشك في أن منفطاح الثاني مات غريقا في البحر، وأنه خرجت جثته بعد الغرق فدفن في وادي الملوك في صعيد مصر، فذكر المنقبون عن الآثار أنه وجد قبره هناك، وذلك يومئ إلى قوله _تعالى_: [فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً].
ووجود قبر له _إن صح بوجه محقق_ لا ينافي أن يكون مات غريقاً، وإن كان مؤرخو القبط لم يتعرضوا لصفة موته، وما ذلك إلا لأن الكهنة أجمعوا على إخفائها؛ كيلا يتطرق الشك إلى الأمة فيما يمجد به الكهنة كل فرعون من صفات بنوة الآلهة.
وخَلَفَتْهُ في ملك مصر ابنته المسماة (طوسير) لأنه تركها وابناً صغيراً.
وقد جاء ذكر غرق فرعون في التوراة في الإصحاح الرابع عشر من سفر الخروج بعبارات مختلفة الصراحة والإغلاق.
ومن دقائق القرآن قوله _تعالى_: [فَاليَوْمَ نُنَجِّيْكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُوْنَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً].
وهي عبارة لم يأت فيما كتب من أخبار فرعون، وإنها لمن الإعجاز العلمي في القرآن؛ إذ كانت الآية منطبقة على الواقع التاريخي.
والظاهر أن الأمواج ألقت جثته على الساحل الغربي من البحر الأحمر، فعثر عليه الذين خرجوا يتقصون آثاره ممن بقوا بعده بمدينة مصر لما استبطأوا رجوعه ورجوع جيشه، فرفعوه إلى المدينة وكان عبرة لهم. 11/280_281(1/308)
9_ والمستخلص من الروايات الواردة في قوم يونس أنهم بادروا إلى الإيمان بعد أن فارقهم يونس؛ توقعاً لنزول العذاب، وقبل أن ينزل بهم العذاب، وذلك دليل على أن معاملة الله إياهم ليست مخالفة لما عامل به غيرهم من أهل القرى، وأن ليست لقوم يونس خصوصية، وبذلك لا يكون استثنائهم استثناءً منقطعاً. 11/289
10_ وقوم يونس هم أهل قرية نَيْنَوَى(1)من بلاد العراق، وهم خليط من الآشوريين واليهود الذين كانوا في أسر ملوك بابل بعد بختنصر.
وكانت بعثة يونس إليهم في أول القرن الثامن قبل المسيح، وقد تقدم ذكر يونس وترجمته في سورة الأنعام.
ولما كذبه أهل نينوى توعدهم بخسف مدينتهم بعد أربعين يوماً، وخرج من المدينة غاضباً عليهم، فلما خرج خافوا نزول العذاب بهم، فتابوا، وآمنوا بالله، فقبل الله إيمانهم ولم يعذبهم.
والمذكور أنهم رأوا غيماً أسود بعد مضي خمسة وثلاثين يوماً من حين توعدهم يونس _عليه السلام_ بحلول العذاب، فعلموا أنه مقدمة العذاب، فآمنوا وخضعوا لله _تعالى_ فأمسك عنهم العذاب. 11/290
1_ سميت في جميع المصاحف وكتب التفسير والسنة سورة هود، ولا يعرف لها اسم غير ذلك، وكذلك وردت هذه التسمية عن النبي"في حديث ابن عباس أن أبا بكر قال: يا رسول الله قد شبتَ، قال: =شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت+.
رواه الترمذي بسند حسن في كتاب التفسير من سورة الواقعة.
وروي من طرق أخرى بألفاظ متقاربة يزيد بعضها على بعض.
__________
(1) _ بفتح النونين بينهما ياء تحتية ساكنة، وبعد النون الثانية واو مفتوحة بعدها ألف، هي إحدى مدن بلاد أشور من العراق، كائنة على الضفة اليسرى من الدجلة، بناها الملك أشور سنة 2229 قبل الميلاد، وكانت مصطافاً لملوك أشور من عهد شلمناص الأول.(1/309)
وسميت باسم هود؛ لتكرر اسمه فيها خمس مرات، ولأن ما حكي عنه فيها أطول مما حكي عنه في غيرها، ولأن عاداً وُصِفوا فيها بأنهم قوم هود في قوله [أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ].
وقد تقدم في تسمية سورة يونس وجه آخر للتسمية ينطبق على هذه وهو تمييزها من بين السور ذوات الافتتاح بـ[ألر].
وهي مكية كلها عند الجمهور، وروي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير، وقتادة إلا آية واحدة وهي: [وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ] إلى قوله: [لِلذَّاكِرِينَ].
وقال ابن عطية: هي مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة.
وهي قوله _تعالى_: [فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ]، وقوله: [أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ] إلى قوله: [أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ].
قيل: نزلت في عبدالله بن سلام، وقوله: [وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ] الآيةَ، قيل: نزلت في قصة أبي اليسر _كما سيأتي_.
والأصح أنها كلها مكية وأن ما روي من أسباب النزول في بعض آيها توهُّمٌ لاشتباه الاستدلال بها في قصة بأنها نزلت حينئذ كما يأتي، على أن الآية الأولى من هذه الثلاث واضح أنها مكية.
نزلت هذه السورة بعد سورة يونس وقبل سورة يوسف، وقد عُدَّت الثانية والخمسين في ترتيب نزول السور.
ونقل ابن عطية في أثناء تفسير هذه السورة أنها نزلت قبل سورة يونس؛ لأن التحدي فيها وقع بعشر سور، وفي سورة يونس وقع التحدي بسورة، وسيأتي بيان هذا.
وقد عدت آياتها مائة وإحدى وعشرين في العدد المدني الأخير، وكانت آياتها معدودة في المدني الأول مائة واثنتين وعشرين، وهي كذلك في عدد أهل الشام وفي عدد أهل البصرة وأهل الكوفة مائة وثلاث وعشرون. 11/311_312
2_ وأغراضها: ابتدأت بالإيماء إلى التحدي؛ لمعارضة القرآن بما تومئ إليه الحروف المقطعة في أول السورة، وباتلائها بالتنويهِ بالقرآن، وبالنهيِ عن عبادة غير الله _تعالى_.(1/310)
وبأن الرسولَ _عليه الصلاة والسلام_ نذيرٌ للمشركين بعذاب يومٍ عظيمٍ، وبشيرٌ للمؤمنين بمتاعٍ حسنٍ إلى أجلٍ مسمىً.
وإثباتُ الحشرِ، والإعلامُ بأن اللهَ مطلعٌ على خفايا الناس، وأن اللهَ مدبرٌ أمورَ كلَّ حيٍّ على الأرض.
وخلقُ العوالمِ بعد أن لم تكن، وأن مرجعَ الناسِ إليه، وأنه ما خلقهم إلا للجزاء.
وتثبيتُ النبيِّ"وتسليتُهُ عما يقوله المشركون وما يقترحونه من آيات على وَفْقَ هواهم [أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ].
وأن حَسْبَهم آيةُ القرآنِ الذي تحداهم بمعارضته؛ فعجزوا عن معارضته؛ فتبين خذلانُهم؛ فهم أحقاءُ بالخسارة في الآخرة.
وضَرْبُ مثلٍ لفريقي المؤمنين والمشركين.
وذِكْرُ نظرائهم من الأمم البائدة من قوم نوح، وتفصيلُ ما حلَّ بهم وعادٍ وثمود، وإبراهيم، وقوم لوط، ومدين، ورسالة موسى؛ تعريضاً بما في جميع ذلك من العبر وما ينبغي منه الحذر؛ فإن أولئك لم تَنْفَعْهم آلهتُهم التي يدعونها.
وأن في تلك الأنباء عظةً للمتبعين بسيرهم.
وأن مِلاكَ ضلالِ الضالين عدمُ خوفِهم عذابَ اللهِ في الآخرة؛ فلا شك في أن مشركي العرب صائرون إلى ما صار إليه أولئك.
وانفردت هذه السورةُ بتفصيلِ حادثِ الطوفانِ وغَيْضِه.
ثم عَرْضٌ باستئناس النبي"وتسليتِه باختلاف قوم موسى في الكتاب الذي أوتيه؛ فما على الرسول وأتباعه إلا أن يستقيم فيما أمره الله، وأن لا يركنوا إلى المشركين، وأن عليهم بالصلاة والصبر والمضي في الدعوة إلى الصلاح؛ فإنه لا هلاك مع الصلاح.
وقد تخلل ذلك عظاتٌ وعبرٌ ، والأمرُ بإقامة الصلاة. 11/312_313
3_ والفخر: تباهي المرءِ على غيره بِمَا لَهُ من الأشياء المحبوبة للناس. 12/14(1/311)
4_ [فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)].
عطف قول الملأ من قومه بالفاء على فعل [أَرْسَلْنَا] للإشارة إلى أنهم بادروه بالتكذيب والمجادلة الباطلة لما قال لهم: [إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ] إلى آخره، ولم تقع حكاية ابتداء محاورتهم إياه بـ[قَاْلَ] مجرداً عن الفاء كما وقع في الأعراف؛ لأن ابتداء محاورته إياهم هنا لم يقع بلفظ القول فلم يحك جوابهم بطريقة المحاورات بخلاف آية الأعراف.
والملأ: سادة القوم، وتقدم عند قوله _تعالى_: [قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ] في سورة الأعراف.
جزموا بتكذيبه؛ فقدموا لذلك مقدمات استخلصوا منها تكذيبه، وتلك مقدمات باطلة أقاموها على ما شاع بينهم من المغالطات الباطلة التي روجها الإلف والعادة؛ فكانوا يعدون التفاضل بالسؤدد وهو شرفٌ مُصْطَلحٌ عليه قِوَامُه الشجاعةُ والكرمُ، وكانوا يجعلون أسباب السؤدد أسباباً ماديةً جسدية؛ فَيُسَوِّدون أصحاب الأجسام البَهِجة كأنهم خشب مسندة؛ لأنهم ببساطة مداركهم العقلية يعظمون حُسْنَ الذوات، ويسوِّدون أهل الغنى؛ لأنهم يطمعون في نوالهم، ويسودون الأبطال؛ لأنهم يُعِدُّونهم لدفاع أعدائهم.
ثم هم يعرفون أصحاب تلك الخلال إما بمخالطتهم، وإما بمخالطة أتباعهم؛ فإذا تسامعوا بسيدِ قَوْمٍ ولم يَعْرِفُوه تَعَرَّفوا أتباعه وأنصاره؛ فإن كانوا من الأشراف والسادة علموا أنهم ما اتبعوه إلا لما رأوا فيه من موجبات السيادة.
وهذه أسباب ملائمة لأحوال أهل الضلالة؛ إذ لا عناية لهم بالجانب النفساني من الهيكل الإنساني.(1/312)
فلما دعاهم نوح _عليه السلام_ دعوة علموا منها أنه يقودهم إلى طاعته، ففكروا، وقدَّروا، فرأوا الأسباب المألوفة بينهم للسؤدد مفقودة من نوح _عليه السلام_ ومن الذين اتعبوه(1) فجزموا بأنه غير حقيق بالسيادة عليهم؛ فجزموا بتكذيبه فيما ادعاه من الرسالة بسيادة للأمة، وقيادة لها.
وهؤلاء لقصور عقولهم وضعف مداركهم لم يبلغوا إدراك أسباب الكمال الحق، فذهبوا يتطلبون الكمال من أعراض تَعْرِضُ للناس بالصدفة من سعة مال، أو قوة أتباع، أو عزة قبيلة.
وتلك أشياء لا يَطَّرِدُ أثرُها في جلب النفع العام، ولا إشعار لها بكمال صاحبها؛ إذ يشاركه فيها أقل الناس عقولاً، والحيوانُ الأعجمُ مثل البقرة بما في ضرعها من لبن، والشاة بما على ظهرها من صوف، بل غالب حالها أنها بضد ذلك.
وربما تطلبوا الكمال في أجناس غير مألوفة كالجن، أو زيادةِ خِلْقَةٍ لا أثر لها في عمل المتصف بها مثل جمال الصورة وكمال القامة.
وتلك وإن كانت ملازمة لموصوفاتها لكنها لا تفيدهم أن يكونوا مصادر كمالات؛ فقد يشاركهم فيها كثير من العجماوات كالظباء والمها والطواويس.
فإن ارتقوا على ذلك تطلبوا الكمال في أسباب القوة والعزة من بسطة الجسم، وإجادة الرماية، والمجالدة، والشجاعة على لقاء العدو.
وهذه أشبه بأن تعد في أسباب الكمال، ولكنها مكملات للكمال الإنساني؛ لأنها آلات لإنقاذ المقاصد السامية عند أهل العقول الراجحة والحكمة الإلهية كالأنبياء والملوك الصالحين.
وبدون ذلك تكون آلاتٍ لإنفاذ المقاصد السيئة مثل شجاعة أهل الحرابة وقطاع الطريق والشُّطَّار، ومثل القوة على خلع الأبواب؛ لاقتحام منازل الآمنين.
__________
(1) _ هكذا في الأصل، والصواب: اتبعوه.(1/313)
وإنما الكمال الحق هو زكاء النفس، واستقامة العقل؛ فهما السبب المُطَّرد لإيصال المنافع العامة لما في هذا العالم، ولهما تكون القوى المنفذة خادمة كالشجاعة للمدافعين عن الحق، والملجئين للطغاة على الخنوع إلى الدين، على أن ذلك معرض للخطأ، وغَيْبَةِ الصواب؛ فلا يكون له العصمة من ذلك إلا إذا كان محفوفاً بالإرشاد الإلهي المعصوم، وهو مقام النبوءة والرسالة.
فهؤلاء الكفرة من قوم نوح لما قصروا عن إدراك أسباب الكمال، وتطلبوا الأسباب من غير مكانها نظروا نوحاً _عليه السلام_ وأتباعه، فلم يروه من جنس غير البشر، وتأملوه وأتباعه فلم يروا في أجسامهم ما يميزهم عن الناس وربما كان في عموم الأمة من هم أجملُ وجوهاً، أو أطول أجساماً.
من أجل ذلك أخطأوا الاستدلال فقالوا: [مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا].
فأسندوا الاستدلال إلى الرؤيةِ، والرؤيةُ هنا رؤية العين؛ لأنهم جعلوا استدلالهم ضرورياً من المحسوس من أحوال الأجسام، أي ما نراك غير إنسان، وهو مماثل للناس لا يزيد عليهم جوارح أو قوائم زائدة. 12/45_47
5_ والسخرية: الاستهزاء، وهو تعجب باحتقار واستحماق. 12/68
6_ والبَلْع: حقيقته اجتياز الطعام والشراب إلى الحلق بدون استقرار في الفم.
وهو هنا استعارة لإدخال الشيء في باطن شيء بسرعة، ومعنى بَلْعِ الأرضِ ماءها: دخوله في باطنها بسرعة كسرعة ازْدِراد البالعِ بحيث لم يكن جفاف الأرض بحرارة شمس أو رياح، بل كان بعملٍ أرضيٍّ عاجلٍ، وقد يكون ذلك بإحداث الله زلازلَ وخسفاً انشقت به طبقة الأرض في مواضع كثيرة حتى غارت المياه التي كانت على سطح الأرض. 12/78
7_ وإقلاع السماء: مستعار لكف نزول المطر منها؛ لأنه إذا كف نزول المطر لم يُخلف الماء الذي غار في الأرض، ولذلك قدم الأمر بالبلع؛ لأنه السبب الأعظم لغيض الماء. 12/78
8_ والجودي: اسم جبل بين العراق وأرمينا، يقال له اليوم: (أراراط).(1/314)
وحكمةُ إرسائها على جبل أَنَّ جانبَ الجبلِ أَمْكَنُ لاستقرار السفينة عند نزول الراكبين؛ لأنها تخف عند ما ينزل معظمهم؛ فإذا مالت استندت إلى جانب الجبل. 12/79
9_ وجملة[هَذَا بَعْلِي]: مركبة من مبتدأ وخبر، لأن المعنى هذا المشار إليه هو بعلي، أي كيف يكون له ولد وهو كما ترى؟
وانتصب شيخاً على الحال من اسم الإشارة مبينة للمقصود من الإشارة.
وقرأ ابن مسعود [وَهَذَا بَعْلِيْ شَيْخٌ] برفع شيخ على أن [بَعْلِيْ] بيان من [هَذَا] و[شَيْخٌ] خبر المبتدأ، ومعنى القراءتين واحد.
وقد جرت على هذه القراءة نادرة لطيفة وهي ما أخبرنا شيخنا الأستاذ الجليل سالم بو حاجب أن أبا العباس المبرد دعي عند بعض الأعيان في بغداد إلى مأدبة، فلما فرغوا من الطعام غنت من وراء الستار جارية لرب المنزل ببيتين:
وقالوا لها: هذا حبيبك مُعْرِضٌ ... فقالت: ألا إعراضه أهون الخطب
فما هي إلا نظرةٌ وابتسامةٌ ... فتصطك رجلاه ويسقط للجنب
فطرب كل من بالمجلس إلا أبا العباس المبرد فلم يتحرك، فقال له رب المنزل: ما لك لم يطربك هذا?
فقالت الجارية: معذور يحسبني لحنت في أن قلت: معرض بالرفع، ولم يعلم أن عبدالله بن مسعود قرأ [وَهَذَا بَعْلِيْ شَيْخٌ] فطرب المبرد لهذا الجواب(1). 12/121
10_ والاستفهام في [أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ] إنكار وتوبيخ؛ لأن إهانة الضيف مسبة لا يفعلها إلا أهل السفاهة.
وقوله: [مِنْكُمْ] بمعنى بعضكم أنكر عليهم تمالؤهم على الباطل، وانعدام رجلٍ رشيدٍ من بينهم.
وهذا إغراء لهم على التعقل؛ ليظهر فيهم من يتفطن إلى فساد ما هم فيه، فينهاهم؛ فإن ظهور الرشيد في الفئة الضالة يفتح باب الرشاد لهم، وبالعكس تمالؤهم على الباطل يزيدهم ضراوة به. 12/129
__________
(1) _ رأيت هذه النادرة في الباب الثاني من كتاب الكانيات لأبي العباس الجرجاني، طبع السعادة بالقاهرة سنة 1326 واحسبها دخيلة فيه.(1/315)
11_ وجملة: [وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ] في موضع الحال من ضمير النصب في قوله: [أَنْ يُصِيبَكُمْ] والواو رابطة الجملة.
ولمعنى الحال هنا مزيد مناسبة لمضمون جملتها؛ إذ اعتبر قرب زمانهم بالمخاطبين كأنه حالة من أحوال المخاطبين.
والمراد بالبعد بعد الزمن والمكان والنسب؛ فزمن لوط _ عليه السلام _ غير بعيد في زمن شعيب _عليه السلام _ والديار قريبة من ديارهم؛ إذ منازل مدين عند عقبة أيلة مجاورة معان مما يلي الحجاز، وديار قوم لوط بناحية الأردن إلى البحر الميت وكان مدين بن إبراهيم _ عليهما السلام _ وهو جد القبيلة المسماة باسمه متزوجاً بابنة لوط. 12/147
12_ ومعنى: [مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ] التأييد(1) لأنه جرى مجرى المثل، وإلا فإن السماوات والأرض المعروفة تضمحل يومئذ، قال _تعالى_: [يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ] أو يراد سماوات الآخرة وأرضها.
و[إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ] استثناء من الأزمان التي عمها الظرف في قوله: [مَا دَامَتِ] أي إلا الأزمان التي شاء الله فيها عدم خلودهم، ويستتبع ذلك استثناء بعض الخالدين تبعاً للأزمان.
وهذا بناء على غالب إطلاق [ما] الموصولة أنها لغير العاقل.
ويجوز أن يكون استثناء من ضمير [خَالِدِينَ] لأن [ما] تطلق على العاقل كثيراً كقوله: [مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ].
وقد تكرر هذا الاستثناء في الآية مرتين.
فأما الأول منهما فالمقصود أن أهل النار مراتب في طول المدة؛ فمنهم مَنْ يعذب ثم يعفى عنه، مثل أهل المعاصي من الموحدين، كما جاء في الحديث: أنهم يقال لهم الجهنميون في الجنة، ومنهم الخالدون وهم المشركون والكفار.
__________
(1) _ لعله: التأبيد. (م)(1/316)
وجملة [إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ] استئناف بياني ناشئ عن الاستثناء؛ لأن إجمال المستثنى يُنْشِئُ سؤالاً في نفس السامع أن يقول: ما هو تعيين المستثنى، أو لماذا لم يكن الخلود عاماً، وهذا مظهر من مظاهر التفويض إلى الله.
وأما الاستثناء الثاني الواقع في جانب [الَّذِينَ سُعِدُوا] فيحتمل معنيين: أحدهما أن يراد: إلا ما شاء ربك في أول أزمنة القيامة، وهي المدة التي يدخل فيها عصاة المؤمنين غير التائبين في العذاب إلى أن يعفو الله عنهم بفضله بدون شفاعة، أو بشفاعة كما في الصحيح من حديث أنس: =يدخل ناس جهنم حتى إذا صاروا كالحممة أُخرجوا، وأدخلوا الجنة، فيقال: هؤلاء الجهنميون+.
ويحتمل أن يقصد منه التحذير من توهم استحقاق أحد ذلك النعيم حقاً على الله، بل هو مظهر من مظاهر الفضل والرحمة.
وليس يلزم من الاستثناء المعلق على المشيئة وقوع المشيئة بل إنما يقتضي أنها لو تعلقت المشيئة لوقع المستثنى، وقد دلت الوعود الإلهية على أن الله لا يشاء إخراج أهل الجنة منها.
وأيا ما كان فهم إذا أدخلوا الجنة كانوا خالدين فيها؛ فلا ينقطع عنهم نعيمها، وهو معنى قوله: [عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ].
والمجذوذ: المقطوع. 12/165_166
13_ والزُّلَف: جمع زلفة مثل غُرفة وغُرَف، وهي الساعة القريبة من أختها؛ فعلم أن المأمور إيقاع الصلاة في زلف من الليل.
ولما لَمْ تُعَيَّن الصلوات المأمور بإقامتها في هذه المدة من الزمان _ كان ذلك مجملاً؛ فَبَيَّنَتْهُ السنة والعمل المتواتر بخمس صلوات هي الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وكان ذلك بياناً لآيات كثيرة في القرآن كانت مجملة في تعيين أوقات الصلوات مثل قوله _تعالى_: [أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً].(1/317)
والمقصود أن تكون الصلاة أول أعمال المسلم إذا أصبح وهي صلاة الصبح وآخر أعماله إذا أمسى وهي صلاة العشاء؛ لتكون السيئات الحاصلة فيما بين ذلك ممحوة بالحسنات الحافة بها.
وهذا مشير إلى حكمة كراهة الحديث بعد صلاة العشاء للحث على الصلاة وخاصة ما كان منها في أوقات تَعْرِضُ الغَفْلَةُ عنها.
وقد ثبت وجوبهما بأدلة أخر، وليس في هذه الآية ما يقتضي حصر الوجوب في المذكور فيها. 12/179
14_ وإذهاب السيئات يشمل إذهاب وقوعها بأن يصير انسياق النفس إلى ترك السيئات سهلاً وهيناً كقوله _تعالى_: [إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ويكون هذا من خصائص الحسنات كلها.
ويشمل _أيضاً_ محو إثمها إذا وقعت، ويكون هذا من خصائص الحسنات كلها فضلاً من الله على عباده الصالحين.
ومحمل السيئات هنا على السيئات الصغائر التي هي من اللمم حملاً لمطلق هذه الآية على مقيد آية [الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ] وقوله _تعالى_: [إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ] فيحصل من مجموع الآيات أن اجتناب الفواحش جعله الله سبباً لغفران الصغائر، أو أن الإتيان بالحسنات يذهب أثر السيئات الصغائر، وقد تقدم ذلك عند قوله _تعالى_: [إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ] في سورة النساء.
روى البخاري عن عبدالله بن مسعود÷: أن رجلا أصاب من امرأة قبلة حرام فأتى النبي"فذكر ذلك فأنزلت عليه [وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ] فقال الرجل: ألي هذه? قال: لمن عمل بها من أمتي.(1/318)
وروى الترمذي عن ابن مسعود÷قال: جاء رجل إلى النبي"فقال: إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها، وها أنا ذا؛ فاقض فيَّ ما شئت، فلم يرد عليه رسول الله "شيئاً فانطلق الرجل؛ فأتبعه رجلاً فدعاه فتلا عليه [وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ] إلى آخر الآية، فقال رجل من القوم: هذا له خاصة? قال: لا، بل للناس كافة.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. 12/180_181
15_ وتثبيت فؤاد الرسول":زيادة يقينه ومعلوماته بما وعده الله؛ لأن كل ما يعاد ذكره من قصص الأنبياء وأحوال أممهم معهم يزيده تذكراً وعلماً بأن حاله جارٍ على سنن الأنبياء، وازداد تذكراً بأن عاقبته النصر على أعدائه، وتجدد تسلية على ما يلقاه من قومه من التكذيب وذلك يزيده صبراً، والصبر: تثبيت الفؤاد.
وأن تماثل أحوال الأمم تلقاء دعوة أنبيائها مع اختلاف العصور يزيده علماً بأن مراتب العقول البشرية متفاوتة، وأن قبول الهدي هو منتهى ارتقاء العقل؛ فيعلم أن الاختلاف شِنْشِنَةٌ قديمةٌ في البشر، وأن المصارعة بين الحق والباطل شأن قديم، وهي من النواميس التي جبل عليها النظام البشري؛ فلا يحزنه مخالفةُ قومِه عليه، ويزيده علماً بسمو أتباعه الذين قبلوا هداه، واعتصموا من دينه بعراه، فجاءه في مثل قصة موسى _ عليه السلام _ واختلاف أهل الكتاب فيه بيان الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين؛ فلا يقعوا فيما وقع فيه أهل الكتاب. 12/192
1_ الاسم الوحيد لهذه السورة اسم سورة يوسف، فقد ذكر ابن حجر في كتاب الإصابة في ترجمة رافع بن مالك الزرقي عن ابن إسحاق أن أبا رافع ابن مالك أول من قدم المدينة بسورة يوسف، يعني بعد أن بايع النبي"يوم العقبة.
ووجه تسميتها ظاهر لأنها قصّت قِصَّةَ يوسفَ _عليه السلام_ كلها، ولم تُذْكَرْ قِصَّتُه في غيرها، ولم يذكر اسمه في غيرها إلا في سورة الأنعام وغافر.(1/319)
وفي هذا الاسم تميز لها من بين السور المفتتحة بحروف ألر _كما ذكرناه في سورة يونس_.
وهي مكية على القول الذي لا ينبغي الالتفات إلى غيره، وقد قيل: إن الآيات الثلاث من أولها مدنية، قال في الإتقان: وهو واهٍ لا يلتفت إليه.
نزلت بعد سورة هود، وقبل سورة الحجر.
وهي السورة الثالثة والخمسون في ترتيب نزول السور على قول الجمهور.
ولم تذكر قصة نبي في القرآن بمثل ما ذكرت قصة يوسف _عليه السلام_ هذه السورة من الإطناب.
وعددآيها مائة وإحدى عشرة آية باتفاق أصحاب العدد في الأمصار. 12/197_198
2_ من مقاصد هذه السورة: روى الواحدي والطبري يزيد أحدهما على الآخر عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: =أُنْزِل القرآن فتلاه رسول الله"على أصحابه زماناً، فقالوا _أي المسلمون بمكة_: يا رسول الله لو قصصت علينا، فأنزل الله [الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] الآيات الثلاث+.
فأهم أغراضها: بيانُ قصةِ يوسفَ _ عليه السلام _ مع إخوته، وما لقيه في حياته، وما في ذلك من العبر من نواحٍ مختلفة.
وفيها إثباتُ أن بعضَ المرائي قد يكون إنباءً بأمر مُغَيَّب، وذلك من أصول النبوءات وهو من أصول الحكمة المشرقية(1) كما سيأتي عند قوله _تعالى_: [إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً] الآيات.
وأن تعبير الرؤيا عِلْمٌ يَهَبُهُ اللهُ لمن يشاء من صالحي عباده.
وتحاسدُ القرابةِ بينهم.
ولطفُ الله بمن يصطفيه من عباده.
والعبرةُ بحسن العواقب، والوفاءُ، والأمانةُ، والصدقُ، والتوبةُ.
وسكنى إسرائيلَ وبنيه بأرضِ مِصْر.
__________
(1) _ هي التي تقوم على الحدس، والإلهام، وتسمى الفلسفة الإشراقية. (م)(1/320)
وتسليةُ النبي " بما لقيه يعقوبُ ويوسفُ _عليهما السلام_ مِنْ آلهم مِنَ الأذى، وقد لقي النبي"من آله أشد مما لقيه مِنْ بُعَداء كفار قومه، مثل عمه أبي لهب، والنَّضْر بن الحارث، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وإن كان هذا قد أسلم بَعْدُ وحَسُنَ إسلامُه؛ فإن وقْعَ أذى الأقاربِ في النفوس أشدُّ من وقع أذى البُعداء، كما قال طرفة:
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً ... على المرءِ مِنْ وقعِ الحُسام المهند
قال _تعالى_ [لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ].
وفيها العبرةُ بصبر الأنبياء مثلِ يعقوبَ ويوسفَ _عليهم السلام_ على البلوى، وكيف تكون لهم العاقبة.
وفيها العبرةُ بهجرة قوم النبي"إلى البلد الذي حل به كما فعل يعقوبُ _عليه السلام_ وآلُه، وذلك إيماء إلى أن قريشاً ينتقلون إلى المدينة مهاجرين؛ تبعاً لهجرة النبي".
وفيها من عِبَرِ تاريخِ الأممِ والحضارةِ القديمةِ وقوانينِها ونظامِ حكوماتِها وعقوباتِها وتجارتِها، واسترقاقِ الصبيِّ اللقيطِ، واسترقاقِ السارقِ، وأحوالِ المساجينِ، ومراقبةِ المكاييل.
وإن في هذه السورة أسلوباً خاصاً من أساليب إعجاز القرآن وهو الإعجازُ في أسلوب القصص الذي كان خاصة أهل مكة يعجبون مما يتلقونه منه من بين أقاصيص العجم والروم، فقد كان النَّضْرُ بنُ الحارثِ وغيرُه يَفْتِنُون قريشاً بأن ما يقوله القرآن في شأن الأمم هو أساطيرُ الأولين اكتتبها محمد".
وكان النَّضْر يتردد على الحيرة، فَتَعَلَّم أحاديث (رستم) و(اسفنديار) من أبطال فارس؛ فكان يحدث قريشاً بذلك ويقول لهم: =أنا والله أحسن حديثاً من محمد؛ فَهَلُمَّ أحدثكم أحسنَ من حديثه+.
ثم يحدثهم بأخبار الفرس؛ فكان ما في بعضها من التطويل على عادة أهل الأخبار من الفرس يُمَوَّه به عليهم بأنه أَشْبَعُ للسامع، فجاءت هذه السورة على أسلوب استيعاب القصة؛ تحدياً لهم بالمعارضة.(1/321)
على أنها مع ذلك قد طوت كثيراً من القصة من كل ما ليس له كبير أثر في العبرة.
ولذلك ترى في خلال السورة [وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ] مرتين [كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ] فتلك عبر من أجزاء القصة.
وما تخلل ذلك من الحكمة في أقوال الصالحين كقوله [عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ] وقوله [إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]. 12/198_200
3_ وجعل هذا القصصُ أَحْسَنَ القصصِ: لأن بعض القصص لا يخلو عن حسن ترتاح له النفوس، وقصص القرآن أحسن من قصص غيره من جهة حسن نظمه، وإعجاز أسلوبه، وبما يتضمنه من العبر والحكم؛ فكل قصص في القرآن هو أحسن القصص في بابه، وكل قصة في القرآن هي أحسن من كل ما يقصه القاص في غير القرآن.
وليس المرادُ أحسنَ قصصِ القرآن حتى تكون قصة يوسف _ عليه السلام _ أحسن من بقية قصص القرآن كما دل عليه قوله: [بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]. 12/203_204
4_ ويوسف اسم عبراني تقدم ذكر اسمه عند قوله _تعالى_: [وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ] الخ في سورة الأنعام.
وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق من زوجه (راحيل) وهو أحد الأسباط الذين تقدم ذكرهم في سورة البقرة.
وكان يوسف أحب أبناء يعقوب _عليهما السلام_ إليه، وكان فَرْطُ محبةِ أبيه إياه سببَ غيرةِ إخوتهِ منه؛ فكادوا له مكيدة، فسألوا أباهم أن يتركه يخرج معهم، فأخرجوه معهم بعلة اللعب والتفسح، وألقوه في جُبٍّ، وأخبروا أباهم أنهم فقدوه، وأنهم وجدوا قميصه ملوثاً بالدم، وأروه قميصه بعد أن لطخوه بدم.(1/322)
والتقطه من البئر سيارة من العرب الإسماعيليين كانوا سائرين في طريقهم إلى مصر، وباعوه كرقيق في سوق عاصمة مصر السفلى التي كانت يومئذ في حكم أمة من الكنعانيين يعرفون بالعمالقة أو (الهكصوص) وذلك في زمن الملك (أبو فيس) أو (ابيبي) ويقرب أن يكون ذلك في حدود سنة تسع وعشرين وسبعمائة وألف قبل المسيح _عليه السلام_ فاشتراه (فوطيفار) رئيس شرطة فرعون الملقب في القرآن بالعزيز، أي رئيس المدينة، وحدثت مكيدة له من زوج سَيِّدِه ألقي بسببها في السجن، وبسبب رؤيا رآها الملك وعبرها يوسف _عليه السلام_ وهو في السجن _ قَرَّبه الملك إليه زلفى، وأولاه على جميع أرض مصر، وهو لقب العزيز وسماه (صفنات فعنيج)، وزوجه (أسنات) بنت أحد الكهنة وعمره يومئذ ثلاثون سنة.
وفي مدة حكمه جلب أباه وأقاربه من البرية إلى أرض مصر، فذلك سبب استيطان بني إسرائيل أرض مصر، وتوفي بمصر في حدود سنة خمس وثلاثين وستمائة وألف قبل ميلاد عيسى _عليه السلام_ وحنط على الطريقة المصرية، ووضع في تابوت، وأوصى قبل موته بأنهم إذا خرجوا من مصر يرفعون جسده معهم.
ولما خرج بنو إسرائيل من مصر رفعوا تابوت يوسف _ عليه السلام _ معهم وانتقلوه معهم في رحلتهم إلى أن دفنوه في شكيم في مدة يوشع بن نون. 12/205_206
5_ والاعتداد بالرؤيا من قديم أمور النبوة، وقد جاء في التوراة أن الله خاطب إبراهيم _عليه السلام_ في رؤيا رآها وهو في طريقه ببلاد شاليم بلد ملكي صادق، وبشره بأنه يهبه نسلاً كثيراً، ويعطيه الأرض التي هو سائر فيها (في الإصحاح 15 من سفر التكوين) .
أما العرب فإنهم وإن لم يرد في كلامهم شيء يفيد اعتدادهم بالأحلام، ولعل قول كعب بن زهير:
إن الأماني والأحلام تضليل
يفيد عدم اعتدادهم بالأحلام؛ فإن الأحلام في البيت هي مرائي النوم.(1/323)
ولكن ذكر ابن إسحاق رؤيا عبدالمطلب وهو قائم في الحجر أنه أتاه آت فأمره بحفر بئر زمزم، فوصف له مكانها، وكانت جرهم سدموها عند خروجهم من مكة.
وذكر ابن إسحاق رؤيا عاتكة بنت عبدالمطلب أن راكباً أقبل على بعير، فوقف بالأبطح ثم صرخ: يا آل غدر اخرجوا إلى مصارعكم في ثلاث فكانت وقعة بدر عقبها بثلاث ليال. 12/209_210
6_ وقد عدت المرائي النومية في أصول الحكمة الإشراقية وهي من تراثها عن حكمة الأديان السالفة مثل الحنيفية، وبالغ في تقريبها بالأصول النفسية شهاب الدين الحكيم السهروردي في هياكل النور وحكمة الإشراق، وأبو علي ابن سينا في الإشارات بما حاصله وأصله: أن النفس الناطقة وهي المعبر عنها بالروح هي من الجواهر المجردة التي مقرها العالم العلوي، فهي قابلة لاكتشاف الكائنات على تفاوت في هذا القبول، وأنها تودع في جسم الجنين عند اكتمال طور المضغة، وأن للنفس الناطقة آثاراً من الانكشافات إذا ظهرت، فقد ينتقش بعضها بمدارك صاحب النفس في لوح حسه المشترك، وقد يصرفه عن الانتقاش شاغلان: أحدهما حسي خارجي، والآخر باطني عقلي أو وهمي، وقوى النفس متجاذبة متنازعة؛ فإذا اشتد بعضها ضعف البعض الآخر، كما إذا هاج الغضب ضعفت الشهوة، فكذلك إن تجرد الحس الباطن للعمل شغل عن الحس الظاهر، والنوم شاغل للحس، فإذا قلَّت شواغل الحواس الظاهرة فقد تتخلص النفس عن شغل مخيلاتها، فتطلع على أمور مغيبة، فتكون المنامات الصادقة. 12/210
7_ والرؤيا الصادقة: حالة يكرم الله بها بعض أصفيائه الذين زكت نفوسهم فتتَّصل نفوسهم بتعلّقات من علم الله وتعلقات من إرادته وقدرته وأمره التكويني، فتنكشف بها الأشياء المغيبة بالزمان قبل وقوعها، أو المغيبة بالمكان قبل اطلاع الناس عليها اطلاعاً عادياً.
ولذلك قال النبي": =الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوءة+.
وقد بين تحديد هذه النسبة الواقعة في الحديث في شروح الحديث.(1/324)
وقال: =لم يبق من النبوءة إلا المبشرات وهي الرؤيا الصالحة للرجل الصالح يراها أو ترى له+.
وإنما شرطت المرائي الصادقة بالناس الصالحين؛ لأن الارتياض على الأعمال الصالحة شاغل للنفس عن السيئات، ولأن الأعمال الصالحات ارتقاءات وكمالات؛ فهي معينة لجوهر النفس على الاتصال بعالمها الذي خلقت فيه، وأنزلت منه، وبعكس ذلك الأعمال السيئة تبعدها عن مألوفاتها وتُبلّدها وتذبذبها. 12/210_211
8_ والرؤيا مراتب: منها: أن تُرى صور أفعالٍ تتحقق أمثالها في الوجود مثل رؤيا النبي"أنه يهاجر من مكة إلى أرض ذات نخل، وظنه أن تلك الأرض اليمامة؛ فظهر أنها المدينة، ولا شك أنه لما رأى المدينة وجدها مطابقة للصورة التي رآها، ومثل رؤياه امرأة في سرقة من حرير؛ فقيل له اكشفها فهي زوجك، فكشف، فإذا هي عائشة، فعلم أن سيتزوجها.
وهذا النوع نادر، وحالة الكشف فيه قوية.
ومنها: أن تُرى صورٌ تكون رموزاً للحقائق التي ستحصل أو التي حصلت في الواقع، وتلك من قبيل مكاشفة النفس للمعاني، والمواهي، وتشكيل المُخَيَّلة تلك الحقائق في أشكال محسوسة هي من مظاهر تلك المعاني، وهو ضرب من ضروب التشبيه والتمثيل الذي تخترعه ألباب الخطباء والشعراء، إلا أن هذا تخترعه الألباب في حالة هدو الدماغ من الشواغل الشاغلة، فيكون أتقن وأصدق.
وهذا أكثر أنواع المرائي، ومنه رؤيا النبي"أنه يشرب من قدح لبن رأى الري في أظفاره ثم أعطى فضله عمربن الخطاب÷.
وتعبيره ذلك بأنه العلم.(1/325)
وكذلك رؤيا امرأة سوداء ناشرة شعرها خارجة من المدينة إلى الجحفة، فعبرها بالحمى تنتقل من المدينة إلى الجحفة، ورئي عبد الله بن سلام أنه في روضة، وأن فيها عموداً، وأن فيه عروة، وأنه أخذ بتلك العروة فارتقى إلى أعلى العمود، فعبره النبي"بأنه لا يزال آخذاً بالإيمان الذي هو العروة الوثقى، وأن الروضة هي الجنة، فقد تطابق التمثيل النومي مع التمثيل المتعارف في قوله _تعالى_: [فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى] وفي قول النبي": =ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة+. 12/211_212
9_ وقول يعقوب _ عليه السلام _ هذا لابنه تحذير له مع ثقته بأن التحذير لا يثير في نفسه كراهة لإخوته؛ لأنه وثق منه بكمال العقل، وصفاء السريرة، ومكارم الخلق.
ومن كان حاله هكذا كان سمحاً، عاذراً، معرضاً عن الزلات، عالماً بأثر الصبر في رفعة الشأن، ولذلك قال لإخوته: [إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ] وقال: [لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ].
وقد قال أحد ابني آدم _عليه السلام_ لأخيه _الذي قال له: =لأقتلنك+ حسداً_: [لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ].
فلا يشكل كيف حَذَّرَ يعقوب يوسف _عليهما السلام_ من كيد إخوته، ولذلك عقب كلامه بقوله: [إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ليعلم أنه ما حذره إلا من نزغ الشيطان في نفوس إخوته.
وهذا كاعتذار النبي " للرجلين من الأنصار اللذين لقياه ليلاً وهو يُشَيِّع زوجَه أمَّ المؤمنين إلى بيتها، فلما رأياه ولَّيا، فقال: =على رسلكما إنها صفية+.(1/326)
فقالا: سبحان الله يا رسول الله! وأكبرا ذلك، فقال لهما: =إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في نفوسكما+.
فهذه آية عبرة بتوسم يعقوب _ عليه السلام _ أحوالَ أبنائه، وارتيائه أن يكف كيد بعضهم لبعض.
فجملة [إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ] الخ واقعةٌ موقعَ التعليل للنهي عن قص الرؤيا على إخوته، وعداوةُ الشيطان لجنس الإنسان تَحْمِله على أن يدفعهم إلى إضرار بعضهم ببعض.
وظاهر الآية أن يوسف _ عليه السلام _ لم يقصَّّ رؤياه على إخوته وهو المناسب لكماله الذي يبعثه على طاعة أمر أبيه.
ووقع في الإسرائيليات أنه قصها عليهم؛ فحسدوه. 12/214_215
10_ والتأويل: إرجاع الشيء إلى حقيقته ودليله، وتقدم عند قوله _تعالى_: [وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ].
والأحاديث: يصح أن يكون جمع حديث بمعنى الشيء الحادث، فتأويل الأحاديث: إرجاع الحوادث إلى عللها وأسبابها بإدراك حقائقها على التمام، وهو المعني بالحكمة، وذلك بالاستدلال بأصناف الموجودات على قدرة الله وحكمته.
ويصح أن يكون الأحاديث جمع حديث بمعنى الخبر المتحدث به؛ فالتأويل تعبير الرؤيا؛ سميت أحاديث لأن المَرَائي يتحدث بها الراؤون.
وعلى هذا المعنى حملها بعض المفسرين، واستدلوا بقوله في آخر القصة: [وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ].
ولعل كلا المعنيين مرادٌ بناء على صحة استعمال المشْتَرَك في معنييه وهو الأصح، أو يكون اختيار هذا اللفظ إيجازاً معجزاً؛ إذ يكون قد حكي به كلام طويل صَدَرَ من يعقوب _عليه السلام_ بلغته يعبر عن تأويل الأشياء بجميع تلك المعاني.
وإتمام النعمة عليه: هو إعطاؤه أفضل النعم وهي نعمة النبوءة، أو هو ضميمة الملك إلى النبوءة والرسالة؛ فيكون المرادُ إتمامَ نعمةِ الاجتباء الأخروي بنعمة المجد الدنيوي. 12/216(1/327)
11_ أظهر لهم سبب امتناعه من خروج يوسف _عليه السلام_ معهم إلى الريف بأنه يحزنه لبعده عنه أياماً، وبأنه يخشى عليه الذئاب، إذ كان يوسف _عليه السلام_ حينئذ غلاماً، وكان قد رُبِّيَ في دعةٍ؛ فلم يكن مَرِناً بمقاومة الوحوشِ، والذئابُ تجترئ على الذي تحس منه ضعفاً في دفاعها، قال الربيع ابن ضبع الفزاري يشكو ضعفَ الشيخوخةِ:
والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
وقال الفرزدق يذكر ذئباً:
فقلت له لما تكشر ضاحكاً ... وقائم سيفي من يدي بمكان
تعشَّ فإن عاهدتني لا تخونني ... نَكُنْ مثل مَنْ يا ذئب يصطحبان
فذئاب بادية الشام كانت أشد خبثاً من بقية الذئاب، ولعلها كانت كذئاب بلاد الروس، والعرب يقولون: إن الذئب إذا حورب ودافع عن نفسه حتى عض الإنسان، وأسال دمه أنه يَضْرى حين يرى الدم؛ فيستأسد على الإنسان، قال:
فكنت كذئب السوء حين رأى دماً ... بصاحبه يوما أحال على الدم
وقد يتجمع سرب من الذئاب، فتكون أشد خطراً على الواحد من الناس والصغير. 12/230
12_ فالمعنى: أخاف أن يأكله الذئب، أي يقتله فيأكل منه؛ فإنكم تبعدون عنه؛ لما يعلم من إمعانهم في اللعب والشغل باللهو والمسابقة، فتجتري الذئاب على يوسف _عليه السلام_.
والذئب: حيوان من الفصيلة الكلبية، وهو كلب بري وحشي من خُلُقِه الاحتيال والنفور، وهو يفترس الغنم، وإذا قاتل الإنسان، فجرحه ورأى عليه الدم ضرى به، فربما مزقه. 12/231
13_ وإنما ذكر يعقوب _عليه السلام_ أن ذهابهم به غداً يحدث به حزناً مستقبلاً(1) ليصرفهم عن الإلحاح في طلب الخروج به؛ لأن شأن الابن البار أن يتقي ما يحزن أباه.
__________
(1) _ ذهب جمع كثير من النحاة فيهم الزمخشري في الكشاف والمفصل إلى أن لام الابتداء إذا دخلت على المضارع تخلصه لزمن الحال، وخالفهم كثير من البصريين.
والتحقيق أن ذلك غالب لا مطرد؛ فهذه الآية وقوله _تعالى_: [أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً] تشهدان لعدم اطراد هذا الحكم.(1/328)
وتأكيد الجملة بحرف التأكيد؛ لقطع إلحاحهم بتحقيق أن حزنه لفراقه ثابت؛ تنزيلاً لهم منزلة من ينكر ذلك؛ إذ رأى إلحاحهم، ويسري التأكيد إلى جملة [وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ].
فأبوا إلا المراجعة قالوا: [لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ]. 12/231_232
14_ وهذا الجب الذي ألقي فيه يوسف _عليه السلام_ وقع في التوراة أنه في أرض (دوثان) ودوثان كانت مدينة حصينة وصارت خراباً.
والمراد: أنه كانت حوله صحراء هي مرعى ومربع، وَوَصْفُ الجبِّ يقتضي أنه على طريق القوافل.
واتفق واصفو الجب على أنه بين (بانياس) و (طبرية) وأنه على اثني عشر ميلاً من طبرية مما يلي دمشق، وأنه قرب قرية يقال لها (سنجل أو سنجيل) قال قدامة: هي طريق البريد بين بعلبك وطبرية.
ووصفها المتأخرون بالضبط المأخوذ من الأوصاف التاريخية القديمة أنه الطريق الكبرى بين الشام ومصر، وكانت تجتاز الأردن تحت بحيرة طبرية، وتمر على (دوثان) وكانت تسلكها قوافل العرب التي تحمل الأطياب إلى المشرق.
وفي هذه الطريق جباب كثيرة في (دوثان) وجب يوسف معروف بين طبرية وصفد، بنيت عليه قبة في زمن الدولة الأيوبية بحسب التوسم وهي قائمة إلى الآن. 12/235
15_ والبكاء: خروج الدموع من العينين عند الحزن والأسف والقهر.
وتقدم في قوله _تعالى_: [فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً]، وقد أطلق هنا على البكاء المصطنع وهو التباكي، وإنما اصطنعوا البكاء تمويهاً على أبيهم؛ لئلا يظن بهم أنهم اغتالوا يوسف _عليه السلام_ ولعلهم كانت لهم مقدرة على البكاء مع عدم وجدان مُوجبه.
وفي الناس عجائب من التمويه والكيد، ومن الناس من تتأثر أعصابهم بتخيل الشيء ومحاكاته، فيعتريهم ما يعتري الناس بالحقيقة.
وبعض المتظلمين بالباطل يفعلون ذلك، وفطنة الحاكم لا تنخدع لمثل هذه الحيل، ولا تنوط بها حكماً، وإنما يناط الحكم بالبينة.(1/329)
جاءت امرأة إلى شريح تخاصم في شيء _ وكانت مبطلة _ فجعلت تبكي، وأظهر شريح عدم الاطمئنان لدعواها، فقيل له: أما تراها تبكي?
فقال: قد جاء إخوة يوسف _عليه السلام_ أباهم عشاء يبكون وهم ظلمة كذبة؛ لا ينبغي لأحد أن يقضي إلا بالحق.
قال ابن العربي: قال علماؤنا: هذا يدل على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله؛ لاحتمال أن يكون تصنعاً.
ومن الخلق من لا يقدر على ذلك، ومنهم من يقدر.
قلت: ومن الأمثال =دموع الفاجر بيديه+ وهذه عِبْرَةٌ في هذه العِبْرة. 12/236
16_ وكان هؤلاء السيارة من الإسماعيلين _كما في التوراة_ أي أبناء إسماعيل ابن إبراهيم.
وقيل: كانوا من أهل مدين وكان مجيئهم الجب للاستقاء منها، ولم يشعر بهم إخوة يوسف؛ إذ كانوا قد ابتعدوا عن الجب. 12/242
17_ وفي عثور السيارة على الجب الذي فيه يوسف _عليه السلام_ آية من لطف الله به. 12/243
18_ [وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ (20)] معنى [شَرَوْهُ]: باعوه، يقال: شرى كما يقال: باع، ويقال: اشترى كما يقال: ابتاع، ومثلهما رهن وارتهن، وعاوض واعتاض، وكرى واكترى.
والأصل في ذلك وأمثاله أن الفعل للحدث، والافتعالَ لمطاوعة الحدث.
ومن فسر [شَرَوْهُ] باشتروه أخطأ خطأ أوقعه فيه سوء تأويل قوله: [وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ].
وما ادعاه بعض أهل اللغة أن شرى واشترى مترادفان في معنييهما يغلب على ظني أنه وهم؛ إذ لا دليل يدل عليه. 12/243
19_ والذي اشترى يوسف _عليه السلام_ رجل اسمه (فوطيفار) رئيس شرط ملك مصر، وهو والي مدينة مصر، ولقب في هذه السورة بالعزيز، وسيأتي.
ومدينة مصر هي منفيس، ويقال: منف وهي قاعدة مصر السفلى التي يحكمها قبائل من الكنعانيين عرفوا عند القبط باسم (الهيكسوس) أي الرعاة.(1/330)
وكانت مصر العليا المعروفة اليوم بالصعيد تحت حكم فراعنة القبط، وكانت مدينتها (ثيبة أو طيبة) وهي اليوم خراب وموضعها يسمى الأقصر، جمع قصر؛ لأن بها أطلالَ القصور القديمة، أي الهياكل، وكانت حكومة مصر العليا أيامئذ مستضعفة؛ لغلبة الكنعانيين على معظم القطر وأجوده.
وامرأته تسمى في كتب العرب زَلِيخا _بفتح الزاي وكسر اللام وقصر آخره_ وسماها اليهود (راعيل) و (من مصر) صفة لـ: (الذي اشتراه). 12/245
20_ فالمعنى: اجعلي إقامته عندك كريمة، أي كاملة في نوعها، أراد أن يجعل الإحسان إليه سبباً في اجتلاب محبته إياهما ونصحه لهما، فينفعهما، أو يتخذانه ولداً؛ فيبر بهما، وذلك أشد تقريباً.
ولعله كان آيساً من ولادة زوجه، وإنما قال ذلك لحسن تفرسه في ملامح يوسف _عليه السلام_ المؤذنة بالكمال، وكيف لا يكون رجلاً ذا فراسةٍ وقد جعله الملك رئيس شرطته؟ فقد كان الملوك أهل حذر؛ فلا يولون أمورهم غير الأكفاء. 12/246
21_ و[هَيْتَ]: اسم فعل أمر بمعنى بادر، قيل: أصلها من اللغة الحورانية، وهي نبطية، وقيل: هي من اللغة العبرانية. 12/251
22_ وفي [هَيْتَ] لغات، قرأ نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر، وأبو جعفر بكسر الهاء وفتح المثناة الفوقية، وقرأه ابن كثير _ بفتح الهاء، وسكون التحتية، وضم الفوقية، وقرأه الباقون بفتح الها،ء وسكون التحتية، وضم التاء الفوقية، والفتحة والضمة حركتا بناء. 12/251
23_ و[مَعَاذ]: مصدر أضيف إلى اسم الجلالة إضافة المصدر إلى معموله، وأصله: أعوذ عوذاً بالله، أي أعتصم به مما تحاولين. 12/251
24_ وضمير [إِنَّهُ]: يجوز أن يعود إلى اسم الجلالة، ويكون [رَبِّي] بمعنى خالقي.
ويجوز أن يعود إلى معلوم من المقام، وهو زوجها الذي لا يرضى بأن يسمها غيره، فهو معلوم بدلالة العرف، ويكون [رَبِّيْ] بمعنى سيدي ومالكي. 12/251
25_ والتعريف في [الْبَابَ]: تعريف الجنس؛ إذ كانت عدة أبواب مغلقة.(1/331)
وذلك أن يوسف _عليه السلام_ فر من مراودتها إلى الباب يريد فتحه والخروج وهي تريد أن تسبقه إلى الباب؛ لتمنعه من فتحه.
وجملة [وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ] في موضع الحال، و[قَدَّتْ] أي قطعت، أي قطعت منه قداً، وذلك قبل الاستباق لا محالة؛ لأنه لو كان تمزيق القميص في حال الاستباق لم تكن فيه قرينة على صدق يوسف _عليه السلام_ أنها راودته، إذ لا يدل التمزيق في حال الاستباق على أكثر من أن يوسف _عليه السلام_ سبقها مسرعاً إلى الباب، فدل على أنها أمسكته من قميصه حين أعرض عنها تريد إكراهه على ما راودته؛ فجذب نفسه؛ فتخرق القميص من شدة الجذبة.
وكان قطع القميص من دبر؛ لأنه كان مولياً عنها معرضاً، فأمسكته منه؛ لرده عن إعراضه.
وقد أبدع إيجاز الآية في جمع هذه المعاني تحت جملة [وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ].
وصادف أن ألفيا سيدها _ أي زوجها _ وهو العزيز، عند الباب الخارجي يريد الدخول إلى البيت من الباب الخارجي.
وإطلاق السيد على الزوج قيل: إن القرآن حكى به عادة القبط حينئذ كانوا يدعون الزوج سيداً.
والظاهر أنه لم يكن ذلك مستعملاً في عادة العرب، فالتعبير به هنا من دقائق التاريخ مثل قوله الآتي: [مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ].
ولعل الزواج في مصر في ذلك العهد كان بطريق الملك غالباً.
وقد عُلم من الكلام أن يوسف _عليه السلام_ فتح الأبواب التي غَلَّقَتْها زليخا(1) باباً باباً حتى بلغ الخارجي، كل ذلك في حال استباقهما، وهو إيجاز. 12/255_256
26_ والإلفاء: وَجَدَانُ شيءٍ على حالة خاصة من غير سعي لوجدانه، فالأكثر أن يكون مفاجئاً، أو حاصلاً عن جهل بأول حصول، كقوله _تعالى_: [قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا]. 12/256
__________
(1) _ وهذا معنى ما ورد في بعض التواريخ من أن امرأة العزيز قالت ليوسف: ادخل في القيطون، قال: القيطون لا يسترني من ربي.
والقيطون قيل: هو بيت في بيت. (م)(1/332)
27_ وجملة [قَالَتْ مَا جَزَاءُ]الخ مستأنفة بيانياً؛ لأن السامع يسأل: ماذا حدث عند مفاجأة سيدها وهما في تلك الحالة؟
وابتدرته بالكلام إمعاناً في البهتان بحيث لم تتلعثم، تُخَيِّل له أنها على الحق.
وأفرغت الكلام في قالب كلي؛ ليأخذ صيغة القانون، وليكون قاعدة لا يعرف المقصود منها؛ فلا يسع المخاطبَ إلا الإقرارُ لها.
ولعلها كانت تخشى أن تكون محبة العزيز ليوسف _عليه السلام_ مانعةً له من عقابه، فأفرغت كلامها في قَالَبٍ كلي.
وكانت تريد بذلك أن لا يشعر زوجها بأنها تهوى غير سيدها، وأن تخيف يوسف _ عليه السلام _ من كيدها؛ لئلا يمتنع منها مرة أخرى.
ورددت يوسف _ عليه السلام _ بين صنفين من العقاب، وهما: السجن، أي الحبس، وكان الحبس عقاباً قديماً في ذلك العصر، واستمر إلى زمن موسى _عليه السلام_ فقد قال فرعون لموسى _عليه السلام_: [لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ].
وأما العذاب فهو أنواع، وهو عقاب أقدم في اصطلاح البشر، ومنه الضرب، والإيلام بالنار، وبقطع الأعضاء. 12/256_257
28_ وكان مع العزيز رجل من أهل امرأته، وهو الذي شهد، وكان فطناً عارفاً بوجوه الدلالة.
وسمي قوله شهادة؛ لأنه يؤول إلى إظهار الحق في إثبات اعتداء يوسف _عليه السلام_ على سيدته أو دحضه.
وهذا من القضاء بالقرينة البينة؛ لأنها لو كانت أمسكت ثوبه؛ لأجل القبض عليه؛ لعقابه _ لكان ذلك في حال استقباله له إياها فإذا أراد الانفلات منها تخرق قميصه من قبل، وبالعكس إن كان إمساكه في حال فرار وإعراض.(1/333)
ولا شك أن الاستدلال بكيفية تمزيق القميص نشأ عن ذكر امرأة العزيز وقوعَ تمزيق القميص تحاول أن تجعله حجة على أنها أمسكته؛ لتعاقبه، ولولا ذلك ما خطر ببال الشاهد أن تمزيقاً وقع، وإلا فمن أين علم الشاهد تمزيق القميص، والظاهر أن الشاهد كان يظن صدقها؛ فأراد أن يقيم دليلاً على صدقها؛ فوقع عكس ذلك، كرامة ليوسف _ عليه السلام _. 12/257
29_ والذي رأى قميصه قد من دبر وقال: إنه من كيدكن، هو العزيز لا محالة.
وقد استبان لديه براءة يوسف _عليه السلام_ من الاعتداء على المرأة؛ فاكتفى بلوم زوجه بأن ادّعاءها عليه من كيد النساء؛ فضمير جمع الإناث خطاب لها؛ فدخل فيه مَنْ هُنَّ مِنْ صنفها بتنزيلهن منزلة الحواضر. 12/258
30_ ثم أمر يوسف _ عليه السلام _ بالإعراض عما رمته به، أي عدم مؤاخذتها بذلك، وبالكف عن إعادة الخوض فيه، وأمر زَوْجَه بالاستغفار من ذنبها، أي في اتهامها يوسف _عليه السلام_ بالجرأة والاعتداء عليها.
قال المفسرون: وكان العزيز قليل الغيرة، وقيل: كان حليماً عاقلاً.
ولعله كان مولعاً بها، أو كانت شبهة الملك تخفف مؤاخذة المرأة بمراودة مملوكها، وهو الذي يؤذن به حال مراودتها يوسف _ عليه السلام _ حين بادرته بقولها [هَيْتَ لَكَ] كما تقدم آنفاً. 12/258
31_ وقوله [فِي الْمَدِينَةِ]: صفة لنسوة، والمقصود من ذكر هذه الصفة أنهن كن متفرقات في ديار من المدينة، وهذه المدينة هي قاعدة مصر السفلى وهي مدينة منفيس حيث كان قصر العزيز؛ فَنُقِلَ الخبرُ في بيوت المتصلين ببيت العزيز.
وقيل: إن امرأة العزيز باحت بالسر لبعض خلائلها، فأفشينه كأنها أرادت التشاور معهن، أو أرادت الارتياح بالحديث إليهن (ومن أحب شيئا أكثر من ذكره).
وهذا الذي يقتضيه قوله: [وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً] وقوله: [وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ]. 12/259_260(1/334)
32_ وأطلق على كلامهن اسم المكر، قيل: لأنهن أردن بذلك أن يبلغ قولهن إليها، فيغريها بعرضها يوسفَ _عليه السلام_ عليهن؛ فيرين جمالَه؛ لأنهن أحببن أن يرينه.
وقيل: لأنهن قلنه خفية، فأشبه المكر، ويجوز أن يكون أطلق على قولهن اسم المكر؛ لأنهن قلنه في صورة الإنكار، وهن يضمرن حسدَها على اقتناء مثله؛ إذ يجوز أن يكون الشغف بالعبد في عادتهم غير منكر. 12/262
33_ والمتكأ: محل الاتكاء، والاتكاء: جلسة قريبة من الاضطجاع على الجنب مع انتصاب قليل في النصف الأعلى، وإنما يكون الاتكاء إذا أريد إطالة المكث والاستراحة، أي أحضرت لهن نمارق يتكئن عليها؛ لتناول طعام.
وكان أهل الترف يأكلون متكئين كما كانت عادة للرومان، ولم تزل أَسِرَّةُ اتكائهم موجودة في ديار الآثار، وقال النبي": =أما أنا فلا آكل متكئاً+. 12/262
34_ ومعنى [آتَتْ] أمرت خدمها بالإيتاء كقوله: [يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً].
والسكين: آلة قطع اللحم وغيره، قيل: أحضرت لهن أترجاً وموزاً، فحضرن واتكأن، وقد حذف هذان الفعلان إيجازاً، وأعطت كل واحدة سكيناً؛ لقشر الثمار.
وقولها: [اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ] يقتضي أنه كان في بيت آخر، وكان لا يدخل عليها إلا بإذنها.
وعُدّي فعل الخروج بحرف (على) لأنه ضمن معنى (ادخل) لأن المقصود دخوله عليهن لا مجرد خروجه من البيت الذي هو فيه.
ومعنى [أَكْبَرْنَهُ] أعظمنه، أي أعظمن جماله وشمائله؛ فالهمزة فيه للعد، أي أعددنه كبيراً.
وأطلق الكِبَرُ على عظيم الصفات؛ تشبيهاً لوفرة الصفات بعظم الذات.
وتقطيع أيديهن كان من الذهول، أي أجرين السكاكين على أيديهن يحسبن أنهن يقطعن الفواكه، وأريد بالقطع الجرح. 12/262_263
35_ وقولهن [مَا هَذَا بَشَراً] مبالغة في فوته محاسنَ البشر، فمعناه التفضيل في محاسن البشر، وهو ضد معنى التشابه في باب التشبيه.
ثم شبهنه بواحد من الملائكة بطريقة حصره في جنس الملائكة؛ تشبيهاً بليغاً مؤكداً.(1/335)
وكان القبط يعتقدون وجود موجودات علوية هي من جنس الأرواح العلوية، ويعبرون عنها بالآلهة أو قضاة يوم الجزاء، ويجعلون لها صوراً.
ولعلهم كانوا يتوخون أن تكون ذواتاً حسنة.
ومنها ما هي مدافعة عن الميت يوم الجزاء؛ فأطلق في الآية اسم الملك على ما كانت حقيقته مماثلة لحقيقة مسمى الملك في اللغة العربية؛ تقريباً لأفهام السامعين.
فهذا التشبيه من تشبيه المحسوس بالمتخيل، كقول امرئ القيس:
ومسنونة زرق كأنياب أغوال. 12/263
36_ وفضَّل السجن مع ما فيه من الألم والشدة وضيق النفس على ما يدعونه إليه من الاستمتاع بالمرأة الحسنة النفيسة على ما فيه من اللذة، ولكن كرهه لفعل الحرام فضل عنده مقاساة السجن.
فلما علم أنه لا محيص من أحد الأمرين صار السجن محبوباً إليه باعتبار أنه يخلصه من الوقوع في الحرام؛ فهي محبة ناشئة عن ملاءمة الفكر، كمحبة الشجاع الحرب.
فالإخبار بأن السجن أحب إليه من الاستمتاع بالمرأة مستعمل في إنشاء الرضى بالسجن في مرضاة الله _تعالى_ والتباعد عن محارمه؛ إذ لا فائدة في إخبار من يعلم ما في نفسه؛ فاسم التفضيل على حقيقته ولا داعي إلى تأويله بمسلوب المفاضلة. 12/265
37_ وكان تعبير الرؤيا من فنون علمائهم؛ فلذلك أيد الله به يوسف _ عليه السلام _ بينهم.
وهذان الفتيان توسما من يوسف _عليه السلام_ كمال العقل، والفهم؛ فظنا أنه يحسن تعبير الرؤيا، ولم يكونا علما منه ذلك من قبل، وقد صادفا الصواب، ولذلك قالا: [إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] أي المحسنين التعبير، أو المحسنين الفهم.
والإحسان: الإتقان، يقال: هو لا يحسن القراءة، أي لا يتقنها.
ومن عادة المساجين حكاية المرائي التي يرونها؛ لفقدانهم الأخبار التي هي وسائل المحادثة والمحاورة، ولأنهم يتفاءلون بما عسى أن يبشرهم بالخلاص في المستقبل.(1/336)
وكان علم تعبير الرؤيا من العلوم التي يشتغل بها كهنة المصريين، كما دل عليه قوله _تعالى_ حكاية عن ملك مصر: [أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ]. 12/269
38_ وذكر آباءه؛ تعليماً بفضلهم، وإظهاراً لسابقيَّةِ الصلاح فيه، وأنه متسلسل من آبائه، وقد عقله من أول نشأته، ثم تأيَّد بما علمه ربه؛ فحصل له بذلك الشرفُ العظامي والشرفُ العصامي.
ولذلك قال النبي"لما سئل عن أكرم الناس: =يوسف بن يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم، نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي+.
ومثل هذه السلسلة في النبوة لم يجتمع لأحد غير يوسف _عليه السلام_ إذا كان المراد بالنبوة أكملها وهو الرسالة، أو إذا كان إخوة يوسف _عليه السلام_ غير أنبياء على رأي فريق من العلماء. 12/272
39_ وقد أبى يوسف _عليه السلام_ الخروج من السجن قبل أن تثبت براءته مما رمي به في بيت العزيز؛ لأن ذلك قد بلغ الملك لا محالة؛ لئلا يكون تبريزه في التعبير الموجب لإطلاقه من السجن كالشفيع فيه؛ فيبقى حديث قَرَفَه بما قُرِفَ به فاشياً في الناس؛ فيتسلق به الحاسدون إلى انتقاص شأنه عند الملك يوماً ما؛ فإن تبرئة العرض من التهم الباطلة مقصد شرعي، وليكون حضوره لدى الملك مرموقاً بعين لا تَنْظُر إليه بشائبة نقص.
وجعل طريق تقرير براءته مفتتحةً بالسؤال عن الخبر لإعادة ذكره من أوله، فمعنى [فَاسْأَلْهُ] بلغ إليه سؤالاً من قِبَلي.
وهذه حكمة عظيمة تحق بأن يؤتسى بها، وهي تَطَلُّب المسجون باطلاً أن يبقى في السجن حتى تتبين براءته من السبب الذي سجن لأجله، وهي راجعة إلى التحلي بالصبر حتى يظهر النصر. 12/288(1/337)
40_ ومعنى [لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ]: لا ينفذه ولا يسدده؛ فأطلقت الهداية التي هي الإرشاد إلى الطريق الموصلة على تيسير الوصول، وأطلق نفيها على نفي ذلك التيسير، أي أن سنة الله في الكون جرت على أن فنون الباطل وإن راجت أوائلها لا تلبث أن تنقشع [بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ]. 12/293
41_ وفي اعتراف امرأة العزيز بحضرة الملك عبرة بفضيلة الاعتراف بالحق، وتبرئة البريء مما ألصق به، ومن خشية عقاب الله الخائنين. 13/6
42_ واقتراح يوسف _عليه السلام_ ذلك إعداد لنفسه للقيام بمصالح الأمة على سنة أهل الفضل والكمال من ارتياح نفوسهم للعمل في المصالح، ولذلك لم يسأل مالاً لنفسه، ولا عرضاً من متاع الدنيا.
ولكن سأل أن يوليه خزائن المملكة؛ ليحفظ الأموال ويعدل في توزيعها، ويرفق بالأمة في جمعها وإبلاغها لمحالِّها.
وعلل طلبه ذلك بقوله: [إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ] المفيدِ تعليلَ ما قبلها؛ لوقوع إنَّ في صدر الجملة؛ فإنه علم أنه اتصف بصفتين يعسر حصول إحداهما في الناس بَلْهَ كلتيهما، وهما: الحفظ لما يليه، والعلم بتدبير ما يتولاه؛ لِيُعْلِمَ الملك أن مكانته لديه وائتمانه إياه قد صادفا محلهما وأهلهما، وأنه حقيق بهما؛ لأنه متصف بما يفي بواجبهما، وذلك صفة الحفظ المحقق للائتمان، وصفة العلم المحقق للمكانة.
وفي هذا تعريف بفضله؛ ليهتدي الناس إلى اتباعه، وهذا من قبيل الحِسْبَة.
وشَبَّه ابنُ عطيةَ بمقام يوسف _ عليه السلام _ هذا مقام أبي بكر÷في دخوله في الخلافة مع نهيه المستشير له من الأنصار من أن يتأمر على اثنين.
قلت: وهو تشبيه رشيق؛ إذ كلاهما صدِّيق. 13/8_9
43_ وهذه الآية أصل لوجوب عرضِ المرءِ نَفْسَه لولاية عمل من أمور الأمة إذا علم أنه لا يصلح له غيره؛ لأن ذلك من النصح للأمة، وخاصة إذا لم يكن ممن يتهم على إيثار منفعة نفسه على مصلحة الأمة.(1/338)
وقد علم يوسف _عليه السلام_ أنه أفضل الناس هنالك؛ لأنه كان المؤمن الوحيد في ذلك القطر؛ فهو لإيمانه بالله يبث أصول الفضائل التي تقتضيها شريعة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب _عليهم السلام_ فلا يعارض هذا ما جاء في صحيح مسلم عن عبدالرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله": =يا عبدالرحمن لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وُكِلْتَ إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها+.
لأن عبدالرحمن بن سمرة لم يكن منفرداً بالفضل من بين أمثاله، ولا راجحاً على جميعهم.
ومن هذه الآية أخذ فقهاءُ المذهبِ جوازَ طلبِ القضاء لمن يعلم أنه أهل، وأنه إن لم يُوَلَّ ضاعت الحقوق.
قال المازري: =يجب على من هو أهل الاجتهاد والعدالة السعيُ في طلب القضاء إن علم أنه إن لم يلِهِ ضاعت الحقوق، أو وليه من لا يحل أن يولى، وكذلك إن كان وليه من لا تَحِلُّ تَوليتُه، ولا سبيل لعزله إلا بطلب أهله+.
وقال ابن مرزوق: =لم أقف على هذا لأحد من قدماء أهل المذهب غير المازري+.
وقال عياض في كتاب الإمارة _ أي من شرح صحيح مسلم _ ما ظاهره الاتفاق على جواز الطلب في هذه الحالة.
وظاهر كلام ابن رشد في المقدمات حرمة الطلب مطلقاً.
قال ابن مرزوق: =وإنما رأيت مثل ما نقل المازري أو قريباً منه للغزالي في الوجيز+. 13/9_10
44_ ودخولهم عليه يدل على أنه كان يراقب أمر بيع الطعام بحضوره، ويأذن به في مجلسه؛ خشية إضاعة الأقوات؛ لأن بها حياة الأمة، وعرف يوسف _ عليه السلام _ إخوته بعد مضي سنين على فراقهم؛ لقوة فراسته وزكانة عقله دونهم. 13/12
45_ [وَقَالَ يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ ].(1/339)
ولما كان شأن إقامة الحراس والأرصاد أن تكون على أبواب المدينة اقتصر على تحذيرهم من الدخول من باب واحد دون أن يحذرهم من المشي في سكة واحدة من سكك المدينة، ووثق بأنهم عارفون بسكك المدينة؛ فلم يخش ضلالهم فيها، وعلم أن بنيامين يكون في صحبة أحد إخوته؛ لئلا يضل في المدينة. 13/21
46_ وأراد بهذا تعليمهم الاعتماد على توفيق الله ولطفه مع الأخذ بالأسباب المعتادة الظاهرة؛ تأدباً مع واضع الأسباب، ومقدر الألطاف في رعاية الحالين؛ لأنا لا نستطيع أن نطلع على مراد الله في الأعمال؛ فعلينا أن نتعرفها بعلاماتها، ولا يكون ذلك إلا بالسعي لها.
وهذا سر مسألة القدر كما أشار إليه قول النبي": =اعملوا فكل ميسر لما خلق له+.
وفي الأثر: =إذا أراد الله أمراً يسر أسبابه+.
قال الله _تعالى_: [وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً].
ذلك أن شأن الأسباب أن تحصل عندها مسبباتها؛ وقد يتخلف ذلك بمعارضة أسباب أخرى مضادة لتلك الأسباب حاصلة في وقت واحد، أو لكون السبب الواحد قد يكون سبباً لأشياء متضادة باعتبارات؛ فيخطئ تعاطي السبب في مصادفة المسبب المقصود.
ولولا نظام الأسباب ومراعاتها لصار المجتمع البشري هملاً وهمجاً. 13/21_22
47_ نادوا بوصف العزيز إما لأن كل رئيس ولاية مهمة يدعى بما يرادف العزيز؛ فيكون يوسف _ عليه السلام _ عزيزاً، كما أن رئيس الشرطة يدعى العزيز كما تقدم في قوله _تعالى_: [امْرَأَةُ الْعَزِيزِ].
وإما لأن يوسف ضمت إليه ولاية العزيز الذي اشتراه؛ فجمع التصرفات، وراجعوه في أخذ أخيهم.
ووصفوا أباهم بثلاث صفات تقتضي الترقيق عليه، وهي: حنان الأبوة، وصفة الشيخوخة، واستحقاقه جبر خاطره؛ لأنه كبير قومه، أو لأنه انتهى في الكبر إلى أقصاه؛ فالأوصاف مَسُوْقَةٌ للحث على سراح الابن لا لأصل الفائدة؛ لأنهم قد كانوا أخبروا يوسف _ عليه السلام _ بخبر أبيهم.(1/340)
والمراد بالكبير: إما كبير عشيرته؛ فإساءته تسوءهم جميعاً ومن عادة الولاة استجلاب القبائل.
وإما أن يكون [كَبِيراً] تأكيداً لـ[شَيْخاً] أي بلغ الغاية في الكبر من السن، ولذلك فَرَّعوا على ذلك [فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ] إذ كان هو أصغر الإخوة، والأصغر أقرب إلى رقة الأب عليه. 13/36_37
48_ وإنما لم يكاشفهم يوسف _ عليه السلام _ بحاله ويأمرهم بجلب أبيهم يومئذ: إما لأنه خشي إنْ هو تركهم إلى اختيارهم أن يكيدوا لبنيامين؛ فيزعموا أنهم يرجعون جميعاً إلى أبيهم؛ فإذا انفردوا ببنيامين أهلكوه في الطريق، وإما لأنه قد كان بين القبط وبين الكنعانيين في تلك المدة عداوة؛ فخاف إن هو جلب عشيرته إلى مصر أن تتطرق إليه وإليهم ظنون السوء من ملك مصر؛ فتريَّث إلى أن يجد فرصة لذلك.
وكان الملك قد أحسن إليه؛ فلم يكن من الوفاء له أن يفعل ما يكرهه أو يسيء ظنه؛ فترقب وفاة الملك، أو السعي في إرضائه بذلك.
أو أراد أن يستعلم من أخيه في مدة الانفراد به أحوال أبيه وأهلهم؛ لينظر كيف يأتي بهم أو ببعضهم. 13/38
49_ وابيضاض العينين: ضعف البصر، وظاهره أنه تَبَدُّلُ لونِ سوادِهما من الهزال؛ ولذلك عبر بـ[ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ] دون عميت عيناه.
و[مِنَ] في قوله: [مِنَ الْحُزْنِ] سببية، والحزن سبب البكاء الكثير الذي هو سبب ابيضاض العينين.
وعندي أن ابيضاض العينين كناية عن عدم الإبصار كما قال الحارث بن حلزة:
قبل ما اليوم بَيَّضَتْ بعيون النـ ... ـاس فيها تَغَيُّضٌ وإِباء
وأن الحزن هو السبب لعدم الإبصار كما هو الظاهر؛ فإن توالي إحساس الحزن على الدماغ قد أفضى إلى تعطيل عمل عصب الإبصار، على أن البكاء من الحزن أمر جبلي؛ فلا يستغرب صدوره من نبي، أو أن التصبر عند المصائب لم يكن من سنة الشريعة الإسرائيلية، بل كان من سننهم إظهارُ الحزنِ والجزع عند المصائب.(1/341)
وقد حكت التوراة بكاء بني إسرائيل على موسى _ عليه السلام _ أربعين يوماً، وحكت تمزيقَ بعضِ الأنبياء ثيابهم من الجزع، وإنما التصبر في المصيبة كمالٌ بلغت إليه الشريعة الإسلامية.
والكظيم: مبالغة للكاظم، والكظم: الإمساك النفساني، أي كاظم للحزن لا يظهره بين الناس، ويبكي في خلوته، أو هو فعيل بمعنى مفعول، أي محزون كقوله: [وَهُوَ مَكْظُومٌ]. 13/43
50_ فجملة: [إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ] مفيدة قصر شكواه على التعلق باسم الله، أي يشكو إلى الله لا إلى نفسه؛ ليجدد الحزن، فصارت الشكوى بهذا القصد ضراعة وهي عبادة؛ لأن الدعاء عبادة، وصار ابيضَاضُ عينيه الناشئُ عن التذكرِ الناشئِ عن الشكوى أثراً جسدياً ناشئاً عن عبادة، مثلِ تَفَطُّرِ أقدام النبي"من قيام الليل. 13/44_45
51_ وقد أعقب كلامه بقوله: [وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ] لينبههم إلى قصور عقولهم عن إدراك المقاصد العالية؛ ليعلموا أنهم دون مرتبةِ أن يعلموه أو يلوموه، أي أنا أعلم علماً من عند الله عَلَّمَنِيه لا تعلمونه وهو علم النبوة.
وقد تقدم نظير هذه الجملة في قصة نوح _عليه السلام_ من سورة الأعراف؛ فهي من كلام النبوة الأولى، وحكي مثلها عن شعيب _عليه السلام_ في سورة الشعراء.
وفي هذا تعريض بِرَدِّ تعرضهم بأنه يطمع في المحال بأن ما يحسبونه محالاً سيقع.
ثم صرح لهم بشيء مما يعلمه، وكاشَفَهم بما يحقق كذبهم ادعاء ائتكال الذئبِ يوسف _ عليه السلام _ حين أذنه الله بذلك عند تقدير انتهاء البلوى، فقال: [يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ]. 13/45(1/342)
52_ وفيه تعريض بأنهم قد صلح حالهم من بعد، وذلك إما بوحي من الله إن كان صار نبياً، أو بالفراسة؛ لأنه لما رآهم حريصين على رغبات أبيهم في طلب فداء بنيامين حين أخذ في حكم تهمة السرقة، وفي طلب سراحه في هذا الموقف مع الإلحاح في ذلك، وكان يعرف منهم معاكسة أبيهم في شأن بنيامين علم أنهم ثابوا إلى صلاح.
وإنما كاشفهم بحاله الآن؛ لأن الاطلاع على حاله يقتضي استجلاب أبيه وأهله إلى السكنى بأرض ولايته، وذلك كان متوقفاً على أشياء لعلها لم تتهيأ إلا حينئذ.
وقد أشرنا إلى ذلك عند قوله _تعالى_: [قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ] فقد صار يوسف _ عليه السلام _ جِدُّ مكينٍ عند فرعون.
وفي الإصحاح 45 من سفر التكوين أن يوسف _ عليه السلام _ قال لإخوته حينئذ: =وهو _أي الله_ قد جعلني أباً لفرعون، وسيداً لكل بيته، ومتسلطاً على كل أرض مصر+.
فالظاهر أن الملك الذي أطلق يوسف _ عليه السلام _ من السجن وجعله عزيز مصر قد توفي، وخلفه ابن له؛ فحجبه يوسف _ عليه السلام _ وصار للملك الشاب بمنزلة الأب، وصار متصرفاً بما يريد؛ فرأى الحال مساعداً لجلب عشيرته إلى أرض مصر. 13/47_48
53_ وجملة: [إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ] تعليل لجملة: [مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا].
فيوسف _ عليه السلام _ اتقى الله، وصبر، وبينيامين صبر، ولم يعص الله؛ فكان تقياً.
أراد يوسف _ عليه السلام _ تعليمهم وسائلَ التعرض إلى نعم الله _تعالى_ وحثهم على التقوى، والتخلق بالصبر؛ تعريضاً بأنهم لم يتقوا الله فيه وفي أخيه، ولم يصبروا على إيثار أبيهم إياهما عليهم.
وهذا من أفانين الخطابة أن يغتنم الواعظ الفرصة لإلقاء الموعظة، وهي فرصة تأثرُ السامع، وانفعالُه، وظهورُ شواهدِ صدق الواعظ في موعظته. 13/49
54_ ومعنى: [أَحْسَنَ بِي] أحسن إلي؛ يقال: أحسن به وأحسن إليه، من غير تضمين معنى فعل آخر.(1/343)
وقيل: هو بتضمين أحسن معنى لطف، وباء [بي] للملابسة أي جعل إحسانه ملابساً لي، وخص من إحسان الله إليه دون مطلق الحضور للامتياز، أو الزيادة إحسانين هما يوم أخرجه من السجن، ومجيء عشيرته من البادية.
فإن [إِذْ] ظرف زمان لفعل [أَحْسَنَ] فهي بإضافتها إلى ذلك الفعل اقتضت وقوعَ إحسانٍ غير معدود؛ فإن ذلك الوقت كان زمن ثبوت براءته من الإثم الذي رمته به امرأة العزيز وتلك مِنَّةٌ، وزمن خلاصه من السجن؛ فإن السجن عذاب النفس بالانفصال عن الأصدقاء والأحبة، وبخلطة مَنْ لا يشاكلونه، وبشغله عن خلوة نفسه بتلقي الآداب الإلهية، وكان _ أيضاً _ زمن إقبال الملك عليه.
وأما مجيء أهله فزوالُ ألمٍ نفساني بوحشته في الانفراد عن قرابته، وشوقه إلى لقائهم؛ فأفصح بذكر خروجه من السجن، ومجيء أهله من البدو إلى حيث هو مَكِيْنٌ قوي.
وأشار إلى مصائبه السابقة من الإبقاء في الجب، ومشاهدة مكر إخوته به بقوله: [مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي].
فكلمة [بَعْدِ] اقتضت أن ذلك شيء انقضى أثره، وقد ألَمَّ به إجمالاً؛ اقتصاراً على شكر النعمة، وإعراضاً عن التذكير بتلك الحوادث المُكَدِّرة للصلة بينه وبين إخوته؛ فمر بها مر الكرام، وباعدها عنهم بقدر الإمكان؛ إذ ناطها بنزغ الشيطان. 13/57
1_ هكذا سميت من عهد السلف، وذلك يدل على أنها مسماة بذلك من عهد النبي"إذ لم يختلفوا في اسمها.
وإنما سميت بإضافتها إلى الرعد؛ لورود ذكر الرعد فيها بقوله _تعالى_: [وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ].
فسميت بالرعد؛ لأن الرعد لم يُذْكَرْ في سورة مثل هذه السورة؛ فإن هذه السورة مكية كلُّها أو معظمها.
وإنما ذكر الرعد في سورة البقرة، وهي نزلت بالمدينة.(1/344)
وإذا كانت آيات: [هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً] إلى قوله: [وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ] مما نزل بالمدينة _كما سيأتي_ تعين أن ذلك نزل قبل نزول سورة البقرة.
وهذه السورة مكية في قول مجاهد وروايته عن ابن عباس، ورواية علي بن أبي طلحة، وسعيد بن جبير عنه، وهو قول قتادة. 13/75
2_ ومعانيها جارية على أسلوب معاني القرآن المكي من الاستدلال على الوحدانية، وتقريع المشركين، وتهديدهم.
والأسباب التي أثارت القول بأنها مدنية أخبار واهية، وسنذكرها في مواضعها من هذا التفسير، ولا مانع من أن تكون مكية، ومن آياتها آيات نزلت بالمدينة وألحقت بها؛ فإن ذلك وقع في بعض سور القرآن؛ فالذين قالوا: هي مكية لم يذكروا موقعها من ترتيب المكيات سوى أنهم ذكروها بعد سورة يوسف، وذكروا بعدها سورة إبراهيم.
والذين جعلوها مدنيةً عَدُّوها في النزول بعد سورة القتال، وقبل سورة الرحمن، وعدوها سابعةً وتسعين في عداد النزول.
وإذ قد كانت سورة القتال نزلت عام الحديبية، أو عام الفتح تكون سورة الرعد بعدها.
وعدت آياتها ثلاثاً وأربعين من الكوفيين، وأربعاً وأربعين في عدد المدنيين، وخمساً وأربعين عند الشام. 13/76
3_ مقاصدها: أقيمت هذه السورة على أساس إثبات صدق الرسول " فيما أوحي إليه من إفراد الله بالإلهية، والبعثِ، وإبطالِ أقوال المكذبين؛ فلذلك تكررت حكايةُ أقوالِهم خمسَ مراتٍ موزعةً على السورة بدءاً ونهاية.
ومهَّد لذلك بالتنويه بالقرآن، وأنه منزلٌ من الله، والاستدلالُ على تفرده _تعالى_ بالإلهية بدلائل خلق العَالَمَين، ونظامِهما الدال على انفراده بتمام العلم والقدرةِ، وإدماجِ الامتنان؛ لما في ذلك من النعم على الناس.
ثم انتقل إلى تفنيد أقوال أهل الشرك، ومزاعمهم في إنكار البعث.
وتهديدِهم أن يحل بهم ما حل بأمثالهم.
والتذكيرِ بنعم الله على الناس.
وإثباتِ أن الله هو المستحقُّ للعبادة دون آلهتهم.(1/345)
وأن اللهَ العالمُ بالخفايا، وأن الأصنامَ لا تعلم شيئاً، ولا تُنْعِمُ بنعمة.
والتهديدُ بالحوادث الجوية أن يكون منها عذابُ للمكذبين كما حل بالأمم قبلهم.
والتخويفُ من يوم الجزاء، والتذكيرُ بأن الدنيا ليست دارَ قرارٍ.
وبيانُ مكابرةِ المشركين في اقتراحهم مجيءَ الآيات على نحو مقترحاتهم.
ومقابلةُ ذلك بيقين المؤمنين، وما أعد الله لهم من الخير.
وأن الرسولَ " ما لقي من قومه إلا كما لقي الرسل _ عليهم السلام _ من قبله.
والثناءُ على فريق من أهل الكتب يؤمنون بأن القرآنَ منزلٌ من عند الله.
والإشارةُ إلى حقيقة القدر، ومظاهر المحو والإثبات.
وما تخلل ذلك من المواعظ والعبر والأمثال.13/76_77
4_ وجاءت صلة: [وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ] وما عطف عليها وهوَ: [أَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا] بصيغة المضي لإفادة تحقق هذه الأفعال الثلاثة لهم، وتمكنها من أنفسهم؛ تنويهاً بها؛ لأنها أصول لفضائل الأعمال.
فأما الصبر: فلأنه مِلاك استقامة الأعمال ومصدرها؛ فإذا تخلق به المؤمن صدرت عنه الحسنات والفضائل بسهولة، ولذلك قال _تعالى_: [إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ].
وأما الصلاة: فلأنها عماد الدين، وفيها ما في الصبر من الخاصية لقوله _تعالى_: [إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] وقوله _تعالى_: [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ].
وأما الإنفاق: فأصله الزكاة، وهي مقارنة للصلاة كلما ذكرت، ولها الحظ الأوفى من اعتناء الدين بها، ومنها النفقات والعطايا كلها، وهي أهم الأعمال؛ لأن بذل المال يشق على النفوس؛ فكان له من الأهمية ما جعله ثانياً للصلاة. 13/128_129(1/346)
5_ وجملة: [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ] مستأنفة استئنافاً بيانياً؛ لأن جملة: [لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ] تقتضي أن الوعيد كائن وليس تأخيره مزيلاً له.
ولما كان في ذلك تأييسٌ للناس عَقَّب بالإعلام بأن التوبة مقبولة، وبإحلال الرجاء محل اليأس، فجاءت جملة: [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ] احتراساً.
وحقيقة المحو: إزالة شيء، وكثر في إزالة الخط أو الصورة، ومرجع ذلك إلى عدم المشاهدة، قال _تعالى_: [فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً].
ويطلق مجازاً على تغيير الأحوال، وتبديل المعاني كالأخبار والتكاليف والوعد والوعيد؛ فإن لها نسباً ومفاهيم إذا صادفت ما في الواقع كانت مطابقتها؛ إثباتاً لها، وإذا لم تطابقه كان عدم مطابقتها محواً؛ لأنه إزالة لمدلولاتها.
والتثبيت: حقيقته جعل الشيء ثابتاً قارّاً في مكان، قال _تعالى_: [إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا].
ويطلق مجازاً على أضداد معاني المحو المذكورة؛ فيندرج في ما تحتمله الآية عدة معان: منها أنه يعدم ما يشاء من الموجودات، ويبقي ما يشاء منها، ويعفو عما يشاء من الوعيد ويقرر، وينسخ ما يشاء من التكاليف ويبقي ما يشاء.
وكل ذلك مظاهر لتصرف حكمته وعلمه وقدرته.
وإذ قد كانت تعلقات القدرة الإلهية جارية على وفق علم الله _تعالى_ كان ما في علمه لا يتغير؛ فإنه إذا أوجد شيئاً كان عالماً أنه سيوجده، وإذا أزال شيئا كان عالماً أنه سيزيله وعالماً بوقت ذلك.
وأَبْهَمَ الممحو والمثبت بقوله: [مَا يَشَاءُ] لتتوجه الأفهام إلى تعرف ذلك والتدبر فيه؛ لأن تحت هذا الموصول صوراً لا تحصى، وأسباب المشيئة لا تحصى.
ومن مشيئة الله _تعالى_ محوَ الوعيد أن يلهم المذنبين التوبة والإقلاع ويخلق في قلوبهم داعية الامتثال.
ومن مشيئة التثبيت أن يصرف قلوب قوم عن النظر في تدارك أمورهم، وكذلك القول في العكس من تثبيت الخير ومحوه.(1/347)
ومن آثار المحو تَغَيُّرُ إجراءِ الأحكام على الأشخاص، فبينما ترى المحارب مبحوثاً عنه، مطلوباً للأخذ، فإذا جاء تائباً قبل القدرة عليه _ قُبِلَ رجوعُه، ورفع عنه ذلك الطلب.
وكذلك إجراء الأحكام على أهل الحرب إذا آمنوا ودخلوا تحت أحكام الإسلام.
وكذلك الشأن في ظهور آثار رضى الله، أو غضبه على العبد؛ فبينما ترى أحداً مغضوباً عليه، مضروباً عليه المذلة؛ لانغماسه في المعاصي _ إذا بك تراه قد أقلع وتاب؛ فأعزه الله، ونصره.
ومن آثار ذلك _أيضاً_ تقليب القلوب بأن يجعل الله البغضاء محبة، كما قالت هند بنت عتبة للنبي " بعد أن أسلمت: =ما كان أهل خباء أحب إليَّ أن يذلوا من أهل خبائك، واليوم أصبحت وما أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك+.
وقد محا الله وعيد من بقي من أهل مكة؛ فرفع عنهم السيف يوم فتح مكة قبل أن يأتوا مسلمين، ولو شاء لأمر النبي " باستئصالهم حين دخوله مكة فاتحاً.
وبهذا يتحصل أن لفظ [مَا يَشَاءُ] عامٌّ يشمل كل ما يشاؤه الله _تعالى_ ولكنه مجمل في مشيئة الله بالمحو والإثبات؛ وذلك لا تصل الأدلة العقلية إلى بيانه، ولم يرد في الأخبار المأثورة ما يبينه إلا القليل على تفاوت في صحة أسانيده.
ومن الصحيح فيما ورد من ذلك قول النبي ": =إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب؛ فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع؛ فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها+.
والذي يلوح في معنى الآية أن ما في أم الكتاب لا يقبل محواً؛ فهو ثابت، وهو قسيم لما يشاء الله محوه.
ويجوز أن يكون ما في أم الكتاب هو عين ما يشاء الله مَحْوَه أو إثباتَه سواء كان تعييناً بالأشخاص، أو بالذوات، أو بالأنواع، وسواء كانت الأنواع من الذوات، أو من الأفعال، وأن جملة: [وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] أفادت أن ذلك لا يطلع عليه أحد.(1/348)
ويجوز أن يكون قوله: [وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] مراداً به الكتاب الذي كتبت به الآجال، وهو قوله: [لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ]، وأن المحو في غير الآجال.
ويجوز أن يكون أم الكتاب مراداً به علم الله _تعالى_ أي يمحو ويثبت وهو عالم بأن الشيء سيمحى أو يثبت.
وفي تفسير القرطبي عن ابن عمر قال سمعت النبي " يقول: =يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا السعادة والشقاوة والموت+.
وروي مثله عن مجاهد.
وروي عن ابن عباس: [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ] إلا أشياء الخَلْق _بفتح الخاء وسكون اللام_ والخُلُق _بضم الخاء واللام_ والأجل، والرزق، والسعادة، والشقاوة، [وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] الذي لا يتغير منه شيء.
قلت: وقد تفرع على هذا قول الأشعري: إن السعادة والشقاوة لا يتبدلان خلافاً للماتريدي.
وعن عمر وابن مسعود ما يقتضي أن السعادة والشقاوة يقبلان المحو والإثبات.
فإذا حمل المحو على ما يجمع معاني الإزالة، وحمل الإثبات على ما يجمع معاني الإبقاء، وإذا حمل معنى [أُمُّ الْكِتَابِ] على معنى ما لا يقبل إزالة ما قرر أنه حاصل، أو أنه موعود به ولا يقبل إثبات ما قرر انتفاؤه، سواء في ذلك الأخبار والأحكام _ كان ما في أم الكتاب قسيماً لما يمحى ويثبت.
وإذا حمل على أن ما يقبل المحو والإثبات معلوم لا يتغير علم الله به _ كان ما في أم الكتاب تنبيهاً على أن التغيرات التي تطرأ على الأحكام أو على الأخبار ما هي إلا تغيرات مقررة من قبل، وإنما كان الإخبار عن إيجادها أو عن إعدامها مظهراً لما اقتضته الحكمة الإلهية في وقت ما. 13/164_167
1_ أضيفت هذه السورة إلى اسم إبراهيم _عليه السلام_ فكان ذلك اسماً لها لا يعرف لها غيره.
ولم أقف على إطلاق هذا الاسم عليها في كلام النبي"ولا في كلام أصحابه في خبر مقبول.
ووجه تسميتها بهذا _وإن كان ذكر إبراهيم _عليه السلام_ جرى في كثير من السور_ أنها من السور ذوات [الر].(1/349)
وقد ميز بعضها عن بعض بالإضافة إلى أسماء الأنبياء _عليهم السلام_ التي جاءت قصصهم فيها، أو إلى مكان بعثة بعضهم وهي سورة الحجر، ولذلك لم تضف سورة الرعد إلى مثل ذلك؛ لأنها متميزة بفاتحتها بزيادة حرف ميم على ألف ولام وراء.
وهي مكية كلها عند الجمهور، وعن قتادة إلا آيتي: [أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً] إلى قوله: [وَبِئْسَ الْقَرَارُ].
وقيل: إلى قوله: [فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ] نزل ذلك في المشركين في قضية بدر، وليس ذلك إلا توهماً _كما ستعرفه_.
نزلت هذه السور بعد سورة الشورى، وقبل سورة الأنبياء، وقَدْ عُدَّت السبعين في ترتيب السور في النزول.
وعدت آياتها أربعاً وخمسين عند المدنيين، وخمساً وخمسين عند أهل الشام، وإحدى وخمسين عند أهل البصرة، واثنتين وخمسين عند أهل الكوفة. 13/178
2_ واشتملت من الأغراض على أنها ابتدأت بالتنبيه إلى إعجاز القرآن، وبالتنويه بشأنه، وأنه أُنزل لإخراج الناس من الضلالة، والامتنانِ بأن جعله بلسان العربِ، وتمجيدِ الله _تعالى_ الذي أنزله.
ووعيدُ الذين كفروا به بمن أنزل عليه، وإيقاظُ المعاندين بأن محمداً " ما كان بدعاً من الرسل، وأن كونَه بشراً أمرٌ غيرُ منافٍ لرسالته من عند الله كغيره من الرسل، وضَرَبَ له مثلاً برسالة موسى _عليه السلام_ إلى فرعون؛ لإصلاح حال بني إسرائيل.
وتذكيرُه قومَهَ بنعم الله، ووجوبِ شكرها، وموعظتُه إياهم بما حل بقوم نوحٍ وعادٍ ومَنْ بَعْدَهم وما لاقته رسلُهم من التكذيب، وكيف كانت عاقبةُ المكذبين.
وإقامةُ الحجة على تفرد الله _تعالى_ بالإلهية بدلائل مصنوعاته.
وذِكْرُ البعثِ، وتحذيرُ الكفارِ من تغرير قادتهم وكبرائهم بهم من كيد الشيطان، وكيف يتبرأون منهم يومَ الحشرِ، وَوَصْفُ حالهم وحالِ المؤمنين يومئذ.
وفضلُ كَلِمَةِ الإسلام، وخُبْثُ كلمةِ الكفر.(1/350)
ثم التعجيبُ من حال قومٍ كفروا نعمة الله، وأوقعوا مَنْ تبعهم في دار البوار بالإشراك.
والإيماءُ إلى مقابلته بحال المؤمنين.
وعَدّ بعض نعمه على الناس تفصيلاً ثم جَمَعَها إجمالاً.
ثم ذكَّر الفريقين بحال إبراهيم _عليه السلام_ ليعلم الفريقان مَنْ هو سالكُ سبيلِ إبراهيمَ _عليه السلام_ ومَنْ هو ناكبٌ عنه من ساكني البلد الحرام.
وتحذيرُهم من كفرانِ النعمةِ، وإنذارُهم أن يَحِلَّ بهم ما حل بالذين ظلموا من قبل.
وتثبيتُ النبي " بوعد النصر.
وما تخلل ذلك من الأمثال.
وخُتِمَتْ بكلمات جامعة من قوله [هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ] إلى آخرها. 13/178_179
3_[وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)].
إذا كانت صيغة القصر مستعملة في ظاهرها، ومسلطة على متعلقي الفعل المقصور كان قصراً إضافياً؛ لقلب اعتقاد المخاطبين؛ فيتعين أن يكون رداً على فريق من المشركين قالوا: هلا أنزل القرآن بلغة العجم.
وقد ذكر في الكشاف في سورة فصلت عند قوله _تعالى_: [وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ] فقال: كانوا؛ لتعنتهم يقولون: هلا نزل القرآن بلغة العجم، وهو مروي في تفسير الطبري هنالك عن سعيد بن جبير أن العرب قالوا ذلك.
ثم يجوز أن يكون المراد بلغة العجم لغة غير العرب مثل العبرانية أو السريانية من اللغات التي أنزلت بها التوراة والإنجيل، فكان من جملة ما موهت لهم أوهامهم أن حسبوا أن للكتب الإلهية لغةً خاصةً تنزل بها، ثم تُفَسَّر للذين لا يعرفون تلك اللغة.
وهذا اعتقاد فاش بين أهل العقول الضعيفة؛ فهؤلاء الذين يعالجون سر الحرف والطِّلَّسْمَات يموهون بأنها لا تكتب إلا باللغة السريانية، ويزعمون أنها لغة الملائكة ولغة الأرواح.(1/351)
وقد زعم السراج البلقيني: أن سؤال القبر يكون باللغة السريانية، وتلقاه عنه جلال الدين السيوطي، واستغربه، فقال:
ومن عجيب ما ترى العينان ... أن سؤال القبر بالسرياني
أفتى بهذا شيخنا البلقيني ... ولم أره لغيره بعيني
13/185
4_[قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31)].
استئناف نشأ عن ذكر حال الفريق الذي حقت عليه الكلمة الخبيثة بذكر حال مقابله، وهو الفريق الذي حقت عليه الكلمة الطيبة؛ فلما ابتدئ بالفريق الأول؛ لقصد الموعظة، والتخلي ثَنَّى بالفريق الثاني على طريقة الاعتراض بين أغراض الكلام _كما سيأتي في الآية عقبها_.
ونظيره قوله _تعالى_ في سورة الإسراء: [وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً] إلى أن قال: [وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ].
ولما كانوا متحلين بالكمال صيغ الحديث عنهم بعنوان الوصف بالإيمان، وبصيغة الأمر بما هم فيه من صلاة، وإنفاق؛ لقصد الدوام على ذلك؛ فحصلت بذلك مناسبةُ وقعِ هذه الآية بعد التي قبلها؛ لمناسبة تضاد الحالين.
ولما كان المؤمنون يقيمون الصلاة من قَبْلُ، وينفقون من قبل _ تَعَيَّن أن المرادَ الاستزادةُ من ذلك؛ ولذلك اختير المضارع مع تقدير لام الأمر دون صيغة فعل الأمر؛ لأن المضارع دال على التجدد، فهو مع لام الأمر يلاقي حال المتلبس بالفعل الذي يؤمر به، بخلاف صيغة: افعل؛ فإن أصلها طلب إيجاد الفعل المأمور به مَنْ لم يكن ملتبساً به؛ فأصل [يُقِيمُوا الصَّلاةَ] ليقيموا، فحذفت لام الأمر تخفيفاً.(1/352)
وهذه هي نكتة ورود مثل هذا التركيب في مواضع وروده، كما في هذه الآية وفي قوله: [وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] في سورة الإسراء، أي قل لهم؛ ليقيموا، وليقولوا، فَحُكي بالمعنى.
وعندي: أن منه قوله _تعالى_: [ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ] في سورة الحجر، أي ذرهم ليأكلوا، ويتمتعوا، ويلههم الأمل؛ فهو أمر مستعمل في الإملاء والتهديد.
ولذلك نوقن بأن الأفعال هذه معمولة للام أمر محذوفة، وهذا قول الكسائي إذا وقع الفعل المجزوم بلام الأمر محذوفة بعد تقدم فعل [قُلْ] كما في مغني اللبيب، ووافقه ابن مالك في شرح الكافية.
وقال بعضهم: جزم الفعل المضارع في جواب الأمر بـ[قُلْ] على تقدير فعل محذوف هو المقول دل عليه ما بعده.
والتقدير: =قل لعبادي أقيموا يقيموا وأنفقوا ينفقوا+.
وقال الكسائي وابن مالك: إن ذلك خاص بما يقع بعد الأمر بالقول كما في هذه الآية، وفاتهم نحو آية: [ذرهم يأكلوا ويتمتعوا]. 13/231_232
5_[رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ(40)رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ(41)].
جملة مستأنفة من تمام دعائه، وفعل [اجْعَلْنِي] مستعمل في التكوين _ كما تقدم آنفاً _ أي اجعلني في المستقبل مقيم الصلاة.
والإقامة: الإدامة، وتقدم في صدر سورة البقرة.
[وَمِنْ ذُرِّيَّتِي]: صفة لموصوف محذوف معطوف على ياء المتكلم، والتقدير: واجعل مقيمين للصلاة من ذريتي.
و[مِنْ] ابتدائة(1) وليست للتبعيض؛ لأن إبراهيم _ عليه السلام _ لا يسأل الله إلا أكمل ما يحبه لنفسه ولذريته.
ويجوز أن تكون [مِنْ] للتبعيض؛ بناءً على أن الله أعلمه بأن يكون من ذريته فريق يقيمون الصلاة، وفريق لا يقيمونها، أي لا يؤمنون.
__________
(1) 1_ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: ابتدائية. (م)(1/353)
وهذا وجه ضعيف؛ لأنه يقتضي أن يكون الدعاء تحصيلاً لحاصل، وهو بعيد، وكيف وقد قال: [وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ] ولم يقل: ومن بني.
ودعاؤه بِتَقَبُّل دعائه ضراعةٌ بعد ضراعة.
وحذفت ياء المتكلم في [دُعَاءِ] في قراءة الجمهور؛ تخفيفاً كما تقدم في قوله _تعالى_: [وَإِلَيْهِ مَتَابِ] في سورة الرعد.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة بإثبات الياء ساكنة.
ثم دعا بالمغفرة لنفسه، وللمؤمنين، ولوالديه ما تقدم منه ومن المؤمنين قبل نبوته، وما استمر عليه أبوه بعد دعوته من الشرك.
أما أمه فلعلها توفيت قبل نبوته.
وهذا الدعاء لأبويه قبل أن يتبين له أن أباه عدو لله _ كما في آية سورة براءة _.
ومعنى: [يَقُومُ الْحِسَابُ]: يثبت، استعير القيام للثبوت؛ تبعاً لتشبيه الحساب بإنسان قائم؛ لأن حالة القيام أقوى أحوال الإنسان؛ إذ هو انتصاب للعمل.
ومنه قولهم: قامت الحرب على ساق، إذا قويت واشتدت، وقولهم: ترجلت الشمس، إذا قوي ضوءها. 13/244_245
1_ سميت هذه السورة سورة الحجر، ولا يعرف لها اسم غيره، ووجه التسمية أن اسم الحجر لم يذكر في غيرها.
والحجر: اسم البلاد المعروفة به وهو حجر ثمود، وثمود هم أصحاب الحجر.
وسيأتي الكلام عليه عند قوله _تعالى_: [وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ].
والمكَتِّبون في كتاتيب تونس يدعونها سورة: [رُبَمَا] لأن كلمة: [رُبَمَا] لم تقع في القرآن كله إلا في أول هذه السورة.
وهي مكية كلها، وحكي الاتفاق عليه.
وعن الحسن استثناء قوله _تعالى_: [وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ] بناء على أن سبعاً من المثاني هي سورة الفاتحة، وعلى أنها مدنية، وهذا لا يصح؛ لأن الأصح أن الفاتحة مكية.(1/354)
واستثناء قوله _تعالى_: [كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ] بناءً على تفسيرهم [الْمُقْتَسِمِينَ] بأهل الكتاب وهو صحيح، وتفسير [جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ] أنهم قالوا: ما وافق منه كتابنا فهو صدق، وما خالف كتابنا فهو كذب.
ولم يقل ذلك إلا يهود المدينة، وهذا لا نصححه _ كما نبينه عند الكلام على تلك الآية _. 14/5_6
2_ وعدد آيها تسع وتسعون باتفاق العادّين. 14/6
3_ مقاصد هذه السورة: افتتحت بالحروف المقطَّعة التي فيها تعريضٌ بالتحدي بإعجاز القرآن.
وعلى التنويهِ بفضل القرآن وهديه.
وإنذارِ المشركين بندمٍ يندمونه على عدم إسلامهم، وتوبيخِهم بأنهم شغلهم عن الهدى انغماسُهم في شهواتهم، وإنذارِهم بالهلاك عند حلول إبَّان الوعيدِ الذي عينه الله في علمه.
وتسليةِ الرسول "على عدم إيمان من لم يؤمنوا، وما يقولونه في شأنه، وما يتورَّكون بطلبه منه، وأن تلك عادةُ المكذبين مع رسلهم.
وأنهم لا تجدي فيهم الآياتُ والنذرُ لو أسعفوا بمجيء آيات حسب اقتراحهم به، وأن الله حافظُ كتابِه من كيدهم.
ثم إقامةُ الحجة عليهم بعظيم صنع الله، وما فيه من نعم عليهم، وذكرُ البعثِ ودلائلِ إمكانه.
وانتقل إلى خلقِ نوع الإنسان وما شرف الله به هذا النوع، وقصةِ كفرِ الشيطان.
ثم ذكر قصة إبراهيم ولوط _عليهما السلام_ وأصحاب الأيكة وأصحاب الحجر.
وختمت بتثبيت الرسول " وانتظار ساعةِ النصر، وأن يصفح عن الذين يؤذونه، ويكل أمرهم إلى الله، ويشتغل بالمؤمنين، وأن الله كافيه أعداءه.
مع ما تخلل ذلك من الاعتراض(1)
__________
(1) _ الاعتراض: هو من ضروب الإطناب، الذي هو أحد أبواب علم المعاني أحد أقسام علم البلاغة.
والاعتراض: هو أن يُؤْتَى في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنىً _ بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب.
وهو من دقائق البلاغة، وله فوائد عديدة.
ومن أمثلته قوله _تعالى_: [وَيَجْعَلُوْنَ للهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُوْنَ].
فقوله: [سُبْحَانَهُ] جملة؛ لأنه مصدر بتقدير الفعل، وقعت في أثناء الكلام؛ لأن قوله: [وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُوْنَ] عطفٌ على قوله: [للهِ البَنَاتِ] عطف على مفردات، فـ [لَهُمْ] عطف على [لله] و[مَا يَشْتَهُوْنَ] عطف على البنات. انظر معجم البلاغة العربية د. بدوي طبانة ص414.(1/355)
والإدماج(1) من ذكر خلق الجن، واستراقِهم السمعَ، ووصفِ أحوالِ المتقين، والترغيبِ في المغفرة، والترهيبِ من العذاب. 14/7
4_ وخفض الجناح: تمثيل للرفق والتواضع بحال الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع خفض جناحه يريد الدنو، وكذلك يصنع إذا لاعب أنثاه، فهو راكن إلى المسالمة والرفق، أو الذي يتهيأ لحضن فراخه، وفي ضمن هذه التمثيلية استعارة مكنية، والجناح تخييل، وقد بسطناه في سورة الإسراء في قوله: [وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ].
وقد شاعت هذه التمثيلية حتى صارت كالمثل في التواضع واللين في المعاملة.
وضد ذلك رفع الجناح تمثيل للجفاء والشدة. 14/83
1_ سميت هذه السورة عند السلف سورة النحل، وهو اسمها المشهور في المصاحف، وكتب التفسير، وكتب السنة.
ووجه تسميتها بذلك أن لفظ النحل لم يذكر في سورة أخرى.
وعن قتادة أنها تسمى سورة النِّعَم _أي بكسر النون وفتح العين_.
قال ابن عطية: =لما عدد الله فيها من النعم على عباده+.
وهي مكية في قول الجمهور وهو عن ابن عباس وابن الزبير.
__________
(1) _ الإدماج: أحدُ ضروب الإطناب، وهو أن يُدمج المتكلم غرضاً في جملة من المعاني قدْ نحاه؛ ليوهم السامع أنه لم يقصده، وإنما عرض في كلامه لتتمة معناه الذي قصد.
ومن أمثلة ذلك قول الله _تعالى_: [وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُوْنَ شَهْراً].
ومعناه أن الوالدة تكلفت بحمل مولودها، ورضاعه ثلاثين شهراً، وأدمج فيه أن أقل الحمل ستة أشهر؛ إذ يسقط من الثلاثين شهراً _ حَوْلان؛ للرضاع، بدليل قوله _تعالى_: [والوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ].
فيبقى للحمل ستة أشهر، وهو أقله. انظر معجم البلاغة العربية ص227_228.(1/356)
وقيل؛ إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة مُنْصَرَفَ النبي " من غزوة أحد، وهي قوله _تعالى_: [وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ] إلى آخر السورة، قيل: نزلت في نسخ عَزْمِ النبي " على أن يمثل بسبعين من المشركين أن أظفره الله بهم؛ مكافأة على تمثيلهم بحمزة.
وعن قتادة وجابر بن زيد أن أولها مكي إلى قوله _تعالى_: [وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا] فهو مدني إلى آخر السورة. 14/93
2_ أغراض هذه السور: معظمُ ما اشتملت عليه السورة إكثارٌ متنوعُ الأدلة على تفرد الله _تعالى_ بالإلهية، والأدلةُ على فساد دين الشرك، وإظهارُ شناعته.
وأدلة إثبات رسالة محمد "، وإنزال القرآن عليه ".
وأن شريعةَ الإسلامِ قائمةٌ على أصول ملة إبراهيم _عليه السلام_.
وإثباتُ البعث والجزاء؛ فابتدئت بالإنذار بأنه قد اقترب حلول ما أنذر به المشركون من عذاب الله الذي يستهزئون به، وتلا ذلك قرعُ المشركين، وزجرُهم على تصلبهم في شركهم وتكذيبهم.
وانْتُقِل إلى الاستدلال على إبطال عقيدة الشرك؛ فابتدئ بالتذكير بخلق السماوات والأرض، وما في السماء من شمس وقمر ونجوم، وما في الأرض من ناس وحيوان ونبات وبحار وجبال، وأعراض الليل والنهار.
وما في أطوار الإنسان وأحواله من العبر.
وخُصَّتِ النحلُ وثمراتُها بالذكر؛ لوفرة منافعها والاعتبارِ بإلهامها إلى تدبير بيوتها، وإفرازِ شَهْدِها.
والتنويهُ بالقرآن، وتنزيهُه عن اقتراب الشيطان، وإبطالُ افترائهم على القرآن.
والاستدلالُ على إمكان البعث، وأنه تكوينٌ كتكوين الموجودات.
والتحذيرُ مما حل بالأمم التي أشركت بالله وكذبت رسله _عليهم السلام_ عذابَ الدنيا، وما ينتظرهم من عذاب الآخرة، وقابل ذلك بضده من نعيم المتقين المصدقين والصابرين على أذى المشركين والذين هاجروا في الله وظلموا.(1/357)
والتحذيرُ من الارتداد عن الإسلام، والترخيصُ لمن أكره على الكفر في التَّقِية من المكرهين.
والأمرُ بأصول من الشريعة؛ من تأصيلِ العدل، والإحسانِ، والمواساةِ، والوفاءِ بالعهدِ، وإبطالِ الفحشاءِ والمنكرِ والبغيِ، ونقضِ العهودِ، وما على ذلك من جزاء بالخير في الدنيا والآخرة.
وأُدْمِجَ في ذلك ما فيها من العبر والدلائل، والامتنان على الناس بما في ذلك من المنافعِ الطيبات المنتظمة، والمحاسن، وحسن المناظر، ومعرفة الأوقات، وعلاماتِ السير في البر والبحر، ومن ضرب الأمثال.
ومقابلةُ الأعمال بأضدادها.
والتحذيرُ من الوقوع في حبائل الشيطان، والإنذارُ بعواقب كفران النعمة.
ثم عرض لهم بالدعوة إلى التوبة [ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ] إلخ...
وملاكُ طرائقِ دعوةِ الإسلام [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ].
وتثبيت الرسول _عليه الصلاة والسلام_ ووعده بتأييد الله إياه. 14/94_96
3_[ وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ (8)]اعتراض في آخر الكلام أو في وسطه على ما سيأتي.
و[يَخْلُقُ] مضارع مراد به زمن الحال لا الاستقبال، أي هو الآن يخلق ما لا تعلمون أيها الناس مما هو مخلوق لنفعهم وهم لا يشعرون به، فكما خلق لهم الأنعامَ، والكُراعَ خلق لهم، ويخلق لهم خلائق أخرى لا يعلمونها الآن؛ فيدخل في ذلك ما هو غير معهود، أو غير معلوم للمخاطبين، وهو معلوم عند أمم أخرى كالفيل عند الحبشة والهنود، وما هو غير معلوم لأحد ثم يعلمه الناس من بعد، مثل: دواب الجهات القطبية كالفَقْمة، والدب الأبيض، ودواب القارة الأمريكية التي كانت مجهولة للناس في وقت نزول القرآن؛ فيكون المضارع مستعملاً في الحال للتجديد، أي هو خالق ويخلق.
ويدخل فيه كما قيل ما يخلقه الله من المخلوقات في الجنة، غير أن ذلك خاص بالمؤمنين؛ فالظاهر أنه غير مقصود من سياق الامتنان العام؛ للناس المتوسل به إلى إقامة الحجة على كافري النعمة.(1/358)
فالذي يظهر لي أن هذه الآية من معجزات القرآن الغيبية العلمية، وأنها إيماء إلى أن الله سيلهم البشر اختراع مراكب هي أجدى عليهم من الخيل، والبغال، والحمير، وتلك العجلات التي يركبها الواحد، ويحركها برجليه وتسمى (بسكلات) وأرتال السكك الحديدية، والسيارات المسيَّرة بمصفى النفط وتسمى (أطوموبيل) ثم الطائرات التي تسير بالنفط المصفى في الهواء؛ فكل هذه مخلوقات نشأت في عصور متتابعة لم يكن يعلمها من كانوا قبل عصر وجود كل منها.
وإلهام الله الناس لاختراعها هو ملحق بخلق الله؛ فالله هو الذي ألهم المخترعين من البشر بما فطرهم عليه من الذكاء والعلم، وبما تدرجوا في سلم الحضارة، واقتباس بعضهم من بعض إلى اختراعها؛ فهي بذلك مخلوقة لله _تعالى_ لأن الكل من نعمته. 14/110_111
4_[ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)].
جملة معترضة، اقتضت اعتراضَها مناسبةُ الامتنانِ بنعمة تيسير الأسفار بالرواحل، والخيل، والبغال، والحمير.
فلما ذُكرت نعمةُ تيسير السبيل الموصلة إلى المقاصد الجثمانية ارتقي إلى التذكير بسبيل الوصول إلى المقاصد الروحانية وهو سبيل الهدى؛ فكان تعهد الله بهذه السبيل نعمةٌ أعظم من تيسير المسالك الجثمانية؛ لأن سبيل الهدى تحصل به السعادة الأبدية.
وهذه السبيل هي موهبة العقل الإنساني الفارق بين الحق والباطل، وإرسال الرسل لدعوة الناس إلى الحق، وتذكيرهم بما يغفلون عنه، وإرشادهم إلى ما لا تصل إليه عقولهم أو تصل إليه بمشقة على خطر من التورط في بُنَيَّات الطريق. 14/111_112
5_ ومن لطيف النوادر ما في الكشاف: أن من تأويلات الروافض أن المراد بالنحل في الآية علي وآله.
وعن بعضهم أنه قال عند المهدي: إنما النحل بنو هاشم يخرج من بطونهم العلم، فقال له رجل: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم، فضحك المهدي، وحدث به المنصور؛ فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهم.(1/359)
قلت: الرجل الذي أجاب الرافضي هو بشار بن برد، وهذه القصة مذكورة في أخبار بشار. 14/210
6_[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)].
لما جاء أن هذا القرآن تبيان لكل شيء، وهدى، ورحمة، وبشرى للمسلمين حسن التخلص إلى تبيان أصول الهدى في التشريع للدين الإسلامي العائدة إلى الأمر والنهي؛ إذ الشريعة كلها أمر ونهي، والتقوى منحصرة في الامتثال والاجتناب؛ فهذه الآية استئناف لبيان كون الكتاب تبياناً لكل شيء؛ فهي جامعة أصول التشريع. 14/254
7_ ومرجع تفاصيل العدل إلى أدلة الشريعة؛ فالعدل هنا كلمة مجملة جامعة وفهي(1) بإجمالها مناسبة إلى أحوال المسلمين حين كانوا بمكة؛ فيصار فيها إلى ما هو مقرر بين الناس في أصول الشرائع، وإلى ما رسمته الشريعة من البيان في مواضع الخفاء؛ فحقوق المسلمين بعضهم على بعض من الأخوَّة والتناصح قد أصبحت من العدل بوضع الشريعة الإسلامية.
وأما الإحسان فهو معاملة بالحسنى ممن لا يلزمه إلى من هو أهلها.
والحسن: ما كان محبوباً عند المعامل به ولم يكن لازماً لفاعله، وأعلاه ما كان في جانب الله _تعالى_ مما فسره النبي " بقوله: =الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك+.
ودون ذلك التقرب إلى الله بالنوافل، ثم الإحسان في المعاملة فيما زاد على العدل الواجب، وهو يدخل في جميع الأقوال والأفعال ومع سائر الأصناف إلا ما حرم الإحسان بحكم الشرع. 14/255
8_ فهذه الآية جمعت أصول الشريعة في الأمر بثلاثة، والنهي عن ثلاثة، بل في الأمر بشيئين وتكملة، والنهي عن شيئين وتكملة. 14/258
9_ وعن ابن مسعود: أن هذه الآية أجمع آية في القرآن.
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: وهي، أو: فهي. (م)(1/360)
وعن قتادة: ليس مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به في هذه الآية، وليس مِنْ خُلُقٍ كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدح فيه، وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق، ومذامِّها. 14/259
10_ وقد اهتدى الخليفة عمر بن عبدالعزيز × إلى ما جمعته هذه الآية من معاني الخير؛ فلما استخلف سنة 99 كتب يأمر الخطباء بتلاوة هذه الآية في الخطبة يوم الجمعة، وتجعل تلاوتها عوضاً عما كانوا يأتونه في خطبة الجمعة من كلمات سب علي بن أبي طالب ÷.
وفي تلاوة هذه الآية عوضاً عن ذلك السب دقيقة أنها تقتضي النهي عن ذلك السب؛ إذ هو من الفحشاء والمنكر والبغي.
ولم أقف على تعيين الوقت التي ابتدع فيه هذا السب، ولكنه لم يكن في خلافة معاوية ÷. 14/259
11_ وفي السيرة الحلبية أن الشيخ عز الدين بن عبدالسلام ألف كتاباً سماه (الشجرة) بَيَّن فيه أن هذه الآية اشتملت على جميع الأحكام الشرعية في سائر الأبواب الفقهية، وسماه السبكي في الطبقات (شجرة المعارف). 14/260
12_ وقد وُصِفَ إبراهيم _ عليه السلام _ بأنه كان أمة.
والأمة: الطائفة العظيمة من الناس التي تجمعها جهة جامعة.
وتقدم في قوله _تعالى_: [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً] في سورة البقرة، وَوَصْفُ إبراهيمَ _ عليه السلام _ بذلك وصفٌ بديع لمعنيين: أحدهما: أنه كان في الفضل والفتوة والكمال بمنزلة أمة كاملة، وهذا كقولهم: أنت الرجل كل الرجل، وقول البحتري:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتاً ... لدى الفضل حتى عد ألف بواحد
وعن عمر بن الخطاب ÷أن النبي " قال: =معاذ أمة قانت لله+.
والثاني: أنه كان أمة وحده في الدين؛ لأنه لم يكن في وقت بعثته موحد لله غيره؛ فهو الذي أحيا الله به التوحيد، وبثه في الأمم والأقطار، وبنى له مَعْلَماً عظيماً وهو الكعبة، ودعا الناس إلى حَجِّه؛ لإشاعة ذكره بين الأمم، ولم يزل باقياً على العصور.(1/361)
وهذا كقول النبي " في خطر بن مالك الكاهن: =وأنه يبعث يوم القيامة أمة وحده+.
رواه السهيلي في الروض الأنف.
ورأيت رواية أن النبي " قال هذه المقالة في زيد بن عمرو بن نفيل. 14/315_316
13_ وقد علم من هذا أن دين الإسلام منزه عن أن تتعلق به شوائب الإشراك؛ لأنه جاء كما جاء إبراهيم معلناً توحيداً لله بالإلهية، ومجتثاً لوشيج الشركِ.
والشرائعُ الإلهية كلها _ وإن كانت تحذر من الإشراك _ فقد امتاز القرآن من بينها بسد المنافذ التي يتسلل منها الإشراك بصراحة أقواله، وفصاحة بيانه، وأنه لم يترك في ذلك كلاماً متشابهاً كما قد يوجد في بعض الكتب الأخرى، مثل ما جاء في التوراة من وصف اليهود بأبناء الله، وما في الأناجيل من موهم بُنُوَّة عيسى
_ عليه السلام _ لله _سبحانه_ عما يصفون. 14/319
14_ [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ].
يتنزل معنى هذه الآية منزلة البيان لقوله: [أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً] فإن المراد بما أوحي إليه من اتباع ملة إبراهيم هو دينُ الإسلام، ودينُ الإسلامِ مبنيٌّ على قواعد الحنيفية؛ فلا جرم كان الرسول " بدعوته الناس إلى الإسلام داعياً إلى اتباع ملة إبراهيمَ.
ومخاطبةُ اللهِ رسولَه " بهذا الأمر في حين أنه داعٍ إلى الإسلام، وموافقٌ لأصول ملة إبراهيم _ دليل على أن صيغة الأمر مستعملة في طلب الدوام على الدعوة الإسلامية مع ما انضم إلى ذلك من الهداية إلى طرائق الدعوة إلى الدين.(1/362)
فتضمنت هذه الآية تثبيت الرسول " على الدعوة وأنْ لا يؤيسه قول المشركين له: [إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ] وقولهم: [إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ] وأن لا يصده عن الدعوة أنه _تعالى_ لا يهدي الذين لا يؤمنون بآيات الله؛ ذلك أن المشركين لم يتركوا حيلة يحسبونها تثبط النبي " عن دعوته إلا ألقوا بها إليه؛ من تصريح بالتكذيب، واستسخار، وتهديد، وبذاءة، واختلاق، وبهتان، كما ذلك محكي في تضاعيف القرآن وفي هذه السورة؛ لأنهم يجهلون مراتب أهل الاصطفاء، ويزنونهم بمعيار موازين نفوسهم؛ فحسبوا ما يأتونه من الخزعبلات مثبطاً له، وموشكاً لأن يصرفه عن دعوتهم. 14/325_326
15_ فالحكمة: هي المعرفةُ المُحْكَمَةُ، أي الصائبة المجردة عن الخطأ؛ فلا تطلق الحكمة إلا على المعرفة الخالصة عن شوائب الأخطاء، وبقايا الجهل في تعليم الناس، وفي تهذيبهم؛ ولذلك عرفوا الحكمة بأنها: =معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بحسب الطاقة البشرية+.
بحيث لا تلتبس على صاحبها الحقائق المتشابهة بعضها ببعض، ولا تخطئ في العلل والأسباب.
وهي اسم جامع لكل كلام أو علم يراعى فيه إصلاح حال الناس واعتقادهم إصلاحاً مستمراً لا يتغير.
وقد تقدم الكلام عليها عند قوله _تعالى_: [يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ] في سورة البقرة مفصلاً فانظره.
وتطلق الحكمة على العلوم الحاصلة للأنبياء، ويرادفها الحكم.
والموعظة: القول الذي يُلَيِّن نفس المقول له لعمل الخير.
وهي أخص من الحكمة؛ لأنها حكمة في أسلوب خاص لإلقائها.
وتقدمت عند قوله _تعالى_: [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ] في سورة النساء.
وعند قوله: [مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ] في سورة الأعراف.
وَوَصْفُها بالحسن تحريضٌ على أن تكون لَيّنة مقبولة عند الناس، أي حسنة في جنسها، وإنما تتفاضل الأجناس بتفاضل الصفات المقصودة منها.(1/363)
وعطف (الْمَوْعِظَةِ) على (الْحِكْمَةِ) لأنها تُغَاير الحكمة بالعموم والخصوص الوجهي؛ فإنه قد يسلك بالموعظة مسلك الإقناع؛ فمن الموعظة حكمة، ومنها خطابة، ومنها جدل.
وهي من حيث ماهيتها بينها وبين الحكمةِ العمومُ والخصوصُ من وجه، ولكن المقصود بها ما لا يخرج عن الحكمة والموعظة الحسنة بقرينة تغيير الأسلوب؛ إذ لم يُعْطَفْ مصدرُ المجادلة على الحكمة والموعظة بأن يقال: والمجادلة بالتي هي أحسن، بل جيء بفعلها؛ تنبيهاً على أن المقصود تقييد الإذن فيها بأن تكون بالتي هي أحسن، كما قال: [وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ].
والمجادلة: الاحتجاج لتصويب رأي، وإبطال ما يخالفه أو عمل كذلك.
ولما كان ما لقيه النبي"من أذى المشركين قد يبعثه على الغلظة عليهم في المجادلة أمره الله بأن يجادلهم بالتي هي أحسن.
وتقدمت قريباً عند قوله: [تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا].
وتقدمت من قبل عند قوله: [وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ] في سورة النساء.
والمعنى: إذا ألجأتك الدعوة إلى محاجة المشركين فحاججهم بالتي هي أحسن. 14/327_328
16_ وقيدت الموعظة بالحسنة ولم تقيد الحكمة بمثل ذلك؛ لأن الموعظة لما كان المقصود منها غالباً رَدْعَ نفسِ الموعوظ عن أعماله السيئة أو عن توقع ذلك منه _ كانت مظنةً لصدور غلظةٍ من الواعظ، ولحصول انكسار في نفس الموعوظ، أرشد الله رسوله أن يتوخى في الموعظة أن تكون حسنة، أي بإلانة القول، وترغيب الموعوظ في الخير، قال _تعالى_ خطاباً لموسى وهارون: [اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى].
وفي حديث الترمذي عن العرباض بن سارية أنه قال: =وعظنا رسول الله " موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون + الحديث.(1/364)
وأما الحكمة: فهي تعليم لمتطلبي الكمال من معلم يهتم بتعليم طلابه؛ فلا تكون إلا في حالة حسنة؛ فلا حاجة إلى التنبيه على أن تكون حسنة.
والمجادلة لما كانت محاجة في فعل أو رأي؛ لقصد الإقناع بوجه الحق فيه فهي لا تعدو أن تكون من الحكمة، أو من الموعظة، ولكنها جعلت قسيماً لهما هنا بالنظر إلى الغرض الداعي إليها.
وإذ قد كانت مجادلة النبي"لهم من ذيول الدعوة وُصِفَتْ بالتي هي أحسن كما وصفت الموعظة بالحسنة. 14/329
17_ والآية تقتضي أن القرآن مشتمل على هذه الطرق الثلاثة من أساليب الدعوة، وأن الرسول " إذا دعا الناس بغير القرآن من خطبه ومواعظه وإرشاده يسلك معهم هذه الطرق الثلاثة؛ وذلك كله بحسب ما يقتضيه المقام من معاني الكلام ومن أحوال المخاطبين من خاصة وعامة.
وليس المقصودُ لزومَ كونِ الكلامِ الواحدِ مشتملاً على هذه الأحوال الثلاثة، بل قد يكون الكلام حكمةً مشتملاً على غلظة ووعيد وخالياً عن المجادلة.
وقد يكون مجادلة غير موعظة، كقوله _تعالى_: [ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ].
وكقول النبي": =إنك لتأكل المرباع وهو حرام في دينك+.
قاله لعدي ابن حاتم وهو نصراني قبل إسلامه. 14/330
18_ ومن الإعجاز العلمي في القرآن أن هذه الآية جمعت أصول الاستدلال العقلي الحق، وهي البرهان، والخطابة، والجدل المعبر عنها في علم المنطق بالصناعات، وهي المقبولة من الصناعات.
وأما السفسطة(1)
__________
(1) _ السفسطة: لفظ معرب مركب في اليونانية من كلمتين: (سوفيا) وهي الحكمة، و(اسطس) وهو المموه؛ فمعنى السفسطة: حكمة مموهة، ويراد بالسفسطة: التمويه والخداع، والمغالطة في الكلام.
والغرض من ذلك: تغليط الخصم، وإسكاته.
والسوفسطائية طائفة من الفلاسفة تقوم على إنكار الحقائق، والقياسات الوهمية. (م)(1/365)
والشعر فيربأ عنهما الحكماء الصادقون بَلْهَ الأنبياء والمرسلين. 14/331
19_ ورغَّبهم في الصبر على الأذى، أي بالإعراض عن أذى المشركين، وبالعفو عنه؛ لأنه أجلب لقلوب الأعداء؛ فوصف بأنه خير، أي خير من الأخذ بالعقوبة، كقوله _تعالى_: [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]، وقوله: [وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ]. 14/336
20_[وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)].
خصَّ النبي " بالأمر بالصبر للإشارة إلى أن مقامه أعلى؛ فهو بالتزام الصبر أولى، أخذاً بالعزيمة بعد أن رخص لهم في المعاقبة.
وجملة: [وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ] معترضة بين المتعاطفات، أي وما يحصل صبرك إلا بتوفيق الله إياك.
وفي هذا إشارة إلى أن صبر النبي " عظيم؛ لأنه لقي من أذى المشركين أشد مما لقيه عموم المسلمين؛ فصبره ليس كالمعتاد؛ لذلك كان حصوله بإعانة من الله.
وحذره من الحزن عليهم إن لم يؤمنوا كقوله: [لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ].
ثم أعقبه بأن لا يضيق صدره من مكرهم.
وهذه أحوال مختلفة تحصل في النفس باختلاف الحوادث المسببة لها؛ فإنهم كانوا يعاملون النبي مرة بالأذى علناً، ومرة بالإعراض عن الاستماع إليه، وإظهار أنهم يغيظونه بعدم متابعته، وآونةً بالكيد والمكر له، وهو تدبير الأذى في خفاء. 14/336_337
1_ سميت في كثير من المصاحف سورةَ الإسراءِ، وصَرَّح الألوسي بأنها سميت بذلك؛ إذ قد ذكر في أولها الإسراء بالنبي " واختصت بذكره.
وتسمى في عهد الصحابة سورة بني إسرائيل، ففي جامع الترمذي في أبواب الدعاء عن عائشة _رضي الله عنها_ قالت: =كان النبي"لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل+.(1/366)
وفي صحيح البخاري عن عبدالله بن مسعود أنه قال في بني إسرائيل، والكهف، ومريم: =إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي+.
وبذلك ترجم لها البخاري في (كتاب التفسير) والترمذي في (أبواب التفسير).
ووجه ذلك أنها ذكر فيها من أحوال بني إسرائيل ما لم يذكر في غيرها، وهو استيلاء قوم أولي بأس (الآشوريين) عليهم ثم استيلاء قوم آخرين وهم (الروم) عليهم.
وتسمى _أيضاً_ سورة [سُبْحَانَ] لأنها افتتحت بهذه الكلمة، قاله في =بصائر ذوي التمييز+.
وهي مكية عند الجمهور، قيل: إلا آيتين منها، وهما: [وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ] إلى قوله: [قَلِيلاً].
وقيل: إلا أربعاً، هاتين الآيتين، وقوله: [وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ] وقوله: [وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ] الآية.
وقيل: إلا خمساً، هاته الأربع، وقوله: [إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ] إلى آخر السورة.
وقيل: إلا خمس آيات غير ما تقدم، وهي المبتدأة بقوله: [وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ] الآية، وقوله: [وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى] الآية، وقوله: [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ] الآية، وقوله: [أَقِمْ الصَّلاةَ] الآية، وقوله: [وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ] الآية.
وقيل إلا ثمانياً من قوله: [وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ] إلى قوله: [سُلْطَاناً نَصِيراً]. 15/5_6
2_ وقد اختلف في وقت الإسراء، والأصح أنه كان قبل الهجرة بنحو سنة وخمسة أشهر، فإذا كانت قد نزلت عقب وقوع الإسراء بالنبي"تكون قد نزلت في حدود سنة اثنتي عشرة بعد البعثة، وهي سنة اثنتين قبل الهجرة في منتصف السنة.
وليس افتتاحها بذكر الإسراء مقتضياً أنها نزلت عقب وقوع الإسراء.
بل يجوز أنها نزلت بعد الإسراء بمدة.
وذكر فيها الإسراء إلى المسجد الأقصى؛ تنويهاً بالمسجد الأقصى وتذكيراً بحرمته.(1/367)
نزلت هذه السورة بعد سورة القصص وقبل سورة يونس.
وعدت السورة الخمسين في تعداد نزول سورة القرآن.
وعدد آيها مائة وعشر في عد أهل العدد بالمدينة، ومكة، والشام، والبصرة، ومائة وإحدى عشرة في عد أهل الكوفة. 15/6_7
3_ أغراضها: العماد الذي أقيمت عليه أغراض هذه السورة إثباتُ نبوة محمد"، وإثباتُ أن القرآنَ وحيٌ من الله، وإثباتُ فضلِه وفضلِ مَنْ أنزل عليه، وذِكْرُ أنه مُعْجِزٌ.
وردُّ مطاعن المشركين فيه، وفيمن جاء به، وأنهم لم يفقهوه؛ فلذلك أعرضوا عنه .
وإبطالُ إحالتهم أن يكون النبي "أُسري به إلى المسجد الأقصى؛ فافتتحت بمعجزة الإسراء؛ توطئةً للتنظير بين شريعة الإسلام وشريعة موسى _عليه الصلاة والسلام_ على عادة القرآن في ذكر المثل والنظائر الدينية، ورمزاً إلهياً إلى أن الله أعطى محمداً "من الفضائل أفضلَ مما أعطى مَنْ قَبْلَهُ.
وأنه أَكْمَلَ له الفضائلَ؛ فلم يَفُتْهُ منها فائتٌ؛ فمن أَجْلِ ذلك أَحَلَّه بالمكانِ المُقَدَّس الذي تداولَتْهُ الرسل مِنْ قَبْل؛ فَلَمْ يَسْتَأْثِرْهُمْ بالحلول بذلك المكان الذي هو مهبطُ الشريعةِ المُوْسَوية، ورمزُ أطوارِ تاريخِ بني إسرائيلَ وأسلافِهم، والذي هو نظيرُ المسجدِ الحرامِ في أَنَّ أصلَ تأسيسه في عهد إبراهيمَ كما سننبه عليه عند تفسير قوله _تعالى_: [إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى] فأحل الله به محمداً _عليه الصلاة والسلام_ بعد أن هُجِرَ وخُرِّب؛ إيماءً إلى أن أُمَّتَهُ تُجَدِّدُ مَجْدَهُ.
وأن اللهَ مَكَّنه من حرمي النبوَّة والشريعة؛ فالمسجدُ الأقصى لم يكن معموراً حين نزول هذه السورة، وإنما عُمِرَتْ كَنَائِسُ حولَه، وأن بني إسرائيل لم يحفظوا حُرْمَةَ المسجدِ الأقصى؛ فكان إفسادهم سبباً في تسلطِ أعدائهم عليهم، وخرابِ المسجد الأقصى.
وفي ذلك رمزٌ إلى أن إعادةَ المسجدِ الأقصى ستكون على يدِ أُمَّةِ هذا الرسولِ الذي أنكروا رسالَتَهُ.(1/368)
ثم إثباتُ دلائلِ تَفَرُّدِ اللهِ بالإلهية، والاستدلالُ بآيةِ الليلِ والنهار، وما فيهما من المنن على إثبات الوحدانية.
والتذكيرُ بالنعم التي سخَّرها اللهُ للناس، وما فيها من الدلائل على تفرده بتدبير الخلق، وما تقتضيه مِنْ شُكْرِ المُنْعِمِ، وتركِ شُكْرِ غيرِه، وتنزيهِه عن اتخاذِ بناتٍ له.
وإظهارُ فضائلَ مِنْ شريعةِ الإسلام وحكمته، وما علمه اللهُ المسلمين من آدابِ المعاملةِ نحوَ ربِّهم _سبحانه_ ومعاملةِ بعضِهم مع بعض، والحكمةِ في سيرتهم وأقوالهم، ومراقبةِ الله في ظاهرِهم وباطنِهم.
وعن ابن عباس أنه قال: =التوراةُ كلُّها في خَمْسَ عشرةَ آيةً من سورة بني إسرائيل+.
وفي رواية عنه: =ثمانَ عشرةَ آيةً منها كانت في ألواح موسى+.
أي من قوله _تعالى_: [لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً] إلى قوله: [وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً].
ويعني بالتوراةِ الألواحَ المشتملةَ على الوصايا العشرِ، وليس مرادُه أنَّ القرآنَ حكى ما في التوراة، ولكنها أحكامٌ قرآنيةٌ موافقةٌ لما في التوراة.
على أن كلامَ ابنِ عباسٍ معناه: أن ما في الألواح مذكورٌ في تلك الآي، ولا يريد أنهما سواء؛ لأن تلك الآياتِ تزيدُ بأحكام، منها قوله: [رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ] إلى قوله: [لِرَبِّهِ كَفُوراً] وقوله: [وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ] وقوله: [وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ] إلى قوله: [ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ] مع ما تخلل ذلك كله من تفصيلٍ، وتَبْيِيْنٍ عَرِيَتْ عنه الوصايا العشرُ التي كتبت في الألواح.
وإثباتُ البعثِ والجزاءِ.
والحثُّ على إقامة الصلوات في أوقاتها.
والتحذيرُ من نَزْغِ الشيطان، وعداوتِه لآدم وذريته، وقصةُ إبايَتِهِ من السجود.
والإنذارُ بعذاب الآخرة.(1/369)
وَذِكْرُ ما عرضَ للأمم مِن أسباب الاستئصال والهلاك.
وتهديدُ المشركين بأن اللهَ يوشك أن ينصر الإسلام على باطلهم.
وما لقي النبي "من أذى المشركين واستعانتهم باليهود.
واقتراحُهم الآيات، وتَحْمِيْقُهم في جهلهم بآية القرآن وأنه الحق.
وتخلل ذلك من المُسْتَطْرَدات والنذر والعظات ما فيه شفاءٌ ورحمةٌ، ومن الأمثالِ ما هو علمٌ وحكمة. 15/7_9
4_ ولما فتح المسلمون بقية أرض الشام في زمن عمر وجاء عمر بن الخطاب ليشهد فتح مدينة إيليا(1) وهي المعروفة من قبل (أورشليم) وصارت تسمى إيلياء _بكسر الهمزة وكسر اللام_ وكذلك كان اسمها المعروف عند العرب عندما فتح المسلمون فلسطين.
وإيلياء اسم نبي من بني إسرائيل كان في أوائل القرن التاسع قبل المسيح، قال الفرزدق:
وبيتان بيت الله نحن ولاته ... وبيت بأعلى إيلياء مشرف
وانعقد الصلح بين عمر وأهل تلك المدينة وهم نصارى، قال عمر لبطريق لهم اسمه (صفرونيوس): =دلني على مسجد داود+.
فانطلق به حتى انتهى إلى مكان الباب، وقد انحدر الزبل على درج الباب، فتجشم عمر حتى دخل ونظر فقال: =الله أكبر، هذا والذي نفسي بيده مسجد داود الذي أخبرنا رسول الله "أنه أسري به إليه+.
ثم أخذ عمر والمسلمون يكنسون الزبل عن الصخرة حتى ظهرت كلها، ومضى عمر إلى جهة محراب داود؛ فصلى فيه، ثم ارتحل من بلد القدس إلى فلسطين.
ولم يَبْنِ هنالك مسجداً إلى أن كان في زمن عبدالملك بن مروان أمر بابتداء بناء القبة على الصخرة وعمارة المسجد الأقصى، ووكل على بنائها رجاء بن حيوة الكندي أحد علماء الإسلام؛ فابتدأ ذلك سنة ست وستين، وكان الفراغ من ذلك في سنة ثلاث وسبعين.
كان عمرُ أولَ من صلى فيه من المسلمين، وجعل له حرمة المساجد.
__________
(1) _ انظر (الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل) في ذكر خراب المسجد الأقصى.
ولم أقف على وجه تسمية أورشليم باسم إيلياء المذكور, ولعله هو سمى باسم المدينة المقدسة عندهم.(1/370)
ولهذا فتسمية ذلك المكان بالمسجد الأقصى في القرآن تسميةً قرآنية اعتبر فيها ما كان عليه من قبل؛ لأن حكم المسجدية لا ينقطع عن أرض المسجد؛ فالتسمية باعتبار ما كان، وهي إشارة خفية إلى أنه سيكون مسجداً بأكمل حقيقة المساجد.
واستقبله المسلمون في الصلاة من وقت وجوبها المقارن ليلة الإسراء إلى ما بعد الهجرة بستة عشر شهراً، ثم نسخ استقباله وصارت الكعبةُ هي القبلةَ الإسلامية.
وقد رأيت أن سائحاً نصرانياً اسمه (اركولف) زار القدس سنة 670م، أي بعد خلافة عمر بأربع وثلاثين سنة، وزعم أنه رأى مسجداً بناه عمر على شكل مربع من ألواح وجذوع أشجار ضخمة، وأنه يسع نحو ثلاثة آلاف(1).
والظاهر أن نسبة المسجد الأقصى إلى عمر بن الخطاب وهم من أوهام النصارى اختلط عليهم كشف عمر موضع المسجد؛ فظنوه بناءً.
وإذا صدق اركولف فيما ذكر من أنه رأى مكاناً مربعاً من ألواح وعمد أشجار كان ذلك شيئاً أحدثه مسلمو البلاد؛ لصيانة ذلك المكان عن الامتهان. 15/17_19
5_ وقوله: [الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ]: صفة للمسجد الأقصى، وجيء في الصفة بالموصولية؛ لقصد تشهير الموصوف بمضمون الصلة حتى كأن الموصوف مشتهر بالصلة عند السامعين، والمقصود: إفادة أنه مباركٌ حوله.
وصيغة المفاعلة هنا للمبالغة في تكثير الفعل، مثل: عافاك الله.
والبركة: نماء الخير والفضل في الدنيا والآخرة بوفرة الثواب للمصلين فيه وبإجابة دعاء الداعين فيه.
وقد تقدم ذِكْرُ البركةِ عند قوله _تعالى_: [مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ] في سورة آل عمران.
وقد وصف المسجد الحرام بمثل هذا في قوله _تعالى_: [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ].
__________
(1) _ مقال حرره عارف عارف في الجملة المسماة رسالة العلم بالمملكة الأردنية في عدد 2 من السنة 12 كانون الأول سنة 1968.(1/371)
ووجهُ الاقتصارِ على وصف المسجد الأقصى في هذه الآية بذكر هذا التبريك أن شهرة المسجد الحرام بالبركة، وبكونه مقامَ إبراهيمَ معلومة للعرب.
وأما المسجد الأقصى فقد تناسى الناس ذلك كله؛ فالعرب لا علم لهم به، والنصارى عفّوا أثره من كراهيتهم لليهود، واليهود قد ابتعدوا عنه، وأيسوا من عوده إليهم؛ فاحتيج إلى الإعلام ببركته. 15/19
6_ ومعنى كون نوح [عَبْداً]: أنه مُعْتَرِفٌ لله بالعبودية غير متكبر بالإشراك، وكونه [شَكُوراً]: أي شديداً لشكر الله بامتثال أوامره، وروي أنه كان يكثر حمد الله.
والاقتداء بصالح الآباء مجبولة عليه النفوس، و مَحَلُّ تنافسٍ عند الأمم بحيث يعد خلاف ذلك كمثير للشك في صحة الانتساب.
وكان نوح _عليه السلام_ مثلاً في كمال النفس، وكانت العرب تعرف ذلك، وتنبعث على الاقتداء به.
قال النابغة:
فألفيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوح لا يخون
15/27
7_ والإفساد مرتين ذكر في كتاب أشعياء، وكتاب أرمياء.
ففي كتاب أشعياء نذارات في الإصحاح الخامس والعاشر.
وأولى المرتين مذكورة في كتاب أرمياء في الإصحاح الثاني، والإصحاح الحادي والعشرين وغيرهما.
وليس المراد بلفظ الكتاب كتاباً واحداً؛ فإن المفرد المعرف بلام الجنس يراد به المتعدد.
وعن ابن عباس: =الكتاب أكثر من الكتب+.
ويجوز أن يراد بالكتاب التوراة وكتب الأنبياء؛ ولذلك _أيضاً_ وقع بالإظهار دون الإضمار.
وجملة: [لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ] إلى قوله: [حَصِيراً] مبنية لجملة [قَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ].
وأيّاًما كان فضمائر الخطاب في هذه الجملة مانعة من أن يكون المراد بالكتاب في قوله _تعالى_: [وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ]: اللوح المحفوظ، أو كتاب الله، أي علمه.(1/372)
وهذه الآية تشير إلى حوادث عظيمة بين بني إسرائيل وأعدائهم من أمتين عظيمتين: حوادث بينهم وبين البابليين، وحوادث بينهم وبين الرومانيين، فانقسمت بهذا الاعتبار إلى نوعين: نوع منهما تندرج فيه حوادثهم مع البابليين، والنوع الآخر حوادثهم مع الرومانيين؛ فعبر عن النوعين بمرتين؛ لأن كل مرة منهما تحتوي على عدة ملاحم.
فالمرة الأولى: هي مجموع حوادث متسلسلة تسمى في التاريخ بالأسر البابلي(1)
__________
(1) _ هذا هو ما يعرف، ويسمى بالسبي البابلي: وهو المأساة التي يتذكرها اليهود بحسرة ومرارة، وهي ما حصل لهم عام 603 قبل الميلاد، وقيل 605 على يد عدد من الملوك البابليين.
= وقد أُثير حول هذه المأساة جدل كبير، ونُسجت فيه خرافات وأساطير، ولا تزال الدراسات عنها إلى يومنا هذا.
ولهذا صار العراق أحد مواطن الفجيعة والحزن لدى اليهود؛ فمنه انطلقت القوات التي قضت على دولة إسرائيل في العهد القديم عهد الملك الكلداني البابلي نبوخذ نصر، وانتهت حربه بواحدة من أكبر الفواجع في التاريخ اليهودي، وهي ما أطلق عليه مأساة (السبي البابلي).
ففي عام 603 أو 605 قبل الميلاد تولى نبوخذ نصر العرش الكلداني البابلي في العراق، وفي عهده بلغت الدولة أوجها، وحالف الملك اليهودي يواقيم إلا أن العلاقات بينهما تدهورت عندما حاول يواقيم التخلص من الحلف مع جاره القوي؛ فجرد نبوخذ نصر حملة عسكرية حاصر فيها القدس، وفتحها، واقتاد الملك الجديد يهويا كين، وحاشيته، وأركان حكمه، وأشراف دولته إلى بابل عام 586 قبل الميلاد.
وتشير بعض الروايات التاريخية إلى سبي بابلي لاحق بعد محاولة صدقيا ملك يهودا التمرد على الحكم الكلداني مما أدى إلى تجريد حملة بابلية أخرى انتهت عام 586 قبل الميلاد بحرق هيكل سليمان ابن داود _ عليه السلام _ والقضاء على الدولة العبرية، وسبي حوالي 50 ألف يهودي إلى العراق هم أغلبية ما تبقى في القدس، وقد ساقهم الكلدانيون مكبلين بالحديد والأصفاد إلى أراضي العراق.
وقد اختُلف كثيراً في هذا السبي _كما مر_ واختُلف في مدة وقوعه؛ فقيل: استمر 70 سنة، وقيل: 140 سنة.
وتحتفل الأدبيات اليهودية بالكثير من البكائيات، والذكريات المريرة عن هذه المحنة.
ولهذا يشعر اليهود أن امتلاك العراق لأي قوة فائقة يمكن أن يهدد أمن إسرائيل، وربما يؤدي إلى تكرار محنة ( السبي البابلي ) من جديد.
ولعل ما يؤكد ذلك ما قاله مناحيم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي عام 1981م بعد الغارة على المفاعل النووي العراقي؛ حيث أعلن أنه لو لم يدمر المفاعل النووي العراقي لحدثت محرقة جديدة في تاريخ الشعب اليهودي.
ولعل هذا يفسر سر الهجمة على العراق، ومحاولة تفكيكه، وإضعافه. (م)(1/373)
وهي غزوات (بختنصر) ملك بابل وأشور بلاد أورشليم، والغزو الأول كان سنة 606 قبل المسيح، أسر جماعات كثيرة من اليهود ويسمى الأسر الأول، ثم غزاهم _أيضاً_ غزواً يسمى الأسر الثاني، وهو أعظم من الأول، كان سنة 598 قبل المسيح، وأسر ملك يهوذا وجمعاً غفيراً من الإسرائيلين وأخذ الذهب الذي في هيكل سليمان، وما فيه من الآنية النفيسة.
والأسر الثالث المبير سنة 588 قبل المسيح غزاهم بختنصر، وسبى كل شعب يهوذا، وأحرق هيكل سليمان، وبقيت أورشليم خراباً يباباً، ثم أعادوا تعميرها كما سيأتي عند قوله _تعالى_: [ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ].
وأما المرة الثانية فهي سلسلة غزوات الرومانيين بلاد أورشليم، وسيأتي بيانها عند قوله _تعالى_: [فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ] الآية. 15/28_30
8_[وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24)].
ومقتضى الآية التسوية بين الوالدين في البر وإرضاؤهما معاً في ذلك؛ لأن موردها لفعل يصدر من الولد نحو والديه، وذلك قابل للتسوية.
ولم تتعرض لما عدا ذلك مما يختلف فيه الأبوان، ويتشاحان في طلب فعل الولد إذا لم يمكن الجمع بين رغبتيهما بأن يأمره أحد الأبوين بضد ما يأمره به الآخر.
ويظهر أن ذلك يجري على أحوال تعارض الأدلة بأن يسعى إلى العمل بطلبيهما إن استطاع.
وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة: أن رجلا سأل النبي"من أحق الناس بحسن صحابتي? قال: =أمك، قال: ثم من? قال: ثم أمك، قال: ثم من? قال: ثم أمك، قال: ثم من? قال:ثم أبوك+.
وهو ظاهر في ترجيح جانب الأم؛ لأن سؤال السائل دل على أنه يسأل عن حسن معاملته لأبويه.(1/374)
وللعلماء أقوال: أحدها: ترجيح الأم على الأب: وإلى هذا ذهب الليث ابن سعد، والمحاسبي، وأبو حنيفة، وهو ظاهر قول مالك؛ فقد حكى القرافي في الفرق 23 عن مختصر الجامع أن رجلا سأل مالكاً فقال: إن أبي في بلد السودان وقد كتب إلي أن أقدم عليه وأمي تمنعني من ذلك? فقال مالك: أطع أباك ولا تعص أمك.
وذكر القرافي في المسألة السابعة من ذلك الفرق أن مالكاً أراد منع الابن من الخروج إلى السودان بغير إذن الأم.
الثاني: قول الشافعية: أن الأبوين سواء في البر، وهذا القول يقتضي وجوب طلب الترجيح إذا أمرا ابنهما بأمرين متضادين.
وحكى القرطبي عن المحاسبي في كتاب الرعاية أنه قال: لا خلاف بين العلماء في أن للأم ثلاثةَ أرباع البر وللأب الربع.
وحكى القرطبي عن الليث أن للأم ثلثي البر وللأب الثلث؛ بناءً على اختلاف رواية الحديث المذكور أنه قال: ثم أبوك بعد المرة الثانية، أو بعد المرة الثالثة.
والوجه أن تحديد ذلك بالمقدار حوالة على ما لا ينضبط، وأن محمل الحديث مع اختلاف روايتيه على أن الأم أرجح على الإجمال. 15/71_72
9_ ومقصد الإسلام من الأمر ببر الوالدين وبصلة الرحم ينحل إلى مقصدين: أحدهما نفساني: وهو تربية نفوس الأمة على الاعتراف بالجميل لصانعه، وهو الشكر؛ تخلقاً بأخلاق الباري _تعالى_ في اسمه الشكور، فكما أمر بشكر الله على نعمة الخلق والرزق أمر بشكر الوالدين على نعمة الإيجاد الصوري ونعمة التربية والرحمة.
وفي الأمر بشكر الفضائل تنويه بها، وتنبيه على المنافسة في إسدائها.(1/375)
والمقصد الثاني، عمراني: وهو أن تكون أواصر العائلة قوية العرى مشدودة الوثوق؛ فأمر بما يحقق ذلك الوثوق بين أفراد العائلة، وهو حسن المعاشرة؛ ليربي في نفوسهم من التحاب والتواد ما يقوم مقام عاطفة الأمومة الغريزية في الأم، ثم عاطفة الأبوة المنبعثة عن إحساس بعضه غريزي ضعيف، وبعضه عقلي قوي حتى أن أثر ذلك الإحساس لَيُساوي بمجموعه أثر عاطفة الأم الغريزية، أو يفوقها في حالة كبر الابن.
ثم وزع الإسلام ما دعا إليه من ذلك بين بقية مراتب القرابة على حسب الدنو في القرب النسبي بما شرعه من صلة الرحم، وقد عزز الله قابلية الانسياق إلى تلك الشرعة في النفوس. 15/73_74
10_ ووجه النهي عن التبذير هو: أن المال جُعل عوضاً لاقتناء ما يحتاج إليه المرء في حياته من ضروريات وحاجيات وتحسينات، وكان نظام القصد في إنفاقه ضامن كفايته في غالب الأحوال بحيث إذا أنفق في وجهه على ذلك الترتيب بين الضروري والحاجي والتحسيني أَمِنَ صاحبُه من الخصاصة فيما هو إليه أشد احتياجاً، فتجاوز هذا الحد فيه يسمى: تبذيراً بالنسبة إلى أصحاب الأموال ذات الكفاف.
وأما أهل الوفر والثروة فلأن ذلك الوفر آت من أبواب اتسعت لأحد فضاقت على آخر لا محالة؛ لأن الأموال محدودة؛ فذلك الوفر يجب أن يكون محفوظاً لإقامة أَوَدِ المعوزين وأهل الحاجة الذين يزداد عددهم بمقدار وفرة الأموال التي بأيدي أهل الوفر والجِدَةِ؛ فهو مرصود لإقامة مصالح العائلة والقبيلة وبالتالي مصالح الأمة.
فأحسن ما يبذل فيه وفر المال هو اكتساب الزلفى عند الله، قال _تعالى_: [وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] واكتساب المحمدة بين قومه.
وقديماً قال المثل العربي: =نعم العون على المروءة الجِدَةُ+.
وقال: =اللهم هب لي حمداً، وهب لي مجداً؛ فإنه لا حمد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال+.(1/376)
والمقصد الشرعي أن تكون أموال الأمة عُدَّةً لها، وقوة لابتناء أساس مجدها، والحفاظ على مكانتها حتى تكون مرهوبة الجانب، مرموقة بعين الاعتبار غير محتاجة إلى من قد يستغل حاجتها؛ فيبتز منافعها، ويدخلها تحت نَيْرِ سلطانه. 15/79
11_[وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً (31)]: عطف جملة حكم على جملة حكم للنهي عن فعل ينشأ عن اليأس من رزق الله.
وهذه الوصية السابعة من الأحكام المذكورة في آية: [وَقَضَى رَبُّكَ..] الآية.
وغُيِّر أسلوب الإضمار من الإفراد إلى الجمع؛ لأن المنهي عنه هنا من أحوال الجاهلية؛ زجراً لهم عن هذه الخطيئة الذميمة.
وتقدم الكلام على نظير هذه الآية في سورة الأنعام، ولكن بين الآيتين فرقاً في النظم من وجهين: الأول: أنه قيل هنا: [خَشْيَةَ إِمْلاقٍ] وقيل في آية الأنعام [مِنْ إِمْلاقٍ].
ويقتضي ذلك أن الذين كانوا يئدون بناتهم يئدونهن لغرضين: إما لأنهم فقراء لا يستطيعون إنفاق البنت، ولا يرجون منها إن كبرت إعانة على الكسب؛ فهم يئدونها لذلك، فذلك مورد قوله في الأنعام: [مِنْ إِمْلاقٍ] فإن [مِنْ] التعليلية تقتضي أن الإملاق سبب قتلهن فيقتضي أن الإملاق موجود حين القتل.
وإما أن يكون الحامل على ذلك ليس فقر الأب، ولكن خشية عُروض الفقر له، أو عروض الفقر للبنت بموت أبيها؛ إذ كانوا في جاهليتهم لا يورِّثون البنات؛ فيكون الدافع للوأد هو توقُّعَ الإملاق، كما قال إسحاق بن خلف _ شاعر إسلامي قديم _:
إذا تذكرت بنتي حين تَنْدِبُني ... فاضت لعبرة بنتي عبرتي بدم
أحاذر الفقر يوماً أن يُلِمَّ بها ... فيهتك الستر عن لحم على وضم
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقاً ... والموت أكرم نزَّال على الحُرم
أخشى فظاظَة عمٍّ أو جفاء أخٍ ... وكنت أخشى عليها من أذى الكلم
فلتحذير المسلمين من آثار هذه الخواطر ذُكِّروا بتحريم الوأد وما في معناه.(1/377)
وقد كان ذلك في جملة ما تؤخذ عليه بيعة النساء المؤمنات كما في آية سورة الممتحنة.
ومن فقرات أهل الجاهلية: =دفن البنات من المكرمات+.
وكلتا الحالتين من أسباب قتل الأولاد تستلزم الأخرى، وإنما التوجيه للمنظور إليه بادئ ذي بدء.
الوجه الثاني: فمن أجل هذا الاعتبار في الفرق للوجه الأول قيل هنالك [نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ] بتقديم ضمير الآباء على ضمير الأولاد؛ لأن الإملاق الدافع للوأد المحكي به في آية الأنعام هو إملاق الآباء؛ فقدم الإخبار بأن الله هو رازقهم، وكمل بأنه رازق بناتهم.
وأما الإملاق المحكي في هذه الآية فهو الإملاق المخشي وقوعه.
والأكثر أنه توقع إملاق البنات _ كما رأيت في الأبيات _ فلذلك قدم الإعلام بأن الله رازق الأبناء، وكمل بأنه رازق آبائهم، وهذا من نُكَتِ القرآن.
والإملاق: الافتقار، وتقدم الكلام على الوأد عند قوله _تعالى_: [وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ] في سورة الأنعام. 15/87_88
12_[وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً (32)]: عطف هذا النهي على النهي عن وأد البنات؛ إيماءً إلى أنهم كانوا يعدون من أعذارهم في وأد البنات الخشية من العار الذي قد يلحق من جراء إهمال البنات الناشئ عن الفقر الرامي بهن في مهاوي العهر، ولأن في الزنى إضاعة نسب النسل بحيث لا يعرف للنسل مرجع يأوي إليه، وهو يشبه الوأد في الإضاعة. 15/89
13_ والقرب المنهي عنه: هو أقل الملابسة، وهو كناية عن شدة النهي عن ملابسة الزنا، وقريب من هذا المعنى قولهم: ما كاد يفعل.
والزنى في اصطلاح الإسلام: مجامعة الرجل امرأة غير زوجته له ولا مملوكة غير ذات الزوج.
وفي الجاهلية الزنى: مجامعة الرجل امرأة حرة غير زوج له، وأما مجامعة الأمة غير المملوكة للرجل فهو البغاء. 15/90(1/378)
14_ وعناية الإسلام بتحريم الزنى؛ لأن فيه إضاعة النسب، وتعريض النسل للإهمال إن كان الزنى بغير متزوجة، وهو خلل عظيم في المجتمع، ولأن فيه إفسادَ النساءِ على أزواجهن والأبكارِ على أوليائهن، ولأن فيه تعريضَ المرأة إلى الإهمال بإعراض الناس عن تزوجها، وطلاق زوجها إياها، ولما ينشأ عن الغيرة من الهرج والتقاتل. 15/90
15_ فالزنى مَئِنَّةٌ لإضاعة الأنساب، ومَظِنَّةٌ للتقاتل والتهارج؛ فكان جديراً بتغليظ التحريم قصداً وتوسلاً.
ومن تأمل ونظر جزم بما يشتمل عليه الزنى من المفاسد ولو كان المتأمل ممن يفعله في الجاهلية فَقُبْحُه ثابت لذاته، ولكن العقلاء متفاوتون في إدراكه وفي مقدار إدراكه؛ فلما أيقظهم التحريم لم يبق للناس عذر. 15/91
16_ [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً (36)].
القفو: الاتباع، يقال: قفاه يقفوه إذا اتبعه، وهو مشتق من اسم القفا، وهو ما وراء العنق؛ واستعير هذا الفعل هنا للعمل.
والمراد بـ[مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ]: الخاطر النفساني الذي لا دليل عليه، ولا غلبة ظن به.
ويندرج تحت هذا أنواع كثيرة، منها: خَلَّةٌ من خلال الجاهلية، وهي الطعن في أنساب الناس؛ فكانوا يرمون النساء برجال ليسوا بأزواجهن، ويليطون بعض الأولاد بغير آبائهم بهتاناً، أو سوء ظن إذا رأوا بعداً في الشبه بين الابن وأبيه، أو رأوا شبهه برجل آخر من الحي، أو رأوا لوناً مخالفاً للون الأب أو الأم؛ تخرصاً وجهلاً بأسباب التَّشَكُّل؛ فإن النسل ينزع في الشبه، وفي اللون إلى أصول من سلسلة الآباء أو الأمهات الأدنين أو الأبعدين، وجهلاً بالشبه الناشئ عن الرحم.(1/379)
وقد جاء أعرابي إلى النبي"فقال: إن امرأتي ولدت ولداً أسود _ يريد أن ينتفي منه _ فقال له النبي: =هل لك من إبل? قال: نعم، قال: ما ألوانهن? قال: ورق، قال: وهل فيها من جمل أسود? قال: نعم، قال: فمن أين ذلك? قال: لعله عرق نزعه، فقال النبي": فلعل ابنك نزعه عرق+.
ونهاه عن الانتفاء منه؛ فهذا كان شائعاً في مجتمعات الجاهلية؛ فنهى الله المسلمين عن ذلك.
ومنها القذف بالزنى وغيره من المساوي بدون مشاهدة، وربما رموا الجيرة من الرجال والنساء بذلك.
وكذلك كان عملهم إذا غاب زوج المرأة لم يلبثوا أن يلصقوا بها تهمةً ببعض جيرتها.
وكذلك يصنعون إذا تزوج منهم شيخ مسن امرأة شابة أو نَصَفاً؛ فولدت له ألصقوا الولد ببعض الجيرة.
ولذلك لما قال النبي"يوماً: =سلوني+ أكثر الحاضرون أن يسأل الرجل فيقول: من أبي? فيقول: أبوك فلان.
وكان العرب في الجاهلية يطعنون؛ فينسب أسامة بن زيد من أبيه زيد بن حارثة؛ لأن أسامة كان أسود اللون، وكان زيد أبوه أبيضَ أزهرَ، وقد أثبت النبي"أن أسامة بن زيد بن حارثة؛ فهذا خلق باطل كان متفشياً في الجاهلية نهى الله المسلمين عن سوء أثره.
ومنها تجنب الكذب، قال قتادة: =لا تقف: لا تقل: رأيت وأنت لم تر، ولا سمعت وأنت لم تسمع، وعلمت وأنت لم تعلم+.
ومنها شهادة الزور وشملها هذا النهي، وبذلك فسر محمد بن الحنفية وجماعة.
وما يشهد لإرادة جميع هذه المعاني تعليل النهي بجملة: [إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً].
فموقع الجملة موقع تعليل، أي أنك أيها الإنسان تسأل عما تسنده إلى سمعك، وبصرك، وعقلك بأن مراجع القفو المنهي عنه إلى نسبة لسمع، أو بصر، أو عقل في المسموعات، والمبصرات، والمعتقدات.
وهذا أدب خلقي عظيم، وهو _أيضاً_ إصلاح عقلي جليل يُعَلِّم الأمة التفرقةَ بين مراتب الخواطر العقلية بحيث لا يختلط عندها المعلوم والمظنون والموهوم.(1/380)
ثم هو _أيضاً_ إصلاح اجتماعي جليل يجنب الأمة من الوقوع والإيقاع في الأضرار والمهالك من جَرَّاء الاستناد إلى أدلة موهومة. 15/100_101
17_ واعلم أن ارتباط رد مقالتهم بقوله: [كُونُوا حِجَارَةً] الخ غامض؛ لأنهم إنما استعبدوا أو أحالوا إرجاع الحياة إلى أجسام تفرقت أجزاؤها، وانخرم هيكلها، ولم يعللوا الإحالة بأنها صارت أجساماً ضعيفة؛ فيرد عليهم بأنها لو كانت من أقوى الأجسام لأعيدت لها الحياة.
فبنا(1) أن نبين وجه الارتباط بين الرد على مقالتهم وبين مقالتهم المردودة، وفي ذلك ثلاثة وجوه:
أحدها: أن تكون صيغة الأمر في قوله: [كُونُوا] مستعملة في معنى التسوية، ويكون دليلاً على جواب محذوف تقديره: إنكم مبعوثون سواء كنتم عظاماً ورفاتاً، أو كنتم حجارة أو حديداً؛ تنبيهاً على أن قدرة الله _تعالى_ لا يتعاصى عليها شيء، وذلك إدماج يجعل الجملة في معنى التذييل.
الوجه الثاني: أن تكون صيغة الأمر في قوله: [كُونُوا] مستعملة في الفرض، أي لو فرض أن يكون الأجساد من الأجسام الصلبة وقيل لكم: إنكم مبعوثون بعد الموت لأحلتم ذلك، واستبعدتم إعادة الحياة فيها.
وعلى كلا الوجهين يكون قوله: [مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ] نهاية الكلام، ويكون قوله: [فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا] مُفَرَّعاً على جملة: [وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا] الخ تفريعاً على الاستئناف، وتكون الفاء للاستئناف، وهي بمعنى الواو على خلافٍ في مجيئها للاستئنافِ، والكلامُ انتقالٌ لحكاية تكذيب آخر من تكذيباتهم.
الوجه الثالث: أن يكون قوله: [قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً] كلاماً مستأنفاً ليس جواباً على قولهم: [أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً] الخ؛ وتكون صيغة الأمر مستعملة في التسوية.
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: فرغبنا أو نحوها. (م)(1/381)
وفي هذا الوجه يكون قوله: [فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا] متصلاً بقوله: [كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً] الخ، ومفرعاً على كلام محذوف يدل عليه قوله: [كُونُوا حِجَارَةً] أي فلو كانوا كذلك لقالوا: من يعيدنا، أي لانتقلوا في مدارج السفسطة من إحالة الإعادة إلى ادعاء عدم وجود قادر على إعادة الحياة لهم؛ لصلابة أجسادهم.
وبهذه الوجوه يلتئم نظم الآية، وينكشف ما فيه من غموض. 15/125_126
18_ والحديد: تراب معدني، أي لا يوجد إلا في مغاور الأرض، وهو تراب غليظ مختلف الغِلَظِ، ثقيلٌ أدْكَنَ اللون، وهو إما مُحَتَّتُ الأجزاءِ، وإما مُورِقُها، أي مثل الورق.
وأصنافه ثمانية عشر باعتبار اختلاف تركيب أجزائه، وتتفاوت ألوان هذه الأصناف، وأشرف أصنافه الخالص، وهو السالم في جميع أجزائه من المواد الغريبة.
وهذا نادر الوجود، وأشهر ألوانه الأحمر، ويقسم باعتبار صلابته إلى صنفين أصليين يسميان الذكر والأنثى؛ فالصُّلَب هو الذكر، والليِّن الأنثى.
وكان العرب يصفون السيف الصلب القاطع بالذكر.
وإذا صهر الحديد بالنار تمازجت أجزاؤه، وتَمَيَّع وصار كالحلواء؛ فمنه ما يكون حديدَ صبٍّ، ومنه ما يكون حديدَ تطريقٍ، ومنه فولاذ.
وكل صنف من أصنافه صالح لما يناسب سَبْكه منه على اختلاف الحاجة فيها إلى شدة الصلابة مثل السيوف والدروع.
ومن خصائص الحديد أن يعلوه الصدأ، وهو كالوسخ أخضر ثم يستحيل تدريجاً إلى أكسيد _كلمة كيمياوية تدل على تعلق أجزاء الأكسجين بجسم فتفسده_.
وإذا لم يتعهد الحديد بالصقل والزيت أخذ الصدأ في نخر سطحه.
وهذا المعدن يوجد في غالب البلاد، وأكثر وجوده في بلاد الحبشة وفي صحراء مصر، وَوُجِدت في البلاد التونسية معادن من الحديد.(1/382)
وكان استعمال الحديد من العصور القديمة؛ فإن الطور الثاني من أطوار التاريخ يعرف بالعصر الحديدي، أي الذي كان البشر يستعمل فيه آلاتٍ مُتَّخَذَةً من الحديد، وذلك من أثر صنعة الحديد، وذلك قبل عصر تدوين التاريخ، والعصر الذي قبله يعرف بالعصر الحجري.
وقد اتصلت بتعيين الزمن الذي ابتدئ فيه صنع الحديد أساطير واهية لا ينضبط بها تاريخه.
والمقطوع به أن الحديد مستعمل عند البشر قبل ابتداء كتابة التاريخ، ولكونه يأكله الصدأ عند تعرضه للهواء والرطوبة لم يبق من آلاته القديمة إلا شيء قليل.
وقد وُجِدَت في طَيْبَة، ومدافن الفراعنة في منفيس بمصر صُوَرٌ على الآثار مرسوم عليها: صور خزائن شاحذين مداهم، وقد صبغوها في الصور باللون الأزرق لون الفولاذ، وذلك في القرن الحادي والعشرين قبل التاريخ المسيحي.
وقد ذكر في التوراة وفي الحديث قصة الذبيح، وقصة اختتان إبراهيم بالقدوم، ولم يُذْكَر أن السكين ولا القدوم كانتا من حجر الصوان؛ فالأظهر أنه بآلة الحديد.
ومن الحديد تُتَّخذ السلاسل للقيد، والمقامع للضرب. 15/126_127
19_ ولما كان ما سبق من حكاية أقوال المشركين تنبئ عن ضلال اعتقاد نقل الكلام إلى أمر المؤمنين بأن يقولوا أقوالاً تُعْرِبُ عن حسن النية، وعن نفوس زكية.
وأوتوا في ذلك كلمة جامعة وهي: [يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ].
و[الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] صفة لمحذوف يدل عليه فعل [يَقُولُوا] تقديره: بالتي هي أحسن، وليس المراد مقالة واحدة.
واسم التفضيل مستعمل في قوة الحسن، ونظيره قوله: [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] أي بالمجادلات التي هي بالغة الغاية في الحسن؛ فإن المجادلة لا تكون بكلمة واحدة. 15_131
20_ والمقصد الأهم من هذا التأديب: تأديب الأمة في معاملة بعضهم بعضاً بحسن المعاملة، وإلانة القول؛ لأن القول يَنِمُّ عن المقاصد بقرينة قوله: [إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ].(1/383)
ثم تأديبهم في مجادلة المشركين؛ اجتناباً لما تثيره المشادة والغلظة من ازدياد مكابرة المشركين وتصلبهم، فذلك من نزغ الشيطان بينهم وبين عدوهم.
قال _تعالى_: [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ].
والمسلمون في مكة يومئذ طائفة قليلة، وقد صرف الله عنهم ضر أعدائهم بتصاريف من لطفه؛ ليكونوا آمنين؛ فأمرهم أن لا يكونوا سبباً في إفساد تلك الحالة. 15/132
21_ والينبوع: اسم للعين الكثيرة النبع التي لا ينضب ماؤها، وصيغة يفعول صيغة مبالغة غير قياسية، والينبوع مشتقة من مادة النبع؛ غير أن الأسماء الواردة على هذه الصيغة مختلفة، فبعضها ظاهر اشتقاقه كالينبوع والينبوت، وبعضها خفي كاليعبوب للفرس الكثير الجري، وقيل: اشتق من العب المجازي.
ومنه أسماء مُعَرَّبة(1) جاء تعريبها على وزن يفعول مثل: يكسوم اسم قائد حبشي، ويرموك اسم نهر.
وقد استقرى الحسن الصاغاني ما جاء من الكلمات في العربية على وزن يفعول في مختصر له مرتب على حروف العجم.
وقال السيوطي في المزهر: =إن ابن دريد عقد له في الجمهرة باباً+. 15_208
21_ والمقصود: أننا آتينا موسى _عليه السلام_ تسع آياتٍ بيناتِ الدلالة على صدقه، فلم يهتد فرعون وقومه، وزعموا ذلك سحراً؛ ففي ذلك مثل للمكابرين كلهم، وما قريش إلا منهم؛ ففي هذا مثل للمعاندين وتسلية للرسول.
__________
(1) _ المُعَرَّب: اسم مفعول من الفعل عَرَّب، يعرِّب، والمصدر تعريباً.
والمُعَرَّب: هو الذي جُعِل عربياً.
وقد عرَّفه السيوطي في المزهر 1/68 بقوله: =هو ما استعملته العرب من الألفاظ الموضوعة لمعانٍ في غير لغتها+.
وقال الجوهري في الصحاح 1/271: =تعريب الاسم الأعجمي أن تتفوه به العرب على منهاجها+. (م)(1/384)
والآيات التسع هي: بياضُ يده كلما أدخلها في جيبه وأخرجها، وانقلاب العصا حيةً، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والرِّجْزَ وهو الدّمل، والقحط وهو السنون ونقص الثمرات، وهي مذكورة في سورة الأعراف، وجمعها الفيروز آبادي في قوله:
عصا، سَنَةٌ، بحر، جراد، وقمل ... يد، ودم، بعد الضفادع طوفان
فقد حصلت بقوله: [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ] الحجةُ على المشركين الذين يقترحون الآيات. 15/224_225
1_ سماها رسول الله " سورة الكهف.
روى مسلم، وأبو داود، عن أبي الدرداء عن النبي "قال: =من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف+.
وفي رواية لمسلم: =من آخر الكهف، عصم من فتنة الدجال+، ورواه الترمذي عن أبي الدرداء بلفظ: =من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عصم من فتنة الدجال+.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح. 15/241
2_ وفي حديث أخرجه ابن مردويه عن النبي"أنه سماها سورة أصحاب الكهف. 15/241
3_ وهي مكية بالاتفاق كما حكاه ابن عطية، قال: =وروي عن فرقد أن أول السورة إلى قوله: [جُرُزاً] نزل بالمدينة+.
قال: =والأول أصح+.
وقيل: قوله: [وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ] الآيتين نزلتا بالمدينة، وقيل: قوله: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً] إلى آخر السورة نزل بالمدينة، وكل ذلك ضعيف _ كما سيأتي التنبيه عليه في مواضعه _.
نزلت بعد سورة الغاشية، وقبل سورة الشورى.
وهي الثامنة والستون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد. 15/241_242
4_ وعدت آيها في عدد قراء المدينة ومكة مائة وخمساً، وفي عدد قراء الشام مائة وستاً، وفي عدد قراء البصرة مائة وإحدى عشرة، وفي عد قراء الكوفة مائة وعشراً؛ بناءً على اختلافهم في تقسيم بعض الآيات إلى آيتين. 15/242(1/385)
5_ أغراضُ السورةِ: افْتُتِحَتْ بالتحميد على إنزال الكتاب للتنويه بالقرآن؛ تطاولاً من الله _تعالى_ على المشركين وملقنيهم من أهل الكتاب.
وأُدْمِجَ فيه إنذارُ المعاندين الذين نسبوا لله ولداً، وبشارةٌ للمؤمنين، وتسليةُ رسول الله "عن أقوالهم حين تريَّث الوحيُ لِمَا اقتضته سُنَّةُ اللهِ مع أوليائه من إظهارِ عَتَبِهِ على الغفلة عن مراعاة الآداب الكاملة.
وذَكَرَ افتتانَ المشركين بالحياة الدنيا وزينتها، وأنها لا تكسب النفوسَ تَزْكِيةً.
وانْتَقَل إلى خبر أصحاب الكهف المسؤول عنه.
وحذَّرهم من الشيطان وعداوته لبني آدم؛ ليكونوا على حذرٍ مِنْ كيده.
وقَدَّم لقصة ذي القرنين قصةً أهمَّ منها، وهي قصةُ موسى والخضرِ _عليهما السلام_ لأن كلتا القصتين تشابهتا في السَّفَرِ لِغَرَضٍ شريفٍ؛ فذو القرنين خرج لِبَسْطِ سلطانِه على الأرض، وموسى _عليه السلام_ خرج في طلب العلم.
وفي ذكر قصة موسى تعريضٌ بأحبار بني إسرائيل؛ إذ تهمموا بخبر مَلِكٍ من غير قومهم، ولا من أهل دينهم، ونسوا خبراً من سيرة نبيهم.
وتخلل ذلك مستطرداتٌ من إرشاد النبي " وتثبيته، وأن الحقَّ فيما أخبر به، وأن أصحابَه الملازمين له خيرٌ من صناديد المشركين، ومن الوعدِ والوعيدِ، وتمثيلِ المؤمن والكافر، وتمثيلِ الحياةِ الدنيا وانقضائها، وما يَعْقُبُها من البعث والحشر، والتذكيرِ بعواقبِ الأمم المكذبة للرسل، وما خُتِمَتْ به من إبطالِ الشركِ ووعيدِ أهلِه ووعدِ المؤمنين بضدِّهم، والتمثيل لسعة علم الله _تعالى_.
وخُتِمَتْ بتقرير أن القرآن وحيٌ من الله _تعالى_ إلى رسوله " فكان في هذا الختام مُحَسِّن رَدِّ العَجُز على الصدر. 15/245_246
6_ [إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً (8)].(1/386)
مناسبة موقع هذه الآية هنا خفية جداً أعوز المفسرين بيانها، منهم ساكتٌ عنها، ومنهم محاولٌ بيانها بما لا يزيد على السكوت.
والذي يبدو: أنها تسليةٌ للنبي"على إعراض المشركين بأن الله أمهلهم وأعطاهم زينة الدنيا لعلهم يشكرونه، وأنهم بَطِروا النعمة؛ فإن الله يسلب عنه النعمة؛ فتصير بلادهم قاحلة.
وهذا تعريضٌ بأنه سيحل بهم قَحْطُ السنين السبع التي سأل رسول الله ربه أن يجعلها على المشركين كسنين يوسف _ عليه السلام _.
ولهذا اتصال بقوله: [لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ].
وموقع [إنّ] صدر هذه الجملة موقع التعليل للتسلية التي تضمنها قوله _تعالى_: [فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ].
ويحصل من ذلك تذكير بعضِهم قدرةَ الله _تعالى_ وخاصة ما كان منها إيجاداً للأشياء وأضدادها من حياة الأرض، وموتها المماثل لحياة الناس وموتهم، والمماثل للحياة المعنوية والموت المعنوي من إيمان وكفر، ونعمة ونقمة، كلها عبر لمن يعتبر بالتغيُّر، ويأخذ الأهبة إلى الانتقال من حال إلى حال؛ فلا يثق بِقُوَّته وبطشه؛ ليقيس الأشياء بأشباهها، ويعرض نفسه على معيار الفضائل، وحسنى العواقب. 15/256
7_ ولا تكون الأشياء زينة إلا وهي مبثوثة فيها الحياة التي بها نماؤها وازدهارها، وهذه الزينة مستمرة على وجه الأرض منذ رآها الإنسان، واستمرارُها باستمرار أنواعها وإن كان الزوال يعرض لأشخاصها، فتخلفها أشخاص أخرى من نوعها؛ فيتضمن هذا امتناناً ببث الحياة في الموجودات الأرضية.
ومن لوازم هذه الزينة أنها توقظ العقول إلى النظر في وجود منشئها، وتسبر غور النفوس في مقدار الشكر لخالقها وجاعلها لهم؛ فمن موفٍ بحق الشكر، ومقصرٍ فيه، وجاحدٍ كافرٍ بنعمة هذا المنعم ناسِبٍ إياها إلى غير مُوْجِدِها.(1/387)
ومن لوازمها _ أيضاً _ أنها تثير الشهوات لاقتطافها وَتَنَاوُلِها، فَتُسْتَثار من ذلك مختلفُ الكيفيات في تناولها وتعارض الشهوات في الاستيثار بها مما يفضي إلى تغالب الناس بعضهم بعضاً، واعتداء بعضهم على بعض.
وذلك الذي أوجد حاجتهم إلى الشرائع؛ لتضبط لهم أحوال معاملاتهم.
ولذلك عَلَّلَ جَعْلَ ما على الأرض زينة بقوله: [لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] أي أفوت في حسن العمل من عمل القلب الراجع إلى الإيمان والكفر، وعمل الجسد المتبدي في الامتثال للحق والحيدة عنه. 15/257
8_ والكهف: الشق المتسع الوسط في جبل، فإن لم يكن متسعاً فهو غار.
والرقيم: فعيل بمعنى مفعول من الرقم وهو الكتابة؛ فالرقيم كتاب كان مع أصحاب الكهف في كهفهم، قيل: كتبوا فيه ما كانوا يدينون به من التوحيد، وقيل: هو كتاب دينهم: دينٍ كان قبل عيسى _ عليه السلام _ وقيل: هو دين عيسى، وقيل: كتبوا فيه الباعث الذي بعثهم على الالتجاء إلى الكهف؛ فراراً من كفر قومهم. 15/260
9_ و[تَسْطِعْ]: مضارع (اسطاع) بمعنى (استطاع)، حذف تاء الاستفعال تخفيفاً لقربها من مخرج الطاء، والمخالفة بينه وبين قوله: [سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً] للتفنن؛ تجنباً لإعادة لفظ بعينه مع وجود مرادفه.
وابتدئ بأشهرهما استعمالاً، وجيء بالثانية بالفعل المخفف؛ لأن التخفيف أولى به؛ لأنه إذا كرر [تَسْتَطِعْ] يحصل من تكريره ثقل. 16/15
10_ ومن هنا تأتي الأقوال في تعيين ذي القرنين؛ فأحد الأقوال: أنه الإسكندر ابن فيليبوس المقدوني.
وذكروا في وجه تلقيبه بذي القرنين أنه ضفر شعره قرنين، وقيل: كان يلبس خوذة في الحرب بها قرنان، وقيل: رسم ذاته على بعض نقوده بقرنين في رأسه؛ تمثيلاً لنفسه بالمعبود (آمون) معبود المصريين وذلك حين ملك مصر.
والقول الثاني: أنه ملك من ملوك حمير هو تبع أبو كرب.(1/388)
والقول الثالث: أنه ملك من ملوك الفرس وأنه (أفريدون بن أنفيان ابن جمشيد).
هذه أوضح الأقوال، وما دونها لا ينبغي التعويل عليه، ولا تصحيح روايته.
ونحن تجاه هذا الاختلاف يحق علينا أن نستخلص من قصته في هذه الآية أحوالاً تُقَرِّب تعيينَه وتزييفَ ما عداه من الأقوال.
وليس يجب الاقتصار على تعيينه من بين أصحاب هذه الأقوال، بل الأمر في ذلك أوسع، وهذه القصة القرآنية تعطي صفات لا محيد عنها: إحداها: أنه كان ملكاً صالحاً عادلاً.
الثانية: أنه كان ملهماً من الله.
الثالثة: أن مُلْكَه شمل أقطاراً شاسعة.
الرابعة: أنه بلغ في فتوحه من جهة المغرب مكاناً كان مجهولاً وهو عين حمئة.
الخامسة: أنه بلغ بلادَ يأجوجَ ومأجوج، وأنها كانت في جهة مما شمله ملكه غير الجهتين الشرقية والغربية؛ فكانت وسطاً بينهما _كما يقتضيه استقراء مبلغ أسبابه_.
السادسة: أنه أقام سداً يحول بين يأجوج ومأجوج وبين قوم آخرين.
السابعة: أن يأجوج ومأجوج هؤلاء كانوا عائثين في الأرض فساداً، وأنهم كانوا يفسدون بلاد قوم موالين لهذا الملك.
الثامنة: أنه كان معه قومٌ أهلُ صناعةٍ متقنة في الحديد والبناء.
التاسعة: أن خَبَرَهُ خَفِيٌّ دقيق لا يعلمه إلا الأحبار علماً إجمالياً _كما دل عليه سبب النزول_.
وأنت إذا تدبرت جميع هذه الأحوال نفيت أن يكون ذو القرنين إسكندر المقدوني؛ لأنه لم يكن ملكاً صالحاً، بل كان وثنياً؛ فلم يكن أهلاً لتلقي الوحي من الله، وإن كانت له كمالات على الجملة.
وأيضاً فلا يعرف في تاريخه أنه أقام سداً بين بلدين.
وأما نسبة السد الفاصل بين الصين وبين بلاد يأجوج ومأجوج إليه في كلام بعض المؤرخين _ فهو ناشئ عن شهرة الإسكندر؛ فتوهم القصاصون أن ذلك السد لا يكون إلا من بنائه، كما توهم العرب أن مدينة تدمر بناها سليمان _ عليه السلام _.
وأيضاً فإن هيرودوتس اليوناني المؤرخ ذكر أن الإسكندر حارب أمة (سكيثوس).(1/389)
وهذا الاسم هو اسم مأجوج _ كما سيأتي قريباً _(1).
وأحسب أن لتركيب القصة المذكورة في هذه السورة على اسم إسكندر المقدوني أثراً في اشتهار نسبة السد إليه، وذلك من أوهام المؤرخين في الإسلام.
ولا يعرف أن مملكة إسكندر كانت تبلغ في الغرب إلى عين حمئة، وفي الشرق إلى قوم مجهولين عراة أو عديمي المساكن، ولا أن أمته كانت تلقبه بذي القرنين.
وإنما انْتُحِل هذا اللقب له لما توهموا أنه المعني بذي القرنين في هذه الآية؛ فَمَنْحُه هذا اللقب من مخترعات مؤرخي المسلمين، وليس رسم وجهه على النقود بقرنين مما شأنه أن يلقب به.
وأيضاً فالإسكندر كانت أخباره مشهورة؛ لأنه حارب الفرس والقبط وهما أمتان مجاورتان للأمة العربية.
ومثل هذه المبطلات التي ذكرناها تتأتى لإبطال أن يكون الملك المُتَحدَّث عنه هو أفريدون؛ فإما أن يكون من تبابعة حمير فقد يجوز أن يكون في عصر متوغل في القدم.
وقد توهم بعض المفسرين أنه كان معاصراً إبراهيمَ _عليه السلام_ وكانت بلاده التي فتحها مجهولة المواقع.
ولكن يبعد أن يكون هو المراد؛ لأن العرب لا يعرفون من خبره مثل هذا.
وقد ظهر من أقوالهم أن سبب هذا التوهم هو وجود كلمة (ذو) التي اشتهر وجود مثلها في ألقاب ملوك اليمن وتبابعته.
فالذي يظهر لي أن ذا القرنين كان ملكاً من ملوك الصين لوجوه:
أحدهما: أن بلاد الصين اشتهر أهلها منذ القدم بأنهم أهل تدبير وصنائع.
الثاني: أن معظم ملوكهم كانوا أهل عدل وتدبير للمملكة.
الثالث: أن من سماتهم تطويل شعر رؤوسهم وجعلها في ضفيرتين؛ فيظهر وجه تعريفه بذي القرنين.
الرابع: أن سداً وردماً عظيماً لا يعرف له نظير في العالم هو موجود بين بلاد الصين وبلاد المغول، وهو المشهور في كتب الجغرافيا والتاريخ بالسور الأعظم، وسيرد وصفه.
__________
(1) _ انظر القاموس الجديد تأليف لاروس في مادة سكيثس.(1/390)
الخامس: ما روت أم حبيبة عن زينب بنت جحش _رضي الله عنهما _ أن النبي"خرج ليلة فقال: =ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج هكذا+ وأشار بعقد تسعين (أعني بوضع طرف السبابة على طرف الإبهام).
وقد كان زوال عظمة سلطان العرب على يد المغول في بغداد فتعين أن يأجوج ومأجوج هم المغول، وأن الردم المذكور في القرآن هو الردم الفاصل بين بلاد المغول وبلاد الصين، وبَانِيه ملكٌ من ملوكهم.
وأن وصفه في القرآن بذي القرنين توصيفٌ لا تلقيب؛ فهو مثل التعبير عن شاول ملك إسرائيل باسم طالوت.
وهذا الملك هو الذي بنى السد الفاصل بين الصين ومنغوليا، واسم هذا الملك (تسينشي هوانقتي) أو (تسين شى هو انق تي).
وكان موجوداً في حدود سنة سبع وأربعين ومائتين قبل ميلاد المسيح؛ فهو متأخر عن إسكندر المقدوني بنحو قرن.
وبلاد الصين في ذلك العصر كانت متدينة بدين (كنفيشيوس) المشرع المصلح؛ فلا جرم أن يكون أهل شريعته صالحين.
وهذا الملك يؤخذ من كتب التاريخ أنه ساءت حالته في آخر عمره، وأفسد كثيراً، وقتل علماء، وأحرق كتباً، والله أعلم بالحقيقة وبأسبابها.
ولما ظن كثير من الناس أن ذا القرنين المذكور في القرآن هو إسكندر ابن فيليبوس نَحَلُوه بناء السد، وزعموه من صنعه كما نحلوه لقب ذي القرنين.
وكل ذلك بناء أوهام على أوهام، ولا أساس لواحد منهما ولا علاقة لإسكندر المقدوني بقصة ذي القرنين المذكورة في هذه السورة. 16/19_23
11_ والذي يجب اعتماده أن يأجوج ومأجوج هم المغول والتتر.
وقد ذكر أبو الفداء(1) أن مأجوج هم المغول؛ فيكون يأجوج هم التتر.
وقد كثرت التتر على المغول؛ فاندمج المغول في التتر، وغلب اسم التتر على القبيلتين.
__________
(1) _ ابن كثير. (م)(1/391)
وأوضح شاهد على ذلك ما ورد في حديث أم حبيبة عن زينب بنت جحش أن النبي"دخل عليها فزعاً يقول: =لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه+ وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها، وقد تقدم آنفاً.
ولا يعرف بالضبط وقت انطلاقهم من بلادهم، ولا سبب ذلك.
ويقدر أن انطلاقهم كان أواخر القرن السادس الهجري، وتشتت ملك العرب بأيدي المغول والتتر من خروج جنكيز خان المغولي واستيلائه على بخارى سنة ست عشرة وستمائة من الهجرة ووصلوا ديار بكر سنة 628 هجرية، ثم ما كان من تخريب هولاكو بغداد عاصمة ملك العرب سنة 660 هـ.
ونظير إطلاق اسمين على حي مؤتلف من قبيلتين إطلاق طسم وجديس على أمة من العرب البائدة، وإطلاق السكاسك والسكرن في القبائل اليمنية، وإطلاق هلال وزغبة على أعراب إفريقية الواردين من صعيد مصر، وإطلاق أولاد وزاز وأولاد يحيى على حي بتونس بالجنوب الغربي، ومرادة وفرجان على حي من وطن نابل بتونس. 16/33_34
12_ وقوله: [مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ]: أي ما آتاني الله من المال والقوة خير من الخراج الذي عرضتموه، أو خير من السد الذي سألتموه.
أي ما مكنني فيه ربي يأتي بخير مما سألتم؛ فإنه لاح له أنه إن سد عليهم المرور من بين الصدفين تَحَيَّلوا؛ فتسلقوا الجبال، ودخلوا بلاد الصين؛ فأراد أن يبني سوراً ممتداً على الجبال في طول حدود البلاد حتى يتعذر عليهم تسلق تلك الجبال.
ولذلك سماه ردماً، والردم: البناء المردم، شُبِّه بالثوب المردم المؤتلف من رقاع فوق رقاع، أي سداً مضاعفاً.
ولعله بنى جدارين متباعدين، وردم الفراغ الذي بينهما بالتراب المخلوط؛ ليتعذر نَقْبُه.
ولما كان ذلك يستدعي عملة كثيرين قال لهم: [فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ] أي بقوة الأبدان، أراد تسخيرهم للعمل لدفع الضرر عنهم.(1/392)
وقد بنى ذو القرنين وهو (تسين شى هوانق تي) سلطان الصين هذا الردم بناءً عجيباً في القرن الثالث قبل المسيح، وكان يعمل فيه ملايين من الخدمة؛ فجعل طوله ثلاثة الآف وثلاثمائة كيلو متر، وبعضهم يقول: ألفاً ومائتي ميل.
وذلك بحسب اختلاف الاصطلاح في تقدير الميل، وجعل مبدأه عند البحر أي البحر الأصفر شرقي مدينة (بيكنغ) عاصمة الصين في خط اتجاه مدينة (مكدن) الشهيرة، وذلك عند عرض 40.4 شمالاً.
وطول 12.02 شرقاً، وهو يلاقي النهر الأصفر حيث الطول 111،50 شرقاً، والعرض 39،50 شمالاً.
وأيضاً في 37 عرض شمالي، ومن هنالك ينعطف إلى جهة الشمال الغربي، وينتهي بقرب 99 طولاً شرقياً و 40 عرضاً شمالياً.
وهو مبني بالحجارة والآجُرِّ، وبعضه من الطين فقط.
وسُمْكُه عند أسفله نحو 25 قدماً وعند أعلاه نحو 15 قدماً وارتفاعه يتراوح بين 15 إلى 20 قدماً، وعليه أبراج مبنية من القراميد ارتفاع بعضها نحو 40 قدماً.
وهو الآن بحالة خراب فلم يبق له اعتبار من جهة الدفاع.
ولكنه بقي علامةً على الحد الفاصل بين المقاطعات الأرضية؛ فهو فاصل بين الصين ومنغوليا.
ويخترق جبال (يابلوني) التي هي حدود طبيعية بين الصين وبلاد منغوليا؛ فمنتهى طرفه إلى الشمال الغربي لصحراء (قوبي).
وقرأ الجمهور [مَكَّنِّي] بنون مدغمة، وقرأه ابن كثير بالفك على الأصل.
وقوله [آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ]: هو أمر لهم بمناولة زبر الحديد؛ فالإيتاء مستعمل في حقيقة معناه، وهو المناولة، وليس تكليفاً للقوم بأن يجلبوا له الحديد من معادنه؛ لأن ذلك ينافي قوله: [مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ] أي أنه غني عن تكليفهم إنفاقاً على جعل السد.(1/393)
وكأن هذا لقصد إقامة أبواب من حديد في مداخل الردم؛ لمرور سيول الماء في شعب الجبل؛ حتى لا ينهدم البناء بأن جعل الأبواب الحديدية كالشبابيك تمنع مرور الناس، ولا تمنع انسياب الماء من بين قضبها، وجعل قضبان الحديد معضودة بالنحاس المذاب المصبوب على الحديد. 16/34_36
1_ اسم هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وأكثر كتب السنة سورة مريم.
ورويت هذه التسمية عن النبي"في حديث رواه الطبراني، والديلمي، وابن منده، وأبو نعيم، وأبو أحمد الحاكم: عن أبي بكر بن عبدالله بن أبي مريم الغساني عن أبيه عن جده أبي مريم قال: أتيت النبي"فقلت: يا رسول الله إنه ولدت لي الليلة جارية، فقال: =والليلة أنزلت علي سورة مريم؛ فَسمِّها مريم+. فكان يكنى أبا مريم، واشتهر بكنيته، واسمه نذير، ويظهر أنه أنصاري.
وابن عباس سماها سورة كهيعص، وكذلك وقعت تسميتها في صحيح البخاري في كتاب التفسير في أكثر النسخ وأصحها، ولم يعدها جلال الدين في الإتقان في عداد السور المسماة باسمين، ولعله لم يَرَ الثاني اسماً.
وهي مكية عند الجمهور، وعن مقاتل: أن آية السجدة مدنية، ولا يستقيم هذا القول؛ لاتصال تلك الآية بالآيات قبلها إلا أن تكون ألحقت بها في النزول وهو بعيد.
وذكر السيوطي في الإتقان قولاً بأن قوله _تعالى_: [وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا] الآية مدني، ولم يعزه لقائل.
وهي السورة الرابعة والأربعون في ترتيب النزول؛ نزلت بعد سورة فاطر وقبل سورة طه، وكان نزول سورة طه قبل إسلام عمر بن الخطاب كما يؤخذ من قصة إسلامه؛ فيكون نزول هذه السورة أثناء سنة أربع من البعثة مع أن السورة مكية، وليس أبو مريم هذا معدوداً في المسلمين الأولين؛ فلا أحسب الحديث المروي عنه مقبولاً.
ووجه التسمية أنها بسطت فيها قصة مريم وابنها وأهلها قبل أن تفصَّل في غيرها، ولا يشبهها في ذلك إلا سورة آل عمران التي نزلت في المدينة.(1/394)
وعدت آياتها في عدد أهل المدينة ومكة تسعاً وتسعين، وفي عدد أهل الشام والكوفة ثماناً وتسعين. 16/57_58
2_ أغراض السورة: ويظهر أن هذه السورة نزلت للرد على اليهود فيما اقترفوه من القول الشنيع في مريم وابنها، فكان فيها بيان نزاهة آل عمران، وقداستهم في الخير.
وهل ينبت الخطيَّ إلا وشيجُه(1)
ثم التنويهُ بِجَمْعٍ من الأنبياء والمرسلين من أسلاف هؤلاء وقرابتهم، والإنحاءُ على بعض خلفهم من ذرياتهم الذين لم يكونوا على سننهم في الخير من أهل الكتاب والمشركين، وأتوا بفاحش من القول؛ إذ نسبوا لله ولداً، وأنكر المشركون منهم البعثَ وأثبت النصارى ولداً لله _تعالى_.
والتنويهُ بشأنِ القرآن في تبشيره ونذارته.
وأن الله يسَّره بكونه عربياً؛ لِيسْرِ تلك اللغة.
والإنذارُ مما حل بالمكذبين من الأمم من الاستئصال.
واشتملت على كرامةِ زكريا؛ إذ أجاب الله دعاءه، فرزقه ولداً على الكبر وعَقْرِ امرأته.
وكرامةِ مريمَ بخارقِ العادة في حَمْلِها وقَدَاسةِ ولدِها، وهو إرهاصٌ لنبوءة عيسى _ عليه السلام _ ومثلُهُ كلامُه في المهد.
والتنويهُ بإبراهيمَ، وإسحاقَ، ويعقوبَ، وموسى، وإسماعيلَ، وإدريسَ _عليهم السلام_.
ووصفُ الجنةِ وأهلِها.
وحكايةُ إنكارِ المشركين البعثَ بمقالة أُبَيِّ بنِ خلفٍ، والعاصي بنِ وائلٍ وتَبَجُّحِهم على المسلمين بمقامهم ومجامعهم.
وإنذارُ المشركين أن أصنامَهم التي اعتزوا بها سيندمون على اتخاذها.
ووعدُ الرسولِ النصرَ على أعدائه.
وذِكْرُ ضَرْبٍ مِنْ كُفْرِهم بنسبة الولد لله _تعالى_.
والتنويهُ بالقرآن، ولملته العربية، وأنه بشيرٌ لأوليائه، ونذيرٌ بهلاك معانديه كما هلكت قرونٌ قَبْلَهَم.
__________
(1) _ هذا صدر بيت شاهد نحوي، وعَجُزه:
وتنبت إلا في منابتها النَّخْلُ (م)(1/395)
وقد تكرر في هذه السورة صفَةُ الرحمن ستَّ عشرةَ مرةً، وذكرُ اسمِ الرحمةَ أربعَ مرات؛ فأنبأ بأن مِنْ مقاصدِها تحقيقَ وصفِ الله _تعالى_ بصفةِ الرحمن، والردَّ على المشركين الذين تقعروا بإنكار هذا الوصف كما حكى الله _تعالى_ عنهم في قوله في سورة الفرقان: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ].
ووقع في هذه السورة استطرادٌ بآية [وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ] 16/58_60
3_ وشبه عموم الشيب شعر رأسه أو غلبته عليه باشتعال النار في الفحم بجامع انتشار شيء لامع في جسم أسود، تشبيهاً مركباً تمثيلياً قابلاً لاعتبار التفريق في التشبيه، وهو أبدع أنواع المركب؛ فشبه الشعر الأسود بفحم، والشعر الأبيض بنار على طريق التمثيلية المكنية ورمز إلى الأمرين بفعل [اشْتَعَلَ].
وأسند الاشتعال إلى الرأس، وهو مكان الشعر الذي عمه الشيب؛ لأن الرأس لا يعمه الشيب إلا بعد أن يعم اللحية غالباً؛ فعموم الشيب في الرأس أمارة التوغل في كبر السن.
وإسناد الاشتعال إلى الرأس مجاز عقلي؛ لأن الاشتعال من صفات النار المشبهِ بها الشيب، فكان الظاهر إسناده إلى الشيب؛ فلما جيء باسم الشيب؛ تمييزاً لنسبة الاشتعال حصل بذلك خصوصية المجاز وغرابته، وخصوصية التفصيل بعد الإجمال مع إفادة تنكير [شَيْباً] من التعظيم؛ فحصل إيجاز بديع، وأصل النظم المعتاد: واشتعل الشيب في شعر الرأس.
ولما في هذه الجملة من الخصوصيات من مبني المعاني والبيان كان لها أعظم وقع عند أهل البلاغة نبه عليه صاحب الكشاف، ووضحه صاحب المفتاح؛ فانظرهما.
وقد اقتبس معناها أبو بكر بن دريد في قوله:
واشتعل المبيض في مُسْوَدِّه ... مثل اشتعال النار في جزل الغضا
ولكنه خليق بأن يكون مضرب قولهم في المثل: =ماء ولا كصدى+.(1/396)
والشيب: بياض الشعر، ويعرض للشعر البياض بسبب نقصان المادة التي تعطي اللون الأصلي للشعر، ونقصانها بسبب كبر السن غالباً، فلذلك كان الشيب علامة على الكبر، وقد يبيض الشعر من مرض. 16/64_65
4_ قال الجد الوزير(1)×فيما أملاه علي ذات ليلة من عام 1318هـ فقال: =علم إبراهيم أن في طبع أهل الجهالة تحقيرهم للصغير كيفما بلغ حاله في الحذق، وبخاصة الآباء مع أبنائهم؛ فتوجه إلى أبيه بخطابه بوصف الأبوة؛ إيماءً إلى أنه مخلص له النصيحة، وألقى إليه حجة فساد عبادته في صورة الاستفهام عن سبب عبادته وعمله المخطىء؛ منبهاً على خطئه عندما يتأمل في عمله؛ فإنه إن سمع ذلك، وحاول بيان سبب عبادة أصنامه لم يجد لنفسه مقالاً؛ ففطن بخطل رأيه وسفاهة حلمه؛ فإنه لو عبد حياً مميزاً لكانت له شبهة ما.
وابتدأ بالحجة الراجعة إلى الحس؛ إذ قال له: [لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ] فذلك حجة محسوسة، ثم أتبعها بقوله: [وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً].
ثم انتقل إلى دفع ما يخالج عقل أبيه من النفور عن تلقي الإرشاد من ابنه بقوله: [يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً].
فلما قضى حق ذلك انتقل إلى تنبيهه على أن ما هو فيه أثر من وساوس الشيطان، ثم ألقى إليه حجة لائقة بالمتصلبين في الضلال بقوله: [يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً].
أي أن الله أبلغ إليك الوعيد على لساني، فإن كنت لا تجزم بذلك فافرض وقوعه؛ فإن أصنامك لم تتوعدك على أن تفارق عبادتها، وهذا كما في الشعر المنسوب إلى علي ÷:
زعم المنجم والطبيب كلاهما ... لا تحشر الأجسام قلت: إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالخسار عليكما
__________
(1) _ هو الصدر الأعظم العالم الوزير العزيز بو عتور جد المؤلف لأمه توفي 1325هـ. (م)(1/397)
قال: وفي النداء بقوله [يَا أَبَتِ] أربع مرات تكرير اقتضاه مقام استنزاله إلى قبول الموعظة؛ لأنها مقام إطناب، ونظر(1) ذلك بتكرير لقمان قوله: [يَا بُنَيَّ] ثلاث مرات، قال: بخلاف قول نوح لابنه: [يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا] مرة واحدة دون تكرير؛ لأن ضيق المقام يقتضي الإيجاز وهذا من طرق الإعجاز+. انتهى كلامه بما يقارب لفظه. 16/113_114
1_ سميت سورة [طاها] باسم الحرفين المنطوق بهما في أولها.
ورسم الحرفان بصورتهما لا بما ينطق به الناطق من اسميهما؛ تبعاً لرسم المصحف كما تقدم في سورة الأعراف، وكذلك وردت تسميتها في كتب السنة في حديث إسلام عمر بن الخطاب _كما سيأتي قريباً_.
وفي تفسير القرطبي عن مسند الدرامي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله": =إن الله _تبارك وتعالى_ قرأ (طاها) باسمين قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام، فلما سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبى لأمة ينزل هذا عليها+ الحديث.
قال ابن فورك: =معناه أن الله أظهر كلامه، وأسمعه من أراد أن يسمعه من الملائكة؛ فتكون هذه التسمية مروية عن النبي"+.
وذكر في الإتقان عن السخاوي أنها تسمى _ أيضاً _ (سورة الكليم) وفيه عن الهذلي في كامله أنها تسمى (سورة موسى). 16/179
2_ وهذه السورة هي الخامسة والأربعون في ترتيب النزول نزلت بعد سورة مريم، وقبل سورة الواقعة، ونزلت قبل إسلام عمر بن الخطاب؛ لما روى الدارقطني عن أنس بن مالك، وابن إسحاق في سيرته عنه قال: خرج عمر متقلداً بسيف، فقيل له: إن ختنك وأختك قد صَبَوا، فأتاهما عمر، وعندهما خباب بن الأرت يقرئهما سورة [طاها]، فقال: أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرأه، فقالت له أخته: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون؛ فقم، فاغتسل أو توضأ، فقام عمر، وتوضأ، وأخذ الكتاب، فقرأ (طه) فلما قرأ صدراً منها قال: ما أحسن هذا الكلام، وأكرمه إلى آخر القصة.
__________
(1) _ هذا في الأصل ولعل الصواب: ونظير. (م)(1/398)
وذكر الفخر عن بعض المفسرين أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة.
وكان إسلام عمر في سنة خمس من البعثة قبيل الهجرة الأولى إلى الحبشة؛ فتكون هذه السورة قد نزلت في سنة خمس أو أواخر سنة أربع من البعثة.
وعدّت آيها في عدد أهل المدينة ومكة مائة وأربعاً وثلاثين وفي عدد أهل الشام مائة وأربعين، وفي عدد أهل البصرة مائة واثنتين وثلاثين، وفي عدد أهل الكوفة مائة وخمساً وثلاثين. 16/180_181
3_ أغراضها: احتوت من الأغراض على: التحدي بالقرآن بذكر الحروف المُقَطَّعة في مُفْتَتَحِها.
والتنويهِ بأنه تنزيلٌ من الله لهدي القابلين للهداية؛ فأكثرها في هذا الشأن.
والتنويهِ بعظمةِ الله _تعالى_ وإثباتِ رسالةِ محمد " بأنها تماثل رسالةَ أعظمِ رسولٍ قبله شاع ذكرُه في الناس؛ فَضُرِب المثلُ لنزول القران على محمد " بكلام الله موسى _عليه السلام_.
وبسطِ نشأةِ موسى، وتأييدِ الله إياه، ونصرِه على فرعون بالحجة والمعجزات، وبصرف كيد فرعون عنه وعن أتباعه.
وإنجاءِ اللهِ موسى وقومَهُ، وغرقِ فرعون، وما أكرم اللهُ به بني إسرائيلَ في خروجهم من بلد القبط.
وقصةُ السامريِّ، وصُنْعِهِ العجلَ الذي عبده بنو إسرائيل في مغيب موسى _عليه السلام_.
وكلُّ ذلك تعريضٌ بأن مآلَ بعثةِ محمدٍ "صائرٌ إلى ما صارت إليه بعثةُ موسى _عليه السلام_ من النصر على معانديه؛ فلذلك انتقل من ذلك إلى وعيد مَنْ أعرضوا عن القرآن، ولم تنفعهم أمثالُه ومواعظُه.
وتذكيرُ الناس بعداوةِ الشيطان للإنسان بما تضمنته قصةُ خلقِ آدمَ.
ورَتَّب على ذلك سوءُ الجزاءِ في الآخرة لمن جعلوا مقادتَهم بيد الشيطان وإنذارُهم بسوء العقاب في الدنيا.
وتسليةُ النبي"على ما يقولونه وتثبيتُه على الدين.
وتخلل ذلك إثباتُ البعثِ، وتهويلُ يومِ القيامة وما يتقدمه من الحوادث والأهوال. 16/181_182
4_ وإنما أمره الله بخلع نعليه؛ تعظيماً منه لذلك المكان الذي سيسمع فيه الكلام الإلهي.(1/399)
وروى الترمذي(1)عن ابن مسعود عن النبي"قال: =كانت نعلاه من جلد حمار ميت+.
أقول: وفيه _أيضاً_ زيادة خشوع.
وقد اقتضى كلا المعنيين قوله _تعالى_: [إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ].
فحرف التوكيد مفيد هنا التعليل كما هو شأنه في كل مقام لا يقتضي التأكيد، وهذه خصوصية من جهات؛ فلا يؤخذ منها حكم يقتضي نزع النعل عند الصلاة. 16/197
5_ واختلف المفسرون في معنى [طُوىً] وهو _بضم الطاء وبكسرها_ ولم يقرأ في المشهور إلا _بضم الطاء_ فقيل: اسم لذلك المكان، وقيل: هو اسم مصدر مثل هدىً، وصف بالمصدر بمعنى اسم المفعول، أي طواه موسى بالسير في تلك الليلة، كأنه قيل له: إنك بالواد المقدس الذي طويته سيراً؛ فيكون المعنى تعيين أنه هو ذلك الواد.
وأحسن منه على هذا الوجه أن يقال هو أمرٌ لموسى بأن يطوي الوادي، ويصعد إلى أعلاه؛ لتلقي الوحي.
وقد قيل: إن موسى صعد أعلى الوادي، وقيل: هو بمعنى المقدس تقديسين؛ لأن الطي هو جعل الثوب على شقين.
ويجيء على هذا الوجه أن تجعل التثنية كناية عن التكرير والتضعيف مثل [ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ] فالمعنى: المقدس تقديساً شديداً، فاسم المصدر مفعول مطلق مبين للعدد، أي المقدس تقديساً مضاعفاً.
والظاهر عندي: أن [طُوى] اسم لصنف من الأودية يكون ضيقاً بمنزلة الثوب المطوي أو غائراً كالبئر المطوية، والبئر تسمى طوياً، وسمي وادٍ بظاهر مكة (ذا طوى) بتثليث الطاء، وهو مكان يسن للحاج أو المعتمر القادم إلى مكة أن يغتسل عنده.
وقد اختلف في [طُوى] هل ينصرف أو يمنع من الصرف بناء على أنه اسم أعجمي، أو لأنه معدول عن طاوٍ، مثل عمر عن عامر.
وقرأ الجمهور [طُوى] بلا تنوين على منعه من الصرف.
وقرأه ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف منوناً؛ لأنه اسم واد مذكر. 16/197_198
__________
(1) _ في لبس الصوف من كتاب اللباس.(1/400)
6_ [إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى].
هذا ما يوحي المأمور باستماعه؛ فالجملة بدل من [مَا يُوحَى] بدلاً مطابقاً.
ووقع الإخبار عن ضمير المتكلم باسمه العلم الدال على الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد؛ وذلك أول ما يجب علمه من شؤون الإلهية، وهو أن يَعْلَمَ الاسم الذي جعله الله علماً عليه؛ لأن ذلك هو الأصل لجميع ما سيخاطب به من الأحكام المبلغة عن ربهم.
وفي هذا إشارة إلى أن أول ما يتعارف به المتلاقون أن يعرفوا أسماءهم؛ فأشار الله إلى أنه عالم باسم كَلِيمه، وعلم كليمه اسمه، وهو الله.
وهذا الاسم هو علم الرب في اللغة العربية، واسمه _تعالى_ في اللغة العبرانية (يَهْوَهْ) أو (أهْيَهْ) المذكور في الإصحاح الثالث من سفر الخروج في التوراة، وفي الإصحاح السادس.
وقد ذكر اسم (الله) في مواضع من التوراة مثل الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر الخروج في الفقرة الثامنة عشرة، والإصحاح الثاني والثلاثين في الفقرة السادسة عشرة.
ولعله من تعبير المترجمين، وأكثر تعبير التوراة إنما هو الرب أو الإله.
ولفظ (أهيه) أو (يهوه) قريب الحروف من كلمة إله في العربية.
ويقال: إن اسم الجلالة في العبرانية (لاهُمْ).
ولعل الميم في آخره هي أصل التنوين في إله.
وتأكيد الجملة بحرف التأكيد؛ لدفع الشك عن موسى نُزِّلَ منزلةَ الشاكِّ؛ لأن غرابة الخبر تُعَرِّضُ السامع للشك فيه.(1/401)
وتوسيط ضمير الفصل بقوله: [إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ] لزيادة تقوية الخبر،وليس بمفيد للقصر؛ إذ لا مقتضى له هنا؛ لأن المقصود الإخبار بأن المتكلم هو المسمى الله؛ فالحمل حمل مواطاة لا حمل اشتقاق، وهو كقوله _تعالى_: [لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ].
وجملة [لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا] خبر ثان عن اسم (إن).
والمقصود منه حصول العلم لموسى بوحدانية الله _تعالى_.
ثم فَرَّع على ذلك الأمر بعبادته.
والعبادة: تجمع معنى العمل الدال على التعظيم من قول وفعل وإخلاص بالقلب.
ووجه التفريع أن انفراده _تعالى_ بالإلهية يقتضي استحقاقه أن يعبد.
وخص من العبادات بالذكر إقامةُ الصلاة؛ لأن الصلاة تجمع أحوال العبادة.
وإقامة الصلاة: إدامتها، أي عدم الغفلة عنها.
والذكر يجوز أن يكون بمعنى التذكر بالعقل، ويجوز أن يكون الذكر باللسان.
واللام في [لِذِكْرِي] للتعليل، أي أقم الصلاة؛ لأجل أن تذكرني؛ لأن الصلاة تذكر العبد بخالقه؛ إذ يستشعر أنه واقف بين يدي الله لمناجاته؛ ففي هذا الكلام إيماءٌ إلى حكمة مشروعية الصلاة، وبضميمته إلى قوله _تعالى_: [إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] يظهر أن التقوى من حكمة مشروعية الصلاة؛ لأن المكلف إذا ذكر أمر الله ونهيه فعل ما أمره، واجتنب ما نهاه عنه، والله عَرَّف موسى حكمةَ الصلاةِ مجملةً، وعرَّفها محمداً "مفصلة.
ويجوز أن يكون اللام _أيضاً_ للتوقيت، أي أقم الصلاة عند الوقت الذي جعلته لذكري.
ويجوز أن يكون الذكر الذكر اللساني؛ لأن ذكر اللسان يحرك ذكر القلب، ويشتمل على الثناء على الله والاعتراف بما له من الحق، أي الذي عينته لك؛ ففي الكلام إيماء إلى ما في أوقات الصلاة من الحكمة، وفي الكلام حذف يُعْلَم من السياق. 16/199_201(1/402)
7_ وجملة: [إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ] مستأنفة لابتداء إعلام بأصل ثان من أصول الدين بعد أصل التوحيد، وهو إثبات الجزاء.
والساعة: عَلَمٌ بالغلبة على ساعة القيامة، أو ساعة الحساب.
وجملة: [أَكَادُ أُخْفِيهَا] في موضع الحال من [السَّاعَة] أو معترضة بين جملة وعلتها.
والإخفاء: الستر، وعدم الإظهار، وأريد به هنا المجاز عن عدم الإعلام.
والمشهور في الاستعمال أن (كاد) تدل على مقاربة وقوع الفعل المخبر به عنها، فالفعل بعدها في حيز الانتفاء، فقوله _تعالى_: [كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً] يدل على أن كونهم لبداً غير واقع، ولكنه اقترب من الوقوع.
ولما كانت الساعة مَخْفِية الوقوع، أي مخفية الوقت، كان قوله: [أَكَادُ أُخْفِيهَا] غير واضح المقصود؛ فاختلفوا في تفسيره على وجوه كثيرة أَمْثَلُها ثلاثة.
فقيل: المراد إخفاء الحديث عنها، أي من شدة إرادة إخفاء وقتها، أي يراد ترك ذكرها.
ولعل توجيه ذلك أن المكذبين بالساعة لم يزدهم تكرر ذكرها في القرآن إلا عناداً على إنكارها.
وقيل: وقعت (أكاد) زائدة هنا بمنزلة زيادة (كان)(1) في بعض المواضع؛ تأكيداً للإخفاء، والمقصود: أنا أخفيها فلا تأتي إلا بغتة.
وتأول أبو علي الفارسي معنى [أُخْفِيهَا] بمعنى (أظهرها).
وقال: همزة [أُخْفِيهَا] للإزالة مثل همزة أعجم الكتاب، وأشكى زيداً، أي أزيل خفاءها.
والخفاء: ثوب تلف فيه القربة مستعار للستر.
فالمعنى: أكاد أظهرها، أي أظهر وقوعها، أي وقوعها قريب.
وهذه الآية من غرائب استعمال (كاد) فيضم إلى استعمال نفيها في قوله: [وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ] في سورة البقرة. 16/201_202
8_ ومآرب: جمع مأربة، مثلث الراء: الحاجة، أي أمور أحتاج إليها.
وفي العصا منافع كثيرة روي بعضها عن ابن عباس، وقد أفرد الجاحظ من كتاب البيان والتبيين باباً لمنافع العصا.
__________
(1) _ كما في الشاهد النحوي:
سراة بني أبي بكرٍ تسامى ... على كان المسوِّمة العراب ... (م)(1/403)
ومن أمثال العرب: =هو خير من تفارق العصا+.
ومن لطائف معنى الآية ما أشار إليه بعض الأدباء من أن موسى أطنب في جوابه بزيادة على ما في السؤال؛ لأن المقام مقام تشريف ينبغي فيه طولُ الحديث. 16/206
9_ فالشرح: حقيقته: تقطيع ظاهر شيءٍ لَيِّن.
واستعير هنا لإزالة ما في نفس الإنسان من خواطر تكدره، أو توجب تردده في الإقدام على عملٍ ما؛ تشبيهاً بتشريح اللحم بجامع التوسعة. 16/210
10_ وخص هارون؛ لفرط ثقته به، ولأنه كان فصيح اللسان مِقْوالاً، فكونه من أهله مظنةُ النصح له، وكونه أخاه أقوى في المناصحة، وكونه الأخَ الخاصَّ؛ لأنه معلوم عنده بأصالة الرأي. 16/212
11_ وعلل موسى _ عليه السلام _ سؤاله تحصيل ما سأله لنفسه ولأخيه، بأن يسبحا الله كثيراً ويذكرا الله كثيراً.
ووجه ذلك أن فيما سأله لنفسه؛ تسهيلاً لأداء الدعوة بتوفر آلاتها ووجود العون عليها،وذلك مظنة تكثيرها.
وأيضاً فيما سأله لأخيه تشريكه في الدعوة، ولم يكن لأخيه من قبل.
وذلك يجعل من أخيه مضاعفةً لدعوته، وذلك يبعث أخاه _أيضاً_ على الدعوة.
ودعوة كل منهما تشتمل على التعريف بصفات الله، وتنزيهه؛ فهي مشتملة على التسبيح، وفي الدعوة حث على العمل بوصايا الله _تعالى_ عبادَه، وإدخالُ الأمة في حضرة الإيمان والتقوى.
وفي ذلك إكثار من ذكر الله بإبلاغ أمره ونهيه؛ ألا ترى إلى قوله _تعالى_ بعد هذه الآيات: [اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي].
أي لا تضعفا في تبليغ الرسالة؛ فلا جرم كان في تحصيل ما دعا به إكثار من تسبيحهما وذكرهما الله.
وأيضاً في التعاون على أداء الرسالة تقليل من الاشتغال بضرورات الحياة؛ إذ يمكن أن يقتسما العمل الضروري لحياتهما، فيقل زمن اشتغالهما بالضروريات، وتتوفر الأوقات لأداء الرسالة، وتلك فائدة عظيمة لكليهما في التبليغ.(1/404)
والذي ألجأ موسى إلى سؤال ذلك علمُه بشدة فرعون، وطغيانِه، ومَنْعِهِ الأمةَ من مفارقة ضلالهم؛ فَعَلِمَ أن في دعوته فتنةً للداعي؛ فسأل الإعانة على الخلاص من تلك الفتنة؛ ليتوفرا للتسبيح والذكر كثيراً. 16/213_214
12_ [وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ].
جملة: [وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي] عطف على جملة: [إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ] الخ.
جعل الأمران إتماماً لمنة واحدة؛ لأن إنجاءه من القتل لا يظهر أثره إلا إذا أنجاه من الموت بالذبول؛ لترك الرضاعة، ومن الإهمال المفضي إلى الهلاك أو الوهن إذا ولي تربيتَه مَنْ لا يشفق عليه الشفقة الجبلية.
والتقدير: وإذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله؛ لأجل أن تصنع على عيني.
والصنع: مستعار للتربية والتنمية؛ تشبيهاً لذلك بصنع شيء مصنوع، ومنه يقال لمن أنعم عليه أحد نعمة عظيمة: هو صنيعة فلان. 16/218
13_ وهذه منة عليه لإكمال نمائه، وعلى أمه بنجاته، فلم تفارق ابنها إلا ساعات قلائل، أكرمها الله بسبب ابنها.
وعطف نفي الحزن على قرة العين؛ لتوزيع المنة؛ لأن قرة عينها برجوعه إليها، وانتفاء حزنها بتحقيق سلامته من الهلاك ومن الغرق، وبوصوله إلى أحسن مأوى.
وتقديم قرة العين على انتفاء الحزن مع أنها أخص فيغني ذكرها عن ذكر انتفاء الحزن؛ روعي فيه مناسبة تعقيب [فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ] بما فيه من الحكمة، ثم أكمل بذكر الحكمة في مشي أخته فتقول: [هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ] في بيتها، وكذلك كان شأن المراضع ذوات الأزواج كما جاء في حديث حليمة، وكذلك ثبت في التوراة في سفر الخروج. 16/219(1/405)
14_ والفتُون: مصدر فتَن, كالخروج، والثبور, والشُّكور, وهو مفعول مطلق لتأكيد عامله وهو: [فَتَنَّاكَ] وتنكيره للتعظيم, أي فتوناً قوياً عظيماً.
والفتون كالفتنة: هو اضطراب حال المرء في مدة من حياته.
وتقدم عند قوله _تعالى_:[وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] في سورة البقرة.
ويظهر أن الفتون أصل مصدر فتن بمعنى اختبر؛ فيكون في الشر وفي الخير.
وأما الفتنة فلعلها خاصة باختبار المضر، ويظهر أن التنوين في: [فُتُوناً] للتقليل، وتكون جملة: [وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً] كالاستدراك على قوله: [فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ] أي نجيناك وحصل لك خوف، كقوله: [فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ] فذلك الفتون.
والمراد بهذا الفتون خوف موسى من عقاب فرعون وخروجه من البلد المذكور في قوله _تعالى_: [فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ] إلى قوله: [وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ].
وذِكْرُ الفتونِ بين تعداد المنن إدماجٌ للإعلام بأن الله لم يهمل دم القبطي الذي قتله موسى؛ فإنه نفس معصومة الدم؛ إذ لم يحصل ما يوجب قتله؛ لأنهم لم ترد إليهم دعوة إلهية حينئذ؛ فحين أنجى الله موسى من المؤاخذة بدمه في شرع فرعون ابتلى موسى بالخوف والغربة؛ عتاباً له على إقدامه على قتل النفس، كما قال في الآية الأخرى: [قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ].(1/406)
وعباد الله الذين أراد بهم خيراً ورعاهم بعنايته يجعل لهم من كل حالة كمالاً يكسبونه، ويسمى مثل ذلك بالابتلاء، فكان من فتون موسى بقضية القبطي أن قدر له الخروج إلى أرض مدين؛ ليكتسب رياضةَ نفسٍ، وتهيئةَ ضميرٍ؛ لتحمل(1) المصاعب، ويتلقى التهذيب من صهره الرسول شعيب _عليه السلام_.
ولهذا المعنى عقب ذكر الفتون بالتفريع في قوله: [فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى] فبين له كيف كانت عاقبة الفتون.
أو يكون الفتون مشتركاً بين محمود العاقبة وضده مثل الابتلاء في قوله: [وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ].
أي واختبرناك اختباراً، والاختبار: تمثيل لحال تكليفه بأمر التبليغ بحال من يختبر، ولهذا اختير هنا دون الفتنة. 16/220_221
15_[قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)].
هذا حكايةُ جوابِ فرعونَ عن الكلام الذي أمر الله موسى وهارون بإبلاغه فرعون؛ ففي الآية حذفُ جُمَلٍ دل عليها السياق؛ قصداً للإيجاز، والتقدير: فَأَتَيَاه، فقالا له ما أمِرا به، فقال: فمن ربكما?
ولذلك جاءت حكاية قول فرعون بجملة مفصولة على طريقة حكاية المحاورات التي استقريناها من أسلوب القرآن، وبيناها في سورة البقرة وغيرها.
ووجه فرعون الخطاب إليهما بالضمير المشترك، ثم خص موسى بالإقبال عليه بالنداء؛ لعلمه بأن موسى هو الأصل بالرسالة، وأن هارون تابع له.
وهذا وإن لم يحتوِ عليه كلامهما؛ فقد تعين أن يكون فرعون عَلِمَه من كيفية دخولهما عليه ومخاطبته، ولأن موسى كان معروفاً في بلاط فرعون؛ لأنه ربيُّه أو رَبيّ أبيه؛ فله سابقة اتصال بدار فرعون، كما دل عليه قوله له المحكي في آية سورة الشعراء: [قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ] الآية.
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعلها: ليتحمَّل. (م)(1/407)
ولعل موسى هو الذي تولى الكلام وهارون يصدقه بالقول أو بالإشارة، وإضافته الرب إلى ضميرهما لأنهما قالا له: [إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ].
وأعرض عن أن يقول: فمن ربي? إلى قوله: [فَمَنْ رَبُّكُمَا] إعراضاً عن الاعتراف بالمربوبية ولو بحكاية قولهما؛ لئلا يقع ذلك في سمع أتباعه وقومه فيحسبوا أنه متردد في معرفة ربه، أو أنه اعترف بأن له رباً، وتولى موسى الجواب؛ لأنه خص بالسؤال بسبب النداء له دون غيره. 16/231_232
16_ قال الزمخشري في الكشاف: =ولله در هذا الجواب ما أخصره، وما أجمعه، وما أبينه لمن ألقى الذهن، ونظر بعين الإنصاف، وكان طالباً للحق+. 16/233
17_ و[السَّامِرِيُّ]: يظهر أن ياءه ياء نسبة، وأن تعريفه باللام للعهد.
فأما النسبة فأصلها في الكلام العربي أن تكون إلى القبائل والعشائر؛ فالسامري نسب إلى اسم أبي قبيلة من بني إسرائيل أو غيرهم يقارب اسمه لفظ سَامِر، وقد كان من الأسماء القديمة (شُومر) و(شامر) وهما يقاربان اسم سامر لا سيما مع التعريب.
وفي أنوار التنزيل: =السامري نسبة إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها: السامرة+ ا _ هـ . 16/279
18_ وقد قُرن بين انتفاء الجوع واللباس في قوله: [أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى] وقرن بين انتفاء الظمأ وألم الجسم في قوله: [لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى] لمناسبة بين الجوع والعري، في أن الجوع خلو باطن الجسم عما يقيه تألمه وذلك هو الطعام، وأن العري خلو ظاهر الجسم عما يقيه تألمه وهو لفح الحر وقرص البرد، ولمناسبةٍ بين الظمأ وبين حرارة الشمس في أن الأول ألم حرارة الباطن، والثاني ألم حرارة الظاهر؛ فهذا اقتضى عدمَ اقترانِ ذكرِ الظمأ والجوع، وعدم اقتران ذكر العري بألم الحر، وإن كان مقتضى الظاهر جمع النظيرين في كليهما؛ إذ جمع النظائر من أساليب البديع في نظم الكلام بحسب الظاهر لولا أن عرض هنا ما أوجب تفريق النظائر.(1/408)
ومن هذا القبيل في تفريق النظائر قصة أدبية طريفة جرت بين سيف الدولة وبين أبي الطيب المتنبي ذكرها المعري في (معجز أحمد) شرحه على ديوان أبي الطيب إجمالاً، وبسطها الواحدي في شرحه على الديوان وهي: أن أبا الطيب لما أنشد سيف الدولة قصيدته التي طالعها:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
قال في أثنائها يصف موقعة بين سيف الدولة والروم في ثغر الحدث:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
فاستعادها سيف الدولة منه بعد ذلك، فلما أنشده هذين البيتين، قال له سيف الدولة: إن صدري البيتين لا يلائمان عجُزَيْهما، وكان ينبغي أن تقول:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
وأنت في هذا مثل امرئ القيس في قوله:
كأني لم أركب جواداً للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الزقَّ الرويَّ ولم أقل ... لخيلي كُرِّي كرةً بعد إجفال
ووجه الكلام على ما قال العلماء بالشعر أن يكون عجز البيت الأول للثاني، وعجز البيت الثاني للأول؛ ليستقيم الكلام؛ فيكون ركوب الخيل مع الأمر للخيل بالكر، ويكون سباء الخمر للذة مع تبطن الكاعب.
فقال أبو الطيب: أدام الله عز الأمير، إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا أعلم منه بالشعر فقد أخطأ امرؤْ القيس وأخطأت أنا، ومولانا يعرف أن الثوب لا يعرفه البزاز معرفة الحائك؛ لأن البزاز لا يعرف إلا جملته، والحائك يعرف جملته وتفصيله؛ لأنه أخرجه من الغَزْلية إلى الثَّوبية.
وإنما قرن امرؤ القيس لذةَ النساء بلذة الركوب للصيد، وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء، وأنا لما ذكرت الموت أتبعته بذكر الردى؛ لتجانسه، ولما كان وجه المهزوم لا يخلو أن يكون عبوساً وعينه من أن تكون باكية قلت:
..................................... ... ووجهك وضاح وثغرك باسم(1/409)
لأجمع بين الأضداد في المعنى.
ومعنى هذا أن امرأ القيس خالف مقتضى الظاهر في جمع شيئين مشتهري المناسبة، فجمع شيئين متناسبين مناسبة دقيقة، وأن أبا الطيب خالف مقتضى الظاهر من جمع النظيرين؛ ففرقهما لسلوك طريقة أبدع، وهي طريقة الطباق بالتضاد وهو أعرق في صناعة البديع.
وجُعِلَت المنة على آدم بهذه النعم مسوقة في سياق انتفاء أضدادها؛ ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة؛ تحذيراً منها؛ لكي يتحامى من يسعى إلى إرزائه منها. 16/322_324
19_ وقد جاءت خاتمة هذه السورة كأبلغ خواتم الكلام لإيذانها بانتهاء المحاجة، وانطواء بساط المقارعة.
ومن محاسنها: أن فيها شبيه رد العجز على الصدر؛ لأنها تنظر إلى فاتحة السورة، وهي قوله: [مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى] لأن الخاتمة تدل على أنه قد بلغ كل ما بعث به من الإرشاد والاستدلال، فإذا لم يهتدوا به فكفاه انثلاج صدرٍ أنه أدى الرسالة والتذكرة، فلم يكونوا من أهل الخشية، فتركهم وضلالهم حتى يتبين لهم أنه الحق. 16/349
1_ سماها السلف (سورة الأنبياء) ففي صحيح البخاري عن عبدالله ابن مسعود قال: =بنو إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، هن من العتاق الأُوَل وهن من تلادي+.
ولا يعرف لها اسم غير هذا.
ووجه تسميتها سورة الأنبياء أنها ذُكِر فيها أسماء ستة عشر نبياً، ومريم ولم يأت في سور القرآن مثل هذا العدد من أسماء الأنبياء في سورة من سور القرآن عدا ما في سورة الأنعام؛ فقد ذكر فيها أسماء ثمانية عشر نبياً. 17/5
2_ وهي مكية بالاتفاق، وحكى ابن عطية والقرطبي الإجماع على ذلك، ونقل السيوطي في الإتقان استثناء قوله _تعالى_: [أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمْ الْغَالِبُونَ] ولم يعزه إلى قائل. 17/5_6(1/410)
3_ وهي السورة الحادية والسبعون في ترتيب النزول نزلت بعد حم السجدة، وقبل سورة النحل؛ فتكون من أواخر السور النازلة قبل الهجرة. 17/6
4_ وعدد آيها في عد أهل المدينة ومكة والشام والبصرة مائة وإحدى عشرة، وفي عد أهل الكوفة مائة واثنتا عشرة. 17/6
5_ أغراض السورة: والأغراض التي ذُكِرَت في هذه السورة هي: الإنذارُ بالبعث، وتحقيقُ وقوعه، وإنه؛ لِتَحَقُّقِ وقوعِه كان قريباً.
وإقامةُ الحجةِ عليه بخلق السماوات والأرض عن عدم، وخلق الموجودات من الماء.
التحذيرُ من التكذيب بكتاب الله _تعالى_ ورسوله.
والتذكيرُ بأن هذا الرسولَ"ما هو إلا كأمثاله من الرسل وما جاء إلا بمثل ما جاء به الرسل من قبله.
وذكْرُ كثيرٍ من أخبار الرسل _عليهم السلام_ .
والتنويهُ بشأن القرآن وأنه نعمةٌ مِنَ اللهِ على المخاطبين، وشأنِ رسول الإسلام" وأنه رحمةٌ للعالمين.
والتذكيرُ بما أصاب الأممَ السالفةَ مِنْ جَرَّاء تكذيبهم رسلَهم، وأن وعد الله للذين كذبوا واقع، ولا يغرهم تأخيرُه؛ فهو جاءٍ لا محالة.
وحذَّرهم من أن يغتروا بتأخيره كما اغتر الذين مِنْ قَبْلِهم حتى أصابهم بغتةً، وذَكَر مِنْ أشراطِ الساعةِ فتحَ يأجوجَ ومأجوجَ.
وذكَّرهم بما في خلق السماوات والأرض من الدلالة على الخالق.
ومن الإيماءِ إلى أن وراء هذه الحياة حياةً أخرى أَتْقَنَ، وأحكمَ؛ لِتُجزى كلُّ نفسٍ بما كسبت، ويَنْتَصِرُ الحقُّ على الباطل.
ثم ما في ذلك الخلقِ من الدلائل على وحدانية الخالق؛ إذ لا يستقيم هذا النظام بتعدد الآلهة.
وتنزيهُ الله _تعالى_ عن الشركاء، وعن الأولاد، والاستدلالُ على وحدانية الله _تعالى_.
وما يُكرهه على فعل ما لا يريد.
وأن جميعَ المخلوقاتِ صائرون إلى الفناء.
وأعقب ذلك تذكيرُهم بالنعمةِ الكبرى عليهم، وهي نعمةُ الحفظ.
ثم عَطَفَ الكلامَ إلى ذكرِ الرسل والأنبياء.
وتنظيرِ أحوالهم وأحوالِ أممهم بأحوالِ محمدٍ "وأحوالِ قومه.(1/411)
وكيف نَصَرَ اللهُ الرسلَ على أقوامهم، واستجاب دعواتِهم.
وأن الرسلَ كلَّهم جاؤوا بدين الله وهو دين واحد في أصوله قطّعه الضالون قطعاً.
وأثنى على الرسل، وعلى مَنْ آمنوا بهم.
وأن العاقبةَ للمؤمنين في خيرِ الدنيا وخيرِ الآخرة، وأن اللهَ سيحكم بين الفريقين بالحق، ويعينُ رُسَلَه على تبليغ شرعه. 17/6_8
6_ ومن بدائع الإعجاز في هذه الآية أن قوله _تعالى_: [كُلٌّ فِي فَلَكٍ] فيه محسن بديعي؛ فإن حروفه تقرأ من آخرها على الترتيب كما تقرأ من أولها مع خفة التركيب، ووفرة الفائدة، وجريانه مجرى المثل من غير تنافر ولا غرابة.
ومثله قوله _تعالى_: [رَبَّكَ فَكَبِّرْ] بطرح واو العطف، وكلتا الآيتين بني على سبعة أحرف، وهذا النوع سماه السكاكي (المقلوب المستوي) وجعله من أصناف نوع سماه القلب.
وخص هذا الصنف بما يتأتى القلب في حروف كلماته، وسماها الحريري في المقامات (ما لا يستحيل بالانعكاس) وبَنَى عليه المقامة السادسة عشرة، ووضح أمثلة نثراً ونظماً، وفي معظم ما وضعه من الأمثلة تكلف وتنافر وغرابة، وكذلك ما وضعه غيره على تفاوتها في ذلك، والشواهد مذكورة في كتب البديع؛ فعليك بتتبعها، وكلما زادت طولاً زادت ثقلاً.
قال العلامة الشيرازي في شرح المفتاح: =وهو نوع صعب المسلك قليل الاستعمال+.
قلت: ولم يذكروا منه شيئاً وقع في كلام العرب؛ فهو من مبتكرات القرآن.
ذكر أهل الأدب أن القاضي الفاضل البيساني زار العماد الكاتب فلما ركب لينصرف من عنده قال له العماد: =سر فلا كبا بك الفرس+ ففطن القاضي أن فيه مُحَسِّنَ القلبِ فأجابه على البديهة: =دام علا العماد+ وفيه محسن القلب. 17/61_62
7_[وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً].(1/412)
وخلاصتها أن داود جلس للقضاء بين الناس، وكان ابنه سليمان حينئذ يافعاً؛ فكان يجلس خارج باب بيت القضاء؛ فاختصم إلى داود رجلان أحدهما عامل في حرث لجماعة في زرع أو كرم، والآخر راعي غنم لجماعة، فدخلت الغنم الحرث ليلاً فأفسدت ما فيه؛ فقضى داود أن تعطى الغنم لأصحاب الحرث؛ إذ كان ثمن تلك الغنم يساوي ثمن ما تلف من ذلك الحرث، فلما حكم بذلك وخرج الخصمان، فقص أمرهما على سليمان، فقال: لو كنت أنا قاضياً لحكمت بغير هذا؛ فبلغ ذلك داود؛ فأحضره وقال له: بماذا كنت تقضي?
قال: إني رأيت ما هو أرفق بالجميع، قال: وما هو? قال: أن يأخذ أصحاب الغنم الحرث يقوم عليه عاملهم، ويصلحه عاماً كاملاً حتى يعود كما كان، ويرده إلى أصحابه، وأن يأخذ أصحاب الحرث الغنم تسلّم لراعيهم؛ فينتفعوا من ألبانها وأصوافها ونسلها في تلك المدة؛ فإذا كمل الحرث وعاد إلى حاله الأول صرف إلى كل فريق ما كان له.
فقال داود: وفقت يا بني، وقضى بينهما بذلك. 17/116
8_ [وََمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)].
أقيمت هذه السورة على عماد إثبات الرسالة لمحمد"وتصديق دعوته، فافتتحت بإنذار المعاندين باقتراب حسابهم ووشك حلول وعد الله فيهم وإثبات رسالة محمد"وأنه لم يكن بدعاً من الرسل، وذكروا إجمالاً، ثم ذكرت طائفة منهم على التفصيل، وتخلل ذلك بمواعظ ودلائل.
وعُطِفت هذه الجملة على جميع ما تقدم من ذكر الأنبياء الذين أوتوا حكماً وعلماً، وذكر ما أوتوه من الكرامات؛ فجاءت هذه الآية مشتملة على وصف جامع لبعثة محمد ".
ومزيتها على سائر الشرائع مزيةٌ تناسب عمومَها ودوامها، وذلك كونها رحمة للعالمين؛ فهذه الجملة عطف على جملة [وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ] ختاماً لمناقب الأنبياء، وما بينهما اعتراض واستطراد. 7/164_165
9_ وتفصيل ذلك يظهر في مظهرين: الأول: تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة، والثاني: إحاطة الرحمة بتصاريف شريعته.(1/413)
فأما المظهر الأول: فقد قال فيه أبو بكر محمد بن طاهر القيسي الإشبيلي أحد تلامذة أبي علي الغساني وممن أجاز لهم أبو الوليد الباجي من رجال القرن الخامس: =زيَّن الله محمداً " بزينة الرحمة؛ فكان كونه رحمة، وجميع شمائله رحمة، وصفاته رحمة على الخلق+ا _ هـ.
ذكره عنه عياض في الشفاء، قلت: يعني أن محمداً " فطر على خلُق الرحمة في جميع أحوال معاملته الأمة؛ لتتكون مناسبة بين روحه الزكية وبين ما يلقى إليه من الوحي بشريعته التي هي رحمة حتى يكون تلقيه الشريعة عن انشراح نفس أن يجد ما يوحى به إليه ملائماً رغبته وخلقه، قالت عائشة: =كان خلقه القرآن+.
ولهذا خَصَّ اللهُ محمداً " في هذه السورة بوصف الرحمة، ولم يصف به غيره من الأنبياء، وكذلك في القرآن كله، قال _تعالى_: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ].
وقال _تعالى_: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ] أي برحمة جبلك عليها، وفطرك بها؛ فكنت لهم ليناً، وفي حديث مسلم: أن رسول الله لما شج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه فقالوا: لو دعوت عليهم فقال: =إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة+.
وأما المظهر الثاني من مظاهر كونه رحمة للعالمين: فهو مظهر تصاريف شريعته، أي ما فيها من مقومات الرحمة العامة للخلق كلهم؛ لأن قوله _تعالى_: [لِلْعَالَمِينَ] متعلق بقوله: [رَحْمَةً]. 17/166_167
10_ لا جرم أن الله _تعالى_ خص الشريعة الإسلامية بوصف الرحمة الكاملة، وقد أشار إلى ذلك قوله _تعالى_ فيما حكاه خطابا منه لموسى _عليه السلام_: [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ] الآية.(1/414)
ففي قوله _تعالى_: [وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ] إشارة إلى أن المراد رحمة هي عامة؛ فامتازت شريعة الإسلام بأن الرحمة ملازمة للناس بها في سائر أحوالهم، وأنها حاصلة بها لجميع الناس لا لأمة خاصة.
وحكمةُ تمييزِ شريعة الإسلام بهذه المزية أن أحوال النفوس البشرية مضت عليها عصور وأطوار تهيأت بتطوراتها لأن تساس بالرحمة، وأن تدفع عنها المشقة إلا بمقادير ضرورية لا تقام المصالح بدونها؛ فما في الشرائع السالفة من اختلاط الرحمة بالشدة، وما في شريعة الإسلام من تمحض الرحمة _ لم يجر في زمن من الأزمان إلا على مقتضى الحكمة.
ولكن الله أسعد هذه الشريعةَ، والذي جاء بها، والأمةَ المتبعةَ لها _ بمصادفتها للزمن والطور الذي اقتضت حكمة الله في سياسة البشر أن يكون التشريع لهم تشريعَ رحمةٍ إلى انقضاء العالم.
فأقيمت شريعة الإسلام على دعائم الرحمة والرفق واليسر، قال _تعالى_: [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] وقال _تعالى_: [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] وقال النبي": =بعثت بالحنيفية السمحة+.
وما يُتَخَيَّل من شدة في نحو القصاص والحدود فإنما هو لمراعاة تعارض الرحمة والمشقة كما أشار إليه قوله _تعالى_: [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ].
فالقصاص والحدود شدة على الجناة، ورحمة ببقية الناس.
وأما رحمة الإسلام بالأمم غير المسلمين فإنما نعني به رحمته بالأمم الداخلة تحت سلطانه، وهم أهل الذمة.
ورحمته بهم عدم إكراههم على مفارقة أديانهم، وإجراء العدل بينهم في الأحكام بحيث لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم في الحقوق العامة.(1/415)
هذا وإن أريد بـ(العالمين) في قوله _تعالى_: [إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة فإن الشريعة تتعلق بأحوال الحيوان في معاملة الإنسان إياه، وانتفاعه به؛ إذ هو مخلوق لأجل الإنسان قال _تعالى_: [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً] وقال _تعالى_: [وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ].
وقد أذنت الشريعة الإسلامية للناس في الانتفاع بما ينتفع به من الحيوان ولم تأذن في غير ذلك؛ ولذلك كُرِهَ صيد اللهو، وحُرِّم تعذيب الحيوان لغير أكله، وعد فقهاؤنا سباق الخيل رخصة للحاجة في الغزو ونحوه.
ورغبت الشريعة في رحمة الحيوان؛ ففي حديث الموطأ عن أبي هريرة مرفوعاً: =أن الله غفر لرجل وجد كلباً يلهث من العطش، فنزل في بئر، فملأ خفه ماءً، وأمسكه بفمه حتى رقي، فسقى الكلب، فغفر الله له+.
أما المؤذي والمضر من الحيوان فقد أذن في قتله وطرده؛ لترجيح رحمة الناس على رحمة البهائم، وفي تفاصيل الأحكام من هذا القبيل كثرة لا يُعْوِزُ الفقيهَ تتبعُها. 17/168_170
_ المقدمة ... 3
_ توطئة ... 7
المبحث الأول: معالم في سيرة العلامة ابن عاشور: ... 13
_ اسمُه وولادته ... 15
_ تَلَقِّيه العلم ... 15
_ مؤلفاته ... 15
_ أوليات ابن عاشور ... 20
_ أخلاق ابن عاشور وشمائله ... 22
_ كلمات لعدد من العلماء في أخلاقه، وعلمه، وسيرته ... 23
_ وفاته ... 30
المبحث الثاني: تعريف عام بتفسير التحرير والتنوير ... 33
_ أولاً: اسم الكتاب ... 35
_ ثانياً: قصة تأليفه وبدايته ونهايته ... 35
المبحث الثالث: منهج ابن عاشور في تفسيره وخلاصة ما اشتمل عليه ... 37
_ منهجه المجمل، وتحته سبع فقرات ... 39(1/416)
_ منهجه المفصَّل، وخلاصة ما اشتمل عليه، وتحته خمس وأربعون فقرة ... 40
المبحث الرابع: مقدمة في علم البلاغة ... 61
_ تمهيد: البلاغة في تفسير التحرير والتنوير ... 63
أولاً: فضل علم البلاغة ... 65
ثانياً: نبذة عن تاريخ البلاغة وأشهر الكتب المؤلفة فيه ... 68
ثالثاً: علوم البلاغة: 1_ تعريف علم البلاغة ... 71
2_ تعريف علم المعاني، وفائدته، ومصطلحات بلاغية ترد كثيراً في تفسير التحرير والتنوير ... 71
3_ تعريف علم البيان: أ_ التشبيه ب_ الحقيقة والمجاز جـ _ الكناية ... 74
4_ تعريف علم البديع: ... 79
أ_ محسنات معنوية ... 80
ب_ محسنات لفظية ... 81
مقترح حول هذا التفسير ... 83
مقدمة ابن عاشور لتفسيره ... 89
مختارات من مقدمات ابن عاشور العشر على تفسيره ... 99
_ المقدمة الأولى: في التفسير والتأويل، وكون التفسير علماً، وتحته ستة نُقولٍ ... 101
_ المقدمة الثانية: في استمداد علم التفسير، وتحته سبعة نقول ... 105
_ المقدمة الثالثة: في صحة التفسير بغير المأثور، ومعنى التفسير بالرأي ونحوه، وتحته نقلان ... 109
_ المقدمة الرابعة: فيما يحق أن يكون غرض المفسر، وتحته نقلان ... 110
_ المقدمة الخامسة: في أسباب النزول، وتحته نقلان ... 112
_ المقدمة السادسة: في القراءات، وتحته أربعة نقولات ... 114
_ المقدمة السابعة: قصص القرآن، وتحته نقل واحد ... 117
_ المقدمة الثامنة: في اسم القرآن، وآياته، وسوره، وترتيبها، وأسمائها، وتحته خمسة عشر نقلاً ... 120
_ المقدمة التاسعة: في أن المعاني التي تحتملها جمل القرآن تعتبر مرادة بها، وتحته أربعة نقولات ... 130
_ المقدمة العاشرة: في إعجاز القرآن، وتحته عشرون نقلاً ... 134
لطائف من تفسير التحرير والتنوير ... 145
سورة الفاتحة ... 147
1_ سورة الفاتحة من السور ذات الأسماء الكثيرة ... 147
2_ سبب تسمية الفاتحة أم القرآن ... 147
3_ الفاتحة نُزِّلت منزلة ديباجة الخطبة أو الكتاب ... 148
4_ البسملة: اسم لكلمة بسم الله على طريقة النحت ... 149
5_ رسم أسلوب الفاتحة للمنشئين ثلاث قواعد للمقدمة ... 150(1/417)
6_ الفاتحة تضمنت مناجاة للخالق ... 151
7_ الغضب عند حكماء الأخلاق ... 152
سورة البقرة ... 154
1_ اسمها 2_ نزولها 3_ عدد آيها ... 154
4_ محتويات هذه السورة ... 156
5_ تحيُّر المفسرين في الحروف المقطعة 6_ الأقوال في الحروف المقطعة، وكونها تَؤُول إلى واحد وعشرين قولاً، وإيراد تلك الأقوال ... 162
7_ الهدى الشرعي 8_ المتقي 9_ التقوى الشرعية ... 178
10_ الرزق شرعاً عند أهل السنة 11_ الإنفاق ... 179
12_ المراد من القلوب 13_ العذاب ... 179
14_ قوله _تعالى_: [وَمِنْ النَّاسِ]: خبر مقدم، والفائدة من ذلك ... 180
15_ أن إجراء الأحكام الإسلامية على المسلم في الدنيا يقتضي أنه غير خالد في النار، والرد على الخوارج ... 180
16_ الأعمال لها المرتبة الثانية بعد الإيمان والإسلام ... 181
17_ على العالم المتشبع بالإطلاع على مقاصد الشريعة وتصاريفها أن يُفَرِّق بين مقامات خطاباتها، ومناقشة للخوارج والإباضية والمعتزلة في اعتبار الوعد والوعيد ... 182
18_ الخداع فعل مذموم إلا في الحرب 19_ النفس في لسان العرب ... 183
20_ المرض 21_ معنى إفساد المنافقين 22_ الإفساد في الأرض ... 184
23_ الشياطين ... 185
24_ قوله _تعالى_: [وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]: احتراس من توهم الانقطاع ... 185
25_ الاستحياء والحياء ... 186
26_ معنى: [مَا بَعُوضَةً] 27_ معنى: [كَيْفَ] ... 186
28_ الكفر: تعريفه في اللغة والاصطلاح ... 187
29_ معنى الحياة ... 189
30_ حديث حول الحكمة والتعليل ... 190
31_ أرجح القولين أن السماء خلقت قبل الأرض ... 191
32_ دليل عموم علم الله 33_35_ في الأسماء التي عُلِّمَها آدم ... 191
36_ تعريف الجنة ... 193
37_ الأخلاق تُوْرَثُ، وبحث حول الأخلاق ... 193
38_ تفسير: [فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ] ... 195
39_ التوبة تتركب من علم وحال وعمل ... 196
40_ العلماء منهيون أن يأتوا بما نهي عنه بنو إسرائيل....... ... 196(1/418)
41_42_ في مسألة أخذ الأجرةِ على تعليم القرآن والدين، مع قصة حدثت بين ابن عرفة والدُّكَّالي حولَ أخذِ أئمةِ تونسَ الأجورَ على الإمامة ... 196
43_ النسيان والسهو 44_ معنى الصلاة الشرعي ... 198
45_47_ أصل التدين والإيمان من ضروب الصبر، ومعنى الاستعانة بالصلاة، و معنى: [وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ] ... 199
48_ حول قوله _تعالى_: [يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ]، وقصة الوزير الأندلسي السلماني مع ملك المغرب ابن عنان ... 201
49_ معنى: [الْعَالَمِينَ] ... 202
50_51_ معنى الشفاعة، وثبوتها ... 204
52_ مبدأ استقرار بني إسرائيل في مصر ... 206
53_ اتفاق القراءات المتواترة العشر على قراءة [فَرَقْنَا] بالتخفيف، والحكمة من ذلك، والمقصود من البحر ... 208
54_ تعريف الصاعقة 55_ تعريف: [الْمَنَّ] 56_ تعريف: [السَّلْوَى] ... 209
57_ تفسير قوله: [فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ] ... 210
58_ الجهل: ضد العلم، وضد الحلم ... 211
59_ بحث حول الفعل: (كاد) ... 212
60_ الأمي مَنْ لا يعرف القراءة والكتابة ... 213
61_ الإحسان لسائر الناس ... 214
62_63_ بحث حول عيسى ومريم 64_ تعريف الروح ... 214
65_ معنى: [قَلِيلاً] 66_ معنى قوله: [وَلَتَجِدَنَّهُمْ] ... 216
67_ القلب هنا بمعنى: النفس ... 217
68_ اللغات في ميكائيل ... 217
69_ بحث في سليمان _ عليه السلام _ ... 218
70_ بحث في السحر وكونه من المعارف القديمة ... 218
71_72_ أصول السحر ثلاثة 73_ السحر: ... 218
74_ بحث حول بابل 75_ هاروت: ... 221
76_ وفاة إبراهيم _عليه السلام_ ... 223
77_ الثمرات جمع ثمرة وهي: ... 224
78_79_ كلام حول قوله _تعالى_: [وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ...] الآية ... 224
80_81_ بحث في إسحاق _عليه السلام_ ... 226
82_ الحنيف: ... 227
83_88_ تفسير قوله _تعالى_: [سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ]، وحديث عن القبلة، واستقبال اليهود لبيت المقدس، وتحويل القبلة ... 227
89_ تعريف الوسط 90_ قوله: [لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ] ... 231(1/419)
91_ من مكملات معنى الشهادة.................. ... 233
92_ الأهواء: ... 233
93_94_ في قوله: [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ...] الآية ... 233
95_ حقيقة الصلاة في كلام العرب ... 234
96_ الصفا والمروة 97_ الشعائر ... 235
98_ العالِمُ يَحْرُمُ عليه أن يكتم من علمه ما فيه هدىً للناس ... 236
99_قول ابن عرفة: =لا يحل للعالم أن يذكر للظالم تأويلاً أو رخصة+، وذكرُ قصةِ سلطان قرطبة عبدالرحمن الداخل مع يحيى الليثي ... 236
100_ قوله: [إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا] استثناء من الذين يكتمون، وشرط التوبة ... 237
101_ ما روي عن عمر أنه كتب إلى عمرو بن العاص ألا يحمل جيش المسلمين في البحر، واستئذان معاوية عثمان في غزو قبرص وقسطنطينية، مع حديث حول ركوب البحر ... 237
102_ من فوائد الرياح ... 238
103_ التحقيق أن الحُبَّ يتعلق بِذِكْرِ المرء ... 238
104_ الاقتداء بالشيطان إرسال النفس على العمل بما يوسوسه لها من الخواطر البشرية 105_ الفحشاء: 106_ الحرام: ... 238
107_108_ تحريم الدم، والحكمة من ذلك، ومدلول الدم ... 239
109_ حكمة تحريم لحم الخنزير ... 240
110_ استقراء بديع ... 240
111_ بحث حول نصب [الصَّابِرِينَ] ... 241
112_ في قوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ] ... 242
113_ الوصية ... 244
114_115_ حِكَمُ الصيام ... 244
116_ في قوله: [تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ]، ومعنى الفذلكة، والنحت ... 245
117_ حكمة كون الأيام عشرة ... 246
118_ الألباب: ... 246
119_ طلب ذكر الله في أيام الجمار، والأيام المعدودات الثلاثة ... 246
120_ الإعجاب ... 247
121_ جهنم عَلَمٌ على دار العقاب الموقدة ناراً، بحث حول جهنم ... 247
122_ علامة الباطن تكون في تصرفات المرء ... 248
123_ معنى تزيين الحياة للذين كفروا ... 249
124_ استقراءُ لمواقع التزيين المذموم، وحَصْرُها في ثلاثة أنواع ... 249(1/420)
125_ آدمُ خُلِقَ في أحسن تقويم يليق بالذكر جسماً وعقلاً، وحواء خلقت في أحسن تقويم يليق بالأنثى، وأربعة أسباب للانحطاط عن الفطرة الطيبة ... 250
126_ البِشَارة والنِّذَارة 127_ بحث حول (لمَّا) ... 253
128_ القتال كريه للنفوس 129_ الشيء قد يكون لذيذاً ملائماً، ولكن ارتكابه يفضي للهلاك، وشأن جمهور الناس الغفلة عن العاقبة والغاية أو جهلها ... 253
130_ جُعِلَ نظام الوجود في هذا العالم بتولد الشيء من بين شيئين ... 254
131_ من سبَّ النبي"قُتل، ولا تقبل توبته ... 255
132_134_ حول الردة، وحكمة تشريع قتل المرتد ... 255
135_ الميسر 136_ التوبة تطهر روحاني، والتطهير جثماني ... 256
137_ في قوله _تعالى_: [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] ... 256
138_139_ الشفاعة 140_ النوم ... 257
141_145_ بحث في الحكمة، وأقسامها، وأصولها، وعلومها ... 258
146_ ما يخطر في النفس ... 263
سورة آل عمران ... 264
1_ وجه تسميتها، وأسماؤها الأخرى، ونزولها ... 264
2_ أغراضها ... 264
3_ التوراة 4_ الإنجيل ... 266
5_7_ خلاف العلماء في تعيين المقصود من المحكمات والمتشابهات على أقوال مرجعها إلى تعيين مقدار الوضوح والخفاء، بحث حول هذه المسألة ... 267
8_ زيغ القلب يتسبب عن عوارض تعرض للعقل ... 270
9_ في قوله _تعالى_: [وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً] ... 270
10_ اصلاح الاعتقاد أهم ما ابتدئ به الإسلام ... 271
11_ حبط الأعمال ... 271
12_ آدم اسم أبي البشر عند جميع أهل الأديان، وبحث في آدم ... 271
13_15_ السيِّد والسؤدد، والوجيه ... 272
16_ الكهل 17_ القَصَص 18_ البِرُّ ... 273
19_ بحث حول بكة ... 274
20_ البِطانة 21_ الطَّمْأَنة والطُّمأنينة ... 275
22_23_ حكمة تحريم الربا، وبحث في استغناء المسلمين عنه ... 275
24_ صفات ثناء على المتقين، وتنويه بهم ... 277
25_ في قوله: [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً...] الآية ... 278
26_ في قوله _تعالى_: [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ...] الآية ... 279(1/421)
27_ اللِّين 28_ أُرسل محمد"مفطوراً على الرحمة ... 279
29_ الذوق حقيقته ... 280
سورة النساء ... 281
1_ تسميتها 2_ أغراضها ... 281
3_5_ بحث في تعدد الزوجات وحكمه ... 282
6_ قد تكره النفوس ما في عاقبته خير ... 284
7_ بحث حول كلمة الأمهات ... 284
8_ ما يترتب على إثبات الكبائر والصغائر من أحكام، ومسائل ... 285
9_ التيمم، بحث حوله، وحكمة تشريعه ... 286
10_ أعلى القوانين هي الشرائع الإلهية ... 287
11_ من أسرار الشريعة حرصها على تعميم الحرية في الإسلام بكيفية منتظمة ... 288
12_ بحث حول الدية ... 289
13_14_ في قوله: [خَالِداً فِيهَا]، بحث في قتل النفس عمداً ... 292
15_ في قوله: [كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ]، لفتة تربوية عظيمة ... 294
16_17_ في قوله _تعالى_: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ]، وأحكامِ وجوب الخروج من البلد الذي يفتن فيه المؤمن في دينه ... 295
18_19_ أحسن ما قيل في تفسير قوله _تعالى_: [وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ...] الآية ... 300
20_ في قوله _تعالى_: [وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ] ... 300
21_ جُعل الأمر بالتقوى وصية؛ لأن الوصية........... ... 301
22_ في قوله _تعالى_: [لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ...] الآية ... 302
23_ في قوله _تعالى_: [شُبِّهَ لَهُمْ] ... 303
24_ التثليث أصل عقيدة النصارى كلهم، ولكنهم مختلفون في كيفيته، وبحث في بعض مصطلحات عقيدة النصارى، وفرقهم ... 304
سورة المائدة ... 309
1_ أسماؤها ... 309
2_ امتازت هذه السورة باتساع نطاق المجادلة مع النصارى ... 309
3_4_ أغراض هذه السورة، وما احتوت عليه ... 310
5_ قصة ذكرها ابن عطية عن محاولة الكندي أن يعمل مثل القرآن ... 312
6_10_ الدم، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما ذبح على النصب، والاستقسام بالأزلام ... 312
11_13_ الدين وإكماله ... 317
14_ المجوس وحرمةُ أكل ذبائحهم، وحكمةُ الرخصة في أهل الكتاب ... 319(1/422)
15_ معنى: [إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ] ... 320
16_ لطيفة ذكرها ابن هشام في شأن قصيدة كعب بن زهير ... 321
17_ أسباب العداوة والبغضاء شدة الاختلاف............ ... 321
18_ كيف أغريت العداوة بين النصارى وهم لا يزالون إلْباً على المسلمين؟ ... 321
19_ معنى التشبيه في قوله: [فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً] ... 322
20_ السارق والسارقة والمسروق ... 323
21_ الموعظة 22_ الشِرعة والشريعة 23_ المنهاج ... 323
24_ قوله: [ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ] ... 324
25_ القسيسون، والرهبان ... 325
26_29_ في البَحِيْرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي ... 327
30_ سُنَّةُ الشهادةِ وكمالها 31_ العيد ... 330
32_ معنى نفعِ الصدقِ صاحِبَهُ في ذلك اليوم ... 331
سورة الأنعام ... 332
1_2_ اسمها، وكونها مكية ... 332
3_ أغراضها ... 334
4_ هي أجمع سور القرآن لأحوال العرب في الجاهلية، و............. ... 336
5_ اللعب واللهو ... 336
6_ المماثلة في قوله: [أَمْثَالُكُمْ] ... 337
7_ ظهور ما في البَرِّ للناس على الجملة أقوى من ظهور ما في البحر ... 338
8_ الاقتصار على تسمية الأنبياء في سورة الأنعام دون غيرهم ... 338
9_ السَبُّ 10_ وجه النهي عن سب الأصنام ... 340
11_ تقديم الأفئدة على الأبصار ... 341
12_ في قوله: [أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً]، ومناقشة المعتزلة والخوارج في إيجابهم خلود مرتكب الكبيرة غير التائب في النار ... 342
13_ معنى كون الإسلام ملة إبراهيم ... 344
14_ من لطائف القرآن الاقتصار في وصف [سَرِيعُ الْعِقَابِ] على مؤكد واحد، وتعزيز وصف [لَغَفُورٌ رَحِيمٌ] ... 344
سورة الأعراف ... 345
1_6_ في تسميتها، ونزولها، وكونها من السبع الطوال ... 345
7_ أغراضها ... 346
8_ في قوله: [وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ] الآية ... 348
9_10_ في قوله: [وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ] ... 348
11_ الطفل في أول عمره يكون بريئاً من خواطر السوء ... 350
12_ عقل الإنسان منصرف بجبلَّته إلى الخير، ومعرَّض لوسوسة الشياطين ... 350(1/423)
13_14_ في قوله: [إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ] ... 350
15_ إقامة الوجوه تمثيل كمال الإقبال على عبادة الله ... 351
16_ المقصد من قوله: [خُذُوا زِينَتَكُمْ] 17_ الإسراف ... 352
18_ اشتهر عند العرب نسبة العقول الراجحة إلى عاد ... 353
19_25_ بحث في قوم لوط، وإسرافهم، وعقوبتهم ... 354
26_ حاصلُ ما أَمَر به شعيبٌ قَوْمَهُ ... 358
27_ الصبر 28_ في قوله: [يَطَّيَّرُوا] بحث عن التطير ... 358
29_ الطوفان، والجراد، والضفادع، والدم ... 360
30_ النفس في الليل أكثر تجرداً للكمالات منها في النهار ... 361
31_ كان أهل السنة مُحِقِّين في الاستدلال لسؤال موسى رؤية الله بلا كيف ... 362
32_ في قوله _تعالى_: [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا...] 33_ الكَلْبُ ... 363
34_ في قوله: [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ] ... 365
سورة الأنفال ... 367
1_2_ تسميتها، ونزولها ... 367
3_ أغراضها ... 368
4_6_ بحث في معنى الأنفال ... 369
7_ الغشي والغشيان 8_ كان النعاس أمناً لهم ... 372
9_ البنان 10_ ضرب الملائكة 11_ الرمي ... 372
12_ في قوله: [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ...] الآية ... 373
13_ المكاء ... 374
14_ تعبيرات السلف في التفرقة بين الغنيمة والنفل غير مضبوطة ... 374
15_ العُدوة 16_ الفشل 17_ الذوق 18_ الثَّقْفُ، والتشريد ... 376
سورة التوبة ... 378
1_2_ تسميتها، وكونها مدنية بالاتفاق ... 378
3_ افتتحت السورة بتحديد مدة العهود بين النبي"وبين المشركين ... 381
4_5_ في قوله: [بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ...] الآية ... 383
6_ جملة [وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] معطوفة على جملة [وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ] ... 384
7_ تنويه بمعالي أخلاق المسلمين ... 385
8_ معاني: السقاية، العمارة، الديات والحملات، السَِّفارة، الراية، المشورة، الأعنة والقُبَّة، الحكومة، الأيسار ... 385(1/424)
9_ في قوله: [نَجَسٌ] 10_ الجزية ... 387
11_ الأحبار والرهبان ... 389
12_ الباطل يشمل وجوهاً كثيرة ... 389
13_ في قوله: [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً...] الآية ... 389
14_ معنى: [فِي كِتَابِ اللَّهِ] 15_ تفضيل الأوقات والبقاع ... 392
16_ كونُ عدةِ الشهور اثني عشر تَحَقَّق بأصل الخِلقة ... 395
17_19_ النسيء، وزمن ابتداء العمل به، ووجه كونه كفراً ... 396
20_ في قوله: [خِفَافاً] 21_ العَرَض ... 398
22_23_ في قوله: [اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ...]، و[سَبْعِينَ مَرَّةً...] ... 400
24_ في قوله: [فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً...] الآية ... 401
25_ في قوله: [الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً...] الآية ... 402
26_ جملة [سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ] استئناف بياني للجواب على سؤال يثيره قوله: [نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ] ... 404
27_ في قوله: [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً...] 28_ السَّكَن ... 405
29_ لفظ =أَوَّاهٌ+ مثال مبالغة ... 406
سورة يونس ... 408
1_ تسميتها ... 408
2_ أغراضُها ... 409
3_ معنى: [جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً] ... 412
4_ معنى الزيادة في قوله _تعالى_: [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ] ... 412
5_ سؤالُ ابنِ عرفة عن وجه التفرقة بين قوله: [مَنْ يَسْتَمِعُونَ] وقوله: [مَنْ يَنْظُرُ] ... 413
6_ في قوله: [وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا...] الآية، معنى تبوؤ البيوت لقومهما 7_ القِبْلَة ... 415
8_ في قوله _تعالى_: [أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ...] الآية ... 416
9_10_ المستخلص من الروايات الواردة في قوم يونس ... 417
سورة هود ... 419
1_ تسميتُها، ونزولُها، وترتيبُها، وعددُ آياتها ... 419
2_ أغراضها ... 420
3_ الفخر ... 422
4_ في قوله: [فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً...] الآية، معنى الملأ، والكمال الحق ... 422
5_ السخرية 6_ البلع 7_ إقلاع السماء 8_ الجُوْدِي ... 425(1/425)
9_ جملة [هَذَا بَعْلِي] قصة للمبرد مع جارية ... 425
10_ الاستفهام في قوله: [أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ] ... 426
11_ جملة [وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ] ... 427
12_ معنى: [مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ] الآية ... 427
13_ الزُّلَف 14_ إذهاب السيئات ... 429
15_ تثبيت فؤاد الرسول" ... 430
سورة يوسف ... 432
1_ تسميتُها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 432
2_ من مقاصد هذه السورة، وأهم أغراضها ... 432
3_ جعل هذا القصص أحسن القصص ... 435
4_ يوسف اسم عبراني، بحث فيه، وفي خلاصة قصته ... 435
5_9_ في الرؤيا، وأحكامها، ومراتبها ... 436
10_ التأويل، والأحاديث ... 441
11_13_ سبب امتناع يعقوب من خروج يوسف ... 442
14_ الجُّبُّ الذي أُلقي فيه يوسف ... 444
15_ البكاء، وعجائب الناس فيه ... 444
16_17_ السيارة من الإسماعليين، وفي عثورهم على الجب الذي فيه يوسف آية من لطف الله به ... 445
18_ في قوله: [وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ...] 19_ اسم الرجل الذي اشترى يوسف واسم زوجته ... 445
20_ توصيةُ الرجلِ زوجتَه بيوسف ... 446
21_22_ معنى: [هَيْتَ]، واللغات فيها 23_ معنى: [مَعَاذَ] ... 447
24_ عودُ الضمير في قوله: [إِنَّهُ رَبِّي] ... 447
25_ التعريف في [الْبَابِ]: تعريف الجنس....، وجملة [وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ] في موضع الحال......، وتفسير: [وَاسْتَبَقَا الْبَابَ] ... 447
26_ معنى: (الإلفاء) ... 449
27_ جملة [قَالَتْ مَا جَزَاءُ...] الآية، مستأنفة بيانياً....، وبيان أن العذاب أنواع ... 449
28_ الرجل الذي كان مع العزيز من أهل امرأته، وكان فطناً عارفاً ... 450
29_30_ الذي رأى [قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ]، وقال [إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ] هو العزيز، وهو الذي أمر يوسف بالإعراض، وأقوال المفسرين في العزيز، وتصرفه مع زوجه ... 450
31_ في قوله: [فِي الْمَدِينَةِ] 32_ اطلاق اسم المكر على كلام النسوة ... 451
33_ المتَّكأ ... 452
34_ معنى: [آتَتْ] والسكين، وقوله: [اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ] و[أَكْبَرْنَهُ] ... 452(1/426)
35_ معنى قولهن: [مَا هَذَا بَشَراً] ... 452
36_ فَضَّل يوسف السجن على ما يدعونه إليه......، وسبب ذلك ... 452
37_ تعبير الرؤيا من فنون علماء ذلك العصر ... 454
38_ ذكر يوسف آبائه تعليماً بفضلهم ... 455
39_ سبب إباء يوسف الخروج من السجن قبل أن تثبت براءته ... 455
40_ معنى: [لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ] ... 456
41_ فضيلة اعتراف امرأة العزيز ... 456
42_43_ في اقتراح يوسف _عليه السلام_ أن يُجْعل على خزائن الأرض ... 456
44_ دخولُ إِخوةِ يوسف عليه يدل على أنه كان يراقب أمر بيع الطعام ... 458
45_46_ في قوله _تعالى_: [وَقَالَ يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ...]الآية ... 458
47_ سبب مناداةِ أخوةِ يوسفَ ليوسفَ بوصف العزيز، وسبب وصفهم أباهم بأنه شيخ كبير، والمراد بالكبير ... 459
48_ سببُ عدمِ مكاشفةِ يوسفَ لإخوانه بحاله......... ... 460
49_ معنى ابيضاض العينين، ومعنى الكظيم ... 461
50_ ما تفيده جملة: [إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ] ... 461
51_ مراد يعقوب بقوله: [وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ] ... 462
52_ تعريضٌ بأن أخوة يوسف قد صلح حالهم بعد ... 462
53_ معنى جملة: [إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ] 54_ معنى: [أَحْسَنَ بِي] ... 463
سورة الرعد ... 465
1_2_ تسميتها، ونزولها، وجريان معانيها على الأسلوب المكي، وعدد آياتها ... 465
3_ مقاصدها ... 466
4_ معنى: [وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ...] الآية ... 467
5_جملة: [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ]، حقيقةُ المحو، والتثبيت، وسبب إبهام الممحو والمثبت، وذكر شيء من آثار المَمْحُوِّ ... 468
سورة إبراهيم ... 472
1_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آياتها ... 472
2_ أغراضها ... 473
3_ معنى قوله: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ...] الآية ... 474
4_ تفسير قوله: [قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا...] الآية ... 475(1/427)
5_ معنى قوله: [رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ] إلى قوله: [الْحِسَابُ] ... 477
سورة الحجر ... 479
1_2_ تسميتها، ونزولها، وعدد آيها ... 479
3_ مقاصد السورة ... 480
4_ معنى خفض الجناح ... 480
سورة النحل ... 483
1_ تسميتها، ونزولها ... 483
2_ أغراضها ... 483
3_ معنى: [وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ] ... 485
4_ معنى: [وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ...] الآية ... 486
5_ من لطيف النوادر: نادرة جرت عند المهدي ... 487
6_ في قوله: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ...] الآية ... 487
7_ مرجع تفاصيل العدل إلى أدلة الشريعة......، ومعنى الإحسان والحسن ... 487
8_11_ هذه الآية:[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ...] الآية جمعت أصول الشريعة، واهتداء الخليفة عمر بن عبدالعزيز إلى ما جمعته هذه الآية من معاني الخير، وصنيع عز الدين بن عبدالسلام في كتاب سماه (الشجرة) ... 488
12_ وُصِفَ إبراهيم بأنه كان أُمَّة، ومعنى ذلك ... 489
13_ دين الإسلام مُنَزَّهٌ عن أن تتعلق به شوائب الإشراك ... 490
14_ في قوله: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ...] الآية ... 490
15_18_ في الحكمةِ، والموعظةِ، والمجادلةِ، وكون هذه الآية جمعت أصول الاستدلال العقلي الحق ... 491
19_20_ معنى الصبرِ على الأذى، وسببُ الترغيبِ فيه ... 495
سورة الإسراء ... 497
1_2_ تسميتها، ونزولها، ووقت الإسراء، وترتيب السورة، وعدد آيها ... 497
3_ أغراضها ... 498
4_ شهود عمر لفتح إيليا المعروفة من قبل (أورشليم) ... 501
5_ في قوله: [الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ] ... 503
6_ معنى كونِ نوحٍ عبداً شكوراً ... 504
7_ معنى: الإفساد مرتين ... 504
8_ في قوله: [وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً] ... 507
9_ مقصد الإسلام من الأمر ببر الوالدين، وصلة الرحم ... 509
10_ وجه النهي عن التبذير ... 509
11_ في قوله: [وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ...] الآية ... 510(1/428)
12_15_ في قوله: [وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى...] الآية، القرب المنهي عنه، الزنا في اصطلاح الإسلام.....، وفي الجاهلية.....، وعناية الإسلام بتحريم الزنا ... 512
16_ في قوله: [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ...] الآية ... 513
17_ ارتباط [وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً...] الآية، بقوله: [كُونُوا حِجَارَةً] غامض، وبيان ذلك من ثلاثة وجوه ... 516
18_ الحديد، بحث نادر في أصنافه وتفاوتها وأشرفها ... 517
19_20_ أَمْرُ المؤمنين بأن [يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]، والمقصد من ذلك ... 519
21_ الينبوع 22_ الآياتُ التسعُ التي أوتيها موسى _عليه السلام_ ... 520
سورة الكهف ... 522
1_4_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 522
5_ أغراضُها ... 523
6_7_ في قوله: [إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا...] إلى قوله: [جُرُزاً] ... 524
8_ الكهف والرقيم 9_ في قوله: [تَسْطِعْ] ... 525
10_ الأقوال في تعيين ذي القرنين 11_ حديث عن يأجوج ومأجوج ... 526
12_ في قوله: [مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ] ... 532
سورة مريم ... 534
1_ اسمها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 534
2_ أغراضها ... 535
3_ في قوله: [وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً] ... 537
4_ نقل للمؤلف عن جده العالم الوزير (بُوْعتَّور) في تحقير قوم إبراهيم لإبراهيم ... 538
سورة طه ... 540
1_2_ تسميتها، وترتيبها، وعدد آيها ... 540
3_ أغراضها ... 541
4_ تعليل أمر الله موسى بخلع نعليه 5_ اختلاف المفسرين في معنى: (طوى) ... 542
6_ في قوله _تعالى_: [إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا] إلى قوله: [فَتَرْدَى] ... 544
7_ جملة [إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ]............. ... 546
8_ معنى: [مَآرِبُ] 9_ الشرح وحقيقته ... 548
10_ خَصَّ موسى هارونَ؛ لفرط ثقته به ... 548
11_ تعليل موسى سؤالَه تحصيل ما سأله لنفسه وأخيه ... 548
12_13_ في قوله: [وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي] إلى قوله: [وَلا تَحْزَنَ] ... 549
14_ معنى: الفتون ... 550(1/429)
15_ في قوله: [قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا] ... 552
16_ في إعجاب الزمخشري برد موسى على فرعون ... 553
17_ السامري ... 553
18_ القَرْنُ بين انتفاء الجوع واللباس في قوله: [إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى].......، وإيراد قصة طريفة بين سيف الدولة والمتنبي ... 554
19_ جاءت خاتمة السورة كأبلغ خواتم الكلام ... 556
سورة الأنبياء ... 557
1_4_ تسميتها، ونزولها، وترتيبها، وعدد آيها ... 557
5_ أغراضها ... 557
6_ من بدائع الإعجاز في قوله: [كُلٌّ فِي فَلَكٍ] ... 559
7_ في قوله: [وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ...] الآية، خلاصة هذه القصة ... 560
8_10_ في قوله: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ... 561
_ الفهرس ... 565(1/430)
1_ سميت هذه السورة سورة الحج في زمن النبي".
أخرج أبو داود، والترمذي عن عقبة بن عامر قال: =قلت: يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين? قال: نعم+.
وأخرج أبو داود، وابن ماجه عن عمرو بن العاص أن رسول الله "أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل، وفي سورة الحج سجدتان.
وليس لهذه السورة اسم غير هذا.
ووجه تسميتها سورةُ الحج أن الله ذكر فيها كيف أمر إبراهيم _عليه السلام_ بالدعوة إلى حج البيت الحرام، وذكر ما شرع للناس يومئذ من النسك؛ تنويهاً بالحج وما فيه من فضائل ومنافع، وتقريعاً للذين يصدون المؤمنين عن المسجد الحرام، وإن كان نزولها قبل أن يفرض الحج على المسلمين بالاتفاق، وإنما فرض الحج بالآيات التي في سورة البقرة، وفي سورة آل عمران. 17/179
2_ واختلف في هذه السورة هل هي مكية أو مدنية، أو كثير منها مكي وكثير منها مدني. 17/180
3_ وقال الجمهور هذه السورة بعضها مكي وبعضها مدني وهي مختلطة، أي لا يعرف المكي بعينه، والمدني بعينه، قال ابن عطية: =وهو الأصح+. 17/180
4_ وأقول: ليس هذا القول مثل ما يكثر أن يقولوه في بضع آيات من عدة سور: إنها نزلت في غير البلد الذي نزل فيه أكثر السورة المستثنى منها، بل أرادوا أن كثيراً منها مكي، وأن مثله أو يقاربه مدني، وأنه لا يتعين ما هو مكي منها وما هو مدني؛ ولذلك عبروا بقولهم: هي مختلطة. 17/180
5_ ويشبه أن يكون أولها نزل بمكة؛ فإن افتتاحها بـ:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ] جارٍ على سنن فواتح السور المكية.
وفي أساليب نظم كثير من آياتها ما يلائم أسلوب القرآن النازل بمكة.(1/1)
ومع هذا فليس الافتتاح بـ:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ] بمعين أن تكون مكية، وإنما قال ابن عباس: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] يراد به المشركون؛ ولذا فيجوز أن يوجه الخطاب به إلى المشركين في المدينة في أول مدة حلول النبي " بها؛ فإن قوله: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] يناسب أنه نزل بالمدينة حيث صد المشركون النبي والمؤمنين عن البقاء معهم بمكة.
وكذلك قوله: [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ] فإنه صريح في أنه نزل في شأن الهجرة. 17/180_181
6_ ومن أغراض هذه السورة: خطابُ الناسِ بأمرهم أن يتقوا الله، ويخشوا يومَ الجزاءِ وأهوالَه.
والاستدلالُ على نفي الشرك، وخطابُ المشركين بأن يُقلعوا عن المكابرة في الاعتراف بانفراد الله _تعالى_ بالإلهية وعن المجادلة في ذلك؛ اتباعاً لوساوس الشياطينِ، وأن الشياطينَ لا تغني عنهم شيئاً، ولا ينصرونهم في الدنيا وفي الآخرة.
وتفظيعُ جدالِ المشركين في الوحدانية بأنهم لا يستندون إلى علم وأنهم يُعرضون عن الحُجة؛ ليضلوا الناس.
وأنهم يرتابون في البعث وهو ثابتٌ لا رِيْبَةَ فيه، وكيف يرتابون فيه بِعِلَّةِ استحالةِ الإحياءِ بعد الإماتة؟ ولا ينظرون أن اللهَ أوجد الإنسانَ من تراب، ثم من نطفة، ثم طوَّره أطواراً.
وأن اللهَ ينزلُ الماءَ على الأرض الهامدةِ، فتحيا، وتُخْرِجُ من أصناف النبات؛ فالله هو القادرُ على كلِّ ذلك؛ فهو يحيي الموتى، وهو على كل شيء قدير.
وأن مجادلتَهم بإنكار البعث صادرةٌ عن جهالة وتكبر عن الامتثال لقول الرسول _عليه الصلاة والسلام_.
وَوَصْفُ المشركين بأنهم في تردد من أمرهم في اتباع دين الإسلام.(1/2)
والتعريضُ بالمشركين بتكبُّرِهم عن سُنّةِ إبراهيمَ _عليه السلام_ الذي ينتمون إليه، ويحسبون أنهم حماةُ دينهِ، وأمناءُ بيته، وهم يخالفونه في أصل الدين.
وتذكيرٌ لهم بما مَنَّ اللهُ عليهم في مشروعية الحج من المنافع؛ فكفروا نِعْمَتَه.
وتنظيرُهم في تلقي دعوةِ الإسلام بالأمم البائدة الذين تلقَّوا دعوة الرسل بالإعراض والكفر؛ فحل بهم العذاب.
وأنه يوشك أن يَحِلَّ بهؤلاء مِثْلُهُ؛ فلا يَغُرَّهم تأخيرُ العذاب؛ فإنه إملاءٌ مِنَ اللهِ لهم كما أملى للأمم مِنْ قَبْلِهِمْ، وفي ذلك تأنيسٌ للرسول _عليه الصلاة والسلام_ والذين آمنوا، وبشارة لهم بعاقبة النصر على الذين فَتَنوهم وأخرجوهم من ديارهم بغير حقٍّ.
وأن اختلافَ الأممِ بين أهل هدىً وأهل ضلالٍ أمرٌ به افترقَ الناسِ إلى مللٍ كثيرة.
وأن يومَ القيامةِ هو يومُ الفصلِ بينهم لمشاهدة جزاءِ أهلِ الهدى وجزاءِ أهلِ الضلال.
وأن المهتدين والضالين خصمان اختصموا في أمر الله؛ فكان لكلِّ فريقٍ جزاؤه.
وسَلّى اللهُ رسولَه _عليه الصلاة والسلام_ والمؤمنين بأن الشيطانَ يُفْسِدُ في قلوب أهل الضلالة آثارَ دعوةِ الرسلِ، ولكنَّ اللهَ يُحكم دينَه، ويبطل ما يلقي الشيطان؛ فلذلك ترى الكافرين يُعْرِضُون، وينكرون آياتِ القرآن.
وفيها التنويهُ بالقرآنِ والمتلقين له بخشية وصبر، ووصفُ الكفارِ بكراهيتهم القرآن، وبغضِ المُرْسَلِ به، والثناءُ على المؤمنين، وأن اللهَ يَسَّرَ لهم اتباعَ الحنيفيةِ وسماهم المسلمين.
والإذنُ للمسلمين بالقتال، وضمانُ النصرِ، والتمكينُ في الأرض لهم.
وخُتِمَتِ السورةُ بتذكير الناسِ بِنِعَمِ اللهِ عليهم، وأن اللهَ اصطفى خَلْقاً مِنَ الملائكة ومِنَ الناس؛ فأقبل على المؤمنين بالإرشاد إلى ما يقربهم إلى الله زلفى، وأن الله هو مولاهم وناصرُهم. 17/183_185
7_ فأما المجوس فهم أهل دين يثبت إلهين: إلهاً للخير، وإلهاً للشر، وهم أهل فارس.(1/3)
ثم هي تتشعب شعباً تأوي إلى هذين الأصلين.
وأقدم النحل المجوسية أسسها (كيومرث) الذي هو أول ملك بفارس في أزمنة قديمة يظن أنها قبل زمن إبراهيم _ عليه السلام _ ولذلك يلقب _أيضاً_ بلقب (جل شاه) تفسيره: ملك الأرض.
غير أن ذلك ليس مضبوطاً بوجه علمي، وكان عصر (كيومرث) يلقب (زروان) أي الأزل، فكان أصل المجوسية هم أهل الديانة المسماة: الزروانية وهي تثبت إلهين هما (يزدان) و (أهرمن).
قالوا: كان يزدان منفرداً بالوجود الأزلي، وأنه كان نورانياً، وأنه بقي كذلك تسعة آلاف وتسعين سنة، ثم حدث له خاطر في نفسه: أنه لو حدث له منازع كيف يكون الأمر؛ فنشأ من هذا الخاطر موجود جديد ظلماني سمي (أَهْرُمَنْ) وهو إله الظلمة مطبوعاً على الشر والضر، وإلى هذا أشار أبو العلاء المعري بقوله في لزومياته:
قال أناسٌ باطلٌ زَعْمُهُمْ ... فراقبوا الله ولا تزعمن
فَكَّر يزدانُ على غِرَّةٍ ... فصيغ من تفكيره أَهْرُمَنْ
فحدث بين (أهرمن) وبين (يزدان) خلاف ومحاربة إلى الأبد، ثم نشأت على هذا الدين نحل خُصَّت بألقاب، وهي متقاربة التعاليم أشهرها نحلة (زرادشت) الذي ظهر في القرن السادس قبل ميلاد المسيح، وبه اشتهرت المجوسية.
وقد سمي إله الخير (أهورا مزدا) أو (أرمزد) أو (هرمز).
وسمي إله الشر (أهرمن) وجعل إله الخير نوراً، وإله الشر ظلمة، ثم دعا الناس إلى عبادة النار على أنها مظهر إله الخير وهو النور، ووسع شريعة المجوسية، ووضع لها كتاباً سماه (زندافستا).
ومن أصول شريعته تجنب عبادة التماثيل.
ثم ظهرت في المجوس نحلة (المانوية) وهي المنسوبة إلى (ماني) الذي ظهر في زمن سابور بن أردشير ملك الفرس بين سنة 238 وسنة 271م.
وظهرت في المجوس نحلة (المزدكية) وهي منسوبة إلى (مزدك) الذي ظهر في زمن قباذ بين سنة 487 وسنة 523م، وهي نحلة قريبة من (المانوية)، وهي آخر نحلة ظهرت في تطور المجوسية قبل الفتح الإسلامي لبلاد الفرس.(1/4)
وللمجوسية شبه في الأصل بالإشراك إلا أنها تخالفه بمنع عبادة الأحجار، وبأن لها كتاباً، فأشبهوا بذلك أهل الكتاب؛ ولذلك قال النبي"فيهم: =سنوا بهم سنة أهل الكتاب+.
أي في الاكتفاء بأخذ الجزية منهم دون الإكراه على الإسلام كما يكره المشركون على الدخول في الإسلام. 17/223_224
8_ والتفث: كلمة وقعت في القرآن، وتردد المفسرون في المراد منها، واضطرب علماء اللغة في معناها لعلهم لم يعثروا عليها في كلام العرب المحتج به.
قال الزجاج: إن أهل اللغة لا يعلمون التفث إلا من التفسير، أي من أقوال المفسرين، فعن ابن عمر وابن عباس: التفث: مناسك الحج وأفعاله كلها، قال ابن العربي: =لو صح عنهما لكان حجة الإحاطة باللغة+.
قلت: رواه الطبري عنهما بأسانيد مقبولة، ونسبه الجصاص إلى سعيد، وقال نفطويه وقطرب: التفث: هو الوسخ والدرن، ورواه ابن وهب عن مالك ابن أنس، واختاره أبو بكر بن العربي، وأنشد قطرب لأمية بن أبي الصلت:
حفوا رؤوسهم لم يحلقوا تفثاً ... ولم يسلوا لهم قملاً وصئبانا
ويحتمل أن البيت مصنوع؛ لأن أئمة اللغة قالوا: لم يجئ في معنى التفث شعر يحتج به.
قال نفطويه: سألت أعرابياً: ما معنى قوله: [ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ]، فقال: ما أفسر القرآن، ولكن نقول للرجل ما أتفثك، أي ما أدرنك.
وعن أبي عبيده: التفث: قص الأظفار، والأخذ من الشارب، وكل ما يحرم على المحرم، ومثله قوله عكرمة ومجاهد، وربما زاد مجاهد مع ذلك: رمي الجمار.
وعن صاحب العين والفراء والزجاج: التفث الرمي، والذبح، والحلق، وقص الأظفار والشارب وشعر الإبط.
وهو قول الحسن، ونسب إلى مالك بن أنس _أيضاً_.(1/5)
وعندي: أن فعل [لِيَقْضُوا] ينادي على أن التفث عمل من أعمال الحج وليس وسخاً ولا ظفراً ولا شعراً، ويؤيده ما روي عن ابن عمر وابن عباس آنفاً، وأن موقع (ثم) في عطف جملة الأمر على ما قبلها ينادي على معنى التراخي الرتبي، فيقتضي أن المعطوف بـ:(ثم) أهم مما ذكر قبلها؛ فإن أعمال الحج هي المهم في الإتيان إلى مكة؛ فلا جرم أن التفث هو مناسك الحج، وهذا الذي درج عليه الحريري في قوله في المقامة المكية: =فلما قضيت بعون الله التفث، واستبحت الطيب والرفث _ صادف موسم الخيف معمعان الصيف+. 17/248_249
9_ الشعائر: جمع شعيرة: المعلم الواضح مشتقة من الشعور.
وشعائر الله: لَقَبٌ لمناسك الحج، جمع شعيرة بمعنى: مشعرة بصيغة اسم الفاعل أي معلمة بما عَيَّنَهُ الله.
فمضمون جملة: [وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ] الخ، أخص من مضمون جملة: [وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ] وذكر الأخص بعد الأعم للاهتمام، أو بمعنى مشعر بها؛ فتكون شعيرة فعيلة بمعنى مفعولة؛ لأنها تُجْعَل؛ ليشعر بها الرائي.
وتقدم ذكرها في قوله _تعالى_: [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ] في سورة البقرة، فكل ما أمر الله به بزيارته، أو بفعل يوقع فيه فهو من شعائر الله، أي مما أشعر الله الناس وقرره، وشَهَره، وهي معالم الحج: الكعبة، والصفا والمروة، وعرفة، والمشعر الحرام، ونحوها من معالم الحج.
وتطلق الشعيرة _أيضاً_ على بدنة الهدي، قال _تعالى_: [وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ] لأنهم يجعلون فيها شعاراً، والشعار العلامة بأن يطعنوا في جلد جانبها الأيمن طعناً حتى يسيل منه الدم فتكون علامة على أنها نُذِرَتْ للهدي؛ فهي فعيلة بمعنى مفعولة مصوغة من أشعر على غير قياس. 17/256
10_ والقانع: المتصف بالقنوع، وهو التذلل، يقال: قَنَعَ من باب سأل، قُنُوعاً _ بضم القاف _ إذا سأل بتذلل.(1/6)
وأما القناعة ففعلها من باب تَعِبَ، ويستوي الفعل المضارع مع اختلاف الموجب، ومن أحسن ما جُمِع من النظائر ما أنشده الخفاجي:
العَبْدُ حُرٌّ إن قَنِع ... والحر عبد إن قَنَع
فاقنَع ولا تقنَع فما ... شيء يشين سوى الطمع
وللزمخشري في مقاماته: =يا أبا القاسم اقنع من القناعة لا من القُنوع، تستغن عن كل معطاء ومنوع+.
وفي الموطأ في كتاب الصيد: =قال مالك: والقانع هو الفقير+.
والمعترّ: اسم فاعل من اعتر إذا تعرض للعطاء، أي دون سؤال، بل بالتعريض وهو أن يحضر موضع العطاء، يقال: اعتر، إذا تعرض.
وفي الموطأ في كتاب الصيد: قال مالك: =وسمعت أن المعتر هو الزائر، أي فتكون من عرا إذا زار+.
والمراد زيارة التعرض للعطاء.
وهذا التفسير أحسن، ويرجحه أنه عطف (المعتر) على (القانع) فدل العطف على المغايرة، ولو كانا في معنى واحد لما عطف عليه كما لم يعطف في قوله: [وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ]. 17/265_266
11_ وقد عرض غير مرة سؤال عما إذا كانت الهدايا أوفر من حاجة أهل الموسم قطعاً أو ظناً قريباً من القطع كما شوهد ذلك في مواسم الحج، فما يبقى منها حياً يباع وينفق ثمنه في سد خَلَّة المحاويج أجدى من نحره أو ذبحه حين لا يرغب فيه أحد.
ولو كانت اللحوم التي فات أن قطّعت، وكانت فاضلة عن حاجة المحاويج يعمل تصبيرها بما يمنع عنها التعفن فينتفع بها في خلال العام أجدى للمحاويج.
وقد تَرَدَّدَتْ في الجواب عن ذلك أنظارُ المتصدين للإفتاء من فقهاء هذا العصر، وكادوا أن تتفق كلماتُ مَنْ صدرت منهم فتاوى على أن تصبيرها منافٍ للتعبد بهديها.(1/7)
أما أنا فالذي أراه أن المصير إلى كلا الحالين من البيع والتصبير لما فضل عن حاجة الناس في أيام الحج؛ لينتفع بها المحتاجون في عامهم _ أوفق بمقصد الشارع؛ تجنباً لإضاعة ما فضل منها؛ رعياً لمقصد الشريعة من نفع المحتاج، وحفظ الأموال مع عدم تعطيل النحر والذبح للقدر المحتاج إليه منها المشار إليه بقوله _تعالى_: [فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ] وقوله: [كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ] جمعاً بين المقاصد الشرعية.
وتَعْرِضُ صورة أخرى وهي توزيع المقادير الكافية للانتفاع بها على أيام النحر الثلاثة بحيث لا يتعجل بنحر جميع الهدايا في اليوم الأول؛ طلباً لفضيلة المبادرة؛ فإن التقوى التي تصل إلى الله من تلك الهدايا هي تسليمها للنفع بها.
وهذا قياس على أصل حفظ الأموال كما فرضوه في بيع الفرس الحُبْس إذا أصابه ما يفضي به إلى الهلاك أو عدم النفع، وفي المعاوضة لربع الحبس إذا خرب. 17/268_269
12_ وحكم الهدايا مركب من تعبد وتعليل، ومعنى التعليل فيه أقوى، وعلته انتفاع المسلمين، ومسلكُ العلةِ الإيماءُ الذي في قوله _تعالى_: [فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ].
واعلم أن توهم التقرب بتلطيخ دماء القرابين وانتفاع المتقرب إليه بتلك الدماء_ عقيدة وثنية قديمة؛ فربما كانوا يطرحون ما يتقربون به من لحم وطعام؛ فلا يدعون أحداً يأكله، وكان اليونان يشوون لحوم القرابين على النار حتى تصير رماداً ويتوهمون أن رائحة الشواء تسر الآلهةَ المُتَقَرَّبَ إليها بالقرابين.
وكان المصريون يلقون الطعام للتماسيح التي في النيل؛ لأنها مقدسة. 17/269(1/8)
13_ والصوامع: جمع صومعة بوزن فَوْعلة، وهي بناء مستطيل مرتفع يصعد إليه بدرج وبأعلاه بيت، كان الرهبان يتخذونه للعبادة؛ ليكونوا بعداء عن مشاغلة الناس إياهم، وكانوا يوقدون به مصابيح للإعانة على السهر للعبادة؛ ولإضاءة الطريق للمارين؛ من أجل ذلك سميت الصومعة المنارة، قال امرؤ القيس:
تضيءُ الظلامَ بالعشي كأنها ... منارة مُمْسى راهبٍ متبتل
والبِيَعُ: جمع بِيْعة _ بكسر الباء وسكون التحتية _ مكان عبادة النصارى، ولا يعرف أصل اشتقاقها، ولعلها معربة عن لغة أخرى.
والصلوات: جمع صلاة وهي هنا مراد بها كنائسُ اليهود معربة عن كلمة (صلوثا) _بالمثلثة في آخره بعدها ألف_ فلما عربت جعلوا مكان المثلثة مثناة فوقية وجمعوها كذلك.
وعن مجاهد، والجحدري، وأبي العالية، وأبي رجاء أنهم قرأوها هنا [وَصَلَوَاث] بمثلثة في آخره.
وقال ابن عطيه: قرأ عكرمة، ومجاهد [صلويثا] _بكسر الصاد وسكون اللام وكسر الواو وقصر الألف بعد الثاء_ (أي المثلثة كما قال القرطبي).
وهذه المادة قد فاتت أهل اللغة، وهي غفلة عجيبة.
والمساجد: اسم لمحل السجود من كل موضع عبادة ليس من الأنواع الثلاثة المذكورة قبله وقت نزول هذه الآية؛ فتكون الآية نزلت في ابتداء هجرة المسلمين إلى المدينة حين بنوا مسجد قباء، ومسجد المدينة. 17/277_278
14_ والمراد بالمعروف: ما هو مقرر من شؤون الدين: إما بكونه معروفاً للأمة كلها: وهو ما يعلم من الدين بالضرورة فيستوي في العلم بكونه من الدين سائر الأمة، وإما بكونه معروفاً لطائفة منهم وهو دقائق الأحكام، فيأمر به الذين من شأنهم أن يعلموه وهم العلماء على تفوت مراتب العلم ومرتب(1) علمائه.
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: ومراتب. (م)(1/9)
والمنكر: ما شأنه أن ينكر في الدين، أي أن لا يُرضى بأنه من الدين، وذلك كل عمل يدخل في أمور الأمة والشريعة وهو مخالف لها؛ فعلم أن المقصود بالمنكر الأعمال التي يراد إدخالها في شريعة المسلمين وهي مخالفة لها، فلا يدخل في ذلك ما يفعله الناس في شؤون عاداتهم مما هو في منطقة المباح، ولا ما يفعلون في شؤون دينهم مما هو من نوع الديانات كالأعمال المندرجة تحت كليات دينية، والأعمال المشروعة بطريق القياس وقواعد الشريعة من مجالات الاجتهاد والتفقه في الدين.
والنهي عن المنكر آيل إلى الأمر بالمعروف وكذلك الأمر بالمعروف آيل إلى النهي عن المنكر، وإنما جمعت الآية بينهما باعتبار أول ما تتوجه إليه نفوس الناس عن مشاهدة الأعمال، ولتكون معروفة دليلاً على إنكار المنكر، وبالعكس؛ إذ بضدها تتمايز الأشياء، ولم يزل من طرق النظر والحجاج الاستدلال بالنقائض والعكوس. 17/281
15_ والإملاء: ترك المتلبس بالعصيان دون تعجيل عقوبته، وتأخيرها إلى وقت متأخر حتى يحسب أنه قد نجا، ثم يؤخذ بالعقوبة. 17/284
16_ والتمني: كلمة مشهورة، وحقيقتها: طلب الشيء العسير حصوله.
والأُمْنِيَّة: الشيء المتمنى، وإنما يتمنى الرسل والأنبياء أن يكون قومهم كلهم صالحين مهتدين. 17/297_298
17_ ومعنى إلقاء الشيطان في أمنية النبي والرسول إلقاء ما يضادها، كمن يمكر فيلقي السم في الدسم؛ فإلقاء الشيطان بوسوسته: أن يأمر الناس بالتكذيب والعصيان، ويلقي في قلوب أئمة الكفر مطاعن يبثونها في قومهم، ويروج الشبهات بإلقاء الشكوك التي تصرف نظر العقل عن تذكر البرهان.
والله _تعالى_ يعيد الإرشاد ويكرر الهدي على لسان النبي، ويفضح وساوس الشيطان وسوء فعله بالبيان الواضح. 17/298_299
18_ وقد فسر كثير من المفسرين [تَمَنَّى] بمعنى قرأ، وتبعهم أصحاب كتب اللغة وذكروا بيتاً نسبوه إلى حسان بن ثابت، وذكروا قصة بروايات ضعيفة سنذكرها.(1/10)
وأيَّاماً كان فالقول فيه هو والقول في تفسير التمني بالمعنى المشهور سواء، أي إذا قرأ على الناس ما أنزل إليه؛ ليهتدوا به ألقى الشيطان في أمنيته، أي في قراءته، أي وسوس لهم في نفوسهم ما يناقضه وينافيه بوسوسته للناس التكذيب والإعراض عن التدبر؛ فَشَبَّهَ تسويلَ الشيطان بوسوسته للكافرين عدم امتثال النبي بإلقاء شيء في شيء؛ لِخَلْطه وإفساده.
وعندي في صحة إطلاق لفظ الأُمْنِيَّة على القراءة شك عظيم؛ فإنه وإن كان قد ورد تمنّى بمعنى قرأ في بيت نسب إلى حسان بن ثابت إن صحت رواية البيت عن حسان على اختلاف في مصراعه الأخير:
تمنى كتاب الله أول ليله ... تمني داود الزبور على مهل
فلا أظن أن القراءة يقال لها أمنية.
ويجوز أن يكون المعنى أن النبي إذا تمنى هَدْي قومه، أو حرص على ذلك فلقي منهم العناد، وتمنى حصول هداهم بكل وسيلة ألقى الشيطان في نفس النبي خاطر اليأس من هداهم عسى أن يقصر النبي من حرصه أو أن يضجره.
وهي خواطر تلوح في النفس، ولكن العصمة تعترضها؛ فلا يلبث ذلك الخاطر أن ينقشع ويرسخ في نفس الرسول ما كُلّف به من الدأب على الدعوة، والحرص على الرشد؛ فيكون معنى الآية على هذا الوجه مُلَوِّحاً إلى قوله _تعالى_: [وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ].
و[ثُمَّ] في قوله: [ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ] للترتيب الرتبي؛ لأن إحكام الآيات وتقريرها أهم من نسخ ما يلقي الشيطان؛ إذ بالإحكام يتضح الهدى، ويزداد ما يلقيه الشيطان نسخاً.
وجملة: [وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] معترضة.(1/11)
ومعنى هذه الآية: أن الأنبياء والرسل يرجون اهتداء قومهم ما استطاعوا فيبلغونهم ما ينزل إليهم من الله، ويعظونهم، ويدعونهم بالحجة والمجادلة الحسنة حتى يظنوا أن أمنيتهم قد نجحت، ويقترب القوم من الإيمان، كما حكى الله عن المشركين قولهم: [أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا].
فيأتي الشيطان، فلا يزال يوسوس في نفوس الكفار، فينكصون على أعقابهم، وتلك الوساوس ضروبٌ شتى من تذكيرهم بحب آلهتهم، ومن تخويفهم بسوء عاقبة نبذ دينهم، ونحو ذلك من ضروب الضلالات التي حكيت عنهم في تفاصيل القرآن، فيتمسك أهل الضلالة بدينهم، ويصدون عن دعوة رسلهم، وذلك هو الصبر الذي في قوله: [لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا] وقوله: [وَانطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ].
وكلما أفسد الشيطان دعوة الرسل أمر الله رُسُلَه فعاودوا الإرشاد وكرروه وهو سبب تكرر مواعظ متماثلة في القرآن؛ فبتلك المعاودة ينسخ ما ألقاه الشيطان، وتثبت الآيات السالفة.
فالنسخ: الإزالة، والإحكام: التثبيت، وفي كلتا الجملتين حذف مضاف، أي ينسخ آثار ما يلقي الشيطان، ويحكم آثار آياته. 17/299_301
19_ وبما تلقيتَ في تفسير هذه الآية من الانتظام البين الواضح المستقل بدلالته والمستغني بنهله عن علالته، والسالم من التكلفات والاحتياج إلى ضميمة القصص _ ترى أن الآية بمعزل عما ألصقه بها الملصقون والضعفاء في علوم السنة، وتلقَّاه منهم فريق من المفسرين، حباً في غرائب النوادر دون تأمل ولا تمحيص من أن الآية نزلت في قصة تتعلق بسورة النجم؛ فلم يكتفوا بما أفسدوا من معنى هذه الآية حتى تجاوزوا بهذا الإلصاق إلى إفساد معاني سورة النجم؛ فذكروا في ذلك روايات عن سعيد بن جبير، وابن شهاب، ومحمد بن كعب القرطبي، وأبي العالية، والضحاك.(1/12)
وأقربها رواية عن ابن شهاب وابن جبير والضحاك قالوا: إن النبي "جلس في نادٍ من أندية قريش كثيرٍ أهله من مسلمين وكافرين، فقرأ عليهم سورة النجم فلما بلغ قوله: [أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى] ألقى الشيطان بين السامعين عقب ذلك قوله: =تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى+ ففرح المشركون بأن ذكر آلهتهم بخير.
وكان في آخر تلك السورة سجدة من سجود التلاوة؛ فلما سجد في آخر السورة سجد كل من حضر من المسلمين والمشركين، وتسامع الناس بأن قريشاً أسلموا حتى شاع ذلك ببلاد الحبشة؛ فرجع من مهاجرة الحبشة نفر منهم عثمان ابن عفان إلى المدينة، وأن النبي"لم يشعر بأن الشيطان ألقى في القوم؛ فأعلمه جبريل _ عليه السلام _ فاغتم لذلك فنزل قوله _تعالى_: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ] الآية تسلية له.
وهي قصة يجدها السامع ضغثاً على إبالة(1)ولا يلقي إليها النِّحرير باله.
وما رويت إلا بأسانيد واهية، ومنتهاها إلى ذكر قصة، وليس في أحد أسانيدها سماع صحابي لشيء في مجلس النبي"وسندها إلى ابن عباس سند مطعون.
__________
(1) _ هذا مثل معروف عند العرب، ومعناه: بلية على أخرى كانت قبلها.
يقولون: =ضِغْثٌ على إبَّالة+.
ومعنى الإبالة: الحزمة من الحطب، ويروى: إبَالة مخففاً، ويروى: إببالة.
ومعنى الضغث: قبضة من حشيش مختلطةُ الرطب باليابس. (م)(1/13)
على أن ابن عباس يوم نزلت سورة النجم كان لا يحضر مجالس النبي"وهي أخبار آحاد تعارض أصول الدين؛ لأنها تخالف أصل عصمة الرسول"لا التباس عليه في تلقي الوحي؛ ويكفي تكذيباً لها قوله _تعالى_: [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى] وفي معرفة المَلَكِ؛ فلو رووها الثقات لوجب رفضها، وتأويلها؛ فكيف وهي ضعيفة واهية، وكيف يروج على ذي مُسْكَةٍ من عقل أن يجتمع في كلام واحد تسفيه المشركين في عبادتهم الأصنام بقوله _تعالى_: [أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى] إلى قوله: [مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ].
فيقع في خلال ذلك مدحها بأنها (الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى)؟
وهل هذا إلا كلام يلعن بعضه بعضاً؟!
وقد اتفق الحاكون أن النبي"قرأ سورة النجم كلها حتى خاتمتها: [فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا].
لأنهم إنما سجدوا حين سجد المسلمون؛ فدل على أنهم سمعوا السورة كلها.
وما بين آية: [أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى] وبين آخر السورة آيات كثيرة في إبطال الأصنام وغيرها من معبودات المشركين، وتزييف كثير لعقائد المشركين؛ فكيف يصح أن المشركين سجدوا من أجل الثناء على آلهتهم؛ فإن لم تكن تلك الأخبار مكذوبة من أصلها فإن تأويلها: أن بعض المشركين وجدوا ذكر اللات والعزى فرصة للدَّخَل لاختلاق كلمات في مدحهن، وهي هذه الكلمات، وروجوها بين الناس؛ تأنيساً لأوليائهم من المشركين، وإلقاءً للريب في قلوب ضعفاء الإيمان. 17/303_305
20_ والخطاب بـ:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ] للمشركين؛ لأنهم المقصود بالرد والزجر وبقرينة قوله: [إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ] على قراءة الجمهور [تَدْعُونَ] بتاء الخطاب.
فالمراد بـ:[النَّاسُ] هنا المشركون على ما هو المصطلح الغالب في القرآن.
ويجوز أن يكون المراد بـ:[النَّاسُ] جميع الناس من مسلمين ومشركين.
وفي افتتاح السورة بـ:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ] وتنهيتها بمثل ذلك شَبَهٌ برد العجز على الصدر.(1/14)
ومما يزيده حسناً أن يكون العجز جامعاً لما في الصدر وما بعده، حتى يكون كالنتيجة للاستدلال، والخلاصة للخطبة، والحوصلة للدرس. 17/337_338
21_ وفسر صاحب الكشاف المثل هنا بالصفة الغريبة؛ تشبيهاً لها ببعض الأمثال السائرة، وهو تفسير بما لا نظير له ولا استعمال يعضده؛ اقتصاداً منه في الغوص عن المعنى لا ضعفاً عن استخراج حقيقة المثل فيها، وهو جذيعها(1) المحكك.
وعذيقها المرجب، ولكن أحسبه صادف منه وقت سرعة في التفسير أو شغلا بأمر خطير، وكم ترك الأول للأخير. 17/340
1_ ويقال (سورة المؤمنون).
فالأول: على اعتبار إضافة السورة إلى المؤمنين؛ لافتتاحها بالإخبار عنهم بأنهم أفلحوا.
ووردت تسميتها بمثل هذا فيما رواه النسائي: =عن عبدالله بن السائب قال: حضرت رسول الله يوم الفتح، فصلى في قِبل الكعبة، فخلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فافتتح سورة المؤمنين، فلما جاء ذكر موسى أو عيسى أخذته سَعْلة فركع+.
والثاني: على حكاية لفظ [الْمُؤْمِنُونَ] الواقع أولها في قوله _تعالى_: [قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ] فجعل ذلك اللفظ تعريفاً للسورة.
وقد وردت تسمية هذه السورة (سورة المؤمنين) في السُّنة، روى أبو داود: عن عبد الله بن السائب قال: =صلى بنا رسول الله الصبح بمكة، فاستفتح سورة المؤمنين حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون، أو ذكر موسى وعيسى أخذت النبي سَعْلة، فحذف، فركع+.
ومما جرى على الألسنة أن يسموها سورة (قد أفلح).
__________
(1) _ هكذا في الأصل، والذي في لسان العرب 1/412، و11/106_107: =أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب+.
وهذه الكلمة قالها الحباب بن المنذر، ومعناها: أنني قد جربتني الأمور، ولي رأي وعلم يشتفى بهما. (م)(1/15)
ووقع ذلك في كتاب الجامع من العتبية في سماع ابن القاسم، قال ابن القاسم: =أخرج لنا مالك مصحفاً لجده، فتحدثنا أنه كتبه على عهد عثمان بن عفان وغاشيته من كسوة الكعبة فوجدنا..+ إلى أن قال: =وفي قد أفلح كلها الثلاث لله+ أي خلافاً لقراءة: [سَيَقُولُونَ اللَّهُ] ويسمونها _أيضاً_ سورة الفلاح.
وهي مكية بالاتفاق، ولا اعتداد بتوقف من توقف في ذلك بأن الآية التي ذكرت فيها الزكاة وهي قوله: [وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ] تُعيِّن أنها مدنية؛ لأن الزكاة فرضت في المدينة؛ فالزكاة المذكورة فيها هي الصدقة لا زكاة النُّصب المعيّنة في الأموال، وإطلاق الزكاة على الصدقة مشهور في القرآن، قال _تعالى_: [وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ].
وهي من سورة مكية بالاتفاق، وقال [وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ].
ولم تكن زكاة النصب مشروعة في زمن إسماعيل.
وهي السورة السادسة والسبعون في عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة (الطُّور) وقبل سورة (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ).
وآياتها مائة وسبع عشرة في عدِّ الجمهور، وعدَّها أهل الكوفة مائة وثمان عشرة، فالجمهور عدوا [أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] آية، وأهل الكوفة عدوا [أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ] آية وما بعدها آية أخرى، كما يؤخذ من كلام أبي بكر ابن العربي في العارضة في الحديث الذي سنذكره عقب تفسير قوله _تعالى_: [أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]. 18/6
2_ أغراض السورة: هذه السورةُ تدورُ آيُهَا حولَ مِحْورِ تحقيقِ الوحدانية، وإبطالِ الشرك، ونقضِ قواعده، والتنويهِ بالإيمان وشرائعه.(1/16)
فكان افتتاحُها بالبشارة للمؤمنين بالفلاح العظيم على ما تحلوا به من أصول الفضائلِ الروحية والعملية التي بها تزكيةُ النفس، واستقامةِ السلوكِ.
وأُعْقِبَ ذلك بوصف خَلْقِ الإنسانِ أصلهِ ونسلهِ الدالِ على تفرد الله _تعالى_ بالإلهية؛ لِتَفَرُّدِه بخلق الإنسان، ونشأتِه؛ لِيَبْتَدِئَ الناظرُ بالاعتبار في تكوين ذاته، ثم بعدَمه بعد الحياة، ودلالةِ ذلك الخلق على إثبات البعث بعد الممات، وأن اللهَ لم يَخْلَقُ الخلقَ سُدَىً ولعباً.
وانْتُقِلَ إلى الاعتبار بخلق السماوات، ودلالته على حكمة الله _تعالى_.
وإلى الاعتبارِ والامتنانِ بمصنوعات الله _تعالى_ التي أصلُها الماءُ الذي به حياة ما في هذا العالم من الحيوان والنبات، وما في ذلك من دقائقِ الصنع، وما في الأنعامِ من المنافع ومنها الحَمْلُ.
ومن تسخير المنافع للناس، وما أوتيه الإنسانُ من آلاتِ الفكرِ والنظرِ.
وَوَرَدَ ذِكْرُ الحَمْلِ على الفُلْك؛ فكان منه تَخَلُّصٌ إلى بعثةِ نوحٍ، وحدثِ الطوفان.
وانْتُقِلَ إلى التذكير ببعثة الرسل للهدى والإرشادِ إلى التوحيدِ والعملِ الصالحِ، وما تلقاها به أقوامُهم من الإعراض والطعنِ والتفرقِ، وما كان من عقاب المكذبين، وتلك أمثالٌ لموعظةِ المعرضين عن دعوة محمد " فَأُعْقِبَ ذلك بالثناء على الذين آمنوا واتقوا.
وبتنبيه المشركين على أن حالَهم مماثلٌ لأحوال الأمم الغابرة وكلمتهم واحدة؛ فهم عُرْضَةٌ لأن يَحُلَّ بهم ما حل بالأمم الماضية المكذبة.
وقد أراهم اللهُ مخائلَ العذابِ لعلهم يقلعون عن العناد، فأصروا على إشراكهم بما ألقى الشيطان في عقولهم.
وذُكِّروا بأنهم يُقِرُّون إذا سئلوا بأن الله مُفْرَدٌ بالربوبية، ولا يَجْرون على مقتضى إقرارهم أنهم سيندمون على الكفر عندما يحضرهم الموتُ وفي يوم القيامة.(1/17)
وبأنهم عرفوا الرسولَ، وخبروا صدقَه وأمانتَه ونُصْحَهُ المجردَ عن طلبِ المنفعة لنفسه إلا ثواب الله؛ فلا عذر لهم بحال في إشراكهم وتكذيبهم الرسالة، ولكنهم متبعون أهواءهم معرضون عن الحق.
وما تخلل ذلك من جوامع الكلم.
وخُتِمَتْ بأمر النبي"أن يغضَّ عن سوء معاملتهم، ويدفعها بالتي هي أحسن، ويسأل المغفرة للمؤمنين، وذلك هو الفلاح الذي ابتدئت به السورة. 18/6_7
3_ والرعي: مراقبة شيء بحفظه من التلاشي، وبإصلاح ما يفسد منه؛ فمنه رعي الماشية، ومنه رعي الناس، ومنه أطلقت المراعاة على ما يستحقه ذو الأخلاق الحميدة من حسن المعاملة، والقائم بالرعي راع.
فرعي الأمانة: حفظها، ولما كان الحفظ مقصوداً لأجل صاحبها كان ردها إليه أولى من حفظها.
ورعي العهد مجاز، أي ملاحظته عند كل مناسبة. 18/17
4_ [فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ].
وإنشاء الجنات من صنع الله _تعالى_ أول إنبات الجنات في الأرض ومن بعد ذلك أنبتت الجنات بغرس البشر، وذلك _ أيضاً _ من صنع الله بما أودع في العقول من معرفة الغرس، والزرع، والسقي، وتفجير المياه واجتلابها من بُعْد؛ فكل هذا الإنشاء من الله _تعالى_.
والجنة: المكان ذو الشجر، وأكثر إطلاقه على ما كان فيه نخل وكرم.
وقد تقدم عند قوله _تعالى_: [كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ] الآية في سورة البقرة.
وما ذكر هنا من أصناف الشجر الثلاثة هو أكرم الشجر، وأنفعه ثمراً وهو النخيل، والأعناب، والزيتون، وتقدم الكلام على النخيل والأعناب والزيتون في سورة الأنعام، وفي سورة النحل.
والفواكه: جمع فاكهة، وهي الطعام الذي يُتَفَكَّه بأكله، أي يتلذذ بطعمه من غير قصد القوت؛ فإن قُصد به القوت قيل له طعام.(1/18)
فمن الأطعمة ما هو فاكهة وطعام كالتمر، والعنب؛ لأنه يؤكل رطباً ويابساً، ومنها ما هو فاكهة وليس بطعام كاللوز والكمثرى، ومنها ما هو طعام غير فاكهة كالزيتون، ولذلك أَخَّر ذكر شجرة الزيتون عن ذكر أخويها؛ لأنه أريد الامتنان بما في ثمرتهما من التفكه والقوت؛ فتكون مِنَّةً بالحاجيِّ والتحسيني. 18/33
5_ فيظهر أن المعنى أن الله خلق أول شجر الزيتون في طور سيناء، وذلك أن الأجناس والأنواع الموجودة على الكرة الأرضية لابد لها من مواطن كان فيها ابتداء وجودها قبل وجودها في غيرها؛ لأن بعض الأمكنة تكون أسعد لنشأة بعض الموجودات من بعض آخر؛ لمناسبة بين طبيعة المكان وطبيعة الشيء الموجود فيه من حرارة أو برودة أو اعتدال، وكذلك فصول السنة كالربيع لبعض الحيوان والشتاء لبعض آخر، والصيف لبعض غيرها؛ فالله _تعالى_ يوجد الموجودات في الأحوال المناسبة لها؛ فالحيوان والنبات كله جار على هذا القانون.
ثم إن البشر إذا نَقَلوا حيواناً أو نباتاً من أرض إلى أرض، أو أرادوا الانتفاع به في فصل غير فصله، ورأوا عدم صلاحية المكان أو الزمان المنقول إليهما يحتالون له بما يكمل نقصه من تدفئة في شدة برد، أو تبريد بسبح في الماء في شدة الحر؛ حتى لا يتعطل تناسل ذلك المنقول إلى غير مكانه؛ فكما أن بعض الحيوان أو النبات لا يعيش طويلاً في بعض المناطق الملائمة لطباعه كالغزال في بلاد الثلوج فكذلك قد يكون بعض الأماكن من المنطقة الملائمة للحيوان أو النبات أصلح به من بعض جهات تلك المنطقة؛ فلعل جَوَّ طورِ سَيناءَ لتوسطه بين المناطق المتطرفة حراً وبرداً، ولتوسط ارتفاعه بين النجود والسهول _ يكون أسعدَ بطبع فصيلة الزيتون كما قال _تعالى_: [زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ].(1/19)
فالله _تعالى_ هيأ لتكوينها حين أراد تكوينها ذلك المكان، كما هيأ لتكوين آدم طينة خاصة فقال: [خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ] ثم يكون الزيتون قد نقل من أول مكان ظهر فيه إلى أمكنة أخرى نقله إليها ساكنوها؛ للانتفاع به، فنجح في بعضها، ولم ينجح في بعض.
وقد ثبت في التوراة أن شجرة الزيتون كانت موجودة قبل الطوفان وبعده؛ ففي الإصحاح الثامن من سفر التكوين: أن نوحاً أرسل حمامةً تبحث عن مكان غيضت عنه مياه الطوفان؛ فرجعت الحمامة عند المساء تحمل في منقارها ورقة زيتون خضراء، فعلم نوح أن الماء أخذ يغيض عن الأرض.
ومعلوم أن ابتداء غيض الماء إنما ينكشف عن أعالي الجبال أول الأمر؛ فلعل ورقة الزيتون التي حملتها الحمامة كانت من شجرة في طور سيناء.
وأيَّاً ما كان فقد عرف نوح ورقةَ الزيتون، فدل على أنهم كانوا يعرفون هذه الشجرة قبل الطوفان، ولكن لم يرد ذكر استعمال زيت الزيتون في طعام في التاريخ القديم إلا في عهد موسى _عليه السلام_ أيام كان بنو إسرائيل حول طور سيناء؛ فقد استعمل الزيت؛ لإنارة خيمة الاجتماع بوحي الله لموسى(1) وسكب موسى دهن المسحة على رأس هارون أخيه حين أقامه كاهناً لبني إسرائيل(2).
ويجوز أن يكون معنى [تَخْرُجُ] تظهر وتعرف؛ فيكون أول اهتداء الناس إلى منافع هذه الشجرة وانتقالهم إياها كان من الزيتون الذي بطور سيناء.
وهذا كما نسمي الديك الرومي في بلدنا بالديك الهندي؛ لأن الناس عرفوه من بلاد الهند، وكما تسمى بعض السيوف في بلاد العرب بالمشرفية؛ لأنها عرفت من مشارف الشام، وبعض الرماح الخطية؛ لأنها ترد إلى بلاد العرب من مرفأ يقال له: الخط، وبعض السيوف بالمهند؛ لأنه يجلب من الهند، وقد كان الزيت يجلب إلى بلاد العرب من الشام ومن فلسطين.
__________
(1) _ الإصحاح 25 من سفر الخروج.
(2) _ الإصحاح 9 من سفر الخروج.(1/20)
وأيَّاً ما كان فليس القصد من ذكر أنها تخرج من طور سيناء إلا التنبيه على أنه منبتها الأصلي، وإلا فإن الامتنان بها لم يكن موجهاً يومئذ لسكان طور سيناء.
وما كان هذا التنبيه إلا للتنويه بشرف منبتها، وكرم الموطن الذي ظهرت فيه.
ولم تزل شجرة الزيتون مشهورة بالبركة بين الناس، ورأيت في لسان العرب عن الأصمعي عن عبد الملك بن صالح: =أن كل زيتونة بفلسطين فهي من غرس أمم يقال لهم اليونانيون+.اهـ
والظاهر أنه يعني به زيتون زمانهم الذي أخلفوا به أشجاراً قديمة بادت.
وفي أساطير اليونان (ميثولوجيا) أن منيرفا ونبتون (الرَّبَّيْن في اعتقاد اليونان) تنازعا في تعيين أحدهما؛ ليضع اسماً لمدينة بناها (ككرابيس) فحكمت الأرباب بينهما بأن هذا الشرف لا يناله إلا من يصنع أنفع الأشياء؛ فأما (نبتون) فأوجد فرساً بحرياً عظيم القوة، وأما (مينيرفا) فصنعت شجرة الزيتون بثمرتها؛ فحكم الأرباب لها بأنها أحق؛ فلذلك وضعوا للمدينة اسم (اثينا) الذي هو اسم منيرفا.
وزعموا أن (هيركول) لما رجع من بعض غزواته جاء معه بأغصان من الزيتون، فغرسها في جبل (أولمبوس) وهو مسكن آلهتهم في زعمهم.
فقد كان زيت الزيتون مستعملاً عند اليونان من عهد (هوميروس) إذ ذكر في الإلياذة(1) أن (أخيل) سكب زيتاً على شلو (فطر قليوس) وشلو (هكتور).
وكان الزيت نادراً في معظم بلاد العرب؛ إذ كان يجلب إلى بلاد العرب من الشام. 18/35_37
6_ وجملة [هَيْهَاتَ] بيان لجملة [يَعِدُكُمْ] فلذلك فصلت، ولم تعطف.
و[هَيْهَاتَ] كلمة مبنية على فتح الآخر، وعلى كسره _أيضاً_.
وقرأها الجمهور بالفتح، وقرأها أبو جعفر بالكسر.
__________
(1) _ الإلياذة: قصيدة طويلة جداً، تشتمل على حكايات وأساطير، وتُنسب للشاعر اليوناني الضرير هوميروس، ويُنسب إليه _أيضاً_ الأوديَّة، وهي قريبة من الإلياذة. (م)(1/21)
وتدل على البعد، وأكثر ما تستعمل مكررة مرتين كما في هذه الآية أو ثلاثاً كما جاء في شعر لحميد الأرقط وجرير يأتيان.
واختلف فيها أهي فعل أم اسم؟
فجمهور النحاة ذهبوا إلى أن [هَيْهَاتَ] اسم فعل للماضي من البعد؛ فمعنى هيهات كذا: بَعُدَ؛ فيكون ما يلي [هَيْهَاتَ] فاعلاً.
وقيل هي اسم للبعد، أي فهي مصدر جامد وهو الذي اختاره الزجاج في تفسيره.
قال الراغب: وقال البعض: غلط الزجاج في تفسيره واستهواه اللام في قوله _تعالى_: [هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ].
وقيل: هيهات ظرف غير متصرف، وهو قول المبرد، ونسبه في لسان العرب إلى أبي علي الفارسي، قال: =قال ابن جني: كان أبو علي يقول في هيهات: أنا أفتي مرة بكونها اسماً سمي به الفعل مثل صه ومه، وأفتي مرة بكونها ظرفاً على قدر ما يحضرني في الحال+.
وفيها لغات كثيرة، وأفصحها أنها بهاءين وتاء مفتوحة فتحةَ بناءٍ، وأن تاءها تثبت في الوقف، وقيل: يوقف عليها هاءً، وأنها لا تنون تنوين تنكير.
وقد ورد ما بعد [هَيْهَاتَ] مجروراً باللام كما في هذه الآية، وورد مرفوعاً كما في قول جرير:
فهيهات هيهات العقيقُ وأهلُه ... وهيهات خلٌّ بالعقيق نحاوله
وورد مجروراً بـ:(من) في قول حميد الأرقط:
هيهات من مصبحها هيهات ... هيهات حجر من صنيبعات
فالذي يتضح في استعمال [هَيْهَاتَ] أن الأصل فيما بعدها أن يكون مرفوعاً على تأويل [هَيْهَاتَ] بمعنى فعل ماض من البعد كما في بيت جرير.
وأن الأفصح أن يكون ما بعدها مجروراً باللام؛ فيكون على الاستغناء عن فاعل اسم الفعل للعلم به مما يسبق [هَيْهَاتَ] من الكلام؛ لأنها لا تقع غالباً إلا بعد كلام، وتجعل اللام للتبيين، أي إيضاح المراد من الفاعل، فيحصل بذلك إجمال، ثم تفصيل يفيد تقوية الخبر.
وهذه اللام ترجع إلى لام التعليل، وإذا ورد ما بعدها مجروراً بـ:(من) فـ:(من) بمعنى (عن) أي بَعُدَ عنه، أو بُعْدَاً عنه.(1/22)
على أنه يجوز أن تُؤَوَّل [هَيْهَاتَ] مرة بالفعل وهو الغالب، ومرة بالمصدر؛ فتكون اسم مصدر مبنياً جامداً غير مشتق، ويكون الإخبار بها كالإخبار بالمصدر، وهو الوجه الذي سلكه الزجاج في تفسير هذه الآية، ويشير كلام الزمخشري إلى اختياره. 18/54_55
7_ [قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87)].
تكرير الأمر بالقول وإن كان المقول مختلفاً دون أن تعطف جملة [مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ] لأنها وقعت في سياق التعداد؛ فناسب أن يعاد الأمر بالقول دون الاستغناء بحرف العطف.
والمقصود وقوع هذه الأسئلة متتابعة؛ دفعاً لهم بالحجة، ولذلك لم تعد في السؤالين الثاني والثالث جملة [إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] اكتفاءً بالافتتاح بها.
وقرأ الجمهور [سَيَقُوْلُوْنَ لله] بلام جارة لاسم الجلالة على أنه حكاية لجوابهم المتوقع بمعناه لا بلفظه؛ لأنهم لما سئلوا بـ[مَنْ] التي هي للاستفهام عن تعيين ذات المستفهم عنه كان مقتضى الاستعمال أن يكون الجواب بذكر اسم ذات المسؤول عنه؛ فكان العدول عن ذلك إلى الجواب عن كون السماوات السبع والعرش مملوكة لله عدولاً إلى جانب المعنى دون اللفظ؛ مراعاة لكون المستفهم عنه لوحظ بوصف الربوبيةِ، والربوبيةُ تقتضي الملك، ونظير هذا الاستعمال ما أنشده القرطبي وصاحب المطلع(1):
إذا قيل: مَنْ رَبُّ المزالف والقرى ... وربُّ الجيادِ الجُرْدِ قلت: لخالد
ولم أقف على من سبقهما بذكر هذا البيت، ولعلهما أخذاه من تفسير الزجاج، ولم يعزواه إلى قائل، ولعل قائله حذا به حذو استعمال الآية.
__________
(1) _ (المطلع) تفسير للقرآن اسمه (مطلع المعاني ومنبع المباني) لحسام الدين محمد بن عثمان العليا بادي السمرقندي كان حيّاً سنة 628هـ.(1/23)
وأقول: إن الأجدر أن نبين وجه صوغ الآية بهذا الأسلوب؛ فأرى أن ذلك لقصد التعريض بأنهم يحترزون عن أن يقولوا: رب السماوات السبع الله؛ لأنهم أثبتوا مع الله أرباباً في السماوات؛ إذ عبدوا الملائكة، فهم عدلوا عما فيه نفي الربوبية عن معبوداتهم، واقتصروا على الإقرار بأن السماوات ملك لله؛ لأن ذلك لا يبطل أوهام شركهم من أصلها؛ ألا ترى أنهم يقولون في التلبية في الحج (لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك).
ففي حكاية جوابهم بهذا اللفظ تَوَرُّك عليهم؛ ولذلك ذيل حكاية جوابهم بالإنكار عليهم انتفاء اتقائهم الله _تعالى_.
وقرأه أبو عمرو ويعقوب [سَيَقُولُونَ اللَّه] بدون لام الجر وهو كذلك في مصحف البصرة وبذلك كان اسم الجلالة مرفوعاً على أنه خبر [مَنْ] في قوله: [مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ] والمعنى واحد.
ولم يؤت مع هذا الاستفهام بشرط [إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] ونحوه كما جاء في سابقه؛ لأن انفراد الله _تعالى_ بالربوية(1) في السماوات والعرش لا يشك فيه المشركون؛ لأنهم لم يزعموا إلهية أصنامهم في السماوات والعوالم العلوية.
وخص وعظهم عَقِبَ جوابهم بالحث على تقوى الله؛ لأنه لما تبين من الآية التي قبلها أنهم لا يسعهم إلا الاعتراف بأن الله مالك الأرض ومن فيها، وعقبت تلك الآية بحظهم على التذكر؛ ليظهر لهم أنهم عباد الله لا عباد الأصنام.
وتبين من هذه الآية أنه رب السماوات وهي أعظم من الأرض، وأنهم لا يسعهم إلا الاعتراف بذلك ناسب حثَّهم على تقواه؛ لأنه يستحق الطاعة له وحده، وأن يطيعوا رسوله؛ فإن التقوى تتضمن طاعة ما جاء به الرسول".
وحذف مفعول [تَتَّقُونَ] لتنزيل الفعل منزلة القاصر؛ لأنه دال على معنى خاص وهو التقوى الشاملة لامتثال المأمورات واجتناب المنهيات. 18/109_111
__________
(1) _ هكذا في الأصل، والصواب: الربوبية. (م)(1/24)
1_ سميت هذه السورة (سورة النور) من عهد النبي"، روي عن مجاهد قال رسول الله: =علموا نساءكم سورة النور+.
ولم أقف على إسناده، وعن حارثة بن مضر: =كتب إلينا عمر بن الخطاب أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور+.
وهذه تسميتها في المصاحف وكتب التفسير والسنة، ولا يعرف لها اسم آخر، ووجه التسمية أن فيها آية: [اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ].
وهي مدنية باتفاق أهل العلم، ولا يعرف مخالف في ذلك، وقد وقع في نسخ تفسير القرطبي عند قوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ] الآيةَ، في المسألة الرابعة كلمة (وهي مكية) يعني الآية؛ فنسب الخفاجي في حاشيته على تفسير البيضاوي، وتبعه الآلوسي _ إلى القرطبي أن تلك الآية مكية مع أن سبب نزولها الذي ذكره القرطبي صريح في أنها نزلت بالمدينة؛ كيف وقد قال القرطبي في أول هذه السورة: =مدنية بالإجماع+؟
ولعل تحريفاً طرأ على النسخ من تفسير القرطبي، وأن صواب الكلمة =وهي محكمة+ أي غير منسوخ حكمها؛ فقد وقعت هذه العبارة في تفسير ابن عطية قال =وهي محكمة+.
قال ابن عباس: =تركها الناس+. 18/139
2_ وقد عدت هذه السورة المائة في ترتيب نزول سور القرآن عند جابر بن زيد عن ابن عباس قال: =نزلت بعد سورة [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ] وقبل سورة الحج+ أي عند القائلين بأن سورة الحج مدنية.
وآيها اثنتان وستون في عد المدينة ومكة، وأربع وستون في عد البقية. 18/140
3_ شملت من الأغراض كثيراً من أحكامِ معاشرةِ الرجالِ للنساء، ومن آدابِ الخُلْطَةِ والزيارةِ.
وأولُ ما نزلت بسببه قضيةُ التزوجِ بامرأة اشتهرت بالزنى، وصُدِّر ذلك ببيان حدِّ الزنى، وعقابِ الذين يقذفون المحصناتِ، وحُكْمِ اللِّعَانِ، والتعرضِ إلى براءة عائشة _رضي الله عنها_ مما أرجفه عليها أهل النفاق، وعقابِهم، والذين شاركوهم في التحدثِ به.(1/25)
والزجرُ عن حبِّ إشاعةِ الفواحشِ بين المؤمنين والمؤمنات، والأمرُ بالصفح عن الأذى مع الإشارة إلى قضية مِسْطَحِ بنِ أُثاثة.
وأحكامُ الاستئذانِ في الدخول إلى بيوت الناس المسكونةِ, ودخول البيوت غير المسكونة، وآدابُ المسلمين والمسلمات في المخالطة، وإفشاء السلام.
والتحريضُ على تزويج العبيد والإماء، والتحريضُ على مكاتبتهم، أي إعتاقهم على عوضٍ يدفعونه لمالكيهم.
وتحريمُ البغاءِ الذي كان شائعاً في الجاهلية، والأمرُ بالعفاف.
وذمُّ أحوال أهل النفاق، والإشارةُ إلى سوء طويتهم مع النبي".
والتحذيرُ مِنَ الوقوع في حبائل الشيطان.
وضَرْبُ المثلِ لهدي الإيمان، وضلالِ الكفر.
والتنويهُ ببيوت العبادة والقائمين فيها.
وتخلَّل ذلك وصفُ عظمةِ الله _تعالى_ وبدائعِ مصنوعاته، وما فيها من منن على الناس.
وقد أردف ذلك بوصف ما أعده الله للمؤمنين، وأن الله عَلِمَ بما يضمره كلُّ أحدٍ، وأن المرجعَ إليه، والجزاءَ بيده. 18/140_141
4_ ولما سمع النبي"قول سعد بن عبادة عند نزول آية القذف السالفة قال: =أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني+.
يعني أنها غيرةٌ غيرُ معتدلة الآثار؛ لأنه جعل من آثارها أن يقتل من يجده مع امرأته، والله ورسوله لما يأذنا بذلك؛ فإن الله ورسوله أغيرُ من سعد، ولم يجعلا للزوج الذي يرى زوجته تزني أن يقتل الزاني، ولا المرأة. 18/163
5_ وأما قوله: [وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ] فَوَجْهُ ذِكْرِ [بِأَفْوَاهِكُم] مع أن القول لا يكون بغير الأفواه _ أنه أريد التمهيد لقوله: [مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ].
أي هو قول غير موافق لما في العلم، ولكنه عن مجرد تصور؛ لأن أدلة العلم قائمة بنقيض مدلول هذا القول، فصار الكلام مجرد ألفاظ تجري على الأفواه.(1/26)
وفي هذا من الأدب الأخلاقي أن المرء لا يقول بلسانه إلا ما يعلمه، ويتحققه، وإلا فهو أحد رجلين: أَفِنُ الرأي يقول الشيء قبل أن يتبين له الأمر؛ فيوشك أن يقول الكذب، فيحسبه الناس كذاباً، وفي الحديث: بـ=حسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع+.
أو رجلٍ مُمَوِّهٍ مُراءٍ يقول ما يعتقد خلافه، قال _تعالى_: [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ] وقال: [كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ]. 18/178
6_ [إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(19)].
ومن أدب هذه الآية أن شأن المؤمن أن لا يحب لإخوانه المؤمنين إلا ما يحب لنفسه؛ فكما أنه لا يحب أن يشيع عن نفسه خَبَرَ سوءٍ كذلك عليه أن لا يحب إشاعة السوء عن إخوانه المؤمنين.
ولشيوع أخبار الفواحش بين المؤمنين بالصدق أو الكذب مفسدة أخلاقية؛ فإن مما يزع الناس عن المفاسد تهيبهم وقوعها، وتجهمهم، وكراهتهم سوء سمعتها؛ وذلك مما يصرف تفكيرهم عن تذكرها بَلْهَ الإقدام عليها رويداً رويداً حتى تنسى، وتنمحي صورها من النفوس؛ فإذا انتشر بين الأمة الحديث بوقوع شيء من الفواحش تَذَكَّرَتْهَا الخواطر، وخفَّ وقعُ خبرها على الأسماع؛ فدب بذلك إلى النفوس التهاونُ بوقوعها، وخفةُ وقعها على الأسماع؛ فلا تلبث النفوس الخبيثة أن تقدم على اقترافها، وبمقدار تكرر وقوعها، وتكرر الحديث عنها تصير متداولة.
هذا إلى ما في إشاعة الفاحشة من لحاق الأذى والضر بالناس ضُرَّاً متفاوتَ المقدار على تفاوت الأخبار في الصدق والكذب. 18/185(1/27)
7_ و[الأَيَامَى]: جمع أَيِّم _بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة_ بوزن فَيْعِل وهي المرأة التي لا زوج لها كانت ثيباً أم بكراً.
والشائع إطلاق الأيم على التي كانت ذات زوج ثم خلت عنه بفراق أو موته.
وأما إطلاقه على البكر التي لا زوج لها فغير شائع، فيحمل على أنه مجاز كثر استعماله.
والأيم في الأصل من أوصاف النساء قاله أبو عمرو والكسائي.
ولذلك لم تقترن به هاء التأنيث؛ فلا يقال: امرأة أيّمة.
وإطلاق الأيم على الرجل الخلي عن امرأة إما لمشاكلة، أو تشبيه.
وبعض أئمة اللغة كأبي عبيد والنَّضْر بن شميل يجعل الأيم مشتركاً للمرأة والرجل، وعليه درج في الكشاف والقاموس. 18/215
8_ و[الأَيَامَى]: صيغة عموم؛ لأنه جمع معرف باللام، فتشمل البغايا.
أمر أولياؤهن بتزويجهن؛ فكان هذا العموم ناسخاً لقوله _تعالى_: [وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ] فقد قال جمهور الفقهاء: إن هذه ناسخة للآية التي تقدمت، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، ونقل القول بأن التي قبلها محكمة عن غير معين، وزوج أبو بكر امرأة من رجل زنى بها لما شكاه أبوها. 18/216
9_ والمقصود: الأيامى الحرائر، خَصَّصه قوله بعده: [وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ].
وظاهر وصف العبيد والإماء بالصالحين أن المراد اتصافهم بالصلاح الديني، أي الأتقياء.
والمعنى: لا يحملكم تحقق صلاحهم على إهمال إنكاحهم؛ لأنكم آمنون من وقوعهم في الزنى، بل عليكم أن تزوجوهم؛ رفقاً بهم، ودفعاً لمشقة العنت عنهم.
فيفيد أنهم إن لم يكونوا صالحين كان تزويجهم آكد أمراً.
وهذا من دلالة الفحوى؛ فيشمل غير الصالحين غيرَ الأَعفّاء والعفائف من المماليك المسلمين، ويشمل المماليك غير المسلمين.
وبهذا التفسير تنقشع الحيرة التي عرضت للمفسرين في التقييد بهذا الوصف.(1/28)
وقيل: أريد بالصالحين الصلاح للتزوج بمعنى اللياقة لشؤون الزوج، أي إذا كانوا مظنة القيام بحقوق الزوجية. 18/216
10_ [مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ].
فالكلام تمثيل لهيئة إرشاد الله المؤمنين بهيئة المصباح الذي حفت به وسائل قوة الإشراق؛ فهو نور الله لا محالة.
وإنما أوثر تشبيهه بالمصباح الموصوف بما معه من الصفات دون أن يشبه نورُه بطلوع الشمس بعد ظلمة الليل؛ لقصد إكمال مشابهة الهيئة المشبه بها بأنها حالة ظهور نور يبدو في خلال ظلمة، فتنقشع به تلك الظلمة في مساحة يراد تنويرها، ودون أن يشبه بهيئة بزوغ القمر في خلال ظلمة الأفق؛ لقصد إكمال المشابهة، لأن القمر يبدو ويغيب في بعض الليلة بخلاف المصباح الموصوف.
وبعد هذا فلأن المقصودَ ذِكرُ ما حَفَّ بالمصباح من الأدوات؛ ليتسنى كمالُ التمثيل بقبوله تفريقَ التشبيهات _كما سيأتي_ وذلك لا يتأتى في القمر.
والمثل: تشبيه حال بحال، وقد تقدم في أوائل سورة البقرة فمعنى: [مَثَلُ نُورِهِ]: شبيه هديه حال مشكاة.. إلى آخره؛ فلا حاجة إلى تقدير: كنور مشكاة؛ لأن المشبه به هو المشكاة، وما يتبعها. 18/234_235
11_ والمشكاة: المعروف من كلام أهل اللغة أنها فرجة في الجدار، مثل الكُوَّة، لكنها غير نافذة؛ فإن كانت نافذة فهي الكوة.
ولا يوجد في كلام الموثوق عنهم من أهل العربية غير هذا المعنى، واقتصر عليه الراغب، وصاحب القاموس، والكشاف، واتفقوا على أنها كلمة حبشية أدخلها العرب في كلامهم؛ فعدت في الألفاظ الواقعة في القرآن بغير لغة العرب، ووقع ذلك في صحيح البخاري فيما فسره من مفردات سورة النور. 18/235(1/29)
12_ والمصباح: اسم للإناء الذي يوقد فيه بالزيت للإنارة، وهي من صيغ أسماء الآلات مثل المفتاح، وهو مشتق من اسم الصبح، أي ابتداء ضوء النهار؛ فالمصباح آلة الإصباح أي الإضاءة.
وإذا كان المشكاة اسماً للقصيبة التي توضع في جوف القنديل كان المصباح مراداً به الفتيلة التي توضع في تلك القصيبة. 18/236
13_ والزجاج: صنف من الطين المطيِّن من عجين رمل مخصوص يوجد في طبقة الأرض، وليس هو رمل الشطوط.
وهذا العجين اسمه في اصطلاح الكيمياء (سليكا) يخلط بأجزاء من رماد نبت يسمى في الكيمياء (صودا) ويسمى عند العرب الغاسول، وهو الذي يتخذون منه الصابون، ويضاف إليهما جزء من الكلس (الجير) ومن (البوتاس) أو من (أكسيد الرصاص) فيصير ذلك الطين رقيقاً ويدخل للنار فيصهر في أتون خاص به شديد الحرارة حتى يتميع، وتختلط أجزاؤه، ثم يخرج من الأتون قطعاً بقدر ما يريد الصانع أن يصنع منه، وهو حينئذ رخو يشبه الحلواء؛ فيكون حينئذ قابلاً للامتداد وللانتفاخ إذا نفخ فيه بقصبة من حديد يضعها الصانع في فمه، وهي متصلة بقطعة الطين المصهورة، فينفخ فيها، فإذا داخلها هواء النَّفَس تمددت، وتشكلت بشكل كما يتفق، فيتصرف فيه الصانع بتشكيله بالشكل الذي يبتغيه؛ فيجعل منه أواني مختلفة الأشكال من كؤوس، وباطيات، وقنينات كبيرة وصغيرة، وقوارير للخمر، وآنية لزيت المصابيح تَفْضُل ما عداها بأنها لا تحجب ضوء السراج، وتزيده إشعاعاً.
وقد كان الزُّجاج معروفاً عند القدماء من الفينيقيين وعند القبط من نحو القرن الثلاثين قبل المسيح ثم عرفه العرب وهم يمسونه(1) الزجاج والقوارير.
قال بشار:
ارفق بعمرو إذا حركت نسبته ... فإنه عربي من قوارير
وقد عرفه العبرانيون في عهد سليمان، واتخذ منه سليمان بلاطاً في ساحة صرحه كما ورد في قوله _تعالى_: [قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ].
__________
(1) _ هكذا في الأصل، والصواب: يسمونه. (م)(1/30)
وقد عرفه اليونان قديماً ومن أقوال الحكيم (ديوجينوس اليوناني): =تيجان الملوك كالزجاج يسرع إليها العطب+.
وسمى العرب الزجاج بلُّوراً بوزن سنور وبوزن تنور.
واشتهر بصناعته أهل الشام، قال الزمخشري في الكشاف: [فِيْ زُجَاجَةٍ] أراد قنديلاً من زجاج شامي أزهر.
واشتهر بدقة صنعه في القرن الثالث المسيحي أهل البندقية، ولوَّنوه، وزيّنوه بالذهب، وما زالت البندقية إلى الآن مصدر دقائق صنع الزجاج على اختلاف أشكاله وألوانه يتنافس فيه أهل الأذواق.
وكذلك بلاد (بوهيميا) من أرض (المجر) لجودة التراب الذي يصنع منه في بلادهم.
ومن أصلح ما انتفع فيه الزجاج اتخاذُ أطباقٍ منه توضع على الكُوى النافذة، والشبابيك؛ لتمنع الرياح، وبرد الشتاء، والمطر عن سكان البيوت، ولا يحجب عن سكانها الضوء.
وكان ابتكار استعمال هذه الأطباق في القرن الثالث من التاريخ المسيحي، ولكن تأخر الانتفاع به في ذلك مع الاضطرار إليه؛ لعسر استعماله وسرعة تصدعه في النقل، ووفرة ثمنه؛ ولذلك اتُّخِذ في النوافذ أول الأمر في البلاد التي يصنع فيها؛ فبقى زماناً طويلاً خاصاً بمنازل الملوك والأثرياء. 18/237_238
14_ والكوكب: النجم، والدُّرِّي _بضم الدال وتشديد التحتية_ في قراءة الجمهور: واحد الدراري وهي الكواكب الساطعة النور مثل الزهرة، والمشتري منسوبة إلى الدر في صفاء اللون وبياضه، والياء فيه ياء النسبة، وهي نسبة المشابهة. 18/238
15_ والمعنى: أنه نور مكرر مضاعف.
وقد أشرت آنفاً إلى أن هذا التمثيل قابل لتفريق التشبيه في جميع أجزاء ركني التمثيل بأن يكون كل جزء من أجزاء الهيئة المشبهة مشابهاً لجزء من الهيئة المشبه بها، وذلك أعلى التمثيل.(1/31)
فالمشكاة يشبهها ما في الإرشاد الإلهي من انضباط اليقين، وإحاطة الدلالة بالمدلولات دون تردد ولا انثلام، وحفظ المصباح من الانطفاء مع ما يحيط بالقرآن من حفظه من الله بقوله: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ].
ومعاني هداية إرشاد الإسلام تشبه المصباح في التبصير والإيضاح، وتبيين الحقائق من ذلك الإرشاد.
وسلامته من أن يَطْرُقَه الشك واللبس، يشبه الزجاجة في تجلية حال ما تحتوي عليه كما قال: [وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ].
والوحي الذي أبلغ الله به حقائق الديانة من القرآن والسنة يشبه الشجرة المباركة التي تعطي ثمرة يستخرج منها دلائل الإرشاد.
وسماحة الإسلام، وانتفاء الحرج عنه يشبه توسط الشجرة بين طرفي الأفق؛ فهو وسط بين الشدة المحرجة وبين اللين المفرط.
ودوام ذلك الإرشاد وتجدده يشبه الإيقاد.
وتعليم النبي"أمته ببيان القرآن، وتشريع الأحكام يشبه الزيت الصافي الذي حصلت به البصيرة، وهو مع ذلك بين قريب التناول يكاد لا يحتاج إلى إلحاح المعلم.
وانتصاب النبي _عليه الصلاة والسلام_ للتعليم يشبه مَسَّ النار للسراج.
وهذا يومئ إلى استمرار هذا الإرشاد.
كما أن قوله: [مِنْ شَجَرَةٍ]: يومئ إلى الحاجة إلى اجتهاد علماء الدين في استخراج إرشاده على مرور الأزمنة، لأن استخراج الزيت من ثمر الشجرة يتوقف على اعتصار الثمرة وهو الاستنباط. 18/243_244
16_ وقد كان المسلمون واثقين بالأمن، ولكن الله قدم على وعدهم بالأمن أن وعدهم بالاستخلاف في الأرض، وتمكين الدين والشريعة فيهم؛ تنبيهاً لهم بأنَّ سنة الله أنه لا تأمن أمةٌ بأسَ غيرها حتى تكون قويةً مكينةً مهيمنةً على أصقاعها؛ ففي الوعد بالاستخلاف والتمكين وتبديل الخوف أمناً إيماءٌ إلى التهيؤ لتحصيل أسبابه، مع ضمان التوفيق لهم، والنجاح إن هم أخذوا في ذلك، وأن ملاك ذلك هو طاعة الله والرسول"[وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا].(1/32)
وإذا حل الاهتداء في النفوس نشأت الصالحات؛ فأقبلت مسبباتها تنهال على الأمة؛ فالأسباب هي الإيمان وعمل الصالحات. 18/282_283
17_ فالصالحات: جمع صالحة، وهي الخصلة والفعلة ذات الصلاح، أي التي شهد الشرع بأنها صالحة، وقد تقدم في أول البقرة.
واستغراق [الصَّالِحَاتِ] استغراق عرفي، أي عمل معظم الصالحات، ومهماتها، ومراجعها مما يعود إلى تحقيق كليات الشريعة وجري حالة مجتمع الأمة على مسلك الاستقامة، وذلك يحصل بالاستقامة في الخويصة، وبحسن التصرف في العلاقة المدنية بين الأمة على حسب ما أمر به الدين أفراد الأمة كل فيما هو من عمل أمثاله الخليفة فمن دونه، وذلك في غالب أحوال تصرفاتهم، ولا التفات إلى الفلتات المناقضة؛ فإنها معفو عنها إذا لم يسترسل عليها، وإذا ما وقع السعي في تداركها.
والاستقامة في الخويصة هي موجب هذا الوعد، وهي الإيمان وقواعد الإسلام، والاستقامة في المعاملة هي التي بها تيسير سبب الموعود به.
وقد بين الله _تعالى_ أصول انتظام أمور الأمة في تضاعيف كتابه وعلى لسان رسوله " مثل قوله _تعالى_: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ] وقوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ] وقوله في سياق الذم: [وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ] وقوله: [فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ].(1/33)
وبين الرسول _عليه الصلاة والسلام_ تصرفات ولاة الأمور في شؤون الرعية، ومع أهل الذمة، ومع الأعداء في الغزو، والصلح، والمهادنة، والمعاهدة، وبَيَّنَ أصول المعاملات بين الناس.
فمتى اهتم ولاة الأمور وعموم الأمة باتباع ما وَضَّح لهم الشرع تحقق وعد الله إياهم بهذا الوعد الجليل. 18/283_284
18_ وهذه التكاليف التي جعلها الله قواماً لصلاح أمور الأمة، ووعد عليها بإعطاء الخلافة والتمكين والأمن _ صارت بترتيب تلك الموعدة عليها أسباباً لها، وكانت الموعدة كالمسبب عليها؛ فشابهت من هذه الحالة خطاب الوضع، وجعل الإيمان عمودها، وشرطاً للخروج من عهدة التكليف بها، وتوثيقاً لحصول آثارها بأن جعله جالب رضاه وعنايته؛ فبه يتيسر للأمة تناول أسباب النجاح، وبه يحف اللطف الإلهي بالأمة في أطوار مزاولتها واستجلابها، بحيث يدفع عنهم العراقيل والموانع، وربما حف بهم اللطف والعناية عند تقصيرهم في القيام بها، وعند تخليطهم الصلاح بالفساد؛ فرفق بهم ولم يعجل لهم الشر، وتلوَّم لهم في إنزال العقوبة.
وقد أشار إلى هذا قوله _تعالى_: [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ].
يريد بذلك كله المسلمين، وقد مضى الكلام على ذلك في سورة الأنبياء كقوله: [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا] في سورة الحج.(1/34)
فلو أن قوماً غير مسلمين عملوا في سيرتهم، وشؤون رعيتهم بمثل ما أمر الله به المسلمين من الصالحات بحيث لم يعوزهم إلا الإيمان بالله ورسوله لاجتنبوا من سيرتهم صوراً تشبه الحقائق التي يجتنيها المسلمون؛ لأن تلك الأعمال صارت أسباباً وسنناً تترتب عليها آثارها التي جعلها الله سنناً وقوانين عمرانية سوى أنهم لسوء معاملتهم ربهم بجحوده، أو بالإشراك به، أو بعدم تصديق رسوله يكونون بمنأى عن كفالته، وتأييده إياهم، ودفع العوادي عنهم، بل يكلهم إلى أعمالهم وجهودهم على حسب المعتاد، ألا ترى أن القادة الأروبيين بعد أن اقتبسوا من الإسلام قوانينه ونظامه بما مارسوه من شؤون المسلمين في خلال الحروب الصليبية ثم بما اكتسبوه من ممارسة كتب التاريخ الإسلامي، والفقه الإسلامي، والسيرة النبوية قد نظموا ممالكهم على قواعد العدل، والإحسان، والمواساة، وكراهة البغي والعدوان؛ فعظمت دولهم واستقامت أمورهم.
ولا عجب في ذلك فقد سلط الله الآشوريين وهم مشركون على بني إسرائيل؛ لفسادهم فقال: [وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً] وقد تقدم في سورة الإسراء. 18/284_285
19_ وجملة: [وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]: مسوقة مساق التذييل للتحذير من التوسع في الرخصة، أو جعلها ذريعة لما لا يحمد شرعاً؛ فوصف [السَّمِيعُ] تذكير بأنه يسمع ما تحدثهن به أنفسُهن من المقاصد، ووصف [الْعَلِيمُ] تذكير بأنه يعلم أحوال وضعهن الثياب وتبرجهن ونحوها. 18/299(1/35)
1_ سميت هذه السورة سورة الفرقان في عهد النبي" وبمسمع منه؛ ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال: =سمعت هشام بن حكيم ابن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله؛ فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله؛ فكدت أساوره في الصلاة؛ فتصبرت حتى سلم فَلَبّبْتُه بردائه، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها..+ الحديث.
ولا يعرف لهذه السورة اسم غير هذا، والمؤدبون من أهل تونس يسمونها (تبارك الفرقان) كما يسمون (سورة الملك) تبارك، وتبارك الملك.
ووجه تسميتها (سورة الفرقان) لوقوع لفظ الفرقان فيها ثلاث مرات في أولها، ووسطها، وآخرها.
وهي مكية عند الجمهور، وروي عن ابن عباس أنه استثنى منها ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي قوله _تعالى_:[وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ] إلى قوله: [وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً].
والصحيح عنه أن هذه الآيات الثلاث مكية كما في صحيح البخاري في تفسير سورة الفرقان: =عن القاسم بن أبي بزة أنه سأل سعيد بن جيبر: هل لمن قتل مؤمناً متعمداً من توبة? فقرأت عليه: [وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ] فقال سعيد: قرأتها على ابن عباس كما قرأتها علي? فقال: هذه مكية نسختها آية مدنية التي في سورة النساء يريد قوله _تعالى_: [وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً] الآية.
وعن الضحاك: أنها مدنية إلا الآيات الثلاث من أولها إلى قوله: [وَلا نُشُوراً].
وأسلوب السورة وأغراضها شاهدة بأنها مكية.
وهي السورة الثانية والأربعون في ترتيب النزول، نزلت بعد سورة يس، وقبل سورة فاطر، وعدد آياتها سبع وسبعون باتفاق أهل العدد. 18/313_314
2_ واشتملت هذه السورة على الابتداءِ بتحميدِ الله _تعالى_ وإنشاءِ الثناء عليه، ووصفِه بصفات الإلهية والوحدانية فيها.(1/36)
وأُدْمِجَ في ذلك التنويهُ بالقرآن، وجلالِ مُنَزِّلهِ، وما فيه من الهدى، وتعريضٌ بالامتنان على الناس بهديه وإرشاده إلى اتقاء المهالك، والتنويهُ بشأن النبي".
وأقيمت هذه السورة على ثلاث دعائم: الأولى: إثبات أنَّ القرآنَ منزلٌ من عند الله، والتنويهُ بالرسولِ المُنَزَّلِ عليه " ودلائلُ صِدْقه، ورِفْعَةُ شأنه عن أن تكونَ له حظوظُ الدنيا، وأنه على طريقة غيرِه من الرسل، ومن ذلك تلقى قومُه دعوتَه بالتكذيب.
الدعامة الثانية: إثباتُ البعثِ والجزاء، والإنذارُ بالجزاء في الآخرة، والتبشيرُ بالثوابِ فيها للصالحين، وإنذارُ المشركين بسوءِ حظهم يومئذ، وتكونُ لهم الندامةُ على تكذيبهم الرسولَ، وعلى إشراكهم، واتباعِ أئمة كفرهم.
الدعامة الثالثة: الاستدلالُ على وحدانية الله، وتفردُه بالخلق، وتنزيهُه عن أن يكون له ولدٌ أو شريكٌ، وإبطالُ إلهيةِ الأصنامِ، وإبطالُ ما زعموه من بُنُوَّةِ الملائكة لله _تعالى_.
وافتُتِحَتْ في آيات كلِّ دَعامةٍ من هذه الثلاث بجملة [تَبَارَكَ الَّذِي] الخ.
قال الطيبي: =مدارُ هذه السورة على كونه " مبعوثاً إلى الناس كافةً ينذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم؛ ولهذا جَعل براعةَ استهلالِها [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً]+.
وذَكَرَ بدائعَ مِنْ صنعه _تعالى_ جمعاً بين الاستدلال والتذكير.
وأَعْقَبَ ذلك بتثبيت الرسول"على دعوته، ومقاومته الكافرين.
وضَرَبَ الأمثالَ للحالين ببعثة الرسل السابقين، وما لقوا من أقوامهم مثل قوم موسى وقوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقوم لوط.
والتوكلُ على الله، والثناءُ على المؤمنين به، ومدحُ خصالِهم ومزايا أخلاقِهم، والإشارةُ إلى عذاب قريب يَحُلُّ بالمكذبين. 18/314_315
3_ [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً (1)].(1/37)
افتتاح بديع لندرة أمثاله في كلام بلغاء العرب؛ لأن غالب فواتحهم أن تكون بالأسماء مجردة، أو مقترنةً بحرف غير منفصل، مثل قول طرفة:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
أو بأفعال المضارعة ونحوها كقول امرئ القيس: =قفا نبك+ البيت، أو بحروف التأكيد أو الاستفهام أو التنبيه مثل (إن) و (قد) والهمزة و (هل).
ومن قبيل هذا الافتتاح قول الحارث بن حلزة:
آذنتنا ببينها أسماء
وقوله النابغة:
كتمتك ليلاً بالجمومين ساهراً ... وهمين هماً مستكناً وظاهرا
وبهذه الندرة يكون في طالع هذه السورة براعة المطلع؛ لأن الندرة من العِزَّةِ، والعِزَّةُ من محاسن الألفاظ، وضدها الابتذال. 18/315_316
4_ والعض: الشد بالأسنان على الشيء؛ ليؤلمه أو ليمسكه.
وحقه التعدية بنفسه إلا أنه كَثُرَتْ تعديتُه بـ:(على) لإفادة التمكن من المعضوض إذا قصدوا عضاً شديداً كما في هذه الآية.
والعض على اليد: كناية عن الندامة؛ لأنهم تعارفوا في بعض أغراض الكلام أن يصحبوها بحركات بالجسد مثل التشذر، وهو رفع اليد عند كلام الغضب قال لبيد:
غُلْب تشذّر بالدخول كأنهم ... جِنُّ البديِّ رواسياً أقدامها
ومثل وضع اليد على الفم عند التعجب، قال _تعالى_: [فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ].
ومنه في الندم قرع السن بالأصبع، وعض السبابة، وعض اليد.
ويقال: حَرَّق أسنانه، وحرَّق الأُرَّم _بوزن رُكَّع_: الأضراس أو أطراف الأصابع، وفي الغيظ عض الأنامل قال _تعالى_: [عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ] في سورة آل عمران.
وكانت كنايات بناء على ما يلازمها في العرف من معان نفسية، وأصل نشأتها عن تهيج القوة العصبية من جراء غضب أو تلهف. 19/12(1/38)
5_ وفَرَّع على وصفه بـ[الرَّحْمَنُ] قوله: [فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً] للدلالة على أن في رحمته من العظمة والشمول ما لا تفي فيه العبارة؛ فيعدل عن زيادة التوصيف إلى الحوالة على عليمٍ بتصاريف رحمته، مجربٍ لها مُتَلَقٍّ أحاديثها ممن علمها وجربها.
وتنكير [خَبِيْراً] للدلالة على العموم؛ فلا يظن خبيراً مُعَيَّنَاً؛ لأن النكرة إذا تعلق بها فعل الأمر اقتضت عموماً بدليل أي خبير سألته أعلمك.
وهذا يجري مجرى المثل، ولعله من مبتكرات القرآن نظير قول العرب: =على الخبير سقطت+ يقولها العارف بالشيء إذا سئل عنه.
والمثلان وإن تساويا في عدد الحروف المنطوق بها فالمثل القرآني أفصح لسلامته من ثقل تلاقي القاف والطاء والتاء في (سقطت).
وهو _أيضاً_ أشرف؛ لسلامته من معنى السقوط، وهو أبلغ معنىً لما فيه من عموم كل خبير، بخلاف قولهم: على الخبير سقطت؛ لأنها إنما يقولها الواحد المعيَّن، وقريب من معنى: [فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيْرَا] قول النابغة:
هلا سألت بني ذبيان ما حسبي ... إذا الدخان تغشى الأشمط البرما
إلى قوله:
يخبرك ذو عرضهم عني وعالمهم ... وليس جاهل شيء مثل من علما
19/61
6_ [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً].
واعلم أن هذه الصلات التي أجريت على[عِبَادُ الرَّحْمَنِ] جاءت على أربعة أقسام.
قسم هو من التحلي بالكمالات الدينية: وهي التي ابتدئ بها من قوله _تعالى_: [الَّذِيْنَ يَمْشُوْنَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنَا] إلى قوله: [سَلاَمَا].
وقسم هو من التخلي عن ضلالات أهل الشرك: وهو الذي من قوله: [وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ].(1/39)
وقسم هو من الاستقامة على شرائع الإسلام: وهو قوله: [وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً] وقوله: [وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا] الآية، وقوله: [وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ] إلى قوله: [لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ] الخ.
وقسم من تطلب الزيادة من صلاح الحال في هذه الحياة: وهو قوله: [وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا] إلى قوله: [لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً]. 19/67_68
7_ والهَوْن: اللين والرفق، ووقع هنا صفة لمصدر المشي محذوف تقديره (مشياً) فهو منصوب على النيابة عن المفعول المطلق.
والمشي الهون: هو الذي ليس فيه ضرب بالأقدام، وخفق النعال؛ فهو مخالف لمشي المتجبرين المعجبين بنفوسهم وقوَّتهم.
وهذا الهون ناشئ عن التواضع لله _تعالى_ والتخلق بآداب النفس العالية، وزوال بطر أهل الجاهلية؛ فكانت هذه المِشْية من خلال الذين آمنوا على الضد من مشي أهل الجاهلية.
وعن عمر بن الخطاب أنه رأى غلاماً يتبختر في مشيته فقال له: =إن البخترة مشية تكره إلا في سبيل الله+.
وقد مدح الله _تعالى_ أقواماً بقوله سبحانه: [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً] فاقصد في مشيتك.
وحكى الله _تعالى_ عن لقمان لابنه: [وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً].
والتخلق بهذا الخلق مظهر من مظاهر التخلق بالرحمة المناسب لعباد الرحمن؛ لأن الرحمة ضد الشدة؛ فالهَوْن يناسب ماهيتها، وفيه سلامة من صدم المارين. 19/68
8_ وقُرن وصفهم بالتواضع في سمتهم وهو المشي على الأرض هوناً بوصف آخر يناسب التواضع، وكراهية التطاول، وهو متاركة الذين يجهلون عليهم في الخطاب بالأذى والشتم.(1/40)
وهؤلاء الجاهلون يومئذ هم المشركون؛ إذ كانوا يتعرضون للمسلمين بالأذى والشتم؛ فعلَّمهم الله متاركة السفهاء؛ فالجهل هنا ضد الحلم، وذلك أشهر إطلاقاته عند العرب قبل الإسلام، وذلك معلوم في كثير من الشعر والنثر.19/69
9_ قال ابن عطية: وأريت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي وكان من المائلين على علي بن أبي طالب ÷ قال يوماً بحضرة المأمون(1) وعنده جماعة: =كنت أرى علي بن أبي طالب في النوم، فكنت أقول له: من أنت? فكان يقول: علي بن أبي طالب، فكنت أجيء معه إلى قنطرة، فيذهب، فيتقدمني في عبورها، فكنت أقول: إنما تَدَّعي هذا الأمر بامرأة، ونحن أحق به منك، فما رأيت له في الجواب بلاغةً كما يذكر عنه.
قال المأمون: وبماذا جاوبك? قال: فكان يقول لي: سلاماً.
قال الراوي: فكأن إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية، أو ذهبت عنه في ذلك الوقت، فنبه المأمون على الآية مَنْ حضره، وقال: هو والله يا عم علي بن أبي طالب، وقد جاوبك بأبلغ جواب؛ فخزي إبراهيم واستحيا+. 19/69_70
10_ [وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (66)].
دعاؤهم هذا أمارة على شدة مخافتهم الذنوب؛ فهم يسعون في مرضاة ربهم؛ لينجوا من العذاب، فالمراد بصرف العذاب: إنجاؤهم منه بتيسير العمل الصالح، وتوفيره، واجتناب السيئات. 19/70
1_ اشتهرت عند السلف بسورة الشعراء؛ لأنها تفردت من بين سور القرآن بذكر كلمة الشعراء، وكذلك جاءت تسميتها في كتب السنة، وتسمى _أيضاً_ سورة طسم.
وفي أحكام ابن العربي أنها تسمى _أيضاً_ الجامعة، ونسبه ابن كثير والسيوطي في الإتقان إلى تفسير مالك المروي عنه(2).
__________
(1) _ لأن المأمون كان متشيعاً للعلويين.
(2) _ تفسير مالك بن أنس، ذكره عياض في المدارك، وذكره الداودي في طبقات المفسرين.(1/41)
ولم يظهر وجه وصفها بهذا الوصف، ولعلها أول سورة جمعت ذكر الرسل أصحاب الشرائع المعلومة إلى الرسالة المحمدية. 19/89
2_ وهي مكية، فقيل جميعها مكي، وهو المروي عن ابن الزبير، ورواية عن ابن عباس ونسبه ابن عطية إلى الجمهور، وروي عن ابن عباس أن قوله _تعالى_: [وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ] إلى آخر السورة نزل بالمدينة؛ لذكر شعراء رسول الله"حسان بن ثابت وابن رواحة وكعب بن مالك، وهم المعني بقوله: [إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] الآية.
ولعل هذه الآية هي التي أقدمت هؤلاء على القول بأن تلك الآيات مدنية.
وعن الداني قال: نزلت [وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ] في شاعرين تهاجيا في الجاهلية. 19/89
3_ وأقول: كان شعراء بمكة يهجون النبي"منهم النضر بن الحارث، والعوراء بنت حرب زوج أبي لهب ونحوهما، وهم المراد بآيات [وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ].
وكان شعراء المدينة قد أسلموا قبل الهجرة وكان في مكة شعراء مسلمون من الذين هاجروا إلى الحبشة 19/89
4_ وهي السورة السابعة والأربعون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الواقعة، وقبل سورة النمل. 19/90
5_ وقد جعل أهل المدينة وأهل مكة وأهل البصرة عدد آيها مائتين وستاً وعشرين، وجعله أهل الشام وأهل الكوفة مائتين وسبعاً وعشرين. 19/90
6_ الأغراض التي اشتملت عليها: أولها التنويهُ بالقرآن، والتعريضُ بعجزهم عن معارضته، وتسليةُ النبي"على ما يلاقيه من إِعْراضِ قومه عن التوحيد الذي دعاهم إليه القرآن.
وفي ضِمْنِهِ تهديدُهم على تَعَرُّضهم لغضب الله _تعالى_ وضربُ المثل لهم بما حَلَّ بالأمم المكذبةِ رُسُلَها، والمُعْرِضَةِ عن آيات الله.(1/42)
وأَحْسِبُ أنها نزلت إِثْرَ طلبِ المشركين أن يأتِيَهم الرسولُ بخوارقَ؛ فافتتحت بتسلية النبي"وتثبيتٍ له، ورباطةٍ لجأشه بأن ما يلاقيه من قومه هو سنةُ الرسل من قبله مع أقوامهم مثل موسى وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب؛ ولذلك خَتَم كلَّ استدلال جيء به على المشركين المكذبين بتذييل واحد هو قوله: [إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ] تسجيلاً عليهم بأن آيات الوحدانية، وصدقَ الرسلِ عديدةٌ كافيةٌ لمن يتطلب الحق.
ولكن أكثرَ المشركين لا يؤمنون، وأن اللهَ عزيزٌ قادرٌ على أن يُنْزِلَ بهم العذاب، وأنه رحيم برسله؛ فَناصِرُهم على أعدائهم.
قال في الكشاف: =كلُّ قصةٍ من القصص المذكورة في هذه السورة كتنزيل برأسه.
وفيها من الاعتبار ما في غيرها؛ فكانت كلُّ واحدةٍ منها تُدْلي بحقٍّ في أن تختم بما اخْتُتِمت به صاحبتُها، ولأن في التكرير تقريراً للمعاني في الأنفس، وكلما زاد ترديدُه كان أمكنَ له في القلب، وأرسخَ في الفهم، وأبعدَ من النسيان، ولأن هذه القصصَ طُرِقَتْ بها آذانٌ وَقَرَتْ عن الإنصات للحق؛ فَكُوثرت بالوعظ والتذكير، وروجعت بالترديد والتكرير؛ لعل ذلك يفتح أذناً، أو يفتق ذهناً+ ا هـ.
ثم التنويهُ بالقرآن، وشهادةُ أهل الكتاب له، والردُّ على مطاعنهم في القرآن وجعلِه عضين، وأنه منزهٌ عن أن يكون شعراً ومن أقوال الشياطين، وأمر الرسول"بإنذار عشيرته، وأن الرسول ما عليه إلا البلاغ، وما تخلل ذلك من دلائل . 19/90_91
7_ والخُلُق في اصطلاح الحكماء: مَلَكَةٌ أي كيفية راسخة في النفس، أي متمكنة من الفكر تصدر بها عن النفس أفعال صاحبها بدون تأمل.(1/43)
فَخُلُقُ المرء: مجموع غرائز _أي طبائع نفسية_ مؤتلفة من انطباع فكري: إما جِبِلِّي في أصل خلقته، وإما كَسْبِيٌّ ناشئٌ عن تمرُّن الفكر عليه، وتقلده إياه؛ لاستحسانه إياه عن تجربةِ نَفْعِهِ، أو عن تقليد ما يشاهده من بواعث محبة ما شاهد.
وينبغي أن يسمى اختياراً من قول أو عمل لذاته، أو لكونه من سيرة من يحبه ويقتدي به، ويسمى تقليداً، ومحاولته تسمى تخلقاً، قال سالم بن وابصة:
عليك بالقصيد(1) فيما أنت فاعله ... إن التخلُّقَ يأتي دونه الخُلُق
فإذا استقر وتمكن من النفس صار سجية له يجري أعماله على ما تمليه عليه، وتأمره به نفسه بحيث لا يستطيع ترك العمل بمقتضاها، ولو رام حمل نفسه على عدم العمل بما تمليه سجيته لاستصغر نفسه وإرادته، وحقر رأيه.
وقد يتغير الخُلُقُ تغيراً تدريجياً بسبب تجربة انجرار مضرة من داعيه، أو بسبب خوف عاقبة سيئة من جرائه بتحذير من هو قدوة عنده؛ لاعتقاد نصحه، أو لخوف عقابه، وأول ذلك هو المواعظ الدينية. 19/172
8_ ومثلت حال الشعراء بحال الهائمين في أودية كثيرة مختلفة؛ لأن الشعراء يقولون في فنون من الشعر من هجاء واعتداء على أعراض الناس، ومن نسيب وتشبيب بالنساء، ومدح من يمدحونه؛ رغبة في إعطائه وإن كان لا يستحق المدح، وذم من يمنعهم وإن كان من أهل الفضل، وربما ذموا من كانوا يمدحونه، ومدحوا من سبق لهم ذمه. 19/209
9_ وشفع مذمتهم هذه بمذمة الكذب فقال: [وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ] والعرب يتمادحون بالصدق، ويعيرون بالكذب، والشاعر يقول ما لا يعتقد، وما يخالف الواقع حتى قيل: أحسن الشعر أكذبه.
والكذب مذموم في الدين الإسلامي؛ فإن كان الشعر كذباً لا قرينة على مراد صاحبه فهو قبيح، وإن كان عليه قرينة كان كذباً معتذراً عنه؛ فكان غير محمود.
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: =بالقصد+ لأجل استقامة الوزن والمعنى. (م)(1/44)
وفي هذا إبداء للبون الشاسع بين حال الشعراء وحال النبي"الذي كان لا يقول إلا حقاً، ولا يصانع ولا يأتي بما يضلل الأفهام.
ومن اللطائف أن الفرزدق أنشد عند سليمان بن عبد الملك قوله:
فبتن بجانبيَّ مصرعات ... وبت أفض أغلاق الختام
فقال سليمان: قد وجب عليك الحد، فقال: يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله: [وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ].
وروي أن النعمان بن عدي بن نضلة كان عاملاً لعمر بن الخطاب فقال شعراً:
من مبلغ الحسناء أن حليلها ... بميسان يسقى في زجاج وحنتم(1)
إلى أن قال:
لعل أمير المؤمنين يسوءه ... تنادمنا بالجوسق(2) المتهدم
فبلغ ذلك عمر، فأرسل إليه بالقدوم عليه وقال له: أي والله إني ليسوءني ذلك وقد وجب عليك الحد.
فقال: يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئاً مما قلت، وإنما كان فضلة من القول وقد قال الله _تعالى_: [وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ].
فقال له عمر: =أما عذرك فقد درأ عنك الحد، ولكن لا تعمل لي عملاً أبداً وقد قُلْتَ ما قُلْتَ+. 19/109_210
10_ وقد كُني باتباع الغاوين إياهم عن كونهم غاوين، وأفيد بتفظيع تمثيلهم بالإبل الهائمة تشويه حالتهم، وأن ذلك من أجل الشعر كما يؤذن به إناطة الخبر بالمشتق، فاقتضى ذلك أن الشعر منظور إليه في الدين بعين الغض منه، واستثناء [إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] الخ... من عموم الشعراء، أي من حكم ذمهم.
وبهذا الاستثناء تعين أن المذمومين هم شعراء المشركين الذين شغلهم الشعر عن سماع القرآن، والدخول في الإسلام.
__________
(1) _ هكذا ورد البيت في الأصل، وكأن فيه نقصَ حرف في الشطر الأول؛ فيكون من بحر الكامل، ويكون الشطر الثاني من الطويل، ولعل الصواب (فمن مبلغ الحسناء....).
ويُروى البيت: ألا هل أتى الحسناء...
فيكون الشطران من بحر الطويل . (م)
(2) _ الجوسق: القصر، كان أهل البطالة والخلاعة يأوون إلى القصور المتروكة.(1/45)
ومعنى: [وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً] أي كان إقبالهم على القرآن والعبادة أكثر من إقبالهم على الشعر.
[وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا]: وهم من أسلموا من الشعراء وقالوا: الشعر في هجاء المشركين والانتصار للنبي"مثل الذين أسلموا وهاجروا إلى الحبشة؛ فقد قالوا شعراً كثيراً في ذم المشركين، وكذلك من أسلموا من الأنصار كعبدالله ابن رواحة، وحسان بن ثابت، ومن أسلم من بعد من العرب مثل لبيد، وكعب ابن زهير، وسحيم عبد بني الحسحاس.
وليس ذكر المؤمنين من الشعراء بمقتضي كون بعضِ السورة مدنياً كما تقدم في الكلام على ذلك أول السورة. 19/210_211
11_ وقد دلت الآية على أن للشعر حالتين: حالةً مذمومةً، وحالةً مأذونةً، فتعين أن ذمه ليس لكونه شعراً، ولكن لما حَفَّ به من معانٍ وأحوال اقتضت المذمة؛ فانفتح بالآية للشعر بابَ قبولٍ ومدحٍ؛ فحق على أهل النظر ضبط الأحوال التي تأوي إلى جانب قبوله أو إلى جانب مدحه، والتي تأوي إلى جانب رفضه.
وقد أومأ إلى الحالة الممدوحة قوله: [وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا]، وإلى الحالة المأذونة قوله: [وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ].
وكيف وقد أثنى النبي"على بعض الشعر مما فيه محامد الخصال واستنصتَ أصحابه لشعر كعب بن زهير مما فيه دقة صفات الرواحل الفارهة، على أنه أذن لحسان في مهاجاة المشركين، وقال له: =كلامك أشد عليهم من وقع النبل..+.
وقال له: =قل ومعك روح القدس+.
وسيأتي شيء من هذا عند قوله _تعالى_: [وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ] في سورة يس.
وأجاز عليه كما أجاز كعب بن زهير؛ فخلع عليه بردته، فتلك حالة مقبولة؛ لأنه جاء مؤمناً.
وقال أبو هريرة سمعت رسول الله " يقول على المنبر: =أصدق كلمة، أو أشعر كلمة قالتها العرب كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل+
وكان يستنشد شعر أمية بن أبي الصلت، لما فيه من الحكمة وقال: =كاد أمية أن يسلم+.(1/46)
وأمر حساناً بهجاء المشركين وقال له: =قل ومعك روح القدس+.
وقال لكعب بن مالك: =لَكَلامُك أشدُّ عليهم من وقع النبل+.
روى أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن بسنده إلى خريم بن أوس بن حارثة أنه قال: هاجرت إلى رسول الله بالمدينة مُنْصَرَفَهُ من تبوك، فسمعت العباس قال: يا رسول الله إني أريد أن امتدحك، فقال: =قل لا يفضض الله فاك+.
فقال العباس:
من قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق
الأبيات السبعة، فقال النبي ": =لا يفضض الله فاك+.
وروى الترمذي عن أنس أن النبي"دخل مكة في عمرة القضاء وعبدالله ابن رواحة يمشي بين يديه يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر: يا ابن رواحة في حرم الله وبين يدي رسول الله تقول الشعر فقال له النبي": =خل عنه يا عمر؛ فإنه أسرع فيهم من نضح النبل+.
وعن الزهري أن كعب بن مالك قال: يا رسول الله ما تقول في الشعر؟
قال: =إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما تنضحونهم بالنبل+.
ولعلي بن أبي طالب شعر كثير، وكثير منه غير صحيح النسبة إليه.
وقد بين القرطبي في تفسيره في هذه السورة وفي سورة النور القول في التفرقة بين حالي الشعر، وكذلك الشيخ عبدالقاهر الجرجاني في أول كتاب دلائل الإعجاز.
ووجب أن يكون النظر في معاني الشعر وحال الشاعر، ولم يزل العلماء يعنون بشعر العرب ومن بعدهم، وفي ذلك الشعر تحبيب لفصاحة العربية وبلاغتها، وهو آيل إلى غرض شرعي من إدراك بلاغة القرآن. 19/211_212
1_ أشهر أسمائها (سورة النمل) وكذلك سميت في صحيح البخاري، وجامع الترمذي.
وتسمى _أيضاً_ سورة سليمان، وهذان الاسمان اقتصر عليهما في الإتقان وغيره.
وذكر أبو بكر ابن العربي في أحكام القرآن أنها تسمى (سورة الهدهد).(1/47)
ووجه الأسماء الثلاثة أن لفظ النمل، ولفظ الهدهد لم يذكرا في سورة من القرآن غيرها، وأما تسميتها سورة سليمان فلأن ما ذكر فيها من ملك سليمان مفصلاً لم يذكر مثلُه في غيرها.
وهذه السورة مكية بالاتفاق كما حكاه ابن عطية، والقرطبي، والسيوطي، وغير واحد.
وذكر الخفاجي أن بعضهم ذهب إلى مكية بعض آياتها _كذا، ولعله سهوٌ صوابُه مدنية بعض آياتها_ ولم أقف على هذا لغير الخفاجي.
وهي السورة الثامنة والأربعون في عداد نزول السور، نزلت بعد الشعراء وقبل القصص، كذا روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير.
وقد عدت آياتها في عدد أهل المدينة ومكة خمساً وتسعين، وعند أهل الشام والبصرة والكوفة أربعاً وتسعين. 19/215
2_ أول أغراض هذه السورة افتتاحُها بما يشير إلى إعجاز القرآن ببلاغة نظمه، وعلوِّ معانيه بما يشير إليه الحرفانِ المقطعان في أولها.
والتنويهُ بشأنِ القرآن، وأنه هدىً لمن ييسر اللهُ الاهتداءَ به دون مَنْ جحدوا أنه من عند الله.
والتحدي بعلم ما فيه من أخبار الأنبياء.
والاعتبارُ بِمُلْكِ أعظمِ مُلْكٍ أوتيه نبيٌّ، وهو مُلْكُ داودَ، وملكُ سليمانَ _عليهما السلام_ وما بلغه مِنَ العلمِ بأحوال الطير، وما بلغ إليه ملكُه مِنْ عظمةِ الحضارة.
وأشهرُ أمةٍ في العرب أوتيت قوة، وهي أمةُ ثمودَ، والإشارةُ إلى مُلْكٍ عظيم من العرب وهو ملكُ سبأ.
وفي ذلك إيماء إلى أن نبوة محمد"رسالة تقارنها سياسةُ الأمةِ، ثم يعقبها ملكُ، وهو خلافَةُ النبيِّ".
وأن الشريعةَ المحمديةَ سيقامُ بها مُلْكٌ للأمة عتيدٌ كما أقيم لبني إسرائيل ملك سليمان.
ومحاجةُ المشركين في بطلان دينهم، وتزييفُ آلهتِهِمْ، وإبطالُ أخبارِ كهانهم وعرافيهم وسدنةِ آلهتهم، وإثباتُ البعثِ وما يتقدمه من أهوال القيامة وأشراطِها.(1/48)
وأن القرآنَ مهيمنٌ على الكتب السابقة، ثم موادعةُ المشركين، وإنباؤهم بأن شأنَ الرسولِ الاستمرارُ على إبلاغ القرآنِ، وإنذارِهم بأن آياتِ الصدق سيشاهدونها، والله مطلعٌ على أعمالهم. 19/215_216
3_ وعِلْمُ منطقِ الطيرِ أوتيه سليمان من طريق الوحي بأن أطلعه الله على ما في تقاطيع وتخاليف صفير الطيور أو نعيقها من دلالة على ما في إدراكها، وإراداتها.
وفائدة هذا العلم أن الله جعله سبيلاً له يهتدي به إلى تعرف أحوال عالمية يسبق الطير إلى إدراكها بما أودع فيه من القوى الكثيرة.
وللطير دلالة في تخاطب أجناسها، واستدعاء أصنافها والإنباء بما حولها ما فيه عون على تدبير ملكه وسياسة أمته، مثل استخدام نوع الهدهد في إبلاغ الأخبار، وردها، ونحو ذلك.
ووراء ذلك كله انشراح الصدر بالحكمة والمعرفة للكثير من طبائع الموجودات وخصائصها، ودلالة أصوات الطير على ما في ضمائرها: بعضها مشهور كدلالة بعض أصواته على نداء الذكور لإناثها، ودلالة بعضها على اضطراب الخوف حين يمسكه ممسك أو يهاجمه كاسر، ووراء ذلك دلالات فيها تفصيل؛ فكل كيفية من تلك الدلالات الإجمالية تنطوي على تقاطيع خفية من كيفيات صوتية يخالف بعضها بعضاً فيها دلالات على أحوال فيها تفضيل(1) لما أجملته الأحوال المجملة؛ فتلك التقاطيع لا يهتدي إليها الناس، ولا يطلع عليها إلا خالقها.
وهذا قريب من دلالة مخارج الحروف وصفاتها في لغة من اللغات وفكها، وإدغامها، واختلاف حركاتها على معان لا يهتدي إليها من يعرف تلك اللغة معرفة ضعيفة، ولم يتقن دقائقها، مثل أن يسمع ضللت وظللت؛ فالله _تعالى_ اطلع سليمان بوحي على مختلف التقاطيع الصوتية التي في صفير الطير، وأعلمه بأحوال نفوس الطير عندما تصفر بتلك التقاطيع، وقد كان الناس في حيرة من ذلك كما قال المعري:
أَبَكَتْ تلكمُ الحمامةُ أم غنَّـ ... ـت على غُصْنِ دَوْحِها الميَّادِ
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: تفصيل. (م)(1/49)
وقال صاحبنا الشاعر البليغ الشيخ عبدالعزيز المسعودي من أبيات في هذا المعنى:
فمن كان مسروراً يراه تغنياً ... ومن كان محزوناً يقول ينوح
والاقتصار على منطق الطير إيجاز؛ لأنه إذا علم منطق الطير وهي أبعد الحيوان عن الركون إلى الإنسان وأسرعها نفوراً منه _ علم أن منطق ما هو أكثر اختلاطاً بالإنسان حاصل له بالأحرى كما يدل عليه قوله _تعالى_ فيما يأتي قريباً: [فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا].
فتدل هذه الآية على أنه علم منطق كل صنف من أصناف الحيوان.
وهذا العلم سماه العرب علم الحُكْل _ بضم الحاء المهملة وسكون الكاف _ قال الحجاج وقيل ابنه رؤبة:
لو أنني أوتيت علم الحُكْل ... عِلْم سليمان كلام النمل
أو أنني عمرت عمر الحسل ... أو عمر نوح زمن الفطحل
كنت رهين هرم أو قتل
19/236_238
4_ والهدهد: نوع من الطير وهو ما يقرقر، وفي رائحته نتن، وفوق رأسه قزعة سوداء، وهو أسود البراثن، أصفر الأجفان، يقتات الحبوب والدود، يرى الماء من بعد، ويحس به في باطن الأرض؛ فإذا رفرف على موضع علم أن به ماءً، وهذا سبب اتخاذه في جند سليمان.
قال الجاحظ: يزعمون أنه هو الذي كان يدل سليمان على مواضع الماء في قعور الأرضين إذا أراد استنباط شيء منها. 19/245
5_ وأما عقوبة الحيوان فإنما تكون عند تجاوزه المعتاد في أحواله، قال القرافي في تنقيح الفصول في آخر فصوله: سئل الشيخ عز الدين بن عبدالسلام عن قتل الهر الموذي هل يجوز? فكتب وأنا حاضر: إذا خرجت أذيتُه عن عادة القطط وتكرر ذلك منه قتل. ا هـ
قال القرافي: فاحترز بالقيد الأول عما هو في طبع الهر من أكل اللحم إذا ترك؛ فإذا أكله لم يقتل؛ لأنه طبعه، واحترز بالقيد الثاني عن أن يكون ذلك منه على وجه القلة، فإن ذلك لا يوجب قتله.
قال القرافي: وقال أبو حنيفة إذا آذت الهرة، وقصد قتلها لا تعذب، ولا تخنق بل تذبح بموسى حادة لقوله": =إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة+. ا هـ(1/50)
وقال الشيخ ابن أبي زيد في الرسالة: ولا بأس _إن شاء الله_ بقتل النمل إذا آذت ولم يقدر على تركها.
فقول سليمان: [لأعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً] شريعة منسوخة.
أما العقاب الخفيف للحيوان؛ لتربيته، وتأديبه كضرب الخيل؛ لتعليم السير ونحو ذلك _ فهو مأذون فيه؛ لمصلحة السير، وكذلك السبق بين الخيل مع ما فيه من إتعابها؛ لمصلحة السير عليها في الجيوش. 19/246_247
6_ وجعل الحاجز بين البحرين من بديع الحكمة، وهو حاجز معنوي حاصل من دفع كلا الماءين: أحدهما الآخر عن الاختلاط به، بسبب تفاوت الثقل النسبي لاختلاف الأجزاء المركب منها الماء المالح والماء العذب؛ فالحاجز حاجز من طبعهما، وليس جسماً آخر فاصلاً بينهما. 20/13
7_ وليس في كلام المفسرين شفاء لبيان اختصاص هذه الآية بأن الرائي يحسب الجبال جامدة، ولا بيان وجه تشبيه سيرها بسير السحاب، ولا توجيه التذييل بقوله_تعالى_: [صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ].
فلذلك كان لهذه الآية وضعٌ دقيقٌ، ومعنى بالتأمل خليق؛ فوضعها أنها وقعت موقع الجملة المعترضة بين المجمل وبيانه من قوله: [فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ] إلى قوله: [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ] بأن يكون من تخلل دليل على دقيق صنع الله _تعالى_ في أثناء الإنذار والوعيد إدماجاً وجمعاً بين استدعاء للنظر، وبين الزواجر والنذر، كما صُنِع في جملة: [أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ] الآية.
أو هي معطوفة على جملة: [أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ] الآية، وجملة: [وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ] معترضة بينهما لمناسبة ما في الجملة المعطوف عليها من الإيماء إلى تمثيل الحياة بعد الموت.(1/51)
ولكن هذا استدعاء لأهل العلم والحكمة؛ لتتوجه أنظارهم إلى ما في الكون من دقائق الحكمة وبديع الصنعة.
وهذا من العلم الذي أُوْدع في القرآن؛ ليكون معجزة من الجانب العلمي يدركها أهل العلم، كما كان معجزة للبلغاء من جانبه النظمي كما قدمناه في الجهة الثانية من المقدمة العاشرة.
فإن الناس كانوا يحسبون أن الشمس تدور حول الأرض؛ فينشأ من دورانها نظام الليل والنهار، ويحسبون الأرض ساكنة.
واهتدى بعض علماء اليونان أن الأرض هي التي تدور حول الشمس في كل يوم وليلة دورة تتكون منها ظلمة نصف الكرة الأرضية تقريباً وضياء النصف الآخر، وذلك ما يعبر عنه بالليل والنهار، ولكنها كانت نظرية مرموقة بالنقد، وإنما كان الدال عليها قاعدة أن الجرم الأصغر أولى بالتحرك حول الجرم الأكبر المرتبط بسيره وهي علة إقناعية؛ لأن الحركة مختلفة المدارات؛ فلا مانع من أن يكون المتحرك الأصغر حول الأكبر في رأي العين، وضبط الحساب.
وما تحققت هذه النظرية إلا في القرن السابع عشر بواسطة الرياضي (غاليلي) الإيطالي.
والقرآن يدمج في ضمن دلائله الجمة، وعَقِبَ دليلِ تكوينِ النور والظلمة _ دليلاً رُمِزَ إليه رمزاً؛ فلم يتناولْه المفسرون، أو تسمع لهم ركزاً.
وإنما ناط دلالة تحرك الأرض بتحرك الجبال منها؛ لأن الجبال هي الأجزاء الناتئة من الكرة الأرضية؛ فظهور تحرك ظلالها متناقصة قبل الزوال إلى منتهى نقصها، ثم آخذة في الزيادة بعد الزوال.
ومشاهدةُ تحركِ تلك الظلال تحركاً يحاكي دبيب النمل أشد وضوحاً للراصد، وكذلك ظهور تحرك قممها أمام قرص الشمس في الصباح والمساء أظهر مع كون الشمس ثابتة في مقرها بحسب أرصاد البروج والأنواء.
ولهذا الاعتبار غير أسلوب الاستدلال الذي في قوله _تعالى_: [أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ] فجعل هنا بطريق الخطاب: [وَتَرَى الْجِبَالَ].(1/52)
والخطاب للنبي"تعليماً له لمعنى يُدْرِكُ هو كنهه؛ ولذلك خُصَّ الخطاب به، ولم يعمّم كما عمّم قوله: [أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ] في هذا الخطاب، وادخاراً لعلماء أمته الذين يأتون في وقت ظهور هذه الحقيقة الدقيقة.
فالنبي"أطلعه الله على هذا السر العجيب في نظام الأرض كما أطلع إبراهيم _عليه السلام_ على كيفية إحياء الموتى اختص الله رسوله " بعلم ذلك في وقته وائتمنه على علمه بهذا السر العجيب في قرآنه، ولم يأمره بتبليغه؛ إذ لا يتعلق بعلمه للناس مصلحة حينئذ حتى إذا كشف العلم عنه من نقابه وجد أهل القرآن ذلك حقاً في كتابه، فاستلّوا سيف الحجة به؛ وكان في قُرَابه.
وهذا التأويل للآية هو الذي يساعد قوله:[وَتَرَى الْجِبَالَ] المقتضي أن الرائي يراها في هيئة الساكنة، وقوله:[تَحْسَبُهَا جَامِدَةً] إذ هذا التأويل بمعنى الجامدة هو الذي يناسب حالة الجبال؛ إذ لا تكون الجبال ذائبة. 20/48_50
1_ سُمِّيت سورةَ القصص ولا يعرف لها اسمُ آخر, ووجه التسمية بذلك وقوع لفظ (القصص) فيها عند قوله _تعالى_: [فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ].
فالقصص الذي أضيفت إليه السورة هو قصص موسى الذي قصه على شعيب _عليهما السلام_ فيما لقيه في مصر قبل خروجه منها.
فلما حكي في السورة ما قصه موسى كانت هاته السورة ذات قصص لحكاية قصص، فكان القصص متوغلاً فيها, وجاء لفظ القصص في سورة يوسف ولكن سورة يوسف نزلت بعد هذه السورة.
وهي مكية في قول جمهور التابعين, وفيها آية:[إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ].
قيل: نزلت على النبي"في الجحفة في طريقه إلى المدينة للهجرة تسلية له على مفارقة بلده.
وهذا لا يناكد أنها مكية؛ لأن المراد بالمكي ما نزل قبل حلول النبي"بالمدينة كما أن المراد بالمدني ما نزل بعد ذلك ولو كان نزوله بمكة.(1/53)
وعن مقاتل وابن عباس أن قوله _تعالى_:[الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ] إلى قوله:[سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ] نزل بالمدينة.
وهي السورة التاسعة والأربعون في عداد نزول سور القرآن، نزلت بعد سورة النمل، وقبل سورة الإسراء؛ فكانت هذه الطواسين الثلاث متتابعة في النزول كما هو ترتيبها في المصحف، وهي متماثلة في افتتاح ثلاثتها بذكر موسى _عليه السلام_ ولعل ذلك الذي حمل كتاب المصحف على جعلها متلاحقة.
وهي ثمان وثمانون آية باتفاق العادين. 20/61
2_ اشتملت هذه السورة على التنويهِ بشأنِ القرآنِ، والتعريضِ بأن بلغاءَ المشركين عاجزون عن الإتيان بسورةٍ مثلِهِ, وعلى تفصيل ما أُجْمِلَ في سورة الشعراء من قول فرعون لموسى: [أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً] إلى قوله: [وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ] فَفَصَّلت سورةُ القصصِ كيف كانت تربيةُ موسى في آل فرعون.
وبُيِّن فيها سببُ زوالِ مُلْكِ فرعونَ.
وفيها تفصيلُ مَا أُجْمِلَ في سورة النمل من قوله:[إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً] فَفَصَّلت سورةُ القصصِ كيف سارَ موسى وأهلُه، وأين آنس النارَ، وَوَصْفَ المكان الذي نودي فيه بالوحي إلى أن ذَكَرَتْ دعوةَ موسى فرعونَ؛ فكانت هذه السورةُ أَوْعَبَ لأحوال نشأةِ موسى إلى وقت إبلاغه الدعوةَ، ثم أَجْمَلَتْ ما بعد ذلك؛ لأن تفصيلَه في سورة الأعراف وفي سورة الشعراء.
والمقصودُ من التفصيل ما يتضمنه مِنْ زيادةِ المواعظِ والعبر.
وإذْ قد كان سَوْقُ تلك القصةِ إنما هو للعبرة والموعظة؛ ليعلم المشركون سُنَّةَ اللهِ في بعثة الرسل ومعاملته الأممَ المكذبةَ لرسلها، وتحدِّي المشركين بعلم النبي" بذلك، وهو أميٌّ لم يقرأْ ولم يكتبْ، ولا خالط أهل الكتاب _ ذَيَّلَ اللهُ ذلك بتنبيه المشركين إليه، وتحذيرَهم من سوء عاقبة الشرك، وأنذرهم إنذاراً بليغاً.(1/54)
وفَنَّد قولَهم: [لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى] من الخوارق كقلب العصا حيةً، ثم انتقاضَهم في قولهم؛ إذ كذبوا موسى _أيضاً_.
وتحداهم بإعجاز القرآن وهديه مع هدي التوراة.
وأبطلَ معاذيرَهم، ثم أنذرهم بما حل بالأمم المكذبة رسل الله.
وساقَ لهم أدلة على وحدانية الله _تعالى_ وفيها كلُّها نعمٌ عليهم، وذكَّرهم بما سيحُلُّ بهم يوم الجزاء.
وأنحى عليهم في اعتزازهم على المسلمين بقوتهم ونَعْمتهم ومالهم بأن ذلك متاعُ الدنيا، وأن ما ادخر للمسلمين عند الله خيرٌ وأبقى.
وأَعْقَبَهُ بضربِ المثل لهم بحال قارونَ في قوم موسى, وتخلَّص من ذلك إلى التذكيرِ بأن أمثال أولئك لا يَحْظَوْن بنعيم الآخرة، وأن العاقبةَ للمتقين.
وتخلل ذلك إيماءٌ إلى اقتراب مهاجرةِ المسلمين إلى المدينة، وإيماء إلى أن الله مُظْهِرُهم على المشركين بقوله:[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ] الآية.
وخَتَم الكلامَ بتسلية الرسول"وتثبيته وَوَعْدِه بأنه يجعل بلَدَه في قبضته، ويمكِّنَه من نواصي الضالين.
وَيَقْرُبُ عندي أن يكون المسلمون ودُّوا أن تُفَصَّل لهم قصةُ رسالةَِ موسى _عليه السلام_ فكان المقصودُ انتفاعَهم بما في تفاصيلها من معرفةٍ نافعة لهم؛ تنظيراً لحالهم وحال أعدائهم؛ فالمقصودُ ابتداءً هُمُ المسلمون ولذلك قال _تعالى_ في أولها: [نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] أي للمؤمنين. 20/62_63
3_ فحصل تأكيد لمعنى تمكن الإفساد من فرعون؛ ذلك أن فعله هذا اشتمل على مفاسد عظيمة.(1/55)
المفسدة الأولى: التكبر والتجبر؛ فإنه مفسدة نفسية عظيمة تتولد منها مفاسد جمة من احتقار الناس، والاستخفاف بحقوقهم، وسوء معاشرتهم، وبث عداوته فيهم، وسوء ظنه بهم، وأن لا يرقب فيهم موجباتِ فَضْلٍ سوى ما يرضي شهوته وغضبه، فإذا انضم إلى ذلك أنه ولي أمرهم، وراعيهم كانت صفة الكبر مقتضيةً سوءَ رعايته لهم، والاجتراء على دحض حقوقهم، وأن يرمقهم بعين الاحتقار؛ فلا يعبأ بجلب الصالح لهم ودفع الضر عنهم، وأن يبتزَّ منافعهم لنفسه، ويُسَخِّرَ مَنِ استطاع منهم لخدمة أغراضه، وأن لا يلين لهم في سياسة، فيعاملهم بالغلظة، وفي ذلك بث الرعب في نفوسهم من بطشه وجبروته.
فهذه الصفة هي أم المفاسد، وجماعها؛ ولذلك قدمت على ما يذكر بعدها، ثم أعقبت بأنه كان من المفسدين.
المفسدة الثانية: أنه جعل أهل المملكة شيعاً، وفرقهم أقساماً وجعل منهم شيعاً مقربين منه، ويفهم منه أنه جعل بعضهم بضد ذلك، وذلك فساد في الأمة؛ لأنه يثير بينها التحاسد والتباغض، ويجعل بعضها يتربص الدوائر ببعض، فتكون الفرق المحظوظة عنده متطاولة على الفرق الأخرى، وتكدح الفرق الأخرى؛ لتزحزح المحظوظين عن حظوتهم بإلقاء النميمة والوشايات الكاذبة؛ فيحلوا محل الآخرين.
وهكذا يذهب الزمان في مكائد بعضهم لبعض؛ فيكون بعضهم لبعض فتنة، وشأن الملك الصالح أن يجعل الرعية منه كلها بمنزلة واحدة بمنزلة الأبناء من الأب يحب لهم الخير، ويقوِّمهم بالعدل واللين، لا ميزة لفرقة على فرقة، ويكون اقتراب أفراد الأمة منه بمقدار المزايا النفسية والعقلية.
المفسدة الثالثة: أنه يستضعف طائفة من أهل مملكته، فيجعلها محقرة مهضومة الجانب لا مساواة بينها وبين فرق أخرى، ولا عدل في معاملتها بما يعامل به الفرق الأخرى، في حين أن لها من الحق في الأرض ما لغيرها؛ لأن الأرض لأهلها وسكانها الذين استوطنوها، ونشأوا فيها.(1/56)
والمراد بالطائفة: بنو إسرائيل وقد كانوا قطنوا في أرض مصر برضى ملكها في زمن يوسف وأعطوا أرض (جاسان) وعمروها، وتكاثروا فيها، ومضى عليهم فيها أربعمائة سنة؛ فكان لهم من الحق في أرض المملكة ما لسائر سكانها؛ فلم يكن من العدل جعلهم بمنزلة دون منازل غيرهم.
وقد أشار إلى هذا المعنى قوله _تعالى_:[طَائِفَةً مِنْهُمْ] إذ جعلها من أهل الأرض الذين جعلهم فرعون شيعاً.
وأشار بقوله: [طَائِفَةً] إلى أنه استضعف فريقاً كاملاً، فأفاد ذلك أن الاستضعاف ليس جارياً على أشخاص معينين لأسباب تقتضي استضعافهم ككونهم ساعين بالفساد، أو ليسوا أهلاً للاعتداد بهم؛ لانحطاط في أخلاقهم وأعمالهم، بل جرى استضعافه على اعتبار العنصرية والقبلية، وذلك فساد؛ لأنه يقرن الفاضل بالمفضول.
من أجل ذلك الاستضعاف المنوط بالعنصرية أجرى شدته على أفراد تلك الطائفة دون تمييز بين مستحق وغيره، ولم يراع غير النوعية من ذكورة وأنوثة وهي:
المفسدة الرابعة: أنه يُذَبِّح أبناءهم أي يأمر بذبحهم؛ فإسناد الذبح إليه مجاز عقلي.
والمراد بالأبناء: الذكور من الأطفال, وقد تقدم ذكر ذلك في سورة البقرة, وقَصْدُه من ذلك أن لا تكون لبني إسرائيل قوة من رجال قبيلتهم حتى يكون النفوذ في الأرض لقومه خاصة.
المفسدة الخامسة: أنه يستحيي النساء، أي يستبقي حياة الإناث من الأطفال؛ فأطلق عليهن اسم النساء باعتبار المآل إيماءً إلى أنه يستحييهن؛ ليصرن نساء؛ فتصلحن لما تصلح له النساء وهو أن يصرن بغايا؛ إذ ليس لهن أزواج.
وإذ كان احتقارهن بصد قومه عن التزوج بهن فلم يبق لهن حظ من رجال القوم إلا قضاء الشهوة.
وباعتبار هذا المقصد انقلب الاستحياء مفسدة بمنزلة تذبيح الأبناء؛ إذ كل ذلك اعتداء على الحق.
وقد تقدم آنفاً موقع جملة:[ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ]. 20/69_70(1/57)
4_ قال _تعالى_:[وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ] فجمع في آية واحدة خبرين، وأمرين، ونهيين، وبشارتين.
فالخبران هما: [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوْسَى] وقوله: [فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ] لأنه يُشْعِر أنها ستخاف عليه.
والأمران هما: [أَرْضِعِيْهِ] و [أَلْقِيْهِ].
والنهيان: [وَلاَ تَخَافِي] و [لاَ تَحْزَنِي].
والبشارتان: [إِنَّا رَادُوْهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوْهُ مِنَ المُرْسَلِيْن].
والخوف: توقع أمر مكروه، والحزن: حالة نفسية تنشأ من حادث مكروه للنفس كفوات أمر محبوب، أو فقد حبيب، أو بعده، أو نحو ذلك.
والمعنى: لا تخافي عليه الهلاك من الإلقاء في اليم، ولا تحزني على فراقه.
والنهي عن الخوف وعن الحزن نهي عن سببيهما، وهما توقع المكروه، والتفكر في وحشة الفراق.
وجملة:[إِنَّا رَادُوْهُ إِلَيْكِ] في موقع العلة للنهيين؛ لأن ضمان رده إليها يقتضي أنه لا يهلك، وأنها لا تشتاق إليه بطول المغيب.
وأما قوله:[وَجَاعِلُوْهُ مِنَ المُرْسَلِيْن] فإدخال للمسرة عليها. 20/74_75
5_ وقرة العين: كناية عن السرور وهي كناية ناشئة عن ضدها، وهو سخنة العين التي هي أثر البكاء اللازم للأسف والحزن؛ فلما كني عن الحزن بسخنة العين في قولهم في الدعاء بالسوء: أسخن الله عينه، وقول الراجز:
أوه أديم عرضه وأسخن ... بعينه بعد هجوع الأعين
أتبعوا ذلك بأن كنوا عن السرور بضد هذه الكناية فقالوا: قرة عين، وأقر الله عينه؛ فحكى القرآن ما في لغة امرأة فرعون من دلالة على معنى المسرة الحاصلة للنفس ببليغ ما كنى به العرب عن ذلك وهو قرة عين.
ومن لطائفه في الآية أن المسرة المعنية هي مسرة حاصلة من مرأى محاسن الطفل كما قال _تعالى_: [وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي]. 20/78(1/58)
6_ [فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13)].
تقدم نظير قوله: [فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ] في سورة طه.
وقوله: [وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ] فإنما تأكيد حرف كي بمرادفه وهو لام التعليل؛ للتنصيص من أول وهلة على أنه معطوف على الفعل المثبت، لا على الفعل المنفي.
وضمير: [أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ] عائد إلى الناس المفهوم من المقام، أو إلى رعية فرعون، ومن الناس بنو إسرائيل.
والاستدراكُ ناشئٌ عن نصب الدليل لها على أن وعد الله حق، أي فعلمت ذلك وحدها وأكثر القوم لا يعلمون ذلك؛ لأنهم بين مشركين وبين مؤمنين تقادم العهد على إيمانهم، وخلت أقوامُهم من علماء يلقنونهم معانيَ الدين؛ فأصبح إيمانهم قريباً من الكفر.
وموضع العبرة من هذه القصة أنها تتضمن أموراً ذات شأن؛ ذكرى للمؤمنين، وموعظة للمشركين.
فأول ذلك وأعظمه: إظهار أن ما علمه الله وقدَّره هو كائن لا محالة كما دل عليه قوله: [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ] إلى قوله: [يَحْذَرُونَ] وإن الحذر لا ينجي من القدر.
وثانيه: إظهار أن العلو الحق لله تعالى وللمؤمنين، وأن علوَّ فرعونَ لم يغن عنه شيئاً في دفع عواقب الجبروت والفساد؛ ليكون ذلك عبرةً لجبابرة المشركين من أهل مكة.
وثالثه: أن تمهيد القصة بعلو فرعون وفساد أعماله مشيرٌ إلى أن ذلك هو سبب الانتقام منه، والأخذ بناصر المستضعفين؛ ليحذر الجبابرة سوء عاقبة ظلمهم، وليرجو الصابرون على الظلم أن تكون العاقبة لهم.(1/59)
ورابعه: الإشارة إلى حكمة: [وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ] في جانب بني إسرائيل [وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ] في جانب فرعون، إذ كانوا فرحين باستخدام بني إسرائيل، وتدبير قطع نسلهم.
وخامسه: أن إصابة قوم فرعون بغتة من قبل من أَمَّلوا منه النفع أشد عبرة للمعتبر، وأوقع حسرة على المستبصر، وأدل على أن انتقام الله يكون أعظم من انتقام العدو كما قال: [فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً] مع قوله: [عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً].
وسادسه: أنه لا يجوز بحكم التعقل أن تُستأصل أمة كاملة؛ لتوَقُّعِ مُفْسِدٍ فيها؛ لعدم التوازن بين المفسدتين، ولأن الإحاطة بأفراد أمة كاملة متعذرة؛ فلا يكون المتوقع فساده إلا في الجانب المغفول عنه من الأفراد؛ فتحصل مفسدتان هما أخذ البريء، وانفلات المجرم.
وسابعه: تعليم أن الله بالغُ أمره بتهيئه الأسباب المفضية إليه، ولو شاء الله لأهلك فرعون ومن معه بحادث سماوي ولما قَدَّر لإهلاكهم هذه الصورة المرتبة، ولأنجى موسى وبني إسرائيل إنجاءً أسرعَ.
ولكنه أراد أن يحصل ذلك بمشاهدة تنقلات الأحوال ابتداءً من إلقاء موسى في اليم إلى أن رده إلى أمه؛ فتكون في ذلك عبرةٌ للمشركين الذين [قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] وليتسموا من بوارق ظهور النبي محمد " وانتقال أحوال دعوته في مدارج القوة أن ما وعدهم به واقع بأَخَرَةٍ.
وثامنه: العبرة بأن وجود الصالحين من بين المفسدين؛ فإن وجود امرأة فرعون كان سبباً في صد فرعون عن قتل الطفل مع أنه تحقق أنه إسرائيلي، فقالت امرأته: [لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً] كما قدمنا تفسيره.(1/60)
وتاسعه: ما في قوله: [وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ] من الإيماء إلى تذكير المؤمنين بأن نصرهم حاصل بعد حين، ووعيد المشركين بأن وعيدهم لا مفر لهم منه.
وعاشره: ما في قوله: [وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ] من الإشارة إلى أن المرء يؤتى من جهله النظر في أدلة العقل.
ولما في هذه القصة من العبر اكتفى مصعب بن الزبير بطالعها عن الخطبة التي حقه أن يخطب بها في الناس حين حلوله بالعراق من قبل أخيه عبدالله بن الزبير مكتفياً بالإشارة مع التلاوة؛ فقال: [طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ (وأشار إلى جهة الشام يريد عبدالملك بن مروان) وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ (وأشار بيده نحو الحجاز، يعني أخاه عبدالله بن الزبير وأنصاره) وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا (وأشار إلى العراق يعني الحجاج) مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ]. 20/85_87
7_ وحين الغفلة: هو الوقت الذي يغفل فيه أهل المدينة عما يجري فيها، وهو وقت استراحة الناس، وتفرقهم، وخلو الطريق منهم قيل: كان ذلك في وقت القيلولة، وكان موسى مجتازاً بالمدينة وحده، قيل: ليلحق بفرعون؛ إذ كان فرعون قد مر بتلك المدينة.(1/61)
والمقصود من ذكر هذا الوقت الإشارة إلى أن قَتْلَهُ القبطيَّ لم يشعر به أحد؛ تمهيداً لقوله بعد:[ قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ] الآيات، ومقدمةً لذكر خروجه من أرض مصر. 20/88
8_ ومعنى كون: [هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ]: يجوز أن يكون المراد بهذين الوصفين أن موسى كان يعلم أنه من بني إسرائيل بإخبار قصة التقاطه من اليم، وأن تكون أمه قد أفضت إليه بخبرها وخبره كما تقدم؛ فنشأ موسى على عداوة القبط، وعلى إضمار المحبة لبني إسرائيل.
وأما وَكْزُه القبطيَّ فلم يكن إلا انتصاراً للحق على جميع التقادير؛ ولذلك لما تكررت الخصومة بين ذاك الإسرائيلي وبين قبطي آخر وأراد موسى أن يبطش بالقبطي لم يقل له القبطي: إن تريد إلا أن تنصر قومك وإنما قال: [إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ].
قيل: كان القبطي من عملة مخبز فرعون فأراد أن يحمل حطباً إلى الفرن، فدعا إسرائيلياً؛ ليحمله، فأبى، فأراد أن يجبره على حمله، وأن يضعه على ظهره، فاختصما، وتضاربا ضرباً شديداً، وهو المعبر عنه بالتقاتل على طريق الاستعارة.
والاستغاثة: طلب الغوث وهو التخليص من شدة، أو العون على دفع مشقة.
وإنما يكون الطلب بالنداء فَذِكْرُ الاستغاثةِ يؤذن بأن الإسرائيلي كان مغلوباً، وأن القبطي اشتد عليه، وكان ظالماً؛ إذ لا يُجْبَرُ أحدٌ على عمل يعمله.
والوكز: الضرب باليد بجمع أصابعها كصورة عقد ثلاثة وسبعين، ويسمى الجُمْع بضم الجيم وسكون الميم.
و[فَقَضَى عَلَيْهِ]: جملة تقال بمعنى مات لا تُغَيَّر؛ ففاعل (قضى) محذوف أبداً على معنى قضى عليه قاضٍ وهو الموت, ويجوز أن يكون عائداً إلى الله _تعالى_ المفهوم من المقام؛ إذ لا يقضي بالموت غيره كقوله:[فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ].
وقيل: ضمير (فقضى) عائد إلى موسى، وليس هذا بالبين, فالمعنى: فوكزه موسى فمات القبطي.(1/62)
وكان هذا قتلُ خطأ صادف الوكزُ مقاتلَ القبطي، ولم يرد موسى قتله.
ووقع في سفر الخروج من التوراة في الإصحاح الثاني أن موسى لما رأى المصريَّ يضرب العبرانيَّ التفت هنا وهناك، ورأى أن ليس أحد فقتل المصري، وطمره في الرمل.
وجملة:[قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ]: مستأنفةٌ استئنافاً بيانياً كأن سائلاً سأل: ماذا كان من أمر موسى حين فوجئ بموت القبطي.
وحكاية ذلك للتنبيه على أن موسى لم يخطر بباله حينئذ إلا النظر في العاقبة الدينية, وقوله هو كلامه في نفسه.
والإشارة بهذا إلى الضربة الشديدة التي تسبب عليها الموت، أو إلى الموت المشاهد من ضربته، أو إلى الغضب الذي تسبب عليه موت القبطي.
والمعنى: أن الشيطان أوقد غضبه حتى بالغ في شدة الوكز, وإنما قال موسى ذلك؛ لأن قتل النفس مستقبح في الشرائع البشرية؛ فإن حفظ النفس المعصومة من أصول الأديان كلها, وكان موسى يعلم دين آبائه لعله بما تلقاه من أمه المرأة الصالحة في مدة رضاعه وفي مدة زيارته إياها.
وجملة:[إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ]: تعليل لكون شدة غضبه من عمل الشيطان؛ إذ لولا الخاطر الشيطاني لاقتصر على زجر القبطي، أو كفه عن الذي من شيعته؛ فلما كان الشيطان عدواً للإنسان وكانت له مسالك إلى النفوس استدل موسى بفعله المؤدي إلى قتل نفس أنه فعل ناشئ عن وسوسة الشيطان، ولولاها لكان عمله جارياً على الأحوال المأذونة.
وفي هذا دليل على أن الأصل في النفس الإنسانية هو الخير، وأنه الفطرة، وأن الانحراف عنها يحتاج إلى سبب غير فطري، وهو تخلل نزغ الشيطان في النفس. 20/89_90
9_ ولا التفات في هذا إلى جواز صدور الذنب من النبي؛ لأنه لم يكن يومئذ نبياً، ولا مسألة صدور الذنب من النبي قبل النبوة؛ لأن تلك مفروضة فيما تقرر حكمه من الذنوب بحسب شرع ذلك النبي أو شرع نبي هو متبعه مثل عيسى _عليه السلام_ قبل نبوءته، لوجود شريعة التوراة، وهو من أتباعها. 20/91(1/63)
10_ ومدين: قوم من ذرية مدين بن إبراهيم، وقد مضى الكلام عليهم عند قوله _تعالى_: [وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً] في سورة الأعراف.
وأرض مدين واقعة على الشاطئ الغربي من البحر الأحمر وكان موسى قد سلك إليها عند خروجه من بلد (رعمسيس) أو (منفيس) طريقاً غربية جنوبية؛ فسلك برية تمر به على أرض العمالقة وأرض الأدوميين، ثم بلاد النبط إلى أرض مدين, تلك مسافة ثمانمائة وخمسين ميلاً تقريباً.
وإذ قد كان موسى في سيره ذلك راجلاً فتلك المسافة تستدعي من المدة نحواً من خمسة وأربعين يوماً, وكان يبيت في البرية لا محالة, وكان رجلاً جلداً، وقد ألهمه الله سواء السبيل؛ فلم يضل في سيره. 20/98
11_ واسم المرأتين (ليا) و(صفورة) وفي سفر الخروج: أن أباهما كاهن مدين, وسماه في ذلك السفر أول مرة رعويل، ثم أعاد الكلام عليه فسماه يثرون، ووصفه بحمي موسى؛ فالمسمى واحد.
وقال ابن العبري في تاريخه: يثرون بن رعويل له سبع بنات خرج للسقي منهما اثنتان؛ فيكون شعيب هو المسمى عند اليهود يثرون.
والتعبير عن النبي بالكاهن اصطلاح؛ لأن الكاهن يخبر عن الغيب، ولأنه يطلق على القائم بأمور الدين عند اليهود.
وللجزم بأنه شعيب الرسول جعل علماؤنا ما صدر منه في هذه القصة شرعاً سابقاً؛ ففرعوا عليه مسائل مبنية على أصل: أن شرع من قبلنا من الرسل الإلهيين شرع لنا ما لم يرد ناسخ, ومنها مباشرة المرأة الأعمال والسعي في طرق المعيشة، ووجوب استحيائها، وولاية الأب في النكاح، وجعل العمل البدني مهراً، وجمع النكاح والإجارة في عقد واحد، ومشروعية الإجارة.
وقد استوفى الكلام عليها القرطبي, وفي أدلة الشريعة الإسلامية غُنْيَةٌ عن الاستنباط مما في هذه الآية إلا أن بعض هذه الأحكام لا يوجد دليله في القرآن؛ ففي هذه الآية دليل لها من الكتاب عند القائلين بأن شرع من قبلنا شرع لنا.(1/64)
وفي إذنه لابنتيه بالسقي دليل على جواز معالجة المرأة أمور مالها، وظهورها في مجامع الناس؛ إذ كانت تستر ما يجب ستره؛ فإن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكاه شرعنا ولم يأت من شرعنا ما ينسخه.
وأما تحاشي الناس من نحو ذلك فهو من المروءة، والناس مختلفون فيما تقتضيه المروءة، والعاداتُ متباينةٌ فيه، وأحوالُ الأممِ فيه مختلفةُ وخاصة ما بين أخلاق البدو والحضر من الاختلاف. 20/101
12_ وفيه جواز عرض الرجل مولاته على من يتزوجها؛ رغبة في صلاحه.
وجعل لموسى اختيار إحداهما؛ لأنه قد عرفها وكانت التي اختارها موسى (صفورة) وهي الصغرى كما جاء في رواية أبي ذر عن النبي".
وإنما اختارها دون أختها؛ لأنها التي عرف أخلاقها باستحيائها، وكلامها؛ فكان ذلك ترجيحاً لها عنده.
وكان هذا التخيير قبل انعقاد النكاح؛ فليس فيه جهل المعقود عليها. 20/106
13_ [أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)].
التعبير عنهم باسم الإشارة هنا للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيذكر بعد اسم الإشارة من أجل الأوصاف التي ذكرت قبل اسم الإشارة مثل ما تقدم في قوله: [أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ] في سورة البقرة.
وعد الله لهم سبع خصال من خصال أهل الكمال: إحداها: أخروية، وهي: [يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ] أي أنهم يؤتون أجرين على إيمانهم، أي يضاعف لهم الثواب؛ لأجل أنهم آمنوا بكتابهم من قبل، ثم آمنوا بالقرآن؛ فعبر عن مضاعفة الأجر ضعفين بالمرتين؛ تشبيهاً للمضاعفة بتكرير الإيتاء، وإنما هو إيتاء واحد.(1/65)
وفائدة هذا المجاز: إظهار العناية حتى كأن المثيب يعطي، ثم يكرر عطاءه؛ ففي: [يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ] تمثيلة.
وفي الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله"قال: =ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدركني فآمن بي واتبعني وصدقني فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله _تعالى_ وحق سيده فله أجران، ورجل كانت له أمة فغذاها، فأحسن غذاءها، ثم أدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها؛ فله أجران+.
رواه الشعبي، وقال لعطاء الخراساني: خذه بغير شيء؛ فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة.
والثانية: الصبر، والصبر من أعظم خصال البر، وأجمعها للمبرات، وأعونها على الزيادة.
والمراد بالصبر صبرهم على أذى أهل ملتهم، أو صبرهم على أذى قريش، وهذا يتحقق في مثل الوفد الحبشي.
ولعلهم المراد من هذه الآية ولذلك أتبع بقوله: [وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ] وقوله: [وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ].
والخصلة الثالثة: درؤهم السيئة بالحسنة، وهي من أعظم خصال الخير وأدعاها إلى حسن المعاشرة قال _تعالى_: [وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ].
فيحصل بذلك فائدة دفع مضرة المسيء عن النفس، وإسداء الخير إلى نفس أخرى، فهم لم يردوا جلافة أبي جهل بمثلها، ولكن بالإعراض مع كلمة حسنة وهي: [سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ].
وأما الإنفاق فلعلهم كانوا ينفقون على فقراء المسلمين بمكة، وهو الخصلة الرابعة، ولا يخفى مكانها من البر.
والخصلة الخامسة: الإعراض عن اللغو، وهو الكلام العبث الذي لا فائدة فيه، وهذا الخلق من مظاهر الحكمة؛ إذ لا ينبغي للعاقل أن يشغل سمعه ولبه بما لا جدوى له، وبالأولى يتنزه عن أن يصدر منه ذلك.(1/66)
والخصلة السادسة: الكلام الفصل، وهو قولهم: [لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ].
وهذا من أحسن ما يجاب السفهاء، وهو أقرب لإصلاحهم، وأسلم من تزايد سفههم.
ولقد أنطقهم الله بحكمة جعلها مستأهلة لأن تنظم في سلك الإعجاز؛ فألهمهم تلك الكلمات، ثم شَرَّفها بأن حكيت في نسج القرآن، كما ألهم عمر قوله: [عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ] الآية.
ومعنى: [لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ] أن أعمالنا مستحقة لنا، كناية عن ملازمتهم إياها.
وأما قولهم: [وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ] فهو تتميم على حد [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ].
والمقصود من السلام: أنه سلام المتاركة المُكَنَّى بها عن الموادعة أن لا نعود لمخاطبتكم، قال الحسن: كلمة: السلام عليكم، تحية بين المؤمنين، وعلامة الاحتمال من الجاهلين.
ولعل القرآن غَيَّر مقالتهم بالتقديم والتأخير؛ لتكون مشتملة على الخصوصية المناسبة للإعجاز؛ لأن تأخير الكلام الذي فيه المتاركة إلى آخر الخطاب أولى؛ ليكون فيه براعة المقطع.
وحذف القرآن قولهم: لم نأل أنفسنا رشداً؛ للاستغناء عنه بقولهم: [لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ].
السابعة: ما أفصح عنه قولهم: [لاَ نَبْتَغِيْ الجَاهِلِيْنَ] من أن ذلك خلقهم أنهم يتطلبون العلم ومكارم الأخلاق.
والجملة تعليل للمتاركة، أي لأنَّا لا نحب مخالطةَ أهل الجهالة بالله، وبدين الحق وأهلِ خُلُقِ الجهل الذي هو ضد الحلم؛ فاستعمل الجهل في معنييه المشترك فيها، ولعله تعريض بكنية أبي جهل الذي بَذَا عليهم بلسانه.
والظاهر أن هذه الكلمة يقولونها بين أنفسهم، ولم يجهروا بها لأبي جهل وأصحابه بقرينة قوله: [وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ] وقوله: [سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ] وبذلك يكون القول المحكي قولين: قول وجهوه لأبي جهل وصحبه، وقول دار بين أهل الوفد. 20/144_146(1/67)
14_ فقوله: [إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى]: استئناف ابتدائي لذكر قصة ضربت مثلاً لحال بعض كفار مكة وهم سادتهم مثل الوليد بن المغيرة وأبي جهل ابن هشام ولها مزيد تعلق بجملة: [وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا] إلى قوله: [ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ].
ولهذه القصة اتصال بانتهاء قصة جند فرعون المنتهية عند قوله _تعالى_: [وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا] الآية.
و[قَارُوْنَ]: اسم معرب أصله في العبرانية (قُورَح) _بضم القاف مشبعة وفتح الراء_ وقع في تعريبه تغيير بعض حروفه للتخفيف، وأجري وزنه على متعارف الأوزان العربية مثل طالوت، وجالوت؛ فليست حروفه حروف اشتقاق من مادة قرن.
و(قورح) هذا ابن عم موسى _ عليه السلام _ دنيا، فهو قورح بن يصهار ابن قهات بن لاوي بن يعقوب.
وموسى هو ابن عمرم المسمى عمران في العربية ابن قاهت؛ فيكون يصاهر أخا عمرم.
وورد في الإصحاح السادس عشر من سفر العدد أن (قورح) هذا تألب مع بعض زعماء بني إسرائيل مائتين وخمسين رجلاً منهم على موسى وهارون _عليهما السلام_ حين جعل الله الكهانة في بني هارون من سبط (لاوي) فحسدهم قورح؛ إذ كان ابن عمهم، وقال لموسى وهارون: ما بالكما ترتفعان على جماعة الرب؛ إن الجماعة مقدسة، والرب معها؛ فغضب الله على قورح وأتباعه، وخسف بهم الأرض، وذهبت أموال (قورح) كلها، وكان ذلك حين كان بنو إسرائيل على أبواب (أريحا) قبل فتحها.
وذكر المفسرون أن فرعون كان جعل (قورح) رئيساً على بني إسرائيل في مصر، وأنه جمع ثروة عظيمة.
وما حكاه القرآن يبين سبب نشوء الحسد في نفسه لموسى؛ لأن موسى لما جاء بالرسالة، وخرج ببني إسرائيل زال تأمر(قارون) على قومه؛ فحقد على موسى. وقد أكثر القصاص من وصف بذخة قارون وعظمته ما ليس في القرآن، وما لهم به من برهان، وتلقفه المفسرون حاشا ابن عطية. 20/174_175(1/68)
15_ وكلمة [وَيْكَأَنَّ]: عند الأخفش وقطرب مركبة من ثلاثة كلمات: (ويْ) وكاف الخطاب و(أن).
فأما (وي) فهي اسم فعل بمعنى: أعجب، وأما الكاف فهي لتوجيه الخطاب؛ تنبيهاً عليه مثل الكاف اللاحقة لأسماء الإشارة، وأما (أن) فهي (أن) المفتوحة الهمزة أخت (إن) المكسورة الهمزة فما بعدها في تأويل مصدر هو المتعجب منه، فيقدر لها حرفُ جَرٍّ مُلْتَزَمٌ حذفُه لكثرة استعماله، وكان حذفه مع (أن) جائزاً فصار في هذا التركيب واجباً، وهذا الحرف هو اللام أو (من) فالتقدير: أعجب يا هذا من بسط الله الرزق لمن يشاء.
وكل كلمة من هذه الكلمات الثلاث تستعمل بدون الأخرى فيقال: وي بمعنى أعجب، ويقال (ويك) بمعناه _أيضاً_ قال عنترة:
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ... قيل الفوارس ويك عنترُ أَقْدِمِ
ويقال: ويكأن، كما في هذه الآية، وقول سعيد بن زيد أو نبيه بن الحجاج السهمي:
ويكأن من يكن له نشب يُحْـ ... ـبَبْ ومن يفتقرْ يَعِشْ عيشَ ضرِّ فخفف
فخفف (أن) وكتبوها متصلة؛ لأنها جرت على الألسن كذلك في كثير الكلام، فلم يتحققوا أصل تركيبها.
وكان القياس أن تكتب (ويك) مفصولة عن (أن) وقد وجدوها مكتوبة مفصولة في بيت سعيد بن زيد.
وذهب الخليل، ويونس، وسيبويه، والجوهري، والزمخشري إلى أنها مركبة من كلمتين (وي) و(كأن) التي للتشبيه.
والمعنى: التعجب من الأمر، وأنه يشبه أن يكون كذا، والتشبيه مستعمل في الظن واليقين، والمعنى: أما تعجب كأن الله يبسط الرزق
وذهب أبو عمرو بن العلاء، والكسائي، والليث، وثعلب ونسبه في الكشاف إلى الكوفيين (وأبو عمرو بصري) أنها مركبة من أربع كلمات كلمة (ويل) وكاف الخطاب وفعل (اعلم) و(أن) وأصله: ويلك اعلم أنه كذا، فحذف لام الويل وحذف فعل (اعلم) فصار (وَيْكَأنّه).
وكتابتها متصلة على هذا الوجه متعينة؛ لأنها صارت رمزا لمجموع كلماته؛ فكانت مثل النحت.(1/69)
ولاختلاف هذه التقادير اختلفوا في الوقف فالجمهور يقفون على (ويكأنه) بتمامه، والبعض يقف على (وي) والبعض يقف على (ويك).
ومعنى الآية على الأقوال كلها أن الذين كانوا يتمنون منزلة قارون ندموا على تمنيهم لما رأوا سوء عاقبته، وامتلكهم العجب من تلك القصة ومن خفي تصرفات الله _تعالى_ في خلقه وعلموا وجوب الرضى بما قدر للناس من الرزق؛ فخاطب بعضهم بعضاً بذلك وأعلنوه. 20/187_188
16_ [تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ].
ومعنى جَعْلها لهم أنها مُحْضَرةٌ لأجلهم ليس لهم غيرها.
وأما من عداهم فلهم أحوال ذات مراتب أفصحت عنها آيات أخرى، وأخبار نبوية؛ فإن أحكام الدين لا يقتصر في استنباطها على لوك كلمة واحدة.
وعن الفضيل بن عياض أنه قرأ هذه الآية ثم قال: =ذهبت الأماني ههنا+.
أي أماني الذين يزعمون أنه لا يضر مع الإيمان شيء، وأن المؤمنين كلَّهم ناجون من العقاب، وهذا قول المرجئة قال قائلهم:
كن مسلماً ومن الذنوب فلا تخف ... حاشا المهيمن أن يري تنكيدا
لو شاء أن يصليك نار جهنم ... ما كان ألهم قلبك التوحيدا
20/189_190
1_ اشتهرت هذه السورة بسورة العنكبوت من عهد رسول الله"لما رواه عكرمة قال: كان المشركون إذا سمعوا تسمية سورة البقرة وسورة العنكبوت يستهزئون بهما، أي بهذه الإضافة فنزل قوله _تعالى_: [إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ].
يعني المستهزئين بهذا ومثله، وقد تقدم الإلماع إلى ذلك عند قوله _تعالى_: [إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا] في سورة البقرة.
ووجه إطلاق هذا الاسم على هذه السورة أنها اختصت بذكر مثل العنكبوت في قوله _تعالى_ فيها: [مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً].(1/70)
وهي مكية كلها في قول الجمهور، ومدنية كلها في أحد قولي ابن عباس وقتادة، وقيل: بعضها مدني. 20/199
2_ وقيل: هذه السورة آخر ما نزل بمكة وهو يناكد بظاهره جعلهم هذه السورة نازلةً قبل سورةِ المطففين، وسورةُ المطففين آخرُ السور المكية.
ويمكن الجمع بأن ابتداء نزول سورة العنكبوت قبل ابتداء نزول سورة المطففين، ثم نزلت سورة المطففين كلها في المدة التي كانت تنزل فيها سورة العنكبوت، ثم تَمَّ بعد ذلك جميع هذه السورة.
وهذه السورة هي السورة الخامسة والثمانون في ترتيب نزول سور القرآن نزلت بعد سورة الروم، وقبل سورة المطففين، وسيأتي عند ذكر سورة الروم ما يقتضي أن العنكبوت نزلت في أواخر سنة إحدى قبل الهجرة، فتكون من أخريات السور المكية بحيث لم ينزل بعدها بمكة إلا سورة المطففين.
وآياتها تسع وستون باتفاق أصحاب العدد من أهل الأمصار. 20/200
3_ أغراض هذه السورة: افتتاحُ هذه السورةِ بالحروف المقطَّعة يؤذن بأن من أغراضها تَحَدِّيَ المشركين بالإتيان بمثل سورة منه _كما بينا في سورة البقرة_ وجدالَ المشركين في أن القرآن نَزَل من عند الله هو الأصل فيما حدث بين المسلمين والمشركين من الأحداث المُعَبَّرِ عنها بالفتنة في قوله هنا: [أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ].
فَتَعَيَّنَ أن أولَ أغراضِ هذه السورةِ تثبيتُ المسلمين الذين فتنهم المشركون، وصدُّوهم عن الإسلام، أو عن الهجرة مع من هاجروا.
وَوَعْدُ اللهِ بنصر المؤمنين، وخَذْلُ أهلِ الشرك وأنصارهم وملقنيهم من أهل الكتاب.
والأمرُ بمجافاة المشركين، والابتعادُ منهم ولو كانوا أقربَ القرابة.
ووجوبُ صبرِ المؤمنين على أذى المشركين، وأن لهم في سعةِ الأرضِ ما ينجيهم من أذى أهل الشرك.
ومجادلةُ أهلِ الكتاب بالتي هي أحسن ما عدا الظالمين منهم للمسلمين.
وأَمْرُ النبيِّ " بالثبات على إبلاغِ القرآنِ وشرائعِ الإسلام.(1/71)
والتأسيْ في ذلك بأحوالِ الأممِ التي جاءتها الرسلُ، وأن محمداً " جاء بمثل ما جاؤوا به.
وما تخلل أخبار مَنْ ذُكر فيها من الرسل من العبر.
والاستدلالُ على أن القرآنَ منزلٌ من عند الله بدليل أُمِّيَةِ مَنْ أُنْزِلَ عليه ".
وتذكيرُ المشركين بنعم الله عليهم؛ ليقلعوا عن عبادةِ ما سواه.
وإلزامُهم بإثباتِ وحدانيته بأنهم يعترفون بأنه خالقُ مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض.
والاستدلالُ على البعثِ بالنظر في بدء الخلق، وهو أعجبُ من إعادته.
وإثباتُ الجزاء على الأعمال.
وتوعُّدُ المشركين بالعذاب الذي يأتيهم بغتةً وهم يتهكمون باستعجاله.
وضَرْبُ المثل لاتخاذ المشركين أولياء من دون الله بِمَثَلٍ وهي بيت العنكبوت. 20/200_201
4_ [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ].
وإنما أمر بالسير في الأرض؛ لأن السير يدني إلى الرائي مشاهداتٍ جمةً من مختلف الأرضين بجبالها وأنهارها ومحوِيَّاتها، ويمر به على منازل الأمم حاضرها وبائدها؛ فيرى كثيراً من أشياء وأحوال لم يعتد رؤية أمثالها؛ فإذا شاهد ذلك جال نظر فكره في تكوينها بعد العدم جولاناً لم يكن يخطر له ببال حينما كان يشاهد أمثال تلك المخلوقات في ديار قومه؛ لأنه لما نشأ فيها من زمن الطفولة فما بعده قبل حدوث التفكير في عقله اعتاد أن يمر ببصره عليها دون استنتاج من دلائلها حتى إذا شاهد أمثالها مما كان غائباً عن بصره جالت في نفسه فكرة الاستدلال؛ فالسير في الأرض وسيلة جامعة لمختلف الدلائل؛ فلذلك كان الأمر به لهذا الغرض من جوامع الحكمة.(1/72)
وجيء في جانب بدء الخلق بالفعل الماضي، لأن السائر ليس له من قرار في طريقه، فندر أن يشهد حدوث بدء مخلوقات، ولكنه يشهد مخلوقات مبدوءة من قَبْل؛ فيفطن إلى أن الذي أوجدها إنما أوجدها بعد أن لم تكن، وأنه قادر على إيجاد أمثالها؛ فهو بالأحرى قادر على إعادتها بعد عدمها.
والاستدلال بالأفعال التي مضت أَمْكَنُ، لأن للشيء المتقرر تحققاً محسوساً.
وجيء في هذا الاستدلال بفعل النظر؛ لأن إدراك ما خلقه الله حاصل بطريق البصر، وهو بفعل النظر أولى وأشهر؛ لينتقل منه إلى إدراك أنه ينشئ النشأة الآخرة. 20/230
5_ وقطع السبيل: قطع الطريق، أي التصدي للمارين فيه بأخذ أموالهم، أو قتل أنفسهم، أو إكراههم على الفاحشة.
وكان قوم لوط يقعدون بالطرق؛ ليأخذوا من المارة من يختارونه؛ فقطع السبيل فساد في ذاته، وهو أفسد في هذا المقصد.
وأما إتيان المنكر في ناديهم فإنهم جعلوا ناديهم للحديث في ذكر هذه الفاحشة، والاستعداد لها، ومقدماتها كالتغازل برمي الحصى اقتراعاً بينهم على من يرمونه، والتظاهر بتزيين الفاحشة زيادة في فسادها وقبحها؛ لأنه مُعِيْنٌ على نبذ التستر منها، ومعين على شيوعها في الناس. 20/240_241
6_ وفي قوله: [مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ] تشديد في الإنكار عليهم في أنهم الذين سنوا هذه الفاحشة السيئة للناس، وكانت لا تخطر لأحد ببال.
وإن كثيراً من المفاسد تكون الناس في غفلة عن ارتكابها؛ لعدم الاعتياد بها حتى إذا أقدم أحد على فعلها، وشوهد ذلك منه تنبهت الأذهان إليها، وتعلقت الشهوات بها. 20/241
7_ وأمره بإقامة الصلاة؛ لأن الصلاة عمل عظيم، وهذا الأمر يشمل الأمة؛ فقد تكرر الأمر بإقامة الصلاة في آيات كثيرة.
وعلَّلَ الأمر بإقامة الصلاة بالإشارة إلى ما فيها من الصلاح النفساني فقال: [إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ].(1/73)
فموقع (إِنَّ) هنا موقع فاء التعليل ولا شك أن هذا التعليل مُوَجَّه إلى الأمة؛ لأن النبي " معصوم من الفحشاء والمنكر؛ فاقتصر على تعليل الأمر بإقامة الصلاة دون تعليل الأمر بتلاوة القرآن؛ لما في هذا الصلاح الذي جعله الله في الصلاة من سر إلهي لا يهتدي إليه الناس إلا بإرشاد منه _تعالى_ فأخبر أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والمقصود أنها تنهى المصلي.
وإذ قد كانت حقيقة النهي غير قائمة بالصلاة تَعَيَّنَ أن فعل [تَنْهَى] مستعمل في معنى مجازي بعلاقة، أو مشابهة.
والمقصود، أن الصلاة تيسر للمصلي ترك الفحشاء والمنكر.
وليس المعنى أن الصلاة صارفة المصلي عن أن يرتكب الفحشاء والمنكر؛ فإن المُشَاهَدَ يخالفه؛ إذ كم من مصلٍّ يقيم صلاته، ويقترف بعض الفحشاء والمنكر.
كما أنه ليس يصح أن يكون المراد أنها تصرف المصلي عن الفحشاء والمنكر ما دام متلبساً بأداء الصلاة؛ لقلة جدوى هذا المعنى؛ فإن أكثر الأعمال يصرف المشتغل به عن الاشتغال بغيره.
وإذ كانت الآية مسوقة للتنويه بالصلاة وبيان مزيتها في الدين تَعَيَّنَ أن يكون المراد أن الصلاة تحذر من الفحشاء والمنكر تحذيراً هو من خصائصها.
وللمفسرين طرائق في تعليل ذلك منها: ما قاله بعضهم: إن المراد به ما للصلاة من ثواب عند الله؛ فإن ذلك غرض آخر وليس منصباً إلى ترك الفحشاء والمنكر، ولكنه من وسائل توفير الحسنات لعلها أن تغمر السيئات؛ فيتعين لتفسير هذه الآية تفسيراً مقبولاً أن نعتبر حكمها عاماً في كل صلاة؛ فلا يختص بصلوات الأبرار، وبذلك تسقط عدة وجوه مما فسروا به الآية.
قال ابن عطية: =وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجب من الخشوع والإخبات صَلُحَتْ بذلك نفسه، وخامرها ارتقاب الله _تعالى_ فاطَّرد ذلك في أقواله وأفعاله، وانتهى عن الفحشاء والمنكر+. ا هـ(1/74)
وفيه اعتبار قيود في الصلاة لا تناسب التعميم، وإن كانت من شأن الصلاة التي يحق أن يلقنها المسلمون في ابتداء تلقينهم قواعد الإسلام.
والوجه عندي في معنى الآية: أن يحمل فعل [تَنْهَى] على المجاز الأقرب إلى الحقيقة، وهو تشبيه ما تشتمل عليه الصلاة بالنهي، وتشبيه الصلاة في اشتمالها عليه بالناهي، ووجه الشبه أن الصلاة تشتمل على مذكرات بالله من أقوال وأفعال من شأنها أن تكون للمصلي كالواعظ المذكر بالله _تعالى_ إذ ينهى سامعه عن ارتكاب ما لا يرضي الله.
وهذا كما يقال: صديقك مرآة ترى فيها عيوبك؛ ففي الصلاة من الأقوال تكبير لله، وتحميده، وتسبيحه، والتوجه إليه بالدعاء والاستغفار، وقراءة فاتحة الكتاب المشتملة على التحميد، والثناء على الله، والاعتراف بالعبودية له، وطلب الإعانة والهداية منه، واجتناب ما يغضبه وما هو ضلال، وكلها تذكر بالتعرض إلى مرضاة الله، والإقلاع عن عصيانه، وما يفضي إلى غضبه؛ فذلك صَدٌّ عن الفحشاء والمنكر.
وفي الصلاة أفعال هي خضوع وتذلل لله _تعالى_ من قيام وركوع وسجود، وذلك يذكر بلزوم اجتلاب مرضاته، والتباعد عن سخطه، وكل ذلك مما يصد عن الفحشاء والمنكر.
وفي الصلاة أعمال قلبية من نية واستعداد للوقوف بين يدي الله، وذلك يذكر بأن المعبود جدير بأن تمتثل أوامره، وتجتنب نواهيه.
فكانت الصلاة بمجموعها كالواعظ الناهي عن الفحشاء والمنكر؛ فإن الله قال: [تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ] ولم يقل تَصُدُّ وتَحُوْلُ، ونحو ذلك مما يقتضي صرف المصلي عن الفحشاء والمنكر.
ثم الناس في الانتهاء متفاوتون، وهذا المعنى من النهي عن الفحشاء والمنكر هو من حكمة جعل الصلوات موزعة على أوقات من النهار والليل؛ ليتجدد التذكير، وتتعاقب المواعظ.
وبمقدار تكرر ذلك تزداد خواطر التقوى في النفوس، وتتباعد النفس من العصيان حتى تصير التقوى ملكة لها.(1/75)
ووراء ذلك خاصيةٌ إلهية جعلها الله في الصلاة يكون بها تيسير الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.
روى أحمد، وابن حبان، والبيهقي عن أبي هريرة قال: =جاء رجل إلى النبي"فقال: إن فلاناً يصلي بالليل فإذا أصبح سرق، فقال: سينهاه ما تقول+ أي صلاته بالليل.
واعلم أن التعريف في قوله: [الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ] تعريف الجنس؛ فكلما تذكر المصلي عند صلاته عظمة ربه، ووجوب طاعته، وذكر ما قد يفعله من الفحشاء والمنكر _ كانت صلاته حينئذ قد نهته عن بعض أفراد الفحشاء والمنكر. 20/258_260
8_ ووجه الوصاية بالحسنى في مجادلة أهل الكتاب أن أهل الكتاب مؤمنون بالله غير مشركين به؛ فهم متأهلون لقبول الحجة غير مظنون بهم المكابرة، ولأن آداب دينهم وكتابهم أكسبتهم معرفة طريق المجادلة؛ فينبغي الاقتصار في مجادلتهم على بيان الحجة دون إغلاظ؛ حذراً من تنفيرهم، بخلاف المشركين؛ فقد ظهر من تصلبهم، وصَلَفهم، وجلافتهم ما أيأس من إقناعهم بالحجة النظرية، وعَيَّن أن يعاملوا بالغلظة، وأن يبالغ في تهجين دينهم، وتفظيع طريقتهم؛ لأن ذلك أقرب نجوعا لهم.
وهكذا ينبغي أن يكون الحال في ابتداء مجادلة أهل الكتاب، وبقدر ما يسمح به رجاء الاهتداء من طريق اللين؛ فإن هم قابلوا الحسنى بضدها انتقل الحكم إلى الاستثناء الذي في قوله: [إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ].
و[الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ]: هم الذين كابروا وأظهروا العداء للنبي" وللمسلمين، وأبوا أن يتلقوا الدعوة؛ فهؤلاء ظلموا النبي"والمسلمين حسداً، وبغضاً على أن جاء الإسلام بنسخ شريعتهم، وجعلوا يكيدون للنبي"ونشأ منهم المنافقون، وكل هذا ظلم واعتداء.
وقد كان اليهود قبل هجرة المسلمين إلى المدينة مسالمين الإسلام، وكانوا يقولون: إن محمداً رسول الأميين كما قال ابن صياد لما قال له النبي" =أتشهد أني رسول الله? فقال: أشهد أنك رسول الأميين+.(1/76)
فلما جاء المدينة دعاهم في أول يوم قدم فيه، وهو اليوم الذي أسلم فيه عبدالله ابن سلام؛ فأخذوا من يومئذ يتنكرون للإسلام. 21/6_7
1_ هذه السورة تسمى سورة الروم في عهد النبي"وأصحابه كما في حديث الترمذي عن ابن عباس ونيار بن مكرم الأسلمي، وسيأتي قريباً في تفسير الآية الأولى من السورة.
ووجه ذلك أنه ورد فيها ذكر اسم الروم, ولم يرد في غيرها من القرآن.
وهي مكية كلها بالاتفاق حكاه ابن عطية والقرطبي، ولم يذكرها صاحب الإتقان في السور المختلف في مكيتها ولا في بعض آيها. 21/39
2_ وهي السورة الرابعة والثمانون في تعداد نزول السور، نزلت بعد سورة الانشقاق, وقبل سورة العنكبوت.
وقد روي عن قتادة, وغيره أن غَلَبَ الروم على الفرس كان في عام بيعة الرضوان؛ ولذلك استفاضت الروايات, وكان بعد قتل أبي بن خلف يوم أحد.
واتفقت الروايات على أن غلب الروم للفرس وقع بعد مضي سبع سنين من غلب الفرس على الروم الذي نزلت عنده هذه السورة.
ومن قال: إن ذلك كان بعد تسع سنين بتقديم التاء المثناة فقد حُمِل على التصحيف كما رواه القرطبي عن القشيري يقتضي أن نزول سورة الروم كان في سنة إحدى عشرة قبل الهجرة؛ لأن بيعة الرضوان كانت في سنة ست بعد الهجرة. وعن أبي سعيد الخذري(1) أن انتصار الروم على فارس يوافق يومه يوم بدر.
وعدد آيها في عد أهل المدينة, وأهل مكة تسع وخمسون, وفي عدد أهل الشام والبصرة والكوفة ستون.
__________
(1) _ هكذا في الأصل, والصواب: الخدري. (م)(1/77)
وسبب نزولها ما رواه الترمذي عن ابن عباس والواحدي وغير واحد: أنه لما تحارب الفرس والروم الحرب التي سنذكرها عند قوله _تعالى_: [غُلِبَتْ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأَرْضِ] وتغلَّب الفرسُ على الروم كان المشركون من أهل مكة فرحين بغلب الفرس على الروم؛ لأن الفرس كانوا مشركين ولم يكونوا أهل كتاب؛ فكان حالهم أقرب إلى حال قريش, ولأن عرب الحجاز والعراق كانوا من أنصار الفرس, وكان عرب الشام من أنصار الروم؛ فأظهرت قريش التطاول على المسلمين بذلك؛ فأنزل الله هذه السورة؛ مقتاً لهم, وإبطالاً لتطاولهم بأن الله سينصر الروم على الفرس بعد سنين؛ فلذلك لما نزلت الآيات الأولى من هذه السورة خرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة: [الم(1) غُلِبَتْ الرُّومُ(2) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3) فِي بِضْعِ سِنِينَ] وراهن أبوبكر المشركين على ذلك كما سيأتي. 21/39_40
3_ أول أغراض هذه السورة سبب نزولها على ما سَرَّ المشركين من تغلُّب الفرس على الروم؛ فَقَمَعَ اللهُ _تعالى_ تطاولَ المشركين به, وتحدَّاهم بأن العاقبةَ للروم في الغُلْب على الفرس بعد سنين قليلة.
ثم تَطَرَّق من ذلك إلى تجهيل المشركين بأنهم لا تغوص أفهامُهم في الاعتبار بالأحداث, ولا في أسباب نهوضِ وانحدار الأمم من الجانب الرباني، ومن ذلك إهمالُهم النظرَ في الحياة الثانية, ولم يتعظوا بهلاك الأمم السالفة المماثلة لهم في الإشراك بالله، وانْتَقَل من ذلك إلى ذكر البعث.
واسْتَدَلَّ لذلك ولوحدانيته _تعالى_ بدلائلَ من آياتِ الله في تكوين نظام العالم ونظامِ حياة الإنسان.
ثم حضَّ النبيَّ"والمسلمين على التمسك بهذا الدين, وأثنى عليه.(1/78)
ونَظَرَ بين الفضائل التي يدعو إليها الإسلام وبين حال المشركين ورذائلهم، وضربَ أمثالاً لإحياء مُخْتَلَفِ الأمواتِ بعد زوال الحياة عنها, ولإحياء الأمم بعد يأسِ الناس منها، وأمثالاً لحدوث القوة بعد الضعف وبعكس ذلك.
وختمَ ذلك بالعود إلى إثبات, البعث ثم بتثبيت النبي"وَوَعْدِه بالنصر.
ومن أَعْظم ما اشتملت عليه التصريحُ بأن الإسلامَ دينٌ فطر اللهُ الناس عليه, وأن مَنْ ابتغى غيرَه ديناً فقد حاول تبديل ما خلق الله, وأنى له ذلك. 21/40_41
4_ والروم: اسم غلب في كلام العرب على أمة مختلطة من اليونان والصقالبة, ومن الرومانيين الذين أصلهم من اللاطينيين سكان بلاد إيطاليا نزحوا إلى أطراف شرق أوربا.
تَقَوَّمت هذه الأمة المسماة الروم على هذا المزيج, فجاءت منها مملكة تحتل قطعة من أوربا, وقطعة من آسيا الصغرى وهي بلاد الأناضول.
وقد أطلق العرب على مجموع هذه الأمة اسم الروم؛ تفرقة بينهم وبين الرومان اللاطينيين.
وسموا الروم _أيضاً_ ببني الأصفر كما جاء في حديث أبي سفيان عن كتاب النبي"المبعوث إلى هرقل سلطان الروم وهو في حمص من بلاد الشام؛ إذ قال أبو سفيان لأصحابه: =لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة؛ إنه يخافه ملك بني الأصفر+.
وسبب اتصال الأمة الرومانية بالأمة اليونانية, وتكوُّن أمة الروم من الخليطين_ هو أن اليونان كان لهم استيلاءٌ على صقلية وبعض بلاد إيطاليا، وكانوا بذلك في اتصالات وحروب سجال مع الرومان، ربما عظمت واتسعت مملكة الرومان تدريجاً بسبب الفتوحات, وتسربت سلطتهم إلى إفريقيا, وأداني آسيا الصغرى بفتوحات (يوليوس قيصر) لمصر وشمال أفريقيا, وبلاد اليونان وبتوالي الفتوحات للقياصرة من بعده, فصارت تبلغ من رومة إلى أرمينيا والعراق.
ودخلت فيها بلاد اليونان، ومدائن رودس وساقس وكاريا والصقابلة الذين على نهر الطونة، ولحق بها البيزنطينيون المنسبون إلى مدينة بيزنطة الواقعة في موقع استانبول على البسفور.(1/79)
وهم أصناف من اليونان والإسبرطيين, وكانوا أهل تجارة عظيمة في أوائل القرن الرابع قبل المسيح ثم ألَّفوا اتحاداً بينهم وبين أهل رودس وساقس, وكانت بيزنطة من جملة مملكة إسكندر المقدوني, وبعد موته واقتسام قواده المملكة من بعده صارت بيزنطة دولة مستقلة, وانضوت تحت سلطة رومة؛ فحكمها قياصرة الرومان إلى أن صار قسطنطين قيصراً لرومة, وانفرد بالسلطة في حدود سنة 322 مسيحية، وجمع شتات المملكة, فجعل للملكة(1) عاصمتين: عاصمة غربية هي رومة, وعاصمة شرقية اختطها مدينة عظيمة على بقايا مدينة بيزنطة وسماها (قسطنطينية) وانصرفت همته إلى سكناها, فنالت شهرة تفوق (رومة).
وبعد موته سنة 337 قسمت المملكة بين أولاده، وكان القسم الشرقي الذي هو بلاد الروم وعاصمته القسطنطينية لابنه (قسطنطينيوس) فمنذ ذلك الحين صارت مملكة القسطنطينية هي مملكة الروم، وبقيت مملكة رومة مملكة الرومان.
وزاد انفصال المملكتين في سنة 395 حين قسم (طيودسيوس) بلدان السلطنة الرومانية بين ولديه, فجعلها قسمين مملكة شرقية ومملكة غربية؛ فاشتهرت المملكة الشرقية باسم بلاد الروم وعاصمتها (القسطنطينية).
ويعرف الروم عند الإفرنج بالبيزنطينيين, نسبة إلى بيزنطة اسم مدينة يونانية قديمة واقعة على شاطئ البوسفور الذي هو قسم من موقع المدينة التي حدثت بعدها _كما تقدم آنفاً_.
وقد صارت ذات تجارة عظيمة في القرن الخامس قبل المسيح, وسمي ميناها بالقرن الذهبي.
وفي أواخر القرن الرابع قبل المسيح خلعت طاعة أثينا, وفي أواسط القرن الرابع بعد المسيح جُعل قسطنطين سلطان مدينة القسطنطينية.
__________
(1) _ هكذا في الأصل, والصواب: للمملكة. (م)(1/80)
وهذا الغُلْبُ الذي ذكر في هذه الآية هو انهزام الروم في الحرب التي جرت بينهم وبين الفرس سنة 615 مسيحية, وذلك أن (خسرو) ابن (هرمز) ملك الفرس غزا الروم في بلاد الشام وفلسطين وهي من البلاد الواقعة تحت حكم هرقل قيصر الروم؛ فنازل إنطاكية، ثم دمشق، وكانت الهزيمة العظيمة على الروم في أطراف بلاد الشام المحادةِ بلادَ العربِ بين بُصرى وأذرعات, وذلك هو المراد في هذه الآية بـ[أَدْنَى الأَرْضِ] أي أدنى بلاد الروم إلى بلاد العرب.
فالتعريف في [الأَرْضِ] للعهد، أي أرض الروم المتحدث عنهم، أو اللام عوض عن المضاف إليه، أي في أدنى أرضهم، أو أدنى أرض الله.
وحُذِف متعلق [أَدْنَى] لظهور أن تقديره: من أرضكم، أي أقرب بلاد الروم من أرض العرب؛ فإن بلاد الشام تابعة يومئذ للروم, وهي أقرب مملكة الروم من بلاد العرب.
وكانت هذه الهزيمة هزيمة كبرى للروم. 21/42_43
5_ وفائدةُ ذكرِ [مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ]: التنبيه على عظم تلك الهزيمة عليهم، وأنها بحيث لا يظن نصر لهم بعدها؛ فابتهج بذلك المشركون؛ فالوعد بأنهم سيغلبون بعد ذلك الانهزام في أمد غير طويل تَحدٍّ تحدَّى به القرآنُ المشركين، ودليل على أن الله قدَّر لهم الغلب على الفرس؛ تقديراً خارقاً للعادة معجزة لنبيه " وكرامة للمسلمين.
ولفظ [بِضْعَ] بكسر الموحدة كناية عن عدد قليل لا يتجاوز العشرة، وقد تقدم في قوله _تعالى_: [فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ] في سورة يوسف، وهذا أَجَلٌ لرد الكرة لهم على الفرس.
وحكمة إبهام عدد السنين أنه مقتضى حال كلام العظيم الحكيم أن يقتصر على المقصود إجمالاً, وأن لا يتنازل إلى التفصيل؛ لأن ذلك التفصيل يتنزل منزلة الحشو عند أهل العقول الراجحة, وليكون للمسلمين رجاءٌ في مدة أقرب مما ظهر؛ ففي ذلك تفريج عليهم.
وهذه الآية من معجزات القرآن الراجعة إلى الجهة الرابعة في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير. 21/44(1/81)
6_ روى الترمذي بأسانيد حسنة وصحيحة أن المشركين كانوا يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم؛ لأنهم وإياهم أهل أوثان وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب مثلهم, فكانت فارس يوم نزلت [الم غُلِبَتْ الرُّومُ] قاهرين للروم؛ فذكروه لأبي بكر, فذكره أبو بكر لرسول الله"فقال رسول الله: =أما أنهم سيغلبون+.
ونزلت هذه الآية, فخرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة: [الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ].
فقال ناس من قريش لأبي بكر: فذلك بيننا وبينكم، زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين؛ أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى وذلك قبل تحريم الرهان, وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين، فَسَمِّ بيننا وبينك وسطاً ننتهي إليه, فسمى أبو بكر لهم ست سنين؛ فارتهن أبو بكر والمشركون, وتواضعوا الرهان, فمضت الست السنين قبل أن يظهر الروم, فأخذ المشركون رهن أبي بكر.
وقال رسول الله"لأبي بكر: =ألا أخفضت يا أبا بكر، ألا جعلته إلى دون العشر؛ فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع+.
وعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين, وأسلم عند ذلك ناس كثير.
وذكر المفسرون أن الذي راهن أبا بكر هو أبي بن خلف، وأنهم جعلوا الرهان خمس قلائص.
وفي رواية أنهم بعد أن جعلوا الأجل ستة أعوام غيروه, فجعلوه تسعة أعوام, وازدادوا في عدد القلائص، وأن أبا بكر لما أراد الهجرة مع النبي"تعلق به أبي بن خلف وقال له: أعطني كفيلاً بالخطر إن غلبت، فكفل به ابنه عبدالرحمن، وكان عبد الرحمن أيامئذ مشركاً باقياً بمكة, وأنه لما أراد أبي ابن خلف الخروج إلى أحد طلبه عبدالرحمن بكفيل, فأعطاه كفيلاً, ثم مات أبي بمكة من جرح جرحه النبي"فلما غلب الروم بعد سبع سنين أخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبي بن خلف.
وقد كان تغلب الروم على الفرس في سنة ست وورد الخبر إلى المسلمين.(1/82)
وفي حديث الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: =لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس, فأعجب ذلك المؤمنين+.
والمعروف أن ذلك كان يوم الحديبية, وقد تقدم في أول السورة أن المدة بين انهزام الروم وانهزام الفرس سبع سنين بتقديم السين, وأن ما وقع في بعض الروايات أنها تسع هو تصحيف.
وقد كان غلب الروم على الفرس في سلطنة هرقل قيصر الروم، وبإثره جاء هرقل إلى بلاد الشام, ونزل حمص, ولقي أبا سفيان بن حرب في رهط من أهل مكة جاءوا تجاراً إلى الشام.
واعلم أن هذه الرواية في مخاطرة أبي بكر وأبي بن خلف وتقرير النبي"إياها احتج بها أبو حنيفة على جواز العقود الربوية مع أهل الحرب.
وأما الجمهور فهذا يرونه منسوخاً بما ورد من النهي عن القمار نهياً مطلقاً لم يقيد بغير أهل الحرب.
وتحقيق المسألة أن المراهنة التي جرت بين أبي بكر وأبي بن خلف جرت على الإباحة الأصلية؛ إذ لم يكن شرع بمكة أيامئذ؛ فلا دليل فيها على إباحة المراهنة, وأن تحريم المراهنة بعد ذلك تشريعٌ أُنُفٌ وليس من النسخ في شيء. 21/45_46
7_ [لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ].
تقديم المجرور في قوله: [لِلَّهِ الأَمْرُ] لإبطال تطاول المشركين الذين بَهَجَهُم غلب الفرس على الروم؛ لأنهم عبدة أصنام مثلهم؛ لاستلزامه الاعتقاد بأن ذلك الغلب من نَصْرِ الأصنامِ عُبَّادَها؛ فبين لهم بطلان ذلك, وأن التصرف لله وحده في الحالين للحكمة التي بيناها آنفاً كما دل عليه التذييل بقوله: [يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ].
فيه أدب عظيم للمسلمين, لكي لا يعللوا الحوادث بغير أسبابها, وينتحلوا لها عللاً توافق الأهواء كما كانت تفعله الدجاجلة من الكهان وأضرابهم.
وهذا المعنى كان النبي"يعلنه في خطبه؛ فقد كسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبي فقال الناس: كسفت لموت إبراهيم فخطب النبي"فقال في خطبته: =إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته+.(1/83)
وكان من صناعة الدجل أن يتلقن أصحاب الدجل الحوادث المقارنة لبعض الأحوال؛ فيزعموا أنها كانت لذلك مع أنها تنفع أقواماً وتضر بآخرين؛ ولهذا كان التأييد بنصر الروم في هذه الآية موعوداً به من قبل؛ ليعلم الناس كلهم أنه مُتَحَدَّىً به قبل وقوعه لا مُدَّعَىً به بعد وقوعه، ولهذا قال _تعالى_ بعد الوعود: [وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ].21/46_47
8_ والروضة: كل أرض ذات أشجار, وماء, وأزهار في البادية, أو في الجنان.
ومن أمثال العرب: =أحسن من بيضة في روضة+ يريدون بيضة النعامة.
وقد جمع محاسن الروضة قول الأعشى:
ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمسَ منها كوكبٌ(1) شرق ... مؤزر بعميم النبت مكتهل
21/64
9_ وإخراج الحي من الميت يظهر في أحوال كثيرة منها: إنشاء الأجنة من النطف، وإنشاء الفراخ من البيض؛ وإخراج الميت من الحي يظهر في العكس وقد تقدم في سورة آل عمران.
وفي الآية إيماءٌ إلى أن الله يخرج من غلاة المشركين أفاضل من المؤمنين مثل إخراج خالد بن الوليد من أبيه الوليد بن المغيرة، وإخراج هند بنت عتبة ابن ربيعة من أبيها أحد أئمة الكفر.
وقد قالت للنبي": =ما كان أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك، واليوم ما أهلُ خباءٍ أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك+ فقال لها النبي": =وأيضاً+ (أي ستزيدين حباً لنا بسبب نور الإسلام).
__________
(1) _ أراد بالكوكب النور؛ تشبيهاً له بكوكب نجوم السماء في البياض والاستدارة.(1/84)
وإخراج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط من أبيها, ولما كلمت أم كلثوم بنت عقبة رسول الله"في شأن إسلامها وهجرتها إلى المدينة حين جاء أخواها يرومان ردها إلى مكة حسب شروط الهدنة فقالت: يا رسول الله أنا امرأة, وحال النساء إلى الضعف؛ فأخشى أن يفتنوني في ديني ولا صبر لي، فقرأ النبي": [يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ] ونزلت آية الامتحان؛ فلم يَرُدَّها رسول الله"إليهما, وكانت أول النساء المهاجرات إلى المدينة بعد صلح الحديبية. 21/68
10_ وأما اختلاف ألوان البشر فهو آية _أيضاً_ لأن البشر منحدر من أصل واحد وهو آدم، وله لون واحد لا محالة، ولعله البياض المشوب بحمرة؛ فلما تعدد نسله جاءت الألوان المختلفة في بشراتهم وذلك الاختلاف معلول لعدة علل أهمها المواطن المختلفة بالحرارة والبرودة، ومنها التوالد من أبوين مختلفي اللون مثل المتولد من أم سوداء وأب أبيض، ومنها العلل والأمراض التي تؤثر تلويناً في الجلد، ومنها اختلاف الأغذية.
ولذلك لم يكن اختلاف ألوان البشر دليلاً على اختلاف النوع بل هو نوع واحد؛ فللبشر ألوان كثيرة أصلاها البياض والسواد, وقد أشار إلى هذا أبو علي ابن سينا في أرجوزته في الطب بقوله:
بالنزج حرّ غَيَّر الأجساد ... حتى كسا بياضها سوادا
والصقلب اكتسبت البياضا ... حتى غدت جلودها بِضاضا
21/47
11_ وكان أصل اللون البياض؛ لأنه غير محتاج إلى علة, ولأن التشريح أثبت أن ألوان لحوم البشر التي تحت الطبقة الجلدية متحدة اللون.
ومن البياض والسواد انشقت ألوان قبائل البشر؛ فجاء منها اللون الأصفر واللون الأسمر واللون الأحمر.
ومن العلماء وهو (كوقيي)(1) جعل أصول ألوان البشر ثلاثة: الأبيض والأسود والأصفر، وهو لون أهل الصين.
ومنهم من زاد الأحمر, وهو لون سكان قارة أمريكا الأصليين المدعوين هنودَ أمريكا. 21/74_75
__________
(1) _ كوقيي عالم طبيعي فرنسي ولد سنة 1769 وتوفي سنة 1832.(1/85)
12_ وحالة النوم حالة عجيبة من أحوال الإنسان والحيوان؛ إذ جعل الله له في نظام أعصاب دماغه قانوناً يسترد به قوة مجموعه العصبي بعد أن يعتريه فشل الإعياء من إعمال عقله وجسده؛ فيعتريه شِبْهُ موتٍ يخدر إدراكه, ولا يعطل حركات أعضائه الرئيسية, ولكنه يثبطها حتى يبلغ من الزمن مقداراً كافياً لاسترجاع قوته؛ فيفيق من نومته, وتعود إليه حياته كاملة. 21/76
13_ ومعنى فطر الناس على الدين الحنيف: أن الله خلق الناس قابلين لأحكام هذا الدين وجعل تعاليمه مناسبة لخلقتهم غير مجافية لها، غير نائين عنه ولا منكرين له مثل إثبات الوحدانية لله؛ لأن التوحيد هو الذي يساوق العقل, والنظر الصحيح حتى لو ترك الإنسانُ وتفكيرَه، ولم يلقن اعتقاداً ضالاً لاهتدى إلى التوحيد بفطرته. 21/90
14_ وإن لم أر من أتقن الإفصاح عن معنى كون الإسلام هو الفطرة فأبينه: بأن الفطرة هي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق، والفطرة التي تخص نوع الإنسان هي ما خلقه الله عليه جسداً وعقلاً، فَمَشْيُ الإنسان برجليه فطرة جسدية، ومحاولته أن يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة الجسدية، واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية، ومحاولة استنتاج أمر من غير سببه خلاف الفطرة العقلية, وهو المسمى في علم الاستدلال بفساد الوضع.
وجَزْمنا بأن ما نبصره من الأشياء هو حقائق ثابتة في الوجود, ونفس الأمر فطرة عقلية، وإنكارُ السوفسطائيةِ ثبوتَ المحسوساتِ في نفسِ الأمرِ خلافُ الفطرةِ العقلية. 21/90
15_ فَوَصْفُ الإسلام بأنه فطرة الله معناه أن أصل الاعتقاد فيه جارٍ على مقتضى الفطرة العقلية.
وأما تشريعاته وتفاريعه فهي: إما أمور فطرية _أيضاً_ أي جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به، وإما أن تكون لصلاحه مما لا ينافي فطرته.(1/86)
وقوانين المعاملات فيه هي راجعة إلى ما تشهد به الفطرة؛ لأن طلب المصالح من الفطرة, وتفصيل ذلك ليس هذا موضعه, وقد بينته في كتابي المسمى (مقاصد الشريعة الإسلامية). 21/91
16_ واعلم أن شواهد الفطرة قد تكون واضحةً بينة, وقد تكون خفية، كما يقتضيه كلام الشيخ ابن سينا؛ فإذا خفيت المعاني الفطرية, أو التبست بغيرها فالمضطلعون بتمييزها وكشفها هُمُ العلماءُ الحكماء الذين تمرسوا بحقائق الأشياء والتفريق بين متشابهاتها، وسبروا أحوال البشر، وتعرضت أفهامهم زماناً لتصاريف الشريعة، وتوسموا مراميَها، وغاياتها وعصموا أنفسهم بوازع الحق عن أن يميلوا مع الأهواء. 21/91_92
17_ إن المجتمع الإنساني قد مني عصوراً طويلة بأوهام وعوائد ومألوفات أدخلها عليه أهل التضليل؛ فاختلطت عنده بالعلوم الحق, فتقاول الناس عليها, وارتاضوا على قبولها؛ فالتصقت بعقولهم التصاق العنكبوت ببيته؛ فتلك يخاف منها أن تُتَلقَّى بالتسليم على مرور العصور؛ فيعسر إقلاعهم عنها, وإدراكهم ما فيها من تحريف عن الحق؛ فليس لتمييزها إلا أهل الرسوخ أصحاب العلوم الصحيحة الذين ضربوا في الوصول إلى الحقائق كل سبيل، واستوضحوا خطيرها وسليمها؛ فكانوا للسابلة خير دليل.
وكون الإسلام هو الفطرة، وملازمة أحكامه لمقتضيات الفطرة صفة اختص بها الإسلام من بين سائر الأديان في تفاريعه.
أما أصوله فاشتركت فيها الأديان الإلهية، وهذا ما أفاده قوله: [ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ].
فالإسلام عام خالد مناسب لجميع العصور, وصالح بجميع الأمم، ولا يستتب ذلك إلا إذا بنيت أحكامه على أصول الفطرة الإنسانية؛ ليكون صالحاً للناس كافة, وللعصور عامة, وقد اقتضى وصف الفطرة أن يكون الإسلام سمحاً يسراً؛ لأن السماحة واليسر مبتغى الفطرة. 21/92
1_ سميت هذه السورة بإضافتها إلى لقمان؛ لأن فيها ذكر لقمان وحكمته, وجملاً من حكمته التي أدب بها ابنه.(1/87)
وليس لها اسم غير هذا الاسم، وبهذا الاسم عُرِفَتْ بين القراء والمفسرين, ولم أقف على تصريح به فيما يروى عن رسول الله"بسند مقبول. 21/137
2_ وروى البيهقي في دلائل النبوة عن ابن عباس: أنزلت سورة لقمان بمكة.
وهي مكية كلها عند ابن عباس في أشهر قوليه, وعليه إطلاق جمهور المفسرين.
وعن ابن عباس من رواية النحاس استثناء ثلاث آيات من قوله _تعالى_: [وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ] إلى قوله: [بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ].
وعن قتادة إلا آيتين إلى قوله: [إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ].
وفي تفسير الكواشي حكاية قول إنها مكية عدا آية نزلت بالمدينة وهي: [الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ] قائلاً لأن الصلاة والزكاة فرضت بالمدينة.
ورده البيضاوي على تسليم ذلك بأن فرضها بالمدينة لا ينافي تشريعها بمكة على غير إيجاب.
والمحقوق(1) يمنعون أن تكون الصلاة والزكاة فرضتا بالمدينة، فأما الصلاة فلا ريب في أنها فرضت على الجملة بمكة، وأما الزكاة ففرضت بمكة دون تعيين أنصباء ومقادير، ثم عينت الأنصباء والمقادير بالمدينة.
ويتحَصَّل من هذا أن القائل بأن آية: [الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ]إلى آخرها نزلت بالمدينة قاله مِنْ قِبَلِ رأيه, وليس له سند يعتمد كما يؤذن به قوله؛ لأن الصلاة والزكاة الخ.
ثم هو يقتضي أن يكون صدر السورة النازل بمكة [هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ] [أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ] الخ، ثم ألحق به [الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ]. 21/137
3_ وهذه السورة هي السابعة والخمسون في تعداد نزول السور، نزلت بعد سورة الصافات وقبل سورة سبأ.
__________
(1) _ هكذا في الأصل, والصواب: المحققون. (م)(1/88)
وعدت آياتها ثلاثاً وثلاثين في عد أهل المدينة ومكة، وأربعاً وثلاثين في عد أهل الشام والبصرة والكوفة. 21/138
4_ الأغراض التي اشتملت عليها هذه السورةُ تتصل بسبب نزولها الذي تقدم ذِكْرُه أن المشركين سألوا عن قصة لقمان وابنه، وإذا جمعنا بين هذا وبين ما سيأتي عند قوله _تعالى_: [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ] من أن المراد به النَّضْر بن الحارث؛ إذ كان يسافر إلى بلاد الفرس, فيقتني كتب اسْفَنْدِيار ورُسْتُمْ وبَهْرَام، وكان يقرؤها على قريش ويقول: يخبركم محمد عن عاد وثمود, وأحدثكم أنا عن رستم واسفنديار وبهرام؛ فَصُدِّرت هذه السورة بالتنويه بهدي القرآن؛ ليعلم الناس أنه لا يشتمل إلا على ما فيه هدىً وإرشادٌ للخير ومُثُلُ الكمال النفساني؛ فلا التفاتَ فيه إلى أخبارِ الجبابرة وأهل الضلال إلا في مقام التحذير مما هم فيه ومن عواقبه؛ فكان صَدْرُ هذه السورة تمهيداً لقصة لقمان.
وقد تقدم الإلماع إلى هذا في قوله _تعالى_ في أول سورة يوسف [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]، ونَبَّهْتُ عليه في المقدمة السابعة بهذا التفسير.
وانتقل من ذلك إلى تسفيه النَّضر بنِ الحارث وقِصصِهِ الباطلة.
وابتُدئَ ذكرُ لقمانَ بالتنويه بأن آتاه اللهُ الحكمةَ, وأمره بشكر النعمة, وأطيل الكلام في وصايا لقمانَ وما اشتملت عليه: من التحذير من الإشراك، ومن الأمر ببر الوالدين، ومن مراقبةِ الله؛ لأنه عليمٌ بخفيات الأمور، وإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبرِ، والتحذيرِ من الكبرِ والعجبِ، والأمرِ بالاتسام بسمات المتواضعين في المشي والكلام.
وسلكت السورةُ أفانينَ ذاتَ مناسباتٍ لما تضمنته وصية لقمان لابنه، وأُدْمج في ذلك تذكير المشركين بدلائل وحدانية الله _تعالى_ وبنعمه عليهم، وكيف أعرضوا عن هديه، وتمسكوا بما أَلْفَوا عليه آباءهم.(1/89)
وذَكَرَتْ مزيةَ دين الإسلام, وتسليةَ الرسول " بتمسك المسلمين بالعروة الوثقى، وأنه لا يُحْزِنُه كُفْرُ مَنْ كفروا.
وانتظم في هذه السورة الردُّ على المعارضين للقرآن في قوله: [وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ] وما بعدها, وخُتِمَتْ بالتحذير من دعوة الشيطان, والتنبيه إلى بطلان ادعاءِ الكهان عِلْم الغيب. 21/138_139
5_ واللهو: ما يقصد منه تشغيل البال, وتقصير طول وقت البطالة دون نفع؛ لأنه إذا كانت في ذلك منفعة لم يكن المقصود منه اللهو بل تلك المنفعة.
و[لَهْوَ الْحَدِيثِ] ما كان من الحديث مراداً للهو؛ فإضافة [لَهْوَ] إلى [الْحَدِيثِ] على معنى من التبعيضية على رأي بعض النحاة، وبعضهم لا يثبت الإضافة على معنى من التبعيضية؛ فيردها إلى معنى اللام.
وتقدم اللهو في قوله: [وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ] في سورة الأنعام.
والأصح في المراد بقوله: [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ] أنه النضر ابن الحارث؛ فإنه كان يسافر في تجارة إلى بلاد فارس؛ فيتلقى أكاذيب الأخبار عن أبطالهم في الحروب المملوءة أكذوبات, فيقصها على قريش في أسمارهم ويقول: إن كان محمد يحدثكم بأحاديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم واسفنديار وبهرام.
ومن المفرسين(1) من قال: إن النضر كان يشتري من بلاد فارس كتب أخبار ملوكهم, فيحدث بها قريشاً، أي بواسطة من يترجمها لهم.
ويشمل لفظ [النَّاسِ] أهلَ سامرِه الذين ينصتون لما يقصه عليهم كما يقتضيه قوله _تعالى_ إثره: [أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ].
وقيل المراد بـ[مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ] من يقتني القينات المغنيات.
روى الترمذي عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبدالرحمن عن أبي أمامة عن رسول الله"قال: =لا تبيعوا القينات، ولا تشتروهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام+.
__________
(1) _ هكذا في الأصل, والصواب: المفسرين. (م)(1/90)
في مثل ذلك أنزلت هذه الآية: [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] إلى آخر الآية.
قال أبو عيسى: =هذا حديث غريب إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة وعلي بن يزيد يضعف في الحديث سمعت محمداً يعني البخاري يقول: علي بن يزيد يضعف+ ا هـ.
وقال ابن العربي في العارضة: =في سبب نزولها قولان: أحدهما: أنها نزلت في النضر بن الحارث.
الثاني: أنها نزلت في رجل من قريش قيل هو ابن خطل اشترى جارية مغنية؛ فشغل الناس بها عن استماع النبي"+ا هـ.
وألفاظ الآية أنسب انطباقاً على قصة النضر بن الحارث.
ومعنى: [لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] أنه يفعل ذلك ليلهي قريشاً عن سماع القرآن؛ فإن القرآن سبيل موصل إلى الله _تعالى_ أي إلى الدين الذي أراده، فلم يكن قصده مجرد اللهو, بل تجاوزه إلى الصد عن سبيل الله، وهذا زيادة في تفظيع عمله.
وقرأ الجمهور (يضل) بضم الياء, وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، أي ليزداد ضلالاً على ضلالة؛ إذ لم يكتف لنفسه بالكفر حتى أخذ يبث ضلاله للناس، وبذلك يكون مآل القراءتين متحد المعنى. 21/142_143
6_ و(لقمان): اسم رجل حكيم صالح.
وأكثر الروايات في شأنه التي يعضد بعضها _وإن كانت أسانيدها ضعيفة_ تقتضي أنه كان من السود، فقيل: هو من بلاد النوبة، وقيل: من الحبشة.
وليس هو لقمان بن عاد الذي قال المثل المشهور: =إحدى خُطيات لقمان+. والذي ذكره أبو المهوش الأسدي، أو يزيد بن عمر يصعق في قوله:
تراه يُطَوِّفُ الآفاق حرصاً ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
ويعرف ذلك بلقمان صاحب النسور، وهو الذي له ابن اسمه (لقيم)(1).
__________
(1) _ وهو المعني بالبيت الذي أنشده ابن بري:
لقيم بن لقمان من أخته ... فكان ابن أخت له وابنُها(1/91)
وبعضهم ذكر أن اسم أبيه باعوراء، فسبق إلى أوهام بعض المؤلفين(1) أنه المسمى في كتب اليهود بلعام بن باعوراء المذكور خبره في الإصحاحين 22 و23 من سفر العدد.
ولعل ذلك وَهْمٌ؛ لأن بلعام ذلك رجل من أهل مَدْين كان نبياً في زمن موسى _عليه السلام_ فلعل التوهم جاء من اتحاد اسم الأب، أو من ظن أن بلعام يرادف معنى لقمان؛ لأن بلعام من البلع ولقمان من اللقم فيكون العرب سموه بما يرادف اسمه في العبرانية.
وقد اختلف السلف في أن لقمان المذكور في القرآن كان حكيماً أو نبياً.
فالجمهور قالوا: كان حكيماً صالحاً.
واعتمد مالك في الموطأ على الثاني، فذكره في جامع الموطأ مرتين بوصف لقمان الحكيم، وذلك يقتضي أنه اشتهر بذلك بين علماء المدينة.
وذكر ابن عطية: أن ابن عمر قال: سمعت رسول الله " يقول: =لم يكن لقمان نبياً ولكن كان عبداً كثير التفكر، حسن اليقين، أحب الله _تعالى_ فأحبه؛ فمنَّ عليه بالحكمة+.
ويظهر من الآيات المذكورة في قصته هذه أنه لم يكن نبياً؛ لأنه لم يمتن عليه بوحي ولا بكلام الملائكة.
والاقتصار على أنه أوتي الحكمة يومئ إلى أنه ألهم الحكمة, ونطق بها، ولأنه لما ذكر تعليمه لابنه قال _تعالى_: [وَهُوَ يَعِظُهُ] وذلك مؤذنٌ بأنه تعليم، لا تبليغ تشريع.
وذهب عكرمة والشعبي: أن لقمان نبي، ولفظ الحكمة يسمح بهذا القول؛ لأن الحكمة أطلقت على النبوءة في كثير من القرآن كقوله في داود: [وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ].
وقد فُسِّرت الحكمة في قوله _تعالى_: [وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً] بما يشمل النبوءة.
وإن الحكمة معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه، وأعلاها النبوءة؛ لأنها علم بالحقائق مأمون من أن يكون مخالفاً لما هي عليه في نفس الأمر؛ إذ النبوءة متلقاة من الله الذي لا يعزب عن عمله شيء.
__________
(1) _ هو لاروس صاحب دوائر المعارف الفرنسية.(1/92)
وسيأتي أن إيراد قوله _تعالى_: [وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ] في أثناء كلام لقمان يساعد هذا القول.
وذكر أهل التفسير والتاريخ أنه كان في زمن داود.
وبعضهم يقول: إنه كان ابن أخت أيوب، أو ابن خالته؛ فتعين أنه عاش في بلاد إسرائيل.
وذكر بعضهم أنه كان عبداً, فأعتقه سيده.
وذكر ابن كثير عن مجاهد: أن لقمان كان قاضياً في بني إسرائيل في زمان داود _عليه السلام_ ولا يوجد ذكر ذلك في كتب الإسرائيليين.
قيل: كان راعياً لغنم، وقيل: كان نجاراً، وقيل: خياطاً.
وفي تفسير ابن كثير عن ابن وهب أن لقمان كان عبداً لبني الحسحاس، وبنو الحسحاس من العرب، وكان من عبيدهم سحيم العبد الشاعر المخضرم الذي قتل في مدة عثمان.
وحكمة لقمان مأثورة في أقواله الناطقة عن حقائق الأحوال، والمقربة للخفيات بأحسن الأمثال.
وقد عُنِي بها أهل التربية وأهل الخير، وذكر القرآن منها ما في هذه السورة، وذكر منها مالك في الموطأ بلاغين في كتاب الجامع، وذكر حكمة له في كتاب جامع العتبية، وذكر منها أحمد بن حنبل في مسنده ولا نعرف كتاباً جمع حكمة لقمان.
وفي تفسير القرطبي قال وهب بن منبه: قرأت من حكمة لقمان أرجح من عشرة آلاف باب.
ولعل هذا إن صح عن وهب بن منبه كان مبالغة في الكثرة. 21/148_150
7_ وكان لقمان معروفاً عند خاصة العرب, قال ابن إسحاق في السيرة: =قدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجاً أو معتمراً, فتصدى له رسول الله"فدعاه إلى الإسلام, فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي فقال له رسول الله": وما معك? قال: مجلة لقمان، فقال له رسول الله ": اعرضها علي، فعرضها عليه، فقال: =إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا قرآن أنزله الله+.
قال ابن إسحاق: فقدم المدينة, فلم يلبث أن قتلته الخزرج, وكان قتله قيل يوم بعاث, وكان رجال من قومه يقولون: إنا لنراه قد قتل وهو مسلم وكان قومه يدْعُونه الكامل+ ا هـ.(1/93)
وفي الاستيعاب لابن عبدالبر: =أنا شاك في إسلامه كما شك غيري+.
وقد تقدم في صدر الكلام على هذه السورة أن قريشاً سألوا رسول الله"عن لقمان وابنه، وذلك يقتضي أنه كان معروفاً للعرب.
وقد انتهى إليَّ حين كتابة هذا التفسير من حكم لقمان المأثورة ثمان وثلاثون حكمة غير ما ذكر في هذه الآية, وسنذكرها عند الفراغ من تفسير هذه الآيات. 21/150_151
8_ وفائدة ذكر الحال بقوله: [وَهُوَ يَعِظُهُ] الإشارة إلى أن قوله هذا كان لتلبس ابنه بالإشراك، وقد قال جمهور المفسرين: إن ابن لقمان كان مشركاً فلم يزل لقمان يعظه حتى آمن بالله وحده؛ فإن الوعظ زجر مقترن بتخويف.
قال _تعالى_: [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً].
ويعرف المزجور عنه بمتعلق فعل الموعظة؛ فتعين أن الزجر هنا عن الإشراك بالله.
ولعل ابن لقمان كان يدين بدين قومه من السودان، فلما فتح الله على لقمان بالحكمة والتوحيد أبى ابنه متابعته, فأخذ يعظه حتى دان بالتوحيد، وليس استيطان لقمان بمدينة داود مقتضياً أن تكون عائلته تدين بدين اليهودية.
وأصل النهي عن الشيء أن يكون حين التلبس بالشيء المنهي عنه, أو عند مقاربة التلبس به، والأصل أن لا ينهى عن شيء منتف عن المنهي.
وقد ذكر المفسرون اختلافاً في اسم ابن لقمان؛ فلا داعي إليه.
وقد جمع لقمان في هذه الموعظة أصول الشريعة وهي: الاعتقادات، والأعمال، وأدب المعاملة، وأدب النفس. 21/154
9_ والأمر بأن يأمر بالمعروف, وينهى عن المنكر يقتضي إيتان(1) الآمر وانتهاءه في نفسه؛ لأن الذي يأمر بفعل الخير وينهى عن فعل الشر يعلم ما في الأعمال من خير وشر، ومصالح ومفاسد؛ فلا جرم أن يتوقاها في نفسه بالأولوية من أمره الناس ونهيه إياهم.
__________
(1) _هكذا في الأصل, والصواب: إتيان. (م)(1/94)
فهذه كلمة جامعة من الحكمة والتقوى؛ إذ جمع لابنه الإرشاد إلى فعله الخير، وبثه في الناس, وكفه عن الشر, وزجره الناس عن ارتكابه، ثم أعقب ذلك بأن أمره بالصبر على ما يصيبه.
ووجه تعقيب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بملازمة الصبر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يَجُرَّان للقائم بهما معاداةً من بعض الناس، أو أذى من بعض؛ فإذا لم يصبر على ما يصيبه من جراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو شك أن يتركهما.
ولما كانت فائدةُ الصبرِ عائدةً على الصابر بالأجر العظيم عُدَّ الصبر هنا في عداد الأعمال القاصرة على صاحبها, ولم يُلْتَفَتْ إلى ما في تحمل أذى الناس من حسن المعاملة معهم حتى يذكر الصبر مع قوله: [وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ] لأن ذلك ليس هو المقصود الأول من الأمر بالصبر.
والصبر: هو تحمل ما يحل بالمرء مما يؤلم أو يحزن، وقد تقدم في قوله _تعالى_: [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ] في سورة البقرة. 21/165
10_ وهذا وفاء بما وعدت به عند الكلام على قوله _تعالى_: [وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ] من ذكر ما انتهى إليه تتبعي لما أثر من حكمة لقمان غير ما في هذه السورة, وقد ذكر الآلوسي في تفسيره منها ثمانياً وعشرين حكمة وهي: قوله لابنه: أي بني إن الدنيا بحر عميق، وقد غرق فيها أناس كثير؛ فاجعل سفينتك فيها تقوى الله _تعالى_ وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل على الله _تعالى_ لعلك أن تنجو, ولا أراك ناجياً.
وقوله: من كان له من نفسه واعظ كان له من الله _عز وجل_ حافظ، ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله _تعالى_ بذلك عزاً، والذل في طاعة الله _تعالى_ أقرب من التعزز بالمعصية.
وقوله: ضَرْبُ الوالدِ لولده كالسماد للزرع.
وقوله: يا بني إياك والدَّينَ؛ فإنه ذل النهار, وهمُّ الليل.(1/95)
وقوله: يا بني ارجُ الله _عز وجل_ رجاءً لا يُجَرِّيك على معصيته _تعالى_ وخف الله _سبحانه_ خوفاً لا يؤيسك من رحمته _تعالى شأنه_.
وقوله: من كذب ذهب ماء وجهه، ومن ساء خلقه كثر غمه، ونقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من لا يفهم.
وقوله: يا بني حملت الجندل والحديد, وكل شيء ثقيل؛ فلم أحمل شيئاً هو أثقل من جار السوء، وذقت المرار؛ فلم أذق شيئاً هو أمر من الفقر.
يا بني لا ترسل رسولك جاهلاً؛ فإن لم تجد حكيماً فكن رسول نفسك.
يا بني إياك والكذب؛ فإنه شهي كلحم العصفور عما قليل يغلي صاحبه.
يا بني احضر الجنائز, ولا تحضر العرس؛ فإن الجنائز تذكرك الآخرة, والعرس يشهيك الدنيا.
يا بني لا تأكل شبعاً على شبع؛ فإن إلقاءك إياه للكلب خير من أن تأكله.
يا بني لا تكن حلواً فَتُبلع, ولا تكن مراً فَتُلْفَظ.
وقوله لابنه: لا يأكل طعامك إلا الأتقياء، وشاور في أمرك العلماء.
وقوله: لا خير لك في أن تتعلم ما لم تعلم ولما تعمل بما قد علمت؛ فإن مثل ذلك مثل رجل احتطب حطباً, فحمل حزمة, وذهب يحملها, فعجز عنها, فَضَمَّ إليها أخرى.
وقوله: يا بني إذا أردت أن تواخي رجلاً فأغضبه قبل ذلك؛ فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذره.
وقوله: لتكن كلمتُك طيبةً، وليكن وجهك بسطاً تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء.
وقوله: يا بني أنزل نفسك من صاحبك منزلة من لا حاجة له بك, ولا بد لك منه.
يا بني كن كمن لا يبتغي محمدة الناس, ولا يكسب ذمهم؛ فنفسه منه في عناء، والناس منه في راحة.
وقوله: يا بني امتنع بما يخرج من فيك؛ فإنك ما سكتَّ سالمٌ، وإنما ينبغي لك من القول ما ينفعك.
وأنا أُقَفَّي عليها ما لم يذكره الآلوسي.
فمن ذلك ما في الموطأ فيما جاء في طلب العلم من كتاب الجامع: مالك أنه بلغه أن لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال: يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك؛ فإن الله يحيي القلوب بنور العلم كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء.(1/96)
وفيه فيما جاء في الصدق والكذب من كتاب الجامع أنه بلغه أنه قيل للقمان: ما بلغ بك ما نرى _يريدون الفضل_ فقال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني.
وفي جامع المستخرجة للعتبي قال مالك: بلغني أن لقمان قال لابنه: يا بني ليكن أول ما تفيد من الدنيا بعد خليل صالح امرأة صالحة.
وفي أحكام القرآن لابن العربي عن مالك: أن لقمان قال لابنه: يا بني إن الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون, وهم إلى الآخرة سراعاً يذهبون، وإنك قد استدبرت الدنيا منذ كنت واستقبلت الآخرة، وإن داراً تسير إليها أقرب إليك من دار تخرج عنها.
وقال: ليس غنىً كصحة، ولا نعمة كطيب نفس.
وقال: يا بني لا تجالس الفجار, ولا تماشِهِم, اتق أن ينزل عليهم عذاب من السماء, فيصيبك معهم.
وقال: يا بني جالس العلماء وماشِهِمْ عسى أن تنزل عليهم رحمة؛ فتصيبك معهم.
وفي الكشاف: أنه قال لرجل ينظر إليه: إن كنت تراني غليظ الشفتين؛ فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض.
وأن مولاه أمره بذبح شاة, وأن يأتيه بأطيب مضغتين, فأتاه باللسان والقلب، ثم أمره بذبح أخرى وأن ألق منها أخبث مضغتين؛ فألقى اللسان والقلب, فسأله عن ذلك، فقال: هما أطيب ما فيها إذا طابا، وأخبث ما فيها إذا خبثا.
ودخل على داود وهو يسرد الدروع, فأراد أن يسأله عماذا يصنع, فأدركته الحكمة، فسكت، فلما أتمها داود لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت, فقال لقمان: الصمت حكمة, وقليل فاعله.
وفي تفسير ابن عطية: قيل للقمان: أي الناس شر? فقال: الذي لا يبالي أن يراه الناس سيئاً أو مسيئاً.
وفي تفسير القرطبي: كان لقمان يفتي قبل مبعث داود, فلما بعث داود قطع الفتوى, فقيل له, فقال: ألا أكتفي إذا كفيت؟
وفيه: إن الحاكم بأشد المنازل وكدرها؛ يغشاه المظلوم من كل مكان إن يصب فبالحريِّ أن ينجو, وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة.(1/97)
ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً, ومن يختر الدنيا على الآخرة تَفُتْهُ الدنيا ولا يصب الآخرة.
وفي تفسير البيضاوي: أن داود سأل لقمان: كيف أصبحت? فقال: أصبحت في يدي غيري.
وفي درة التنزيل المنسوب لفخر الدين الرازي: قال لقمان لابنه: إن الله رضيني لك، فلم يوصني بك، ولم يرضك لي؛ فأوصاك بي.
وفي الشفاء لعياض: قال لقمان لابنه: إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة, وخرست الحكمة, وقعدت الأعضاء عن العبادة.
وفي كتاب آداب النكاح لقاسم بن يأمون التليدي الأخماسي(1): أن من وصية لقمان: يا بني إنما مثل المرأة الصالحة كمثل الدهن في الرأس يلين العروق, ويُحَسِّن الشعر، ومثلها كمثل التاج على رأس الملك، ومثلها كمثل اللؤلؤ والجوهر لا يدري أحد ما قيمته.
ومثل المرأة السوء كمثل السيل لا ينتهي حتى يبلغ منتهاه: إذا تكلمت أسمعت، وإذا مشت أسرعت، وإذا قعدت رفعت، وإذا غضبت أسمعت, وكل داء يبرأ إلا داء امرأة السوء.
يا بني لأَنْ تساكنَ الأسد والأَسْوَد(2)خيرٌ من أن تساكنها؛ تبكي وهي الظالمة، وتحكم وهي الجائرة، وتنطق وهي الجاهلة, وهي أفعى بلدغها.
وفي مجمع البيان للطبرسي: يا بني سافر بسيفك, وخفك, وعمامتك, وخبائك, وسقائك, وخيوطك, ومخرزك، وتزود معك من الأدوية ما تنتفع به أنت ومن معك، وكن لأصحابك موافقاً إلا في معصية الله _عز وجل_.
__________
(1) _ بالمكتبة الأحمدية عدد 2128 وطبع في فاس سنة 1317.
(2) _ يريد ذَكَر الحيات.(1/98)
يا بني إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم في أمرك وأمورهم، وأكثر التبسم في وجوههم، وكن كريماً على زادك بينهم، فإذا دعوك فأجبهم, وإذا استعانوا بك فأعنهم، واستعمل طول الصمت وكثرة الصلاة، وسخاء النفس بما معك من دابة أو ماء أو زاد، وإذا استشهدوك على الحق فاشهد لهم، واجهد رأيك لهم إذا استشاروك، ثم لا تعزم حتى تَثَبَّت وتنظر، ولا تجب في مشورة حتى تقوم فيها وتقعد, وتنام وتأكل, وتصلي, وأنت مستعمل فكرتك وحكمتك في مشورته؛ فإنَّ مَنْ لم يمحضِ النصيحة من استشاره سلبه الله رأيه، وإذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم، فإذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم، واسمع لمن هو أكبر منك سناً, وإذا أمروك بأمر وسألوك شيئاً فقل: نعم ولا تقل: لا؛ فإن لا عِيٌّ ولؤم، وإذا تحيرتم في الطريق فأنزلوا، وإذا شككتم في القصد فقفوا وتآمروا، وإذا رأيتم شخصاً واحداً فلا تسألوه عن طريقكم, ولا تسترشدوه؛ فإن الشخص الواحد في الفلاة مريب لعله يكون عين اللصوص, أو يكون هو الشيطانَ الذي حيركم.
واحذروا الشخصين _أيضاً_ إلا أن تروا ما لا أرى؛ لأن العاقل إذا أبصر بعينه شيئاً عرف الحق منه، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب.
يا بني إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها لشيء، صلِّها واسترح منها؛ فإنها دَيْنٌ، وصل في جماعة ولو على رأس زج, وإذا أردتم النزول فعليكم من بقاع الأرض بأحسنها لوناً, وألينها تربة, وأكثرها عشباً.
وإذا نزلت فصل ركعتين قبل أن تجلس، وإذا أردت قضاء حاجتك فأبعد المذهب في الأرض, وإذا ارتحلت فصلِّ ركعتين ثم ودِّع الأرض التي حللت بها, وسلِّم على أهلها؛ فإن لكل بقعة أهلاً من الملائكة، وإن استطعت أن لا تأكل طعاماً حتى تبتدئ, فتتصدق منه فافعل.
وعليك بقراءة كتاب الله _لعله يعني الزبور_ ما دمت راكباً، وعليك بالتسبيح ما دمت عاملاً عملاً، وعليك بالدعاء ما دمت خالياً, وإياك والسير في أول الليل إلى آخره, وإياك ورفعَ الصوتِ في مسيرك.(1/99)
فقد استتقصينا ما وجدنا من حكمة لقمان مما يقارب سبعين حكمة. 21/169_173
11_ ومعنى حصر مفاتح الغيب في هذه الخمسة: أنها هي الأمور المغيبة المتعلقة بأحوال الناس في هذا العالم, وأن التعبير عنها بالمفاتح أنها تكون مجهولة للناس؛ فإذا وقعت فكأن وقُوعَها فَتْحٌ لما كان مغلقاً، وأما بقية أحوال الناس فخفاؤها عنهم متفاوت, ويمكن لبعضهم تعيينها مثل تعيين يوم كذا للزفاف, ويوم كذا للغزو, وهكذا مواقيت العبادات والأعياد، وكذلك مقارنات الأزمنة مثل: يوم كذا مدخل الربيع؛ فلا تجد مغيبات لا قِبَل لأحد بمعرفة وقوعها من أحوال الناس في هذا العالم غير هذه الخمسة.
فأما في العوالم الأخرى وفي الحياة الآخرة فالمغيبات عن علم الناس كثيرة, وليست لها مفاتح علم في هذا العالم. 21/198
1_ أشهر أسماء هذه السورة هو (سورة السجدة) وهو أخصر أسمائها، وهو المكتوب في السطر المجعول لاسم السورة من المصاحف المتداولة.
وبهذا الاسم ترجم لها الترمذي في جامعه، وذلك بإضافة كلمة (سورة) إلى كلمة (السجدة).
ولا بد من تقدير كلمة [أَلَمْ] محذوفة للاختصار؛ إذ لا يكفي مجرد إضافة سورة إلى السجدة في تعريف هذه السورة؛ فإنه لا تكون سجدة من سجود القرآن إلا في سورة من السور.
وتسمى _أيضاً_ [أَلَمْ تَنزِيلُ] روى الترمذي عن جابر بن عبدالله أن النبي"كان لا ينام حتى يقرأ: [أَلَمْ(1)تَنزِيلُ] و[تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ].
وتسمى (ألم تنزيل السجدة) وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة كان النبي"يقرأ يوم الجمعة في صلاة الفجر (ألم تنزيل السجدة) و[هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ].
قال شارحو صحيح البخاري ضبط اللام من كلمة [تَنزِيلُ]بضمة على الحكاية، وأما لفظ =السجدة+ في هذا الحديث فقال ابن حجر: هو بالنصب, وقال العيني والقسطلاني: بالنصب على أنه عطف بيان، يعني أنه بيان للفظ [أَلَمْ تَنزِيلُ].(1/100)
وهذا بعيد؛ لأن لفظ السجدة ليس اسماً لهذه السورة إلا بإضافة (سورة) إلى (السجدة) فالوجه أن يكون لفظ (السجدة) في كلام أبي هريرة مجروراً بإضافة مجموع [أَلَمْ تَنزِيلُ] إلى لفظ (السجدة)، وسأبين كيفية هذه الإضافة.
وعنونها البخاري في صحيحه =سورة تنزيل السجدة+.
ويجب أن يكون [تَنزِيلُ] مضموناً على حكاية لفظ القرآن، فتميزت هذه السورة بوقوع سجدة تلاوة فيها من بين السور المفتتحة بـ[أَلَمْ] فلذلك فمن سماها (سورة السجدة) عنى تقدير مضاف أي سورة (ألم السجدة). 21/201_202
2_ وتسمى هذه السورة _أيضاً_ (سورة المضاجع) لوقوع لفظ [الْمَضَاجِعِ] في قوله _تعالى_: [تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ].
وفي تفسير القرطبي عن مسند الدرامي(1) أن خالد بن معدان(2) سماها =المنجية+.
قال: =بلغني أن رجلاً يقرؤها ما يقرأ شيئاً غيرها، وكان كثير الخطايا, فنشرت جناحها وقالت: رب اغفر له؛ فإنه كان يكثر من قراءتي؛ فشفعها الرب فيه وقال: اكتبوا له بكل خطيئة حسنة وارفعوا له درجة+ ا هـ . 21/203
3_ وهي مكية في إطلاق أكثر المفسرين, وإحدى روايتين عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه استثناء ثلاث آيات مدنية وهي: [أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً] إلى [لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ].
قيل: نزلت يوم بدر في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة وسيأتي إبطاله.
وزاد بعضهم آيتين: [تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ]إلى [بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] لما روي في سبب نزولها وهو ضعيف.
والذي نعول عليه أن السورة كلها مكية وأن ما خالف ذلك إنْ هو إلا تأويل, أو إلحاق خاص بعام كما أصلنا في المقدمة الخامسة.
__________
(1) 1_ الصواب: الدارمي. (م)
(2) 2_ خالد بن معدان الكلاعي الحمصي أبو عبدالله من فقهاء التابعين, توفي سنة ثلاث أو أربع أو ثمان ومائة, روى عن جماعة من الصحابة مرسلاً.(1/101)
نزلت بعد سورة النحل وقبل سورة نوح، وقد عدت الثالثة والسبعين في النزول.
وعدت آياتها عند جمهور العادين ثلاثين، وعدها البصريون سبعاً وعشرين. 21/203_204
4_ من أغراض هذه السورة: أوَّلُها التنويهُ بالقرآن أنه منزلٌ من عند الله، وتوبيخُ المشركين على ادعائهم أنه مفترىً بأنهم لم يسبقْ لهم التشرفُ بنزول كتاب.
والاستدلالُُ على إبطال إلهية أصنامهم بإثبات انفراد الله بأنه خالق السماوات والأرض، ومُدَبِّرُ أمورهما.
وذكرُ البعثِ, والاستدلالُ على كيفيةِ بدءِ خَلْقِ الإنسان ونسلِه، وتنظيرُُُُه بإحياء الأرض، وأُدْمِج في ذلك أن إحياءَ الأرضِ نعمةٌ عليهم كفروا بمسديها.
والإنحاءُ على الذين أنكروه ووعيدُهم.
والثناءُُُ على المصدقين بآيات الله وَوَعْدُهم، ومقابلةُ إيمانهم بكفر المشركين، ثم إثباتُ رسالةِ رسولٍ عظيمٍ قبل محمد "هُدِيَ به أمةٌ عظيمة.
والتذكيرُُُُ بما حل بالمكذبين السابقين؛ ليكون ذلك عظةً للحاضرين، وتهديدهم بالنصر الحاصل للمؤمنين.
وخُتِمَ ذلك بانتظار النصر.
وَأَمْرُ الرسولِ "بالإعراض عنه؛ تحقيراً لهم، وَوَعْدُه بانتظار نصره عليهم.
ومن مزايا هذه السورةِ وفضائلها ما رواه الترمذي والنسائي وأحمد والدارمي عن جابر بن عبد الله قال: =كان النبي لا ينام حتى يقرأ [الم تَنْزِيْلُ] السجدة و[تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ]+. 21/204_205
5_ [فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ]: أي لا تبلغ نفس من أهل الدنيا معرفة ما أعد الله لهم قال النبي"قال الله _تعالى_: =أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر+.(1/102)
فدل على أن المراد بـ[نَفْسٌ] في هذه الآية أصحاب النفوس البشرية؛ فإن مدركات العقول منتهية إلى ما تدركه الأبصار من المرئيات من الجمال والزينة، وما تدركه الأسماع من محاسن الأقوال، ومحامدها، ومحاسن النغمات، وإلى ما تبلغ إليه المتخيلات من هيئات يركبها الخيال من مجموع ما يعهده من المرئيات والمسموعات مثل الأنهار من عسل أو خمر أو لبن، ومثل القصور والقباب من اللؤلؤ، ومثل الأشجار من زبرجد، والأزهار من ياقوت، وتراب من مسك وعنبر؛ فكل ذلك قليل في جانب ما أعد لهم في الجنة من هذه الموصوفات, ولا تبلغه صفات الواصفين؛ لأن منتهى الصفة محصور فيما تنتهي إليه دلالات اللغات مما يخطر على قلوب البشر؛ فلذلك قال النبي": =ولا خطر على قلب بشر+ وهذا كقولهم في تعظيم شيء: هذا لا يعلمه إلا الله. 21/229_230
1_ هكذا سميت (سورة الأحزاب) في المصاحف وكتب التفسير والسنة، وكذلك رويت تسميتها عن ابن عباس وأبي بن كعب بأسانيد مقبولة, ولا يعرف لها اسم غيره, ووجه التسمية أن فيها ذكر أحزاب المشركين من قريش ومن تحزب معهم أرادوا غزو المسلمين في المدينة فرد الله كيدهم وكفى الله المؤمنين القتال.
وهي مدنية بالاتفاق، وسيأتي عن ابن عباس أن آية: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ] الخ، نزلت في تزويج زينب بنت جحش من زيد بن حارثة في مكة.
وهي التسعون في عداد السور النازلة من القرآن، نزلت بعد سورة الأنفال، وقبل سورة المائدة.
وكان نزولها على قول ابن إسحاق أواخر سنة خمس من الهجرة وهو الذي جرى عليه ابن رشد في البيان والتحصيل.(1/103)
وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك: أنها كانت سنة أربع وهي سنة غزوة الأحزاب وتسمى غزوة الخندق حين أحاط جماعات من قريش وأحابيشهم(1) وكنانة وغطفان وكانوا عشرة آلاف وكان المسلمون ثلاثة آلاف وعقبتها غزوة قريظة والنضير.
وعدد آيها ثلاث وسبعون باتفاق أصحاب العدد. 21/245
2_ وكون القرآن قد تلاشى منه كثير هو أصل من أصول الروافض؛ ليطعنوا به في الخلفاء الثلاثة، والرافضة يزعمون أن القرآن مستودع عند الإمام المنتظر, فهو الذي يأتي بالقرآن وَقْرَ بعير.
وقد استوعب قولهم واستوفى إبطاله أبو بكر بن العربي في كتاب العواصم من القواصم. 21/247
3_ أغراض هذه السورة: لكثير من آيات هذه السورة أسبابٌ لنزولها، وأكثرُها نزل للرد على المنافقين أقوالاً قصدوا بها أذى النبي".
وأهم أغراضها: الردُّ عليهم قولَهم لما تزوج النبي"زينبَ بنتَ جحشٍ بعد أن طلَّقها زيدُ بنُ حارثةَ فقالوا: تزوج محمدٌ امرأةَ ابنِه وهو ينهى الناس عن ذلك؛ فأنزل الله _تعالى_ إبطال التبني.
وأن الحقَّ في أحكام الله؛ لأنه الخبير بالأعمال, وهو الذي يقول الحق.
وأن ولايةَ النبي"للمؤمنين أقوى ولاية، ولأزواجه حُرْمَةُ الأمهاتِ لهم، وتلك ولايةٌ مِنْ جعْل الله؛ فهي أقوى وأشدُّ من ولايةِ الأرحام.
وتحريضُ المؤمنين على التمسك بما شرع الله لهم؛ لأنه أخَذَ العهدَ بذلك على جميع النبيين .
والاعتبارُ بما أظهره الله من عنايته بنصر المؤمنين على أحزاب أعدائهم من الكفرة والمنافقين في وقعة الأحزاب, ودفعُ كيدِ المنافقين.
والثناءُ على صدق المؤمنين, وثباتِهم في الدفاع عن الدين.
ونعمةُ اللهِ عليهم بأن أعطاهم بلادَ أهلِ الكتاب الذين ظاهروا الأحزاب.
__________
(1) _ أحابيش قريش هم بنو المصطلق, وبنو الهوان اجتمعوا عند جبل بمكة يقال له حُبيش بضم الحاء وسكون الباء فحالفوا قريشاً أنهم يد على غيرهم.(1/104)
وانْتُقِلَ من ذلك إلى أحكامٍ في معاشرة أزواج النبي"وذكر فضلهن وفضل آل النبي"وفضائلِ أهل الخير من المسلمين والمسلمات.
وتشريعٌ في عدة المطلقة قبل البناء.
وما يسوغُ لرسول الله " من الأزواج, وحكمُ حجابِ أمهات المؤمنين, ولُبْسةُ المؤمنات إذا خرجن.
وتهديدُ المنافقين على الإرجاف بالأخبار الكاذبة.
وخُتِمَت السورةُ بالتنويه بالشرائع الإلهية؛ فكان ختامُها من ردِّ العَجُزِ على الصدر؛ لقوله في أولها [وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ].
وتخلل ذلك مستطرداتٌ من الأمر بالائتساء بالنبي".
وتحريضُ المؤمنين على ذكر الله, وتنزيهه؛ شكراً له على هديه, وتعظيمُ قَدْرِ النبي"عند الله وفي الملأ الأعلى، والأمرُ بالصلاةِ عليه والسلام.
ووعيدُ المنافقين الذين يأتون بما يؤذي الله ورسوله والمؤمنين.
والتحذيرُ من التورط في ذلك؛ كيلا يقعوا فيما وقع فيه الذين آذوا موسى _عليه السلام_. 21/247_248
4_ فإحباط الأعمال: إبطال الاعتداد بالأعمال المقصود بها القربة, والمظنون بها أنها أعمال صالحة لمانع منع من الاعتداد بها في الدين.
وقد صار لفظ الحبط والحبوط من الألفاظ الشرعية الاصطلاحية بين علماء الفقه والكلام، فأطلق على عدم الاعتداد بالأعمال الصالحة بسبب الردة، أي الرجوع إلى الكفر، أو بسبب زيادة السيئات على الحسنات بحيث يستحق صاحب الأعمال العذاب بسبب زيادة سيئاته على حسناته بحسب ما قدر الله لذلك, وهو أعلم به. 21/299
5_ وأما حفظ الفروج فلأن شهوة الفرج شهوة جبلية، وهي في الرجل أشد، وقد أثنى الله على الأنبياء بذلك، فقال في يحيى:[وَحَصُوراً].
وقال في مريم: [الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا] وهذا الحفظ له حدود سنَّتْهَا الشريعةُ، فالمراد: حفظ الفروج على أن تستعمل فيما نُهِي عنه شرعاً، وليس المراد: حفظها عن الاستعمال أصلاً وهو الرهبنة؛ فإن الرهبنةَ مدحوضةٌ في الإسلام بأدلة متواترة المعنى. 22/22(1/105)
6_ [وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ].
وهذا مبدأ المقصود من الانتقال إلى حكم إبطال التبني، ودَحْضِ ما بناه المنافقون على أساسه الباطل؛ بناءً على كفر المنافقين الذين غمزوا مغامز في قضية تزوج رسول الله " زينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة فقالوا: تزوج حليلة ابنه، وقد نهى عن تزوج حلائل الأبناء؛ ولذلك ختمت هذه القصة وتوابعها بالثناء على المؤمنين بقوله: [هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ] الآية، وبالإعراض عن المشركين والمنافقين، وعن أذاهم.22/29
7_ واعلم أن المأثور الصحيح في هذه الحادثة: أن زيد بن حارثة بقيت عنده زينب سنين؛ فلم تلد له، فكان إذا جرى بينه وبينها ما يجري بين الزوجين تارة من خلاف أدلت عليه بسؤددها، وغضَّت منه بولايته، فلما تكرر ذلك عزم على أن يطلقها، وجاء يعلم رسول الله " بعزمه على ذلك؛ لأنه تزوجها من عنده.
وروي عن علي زين العابدين: أن الله أوحى إلى النبي"أنه سينكح زينب بنت جحش.
وعن الزهري: نزل جبريل على النبي"يعلمه أن الله زوجه زينب بنت جحش، وذلك هو ما في نفسه.
وذكر القرطبي أنه مختار بكر بن العلاء القشيري(1)وأبي بكر بن العربي.
والظاهر عندي: أن ذلك كان في الرؤيا كما أرى أنه قال لعائشة: =أتاني بك الملك في المنام في سرقة من حرير يقول لي: هذه امرأتك، فأكشف، فإذا هي أنت فأقول: إن يكن هذا من عند الله يُمضِه+.
__________
(1) _ هو من المالكية, توفي سنة 344، ترجمته في المدارك.(1/106)
فقول النبي"لزيد: [أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ] توفية بحق النصيحة، وهو أمر نصح، وإشارة بخير لا أمر تشريع؛ لأن الرسول _ عليه الصلاة والسلام _ في هذا المقام متصرفٌ بحقِّ الولاء والصحبة لا بصفة التشريع والرسالة، وأداء هذه الأمانة لا يتأكد أنه كان يعلم أن زينبَ صائرةٌ زوجاً له؛ لأن علم النبي بما سيكون لا يقتضي إجراءه، وإرشاده، أو تشريعه بخلاف علمه أو ظنه؛ فإن النبي"كان يعلم أن أبا جهل _مثلاً_ لا يُؤْمِن ولم يمنعه ذلك أن يبلِّغه الرسالة، ويعاوده الدعوة، ولأن رغبته في حصول شيء لا تقتضي إجراء أمره على حسب رغبته إن كانت رغبته تخالف ما يحمل الناس عليه، كما كان يرغب أن يقوم أحد يقتل عبدالله بن سعد بن أبي سرح قبل أن يسمع إعلانه بالتوبة من ارتداده حين جاء به عثمان بن عفان يوم الفتح تائباً.
ولذلك كلِّه لا يعد تصميم زيد على طلاق زينب عصياناً للنبي"لأن أمره في ذلك كان على وجه التوفيق بينه وبين زوجه، ولا يلزم أحداً المصيرُ إلى إشارة المشير كما اقتضاه حديث بريرة مع زوجها مغيث إذ قال لها: =لو رَاجَعْتِهِ? فقالت: يا رسول الله تأمرني? قال: لا إنما أنا أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه+. 22/31_32
8_ وقد رُوِيَتْ في هذه القصة أخبار مخلوطة؛ فإياك أن تتسرب إلى نفسك منها أغلوطة؛ فلا تُصْغِ ذِهْنَكَ إلى ما ألصقه أهل القصص بهذه الآية من تبسيط في حال النبي " حين أمر زيداً بإمساك زوجه؛ فإن ذلك من مختلقات القصاصين، فإما أن يكون ذلك اختلافاً من القصاص؛ لتزيين القصة، وإما أن يكون كله أو بعضه من أراجيف المنافقين وبهتانهم فتلقفه القصاص وهو الذي نجزم به.
ومما يدل لذلك أنك لا تجد فيما يؤثر من أقوال السلف في تفسير هذه الآية أثراً مسنداً إلى النبي"أو إلى زيد، أو إلى زينب، أو إلى أحد من الصحابة رجالِهم ونسائهم، ولكنها قَصَصٌ وأخبارٌ وقيل وقال.(1/107)
ولسوء فهم الآية كَبُر أمرُها على بعض المسلمين، واستفزت كثيراً من الملاحدة وأعداء الإسلام من أهل الكتاب.
وقد تصدى أبو بكر بن العربي في الأحكام لوهن أسانيدها وكذلك عياض في الشفاء.
والآن نريد أن ننقل مجرى الكلام إلى التسليم بوقوع ما رُوي من الأخبار الواهية السند؛ لكي لا نترك في هذه الآية مهواة لأحد.
ومجموع القصة من ذلك: أن النبي " جاء بيت زيد يسأل عنه فرأى زينب متفضلة، وقيل: رفعت الريح ستار البيت فرأى النبي _عليه الصلاة والسلام_ زينب فجأةً على غير قصد، فأعجبه حُسْنُها، وسبح لله.
وأن زينب علمت أنه وقعت منه موقع الاستحسان وأن زيداً علم ذلك وأنه أحب أن يطلقها؛ ليؤثر بها مولاه النبي"، وأنه لما أخبر النبي"بذلك قال له: =أمسك عليك زوجك+ وهو يود طلاقها في قلبه ويعلم أنها صائرة زوجاً له+.
وعلى تفاوت أسانيده في الوهن أُلْقِيَ إلى الناس في القصة؛ فانتقل غَثُّه وسمينه، وتُحُمِّلَ خفه ورزينه، فأخذ منه كل ما وسعه فهمه ودينه. ولو كان كله واقعاً لما كان فيه مغمز في مقام النبوة.(1/108)
فأما رؤيةُ زينبَ في بيت زيدٍ إن كانت عن عمد فذلك أنه استأذن في بيت زيد فإن الاستئذان واجب؛ فلا شك أنه رأى وجهها وأعجبته ولا أحسب ذلك لأن النساء لم يكن يسترن وجوههن قال _تعالى_: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] (أي الوجه والكفين) وزيد كان من أشد الناس اتصالاً بالنبي، وزينب كانت ابنة عمته، وزوج مولاه ومتبناه، فكانت مختلطة بأهله، وهو الذي زوجها زيداً، فلا يصح أن يكون ما رآها إلا حين جاء بيت زيد، وإن كانت الريح رفعت الستر فرأى من محاسنها وزينتها ما لم يكن يراه من قبل _ فكذلك لا عجب فيه؛ لأن رؤية الفجأة لا مؤاخذة عليها، وحصول الاستحسان عقب النظر الذي ليس بحرام أمر قهري لا يملك الإنسان صرفه عن نفسه، وهل استحسان ذات المرأة إلا كاستحسان الرياض والجنات والزهور والخيل ونحو ذلك مما سماه الله زينة إذا لم يتبعه النَّظَّار نظرة.
وأما ما خطر في نفس النبي " من مودة تزوجها فإن وقع فما هو بخطب جليل؛ لأنه خاطر لا يملك المرء صرفَه عن نفسه؛ وقد علمت أن قوله: [وَتَخْشَى النَّاسَ] ليس بلوم، وأن قوله: [وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ] ليس فيه لوم ولا توبيخ على عدم خشية الله ولكنه تأكيد لعدم الاكتراث بخشية الناس.
وإنما تظهر مجالاتُ النفوس في ميادين الفتوة بمقدار مصابرتها على الكمال في مقاومة ما ينشأ عن تلك المرائي من ضعف في النفوس، وخور العزائم.
وكفاك دليلاً على تمكن رسول الله " من هذا المقام هو أفضل من ترسخ قدمه في أمثاله أنه لم يَزَلْ يراجعُ زيداً في إمساك زوجه مشيراً عليه بما فيه خير له، وزيد يرى ذلك إشارةً ونصحاً لا أمراً وشرعاً.(1/109)
ولو صح أن زيداً علم مودة النبي " تزوج زينب فطلقها زيد لذلك دون أمر من النبي _عليه الصلاة والسلام_ ولا التماس لما كان عجباً؛ فإنهم كانوا يؤثرون النبي " على أنفسهم، وقد تنازل له دِحْيَةُ الكلبيُّ عن صفية بنت حيي بعد أن صارت له في سهمه من مغانم خيبر، وقد عرض سعد بن الربيع على عبدالرحمن ابن عوف أن يتنازل له عن إحدى زوجتيه يختارها؛ للمؤاخاة التي آخى النبي" بينهما.
وأما إشارة النبي _عليه الصلاة والسلام_ على زيد بإمساك زوجه مع علمه بأنها ستصير زوجة له فهو أداء لواجب أمانة الاستنصاح والاستشارة؛ وقد يشير المرء بالشيء يعلمه مصلحةً وهو يوقن أن إشارته لا تُمْتَثَلُ.
والتخليط بين الحالين تخليطٌ بين التصرف المستند لما تقتضيه ظواهر الأحوال وبين ما في علم الله في الباطن، وأشبه مقام به مقام موسى مع الخضر في القضايا الثلاث.
وليس هذا من خائنة الأعين _كما توهمه من لا يحسن_ لأن خائنة الأعين المذمومة ما كانت من الخيانة والكيد.
وليس هو _أيضاً_ من الكذب لأن قول النبي _عليه الصلاة والسلام_ لزيد: [أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ] لا يناقض رغبته في تزوجها، وإنما يناقضه لو قال: إني أحب أن تمسك زوجك، إذ لا يَخْفَى أن الاستشارة طلب النظر فيما هو صلاح للمستشير لا ما هو صلاح للمستشار.
ومن حق المستشار إعلام المستشير بما هو صلاح له في نظر المشير، وإن كان صلاح المشير في خلافه فضلاً على كون ما في هذه القصة إنما تخالف بين النصيحة وبين ما علمه الناصح من أن نصحه لا يؤثر.
فإن قلت: فما معنى ما روي في الصحيح عن عائشة أنها قالت: لو كان رسول الله كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية: [وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ] الآية.(1/110)
قلت: أرادت أن رغبة النبي " في تزوج زينب أو إعلام الله إياه بذلك كان سراً في نفسه لم يطلع عليه أحدٌ؛ إذ لم يؤمر بتبليغه إلى أحد.
وعلى ذلك السر انبنى ما صدر منه لزيد في قوله: [أمسك عليك زوجك].
فلما طلقها زيد ورام تزوجها علم أن المنافقين سيرجفون بالسوء، فلما أمره الله بذكر ذلك للأمة وتبليغ خبره بلغه ولم يكتمه مع أنه ليس في كتمه تعطيل شرع، ولا نقص مصلحة؛ فلو كان كاتماً لكتم هذه الآية التي هي حكاية سر في نفسه وبينه وبين ربه _تعالى_.
ولكنه لما كان وحياً بلغه؛ لأنه مأمور بتبليغ كل ما أنزل إليه.
واعلم أن للحقائق نصابَها، وللتصرفات موانعها وأسبابها، وأن الناس قد تمتلكهم العوائد؛ فتحول بينهم وبين إدراك الفوائد، فإذا تفشت أحوال في عاداتهم استحسنوها ولو ساءت، وإذا ندرت المحامد دافعوها إذا رامت مداخلة عقولهم وشاءت، وكل ذلك من تحريف الفطرة عن وضعها، والمباعدة بين الحقائق وشرعها.
ولما جاء الإسلام أخذ يغزو تلك الجيوش لِيَقْلَعَها من أقاصيها، وينزلها من صياصيها؛ فالحُسْنُ المشروعُ ما تشهد الفطرة لحسنه، والقبيح الممنوع الذي أماتته الشريعة وأمرت بدفنه. 22/35_38
9_ وقد أجمع الصحابة على أن محمداً"خاتم الرسل والأنبياء، وعرف ذلك وتواتر بينهم وفي الأجيال من بعدهم، ولذلك لم يترددوا في تكفير مسيلمة والأسود العنسي؛ فصار معلوماً من الدين بالضرورة؛ فمن أنكره فهو كافر خارج عن الإسلام ولو كان معترفاً بأن محمداً"رسول الله للناس كلهم.
وهذا النوع من الإجماع موجبُ العلم الضروري ما أشار إليه جميع علمائنا، ولا يدخل هذا النوع في اختلاف بعضهم في حجِّية الإجماع؛ إذ المختلف في حجيته هو الإجماع المستند لنظر وأدلة اجتهادية بخلاف المتواتر المعلوم بالضرورة.
وفي كلام الغزالي في خاتمة كتاب الاقتصاد في الاعتقاد مخالفة لهذا على ما فيه من قلة تحرير.(1/111)
وقد حمل عليه ابن عطية حملة غير منصفة، وألزمه إلزاماً فاحشاً ينزه عنه علمه ودينه؛ فرحمة الله عليهما. 22/45
10_ ولذلك لا يتردد مسلم في تكفير من يثبت نبوةً لأحد بعد محمد" وفي إخراجه من حظيرة الإسلام، ولا تعرف طائفة من المسلمين أقدمت على ذلك إلا البابية(1) والبهائية(2) وهما نحلتان مشتقة ثانيتهما من الأولى.
وكان ظهور الفرقة الأولى في بلاد فارس في حدود ستة مائتين وألف(3) وتسربت إلى العراق، وكان القائم بها رجلاً من أهل شيراز يدعوه أتباعه السيد علي محمد كذا اشتهر اسمه، كان في أول أمره من غلاة الشيعة الإمامية أخذ عن رجل من المتصوفين اسمه الشيخ أحمد زين الدين الأحسائي الذي كان ينتحل التصوف بالطريقة الباطنية وهي الطريقة المتلقاة عن الحلاج، وكانت طريقته تعرف بالشيخية، ولما اظهر نحلته علي محمد هذا لقب نفسه باب العلم؛ فغلب عليه اسم الباب، وعرفت نحلته بالبابية، وادعى لنفسه النبوءة وزعم أنه أوحي إليه بكتاب اسمه (البيان) وأن القرآن أشار إليه بقوله _تعالى_: [خَلَقَ الإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ].
وكتاب البيان مؤلف بالعربية الضعيفة، ومخلوط بالفارسية وقد حكم عليه بالقتل سنة 1266 في تبريز.
__________
(1) _ هي فرقه ضالة، ونحلة كافرة، انبثقت من الشيعة الاثني عشرية، وظهرت في القرن الثالث عشر الهجري في إيران، على يد رجل شيعي، يدعى الميرزا علي محمد الشيرازي، الذي ظهر بفكرة الباب إلى المهدي المنتظر. (م)
(2) _ البهائية هي: فرقة باطنية كافرة ظهرت في إيران في القرن الثالث عشر الهجري على يد حسين علي المازندراني الملقب بالبهاء.
والبهائية هي البابية السابقة؛ ولكنها انتقلت إلى مرحلة جديدة بعد مقتل الباب زعيم البابية؛ فالبهائية قامت على أنقاض البابية. (م)
(3) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: ستة وستين ومائتين وألف. (م)(1/112)
وأما البهائية فهي شعبة من البابية تنسب إلى مؤسسها الملقب ببهاء الله واسمه ميرزا حسين علي من أهل طهران تتلمذ للباب بالمكاتبة، وأخرجته حكومة شاه العجم إلى بغداد بعد قتل الباب، ثم نقلته الدولة العثمانية من بغداد، إلى أدرنة، ثم إلى عكا، وفيما ظهرت نحلته وهم يعتقدون نبوءة الباب، وقد التف حوله أصحاب نحلة البابية وجعلوه خليفة الباب فقام اسمُ البهائية مقامَ اسمِ البابية؛ فالبهائية هم البابية.
وقد كان البهاء بني بناءً في جبل الكرمل؛ ليجعله مدفناً لرفات (الباب) وآلَ أمرُه إلى أن سجنته السلطنة العثمانية في سجن عكا؛ فلبث في السجن سبع سنوات، ولم يطلق من السجن إلا عندما أعلن الدستور التركي؛ فكان في عداد المساجين السياسيين الذين أطلقوا يومئذ، فرحل منتقلاً في أوربا وأمريكا مدة عامين، ثم عاد إلى حيفا فاستقر بها إلى أن توفي سنة 1340.
وبعد موته نشأ شقاق بين أبنائه وإخوته؛ فتفرقوا في الزعامة، وتضاءلت نحلتهم.
فمن كان من المسلمين متبعاً للبهائية أو البابية فهو خارج عن الإسلام مرتد عن دينه تجري عليه أحكام المرتد، ولا يرث مسلماً ويرثه جماعة المسلمين، ولا ينفعهم قولهم: =إنا مسلمون+ ولا نطقهم بكلمة الشهادة؛ لأنهم يثبتون الرسالة لمحمد"ولكنهم قالوا بمجيء رسول من بعده.
ونحن كَفَّرنا الغُرابية من الشيعة لقولهم: =بأن جبريل أرسل إلى علي، ولكنه شُبِّه له محمد بعلي؛ إذ كان أحدهما أشبه بالآخر من الغراب بالغراب _وكذبوا_ فبلغ الرسالة إلى محمد"+.
فهم أثبتوا الرسالة لمحمد"ولكنهم زعموه غير المعين من عند الله.
وتُشْبِهُ طقوسُ البهائية طقوسَ الماسونية إلا أن البهائية تنتسب إلى التلقي من الوحي الإلهي؛ فبذلك فارقت الماسونية، وعُدَّت في الأديان والملل، ولم تعد في الأحزاب. 22/45_47
11_ والسين والتاء في: [يَسْتَنكِحَهَا] ليستا للطلب بل هما لتأكيد الفعل كقول النابغة:(1/113)
وهم قتلوا الطائى بالحجر عنوةً ... أبا جابر فاستنكحوا أم جابر
أي بنو حُنٍّ قتلوا أبا جابر الطائى فصارت أم جابر المزوجة بأبي جابر زوجة بني حُنّ، أي زوجة رجل منهم، وهي مثل السين والتاء في قوله: [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ]. 22/69
12_[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ]
لما بين الله في الآياتِ السابقةِ آدابَ النبي"مع أزواجه قفَّاه في هذه الآية بآداب الأمة معهن، و صدر بالإشارة إلى قصة هي سبب نزول هذه الآية، وهي ما في صحيح البخاري و غيره عن أنس بن مالك قال:لما تزوج رسول الله"زينب ابنة جحش صنع طعاماً بخبز ولحم، ودعا القوم، فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام؛ فلم يقوموا؛ فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي ليدخل فإذا القوم جلوس، فجعل النبي"يخرج ثم يرجع، فانطلق إلى حجرة عائشة، فَتَقَرَّى حِجَرَ نسائه كلِّهن يسلم عليهن، ويسلمن عليه، ويدعون له، ثم إنهم قاموا، فانطلقت، فجئت، فأخبرت النبي"أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله: [يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لاَ تَدْخُلُوْا بُيُوْتَ النَّبِيِّ] إلى قوله: [مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ].
وفي حديث آخر في الصحيح عن أنس _أيضاً_ أن عمر بن الخطاب ÷ قال له: =يا رسول الله يدخل عليك البر و الفاجر، فلو أمرت أمهاتِ المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب+.
وليس بين الخبرين تعارضٌ؛ لجواز أن يكون قول عمر كان قبل البناء بزينب بقليل، ثم عقبته قصة وليمة زينب، فنزلت الآية بإثرها.(1/114)
وابتدئ شرعُ الحجاب بالنهي عن دخول بيوت النبي"إلا لطعام دعاهم إليه؛ لأن النبي _عليه الصلاة و السلام_ له مجلس يجلس في المسجد؛ فمن كان له مهم عنده يأتيه هنالك.
وليس ذكر الدعوة إلى طعام تقييداً لإباحة دخول بيوت النبي"لا يدخلها إلا المدعو إلى طعام، و لكنه مثالٌ للدعوة، و تخصيصٌ بالذكر كما جرى في القضية التي هي سبب النزول، فيلحق به كل دعوة تكون من النبي"وكل إذن منه بالدخول إلى بيته لغير قصد أن يطعم معه كما كان يقع ذلك كثيراً.
ومن ذلك قصة أبي هريرة حين استقرأ من عمر آية من القرآن وهو يطمع أن يدعوه عمر إلى الغداء، ففتح عليه الآية، فإذا رسول الله قائم على رأس أبي هريرة وقد عرف ما به، فانطلق به إلى بيته، و أمر له بعُسّ من لبن ثم ثانٍ، ثم ثالث، وإنما ذكر الطعام، إدماجاً؛ لتبيين آدابه، ولذلك ابتدئ بقوله: [غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ] مع أنه لم يقع مثله في قصة سبب النزول. 22/81_82
13_ قال حماد بن زيد و إسماعيل بن أبي حكيم: هذه الآية أدبٌ أدَّبَ الله به الثقلاء.
وقال ابن أبي عائشة: حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم.
ومعنى الثقل فيه هو إدخال أَحَدٍ القلقَ والغمَّ على غيره من جراء عمل لفائدة العامل، أو لعدم الشعور بما يلحق غيره من الحرج من جراء ذلك العمل.
وهو من مساوي الخلق، لأنه إن كان من عمد كان ضراً بالناس، وهو منهي عنه؛ لأنه من الأذى وهو ذريعة للتباغض عند نفاذ صبر المضرور؛ فإن النفوس متفاوتة في مقدار تحمل الأذى، ولأن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ فعليه إذا أحس بأن قوله أو فعله يدخل الغم على غيره أن يكف عن ذلك ولو كان يجتني منه منفعة لنفسه؛ إذ لا يضر بأحد؛ لينتفع غيره إلا أن يكون لمن يأتي بالعمل حق على الآخر؛ فإن له طلبه مع أنه مأمور بحسن التقاضي، وإن كان إدخاله الغم على غيره عن غباوة وقلة تفطن له فإنه مذموم في ذاته، وهو يصل إلى حد يكون الشعور به بديهياً.(1/115)
وللحكماء والشعراء أقوال كثيرة في الثقلاء طفحت بها كتب أدب الأخلاق.
ومعاملة الناس النبي"بهذا الخلق أشدُّ بعداً عن الأدب؛ لأن للنبي " أوقاتاً لا تخلو ساعة منها عن الاشتغال بصلاح الأمة، ويجب أن لا يشغل أحدٌ أوقاته إلا بإذنه،ولذلك قال _تعالى_: [إلا أن يأذن لكم]. 22/84_85
14_ وفي هذه الآية دليل على أن طعام الوليمة وطعام الضيافة ملك للمتضيف، وليس ملكاً للمدعوين، ولا للأضياف؛ لأنهم إنما أذن لهم في الأكل منه خاصة، ولم يملكوه؛ فلذلك لا يجوز لأحد رفع شيء من ذلك الطعام معه. 22/85
15_ واعلم أن في ورود: [يُؤْذِي] هنا ما يبطل المثال الذي أورده ابن الأثير في كتاب المثل السائر شاهداً على أن الكلمة قد تروق السامع في كلام، ثم تكون هي بعينها مكروهة للسامع، وجاء بكلمة: [يؤذي] في هذه الآية، ونظيرها (تؤذي) في قول المتنبي:
تلذ له المروءة وهي تُوذي
وزعم أن وجودها في البيت يحط من قدر المعنى الشريف الذي تضمنه البيت، وأحال في الجزم بذلك على الطبع السليم، ولا أحسب هذا الحكم إلا غضباً من ابن الأثير لا تسوغه صناعة ولا يشهد به ذوق، ولقد صرف أئِمة الأدب همهم إلى بحث شعر المتنبي ونقده؛ فلم يَعُدَّ عليه أحدٌ منهم هذا منتقداً، مع اعتراف ابن الأثير بأن معنى البيت شريف؛ فلم يبقَ له إلا أن يزعم أن كراهة هذا اللفظ فيه راجعة إلى أمر لفظي من الفصاحة، وليس في البيت شيءٌ من الإخلال بالفصاحة، وكأنه أراد أن يقفي على قدم الشيخ عبدالقاهر فيما ذكر في الفصل الذي جعله ثانياً من كتاب دلائل الإعجاز؛ فإن ما انتقده الشيخ في ذلك الفصل من مواقع بعض الكلمات لا يخلو من رجوع نقده إياها إلى أصول الفصاحة أو أصول تناسب معاني الكلمات بعضها مع بعض في نظم الكلام، وشتان ما بين الصنعتين. 22/89_90
16_[وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ].(1/116)
والمعنى: ذلك أقوى طهارة لقلوبكم وقلوبهن؛ فإن قلوب الفريقين طاهرة بالتقوى وتعظيم حرمات الله وحرمة النبي".
ولكن لما كانت التقوى لا تصل بهم إلى درجة العصمة أراد الله أن يزيدهم منها بما يكسب المؤمنين مراتب من الحفظ الإلهي من الخواطر الشيطانية بقطع أضعف أسبابها، وما يقرِّب أمهات المؤمنين من مرتبة العصمة الثابتة لزوجهن" فإن الطيبات للطيبين بقطع الخواطر الشيطانية عنهن بقطع دابرها ولو بالفرض.
وأيضاً فإن للناس أوهاماً وظنوناً سُوأى تتفاوت مراتب نفوس الناس فيها صرامةً، ووهناً، ونفاقاً، وضعفاً، كما وقع في قضية الإفك المتقدمة في سورة النور؛ فكان شرع حجاب أمهات المؤمنين قاطعاً لكل تَقَوُّلٍ وإرجاف بعمد أو بغير عمد.
ووراء هذه الحكم كلِّها حكمةٌ أخرى سامية وهي زيادة تقرير أمومتهن للمؤمنين في قلوب المؤمنين التي هي أمومة جَعْلية شرعية بحيث أن ذلك المعنى الجعلي الروحي وهو كونهن فلانة أو فلانة؛ فيصبحن غير متصورات إلا بعنوان الأمومة؛ فلا يزال ذلك المعنى الروحي ينمي في النفوس،ولا تزال الصورة الحسية تتضاءل من القوة المدركة حتى يصبح معنى أمهات المؤمنين معنى قريباً في النفوس من حقائق المجردات كالملائكة، وهذه حكمة من حكم الحجاب الذي سنه الناس لملوكهم في القدم؛ ليكون ذلك أدخل لطاعتهم في نفوس الرعية. 22/91_92
17_[ إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54)].(1/117)
كلامٌ جامعٌ تحريضاً وتحذيراً، ومنبئٌ عن وعد ووعيد؛ فإن ما قبله قد حوى أمراً ونهياً، وإذ كان الامتثال متفاوتاً في الظاهر والباطن، وبخاصة في النوايا والمضمرات كان المقام مناسباً لتنبيههم بأن الله مطلع على كل حال من أحوالهم في ذلك، وعلى كل شيء؛ فالمراد من: [شَيْئاً] الأول شيء مما يبدونه أو يخفونه وهو يعم كل ما يبدو وما يخفى؛ لأن النكرة في سياق الشرط تعم، والجملة تذييل لما اشتملت عليه من العموم في قوله: [بِكُلِّ شَيْءٍ].
وإظهار لفظ شيء هنا دون إضمار؛ لأن الإضمار لا يستقيم؛ لأن الشيء المذكور ثانياً هو غير المذكور أولاً؛ إذ المراد بالثاني جميع الموجودات _ والمراد بالأول خصوص أحوال الناس الظاهرة والباطنة؛ فالله عليم بكل كائن ومن جملة ذلك ما يبدونه ويخفونه من أحوالهم. 22/95
18_ وجملة: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ] هي المقصودة، وما قبلها توطئة لها وتمهيداً؛ لأن الله لما حذَّر المؤمنين من كل ما يؤذي الرسول _ عليه الصلاة والسلام _ أعقبه بأن ذلك ليس هو أقصى حظِّهم من معاملة رسولهم أن يتركوا أذاه، بل حظهم أكبر من ذلك، وهو أن يصلوا عليه ويسلموا، وذلك هو إكرامهم لرسول الله _ عليه الصلاة والسلام _ فيما بينهم وبين ربهم؛ فهو يدل على وجوب إكرامه في أقوالهم وأفعالهم بحضرته بدلالة الفحوى، فجملة: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] بمنزلة النتيجة الواقعة بعد التمهيد.
وجيء في صلاة الله وملائكته بالمضارع الدال على التجديد والتكرير؛ ليكون أمر المؤمنين بالصلاة عليه والتسليم عقب ذلك مشيراً إلى تكرير ذلك منهم أسوة بصلاة الله وملائكته. 22/97
19_ وقوله: [وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] القول فيه كالقول في: [صَلُّوا عَلَيْهِ] حكماً ومكاناً وصفةً؛ فإن صفته حُدِّدت بقول النبي": =والسلام كما قد علمتم+.(1/118)
فإن المعلوم هو صيغته التي في التشهد =السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته+ وكان ابن عمر يقول فيه بعد وفاة النبي": =السلام على النبي ورحمة الله وبركاته+.
والجمهور أبقوا لفظه على اللفظ الذي كان في حياة النبي _عليه الصلاة والسلام_ رعياً لما ورد عن النبي _عليه الصلاة والسلام_ أنه حي يبلغه تسليم أمته عليه.
ومن أجل هذا المعنى أبقيت له صيغة التسليم على الأحياء وهي الصيغة التي يتقدم فيها لفظ التسليم على المتعلق به؛ لأن التسليم على الأموات يكون بتقديم المجرور على لفظ السلام.
وقد قال رسول الله للذي سلم فقال: عليك السلام يا رسول الله فقال له: =إن عليك السلام تحية الموتى، فقل: السلام عليك+.
والتسليم مشهور في أنه التحية بالسلام، والسلام فيه بمعنى الأمان والسلامة، وجُعِل تحية في الأولين عند اللقاء مبادأة بالتأمين من الاعتداء والثار ونحو ذلك؛ إذ كانوا إذ اتقوا أحداً توجسوا خيفة أن يكون مضمراً شراً لملاقيه،فكلاهما يدفع ذلك الخوف بالإخبار بأنه مُلْقٍ على ملاقيه سلامة وأمناً، ثم شاع ذلك حتى صار هذا اللفظ دالاً على الكرامة والتلطف، قال النابغة:
أتاركة تدللها قطام ... وضنا بالتحية والسلام
22/101_102
20_ والآية تضمنت الأمر بشيئين: الصلاة على النبي"والتسليم عليه، ولم تقتض جمعهما في كلام واحد وهما مُفَرَّقان في كلمات التشهد؛ فالمسلم مخير بين أن يقرن بين الصلاة والتسليم بأن يقول: =صلى الله على محمد والسلام عليه+ أو أن يقول: =اللهم صلَِّ على محمد والسلام على محمد+ فيأتي في جانب التصلية بصيغة طلب ذلك من الله،وفي جانب التسليم بصيغة إنشاء السلام بمنزلة التحية له، وبين أن يفرد الصلاة، ويفرد التسليم وهو ظاهر الحديث الذي رواه عياض في الشفاء أن النبي"قال: =لقيت جبريل فقال لي: أبشرك أن الله يقول: من سلم عليك سلمت عليه، ومن صلى عليك صليت عليه+.(1/119)
وعن النووي أنه قال بكراهة إفراد الصلاة والتسليم، وقال ابن حجر: =لعله أراد خلاف الأولى+.
وفي الاعتذار والمعتذر عنه نظر؛ إذ لا دليل على ذلك.
وأما أن يقال: =اللهم سلِّم على محمد+ فليس بوارد فيه مسند صحيح ولا حسن عن النبي"ولم يرد عنه إلا بصيغة إنشاء السلام مثل ما في التحية، ولكنهم تسامحوا في حالة الاقتران بين التصلية والتسليم فقالوا: =صلى الله عليه وسلم+ لقصد الاختصار فيما نرى.
وقد استمر عليه عمل الناس من أهل العلم والفضل وفي حديث أسماء بنت أبي بكر المتقدم أنها قالت: =صلى الله على محمد وسلم+.
ومعنى تسليمِ الله عليه إكرامُه، وتعظيمه؛ فإن السلام كناية عن ذلك.
وقد استحسن أئمة السلف أن يجعل الدعاء بالصلاة مخصوصاً بالنبي".
وعن مالك: لا يصلى على غير نبينا من الأنبياء يريد أن تلك هي السنة، وروي مثله عن ابن عباس، وروي عن عمر بن عبدالعزيز: أن الصلاة خاصة بالنبيين كلهم. 22/102_103
21_ وأنه يجوز إتباع آلهم وأصحابهم وصالحي المؤمنين إياهم في ذلك دون استقلال.
هذا الذي استقر عليه اصطلاح أهل السنة، ولم يقصدوا بذلك تحريماً، ولكنه اصطلاح، وتمييز لمراتب رجال الدين، كما قصروا الرضى على الأصحاب وأئمة الدين، وقصروا كلمات الإجلال نحو :تبارك وتعالى، وجل جلاله،على الخالق دون الأنبياء والرسل.
وأما الشيعة فإنهم يذكرون التسليم على علي وفاطمة وآلهما، وهو مخالف لعمل السلف؛ فلا ينبغي اتباعهم فيه؛ لأنهم قصدوا به الغض من الخلفاء والصحابة. 22/103
22_ والإرجاف: إشاعة الأخبار.
وفيه معنى كون الأخبار كاذبة أو مسيئة لأصحابها يعيدونها في المجالس؛ ليطمئن السامعون لها مرة بعد مرة بأنها صادقة؛ لأن الإشاعة إنما تقصد للترويج بشيء غير واقع أو مما لا يصدق به لاشتقاق ذلك من الرجف والرجفان وهو الاضطراب والتزلزل.
فالمرجفون قوم يتلقون الأخبار فيحدثون بها في مجالس ونواد ويخبرون بها من يسأل ومن لا يسأل. 22/108(1/120)
23_ والوجيه: صفة مُشَبَّهة، أي ذو الوجاهة، وهي الجاه، وحسن القبول عند الناس، يُقال: وجُه الرجل، بضم الجيم، وجاهة فهو وجيه.
وهذا الفعل مشتق من الاسم الجامد وهو الوجه الذي للإنسان، فمعنى كونه وجيهاً عند الله أنه مرضي عنه، مقبول، مغفور له، مستجاب الدعوة. 22/121
24_ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُّطِعِ اللهَ وَرسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً(71)].
بعد أن نهى الله المسلمين عما يؤذي النبي"وربأ بهم عن أن يكونوا مثل الذين آذوا رسولهم _ وجَّه إليهم بعد ذلك نداءً بأن يتَّسموا بالتقوى، وسداد القول؛ لأن فائدة النهي عن المناكر التلبسُ بالمحامد، والتقوى جماع الخير في العمل والقول، والقول السديد مَبَثُّ الفضائل.
وابتداء الكلام بنداء الذين آمنوا للاهتمام به، واستجلاب الإصغاء إليه؛ ونداؤهم بالذين آمنوا لما فيه من الإيماء إلى أن الإيمان يقتضي ما سيؤمرون به؛ ففيه تعريض بأن الذين يصدر منهم ما يؤذي النبي"قصداً ليسوا من المؤمنين في باطن الأمر ولكنهم منافقون، وتقديم الأمر بالتقوى مشعر بأن ما سيؤمرون به من سديد القول هو من شُعَب التقوى كما هو من شعب الإيمان.
والقول: الكلام الذي يصدر من فم الإنسان يعبر عما في نفسه.
والسديد: الذي يوافق السداد.
والسداد: الصواب، والحق، ومنه تسديد السهم نحو الرمية، أي عدم العدول به عن سمتها بحيث إذا اندفع أصابها؛ فشمل القولُ السديدُ الأقوالَ الواجبةَ، والأقوالَ الصالحةَ النافعةَ مثل ابتداء السلام، وقول المؤمن للمؤمن الذي يحبه: إني أحبك.
والقول يكون باباً عظيماً من أبواب الخير ويكون كذلك من أبواب الشر.
وفي الحديث: =وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم+.
وفي الحديث الآخر: =رحم الله امرأ قال خيراً فغنم أو سكت فسلم+.(1/121)
وفي الحديث الآخر: =من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت+.
ويشمل القول السديد ما هو تعبير عن إرشاد من أقوال الأنبياء والعلماء والحكماء، وما هو تبليغ لإرشاد غيره من مأثور أقوال الأنبياء والعلماء.
فقراءة القرآن على الناس من القول السديد، ورواية حديث الرسول"من القول السديد.
وفي الحديث: =نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها+.
وكذلك نشر أقوال الصحابة والحكماء وأئمة الفقه.
ومن القول السديد تمجيد الله، والثناء عليه مثل التسبيح.
ومن القول السديد الأذان والإقامة، قال _تعالى_: [إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ] في سورة فاطر.
فبالقول السديد تَشيع الفضائلُ والحقائق بين الناس؛ فيرغبون في التخلق بها، وبالقول السيئ تشيع الضلالات والتمويهات؛ فيغتر الناس بها، ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
والقول السديد يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولما في التقوى والقول السديد من وسائل الصلاح جعل للآتي بهما جزاء بإصلاح الأعمال، ومغفرة الذنوب.
وهو نَشْرٌ على عكس اللفِّ(1)
__________
(1) _ اللف والنشر: يسميهما بعض البلاغيين الطي والنشر، وهو أحد فنون علم البديع من علم البلاغة، ويعني أن تذكر شيئين فصاعداً إما تفصيلاً؛ فتنص على كل واحد منهما، وإما إجمالاً؛ فتأتي بلفظ واحد يشتمل على متعدد وتفوض إلى العقل رد كل واحد إلى ما يليق به من غير حاجة إلى أن تنص أنت على ذلك.
أو هو _بعبارة أخرى_: ذكر متعدد مفصل أو مجمل، ثم ذكر ما لكلٍّ من آحاده بلا تعيين؛ اتكالاً على أن السامع يَرُدَّ إلى كلٍّ ما يليق به لوضوح الحال.
ومن أمثلته قوله _تعالى_: [وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوْا فيْهِ وَلِتَبْتَغُوْا مِنْ فَضْلِهِ] فالسكون راجع إلى الليل، والابتغاء من فضل الله راجع إلى النهار على الترتيب، وهكذا.
ولهذا الفن تفصيلات ليس هذا محل تفصيلها. (م)(1/122)
فإصلاح الأعمال جزاء على القول السديد؛ لأن أكثر ما يفيده القولُ السديدُ إرشادَ الناس إلى الصلاح، أو اقتداء الناس بصاحب القول السديد.
وغفرانُ الذنوبِ جزاءٌ على التقوى؛ لأن عمود التقوى اجتناب الكبائر، وقد غفر الله للناس الصغائر باجتناب الكبائر، وغفر لهم الكبائر بالتوبة،والتحول عن المعاصي بعد الهم بها ضربٌ من مغفرتها. 22/121_123
25_ [إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)].
فحقيق بنا أن نقول: إن هذا العرض كان في مبدأ تكوين العالم ونوع الإنسان؛ لأنه لما ذُكرت فيه السماوات والأرض والجبال مع الإنسان عُلِمَ أن المرادَ بالإنسان نوعُه؛ لأنه لو أريد بعض أفراده _ولو في أول النشأة_ لما كان في تحمل ذلك الفرد الأمانة ارتباط بتعذيب المنافقين والمشركين،ولمَاَ كان في تحمل بعض أفراده دون بعض الأمانة حكمةٌ مناسبة لتصرفات الله _تعالى_. 22/125
26_ وقد عُدّت هذه الآية من مشكلات القرآن، وتردد المفسرون في تأويلها تردداً دل على الحيرة في تقويم معناها.
ومرجع ذلك إلى تقويم معنى العرض على السماوات والأرض والجبال، وإلى معرفة معنى الأمانة، ومعرفة معنى الإباء والإشفاق.
فأما العرض فقد استبانت معانيه بما علمتَ من طريقة التمثيل، وأما الأمانة فهي ما يؤتمن عليه، ويطالب بحفظه والوفاء دون إضاعة ولا إجحاف.
وقد اختلف فيها المفسرون على عشرين قولاً، وبعضها متداخل في بعض، ولنبتدئ بالإلمام بها، ثم نعطف إلى تمحيصها وبيانها.(1/123)
فقيل: الأمانةُ: الطاعة، وقيل: الصلاة، وقيل: مجموع الصلاة والصوم والاغتسال، وقيل: جميع الفرائض، وقيل الانقياد إلى الدين، وقيل: حفظ الفرج، وقيل: الأمانة: التوحيد، أو دلائل الوحدانية، أو تجليات الله بأسمائه، وقيل: ما يؤتمن عليه، ومنه الوفاء بالعهد، ومنه انتفاء الغش بالعمل، وقيل: الأمانة: العقل، وقيل: الخلافة، أي خلافة الله في الأرض التي أودعها الإنسان كما قال _تعالى_: [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] الآية.
وهذه الأقوال ترجع إلى أصناف: صنف الطاعات والشرائع، وصنف العقائد، وصنف ضد الخيانة، وصنف العقل، وصنف خلافة الأرض.
ويجب أن يطرح منها صنف الشرائع؛ لأنها ليست لازمة لفطرة الإنسان؛ فطالما خلت أمم عن التكليف بالشرائع وهم أهل الفِتَر فتسقط ستة أقوال وهي ما في الصنف الأول.
ويبقى سائر الأصناف؛ لأنها مرتكزة في طبع الإنسان وفطرته؛ فيجوز أن تكون الأمانة أمانة الإيمان، أي توحيد الله، وهي العهد الذي أخذه الله على جنس بني آدم وهو الذي في قوله _تعالى_: [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا].
وتقدم في سورة الأعراف.
فالمعنى: أن الله أودع في نفوس الناس دلائل الوحدانية فهي ملازمة للفكر البشري؛ فكأنها عهْد عَهِد الله لهم به، وكأنه أمانة ائتمنهم عليها؛ لأنه أودعها في الجِبِلَّة ملازمة لها، وهذه الأمانة لم تودع في السماوات والأرض والجبال؛ لأن هذه الأمانة من قبيل المعارف، والمعارفُ من العلم الذي لا يتصف به إلا من قامت به صفة الحياة، لأنها مُصَحِّحةُ الإدراك لمن قامت به، ويناسب هذا المحمل قوله: [لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ].
فإن هذين الفريقين خالون من الإيمان بوحدانية الله.(1/124)
ويجوز أن تكون الأمانة هي العقل، وتسميته أمانةً تعظيم لشأنه، ولأن الأشياء النفسية تودع عند من يحتفظ بها.
والمعنى: أن الحكمة اقتضت أن يكون الإنسان مستودع العقل من بين الموجودات العظيمة؛ لأنَّ خلقته ملائمة لأَنْ يكونَ عاقلاً؛ فإنَّ العقل يبعث على التغير والانتقال من حال إلى حال ومن مكان إلى غيره، فلو جعل ذلك في سماء من السماوات أو في الأرض، أو في جبل من الجبال، أو جميعها _ لكان سبباً في اضطراب العوالم واندكاكها.
وأقرب الموجودات التي تحمل العقل أنواع الحيوان ما عدا الإنسان، فلو أودع فيها العقل لما سمحت هيئات أجسامها بمطاوعة ما يأمرها العقل به؛ فلنفرض أن العقل يسوِّل للفرس أن لا ينتظر علفه أو سومه، وأن يخرج إلى حَنَّاط يشتري منه علفاً؛ فإنه لا يستطيع إفصاحاً، ويضيع في الإفهام، ثم لا يتمكن من تسليم العوض بيده إلى فرس غيره، وكذلك إذا كانت معاملته مع أحد من نوع الإنسان.
ومناسبة قوله: [لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ] الآية لهذا المحمل نظير مناسبته للمحمل الأول.
ويجوز أن تكون الأمانة ما يؤتمن عليه،وذلك أن الإنسان مَدَنِيٌّ بالطبع، مخالط لبني جنسه؛ فهو لا يخلو عن ائتمان أو أمانة؛ فكان الإنسان متحملاً لصفة الأمانة بفطرته والناس متفاوتون في الوفاء لما ائتمنوا عليه كما في الحديث: =إذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة+ أي إذا انقرضت الأمانة كان انقراضها علامةً على اختلال الفطرة؛ فكان في جملة الاختلالات المنذرة بدنو الساعة مثل تكوير الشمس، وانكدار النجوم، ودك الجبال.(1/125)
والذي بَيَّن هذا المعنى قول حذيفة: =حدثنا رسول الله"حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الأخر،حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها فقال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوَكْت(1) ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المَجْل(2) كجمر دحرجته على رجلك، فنفط، فتراه منتبراً وليس فيه شيء، فيصبح الناس يتبايعون، ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان+.
أي من أمانة لأن الإيمان من الأمانة؛ لأنه عهد الله.
ومعنى عرض هذه الأمانة على السماوات والأرض والجبال يندرج في معنى تفسير الأمانة بالعقل؛ لأن الأمانة بهذا المعنى من الأخلاق التي يجمعها العقل ويصرّفها، وحينئذ فتخصيصها بالذكر للتنبيه على أهميتها في أخلاق العقل.
والقول في حمل معنى الأمانة على خلافة الله _تعالى_ في الأرض مثل القول في العقل؛ لأن تلك الخلافة ما هَيَّأ الإنسان لها إلا العقل كما أشار إليه قوله: _تعالى_: [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ثم قوله [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا].
فالخلافة في الأرض هي القيام بحفظ عمرانها ووضع الموجودات فيها في مواضعها، واستعمالها فيما استعدت إليه غرائزها.
وبقية الأمور التي فسر بها بعض المفسرون الأمانة يعتبر تفسيرها من قبيل ذكر الأمثلة الجزئية للمعاني الكلية.
__________
(1) _ الوكت: الشية في الشيء من غير لونه.
(2) _ المجل: نفاخة في الجلد مرتفعة يكون ما تحتها فارغاً مثل ما يقع في أَكُفِّ العَمَلةِ بالفؤوس من ارتفاعات في الجلد.(1/126)
والمتبادر من هذه المحامل أن يكون المراد بالأمانة حقيقتها المعلومة، وهي الحفاظ على ما عُهد به، ورعْيُه والحذارُ من الإخلال به سهواً أو تقصيراً؛ فيسمى تفريطاً وإضاعة،أو عمداً؛ فيسمى خيانة وخَيْساً؛ لأن هذا المحمل هو المناسب لورود هذه الآية في ختام السورة التي ابتدئت بوصف خيانة المنافقين واليهود و إخلالهم بالعهود وتلونهم مع النبي"قال _تعالى_: [وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ] وقال: [مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ].
وهذا المحمل يتضمن _أيضاً_ أقرب المحامل بعده وهو أن يكون هي العقل؛ لأن قبول الأخلاق فرع عنه. 22/126_129
1_ هذا اسمها الذي اشتهرت به في كتب السنة وكتب التفسير وبين القراء ولم أقف على تسميتها في عصر النبوة.
ووجه تسميتها به أنها ذكرت فيها قصة أهل سبأ.
وهي مكية وحُكي اتفاق أهل التفسير عليه.
وعن مقاتل أن آية: [وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ] إلى قوله: [الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ] نزلت بالمدينة. 22/133
2_ وهي السورة الثامنة والخمسون في عداد السور، نزلت بعد سورة لقمان وقبل سورة الزمر كما في المروي عن جابر بن زيد واعتمد عليه الجعبري كما في الإتقان، وقد تقدم في سورة الإسراء أن قوله _تعالى_ فيها: [وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعاً] إلى قوله: [أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً] إنهم عنوا قوله _تعالى_ في هذه السورة: [إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنْ السَّمَاءِ].
فاقتضى أن سورة سبأ نزلت قبل سورة الإسراء وهو خلاف ترتيب جابر بن زيد الذي يعد الإسراء متممة الخمسين.(1/127)
وليس يتعين أن يكون قولهم: [أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً] معنيّاً به هذه الآية؛ لجواز أن يكون النبي"هددهم بذلك في موعظة أخرى.
وعدد آيها أربع وخمسون في عد الجمهور،وخمس وخمسون في عد أهل الشام. 22/133_134
3_ من أغراض هذه السورة: إبطالُ قواعدِ الشرك وأعظمُها إشراكهم آلهةً مع الله, وإنكارُ البعث؛ فابتدئ بدليل على انفراده _تعالى_ بالإلهية عن أصنامهم ونفي أن تكون الأصنامُ شفعاءَ لِعُبَّادها.
ثم موضوعُ البعث، وعن مقاتل: =أن سببَ نزولها أن أبا سفيانَ لما سمع قوله _تعالى_: [لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ] الآية الأخيرة من سورة الأحزاب _ قال لأصحابه: كأن محمداً يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت, واللاتِ والعزى لا تأتينا الساعة أبداً، فأنزل الله _تعالى_ [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ]+ الآية.
وعليه فما قبل الآية المذكورة من قوله: [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] إلى قوله: [وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ] تمهيدٌ للمقصود من قوله: [وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة].
واثباتُ إحاطةِ عِلْمِ اللهِ بما في السماوات وما في الأرض؛ فما يخبر به فهو واقع ومن ذلك إثبات البعث والجزاء.
وإثباتُ صدقِ النبيِّ"فيما أخبر به، وصِدْقُ ما جاء به القرآنُ, وأن القرآنَ شَهِدَتْ به علماءُ أهلِ الكتاب.
وتخلل ذلك بضروب مِنْ تهديدِ المشركين وموعظتهم بما حل ببعض الأمم المشركين مِنْ قَبْل.(1/128)
وعَرَّضَ بأن جَعْلَهم لله شركاءَ كفرانٌ لنعمةِ الخالق؛ فَضَرَبَ لهم المثلَ بمن شكروا نعمةَ اللهِ واتقوه؛ فَأُوتوا خيرَ الدنيا والآخرة, وسُخِّرَتْ لهم الخيراتُ مِثْلِ داودَ وسليمانَ، وبمن كفروا بالله؛ فسلَّط عليه الأرزاءَ في الدنيا وأَعَدَّ لهم العذاب في الآخرة مثلِ سبأ، وحذِّروا من الشيطان، وذُكِّروا بأن ما هم فيه من قرة العين يقربهم إلى الله، وأنذروا بما سيلقون يوم الجزاء مِنْ خِزْيٍ، وتكذيبٍ، وندامةٍ، وعدم النصيرِ، وخلود في العذاب،وبُشِّر المؤمنون بالنعيم المقيم. 22/134_135
4_ واعلم أن كلمتي: [يَلِجُ] و[يَخْرُجُ] أوضح ما يُعَبِّر به عن أحوال جميع الموجودات الأرضية بالنسبة إلى اتصالها بالأرض، وأن كلمتي: [يَنزِلُ] و[يَعْرُجُ] أوضح ما يعبَّر به عن أحوال الموجودات السماوية بالنسبة إلى اتصالها بالسماء، من كلمات اللغة التي تدل على المعاني الموضوعة للدلالة عليها دلالة مطابقية على الحقيقة دون المجاز ودون الكناية، ولذلك لم يعطف السماء على الأرض في الآية فلم يقل: يعلم ما يلج في الأرض والسماء، وما يخرج منهما، ولم يُكتَفَ بإحدى الجملتين عن الأخرى.
وقد لاح لي أن هذه الآية ينبغي أن تجعل من الإنشاء مثل ما اصطلح على تسميته بصراحة اللفظ.
ولذلك ألحقتها بكتابي: =أصول الإنشاء والخطابة+ بعد تفرق نسخه بالطبع، وسيأتي نظير هذه في أول سورة الحديد. 22/137_138
5_ ولما كان من جملة أحوال ما في الأرض أعمالُ الناس وأحوالُهم من عقائد وسير، ومما يعرج في السماء العمل الصالح والكَلِم الطيب _ أتبع ذلك بقوله: [وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ] أي الواسع الرحمة، والواسع المغفرة.
وهذا إجمالٌ قُصِدَ منه حثُّ الناس على طلب أسباب الرحمة والمغفرة المرغوب فيهما؛ فإن من رغب في تحصيل شيء بحث عن وسائل تحصيله، وسعى إليها.
وفيه تعريض بالمشركين أن يتوبوا عن الشرك فيغفر لهم ما قدموه. 22/138(1/129)
6_ وبهذا تتبين أن إرادة علماء أهل الكتاب من هذه الآية لا يقتضي أن تكون نازلة بالمدينة حتى يتوهم الذين توهموا أن هذه الآية مستثناة من مكيات السورة كما تقدم.
والأظهر أن المراد من [الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ] من آمنوا بالنبي"من أهل مكة لأنهم أوتوا القرآن، وفيه علم عظيم هم عالموه على تفاضلهم في فهمه والاستنباط منه؛ فقد كان الواحد من أهل مكة يكون فظّاً غليظاً حتى إذا أسلم رق قلبه، وامتلأ صدره بالحكمة، وانشرح لشرائع الإسلام، واهتدى إلى الحق، وإلى الطريق المستقيم.
وأول مثال لهؤلاء، وأشهره، وأفضله هو عمر بن الخطاب، لِلْبَوْنِ البعيد بين حالتيه في الجاهلية والإسلام.
وهذا ما أعرب عنه قول أبي خراش الهذلي خالطاً فيه الجد بالهزل:
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى العدل شيئاً فاستراح العواذل
فإنهم كانوا إذا لقوا النبي"أشرقت عليهم أنوار النبوة؛ فملأتهم حكمة وتقوى.
وقد قال النبي"لأحد أصحابه: =لو كنتم في بيوتكم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة بأجنحتها+.
وبفضل ذلك ساسوا الأمة، وافتتحوا الممالك، وأقاموا العدل بين الناس مسلمهم وذمِّيهم، ومُعَاهَدِهم، وملأوا أعين ملوك الأرض مهابة.
وعلى هذا المحمل حمل [الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ] في سورة الحج، ويؤيده قوله _تعالى_: [وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ] في سورة الروم. 22/145_146
7_ ولم تكن التماثيل المجسمة محرمة الاستعمال في الشرائع السابقة وقد حرمها الإسلام؛ لأن الإسلام أمعن في قطع دابر الإشراك لشدة تمكن الإشراك من نفوس العرب وغيرهم.
وكان معظم الأصنام تماثيل فحرم الإسلام اتخاذها لذلك، ولم يكن تحريماً لأجل اشتمالها على مفسدة في ذاتها، ولكن لكونها كانت ذريعة للإشراك.(1/130)
واتفق الفقهاء على تحريم اتخاذ ما له ظل من تماثيل ذوات الروح إذا كانت مستكملة الأعضاء التي لا يعيش ذو الروح بدونها، وعلى كراهة ما عدا ذلك مثل التماثيل المنصفة، ومثل الصور التي على الجدران، وعلى الأوراق، والرقم في الثوب، ولا ما يجلس عليه ويداس، وحكم صنعها يتبع اتخاذها.
ووقعت الرخصة في اتخاذ صور تلعب بها البنات؛ لفائدة اعتيادهن العملَ بأمور البيت. 22/162
8_ و[الْعَرِمِ]: يجوز أن يكون وصفاً من العرامة وهي الشدة والكثرة فتكون إضافة (السيل) إلى (العرم) من إضافة الموصوف إلى الصفة.
ويجوز أن يكون (العرم) اسماً للسيل الذين كان يَنْصَبُّ في السد، فتكون الإضافة من إضافة المسمى إلى الاسم، أي السيل العرم.
وكانت للسيول والأودية في بلاد العرب أسماء كقولهم: سيل مهزور ومذينيب الذي كانت تسقى به حدائق المدينة، ويدل على هذا المعنى قول الأعشى:
ومأرب عفَّى عليها العرم
وقيل: (العرم) اسم جمع عرَمَة بوزن شجرة، وقيل لا واحد له من لفظه وهو ما بني ليمسك الماء لغة يمنية وحبشية، وهي المسناة بلغة أهل الحجاز، والمسناة بوزن مفعلة التي هي اسم الآلة مشتق من سنيت بمعنى سقيت،ومنه سميت الساقية سانية وهي الدلو المستقى به والإضافة على هذين أصيلة.
والمعنى: أرسلنا السيل الذي كان مخزوناً في السد.
وكان لأهل سبأ سد عظيم قرب بلاد مأرب يعرف بسد مأرب _ومأرب من كور(1) اليمن_.
__________
(1) _ الكور: جمع كُوْرة، وهي الأعمال، والأجناد، أو ما يُعرف في وقتنا الحاضر بـ: المحافظات. (م)(1/131)
وكان أعظم السداد في بلاد اليمن التي كانت فيها سداد كثيرة متفرقة، وكانوا جعلوا هذه السداد لخزن الماء الذي تأتي به السيول في وقت نزول الأمطار في الشتاء والربيع؛ ليسقوا منها المزارع والجنات في وقت انحباس الأمطار في الصيف والخريف، فكانوا يعمدون إلى ممرات السيول من بين الجبال، فيبنون في ممر الماء سوراً من صخور يبنونها بناء محكماً يصبون في الشقوق التي بين الصخور القار حتى تلتئم، فينحبس الماء الذي يسقط هنالك حتى إذا امتلأ الخزان جعلوا بجانبيه جَوابيَ عظيمةً يصب فيها الماء يفيض من أعلى السد، فيقيمون من ذلك ما يستطيعون من توفير الماء المختزن.
وكان سد مأرب الذي يحفظ فيه: [سَيْلَ الْعَرِمِ] شرع في بنائه سبأ أول ملوك هذه الأمة، ولم يتمَّه؛ فأتمه ابنه حمير.
وأما ما يقال من أن بلقيس بنته فذلك اشتباه؛ إذ لعل بلقيس بَنَتْ حَولَه خزانات أخرى فرعيةً، أو رممت بناءه ترميماً أطلق عليه اسم البناء؛ فقد كانوا يتعهدون تلك السداد بالإصلاح والترميم كل سنة حتى تبقى تجاه قوة السيول الساقطة فيها.
وكانوا يجعلون للسد منافذ مغلقة يزيلون عنها السَّكر إذا أرادوا إرسال الماء إلى الجنات على نوبات يُرسل عندها الماء إلى الجهات المتفرقة التي تسقى منه إذ جعلوا جناتهم حول السد مجتمعة، وكان يصب في سد مأرب سبعون وادياً.
وجعلوا هذا السد بين جبلين يعرف كلاهما بالبَلَق، فهما البلق الأيمن، والبلق الأيسر.
وأعظم الأودية التي كانت تصب فيه اسمه (إذنه) فقالوا: أن الأودية كانت تأتي إلى سبأ من الشحْر وأودية اليمن.
وهذا السد حائط طوله من الشرق إلى الغرب ثمانمائة ذراع وارتفاعه بضع عشرة ذراعاً وعرضه مائة وخمسون ذراعاً.
وقد شاهده الحسن الهمداني، ووصفه في كتابه المسمى بالإكليل وهو من أهل أوائل القرن الرابع بما سمعت حاصله.
ووصفه الرحالة (أرنو) الفرنسي سنة 1883 والرحالة (غلازر) الفرنسي.
ولا يعرف وقت انهدام هذا السد، ولا أسباب ذلك.(1/132)
والظاهر إن سبب انهدامه اشتغال ملوكهم بحروب داخلية بينهم ألهتهم عن تفقد ترميمه حتى تخرب، أو يكون قد خربه بعض من حاربهم من أعدائهم، وأما ما يذكر في القصص من أن السد خربته الجرذان فذلك من الخرافات.
وفي العرم قال النابغة الجعدي:
من سبإ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما
والتبديل: تعويض شيء بآخر، وهو يتعدى إلى المأخوذ بنفسه، وإلى المبذول بالباء وهي باء العوض كما تقدم في قوله _تعالى_: [وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ] في سورة النساء.
فالمعنى:أعطيناهم أشجار خمط وأثل وسدر عوضاً عن جنتيهم، أي صارت بلادهم شَعْراء قاحلة ليس فيها إلا شجر العِضاة والبادية.
وفيما بين هذين الحالين أحوال عظيمة انتابتهم، فقاسوا العطش، وفقدان الثمار حتى اضطروا إلى مفارقة تلك الديار، فلما كانت هذه النهاية دالة على تلك الأحوال طوي ذكر ما قبلها، واقتصر على: [وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ] إلى آخره. 22/169_171
9_ والخمط: شجر الأراك، ويطلق الخمط على الشيء المُرّ.
والأثل: شجر عظيم من شجر العضاه يشبه الطرفاء.
والسدر: شجر من العضاه _أيضاً_ له شوك يشبه شجر العناب، وكلها تنبت في الفيافي.
والسدر أكثرها ظلاً، وأنفعها؛ لأنه يغسل بورقه مع الماء، فينظف، وفيه رائحة حسنة؛ ولذلك وصف هنا بالقليل؛ لإفادة أن معظم شجرهم لا فائدة منه، وزيد تقليله قلة بذكر كلمة [شَيْءٍ] المؤذنة في ذاته بالقلة، يقال شيء من كذا، إذا كان قليلاً. 22/171_172
10_[فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)].(1/133)
والأظهر عندي أن يكون هذا القول قالوه جواباً عن مواعظ أنبيائهم والصالحين منهم حين ينهونهم عن الشرك، فهم يعظونهم بأن الله أنعم عليهم بتلك الرفاهية وهم يجيبون بهذا القول؛ إفحاماً لدعاة الخير منهم على نحو قول كفار قريش: [اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] قبل هذا [فَأَعْرَضُوْا] فإن الإعراض يقتضي دعوة لشيء ويفيد هذا المعنى قوة [وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ] عقب حكاية قولهم؛ فإنه إما معطوف على جملة: [فَقَالُوا] أي فأعقبوا ذلك بكفران النعمة وبالإشراك؛ فإن ظلم النفس أطلق كثيراً على الإشراك في القرآن، وما الإشراك إلا أعظم كفران نعمة الخالق. 22/176
11_ وأشارت الآية إلى التفرق الشهير الذي أصيبت به قبيلة سبا؛ إذ حملهم خراب السد، وقحولة الأرض إلى مفارقة تلك الأوطان مفارقة وتفريقاً ضربت به العرب المثل في قولهم: ذهبوا، أو تفرقوا أيدي سبا، أو أيادي سبا، بتخفيف همزة سبا؛ لتخفيف المثل.
وفي لسان العرب في مادة (يدي) قال المعري: لم يهمزوا سبا؛ لأنهم جعلوه مع ما قبله بمنزلة الشيء الواحد.
هكذا، ولعله التباس أو تحريف، وإنما ذكر المعري عدم إظهار الفتحة على ياء (أيادي) أو (أيدي) كما هو مقتضى التعليل؛ لأن التعليل يقتضي التزام فتح همزة سبا كشأن المركب المزجي.
قال في لسان العرب: وبعضهم ينوِّنه إذا خففه، قال ذو الرمة:
فيا لك من دار تفرق أهلها ... أيادي سبا عنها وطال انتقالها
والأكثر عدم تنوينه قال كثير:
أيادي سبا يا عز ما كنتُ بعدكم ... فلم يحلُ بالعينين بعدكِ منظر
والأيادي والأيدي فيه جمع يد، واليد بمعنى الطريق.
والمعنى: أنهم ذهبوا في مذاهب شتى يسلكون منها إلى أقطار عدة كقوله _تعالى_: [كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً].
وقيل: الأيادي جمع يد بمعنى النعمة؛ لأن سبأ تَلِفت أموالهم.(1/134)
وكانت سبأ قبيلة عظيمة تنقسم إلى عشر أفخاذ وهم: الأزد، وكندة، ومَذحِج، والأشعريون، وأنمار، وبَجيلة، وعاملة وهم خُزاعة، وغسان، ولخم، وجُذام.
فلما فارقوا مواطنهم فالستة الأولون تفرقوا في اليمن والأربعة الأخيرون خرجوا إلى جهات قاصية فلحقت الأزد بعمان، ولحقت خزاعة بتهامة في مكة، ولحقت الأوس والخزرج بيثرب، ولعلهم معدودون في لخم، ولحقت غسان ببُصرى، والغُوير من بلاد الشام، ولحقت لخم بالعراق. 22/178_179
12_ والجمع بين [صَبَّارٍ] و[شَكُورٍ] في الوصف لإفادة أن واجب المؤمن التخلق بالخلقين وهما: الصبر على المكاره، والشكر على النعم، وهؤلاء المتحدث عنهم لم يشكروا النعمة فيطروها، ولم يصبروا على ما أصابهم من زوالها؛ فاضطربت نفوسهم، وعمهم الجزع؛ فخرجوا من ديارهم، وتفرقوا في الأرض، ولا تسأل عما لاقوه في ذلك من المتالف والمذلات.
فالصبّار يَعْتَبر من تلك الأحوال؛ فيعلم أن الصبر على المكاره خير من الجزع، ويرتكب أخف الضرين، ولا يستخفه الجزع، فيلقي بنفسه إلى الأخطار، ولا ينظر في العواقب.
والشكور يعتبر بما أعطي من النعم؛ فيزداد شكراً لله _تعالى_ ولا يَبْطُرُ النعمةَ، ولا يطغى، فيُعاقب بسلبها كما سلبت عنهم، ومن وراء ذلك أن يحرمهم الله التوفيق.
وأن يقذف بهم الخذلان في بنيات الطريق.
وفي الآية دلالة واضحة على أن تأمين الطريق وتيسير المواصلات وتقريب البلدان؛ لتيسير تبادل المنافع واجتلاب الأرزاق من هنا ومن هناك نعمة إلهية، ومقصد شرعي يحبه الله لمن يحب أن يرحمه من عباده كما قال _تعالى_: [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً] وقال: [وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ] وقال : [وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ].(1/135)
فلذلك قال هنا: [وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّاماً آمِنِينَ]. 22/180_181
13_ من أجل ذلك كله كان حقاً على ولاة أمور الأمة أن يسعوا جهدهم في تأمين البلاد وحراسة السبل وتيسير الأسفار وتقرير الأمن في سائر نواحي البلاد جليلها وصغيرها بمختلف الوسائل، وكان ذلك من أهم ما تنفق فيه أموال المسلمين، وما يَبْذِلُ فيه أهلُ الخير من الموسرين أموالَهم؛ عوناً على ذلك، وذلك من رحمة أهل الأرض المشمولة لقول النبي": =ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء+.
وكان حقاً على أهل العلم والدين أن يرشدوا الأئمة والأمة إلى طريق الخير، وأن ينبهوا على معالم ذلك الطريق ومسالكه بالتفصيل دون الإجمال؛ فقد افتقرت الأمة إلى العمل، وسئمت الأقوال. 22/181
14_ [قٌلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)].
وهذا اللون من الكلام يسمى الكلام المنصف، وهو أن لا يترك المُجادلُ لخصمه موجبَ تَغَيُّظٍ واحتداد في الجدال، ويسمى في علم المناظرة إرخاء العنان للمناظِر ومع ذلك فقرينة إلزامهم الحجة قرينة واضحة.
ومن لطائفه هنا أن اشتمل على إيماء إلى ترجيح أحد الجانبين في أحد الاحتمالين بطريق مقابلة الجانبين في ترتيب الحالتين باللف والنشر المرتب وهو أصل اللفِّ.
فإنه ذكر ضمير جانب المتكلم وجماعته وجانب المخاطبين، ثم ذكر حال الهدى وحال الضلال على ترتيب ذكر الجانبين، فأومأ إلى أن الأولِين موجَّهون إلى الهدى والآخِرين موجهون إلى الضلال المبين، لا سيما بعد قرينة الاستفهام، وهذا _أيضاً_ من التعريض وهو أوقع من التصريح لا سيما في استنزال طائر الخصم.(1/136)
وفيه _أيضاً_ تجاهل العارف؛ فقد التأم في هذه الجملة ثلاثة محسنات من البديع ونكتة من البيان فاشتملت على أربع خصوصيات. 22/192
15_[وََقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36)].
قفَّوا على صريح كفرهم بالقرآن وغيره من الشرائع بكلام كَنَّوا به عن إبطال حقية الإسلام بدليل سفسطائي؛ فجعلوا كثرة أموالهم وأولادهم حجة على أنهم أهل حظ عند الله _تعالى_ فضمير: [وَقَاْلُوْا] عائد إلى: [الَّذِينَ كَفَرُوا] من قوله: [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ] الخ.
وهذا من تمويه الحقائق بما يحف بها من العوارض؛ فجعلوا ما حف بحالهم في كفرهم من وفرة المال والوالد حجة على أنهم مظنة العناية عند الله، وأن ما هم عليه هو الحق.
وهذا تعريض منهم بعكس حال المسلمين بأن حال ضعف المسلمين، وقلة عددهم، وشظِف عيشهم حجة على أنهم غير محظوظين عند الله، ولم يتفطنوا إلى أن أحوال الدنيا مسببة على أسباب دنيوية لا علاقة لها بأحوال الأولاد.
وهذا المبدأ الوهمي السفسطائي خطير في العقائد الضالة التي كانت لأهل الجاهلية والمنتشرة عند غير المسلمين، ولا يخلو المسلمون من قريب منها في تصرفاتهم في الدين، ومرجعها إلى قياس الغائب على الشاهد، وهو قياس يصادف الصواب تارة، ويخطئه تارات.
ومن أكبر أخطاء المسلمين في هذا الباب خطأ اللجَأ إلى القضاء والقدر في أعذارهم، وخطأ التخلق بالتوكل في تقصيرهم وتكاسلهم. 22/212_213
16_ وبهذا أخطأ قول أحمد بن الراوندي:
كم عاقلٍ عاقلٍ أعيت مذاهبُه ... وجاهلٍ جاهلٍ تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرةً ... وصيَّر العالمَ النحريرَ زنديقا
فلو كان عالماً نحريراً لما تحير فهمه، وما تزندق من ضيق عطن فكره. 22/214(1/137)
17_ [ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)].
وهذا تعليم للمسلمين بأن نعيم الآخرة لا ينافي نعيم الدنيا قال _تعالى_: [وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا].
فأما نعيم الدنيا فهو مسبب عن أحوال دنيوية رتبها الله _تعالى_ ويسرها لمن يسرها في علمه بغيبه، وأما نعيم الآخرة فهو مسبب عن أعمال مبينة في الشريعة وكثير من الصالحين يحصل لهم النعيم في الدنيا مع العلم بأنهم منعَّمون في الآخرة كما أنعم على داود وسليمان، وعلى كثير من أصحاب محمد"وكثير من أئمة الدين مثل مالك بن أنس، والشافعي، والشيخ عبد الله بن أبي زيد، وسحنون.
فأما اختيار الله لنبيه محمد"حالة الزهادة في الدنيا فلتحصل له غاياتُ الكمال من التمحض لتلقي الوحي، وجميل الخصال، ومن مساواة جمهور أصحابه في أحوالهم، وقد بسطناه بياناً في رسالة طعام رسول الله _ عليه السلام _.
وأعقب ذلك بترغيب الأغنياء في الإنفاق في سبيل الله؛ فجعل الوعد بإخلاف ما ينفقه المرء كناية عن الترغيب في الإنفاق؛ لأن وعد الله بإخلافه مع تأكيد الوعد يقتضي أنه يحب ذلك من المنافقين. 22/220
1_ سميت (سورة فاطر) في كثير من المصاحف في المشرق والمغرب وفي كثير من التفاسير.
وسميت في صحيح البخاري وفي سنن الترمذي وفي كثير من المصاحف والتفاسير (سورة الملائكة) لا غير.
وقد ذكر لها كلا الاسمين صاحب الإتقان؛ فوجه تسميتها (سورة فاطر) أن هذا الوصف وقع في طالعة السورة، ولم يقع في أول سورة أخرى.
ووجه تسميته (سورة الملائكة) أنه ذكر في أولها صفة الملائكة، ولم يقع في سورة أخرى.(1/138)
وهي مكية بالاتفاق وحكى الآلوسي عن الطبرسي أن الحسن استثنى آيتين: آية: [إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ] الآيةَ، وآية: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا] الآيةَ، ولم أر هذا لغيره.
وهذه السورة هي الثالثة والأربعون في ترتيب نزول سور القرآن، نزلت بعد سورة الفرقان وقبل سورة مريم.
وقد عدت آيها في عد أهل المدينة والشام ستاً وأربعين، وفي عد أهل مكة والكوفة خمساً وأربعين. 22/247
2_ أغراض هذه السورة: اشتملت هذه السورةُ على إثباتِ تَفَرُّدِ الله _تعالى_ بالإلهية؛ فافْتُتِحَتْ بما يدل على أنه مستحقُ الحمدِ على ما أبدع من الكائناتِ الدالِّ إبداعُها على تفرده _تعالى_ بالإلهية.
وعلى إثباتِ صِدْقِ الرسول"فيما جاء به وأنه جاء به الرسل من قبله، وإثباتِ البعث والدار الآخرة.
وتذكيرِ الناسِ بإنعام الله عليهم بنعمةِ الإيجادِ ونعمةِ الإمداد، وما يعبد المشركون من دونه لا يغنون عنهم شيئاً وقد عبدهم الذين من قبلهم فَلَمْ يغنوا عنهم.
وتثبيتِ النبي"على ما يلاقيه من قومه.
وكشفِ نواياهم في الإعراض عن اتباع الإسلام؛ لأنهم احتفظوا بعزتهم.
وإنذارِهم أن يَحُلَّ بهم ما حل بالأمم المكذبة قبلهم.
والثناءِ على الذين تلقوا الإسلام بالتصديق وبضد حال المكذبين.
وتذكيرِهم بأنهم كانوا يودون أن يرسل إليهم رسولٌ؛ فلما جاءهم رسول تكبروا واستنكفوا.
وأنهم لا مفر لهم من حلول العذاب عليهم؛ فقد شاهدوا آثار الأمم المكذبين من قبلهم، وأن لا يغتروا بإمهال الله إياهم؛ فإن الله لا يخلف وعده.
والتحذيرِ من غرورِ الشيطان، والتذكير، بعداوتِه لنوع الإنسان. 22/247_248
3_ وجملة: [يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ] مستأنفة استئنافاً بيانياً؛ لأن ما ذكر من صفات الملائكة يثير تعجب السامع أن يتساءل عن هذه الصفة العجيبة، فأجيب بهذا الاستئناف بأن مشيئة الله _تعالى_ لا تنحصر ولا تُوقَّت.(1/139)
ولكل جنس من أجناس المخلوقات مقوماته وخواصه.
فالمراد بالخلق: المخلوقات كلها،أي يزيد الله في بعضها ما ليس في خلق آخر.
فيشمل زيادة قوة بعض الملائكة على بعض، وكل زيادة في شيء بين المخلوقات من المحاسن والفضائل من حصافة عقل وجمال صورة وشجاعة وذلقة لسان ولياقة كلام.
ويجوز أن تكون جملة: [يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ] صفة ثانية للملائكة، أي أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في خلقهم ما يشاء كأنه قيل: مثنى وثلاث ورباع وأكثر، فما في بعض الأحاديث من كثرة أجنحة جبريل يبين معنى: [يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ].
وعليه فالمراد بالخلق ما خُلق عليه الملائكة من أن لبعضهم أجنحة زائدة على ما لبعض آخر. 22/251
4_ [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ].
لما جرى ذكر رحمة الله التي تعم الناس كلهم أقبل على خطابهم بأن يتذكروا نعمة الله عليهم الخاصة، وهي النعمة التي تخص كل واحد بخاصته، فيأتلف منها مجموع الرحمة العامة للناس كلهم، وما هي إلا بعض رحمة الله بمخلوقاته.
والمقصود من تذكر النعمة شكرُها وقَدْرُها قَدْرَها.
ومن أكبر تلك النعم نعمة الرسالة المحمدية التي هي وسيلة فوز الناس الذين يتبعونها بالنعيم الأبدي.
فالمراد بالذكر هنا التذكر بالقلب وباللسان، فهو من عموم المشترك، أو من إرادة القدر المشترك؛ فإن الذكر باللسان والذكر بالقلب يستلزم أحدهما الآخر، وإلا لكان الأول هذياناً، والثاني كتماناً.
قال عمر بن الخطاب: =أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه+ أي وفي كليهما فضل. 22/253_254
5_[كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)].(1/140)
والمراد بالعلماء: العلماء بالله وبالشريعة، وعلى حسب مقدار العلم في ذلك تقوى الخشيةُ، فأما العلماء بعلوم لا تتعلق بمعرفة الله وثوابه وعقابه معرفة على وجهها فليست علومهم بمقربة لهم من خشية الله؛ ذلك لأن العالم بالشريعة لا تلتبس عليه حقائق الأسماء الشرعية؛ فهو يفهم مواقعها حق الفهم، ويرعاها في مواقعها، ويعلم عواقبها من خير أو شر؛ فهو يأتي ويدَعُ من الأعمال ما فيه مراد الله ومَقْصِدُ شرعِه، فإن هو خالف ما دعت إليه الشريعة في بعض الأحوال أو في بعض الأوقات؛ لداعي شهوةٍ أو هوىً أو تعجلِ نفعٍ دنيوي كان في حال المخالفة موقناً أنه مُوَرَّط فيما لا تحمد عقباه؛ فذلك الإيقان لا يلبث أن ينصرف به عن الاسترسال في المخالفة بالإقلاع أو الإقلال.
وغير العالم إن اهتدى بالعلماء فسعيه مثل سعي العلماء، وخشيته متولدة عن خشية العلماء.
قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد: =والعلم دليل على الخيرات وقائد إليها، وأقرب العلماء إلى الله أولاهم به، وأكثرهم له خشية، وفيما عنده رغبة+. 22/304_305
6_ والظالمون لأنفسهم هم الذين يجرون أَنْفُسَهم إلى ارتكاب المعصية؛ فإن معصيةَ المرءِ رَبَّه ظُلْمٌ لنفسه؛ لأنه يورطها في العقوبة المعينة للمعاصي على تفصيلها، وذلك ظُلْمٌ للنفس، لأنه اعتداء عليها؛ إذ قَصَّر بها عن شيء من الخيرات قليل أو كثير، وورطها فيما تجد جزاء ذميماً عليه.(1/141)
قال _تعالى_ حكاية عن آدم وحواء حين خالفا ما نهيا عنه من أكل الشجرة: [قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا] وقال: [وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً] وقال: [إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ] في سورة النمل، وقال: [قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً] في سورة الزمر.
واللام في (لنفسه) لام التقوية لأن العامل فرع في العمل؛ إذ هو اسم فاعل.
والمقتصد: هو غير الظالم نفسه كما تقتضيه المقابلة، فهم الذين اتقوا الكبار، ولم يحرموا أنفسهم من الخيرات المأمور بها، وقد يُلِمُّون باللمم المعفوِّ عنه من الله، ولم يأتوا بمنتهى القربات الرافعة للدرجات؛ فالاقتصاد افتعال من القصد وهو ارتكاب القصد وهو الوسط بين طرفين يبينه المقام؛ فلما ذكر هنا في مقابلة الظالم والسابق علم أنه مرتكب حالةً بين تينك الحالتين؛ فهو ليس بظالم لنفسه، وليس بسابق.
والسابق أصله: الواصل إلى غايةٍ معينة قبل غيره من الماشين إليها.
وهو هنا مجاز لإحراز الفضل؛ لأن السابق يحرز السَّبَق _بفتح الباء_ أو مجاز في بذل العناية؛ لنوال رضى الله، وعلى الاعتبارين في المجاز فهو مكنى عن الإكثار من الخير؛ لأن السبق يستلزم إسراعَ الخطوات، والإسراع إكثار، وفي هذا السبق تفاوت _أيضاً_ كخيل الحلبة. 22/312_313
7_ [وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)].(1/142)
مقابلة الأقسام الثلاثة للذين أورثوا الكتاب بذكر الكافرين يزيدنا يقيناً بأن تلك الأقسام أقسام المؤمنين، ومقابلة جزاء الكافرين بنار جهنم يوضح أن الجنة دار للأقسام الثلاثة على تفاوت في الزمان والمكان. 22/317
8_ وجملة: [وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ] تذييل أو موعظة.
ويحيق: ينزل بشيء مكروه حاق به، أي نزل وأحاط إحاطة سوء، أي لا يقع أثره إلا على أهله.
وفيه حذف مضاف تقديره: ضَرُّ المكرِ السيِّئ أو سوء المكر السيء كما دل عليه فعل (يحيق) فإن كان التعريف في (المكر) للجنس كان المراد بـ(أهله) كل ماكر.
وهذا هو الأنسب بموقع الجملة، ومحملها على التذييل، ليعم كل مكر، وكل ماكر؛ فيدخل فيه الماكرون بالمسلمين من المشركين؛ فيكون القصر الذي في الجملة قصراً ادعائياً مبنياً على عدم الاعتداد بالضر القليل الذي يحيق بالممكور به بالنسبة لما أعده الله للماكر في قدره من ملاقاة جزائه على مكره؛ فيكون ذلك من النواميس التي قدَّرها القدَرُ لنظام هذا العالم؛ لأن أمثال هذه المعاملات الضارة تؤول إلى ارتفاع ثقة الناس بعضهم ببعض، والله بنى نظام هذا العالم على تعاون الناس بعضهم مع بعض؛ لأن الإنسان مدني بالطبع، فإذا لم يأمن أفراد الإنسان بعضهم بعضاً تنكر بعضهم لبعض، وتبادروا الإضرار والإهلاك؛ ليفوز كل واحد بكيد الآخر قبل أن يقع فيه؛ فيفضي ذلك إلى فساد كبير في العالم، والله لا يحب الفساد، ولا ضر عبيده إلا حيث تأذن شرائعه بشيء.
ولهذا قيل في المثل: =وما ظالم إلا سيبلى بظالم+ وقال الشاعر:
لكل(1) شيء آفة من جنسه ... حتى الحديد سطا عليه المبرد
وكم في هذا العالم من نواميس مغفول عنها، وقد قال الله _تعالى_: [وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ].
__________
(1) _ البيت يروى: ولكل شيء ... بإثبات الواو حتى يستقيم الوزن. (م)(1/143)
وفي كتاب ابن المبارك في الزهد بسنده عن الزهري بلغنا أن رسول الله"قال: =لا تمكر، ولا تُعن ماكراً فإن الله يقول: [وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ]+. ومن كلام العرب: =من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً+.
ومن كلام عامة أهل تونس =يا حافر حفرة السوء ما تحفر إلا قياسك+.
وإذا كان تعريف (المكر) تعريف العهد كان المعنى: ولا يحيق هذا المكر إلا بأهله، أي الذين جاءهم النذير؛ فازدادوا نفوراً، فيكون موقع قوله: [وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ] موقع الوعيد بأن الله يدفع عن رسوله"مكرهم، ويحيق ضُرّ مكرِهم بهم بأن يسلط عليهم رسوله على غفلة منهم كما كان يوم بدر ويوم الفتح،فيكون على نحو قوله _تعالى_: [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] فالقصر حقيقي.
فكم انهالت من خلال هذه الآية من آداب عمرانية، ومعجزات قرآنية، ومعجزات نبوية خفية. 22/335_336
9_ واعلم أن قوله _تعالى_: [وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ] قد جعل في علم المعاني مثالاً للكلام الجاري على أسلوب المساواة دون إيجاز ولا إطناب.
وأول من رأيته مثل بهذه الآية للمساواة هو الخطيب القزويني في الإيضاح وفي تخليص المفتاح، وهو مما زاده على ما في المفتاح، ولم يمثل صاحب المفتاح للمساواة بشيء ولم أدر من أين أخذه القزويني؛ فإن الشيخ عبدالقاهر لم يذكر الإيجاز والإطناب في كتابه.
وإذ قد صرح صاحب المفتاح أن المساواة هي متعارف الأوساط وأنه لا يحمد في باب البلاغة ولا يذم _ فقد وجب القطع بأن المساواة لا تقع في الكلام البليغ، بَلْهَ المعجز.(1/144)
ومن العجيب إقرارُ العلاَّمةِ التفتزاني كلامَ صاحبِ تلخيص المفتاح، وكيف يكون هذا من المساواة وفيه جملة ذات قصرٍ، والقصر من الإيجاز؛ لأنه قائم مقام جملتين: جملة إثبات للمقصود، وجملة نفيه عما سواه، فالمساواة أن يقال: يحيق المكر السيء بالماكرين دون غيرهم، فما عدل عن ذلك إلى صيغة القصر فقد سُلك طريقه الإيجاز.
وفيه _أيضاً_ حذف مضاف؛ إذ التقدير: ولا يحيق ضر المكر السيء إلا بأهله على أن في قوله: [بِأَهْلِهِ] إيجازاً؛ لأنه عوض عن أن يقال: باللذين تقلدوه.
والوجه أن المساواة لم تقع في القرآن، وإنما مواقعها في محادثات الناس التي لا يعبأ فيها بمراعاة آداب اللغة. 22/336
1_ سميت هذه السورة (يس) بمسمى الحرفين الواقعين في أولها في رسم المصحف لأنها انفردت بها فكانا مميزين لها عن بقية السور، فصار منطوقهما علماً عليها، وكذلك ورد اسمها عن النبي".
روى أبو داود عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله": =اقرأوا يس على موتاكم+.
وبهذا الاسم عنون البخاري والترمذي في كتابي التفسير.
ودعاها بعض السلف (قلب القرآن) لوصفها في قول النبي": =إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس+ رواه الترمذي عن أنس، وهي تسمية غير مشهورة.
ورأيت مصحفاً مشرقياً نسخ سنة 1078 أحسبه في بلاد العجم عنونها (سورة حبيب النجار) وهو صاحب القصة وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى كما يأتي.
وهذه تسمية غريبة لا نعرف لها سنداً، ولم يخالف ناسخ ذلك المصحف في أسماء السور ما هو معروف إلا في هذه السورة وفي (سورة التين) عنونها (سورة الزيتون).
وهي مكية، وحكى ابن عطية الاتفاق على ذلك قال: =إلا أن فرقةً قالت: قوله _تعالى_: [وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ] نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول"فقال لهم: =دياركم تكتب آثاركم+.
وليس الأمر كذلك وإنما نزلت الآية بمكة ولكنها احتج بها عليهم في المدينة+ا هـ.(1/145)
وفي الصحيح أن النبي"قرأ عليهم: [وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُم] وهو يؤول ما في حديث الترمذي بما يوهم أنها نزلت يومئذ.
وهي السورة الحادية والأربعون في ترتيب النزول في قول جابر بن زيد الذي اعتمده الجعبري، نزلت بعد سورة (قل أوحي) وقبل سورة الفرقان.
وعُدَّت آياتها عند جمهور الأمصار اثنتين وثمانين، وعُدَّت عند الكوفيين ثلاثاً وثمانين.
وورد في فضلها ما رواه الترمذي عن أنس قال النبي": =إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس، ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات+.
قال الترمذي: =هذا حديث غريب، وفيه هارون أبو محمد شيخ مجهول+.
قال أبو بكر بن العربي: =حديثها ضعيف+. 22/341_342
2_ أغراض هذه السورة: التحديْ بإعجاز القرآن بالحروف المُقَطَّعة، وبالقسم بالقرآن؛ تنويهاً به، وأُدْمِجَ وصفُه بالحكيم؛ إشارةً إلى بلوغه أعلى درجات الإحكام.
والمقصودُ من ذلك تحقيقُ رسالةِ محمدٍ"وتفضيلُ الدين الذي جاء به في كتابٍ منزلٍ من الله؛ لإبلاغ الأمةِ الغايةَ الساميةَ, وهي استقامةُ أمورِها في الدنيا, والفوزُ في الحياةِ الأبدية؛ فلذلك وُصِفَ الدينُ بالصراط المستقيم كما تقدم في سورة الفاتحة.
وأن القرآنَ داعٍ لإنقاذ العرب الذين لم يسبقْ مجيءُ رسولٍ إليهم؛ لأن عَدَمَ سبقِ الإرسالِ إليهم تهيئةً لنفوسهم لقبول الدين؛ إذ ليس فيها شاغلُ سَبْقٍ يَعَزُّ عليهم فراقه, أو يكتفون بما فيه من هدىً.
وَوَصْفُ إعراضِ أكثرِهم عن تلقي الإسلام، وتمثيلُ حالِهم الشنيعة، وحرمانُهم من الانتفاع بهدي الإسلام, وأن الذين اتبعوا دينَ الإسلامِ هم أهل الخشيةُ، وهو الدين الموصوف بالصراط المستقيم.
وَضْربُ المثلِ لفريقي المتبعين والمعرضين من أهل القرى بما سبق من حال أهل القرية الذين شابه تكذيبُهم الرسلِ تكذيبَ قريشٍ.
وكيف كان جزاءُ المعرضين من أهلها في الدنيا, وجزاءُ المتبعين في درجات الآخرة.(1/146)
ثم ضَرَبَ المثلَ بالأعم وهم القرون الذين كذبوا فأُهلكوا، والرثاءُ لحال الناس في إضاعة أسباب الفوز كيف يسرعون إلى تكذيب الرسل.
وتخلَّص إلى الاستدلال على تقريبِ البعثِ، وإثباتِه بالاستقلال تارة, وبالاستطراد أخرى، مُدْمِجاً في آياته الامتنانَ بالنعمة التي تتضمنها تلك الآيات، ورامزاً إلى دلالة تلك الآيات والنعم على تفرد خالقها ومنعمها بالوحدانية؛ إيقاظاً لهم.
ثم تذكيرُهم بأعظمِ حادثةٍ حدثت على المكذبين للرسل والمتمسكين بالأصنام من الذين أرسل إليهم نوح نذيراً؛ فهلك مَنْ كذَّب، ونجا مَنْ آمن.
ثم سيقت دلائلُ التوحيدِ المشوبةُ بالامتنانِ للتذكيرِ بواجبِ الشكر على النعم بالتقوى والإحسان وتَرقُّبِ الجزاء.
والإقلاعُ عن الشرك, والاستهزاءُ بالرسول, واستعجالُ وعيدِ العذاب.
وحُذِّروا من حلوله بغتةً حين يفوت التدارك.
وذُكِّروا بما عَهِدَ اللهُ إليهم مما أودعه في الفطرة من الفطنة.
والاستدلالُ على عداوة الشيطان للإنسان.
واتباعُ دعاةِ الخير.
ثم رَدَّ العَجُزَ على الصدر؛ فعاد إلى تنزيه القرآن عن أن يكون مفترىً صادراً من شاعرٍ بتخيلات الشعراء.
وسلَّى اللهُ رسولَه"أن لا يُحْزِنَه قولُهم وأن له بالله أسوةً؛ إذ خلقهم, فعطلوا قُدْرَتَهُ عن إيجادهم مرة ثانية, ولكنهم راجعون إليه.
فقامت السورة على تقرير أمهات أصول الدين على أبلغ وجهٍ وأَتَمِّهِ من إثباتِ الرسالةِ، ومعجزةِ القرآن، وما يعتبر في صفات الأنبياء, وإثباتِ القدر، وعلمِ الله، والحَشرِ، والتوحيدِ، وشكرِ المنعم.
وهذه أصولُ الطاعةِ بالاعتقاد والعمل، ومنها تتفرع الشريعةُ.
وإثباتُ الجزاء على الخير والشر مع إدماج الأدلةِ من الآفاق والأنفسِ بتَفَنُّنٍ عجيب؛ فكانت هذه السورة جديرة بأن تسمى (قَلْب القرآن) لأن من تقاسيمها تتشعب شرايينُ القرآن كلِّه، وإلى وَتِيْنِها يَنْصَبُّ مجراها.(1/147)
قال الغزالي: إن ذلك لأن الإيمانَ صحتُه باعتراف بالحشر، والحشرُ مقررٌ في هذه السورة بأبلغ وجه، كما سميت الفاتحة أم القرآن؛ إذ كانت جامعة لأصول التدبر في أفانيه كما تكون أم الرأس مِلاكُ التدبرِ في أمور الجسد+. 22/342_344
3_ [يَسِ(1)] القول فيه كالقول في الحروف المقطعة الواقعة في أوائل السور، ومن جملتها أنه اسم من أسماء الله _تعالى_ رواه أشهب عن مالك قاله ابن العربي، وفيه عن ابن عباس أنه: يا إنسان، بلسان الحبشة.
وعنه أنها كذلك بلغة طيء، ولا أحسب هذا يصح عنه؛ لأن كتابتها في المصاحف على حرفين تنافي ذلك.
ومن الناس من يَدَّعِي أن (يس) اسم من أسماء النبي"، وبنى عليه إسماعيل بن بكر الحميري شاعر الرافضة المشهور عندهم بالسيد الحميري قوله:
يا نفس لاتمحضي بالود جاهدة ... على المودة إلا آل ياسينا
ولعله أخذه من قوله _تعالى_ في سورة الصافات: [سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ] فقد قيل إنه يعني آل محمد".
ومن الناس من قال: إن يس اختزال: يا سيد، خطاباً للنبي"ويوهنه نطق القرآن بها بنون. 22/344
4_ [ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)].
والتطير في الأصل: تكلُّف معرفة دلالة الطير على خير أو شر من تعرض نوع الطير ومن صفة اندفاعه أو مجيئه، ثم أطلق على كل حدث يتوهم منه أحد أنه كان سبباً في لحاق شر به؛ فصار مرادفاً للتشاؤم.
وفي الحديث: =لا عدوى ولا طيرة وإنما الطيرة على من تطير+.
وبهذا المعنى أطلق في هذه الآية، أي قالوا إنا تشاءمنا بكم.
ومعنى: [بِكُم] بدعوتكم، وليسوا يريدون أن القرية حل بها حادث سوء يعم الناس كلهم من قحط أو وباء أو نحو ذلك من الضر العام مقارن لحلول الرسل أو لدعوتهم.
وقد جوزه بعض المفسرين، وإنما معنى ذلك: أن أحداً لا يخلو في هذه الحياة من أن يناله مكروه.(1/148)
ومن عادة أصحاب الأوهام السخيفة، والعقول المأفونة أن يسندوا الأحداث إلى مقارنتها دون معرفة أسبابها ثم أن يتخيروا في تعيين مقارنات الشؤم أموراً لا تلائم شهواتهم وما ينفرون منه، وأن يعينوا من المقارنات للتيمن ما يرغبون فيه، وتقبله طباعهم يغالطون بذلك أنفسهم شأن أهل العقول الضعيفة؛ فمرجع العلل كلها لديهم إلى أحوال نفوسهم ورغائبهم كما حكى الله _تعالى_ عن قوم فرعون: [فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ] وحكى عن مشركي مكة: [وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ].
ويجوز أن يكونوا أرادوا بالشؤم أن دعوتهم أحدثت مشاجراتٍ واختلافاً بين أهل القرية فلما تمالأت نفوس أهل القرية على أن تعليل كلِّ حدثٍ مكروه يصيب أحدهم بأنه من جزاء(1) هؤلاء الرسل اتفقت كلمتهم على ذلك فقالوا: [إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ] أي يقولها الواحد منهم، أو الجمع، فيوافقهم على ذلك جميع أهل القرية.
ثم انتقلوا إلى المطالبة بالانتهاء عن هذه الدعوة فقالوا: [لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ] وبذلك ألجأوا (بوليس) و(برنابا) إلى الخروج من إنطاكية فخرجا إلى إيقونية، وظهرت كرامة (بولس) في أيقونية ثم في (لسترة) ثم في (دربة).
ولم يزل اليهود في كل مدينة من هذه المدن يشاقون الرسل، ويضطهدونهم، ويثيرون الناس عليهم، ويلحقونهم إلى كل بلد يحلون به؛ ليشعبوا عليهم، فمسهم من ذلك عذاب وضر، ورجم (بولس) في مدينة (لسترة) حتى حسبوا أن قد مات. 22/362_363
5_ [قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)]
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: جَرَّاء. (م)(1/149)
حكي قول الرسل بما يرادفه ويؤدي معناه بأسلوب عربي؛ تعريضاً بأهل الشرك من قريش الذين ضُرِبَت القرية مثلاً لهم، فالرسل لم يذكروا مادة الطِّيَرة والطَيْر، وإنما أتوا بما يدل على أن شؤم القوم متصل بذواتهم لا جاءٍ من المرسلين إليهم؛ فحكي بما يوافقه في كلام العرب؛ تعريضاً بمشركي مكة.
وهذا بمنزلة التجريد لضرب المثل لهم بأن لوحظ في حكاية القصة ما هو من شؤون المشبهين بأصحاب القصة.
ولما كانت الطيرة بمعنى الشؤم مشتقة من اسم الطير لوحظ فيها مادة الاشتقاق.
وقد جاء إطلاق الطائر على معنى الشؤم في قوله _تعالى_ في سورة الأعراف: [أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ] على طريقة المشاكلة.
ومعنى: [طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ]: الطائر الذي تنسبون إليه الشؤم هو معكم، أي في نفوسكم، أرادوا أنكم لو تدبرتم لوجدتم أن سبب ما سميتموه شؤماً هو كفركم، وسوء سَمْعِكم للمواعظ؛ فإن الذين استمعوا أحسن القول اتبعوه، ولم يعتدوا عليكم، وأنتم الذين آثرتم الفتنة، وأسعرتم البغضاء والإحن؛ فلا جرم أنتم سبب سوء لحالة التي حدثت في المدينة. 22/363_364
6_ [وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)].
عطف على قصة التحاور الجاري بين أصحاب القرية والرسل الثلاثة لبيان البون بين حال المعاندين من أهل القرية وحال الرجل المؤمن منهم الذي وعظهم بموعظة بالغة وهو من نفر قليل من أهل القرية.(1/150)
فلك أن تجعل جملة: [وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ] عطفاً على جملة: [جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ] ولك أن تجعلها عطفاً على جملة: [فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ].
والمراد بالمدينة هنا نفس القرية المذكورة في قوله: [أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ] عبر عنها هنا بالمدينة؛ تفتناً، فيكون (أقصى) صفة لمحذوف هو المضاف في المعنى إلى المدينة.
والتقدير: من بعيد المدينة، أي طرف المدينة، وفائدة ذكر أنه جاء من أقصى المدينة الإشارة إلى أن الإيمان بالله ظهر في أهل ربض المدينة قبل ظهوره في قلب المدينة؛ لأن قلب المدينة هو مسكن حكامها وأحبار اليهود وهم أبعد من الإنصاف والنظر في صحة ما يدعوهم إليهم الرسل، وعامة سكانها تبع لعظمائها؛ لتعلقهم بهم، وخشيتهم بأسهم بخلاف سكان أطراف المدينة فهم أقرب إلى الاستقلال بالنظر وقلة اكتراث بالآخرين؛ لأن سكان الأطراف غالبهم عملة أنفسهم لقربهم من البدو.
وبهذا يظهر وجه تقديم: [مِنْ أَقْصَى المَدِيْنَةِ] على [رَجُلٌ] للاهتمام بالثناء على أهل أقصى المدينة.
وأنه قد يوجد الخير في الأطراف ما لا يوجد في الوسط، وأن الإيمان يسبق إليه الضعفاء؛ لأنهم لا يصدهم عن الحق ما فيه أهل السيادة من ترف وعظمة؛ إذ المعتاد أنهم يسكنون وسط المدينة، قال أبو تمام:
كانت هي الوسطَ المحميَّ فاتصلت ... بها الحوادث حتى أصبحت طرفا
وأما قوله _تعالى_ في سورة القصص: [وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى] فجاء النظم على الترتيب الأصلي؛ إذ لا داعي إلى التقديم؛ إذ كان ذلك الرجل ناصحاً ولم يكن داعياً للإيمان.
وعلى هذا فهذا الرجل غير مذكور في سفر أعمال الرسل، وهو مما امتاز القرآن بالإعلام به.
وعن ابن عباس وأصحابه وجد أن اسمه حبيب بن مرة، قيل: كان نجاراً، وقيل غير ذلك؛ فلما أشرف الرسل على المدينة رآهم ورأى معجزة لهم أو كرامة فآمن.(1/151)
وقيل: كان مؤمناً من قبل، ولا يبعد أن يكون هذا الرجل الذي وصفه المفسرون بالنجار أنه هو (سمعان) الذي يدعى (بالنيجر) المذكور في الإصحاح الحادي عشر من سفر أعمال الرسل، وأن وصف النجار محرف عن (نيجر) فقد جاء في الأسماء التي جرت في كلام المفسرين عن ابن عباس اسم شمعون الصفا أو سمعان.
وليس هذا الاسم موجوداً في كتاب أعمال الرسل.
وَوَصْفُ الرجلِ بالسعي يفيد أنه جاء مسرعاً، وأنه بلغه همُّ أهل المدينة برجم الرسل أو تعذيبهم؛ فأراد أن ينصحهم؛ خشيةً عليهم وعلى الرسل.
وهذا ثناء على هذا الرجل يفيد أنه ممن يقتدى به في الإسراع إلى تغيير المنكر.
وجملة: [قَالَ يَا قَوْمِ] بدل اشتمال من جملة: [جَاءَ رَجُلٌ] لأن مجيئه لما كان لهذا الغرض كان مما اشتمل عليه المجيء المذكور.
وافتتاح خطابه إياهم بندائهم بوصف القومية له قصد منه أن في كلامه الإيماء إلى أن ما سيخاطبهم به هو محض نصيحة؛ لأنه يحب لقومه ما يحب لنفسه.
والاتِّبَاعُ: الامتثالُ، اسْتُعِيْرَ له الاتباعُ؛ تشبيهاً للآخذ برأي غيره بالمتبع له في سيره.
والتعريف في [الْمُرْسَلِينَ] للعهد. 22/365_366
7_ [ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)].
وكيف يكون القرآن شعراً والشعر كلام موزون مقفّىً له معانٍ مناسبةٌ لأغراضه التي أكثرها هزل وفكاهة؟ فأين الوزن في القرآن، وأين التقفية، وأين المعاني التي ينتجها الشعراء، وأين نظم كلامهم من نظمه، وأساليبهم من أساليبه.
ومن العجيب في الوقاحة أن يصدر عن أهل اللسان والبلاغة قول مثل هذا ولا شبهة لهم فيه بحال، فما قولهم ذلك إلا بهتان.(1/152)
وما بني عليه أسلوب القرآن من تساوي الفواصل لا يجعلها موازية للقوافي كما يعلمه أهل الصناعة منهم، وكل من زاول مبادئ القافية من المولدين، ولا أحسبهم دعوه شعراً إلا تعجلاً في الإبطال، أو تمويهاً على الإغفال؛ فأشاعوا في العرب أن محمداً"شاعر، وأن كلامه شعر، وينبني عن هذا الظن خبرُ أنيس بن جنادة الغفاري أخي أبي ذر، فقد روى البخاري عن ابن عباس، ومسلم عن عبد الله ابن الصامت، يزيد أحدهما على الآخر قالا: =قال أبو ذر لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء واستمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدم وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاماً ما هو بالشعر، قال أبو ذر: فما يقول الناس? قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر، وكان أنيس أحد الشعراء، قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون+.
ثم اقتص الخبر عن إسلام أبي ذر، ويظهر أن ذلك كان في أول البعثة.
ومثله خبر الوليد بن المغيرة الذي رواه البيهقي وابن إسحاق: =أنه جمع قريشاً عند حضور الموسم ليتشاوروا في أمر النبي"فقال لهم: إن وفود العرب تَرِدُ عليكم؛ فأجمعوا فيه رأياً، لا يكذب بعضكم بعضاً، فقالوا: نقول كاهن? فقال: والله ما هو بكاهن، ما هو بزمزمته ولا بسجعه، قالوا: نقول مجنون? فقال: والله ما هو بمجنون ولا بخنقه ولا وسوسته، فذكر ترددهم في وصفه إلى أن قالوا: نقول شاعر? قال: ما هو بشاعر، قد عرفت الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه وما هو بشاعر...+ إلى آخر القصة.
فمعنى: [وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ]: وما أوحينا إليه شعراً علمناه إياه.(1/153)
وليس المراد أن الله لم يجعل في طبع النبي القدرة على نظم الشعر؛ لأن تلك المقدرة لا تسمى تعليماً حتى تنفى وإنما يستفاد هذا المعنى من قوله بعده: [وَمَا يَنْبَغِي لَهُ]. 23/57_58
8_ وقد اقتضت الآية نفي أن يكون القرآن شعراً، وهذا الاقتضاء قد أثار مطاعن للملحدين ومشاكل للمخلصين؛ إذ وجدت فقرات قرآنية استكملت ميزان بحور من البحور الشعرية، بعضها يلتئم منه بيت كامل، وبعضها يتقوم منه مصراع واحد، ولا تجد أكثر من ذلك فهذا يلزم منه وقوع الشعر في آي القرآن.
وقد أثار الملاحدة هذا المطعن؛ فلذلك تعرض أبو بكر الباقلاني إلى دحضه في كتابه إعجاز القرآن وتبعه السكاكي، وأبو بكر بن العربي، فأما الباقلاني فانفرد برد قال فيه: إن البيت المفرد لا يسمى شعراً، بَلْهَ المصراع الذي لا يكمل به بيت.
وأرى هذا غير كاف هنا؛ لأنه لا يستطاع نفي مسمى الشعر عن المصراع، وأولى عن البيت.
وقال السكاكي في آخر مبحث رد المطاعن عن القرآن من كتاب مفتاح العلوم: =إنهم يقولون أنتم في دعواكم أن القرآن كلام الله وقد علمه محمداً"على أحد أمرين: إما أن الله _تعالى_ جاهل لا يعلم ما الشعر، وإما أن الدعوى باطلة، وذلك أن في قرآنكم [وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ] وأنه يستدعي أن لا يكون فيما علمه شعر.
ثم إن في القرآن من جميع البحور شعراً: فمن الطويل من صحيحه: [فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ].
ومن مخرومه: [مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ].
ومن بحر المديد: [وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا].
ومن بحر الوافر: [وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ].
ومن بحر الكامل: [وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ].
ومن بحر الهجز من مخرومه: [تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا].(1/154)
ومن بحر الرجز: [دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً].
ومن بحر الرمل: [وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ] ونظيره: [وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ].
ومن بحر المنسرح: [إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ].
ومن بحر الخفيف: [أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ] ومنه [لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً] ونحوه: [قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي].
ومن بحر المضارع من مخرومه: [يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ].
ومن بحر المقتضب: [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ].
ومن بحر المتقارب: [وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ].
فيقال لهم من قبل النظر فيما أوردوه: هل حرفوا بزيادة أو نقصان حركة أو حرفاً أم لا؟
وقبل أن ننظر هل راعوا أحكام علم العروض في الأعاريض والضروب التي سبق ذكرها أم لا.
ومن قبل أن ننظر هل عملوا بالمنصور من المذهبين في معنى الشعر على نحو ما سبق أم لا _يعني المذهبين مذهب الذين قالوا لا يكون الشعر شعراً إلا إذا قصد قائله أن يكون موزوناً؟ ومذهب الذين قالوا: إن تعمد الوزن ليس بواجب، بل يكفي أن يُلْفَى موزوناً ولو بدون قصد قائله للوزن وقد نصر المذهب الأول_ يا سبحان الله قدروا جميع ذلك أشعاراً، أليس يصح بحكم التغليب أن لا يلتفت إلى ما أوردتموه لِقِلَّتِه، ويُجرى ذلك القرآن مجرى الخالي عن الشعر؛ فيقال بناء على مقتضى البلاغة: وما علمناه الشعر+. ا هـ كلامه.
وقد نحا به نحو أمرين:
أحدهما: أن ما وقع في القرآن من الكلام المتزن ليس بمقصود منه الوزن؛ فلا يكون شعراً على رأي الأكثر من اشتراط القصد إلى الوزن؛ لأن الله _تعالى_ لم يعبأ باتزانه.(1/155)
الثاني: إن سلمنا عدم اشتراط القصد فإنَّ نفي كونِ القرآن شعراً جرى على الغالب؛ فلا يعد قائله كاذباً ولا جاهلاً؛ فلا ينافي اليقين بأن القرآن من عند الله علمه محمداً".
ومال ابن العربي في أحكام القرآن إلى أن ما تكلفوه من استخراج فقرات من القرآن على موازين شعرية لا يستقيم إلا بأحد أمور مثل بتر الكلام أو زيادة ساكن أو نقص حرف أو حرفين، وذكر أمثلة لذلك في بعضها ما لا يتم له فراجعه.
ولا محيص من الاعتراف باشتمال القرآن على فقرات متزنة يلتئم منها بيت أو مصراع، فأما ما يَقِلُّ عن بيت فهو كالعدم؛ إذ لا يكون الشعر أقلَّ من بيت، ولا فائدة في الاستكثار من جلب ما يُلْفى متزناً؛ فإن وقوعَ ما يساوي بيتاً تاماً من بحر من بحور الشعر العربي ولو نادراً أو مزحّفاً أو مُعلاً كافٍ في بقاء الإشكال؛ فلا حاجة إلى ما سلك ابن العربي في رده ولا كفاية لما سلكه السكاكي في كتابه؛ لأن المردود عليهم في سعة من الأخذ بما يلائم نحلتهم من أضعف المذاهب في حقيقة الشعر وفي زحافه وعلله.
وبعد ذلك فإن الباقلاني والسكاكي لم يغوصا على اقتلاع ما يثيره الجواب الثاني في كلامهما بعدم القصد إلى الوزن من لزوم خفاء ذلك على علم الله _تعالى_ فلماذا لا تجعل في موضع تلك الفقرات المتزنة فقرات سليمة من الاتزان.
ولم أر لأحد من المفسرين والخائضين في وجوه إعجاز القرآن التصدي لاقتلاع هذه الشبهة، وقد مضت عليها من الزمان برهة، وكنت غير مقتنع بتلك الردود ولا أرضاها، وأراها غير بالغة من غاية خيل الحلبة منتهاها.
فالذي بدا لي أن نقول: إن القرآن نزل بأفصح لغات البشر التي تواضعوا واصطلحوا عليها، ولو أن كلاماً كان أفصح من كلام العرب أو أمة كانت أسلم طباعاً من الأمة العربية _ لاختارها الله لظهور أفضل الشرائع، وأشرف الرسل، وأعز الكتب الشرعية.(1/156)
ومعلوم أن القرآن جاء معجزاً لبلغاء العرب؛ فكانت تراكيبه ومعانيها بالغين حداً يقصر عنه كل بليغ من بلغائهم على مبلغ ما تتسع له اللغة العربية فصاحة وبلاغة؛ فإذا كانت نهاية مقتضى الحال في مقام من مقامات الكلام تتطلب لإيفاء حق الفصاحة والبلاغة ألفاظاً وتركيباً ونظماً فاتفق أن كان لمجموع حركاتها وسكوناتها ما كان جارياً على ميزان الشعر العربي في أعاريضه وضروبه لم يكن ذلك الكلام معدوداً من الشعر لو وقع مثله في كلام عن غير قصد؛ فوقوعه في كلام البشر قد لا يتفطن إليه قائله، ولو تفطن له لم يعسر تغييره، لأنه ليس غاية ما يقتضيه الحال، اللهم إلا أن يكون قصد به تفنناً في الإتيان بكلام ظاهره نثر، وتفكيكه نظم.
فأما وقوعه في كلام الله _تعالى_ فخارج عن ذلك كله من ثلاثة وجوه: أحدها: أن الله لا يخفى عليه وقوعه في كلام أوحى به إلى رسوله".
الثاني: أنه لا يجوز تبديل ذلك المجموع من الألفاظ بغيره لأن مجموعها هو جميع ما اقتضاه الحال، وبلغ حد الإعجاز.
الثالث: أن الله لا يريد أن يشتمل الكلام الموحى به من عنده على محسن الجمع بين النثر والنظم، لأنه أراد تنزيه كلامه عن شائبة الشعر.
واعلم أن الحكمة في أن لا يكون القرآن من الشعر مع أن المُتَحَدَّيْنَ به بلغاء العرب، وجُلُّهم شعراءُ، وبلاغتهم مُوْدَعَةٌ في أشعارهم _ هي الجمع بين الإعجاز وبين سد باب الشبهة التي تعرض لهم لو جاء القرآن على موازين الشعر، وهي شبه الغلط أو المغالطة بعدِّهم النبي"في زمن الشعراء فيحسب جمهور الناس الذين لا تغوص مدركاتهم على الحقائق أن ما جاء به الرسول ليس بالعجيب، وأن هذا الجائي به ليس بنبي ولكنه شاعر؛ فكان القرآن معجزاً لبلغاء العرب بكونه من نوع كلامهم لا يستطيعون جحوداً لذلك، ولكنه ليس من الصنف المسمى بالشعر، بل هو فائق على شعرهم في محاسنه البلاغية، وليس هو في أسلوب الشعر بالأوزان التي ألفوها، بل هو في أسلوب الكتب السماوية والذكر.(1/157)
ولقد ظهرت حكمة علام الغيوب في ذلك؛ فإن المشركين لما سمعوا القرآن ابتدروا إلى الطعن في كونه منزلاً من عند الله بقولهم في الرسول: هو شاعر، أي أن كلامه شعر حتى أفاقهم من غفلتهم عقلاؤهم مثل الوليد بن المغيرة، وأنيس ابن جنادة الغفاري، وحتى قرعهم القرآن بهذه الآية: [وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ].
وبعد هذا فإن إقامة الشعر لا يخلو الشاعر فيها من أن يتصرف في ترتيب الكلام تارات بما لا تقضيه الفصاحة مثل ما وقع لبعض الشعراء من التعقيد اللفظي، ومثل تقديم وتأخير على خلاف مقتضى الحال؛ فيعتذر لوقوعه بعذر الضرورة الشعرية، فإذا جاء القرآن شعراً قصّر في بعض المواضع عن إيفاء جميع مقتضى الحال حقه.
وسنذكر عند تفسير قوله _تعالى_: [وَمَا يَنْبَغِي لَه] وجوهاً ينطبق معظمها على ما أشار إليه قوله _تعالى_ هنا: [وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ].
وقد قال ابن عطية: إن الضمير المجرور باللام في قوله: [وَمَا يَنْبَغِي لَه] يجوز أن يعود على القرآن كما سيأتي.
وقوله: [وَمَا يَنْبَغِي لَه] جملة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين قصد منها اتباع نفي أن يكون القرآن الموحى به للنبي"شعراً بنفي أن يكون النبي"شاعراً فيما يقوله من غير ما أوحى به إليه أي فطر الله النبي"على النفرة بين ملكته الكلامية والملكة الشاعرية، أي لم يجعل له ملكة أصحاب قرض الشعر، لأنه أراد أن يقطع من نفوس المكذبين دابر أن يكون النبي"شاعراً، وأن يكون قرآنه شعراً، ليتضح بهتانُهم عند من له أدنى مُسْكَةٍ من تمييز للكلام وكثيرٌ ما هُمْ بين العرب رجالهم، وكثير من نسائهم غير زوج عبدالله بن رواحة ونظيراتها، والواو اعتراضية.
وضمير (ينبغي) عائد إلى الشعر، وضمير (له) يجوز أن يكون عائد إلى ما عاد إليه ضمير الغائب في قوله: =علمناه+ وهو الظاهر.(1/158)
وجوز ابن عطية أن يعود إلى القرآن الذي يتضمنه فعل (علمناه) فجعل جملة: [وَمَا يَنْبَغِي لَه] بمنزلة التعليل لجملة: [وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ].
ومعنى: [وَمَا يَنْبَغِي لَه] ما يتأتى له الشعر، وقد تقدم عند قوله _تعالى_: [وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً] تفصيل ذلك في سورة مريم، وتقدم قريباً عند قوله: [لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ].
فأصل معنى: (ينبغي) يستجيب للبغي، أي الطلب, وهو يشعر بالطلب الملح.
ثم غلب في معنى يتأتى ويستقيم؛ فتنوسي منه معنى المطاوعة وصار (ينبغي) بمعنى يتأتى يقال: لا ينبغي كذا، أي لا يتأتى.
قال الطيبي: رُوِيَ عن الزمخشري أنه قال في كتاب سيوبيه: =كل فعل فيه علاج يأتي مطاوعة على الانفعال: كضرب وطلب وعَلِم، وما ليس فيه علاج: كعَدِم وفقَد لا يأتي في مطاوعة الانفعال البتة+ ا هـ.
ومعنى كون الشعر لا ينبغي له: أن قول الشعر لا ينبغي له؛ لأن الشعر صنف من القول له موازينُ وقوافٍ، فالنبي"منزه عن قرض الشعر وتأليفه، أي ليست من طباع ملكته إقامة الموازين الشعرية، وليس المراد أنه لا ينشد الشعر؛ لأن إنشادَ الشعرِ غيرُ تَعَلُّمِه، وكم من رواية للأشعار ومن نَقَّاد للشعر لا يستطيع قول الشعر وكذلك كان النبي"قد انتقد الشعر، ونبه على بعض مزايا فيه، وفضَّل بعض الشعراء على بعض وهو مع ذلك لا يقرض شعراً.
وربما أنشد البيت، فغفل عن ترتيب كلماته، فربما اختل وزنه في إنشاده(1)
__________
(1) _ كما أنشد بيت عباس بن مرداس
أتجعل نهبي ونهب العُبيـ ... ـد بين عيينة والأقرع
فقال: بين الأقرع وعيينة, وكذلك أنشد مرة مصراع طرفة:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فقال =ويأتيك من لم تزود بالأخبار+.
وربما أنشد البيت دون تغيير كما أنشد بيت ابن رواحة:
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وأنشد بيت عنترة:
ولقد أَبيتُ على الطوَى وأَظَلُّه ... كيما أنال به شهيّ المطعم(1/159)
وذلك من تمام المنافرة بين ملكة بلاغته وملكة الشعراء، ألا ترى أنه لم يكن مطرداً فربما أنشد البيت موزوناً.
هذا من جانب نظم الشعر وموازينه، وكذلك _أيضاً_ جانب قوام الشعر ومعانيه فإن للشعر طرائقَ من الأغراض كالغزل والنسيب والهجاء والمديح والملح، وطرائق من المعاني كالمبالغة البالغة حد الإغراق، وكادعاء الشاعر أحوالاً لنفسه في غرام أو سير أو شجاعة هو خلو من حقائقها؛ فهو كذب مغتفر في صناعة الشعر، وذلك لا يليق بأرفع مقامٍ لكمالات النفس، وهو مقام أعظم الرسل _صلوات الله عليه وعليهم_ فلو أن النبي"قرض الشعر، ولم يأتِ في شعره بأفانين الشعراء لَعُدَّ غضاضةً في شعره، وكانت تلك الغضاضةُ داعيةً للتناول من حرمة كماله في أنفس قومه يستوي فيها العدو والصديق.
على أن الشعراء في ذلك الزمان كانت أحوالهم غيرَ مَرضِيَّةٍ عند أهل المروءة والشرف؛ لما فيهم من الخلاعة والإقبال على السكر والميسر والنساء ونحو ذلك. وحسبك ما هو معلوم من قضية خلع حجر الكندي ابنه امرأ القيس وقد قال _تعالى_: [وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ]الآيةَ.
فلو جاء الرسول"بالشعر أو قاله لرمقه الناس بالعين التي لا يرمق بها قدره الجليل وشرفه النبيل.
والمنظور إليه في هذا الشأن هو الغالب الشائع وإلا فقد قال النبي": =إن من الشعر لحكمة+ وقال: =أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ماخلا الله باطل+
فتنزيه النبي"عن قول الشعر من قبيل حياطة معجزة القرآن، وحياطه مقام الرسالة مثل تنزيهه عن معرفة الكتابة.
قال أبو بكر بن العربي: هذه الآية ليست من عيب الشعر كما لم يكن قوله _تعالى_: [وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ] من عيب الخط، فلما لم تكن الأمية من عيب الخط كذلك لا يكون نفي النظم عن النبي"من عيب الشعر.(1/160)
ومن أجل ما للشعر من الفائدة والتأثير في شيوع دعوة الإسلام أن أمر النبي"حساناً وعبدالله بن رواحة بقوله، وأظهر استحسانه لكعب بن زهير حين أنشده القصيدة المشهور: بانت سعاد.
والقول في ما صدر النبي"من كلام موزون مثل قوله يوم أحد:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
كالقول فيما وقع في القرآن من شبيه ذلك مما بيناه آنفاً.
وجملة: [إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ] استئناف بياني؛ لأن نفي الشعر عن القرآن يثير سؤال متطلب يقول: فما هو هذا الذي أوحي به إلى محمد"فكان قوله: [إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ] جواباً لطلبته. 23/58_65
1_ اسمها المشهور المتفق عليه (الصافات) وبذلك سميت في كتب التفسير وكتب السنة وفي المصاحف كلها، ولم يثبت شيء عن النبي"في تسميتها، وقال في الإتقان: =رأيت في كلام الجعبري أن سورة (الصافات) تسمى (سورة الذبيح) وذلك يحتاج إلى مستند من الأثر+.
ووجه تسميتها باسم (الصافات) وقوع هذا اللفظ فيها بالمعنى الذي أريد به أنه وصف الملائكة وإن كان قد وقع في سورة (الملك) لكن بمعنى آخر إذ أريد هنالك صفة الطير، على أن الأشهر أن (سورة الملك) نزلت بعد (سورة الصافات).
وهي مكية بالاتفاق وهي السادسة والخمسون في تعداد نزول السور، نزلت بعد سورة الأنعام وقبل سورة لقمان.
وعُدَّت آيُها مائة واثنتين وثمانين عند أكثر أهل العدد، وعَدَّها البصريون مائة وإحدى وثمانين. 23/81
2_ أغراضها: إثباتُ وحدانيةِ الله _تعالى_ وسوقُ دلائلَ كثيرةٍ على ذلك دلت على انفراده بصنع المخلوقات العظيمة التي لا قَبِلَ لغيره بصنعها وهي العوالمُ السماويةُ بأجزائها وسكنها، ولا قَبِلَ لمن على الأرض أنْ يتطرقَ في ذلك.
وإثباتُ أن البعثَ يُعْقبه الحشرُ والجزاء.
ووصفُ حالِ المشركين يوم الجزاء, ووقوعُ بعضِهم في بعض.
ووصفُ حُسْنِ أحوال المؤمنين ونعيمهم.(1/161)
ومذاكرتُهم فيما كان يجري بينهم وبين بعض المشركين من أصحابهم في الجاهلية, ومحاولتُهم صرفَهم عن الإسلام.
ثم انْتُقِل إلى تنظير دعوةِ محمدٍ"قوَمهُ بدعوةِ الرسل مِنْ قَبْلِه، وكيف نَصَرَ اللهُ رسلَه, ورَفَع شأنَهم, وبارك عليهم.
وأُدمج في خلال ذلك شيءٌ من مناقبهم، وفضائلهم، وقُوَّتِهم في دين الله وما نجاهم الله من الكروب التي حفَّت بهم, وخاصةً منقبةُ الذبيحِ، والإشارة إلى أنه إسماعيلُ.
وَوَصْفُ ما حلَّ بالأمم الذين كذبوهم.
ثم الإنحاءُ على المشركين فسادَ معتقداتِهم في الله, ونِسْبتَهم إليه الشركاء.
وقولهم: الملائكةٌ بناتُ اللهِ، وتكذيبُ الملائكة إياهم على رؤوس الأشهاد.
وقولهم في النبي" والقرآن, وكيف كانوا يودون أن يكون لهم كتاب.
ثم وَعْدُ اللهِ رسولَه بالنصر كدأْب المرسلين ودأْب المؤمنين السابقين، وأن عذابَ اللهِ نازلٌ بالمشركين، وتَخْلُصُ العاقبةُ الحسنى للمؤمنين.
وكانت فاتحتُها مناسبةً لأغراضها بأن القَسَمَ بالملائكة مناسبٌ لإثبات الوحدانية؛ لأن الأصنامَ لم يدَّعوا لها ملائكةً، والذي تخدمه الملائكةُ هو الإلهُ الحق, ولأن الملائكةَ من جملة المخلوقاتِ الدالِّ خَلْقُها على عظم الخالق، ويُؤْذِنُ القسمُ بأنها أشرفُ المخلوقاتِ العلوية.
ثم إن الصفاتِ التي لوحظت في القسم بها مناسبةٌ للأغراض المذكورة بعدها، فـ[الصَّافَّاتِ] يناسب عَظَمَةَ ربِّها، و[الزَّاجِرَاتِ] يناسب قَذْفَ الشياطين عن السماوات، ويناسب تسييرَ الكواكبِ وحفظِها من أن يدرك بعضُها بعضاً، ويناسب زَجْرُها الناسَ في المحشر.
و[التَّالِيَاتِ ذِكْراً] يناسب أحوالَ الرسولِ, والرسل _ عليهم الصلاة والسلام _ وما أرسلوا به إلى أقوامهم.(1/162)
هذا وفي الافتتاح بالقسم تشويقٌ إلى معرفة المُقْسَمِ عليه؛ لِيُقْبِلَ عليه السامعُ بشراشره.(1)
فقد استكملت فاتحةُ السورةِ أحسنَ وجوه البيان وأكملها. 23/81_83
3_ وعن ابن سيده: بلغنا أنه لما نزلت: [إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الأَثِيمِ] أي في سورة الدخان لم يعرفها قريش.
فقال أبو جهل: يا جارية هاتي لنا تمراً وزبداً نزدقمه، فجعلوا يأكلون ويقولون: أفبهذا يخوفنا محمد في الآخرة؟ ا هـ.
والمناسب أن يكون قولهم هذا عندما سمعوا آية سورة الواقعة لا آية سورة الدخان وقد جاءت فيها نكرة.
وإما أن يكون اسماً لشجر معروف هو مذموم، قيل: هو شجر من أخبث الشجر يكون بتهامة وبالبلاد المجدبة المجاورة للصحراء كريهة الرائحة صغيرة الورق مسمومة ذات لبن إذا أصاب جلد الإنسان تورم ومات منه في الغالب، قاله قطرب وأبو حنيفة. 23/122
4_ [فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ (102)].
والحليم: الموصوف بالحلم وهو اسم يجمع أصالة الرأي، ومكارم الأخلاق، والرحمة بالمخلوق.
قيل: ما نعت الله الأنبياء بأقل مما نعتهم بالحلم.
وهذا الغلام الذي بشر به إبراهيم هو إسماعيل ابنه البكر، وهذا غير الغلام الذي بشره به الملائكة الذين أرسلوا إلى قوم لوط في قوله _تعالى_: [قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ] فذلك وُصف بأنه (عليم) وهذا وصف بـ(حليم).
__________
(1) _ الشراشر: الأثقال، الواحدة شرشره، يقال: ألقى عليه شراشره؛ حرصاً ومحبةً. ومعناها في السياق الماضي: أقبل عليه بكليَّته؛ رغبةً ومحبةً وحرصاً. (م)(1/163)
وأيضاً ذلك كانت البشارة به بمحضر سارة أمه وقد جعلت هي المبشرة في قوله _تعالى_: [فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً].
فتلك بشارة كرامة والأولى بشارة استجابة دعائه، فلما ولد له إسماعيل تحقق أمل إبراهيم أن يكون له وارث من صلبه.
فالبشارة بإسماعيل لما كانت عقب دعاء إبراهيم أن يهب الله له من الصالحين عُطفت هنا بفاء التعقيب، وبشارته بإسحاق ذكرت في هذه السورة معطوفاً بالواو عطف القصة على القصة. 23/149
5_ والفاء في [فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ] فصيحة؛ لأنها مفصحة عن مقدر، تقديره: فولد له، ويفع، وبلغ السعي، فلما بلغ السعي قال يا بني الخ، أي بلغ أن يسعى مع أبيه، أي بلغ سن من يمشي مع إبراهيم في شؤونه. 23/149_150
6_ وأمر الله إبراهيم بذبح ولده أمرُ ابتلاء.
وليس المقصود به التشريع؛ إذ لو كان تشريعاً لما نسخ قبل العمل به؛ لأن ذلك يفيت الحكمة من التشريع بخلاف أمر الابتلاء.
والمقصود من هذا الابتلاء إظهار عزمه وإثبات علو مرتبته في طاعة ربه؛ فإن الولد عزيز على نفس الوالد، والولد الوحيد الذي هو أمل الوالد في مستقبله أشد عزة على نفسه لا محالة، وقد علمتَ أنه سأل ولداً ليرثه نَسْلُه ولا يرثه مواليه؛ فبعد أن أقر الله عينه بإجابة سؤله وترعرع ولده أمره بأن يذبحه، فينعدم نسله، ويخيب أمله ويزول أنسه، ويتولى بيده إعدام أحب النفوس إليه، وذلك أعظم الابتلاء، فقابل أمر ربه بالامتثال، وحصلت حكمة الله من ابتلائه، وهذا معنى قوله _تعالى_: [إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ].(1/164)
وإنما برز هذا الابتلاء في صورة الوحي المنامي؛ إكراماً لإبراهيم عن أن يُزْعَجَ بالأمر بذبح ولده بوحي في اليقظة؛ لأن رؤى المنام يعقبها تعبيرها؛ إذ قد تكون مشتملة على رموز خفية وفي ذلك تأنيس لنفسه لتلقي هذا التكليف الشاق عليه وهو ذبح ابنه الوحيد.
والفاء في قوله: [فَانظُرْ مَاذَا تَرَى] فاء تفريع، أو هي فاء الفصيحة، أي إذا علمت هذا فانظر ماذا ترى.
والنظر هنا نظر العقل، لا نظر البصر، فحقه أن يتعدى إلى مفعولين، ولكن علّقه الاستفهام عن العمل.
والمعنى: تأمل في الذي تقابل به هذا الأمر، وذلك لأن الأمر لما تعلق بذات الغلام كان للغلام حظ في الامتثال، وكان عرض إبراهيم هذا على ابنه عرض اختبار لمقدار طواعيته بإجابة أمر الله في ذاته؛ لتحصل له بالرضى والامتثال مرتبة بذل نفسه في إرضاء الله وهو لا يرجو من ابنه إلا القبول؛ لأنه أعلم بصلاح ابنه، وليس إبراهيم مأمور بذبح ابنه جبراً، بل الأمر بالذبح تعلق بمأمورين: أحدهما بتلقي الوحي، والآخر بتبليغ الرسول إليه؛ فلو قدر عصيانه لكان حاله في ذلك حال ابن نوح الذي أبى أن يركب السفينة لما دعاه أبوه فاعتبر كافراً. 23/150_151
7_ [وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)].
هذه بشارة أخرى لإبراهيم ومكرمة له، وهي غير البشارة بالغلام الحليم، فإسحاق غير الغلام الحليم.
وهذه البشارة هي التي ذكرت في القرآن في قوله _تعالى_: [فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ].
وتسمية المبشر به إسحاق تحتمل أنَّ اللهَ عَيَّنَ له اسماً يسميه به وهو مقتضى ما في الإصحاح السابع عشر من التكوين: =سارة امرأتك تلد ابناً وتدعو اسمه إسحاق+.(1/165)
وتحتمل أن المراد: بشرناه بولد الذي سمي إسحاق، وهو على الاحتمالين إشارة إلى أن الغلام المبشر به في الآية قبل هذه ليس هو الذي اسمه إسحاق؛ فتعين أنه الذي سمي إسماعيل.
ومعنى البشارة به البشارة بولادته له، لأن البشارة لا تتعلق بالذوات، بل تتعلق بالمعاني. 23/161
8_ وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيب لا يجري أمرهما على العرق والعُنْصر؛ فقد يلد البر الفاجر، والفاجر البر، وعلى أن فساد الأعقاب لا يعد غضاضة على الآباء، وأن مناط الفضل هو خصال الذات وما اكتسب المرء من الصالحات، وأما كرامة الآباء فتكملة للكمال وباعث على الاتساع بفضائل الخلال، فكان في هذه التكملة إبطال غرور المشركين بأنهم من ذرية إبراهيم، وإنها مزية لكن لا يعادلها الدخول في الإسلام، وأنهم الأولى بالمسجد الحرام. 23/162
9_ وإلياس هو (إيلياء) من أنبياء بني إسرائيل التابعين لشريعة التوراة، وأطلق عليه وصف الرسول لأنه أمر من جانب الله _تعالى_ بتبليغ ملوك إسرائيل أن الله غضب عليهم من أجل عبادة الأصنام؛ فإطلاق وصف الرسول عليه مثل إطلاقه على الرسل إلى أهل أنطاكية المذكورين في سورة يس. 23/166
10_ و(بعل) اسم صنم الكنعانيين، وهو أعظم أصنامهم؛ لأن كلمة بعل في لغتهم تدل على معنى الذكورة.
ثم دلت على معنى السيادة، فلفظ البعل يطلق على الذكر، وهو عندهم رمز على الشمس ويقابله كلمة (تانيت) بمثناتين، أي الأنثى وكانت لهم صنمة تسمى عند الفنيقيين بقرطاجنة (تانيت) وهي عندهم رمز القمر وعند فنيقيي أرض فنيقية الوطن الأصلي للكنعانيين تسمى هذه الصنمة (العشتاروث).(1/166)
وقد أطلق على بعل في زمن موسى _ عليه السلام _ اسم (مولك) _أيضاً_ وقد مثلوه بصورة إنسان له رأس عجل، وله قرنان، وعليه إكليل، وهو جالس على كرسيٍّ ماداً يديه كمن يتناول شيئاً، وكانت صورته من نحاس، وداخلها مجوف وقد وضعوها على قاعدة من بناء كالتنور، فكانوا يوقدون النار في ذلك التنور حتى يحمى النحاس، ويأتون بالقرابين، فيضعونها على ذراعيه، فتحترق بالحرارة، فيحسبون _لجهلهم_ الصنمَ تَقَبَّلَها، وأكلها من يديه.
وكانوا يقربون له أطفالاً من أطفال ملوكهم وعظماء ملتهم، وقد عبده بنو إسرائيل غير مرة تبعاً للكنعانيين، والعمونيين، والمؤبيين وكان لبعل من السدنة في بلاد السامرة، أو مدينة صرفة أربعمائة وخمسون سادناً.
وتوجد صورة بعل في دار الآثار بقصر اللوفر في باريس منقوشة على وجه حجارة صوروه بصورة إنسان على رأسه خوذة بها قرنان، وبيده مقرعة.
ولعلها صورته عند بعض الأمم التي عبدته ولا توجد له صورة في آثار قرطاجنة الفنيقية بتونس. 23/166_167
11_ وسنة الاقتراع في أسفار البحر كانت متبعة عند الأقدمين إذا ثقلت السفينة بوفرة الراكبين أو كثرة المتاع.
وفيها قصة الحيلة التي ذكرها الصفدي في شرح الطغرائية(1): أن بعض الأصحاب يدَّعي أن مركباً فيه مسلمون وكفار أشرف على الغرق وأرادوا أن يرموا بعضهم إلى البحر، ليخف المركب، فينجو بعضهم، ويسلم المركب فقالوا: نقترع فمن وقعت القرعة عليه ألقيناه، فنظر رئيس المركب إليهم وهم جالسون على هذه الصورة فقال ليس هذا حكماً مرضياً وإنما نعد الجماعة؛ فمن كان تاسعاً ألقيناه، فارتضوا بذلك، فلم يزل يعدهم، ويلقي التاسع فالتاسع إلى أن ألقى الكفار وسلم المسلمون.
__________
(1) _ قصيدة الطُّغرائي اللامية المسماة لامية العجم. انظر شرح البيت:
إن العُلا حدثتني وهي صادقة ... فيما تحدث أن العز في النقل(1/167)
وهذه صورة ذلك، وصوَّر دائرة فيها علامات حمر وعلامات سود؛ فالحمر للمسلمين ومنهم ابتداء العد وهو إلى جهة الشمال، قال: ولقد ذكرتها لنور الدين علي بن إسماعيل الصفدي؛ فأعجبته وقال: كيف أصنع بحفظ هذا الترتيب فقلت له: الضابط في هذا البيت تجعل حروفه المعجمة للكفار والمهملة للمسلمين وهو:
الله يقضي بكل يسر ... ويرزق الضيف حيث كانا
وكانت القرعة طريقاً من طرق القضاء عند التباس الحق أو عند استواء عدد في استحقاق شيء.
وقد تقدم في سورة آل عمران عند قوله: [وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ].
وهي طريقة إقناعية كان البشر يصيرون إليها؛ لفصل التنازع يزعمون أنها دالة على إرادة الله _تعالى_ عند الأمم المتدينة، أو إرادة الأصنام عند الأمم التي تعبد الأصنام تمييز صاحب الحق عند التنازع.
ولعلها من مخترعات الكهنة وسدنة الأصنام؛ فلما شاعت في البشر أقرتها الشرائع لما فيها من قطع الخصام والقتال.
ولكن الشرائع الحق لما أقرتها اقتصدت في استعمالها بحيث لا يصار إليها إلا عند التساوي في الحق، وفقدان المرجح، الذي هو مؤثر في نوع ما يختلفون فيه، فهي من بقايا الأوهام.
وقد اقتصرت الشريعة الإسلامية في اعتبارها على أقل ما تعتبر فيه، مثل تعيين أحد الأقسام المتساوية لأحد المتقاسمين إذ تشاحوا في أحدها، قال ابن رشد في المقدمات والقرعة إنما جعلت تطييباً لأنفس المتقاسمين، وأصلها قائم في كتاب الله لقوله _تعالى_ في قصة يونس: [فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ].
وعندي: أن ليس في الآية دليل على مشروعية القرعة في الفصل بين المتساويين، لأنها لم تَحْكِ شرعاً صحيحاً كان قبل الإسلام؛ إذ لا يعرف دين أهل السفينة الذين أجروا الاستهام على يونس، على أن ما أجري الاستهام عليه قد أجمع المسلمون على أنه لا يجري في مثله استهام، فلو صح أن ذلك كان شرعاً لمن قبلنا فقد نسخه إجماع علماء أمتنا.(1/168)
قال ابن العربي: الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر لا يجوز فكيف المسلم فإنه لا يجوز فيمن كان عاصياً أن يُقْتَلَ، ولا أن يُرْمَى به في النار والبحر، وإنما تُجْرَى عليه الحدود والتعزير على مقدار جنايته.
وظن بعض الناس أن البحر إذا هال على القوم فاضطروا إلى تخفيف السفينة أن القرعة تضرب عليهم، فيطرح بعضهم تخفيفاً، وهذا فاسد فلا تخفف برمي بعض الرجال وإنما ذلك في الأموال وإنما يصبرون على قضاء الله.
وكانت في شريعة من قبلنا القرعة جائزة في كل شيء على العموم.
وجاءت القرعة في شرعنا على الخصوص في ثلاثة مواطن: الأول: كان النبي"إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه؛ فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه.
الثاني: أن النبي"رفع إليه أن رجلاً أعتق في مرض موته ستة أعبد لا مال له غيرهم فأقرع بين اثنين (وهما معادل الثلث) وأرق أربعة.
الثالث: أن رجلين اختصما إليه في مواريث درست، فقال: =اذهبا، وتوخيا الحق واسْتَهِمَا وليحللْ كلُّ واحد منكما صاحبه+. 23/173_175
12_ فحرف (أو) في قوله: [أَوْ يَزِيدُونَ] بمعنى (بل) على قول الكوفيين واختيار الفراء وأبي علي الفارسي وابن جني وابن برهان(1).
واستشهدوا بقول جرير:
ماذا ترى في عيال قد برمت بهم ... لم أحص عدتهم إلا بعداد
كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية ... لولا رجاؤك قد قتلت أولادي
والبصريون لا يجيزون ذلك إلا بشرطين أن يتقدمها نفي أو نهي، وأن يعاد العامل، وتأولوا هذه الآية بأن (أو) للتخيير، والمعنى إذا رآهم الرائي تخير بين أن يقول: هم مائة ألف، أو يقول: يزيدون.
ويرجحه أن المعطوف بـ(أو) غير مفرد بل هو كلام مبين ناسب أن يكون الحرف للإضراب. 23/179_180
__________
(1) _ بفتح الباء الموحدة ممنوعاً من الصرف هو سعيد بن المبارك البغدادي ولد سنة 469 وتوفي سنة 559.(1/169)
1_ سميت في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة والآثار عن السلف (سورة صاد) كما ينطق باسم حرف الصاد تسمية لها بأول كلمة منها هي صاد، _بصاد فألف فدال ساكنة سكون وقف_ شأن حروف التهجي عند التهجي بها أن تكون موقوفة، أي ساكنة الأعجاز.
وأما قول المعري يذكر سليمان _عليه السلام_:
وهو من سُخِّرت له الإنس والجـ ... ـن بما صح من شهادة صاد
فإنما هي كسرة القافية الساكنة تغير إلى الكسرة؛ لأن الكسر أصل في التخلص من السكون كقول امرئ القيس:
عقرتَ بعيري يا امرأ القيس فانزل
وفي الإتقان عن كتاب جمال القراء للسخاوي: أن سورة (ص) تسمى _أيضاً_ سورة (داود) ولم يُذْكَر سنده في ذلك.
وكُتِبَ اسمُها في المصاحف بصورة حرف الصاد مثل سائر الحروف المقطعة في أوائل السور؛ اتباعاً لما كُتب في الصحف.
وهي مكية في قول الجميع، وذكر في الإتقان أن الجعبري حكى قولاً بأنها مدنية قال السيوطي: وهو خلاف حكاية جماعةٍ الإجماعَ على أنها مكية.
وعن الداني في كتاب العدد بأنها مدنية وقال: إنه ليس بصحيح.
وهي السورة الثامنة والثلاثون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة: [اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ] وقبل سورة الأعراف.
وعُدَّت آيها ستاً وثمانين عند أهل الحجاز والشام والبصرة وعدها أيوب ابن المتوكل البصري خمساً وثمانين.
وعُدَّت عند أهل الكوفة ثماناً وثمانين. 23/201_202
2_ أغراضها: أصلُها ما عَلِمتَ من حديث الترمذي في سبب نزولها، وما اتصل به من توبيخ المشركين على تكذيبهم الرسول"وتَكَبُّرِهم عن قبول ما أرسل به، وتهديدِهم بمثل ما حلَّ بالأمم المكذبة قبلهم, وأنهم إنما كذبوه لأنه جاء بتوحيد الله _تعالى_ ولأنه اخْتُصَّ بالرسالة من دونهم, وتسلية الرسول"عن تكذيبهم وأن يقتدي بالرسل من قبله داود وأيوب وغيرهم, وما جُوْزوا عن صبرهم، واستطرادِ الثناء على داود وسليمان وأيوب، وأَتْبَعَ ذكر أنبياء آخرين؛ لمناسبة سنذكرها.(1/170)
وإثباتُ البعثِ؛ لحكمة جزاء العاملين بأعمالهم من خير وشر.
وجزاءُ المؤمنين المتقين, وضدُّه مِنْ جزاء الطاغين والذين أضلوهم, وقبَّحوا لهم الإسلامَ والمسلمين، ووصفُ أحوالِهم يوم القيامة.
وذكرُ أولِ غواية حصلت، وأصلِ كلِّ ضلالةٍ وهي غوايةُ الشيطان في قصة السجود لآدم.
وقد جاءت فاتحتُها مناسبةً لجميع أغراضها؛ إذ ابْتُدِئَتْ بالقسم بالقرآن الذي كذَّب به المشركون، وجاء المُقْسَمُ عليه أن الذين كفروا في عزة وشقاق, وكل ما ذكر فيها من أحوال المكذبين سَبَبُهُ اعتزازُهم وشقاقُهم، ومن أحوال المؤمنين سببه ضدُّ ذلك، مع ما في الافتتاح بالقسم من التشويق إلى ما بعده؛ فكانت فاتحتُها مستكملةً خصائصَ حُسْنِ الابتداء. 23/203
3_ وفي تذييل كلامه بقوله: [وَقَلِيلٌ مَا هُمْ] حث لهما أن يكونا من الصالحين؛ لما هو متقرر في النفوس من نفاسة كل شيء قليل، قال _تعالى_: [قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ].
والسبب في ذلك من جانب الحكمة أن الدواعي إلى لذات الدنيا كثيرة، والمشي مع الهوى محبوب ومجاهدة النفس عزيزة الوقوع؛ فالإنسان محفوف بجواذب السيئات، وأما دواعي الحق والكمال فهو الدين والحكمة، وفي أسباب الكمال إعراض عن محركات الشهوات، وهو إعراض عسير لا يسلكه إلا من سما بدينه وهمته إلى الشرف النفساني، وأعرض عن الداعي الشهواني، فذلك هو العلة في هذا الحكم بالقلة. 23/236_237
4_ وليس في قول الخصمين: [هَذَا أَخِي] ولا في فرضهما الخصومة التي هي غير واقعة ارتكابُ الكذب؛ لأن هذا من الأخبار المخالفة للواقع التي لا يريد المُخْبِر بها أن يظن المخبَر (بالفتح) وقوعَها إلا ريثما يحل الغرض من العبرة بها ثم ينكشف له باطنها فيعلم أنها لم تقع.
وما يجري في خلالها من الأوصاف والنسب غير الواقع فإنما هو على سبيل الفرض والتقدير، وعلى نية المشابهة.(1/171)
وفي هذا دليل شرعي على جواز وضع القصص التمثيلية التي يقصد منها التربية والموعظة، ولا يحتمل واضعها جرحة الكذب خلافاً للذين نبزوا الحريري بالكذب في وضع المقامات كما أشار هو إليه في ديباجتها.
وفيها دليل شرعي لجواز تمثيل تلك القصص بالأجسام والذوات إذا لم تخالف الشريعة، ومنه تمثيل الروايات والقصص في ديار التمثيل؛ فإن ما يجري في شرع من قبلنا يصلح دليلاً لنا في شرعنا إذا حكاه القرآنُ، أو سنةُ النبي"ولم يرد في شرعنا ما ينسخه.
وأخذ من الآية مشروعية القضاء في المسجد، قالوا: وليس في القرآن ما يدل على ذلك سوى هذه الآية بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكاه الكتاب أو السنة. 23/238
5_ ومعنى الهوى: المحبة، وأطلق على الشيء المحبوب مبالغة، أي ولو كان هوى شديداً تَعْلَقُ النفس به.
والهوى: كناية عن الباطل، والجور، والظلم؛ لما هو متعارف من الملازمة بين هذه الأمور وبين هوى النفوس؛ فإن العدل والإنصاف ثقيل على النفوس؛ فلا تهواه غالباً، ومن صارت له محبة الحقِّ سجية فقد أوتي العلم والحكمة، وأُيِّد بالحفظ أو العصمة.
والنهي عن اتباع الهوى تحذير له وإيقاظ؛ ليحذر من جراء الهوى ويتّهم هوى نفسه، ويتعقبه؛ فلا ينقاد إليه فيما يدعوه إليه إلا بعد التأمل والتثبت، وقد قال سهل بن حنيف ÷: =اتهموا الرأي+.(1/172)
ذلك أن هوى النفس يكون في الأمور السهلة عليها الرائقة عندها، ومعظم الكمالات صعبة على النفس؛ لأنها ترجع إلى تهذيب النفس، والارتقاء بها عن حضيض الحيوانية إلى أوج المَلَكِية، ففي جميعها أو معظمها صرفٌ للنفس عما لاصَقَها من الرغائب الجسمانية الراجع أكثرها إلى طبع الحيوانية؛ لأنها إما مدعوةٌ لداعي الشهوة، أو داعي الغضب؛ فالاسترسال في اتباعها وقوعٌ في الرذائل في الغالب؛ ولهذا جُعل هنا الضلال عن سبيل الله مُسَبَّباً على اتباع الهوى، وهو تَسَبُّبٌ أغلبي عرفي؛ فشبَّه الهوى بسائرٍ في طريق مهلكة على طريقة المكنية، ورمز إليه بلازم ذلك، وهو الإضلال عن طريق الرشاد المعبر عنه بسبيل الله؛ فإن الذي يتبع سائراً غيرَ عارفٍ بطريق المنازل النافعة لا يلبث أن يجدَ نفسَه وإياه في مهلكة، أو مقطعة طريق. 23/244
6_ وقد بدت من إبليس نزعة كانت كامنة في جِبِلَّتِه وهي نزعة الكبر والعصيان، ولم تكن تظهر منه قبل ذلك؛ لأن الملأ الذي كان معهم كانوا على أكمل حسن الخلطة، فلم يكن منهم مثيرٌ لما سكن في نفسه من طبع الكبر والعصيان.
فلما طرأ على ذلك الملأ مخلوق جديد، وأُمر أهل الملأ الأعلى بتعظيمه كان ذلك مورياً زناد الكبر في نفس إبليس، فنشأ عنه الكفر بالله، وعصيان أمره.
وهذا ناموس خُلُقي جعله الله مبدأ لهذا العالم قبل تعميره، وهو أن تكون الحوادث والمضائق معيار الأخلاق والفضيلة، فلا يحكم على نفس بتزكية أو ضدها إلا بعد تجربتها وملاحظة تصرفاتها عند حلول الحوادث بها.
وقد مُدح رجل عند عمر بن الخطاب بالخير، فقال عمر: هل أريتموه الأبيض والأصفر? يعني الدراهم والدنانير، وقال الشاعر:
لا تمدحن امرءاً حتى تجربه ... ولا تذمنه من قبل تجريب
إن الرجال صناديق مقفلة ... وما مفاتيحها غير التجاريب
23/301_302
1_ سميت (سورة الزمر) من عهد النبي"، فقد روى الترمذي عن عائشة قالت: =كان النبي"لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل+.(1/173)
وإنما سميت سورة الزمر لوقوع هذا اللفظ فيها دون غيرها من سور القرآن.
وفي تفسير القرطبي عن وهب بن منبه أنه سماها (سورة الغرف) وتناقله المفسرون.
ووجهه أنها ذكر فيها لفظ الغرف، أي بهذه الصيغة دون الغرفات، في قوله _تعالى_: [لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ] الآيةَ.
وهي مكية كلها عند الجمهور، وعن ابن عباس أن قوله _تعالى_: [قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ] الآيات الثلاث.
وقيل: إلى سبع آيات نزلت بالمدينة في قصة وحشيّ قاتل حمزة، وسنده ضعيف، وقصته عليها مخائل القصص.
وعن عمر بن الخطاب أن تلك الآيات نزلت بالمدينة في هشام بن العاصي ابن وائل؛ إذ تأخر عن الهجرة إلى المدينة بعد أن استعد لها.
وفي رواية: أن معه عياشَ بنَ أبي ربيعة وكانا تواعدا على الهجرة إلى المدينة ففُتِنا، فافتتنا.
والأصح أنها نزلت في المشركين _كما سيأتي عند تفسيرها_ وما نشأ القول بأنها مدنية إلا لما روي فيها من القصص الضعيفة.
وقيل: نزل _أيضاً_ قوله _تعالى_: [قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ] الآية بالمدينة.
وعن ابن عباس أن قوله _تعالى_: [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً] الآية، نزل بالمدينة.
فبلغت الآيات المختلف فيها تسع آيات.
والمتجه: أنها كلَّها مكيةٌ، وأن ما يخيل أنه نزل في قصص معينة إن صحت أسانيده أن يكون وقع التمثل به في تلك القصص؛ فاشتبه على بعض الرواة بأنه سبب نزول.
وسيأتي عند قوله _تعالى_: [وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ] أنها نزلت قبيل هجرة المؤمنين إلى الحبشة، أي في سنة خمس قبل الهجرة.
وهي السورة التاسعة والخمسون في ترتيب النزول على المختار، نزلت بعد سورة سبأ وقبل سورة غافر.
وعدت آياتها عند المدنيين والمكيين والبصريين اثنتين وسبعين، وعند أهل الشام ثلاثاً وسبعين، وعند أهل الكوفة خمساً وسبعين. 23/311_312(1/174)
2_ أغراضها: ابتُدِئَتْ هذه السورة بما هو كالمقدمة للمقصود، وذلك بالتنويه بشأن القرآن تنويهاً تكرر في ستة مواضع(1)من هذه السورة؛ لأن القرآن جامع لأغراضها.
وأغراضُها كثيرةٌ تحوم حولَ إثباتِ تفرد الله بالإلهية, وإبطالِ الشرك فيها.
وإبطالِ تَعَلُّلات المشركين لإشراكهم وأكاذيبهم.
ونفيِ ضَرْبٍ من ضروب الإشراك وهو زعمهم أن لله ولداً.
والاستدلالِ على وحدانية الله في الإلهية بدلائلِ تَفَرُّدِهِ بإيجاد العوالم العلوية والسفلية، وبتدبيرِ نظامها وما تحتوي عليه مما لا ينكر المشركون انفراده به.
والخلقِ العجيبِ في أطوار تكوُّنِ الإنسان والحيوان.
والاستدلالِ عليهم بدليل من فعلهم وهو التجاؤهم إلى الله عندما يصيبهم الضُّر.
والدعوةِ إلى التدبر فيما يُلْقى إليهم من القرآن الذي هو أحسن القول.
وتنبيههِم على كفرانِهم شُكْرَ النَّعْمَةِ.
والمقابلةِ بين حالهم وبين حال المؤمنين المخلصين لله.
وأن دينَ التوحيدِ هو الذي جاءت به الرسلُ مِنْ قَبْل.
والتحذيرُ من أن يَحِلَّ بالمشركين ما حَلَّ بأهل الشرك من الأمم الماضية.
وإعلامُ المشركين بأنهم وشركاءهم لا يُعْبَأُ بهم عند الله وعند رسوله"فالله غنيٌّ عن عبادتهم، ورسولُه لا يخشاهم ولا يخاف أصنامَهم؛ لأن اللهَ كفاه إياهم جميعاً.
وإثباتُ البعثِ والجزاء؛ لِتُجْزَى كلُّ نفس بما كسبت.
وتمثيلُ البعث بإحياء الأرض بعد موتها.
__________
(1) _ هي قوله: [تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ] الآيتين وقوله: [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ] الآيه, وقوله: [وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ] الآيتين, وقوله: [إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ] الآية, وقوله: [وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ] الآية, وقوله:[بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي] الآية.(1/175)
وَضَربَ لهم مَثَلَهُ بالنوم والإفاقةَ بعده, وأنه يوم الفصل بين المؤمنين والمشركين.
وتمثيلُ حالِ المؤمنين وحال المشركين في الحياتين: الحياةِ الدنيا والحياةِ الآخرة.
ودعاءُ المشركين للإقلاع عن الإسراف على أنفسهم، ودعاءُ المؤمنين للثبات على التقوى, ومفارقة دار الكفر, وخُتِمَت بوصفِ حال يوم الحساب.
وتخلل ذلك كلَّه وعيدٌ ووعدٌ،وأمثالٌ، وترهيبٌ وترغيبٌ، ووعظٌ, وإيماءٌ بقوله: [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ] الآية إلى أن شأن المؤمنين أنهم أهل علم, وأن المشركين أهل جهالة، وذلك تنويه برفعة العلم ومَذَمَّةِ الجهل. 23/312_313
3_ والإخلاص: الإمحاض، وعدم الشوب بمغاير، وهو يشمل الإفراد. وسميت السورة التي فيها توحيد الله سورة الإخلاص، أي إفراد الله بالإلهية. وأوثر الإخلاص هنا لإفادة التوحيد، وأخصُّ منه وهو أن تكون عبادة النبي"ربه غير مشوبة بحظ دنيوي كما قال _تعالى_: [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ]. 23/316
4_ والإخلاص في العبادة: أن يكون الداعي إلى الإتيان بالمأمور وإلى ترك المنهي إرضاء الله _تعالى_ وهو معنى قولهم: لوجه الله، أي لقصد الامتثال بحيث لا يكون الحظ الدنيوي هو الباعث على العبادة مثل أن يعبد الله؛ ليمدحه الناس بحيث لو تعطل المدح لترك العبادة.
ولذا قيل: الرياء: الشرك الأصغر، أي إذا كان هو الباعث على العمل.
ومثل ذلك أن يقاتل لأجل الغنيمة؛ فلو أيس منها ترك القتال، فأما إن كان للنفس حظ عاجل وكان حاصلاً تبعاً للعبادة وليس هو المقصود فهو مغتفر وخاصة إذا كان ذلك لا تخلو عنه النفوس، أو كان مما يُعين على الاستزادة من العبادة. 23/318
5_ وقال مالك: =إذا كان أول ذلك وأصلُه لله فلا بأس به إن شاء الله، قال الله _تعالى_: [وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي] وقال: [وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ].(1/176)
قال مالك: وإنما هذا شيء يكون في القلب لا يُملك وذلك من وسوسة الشيطان؛ ليمنعه من العمل فمن وجد ذلك فلا يُكْسِلْه عن التمادي على فعل الخير ولا يؤيسه من الأجر، وليدفع الشيطان عن نفسه ما استطاع _أي إذا أراد تثبيطه عن العمل_ ويجدد النية؛ فإن هذا غير مؤاخذ به إن شاء الله+ ا هـ. 23/319
6_ وأقول: إن القصد إلى العبادة ليتقرب إلى الله؛ فيسأله ما فيه صلاحه في الدنيا _أيضا_ لا ضير فيه، لأن تلك العبادة جعلت وسيلة للدعاء ونحوه وكل ذلك تقرب إلى الله _تعالى_ وقد شرعت صلوات لكشف الضر، وقضاء الحوائج مثل صلاة الاستخارة وصلاة الضرِّ والحاجة.
ومن المغتفر _أيضاً_ أن يقصد العامل من عمله أن يدعوَ له المسلمون، ويذكروه بخير.
وفي هذا المعنى قال عبدالله بن رواحة÷ حين خروجه إلى غزوة مؤتة ودعا له المسلمون حين ودّعوه ولمن معه بأن يردهم الله سالمين:
لكنني أسأل الرحمان مغفرةً ... وضربةً ذاتَ فرع يقذف الزبدا
أو طعنة من يدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... أرشدك الله من غازٍ وقد رشدا
وقد علمت من تقييدنا الحظ بأنه حظ دنيوي أن رجاء الثواب واتقاء العقاب هو داخل في معنى الإخلاص؛ لأنه راجع إلى التقرب لرضى الله _تعالى_. 23/319_320
7_ وينبغي أن تعلم أن فضيلة الإخلاص في العبادة هي قضية أخص من قضية صحة العبادة وإجزائها في ذاتها؛ إذ قد تعرُو العبادة عن فضيلة الإخلاص، وهي مع ذلك صحيحة مجزئة، فللإخلاص أثر في تحصيل ثواب العمل، وزيادته، ولا علاقة له بصحة العمل. 23/320
8_ [يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ] بدل من جملة: [خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ].
وضمير المخاطبين هنا راجع إلى الناس لا غير، وهو استدلال بتطور خلق الإنسان على عظيم قدرة الله، وحكمته، ودقائق صنعه.(1/177)
والتعبير بصيغة المضارع لإفادة تجدد الخلق، وتكرره مع استحضار صورة هذا التطور العجيب استحضاراً بالوجه والإجمال الحاصل للأذهان على حسب اختلاف مراتب إدراكها، ويعلم تفصيلَه علماءُ الطب والعلوم الطبيعية، وقد بينه الحديث عن النبي": =إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يُرسل إليه الملَك فينفخُ فيه الروح+.
وقوله: [خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ] أي طوراً من الخلق بعد طور آخر يخالفه.
وهذه الأطوار عشرة: الأول: طورُ النطفة، وهي جسم مُخاطي مستدير أبيض خال من الأعضاء يشبه دودة، طوله نحو خمسة مليمتر.
الثاني: طورُ العلقة، وهي تتكون بعد ثلاثة وثلاثين يوماً من وقت استقرار النطفة في الرحم، وهي في حجم النملة الكبيرة طولها نحو ثلاثة عشر مليمتراً يلوح فيها الرأسُ، وتخطيطاتٌ من صور الأعضاء.
الثالث: طور المضغة وهي قطعةٌ حمراء في حجم النحلة.
الرابع: عند استكمال شهرين يصير طولُه ثلاثةَ سنتيمتر، وحجمُ رأسِه بمقدار نصف بقيته، ولا يتميز عُنُقُه، ولا وجهه، ويستمر احمرارُه.
الخامس: في الشهر الثالث يكون طوله خمسة عشر سنتيمتراً، ووزنه مائة غرام، ويبدو رسمُ جبهته وأنفه وحواجبه وأظافره، ويستمر احمرارُ جلدِه.
السادس: في الشهر الرابع يصير طوله عشرين سنتيمتراً، ووزنه 240 غرامات، ويظهر في الرأس زَغَبٌ، وتزيد أعضاؤه البطْنية على أعضائه الصدْرية، وتتضح أظافره في أواخر ذلك الشهر.
السابع: في الشهر السادس يصير طوله نحو ثلاثين سنتيمتراً، ووزنه خمسمائة غرام، ويظهر فيه مطبقاً، وتتصلب أظافره.
الثامن: في الشهر السابع يصير طوله ثمانية وثلاثين سنتيمتراً، ويقل احمراراً جِلْدُهُ ويتكاثف جلده، وتظهر على الجلد مادة دهنية دسمة ملتصقة، ويطول شعر رأسه، ويميل إلى الشقرة، وتتقبب جمجمته من الوسط.(1/178)
التاسع: في الشهر الثامن يزيد غلظه أكثر من ازدياد طوله، ويكون طوله نحو أربعين سنتيمتراً، ووزنه نحو أربعة أرطال أو تزيد، وتقوى حركته.
العاشر: في الشهر التاسع يصير طوله من خمسين إلى ستين سنتيمتراً ووزنه من ستة إلى ثمانية أرطال، ويتم عظمُه، ويتضخم رأسه، ويكثف شعره، وتبتدئ فيه وظائفُ الحياة في الجهاز الهضمي والرئة والقلب، ويصير نماؤه بالغذاء، وتظهر دورة الدم فيه المعروفة بالدورة الجنينية.
و(الظلمات الثلاث): ظلمة بطن الأم، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، وهي غشاء من جلد يخلق مع الجنين محيطاً به ليقيه وليكون به استقلاله مما ينجر إليه من الأغذية في دورته الدموية الخاصة به دون أمه.
وفي ذكر هذه الظلمات تنبيهٌ على إحاطة علم الله _تعالى_ بالأشياء، ونفوذ قدرته إليها في أشد ما تكون فيه من الخفاء. 23/333_334
9_ [أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ].
وشرح الصدر للإسلام استعارة لقبول العقل هديَ الإسلام ومحبته.
وحقيقة الشرح أنه: شق اللحم، ومنه سمي علم مشاهدة باطن الأسباب وتركيبه علم التشريح؛ لتوقفه على شق الجلد واللحم، والاطلاع على ما تحت ذلك.
ولما كان الإنسان إذا تحير وتردد في أمر يجد في نَفَسه عما يتأثر منه جهازه العصبي، فيظهر تأثره في انضغاط نَفَسه حتى يصير تنفسه عسيراً، ويكثر تنهده، وكان عضو التنفس في الصدر، شبه ذلك الانضغاط بالضيق والانطباق فقالوا: ضاق صدره قال _تعالى_ عن موسى: [وَيَضِيقُ صَدْرِي].
وقالوا: انطبق صدره، وانطبقت أضلاعه، وقالوا في ضد ذلك: شرح اللهُ صَدْرَهُ، وجمع بينهما قوله _تعالى_: [فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ] في سورة الأنعام.
ومنه قولهم: فلان في انشراح، أي يحس كأن صدره شُرح ووُسع.(1/179)
ومن رشاقة ألفاظ القرآن إيثار كلمة (شرح) للدلالة على قبول الإسلام؛ لأن تعاليم الإسلام وأخلاقه وآدابه تكسب المسلم فرحاً بحاله، ومسرة برضى ربه، واستخفافاً للمصائب والكوارث؛ لجزمه بأنه على حق في أمره، وأنه مثاب على ضره، وأنه راجٍ رحمةَ ربه في الدنيا والآخرة، ولعدم مخالطة الشك والحيرة ضميره.
فإن المؤمن أول ما يؤمن بأن الله واحد وأن محمداً"رسوله _ ينشرح صدره بأنه ارتفع درجاتٍ عن الحالة التي كان عليها حالة الشرك إن اجتنب عبادة أحجار هو أشرف منها، ومعظم ممتلكاته أشرف منها كفرسه، وجَمَلِه، وعَبْدِه، وأَمَتِه، وماشيته، ونخله؛ فشعر بعزة نفسه مرتفعاً عما انكشف له من مهانتها السابقة التي غسلها عنه الإسلامُ، ثم أصبح يقرأ القرآنَ وينطق عن الحكمة، ويتَّسم بمكارم الأخلاق، وأصالة الرأي، ومحبة فعل الخير؛ لوجه الله، لا للرياء والسمعة، ولا ينطوي باطنه على غل ولا حسد ولا كراهية في ذات الله وأصبح يُعد المسلمين لنفسه إخواناً، وقد ترك الاكتساب بالغارة والميسر، واستغنى بالقناعة عن الضراعة إلا إلى الله _تعالى_ وإذا مسه ضرُّ رجا زواله ولم ييأس من تغير حاله، وأيقن أنه مثاب على تحمله وصبره، وإذا مسته نعمةٌ حمد ربه وترقَّب المزيد؛ فكان صدره منشرحاً بالإسلام متلقياً الحوادث باستبصار غير هياب شجاع القلب عزيز النفس. 23/379_380
10_ ومعنى كون القرآن أحسن الحديث: أنه أفضل الأخبار؛ لأنه اشتمل على أفضل ما تشتمل عليه الأخبار من المعاني النافعة والجامعة لأصول الإيمان، والتشريع، والاستدلال، والتنبيه على عظم العوالم والكائنات، وعجائب تكوين الإنسان، والعقل، وبث الآداب، واستدعاء العقول للنظر والاستدلال الحق، ومن فصاحة ألفاظه وبلاغة معانيه البالغَيْن حد الإعجاز، ومن كونه مصدقاً لما تقدمه من كتب الله، ومهيمناً عليها.
وفي إسناد إنزاله إلى الله استشهاد على حسنه حيث نزّله العليم بنهاية محاسن الأخبار والذكر. 23/385(1/180)
11_ وقد أوصى أئمة سلفنا الصالح أن لا يُذكَر أحدٌ من أصحاب الرسول"إلا بأحسن ذكر، وبالإمساك عما شجر بينهم، وأنهم أحق الناس بأن يُلتمس لهم أحسنُ المخارج فيما جرى بين بعضهم، ويظن بهم أحسن المذاهب.
ولذلك اتفق السلف على تفسيق ابن الأشتر النخعي ومن لُفَّ لَفَّه من الثوار الذين جاءوا من مصر إلى المدينة لخلع عثمان بن عفان، واتفقوا على أن أصحاب الجمل، وأصحاب صفين كانوا متنازعين عن اجتهاد، وما دفعهم عليه إلا السعي لصلاح الإسلام، والذب عن جامعته من أن تتسرب إليها الفرقة والاختلال؛ فإنهم جميعاً قدوتنا، وواسطة تبليغ الشريعة إلينا، والطعن في بعضهم يفضي إلى مخاوف في الدين، ولذلك أثبت علماؤنا عدالة جميع أصحاب النبي". 24/11
12_ [قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)].
أُطنبت آيات الوعيد بأفنانها السابقة إطناباً يبلغ من نفوس سامعيها أيَّ مبلغ من الرعب والخوف على رغم تظاهرهم بقلة الاهتمام بها.
وقد يبلغ بهم وقعها مبلغ اليأس من سَعيٍ ينجيهم من وعيدها، فأعقبها الله ببعث الرجاء في نفوسهم؛ للخروج إلى ساحل النجاة إذا أرادوها على عادة هذا الكتاب المجيد من مداواة النفوس بمزيج الترغيب والترهيب.(1/181)
والكلام استئناف بياني؛ لأن الزواجر السابقة تثير في نفوس المواجَهين بها خاطر التساؤل عن مسالك النجاة؛ فتتلاحم فيها الخواطر الملَكية والخواطر الشيطانية إلى أن يُرسي التلاحم على انتصار إحدى الطائفتين؛ فكان في إنارة السبيل لها ما يسهل خطو الحائرين في ظلمات الشك، ويرتفق بها، ويواسيها بعد أن أثخنتها جروح التوبيخ والزجر والوعيد، ويضمد تلك الجراحة _والحليمُ يزجرُ ويلين_ وتثير في نفس النبي"خشية أن يحيط غضبُ الله بالذين دعاهم إليه فأعرضوا، أو حببهم في الحق فأبغضوا؛ فلعله لا يُفْتَح لهم باب التوبة، ولا تقبل منهم بعد إعراضهم أوبة، ولا سيما بعد أن أمره بتفويض الأمر إلى حُكْمِه،المشتَمِّ منه ترقبُ قطعِ الجدال وفصمِه، فكان أمره لرسوله "بأن يناديهم بهذه الدعوة؛ تنفيساً عليه، وتفتيحاً لباب الأوبة إليه؛ فهذا كلام ينحل إلى استئنافين فجملة (قل) استئناف لبيان ما ترقَّبَه أفضل النبيين " أي بلغ عني هذا القول. 24/39_40
1_ وردت تسمية هذه السورة في السنة (حم المؤمن).
روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله": =من قرأ حم المؤمن+ إلى [إِلَيْهِ الْمَصِيرُ] وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما+ الحديث.
وبذلك اشتهرت في مصاحف المشرق، وبذلك ترجمها البخاري في صحيحه والترمذي في الجامع.
ووجه التسمية أنها ذكرت فيها قصة مؤمن آل فرعون، ولم تذكر في سورة أخرى بوجه صريح.
والوجه في إعراب هذا الاسم حكايةُ كلمة (حم) ساكنةَ الميم بلفظها الذي يقرأ، وبإضافته إلى لفظ (المؤمن) بتقدير: سورة حم ذِكْرِ المؤمن أو (لفظ المؤمن) وتسمى _أيضاً_ سورة (الطَّوْل) لقوله _تعالى_ في أولها: [ذِي الطَّوْلِ] وقد تنوسي هذا الاسم.
وتسمى سورة غافر لذكر وصفه _تعالى_: [غَافِرِ الذَّنْبِ] في أولها.
وبهذا الاسم اشتهرت في مصاحف المغرب.(1/182)
وهي مكية بالاتفاق وعن الحسن استثناء قوله _تعالى_: [وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ] لأنه كان يرى أنها نزلت في فرض الصلوات الخمس وأوقاتها.
ويرى أن فرض صلواتٍ خمسٍ وأوقاتها ما وقع إلا في المدينة، وإنما كان المفروض بمكة ركعتين كل يوم من غير توقيت، وهو من بناء ضعيف على ضعيف؛ فإن الجمهور على أن الصلوات الخمس فرضت بمكة في أوقاتها على أنه لا يتعين أن يكون المراد بالتسبيح في تلك الآية الصلوات، بل يحمل على ظاهر لفظه من كل قول ينزه به الله _تعالى_.
وأشذُّ منه ما روي عن أبي العالية أن قوله _تعالى_: [إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ] نزلت في يهود من المدينة جادلوا النبي"في أمر الدجال، وزعموا أنه منهم.
وقد جاء في أول السورة: [مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُو] والمراد بهم: المشركون.
وهذه السورة جعلت الستين في عداد ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة الزمر وقبل سورة فصلت وهي أول سور آل حم نزولاً.
وقد كانت هذه السورة مقروءة عقب وفاة أبي طالب، أي سنة ثلاث قبل الهجرة، لما سيأتي أن أبا بكر قرأ آية: [أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ] حين آذى نفر من قريش رسول الله"حول الكعبة، وإنما اشتد أذى قريش رسول الله"بعد وفاة أبي طالب.
والسور المفتتحة بكلمة [حَم] سبع سور مرتبة في المصاحف على ترتيبها في النزول، ويدعى مجموعها (آل حم) جعلوا لها اسم (آل) لتآخيها في فواتحها.
فكأنها أسرة واحدة وكلمة (آل) تضاف إلى ذي شرف، ويقال لغير المقصود تشريفه: أهل فلان قال الكميت:
قرأنا لكم في آل حاميم آيةً ... تَأَوَّلَها منا فقيهٌ ومُعرب(1/183)
يريد قول الله _تعالى_ في سورة: [حم عسق] [قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى] على تأويل غير ابن عباس؛ فلذلك عززه بقوله: تأولها منا فقيه ومعرب. 24/75_76
2_ وأنشد أبو عبيدة أبياتاً لم يسمِّ قائلها:
حلفت بالسبع الألى قد طولت ... وبمئين بعدها قد أمِّئَت
وبثمان ثنيت وكررت ... وبالطواسين اللواتي ثلثت
وبالحواميم اللواتي سُبعت ... وبالمفصل التي قد فُصّلت
وعن أبي عبيدة والفراء أن قول العامة الحواميم ليس من كلام العرب وتبعهما أبو منصور الجواليقي.
وقد عدت آيها أربعاً وثمانين في عد أهل المدينة وأهل مكة، وخمساً وثمانين في عد أهل الشام والكوفة، واثنتين وثمانين في عد أهل البصرة. 24/77
3_ أغراض هذه السورة: تضمنت هذه السورةُ أغراضاً من أصول الدعوة إلى الإيمان؛ فابْتُدِئَتْ بما يقتضي تحديَ المعاندين في صدق القرآن كما اقتضاه الحرفان المُقطَّعان في فاتحتهما كما تقدم في أول سورة البقرة.
وأجري على اسم الله _تعالى_ من صفاته ما فيه تعريضٌ بدعوتهم إلى الإقلاع عما هم فيه؛ فكانت فاتحةُ السور مثلَ دِيباجةِ الخُطْبَةِ مشيرةً إلى الغرض من تنزيلِ هذه السورة.
وعَقَّب ذلك بأن دلائلَ تنزيلِ هذا الكتابِ من الله بَيِّنَةٌ لا يجحدها إلا الكافرون من الاعتراف بها حسداً، وأن جدالهم تَشْغِيْبٌ, وقد تكرر ذكر المجادلين في آيات الله خَمْسَ مرات في هذه السورة، وتمثيلُ حالهم بحال الأمم التي كذبت رسل الله بذكرهم إجمالاً، ثم التنبيهُ على آثار استئصالهم, وضربُ المثل بقوم فرعون.
وموعظةُ مؤمن آل فرعونَ قَوْمَهُ بمواعظَ تُشبه دعوة محمد"قومه.
والتنبيهُ على دلائل تفرد الله _تعالى_ بالإلهية إجمالاً.
وإبطالُ عبادة ما يعبدون من دون الله.
والتذكيرُ بنعم الله على الناس؛ ليِشْكُرَه الذين أعرضوا عن شكره.
والاستدلالُ على إمكان البعث.(1/184)
وإنذارُهم بما يَلْقَون مِنْ هَوْلِه, وما يترقبهم من العذاب، وتوعدهم بأن لا نصيرَ لهم يومئذ, وبأن كبراءهم يتبرؤون منهم.
وتثبيتُ الله رسولَه"بتحقيقِ نصرِ هذا الدينِ في حياته وبعد وفاته.
وتخلَّل ذلك الثناءُ على المؤمنين، وَوصفُ كرامتِهم، وثناءُ الملائكة عليهم.
ووردَ في فضلِ هذه السورةِ الحديثُ الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: =من قرأ حم المؤمن إلى [إِلَيْهِ المَصِيْر] وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح+. 24/77_78
4_ [وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً].
هذه مقالة أخرى لفرعون في مجلس آخر غير المجلس الذي حاجّه فيه موسى ولذلك عطف قوله بالواو كما أشرنا إليه فيما عطف من الأقوال السابقة آنفاً، وكما أشرنا إليه في سورة القصص، وتقدم الكلام هنالك مستوفى على نظيره معنى هذه الآية على حسب ظاهرها، وتقدم ذكر (هامان) والصرح هنالك.
وقد لاح لي هنا محمل آخر أقرب أن يكون المقصود من الآية ينتظم مع ما ذكرناه هنالك في الغاية ويخالفه في الدلالة، وذلك أن يكون فرعون أمر ببناء صرح لا لقصد الارتقاء إلى السماوات، بل ليخلُوَ بنفسه رياضة، ليستمد الوحي من الرب الذي ادعى موسى أنه أَوحَى إليه إذ قال: [إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى].
فإن الارتياض في مكان منعزل عن الناس كان من شعار الاستحياء الكهنوتي عندهم، وكان فرعون يحسب نفسه أهلاً لذلك؛ لزعمه أنه ابن الآلهة، وحامي الكهنة والهياكل.(1/185)
وإنما كان يشغله تدبير أمر المملكة؛ فكان يكِل شؤون الديانة إلى الكهنة في معابدهم، فأراد في هذه الأزمة الجدلية أن يتصدى لذلك بنفسه؛ ليكون قوله الفصل في نفي وجود إله آخر؛ تضليلاً لدهماء أمته؛ لأنه أراد التوطئة للإخبار بنفي إله آخر غير آلهتهم، فأراد أن يتولى وسائل النفي بنفسه كما كانت لليهود محاريب للخلوة للعبادة كما تقدم عند قوله _تعالى_: [فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ الْمِحْرَابِ] وقوله: [كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ] ومن اتخاذ الرهبان النصارى صوامع في أعالي الجبال؛ للخلوة للتعبد.
ووجودها عند هذه الأمم يدل على أنها موجودة عند الأمم المعاصرة لهم والسابقة عليهم. 24/145_146
5_ وكلمة: [لا جَرَمَ] بفتحتين في الأفصح من لغات ثلاث فيها، كلمة يراد بها معنى: لا يثبت، أو لابد؛ فمعنى ثبوته؛ لأن الشيء الذي لا ينقطع هو باق وكل ذلك يؤول إلى معنى حق وقد يقولون: لا ذا جرم، ولا أنَّ ذا جرم، ولا عَنَّ ذا جرم، ولا جَرَ بدون ميم ترخيماً للتخفيف.
والأظهر أن (جرم) اسم لا فعل؛ لأنه لو كان فعلاً لكان ماضياً بحسب صيغته، فيكون دخول (لا) عليه من خصائص استعمال الفعل في الدعاء.
والأكثر أن يقع بعدها (أنَّ) المفتوحة المشددة؛ فيقدر معها حرف (في) ملتزماً حذفه غالباً.
والتقدير: لا شك في أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة.
وتقدم بيان معنى (لا جرم) وأن جرم فعل أو اسم عند قوله _تعالى_: [لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ] في سورة هود. 24/154
1_ تسمى (حم السجدة) بإضافة (حم) إلى (السجدة) كما قدمناه في أول سورة المؤمن، وبذلك تُرجمت في صحيح البخاري، وفي جامع الترمذي؛ لأنها تميزت عن السور المفتتحة بحروف (حم) بأن فيها سجدةً من سجود القرآن.(1/186)
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن خليل بن مرة(1): =أن رسول الله"كان لا ينام حتى يقرأ: تبارك، وحم السجدة+(2).
وسميت في معظم مصاحف المشرق والتفاسير (سورة السجدة) وهو اختصار قولهم (حم السجدة) وليس تمييزاً لها بذات السجدة.
وسميت هذه السورة في كثير من التفاسير (سورة فصلت).
واشتهرت تسميتها في تونس والمغرب (سورة فصلت) لوقوع كلمة: [فُصِّلَتْ آيَاتُهُ] في أولها فعُرِّفت؛ بها تمييزاً لها من السور المفتتحة بحروف (حم).
كما تميزت (سورة المؤمن) باسم (سورة غافر) عن بقية السور المفتتحة بحروف (حم).
وقال الكواشي: وتسمى (سورة المصابيح) لقوله _تعالى_ فيها: [وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ] وتسمى (سورة الأقوات) لقوله _تعالى_: [وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا].
وقال الكواشي في التبصرة: تسمى (سجدة المؤمن) ووجه هذه التسمية قصد تمييزها عن سورة (الم السجدة) المسماة (سورة المضاجع) فأضافوا هذه إلى السورة التي قبلها وهي (سورة المؤمن) كما ميزوا (سورة المضاجع) باسم (سجدة لقمان) لأنها واقعة بعد (سورة لقمان).
وهي مكية بالاتفاق نزلت بعد (سورة غافر) وقبل (سورة الزخرف) وعدت الحادية والستين في ترتيب نزول السور.
وعدت آيها عند أهل المدينة وأهل مكة ثلاثاً وخمسين، وعند أهل الشام والبصرة اثنتين وخمسين، وعند أهل الكوفة أربعاً وخمسين. 24/227_228
2_ أغراضُها: التنويهُ بالقرآنِ, والإشارةُ إلى عَجْزِهم عن معارضته.
__________
(1) _ هو خليل بن مرة الضُبَعي (بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة) البصري الرقي, روى عن عطاء وقتادة, وروى عنه الليث، وابن وهب، وأحمد بن حنبل، قال البخاري: هو منكر الحديث توفي سنة ستين ومائة.
(2) _ المعروف هو حديث الترمذي عن جابر =كان رسول الله لا ينام حتى يقرأ: آلم تنزيل, وتبارك الذي بيده الملك+. ولا منافاة بين الحديثين.(1/187)
وذكرُ هَدْيِهِ، وأنه معصومٌ من أن يتطرقه الباطل، وتأييدهُ بما أُنْزِل إلى الرسل من قبل الإسلام.
وتَلقِّي المشركين له بالإعراض وصمِّ الآذان.
وإبطالُ مطاعنِ المشركين فيه, وتذكيرُهم بأن القرآنَ نزل بِلُغَتِهم؛ فلا عذر لهم أصلاً في عدم انتفاعهم بهديه.
وَزجْرُ المشركين, وتوبيخُهم على كفرهم بخالق السماوات والأرض مع بيان ما في خلقها من الدلائل على تفرده بالإلهية.
وإنذارُهم بما حلَّ بالأمم المكذبةِ من عذاب الدنيا.
ووعيدُهم بعذاب الآخرة, وشهادةُ سمعهم وأبصارهم وأجسادهم عليهم.
وتحذيرُهم من القرناء المُزَيِّنين لهم الكُفْرَ من الشياطين والناس, وأنهم سيندمون يومَ القيامة على اتباعهم في الدنيا.
وقوبل ذلك بما للموحدين من الكرامة عند الله.
وأمرُ النبيِّ"بدفعهم بالتي هي أحسن, وبالصبر على جفوتهم, وأن يستعيذ بالله من الشيطان.
وذُكِرَتْ دلائلُ تفردِ الله بخلق المخلوقات العظيمة كالشمس والقمر.
ودلائلُ إمكانِ البعث؛ وأنه واقع لا محالة, ولا يعلم وقته إلا الله _تعالى_.
وتثبيتُ النبي"والمؤمنين بتأييد الله إياهم بتنزل الملائكة بالوحي، وبالبشارة للمؤمنين.
وتخلل ذلك أمثالٌ مختلفةٌ في ابتداء خلق العوالم, وعِبَرٌ في تقلبات أهل الشرك، والتنويه بإيتاء الزكاة. 24/228_229
3_ والخوف: غم في النفس ينشأ عن ظن حصول مكروه شديد.
والحزَن: غم في النفس ينشأ عن وقوع مكروه بفوات نفع، أو حصول ضر. 24/285
4_ [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (33)].
وفي هذه الآية منزع عظيم لفضيلة علماء الدين الذين بينوا السنن، ووضحوا أحكام الشريعة واجتهدوا في التوصل إلى مراد الله _تعالى_ من دينه ومن خَلْقه. 24/289(1/188)
5_ و[الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]: هي الحسنة، وإنما صيغت بصيغة التفضيل ترغيباً في دفع السيئة بها؛ لأن ذلك يشق على النفس؛ فإن الغضب من سوء المعاملة من طباع النفس، وهو يبعث على حب الانتقام من المسيء، فلما أُمر الرسول"بأن يجازي السيئة بالحسنة أشير إلى فضل ذلك.
وقد ورد في صفة رسول الله": =ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح+.
وقد قيل: إن ذلك وصفه في التوراة.
وفرع على هذا الأمر قوله: [فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] لبيان ما في ذلك الأمر من الصلاح؛ ترويضاً على التخلق بذلك الخُلق الكريم، وهو أن تكون النفس مصدراً للإحسان.
ولما كانت الآثار الصالحة تدل على صلاح مثارها، وأَمَرَ اللهُ رسولَه"بالدفع بالتي هي أحسن _ أردفه بذكر بعض محاسنه، وهو أن يصير العدو كالصديق، وحُسنُ ذلك ظاهرٌ مقبول؛ فلا جرم أن يدل حُسنه على حسن سببه.
ولذكر المُثُل والنتائجِ عَقِبَ الإرشادِ شأنٌ ظاهرٌ في تقرير الحقائق، وخاصة التي قد لا تقبلها النفوس؛ لأنها شاقة عليها، والعداوة مكروهة، والصداقة والولاية مرغوبة؛ فلما كان الإحسان لمن أساء يدنيه من الصداقة، أو يُكسبه إياها كان ذلك من شواهد مصلحة الأمر بالدفع بالتي هي أحسن.
و(إذا) للمفاجأة، وهي كناية عن سرعة ظهور أثر الدفع بالتي هي أحسن في انقلاب العدو صديقاً.
وعدل ذكر العدو معرفاً بلام الجنس إلى ذكره باسم الموصول ليتأتى تنكير عداوة للنوعية، وهو أصل التنكير، فيصدُقُ بالعداوة القوية ودونها، كما أن ظرف (بينك وبينه) يصدُق بالبين القريب والبين البعيد، أعني ملازمةَ العداوةِ، أو طُرُوَّها.(1/189)
وهذا تركيب من أعلى طَرَف البلاغة؛ لأنه يجمع أحوال العداوات، فيعلم أن الإحسان ناجح في اقتلاع عداوة المحسَن إليه للمُحْسِنِ على تفاوت مراتب العداوة قوة وضعفاً، وتمكناً وبعداً، ويعلم أنه ينبغي أن يكون الإحسان للعدو قوياً بقدر تمكن عداوته؛ ليكون أنجع في اقتلاعها.
ومن الأقوال المشهورة: النفوس مجبولة على حبِّ من أحسن إليها.
والتشبيه في قوله: [كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] تشبيه في زوال العداوة، ومخالطة شوائب المحبة؛ فوجه الشبه هو المصافاةُ والمقاربةُ وهو معنى متفاوت الأحوال، أي مقول على جنسه بالتشكيك على اختلاف تأثر النفس بالإحسان، وتفاوت قوة العداوة قبل الإحسان، ولا يبلغ مبلغ المشبَّه به؛ إذ من النادر أن يصير العدو ولياً حميماً، فإن صاره فهو لعوارضَ غيرِ داخلةٍ تحت معنى الإسراع الذي آذنت به (إذا) الفجائية. 24/292_293
6_ [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)].
وهذا تحريض على الارتياض بهذه الخصلة بإظهار احتياجها إلى قوة عزم، وشدة مراس للصبر على ترك هوى النفس في حب الانتقام، وفي ذلك تنويه بفضلها بأنها تلازمها خصلةُ الصبر وهي في ذاتها خصلةٌ حميدة، وثوابها جزيل _كما علم من عدة آيات في القرآن_ وحسبك قوله _تعالى_: [إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ].
فالصابر مرتاض بتحميل المكاره، وتجرع الشدائد، وكظم الغيظ؛ فيهون عليه ترك الانتقام. 24/294_295
7_ [وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)].(1/190)
عطفٌ على جملة: [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا] فبعد أن أُرشد إلى ما هو عونٌ على تحصيل هذا الخلقِ المأمورِ به _ وهو دفع السيئة بالتي هي أحسن _ وبعد أن شُرِحَتْ فائدةُ العمل بها بقوله: [فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] صُرِف العِنان هنا إلى التحذير من عوائقها التي تجتمع كثرتها في حقيقة نزغ الشيطان، فأُمر بأنه إن وجد في نفسه خواطر تَصْرِفه عن ذلك، وتدعوه إلى دفع السيئة بمثلها؛ فإن ذلك نزغٌ من الشيطان دواؤه أن تستعيذ بالله منه؛ فقد ضمن الله له أن يعيذه إذا استعاذ؛ لأنه أمره بذلك، والخطاب للنبي".
وفائدة هذه الاستعاذة تجديدُ داعيةِ العصمة المركوزة في نفس النبي"لأن الاستعاذة بالله من الشيطان استمداد للعصمة وصقل لزكاء النفس مما قد يقترب منها من الكدرات.
وهذا سرٌّ من الاتصال بين النبي"وربه وقد أشار إليه قول النبي": =إنه لَيُغانَ على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة+(1).
فبذلك تسلم نفسه من أن يغشاها شيءٌ من الكُدُرات، ويلحق به في ذلك صالحو المؤمنين. 24/296
8_ والمعنى: فإن سوّل لك الشيطان أن لا تعامل أعداءك بالحسنة، وزيَّن لك الانتقام، وقال لك: كيف تحسن إلى أعداء الدين، وفي الانتقام منهم قطع كيدهم للدين؟ فلا تأخذ بنزغه، وخذْ بما أمرناكَ واستعذ بالله من أن يزلّك الشيطان؛ فإن الله لا يخفى عليه أمر أعدائك، وهو يتولى جزاءهم. 24/298
9_ [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ].
__________
(1) _ رواه مسلم وأبو داود والنسائي.(1/191)
وفي هذه الآية طرف من الإعجاز بالإخبار عن الغيب؛ إذ أخبرت بالوعد بحصول النصر له، ولدينه، وذلك بما يسَّر الله لرسوله"ولخلفائه من بعده في آفاق الدنيا والمشرق والمغرب عامة، وفي باحة العرب خاصة من الفتوح، وثباتها، وانطباع الأمم بها ما لم تتيسر أمثالُها لأحد من ملوك الأرض والقياصرة والأكاسرة على قلة المسلمين إن نسب عددهم إلى عدد الأمم التي فتحوا آفاقها بنشر دعوة الإسلام في أقطار الأرض.
والتاريخُ شاهدٌ بأن ما تهيأ للمسلمين من عجائب الانتشار والسلطان على الأمم أمرٌ خارقٌ للعادة؛ فيتبين أن دين الإسلام هو الحق، وأن المسلمين كلما تمسكوا بعرى الإسلام لقوا من نصر الله أمراً عجيباً يشهد بذلك السابق واللاحق، وقد تحداهم الله بذلك في قوله: [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ].
ثم قال: [وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ].
ولم يقفْ ظهور الإسلام عند فتح الممالك والغلب على الملوك والجبابرة، بل تجاوز ذلك إلى التغلغل في نفوس الأمم المختلفة، فَتَقَلَّدوه ديناً، وانبثت آدابه وأخلاقه فيهم، فأصلحت عوائدهم ونظمهم المدنية المختلفة التي كانوا عليها، فأصبحوا على حضارة متماثلة متناسقة، وأوجدوا حضارةً جديدةً سالمة من الرعونة، وتفشت لغةَ القرآن فتخاطبت بها الأمم المختلفة الألسن، وتعارفت بواسطتها.
ونبغت فيهم فطاحل من علماء الدين، وعلماء العربية، وأئمة الأدب العربي، وفحول الشعراء، ومشاهير الملوك الذين نشروا الإسلام في الممالك بفتوحهم. 25/18_19
1_ اشتهرت تسميتها عند السلف (حم عسق) وكذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير، والترمذي في جامعه، وكذلك سميت في عدة من كتب التفسير وكثير من المصاحف.(1/192)
وتسمى (سورة الشورى) بالألف واللام كما قالوا: (سورة المؤمن).
وبذلك سميت في كثير من المصاحف والتفاسير، وربما قالوا: (سورة شورى) بدون ألف ولام؛ حكايةً للفظ القرآن.
وتسمى سورة عسق بدون لفظ (حم) لقصد الاختصار.
ولم يعدها في الإتقان في عداد السور ذات الاسمين فأكثر، ولم يثبت عن النبي"شيء في تسميتها.
وهي مكية كلها عند الجمهور، وعدها في الإتقان في عداد السور المكية، وقد سبقه إلى ذلك الحسن بن الحصار في كتابه في الناسخ والمنسوخ _كما عزاه إليه في الإتقان_.
وعن ابن عباس وقتادة استثناء أربع آيات أولاها قوله: [قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى] إلى آخر الأربع الآيات.
وعن مقاتل استثناء قوله _تعالى_: [ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا] إلى قوله: [إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] رؤي أنها نزلت في الأنصار وهي داخلة في الآيات الأربع التي ذكرها ابن عباس.
وفي أحكام القرآن لابن الفرس عن مقاتل: أن قوله _تعالى_: [وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ] الآيةَ، نزل في أهل الصفة فتكون مدنية، وفيه عنه أن قوله _تعالى_: [وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ] إلى قوله: [مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ] نزل بالمدينة.
نزلت بعد سورة الكهف وقبل سورة إبراهيم وعدت التاسعة والستين في ترتيب نزول السور عند الجعبري المروي عن جابر بن زيد.(1/193)
وإذا صحَّ أن آية: [وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا] نزلت في انحباس المطر عن أهل مكة _كما قال مقاتل_ تكون السورة نزلت في حدود سنة ثمان بعد البعثة، ولعل نزولها استمر إلى سنة تسع بعد أن آمن نقباء الأنصار ليلة العقبة، فقد قيل: إن قوله: [وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] أريد به الأنصار قبل هجرة النبي"إلى المدينة.
وعدت آيها عند أهل المدينة ومكة والشام والبصرة خمسين، وعند أهل الكوفة ثلاثاً وخمسين. 25/23_24
2_ أغراضُ هذه السورة: أولُ أغراضِها الإشارةُ إلى تحدي الطاعنين في أن القرآن وحيٌ مِنَ اللهِ بأن يأتوا بكلام مثله؛ فهذا التحدي لا تخلو عنه السور المفتتحة بالحروف الهجائية المقطعة _كما تقدم في سورة البقرة_.
واستدل اللهُ على المعاندين بأن الوحي إلى محمد"ما هو إلا كالوحي إلى الرسل من قبله؛ لِيُنْذِرَ أهلَ مكةَ ومَنْ حولَها بيوم الحساب.
وأن الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض لا تُعَارَضُ قدرتُه, ولا يُشَكُّ في حكمته، وقد خَضَعَتْ له العوالمُ العليا ومَنْ فيها, وهو فاطرُ المخلوقات؛ فهو يجتبي من يشاء لرسالته؛ فلا بِدْعَ أن يشرع للأمة المحمدية من الدين مِثْلَ ما شرع لمن قبله من الرسل، وما أرسل اللهُ الرسلَ إلا مِنَ البشرِ يوحي إليهم؛ فلم يَسْبِقْ أَنْ أرسل ملائكةً لمخاطبة عمومِ الناس مباشرةً.
وأن المشركين بالله لا حجة لهم إلا تقليدُ أئمةِ الكفر الذين شرعوا لهم الإشراكِ، وألقوا إليهم الشبهات.
وحذَّرهم يومَ الجزاء, واقترابَ الساعة, وما سيلقى المشركون يوم الحساب من العذاب مع إدماجِ التعريضِ بالترغيب فيما سيلقاه المؤمنون من الكرامة، وأنهم لو تَدَّبروا لعلموا أن النبيَّ"لا يأتي عن الله مِنْ تلقاء نفسه؛ لأن الله لا يقره على أن يقول عليه ما لم يقله.(1/194)
وذُكِرَتْ دلائلُ الوحدانيةِ, وما هو من تلك الآيات؛ نعمةً على الناس مثل دليل السير في البحر, وما أوتيه الناسُ مِنْ نِعَمِ الدنيا.
وتسليةُ الرسولِ"بأن الله هو مُتَولي جزاءِ المكذبين وما على الرسول"من حسابهم من شيء؛ فما عليه إلا الاستمرار على دعوتهم إلى الحق القويم.
ونبَّههم إلى أنه لا يبتغي منهم جزاءً على نصحه لهم, وإنما يبتغي أن يراعوا أواصر القرابة بينه وبينهم.
وذكَّرهم نِعَمَ اللهِ عليهم، وحذَّرهم من التسبب في قطعها بسوء أعمالهم، وحرَّضهم على السعي في أسباب الفوز في الآخرة, والمبادرةِ إلى ذلك قبل الفوات؛ فقد فاز المؤمنون المتوكلون، ونوَّه بجلائل أعمالهم، وتَجَنُّبِهم التعرضَ لغضب الله عليهم.
وتخلل ذلك تنبيهٌ على آياتٍ كثيرةٍ من آيات انفراده _تعالى_ بالخلق والتصرف المقتضي إنفرادَهُ بالإلهية؛ إبطالاً للشرك.
وخَتَمَها بتجَدُّد المُعجزة الأميةِ بأن الرسول"جاءهم بهدىً عظيمٍ من الدين وقد علموا أنه لم يكن ممن تصدى لذلك في سابق عمره، وذلك أكبر دليل على أن ما جاء به أمر قد أوحي إليه به؛ فعليهم أن يهتدوا بهديه؛ فمن اهتدى بهديه فقد وافق مراد الله.
وختم ذلك بكلمة جامعة تتضمن التفويض إلى الله، وانتظار حُكْمِهِ وهي كلمةُ [أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ]. 25/24_25
3_ [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)] خبر ثالث أو رابع عن الضمير في قوله: [وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ].
وموقع هذه الجملة كالنتيجة للدليل؛ فإنه لما قدم ما هو نعم عظيمة تبين أن الله لا يماثله شيء من الأشياء في تدبيره وإنعامه.(1/195)
ومعنى: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ] ليس مثله شيء، فأقحمت كاف التشبيه على (مثل) وهي بمعناه؛ لأن معنى المثل هو الشبيه؛ فتعين أن الكاف مفيدة تأكيداً لمعنى المثل، وهو من التأكيد اللفظي باللفظ المرادف من غير جنسه، وحُسْنُه أنَّ المؤكد اسمٌ فأشبه مدخول كاف التشبيه المخالف لمعنى الكاف؛ فلم يكن فيه الثقل الذي في قول خطام المجاشعي:
وصاليات ككما يؤثفين(1)
وإذ قد كان المثل واقعاً في حيز النفي فالكاف تأكيد لنفيه؛ فكأنه نفيُ المثلِ عنه _تعالى_ بجملتين؛ تعليماً للمسلمين كيف يبطلون مماثلة الأصنام لله _تعالى_.
وهذا الوجه هو رأي ثعلب، وابن جني، والزجاج، والراغب، وأبي البقاء، وابن عطية.
وجعله في الكشاف وجهاً ثانياً، وقدم قبله أن تكون الكاف غير مزيدة، وأن التقدير: ليس شبيه مثله شيء.
والمراد: ليس شبه ذاته شيء، فأثبت لذاته مثلاً، ثم نفى عن ذلك المثل أن يكون له مماثل كناية عن نفي المماثل لذات الله _تعالى_ أي بطريق لازم اللازم؛ لأنه إذا نُفِي المثل عن مثله فقد انتفى المثل عنه؛ إذ لو كان له مثل لما استقام قولك: ليس شيء مثل مثله، وجعله من باب قول العرب: فلان قد أيفعت لِدَاتُه، أي أيفع هو فَكُنِّي بإيفاع لداته عن إيفاعه.
وقول رقيقة بنت صيفي(2) في حديث سقيا عبدالمطلب: =ألا وفيهم الطيب الطاهر لداته+ ا هـ، أي ويكون معهم الطيب الطاهر يعني النبي".
وتبعه على ذلك ابن المنير في الانتصاف، وبعض العلماء يقول: هو كقولك ليس لأخي زيد أخ، تريد نفي أن يكون لزيد أخ؛ لأنه لو كان لزيد أخ لكان زيد أخاً لأخيه؛ فلما نفيت أن يكون لأخيه أخ فقد نفيت أن يكون لزيد أخ.
ولا ينبغي التعويل على هذا؛ لما في ذلك من التكلف والإبهام، وكلاهما مما ينبو عنه المقام.
__________
(1) _ رجز وقبله:
لم يبق من آي بها تحيين ... غير حطام ورمادي كفتين
(2) _ هي رقيقة بقافين بصيغة التصغير بنت صيفي (والصواب أبي صيفي) بن هشام بن عبدالمطلب.(1/196)
وقد شمل نفي المماثلة إبطال ما نسبوا لله البنات، وهو مناسبة وقوعه عقب قوله: [جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً] الآية. 25/45_47
4_ وقوله: [بَيْنَهُمْ] ظرف مستقر هو صفة لـ[شُورَى].
والتشاور لا يكون إلا بين المتشاورين فالوجه أن يكون هذا الظرف إيماء إلى أن الشورى لا ينبغي أن تتجاوز من يهمهم الأمر من أهل الرأي، فلا يدخل فيها من لا يهمه الأمر، وإلى أنها سر بين المتشاورين قال بشار:
ولا تشهد الشورى أمراً غير كاتم
وقد كان شيخ الإسلام محمود بن الخوجة أشار في حديث جرى بيني وبينه إلى اعتبار هذا الإيماء إشارة بيده حين تلا هذه الآية، ولا أدري أذلك استظهار منه أم شيء تلقاه من بعض الكتب، أو بعض أساتذته، وكلا الأمرين ليس ببعيد عن مثله. 25/112_113
1_ سميت في المصاحف العتيقة والحديثة (سورة الزخرف) وكذلك وجدتها في جوء عتيق من مصحف كوفي الخط مما كتب في أواخر القرن الخامس.
وبذلك ترجم لها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه، وسميت كذلك في كتب التفسير.
وسماها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه (سورة حم الزخرف) بإضافة كلمة حم إلى الزخرف _على نحو ما بيناه في تسمية سورة (حم المؤمن)_ روى الطبرسي عن الباقر أنه سماها كذلك.
ووجه التسمية أن كلمة [وَزُخْرُفاً] وقعت فيها ولم تقع في غيرها من سور القرآن فعرفوها بهذه الكلمة.
وهي مكية: وحكى ابن عطية الاتفاق على أنها مكية، وأما ما روى عن قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن آية [وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ] نزلت بالمسجد الأقصى فإذا صح لم يكن منافياً لهذا لأن المراد بالمكي ما أنزل قبل الهجرة.
وهي معدودة السورة الثانية والستين في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة فصلت وقبل سورة الدخان.
وعدت آيها عند العادين من معظم الأمصار تسعاً وثمانين، وعدها أهل الشام ثمانياً وثمانين. 25/157(1/197)
2_ أغراضها: أعظمُ ما اشتملت عليه هذه السورةُ من الأغراض: التحديْ بإعجازِ القرآن؛ لأنه آيةُ صدقِ الرسول"فيما جاء به، والتنويهُ بهِ عِدةَ مرات، وأنه أوحى الله به؛ لتذكيرهم، وتكريرِ تذكيرِهم وإن أعرضوا كما أعرض مَنْ قَبْلَهُمْ عن رسلهم.
وإذ قد كان باعثُهم على الطعنِ في القرآن تَعَلُّقَهُمْ بعبادة الأصنام التي نهاهم القرآن عنها _ كان من أهمِّ أغراضِ السورةِ التعجيبُ من حالهم؛ إذ جمعوا بين الاعتراف بأن اللهَ خالقُهم والمنعمُ عليهم وخالقُ المخلوقات كلِّها وبين اتخاذِهم آلهةً يعبدونها شركاءَ لله، حتى إذا انتقض أساسُ عنادِهم اتضح لهم ولغيرهم باطِلُهم.
وجعلوا بناتٍ لله مع اعتقادهم أن البناتِ أحطُّ قدراً من الذكور؛ فجمعوا بذلك بين الإشراك والتنقيص.
وإبطالُ عبادةِ كلِّ ما دون الله على تفاوتِ درجاتِ المعبودين في الشرف؛ فإنهم سواءٌ في عدم الإلهية للألوهية ولِبُنُوَّة الله _تعالى_.
وعرَّج على إبطال حججهم ومعاذيرهم، وسفَّه تخييلاتِهم وَتُرَّهاتهم.
وذكَّرهم بأحوال الأمم السابقين مع رسلهم، وأنذرهم بمثل عواقبهم، وحذَّرهم من الاغترار بإمهال الله وخص بالذكر رسالةَ إبراهيمَ وموسى وعيسى _عليهم السلام_.
وخصَّ إبراهيمَ بأنه جعل كلمةَ التوحيدِ باقيةً في جَمْعٍ مِنْ عَقِبِه, وتوعَّد المشركين, وأنذرهم بعذاب الآخرة بعد البعث الذي كان إنكارُهم وقُوعَهُ من مُغَذِّيات كُفْرِهم وإعراضهم؛ لاعتقادهم أنهم في مَأْمَنٍ بعد الموت.
وقد رُتِّبت هذه الأغراضُ وتفاريعُها على نَسْجٍ بديعٍ، وأسلوبٍ رائعٍ في التقديم والتأخير، والأصالة والاستطراد على حسب دواعي المناسباتِ التي اقتضتها البلاغةُ، وتجديدُ نشاط السامع لقبول ما يلقى إليه.
وتخلل في خلاله من الحجج والأمثال والمُثُل والقوارع والترغيب والترهيب شيء عجيب، مع دحْضِ شُبَهِ المعاندين بأفانينِ الإقناعِ بانحطاط مِلَّةِ كُفْرِهم وعَسْفِ مُعْوَجِّ سلوكهم.(1/198)
وأُدْمِجَ في خلال ذلك ما في دلائل الوحدانية من النعم على الناس والإنذار والتبشير.
وقد جرت آياتُ هذه السورةِ على أسلوبِ نِسْبَةِ الكلامِ إلى الله _تعالى_ عدا ما قامت القرينة على الإسناد إلى غيره. 25/158_159
3_ وأشار بقوله: [وَلا يَكَادُ يُبِينُ] إلى ما كان في منطق موسى من الحُبسة والفهاهة كما حكى الله في الآية عن موسى [وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي] وفي الأخرى [وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي].
وليس مقامُ موسى يومئذ مقامَ خطابةٍ ولا تعليم وتذكير حتى تكون قِلَّةُ الفصاحة نقصاً في عمله، ولكنه مقام استدلال وحجة؛ فيكفي أن يكون قادراً على إبلاغ مراده ولو بصعوبة، وقد أزال الله عنه ذلك حين تفرغ لدعوة بني إسرائيل كما قال: [قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى].
ولعل فرعون قال ذلك؛ لما يعلم من حال موسى قبل أن يرسله الله حين كان في بيت فرعون، فذكر ذلك من حاله؛ ليذكِّر الناس بأمر قديم، فإن فرعون الذي بُعث موسى في زمنه هو (منفطاح الثاني) وهو ابن (رعمسيس الثاني) الذي وُلد موسى في أيامه ورُبّي عنده، وهذا يقتضي أن (منفطاح) كان يعرف موسى ولذلك قال له: [أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ].
وأما رسولنا محمد"فلما أُرسل إلى أمة ذات فصاحة وبلاغة وكانت معجزته القرآن المعجز في بلاغته وفصاحته وكانت صفة الرسول الفصاحة لتكون له المكانة الجليلة في نفوس قومه. 25/231
4_ والأساورة: جمع أُسْوار لغة في سِوَار، وأصل الجمع أساوير مخفف بحذف إشباع الكسرة، ثم عوِّض الهاء عن المحذوف كما عوضت في زنادقة جمع زنديق إذ حقه زناديق.
وأما سوار فيجمع على أسورة.(1/199)
والسوار: حلقة عريضة من ذهب أو فضة تحيط بالرسغ، وهو عند معظم الأمم من حلية النساء الحرائر ولذلك جاء في المثل: =لو ذاتُ سوار لطمتني+ أي لو حرة لطمتني، قاله أحد الأسرى لطمته أمةٌ لقوم هو أسيرهم.
وكان السوار من شعار الملوك بفارس ومصر يلبس الملك سوارين.
وقد كان من شعار الفراعنة لبس سوارين أو أسورة من ذهب وربما جعلوا سوارين على الرسغين، وآخرين على العضدين.
فلما تخيّل فرعون أن رتبة الرسالة مثل المُلك حسب افتقادها هو من شعار الملوك عندهم أمارة على انتفاء الرسالة. 25/232
1_ سميت هذه السورة (حم الدخان).
روى الترمذي بسندين ضعيفين يعضد بعضهما بعضاً: عن أبي هريرة عن النبي": =من قرأ حم الدخان في ليلة أو في ليلة الجمعة+ الحديث.
واللفظان بمنزلة اسم واحد؛ لأن كلمة (حم) غير خاصة بهذه السورة فلا تُعد علماً لها، ولذلك لم يعدها صاحب الإتقان في عداد السور ذوات أكثر من اسم.
وسميت في المصاحف وفي كتب السنة (سورة الدخان).
ووجه تسميتها بالدخان وقوع لفظ الدخان فيها المراد به آية من آيات الله أيّد الله بها رسوله"فلذلك سميت به اهتماماً بشأنه، وإن كان لفظ (الدخان) بمعنى آخر قد وقع في سورة (حم تنزيل) في قوله: [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ].
وهي نزلت قبل هذه السورة على المعروف من ترتيب تنزيل سور القرآن عن رواية جابر بن زيد التي اعتمدها الجعبري وصاحب الإتقان على أن وجه التسمية لا يوجبها.
وهي مكية كلها في قول الجمهور.
قال ابن عطية: هي مكية لا أحفظ خلافاً في شيء منها.
ووقع في الكشاف استثناء قوله: [إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ] ولم يعزه إلى قائل، ومِثله القرطبي، وذكره الكواشي قولاً وما عزاه إلى معيّن.
وأحسب أنه قول نشأ عما فهمه القائل، وسنبينه في موضعه.(1/200)
وهي السورة الثالثة والستون في عد نزول السور في قول جابر بن زيد، نزلت بعد سورة الزخرف وقبل سورة الجاثية في مكانها هذا.
وعدت آيها ستاً وخمسين عند أهل المدينة ومكة والشام، وعدت عند أهل البصرة سبعاً وخمسين، وعند أهل الكوفة تسعاً وخمسين. 25/275_276
2_ أغراضها: أشبهَ افتتاحُ هذه السورةِ فاتحةَ سورةِ الزخرفِ من التنويه بشأن القرآنِ وشرفِهِ, وشرفِ وقتِ ابتداءِ نزولِه؛ ليكون ذلك مُؤْذِناً أنه من عند الله, ودالاً على رسالة محمد"ولِيُتَخَلَّصَ منه إلى أن المعرضين عن تدبر القرآن ألهاهم الاستهزاءُ واللمزُ عن التدبر؛ فَحَقَّ عليهم دعاءُ الرسول بعذاب الجوع؛ إيقاظاً لبصائرهم بالأدلة الحسية حين لم تنجع فيهم الدلائلُ العقلية؛ ليعلموا أن إجابة الله دعاء رسوله"دليل على أنه أرسله؛ لِيُبَلِّغَ عنه مرادَه.
فأنذرهم بعذاب يَحُلُّ بهم علاوةً على ما دعا به الرسول"تأييداً من الله له بما هو زائدٌ على مطلبه.
وضَرَبَ لهم مثلاً بأمم أمثالهم عصوا رُسُلَ اللهِ إليهم؛ فَحَلَّ بهم من العقاب ما من شأنه(1) أن يكون عظةً لهؤلاء؛ تفصيلاً بقوم فرعون مع موسى ومؤمني قومه، ودون التفصيل بقوم تُبَّعٍ، وإجمالاً وتعميماً بالذين مِنْ قبل هؤلاء.
وإذ كان إنكارُ البعثِ وإحالَتُه من أكبر الأسباب التي أغرتهم على إهمال التدبر في مراد الله _تعالى_ انْتَقَلَ الكلامُ إلى إثباته, والتعريف بما يعقبه من عقوبة المعاندين ومثوبة المؤمنين؛ ترهيباً وترغيباً.
وأُدْمِجَ فيها فضلُ الليلةِ التي أُنزل فيها القرآنُ، أي اْبتُدِئَ إنزالُه وهي ليلة القدر.
وأُدْمج في خلال ذلك ما جرت إليه المناسباتُ من دلائل الوحدانية, وتأييد الله من آمنوا بالرسل، ومن إثبات البعث.
وخُتِمَتْ بالشد على قلب الرسول"بانتظار النصر, وانتظار الكافرين القهر. 25/276
__________
(1) _ في الأصل: من شأنه بدون: ما، ولعل الصواب ما أُثبت.(1/201)
3_ فبركة الليلة التي أنزل فيها القرآن بركة قدَّرها الله لها قبل نزول القرآن؛ ليكون القرآن بابتداء نزوله فيها مُلابساً لوقت مبارك؛ فيزداد بذلك فضلاً وشرفاً.
وهذا من المناسبات الإلهية الدقيقة التي أنبأنا الله ببعضها. 25/278
4_ والذي يجب الجزم به أن ليلة نزول القرآن كانت في شهر رمضان وأنه كان في ليلة القدر.
ولما تضافرت الأخبار أن النبي"قال في ليلة القدر: =اطلبوها في العشر الأواخر من رمضان في ثالثة تبقى في خامسة تبقى في سابعة تبقى في تاسعة تبقى+.
فالذي نعتمده أن القرآن ابتدئ نزوله في العشر الأواخر من رمضان، إلا إذا حُمل قول النبي": =اطلبوها في العشر الأواخر+ على خصوص الليلة من ذلك العام.
وقد اشتهر عند كثير من المسلمين أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين باستمرار وهو مناف لحديث: =اطلبوها في العشر الأواخر+ على كل احتمال. 25/278_279
1_ سميت هذه السورة في كثير من المصاحف العتيقة بتونس، وكتب التفسير وفي صحيح البخاري (سورة الجاثية) معرفاً باللام.
وتسمى (حم الجاثية) لوقوع لفظ [جَاثِيَةً] فيها ولم يقع في موضع آخر من القرآن، واقتران لفظ (الجاثية) بلام التعريف في اسم السورة مع أن اللفظ المذكور فيها خَلِيّ عن لام التعريف لقصد تحسين الإضافة، والتقدير: سورة هذه الكلمة، أي السورة التي تذكر فيها هذه الكلمة، وليس لهذا التعريف فائدة غير هذه.
وذلك تسمية حم غافر، وحم الزخرف.
وتسمى (سورة شريعة) لوقوع لفظ [شَرِيعَةٍ] فيها ولم يقع في موضع آخر من القرآن.
وتسمى (سورة الدهر) لوقوع [وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ] فيها ولم يقع لفظ الدهر في ذوات حم الأخر.
وهي مكية قال ابن عطية: بلا خلاف، وفي القرطبي عن ابن عباس وقتادة استثناء قوله _تعالى_: [قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا] إلى [بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] نزلت بالمدينة.(1/202)
وعن ابن عباس أنها نزلت عن عمر بن الخطاب شتمه رجل من المشركين بمكة فأراد أن يبطش به فنزلت.
وهي السورة الرابعة والستون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد، نزلت بعد سورة الدخان وقبل الأحقاف.
وعدد آيها في عد المدينة ومكة والشام والبصرة ست وثلاثون، وفي عد الكوفة سبع وثلاثون لاختلافهم في عد لفظ (حم) آية مستقلة. 25/323_324
2_ أغراضها: الابتداءُ بالتحدي بإعجازِ القرآنِ, وأنه جاء بالحق؛ توطئةً لما سيذكر بأنه حقُّ كما اقتضاه قوله: [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ].
وإثباتُ انفرادِ الله _تعالى_ بالإلهية بدلائلِ ما في السماوات والأرض من آثار خَلْقِه وقدرتِه في جواهر الموجودات وأعراضها, وإدماجُ ما فيها مع ذلك مِنْ نِعَمِ يَحُقُّ على الناس شُكْرُها لا كفرُها.
ووعيدُ الذين كَذبوا على الله، والتزموا الآثامَ بالإصرار على الكفر والإعراض عن النظر في آيات القرآن، والاستهزاء بها.
والتنديدُ على المشركين؛ إذ اتخذوا آلهةً على حسب أهوائهم, وإذ جحدوا البعث، وتهديدُهم بالخسران يومَ البعثِ، ووصفُ أهوالِ ذلك، وما أُعِدَّ فيه من العذاب للمشركين ومن رحمة للمؤمنين.
ودعاءُ المسلمين للإعراض عن إساءة الكفار لهم, والوعدُ بأن اللهَ سيخزي المشركين.
ووصفُ بعضِ أحوالِ يومِ الجزاء.
ونُظِّر الذين أَهملوا النظر في آيات الله مع تبيانها, وخالفوا على رسولهم" فيما فيه صلاحهم بحال بني إسرائيل في اختلافهم في كتابهم بعد أن جاءهم العلم وبعد أن اتبعوه؛ فما ظنك بمن خالف آياتِ اللهِ من أول وَهْلَةِ؛ تحذيراً لهم من أن يقعوا فيما وقع فيه بنو إسرائيل من تسليط الأمم عليهم, وذلك تحذيرٌ بليغ.
وذلك تثبيت للرسول"بأن شَأْنَ شَرْعِهِ مع قومه كشأن شريعة موسى لا تَسْلَمُ من مخالف، وأن ذلك لا يقدحُ فيها, ولا في الذي جاء بها، وأن لا يعبأ بالمعاندين, ولا بكثرتهم؛ إذ لا وزن لهم عند الله. 25/324(1/203)
3_ [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ].
وقد بلغت هذه الجملة من الإيجاز مبلغاً عظيماً؛ إذ أفادت أن شريعة الإسلام أفضل من شريعة موسى، وأنها شريعة عظيمة، وأن الرسول"متمكن منها لا يزعزعه شيء عن الدأب في بيانها، والدعوة إليها.
ولذلك فرَّع عليه أمرَه باتباعها بقوله: [فَاتَّبِعْهَا] أي دُم على اتباعها؛ فالأمر لطلب الدوام مثل: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ].
وبين قوله: [فَاتَّبِعْهَا] وقوله: [وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ] محسِّن المطابقة بين الأمر بالاتباع والنهي عن اتباع آخر. 25/348
1_ سميت هذه السورة (سورة الأحقاف) في جميع المصاحف وكتب السنة، ووردت تسميتها بهذا الاسم في كلام عبدالله بن عباس.
روى أحمد بن حنبل بسند جيد عن ابن عباس قال: =أقرأني رسول الله سورة من آل حم وهي الأحقاف+.
وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت ثلاثين.
وكذلك وردت تسميتها في كلام عبدالله بن مسعود أخرج الحاكم بسند صححه عن ابن مسعود قال: =أقرأني رسول الله سورة الأحقاف+ الحديث.
وحديث ابن عباس السابق يقتضي أنها تسمى ثلاثين إلا أن ذلك لا يختص بها فلا يعد من أسمائها.
ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور ذات أكثر من اسم.
ووجه تسميتها (الأحقاف) ورود لفظ الأحقاف فيها ولم يرد في غيرها من سور القرآن.
وهي مكية قال القرطبي: باتفاق جميعهم، وفي إطلاق كثير من المفسرين. 26/5
2_ وهذه السورة معدودة الخامسة والستين في عداد نزول السور، نزلت بعد الجاثية وقبل الذاريات.
وعدت آيها عند جمهور أهل الأمصار أربعاً وثلاثين، وعدها أهل الكوفة خمساً وثلاثين والاختلاف في ذلك مبني على أن (حم) تعتبر آية مستقلة أَوْ لا. 26/6(1/204)
3_ أغراضها: من الأغراض التي اشتملت عليها أنها افْتُتِحتْ مِثْلُ سورةِ الجاثية بما يشير إلى إعجاز القرآن للاستدلال على أنه مُنَزَّلٌ من عند الله.
والاستدلالُ بإتقانِ خلقِ السماوات والأرض على التفرد بالإلهية، وعلى إثباتِ جزاء الأعمال.
والإشارةُ إلى وقوع الجزاء بعد البعث, وأن هذا العالمَ صائرٌ إلى فناء, وإبطالُ الشركاءِ في الإلهية, والتدليلُ على خلوِّهم عن صفاتِ الإلهية, وإبطالُ أن يكون القرآن من صنع(1) غير الله.
وإثباتُ رسالةِ محمدٍ " واستشهادُ الله _تعالى_ على صدق رسالته, واستشهادُ شاهدِ بني إسرائيل وهو عبد الله بن سلام.
والثناءُ على الذين آمنوا بالقرآن, وذكرُ بعضِ خصالهم الحميدة وما يضادها من خصال أهل الكفر وحسدِهم الذي بعثهم على تكذيبه.
وذَكَرت معجزةَ إيمان الجن بالقرآن.
وخُتِمَت السورةُ بتثبيت الرسول".
وأقحِمَ في ذلك معاملةُ الوالدين والذريةِ مما هو مِنْ خُلُقِ المؤمنين، وما هو من خلُقُ ِأهل الضلالة.
والعبرةُ بضلالهم مع ما كانوا عليه من القوة، وأن اللهَ أخذهم بكفرهم, وأهلك أمماً أخرى؛ فجعلهم عظةً للمكذبين, وأن جميعهم لم تُغْنِ عنهم أربابُهم المكذوبة.
وقد أشبهت كثيراً من أغراض سورة الجاثية مع تَفَنُّن. 26/6_7
1_ سميت هذه السورة في كتب السنة (سورة محمد).
وكذلك ترجمت في صحيح البخاري من رواية أبي ذر عن البخاري، وكذلك في التفاسير قالوا: وتسمى (سورة القتال).
ووقع في أكثر روايات صحيح البخاري (سورة الذين كفروا).
والأشهر الأول، ووجهه أنها ذكر فيها اسم النبي"في الآية الثانية منها فعرفت به قبل سورة آل عمران التي فيها [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ].
__________
(1) _ لو كانت العبارة: =وإبطال أن يكون القرآن من عند غير الله+ لكانت أدقَّ وأصحَّ _كما هي عبارة المؤلف في كثير من المواضع السابقة واللاحقة_. (م)(1/205)
وأما تسميتها (سورة القتال) فلأنها ذكرت فيها مشروعية القتال، ولأنها ذكر فيها لفظه في قوله _تعالى_: [وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ] مع ما سيأتي أن قوله _تعالى_: [وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ] إلى قوله: [وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ] أن المعني بها هذه السورة فتكون تسميتها (سورة القتال) تسمية قرآنية.
وهي مدنية بالاتفاق حكاه ابن عطية وصاحب الإتقان.
وعن النسفي: أنها مكية.
وحكى القرطبي عن الثعلبي وعن الضحاك وابن جبير: =أنها مكية+ ولعله وَهْمٌ ناشئٌ عما روي عن ابن عباس أن قوله _تعالى_: [وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ] الآية نزلت في طريق مكة قبل الوصول إلى حراء، أي في الهجرة.
قيل نزلت هذه السورة بعد يوم بدر وقيل نزلت في غزوة أحد.
وعدت السادسة والتسعين في عداد نزول سور القرآن، نزلت بعد سورة الحديد وقبل سورة الرعد.
وآيها عدت في أكثر الأمصار تسعاً وثلاثين، وعدها أهل البصرة أربعين، وأهل الكوفة تسعاً وثلاثين. 26/71
2_ أغراضها: معظم ما في هذه السورةِ التحريضُ على قتال المشركين، وترغيبُ المسلمين في ثواب الجهاد.
افتتحت بما يثير حنقَ المؤمنين على المشركين؛ لأنهم كفروا بالله وصدوا عن سبيله، أي دينه.
وأعلم اللهُ المؤمنين بأنه لا يسدد المشركين في أعمالهم, وأنه مصلحُ المؤمنين؛ فكان ذلك كفالةً للمؤمنين بالنصر على أعدائهم.
وانْتُقِلَ من ذلك الى الأمر بقتالهم, وعدمِ الإبقاء عليهم.
وفيها وعدُ المجاهدين بالجنة، وأمرُ المسلمين بمجاهدة الكفار, وأن لا يَدْعُوهم إلى السلم، وإنذارُ المشركين بأن يصيبَهم ما أصاب الأممَ المكذبين مِنْ قبلهم.
ووصفُ الجنةِ ونعيمِها، ووصفُ جهنمَ وعذابِها.
ووصفُ المنافقين وحالِ اندهاشهم إذا نزلت سورة فيها الحضُّ على القتال، وقلةِ تَدَبُّرِهِمُ القرآنَ وموالاتِهم المشركين.(1/206)
وتهديدُ المنافقين بأن الله ينبي رسوله"بسيماهم، وتحذيرُ المسلمين من أن يروجَ عليهم نفاقُ المنافقين.
وخُتِمَتِ بالإشارة إلى وعد المسلمين بنوال السلطان, وحذَّرهم إن صار إليهم الأمر من الفساد والقطيعة. 26/72
3_ ولهذا المقصد الدقيق جمع بين النهي عن الوهن والدعاء إلى السلم وأتبع بقوله: [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ].
فتحصل مما تقرر أن الدعاء إلى السلم المنهي عنه هو طلب المسألة من العدو في حال قدرة المسلمين، وخوف العدو منهم، فهو سَلْمٌ مُقَيَّدٌ بكون المسلمين داعين له وبكونه عن وهن في حال قوة.
قال قتادة: أي لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها.
فهذا لا ينافي السلم المأذون فيه بقوله: [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] في سورة الأنفال؛ فإنه سَلْمٌ طلبه العدو؛ فليست هذه الآية ناسخة لآية الأنفال، ولا العكس، ولكل حالة خاصة، ومقيد بكون المسلمين في حالة قوة ومنعة وعِدَّة وعُدَّة بحيث يدعون إلى السلم رغبة في الدَّعَة.
فإذا كان للمسلمين مصلحةٌ في السَّلْم، أو كان أخف ضراً عليهم فلهم أن يبتدئوا إذا احتاجوا إليه، وأن يجيبوا إليه إذا دُعوا إليه.
وقد صالح النبي"المشركين يوم الحديبية؛ لمصلحة ظهرت فيما بعد، وصالح المسلمون في غزوهم أفريقية أهلها، وانكفأوا راجعين إلى مصر.
وقال عمر بن الخطاب في كلام له مع بعض أمراء الجيش: =فقد آثرت سلامة المسلمين+.
وأما الصلح على بعض الأرض مع فتحها فذلك لا ينافي قوة الفاتحين كما صالح أمراء أبي بكر نصف أهل دمشق وكما صالح أمراء عمر أهل سود العراق وكانوا أعلم بما فيه صلاحهم. 26/131
1_ سورة [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً] سميت في كلام الصحابة (سورة الفتح).
ووقع في صحيح البخاري عن عبدالله بن مغفل (بغين معجمة مفتوحة وفاء مشددة مفتوحة) قال: قرأ النبي"يوم فتح مكة (سورة الفتح) فرجَّع فيها.(1/207)
وفيها حديث سهل بن حنيف: =لقد رأيتُنا يوم الحديبية ولو ترى قتالاً لقاتلنا+.
ثم حكى مقالة عمر إلى أن قال: =فنزلت سورة الفتح ولا يعرف لها اسم آخر+.
ووجه التسمية أنها تضمنت حكاية فتح متجه الله للنبي" _كما سيأتي_.
وهي مدنية على المصطلح المشهور في أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولو كان نزوله في مكان غير المدينة من أرضها أو من غيرها.
وهذه السورة نزلت بموضع يقال له كُراع الغَمِيم _بضم الكاف من كراع وبفتح الغين المعجمة وكسر الميم من الغميم_ موضع بين مكة والمدينة، وهو واد على مرحلتين من مكة وعلى ثلاثة أميال من عُسفان وهو من أرض مكة.
وقيل نزلت بضَجْنان _بوزن سكران_ وهو جبل قرب مكة، ونزلت ليلاً؛ فهي من القرآن الليلي.
ونزولها سنة ست بعد الهجرة مُنصرَف النبي"من الحديبية وقبل غزوة خيبر.
وفي الموطأ عن عمر: =أن رسول الله " كان يسير في بعض أسفاره _أي منصرفه من الحديبية_ ليلاً وعمر بن الخطاب يسير معه، فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال: عمر ثكلت أم عمر نزرتَ رسول الله"ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك.
قال عمر: فحركت بعيري، وتقدمت أمام الناس، وخشيت أن ينزل فيّ القرآن، فما نَشِبْت أن سمعت صارخاً يصرخ بي، فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل فيَّ قرآن، فجئت رسول الله، فسلمت عليه فقال: =لقد أنزلت عليَّ الليلة سورة لهي أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ: [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً]+.
ومعنى قوله: =لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس+ لما اشتملت عليه من قوله: [لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ].
وأخرج مسلم والترمذي عن أنس قال: =أنزل على النبي: [لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ] إلى قوله: [فَوْزاً عَظِيماً] مرجعه من الحديبية فقال النبي": لقد أنزلت علي آية أحب إليَّ مما على وجه الأرض+ ثم قرأها.(1/208)
وهي السورة الثالثة عشرة بعد المائة في ترتيب نزول السور في قول جابر ابن زيد.
نزلت بعد سورة الصف وقبل سورة التوبة.
وعدة آيها تسع وعشرون.
وسبب نزولها ما رواه الواحدي وابن إسحاق عن المسور بن مخرمة ومروان ابن الحكم قالا: =نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية وقد حيل بيننا وبين نُسْكنا؛ فنحن بين الحزن والكآبة أنزل الله _تعالى_: [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً] فقال رسول الله: =لقد أنزلت عليَّ آية أحب إليَّ من الدنيا وما فيها+ وفي رواية: =من أولها إلى آخرها+. 26/141_142
2_ أغراضُها: تَضَمَّنّتْ هذه السورةُ بشارةَ المؤمنين بِحُسْنِ عاقبة صُلْحِ الحديبية, وأنه نصرٌ وفتحٌ؛ فنزلت به السكينةُ في قلوب المسلمين, وأزال حُزْنَهم مِنْ صدِّهم عن الاعتمار بالبيت، وكان المسلمون عُدَّةً لا تغلب من قلة؛ فرأوا أنهم عادوا كالخائبين؛ فأعلمهم الله بأن العاقبة لهم، وأن دائرةَ السَّوءِ على المشركين والمنافقين.
والتنويهُ بكرامة النبي"عند ربه, ووعدُه بنصر متعاقب.
والثناءُ على المؤمنين الذين عَزَّروه وبايعوه، وأن اللهَ قَدَّمَ مَثَلَهُمْ في التوراة وفي الإنجيل.
ثم ذِكْرُ بيعةِ الحديبية, والتنويهِ بشأن مَنْ حضرها.
وَفضْحُ الذين تخلفوا عنها من الأعراب ولَمْزُهُمْ بالجبن والطمع وسُوءِ الظن بالله وبالكذب على رسول الله" ومَنْعُهُمّ من المشاركة في غزوة خيبر، وإنباؤهم بأنهم سَيُدْعون إلى جهاد آخر, فإن استجابوا غُفِرَ لهم تَخَلُّفُهم عن الحديبية.
وَوَعْدُ النبيِّ"بفتحٍ آخرَ يَعقبه فتحٌ أعظمَ منه وبفتحِ مكةَ, وفيها ذكرٌ بفتحٍ مِنْ خيبر كما سيأتي في قوله _تعالى_ [فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ]. 26/142_143
3_ [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ].(1/209)
وقد تكلموا في تسمية ما حل بهم يومئذ فتحاً كما علمت مما تقدم فلما بين لهم الرسول"ما فيه من الخير اطمأنت نفوسهم بعد الاضطراب ورسخ يقينهم بعد خواطر الشك؛ فلولا ذلك الاطمئنان والرسوخ لبقُوا كاسفي البال، شديدي البلبال؛ فذلك الاطمئنان هو الذي سماه الله بالسكينة، وسمّي إحداثه في نفوسهم إنزالاً للسكينة في قلوبهم، فكان النصر مشتملاً على أشياء من أهمها إنزالُ السكينةِ، وكان إنزالُ السكينةِ بالنسبة إلى هذا النصر نظيرَ التأليف بين قلوب المؤمنين مع اختلاف قبائلهم وما كان بينهما من الأمن في الجاهلية بالنسبة للنصر الذي في قوله _تعالى_: [هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ].
وإنزالها: إيقاعها في العقل والنفس، وخلق أسبابها الجوهرية والعارضة.
وأطلق على ذلك الإيقاع فعل الإنزال؛ تشريفاً لذلك الوَجَدَان بأنه كالشيء الذي هو مكان مرتفع فوق الناس، فألقي إلى قلوب الناس، وتلك رفعة تخييلية مراد بها شرف ما أثبتت له على طريقة التخييلية.
ولما كان من عواقب تلك السكينة أنها كانت سبباً لزوال ما يلقيه الشيطان في نفوسهم من التأويل لوعد الله إياهم بالنصر على غير ظاهره، وحمله على النصر المعنوي لاستبعادهم أن يكون ذلك فتحاً، فلما أنزل الله عليهم السكينة اطمأنت نفوسهم، فزال ما خامرها وأيقنوا أنه وعد الله وأنه واقع؛ فانقشع عنهم ما يوشك أن يشكك بعضهم، فيلتحق بالمنافقين الظانين بالله ظن السوء؛ فإن زيادة الأدلة تؤثر رسوخ المستَدلّ عليه في العقل، وقوة التصديق. 26/149_150
4_ والحسد: كراهية أن ينال غيرك خيراً معيَّناً أو مطلقاً سواء كان مع تمني انتقاله إليك أو بدون ذلك، فالحسد هنا أريد به الحرص على الانفراد بالمغانم وكراهية المشاركة فيها لئلا ينقص سهام الكارهين. 26/169(1/210)
5_ و[أَشِدَّاءُ]: جمع شديد، وهو الموصوف بالشدة المعنوية وهي صلابة المعاملة وقساوتها، قال _تعالى_ في وصف النار: [عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ].
والشدة على الكفار: هي الشدة في قتالهم وإظهار العداوة لهم، وهذا وصف مدح؛ لأن المؤمنين الذين مع النبي"كانوا هم فئة الحق ونشر الإسلام؛ فلا يليق بهم إلا إظهار الغضب لله والحب في الله والبغض في الله من الإيمان، وأصحاب النبي"أقوى المؤمنين إيماناً من أجل إشراق أنوار النبوة على قلوبهم؛ فلا جرم أن يكونوا أشد على الكفار؛ فإن بين نفوس الفريقين تمامَ المضادة، وما كانت كراهيتهم للصلح مع الكفار يوم الحديبية ورغبتهم في قتل أسراهم الذين ثقفوهم يوم الحديبية وعفا عنهم النبي"إلا من آثار شدتهم على الكفار، ولم تكن لاحت لهم المصلحةُ الراجحةُ على القتال وعلى القتل التي آثرها النبي".
ولذلك كان أكثرهم محاورة في إباء الصلح يومئذ أشد أشدائهم على الكفار وهو عمر بن الخطاب، وكان أفهمهم للمصلحة التي توخاها النبي"في إبرام الصلح أبا بكر.
وقد قال سهل بن حنيف يوم صفين: أيها الناس اتهموا الرأي؛ فلقد رأيتنا يوم أبي جندل، ولو نستطيع أن نرد على رسول الله فعله لرددناه، والله ورسوله أعلم.
ثم تكون أحكام الشدة على الكفار من وجوب وندب وإباحة وأحكام صحبتهم ومعاملتهم جارية على مختلف الأحوال ولعلماء الإسلام فيها مقال، وقد تقدم كثير من ذلك في سورة آل عمران وفي سورة براءة.
والشدة على الكفار اقتبسوها من شدة النبي"في إقامة الدين قال _تعالى_: [بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ].
وأما كونهم رحماء بينهم فذلك من رسوخ أخوة الإيمان بينهم في نفوسهم.
وقد وردت أخبار أخوتهم وتراحمهم في مواضع كثيرة من القرآن وكلام الرسول".(1/211)
وفي الجمع لهم بين هاتين الخلتين المتضادتين الشدة والرحمة إيماء إلى أصالة آرائهم، وحكمة عقولهم، وأنهم يتصرفون في أخلاقهم وأعمالهم تصرف الحكمة والرشد، فلا تغلب على نفوسهم محمدة دون أخرى، ولا يندفعون إلى العمل بالجِبِلَّة وعدم الرؤية(1). 26/204_205
1_ سميت في جميع المصاحف وكتب السنة والتفسير (سورة الحجرات) وليس لها اسم غيره، ووجه تسميتها أنها ذكر فيها لفظ [الْحُجُرَاتِ].
ونزلت في قصة نداء بني تميم رسول الله"من وراء حجراته، فعرفت بهذه الإضافة.
وهي مدنية باتفاق أهل التأويل، أي مما نزل بعد الهجرة، وحكى السيوطي في الإتقان قولاً شاذاً أنها مكية ولا يعرف قائل هذا القول.
وفي أسباب النزول للواحدي أن قوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى] الآية نزلت بمكة في يوم فتح مكة كما سيأتي، ولم يثبت أن تلك الآية نزلت بمكة _كما سيأتي_.
ولم يعدها في الإتقان في عداد السور المستثنى بعض آياتها.
وهي السورة الثامنة بعد المائة في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة المجادلة وقبل سورة التحريم وكان نزول هذه السورة سنة تسع، وأول آيها في شأن وفد بني تميم كما سيأتي عند قوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ] وقوله: [إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ].
وعد جميع العادين آيها ثمان عشرة آية. 26/213
2_ أغراض هاته السورة: تتعلق أغراضُها بحوادثَ جدَّت متقاربةٍ كانت سبباً لنزول ما فيها من أحكام وآداب.
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: الرَّويَّة. (م)(1/212)
وأولُها تعليمُ المسلمين بعضَ ما يجب عليهم من الأدب مع النبي"في معاملتِهِ, وخطابِه وندائِه، دعا إلى تعليمهم إياها ما ارتكبه وفد بني تميم من جفاء الأعراب لما نادوا الرسول"من بيوته كما سيأتي عند قوله _تعالى_: [إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ].
ووجوبُ صدقِ المسلمين فيما يخبرون به، والتثبتُ في نقل الخبر مطلقاً, وأن ذلك من خلق المؤمنين، ومجانبةِ أخلاق الكافرين والفاسقين، وتَطَرُّقٌ إلى ما يحدث من التقاتل بين المسلمين، والإصلاح بينهم لأنهم إخوة، وما أمر الله به من آداب حسن المعاملة بين المسلمين في أحوالهم في السر والعلانية، وتَخَلُّصٌ من ذلك إلى التحذير من بقايا خلق الكفر في بعض جفاة الأعراب؛ تقويماً لأود نفوسهم. 26/213_214
3_ علم أن قوله: [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] لا ينافي أن تكون للناس مكارم أخرى في المرتبة الثانية بعد التقوى مما شأنه أن يكون له أثر تزكية في النفوس مثل حسن التربية، ونقاء النسب، والعرافة(1) في العلم والحضارة، وحسن السمعة في الأمم وفي الفصائل، وفي العائلات، وكذلك بحسب ما خلده التاريخ الصادق للأمم والأفراد مما يترك آثاراً لأفرادها وخلالاً في سلائلها قال النبي": =الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا+.
فإن في خلق الأنباء(2) آثاراً من طباع الآباء الأدنَيْن أو الأعَليْن تكون مهيئة نفوسهم للكمال أو ضده، وأن للتهذيب والتربية آثاراً جمّة في تكميل النفوس أو تقصيرها، وللعوائد والتقاليد آثارها في الرفعة والضعة.
وكل هذه وسائل لإعداد النفوس إلى الكمال والزكاء الحقيقي الذي تخططه التقوى. 26/262_263
1_ سميت في عصر الصحابة (سورة ق) (يُنطق بحروف (قاف) بقاف، وألف، وفاء).
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: العراقة. (م)
(2) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب، الأبناء. (م)(1/213)
فقد روى مسلم عن قطبة بن مالك أن النبي"قرأ في صلاة الصبح سورة [ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ].
وربما قال: [ق] (ويعني في الركعة الأولى).
وروى مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان: =ما أخذتُ [ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ] إلا عن لسان رسول الله " يقرؤها كل يوم على المنبر إذ خطب الناس+.
وروى مسلم عن جابر بن سمرة أن النبي " كان يقرأ في الفجر بـ(قاف والقرآن المجيد).
هكذا رُسم قاف ثلاث أحرف، وقوله (في الفجر) يعني به صلاة الصبح؛ لأنها التي يصليها في المسجد في الجماعة، فأما نافلة الفجر فكان يصليها في بيته.
وفي الموطأ ومسلم أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي: ما كان يقرأ به رسول الله " في الأضحى والفطر? فقال: كان يقرأ فيهما بـ(قاف).
هكذا رسم قاف ثلاثة أحرف مثل ما رسم حديث جابر بن سمرة و[الْقُرْآنِ الْمَجِيْدِ] و[اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ].
وهي من السور التي سميت بأسماء الحروف الواقعة في ابتدائها مثل (طه) و(ص) و(ق) و(يس) لانفراد كل سورة منها بعدد الحروف الواقعة في أوائلها بحيث إذا دُعيت بها لا تلتبس بسورة أخرى.
وفي الإتقان أنها تسمى سورة (الباسقات) هكذا بلام التعريف، ولم يعزه لقائل والوجه أن تكون تسميتها هذه على اعتبار وصف لموصوف محذوف، أي سورة النخل الباسقات إشارة إلى قوله: [النَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ].
وهذه السورة مكية كلها قال ابن عطية: بإجماع من المتأولين.
وفي تفسير القرطبي والإتقان عن ابن عباس وقتادة والضحاك: استثناء آية [وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ] أنها نزلت في اليهود، يعني في الرد عليهم إذ قالوا: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، يعني أن مقالة اليهود سُمعت بالمدينة، يعني: وألحقت بهذه السورة؛ لمناسبة موقعها.(1/214)
وهذا المعنى وإن كان معنى دقيقاً في الآية فليس بالذي يقتضي أن يكون نزول الآية في المدينة؛ فإن الله علم ذلك فأوحى به إلى رسوله"على أن بعض آراء اليهود كان مما يتحدث به أهل مكة قبل الإسلام يتلقونه تلقي القصص والأخبار.
وكانوا بعد البعثة يسألون اليهود عن أمر النبوة والأنبياء، على أن إرادةَ اللهِ إبطالَ أوهام اليهود لا تقتضي أن يؤخر إبطالَها إلى سماعها، بل قد يجيء ما يبطلها قبل فشوها في الناس كما في قوله _تعالى_: [وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ] فإنها نزلت بمكة.
وورد أن النبي"أتاه بعض أحبار اليهود فقال: إن الله يضع السماوات على أصبع والأرضين على إصبع والبحار على أصبع والجبال على إصبع ثم يقول =أنا الملك أين ملوك الأرض+ فتلا النبي"الآية.
والمقصود من تلاوتها هو قوله: [وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ].
والإيماء إلى سوء فهم اليهود صفات الله.
وهي السورة الرابعة والثلاثون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة المرسلات وقبل سورة لا أقسم بهذا البلد.
وقد أجمع العادون على عد آيها خمساً وأربعين. 26/273_274
2_ أغراض هاته السورة:
أولها: التنويهُ بشأن القرآن.
ثانيها: أنهم كذبوا الرسولَ"لأنه من البشر.
وثالثها: الاستدلالُ على إثبات البعث, وأنه ليس بأعظم من ابتداء خلق السماوات وما فيها وخلقِ الأرض وما عليها، ونشأة النباتِ والثمار من ماء السماء, وأن ذلك مثلٌ للإحياء بعد الموت.
الرابع: تنظيرُ المشركين في تكذيبهم بالرسالة والبعث ببعض الأمم الخالية المعلومة لديهم، ووعيدُ هؤلاء أن يَحِلَّ بهم ما حل بأولئك.
الخامس: الوعيدُ بعذابِ الآخرة ابتداءً من وقت احتضارِ الواحد، وذِكْرُ هولِ يوم الحساب.
السادس: وَعْدُ المؤمنين بنعيم الآخرة.(1/215)
السابع: تسليةُ النبي"على تكذيبهم إياه, وأَمْرُه بالإقبال على طاعة ربه, وإرجاءُ أمرِ المكذبين إلى يوم القيامة, وأن اللهَ لو شاء لأَخَذَهم من الآن، ولكنَّ حكمةَ اللهِ قَضَت بإرجائهم, وأن النبيَّ"لم يكلَّف بأن يُكْرِهَهُم على الإسلام, وإنما أُمِرَ بالتذكير بالقرآن.
الثامن: الثناءُ على المؤمنين بالبعث بأنهم الذين يتذكرون بالقرآن.
التاسع: إحاطةُ علمِ اللهِ _تعالى_ بخفيات الأشياء, وخواطر النفوس. 26/275
1_ تسمى هذه السورة (والذاريات) بإثبات الواو تسمية لها بحكاية الكلمتين الواقعتين في أولها.
وبهذا عنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه، وابن عطية في تفسيره والكواشي في تلخيص التفسير والقرطبي.
وتسمى _أيضاً_ (سورة الذاريات) بدون الواو اقتصاراً على الكلمة التي لم تقع في غيرها من سور القرآن.
وكذلك عنونها الترمذي في جامعه وجمهور المفسرين.
وكذلك هي في المصاحف التي وقفنا عليها من مشرقية ومغربية قديمة.
ووجه التسمية أن هذه الكلمة لم تقع بهذه الصيغة في غيرها من سور القرآن.
وهي مكية بالاتفاق.
وقد عدت السورة السادسة والستين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد.
نزلت بعد سورة الأحقاف وقبل سورة الغاشية.
واتفق أهل عد الآيات على أن آيها ستون آية. 26/335
2_ أغراض هذه السورة: احتوت على تحقيقِ وقوع البعث والجزاء.
وإبطالِ مزاعمِ المكذبين به وبرسالةِ محمد "ورمْيِهِمْ بأنهم يقولون بغير تَثَبُّت.
ووعيدِهم بعذاب يفتنهم.
وَوَعْدِ المؤمنين بنعيم الخلد, وذِكْرِ ما استحقوا به تلك الدرجة من الإيمان والإحسان.
ثم الاستدلالِ على وحدانية الله, والاستدلالِ على إمكان البعث, وعلى أنه واقعٌ لا محالةَ بما في بعض المخلوقات التي يشاهدونها, ويحسون بها دالة على سعة قدرة الله _تعالى_ وحكمته على ما هو أعظمُ من إعادة خلق الإنسان بعد فنائه, وعلى أنه لم يخلق إلا لجزائه.(1/216)
والتعريضِ بالإنذارِ بما حاق بالأمم التي كذبت رسل الله، وبيانِ الشبهِ التام بينهم وبين أولئك.
وتلقينِ هؤلاء المكذبين الرجوعَ إلى الله, وتصديقَ النبي"ونبذَ الشرك.
ومعذرةِ الرسول"مِنْ تَبِعَةِ إعراضهم, والتسجيلِ عليهم بكفران نعمة الخلق والرزق.
ووعيدِهم على ذلك بمثل ما حلَّ بأمثالهم. 26/335_336
1_ سميت هذه السورة عند السلف (سورة الطور) دون واو قبل الطور.
ففي جامع الطواف من الموطأ حديث مالك عن أم سلمة قالت: فَطُفْتُ ورسول الله إلى جنب البيت يقرأ بـ:[الطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ].
أي يقرأ بسورة الطور ولم ترد يقرأ بالآية لأن الآية فيها: [والطُّور] بالواو وهي لم تذكر الواو.
وفي باب القراءة في المغرب من الموطأ حديث مالك عن جبير بن مطعم قال: =سمعت رسول الله " قرأ بالطور في المغرب+.
وفي تفسير سورة الطور من صحيح البخاري عن جبير بن مطعم قال: =سمعت النبي يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية: [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ] كاد قلبي أن يطير+.
وكان جبير بن مطعم مشركاً قدم على النبي " في فداء أسرى بدر وأسلم يومئذ.
وكذلك وقعت تسميتها في ترجمتها من جامع الترمذي وفي المصاحف التي رأيناها، وكثير من التفاسير.
وهذا على التسمية بالإضافة، أي سورة ذكر الطور كما يقال: سورة البقرة، وسورة الهدهد، وسورة المؤمنين.
وفي ترجمة هذه السورة من تفسير صحيح البخاري (سورة والطور) بالواو على حكاية اللفظ الواقع في أولها كما يقال: (سورة قل هو الله أحد).
وهي مكية جميعها بالاتفاق.
وهي السورة الخامسة والسبعون في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة نوح وقبل سورة المؤمنين.(1/217)
وعد أهل المدينة ومكة آيها سبعاً وأربعين، وعدها أهل الشام وأهل الكوفة تسعاً وأربعين، وعدها أهل البصرة ثمانياً وأربعين. 27/35_36
2_ أغراض هذه السورة: أولُ أغراضِ هذه السورةِ التهديدُ بتحقيقِ وقوعِ العذاب يوم القيامة للمشركين المكذبين بالنبي " فيما جاء به من إثبات البعث وبالقرآنِ المتضمن ذلك فقالوا: هو سحر.
ومقابَلةُ وعيدِهم بَوعْدِ المتقين المؤمنين, وصفةِ نعيمهم, ووصفِ تَذَكُّرهم؛ خشيةً، وثنائهم على الله بما مَنَّ عليهم، فانتقل إلى تسلية النبي"وإبطال أقوالهم فيه وانتظارهم موتَه.
وتحديهم بأنهم عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن.
وإبطالُ خليطٍ مِنْ تكاذيبهم بإعادة الخلق، وببعثه رسولٍ ليس من كبرائهم, وبكون الملائكة بناتِ الله, وإبطالُ تعدُّدِ الآلهة, وذكرُ استهزائهم بالوعيد.
وأمرُ النبي"بتركهم, وأن لا يحزن لذلك؛ فإن الوعيدَ حالٌّ بهم في الدنيا ثم في الآخرة, وأمرُه بالصبر، ووعدُه بالتأييد، وأمرُه بشكر ربه في جميع الأوقات. 27/36
1_ سميت (سورة النجم) بغير واو في عهد أصحاب النبي"ففي الصحيح عن ابن مسعود: =أن النبي"قرأ سورة النجم فسجد بها فما بقي أحد من القوم إلا سجد فأخذ رجل كفاً من حصباء أو تراب فرفعه إلى وجهه.
وقال: يكفيني هذا، قال عبدالله: فلقد رأيته بعدُ قُتِل كافراً، وهذا الرجل أمية بن خلف.
وعن ابن عباس أن النبي"سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون.
فهذه تسمية؛ لأنها ذكر فيها النجم.
وسموها سورة (والنجم) بواو بحكاية لفظ القرآن الواقع في أوله وكذلك ترجمها البخاري في التفسير، والترمذي في جامعه.
ووقعت في المصاحف والتفاسير بالوجهين، وهو من تسمية السورة بلفظ وقع في أولها وهو لفظ (النَّجْمِ) أو حكاية لفظ (وَالنَّجْمِ).
وسموها (والنجم إذا هوى) كما في حديث زيد بن ثابت في الصحيحين: =أن النبي"قرأ: والنجم إذا هوى فلم يسجد+ أي في زمن آخر غير الوقت الذي ذكره ابن مسعود وابن عباس.(1/218)
وهذا كله اسم واحد متوسع فيه؛ فلا تُعَدُّ هذه السورة بين السور ذوات أكثر من اسم.
وهي مكية، قال ابن عطية: بإجماع المتأولين.
وعن ابن عباس وقتادة: استثناء قوله _تعالى_: [الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ] الآية قالا: هي آية مدنية، وسنده ضعيف.
وقيل: السورة كلها مدنية ونسب إلى الحسن البصري: أن السورة كلها مدنية، وهو شذوذ.
وعن ابن مسعود هي أول سورة أعلنها رسول الله " بمكة.
وهي السورة الثالثة والعشرون في عد ترتيب السور، نزلت بعد سورة الإخلاص وقبل سورة عبس.
وعد جمهور العادين آيها إحدى وستين، وعدها أهل الكوفة اثنتين وستين.
قال ابن عطية: سبب نزولها أن المشركين قالوا: إن محمداً يتقول القرآن، ويختلق أقواله، فنزلت السورة في ذلك. 27/87_88
2_ أغراض هذه السورة: أولُ أغراضها تحقيقُ أن الرسولَ " صادقٌ فيما يبلِّغه عن الله _تعالى_ وأنه منزهٌ عما ادعوه.
وإثباتُ أن القرآنَ وحيٌ من عند الله بواسطة جبريل.
وتقريبُ صفةِ نزولِ جبريلَ بالوحي في حالين زيادةً في تقريرِ أنه وحيٌ من الله واقعٌ لا محالة.
وإبطالُ إلهيةِ أصنام المشركين, وإبطالُ قولِهم في اللات والعزى ومناة بنات الله, وأنها أوهامٌ لا حقائقَ لها, وتنظيرُ قولِهم فيها بقولهم في الملائكة أنهم إناثٌ.
وذكرُ جزاءِ المُعرضين والمهتدين, وتحذيرُهم من القول في هذه الأمور بالظن دون حجة.
وإبطالُ قياسهم عالمَ الغيبِ على عالم الشهادة, وأن ذلك ضلالٌ في الرأي قد جاءهم بضده الهدى من الله.
وذُكِرَ لذلك مثالٌ مِنْ قصة الوليد بن المغيرة، أو قصة ابن أبي سرح.
وإثباتُ البعث والجزاء.
وتذكيرُهم بما حلَّ بالأمم ذاتِ الشرك مِنْ قَبْلِهم, وبمن جاء قبل محمد"من الرسلِ أهلِ الشرائع.
وإنذارُهم بحادثة تَحُلُّ بهم قريباً.(1/219)
وما تخلل ذلك من مُعْتَرضَات ومُسْتَطْردات لمناسبات ذكرهم عن أن يتركوا أنفسهم(1)، وأن القرآن حوى كتب الأنبياء السابقين. 27/88_89
3_ واستثناء اللمم استثناء منقطع؛ لأن اللمم ليس من كبائر الإثم، ولا من الفواحش.
فالاستثناء بمعنى الاستدراك.
ووجهه أن ما سمي باللمم ضرب من المعاصي المحذر منها في الدين، فقد يظن الناس أن النهي عنها يلحقها بكبائر الإثم؛ فلذلك حق الاستدراك، وفائدة هذا الاستدراك عامة وخاصة: أما العامة فلكي لا يعامل المسلمون مرتكب شيء منها معاملة من يرتكب الكبائر، وأما الخاصة فرحمة بالمسلمين الذين قد يرتكبونها؛ فلا يفُل ارتكابها من نشاط طاعة المسلم، ولينصرف اهتمامه إلى تجنب الكبائر.
فهذا الاستدراك بشارة لهم، وليس المعنى أن الله رخص في إتيان اللمم.
وقد أخطأ وضَّاح اليَمن في قوله الناشىء عن سوء فهمه في كتاب الله وتطفله في غير صناعته:
فما نوَّلَتْ حتى تضرعتُ عندها ... وأنبأتُها ما رَخَّص الله في اللَّمم
واللمم: الفعل الحرام الذي هو دون الكبائر والفواحش في تشديد التحريم، وهو ما يندر ترك الناس له؛ فيكتفى منهم بعدم الإكثار من ارتكابه.
وهذا النوع يسميه علماء الشريعة الصغائر في مقابلة تسمية النوع الآخر بالكبائر. 27/121_122
4_ وسامدون: من السمود وهو ما في المرء من الإعجاب بالنفس, يقال: سمد البعير, إذا رفع رأسه في سيره, مُثِّل به حالُ المتكبر المعرض عن النصح المعجب بما هو فيه بحال البعير في نشاطه.
وقيل السمود: الغِناء بلغة حِمْير, والمعنى: فرحون بأنفسكم تتغنون بالأغاني لقلة الاكتراث بما تسمعون من القرآن كقوله: [وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً] على أحد تفسيرين. 27/160
1_ اسمها بين السلف (سورة اقتربت الساعة).
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعل فيه خطأً مطبعيَّاً، ولعل الصواب: ولمناسبات ذكَّرهم فيها أن يزكوا أنفسهم. (م)(1/220)
ففي حديث أبي واقد الليثي: =أن رسول الله"كان يقرأ بقاف واقتربت الساعة في الفطر والأضحى+، وبهذا الاسم عنون لها البخاري في كتاب التفسير.
وتسمى (سورة القمر) وبذلك ترجمها الترمذي.
وتسمى (سورة اقتربت) حكاية لأول كلمة فيها.
وهي مكية كلها عند الجمهور، وعن مقاتل: أنه استثنى منها قوله _تعالى_: [أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ] إلى قوله: [وَأَمَرُّ] قال: =نزل يوم بدر+ ولعل ذلك من أن النبي"تلا هذه الآية يوم بدر.
وهي السورة السابعة والثلاثون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد، نزلت بعد سورة (الطارق) وقبل سورة (ص).
وعدد آيها خمس وخمسون باتفاق أهل العدد.
وسبب نزولها ما رواه الترمذي عن أنس بن مالك قال: =سأل أهل مكة النبي"آية فانشق القمر بمكة فنزلت: [اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ] إلى قوله: [سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ]+.
وفي أسباب النزول للواحدي بسنده إلى عبدالله بن مسعود قال: انشق القمر على عهد محمد"فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة سحركم، فسألوا السُّفَّار، فقالوا: نعم قد رأينا، فأنزل الله _عز وجل_: [اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ] الآيات.
وكان نزولها في حدود سنة خمس قبل الهجرة ففي الصحيح: =أن عائشة قالت: أُنزل على محمد بمكة، وإني لجارية ألعب: [بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ]+.
وكانت عُقد عليها في شوال قبل الهجرة بثلاث سنين، أي في أواخر سنة أربع قبل الهجرة بمكة، وعائشة يومئذ بنت ست سنين، وذكر بعض المفسرين أن انشقاق القمر كان سنة خمس قبل الهجرة.
وعن ابن عباس كان بين نزول آية: [سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ] وبين بدر سبع سنين. 27/165_166
2_ أغراض هذه السورة: تسجيلُ مكابرةِ المشركين في الآيات البينة، وأمرُ النبي"بالإعراض عن مكابرتهم.
وإنذارُهم باقتراب القيامة, وبما يلقونه حين البعث من الشدائد.(1/221)
وتذكيرُهم بما لَقِيَتْهُ الأممُ أمثالُهم من عذاب الدنيا؛ لتكذيبهم رسلَ الله, وأنهم سيلقون مثلَ ما لقي أولئك؛ إذ ليسوا خيراً من كفار الأمم الماضية.
وإنذارُهم بقتال يُهزمون فيه، ثم لهم عذابُ الآخرة وهو أشد.
وإعلامُهم بإحاطة الله علماً بأفعالهم, وأنه مجازيهم شرَّ الجزاء, ومجازِ المتقين خير الجزاء, وإثباتُ البعث، وَوَصْفُ بعض أحواله.
وفي خلال ذلك تكريرُ التنويهِ بهدي القرآن وحكمته. 27/166
3_ [ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)].
واعلم أن الآية صريحة في أن كل ما خلقه الله كان بضبط جارياً على حكمته، وأما تعيين ما خلقه الله مما ليس مخلوقاً له من أفعال العبادة مثلاً عند القائلين بخلق العباد أفعالهم كالمعتزلة أوالقائلين بكسب العبد كالأشعرية، فلا حجة بالآية عليهم لاحتمال أن يكون مصبُّ الإخبار هو مضمون [خَلَقْنَاه] أو مضمون [بِقَدَر] ولاحتمال عموم [كُلَّ شَيء] للتخصيص، ولاحتمال المراد بالشيء ما هو، وليس نفي حجية هذه الآية على إثبات القدر الذي هو محل النزاع بين الناس بمبطل ثبوت القدر من أدلة أخرى.(1/222)
وحقيقة القدر الاصطلاحي خَفِيَّة؛ فإن مقدار تأثر الكائنات بتصرفات الله _تعالى_ وبتسبب أسبابها ونهوض موانعها لم يبلغ علم الإنسان إلى كشف غوامضه ومعرفة ما مكّن الله الإنسان من تنفيذ لما قدّره الله، والأدلة الشرعية والعقلية تقتضي أن الأعمال الصالحة والأعمال السيئة سواء في التأثر لإرادة الله _تعالى_ وتعلق قدرته إذا تعلقت بشيء، فليست نسبة آثار الخير إلى الله دون نسبة أثر الشر إليه إلا أدباً مع الخالق لقنه الله عبيده، ولولا أنها منسوبة في التأثر لإرادة الله _تعالى_ لكانت التفرقة بين أفعال الخير وأفعال الشر في النسبة إلى الله ملحقة باعتقاد المجوس بأنّ للخير إلهاً وللشر إلهاً، وذلك باطل لقول النبي": =وتؤمنوا بالقدر خيره وشره + وقوله: =القدرية مجوس هذه الأمة+ رواه أبو داود بسنده إلى ابن عمر مرفوعاً. 27/218_219
1_ وردت تسميتها بسورة (الرحمن) في أحاديث منها ما رواه الترمذي عن جابر بن عبدالله قال: =خرج رسول الله " على أصحابه فقرأ سورة الرحمن+ الحديث.
وفي تفسير القرطبي أن قيس بن عاصم المنقري قال للنبي": =اتلُ عليَّ ما أُنزل عليك، فقرأ عليه سورة الرحمن، فقال: أعدها، فأعادها ثلاثاً، فقال: إن له لحلاوة+ الخ.
وكذلك سميت في كتب السنة وفي المصاحف.
وذكر في الإتقان: أنها تسمى (عروس القرآن) لما رواه البيهقي في شعب الإيمان عن علي أن النبي " قال: =لكل شيء عروس وعروس القرآن سورة الرحمن+.(1/223)
وهذا لا يعدوا أن يكون ثناءً على هذه السورة، وليس هو من التسمية في شيء كما رُوي أن سورة البقرة فسطاطا القرآن(1).
ووجه تسمية هذه السورة بسورة الرحمن أنها ابتدئت باسمه _تعالى_ [الرَّحْمَنُ].
وقد قيل: إن سبب نزولها قول المشركين المحكي في قوله _تعالى_: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ] في سورة الفرقان، فتكون تسميتها باعتبار إضافة (سورة) إلى (الرحمن) على معنى إثبات وصف الرحمن.
وهي مكية في قول جمهور الصحابة والتابعين، وروى جماعة عن ابن عباس: أنها مدنية نزلت في صلح القضية عندما أَبَى سهيل بن عمرو أن يكتب في رسم الصلح (بسم الله الرحمن الرحيم).
ونسب إلى ابن مسعود _أيضاً_ أنها مدنية.
وعن ابن عباس: أنها مكية سوى آية منها هي قوله: [يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ].
والأصح أنها مكية كلها وهي في مصحف ابن مسعود أول المفصل.
وإذا صح أن سبب نزولها قول المشركين: [وَمَا الرَّحْمَنُ] تكون نزلت بعد سورة الفرقان.
وقيل: سبب نزولها قول المشركين: [إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ] المحكي في سورة النحل، فرد الله عليهم بأن الرحمن هو الذي علم النبي"القرآن.
__________
(1) _ الظاهر أن معنى: لكل شيء عروس, أي لكل جنس أو نوع واحد من جنسه يزينه تقول العرب: عرائس الإبل لكرائمها؛ فإن العروس تكون مُكَرَّمة مزينة مرعية من جمع الأهل بالخدمة والكرامة, ووصف سورة الرحمن بالعروس تشبيه ما تحتوي عليه من ذكر الحبرة والنعيم في الجنة بالعروس في المسرة والبذخ, تشبيه معقول بمحسوس، ومن أمثال العرب, لا عطر بعد عروس (على أحد تفسيرين للمثل) أو تشبيه ما كثر فيها من تكرير [فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ] بما يكثر على العروس من الحلي في كل ما تلبسه.(1/224)