ج 3 ، ص : 790
المفردات :
التَّراقِيَ : جمع ترقوه ، وهي العظمة التي تمتد من ثغرة النحر إلى العاتق وهما ترقوتان يمينا وشمالا. راقٍ
: من رقى فهو راق ، وهو الذي يعمل الرقية ، والمراد المعالج. الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ : هذا مثل لاشتداد الحال ونهاية الشدة.
يَتَمَطَّى التمطي : التبختر والتكبر في المشي. سُدىً : هملا بلا عناية.
نُطْفَةً النطفة : الماء القليل. يُمْنى : يراق ويصب. عَلَقَةً : قطعة دم عالقة. فَخَلَقَ : قدرها بقدر محكم. فَسَوَّى : عدلها وأحكم أمرها.
المعنى :
وهذا نوع من العلاج عظيم ، هو أن يلفت القرآن أنظار البشرية إلى حالهم ساعة خروج الروح ، وما فيها من أهوال ، ثم يتلطف معهم في الحديث فيذكرهم بالنشأة الأولى ليخلص من ذلك كله إلى إثبات البعث الذي تدور عليه السورة كلها.
كلا أيها البشر : ارتدعوا عن حب العاجلة ، وتذكروا الآخرة واعملوا لها بكل قواكم ، اذكروا ما ينزل بكم ساعة خروج الروح ، ساعة تبلغ الروح الترقوة.
اذكروا إذا بل غت الروح التراقي ، واجتمع الأهل والأصحاب وقالوا : هل من طبيب أو راق ؟ الكل حوله لا يملكون شيئا إلا استدعاء الطبيب ، ولكن الأقدار سهام إذا انطلقت لا ترد ، وكل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه يرجع الأمر ، وظن الإنسان بل وتيقن أنه الفراق لا محالة ، واشتد الأمر ، وعظم الخطب والتفت الساق بالساق ، وانتهى الأمر إلى الواحد الباقي ، إلى ربك وحده ساعتها المساق.
أما المكذب الضال فالويل له!! فإنه لا صدق بمال ولا برأى ولا بشيء أبدا ، ولا صلى للّه ، ولكن كذب بالحق لما جاءه. وأعرض عن رسول اللّه حين دعاه وغرته الدنيا بزخارفها غرورا كثيرا ، ثم ذهب بعد ذلك بتبختر في مشيته ، غير مكترث بما فعل. أولى لك أيها المكذب فأولى : ثم أولى لك فأولى! وهذه عبارة هدد بها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أبا جهل ففهم منها الوعيد والتهديد ، وقال للنبي : أتوعدني يا محمد ؟ واللّه ما تستطيع(3/790)
ج 3 ، ص : 791
أنت ولا ربك فىّ شيئا ، واللّه لأنا أعز من مشى بين جبليها ، ثم لم يلبث أن قتل ببدر شر قتلة.
أيحسب الإنسان المغرور أنه يترك هملا ، بلا شرع ولا حكم ، وبلا حساب ولا عقاب ؟
ألم يك نطفة من ماء يصب في الرحم. ثم صار علقة فمضغة ثم صوره فأحسن تصويره. وسواه فأكمل خلقه. فكان منه الذكر والأنثى لبقاء النوع الإنسانى.
أليس الذي فعل هذا مع الإنسان بقادر أن يحيى الموت ويبعثهم يوم القيامة ؟ ! فكروا واتعظوا أيها الناس ، واعلموا أن الذي رعاكم ورباكم في النشأة الأولى لا يعقل أن يترككم سدى ، ويخلقكم هملا لا يجازى المحسن ، ولا يعاقب المسيء.(3/791)
ج 3 ، ص : 792
سورة الإنسان
وهي مكية ، وحكى بعضهم الإجماع على أنها مدنية ، وعدد آياتها إحدى وثلاثون وتشمل الكلام على البعث ، وعلى خلق الإنسان وهدايته للخير والشر ، ثم بيان عاقبة كل ، مع ذكر أعمال الأبرار وجزائهم.
الإنسان : بعثه وخلقه وتكليفه [سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4)
المفردات :
حِينٌ الحين : جزء محدود من الزمان شامل للقليل والكثير. الدَّهْرِ :
الزمان الممتد الذي ليس بمحدود. نُطْفَةٍ : هي القليل من الماء. أَمْشاجٍ :
جمع مشج ، أى : أخلاط. نَبْتَلِيهِ : نختبره. هَدَيْناهُ : دللناه وأرشدناه إلى الطريق. أَعْتَدْنا : هيأنا. سَلاسِلَ : قيودا توضع في الأرجل.
وَأَغْلالًا : أطواقا توضع في الأيدى.(3/792)
ج 3 ، ص : 793
المعنى :
هل أتى على الإنسان وقت من الزمن لم يكن شيئا مذكورا ؟ وقد علم اللّه أنهم يقرون فيقولون : نعم قد أتى عليه ذلك ، فيقال لهم : الذي أوجده من العدم بعد أن لم يكن كيف يمتنع عليه إحياؤه من العدم « 1 » ؟ والإنسان من حيث هو إنسان مر عليه حين من الدهر كانت الكرة الأرضية خالية منه ، وهذا الزمن لا يعلمه إلا اللّه.
هذا الإنسان الذي خلق من العدم كيف خلق ؟ يقول اللّه - تعالى - مجيبا ومؤكدا :
إنا خلقناه من نطفة أمشاج ، يا سبحان اللّه! يقول اللّه تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة موصوفة بأنها أخلاط ، فيها نوازع الخير والشر كامنة ، وفيها صفات للإنسان مختلفة ، وفيها اتجاهات له متباينة. ولو شاء ربك لجعل الناس على نظام واحد وطريقة واحدة كلهم للخير أو كلهم للشر ، ولكنهم لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ، ولأجل هذا الاختلاف خلقهم ، فبه يعمر الكون ، وتكون الدنيا والآخرة.
خلقنا ربك من نطفة فيها أخلاط ليبتلينا ، إنا خلقناه من نطفة أمشاج حالة كوننا مريدين ابتلاءه واختباره فيما سنكلفه به من شرائع.
ولهذا جعلناه سميعا بصيرا ، أى : فترتب على إرادة الابتلاء أن خلق اللّه فينا قوة العقل والإدراك لنميز بعقولنا التي كان طريقها المهم السمع والبصر ، ولكن هل يكفى العقل وحده لإدراك الخير والشر ؟ لا .. ولهذا قال : إنا هديناه السبيل العام ، أى : دللناه وبينا له طريق الخير وطريق الشر بواسطة الشرائع والرسل بعد أن منحناه العقل والنظر.
فاللّه - سبحانه - خلق الإنسان ، وفيه نوازع الخير والشر ، والاتجاهات المختلفة المتباينة ثم رزقه عقلا وفكرا ، وأرشده بعد ذلك إلى سبيل الخير والشر بواسطة الكتب والرسل .. إنا هديناه السبل حالة كون الإنسان إما شاكرا وإما كفورا ، فهو بعد ذلك إما شاكرا لربه نعمه سالكا سبل الخير مستحقّا دار الكرامة ، وإما كفورا لنعم ربه لم يقم بحقها فكفر وكذب وعمل سيئا ، فاستحق دار الإهانة ، وهذا ما أعد لكل من الفريقين فريق الشاكرين وفريق الكافرين. إنا هيأنا للكافرين في جهنم سلاسل توضع في أرجلهم وأغلالا في أيديهم وأعناقهم : ونارا مستعرة يصلونها وبئس القرار قرارهم.
___________
(1) هذا المعنى على أن (هل) استفهامية ، وهي تفيد التقرير ، وبعضهم يقول : إنها بمعنى (قد) وتفيد التقرير ، والمآل واحد على المعنيين.(3/793)
ج 3 ، ص : 794
الأبرار : أعمالهم وجزاؤهم [سورة الإنسان (76) : الآيات 5 الى 22]
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9)
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14)
وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19)
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)(3/794)
ج 3 ، ص : 795
المفردات :
الْأَبْرارَ : جمع بر. وهو من جمع بين الصدق والتقوى والإخلاص.
كَأْسٍ الكأس : تطلق على إناء الخمر وعلى الخمر نفسها. مِزاجُها : ما تمزج به. كافُوراً : طيب معروف له رائحة جميلة. يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً فجر الماء وفجره : إذا أخرجه من الأرض وشق طريقا يجرى فيه ، والمراد أنها تحت أمرهم.
بِالنَّذْرِ النذر : هو ما التزمته منه قربة للّه ، والوفاء به إنفاذه حسب ما التزمته.
مُسْتَطِيراً : منتشرا فاشيا في كل جهة. مِسْكِيناً : هو من أسكنه فقره وحاجته أو ذله حتى كان قليل الحركة. وَيَتِيماً اليتم : التفرد ، وهو هنا من فقد أباه حتى أصبح وحيدا بلا عائل. وَأَسِيراً : من أسر في حرب إسلامية مع الكفار. عَبُوساً : شديد الهول عظيم الخطر. قَمْطَرِيراً : شديدا مظلما.
وَلَقَّاهُمْ : ألقى عليهم وأعطاهم. نَضْرَةً وَسُرُوراً : حسنا وفرحا.
مُتَّكِئِينَ الاتكاء : الجلوس بتمكن وراحة. وغالبا يكون على شق واحد مع الاعتماد على وسادة. الْأَرائِكِ : جمع أريكة وهي السرير عليه الأستار والكلة - الناموسية - زَمْهَرِيراً : بردا قارسا. وَذُلِّلَتْ : سهلت حتى صارت في متناول الأيدى. قُطُوفُها : جمع قطف وهو العنقود ساعة يقطف. بِآنِيَةٍ :
هي صحاف الطعام. وَأَكْوابٍ : جمع كوب : آنية الشراب ، والكوب قدح مستدير الرأس لا عروة فيه ، ولا خرطوم ، وهو ما نسميه الآن - كوبة - وارِيرَ
: جمع قارورة وهي الوعاء الزجاجي المعروف. زَنْجَبِيلًا : نبات له طعم حريف ورائحة جميلة. سَلْسَبِيلًا : الشراب السهل المرور في الحلق لعذوبته ، واسم عين في الجنة. سُندُسٍ : من الثياب المصنوعة من الحرير. وَإِسْتَبْرَقٌ :
نسيج من حرير سميك. وَحُلُّوا ألبسوا حلية. شَراباً طَهُوراً : نقيّا من الشوائب.
المعنى :
تلك سنة القرآن يتبع الترهيب بالترغيب ، ويتكلم على الكفار ونهايتهم ثم على الأبرار من المؤمنين وخاتمتهم ، ليظهر الفرق جليا فيكون ذلك أدعى إلى الإيمان وعدم التكذيب.(3/795)
ج 3 ، ص : 796
إن الأبرار لفي نعيم ، يشربون شرابا ممزوجا بالكافور ، هذا الشراب مستمد من عين جارية لا ينفد ماؤها ، أعنى عينا يشربها عباد اللّه ، يجرونها حيث شاءوا فهي طوع إرادتهم.
وكأن سائلا سأل : بما ذا استحقوا تلك الكرامة ، وهذا النعيم ؟ والجواب : إنهم يوفون بالنذر ، ويخافون يوم الحساب فإن شره مستطير ، وهم يتمتعون بخلق كريم فاضل ، والوفاء بالنذر الشرعي الذي هو قربة إلى اللّه كنذر صيام أو صلاة أو صدقة دليل على قوة الإيمان ومضاء العزيمة في الخير ، وإذا وفي الإنسان بالنذر لأنه التزام ، فالوفاء بالواجب المكلف به شرعا أحرى وأهم له ، بل هو من باب أولى ، تلك هي الخصلة الأولى للأبرار. والخصلة الثانية : خوفهم من الحساب ، فهذا الخوف يدعوهم إلى عمل الصالح من الأعمال ، وترك الفحش من السيئات ، وهذا اليوم جدير بالخوف من العقلاء لأن فيه شرا مستطيرا منتشرا في كل جهة.
والخصلة الثالثة : تمسكهم بالخلق الفاضل ، وتحليهم بكرم الفعال كإطعام الطعام للمحتاجين ، وبالتجربة كان الإطعام والبذل للّه دليلا على صدق الإيمان ، وقوة اليقين هؤلاء يساعدون المحتاج ، ويمدون إليه يد المعونة وخاصة الإطعام ، والمحتاج مسكين قانع أو يتيم محروم أو أسير ذليل ، هم يطعمون الطعام مع حبه وشدة الحاجة إليه.
وقد روى عن علىّ - كرم اللّه وجهه - وزوجه فاطمة - رضى اللّه عنها - أنهما نذرا للّه نذرا إن شفى الحسن والحسين سبطا رسول اللّه فسيصومان ثلاثة أيام ، فشفاهما اللّه فصاما ولم يكن عند هما إلا ما يفطرهما فقط ، وعند المغرب سألهما مسكين طعاما ، فأعطياه الطعام مع الحاجة إليه وباتا على الطوى : وفي اليوم الثاني سألهما يتيم فأعطياه مع شدة الحاجة ، وفي اليوم الثالث سألهما أسير فأعطياه وقد صاما ثلاثة أيام متوالية بلا طعام .. عند ذلك نزل جبريل على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بهذه الآيات ثم قال : خذها يا محمد هنأك اللّه في أهل بيتك.
هذا هو الإيمان السليم من كل شائبة ، يطعمون الطعام على حبه قائلين بلسان الحال لا بلسان المقال ، قالوا : إنا نخاف من ربنا عذاب يوم تعبس فيه الوجوه من كثرة ما تلاقى : عبوسا لشدة هوله وعظيم خطره على العباد ، يوما عبوسا قمطريرا ، أى :
شديدا مظلما.(3/796)
ج 3 ، ص : 797
كافأهم اللّه على ذلك بأن وقاهم شر ذلك اليوم وألقى عليهم بدل العبوس والظلمة والشدة والرهق حسنا وبهجة وبهاء. وسرورا ، أعطاهم جنة تجرى من تحتها الأنهار ، أكلها دائم ، وظلها كذلك ، وتلك عقبى المتقين ، وأعطاهم جنة وكساهم حريرا ، وأجلسهم على الأرائك متكئين جلسة المتمكن الهادئ فارغ البال ، وهم في تلك الجنة ، لا يرون شمسا محرقة ، ولا يحسون بردا شديدا ، بل هم في جو هادئ حالم لا يشعرون بما يكدرهم.
وهذه الجنة قد دنت عليهم ظلالها الوارفة ، وكانت ثمارها سهلة التناول ، يتناولها الشخص بلا تعب ولا مشقة ، يا سبحان اللّه!! وهم فيها مكرمون ، لهم خدم وحشم ، ويطوف عليهم غلمان لهم بآنية من فضة فيها طعامهم ، ويطاف عليهم بأكواب من فضة ، فيها شرابهم ، هذه الأكواب فيها صفاء الزجاج وبياض الفضة ونضرتها ، وهذه الأوانى قد قدرت لهم تقديرا تامّا فليست صغيرة لا تفي بما يطلبون ، ولا كبيرة تزيد على ما يحتاجون.
وهم في الجنة يسقون فيها شرابا تارة يمزج بالكافور كما مضى ، وطورا يمزج بالزنجبيل ، وهذا الشراب مستمد من عين لا تنقطع تسمى سلسبيلا لأنها سهلة لينة هينة ، ولهم خدم يطوفون عليهم ، هؤلاء الولدان مخلدون في نضرة الشباب وروعة الحسن والجمال إذا رأيتهم مقبلين ومدبرين حسبتهم لؤلؤا منثورا في الصفاء والنظافة والجمال.
وإذا رأيت هناك - ونسأل اللّه الكريم أن يرينا ذلك - رأيت نعيما لا يقادر قدره ، ولا يدرى كنه ، ورأيت ملكا كبيرا ، يتضاءل أمامه ملك كسرى وقيصر ، وما مر من وصف لبعض مشاهد الجنة فوصف تقريبي فقط ، ونعيمها الحقيقي لا يعلمه إلا خالقه ، وهم في الجنة تعلوهم ثياب من سندس رقيق أخضر ، ومن إستبرق سميك كل بما يناسبه ، وألبسوا حلية هي أساور من فضة أو ذهب ، وسقاهم ربك شرابا لا يدرى وصفه ، شراب طهور نقى من كل الشوائب.
إن هذا كان لكم أيها العاملون الشاكرون جزاء على أعمالكم ، وكان سعيكم مشكورا.(3/797)
ج 3 ، ص : 798
توجيهات للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم [سورة الإنسان (76) : الآيات 23 الى 31]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)
المفردات :
آثِماً : كثير الإثم. كَفُوراً : شديد التعصب للكفر. بُكْرَةً وَأَصِيلًا : أول النهار وآخره. الْعاجِلَةَ : الدنيا. وَيَذَرُونَ : يتركون.
ثَقِيلًا : شديدا. وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ : ربطنا أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق ، وفي القاموس : الأسر : شدة الخلق والخلق ، والمراد : أحكمنا خلقهم.
تَذْكِرَةٌ : عظة وعبرة.
لقد جمعت هذه السورة بين تذكير الإنسان بخلقه ونشأته ثم تكليفه بالشرائع ، ووعظه ببيان أحوال المكذبين يوم القيامة والمؤمنين ، ومع هذا فقد ظل المشركون على(3/798)
ج 3 ، ص : 799
ما هم عليه ، فكان من الخير أن تختم السورة بتوجيهات شديدة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم تنفعه في هذا الوضع.
المعنى :
إنا نحن نزلنا عليك القرآن يا محمد : نزلناه تنزيلا ، فهذا القرآن حق لا شك فيه ولا مراء ، وليس عليك إلا اتباعه ، وعلينا وحدنا نصرة المؤمنين وخذلان الكافرين ، فالأمر كله للّه الذي أنزل القرآن كتابا محكما لا يأتيه الباطل أبدا ، وإذا كان الأمر كذلك فاصبر لحكم ربك فإنه هو الحكم العدل ، سيقضي بينك وبينهم بالقول الفصل ، وما عليك شيء سوى الصبر ، وإياك أن تطيع منهم آثما كثير الذنوب كعتبة بن ربيعة الذي كان يعرض على النبي أن يترك دينه نظير تزويجه بنتا جميلة من بناته ، ولا تطع منهم كفورا قوى الشكيمة في الكفر شديد التعصب للجاهلية كأبى جهل والوليد بن المغيرة ، الذي
يروى عنه أنه كان يقول للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : ارجع عن هذا الأمر وسأعطيك مالا حتى ترضى ، ولهذا قال له ربه : اصبر حتى يقضى اللّه أمرا كان مفعولا ، ولا تطع منهم آثما أو كفورا.
ولهذا لا بد لمقابلة هذه الشد ائد من التذرع بسلاح الإيمان القوى : ألا وهو الذكر في الصباح والمساء والغدو والرواح فإنه الحصن الحصين ، والسجود للّه في الليل وتسبيحه في وقت طويل منه.
وأما هؤلاء الكفار فدعهم لخالقهم فهو أعلم بهم وأدرى ، إنهم يحبون العاجلة ويجرون وراء الدنيا وزينتها الفانية ، ويتركون وراءهم يوما شديد الهول ، يوما تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ، فنحن خلقناهم ، وأحكمنا خلقهم وتصويرهم. وإذا شئنا بدلنا بهم أمثالهم تبديلا ، فربك على كل شيء قدير ، وهذا تهديد لهم كبير.
إن هذه السورة وأمثالها - يا محمد - تذكرة وعظة فمن شاء اتعظ واتخذ إلى ربه سبيل الخير الموصلة للخير في الآخرة. ومن شاء لم يتعظ واتخذ طريق الضلال والإثم والفسوق والعصيان إلى ربه ؟ وهذا أسلوب تطمين وتهدئة لخاطر النبي الكريم.(3/799)
ج 3 ، ص : 800
فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ، إذ السبل مفتحة أمام العبد وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ « 1 » ولكن اعلموا أن الأمر مع هذا للّه ، وما تشاءون إلا وقت أن يشاء اللّه ، فللعبد مشيئة جزئية هي مناط الثواب والعقاب ، وللّه المشيئة الإلهية.
إن اللّه كان عليما بخلقه حكيما في كل أفعاله.
ثم ختمت السورة ببيان عاقبة الفريقين : أما أحدهما فاللّه يدخله في رحمته وجنته ورضوانه ، وأما الآخر فهم الظالمون وقد أعد اللّه لهم عذابا أليما.
___________
(1) - سورة البلد آية 10.(3/800)
ج 3 ، ص : 801
سورة المرسلات
وهي مكية وعدد آياتها خمسون آية ، وتشمل الكلام على البعث بالقسم عليه ثم ببيان مقدماته ، ثم ذكر بعض مظاهر القدرة للّه في خلقه ، ثم ذكر حال الكفار يوم القيامة ، وذكر حال المؤمنين كذلك ، وقد ختمت بلوم الكفار على بعض أعمالهم.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 50]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9)
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)
هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49)
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)(3/801)
ج 3 ، ص : 802
المفردات :
وَالْمُرْسَلاتِ : فسرها بعضهم بالملائكة المرسلة بأمره تعالى فعصفن في المضي وأسرعن في تنفيذ الأمر كما تعصف الريح ، وبعضهم فسرها بالرياح المرسلات بأمره إلى جهات مختلفة ، فالعاصفات : السريعات الهبوب والسير. عُرْفاً : إرسالا متتابعا مأخوذ من عرف الفرس ، وهو اسم للشعر المتتابع الثابت في محدب الرقبة.
وَالنَّاشِراتِ نَشْراً أى : الرياح التي تنشر السحب في السماء ، أو هي الملائكة تنشر الشرائع في الأرض. فَالْفارِقاتِ فَرْقاً : الرياح تفرق السحاب في أجواء الفضاء ، أو هي الملائكة تفرق بين الحق والباطل. فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً : هي الرياح تلقى في قلوب الناس ذكرا لمن أرسلها بالخير ، أو هي الملائكة تلقى على الأنبياء الذكر(3/802)
ج 3 ، ص : 803
من الوحى. طُمِسَتْ : ذهب ضوؤها. فُرِجَتْ : تشققت.
نُسِفَتْ : تفرقت أجزاؤها من نسف الحب بالمنسف : إذا نفضه وذراه.
أُقِّتَتْ : بلغت الوقت المحدود لها. لِيَوْمِ الْفَصْلِ : يوم القيامة. ماءٍ مَهِينٍ : ماء حقير ضعيف. قَرارٍ مَكِينٍ : مستقر حصين وهو الرحم. قَدَرٍ مَعْلُومٍ : زمان معين. فَقَدَرْنا وقدرنا : بمعنى هيأنا وأحكمنا. كِفاتاً كفت الشيء : ضمه وجمعه ، كفاتا مصدر له. رَواسِيَ : جبالا ثابتات.
شامِخاتٍ : عاليات مرتفعات. فُراتاً : عذبا. ظِلٍّ المراد به : دخان جهنم. شُعَبٍ : فروع وذوائب. بِشَرَرٍ : جمع شرارة ، وهي ما يتطاير من النار. كَالْقَصْرِ : كالدار ، والعرب تطلق القصر على البناء الكبير والصغير.
جِمالَتٌ جمع جمال الذي هو جمع جمل ، وهو الحيوان المعروف. كَيْدٌ : مكر أو حيلة. ظِلالٍ : جمع ظل.
المعنى :
أقسم الحق - تبارك وتعالى - على وقوع يوم البعث الذي يكذب به المشركون أقسم بالملائكة التي أرسلن بأمره - تعالى - وأمرن بإنفاذه فورا حالة كونها متتابعات فعصفن في المضي فيه تنفذه وأسرعن إسراعا كما تعصف الرياح ، وذلك دليل على سرعة الامتثال وأنهم لا يتباطئون في تنفيذ أمره ، وأقسم « 1 » كذلك بالملائكة التي تنشر الموتى أو : التي تنشر أجنحتها في الفضاء هابطات أو صاعدات ، أو تنشر الشرائع على الأنبياء فتفرق بين الحق والباطل ، فتلقى ذكرا إلى الأنبياء - عليهم السلام - على أن الإلقاء ليس مختصا بجبريل وإنما هو رئيسهم ، تلقى هذا لأجل إعذار المحقين في أعمالهم ، وإنذار المبطلين كذلك لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل.
وبعض العلماء يذهب في تفسير الآية مذهبا آخر يتضمن أن المراد بالمذكورات الرياح وعلى ذلك فيكون المعنى :
___________
(1) هنا سؤال : لم عطف بالواو في قوله : والناشرات وعطف بالفاء في غيرها ؟ والجواب - واللّه أعلم - أن الواو تدل على المغايرة في الذات وكأن اللّه أقسم بطائفتين ، الأولى بالمرسلات فالعاصفات والثانية والناشرات فالفارقات فالملقيات ، والفاء تدل على ترتيب معاني الصفات في الوجود فكان الإرسال فالعصف ، وكان النشر فالفرق فالإلقاء.(3/803)
ج 3 ، ص : 804
أقسم - تبارك وتعالى - بالرياح لما لها من الأثر الفعال في حياة العالم بل في وجود هذا الكون ، أقسم بها ليلفت النظر إليها كما أقسم بالكواكب في سورة النازعات ، وبالخيل في سورة العاديات ، على أن الرياح والكواكب والخيل كلها تعدو وتسير وكلها من صنع الجليل القدير جل شأنه.
أقسم بالرياح التي أرسلت بعد ركودها تحمل السحب وتلقح الشجر ، وتحمل البذر ، وتدفع السفن ، إلى غير ذلك ، وهذه الرياح التي أرسلت متتابعة الهبوب كشعر الفرس الذي ينبت في محدب رقبته ، وهي بعد الإرسال تأخذ في العصف بشدة ، فالعصف عقب الإرسال ، ولذا عطف بالفاء.
وأقسم بالرياح الناشرات « 1 » نشرا التي تنشر السحب وتبسطها في الفضاء ، وبعد ذلك تأخذ في تفريقها وتوزيعها على من يشاء من عباده وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ [الأعراف 57] وهذه الرياح بعد أن تفرق السحب وتوزعها على من يشاء تلقى في قلوب الناس ذكر اللّه - سبحانه وتعالى - الذي أرسلها ومن عليهم بها ، وهذا معنى قوله تعالى فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً والناس حينما يذكرون اللّه وقت هبوب الرياح وحملها للسحب ، منهم من يذكر اللّه مؤمنا به وبصفاته ، ومصدقا بوحيه ورسله وكتبه فيكون هذا عذرا له عند ربه في محو سيئاته ، ومنهم من يكون ذكره بمثابة الإنذار له بسوء حيث ينسب هبوب الرياح وسقوط الأمطار لغير اللّه كالطواغيت والأصنام أو الأنواء والكواكب كما كانوا يقولون : مطرنا بنوء كذا.
أقسم اللّه بهذه الرياح على أن ما توعدون به من البعث والثواب والعقاب واقع لا محالة.
مقدمات البعث : فإذا النجوم طمست ، وذهب ضوؤها بعد أن كانت مضيئة وإذا السماء فرجت وتشققت أجزاؤها بعد أن كانت ملتحمة متينة الوضع والتركيب قوية الجاذبية. إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق 1] وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ 19] وإذ
___________
(1) ويظهر أن العطف بالواو على هذا المعنى لتباين صفة العصف مع النشر ، بخلاف غيرها فكأن القرآن نزل تغاير الصفة منزلة تغاير الذات على هذا.(3/804)
ج 3 ، ص : 805
الجبال التي كانت ثوابت ورواسى تقلع من أصلها ، وتفرق أجزاؤها ، وتذرى في الرياح كأنها نسفت بالمناسيف وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً [سورة النبأ آية 20] وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [سورة الواقعة آية 5].
وهذا وصف للعالم يوم القيامة أو قبله بقليل ، وليس هناك أحد يعفى من السؤال حتى الرسل والأنبياء فإنه يوقت لهم وقت لا يتعدونه ليشهدوا على أنفسهم بالبلاغ ، ويشهدوا على أممهم ، مبرئين أنفسهم من تبعة التقصير في التبليغ ، وهذا معنى وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ أى : أجلت ليوم خاص ، وكأن سائلا سأل عن ذلك اليوم الموعود ؟
فأجيب : ليوم الفصل الذي ليس بالهزل ، وما أدراك ؟ أى : ما أعلمك به أيها الإنسان ؟ ما يوم الفصل! أى : ما كنهه وحقيقته ؟ وإنه لعجيب منك أن تلهو عنه ولا تعمل له.
فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت « 1 » ، فعندئذ تعلمون صدق الوحى في إثبات البعث ، وتعلمون حينئذ مقدار ضلالكم وأن الويل والهلاك والثبور لكم.
بعض مظاهر القدرة التي تلقى في قلوب الكفار والمكذبين الروع بعد الكلام على يوم القيامة وأهواله : ألم نهلك الأولين من قوم عاد وثمود وغيرهم ممن كذبوا بالرسل ولم يؤمنوا باللّه وباليوم الآخر وأنتم تعلمون ذلك! ثم بعد ذلك أتبعناهم قوما آخرين ، كانوا بعدهم في الزمن ، وكذبوا مثلهم ، والمراد أقروا « 2 » بذلك فاعتبروا به ، وتنبهوا له ، واحذروا أن تكونوا مثلهم ، فإن مثل ذلك الفعل الذي فعلناه مع غيركم نفعله بالمجرمين الذين يكذبون بيوم الدين ، ويل يومئذ للمكذبين وهلاك لهم وأى هلاك ؟ ! وهذه الجملة كررت هنا عشر مرات لأن السورة تضمنت ذكر نعم ونقم ، فكان إذا ذكرهم اللّه بنعمة أو خوفهم من نقمة أكد التذكير أو التخويف بذكر الهلاك والثبور المعد للمكذبين يوم القيامة ردعا لهم عن الغفلة وحثا لهم على التصديق وعمل الخير.
ألم نخلقكم من ماء ضعيف حقير ؟ فعلى أى شيء تتكبرون عن الإيمان باللّه واليوم الآخر ؟ ألم يخلق اللّه الإنسان من منى يمنى ؟ ثم كان علقة فمضغة ... إلخ ، كل ذلك ،
___________
(1) وهذا إشارة إلى جواب إذا.
(2) وهذا إشارة إلى أن الهمزة للتقرير ، وكذا الاستفهام فيما سيأتى.(3/805)
ج 3 ، ص : 806
وهو في رحم أمه ، قد وضع في قرار مكين ، وإن الأطباء وعلماء التشريح قد وقفوا على تفسير الآية عمليا ، وأن الرحم بالنسبة للجنين مكان حصين ومستقر أمين ، وكان فيه مع هذا إلى قدر معلوم ، وزمان محدود فإذا حان وقت خروجه تفتحت الأبواب ، ولانت العظام ، واتسع القرار المكين لنزول الجنين ، ألا ترى أن ربك قدر ذلك وهيأه تهيئة العليم الحكيم القوى القادر ؟ فنعم القادرون المقدرون بالحمد والثناء ، والمراد اللّه جل جلاله وتقدست أسماؤه.
ألم نجعل الأرض كفاتا ؟ أى : تكفتكم وتضمكم حالة كونكم أحياء وأمواتا ؟ ! يا سبحان اللّه أليس هذا من عجائب قدرة اللّه أن جعل الأرض مستقرّا للإنسان على ظهرها يحيى ويتقلب ويسير ، وهي - إذا مات - تضمه في بطنها ، وتوارى سوأته وتكرم جسده. فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ [سورة المائة آية 31].
أليس من نعم اللّه على خلقه أن جعل الأرض تضمهم إليها حالة كونهم أحياء وأمواتا ؟ وجعلنا في الأرض رواسى ثابتات ، وأطوارا شامخات ، كان لها أثر كبير في إنزال المطر ولذا جاء بعد هذا : وأسقيناكم ماء عذبا فراتا ، ويل يومئذ وهلاك شديد للمكذبين الذين يكذبون بنعم ربك ، ويكذبون بيوم الدين.
الكفار يوم القيامة : يقال لهم : انطلقوا إلى عذاب كنتم به تكذبون ، فهذه جهنم التي يكذب بها الكافرون ، وانطلقوا إلى ظل!! يا سبحان اللّه ، الظل الذي يتفيؤه الإنسان ويتخذه مقيلا لراحته هو الظل الممدود الذي لا ينفذ منه حر ولا قر ، ولا نار ولا لهب ، وهذا هو الظل المعد لأصحاب اليمين ، أما الظل المعد للكفار فعذاب أليم ، ودخان من يحموم لا بارد ولا كريم ، هو ظل ذو ثلاث شعب ، فهو يحبس الأنفاس ، ويكوى بالنار ، ويرمى بالشرار ، ظل ليس ظليلا واقيا من وهج الشمس أو لفح النار وليس يقي من اللهب ، ظل ناره ترمى بشرر كالقصر أو الجمالات الصفر ، فهو ظل جهنمى والعياذ باللّه فهو نوع من العذاب شديد ، فهو دخان أسود قاتم يملأ الخافقين منعقد من نار تلظى ، وانظر إلى وصف الشرر بأنه كالبيت في الضخامة ثم هو كالجمال في الشكل والخفة وسرعة الحركة واللون ، وإنه لحقا تنزيل رب العالمين!! ويل يومئذ(3/806)
ج 3 ، ص : 807
للمكذبين ، هذا يوم لا ينطق فيه الكافر بما ينفعه أصلا ، أو عند ذلك لا يتكلم أبدا ، ولا يؤذن له فيعتذر « 1 » ويل يومئذ للمكذبين.
هذا يوم الفصل ، والقضاء بالعدل ، هذا يوم جمعناكم فيه مع الأولين السابقين لكم في الزمن أو المكانة ، فهل تستطيعون أن تفلتوا ؟ ! فإن كان لكم كيد به تستطيعون شيئا فافعلوا وكيدوني ، يا ويلكم أيها المكذبون! وويل يومئذ للمكذبين!! حال المتقين : إن المتقين الذين اتقوا ربهم وخافوا يوما كان شره مستطيرا هم في ظلال وعيون ، أى : قريبون من العيون ، تجرى من تحتهم الأنهار فلا يتعبون ، وعندهم فواكه كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ، فواكه مما يشتهون ، ويقال لهم تكريما : كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون ، ولا غرابة في ذلك ، إنا كذلك نجزى المحسنين ، ويل يومئذ للمكذبين الذين يقال لهم في الدنيا : كلوا كما تأكل الأنعام ، وتمتعوا قليلا فإنا نستدرجكم إلى يوم الدين ، كلوا وتمتعوا بدنياكم ، وغدا حسابكم إنكم مجرمون ، ويل يومئذ للمكذبين ، وكان من سوءاتهم أنه إذا قيل لهم : اركعوا للّه ربكم ، واعبدوه وحده ، ولا تشركوا به شيئا لا يركعون ، وقيل : المراد بالركوع ركوع الصلاة.
ويل يومئذ للمكذبين! الويل لهم والهلاك لهم والثبور ، حيث لم يشكروا النعم ولم يخافوا النقم فالويل لهم ثم الويل لهم!! إذا كان الأمر كذلك وأنهم لم يؤمنوا بهذا الحديث العجيب ، فبأى حديث بعده يؤمنون ؟ ؟ إذ هو الكتاب الكامل الذي جمع فأوعى ، وهكذا المغضوب عليهم يقضون حياتهم لا ينتفعون بحكمة ولا يهتدون بنور.
___________
(1) قرئت بالرفع لأن نصبها يشعر بأنهم قد يعتذرون لو أذن لهم ، والقرآن يريد لمن يصفهم أنهم لا يعتذرون أصلا أو لم يؤذن لهم.(3/807)
ج 3 ، ص : 808(3/808)
ج 3 ، ص : 809
سورة النبأ
وتسمى سورة عم. وهي مكية ، وعدد آياتها أربعون آية ، وهذه السورة تكلمت على الب عث وإثباته ، وبيان مظاهر قدرة اللّه ، ثم تعرضت لمنكري البعث وبينت حالهم يوم القيامة : وحال المؤمنين به ، على أن تهويل يوم القيامة وتفخيم شأنه ، وتخويف الناس من عذابه من عناصر السورة المهمة التي ذكرت في ثنايا الكلام.
[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 40]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4)
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19)
وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24)
إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29)
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34)
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39)
إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)(3/809)
ج 3 ، ص : 810
المفردات :
عَمَّ يَتَساءَلُونَ : عن أى شيء يسألون رسول اللّه ؟ عَنِ النَّبَإِ : عن خبر يوم البعث ، والنبأ : هو الخبر المهم. كَلَّا : كلمة ردع لهم وزجر. مِهاداً المهاد : الفراش الموطأ ، وفي القاموس : المهد : الموضع المهيأ للصبي كالمهاد.
أَوْتاداً أى : كالأوتاد ، والوتد : خشبة تغرس في الأرض ويظهر منها جزء.
أَزْواجاً : أصنافا ، والمراد ذكر وأنثى. سُباتاً السبات : الموت ، والمراد :
جعلنا نومكم كالموت ، والمادة تدل على القطع فالنوم يقطع التعب والألم ، والموت يقطع الحياة ، والمراد : جعلنا نومكم راحة لكم. لِباساً أى : كاللباس في الستر.
مَعاشاً : حياة ، ووقتا لطلب العيش. وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً أى : خلقنا فوقكم السموات كالقباب. سِراجاً وَهَّاجاً : سراجا متلألئا وقادا ، وهو الشمس. الْمُعْصِراتِ المراد : السحائب. ثَجَّاجاً : منصبا كثيرا. حَبًّا(3/810)
ج 3 ، ص : 811
وَنَباتاً
الحب : ما يقتات به الإنسان كالذرة والحنطة ، والنبات ما يقتات به الحيوان كالتبن والحشائش. وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً أى : جنات ملتفة الأشجار كثيرة الأغصان.
أَفْواجاً : جمع فوج ، وهو الجماعة المتميزة عن غيرها بشيء.
سُيِّرَتِ الْجِبالُ : تناثرت أجزاؤها حتى صارت كالغبار المتطاير. سَراباً : وهو ما يظهر في الجو فيظنه الرائي ماء. مِرْصاداً : مكانا معدا لرصدهم.
لِلطَّاغِينَ : المتجاوزين الحدود في العصيان. مَآباً : مرجعا. لابِثِينَ :
مقيمين فيها. أَحْقاباً : جمع حقبة أو حقب ، والمراد : مددا متطاولة لا نهاية لها.
حَمِيماً : هو الماء الحار. غَسَّاقاً : هو القيح والصديد الدائم السيلان من أجساد أهل النار. كِذَّاباً : تكذيبا كثيرا. كِتاباً : إحصاء. مَفازاً أى : فوزا ، أو مكانا للفوز. حَدائِقَ الحديقة : البستان المثمر شجره.
كَواعِبَ : جمع كاعب ، وهي الفتاة التي استدار ثديها. أَتْراباً : جمع ترب ، وهن من كن في سن واحدة كاللدات. كَأْساً : هو إناء من البلور يشرب فيه. دِهاقاً : ممتلئة. لَغْواً : هو ما لا يعتد به من الكلام. عَطاءً :
فضلا وإحسانا منه. حِساباً : كافيا على قدر أعمالهم. الرُّوحُ : جبريل عليه السلام. صَفًّا : مصطفين. صَواباً أى : قولا صوابا. مَآباً :
مرجعا.نْذَرْناكُمْ
: حذرناكم.نْتُ تُراباً
: لم أخلق.
المعنى :
كان المشركون يتساءلون عن البعث فيما بينهم. ويخوضون فيه إنكارا له واستهزاء بوقوعه ، فرد اللّه عليهم بأسلوب الاستفهام تفخيما لشأن المسئول عنه وتهويلا ، وإخراجا له عن دائرة علوم الخلق.
عن أى شيء يسألون « 1 » الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين ؟ ! عن النبأ العظيم يتساءلون ؟ الذي هم فيه مختلفون فمنهم من هو جازم بعدم وقوعه ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا « 2 » ومنهم من ينكره لأنه ينكر وجود اللّه ... إلخ.
___________
(1) فالتساؤل متعد ومفعوله في الآية محذوف لظهوره ، على أن المنكر هو السؤال فقط.
(2) سورة الجاثية آية 24.(3/811)
ج 3 ، ص : 812
كلا! وهي كلمة ردع عن التساؤل والاختلاف في البعث مع وضوح الأدلة عليه.
كلا سيعلمون ، أى : ليرتدعوا عما هم فيه فإنهم سيعلمون عما قريب حقيقة الحال إذا حل بهم العذاب والنكال. ثم كلا سيعلمون!! وها هي ذي بعض مظاهر القدرة وآيات الرحمة الدالة على قدرة اللّه على البعث وأنه صاحب النعم : ألم « 1 » نجعل الأرض فراشا ممهدا ليعيش عليها الإنسان عيشة سعيدة ؟
والمعنى : قروا واعترفوا بأن اللّه قد جعل الأرض مستقرا ومهادا لكم ، وجعل الجبال في الأرض كالأوتاد لإرسائها كما يرسى البيت من الشعر بالعمد والأوتاد. وقد خلقناكم ذكرا وأنثى ليتسنى التناسل والتوالد. وينتظم أمر الحياة فيها. وقد جعلنا - أى : الذات الأقدس - نومكم كالموت يقطع طول العناء وكثرة التعب : فالنوم أحد الموتتين ، على أنه نعمة من نعم اللّه الكبرى ، فإن نوم ساعات يريح القوى ، ويجدد النشاط ، ويعيد القوة والحيوية للإنسان ، وقد جعلنا الليل كاللباس لأنه يستر الأشخاص بظلمته.
يا سبحان اللّه في الظلمة خير!! وفي النور خير ، إذ للناس في ظلام الليل مصالح وفوائد فكما أن اللباس يقي من الحر والبرد ، ويستر العورات ، كذلك يستتر فيه الفار من العدو ، أو الحيوان المفترس ، ويستعد فيه الكامن للوثوب : وربما كان فرصة لقضاء بعض حوائج الناس ، وقد جعلنا النهار حياة ، ووقتا لتحصيل المعاش فيه يستيقظ الناس لمعاشهم ، وفيه يتقلبون لقضاء حوائجهم ومكاسبهم ففي النهار الحياة ، وفي الليل النوم والسكون ، وقد خلقنا فوقكم سبعا شدادا ، أى : سبع سموات قوية محكمة لا يختل نظامها ، ولا يضعف بناؤها ، وقد جعلنا الشمس فيها سراجا وهاجا ، سراجا قويا ، متلألئا وقادا ، وقد أنزلنا من السحب ماء منصبا كثيرا ، ليخرج بسببه الحب من حنطة وأرز وغيرهما ، والنبات من عشب وحشائش وغيرهما ، ولتخرج بسببه الجنات الملتفة الأغصان ، والحدائق الملتفة الأشجار لتقارب أغصانها وطول أفنانها ، إن يوم الفصل كان ميقاتا.
أليس الذي خلق هذا بقادر على أن يحيى الموتى يوم الفصل ؟ ! أمن من على الناس بتلك النعم يعجز عن يوم يكون فيه الفصل والقول الحق ، والميزان العدل بين الخلائق
___________
(1) الاستفهام هنا للتقرير.(3/812)
ج 3 ، ص : 813
فيفصل المحسن عن المسيء ويجازى كلا على عمله ؟ ! إن يوم الفصل كان ميقاتا معلوما ينتهى إليه الناس فيجتمعون فيه ليرى كل عاقبة عمله ، ونهاية أمره وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ فيوم الفصل مؤقت بأجل محدود لا يزاد عليه ولا ينقص منه ولا يعلمه إلا اللّه.
كيف حال ذلك اليوم ؟ ! وما حال المكذبين به ؟ ! إنه هو يوم الفصل ، ليس بالهزل. إنه يوم الفزع الأكبر ، يوم ينفخ في الصور ، النفخة الثانية التي يأتى بسببها الناس أفواجا ، تأتى كل أمة بإمامها ، وتأتى كل جماعة منفردة من غيرها ، قد فتحت السماء فكانت أبوابا إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ فالقرآن يفسر بعضه بعضا ، والمراد : انشقت السماء انشقاقا يشبه فتح الباب في السهولة والسرعة وقد سيرت الجبال في الجو على صورتها بعد تفتتها وبعد قلعها من مقارها ، فتصبح كأنها سراب ، فهي سراب غليظ يرى من بعيد كأنه جبل وما هو بالجبل.
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً نعم كانت جهنم في ذلك اليوم مكانا وموضعا لرصد الكفار للعذاب لأنهم الطغاة المتجاوزون الحدود ، كانت لهم مآبا ومرجعا يؤوبون إليه ، حالة كونهم لابثين فيها أحقابا ، أى : ماكثين فيها أزمانا غير محدودة ، أزمانا متعاقبة متلاحقة لا يعلمها إلا اللّه ، حالة كون الماكثين فيها لا يذوقون شيئا إلا ماء حميما. وصديدا يقطر من جلود أهل النار!! جزاهم ربك على أفعالهم جزاء وفاقا!! وما السبب ؟ إنهم كانوا لا يرجون حسابا على أعمالهم ، وكذبوا بآياتنا الناطقة على إمكان البعث وكمال القدرة تكذيبا مفرطا ، وكل شيء من الأشياء التي من جملتها أعمالهم حفظناه وضبطناه في كتاب وأحصيناه إحصاء ، إذا كان الأمر كذلك فيقال لهم : ذوقوا هذا العذاب ، فلن نزيدكم بعده إلا عذابا مثله أو أشد.
وهذا بيان لحال المؤمنين يوم القيامة بعد بيان حال الكافرين والمكذبين : إن للمتقين فوزا عظيما بما عملوا في الدنيا ، وإن لهم في الجنة موضع فوز ومكان نجاة ، بعضه حدائق غناء ، ذات بهجة ورواء ، وأن لهم فيها فواكه وأعنابا ، وكواعب أترابا ، أى :
نساء حسانا في سن واحدة فهن لدات ، والتمتع بهذا الصنف من النساء أمل الناس في الدنيا فكان لهم في الآخرة على وجه ونظام لا يعلمه إلا اللّه ، وليس لنا أن ندقق النظر في أمثال هذا ، بل نؤمن به إيمانا كما نطق القرآن ، وإن لهم فيها كأسا مملوءة بالمشتهى من(3/813)
ج 3 ، ص : 814
المشروبات والمستلذ من الطيبات ، وهم لا يسمعون لغوا ولا كذابا ، وقد جزاهم اللّه على أعمالهم جزاء ، قد تفضل به وأحسن ، جزاء من صاحب الفضل والنعمة رب السموات والأرض ، وكان جزاء كفاء لما قدموا ، وهذا وصف آخر ليوم القيامة يملأ القلوب خشية ، والنفوس روعة ورهبة ، كل الناس يوم القيامة لا يملكون من الحق - تبارك وتعالى - رب السماء والأرض الرحمن لا يملكون منه خطابا ، ولا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ « 1 » في هذا اليوم يقوم الروح جبريل والملائكة بين يدي الرب - سبحانه وتعالى - صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا!! يا سبحان اللّه!! يقوم الروح والملائكة بين يدي الجبار المتكبر المتعالي ، لا يسمح لأحد بالنطق إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا بأن تشفع لمن يستحق الشفاعة! أين الأصنام والشركاء الذين يظنون أنهم شفعاء للّه ؟ !! أين الناس جميعا ؟ ! وقد وقف جبريل والملائكة بين يدي الجبار ينتظرون الإشارة منه ؟ ! ذلك اليوم الحق ، نعم هو اليوم الحق الذي لا شك فيه ، ولا مرية.
إذا كان الأمر كذلك فمن شاء فليتخذ مآبا إلى ربه ، وليعمل عملا صالحا يقربه إليه.
ثم عاد إلى تهديد الكفار المكذبين بيوم القيامة الذين يتساءلون عنه محذرا لهم من عاقبة عنادهم وتكذيبهم. إنا أنذرناكم عذابا قريبا حصوله إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً « 2 » يوم ينظر المرء ما قدمت يداه فقط ، يوم لا يرى فيه أبدا إلا عمله ، يوم يقول الكافر :
ليتني كنت ترابا لم أخلق ، يقول ذلك من شدة هول ما يلقى ، ويتمنى أن لو كان جمادا أو حيوانا غير مكلف.
___________
(1) سورة هود آية 105. [.....]
(2) سورة المعارج الآيتان 6 و7.(3/814)
ج 3 ، ص : 815
سورة النازعات
وهي مكية. وعدد آياتها ست وأربعون آية ، والسورة الكريمة تضمنت القسم بالنجوم أو الملائكة على إثبات البعث ، وأنه سهل ميسور ، ثم هددت المشركين بذكر قصة فرعون ونهايته ، ثم بينت بعض مظاهر القدرة وأن خلق الناس أقل من غيره ، وبينت حالهم يوم القيامة. ثم ختمت السورة ببيان بعض الحقائق المتعلقة بيوم البعث.
[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 46]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34)
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39)
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44)
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)(3/815)
ج 3 ، ص : 816
المفردات :
وَالنَّازِعاتِ : الكواكب الجارية على نظام خاص ، وقيل : الملائكة التي تنزع النفوس وتخرجها من الأبدان. غَرْقاً يقال : أغرق إغراقا ، وغرقا في الشيء : بالغ فيه وجد. وَالنَّاشِطاتِ : الكواكب تخرج من برج إلى برج ، أو هي الملائكة تخرج الأرواح من الأجساد ، مأخوذ هذا من نشط الدلو من البئر ، إذا أخرجها برفق.
وَالسَّابِحاتِ : الكواكب تسبح في أفلاكها أو تسير سيرا هادئا ، أو هي الملائكة تسبح بأمر ربها بين السماء والأرض. فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً : للكواكب يسبق بعضها بعضا ، أو هي الملائكة تتسابق في تنفيذ أمر ربها. تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ : تتحرك الأرض والجبال وتضطرب. الرَّادِفَةُ : التابعة أو الواقعة التي تردفها ، وكل شيء جاء عقيب شيء فهو رديف له. واجِفَةٌ : مضطربة قلقة. خاشِعَةٌ :
خاضعة ذليلة. فِي الْحافِرَةِ : في الحياة التي كنا فيها ، يقال : رجع فلان في(3/816)
ج 3 ، ص : 817
حافرته أى : طريقه التي جاء منها فحفرها بقدميه. نَخِرَةً العظام النخرة : البالية التي لو لمستها لتفتتت. كَرَّةٌ خاسِرَةٌ : رجعة يخسر فيها أصحابها. زَجْرَةٌ :
صيحة. بِالسَّاهِرَةِ : بالأرض التي كانوا يسهرون عليها بعد أن كانوا في جوفها ، وقيل : سميت ساهرة والمراد أصحابها. بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ : الوادي الطاهر المطهر.
طُوىً : هو اسم للوادي ، أو المراد بورك فيه مرة بعد مرة. طَغى : تجاوز الحد. تَزَكَّى أى : تتزكى وتطهر نفسك من الآثام والعيوب. الْآيَةَ الْكُبْرى : هي معجزة انقلاب العصا حية. فَحَشَرَ : جمع ما في استطاعته.
نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى المراد : عقوبتها في الآخرة بالإحراق وفي الأولى بالإغراق والإذلال. بَناها أصل البناء : ضم شيء إلى شيء برباط وإحكام ليكون شيئا واحدا ، والمراد أن السماء وما فيها من كواكب قد جمعت وضمت بإحكام وإتقان حتى صارت كأنها واحد. رَفَعَ سَمْكَها السمك : مقدار الارتفاع من أسفل إلى أعلى ، وقد رفع اللّه سمكها ، أى : جعل مقدار ارتفاعها من الأرض وذهابها إلى جهة العلو مديدا. فَسَوَّاها : جعلها مستوية محكمة. وَأَغْطَشَ لَيْلَها أى : جعله مظلما. وَأَخْرَجَ ضُحاها : أبرزه ، والمراد بالضحى : النهار. دَحاها :
بسطها ومهدها للإنسان. الطَّامَّةُ الْكُبْرى : الداهية الكبرى - والمراد هنا يوم القيامة لأن كل من فيه يذهل عن كل شيء سواه. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى :
ظهرت بارزة للعيان. الْمَأْوى : المكان الذي يأوى إليه الشخص ويقر فيه.
أَيَّانَ مُرْساها ؟ : متى إرساؤها وإقامتها. مُنْتَهاها : نهايتها. عَشِيَّةً :
طرف النهار من آخره. أَوْ ضُحاها : أوله.
المعنى :
أقسم الحق - تبارك وتعالى - بالكواكب السيارة التي تجرى على سنن مقدر ونظام معين لا تتعداه ، تنزع مجدة في سيرها ، مسرعة فيه بلا توان ، وأقسم بها وهي تخرج من برج إلى برج وتسبح في الفضاء سبحا ، وتسير فيه سيرا هادئا ، كل في فلك يسبحون ، والمراد بذلك وصف الكواكب بالجري السريع والانتقال من حال إلى حال ، سابحة في الفضاء ، ومع هذا فعالم السماء محكم لا اضطراب فيه ولا تصادم ، ألا يدل ذلك على قدرة قادرة ، وعلى علم كامل تام ، لا يحيط به إلا هو ؟(3/817)
ج 3 ، ص : 818
فَالسَّابِقاتِ « 1 » أى : فبعض الكواكب تسبق بعضها في الجري. فالمدبرات أمرا للعباد في معاشهم وحياتهم كتوقيت المواقيت ، وتكوين الفصول ، وما يتبع ذلك من نظام الحياة البشرية ، وليس المراد تدبير أمر الخلق تدبيرا كاملا على ما يعتقد بعض عبدة الكواكب فهذا كفر صريح ، بل المراد : بها يكون ذلك.
وبعضهم يرى أن اللّه أقسم بالملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد نزعا. فهي تنزع قلوب الكفار نزعا بشدة وإغراق ومبالغة ، وهي تنزع قلوب المؤمنين برفق وهوادة وهذا معنى الناشطات نشطا ، وذاك معنى النازعات غرقا ، والمراد بالسابحات الملائكة تسبح في الفضاء نازلة بأمر ربها ، وأما السابقات فالملائكة تتسابق في تنفيذ الأمر ، والمدبرات هم الملائكة ، وقد وكل اللّه لكل طائفة تدبير أمر والقيام عليه بإذنه وعلى العموم فاللّه أعلم بسر كتابه ، أقسم اللّه بالنازعات والناشطات فالسابقات فالمدبرات لتبعثن بعد الموت. ولتنبؤن بما عملتم يوم ترجف الراجفة ، وتضطرب الأرض والجبال بسبب النفخة الأولى. تتبعها الرادفة وهي النفخة الثانية ، أو المراد تتبعها الرادفة وهي السماء يوم تمور مورا. وتنشق انشقاقا.
يوم ترجف الأرض والسماء تكون قلوب الكفار يومئذ قلقة خائفة لأنهم أبصروا ما كانوا ينكرون. ورأوا ما به يوعدون ، أبصارهم خاشعة ذليلة ، أرأيتهم وهم يضطربون عند ما رأوا العذاب يوم القيامة ؟ ! انظر إليهم وهم يقولون في الدنيا ساعة ينذرون بالبعث يقولون منكرين : أنرد إلى حياتنا الأولى ؟ ! بعد أن متنا وكنا ترابا ، إن هذا لعجيب! وقد حكى القرآن عنهم قولهم ثانية : أإذا كنا عظاما بالية متفتتة ليس فيها حياة ولا حرارة أنرد ونبعث!! إن هذا لعجيب! أما القول الثالث : فقد قالوا مستهزئين بالنبي وبوعده بالبعث : تلك إذا كرة خاسرة على معنى : إن صح ما يقوله محمد ، وأن هناك حسابا وثوابا وعقابا وحياة بعد أن صرنا ترابا فنحن إذا خاسرون ، وتلك رجعة خاسر أصحابها حيث لم نعمل لها!
___________
(1) عطف بالواو ثم بالفاء مع أن المراد إما الكواكب أو الملائكة فالموصوف واحد ، وإنما نزل تغاير الصفة منزلة تغاير الذات فجاء بالواو التي تدل على المغايرة وكانت الفاء في قوله : فَالسَّابِقاتِ ، فَالْمُدَبِّراتِ للدلالة على ترتبهما على ما قبلهما بغير مهلة.(3/818)
ج 3 ، ص : 819
وقد رد اللّه عليهم دعواهم الباطلة في قولهم : أإذا كنا عظاما نخرة نبعث ؟ ببيان أن إعادة الحياة للبشر أمر سهل ، وأن اللّه القادر على البدء قادر على الإعادة ، وأنه خلق في الكون ما هو أشد وأكبر من البشر لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [سورة غافر آية 57] فقال ما معناه :
لا تستبعدوا البعث بعد الفناء فإنما هي صيحة واحدة يكلف بها ملك ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ « 1 » فالمراد بالصيحة النفخة الثانية. فإذا أنتم بعدها جميعا لدينا محضرون تنتظرون ما يفعل بكم. وإذا أنتم أحياء على وجه الأرض بعد أن كنتم أمواتا.
وتلك قصة موسى مع فرعون الطاغية سيقت كالتسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وتهديدا للمشركين ، فليس هم أقوى وأشد من فرعون وقومه ، فلما كفروا باللّه واليوم الآخر عاقبهم عقوبتين في الأولى والآخرة ، فاحذروا يا آل مكة أن تكونوا مثلهم : هل أتاك حديث موسى ؟ وهذا أسلوب بديع في التشويق إلى استماع الحديث والحرص عليه كأنه أول نبأ عن موسى ، هل أتاك حديثه إذ ناداه ربه - جل وعلا - وهو بالوادي المقدس المطهر - واد في أسفل جبل طور سيناء من جهة الشام - الذي قدسه اللّه مرة بعد مرة فقال له : اذهب إلى فرعون إنه طغى وجاوز الحد المعقول في تعذيب بنى إسرائيل وفي الكفر باللّه ، فقل له مع الملاينة والملاطفة لتتم الحجة وينقطع العذر : هل لك إلى أن تطهر نفسك من أدرانها باتباع شرع اللّه الذي أوحى إلى ؟ وأهديك إلى ربك فتؤمن به وتعلم صفاته ، فيترتب على ذلك أنك تخشاه ، ولكن فرعون كذب ولم يؤمن وطلب آية على صدق موسى ، فأراه الآية الكبرى التي هي انقلاب العصا حية ، فكذب وعصى أيضا ، ثم أدبر عن الحق وأعرض عن موسى وعن دعوته ، وأخذ يسعى في الأرض بالفساد ومكايدته هو ومن معه ، فجمع السحرة من جميع البلاد وقال لهم : أنا ربكم الأعلى فليس هناك سلطان بعد سلطاني ، وظل فرعون سادرا في غلوائه لاهيا في عتوه وجبروته حتى تبع موسى وقومه إلى البحر الأحمر. وهم يخرجون من مصر وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ : آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ « 2 » وهكذا حكم اللّه على فرعون
___________
(1) - سورة الزمر آية 68.
(2) - سورة يونس آية 90.(3/819)
ج 3 ، ص : 820
بالإغراق ، وكان آية لمن بعده ، وهو في الآخرة في جهنم وبئس القرار ، فأخذه اللّه ونكل به نكال الآخرة والأولى ، وكان عقابه نكالا له ولغيره ، إن في ذلك لعبرة ولكن لمن يخشى ، فاعتبروا يا أولى الأبصار!! وهذا فرعون مصر الجبار العنيد لم يعجز اللّه في شيء ، فأين أنتم يا كفار مكة منه! وهكذا سنة اللّه في خلقه يكذبون الرسل ، ولا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم ، فصبرا يا رسول اللّه. وبعد ذلك خاطب المشركين موبخا لهم ومبكتا على إنكارهم البعث بعد ما بين لهم سهولته على اللّه وأنها صيحة واحدة فإذا هم قيام أحياء يحاسبون ، خاطبهم بقوله : أأنتم أشد خلقا أم السماء ؟ فكأنه يقول لهم : إنكم خلقتم من ماء مهين ، وأنتم مع هذا ضعاف عاجزون لا تملكون لأنفسكم نفعا ولا ضررا. ولا موتا ولا حياة ، وهذه هي السموات بديعة الخلق ، حسنة الشكل ، قوية التركيب ، متينة البناء ، محكمة لا عوج فيها ولا اضطراب رغم كثرة الدوران وسرعة السير ، أليس عالم السماء وما فيه آية على قدرة اللّه ، وعلى أن خلقه أعظم منكم خلقا ؟ ! فاللّه بنى السماء بناء محكما ، ورفع سمكها إلى حيث شاء! فسواها حيث وضع كل جرم سماوي في وضعه لا يتعداه ، وله فلك يسبح فيه لا يتخطاه ، وبين كل الأجرام تجاذب وترابط بحيث لم يند عن المجموعة جرم ، وإذا أراد اللّه شيئا انتهت الدنيا وبطل هذا النظام. وانظر إلى ذلك الكون العجيب وإلى وضعه الدقيق ، فهذه الشمس والأرض ودوران كل في مداره بحكمة ودقة ، كيف ينشأ عنهما الليل والنهار أَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها والأرض بعد ذلك دحاها وبسطها ومهدها للحياة بحيث يستطيع الحيوان السير عليها ، والمعيشة فوقها. وقد أخرج منها ماءها ومرعاها ، وقد أرسى عليها الجبال الرواسي الشامخات لئلا تميد وتضطرب ، ولتكون مصدرا للمنافع ، كل ذلك خلقه اللّه متعة لكم ومنفعة لكم ولأنعامكم.
وهذا وصف عام لبعض أهوال يوم القيامة لعلهم يعتبرون! فإذا وقعت الواقعة ، وجاءت الداهية الكبرى التي يصغر أمامها كل حدث ، وينسى صاحبها كل شيء إلا هي ، تلك هي الطامة الكبرى تكون يوم القيامة ، يوم يتذكر الإنسان أعماله حيث يراها مكتوبة أمامه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، يوم تبرز جهنم بصوتها المزعج ، وهي تفور تكاد تميز من الغيظ.(3/820)
ج 3 ، ص : 821
إذا جاءت الطامة يفصل ربك بين الخلائق ، فمنهم شقي ، ومنهم سعيد ، فأما الشقي فهو الذي طغى وتجاوز الحدود وآثر الحياة الدنيا ، فكانت الجحيم هي المأوى ، وبئس المصير ، وأما السعيد فهو من خاف مقام ربه ، وخاف قيامه بين يدي العزيز الجبار يوم القيامة ، وقد نهى النفس عن هواها ، وألزمها كلمة التقوى ، فكانت الجنة هي المأوى ونعم القرار. أرأيت أسباب دخول جهنم وأنها هي الطغيان والظلم ، وحب الدنيا وترك العمل للآخرة ؟ وأسباب دخول الجنة وأنها معرفة اللّه والخوف منه ، ونهى النفس عن اتباع الهوى ؟ ! وقد كانوا يسألون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم استهزاء بالساعة قائلين : متى تكون ؟ ويقصدون بذلك إنكار الوقوع ، فيرد اللّه عليهم على طريق الاستفهام الإنكارى مخاطبا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ليكون أتم وأبلغ : فيم أنت من ذكراها ؟ على معنى : في أى شيء أنت حتى تذكر لهؤلاء وقت حصولها ؟ واللّه وحده عنده علم الساعة ، وإلى ربك وحده منتهاها ، وإنما أنت منذر فقط من يخشاها ، وليس عليك إلا البلاغ فلا يهمنك أمرهم ، ولا تشغل بطلبهم ، وكأنك بهم يوم يرونها ، تراهم كأنهم لم يلبثوا في هذه الدنيا إلا عشية أو ضحاها وقد انقضت ، فإذا هم فيما أنكروه واقعون.(3/821)
ج 3 ، ص : 822
سورة عبس
وهي مكية. وعدد آياتها اثنتان وأربعون آية ، وقد تكلمت عن قصة ابن أم مكتوم ، مع بيان أن القرآن تذكرة فمن شاء فليتعظ به ، ثم بينت أصل الإنسان ونشأته ، ولفتت نظره إلى طعامه وشرابه لعله يتعظ ، ثم لم تهمل الحياة الآخرة وما فيها.
[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 32]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24)
أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29)
وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)(3/822)
ج 3 ، ص : 823
المفردات :
عَبَسَ العبوس : تقطيب الوجه من الألم. وَتَوَلَّى : أعرض.
الْأَعْمى : هو ابن أم مكتوم. يَزَّكَّى : يتطهر من الذنوب.
الذِّكْرى : الموعظة. اسْتَغْنى أى : عن الإيمان باللّه. تَصَدَّى : أصله تتصدى ، أى : تترصد له بالموعظة. يَسْعى : يسرع في طلب الخير بجد.
تَلَهَّى : أصله تتلهى ، أى : تنشغل عنه. تَذْكِرَةٌ : موعظة.
صُحُفٍ : جمع صحيفة وهي ما يكتب فيه. سَفَرَةٍ : جمع سافر ، وهو الوسيط بين جماعتين ليصلح ما بينهما. بَرَرَةٍ : جمع بار ، وهو من لم يقترف إثما.
فَقَدَّرَهُ : هيأه لما يصلح له. أَنْشَرَهُ المراد : أحياه. وَقَضْباً : كل ما يأكله الإنسان قضبا ، أى : غضا طريّا كالبقول. غُلْباً : ملتفة الأغصان.
أَبًّا المراد به : الكلأ والمراعى.
روى أن ابن أم مكتوم ، ابن خال خديجة بنت خويلد - وكان أعمى - جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يسأله قراءة القرآن ، وتعليمه مما علمه اللّه ، وكان عند النبي رهط من زعماء قريش كعتبة بن ربيعة ، وأخيه شيبة ، وأبى جهل بن هشام وأمية بن خلف وغيرهم ، والنبي مشغول بدعوتهم إلى الإسلام وبتذكيرهم باللّه وباليوم الآخر ، وكان صلّى اللّه عليه وسلّم شديد الحرص على إيمان هؤلاء ثقة منه بأن إسلامهم سيجر غيرهم من أتباعهم.
فلما جاء ابن أم مكتوم وناداه قائلا : يا رسول اللّه : أقرئنى القرآن ، وعلمني مما علمك اللّه ، وهو مشغول بمحادثة زعماء الشرك كره ذلك منه النبي وعبس في وجهه وقطب ، وأعرض عنه
فنزلت هذه الآيات تعاتب النبي عتابا رقيقا على تركه الفقير الأعمى الذي جاء يسأل ويزداد علما ونورا ، وعلى توجهه إلى الأغنياء الأقوياء ، وفي هذا كسر لقلوب الفقراء ، فلدفع هذا عوتب الرسول على عبوسه في وجه الفقير الأعمى.
أليس في هذا العتاب الصريح دليل للمنصف على أن هذا الرسول صادق في كل ما يبلغه عن ربه ، وأن هذا القرآن من عند اللّه لا من عنده ؟(3/823)
ج 3 ، ص : 824
عبس النبي وأعرض بوجهه لأن جاءه الأعمى ، وهو ابن أم مكتوم ، جاءه وهو مشغول بمحادثة زعماء الشرك ، فعاتبه اللّه على ذلك قائلا : وما يدريك لعله يتطهر بما يسمعه منك ويتلقاه عنك من الوحى ، نعم أى شيء يعلمك بحال هذا السائل لعله يتطهر أو يتعظ فتنفعه موعظتك ؟
التفت اللّه إلى رسوله الكريم معاتبا لائما قائلا ما معناه : إن ما صدر منك كان على هذا التفصيل : فالذي استغنى عن الإيمان باللّه وعن طاعته وطاعة رسوله ، واستغنى بماله وجاهه عن قبول الحق وعن استماع النصيحة فأنت تتعرض له ، وتشغل نفسك بوعظه ، وأما من جاءك طالبا الهداية خائفا من اللّه ، فأنت عنه تتلهى وتشتغل عنه بسواه ، وهذا عتاب للنبي وإنكار لهذا العمل ، مع أن الرسول ليس عليه إلا البلاغ ، فمن ركب رأسه ، واغتر بدنياه ، وأغفل آخرته ، وظن أنه غنى عن هداية اللّه فليس على الرسول عيب ولا لوم في بقائه على حالته.
ثم لما ذكر اللّه هذه الحادثة أعقبها ببيان وظيفة الرسول وعمله وأن هذه الرسالة التي أرسل بها الرسول ليست محتاجة إلى حيلة ولا موعظة ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وعلى ذلك فلست أيها الرسول في حاجة إلى الإلحاح على هؤلاء ليؤمنوا.
كلا .. إنها - آيات القرآن - تذكير ووعظ ، لمن غفل عن اللّه فمن شاء ذكره واتعظ به فليفعل ، ومن لم ينفعه وعظه فقد جنى على نفسه.
ثم إن اللّه تعالى وصف هذه التذكرة بأوصاف تدل على عظم شأنها ، فقال : إنها مودعة وثابتة في صحف عالية مكرمة مشرفة ، مرفوعة مطهرة عن النقص والعيب ، لا تشوبها شائبة خلل في أية ناحية من النواحي ، وقد أتت بأيدى ملائكة سفرة بين اللّه وبين الخلق ، وهم كرام على اللّه بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء 26] وأبرار وأطهار ، لا يعصون اللّه ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون.
فهذا هو حال القرآن جاء تذكرة وموعظة ، وكان بالمنزلة العالية المرفوعة المطهرة وجاء على أيدى ملائكة أمناء كرام بررة ، فهل يعقل بعد هذا أن يكفر به عاقل ؟ ! قتل الإنسان! ما أشد كفره! وما أفظعه! أفلا ينظر إلى نفسه من أى شيء خلق ؟
إنه خلق من نطفة قذرة ، ثم كان خلقا سويا قد قدره اللّه وهيأه ليقوم بما يكلف به ،(3/824)
ج 3 ، ص : 825
وليؤدى رسالته في عمارة الكون ثم قد هداه اللّه إلى الخير والشر بما أودع فيه من عقل وغرائز ، وبما أرسل له من رسل وكتب ، ألا ترى أن اللّه هداه السبيلين ، ثم بعد ذلك أماته فجعل له قبرا يواريه ، ثم إذا شاء بعد ذلك أحياه للحساب ، فانظر إلى مبدئك ومنتهاك.
كلا أيها الإنسان : ارتدع عما أنت فيه ، وثب إلى رشدك وارجع إلى ربك فأنت لم تقض ما أمر به ربك ، ولم تعرف ما طلب منك.
إذا كان الأمر كذلك فلينظر الإنسان إلى طعامه كيف يكون ؟ ألم يروا أن اللّه أنزل من السماء ماء وصبه على الأرض صبا ، ثم شق الأرض بالنبات ، وأحياها بالزرع والخضروات ، فأنبت منها قمحا وشعيرا ، وعنبا وفاكهة ، وبقولا وزيتونا ونخلا ،
وحدائق ملتفة الأغصان كثيفة ، كل هذا لكم ولأنعامكم!!! [سورة عبس (80) : الآيات 33 الى 42]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
المفردات :
الصَّاخَّةُ : الصوت الشديد الذي يصم الآذان ، والمراد هنا : النفخة التي بها تقوم القيامة. وَصاحِبَتِهِ : زوجته. يُغْنِيهِ : يصرفه ويصده عن كل من عداه. مُسْفِرَةٌ : مضيئة متهللة ، تقول : أسفر الصبح : إذا أضاء مُسْتَبْشِرَةٌ : فرحة. غَبَرَةٌ : غبار. تَرْهَقُها : تدركها من قرب ، والمراد : تعلوها. قَتَرَةٌ : سواد الدخان. الْفَجَرَةُ : الذين خرجوا عن حدود العقل.(3/825)
ج 3 ، ص : 826
المعنى :
هكذا الشأن بعد تعداد النعم ، والتذكير بآلاء اللّه - تعالى - التي تقتضي من الإنسان النظر ا لصحيح والبعد عن الكبر والكفر والفجور ، أخذ اللّه - سبحانه وتعالى - يذكرنا بيوم القيامة وأهواله التي تجعل الإنسان يذهل عن أحب الناس إليه ، فإذا وقعت الواقعة وجاءت الصاخة ، يوم يفر المرء ويتباعد عن أخيه ولا يأخذ بناصره ولا يواليه يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً « 1 » وقد كان في الدنيا يستنصر به ويعتز ، بل يفر كذلك من أبويه ، أمه وأبيه ، بل يفر كذلك من الذين يتعلق بهم قلبه أشد من غيرهم كزوجة وبنيه وكيف لا يكون ذلك ؟ ولكل امرئ منهم يومئذ شيء يصرفه ويصده عن قرابته وأهله ، ويوم القيامة ترى وجوها مضيئة متهللة فارغة البال ضاحكة السن مستبشرة فرحة ، تلك هي وجوه المؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وهناك وجوه أخرى عليها غبرة ويعلوها سواد فهم في هم وحزن وكمد ، أولئك هم الكفرة الذين كفروا باللّه ورسوله ولم يؤمنوا باليوم الآخر وكانوا في الدنيا فجرة قد خرجوا عن حدود الشرع والعقل والعرف الصحيح ، واجترحوا السيئات فكان جزاؤهم ذلك وبئس المصير.
___________
(1) - سورة الدخان آية 41.(3/826)
ج 3 ، ص : 827
سورة التكوير
وهي مكية. وآياتها تسع وعشرون آية ، وقد تضمنت الكلام على البعث بذكر مقدماته. وما يكون فيه ، ثم القسم المؤكد على أن القرآن حق أوحى به إلى محمد على لسان جبريل الأمين. وما كان محمد بمجنون ولا متهم.
[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)
المفردات :
كُوِّرَتْ : لفت مثل تكوير العمامة ، أى : لفها ، والمراد : اختفاؤها عن الأعين وذهاب ضوئها. انْكَدَرَتْ : انتثرت وتساقطت. سُيِّرَتْ : أزيلت عن أماكنها بالرجفة. الْعِشارُ : هي السحاب ، وتعطيلها : منعها من حمل الماء ، وقيل : هي النياق أتى على حملها عشرة أشهر. وهي من كرائم المال ، وتعطيلها :
إهمالها. حُشِرَتْ : جمعت. سُجِّرَتْ : ملئت بالنار بعد أن غاض ماؤها.
زُوِّجَتْ : زوجت الأرواح بأبدانها وعادت إلى أجسامها. الْمَوْؤُدَةُ : هي(3/827)
ج 3 ، ص : 828
البنت تدفن حية. الصُّحُفُ : ما يسجل فيه العمل. كُشِطَتْ : أزيلت كما يكشط الجلد عن الذبيحة. سُعِّرَتْ : أوقدت نارها إيقادا شديدا.
أُزْلِفَتْ : قربت وأدنيت.
المعنى :
ابتدأ اللّه هذه السورة الكريمة بذكر علامات ودلائل تكون يوم القيامة. بعضها سابق عليه وبعضها يكون فيه ، وعلى العموم فمقدمات البعث تكون بخراب الدنيا واختلال نظامها وهلاك كل من فيها ، وذلك عند النفخة الأولى ، في هذا الوقت تكور الشمس وتلف حتى لا يكون لها ضوء أو حرارة ، والنجوم تتناثر وتسقط ، وترجف الأرض وتضطرب فتزول الجبال من أماكنها ، وتصبح كالعهن المنفوش ، عند ذلك يملأ الخوف والاضطراب كل الكون ، فلو فرض وكانت حياة عندئذ يذهل كل إنسان عن أعز شيء لديه ، فتراه يهمل عشاره وكرائم ماله ، بل تذهل كل مرضعة عما أرضعت لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ »
سورة التكوير
وترى الوحوش قد جمعت من كل مكان وأصبحت في صعيد واحد ، والبحار سجرت بالزلازل حتى اختلطت وضاعت الحواجز بينها ، وتعود بحرا واحدا ، ويكون التسجير : معناه امتلاؤها بالماء. ولعل المراد بالتسجير هنا : ملؤها بالنار بدل الماء ، ولا غرابة فباطن الأرض شديد الحرارة جدا بدليل البراكين التي تخرج منه ، وليس ببعيد عند انتهاء الدنيا ، أن تتشقق الأرض ويغيض الماء لتبخره ، ثم يمتلئ البحر بالنار التي تخرج من باطن الأرض ، تلك هي مقدمات البعث الأولى ، وبعدها يكون البعث والحياة والنشور وهذا عند النفخة الثانية ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [سورة الزمر آية 68].
هذه هي أولى مراحل البعث ذكرت بعد مقدماته ، وإذا النفوس عادت إلى أبدانها ، بعد أن كانت بعيدة عنها ، وكانت الحياة الثانية لأجل البعث ، وفيه يؤتى بالموءودة التي دفنت حية خوف الفقر أو العار ، وتلك كانت عادة من عادات العرب في الجاهلية ، فجاء الإسلام وحاربها وقضى عليها ، واستبدل من أولئك الأعراب الذين كانوا يئدون
___________
(1) - سورة عبس آية 37.(3/828)
ج 3 ، ص : 829
البنات أحياء عربا فيهم ظرف الإسلام ، وحكمة المسلمين وغرس فيهم التربية الإسلامية العالية التي قوامها : لا ضرر ولا ضرار ، والتمسك بأهداب الفضيلة والمثل العليا.
هذه الموءودة تسأل : لأى ذنب قتلت ؟ ! لم يكن لها ذنب - علم اللّه - وهذا سؤال للتبكيت والتوبيخ والتسجيل عليهم ، وإذا الصحف التي كتبت فيها الأعمال ، وسجل فيها ما اقترفه كل إنسان ، نشرت ليقرأ كل إنسان كتابه ، ويعرف عمله وحسابه ، وإذا السماء كشطت وأزيلت فلم يعد لها وجود. والظاهر - واللّه أعلم - أن المراد بكشط السماء هو رفع الحجاب فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ « 1 » فترى كل نفس عند ذلك عملها ، وتقوم عليها شهودها ، فتبصر ما لم تكن تبصره من قبل ، وإذا الجحيم سعرت وأحميت نارها وأوقدت ، وإذا الجنة أزلفت وقربت وقدمت للمتقين.
وإذا الشمس كورت ، وإذا النجوم انكدرت ... إلخ ما ذكر هنا من الأمور الاثنى عشر. وجواب هذا الشرط قوله : علمت نفس ما أحضرت ، أى : إذا حصل هذا - ما ذكر - علمت نفس ما قدمت من عمل إن كان خيرا فجزاؤه خير ، وإن كان شرّا فجزاؤه شر.
وقد فصل هنا ما أجمل في سورة « ق » عند بيان ما يسبق الحساب فقال هناك :
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وقال هنا : إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إلى قوله :
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وهنا أجمل في ذكر ما يحصل يوم الحساب حيث اكتفى بسؤال الموءودة ، وتسعير جهنم. وتقريب الجنة ، وفي سورة « ق » فصل كثيرا حيث قال :
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ... ... إلخ. الآيات.
اعتاد العرب في كلامهم أنهم إذا أقسموا على إثبات أمر واضح ظاهر ، قالوا :
لا أقسم إشارة إلى أنه لا يحتاج إلى قسم ، وقيل : إنه يؤتى بلا في القسم إذا أريد تعظيم المقسم به على ما فصلناه عند قوله : لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ « 2 » وعلى ذلك يمكننا أن نفهم قوله تعالى هنا : فلا أقسم بالخنس.
___________
(1) - سورة ق آية 22.
(2) - سورة القيامة الآية الأولى(3/829)
ج 3 ، ص : 830
[سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 29]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
المفردات :
بِالْخُنَّسِ : جمع خانس ، وهو المنقبض المستتر. الْكُنَّسِ : جمع كانس ، أو كانسة ، وأصله من قولهم : كنست الظبية : إذا دخلت الكناس وهو مكانها ومأواها ، ومنه قولهم : كنست المرأة : إذا دخلت هودجها ، والمراد : الكواكب التي تظهر في أفلاكها للعين ليلا تشبيها لها بالمرأة إذا ظهرت في هودجها ، أو الظبية إذا ظهرت في كناسها. عَسْعَسَ : أقبل بظلامه. تَنَفَّسَ : ظهر وامتد حتى صار نهارا بينا. ذِي قُوَّةٍ : صاحب قوة في الجسم وغيره. مَكِينٍ : صاحب مكانة. صاحِبُكُمْ : هو الرسول عليه السلام. بِضَنِينٍ أى : بمتهم ، أو ببخيل. رَجِيمٍ : ملعون. ذِكْرٌ : عظة وعبرة.
المعنى :
فلا أقسم بالكواكب المتخفية عن العين نهارا ، الجواري لكي تظهر في أفلاكها ليلا كالظباء في كناسها ، لا أقسم بهذا على أنه قول رسول كريم لظهور ذلك للعيان فلا(3/830)
ج 3 ، ص : 831
يحتاج إلى إقسام ، أو المعنى : لا أقسم بهذه الأشياء لعظمها فإنها عظيمة في نفسها ولو لم يقسم بها ، والمعنى على القسم بها قسما مؤكدا ، وأقسم بالليل إذا عسعس وأدبر ظلامه ، والصبح إذا أضاء وظهر « 1 » أقسم بهذا على أن القرآن قول رسول كريم وهو جبريل لأنه حمله إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فنسب إليه ، هذا الرسول ذو قوة في العقل ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى « 2 » فهو شديد القوى ذو حصافة في العقل والرأى ، عند ذي العرش جل جلاله ، مكين ، أى : صاحب مكانة وشرف ، والعندية عندية تشريف وإكرام لا عندية مكان ، وهو مطاع في الملأ الأعلى : أمين على الوحى وعلى نقله ، وما صاحبكم هذا بمجنون كما يصفه المشركون ، وهو على ثقة من جبريل حين يبلغه ، والحال أنه رآه على صورته الأصلية بالأفق العالي الظاهر - عند سدرة المنتهى - وما محمد على الغيب ، أى : الوحى بمتهم بل هو صادق في خبره ، ويؤيد هذا المعنى قراءة بظنين ، وقيل : وما هو على الغيب ببخيل ، فليس مقصرا في تبليغ الوحى ، وما هذا القرآن بقول شيطان رجيم ، حيث إن محمدا أمين ، وليس مجنونا : وما هو على الغيب بمتهم إذ ليس هذا القرآن قول شيطان ، ولا قول كاهن ، وليس أساطير الأولين.
فأين تذهبون « 3 » وأى طريق تسلكون ؟ وأية حجة تقولون ؟ بعد أن سدت عليكم كل الطرق وأقيمت عليكم الحجج والبراهين ، وبطلت جميع المفتريات التي تفترونها.
ما هذا القرآن إلا ذكر وتذكرة وموعظة وعبرة ، عظة للعالمين لمن شاء أن يستقيم على الجادة ويسير على سواء السبيل ، والمعنى أن من شاء الدخول في الإسلام - لمن شاء منكم أن يستقيم - هو الذي ينتفع بهذا الذكر الحكيم ، أما غيرهم فقد ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ، فلا يمكن أن يروا نور الحق ، ولا أن يهتدوا بنور القرآن.
ولكن هل مشيئة العباد مطلقة غير خاضعة لأية قوة أو مشيئة أخرى ؟ الجواب : إن إرادتكم الخير خاضعة لإرادة اللّه ولا تكون إلا بعد مشيئة اللّه رب العالمين ، فهو سبحانه
___________
(1) في قوله (و الصبح إذا تنفس) استعارة تصريحية تبعية ، أو هي مكنية على تشبيه الصبح بماش وآت من مسافة بعيدة وإثبات التنفس قرينة ، وإسنادها له تخييل.
(2) سورة النجم آية 6.
(3) هذا الاستفهام للإنكار ، والتعجيز.(3/831)
ج 3 ، ص : 832
الذي يودع في البشر إرادة الخير. فتنصرف همة أصحاب الخير إليه ، ولو شاء لسلبكم تلك الإرادة فكنتم كالحيوان.
ولما كان رب العالمين وكان ما نحهم كل ما يتمتعون به كانت إرادة البشر مستندة إلى إرادة اللّه ، وهذا معنى قوله تعالى : وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فمشيئة العبد في دائرة صغيرة هذه الدائرة داخلة في دائرة مشيئة اللّه الكبرى.
بقيت كلمة أخرى في إقسام اللّه بالكواكب الخنس والكنس ، وبالليل والصباح أو بالشمس والقمر أو غير ذلك ، والظاهر أن هذا القسم للفت الأنظار إلى تلك الأشياء ، وأنها دلائل على قدرة اللّه وبديع نظامه في الكون ، ثم جاءت صفات لها كالخنس والكنس توبيخا لمن يعبد الكواكب ببيان بعض صفاتها التي يستحيل معها أن تكون آلهة بل هي مخلوقة متغيرة متحولة من حال إلى حال ، مصرفة يصرفها المولى - جل جلاله - واللّه أعلم.(3/832)
ج 3 ، ص : 833
سورة الانفطار
وهي مكية. وعدد آياتها تسع عشرة آية ، وهي تتضمن الكلام على البعث والتذكير بيوم القيامة وأن النفس تشهد فيه ما عملت ، ثم ناقشت الإنسان في شأن مخالفته لربه وتماديه في فجوره ، مع أنه صاحب نعم جليلة عليه ، وقد جعل له شهودا كراما كاتبين ، ثم كانت النهاية لكل إنسان إما الجنة وإما النار ، والأمر يومئذ للّه.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)
يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)(3/833)
ج 3 ، ص : 834
المفردات :
انْفَطَرَتْ : انشقت. انْتَثَرَتْ : تساقطت. فُجِّرَتْ : فتحت وشققت جوانبها فزال ما بينها من برزخ. بُعْثِرَتْ : قلب ترابها الذي وضع على موتاها ، ويلزم هنا إخراج من دفن فيها. ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ؟ : ما خدعك وجعلك تعصاه ؟ ! فَسَوَّاكَ : خلقك كامل الأعضاء حسن الهيئة. الْأَبْرارَ :
جمع بر ، وهو من يعمل البر ويلتزم به في كل تصرفاته. الْفُجَّارَ : جمع فاجر ، وهو الخارج عن الحدود. يَصْلَوْنَها : يقاسون حرها. يَوْمَ الدِّينِ : يوم الحساب والجزاء. وَما أَدْراكَ : ما أعلمك ما هو ؟
المعنى :
يذكرنا القرآن كثيرا بيوم القيامة ، وأن الإنسان فيه يشهد ما قدمته يداه من خير أو شر وسيجازى عليه ، ويقدم لذلك بذكر بعض أهوال يوم القيامة ليجذب قلب السامع إلى دائرة الاتعاظ والتهويل والتفخيم ، فترى السامع وقد حبس أنفاسه ساعة يسمع (إذا السماء انفطرت) وتشققت ، وإذا الكواكب التي كانت زينة ونورا تصبح وقد تناثرت وسقطت بلا نظام ، كسقوط العقد إذا انفرط حبه في يد صاحبه ، ولا تنس أن الأرض تسير سيرا ، وتضطرب اضطرابا. ويقع الخلل في جميع أجزائها فترى البحار وقد فجرت تفجيرا ، وتشققت جوانبها وامتلأت ماء حتى اختلط عذبها بملحها ، ولم يعد بينها حاجز بل يغمر البسيطة الماء ثم لا يلبث أن يتبخر ، والبحار تسجر وتملأ لهبا ودخانا ، أرأيت الأرض في هذه الساعة : وكأنى بك وأنت تنظر إلى القبور وقد بعثرت ، وذرى ترابها وأخرج من فيها للحساب ، وقد نشرت الصحف وقرئت الكتب عندئذ تعلم كل نفس ما قدمت من صالح الأعمال أو سيئها وما أخرت منه.
عجبا لك أيها الإنسان العاقل المفكر ما الذي غرك وخدعك ، وجرأك على عصيان ربك الكريم ؟ ! وقد علمت ما سيكون يوم القيامة من أهوال ، وما ستلاقيه أنت من أحوال ، وما سيظهر لك من أعمال ، يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم المتعالي المنزه عن كل نقص المتصف بكل كمال ، الذي خلقك أولا ، وهو على خلقك ثانيا أقدر(3/834)
ج 3 ، ص : 835
وأقدر ، الذي خلقك فسواك وجعلك حسن الصورة كامل الهيئة سالما في أعجب الصور وأتقنها وأجملها وأدقها وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ الأعضاء ، الذي خلقك فعدلك وصيرك معتدلا متناسب الخلق منتصب القامة ، فلست كبقية الحيوان ، وقد عدلك ، أى صرفك عن صورة غيرك.
« كلا » ارتدع عن الاغترار بمولاك ، ولا تجعل كرمه حجة لعصيانه فتلك حجة المغرورين المخدوعين ، فقد خلقك في صورة حسنة كاملة وركّبك في أى صورة شاءها.
ولكنكم يا معشر العصاة والكفار لا ترتدعون بل تكذبون بيوم الدين ، أو تكذبون بدين الإسلام ، والحال أن اللّه جعل عليكم حافظين : ملائكة تكتب أعمالكم وتحفظها ليوم الدين ، وهم كرام بررة ، كاتبون للأعمال : خيرها وشرها ، يعلمون كل ما تفعلون.
ويوم القيامة تعرفون وتندمون ولات ساعة مندم.
وما نتيجة هذا الحفظ والكتب من الملائكة ؟ النتيجة : إن الأبرار لفي نعيم مقيم ، وإن الفجار لفي جحيم مقيم ، يصلونها ويحترقون بنارها يوم الدين. أما الأبرار فأولئك هم العاملون المؤمنون باللّه وباليوم الآخر وبالملائكة والكتاب والنبيين ، الذين آتوا المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين ، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، ووفوا بالعهود ، وصبروا في البأساء والضراء وحين البأس أولئك هم الذين صدقوا اللّه في إيمانهم ، وأما الفجار فهم على النقيض من ذلك كله.
وما أدراك ما يوم الدين ؟ ثم ما أدراك ما يوم الدين ؟ ! وهذا تعجب من حال الإنسان الذي لا يعرف هذا اليوم الشديد ولا يعمل له لينجو من عذابه.(3/835)
ج 3 ، ص : 836
سورة المطففين
وهي مكية في قول الأكثرين ، وعدد آياتها ست وثلاثون آية ، وتتضمن هذه السورة تفصيلا لبعض أنواع الفجور كالتطفيف في الكيل ، والتكذيب بيوم الدين ، والاعتداء على الغير ، والقول بأن القرآن أساطير الأولين ، وسبب هذا ، وجزاؤه يوم القيامة ، ثم تفصيل جزاء الأبرار ، فكأن هذه السورة جاءت بيانا للسورة السابقة.
[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)
المفردات :
وَيْلٌ : هلاك وعذاب. لِلْمُطَفِّفِينَ : الذين يأخذون حقهم كاملا ، ويعطون حق غيرهم ناقصا. اكْتالُوا : أخذوا ما لهم من حق بالكيل.
يَسْتَوْفُونَ : يأخذونه وافيا كاملا. كالُوهُمْ : أعطوهم شيئا بالكيل.(3/836)
ج 3 ، ص : 837
يُخْسِرُونَ : ينقصون الكيل والميزان. أَلا يَظُنُّ : ألا يعلم. كَلَّا :
كلمة ردع وزجر لهم عما هم فيه من التطفيف والتكذيب. سِجِّينٍ : هو علم على سجل ضخم فيه سوءات الفجار. مَرْقُومٌ : بين ظاهر الكتابة ، أو له علامة يعرف بها ، أى : معلم. مُعْتَدٍ : متجاوز حدود العقل والشرع. أَثِيمٍ :
كثير الآثام والانهماك في الشهوات. أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ : أكاذيبهم نقلها الخلف عن السلف. رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ : غلب عليها وغطاها ، أى : اسودت من الذنب.
المعنى :
بعض النفوس قد ملئت بالشح والأنانية وحب الذات ، طغى عليها حب المال طغيانا شديدا ، فتراه إذا كان له حق عند غيره أخذه كاملا غير منقوص ، وطفف في الكيل أو الميزان ، وإذا كان لغيره حق عنده نقصه في الكيل أو الميزان ، الويل لهؤلاء! ثم الويل لهم! فإن عملهم هذا لون من الفجور والآثام والأنانية يحاربها الإسلام الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ.
عجبا لهؤلاء ثم عجبا! ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ؟ ؟ ! إن هؤلاء المطففين لو كانوا يظنون « 1 » أن اللّه باعث الخلق ومحاسبهم على أعمالهم لما أقدموا على تلك الأعمال الشنيعة ، إذ لو اعتقدوا حقا أن اللّه يبعث خلقه ويحاسبهم لتركوها ، وكان التعبير بقوله أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ أبلغ وصف لهم ، فاسم الإشارة يدل على أنهم ممتازون بهذا الوصف القبيح ، وعلى بعدهم عن رحمة اللّه ، ووصفهم بأنهم لا يظنون البعث دليل على أنهم أسوأ من الكفار فإنهم يظنون البعث ، ثم انظر إلى وصف اليوم ويا بؤسهم فيه ، ويا خير من يؤمن باللّه ويعمل صالحا في ذلك اليوم الذي يقوم فيه الناس ويطول قيامهم أمام رب العالمين للحساب.
المعنى :
ارتدعوا أيها الفجار من المطففين والمكذبين بيوم الحساب عن ذلك وارجعوا إلى ربكم القادر على كل شيء ، فستحاسبون على أعمالكم حسابا شديدا ، وقد أعد اللّه لهم
___________
(1) هذا المعنى على أن (ألا) الهمزة فيها للإنكار والتعجب ، ولا للنفي. وليست أداة استفتاح.(3/837)
ج 3 ، ص : 838
كتابا أحصى أعمالهم ، ولم يغادر منها صغيرة ولا كبيرة ، وإن هذا الكتاب لفي الديوان الجامع الذي دون فيه أعمال الفجرة من الثقلين ، وما أدراك ما سجين ؟ والمراد تفخيمه وأنه لا أحد يعرف عنه شيئا إلا ما أخبر به الحق - تبارك وتعالى - فقال : هو كتاب مرقوم ظاهر الكتابة ، أو معلم يعرفه بعلامته كل من رآه أنه لا خير فيه.
الويل والهلاك للمكذبين ، الذين يكذبون بيوم الدين ، ومنشأ ذلك هو كثرة الاعتداء وتجاوز الحدود ، وارتكاب الآثام والشرور ولذا يقول اللّه : وما يكذب به إلا كل معتد أثيم ، وتأويل ذلك أن النفس التي اعتادت الظلم والطغيان والبغي والاسترسال في الشرور والآثام يصعب عليها جدا الإذعان لأخبار الآخرة والتصديق بها ، فإن تصديقها - مع هذه الأعمال - حكم صريح عليها بالسفه والجنون ، وهذه النفس تكون جامحة طامحة ، فصاحبها يعللها ، ويهون عليها الأمر بالتغافل والتكذيب بيوم القيامة ، أو التعلق بالأمانى الباطلة. تلك حقائق قرآنية نادى بها العلم الحديث فلذلك إذا تليت آيات القرآن التي تنادى بإثبات البعث على هذه النفس لم يكن منها إلا أن تقول : تلك أساطير الأولين وأكاذيبهم ، حكيت لنا وأثرت عنهم ، ولكنها أحاديث لا حقيقة لها ، ولا تستحق النظر.
« كلا » ليست آيات القرآن أساطير ، وإنما هي الحق لا مراء فيه ، إنما دفعهم إلى هذا وجرأهم عليه أعمالهم السيئة التي مرنوا عليها ودربوا حتى اسودت قلوبهم ، وران عليها الفساد فلم تعد تبصر الخير على أنه خير ، فإن الرين الذي ينشأ عن الذنب كالصدإ على المرآة ، والتوبة تجلوه : ومداومة العمل الفاسد تجعل الفساد ملكة عند الإنسان فيعمل الشر بلا تفكير ولا روية ، وذلك هو الرين أو الطبع أو القفل.
[سورة المطففين (83) : الآيات 15 الى 36]
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19)
كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)
وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)(3/838)
ج 3 ، ص : 839
المفردات :
لَمَحْجُوبُونَ : لممنوعون من رؤية ربهم. لَصالُوا الْجَحِيمِ : لداخلوها وذائقو حرها. الْأَبْرارِ : جمع بر ضد الفاجر. عِلِّيِّينَ : علم لديوان ضخم سجل فيه عمل الأبرار الصالحين من الثقلين. يَشْهَدُهُ : من الشهود وهو الحضور ، والمراد أنهم يحافظون عليه ، أو من الشهادة. الْأَرائِكِ : جمع أريكة وهي السرير عليه الكلة. نَضْرَةَ النَّعِيمِ : بهجته. رَحِيقٍ : جيد الخمر.
مَخْتُومٍ : ختمت أوانيه تكريما لشاربيها. مِزاجُهُ : ما يخلط به ذلك الشراب. تَسْنِيمٍ : عين مرتفعة حسا ومعنى. الْمُقَرَّبُونَ : هم السابقون ، والأبرار : هم أصحاب اليمين. فَكِهِينَ فرحين مسرورين للاستهزاء بالمؤمنين.
لَضالُّونَ : منحرفون عن الحق وعن الطريق السوى. حافِظِينَ لأعمالهم شاهدين عليها. ثُوِّبَ الْكُفَّارُ : جوزوا على عملهم.(3/839)
ج 3 ، ص : 840
المعنى :
كان الكفار لسوء تفكيرهم ، وغرورهم بأنفسهم يقولون : إن كان محمد صادقا في أن هناك بعثا ، فنحن في المنزلة العليا والدرجة الرفيعة ، وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ « 1 » .
وهنا بين اللّه للكفار الفجار منزلتهم يوم القيامة فقال : إنهم عند ربهم يومها لمحجوبون عن رؤيته ، ولممنوعون عن خيره وبره ، ثم إنهم يومها لداخلون جهنم ، وذائقون حرها وجحيمها ، ثم يقال لهم من قبل الملائكة تأنيبا وتوبيخا : هذا هو العذاب والجزاء الحق الذي كنتم إذا سمعتم خبره تكذبون به وتكفرون ، وها أنتم أولاء قد عاينتموه بأنفسكم بل وذقتم مره! « كلا » ردع لهم عما هم فيه ليعقب بوعد الأبرار كما عقب سابقا بوعيد الفجار ، إن كتاب الأبرار لفي عليين ، نعم كتاب حسناتهم مسجل في ديوان عمل الأبرار.
فسيجازون على عملهم أحسن الجزاء ، والعرب تصف ما يدل على السرور والسعادة بالعلو والطهارة والفسحة والوجاهة ، كما أن وصف الشيء بالسفل والضيق والظلمة يدل على الحزن والكآبة لذلك كان كتاب الأبرار في عليين ، وكتاب الفجار في سجين ، والقرآن عرفنا بكتاب الأبرار حيث قال : وما أدراك ما عليون ؟ هو كتاب مرقوم معلوم ، بين الكتابة واضح الرسوم ، يشهده المقربون من الملائكة ويحافظون عليه ، أو يشهدون على ما فيه ، هذا حال كتاب الأبرار فما حالهم هم ؟ إن الأبرار لفي نعيم على السرر يجلسون وينظرون إلى ما أعد لهم ، وإلى ما أعد للفجار المذنبين ، تعرف في وجوههم نضرة النعيم ورونقه ، يسقون من خمر خالص جيد لا غول فيه ، ولا هم عنها ينزفون ، قد ختم باسمهم إكراما لهم ، ختامه مسك ، وفي ذلك فليتبار المتبارون في تخليصه ، وليتنافس المتنافسون في الحصول عليه.
وشراب المؤمنين في الجنة خمر جيدة قد مزجت بعين يقال لها تسنيم لأنها عين مرتفعة حسا ومعنى : أعنى عينا يشرب منها المقربون السابقون ، فهي معدة ليكرم اللّه بها أولياءه وأحبابه.
___________
(1) - سورة فصلت آية 50.(3/840)
ج 3 ، ص : 841
وهذه بعض سيئات الفجار لأنهم فجار ، ولذلك أخرها إلى هنا بعد بيان جزاء الفريقين في الآخرة .. إن الذين أجرموا واعتادوا فعل الشنيع من الأعمال كانوا يضحكون من الذين آمنوا ، ويستهزئون بهم ، وإذا مروا بهم يتغامزون ، ويشيرون إليهم استهزاء بهم ، وإذا انقلبوا إلى أهلهم بعد هذا انقلبوا فكهين مسرورين ، لأنهم آذوا المسلمين واستهزءوا بهم ، وكانوا إذا رأوهم قالوا : إن هؤلاء المؤمنين لقوم ضالون عن الطريق السوى طريق آبائهم وأجدادهم ، وهل أرسل أولئك الفجار حافظين وشاهدين على المسلمين ؟ لا ، إنهم ما أرسلوا عليهم حافظين.
ولكن أيترك ربك عباده وأولياءه بدون جزاء ؟ إنه جازى كلا على عمله فجازى الكفار بجهنم وسعيرها ، وجازى المؤمنين بالجنة ونعيمها ، فاليوم الذي فيه المؤمنون ينعمون بجنة الخلد ، والكفار يصلون فيه بنار الجحيم : في هذا اليوم يضحك المؤمنون من الكفار لا ضحك الجاهل المغرور بل ضحك الموفق المسرور ، ضحك من وصل إلى نتيجة عمله بعد طول المشقة ، وبعد المسافة ضحك من انكشف له الحق فسر له لأنه حق ، وهم على الأرائك ينظرون صنع اللّه وفعله المحكم الدقيق.
هل جوزي الكفار على أعمالهم ؟ نعم ، هل جوزي المسلمون على أفعالهم ؟ نعم وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.(3/841)
ج 3 ، ص : 842
سورة الانشقاق
وهي مكية. وآياتها خمس وعشرون آية ، تتضمن ذكر مقدمات يوم القيامة ، ونهاية كل إنسان ، وما يكون عليه يوم القيامة ، ثم القسم بالشفق والليل والقمر لتكونن في حياة ثانية تكون كالأولى ، ثم الإنكار عليهم لعدم إيمانهم ، وتكذيبهم.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 25]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19)
فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24)
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)(3/842)
ج 3 ، ص : 843
المفردات :
أَذِنَتْ : استمعت لأمر ربها وامتثلت له. وَحُقَّتْ أى : وحق لها أن تمتثل. مُدَّتْ : اتسعت رقعتها. وَتَخَلَّتْ : لم يبق في باطنها شيء.
كادِحٌ : مجد ساع في طلب الدنيا. يَسِيراً : سهلا. وَيَنْقَلِبُ :
يرجع. أَهْلِهِ : إخوانه من المسلمين. ثُبُوراً : هلاكا وموتا ، والمراد أنه يقول : وا ثبوراه وا هلاكاه. وَيَصْلى : يقاسى ويصطلى. سَعِيراً : حر جهنم. فِي أَهْلِهِ : في الدنيا. مَسْرُوراً : فرحا فرح بطر وترف.
يَحُورَ : يرجع إلى اللّه. بَلى : نعم جواب لما بعد النفي ، أى : نعم يرجع.
بِالشَّفَقِ : الأثر الباقي من الشمس في الأفق بعد الغروب ، وقيل : هو النهار ، والمادة تدل على الرقة. وَما وَسَقَ أى : وما جمع. اتَّسَقَ : اجتمع وتكامل وتم واستدار. يُوعُونَ : يحفظونه في قلوبهم من شرك أو معصية. غَيْرُ مَمْنُونٍ : غير مقطوع.
المعنى :
إذا أراد اللّه ذهاب هذا العالم ، وقيام الساعة ، اختل نظام الدنيا ، بأى صورة كانت ، وعلى أى شكل يريده اللّه ، فترى عند ذلك أن السماء تتشقق وتنفطر ، ويعلو الجو غمام وأى غمام ؟ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ عند ذلك ترى أن السماء قد استجابت لأمر ربها وانقادت له ، وحق لها ذلك الامتثال والاستماع لأمره ، وكيف لا يكون ذلك وهي في قبضته وتحت سلطانه. وهو الذي يمسك السماء والأرض أن تزولا ، عند ذلك تكور الشمس ، وتتناثر النجوم والكواكب ، وأما الأرض فلا يمكن أن تبقى على حالها بل نراها قد اندكت جبالها ، واتسعت سهولها وامتد جرمها ، وألقت ما في باطنها من الكنوز والأجساد والعظام البالية ، وتخلت عن كل ذلك ، ولم يبق في باطنها شيء وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ وإذا السماء انشقت ، وإذا الأرض مدت ، وألقت ما في باطنها وتخلت عن كل شيء.
يكون ماذا ؟ يكون ما شاء اللّه مما ذكره في غير موضع من القرآن ، ويقال : إن الجواب محذوف دل عليه قوله تعالى : يا أَيُّهَا(3/843)
ج 3 ، ص : 844
الْإِنْسانُ
وكأن المعنى : إذا السماء انشقت ، وإذا الأرض مدت ... إلخ. كان البعث ولاقى الإنسان ربه فوفاه حسابه.
يا أيها الإنسان المجد في سعيه ، النشيط في عمله السريع في تحصيل معاشه وكسبه :
أنت تكدح في طلب الدنيا ، حتى استبطأت حركة الزمن ، وكم تمنيت نهاية اليوم أو الشهر أو العام لتحصيل على طلبك ، أيها الإنسان ما أجهلك!! ألم تعلم بأن هذا كله من عمرك ، وأنت تكدح صائرا إلى ربك ، وتجد وأصلا إلى نهايتك وموتك :
يس ر المرء ما ذهب الليالى وكان ذهابهن له ذهابا
فأنت تجد في السير إلى ربك فتلاقى عملك هناك أوضح من الشمس فاعمل في دنياك على هذا الأساس.
أيها الإنسان : ستلاقى ربك يوم القيامة ، وستلاقى عملك يوم يقوم الناس للعرض على الملك الجبار يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ « 1 » وهناك يظهر الحق ، ويعرف كل عمله ، فأما من أوتى كتابه بيمينه ، وهم الصالحون المقربون فسوف يحاسبون حسابا يسيرا سهلا ، ويرجعون إلى إخوانهم من المؤمنين فرحين مسرورين لأنهم لاقوا جزاءهم. وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً « 2 » وأما من أوتى كتابه بشماله أو من وراء ظهره وهم الكفار الفجار ، فسوف يحاسبون حسابا عسيرا ، ويدعون من شدة ما بهم قائلين : ووا ثبوراه ، وا هلاكاه وسيصلون سعيرا ويقاسون حر جهنم الشديد القاسي ، فإيتاء الكتاب باليمين أو بالشمال. أو من وراء الظهر تمثيل وتصوير لحالة المطلع على أعماله المستبشر المبتهج بها ، أو لحالة المبتئس العبوس الحزين بسببها : والعرب تستعير جهة اليمين للخير وجهة اليسار للشر.
وما سبب عذاب هؤلاء ؟ إنه كان في أهله ، أى : في الدنيا فرحا مسرورا فرح بطر أو أشر ، ولما كان فيه من ترف وحب للشهوة ، واستمتاع باللذة ، والذي دفعه إلى هذا كله ظنه أنه لن يرجع إلى ربه للحساب ، فيحسب ما اقترفته يداه ، بل سيرجع إلى ربه فيحاسبه حسابا كاملا ، إن ربه كان به بصيرا ، وعليما خبيرا ، ومقتضى علمه بالمخلوق علما كاملا : أنه لا يتركه سدى ، بل يجازى المحسن على إحسانه ، والمسيء على إساءته
___________
(1) - سورة الحاقة آية 18. [.....]
(2) - سورة الإنسان آية 12.(3/844)
ج 3 ، ص : 845
إذ مقتضى العلم الكامل بالخلق ، والعدل التام في الحكم أن اللّه لا يترك الخلق بلا حساب وثواب وجزاء ، إذ تركهم لا ينشأ إلا من أحد أمرين : إما لأنه لا يعرف حالهم - وحاشا للّه أن يكون كذلك - وهو الذي خلقهم ، وإما لأنه غير عادل في حكمه وهو مستحيل عليه ، فظهر من هذا حسن وجلال قوله تعالى : بلى - نعم سيرجع إلى ربه للحساب - إن ربه كان به بصيرا.
فلا أقسم بالشفق وحمرته ، ولا بالليل وظلمته ، ولا بالليل وما جمع من خلق كان منتشرا في النهار ، ثم أوى إليه فجمعه تحت جناحيه ، وما جمع من أمهات إلى أفراخها ومن سائمات إلى حظائرها ، ومن نجوم اجتمعت في السماء ، وبالجملة ففي النهار الحركة والانتقال وفي الليل المأوى والسكون ، وأقسم بالقمر إذا اتسق ، واجتمع وتكامل ، واستدار وأنار الكون بنوره الكامل ليلة البدر.
لا أقسم بهذه الأشياء : لتركبن طبقا عن طبق ، لظهوره ووضوحه ، فهو غير محتاج إلى قسم ، أو المعنى : لا أقسم بهذه على إثبات البعث فإنه أمر جليل الشأن عظيم الخطر ، وهذه الأشياء لا يخشى منها أذى ، ولا يخاف منها ضرر. أو : لا أقسم بهذه الأشياء لتعظيمها ، فإنها عظيمة في نفسها من غير قسم ، وأيا كان فهو أسلوب للقسم مستعمل في لسان العرب. وقد أقسم الحق بهذه الأشياء لفتا لأنظار الناس إليها ، وأنها أثر من آثار القدرة الإلهية ، على أن في صفاتها ما ينفى كونها آلهة تعبد.
أقسم لتركبن طبقا على طبق ، ولتكونن في حالة شبيهة بتلك الحال ومطابقة لها تماما وهي الحياة الثانية ، أو لتركبن أيها الناس حالا بعد حال ، وأمرا بعد أمر ثم يستقر بكم الأمر إلى الواحد الأحد فيجازى كلا على عمله.
ألا ترى أن القادر على تغيير الأجرام العلوية ، والأفلاك السماوية من حال إلى حال قادر على البعث وإحياء الإنسان بعد مماته ؟ فما لهم لا يؤمنون ؟ أى شيء ثبت لهم حتى كفروا باللّه وباليوم الآخر ؟ مع أن الشواهد كلها ناطقة على ذلك ، وأى شيء ثبت لهم حتى جعلهم إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون للّه شكرا ، ولا يسجدون له إعجازا ، بل الذين كفروا يكذبون بلا حجة ولا برهان ، واللّه أعلم بما يحفظونه في قلوبهم من كفر وحسد وبغضاء ، إذا كان الأمر كذلك فبشرهم بعذاب أليم ، لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير مقطوع. واللّه أعلم.(3/845)
ج 3 ، ص : 846
سورة البروج
وهي مكية. وعدد آياتها اثنتان وعشرون آية ، وهذه السورة جاءت تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وللمؤمنين وتشجيعا لهم على تحملهم أذى قومهم ، ثم ضربت لهم الأمثال بأصحاب الأخدود ، وفرعون وثمود. وتخلل ذلك ما به تقر نفوس المؤمنين ببيان نهاية الكفار ، ونهاية المؤمنين ، على أنها لم تغفل ذكر القرآن في نهايتها.
[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 22]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (9)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)
وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)(3/846)
ج 3 ، ص : 847
المفردات :
الْبُرُوجِ : جمع برج ، وهو في أساس اللغة يطلق على الأمر الظاهر. ثم استعمل في القصر العظيم ، وعلى ذلك فالسماء ذات البروج أى : النجوم ، وقيل المراد بالبروج هنا : منازل الكواكب. وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ : يوم القيامة. الْأُخْدُودِ : الشق في الأرض يحفر مستطيلا ، وجمعه أخاديد. شُهُودٌ أى : حضور عذاب المؤمنين.
وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ : وما عابوا عليهم. فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ : ابتلوهم بالإحراق.
بَطْشَ رَبِّكَ : أخذه الكفار. الْوَدُودُ : المحب للطائعين.
المعنى :
أقسم الحق - تبارك وتعالى - بالسماء ذات النجوم التي كانت ضياء وزينة ، ورجوما للشياطين ، وعلامات يهتدى بها المسافرون ، وهي مع ذلك أبنية فخمة عظيمة تدل على قدرة صانعها الحكيم ، وقيل المراد بالبروج : منازل الكواكب في السماء التي ينشأ عنها الفصول الأربعة ، وما فيها من حرارة وبرودة ، والتي ينشأ عنها عدد السنين والحساب ، وتفصيل كل شيء في الوجود ، وأقسم الحق - تبارك وتعالى - باليوم الموعود الذي وعدنا اللّه به ، وهو يوم القيامة ، وأقسم كذلك بكل الخلائق والعوالم الشاهد منها والمشهود ، فله - سبحانه - في كل شيء دلالة على وحدانيته ، فكل شيء شاهد بهذا المعنى ، على أن كل شيء في الكون مشهود للناس ، والناس مختلفون في الشهادة ، أى : الرؤية ، أو الفكرة والتأمل.
أقسم الحق - تبارك وتعالى - بهذه الأشياء : لقد ابتلى اللّه المؤمنين والمؤمنات قديما بالعذاب والفتنة والبلاء من أعدائهم الكفار ، ولكنهم صبروا على ما أوذوا واحتسبوا ذلك عند اللّه ، فكان لهم الأجر الكبير ، ولأعدائهم عذاب جهنم ولهم فيها عذاب الحريق ، فاصبروا أيها المؤمنون ، وسيعوضكم اللّه خيرا ، ولقد ضرب اللّه قصة أصحاب الأخدود هنا مثلا ، ودليلا على جواب القسم المقدر وهو ابتلاء المؤمنين.
قتل أصحاب الأخدود : أصحاب النار ذات الوقود ، النار التي أعدوها ليصلاها المؤمنون الموحدون.(3/847)
ج 3 ، ص : 848
أصحاب الأخدود جماعة من الكفار كانوا في القديم ، ويروى أنهم من أمراء اليمن أو زعماء اليهود ، وقد غاظهم إيمان المؤمنين المعاصرين لهم ، وشق عليهم ذلك ، فانتقموا منهم انتقاما شديدا ، وشقوا لهم أخدودا في الأرض ، أضرموا فيه النيران ذات الوقود الشديد اللهب والدخان وألقوا فيها كل ما يضرمها ويؤججها ثم جاءوا بالمؤمنين وألقوهم في النار ذات الوقود!!
وقد كانوا قساة القلوب غلاظ الأكباد ، فجلسوا يضحكون فرحين بإلقاء المؤمنين في النار ، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين من كبائر الإثم وفظائع الجرم شهود وحضور! وما فعل هؤلاء المؤمنون حتى يلقوا في النار ؟ لم يفعلوا شيئا أبدا ، وما نقموا ، ولا عابوا عليهم إلا أنهم آمنوا باللّه العزيز الحميد! يا سبحان اللّه ما كان سببا في السعادة والخير ، يكون سببا في القتل والإحراق والتعذيب بالنيران! ولكن تلك طبيعة البشر قديما وحديثا ، وهذا صراع الحق والباطل ، وتلك هي البوتقة التي يصهر فيها الإيمان ويصفى.
هؤلاء المؤمنون آمنوا باللّه العزيز الذي لا يعجزه شيء ، الحميد في السموات والأرض ، وإن كفر به بعض خلقه ، الذي له ملك السموات والأرض ، وهو على كل شيء شهيد ، فهل يترك المؤمنين نهبا للكفار والمشركين يفعلون معهم الأباطيل ويذيقونهم العذاب ألوانا ؟ ! لن يكون هذا أبدا.
إن الذين فتنوا المؤمنين بالتعذيب ثم لم يتوبوا - فإن من يفعل ذلك لن يتوب - فلهم عذاب جهنم ، ولهم عذاب الحريق ، واللّه من ورائهم محيط ، وهو على كل شيء قدير ، أما المؤمنون العاملون فلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ، وذلك هو الفوز العظيم ، ولا عجب في هذا كله فربك بطشه بالكفار شديد ، وهو القادر على كل شيء الذي يبدئ الخلق ثم يعيد ، وهو الغفور لمن تاب الودود لمن أطاع ، صاحب الملك والسلطان بيده الأمر وهو الفعال لما يريد.
وهذه أمثلة أخرى تؤكد أن العاقبة للصابرين ، وأن اللّه مع المؤمنين ، فاحذروا يا آل مكة تلك العاقبة ، وهذه النتيجة ، واحذروا أيها الطغاة الظالمون نتيجة أعمالكم! هل بلغك قصص أولئك الجنود ، أصحاب القوة والبأس الشديد ، مثل فرعون وجنوده وقبيلة عاد وثمود ، وكانوا أكثر منكم أموالا وأولادا ، فلما كذبوا بالرسل(3/848)
ج 3 ، ص : 849
وكفروا بالبعث ، وآذوا رسلهم ، أخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر ، أخذهم ربك بظلمهم وما ربك بظلام للعبيد.
لو نظر العاقل في تلك الآيات يسوقها الحق للاعتبار والاتعاظ لاهتدى إلى سنة اللّه في خلقه ، وأنها لا تتحول ولا تتغير ، ولكن كفار مكة لم يكن فيهم شيء من ذلك بل كانوا في كفر وتكذيب ، وكأن الكفر والتكذيب إطار وهم داخلون فيه لا يتجاوزونه.
واللّه من ورائهم محيط ، وهو على كل شيء قدير ، فهم لا يعجزونه في الأرض ولا في السماء.
وهل لهؤلاء عذر في تكذيبهم وعدم إيمانهم ؟ لا. بل هو قرآن مجيد : قرآن كريم ، قد رفع اللّه قدره ، وشرف مكانته ، وجعله كاملا في كل شيء ، وهو في لوح محفوظ ، ولذلك هم في ضلال ولا عذر لهم.
ويقول الشيخ محمد عبده - رحمه اللّه - في تفسيره : واللوح المحفوظ شيء أخبر اللّه به وأنه أودعه كتابه ، ولم يعرفنا حقيقته ، فعلينا أن نؤمن بأنه شيء موجود ، وأن اللّه قد حفظ فيه كتابه إيمانا بالغيب.(3/849)
ج 3 ، ص : 850
سورة الطارق
وهي مكية. وعدد آياتها سبع عشرة آية ، وقد تكلمت على إثبات أن للنفس حافظا يحفظها وهو اللّه ، والدليل على ذلك ، ثم على إثبات البعث ، ثم ختمت بالكلام على القرآن ، وكيد الكفار والمشركين ويتبع ذلك تصديق النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 17]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)
المفردات :
الطَّارِقِ : كل ما جاءك ليلا فهو طارق ، والمراد به النجم. الثَّاقِبُ :
الذي يثقب حجب الظلام بضوئه. لَمَّا : قرئت مشددة بمعنى إلا ، وإن على ذلك نافية أى : ما كل نفس إلا عليها حافظ ، وقرئت لما بالتخفيف فتكون ما زائدة في الإعراب والمراد بالقراءتين واحد. دافِقٍ دفقت الماء أدفقه : إذا صببته ، والمراد ماء مدفوق أى : منصب. الصُّلْبِ : عظام الظهر ، أى : فقاره. وَالتَّرائِبِ :(3/850)
ج 3 ، ص : 851
جمع تريبة ، وهي عظام الصدر التي يوضع عليها القلادة. تُبْلَى السَّرائِرُ المراد :
تظهر السرائر وتعلم المكنونات. ذاتِ الرَّجْعِ : ذات الماء أو المطر.
الصَّدْعِ : هو الشق ، وقيل : هو النبات الذي يصدع الأرض ، أى : يشقها.
فَصْلٌ : فارق بين الحلال والحرام. يَكِيدُونَ كَيْداً الكيد : المكر ، وهو إذا أسند إلى اللّه لا يعقل أن يكون على حقيقته وإنما يكون المقصود منه الوصول بالإنسان إلى جزاء عمله من حيث لا يشعر. فَمَهِّلِ : فتأن عليهم وتريث. رُوَيْداً :
إمهالا يسيرا.
المعنى :
أقسم الحق - تبارك وتعالى - بالسماء وما فيها من أفلاك وأجرام لا يعلمها إلا هو ، وبالطارق الذي يطرق ليلا ، وهذا توجيه ولفت لأنظار الناس إلى عالم السماء وما فيها.
ولكنا لم نعرف الطارق فأراد الحق أن يبينه فقال : وما أدراك ما الطارق ؟ وهذا أسلوب تفخيم للطارق ، كأنه لفرط فخامته لا يحيط به وصف ، إلا ما سيذكره اللّه عنه ، هو النجم الثاقب الذي يثقب الظلام بشعاعه اللماع ، أقسم بالنجم لما له من أثر كبير في الهداية الحسية والمعنوية والشئون الحيوية الأخرى.
واللّه - جل شأنه - يقسم على أن كل نفس من النفوس عليها رقيب وحفيظ ، وليست في النفوس نفس تترك هملا بلا حساب ولا رقابة ، ومن هو الحفيظ ؟ هو اللّه فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ « 1 » وقيل : هو الملك الموكل بالإنسان.
فإذا كنت في شك من ذلك فلينظر الإنسان إلى نفسه وكيف خلق ؟ ! إنه خلق من ماء دافق : ماء مصبوب ، يخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة ، وهذا الماء السائل كيف يتكون منه خلق سوى ؟ وإنسان كامل في كل شي ء! لا يعقل أن يكون ذلك بمحض الصدفة أو بفعل الطبيعة ، وإلا لكانت كل الخلائق سواء.
هذا الخلق بهذا الشكل ، وعلى تلك الصورة دليل على أن لكل نفس رقيبا وحفيظا يراقب ذلك كله ويدبره ، وينقله من حال إلى حال ، ولا يعقل أن تترك تلك النفوس سدى بلا ثواب أو عقاب ، الإنسان خلق من ماء دافق خارج من صلب الرجل وترائب
___________
(1) - سورة يوسف آية 64.(3/851)
ج 3 ، ص : 852
المرأة وهذا الماء من الدم ، والدم من الغذاء ، والغذاء من النبات ، ثم هذا الماء لا يصلح إلا إذا كان الأب مع الأم على وضع خاص. فمن الذي جمع كل هذا ؟ أظن أن القادر على ذلك قادر على إرجاع الإنسان وإحيائه يوم تكشف السرائر ، وتظهر مكنونات الضمائر ، والإنسان عند ذلك ما له من قوة يدفع بها العذاب أو يجلب بها الثواب ، وليس له ولى ولا ناصر.
والسماء ذات المطر الذي يحيى الموات ، وينبت النبات ، والأرض ذات الصدع والشق ، أقسم اللّه بهذا إنه - أى : القرآن - لقول فصل ، يفرق بين الحق والباطل ، وما هو بالهزل ، إنه قول رسول كر يم ذي قوة عند ذي العرش مكين ، ليس بالشعر ولا بالسحر وإنما هو تنزيل رب العالمين ، ذلك هو القرآن المجيد.
أتراه تكلم عن الحفيظ - سبحانه وتعالى - ثم على البعث وتلك دعامتان ، أما الثالثة فهي القرآن ومن أنزل عليه.
ثم ختم السورة بتهديد الكفار والمشركين تهديدا يهد كيانهم مثبتا لهم أنهم يكيدون ويمكرون ، ولكن اللّه يمهلهم ولا يهملهم ثم يأتى عذابه من حيث لا يشعرون.
إذا كان الأمر كذلك فمهل الكافرين يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولا تستعجل لهم : إن عذاب ربك واقع بهم ، وأمهلهم إمهالا يسيرا.(3/852)
ج 3 ، ص : 853
سورة الأعلى
وهي مكية ، وعدد آياتها تسع عشرة آية ، وتشمل الأمر بالتسبيح والتنزيه ، ثم الأمر بالتذكير وبيان أن الفلاح لمن تطهر من دنس المعاصي ، وخلص من حب الدنيا.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
المفردات :
سَبِّحِ التسبيح : تنزيه وتمجيد اللّه عما لا يليق. فَسَوَّى أى : جعله متساويا في الإحكام والإتقان. قَدَّرَ : جعل الأشياء مقدرة على مقادير مخصوصة.
فَهَدى : فوجه كل كائن إلى وجهته. غُثاءً : باليا هشيما. أَحْوى :(3/853)
ج 3 ، ص : 854
مائلا إلى السواد. وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى : نوفقك إلى الخير. فَذَكِّرْ : بلغهم رسالتك وعظهم. يَخْشى : يخاف ربه.َْشْقَى
الشقي : الكافر.
تَزَكَّى : تطهر. فَصَلَّى : خشع وخضع للّه. تُؤْثِرُونَ : تفضلون.
الصُّحُفِ الْأُولى : الكتب التي أنزلت قبل القرآن.
المعنى :
سبح اسم ربك ، ونزهه من كل نقص ، واسم به عما لا يليق به من شبه المخلوقات أو اتخاذ الشركاء والأنصاب ، والاسم : ما به يعرف الشيء ، واللّه يعرف بصفاته ، أما ذاته المقدسة فتعالت عن الأوهام والعقول ، فالبشر يعرفون اللّه بأنه هو العالم القادر المريد الواحد الأحد ، الفرد الصمد المنزه عن كل نقص ، المتعالي عن الشريك والصاحبة والولد ، جل شأنه وتقدس اسمه ، وهذا الاسم - أى : الصفات التي بها يعرف - هو الذي وصف بأنه ذو الجلال والإكرام ، وهو الذي يجب علينا تنزيهه وتقديسه لأنه هو الذي خلق الخلق ، فسواه ووضعه على نظام محكم متقن ، لا تفاوت فيه ولا خلل ، حتى ما في هذا الكون من سموم وآفات وجراثيم ، كل ذلك لكمال النظام وتمام العمل وحسن التقدير ، وهو الذي قدر لكل كائن ما ينفعه وما يصلحه ، فهداه إليه وأرشده إلى الانتفاع به ، أرشده إليه بطبعه وما أودع فيه من غرائز واتجاهات ، وهو الذي أخرج المرعى ، وأنبت النبات ، الذي هو الغذاء للإنسان والحيوان ، ثم بعد أن أنبت النبات جعله هشيما باليا مائلا إلى السواد ليكون غذاء للحيوان ، وفي هذا إشارة إلى جواز الحياة بعد الموت ، وهو الذي تفضل فأنعم على البشر كله بإنزال القرآن ، على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ووعده بأنه سيقرئه القرآن وأنه لا ينساه إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
إلا إذا شاء اللّه فالكل منه وإليه ، وخاضع لأمره إنه يعلم الجهر والإعلان وما هو أخفى من الخفاء ، وهو يوفقك للشريعة السمحة السهلة التي لا يصعب قبولها وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى .
إذا كان الأمر كما ذكر من وجوب تنزيه الحق - تبارك وتعالى - عن كل نقص لأنه خلق الخلق فسواه ، وقدر له كل ما يصلح به وهداه إليه بطبعه وغريزته ، وأنعم بالنبات أخضره ويابسه ، وأنزل القرآن هدى للناس ، ووعد بحفظه ، وأنه يسر لنا شريعة سهلة سمحة.(3/854)
ج 3 ، ص : 855
إذا كان الأمر كذلك فذكر يا محمد الناس بالقرآن وعظهم واعلم أن الناس نوعان فريق تنفعه الموعظة ، وفريق لا تنفعه ، وسيذكر بها ويتعظ من في قلبه نوع من الخشية للّه ، والإيمان بالغيب ، وسيتجنبها الشقي المغلق القلب الذي لا يؤمن باللّه ولا بالغيب.
وهذا سيصلى نارا ذات لهب ، النار الكبرى التي تكون يوم القيامة : أما نار الدنيا فمهما كانت فهي صغرى! ثم هو فيها لا يموت بل يظل معذبا عذابا شديدا ولا هو فيها يحيى حياة سعيدة : حياة يحبها.
ولا عجب في ذلك ، قد أفلح من تطهر من دنس المعاصي ورجس عبادة الهوى والأصنام قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ « 1 » قد أفلح من زكى نفسه ، وقد خاب من دساها ودنسها بالمعاصي ، قد أفلح الذي طهر نفسه ، وذكر اسم ربه فخشع له وخضع ، ذكر ربه فوجل قلبه ، واضطربت نفسه ، وفاضت عينه ، فقام بالعمل الصالح الذي ينفعه بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وهذا إشارة إلى الداء الكامن ، والسبب الحقيقي في معصية العاصي وكفر الكافر ، والسبب هو إيثار الدنيا على الآخرة ، وحب العاجلة الفانية ، فحسب الدنيا رأس كل خطيئة حبها ، بمعنى أنك تعبدها وتتفانى في خدمتها ، مع أن الآخرة خير بلا شك منها ، وهي أبقى لك ، فلن تأخذ من دنياك إلا ما قدمته يداك من صالح الأعمال ، والآخرة خير وأبقى.
ولا تظنوا أن محمدا أتى بالجديد. لا. إن هذا - الشرع المحمدي - لفي الكتب الأولى ، كتب إبراهيم وموسى ، إذ الكل متفق على توحيد اللّه ، وتنزيهه وإثبات البعث وتصديق الرسل.
___________
(1) - سورة المؤمنون الآيات 1 - 3.(3/855)
ج 3 ، ص : 856
سورة الغاشية
وهي مكية. وآياتها ست وعشرون آية ، وقد تكلمت عن الغاشية وأن الناس بها فريقان : فريق في الجنة وفريق في السعير ، ثم لفت الأنظار إلى بعض الآثار ، ثم مرت بالنبي وتذكيره مع بيان أن المرجع إلى اللّه.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 26]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24)
إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)(3/856)
ج 3 ، ص : 857
المفردات :
الْغاشِيَةِ المراد : يوم القيامة لأنه يغشى الناس بعذاب أليم. خاشِعَةٌ :
ذليلة. تَصْلى ناراً : تقاسى حرها. آنِيَةٍ : شديدة الحرارة. ضَرِيعٍ :
شائك لا خير فيه. لاغِيَةً : لغو لا فائدة فيه. عَيْنٌ جارِيَةٌ : ينبوع لا ينقطع. سُرُرٌ : جمع سرير. وَأَكْوابٌ : جمع كوب وهو ما نسميه الآن « كباية » . وَنَمارِقُ : جمع نمرقة وهي الوسادة ، أو ما نسميه الآن مسندا أو مخدة. وَزَرابِيُّ : جمع زربي وهو البساط ، وأصله : النبات إذا كانت فيه حمرة وصفرة وخضرة. بِمُصَيْطِرٍ : بمتسلط. إِيابَهُمْ : رجوعهم.
المعنى :
هل سمعت قصة ذلك اليوم العظيم « 1 » ؟ ! إنه يوم يغشى الناس بالعذاب ، ويغشى فيه وجوههم النار ، يوم يفترق فيه الناس إلى الفريقين ، فريق وجوهه يغشاها العذاب خاشعة ذليلة مما رأته من الإهانة والذل وقد كانت في الدنيا تعمل وتتعب ، ولكنها لم تأخذ شيئا وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً « 2 » ثم هي تقاسى النار وحرها بما قدمت من سيّئ الأعمال ، وهي تسقى من عين شديدة الحرارة ، إذا عطشت ، حتى إذا خوت بطونهم وأحسوا بالجوع والحرمان جيء لهم بطعام من ضريع ، لا يسمن لحما ، ولا يدفع جوعا ، فلا غناء فيه ولا فائدة.
- وقانا اللّه شرها - فهي فوق ما يتصور العقل ، نار وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.
وأما الفريق الثاني ، فهو فريق أهل الجنة ، وجوه - يومئذ تدخلها ناعمة - ذات بهجة وحسن نادر ناضرة ، وهي - أى : أصحابها - لسعيها في الدنيا راضية ، فرحة مستبشرة لأنها أدت عملها ، وقامت بواجبها ، وهي في جنة عالية المكان والوصف أو___________
(1) هذا استفهام أريد به التقرير ولفت النظر إلى هذا الحديث حتى كأنه الحديث المنفرد في بابه ، وقيل : هل بمعنى قد.
(2) سورة الفرقان آية 23.(3/857)
ج 3 ، ص : 858
عالية البناء والركن ، لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما ، بل هو الحديث العذب ، والفاكهة الحلوة ، التي لا عبث فيها ولا مجون.
انظر إلى وصف أهل الجنة بالسرور والرضا عن أعمالهم في الدنيا ، وأنهم في جنة مرتفعة ، ثم هم لا يسمعون لغوا فيها ، كما نرى عند الأغنياء والمترفين ، في تلك الجنة العالية عيون لا ينقطع ماؤها ولا ينضب معينها. وفيها سرر مرفوعة قد أعدت للجلوس عليها أو النوم ، وفيها أكواب موضوعة لاستخدامها وتناول المشروب بها وفيها نمارق ووسائد قد صفت على الأرائك والمقاعد ، وفيها البسط الجميلة المنقوشة كالزرابى المبثوثة ، وفي الواقع فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون.
ولا عجب في هذا!! أنسوا فلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت « 1 » إنها خلقت على شكل بديع يدل على أن خالقها عليم بها بصير ، أرأيت إلى عنقها وطوله وإلى خفها وحافرها كيف أعد للسير في الصحراء وإلى معدتها وكيف وضعت على شكل يسهل معه حفظ الماء أياما ، أو لم ينظروا إلى السماء وما فيها كيف رفعت وعلقت في الهواء مع سرعة دورانها وشدة تجاذبها ، أو لم ينظروا إلى الجبال كيف نصبت كالأعلام يهتدى بها السارى ، ويلجأ إليها الخائف ، ويقصدها المتنزه والمصطاف ، أو لم ينظروا إلى الأرض كيف سطحت وبسطت ، ومهدت للعيش عليها ، أما جمع الإبل والسماء والجبال والأرض في سلك واحد فتلك هي أهم المرئيات عند العربي المخاطب بالقرآن الكريم ألا يدل ذلك كله على أنه قادر على كل شيء ، إذا كان الأمر كذلك فذكر يا محمد هؤلاء الناس ، واحملهم على النظر في ملكوت اللّه لعلهم يتفكرون ، ولا تأس عليهم ، إنما أنت مذكر فقط ، لست على قلوبهم مسيطرا ، إنما الذي يملك القلوب هو اللّه وحده ، فهو الذي يقدر على إلجائهم إلى الإيمان ، ولست عليهم مسلطا إلا من تولى وأعرض فسيسلطك اللّه عليه : أو المعنى : لست مستوليا عليهم لكن من تولى وأعرض فإن اللّه معذبه العذاب الأكبر ، لأن إليه إيابهم ، ثم إن عليه حسابهم.
___________
(1) (كيف) حال مقدم من ضمير خلقت ، وجملة (خلقت) : بدل اشتمال من الإبل.(3/858)
ج 3 ، ص : 859
سورة الفجر
مكية. وآياتها ثلاثون آية ، وقد تضمنت القسم على أن الكفار سيعذبون حتما ، كما عذب غيرهم من الأمم السابقة ، وبيان الإنسان وطبعه وما جبل عليه في الدنيا ، وبيان موقفه يوم القيامة.
[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)
المفردات :
وَالْفَجْرِ : هو الوقت المعلوم الذي ينبلج فيه النور متتابعا ويظهر ليبدد حجب الظلام. وَلَيالٍ عَشْرٍ : هي الليالى الأولى من كل شهر التي يغالب فيها النور الظلام - وهي غير معينة ولذلك نكرت. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ : الزوج والفرد من تلك الليالى. يَسْرِ أى : يسرى ، بمعنى يجيء ويقبل. حِجْرٍ : عقل.
بِعادٍ : قبيلة من العرب البائدة كان نبيها هودا ، وكانت تسكن الأحقاف جنوبي جزيرة العرب. إِرَمَ : لقب لها. ذاتِ الْعِمادِ : رفيعة العماد ، وهذا كناية(3/859)
ج 3 ، ص : 860
عن الغنى والبسطة. ثَمُودَ : قبيلة من العرب البائدة كانت تسكن الحجر بين الشام والحجاز وكان نبيها صالحا. جابُوا : قطعوا الصخر ونحتوه. فِرْعَوْنَ : ملك مصر. ذِي الْأَوْتادِ : الأبنية الثابتة ثبوت الوتد - الذي يدق في الأرض.
طَغَوْا : تجاوزوا الحد. فَصَبَّ : أنزل عليهم العقوبة. سَوْطَ عَذابٍ أصل السوط : الجلد الذي يضفر ليضرب به ، والمراد به العذاب الذي ينزل بهم.
لَبِالْمِرْصادِ المرصاد : المكان الذي يقوم فيه الرصد. والرصد من يرصد الأمور ويراقبها ليقف على ما فيها من خير وشر ، ويقال للحارس : رصد.
المعنى :
أقسم الحق - تبارك وتعالى - بالفجر ساعة يظهر فيه الضوء مطاردا للظلام بجحافله ، وقت ينفسخ الصبح وإسفاره ، لينشق النهار فينتشر الناس والحيوان ، والطير والوحوش يبتغى الكل رزقا من عند اللّه وفضلا ، وأقسم كذلك بالليالي العشر من كل شهر ، ولا يزال الظلام فيها يغالب القمر وضوءه حتى يغلبه فيسدل على الكون حجبه وأستاره ، وأقسم بالشفع من الليالى والوتر منها ، وأقسم بالليل بأستاره التي تستر الكون فيختفى النهار ، ويظهر الشفق في الأفق ، أقسم بهذا كله ليلفت النظر إلى عجائب الكون وآثار قدرة اللّه لعلهم يتفكرون ، أقسم ليقعن الكفار في قبضة القوى القادر ، وليعذبهم عذابا شديدا كما عذب غيرهم من الأمم التي كذبت وكفرت ، وكان عاقبة أمرها خسرا ، وها هي ذي أخبارهم بالإجمال. ألم تر كيف فعل ربك بعاد بعد أن أرسل لها هودا فكذبته وكفرت باللّه. وإرم لقبها « 1 » ، وكانت تسكن الخيام وتتخذ البيوت من الشعر إلا أنها كانت رفيعة العماد ، قوية الجناب ، لم يكن يضاهيها أحد ، ولم يخلق مثلها في البلاد قوة وعددا. وقد ذكر اللّه أخبار عاد ، وثمود ، وفرعون ، بالتفصيل في سور أخرى كالحاقة وغيرها.
أما ثمود فكانوا ينحتون من الجبال بيوتا حالة كونهم فارهين ، وكانوا يقطعون الصخر وينحتونه لبناء مساكنهم ، وهذه شهادة لهم بقوة العمل وسعة الفكر ، وأما فرعون وما أدراك ما فرعون ؟ إنه ملك مصر وصاحب الحول والطول الذي كان ___________
(1) هذه إشارة إلى أن (إرم) بدل من عاد وهو ممنوع من الصرف.(3/860)
ج 3 ، ص : 861
يقول : أنا ربكم الأعلى ، وكان قومه قد برعوا في فن الهندسة والعمارة حتى بنوا الأهرام وأقاموا التماثيل والمسلات ، وما أروع التعبير بقوله : ذِي الْأَوْتادِ فتلك أبنية ثابتة شامخة ثبوت الأوتاد في الأرض ، وإذا نظرنا إلى الهرم وجدناه أشبه ما يكون بالوتد المقلوب ، هؤلاء جميعا طغوا وبغوا وتجاوزوا الحد في البلاد ، ونشأ عن ذلك أنهم أكثروا فيها الفساد ، فأنزل اللّه عليهم من العقوبات والعذاب الدنيوي ما يشبه ضرب السياط المتتابعة المتتالية ، وما أدق قوله تعالى : فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ حيث شبه اللّه ما أوقعه بهم من أنواع المهلكات وأصناف العذاب بضرب السياط الذي يكون في أشد العقوبات واللّه - جل جلاله - إنما يعذب الأمم جزاء لما كانوا يعملون إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ فهو يجازى المسيء على إساءته ، ولا يفوته واحد منهم ، ولن يعجزه أحد في الأرض ولا في السماء ، فاطمئنوا أيها المسلمون فغدا يلقى كل جزاءه ، واحذروا أيها المشركون فهؤلاء كانوا أشد منكم قوة وأكثر حجما.
[سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 30]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19)
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24)
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29)
وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)(3/861)
ج 3 ، ص : 862
المفردات :
ابْتَلاهُ : اختبره بما فعله معه. وَنَعَّمَهُ : صيره مكرما يتمتع بالنعم.
وَلا تَحَاضُّونَ : لا يحض بعضكم بعضا على إطعام المسكين. التُّراثَ :
الميراث. لَمًّا : شديدا. جَمًّا : كثيرا. دُكَّتِ الْأَرْضُ الدك : الدق والهدم ، ومنه : اندك سنام البعير : إذا انغرس في ظهره. وَلا يُوثِقُ الوثاق : الشد والربط بالسلاسل والأغلال. الْمُطْمَئِنَّةُ : المستقرة الثابتة المتيقنة بالحق فلا يخالجها فيه شك.
المعنى :
هذا هو الرب - سبحانه - مع المخلوقين ، فإن أردت أن تعرف الإنسان : فأما إذا ما ابتلاه بالخير في الدنيا أصابه الغرور ، وقال : إن اللّه أكرمنى ، ومن يكرمه اللّه في الدنيا فلا يعذبه في الآخرة مهما فعل من المعاصي ، وإذا ما ابتلاه بأن ضيق عليه رزقه يقول : ربي أهاننى ، ويظن أن من صغرت قيمته عند ربه لم يبال به ولا بعمله فتراه قد وقع في المعاصي وانخرط مع الجبارين ، فكأن الغنى والفقر امتحان لا ينجو منه إلا قليل ، لم يبتل اللّه الإنسان بالغنى لكرامته عنده ، وإلا لما رأيت كثيرا من الصالحين المقربين فقراء ليس عندهم ما يكفيهم كلا : لم تكن الدنيا دليلا على هذا وذاك ، وكان العرب يظنون أنهم على شيء يرضى اللّه ، وكانوا يتوهمون أنهم على دين أبيهم إبراهيم الخليل فرد اللّه عليهم بأنهم ليسوا على شيء بدليل أنهم لا يكرمون اليتيم بل يأخذون ماله ظلما ، ولا يحسنون إليه ، ولا يحض بعضهم بعضا على إطعام المساكين ، فكرمهم للرياء والسمعة ، لا للإنسانية. وهم يأكلون الميراث أكلا بنهم وشدة ، ويحبون المال أيا كان حبا شديدا كثيرا ، أليس هذا دليلا على أن هؤلاء الكفار المغرورين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، وأنهم ليسوا على شيء يرضى اللّه ولا يرضى أحدا من أنبيائه.(3/862)
ج 3 ، ص : 863
كلا وألف كلا!! لا ينبغي أن تكونوا كما وصفكم القرآن ، ومن كان كذلك فإنه إذا دكت الأرض دكا وقامت القيامة قياما ، وجاء ربك - واللّه أعلم بكيفية المجيء ولكن نؤمن به « 1 » - والملك ...!! قاموا وأحدقوا بالناس جميعا - وخاصة الكفار - صفوفا صفوفا ، وجئ يومئذ بجهنم وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى « 2 » يوم إذ يحصل هذا فقط يتذكر الإنسان أنه أخطأ وأهمل ، وكذب وعصى ، ولكن هل ينفعه ذلك ؟ ! لا.
وأنى له الذكرى ؟ ! يقول الإنسان الذي عصى في الدنيا : يا ليتني قدمت عملا ينفعني في تلك الحياة الأبدية.
وكأنها هي الحياة فقط وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ « 3 » .
فيومئذ لا يعذب عذاب ربك أحد ، بل هو الذي يتولى العذاب وحده بلا شريك ولا يوثق أحدا من خلقه غيره ، وهذا لأن الأمر يومئذ أمره.
هذا شأن الإنسان المادي ، وهذا جزاؤه ونهايته في الآخرة.
أما الإنسان إذا صفت روحه وسمت عن الماديات ، كانت نهايته يوم القيامة سعيدة ، ويقال له : يا أيتها النفس المطمئنة الواثقة في اللّه وفي لقائه ، والمستيقنة بنور الحق الذي لا يخالجه شك ، أيتها النفس ارجعي إلى ربك ، وأحظي بشرف لقائه ورضوانه ، ارجعي إلى ربك راضية عن عملك في الدنيا مرضية عنك لأن من كان معها قد رضى عنها ، واللّه قد رضى عنها ، وذلك هو الفوز العظيم ، فادخلي أيتها النفس في عداد عبادي الصالحين المقربين لأنك عملت عملهم ، وادخلى جنتي.
والرجوع إلى اللّه تمثيل لكرامة بعض خلقه عنده وإلا فاللّه معنا حيث كنا.
___________
(1) وأول الخلف فقالوا : هذا تمثيل لعظمة المولى ، أو المراد : جاء أمر ربك.
(2) سورة النازعات آية 36.
(3) سورة العنكبوت آية 64.(3/863)
ج 3 ، ص : 864
سورة البلد
مكية على الصحيح ، وآياتها عشرون آية ، وهي تتضمن القسم على أن الإنسان في كبد. وأن المغرور يظن أن لن يقدر عليه أحد ، ثم بيان بعض نعم اللّه على الإنسان ، ثم دعوته لاقتحام العقبة ، مع بيان أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة.
[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 20]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9)
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19)
عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
المفردات :
كَبَدٍ : تعب ومشقة. لُبَداً : كثيرا. وَهَدَيْناهُ : دللناه وبينا له.
النَّجْدَيْنِ النجد : الطريق المرتفع ، والمراد هنا سبيلا الخير والشر. اقْتَحَمَ اقتحم الدار : دخلها بشدة وصعوبة. الْعَقَبَةَ : الطريق الصعب ، والمراد المشاق(3/864)
ج 3 ، ص : 865
التي تصادفك. فَكُّ رَقَبَةٍ : عتقها. ذِي مَسْغَبَةٍ المسغبة : المجاعة ، والسغب : الجوع. مَقْرَبَةٍ : قرابة. مَتْرَبَةٍ يقال : ترب فلان : إذا افتقر ، أى : أصبحت يده ملتصقة بالتراب. بِالْمَرْحَمَةِ : الرحمة بالناس. مُؤْصَدَةٌ وقرئت موصدة ، والمراد : محيطة بهم ومغلقة عليهم.
المعنى :
ابتدأ اللّه هذه السورة الكريمة بعبارة تدل على القسم وتأكيده - كما بيناه في سورة القيامة وفي سورة التكوير وفي سورة الانشقاق - : أقسم بهذا البلد ، والمراد مكة المكرمة التي جعلت حرما آمنا جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ « 1 » فيها الكعبة التي هي قبلة المسلمين ، وفيها مقام إبراهيم ، وفيها ظهور النور المحمدي الذي كان قياما للناس ، وأقسم بكل والد وما ولد من إنسان وحيوان ونبات ، أقسم بهذا كله على أن الإنسان خلق في تعب ومشقة ، ولعلك تسأل ما السر في قوله : وأنت حل بهذا البلد ؟ أى مكة ، وقد جعل معترضا بين ما أقسم به من هذا البلد والوالد والولد وبين المقسم عليه ، فأقول لك : هذا تفخيم لمكة ورفع لشأنها ، أى : أقسم بهذا البلد ، والحال أن أهلها قد استحلوا إيذاءك وإيلامك - وهذا معنى : وأنت حل ، أى :
مستحل لهم - فهم لم يرعوا حرمة بلدهم في معاملتك ، وفي هذا إيقاظ لضميرهم ، وتعنيف لهم على فعلهم مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولعلك تسأل : وما العلاقة بين القسم والمقسم عليه ؟ والجواب : أنه جاء تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فهو في مكة وقد ناله ما ناله من تعب ومشقة ، وهذا المتعب مما يخفف عنه أن يعلم أن أفراد الإنسان كلهم في تعب ومشقة ، ولا تنس أن ذكر الوالد والولد مما يبشر أن مكة ستلد ما به تفخر الإنسانية كلها وتعتز :
وإن يكن هذا مع تعب ومشقة ، وكلنا يعرف ما يلاقي الولد والوالد في ذلك حتى البذرة في الأرض وعند الحصاد.
أيحسب « 2 » الإنسان المغرور بقوته المتباهى بشدته رغم ما هو فيه من تعب ونصب أن لن يقدر عليه أحد ؟ ! وهذا نوع منه ، وذاك نوع آخر يقول : أهلكت مالا كثيرا ،
___________
(1) سورة المائدة آية 67.
(2) هذا الاستفهام للإنكار.(3/865)
ج 3 ، ص : 866
وإن كان في الشر ، وهذا قول المفتونين بمالهم وغناهم ، أيظن أولئك أن اللّه لم يرهم ، إن اللّه يعلم ما أنفق ، ولا يقبل منه إلا الطيب.
يقول الشيخ محمد عبده - رحمه اللّه - في تفسيره : بعد أن أخبر اللّه - جل شأنه - بأن الإنسان قد خلق في كبد لام الجاهل المغرور على غروره حتى كأنه يظن أن لن يقدر عليه أحد. مع أن ما هو فيه من المكابدة كاف لإيقاظه من غفوته واعترافه بعجزه ، وبعد أن وبخ المرائين الذين ينفقون أموالهم طلبا للشهرة وحبا في الأحدوثة مع حسن النية ، أراد أن يبين لهؤلاء وأولئك أنه مصدر لأفضل ما يتمتعون به من البصر والنطق والعقل المميز بين الخير والشر.
أما كان الأجدر بالإنسان : وقد خلق اللّه له العين ليبصر بها ، واللسان والشفة ليتكلم وينطق بهما ، وهداه إلى طريق الخير والشر بما وهبه من عقل مميز ، وبما أرسل له من رسل وبما أنزل عليه من كتب ، وترك له بعد ذلك حرية الاختيار ، أما كان يجدر به أن يختار سبيل الخير ، وينأى بنفسه عن سبيل الشر ، ويصعد بها عن الدنايا ويقتحم العقبة التي في طريقه - وللإنسان عقبات من نفسه وشيطانه وهما أدنياه - وذلك بأن يكون جودا للّه فيفك الرقبة ويعتقها أو يعمل على ذلك بكل قواه ، أو يطعم في المجاعة والشدة يتيما ، والقريب أولى ، أو مسكينا يده ملصقة بالتراب لا يجد شيئا ، ثم كان بعد ذلك من المؤمنين الكاملين الذين يتواصون بالصبر على تحمل المكاره في سبيل اللّه ، ويتواصون أى : يوصى بعضهم بعضا بالرحمة على خلق اللّه ، لا تنس أن السورة تدور حول تسلية النبي ليتحمل أذى قومه.
أولئك - الموصوفون بما ذكر - هم أصحاب الميمنة السابقون السعداء في الآخرة ، أما من كفر بآيات ربه الكونية والقرآنية فأولئك هم أصحاب المشأمة : أصحاب الشمال الأشقياء الخالدون في جهنم كما يشير إلى ذلك قوله : عليهم نار مطبقة من كل جانب ، فلا خلاص لهم منها.(3/866)
ج 3 ، ص : 867
سورة الشمس
مكية. وآياتها خمس عشرة آية ، وهي تتضمن الحث على تزكية النفس ، والقسم على أن العذاب واقع على المكذبين لا محالة كما وقع على ثمود قديما.
[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9)
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14)
وَلا يَخافُ عُقْباها (15)
المفردات :
وَضُحاها الضحى : الضوء ، أو : هو النهار كله ، والأصل فيه أنه انبساط الشمس وامتداد النهار. تَلاها : تبعها واستمد نوره منها. جَلَّاها : كشفها وأظهرها وأتم وضوحها. يَغْشاها : يزيل ضوءها. طَحاها أى : بسطها ووسعها. وَما سَوَّاها : عدلها وكملها بخلق القوى والغرائز التي بها الحياة.
فَأَلْهَمَها الإلهام : هو الإفهام أو التمكين والإقدار. فُجُورَها الفجور : هو(3/867)
ج 3 ، ص : 868
الإتيان بما يسبب الهلاك والخسران. وَتَقْواها : التقوى دَسَّاها : النقص والإخفاء ، ومن سلك طريق الشر والمعصية فقد أنقص نفسه عن مرتبة الكمال.
بِطَغْواها : بسبب طغيانها. انْبَعَثَ : أسرع. وَسُقْياها : شربها الخاص بها. فَدَمْدَمَ : أطبق عليهم. فَسَوَّاها أى : سوى عليهم الأرض ، أو لم يفرق بين واحد منهم وواحد.
المعنى :
أقسم الحق - تبارك وتعالى - بالشمس على أنها كوكب سيار مع ضخامتها وكبر حجمها وقوة ضوئها ، وبضحاها ، أى : ضوئها وحرها ، وهما مصدر الحياة ، ومبعث الحركة ، ومنبع نور الكون في النهار والليل ، وأقسم بالقمر إذا تلاها في ارتباط مصالح الناس به ، وتبيين المواقيت ، وإضاءة الكون ، ومن هنا كان حساب السنين إما بالسنة الشمسية أو بالسنة القمرية ، والقمر يتلو الشمس ولأنه يستمد نوره منها ، والغريب أن هذا الرأى لبعض العلماء القدامى ، وجاء العلم مؤيدا له ، وأقسم بالنهار إذا جلاها ، أى : أظهر الشمس وأتم نورها ، والنهار من الشمس ، وكلما كان أجلى كانت الشمس كذلك لأن قوة الأثر تدل على قوة المؤثر فصح بهذا قوله - جل شأنه - :
وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها ترى أن اللّه أقسم بالضوء الذي يعم الكون عن طريق مباشر كما في الشمس أو عن طريق غير مباشر كما في القمر ، وبالنهار الذي هو زمانه ، ثم بعد ذلك أقسم بالليل إذا يغشى الشمس ويستر ضوءها عنا فالنهار يظهرها ، والليل يسترها ، فسبحان من خلق هذا ، وإذا كانت الشمس يجليها النهار ويسترها الليل هل يعقل أن تعبد وتكون إلها ؟ ! وأقسم بالسماء وعوالمها وقد بناها اللّه وأحكم رباطها ، وقوى جاذبيتها فلا ترى فيها خللا ولا عوجا لأنها صنعة الحكيم القادر. وأقسم بالأرض وما طحاها ، أى : بسطها في نظر العين ووسعها ليعيش عليها الخلق ، وأقسم بالنفس « 1 » والذي سواها وأحكم
___________
(1) اختلف العلماء في (ما) هذه ، فقيل : مصدرية ، والأحسن أنها موصولة ، والمراد الوصف لا الذات ، ولذا حسن التعبير (بما) دون (من).(3/868)
ج 3 ، ص : 869
أمرها ومنحها القوى والغرائز التي تستكمل بها الحياة ، فترتب على ذلك أن خلق لها عقلا يميز بين الخير والشر وذلك من تمام التسوية ، وأقدرها على فعل المعصية التي تهلكها والخير الذي ينجيها ويقيها من السوء ، قد أفلح من زكاها ونماها وأعلاها. وقد خاب وخسر من دساها حتى جعلها في عداد نفوس الحيوانات. فإن الإنسان يرتفع عن الحيوان بتحكم العقل والسمو بالنفس عن مزالق الشهوات ، أما إذا انحط إلى المعاصي وحكم الشهوة في نفسه كان هو والحيوان سواء. ويصدق عليه : أنه دسى نفسه وأنقص مرتبتها وجعلها في عداد نفوس الحيوانات التي تحكمها شهوتها لا عقلها.
أقسم اللّه بذلك كله والمقسم عليه محذوف لتذهب فيه النفس إلى كل مذهب ، وتقديره : لتبعثن ، أو ليحاسبن المسيء على إساءته ، والمحسن على إحسانه ، وربما كان هذا هو الظاهر والدليل عليه هو ذكر قصة ثمود هنا ، وقيل : إن الجواب (قد أفلح من زكاها) واللام حذفت منه ، وقصة ثمود مع نبيهم صالح ذكرت قبل هذا.
كذبت ثمود بسبب طغيانهم حين انبعث أشقاهم الذي عقر الناقة ، فقال لهم رسول اللّه صالح : احذروا ناقة اللّه وسقياها ، وأطبق عليهم العذاب ، ولم يترك منهم أحدا لأنهم رضوا عن فعل صاحبهم ، واللّه لا يخاف عاقبة ما فعل بهم ، لأنه عادل في حكمه وقوى قادر في عمله.(3/869)
ج 3 ، ص : 870
سورة الليل
مكية على الصحيح. وآياتها إحدى وعشرون آية ، وفيها أقسم اللّه على أن الناس مختلفون في العمل والثواب ، ثم أنذرهم نارا حامية أعدت لمن عصى وحرمت على من أطاع ، وهذه السورة قيل : إنها نزلت في أبى بكر - رضى اللّه عنه - ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 21]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14)
لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19)
إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)
المفردات :
يَغْشى : يستر الكل بظلامه ويواريه. تَجَلَّى : ظهر وانكشف لَشَتَّى : جمع شتيت ، وهو المتباعد بعضه عن بعض ، والمراد : مختلف نوعا(3/870)
ج 3 ، ص : 871
وجزاء. بِالْحُسْنى : بالخصلة الحسنى. لِلْيُسْرى : للخصلة السهلة التي تنتج خيرا. لِلْعُسْرى : للخصلة المعقدة والفعلة المتعبة التي لا تنتج إلا شرا.
تَرَدَّى : هوى وسقط والمراد نزل إلى قبره. تَلَظَّى أصلها : تتلظى ، أى :
تتوهج وتتقد. لا يَصْلاها : لا يحترق بها. إِلَّا الْأَشْقَى : كثير الشقاء.
سَيُجَنَّبُهَا : يبعد عنها. الْأَتْقَى : المبالغ في التقوى. تُجْزى : تستحق الجزاء.
المعنى :
أقسم الحق - تبارك وتعالى - بالليل إذا يغشى هذا الكون بجحافله ، لا يفلت منه شيء ، والليل الذي يستر الكل بظلامه ، ويواريه تحت جنحه فيسكن الكون ، ويموت الحي ميتة صغرى ، وأقسم بالنهار إذا تجلى وانكشف بطلوع الشمس فانكشف بظهوره كل شيء ، ودبت الحياة في الحي ، واستيقظ الكل يسعى وراء العيش ، بعد طول الهجود والنوم. فسبحانك يا رب جعلت الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ، وماذا كان الحال لو أن الليل كان دائما أو النهار ؟ ! وأقسم بالذي خلق الزوجين الذكر والأنثى من المنى مع أن الماء واحد ، والمكان واحد ، ولكنه - جل جلاله - يهب لمن يشاء إناثا ، ويهب لمن يشاء الذكور ، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما ، سبحان اللّه خلق الليل والنهار ، والضوء والظلام ، والذكر والأنثى ، على أن المادة واحدة في الجميع ، ثم أقسم بهذا كله على أن سعيكم أيها الناس لمختلف نوعا وجنسا وغاية ونهاية ، قل كل يعمل على شاكلته أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
« 1 » ؟ لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ « 2 » . أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ « 3 » ؟ .
___________
(1) - سورة الجاثية آية 21. [.....]
(2) سورة الحشر آية 20.
(3) سورة السجدة آية 18.(3/871)
ج 3 ، ص : 872
فأما من أعطى بعض ما عنده وبذل ما في وسعه ، واتقى اللّه ومحارمه ، ونهى النفس عن الهوى ، وصدق بالحسنى والفضيلة تصديقا قلبيا مقرونا بالعمل الخالص فاللّه يجزيه ويهديه وييسر له الخصلة اليسرى والفعلة الطيبة لأن قلبه قد ملئ بالنور ، واعتاد الخير ، وأما من بخل بما عنده واستغنى به عن الناس ، فلم يعمل لهم خيرا ولم ينظر لهم ، لأنه مغرور بما عنده ، وكذب بالفضيلة فاللّه يجزيه ولا يهديه ، وييسره دائما للفعلة العسرى التي فيها حتفه وهلاكه ، فكان الأول من أهل الجنة ، وكان الثاني من أهل النار.
من صدق بالحسنى وعمل لها فأعطى واتقى. يسره اللّه لأيسر الخطتين وأسهلهما في أصل الخلقة وهي خطة تكميل النفس بالكمال وفعل الصالحات لتسعد بمزاياها في الدنيا والآخرة ، وهذا - كما يقولون - أصل العادة التعود ، فإذا تعودت أولا فعل الخير أصبح عادة لك بتيسير اللّه وهذا معنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى والعكس صحيح فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى لأن من مرنت نفسه على فعل الشر ، واستشرى معها الفساد فإن اللّه - على حسب سنته - يسهل له تلك الخطة العسرى وهي الخطة التي يحط فيها الإنسان من نفسه ويرتمى في أحضان الرذيلة ، أو إذا تردى في قبره وسقط ، فماذا يغنى عنه ماله ؟ ! ولكن كيف يحاسب اللّه العبد على ذنب أطلق له الإرادة فيه ومكنه من عمله! والجواب تكفل به القرآن فقال ما معناه : إن علينا وقد خلقنا الإنسان للعبادة ، أى :
ليحرز الثواب في الدنيا والآخرة أن نهديه وندله على طريق الخير والشر ، ونطلق اختياره ، ونمكنه من العمل ، وهذا تقويم له وتشريف ، فمن يعمل بعد ذلك خيرا يثب عليه أو شرا يجاز عليه ، وهذا كقوله تعالى : وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ وإن للّه الآخرة والأولى ، واللّه أنذركم أيها الناس نارا تلتهب وتحترق بشدة فاحذروها. فإنه لا يصلاها ولا يحترق بها إلا الشقي المبالغ في الكفر أو المعصية ولم يتب ، وهو الذي كذب باللّه وكفر. وتولى عن الحق وأعرض عنه ، ولم يرجع إليه في لحظة من اللحظات ، وسيبعد عنها التقى المبالغ في التقوى والهداية الذي يؤتى ماله يتزكى به لوجه اللّه ، وليس لأحد عنده من نعمة أو يد يجازيه عليها لكن كل عمله وصدقته ابتغاء وجه اللّه ورضوانه وهذا الصنف سيعطيه اللّه في الدنيا والآخرة حتى يرضى. ألم يبين اللّه لكم أيها الناس طريق الخير وطريق الشر ونهاية كل ، فمن يعمل بعد ذلك مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذررة شرّا يره ، على أن العقل وحده وطبيعة الإنسان قد تدرك أصل الخير والشر.(3/872)
ج 3 ، ص : 873
سورة الضحى
مكية. وعدد آياتها إحدى عشرة آية ، وفيها يقسم اللّه ، أنه ما ودع محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم وما قلاه ، وأن آخرته خير من أولاه ، وأنه يعطيه حتى يرضيه ، ثم يطلب منه الإقرار ببعض النعم عليه ، ثم إرشاده إلى بعض الفضائل.
[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
المفردات :
وَالضُّحى : ضوء الشمس في شباب النهار. سَجى : سكن.
وَدَّعَكَ : تركك. ما قَلى يقال : قلاه يقلاه ، ويقليه : إذا أبغضه وكرهه.
فَآوى : أسكن ورعى. ضَالًّا : حائرا ، فليس من الضلال بل من الحيرة.
فَهَدى : فوفقك إلى أحسن طريق. عائِلًا : فقيرا. فَلا تَقْهَرْ :
فلا تذله. فَلا تَنْهَرْ : لا تزجر.(3/873)
ج 3 ، ص : 874
المعنى :
أقسم الحق - تبارك وتعالى - بالضحى ساعة ارتفاع الشمس أو النهار ، وساعة امتلاء الكون بالحياة والضوء والحرارة ، وأقسم بالليل إذا سكن « 1 » وهدأ كل ما فيه بعد حركة واضطراب. أقسم بهذا وذاك على أنه ما تركك يا محمد وما كرهك ، وكيف ذلك وأنت الحبيب المختار والرسول الأمين ، وخاتم الأنبياء والمرسلين.
ولقد اتصل بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم الأمين جبريل حينما بعث ، وهذا الاتصال لأنه بين ملك وبشر كان شديدا على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ لهذا فتر الوحى وانقطع لتطمئن نفس الرسول ويتجدد عزمه ، وتقوى نفسه على ملاقاة جبريل ، فيبحث عنه ويطلبه ، فكانت فترة الوحى تأديبا وتطمينا وإصلاحا.
ولقد تاقت نفسه الشريفة إلى ملاقاة ربه عن طريق جبريل واشتاق إلى ذلك. ومع الشوق قلق وخوف. فأراد الحق أن يطمئن الرسول على ما يطلب بذكر ما صنعه معه.
وتبشيره بمستقبل زاهر ، وأن هذه الفترة لم تكن عن ترك ولا بغض وأقسم له على ذلك.
ولعلك تسأل عن العلاقة بين القسم بالضحى والليل وبين المقسم عليه ؟ والجواب أن الوحى وانقطاعه للاستجمام والتقوية والاطمئنان كان أشبه بالضحى وما فيه من حركة وحياة ثم ما يعقبه من ليل يسكن فيه الكون ليستجم ويستعد لكفاح وحياة أخرى سعيدة.
والضحى والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما تركك عن غضب عليك. واعلم أن الآخرة - أى : الأيام المستقبلة الآتية - خير بلا شك من أيامك هذه ، فثق أن دعوتك وحياتك تنتقل من طور إلى طور أحسن ، وإن يكن في ذلك نوع من التعب والمشقة ، ولسوف يعطيك ربك من توارد الوحى الذي تطلبه لإرشاد قومك ، وهداية العالم ما به ترضى وتطمئن ، ولا عجب في ذلك ولا غرابة ، ألم يجدك « 2 » يتيما فآواك
___________
(1) عبر هنا بالماضي ، وفي سورة الليل بالمضارع لأن الماضي يدل على اللزوم والمضارع بدل على التجدد وسكون الليل لازم ، وغشيانه الوجود بالظلمة متجدد إذ قد يتخلله نور القمر.
(2) الاستفهام هنا للتقرير.(3/874)
ج 3 ، ص : 875
وأيدك ورعاك ، وقد ولد النبي يتيما إذ مات أبوه وهو في بطن أمه ، فلما ولد عطف اللّه قلب جده عليه فرعاه وحنا عليه حنوا كثيرا ، ثم لما مات جده عبد المطلب كفله عمه أبو طالب بأمر من جده ، وكان شديد الحرص عليه كثير العطف والحماية له.
وقد كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ذا روح قوية نقية طاهرة فكان يرى أن قومه على ضلال ، وأن الأديان المحيطة بهم كاليهودية ، فأصابته حيرة من أمره ، وفر من هذا المجتمع ، وحبب إليه الخلاء والمكث في الغار حتى أنقذه اللّه من حيرته ، وهداه إلى أسمى شريعة وأعظم دين :
وهذه الحيرة التي كان فيها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم هي التي عبر عنها القرآن بالضلال ، وإلا فالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم نشأ طاهرا مطهرا لم يدنس نفسه بالسجود إلى صنم ، ولم يقترف فاحشة أبدا ، بل ذهب مرة ليستمع إلى حفل فيه غناء فنام حتى أيقظته الشمس ، وهو الملقب بالأمين ، وقد كان فقيرا - لم يرث عن أبيه إلا ناقة وجارية - فأغناه اللّه بالقناعة ، وجعله عزوفا عن الدنيا ، وأدر عليه بعض المال من تجارته في مال خديجة ، إذا كان الأمر كذلك وقد غمرك اللّه بفضله يا محمد ، فأما اليتيم فلا تقهره أبدا ، وأنت سيد الأيتام وزعيمهم ، وأما السائل فلا تنهره ، وقد كنت ضالا فهداك اللّه ، وأما بنعمة ربك فحدث بالإنفاق ، وقد كنت فقيرا فأغناك اللّه.(3/875)
ج 3 ، ص : 876
سورة الانشراح
مكية. وآياتها ثمان آيات ، وهي كسابقتها في تعداد النعم التي من اللّه بها على نبيه ، مع تطمينه ، وحثه على العمل.
[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
المفردات :
نَشْرَحْ الشرح : التوسعة والبسط ، وشرح الصدر : كناية عن السرور وانبساط النفس. وِزْرَكَ الوزر : الحمل الثقيل. أَنْقَضَ ظَهْرَكَ : أثقله.
الْعُسْرِ : الصعوبة والشدة. يُسْراً : سهولة ولينا. فَانْصَبْ : فاتعب في تحصيل غيره. فَارْغَبْ : فاتجه إلى اللّه وحده.
هذه السورة كأنها امتداد للسورة السابقة ، ولذا تراها مرتبطة معها أشد ارتباط حتى قال بعضهم : إنهما سورة واحدة.
المعنى :
قر يا محمد واعترف - بهذه الحقيقة التي لا ينكرها أحد - بأنا شرحنا لك صدرك ، وجعلناه يتسع لكل ما يصادفه ، شرحنا صدرك للقيام بالدعوة خير قيام وتحمل أعبائها(3/876)
ج 3 ، ص : 877
بنفس راضية وقلب مطمئن ، وقد كان الرسول يضيق صدره بما يقولون. ويتألم مما يفعلون إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ « 1 » .
وهذه الدعوة العامة الشاملة التي جاء بها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يدعو بها العرب الجاهلين والناس أجمعين ، هذه الدعوة عبء ليس بالخفيف بل عبء من أشد ما يكون ، وحمل تنوء به كواهل الفطاحل ، وينقض لأجله ظهور الأكابر ، ولكن اللّه بما تعهد به لنبيه المصطفى من الآيات والإرشادات ، والتوجيهات قد وضع عنه وزره الذي أثقل ظهره لو لا لطف اللّه.
ولقد رفع له ذكره ، وهل هناك رفعة أعلى من اقتران اسمه باسم اللّه في الأذان والتكبير ، والدعاء والصلاة ، ألم يجعل اللّه طاعة رسوله من طاعته ، وحبه من محبته ؟
وأى مكانة أرفع من أن يكون له في كل ركن في الأرض أتباع وأنصار يدينون للنبي بالطاعة والولاء ؟
ألم تر إلى الصحابة وهم يتسابقون إلى مجلسه والتمتع بحلو حديثه ، والاستشفاء بمخالفاته ؟ تلك بعض نعمه على رسوله ، واللّه أعلم بغيرها.
نعم ما قد شرح اللّه صدره ، ووضع عنه وزره ، ورفع له ذكره ليس في الأرض فقط ، بل عند سدرة المنتهى ، عند جنة المأوى ، وكان هذا كله بعد أن لحق بالنبي ما لحق من أذى قومه وعنتهم ، حتى ضاق صدره ، ولا عجب في ذلك ، فإن مع العسر يسرا : وانظر إلى قوله : مع العسر ، ثم إلى قوله : يسرا ، أى : بالتنكير ، وكما
يقول الرسول : لن يغلب عسر يسرين « 2 »
أما العسر الذي كان عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والصحابة فهو الفقر وقلة الصديق ، وقوة العدو وشدة مقاومته ، وقد جاءهم اليسر فكثر المال والصديق ، وضعف قوة العدو ، وأما قوة المؤمنين الذين اشترى اللّه منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل اللّه ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم
___________
(1) سورة الحجر الآيات 95 - 98.
(2) هذا المعنى مأخوذ من أن العسر ذكر معرفا فهو يدل على عسر واحد ، وذكر اليسر منكرا فتراه يدل على أكثر من واحد.(3/877)
ج 3 ، ص : 878
خصاص ة ، يحبون إخوانهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، إن قتلوا فهم الشهداء ، وإن عاشوا فهم السعداء ، فقد كانت - ولا تزال - مضرب الأمثال.
وهل كل عسر يعقبه يسر كما هو ظاهر في القرآن ؟ الظاهر - واللّه أعلم - أنه كذلك متى سار صاحب العسر على سنن اللّه الكونية ، فتذرع بالصبر ، واستعد للمقاومة وصابر نفسه وصبر على المكروه ، وعمل على التخلص منه ، عند ذلك يرزق اليسر ، بأى شكل وعلى أى وجه ، أما إذا حقت كلمة اللّه فإن صاحب العسر يتخبط في سيره ، فينطبق عليه قوله تعالى : كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ « 1 » والأمر كله أولا وأخيرا للّه ، والمشاهد أن مع العسر يسرا ، ولكن اليسر يختلف تبعا لحكم يعلمها اللّه ، وانظر إلى التربية القرآنية ، وإلى النصيحة الإلهية للحبيب المصطفى ، وكذلك كل فرد يريد أن يهتدى بنور القرآن. فإذا فرغت من أى عمل خير فانصب في غيره واعمل على تحقيقه بتوفيق اللّه ، وإلى اللّه وحده فارغب ، وعليه وحده فتوكل ، فإنه نعم المولى ، ونعم النصير.
___________
(1) سورة القصص آية 88.(3/878)
ج 3 ، ص : 879
سورة التين
مكية. وآياتها ثمان آيات ، وفيها يقسم الحق - تبارك وتعالى - بأنه خلق الإنسان فعدله ، ثم رده حتى كان أسفل سافلين ، إلا المؤمنين فلهم الثواب الكبير ، واللّه أحكم الحاكمين.
[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)
المفردات :
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ : هما الشجرتان المعروفتان ذات الثمر المعروف ، أو هما مكانان في الشام. طُورِ سِينِينَ : الجبل المسمى بهذا الاسم في طور سينا ، والذي ناجى موسى عليه ربه. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ أى : مكة. تَقْوِيمٍ يقال : قومت الشيء تقويما : إذا جعلته على أعدل وجه وأكمل صورة. أَسْفَلَ سافِلِينَ المراد :
جعلناه من أهل النار الذين هم أسفل من كل سافل. غَيْرُ مَمْنُونٍ : غير مقطوع.
بِالدِّينِ : بيوم الجزاء.
المعنى :
أقسم اللّه بالتين والزيتون ، وبطور سينين التي ناجى فيها موسى ربه ، وبهذا البلد الأمين ، وهو مكة التي يقاسى فيها النبي الأمرّين من قومه ، مع أنها البلد الأمين الذي(3/879)
ج 3 ، ص : 880
يأمن صاحبه ومن دخل فيه من كل صوب ، بل يأمن فيها الطير والوحش والقاتل المطلوب ، ولكن ما المراد بالتين والزيتون ؟ هل هما الشجرتان المعروفتان ؟ وأقسم اللّه بهما لمزيد فضلهما ، ولمكانتهما الطيبة المعروفة ، غير أن النسق العام للقرآن البليغ يأبى ذلك ، ولهذا قيل : المراد بهما مكانهما ، وهما يكثران في الشام التي كان فيها السيد المسيح عليه السلام ، وعلى ذلك يكون القسم بهما للإشارة إلى المسيح وبطور سيناء للنبي موسى كليم اللّه ، وبهذا البلد الأمين لخاتم الأنبياء والمرسلين - عليه الصلاة والسلام - .
وبعض العلماء يقول : التين والزيتون موضعان في الشام ، وهذا يحتاج إلى تصديق الواقع له.
قد أقسم اللّه بهذه الأمكنة المقدسة لشرف من حل بها من الأنبياء والرسل لقد خلق الإنسان في أحسن تقويم ، أى : على أحسن حال وأكمل صورة ، ألا تراه وقد خلقه مستوى القامة مرفوع الرأس ، يأكل بيده ، قد وهبه العقل والتفكير ، والقدرة على تسخير غيره من الحيوان والنبات ، بل امتد عقله ، واتسع تفكيره إلى أن سخر الطبيعة وذللها لأغراضه ومنافعه ، والشواهد على ذلك كثيرة الآن.
ولعل السر في هذا القسم لفت أنظار الناس إلى أنفسهم ، وما ركب فيها من قوى وإدراك وعقول وتمييز ليصلوا بهذا إلى توحيد اللّه القوى القادر ، هذا الإنسان الذي خلقه ربه فأكرمه ونعمه ، وجعله يستولى على جميع العوالم ، قد كان في أول أمره ساذجا قليل الأطماع ، لم تتنبه فيه غرائز الشر ، ثم تنبهت فيه عوامل الشر ، وغرائز السوء حتى ظهر الحقد والحسد والتنازع والإفساد ، وكان القتال والنزاع والحروب. وأصبح الإنسان كالحيوان المفترس.
وضريت نفسه حتى صار أعظم اغتيالا لأخيه الإنسان من السباع ، وهذا معنى قوله : ثم رددناه أسفل سافلين ، ففطرة اللّه التي فطر الناس عليها تدعو إلى التراحم والتعاون وإيثار العدل والخلق الكامل ، ولكن الإنسان قد ينزع إلى الشر بعوامل البيئة التي تحرك فيه مصادر السوء. وحينئذ ينسى فطرته ، ويعود إلى حيوانيته. ويعمل عمل أهل النار ، فيكون أسفل من كل سافل وأشد من كل حيوان ضار.(3/880)
ج 3 ، ص : 881
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطير
هذا هو الإنسان وطبعه وما جبل عليه ، فطرة سليمة حتى إذا حركت فيها عوامل الشر انقلب أشد من الحيوان ، إلا الذين امتلأت قلوبهم بالإيمان باللّه واليوم الآخر فإنهم يكبحون جماح نفوسهم ، ويردونها إلى الجادة والخير ، فيعملون العمل الصالح ابتغاء مرضاة اللّه ، وهؤلاء لهم أجر كريم غير مقطوع فلهم الحسنى في الدنيا ، ثم لهم الأجر الكامل في الآخرة.
عجبا لك أيها الإنسان! ما الذي يجعلك تكذب بيوم الدين بعد أن عرفت ذلك ؟ ! أليس اللّه بأحكم الحاكمين « 1 » وأعدل العادلين. حيث أثاب الطائعين بالثواب الدائم وجازى المكذبين بالعقاب الصارم.
___________
(1) هذا استفهام للتقرير بما بعد النفي ، أى : قروا بأنه أحكم الحاكمين.(3/881)
ج 3 ، ص : 882
سورة العلق
وتسمى سورة « اقرأ » أو « القلم » . وهي مكية ، وآياتها تسع عشرة آية ، وفيها أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالقراءة مع بيان مظاهر قدرة اللّه مع الإنسان ، وبيان بعض صفاته ثم ذكر مثل يدل على عناد بعض أفراده وبيان جزاء أمثاله.
[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9)
عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14)
كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
المفردات :
عَلَقٍ : جمع علقة ، وهي قطعة دم جامدة الْأَكْرَمُ أى : هو أكرم من كل كريم. لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ السفع : الجذب بشدة ، والناصية : شعر مقدم الرأس ، والمراد إذلاله وإهانته. نادِيَهُ المراد : أهل النادي. الزَّبانِيَةَ : الملائكة الموكلين بالإشراف على الكفار في النار فهم يدفعونهم إليها دفعا. وَاقْتَرِبْ : تقرب إلى ربك بالعبادة.(3/882)
ج 3 ، ص : 883
المعنى :
روى البخاري في صحيحه عن عائشة - رضى اللّه عنها - ما معناه قالت : أول ما بدئ به رسول اللّه من الوحى الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، فكان يأتى حراء فيتحنث فيه - فيتعبد فيه - الليالى ذوات العدد ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى فاجأه الوحى ، وهو في غار حراء فجأه الملك فيه. فقال : اقرأ. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذنى فغطني - ضمني إليه - حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فغطني الثانية حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ فغطني الثالثة حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى ، فقال : اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ... إلخ الحديث.
وعلى ذلك فصدر هذه السورة أول ما نزل من القرآن ، رحمة وهدى للناس ، وأول خطاب وجه إلى رسول اللّه من قبل الحق - تبارك وتعالى - كان أمرا بالقراءة وحديثا عن القلم والعلم ، أفلا يتدبر المسلمون هذا ويعملون على نشر العلم ويحملون لواءه ؟ ! فهذا نبيهم الأمى أمر بالقراءة وعمل على نشرها.
أما بقية السورة فالظاهر أنها نزلت بعد ذلك ، وأول سورة نزلت كاملة أم الكتاب - الفاتحة - وخلاصة معنى الآيات : كن قارئا - يا محمد - بعد أن لم تكن كذلك ، واتل ما أوحى إليك ولا تظن أن ذلك بعيد لأنك أمى لا تقرأ ولا تكتب ، ولا تتوهمن أن ذلك محال ، فاللّه الذي أبدع هذا الكون وخلق فسوى وقدر فهدى : وخلق الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات ، والمسيطر عليها ، والمتميز عنها بالعقل والتكليف وبعد النظر ، خلقه من قطعة دم جامدة لا حس فيها ولا حركة ولا شعور ، ثم بعد ذلك صار إنسانا كاملا في أحسن تقويم.
هو اللّه الذي يجعلك قادرا على القراءة ويهبك العلم بما لم تكن تعلم أنت ولا قومك منه شيئا ، وهو القادر على أن ينزل عليك القرآن لتقرأه على الناس على مكث وما كنت تدرى قبله ما الكتاب ولا الإيمان!!(3/883)
ج 3 ، ص : 884
اقرأ باسم ربك ، أى : بقدرته - فالاسم كما مر علم على الذات وبه تعرف ، واللّه يعرف بصفاته - الذي خلق كل مخلوق فسواه وعدله في أى صورة شاءها له - وقد خلق الإنسان من علق ، اقرأ يا محمد ، والحال أن ربك الأكرم من كل كريم. لأنه واهب الكرم والجود ، وهو القادر على كل موجود ، ولقد كرر الأمر بالقراءة لأنها تحصل للإنسان العادي بالتكرار. وتكون للمصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم بتكرير الأمر ، وإذا كان اللّه أكرم من كل كريم ، أفيصعب عليه أن يهبك نعمة القراءة وحفظ القرآن وأنت لم تأخذ بأسبابها العادية ، اقرأ إن شئت قوله تعالى : إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[سورة القيامة آية 67] سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [سورة الأعلى آية 6].
اقرأ وربك الأكرم الذي علم الناس كيف يتفاهمون بالقلم مع بعد المسافة ، وطول الزمن ، وهذا بيان لمظهر من مظاهر القدرة والعلم عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ نعم لقد أودع اللّه في الإنسان من الغرائز والتفكير ما جعله يبحث ويستقصى ، ويجرب حتى وصل إلى معرفة أسرار الكون ، وطبائع الأشياء فاستخدم كل هذا له وسخره لإرادته خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة 29] وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة 31].
ترى أن اللّه أمر نبيه بالقراءة عامة وخاصة القرآن ثم بين له أن هذا أمر ممكن بالنسبة للّه الذي خلق الخلق ، وخلق الإنسان من علق ، وهو الكريم الذي لا يبخل وخاصة على رسوله ، وهو الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم.
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى حقا إن الإنسان ليطغى ويتكبر ويتمادى في الإثم لأنه رأى نفسه قد استغنت عن الغير بكثرة المال والأولاد ، وما كان له ذلك! إن إلى ربك وحده الرجوع يوم القيامة فسوف يحاسبه على ذلك حسابا شديدا.
لعلك تسأل عن تناسق الآيات ؟ فأقول لك : لما ذكر اللّه فيما ذكر بعض مظاهر القدرة والعلم وكمال النعم التي أنعم بها على الإنسان ، ومقتضى ذلك ألا يكفر به أحد ، ولكن الإنسان كفر وبغى فأراد اللّه أن يبين السبب فقال ما معناه : إنه حب الدنيا والغرور بها والحرص عليها حتى تشغله عن النظر في الآيات الكبرى! بعد أن أمر اللّه نبيه بأن يتلو ما أوحى إليه من الكتاب وأبان له سبب كفر الإنسان ضرب له مثلا برأس من رءوس الكفر قيل : هو أبو جهل ، وإن كانت الآية عامة.(3/884)
ج 3 ، ص : 885
أخبرنى يا محمد عن الذي ينهى عبدا خاضعا للّه يصلى له ، ما شأنه ؟ إن شأنه لعجيب « 1 » شخص يكفر ويعصى ربه ، ينهى عن الخير وخاصة الصلاة أخبرنى عن حاله لو كان من أصحاب اليمين ، وكان من السابقين المهتدين ثم يأمر بالتقوى والخير ما شأن هذا ؟ إن حاله يكون عجيبا لأنه يستحق المثوبة الكبرى في جنة المأوى.
أخبرنى إن كذب إنسان وأعرض عن الحق وتولى وأعطى نفسه كل ما تتمنى!! ألم يعلم هؤلاء بأن اللّه يرى ، قروا واعترفوا بأن اللّه يعلم الغيب والشهادة وسيجازى كلا على عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، ففروا أيها الناس إلى اللّه وتوبوا إليه واعملوا على مرضاته.
كلا : كلمة ردع وزجر لمن يعصى اللّه مطلقا ، فأقسم لئن لم ينته هؤلاء الكفار أو العصاة عن أفعالهم لنعذبنهم عذابا شديدا ، ولنذلنهم إذلالا يتناسب مع تكبرهم في الدنيا وما ذلك على اللّه بعزيز. لنجذبن تلك الناصية بشدة ، تلك الناصية التي طالما كذبت لغرورها بقوتها واعتقادها أنها تمتنع عن اللّه الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهذا كذب بلا شك ، وقد أخطأت لأنها تجاوزت حدها وأساءت إلى غيرها وخاصة الأبرار الصادقين ، سنفعل مع صاحبها كل إهانة فليدع أهل ناديه ليدفعوا عنه شيئا!! بل سندعو الزبانية ، أى : سيدعو اللّه زبانية جهنم يدفعونه دفعا لها يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [سورة الطور آية 13] وليس له شفيع ولا نصير.
كلا - ردع للكافر عن عمله - لا تطعه أيها الرسول واسجد للّه دائما وتقرب إليه بالعبادة فإنها الحصن والوقاية ، وطريق النجاح.
___________
(1) هذا إشارة إلى أن : أرأيت ؟ استفهام للإنكار والتعجب وهي تفيد معنى أخبرنى.(3/885)
ج 3 ، ص : 886
سورة القدر
وهي مكية على الصحيح ، وآياتها خمس آيات ، وفيها تكلم عن بدء نزول القرآن ، وأنه نزل ليلة القدر ، التي تنزل فيها الملائكة والروح بكل أمر من اللّه ، وهي سلام من كل سوء.
[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
المفردات :
لَيْلَةِ الْقَدْرِ : ليلة التقدير ، أو الشرف الرفيع والقدر العالي. وَالرُّوحُ :
هو جبريل.
المعنى :
إن ربك أنزل القرآن - أى : بدأ نزوله - في ليلة مباركة كثيرة الخيرات والبركات لأن فيها نزلت الآيات البينات ، وهذه الليلة من رمضان لقول اللّه : شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ »
وهي ليلة القدر التي ابتدأ اللّه فيها بتقدير دينه الحنيف.
وتحديد دعوة رسوله الكريم ، وهي ليلة القدر والشرف والعزة والكرامة لأن اللّه أعلى فيها منزلة نبيه ، وشرف الإنسانية برسالة السماء الكبرى خاتمة الرسالات وقد جاء هذا
___________
(1) - سور ة البقرة آية 185.(3/886)
ج 3 ، ص : 887
التصريح بشرفها وعلو مكانتها حيث يقول اللّه : وما أدراك ما ليلة القدر ؟ لا أحد يعرف كنهها ، ولا يحيط أحد بفضلها إلا بما سأذكره عنها ، ليلة القدر خير من ألف شهر ، ولا غرابة فالليلة التي ابتدأ اللّه فيها نزول القرآن هي ليلة مباركة فيها يفرق ويفصل كل أمر حكيم لأنه من الحكيم الخبير ، أليست هذه الليلة خيرا من ألف شهر ، بل هي خير ليلة في الوجود ، وأسمى وقت في الزمن وبالطبع العمل فيها خير من العمل في غيرها ألف مرة.
واستأنف بيان بعض فضلها فقال : إنها تتنزل فيها الملائكة - وخاصة جبريل المكلف بالوحي - يتنزلون فيها بإذن ربهم من كل أمر حكيم على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأول عهد النبي بشهود الملائكة وجبريل معهم كان في تلك الليلة التي تنزلت الملائكة من عالمها إلى عالم الأرض ، نزلوا بالوحي على رسول اللّه. وهذه الليلة ليلة سلام وأمان ولا غرابة ففيها ابتدأ نزول القرآن مصدر الإسلام ومبدأ السلام ،
روى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم خرج ليخبر عن ليلة القدر فوجد رجلين يتنازعان فنسي الخبر. ليلة القدر مصدر السلام والأمان حتى مطلع الفجر
.(3/887)
ج 3 ، ص : 888
سورة البينة
وتسمى سورة البرية أو « لم يكن » ، وآياتها ثمان آيات ، وفيها الرد على الكفار من المشركين وأهل الكتاب ، ببيان أن ما جاء به النبي هو الحق ، ثم ذكرت جزاء من بقي على الكفر منهم ، ومن آمن بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
المفردات :
مُنْفَكِّينَ : مفارقين كفرهم تاركين ما هم عليه. الْبَيِّنَةُ : الحجة الظاهرة(3/888)
ج 3 ، ص : 889
التي يتميز بها الحق من الباطل ، من البيان وهو الظهور. مُطَهَّرَةً : طاهرة من الزور والبهتان. قَيِّمَةٌ : لا عوج فيها. حُنَفاءَ : مائلين عن الباطل.
الْقَيِّمَةِ أى : الكتب القيمة ، أو الأمم المستقيمة العادلة. الْبَرِيَّةِ : الخلق.
جَنَّاتُ عَدْنٍ : إقامة ومكث.
المعنى :
أرسل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الناس أجمعين ، أرسل لهم بالهدى ودين الحق ، ليخرجهم من ظلمات الجهالة ، وفساد العقيدة ، وذل التقليد الأعمى ، وكان الكفار من أهل الكتاب أو المشركين سواء في البعد عن الحق والدين الصحيح. أما أهل الكتاب فبعد أن فارقهم موسى وعيسى تخبطوا وحرفوا الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه وأصبح دينهم خليطا ممقوتا فيه إلى جانب الحق البسيط ضلالات وضلالات ، وأما المشركون الذين لا يقولون بالتوحيد ولا يؤمنون بالبعث كمشركي مكة ، فقد تردوا في الباطل إلى أقصاه ، وأصبح دينهم مسخا من عقائد جاهلية وتقاليد بالية حسبوها دين إبراهيم الخليل ، واللّه يعلم أنه منها برىء.
ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب الذين كانوا يستفتحون على الذين كفروا من المشركين ببعثة النبي العربي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، فلما جاءهم ما عرفوا - بعثة النبي - كفروا به ، ولهذا ذكرهم أولا ، على أنهم أشد جرما من المشركين الذين يجهلون الحق ، وهؤلاء عرفوه وكفروا به عنادا وحسدا من عند أنفسهم ، ما كان هؤلاء وأولئك منفكين عن باطلهم حتى تأتيهم البينة الواضحة ، والحجة الظاهرة التي تقصم ظهر الباطل ، وما هي ؟ هي رسول من اللّه ، وقد كان رسول اللّه نفسه بينة وحجة ظاهرة على أن دينه هو الحق ، فهو الصادق الأمين صاحب الخلق القويم والمعجزات الناطقة بصدقه ، والمنزل عليه القرآن الذي يتلوه ، أى : يقرؤه مع كونه أميا ، وقد كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقرأ القرآن حفظا عن ظهر قلب.
يتلو صحفا - القرآن - مطهرة من كل عيب وزور وكذب ، تلك الصحف فيها كتب قيمة لا عوج فيها ولا نقص ، وما المراد بالكتب ؟ قيل : هي ما في القرآن مما بقي صحيحا من كتب موسى وإبراهيم مثلا ، أو هي سور القرآن : وكأن كل سورة كتاب(3/889)
ج 3 ، ص : 890
مستقل قائم بذاته ، أو هي أحكام الإسلام وشرائعه ، وعلى كل فهي كتب قيمة لا عوج فيها ولا باطل ، ولا كذب ولا بهتان الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً [سورة الكهف الآيتان 1 و2].
وهل انتهى الكفر بإرسال النبي حتى يصح قوله تعالى : حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ والجواب : إن إرسال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان صدمة للشرك زلزلت عقائد المشركين وفتحت قلوب الجهلاء الملتاثين ، وأنارت الطريق حتى عرفت الحق من الباطل ، فكانت بعثته حدا فاصلا بين عهدين ، لهذا صح قوله : « حتى » ولكن لم يؤمن الكل بالنبي. بل بعضهم وقف من النبي موقف العناد يصد عن سبيل اللّه ، ويحاول بكل ما أوتى من قوة وجهد أن يصرف الناس عن رسول اللّه ، أراد اللّه أن يسلى الرسول ببيان أن كفر الناس وعنادهم طبيعة فيهم ، وقد حصل لإخوانك الأنبياء مثلك ، وتفرق الناس معهم واختلفوا في شأنهم بين مؤمن وكافر ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ « 1 » ولقد اختلف أهل الكتاب على أنبيائهم ، وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينة والحجة القائمة ، أى :
بعد إرسال الرسل إليهم.
عجبا لهؤلاء - اليهود والنصارى - كيف يقفون معك هذا الموقف!! هل جئتهم بأمر جديد عليهم! لا ، هل أمرتهم بالمنكر ونهيتهم عن المعروف ؟ إنك لم تأمرهم إلا بعبادة اللّه وحده مع الإخلاص والبعد عن الشرك والميل عن الإثم وكل بهتان ، وأمرتهم بإقامة الصلاة للّه وإيتاء الزكاة ؟ ما لهم لا يؤمنون ؟ ! إن كان هؤلاء متمسكين بدينهم حقا ومؤمنين به حقا فدينهم الصحيح يدعو لذلك ، ويدعوهم للإيمان بالنبي محمد وذلك - الذي ذكر من العبادة والإخلاص ... إلخ - هو دين الكتب القيمة الصحيحة التي لم تحرف بعد ، وهو دين الأمم المستقيمة على الحق والخير ، فهل لهؤلاء عذر في ترك الإسلام ؟ وهل يقبل منهم أن يعاندوا رسول الإسلام ؟ ! ما جزاء من يكفر بتلك الشريعة الغراء السهلة السمحة ؟ وما جزاء من يؤمن بها ويصدق رسولها ؟ أما جزاء الذين كفروا من أهل الكتاب - وكانوا أولى الناس بأن يتسابقوا إلى الإسلام - والمشركين الذين يعبدون الأوثان ويقدسون الأصنام والأحجار فهم في نار جهنم ، خالدين فيها أبدا.
___________
(1) - سورة الأحقاف آية 9.(3/890)
ج 3 ، ص : 891
ولا غرابة في ذلك فهم شر الخلق على الإطلاق لأنهم كذبوا على اللّه وصدوا عن سبيله وكذبوا بكتابه ، ولم يصدقوا رسوله ، بل كذبوه وآذوه وأخرجوه وحاربوه.
أما جزاء من آمن باللّه وباليوم الآخر ، وصدق رسول اللّه فأولئك هم خير البرية ، وكان جزاؤهم عند ربهم - وهذه نهاية الشرف لهم - جنات إقامة ومكث ، وجنات تجرى من تحتها الأنهار فيها ما يدعون ويشتهون : وهم فيها خالدون أبدا.
ولا غرابة فقد رضى اللّه عن أعمالهم التي عملوها ، ورضى أن يمدحهم ويثيبهم عليها ، وهم قد رضوا عنه لأنهم فرحوا بلقائه وسروا بنعيمه.
وذلك الفوز العظيم لمن خشي ربه ، فاحذروا أيها الناس واعملوا لتنالوا هذا الأجر العظيم.(3/891)
ج 3 ، ص : 892
سورة الزلزلة
مدنية ، وقيل : إنها مكية. آياتها ثمان آيات ، وفيها أثبت اللّه أن الخير مهما كان سيجازى عليه صاحبه ، وأن الشر مهما كان سيجازى عليه صاحبه ، كل ذلك يوم القيامة.
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
المفردات :
زُلْزِلَتِ الزلزلة : الاهتزاز والاضطراب الشديدان. أَثْقالَها : جمع ثقل ، وهو في الأصل متاع البيت ، والمراد به هنا : ما في جوف الأرض من دفائن. يَصْدُرُ النَّاسُ المراد : يخرجون من قبورهم. أَشْتاتاً : متفرقين فريق إلى الجنة وفريق إلى السعير. مِثْقالَ ذَرَّةٍ : الذي يرى في ضوء الشمس إذا دخلت من نافذة يقال :
ذرة.
المعنى :
حينما يريد اللّه انقضاء الدنيا ، وقيام الساعة ، يأمر الأرض فتتزلزل وتهتز اهتزازا عنيفا لم يكن مألوفا ، وتخرج دفائنها وأثقالها من نار ومياه ومعادن وما بقي من جثث ، عندئذ(3/892)
ج 3 ، ص : 893
يقول الإنسان الذي يرى هذا : ما لها ؟ أى : ما الذي حصل للأرض ؟ ! فإن هذا لم يألفه ولم يعرف له سببا ، وفي ذلك الوقت تحدثك الأرض حديثها ، وتنطق بلسان الحال لا بلسان المقال ، كما قال العلامة الطبري في تفسيره : إن هذا تمثيل ، فما وقع للأرض مما لم يكن مألوفا إنما كان بسبب أن ربك أوحى لها ، وأمرها بهذا أمرا تكوينا ، وكل ما يحصل في الكون فهو من قبيل الأمر التكويني من اللّه ، إلا أن هناك أمورا تحصل بلا سبب ظاهرى فتسند للأمر التكويني ، وما يحصل بسبب عادى لا يسند إليه ، وإن كان في الواقع منه ، يومئذ يخرج الناس من قبورهم متفرقين كل على حسب عمله ، ليروا جزاء أعمالهم ، فمن يعمل ما يوازن مثقال ذرة من خير يثب عليه ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر يجاز عليه وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ « 1 » وهذه السورة سورة ترغيب وترهيب.
___________
(1) - سورة الأنبياء آية 47.(3/893)
ج 3 ، ص : 894
سورة العاديات
مكية ، وعدد آياتها إحدى عشرة آية ، وفيها يقسم اللّه على أن الإنسان الذي أنعم عليه كفور جحود ، وأنه شهيد على ذلك ، وأنه محب للمال بخيل ، ثم هدده بالعقاب الشديد يوم القيامة.
[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9)
وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
المفردات :
وَالْعادِياتِ أى : الخيل التي تعدو وتسرع في الجري. ضَبْحاً الضبح :
نوع من السير ، أو نوع من العدو ، وقيل : هو اسم للصوت. فَالْمُورِياتِ قَدْحاً أورى فلان : إذا أخرج النار بزند ونحوه. والقدح : ضرب شيء بشيء ليخرج من بينهما شرار النار. فَالْمُغِيراتِ : الإغارة والهجوم. فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً أى :
هيجن ، والنقع : الغبار. فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً : توسطن به جمعا. لَكَنُودٌ الكنود في الأصل : الأرض التي لا تنبت ، شبه به الإنسان الذي يمنع الحق والخير والواجب عليه ، والمراد به الكفور ، أو العاصي. لَشَدِيدٌ أى : بخيل ممسك شديد الضن بالمال. بُعْثِرَ أى : بعث وأثير وأخرج. وَحُصِّلَ : أظهر ما في الصدور محصلا مجموعا.(3/894)
ج 3 ، ص : 895
المعنى :
أقسم الحق - تبارك وتعالى - بالخيل إذا عدت حالة كونها تضبح ضبحا ، فالخيل التي تغير على العدو في الصباح ، فالخيل التي تثير التراب وتهيجه فوق الرءوس فتتوسط به جموع الأعداء ، وهن متلبسات بالغبار.
أقسم اللّه بالخيل الشديدة العدو التي تخرج من أفواهها زفيرا عاليا ، فالتي تورى النار أثناء الجري ، وتغير على العدو في الصبح ، وتثير النقع وتتوسط به جمع الأعداء ، وتلك أوصاف للخيل التي يجاهد بها أصحابها في سبيل اللّه ، وهذا شرف كبير ، ولذلك أقسم اللّه بها ، على أن الخيل من الدواب التي لها مكانتها ، وهي كما قال العربي : ظهورها حرز وبطونها كنز. ومهما استحدث من آلات الحرب فلا زال للخيل مكان ملحوظ ، على أن هذه الأوصاف تعلمنا كيف نستخدم الخيل ، حتى لا نتخذها زينة فقط.
لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [سورة النحل آية 8].
أما المقسم عليه فقوله : إن الإنسان لربه لكنود ، وإنه على ذلك لشهيد ، وإنه لحب الخير لشديد ، وقد وصف اللّه الإنسان بثلاث صفات : الأولى كونه كنودا ، أى :
مناعا للخير جحودا يجحد نعمة ربه ، ولا يقوم بشكرها ، وهذا إنما يكون من الإنسان الكفور أو العاصي ، لقد صدق
الحديث : « الكنود الّذى يمنع رفده ، ويأكل وحده ، ويضرب عبده »
الثانية كونه على أعماله شهيدا فأعماله شاهدة عليه فلا تحتاج لدليل ، وهو لا يستطيع إنكار جحده لظهوره ، على أنه إن أنكر بلسانه عناده فبينه وبين ضميره يشهد بأنه منكر جاحد لنعم ربه ، وسيشهد على نفسه يوم القيامة ، فهو إذا على أعماله شهيد ، والثالثة : إنه لحب الخير لشديد ، نعم ، إن الإنسان لأجل حبه المال حبا جما بخيل به شحيح لا ينفق منه إلا بقدر بسيط ، وهو حريص عليه ، متناه في الحرص ، ممسك مبالغ في الإمساك.
يحصل منه هذا ؟ ! أفلا يعلم الإنسان أن ربه به بصير ؟ أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وأخرجت الناس من الدور ، ثم أظهرت دفائن القلوب وأسرار الصدور : إن ربهم بهم يومئذ لخبير ، وإنه سيجازى على النقير والقطمير.(3/895)
ج 3 ، ص : 896
سورة القارعة
وهي مكية ، وآياتها إحدى عشرة آية ، وفيها يصف بعض مناظر يوم القيامة.
[سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)
المفردات :
الْقار ِعَةُ
« 1 » القرع : الضرب بشدة ، وسميت الحادثة العظيمة قارعة لأنها تقرع أصحابها وتصك آذانهم ، والمراد بها هنا : يوم القيامة لأنه يقرع الناس بالهول والفزع الشديد. كَالْفَراشِ : حيوان صغير أحمق يتهافت على النار. الْمَبْثُوثِ :
المتفرق كَالْعِهْنِ : الصوف ذي الألوان. الْمَنْفُوشِ : الذي نفش.
فَأُمُّهُ : ما يأوى إليها كما يأوى الولد إلى أمه. هاوِيَةٌ : هي نار جهنم.
حامِيَةٌ : ملتهبة.
___________
(1) وإعرابها : القارعة مبتدأ ، و(ما) مبتدأ ثان ، أو خبر مقدم ، والقارعة مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر القارعة.(3/896)
ج 3 ، ص : 897
المعنى :
القارعة التي تقرع الناس بأهوالها ، وتصك آذانهم بصوتها هي يوم القيامة ، يوم الفزع الأكبر والهول الشديد ، واليوم الذي تصطك فيه الأجرام العلوية بالسفلية ، ويقرع فيها أعداء اللّه بالعذاب الشديد والخزي والنكال ، تلك هي القارعة الكبرى وما القارعة ؟ وهذا استفهام للتهويل والتفخيم ، وما أدراك! ما القارعة ؟ ! نعم أى شيء يعرفك بها ويعلمك حقيقتها ؟ لا أحد يخبرك عنها إلا خالقها وهو اللّه ، وأنت لا تعرف عنها إلا ما يقصه عليك ربها.
يوم يكون الناس حيارى مضطربين كالفراش المتفرق الذي يقع في النار لتخبطه وسوء تقديره ، وتكون الجبال الرواسي - التي كانت مثلا في الثبات وعدم التأثر - كالصوف المنفوش ، يا سبحان اللّه! أما حال من فيها فها هو ذا : فمن ثقلت موازينه لحسن أعماله وكثرة إخلاصه ، فهو يومئذ في عيشة راضية ، أى : فهو في حال تقر بها عينه ، وتطمئن لها نفسه حتى يصبح راضيا مغتبطا.
وأما من خفت موازينه لسوء عمله واتباعه الباطل وبعده عن الحق فأمه هاوية ، ما أروع هذا التعبير! ما يأوى إليه نار حامية ، نار يهوى فيها صاحبها ، وما أدراك ، ما هيه ؟ أى : أنت لا تعرف عنها شيئا ، إنها نار حامية تكوى الوجوه ، وتشوى الجلود ، وقانا اللّه شرها.(3/897)
ج 3 ، ص : 898
سورة التكاثر
مكية ، وآياتها ثمان آيات ، وفيها يحذرنا اللّه عاقبة التكاثر في المال والجاه ، ويخبر أن عذاب العصاة واقع لا محالة ، وأن جهنم حق لا شك فيها ، وأنكم ستسألون عن نعيم الدنيا.
[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
المفردات :
أَلْهاكُمُ : شغلكم. التَّكاثُرُ : التبارى في الكثرة ، أى : المفاخرة بكثرة المال والولد ، أو المراد التغالب في تكثير المال وكثرة الرجال. عِلْمَ الْيَقِينِ أى :
علما يقينيا ، والعلم اليقيني : هو الذي نشأ عن اعتقاد مطابق للواقع عن عيان أو دليل صحيح. عَيْنَ الْيَقِينِ أى : لترونها رؤية حقيقية كأنها هي اليقين نفسه ، فعلم العيان والمشاهدة يسمى عين اليقين.
المعنى :
ألهاكم التكاثر في الأموال والرجال والتغالب في جمعها عن تحصيل ما ينفعكم وعمل(3/898)
ج 3 ، ص : 899
ما يبقى لكم يوم القيامة ، ألهاكم ذلك وشغلكم عن الخير الذي ينفعكم حتى صرتم موتى والمعنى : أنكم بقيتم على ذلك طول حياتكم.
وقد ورد أن قبيلتين تفاخرتا بكثرة المال والرجال حتى ذهبوا إلى قبورهم ، وتفاخروا بمن مات فنزلت السورة تنعى عليهم ذلك وتحذرهم عاقبته ومغبته.
ارتدعوا عن ذلك العمل الذي ينشئ التدابر والتقاطع والانشغال بما لا ينفع صاحبه.
كلا سوف تعلمون عاقبة هذا التكاثر وعند ذلك تندمون ولا ينفع الندم ، ثم كلا سوف تعلمون ، وهذا تأكيد للمعنى السابق ، كلا! لو تعلمون عاقبة ذلك علما يقينيا لا شك فيه ولا شبهة علما ناشئا عن اعتقاد صحيح لما تفاخرتم بالمال أو بالرجال ، ولما تسابقتم في تكثير المال والرجال ، ولانصرفتم إلى ما هو خير لكم وأجدى عليكم ، ألا وهو التسابق في تحصيل الخير ، فلمثل هذا فليعمل العاملون.
أقسم لترون الجحيم - وهذا كناية عن ذوق عذابها - ثم لترونها ولتتذوقن عذابها لأنكم تسابقتم في المال وتكاثرتم وتفاخرتم به ، ولترونها لذلك رؤية مشاهدة ، رؤية محسوسة وهي الرؤية اليقينية ، ثم بعد ذلك لتسألن عن النعيم الذي تتفاخرون به وتتسابقون في تحصيله ، فاحذروا أيها الناس وانتبهوا.(3/899)
ج 3 ، ص : 900
سورة العصر
مكية. وآياتها ثلاث آيات. وفيها القسم على أن الإنسان لفي خسر وضلال إلا من عصمه اللّه من المؤمنين العاملين الذين تواصوا بالحق والصبر.
[سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
المفردات :
الْعَصْرِ : هل المراد به الدهر كله ؟ أو هو الوقت الخاص الذي يكون في طرف النهار. ؟ خُسْرٍ : ضلال وفساد. تَواصَوْا : يوصى بعضهم بعضا.
بِالْحَقِّ : بالثابت والمراد به الخير. بِالصَّبْرِ الصبر : قوة النفس على تحمل المشاق.
يقسم اللّه بالدهر ، لما فيه من العبر ، وما يكون فيه من الأحوال المتناقضة التي تدل على أن لهذا الكون ، ولهذا الدهر إلها هو المتصرف القادر فيه ، ألست ترى فيه ليلا ونهارا يتعاقبان ، وترى فيه آية لليل وأخرى للنهار ، ألست ترى فيه سراء ، وضراء ، وسعادة وشقاء وصحة ومرضا ، وخوفا وأمنا ، وإنسانا يموت من الجوع وآخر يهلك من الشبع ، وهذا يموت من الغرق ، وذاك يموت من الحرق ، كل ذلك والعصر زمن لا دخل له في شيء أبدا ، بل هذا يدل على أن للكون إلها هو خالقه ومدبره وهو المستحق لأنه يتوجه إليه وحده ويعبد.(3/900)
ج 3 ، ص : 901
إن الإنسان لفي خسر وضلال وكفر وهلاك بسبب ما يتردى فيه من المعاصي والكفر والآثام التي اختارها لنفسه « 1 » يا سبحان اللّه الإنسان كالمغمور في الخسران ، وقد أحاط به من كل جانب ، وذلك أنه يذنب في حق الإله الذي رباه وأنعم عليه بكل نعمة وخير.
إن الإنسان - جميع أفراده - في ذنوب وآثام مهلكة إلا من عصم اللّه منه ووفقه إلى الخير ، وهم الذين آمنوا باللّه وملائكته وكتبه ورسله إيمانا صادقا خالصا ، ثم أتبعوا ذلك بالعمل الصالح المفيد الذي يرضى اللّه ورسوله والمؤمنين ، ولكن هل يكتفى منك اللّه بذلك ؟ لا ، بل لا بد من خصلة ثالثة هي التواصي بالحق ، والتواصي بالصبر ، أى :
يوصى بعضهم بعضا بالحق الثابت الذي أرشد له الدليل السليم والشريعة الصحيحة ، ويوصى بعضهم بعضا بالصبر على المكروه ، وتحمل المشاق.
إذ لا يكتفى منك الدين بأن تعمل الخير فقط بل لا بد أن تدعو غيرك - بعد أن تصلح نفسك - تدعوه إلى الحق وإلى الخير وإلى الصراط المستقيم ، وسيلحقك أذى في ذلك بلا شك فاصبر وادع غيرك للصبر ، فالصبر نصف الإيمان واللّه هو الموفق إلى الخير.
___________
(1) واللّه قد خلقه مستعدا للخير ميالا له لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. [.....](3/901)
ج 3 ، ص : 902
سورة الهمزة
مكية. وآياتها تسع آيات ، وفيها ينعى اللّه على العياب الطعان المشاء بالنميمة ، ويعده بنار شديدة مطبقة عليه من كل ناحية.
[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
المفردات :
وَيْلٌ : هلاك وعذاب. هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ : عياب طعان مشاء بالنميمة بين الناس ، وهذه الصيغة ذاتها تدل في اللغة على الكثرة. وَعَدَّدَهُ أى : عده مرات متلذذا به. أَخْلَدَهُ : جعله خالدا باقيا. كَلَّا : ردع وزجر. لَيُنْبَذَنَّ :
ليرمين. الْحُطَمَةِ : النار الشديدة ، سميت بذلك لأنها تحطم العظام وتأكل اللحوم. الْمُوقَدَةُ ، المتقدة الشديدة. تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ : تصل إليها وتؤثر في موضع الشعور ومركز الإحساس ، أو تطلع على ما فيها وتميز بين أنواعها.
مُؤْصَدَةٌ : مطبقة مغلقة عليهم. عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ : عمد طويلة.
ويل شديد لا يدرك كنهه ، ولا تعرف حقيقته : لكل همزة لمزة ، لكل شخص يطعن في أعراض الناس ، ويغض من شأنهم ، ويحقر من أعمالهم ، يسيء إليهم متلذذا(3/902)
ج 3 ، ص : 903
بعمله ، وإنما دعاه إلى ذلك إعجابه بنفسه ، وغروره بماله الذي جمعه وجعله عدته ، وعده مرات ، وظن أنه لا يموت ، ويروى أن الأخنس بن شريق ، أو الوليد بن المغيرة ، أو أمية بن خلف كان يفعل ذلك مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
سيذكر اللّه ما أعده لهؤلاء وأمثالهم من العيابين المغرورين بمالهم فقال : كلا : ردع لهم وزجر عن ظنهم الفاسد وحسبانهم الكاذب واللّه لينبذن من يفعل ذلك في الحطمة ، تلك النار التي تحطم العظام وتأكل اللحوم وتهجم على القلوب.
وما أدراك ما الحطمة ؟ وهذا الاستفهام يراد به تفخيم أمرها ، وإكبار شأنها وبيان أنها مما لا تدركها العقول ، ولا تحيط بها الأوهام ، ولا يعرفها إلا خالقها فمن ذا الذي يعلمك بشأنها إلا خالقها ؟ ولذا عرفها فقال :
هي نار اللّه التي ليست كنيران الخلق ، نار اللّه الموقدة ، التي تطلع على الأفئدة وتقهرها وتعلوها ، لأنها تدخل في الجوف ، أو هي تعرف أسرار القلوب ، وتميز بين الطائع والعاصي ، إنها مطبقة عليهم فلا يخرجون منها أبدا ، وأبوابها المغلقة شدت بأوتاد طويلة لا تفتح أبدا.(3/903)
ج 3 ، ص : 904
سورة الفيل
مكية. وآياتها خمس آيات ، وفيها يذكر اللّه قصة أصحاب الفيل ، وخلاصتها :
كان على اليمن ملك يسمى أبرهة الأشرم ، وقد بنى كنيسة عظيمة بصنعاء ، وكانت على جانب كبير من الأبهة وفخامة البناء ، وأراد أن يصرف الحج من الكعبة إليها ، وأخبر النجاشيّ ملك الحبشة بذلك ، ويروى أن أعرابيا أحدث فيها وفر ، فغاظ ذلك الملك ، وأقسم ليدمرن الكعبة ، فجهز جيشا عظيما ، وقصد به إلى مكة ، وكان في مقدمته فيل عظيم ، ولما شارف الجيش مكة أمر الملك بنهب أموال العرب ، وكان فيها إبل لعبد المطلب بن هاشم جد النبي - عليه الصلاة والسلام - فاستاقها الجند ، فلما علم عبد المطلب بذلك طلب مقابلة الملك ، فقابله وكلمه في شأن الإبل فرد عليه الملك قائلا : لقد أعجبتنى حين رأيتك ثم زهدتني فيك حين كلمتنى ، تسألنى الإبل وتترك البيت الذي هو دينك ودين آبائك!! فرد عليه عبد المطلب قائلا : أما الإبل فهي لي وأما البيت فله رب يحميه ، فرد عليه أبرهة الإبل ...
ويروى أن عبد المطلب لما انصرف من عند الملك أمسك بحلقة باب الكعبة وقال :
لاهم « 1 » إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبدا محالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله وعبأ جيشه لهدم البيت والانصراف إلى اليمن ، فلما وجهوا الفيل إلى مكة برك ، ولما وجهوه إلى اليمن أو إلى الشام قام ونهض.
عند ذلك أرسل اللّه عليهم طيرا تحمل في مناقيرها وأرجلها حجارة صماء ألقتها عليهم فانتشر المرض فيهم حتى مات أغلبهم ، وصاروا كأوراق الشجر الجافة.
ولكن هل هذه الحجارة قتلتهم بنفسها أو لأنها تحمل جراثيم الطاعون ؟ اللّه أعلم بذلك ، والثابت أنهم عقب إلقائها عليهم مات معظم الجيش ، وانصرف أبرهة ومن بقي عن هدم الكعبة ، ومات أبرهة في الطريق.
___________
(1) أصله : اللهم.(3/904)
ج 3 ، ص : 905
[سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
المفردات :
كَيْدَهُمْ : مكرهم وحيلتهم. تَضْلِيلٍ : هلاك وضياع. أَبابِيلَ :
جماعات متفرقة. سِجِّيلٍ : الطين الذي تحجر. كَعَصْفٍ العصف : ورق الزرع الذي يبقى بعض الحصاد فتأكله الماشية.
المعنى :
ألم تعلم بقصة متواترة مستفيضة أصبح العلم بها يساوى في قوته وجلائه العلم الناشئ عن الرؤية والمشاهدة ؟ والمراد : أخبرنى بقصة أصحاب الفيل ، أخبرنى كيف فعل ربك بهم ؟ ألم يجعل كيدهم ومكرهم وحيلتهم في هدم الكعبة ، في ضلال وباطل ، ولم يصلوا إلى ما أرادوا ؟ !.
وقد أرسل اللّه عليهم طيرا جماعات تحمل حجارة فيها جراثيم الأمراض التي فتكت بمعظم الجيش ، حتى باء بالخيبة ، ورجع بالخذلان المبين ، هذه الطيور رمت الجيش بحجارة من طين متحجر ، فأهلكت أكثره ، وتركته نهبا للطير ، أشبه ما يكون بالعصف المأكول للحيوان ، وهو ورق الشجر إذا جف بعد الحصاد.(3/905)
ج 3 ، ص : 906
سورة قريش
مكية. وآياتها أربع ، وفيها أمرت قريش بعبادة ربها صاحب النعم عليها.
[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
المفردات :
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ يقال : آلفت الشيء إيلافا ، وألفته إلفا وإلافا ، بمعنى : لزمته وعكفت عليه ، وقيل المراد بذلك : المعاهدات التجارية والمحالفات التي عقدوها مع غيرهم ، وهذه المادة تدل على اجتماع الشمل مع الالتئام. رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ الرحلة والارتحال : شدهم الرحال للسير هذه في الأصل ، ثم صارت اسما للسفر.ذَا الْبَيْتِ
: الكعبة. آمَنَهُمْ : نجاهم وسلمهم.
كلنا يع رف أن مكة وما حواليها بلاد قاحلة لا نبات فيها ولا زرع ، رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ « 1 » وهذا الوضع جعل سكانها يفكرون في أمر معاشهم ، فكانوا تجارا. يتاجرون مع جيرانهم في الشمال والجنوب ، فرحلوا إلى اليمن شتاء وإلى الشام صيفا ، ولأنهم أهل بيت اللّه وجيرانه كان الناس
___________
(1) - سورة ابراهيم آية 37.(3/906)
ج 3 ، ص : 907
يحترمونهم ، ويكرمونهم ، ويعاملونهم معاملة حسنة ، بذلك زادت منافعهم ، واتسعت تجارتهم وكثر ربحهم ، وعقدوا المعاهدات والمحالفات التجارية مع جيرانهم.
وخلاصة معنى السورة :
إن كانت قريش « هم أولاد النضر بن كنانة » لا يعبدون ربهم لسبب من الأسباب فليعبدوا رب هذا البيت لأنه آلفهم رحلة الشتاء والصيف للتجارة وكسب الرزق ، وكانوا بذلك أغنياء آمنين ينتقلون حيث شاءوا ، بفضل اللّه الذي جعلهم جيران بيته وخدم حجاجه لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
وللّه وحده المنة والفضل على أهل مكة حيث نجّى البيت من أبرهة لتظل لهم مكانتهم وتجارتهم مع جيرانهم ، فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم بعد جوع وفقر ، وآمنهم بعد خوف وذل.
فاللّه - سبحانه وتعالى - الذي وسع لهم في الرزق ، ومهد لهم سبيل الأمن ، وأعطاهم القبول عند الناس لأنهم أهل بيته وخدم حجاجه ، فاستطاعوا بذلك أن يجدوا قوتهم ويأمنوا على أنفسهم وتجارتهم ، وإذا كان اللّه هو صاحب الفضل في ذلك كله فليعبدوه وحده دون سواه لأنه أطعمهم بدل جوع شديد ، وآمنهم بدل خوف كثير.(3/907)
ج 3 ، ص : 908
سورة الماعون
مكية. وآياتها سبع آيات ، وفيها ينعى اللّه على من يكذب ، ويبين صفاته.
[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
المفردات :
بِالدِّينِ : بالجزاء ، وقيل : بالإسلام كله. يَدُعُّ الْيَتِيمَ : ينهره ويزجره زجرا شديدا. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ : لا يحث عليه. فَوَيْلٌ :
هلاك. ساهُونَ : غافلون عنها. الْماعُونَ : كل ما يستعان به وينتفع.
أرأيت الذي يكذب بالدين ؟ أخبرنى عنه من هو ؟ فإن الواجب على المتدين أن يعرفه على حقيقته حتى يبتعد عنه لا عن صفاته ؟ فالاستفهام أريد به تشويق السامع ليعرف ما بعده ، وللإشارة إلى أن هذا الأمر خفى! وكل يدعى أنه مصدق بيوم الدين ، هل عرفت من هو المكذب بالدين ؟ إن لم تكن عرفته فذلك هو : الذي يدع اليتيم ، ويدفعه دفعا عنيفا ويزجره زجرا شديدا عن حقه في ماله إن كان له مال ، أو عن حقه في الصدقة إن كان فقيرا ، وهو الذي لا يحض على إطعام المساكين ، وإذا كان لا يحث عليه(3/908)
ج 3 ، ص : 909
فمن باب أولى لا يطعم هو ، وانظر إلى علامة المكذب بيوم الدين التي ذكرها القرآن :
منع الحقوق وإيذاء الضعفاء ، والبخل الشديد على المستحقين ، إذا عرفت ذلك فويل وهلاك للمصلين الذين هم عن صلاتهم غافلون ، الذين يصلون صلاتهم بدون خشوع وخضوع ، وبدون استحضار قلبي لعظمة اللّه ، وبدون تدبر لمعانى ما يقرءون ، صلاة لا يشعر صاحبها أنه بين يدي الخالق فتراه يسبح بفكره ويسرح طرفه ويتحرك ويعبث بأطرافه ولا يعرف عدد ما يصلى ، تلك صلاة بعض الناس الذين يكذبون بيوم الدين وهي بلا شك لا تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وقد سها أصحابها عن ذكر اللّه وهم لذلك يراءون الناس ويذكرونهم ويفعلون لهم ولا يفعلون للّه ، وهم لشدة الشح وكثرة البخل يمنعون الماعون! أرأيت من يكذب بالدين ؟ هو الذي يشتد على اليتيم ، ولا يعطى حقوق المساكين وهو غافل عن صلاته مراء للناس في عمله ، ومانع خيره عن غيره ، فالويل ثم الويل لهؤلاء ، إن صاموا وإن صلوا.(3/909)
ج 3 ، ص : 910
سورة الكوثر
مكية على الصحيح ، وآياتها ثلاث آيات. وفيها يذكر اللّه أنه أعطى نبيه الخير الكثير ثم يطالبه بالصلاة والصدقة شكرا له على ما أنعم.
[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
المفردات :
الْكَوْثَرَ : الشيء الكثير. قيل لأعرابية رجع ابنها من سفر : بم رجع ابنك ؟
فقالت : رجع بكوثر ، وقيل : هو نهر في الجنة. شانِئَكَ : مبغضك.
الْأَبْتَرُ : مقطوع الأثر والذكر.
المعنى :
كان المشركون حينما يرون النبي والمسلمين في قلة من العدد وقلة من المال يستخفون بهم ويهونون من شأنهم ظانين أن الحق والخير إنما يكون مع المال والغنى وكثرة العدد ، وإذا رأوا النبي وقد مات له ولد قالوا : قد بتر محمد ولم يبق له ذكر ، وكان المنافقون كذلك إذا رأوا ما عليه المسلمون من شدة وضيق ذات اليد انتظروا منهم السوء ومنوا أنفسهم بالغلبة عليهم ، وكان ضعاف المسلمين ربما وقع في نفوسهم شيء من خواطر السوء إذا وقعوا في ضيق أو شدة لهذا كله نزلت السورة تبين ما عليه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وما أعطى من الخير الكثير في الدنيا والآخرة ، وما سيؤول إليه حال حاسديه ومبغضيه ، ولعلنا نعتبر بذلك ونرضى!(3/910)
ج 3 ، ص : 911
إنا أعطيناك الكوثر ، أى : الخير الكثير البالغ حد الإفراط ، ألم يعطك ربك النبوة والدين الحق ؟ وأرسلك للناس كافة ؟ وجعل دينك خاتم الأديان ، ونهاية الرسالات ، وجمع فيه بين خير الدنيا والآخرة ، وجمع فيه الحسن والكمال من كل ناحية ؟ ألم يعطك القرآن والعلم والحكمة ؟ ألم يعطك الفضل الكثير والخير العميم ، والهدى والنور ؟
وسعادة الدنيا والآخرة لك ولأصحابك ولأمتك إلى يوم القيامة ؟ ! نعم أعطاك هذا كله ، ومن بينه الكوثر - إذا فسر بنهر في الجنة - وإذا كان الأمر كذلك فصل لربك وتوجه إليه وحده وتوكل عليه ولا ترج غيره فإنه نعم المولى ونعم النصير ، صل للّه وانحر ذبيحتك مما هو نسك للّه ، كل هذا له وحده فإنه هو الذي رباك وأعطاك وهداك ووفقك.
أما شانئوك وحاسدوك ومبغضوك فهم المقطوع أثرهم ، الذين لا يبقى لهم ذكر جميل ، وقد شبه اللّه الذكر الجميل بذنب الحيوان لأنه يتبعه وهو زينة له ، وشبه الحرمان من الأثر الطيب بقطع الذنب ، وقد شاع البتر في ذلك ، وبعض العلماء يفسر الصلاة بصلاة العيد ، والنحر بالأضحية فقط ، وليس هذا بسديد.(3/911)
ج 3 ، ص : 912
سورة الكافرون
مكية. وآياتها ست آيات ، وفيها قطع لآمال الكفار وبيان الفرق بين عبادتهم وعبادة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأنه واسع جدا.
[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
روى أن زعماء الشرك أتوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما يئسوا منه ورأوا أن في دعوته خيرا ولكن يمنعهم من اتباعه حب التقليد الأعمى والعظمة الكاذبة ، وقالوا له : تعال نعبد إلهك مدة وتعبد آلهتنا مدة فيحل بذلك الصلح بيننا وبينك ، وتزول العداوة من بيننا فإن كنا في خير أخذت منه حظا ، وإن كنت في خير أخذنا منه حظا ، فنزلت السورة ردا عليهم ، وقطعا لأطماعهم.
المعنى :
قل يا محمد لهؤلاء الكفار الذين مرنوا على الكفر فلم يعد فيهم خير ، ولن يرجى منهم إيمان ، قل لهم : لا أعبد الذي تعبدونه فأنتم تعبدون آلهة تتخذونها شفعاء للّه الواحد القهار ، أنتم تعبدون آلهة تظنون أنها تحل في صورة أو تظهر في صنم أو وثن ، وأنا أعبد اللّه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، ولا مثيل له ولا ند ، ولا يحل في جسم أو شخص ، وهو الغنى عن الشفعاء ولا يتقرب إليه بمخلوق ، بل القربى والوسيلة إليه في العبادة فقط فبين الذي أعبد والذي تعبدون فرق شاسع ، فلا أنا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد.(3/912)
ج 3 ، ص : 913
يا أيها الكافرون الثابتون على الكفر : لا أنا عابد عبادتكم ولا أنتم عابدون عبادتي فالآيات 2 ، 3 تدلان على الاختلاف في المعبود الذي يعبد ، فالنبي - عليه الصلاة والسلام - يعبد اللّه وهم يعبدون الأصنام والأوثان والشفعاء ، والآيتان 4 ، 5 تدلان على الاختلاف في نفس العبادة فعبادة النبي خالصة للّه لا يشوبها شرك ولا تصحبها غفلة عن المعبود ، وعبادتكم كلها شرك وإشراك وتوسل بغير العمل فكيف يلتقيان!! وبعض العلماء يرى - دفعا للتكرار - أن المعنى : لا أعبد في المستقبل ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ، ولا أنا عابد ما عبدتم في الماضي ولا أنتم عابدون ما أعبد فيه ، والأمر سهل والنهاية واحدة.
لكم دينكم وعليكم وحدكم وزره ، ولى ديني الذي أدعو إليه وعلى تبعاته وأوزاره ، وهاتان الجملتان لتأكيد المعنى السابق.(3/913)
ج 3 ، ص : 914
سورة النصر
مدنية. وآياتها ثلاث آيات ، وفيها البشارة للنبي وصحبه بنزول العون لهم ونصرة دينهم وفتح قلوب الناس لهذا الدين ، ثم أمرهم بالتسبيح والتنزيه للّه - تعالى - على أنه سبب النجاح.
[سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)
المفردات :
نَصْرُ اللَّهِ : عونه ومعونته. وَالْفَتْحُ بمعنى : فتح البلاد ، أو الحكم في القضية التي بينكم وبين خصوم الإسلام. أَفْواجاً : جمع فوج ، بمعنى الجماعات. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ التسبيح : هو التقديس والتنزيه ، والحمد : هو الثناء عليه بما هو أهله.
المعنى :
كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم شديد الحرص على إيمان الناس وخاصة قريش والعرب ، والنبي كبشر لا يعلم الغيب ولذا كان قلقا ضجرا بعض الشيء على الدعوة ، فأتت هذه السورة تبشره وتذكره بأن هذا كان الأولى أن تبتعد عنه ، وهذا من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين فقد يكون الشيء حسنة عندك وهو عند غيرك لمم - صغير من الذنوب - يصح الاستغفار منه.(3/914)
ج 3 ، ص : 915
وإذا جاء نصر اللّه وعونه وهو لا بد حاصل ، وجاء الفتح للبلاد المغلقة والقلوب المقفلة إذا جاء هذا وذاك ، ورأيت الناس يدخلون في دين اللّه جماعات كثيرة إذا حصل هذا فالواجب مقابلته بالشكر والثناء على اللّه بما هو أهله ، إذا حصل هذا فسبح ربك وقدسه تقديسا ، ونزهه تنزيها يليق بجنابه ، سبحه حامدا له فعله الجميل ذاكرا له صفاته المناسبة وأسماءه الحسنى ، واستغفر لذنبك واطلب المغفرة مما قد تكون ألممت به وهو لا يليق بك كخاتم الأنبياء والمرسلين ، استغفر اللّه إنه كان توابا كثير القبول لتوبة عباده ، إنه يقبل التوبة ويعفو عن السيئة ، ويعلم ما نفعل ، والخطاب في السورة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولكل من يصلح له الخطاب.
روى أن هذه السورة كانت بمثابة نعى اللّه لنبيه ، فإنه إذا حصل هذا فقد أدى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم رسالته كاملة ، وإذا أداها فسيلحق بالرفيق الأعلى ، ولقد فهم هذا المعنى بعض الصحابة وبكى على رسول اللّه.(3/915)
ج 3 ، ص : 916
سورة المسد
مكية. وآياتها خمس آيات. وفيها ذم أبى لهب وامرأته حمالة الحطب.
[سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
المفردات :
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ التباب : الهلاك والخسران ، والمراد : خسر وهلك أبو لهب. سَيَصْلى : سيجد حرها ويذوق لهبها. حَمَّالَةَ الْحَطَبِ : هل الحطب على حقيقته ؟ وكانت أروى بنت حرب بن أمية أخت أبى سفيان وزوج أبى لهب تحمل الحطب حقيقة ، أم كانت امرأة تسعى بين الناس بالوقيعة والفساد ، وهذه الجملة جاءت كناية عن ذلك. مَسَدٍ المسد : الحبل المفتول فتلا شديدا.
المعنى :
روى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حينما أمر بالجهر والتبليغ العلنى للناس خاصة المقربين من أهله وقف على البطحاء فنادى : « يا صباحاه » فاجتمعت إليه قريش ، فقال : أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم مصدقون ؟ قالوا : نعم ، قال : فإنى نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تبا لك ألهذا جمعتنا ؟ فأنزل اللّه تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ
.(3/916)
ج 3 ، ص : 917
هلك أبو لهب وخسر خسرانا شديدا ، وهذا دعاء عليه ، وقد هلك وخسر بالفعل بدليل قوله تعالى ثانيا : وَتَبَّ ما أغنى عن أبى لهب ماله ، ولا نفعه كسبه وعمله ، ولم ينفعه شيء من ذلك في تثبيط دعوة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقد كان أبو لهب عم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم واسمه عبد العزى ، وكان من ألد أعدائه ، يسير وراء النبي فإذا قال شيئا كذبه ، ولهذا ذكر اللّه جزاءه فقال : سيصلى نارا لا يعرف قدرها ولا وصفها إلا خالقها ، نارا ذات لهب ، سيصلى هو وامرأته أذم حمالة الحطب.
روى أنها كانت تضع الشوك في طريق رسول اللّه بعد جمعه لهذا السبب ، وقيل : إنها كانت تسعى جاهدة في إيقاع العداوة بين النبي والناس ، وتحمل حطب نار الفتنة ، وتوقد بينهم نار العداوة ، وقد زاد سبحانه في تبشيع صورتها بقوله : في جيدها حبل من مسد ، وقد كان لها قلادة حلفت لتبيعنها في الإنفاق ضد رسول اللّه ، فأعقبها اللّه بدلها حبلا في جيدها : حبلا محكما ليوضع في عنقها ، وهي في نار جهنم ، وقيل : إن المعنى على تحقيرها وتصويرها بصورة الحاطبات الممتهنات إذلالا لكبريائها هي وزوجها.(3/917)
ج 3 ، ص : 918
سورة الإخلاص
مكية. وآياتها أربع آيات ، وهي سورة التوحيد والتنزيه للّه - سبحانه وتعالى - وهذا هو الأصل الأول والركن الركين للإسلام لذلك ورد أنها تعدل ثلث القرآن في ثواب قراءتها إذ الأصول العامة ثلاثة : التوحيد ، تقرير الحدود وأعمال الخلق ، وذكر أحوال يوم القيامة ، ولا حرج على فضل اللّه الذي يهب لمن يقرؤها بتدبر وتفهم مثل ما يهبه لقارئ ثلث القرآن.
[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)
المفردات :
أَحَدٌ : واحد في ذاته وصفاته وأفعاله. الصَّمَدُ : المقصود وحده في قضاء الحوائج. كُفُواً : مكافئا ومماثلا ونظيرا.
المعنى :
هذا هو الأساس الأول ، والمهمة الأولى التي جاء إليها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فشمر عن ساعد الجد ، وأخذ يدعو الناس إلى التوحيد ، وعبادة اللّه الواحد لهذا أمر في هذه السورة بأن يقول للناس : هو اللّه أحد.
قل لهم يا محمد : الخبر الحق المؤيد بالصدق ، والبرهان القاطع هو اللّه أحد ، فاللّه واحد في ذاته ليس مركبا ولا متعددا ، واحد في صفاته فليس لغيره صفة تماثله ، وواحد في أفعاله فليس لغيره فعل يدانى فعله أو يشبهه.(3/918)
ج 3 ، ص : 919
ولعل تصدير الكلام بضمير الشأن - هو - للتنبيه من أول الأمر على فخامة الكلام الآتي ، ولبيان أنه من الخطورة والروعة ما يجعلك تبحث عنه وتلتفت إليه. وذلك أن الضمير يدعوك إلى ترقب ما بعده ، فإذا جاء تفسيره وتوضيحه تمكن في النفس أى تمكن ، ولعلك تسأل : أما كان الأولى أن يقال : اللّه الأحد بدل أحد ؟ والجواب على ذلك : أن المقصود إثبات أن اللّه - جل جلاله - واحد ليس متعددا في ذاته ، ولو قيل اللّه الأحد لأفادت العبارة أنهم يعتقدون الوحدانية ويشكون في ثبوتها للّه. مع أن المقصود نفى العدد لأنهم كانوا يعتقدونه ولهذا قال : اللّه أحد اللّه الصمد ، أى : ليس فوقه أحد ولا يحتاج إلى أحد ، بل هو وحده الذي يحتاج إليه كل ما عداه ، إليه وحده يلجأ الخلق في الشدائد والأزمات جل جلاله وتباركت آلاؤه.
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وهذا تنزيه للّه عن أن يكون له ولد أو بنت أو والد أو أم ، أما كونه لا ولد له فهذا رد على المشركين الذين يقولون : الملائكة بنات اللّه ، وعلى النصارى واليهود الذين يقولون : العزير والمسيح أبناء اللّه ، ولم يكن اللّه مولودا كما قالت النصارى : المسيح ابن اللّه ثم عبدوه كأبيه ، أما استحالة أن يكون له ولد فإن الولد يقتضى انفصال جزء من أبيه وهذا بلا شك يقتضى التعدد والحدوث ومشابهة المخلوقات ، على أنه غير محتاج إلى الولد فهو الذي خلق الكون وهو الذي فطر السموات والأرض وهو الذي يرثهما.
أما استحالة كونه مولودا فهي من البديهيات الظاهرة لاحتياج الولد إلى والد ووالدة ، وإلى ثدي ومرضعة ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ نعم ما دام واحدا في ذاته ليس متعددا ، وليس والدا لأحد ولا مولودا لأحد ، فليس يشبه أحدا من خلقه ، وليس له مثيل أو نظير أو ند أو شريك سبحانه وتعالى عما يشركون.
وهذه السورة مع وجازتها ردت على مشركي العرب وعلى النصارى واليهود كما مر وأبطلت مذهب المانوية القائلين بالنور والظلمة ، وعلى النصارى القائلين بالتثليث ، وأبطلت مذهب الصابئة الذين يعبدون النجوم والأفلاك ، وردت على مشركي العرب الذين زعموا أن غيره يقصد عند الحوائج ، وأن له شريكا تعالى اللّه عن ذلك كله.(3/919)
ج 3 ، ص : 920
وتسمى هذه السورة سورة الإخلاص ، لأنها تضمنت إثبات وحدانية اللّه ، وأنه لا شريك له ، وأنه هو المقصود وحده في قضاء الحوائج ، وأنه لم يلد ولم يولد ، وأنه لا مثيل له ولا نظير ، وهذا يقتضى الإخلاص في عبادة اللّه وحده ، أو الاتجاه إليه وحده.(3/920)
ج 3 ، ص : 921
سورة الفلق
مكية ، وقيل : مدنية. وآياتها خمس آيات ، وهي إحدى المعوذتين.
[سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)
المفردات :
الْفَلَقِ أصله : شق الشيء وإبانة بعضه عن بعض ، والمراد كل ما يفلقه اللّه :
كالأرض بالنبات والجبال بعيون الماء ، والسحاب بالمطر ، والأرحام بالولد.
غاسِقٍ الغاسق : الليل الشديد الظلمة. إِذا وَقَبَ : إذا دخل في كل شيء ، وغشى كل كائن وستره. النَّفَّاثاتِ : جمع نفاثة ، والنفث : النفخ مع ريق يخرج من الفم. فِي الْعُقَدِ : جمع عقدة ، وهل هي المعروفة أو هي رابطة المحبة والصلة بين الناس ؟
روى أن بعض اليهود سحر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فمرض رسول اللّه ثلاث ليال ، واشتد عليه ذلك حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله ، ثم أتاه جبريل فأخبره بالسحر وبموضعه الذي وضع فيه ، وتلا عليه المعوذتين ، وجيء بالسحر ، وقرأ المعوذتين فكأنما نشط من عقال ، ورجعت إليه طبيعته.
وهذه رواية لا أظن أنها صادقة ، كما حقق ذلك بعض العلماء ، وإنما هي من مفتريات(3/921)
ج 3 ، ص : 922
اليهود ، ليشككوا الناس في النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وليلصقوا به السحر ، مع أن اللّه يقول : وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ « 1 » إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ « 2 » .
قل لهم يا محمد : إنى أعوذ برب الكائنات كلها ، التي تنشأ عن فلق الأرض أو السماء ، أعوذ به وأستجير من كل شر وأذى يصيبني في نفسي وأهلى أو دعوتي وصحبي وأعوذ بك من شر الليل إذا غسق. وغشى كل كائن ووقب ، فإن ظلامه ستار لكل معتد أثيم ، وأعوذ بك من النفاثات في العقد التي يعقدونها ، كما ورد ذلك سابقا ، ولكن الأولى أن يكون المعنى : أعوذ بك من شر النمامين المقطعين لروابط المحبة ، وعلى ذلك فالنفاثة تاؤه للمبالغة لا للتأنيث - هو الساعى بالنميمة الذي يعمل فكره في إيقاع المكروه بالمحسود ، وهو يعمل جاهدا على ذلك ، ولا سبيل لإرضائه ، فلم يكن إلا أن نتوجه إلى اللّه أن يقينا شره ، ويحفظنا من سوئه ، وهو على كل شيء قدير.
___________
(1) - سورة المائدة آية 67.
(2) - سورة الحجر آية 95.(3/922)
ج 3 ، ص : 923
سورة الناس
مكية على الصحيح. وآياتها ست آيات ، وهي المعوذة الثانية.
[سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
المفردات :
الْوَسْواسِ : الذي يوسوس للناس فيلقى في صدورهم أحاديث السوء. الْخَنَّاسِ : صيغة مبالغة من الخنوس : وهو الرجوع والتأخر ، وذلك أنه إذا زجر انزجر ورجع. مِنَ الْجِنَّةِ : الخلق المستتر الذي لا يعلمه إلا خالقه.
قل لهم : إنى ألجأ إلى اللّه وأستعيذ به ليحفظنى من شر الذي يوسوس لي ، أعوذ برب الناس الذي رباهم وتعهدهم في صغرهم وضعفهم ، وقد ملك أمرهم وتولى شأنهم فهو المالك للناس ، وهو إلههم وهم عبيده ، فهو أحق بالعبودية والخضوع والتوجه إليه ، واللّه سبحانه لأنه خلق الناس ورباهم وملك أمرهم وتولاهم فهو يستعاذ به فيعيذ ويستنصر به فينصر ، ويلجأ إليه من شر الذي يوسوس في النفس ، فيزين لها فعل القبيح ، ويصور الشر بصورة الخير ، هو الوسواس الكثير الرجوع إذا زجر ، سواء كان من الجنة أى : الخلق(3/923)
ج 3 ، ص : 924
المستتر ، وهم جند إبليس وأبناؤه ، أم كان من الإنس كقرناء السوء ، وقانا اللّه شر شياطين الجن والإنس ، إنه سميع مجيب ، وهو على كل شيء قدير ، واللّه سبحانه وتعالى يعلمنا ويرشدنا إلى كيفية الاستعاذة به من كل سوء ومكروه ظاهر وباطن. واللّه أعلم.(3/924)
ج 3 ، ص : 925
فهرس المجلد الثالث
الموضوع صفحة
كيف تدعو أهل الكتاب إلى الإسلام 1 ذكر بعض الشبه والرد عليها 4 توجيهات إلهية للمسلمين 7 بيان حال الكفار في الشدة والرخاء 10 سورة الروم - من أخبار الغيب 13 لفت أنظار المشركين وتهديد لهم 15 أوقات التسبيح والعبادة 18 بعض آيات اللّه الناطقة بقدرته ووحدانيته 20 الإسلام دين الفطرة 26 بيان طبيعة الناس مع توجيهات لهم 28 من دلائل التوحيد ونتائج الأعمال 31 من آيات في الرياح والمطر 34 هكذا الإنسان - وختام السورة 37 سورة لقمان - القرآن وأثره 41 الكافرون بالقرآن والمؤمنين به 42 هذا خلق اللّه 45 قصة لقمان ووصيته لابنه 46 كيف تكفرون باللّه وهو صاحب النعم ؟ 50 المؤمن والكافر 51 اللّه هو الخالق وهو الحق وما دونه هو الباطل 52 وعظ وإرشاد 55 سورة السجدة - القرآن من عند اللّه الذي خلق ودبر 58(3/925)
ج 3 ، ص : 926
إنكارهم للبعث 62 وهؤلاء هم المؤمنون وهذا هو جزاؤهم 65 مواعظ وعبر 68 سورة الأحزاب - توجيهات وآداب 71 النبي عليه الصلاة والسلام ومكانته 75 غزوة الخندق أو الأحزاب 77 من آداب البيت النبوي 87 من آداب أهل البيت وأوصافهم 91 قصة زينب بنت جحش مع زيد بن حارثة 96 من تأديب اللّه للمؤمنين وعنايته بهم 101 بعض الآداب الإسلامية 102 من خصوصيات النبي صلى اللّه عليه وسلّم 104 كلمة عن تعدد أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم 108 ما وجب على المؤمنين نحو بيت النبي مع آية الحجاب 109 مكانة الرسول صلى اللّه عليه وسلّم 113 ستر عورات النساء 115 هؤلاء المنافقون وهذا جزاؤهم 118 وهذا جزاء الكفار 120 توجيهات وعظات 121 أمانة التكاليف وحملها 123 سورة سبأ 125 إثبات البعث وبيان دواعيه والرد على منكريه 125 داود وسليمان 129 قصة سبأ وسيل العزم 132 مناقشة المشركين في اتخاذهم من دون اللّه آلهة شفعاء لهم 136(3/926)
ج 3 ، ص : 927
من مواقف المشركين 139 تسلية النبي صلى اللّه عليه وسلّم 141 بعض مواقف الكفار في الدنيا والآخرة 144 سورة فاطر أو سورة الملائكة 151 وعظ وإرشاد مع إثبات مبدأ الثواب والجزاء 153 الآيات الدالة على قدرة اللّه وإمكان البعث 157 وعظ وإرشاد 160 الناس مختلفون في خشية اللّه وأخشاهم للّه أعلمهم به 163 القرآن والمؤمنون به والكافرون 165 نقاش المشركين 168 حقيقة هؤلاء المشركين 170 سورة يس 173 موقف النبي صلى اللّه عليه وسلّم مع قومه 173 قصة أصحاب القرية 176 بعض مظاهر القدرة 181 ذكر بعض أحوال الكفار 185 أصحاب الجنة وأصحاب النار 188 فضل اللّه على الناس كبير 190 إثبات الوحدانية للّه مع نفى الشعر عن رسول اللّه 192 إثبات البعث 194 سورة الصافات - إن إلهكم لواحد 197 من مواقف المشركين يوم القيامة 201 المخلصون في الجنة 204 وهذه هي جهنم مأوى الظالمين 208 من قصة نوح عليه السلام 210(3/927)
ج 3 ، ص : 928
من قصة إبراهيم عليه السلام 211 قصة الذبيح 214 طرف من قصة موسى وهارون 217 طرف من قصة إلياس 218 ذكر طرف من قصة قوم لوط 220 قصة يونس عليه السلام 220 نقاش المشركين في عقائدهم 222 تقوية العزائم 226 سورة ص - مناقشة الكفار في عقائدهم والرد عليهم 229 قصة داود 234 لا بد من ثواب وعقاب 238 سليمان عليه السلام 239 أيوب عليه السلام 242 إبراهيم عليه السلام ونسله 244 إن ذلك لحق تخاصم أهل النار 246 من الأدلة على صدق النبي 248 قصة خلق الإنسان وإكرام اللّه له 249 سورة الزمر 253 من دلائل عظمة اللّه وكمال قدرته 255 المؤمن والكافر 258 التقوى والإخلاص واجتناب الطاغوت 259 هذه هي الدنيا 263 النور وشرح الصدور بالقرآن 264 الأمثال في القرآن 267 من أظلم الناس ومن أصدقهم 269(3/928)
ج 3 ، ص : 929
مناقشة اهل الشرك في عبادتهم الأصنام 271 إثبات وحدانية اللّه وقدرته مع مناقشتهم وبيان جزائهم 273 هكذا الإنسان 276 وعظ وإرشاد 278 لا إله إلا اللّه يجزى كلا على عمله 281 أحوال الخلق يوم القيامة 284 سورة غافر - القرآن ومن جادل فيه ومن آمن به 288 ومن أهوال يوم القيامة 292 تخويف الكفار وترويعهم 295 موسى مع فرعون وهامان وقارون وموقف الرجل المؤمن 299 دفاع الرجل عن موسى - تحذيره لقومه وبيان عاقبتهم في الدنيا والآخرة 300 تذكير هم بما حصل لهم أيام يوسف 303 إنكار فرعون وجود الإله 304 وعظ الرجل المؤمن لقومه 305 من مواقف الكافرين في الدنيا والآخرة 308 الجدل في آيات اللّه وسببه مع ذكر بعض النعم 311 كيف نعبد غير اللّه ؟ 315 المجادلون وجزاؤهم وصبر النبي على إيذائهم 316 بعض آيات اللّه ونعمه علينا 319 تهديد المجادلين في آيات اللّه 321 سورة فصلت - القرآن وموقف المشركين منه 323 اللّه هو القادر المريد 326 تهديدهم بمثل ما حل يعاد وثمود في الدنيا 329 تهديدهم بعذاب يوم القيامة 333(3/929)
ج 3 ، ص : 930
الكفار وأعمالهم وجزاؤهم 335 الذين قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا 337 الدعوة إلى اللّه وآداب القائمين بها 339 بعض آيات اللّه 342 تهديد الملحدين في القرآن 243 القرآن والذين يلحدون فيه 345 إليه يرد علم الساعة 349 الإنسان وطبعه 350 ختام سورة
فصلت 352 سورة الشورى - الذي أوحى بهذا القرآن هو اللّه 355 حقائق إسلامية 357 حقيقة الرسالة المحمدية وهدفها 360 العاملون وجزاؤهم 365 من مظاهر حكمته وقدرته 369 من صفات المؤمنين وجزائهم ، وأحوال الكافرين وعاقبتهم 373 الأمر كله للّه 377 كيفية اتصال اللّه برسله 378 سورة الزخرف 382 القرآن الحكيم وقريش 382 من نعم اللّه علينا 384 ألوان من مفترياتهم وأباطيلهم والرد عليهم 386 إنكارهم النبوة والرد عليهم مع بيان حقارة الدنيا 390 تقوية العزيمة 394 العبرة من قصة موسى وفرعون 397 بعض مفترياتهم والرد عليها 400(3/930)
ج 3 ، ص : 931
بعض أحوال يوم القيامة 403 استحالة الولد والشريك للّه 407 سورة الدخان 410 ذلك هو القرآن الكريم 410 ما لهم لا يعتبرون بفرعون وقومه 413 إنكارهم البعث والرد عليهم 416 هؤلاء هم المتقون يوم القيامة 420 سورة الجاثية 422 تلك بعض آياته الدالة عليه 422 الويل لكل أفاك أثيم 424 من فضل اللّه علينا 426 تحذيرهم من أن يكونوا كبني إسرائيل 428 بعض سيئاتهم وجزاؤهم عليها يوم القيامة 431 ختام سورة الجاثية 435 سورة الأحقاف 437 إثبات الوحدانية للّه ونفى الشركاء 437 شبهاتهم في نبوة محمد للّه وصدق القرآن 440 الإنسان بين خالقه ووالديه 443 قصة نبي اللّه هود مع قومه عاد 447 إيمان الجن بالنبي للّه 451 من دلائل البعث 453 ختام السورة 454 سورة محمد للّه : أحوال الكافرين والمؤمنين 456 القرآن والقتال 458 المؤمنين والكافرون في الدنيا والآخرة 462(3/931)
ج 3 ، ص : 932
مثل النعيم والعذاب الأليم يوم القيامة 464 المنافقون والمهتدون 466 المؤمنون الصادقون والمنافقون الكاذبون 468 ختام السورة 473 سورة الفتح 476 صلح الحديبية 477 المتعاهدون مع اللّه ورسوله 481 المتخلفون عن الحديبية 484 بيعة الرضوان وما فيها من خير 488 تحقيق رؤيا الرسول 493 محمد وصحبه الأبرار 495 سورة الحجرات 498 موقف المسلمين من أحكام اللّه 498 من أدب الحديث مع رسول اللّه 499 التثبت في تلقى الأخبار 502 كيف تقضى على النزاع الداخلى 504 إرشادات إلهية في المعاشرة والاجتماع 506 الإيمان الصحيح 511 سورة ق 516 إنكارهم للبعث والدليل عليه 516 العبرة من سير الأولين 520 تقوى اللّه والخوف من عذابه يوم القيامة 521 تهديد لمنكري البعث وختام السورة 525 سورة الذاريات - إثبات البعث 529 من هم المتقون وما جزاؤهم 532(3/932)
ج 3 ، ص : 933
إكرام اللّه لأوليائه وإهانته لأعدائه 535 من آيات اللّه الكونية 539 سورة الطور - يوم القيامة والكفار فيه 543 المتقون وجزاؤهم يوم القيامة 545 نقاش الكفار في معتقداتهم وختام السورة 548 سورة النجم - تحقيق أمر الوحى 553 تلك هي آلهتهم التي لا تغنى عنهم شيئا 557 من هم المحسنون 560 حقائق إسلامية 562 سورة القمر - الكافرون وموقفهم من دعوة الحق 566 عاقبة المكذبين 569 تهديد المشركين مع بيان عاقبة المتقين 575 سورة الرحمن - أمهات النعم 578 بعض نعمه أيضا 582 من نعم اللّه يوم القيامة 584 من نعم اللّه على المتقين يوم القيامة 587 من نعم اللّه على المؤمنين يوم القيامة 589 سورة الواقعة - قيام القيامة 592 هؤلاء السابقون وذلك جزاؤهم 593 هؤلاء هم أصحاب اليمين وهذا جزاؤهم 596 هؤلاء هم أصحاب الشمال وهذا هو جزاؤهم 598 بعض الأدلة على إثبات قدرة اللّه الكاملة على البعث وغيره 600 إن هذا لهو حق اليقين 604 سورة الحديد - التسبيح للّه وحده 608 الحث على الإيمان والإنفاق 611(3/933)
ج 3 ، ص : 934
المنافقون يوم القيامة 614 وعظ وإرشاد 616 حقيقة الدنيا والآخرة 618 الأمر كله للّه 621 أسس الحكم في الإسلام 622 الغرض من أرسال الرسل 624 سورة المجادلة 627 الظهار وحكمه وكفارته 627 اللّه بكل شيء محيط 630 آداب المناجاة في الإسلام 631 من أدب الإسلام في المجالسة 634 نجوى الرسول 635 موالاة غير المؤمنين 637 سورة الحشر 641 إجلاء بنى النضير 641 الفيء وحكمه 644 هكذا المنافقون واليهود 648 التقوى وموجباتها 651 سورة الممتحنة 655 موالاة الكفار وعلاقتنا بها 655 المهاجرات من النساء ومبايعتهن 660 سورة الصف 664 توجيهات دينية 664 التجارة الرابحة 668 سورة الجمعة 671(3/934)
ج 3 ، ص : 935
منّ اللّه على العرب والناس جميعا 671 هؤلاء هم اليهود 673 بعض أحكام تتعلق بصلاة الجمعة 674 سورة المنافقون 677 المنافقون 677 سورة التغابن 683 من مظاهر قدرته وعلمه 683 إثبات البعث وتهديد الكفار 685 الحياة الدنيا في نظر المؤمنين 687 سورة الطلاق 691 أحكام تتعلق بالعدة 691 وعد ووعيد 697 سورة التحريم 700 ما حدث من بعض زوجاته من خصومة 700 توجيهات ومواعظ 704 أمثلة حية للنساء 706 سورة الملك .. من مظاهر القدرة والعلم 709 بعض مظاهر نعمه وقدرته وعلمه مع تهديد الكفار 713 إثبات للبعث وتهديد وبيان لبعض النعم 718 سورة ن .. محمد رسول اللّه أكرم الخلق على اللّه 720 قصة أصحاب الجنة ومغزاها 724 مناقشة المكذبين وتهديدهم 727 ختام السورة 731 سورة الحاقة .. يوم القيامة ومن كذب به 733 يوم الحساب وما فيه من مواقف للأبرار والفجار 735(3/935)
ج 3 ، ص : 936
حقيقة الإنسان وما نزل فيه 739 سورة المعارج .. تهديد المشركين بالعذاب الواقع عليهم 742 طبيعة الإنسان وعلاج القرآن لها 746 هؤلاء هم المكذبون وهذه نهايتهم 748 سورة نوح : قوم نوح وتصوير حالهم 751 سورة الجن : الجن واستماعهم للقرآن 757 توجيهات إلهية للرسول عليه السلام 762 سورة المزمل وإرشادات إلهية لزعيم الدعوة الإسلامية 766 ذلك تخفيف
من ربك ورحمة 771 سورة المدثر .. توجيهات نافعة للمصطفى للّه 773 ما يلاقيه زعماء الشرك!! 775 سفر ومن فيه 780 سورة القيامة .. يوم القيامة وما فيه 784 الإنسان عند موته وعند بدء خلقه 789 سورة الإنسان .. الإنسان بعثه وخلقه وتكليفه 792 الأبرار .. أعمالهم وجزاؤهم 794 توجيهات للنبي للّه 798 سورة المرسلات 801 سورة النبإ 809 سورة النازعات 815 سورة عبس 822 سورة التكوير 827 سورة الانفطار 833 سورة المطففين 836 سورة الانشقاق 842(3/936)
ج 3 ، ص : 937
سورة البروج 846 سورة الطارق 850 سورة الأعلى 853 سورة الغاشية 856 سورة الفجر 859 سورة البلد 864 سورة الشمس 867 سورة الليل 870 سورة الضحى 873 سورة الانشراح 876 سورة التين 879 سورة العلق 882 سورة القدر 886 سورة البينة 888 سورة الزلزلة 892 سورة العاديات 894 سورة القارعة 896 سورة التكاثر 898 سورة العصر 900 سورة الهمزة 902 سورة الفيل 904 سورة قريش 906 سورة الماعون 908 سورة الكوثر 910 سورة الكافرون 912(3/937)
ج 3 ، ص : 938
سورة النصر 914 سورة المسد 916 سورة الإخلاص 918 سورة الفلق 921 سورة الناس 923(3/938)