ج 3 ، ص : 153
يفتح اللّه من خزائن رحمته أيا كانت من نعمة أو صحة أو أمن أو علم أو حكمة إلى غير ذلك مما لا يحاط به » فلا ممسك لها.
وأى شيء من نعمة يمسكه فلا مرسل له من بعده ، وما أدق ختام الآية بقوله :
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هو العزيز لا يغلبه غالب ، ولا يعجزه شيء ، الحكيم في كل فعله فيرسل لحكمة ، ويمسك لحكمة ، وهو العزيز الحكيم.
يا أيها الناس اذكروا نعمة اللّه عليكم التي لا تعد ولا تحصى. اذكروها باللسان واذكروها بالقلب ذكرا مصحوبا بالشكر والثناء على صاحب النعم الرحمن الرحيم جل شأنه ، هل هناك خالق يرزقكم غير اللّه ؟ ! تعالى عما يشركون! هل في هذا الكون إله يرزقكم من السماء ؟ ! معاذ اللّه ، لا إله إلا هو ، ولا معبود بحق في الوجود سواه.
فكيف تصرفون عن الإيمان والتوحيد الخالص إلى الشرك وعبادة الأوثان التي لا تنفع ولا تضر ؟ ! عجبا لكم وأى عجب ؟ ! وإن يكذبوك يا محمد فتأس بمن تقدمك من الرسل أولى العزم فقد كذبوا ونالهم ما نالهم فصبروا على ما كذبوا به وأوذوا في سبيل اللّه ، وإلى اللّه وحده ترجع الأمور فيجازى المكذبين والكفار ، والمعتدين على الرسول بما كانوا يعملون ، وهل يجازى إلا الكفور!! واللّه وحده هو الذي يتولى أموركم وأمور دينه ، وإليه يرجع الأمر وحده ، فسيجازيكم على صبركم وأعمالكم نعم الجزاء.
وعظ وإرشاد مع إثبات مبدأ الثواب والجزاء [سورة فاطر (35) : الآيات 5 الى 10]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)(3/153)
ج 3 ، ص : 154
المفردات :
تَغُرَّنَّكُمُ : تلهينكم الْغَرُورُ : الشيطان حِزْبَهُ : صحابه المتحزبين له المجتمعين حوله سُوءُ عَمَلِهِ المراد : عمله السيئ حَسَناً : صوابا فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ : فلا تتعاط أسباب ذهاب النفس ، أى : هلاكها حَسَراتٍ : جمع حسرة وهي هم النفس على فوات أمر ، بمعنى التلهف الشديد على الشيء الفائت فَتُثِيرُ سَحاباً فتزعجه وتحركه الْعِزَّةَ المراد : العز والجاه يَصْعَدُ صعود الكلم الطيب فيه تجوز والمراد قبول اللّه له ، أو علمه به يَبُورُ : يهلك ويضيع.
وهذا كالدليل على ما سبق بيانه إجمالا من إثبات البعث والثواب.
المعنى :
يا أيها الناس إن وعد اللّه بالبعث والثواب والعقاب حق لا شك فيه ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا بأعراضها الزائلة ، وزخارفها الفانية ، فالآخرة خير وأبقى ، ولا تشغلنكم الدنيا بنعيمها ولذاتها عن العمل للآخرة حتى لا تكونوا في موقف الذي يقول : يا ليتني قدمت لحياتي!!(3/154)
ج 3 ، ص : 155
ولا يغرنكم باللّه الغرور ، فيقول لكم الشيطان وأتباعه : اعملوا ما شئتم فإن اللّه غفور ، يغفر السيئات ، ويعفو عن الخطيئات ، أيها الناس لا تغرنكم الأمانى الكاذبة التي نسمعها من بعض الناس الذين يقولون : نحن أتباع النبي محمد فلن نصاب بسوء ، تلك أمانيهم ، وليس الإيمان والثواب عليه بالتمني الكاذب.
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أخبرنا اللّه - عز وجل - بأن الشيطان يبدو لنا من قديم الأزل فهو الذي أخرج أبانا آدم من الجنة ، وأوقعه في الزلة ، وهو الذي أقسم على إغوائنا وإضلالنا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ [سورة النساء آية 119] لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [سورة الأعراف آية 16].
وإنه لعجيب أن نتولاه ونطيعه فيما يأمر به ويريده ، مع أن فيه هلاكنا! ولذا يقول اللّه : فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا في كل أعمالكم وأحوالكم الظاهرة والخفية ، وناصبوه العداء في سركم وجهركم ، واعلموا أن لوسوسة الشيطان علامة ، ولإلهام الملك علامة ،
عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « للشّيطان لمّة وللملك لمّة - خطرة - تقع في القلب ، فأمّا لمّة الشّيطان فإيعاد بالشّر وتكذيب بالحقّ وأمّا لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحقّ ..
الحديث » ، وهو مروى عن عبد اللّه بن مسعود.
احذروا الشيطان ، ولا تتبعوا خطواته فإنه إنما يدعو حزبه وأتباعه ليوردهم موارد الهلكة ، وليوقعهم في حبائله التي تقذف بهم في نار جهنم يتلظون بسعيرها وما لكم لا تسرعون في البعد عن حزب الشيطان والدخول في حزب الرحمن والقرآن ؟ !.
إن الذين كفروا واتبعوا الشيطان لهم عذاب شديد ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك حزب اللّه لهم مغفرة ورزق كريم ، وأجر كبير ، ولما ذكر الفريقين الكافر والمؤمن قال لنبيه : أفمن زين له عمله السّيئ فرآه عند نفسه حسنا وصوابا كمن لم يزين له السوء بل اهتدى واتبع الحق ؟ ! وكأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : لا. فقال اللّه : فإن اللّه يضل من يشاء ويهدى من يشاء على معنى هذا الذي عمل السوء حتى أظلم قلبه وفرغ من خشية اللّه حتى أصبح عنده القبيح حسنا والحسن قبيحا ، هذا الصنف لا يعبأ به اللّه يخذله ويتركه ، ومن تاب فاللّه يهديه ويوفقه ويساعده على ذلك.(3/155)
ج 3 ، ص : 156
وإذا كان اللّه يعامل الذي يتبع الشيطان والهوى هكذا فعليه أيها الرسول ألا تهتم بأمرهم ، وألا تعنى بشأنهم ، وألا تحزن من أجلهم ، وألا تتحسر عليهم حتى تذهب نفسك وتهلكها عليهم متحسرا على عدم إيمانهم وطاعتهم .. إن اللّه عليم بما يصنعون وسيجازيهم على ذلك كله يوم القيامة.
وهاك دليلا حسيا على إمكان البعث وأنه تحت قدرة اللّه : واللّه الذي يرسل الرياح فتثير سحابا وتحركه فيتحرك إلى حيث شاء اللّه ، أى : فساقه اللّه إلى بلد ميت لا نبات به ولا زرع فأحيا اللّه به تكل الأرض حتى أصبحت ذات زرع وشجر بعد أن كانت قاعا صفصفا ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، أى : صحراء جرداء لا شيء فيها ، مثل ذلك - أى : إحياء الأرض بالخضر بعد موتها - نشر الأموات وإحياؤها للبعث والثواب والعقاب.
عن أبى رزين العقيلي قال : قلت : يا رسول اللّه : كيف يحيى اللّه الموتى ؟ وما آية ذلك في خلقه ؟ قال : « أما مررت بوادي أهلك ممحلا ثمّ مررت به يهتزّ خضرا ؟ » قال : نعم يا رسول اللّه : قال : « فكذلك يحيى اللّه الموتى وتلك آيته في خلقه » .
كان المشركون يعبدون الأصنام يطلبون بها العزة وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا [سورة مريم آية 81].
فبين اللّه أن العزة للّه ولأوليائه ، ومن كان يريد العزة فللّه العزة جميعا ، من كان يريد العزة والجاه فليطلبهما عند اللّه فإنهما لله وحده ولرسوله وللمؤمنين.
العزة - أيها الناس - للّه ولرسوله وللمؤمنين ، وليست لمصر أو الشام أو غير هما ؟
العزة للّه يعز بها من يشاء ويذل بها من يشاء ، فمن أراد عز الدارين فليطع اللّه العزيز الحكيم.
ثم بين اللّه أن ما يطلب به العزة في الدنيا والآخرة هو الإيمان والعمل الصالح ، إليه يصعد الكلم الطيب ، وصعوده : قبوله وعلمه والمجازاة عليه : والكلم الطيب : كل كلام يتصف بأنه طيب كذكر اللّه والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتعليم الخير والحث عليه ، وتعليم النافع في الدنيا والآخرة.(3/156)
ج 3 ، ص : 157
والعمل الصالح اللّه يرفعه ويثيب عليه. ويجازى صاحبه بالخير والحسنى والذين يمكرون المكرات السيئات ، ويحتالون الحيل التي لا تخفى على علام الغيوب لهم عذاب شديد ، ومكرهم بائر وهالك ، ولا خير فيه ، فإن الناقد بصير وخبير.
الآيات الدالة على قدرة اللّه وإمكان البعث [سورة فاطر (35) : الآيات 11 الى 14]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)(3/157)
ج 3 ، ص : 158
المفردات :
وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ أى : يزداد في عمره فُراتٌ : شديد العذوبة ، يقال : فرت الماء فروتة : عذب أُجاجٌ : شديد الملوحة ، يقال : أج الماء أجوجا :
إذا اشتدت ملوحته حِلْيَةً : ما يتحلى به من سوار أو خاتم مَواخِرَ : تمخر الماء ، أى : تشقه شقاّ في إقبالها وإدبارها قِطْمِيرٍ : هو لفافة النواة ، أى : القشرة الرقيقة التي تكون على النواة.
وهذا دليل آخر على قدرة اللّه وفضله ونعمه علينا ، وهذا مما يجعل البعث أمرا ممكنا من صاحب هذه القدرة.
المعنى :
واللّه خلقكم يا بنى آدم من تراب خلق أباكم منه ، ثم خلقكم أنتم من نطفة من ظهور آبائكم ، ثم جعلكم أزواجا وأصنافا وأشكالا متباينة لا يكاد يتفق إنسان مع أخيه ، أليس في هذا دليل قاطع على إمكان البعث ؟ فإنهم كانوا يفهمون إحالته لبعد ما بين الحياة والموت ، فبعد أن نكون ترابا كيف تعاد لنا الحياة ؟ وبين التراب البارد المتفرق ، والحياة وما فيها من حرارة وتجمع بون شاسع ، ولذا يرد اللّه عليهم بأنه لا غرابة في ذلك ، فقد خلق آدم - وهو إنسان حي - من تراب وبينهما بون شاسع : وخلقناه من نطفة ، وهل بين الذرة من منى الرجل والمرأة ، وبين الإنسان منا الذي يعقل ويسمع ويتحرك ويمشى بون شاسع أم لا ؟ ! وإذا كان الأصل واحدا فما هذا الاختلاف في الشكل واللون والخلقة والطبيعة والعادة في كل شي ء ؟ أليس هذا دليلا على القدرة ، وعلى إمكان إعادة الخلق يوم القيامة للحساب ؟
ولا يدورن بخلدك أن جمع الأجزاء المتفرقة غير ممكن لاستحالة الإحاطة بالجزئيات التي تفرقت في التراب أو في جوف المياه أو بطون السمك والسباع ، لا تظن هذا ..
فالذي يجمعها هو الذي يعلم الغيب والشهادة ، وهو اللّه الذي يعلم ما تحمل كل أنثى ، وما تغيض الأرحام وما تزداد ، وكل شيء عنده بمقدار ، وما تحمل كل أنثى ، ولا تضع(3/158)
ج 3 ، ص : 159
إلا بعلمه ، وإن من يعلم تركيب الجهاز التناسلى ، وعملية الحمل والوضع ، وكيف يتم ذلك ، يعرف حقا القدرة الإلهية والعلم الشامل الذي لا يحيط به إلا هو ، ولا يعمر من شخص معمر ، ولا ينقص من آخر إلا في كتاب ، فليست زيادة الأعمار أو نقصها أمورا مرتجلة تخضع لحوادث الكون لا : بل كل شيء عند ربك بمقدار. حقيقة من أراد أن يبسط له في رزقه ، وينسأ له في أجله فليصل رحمه - كما نطق بذلك الحديث الشريف - فهذا محمول على زيادة البركة في العمر ، وإلا فالقرآن صريح في قوله :
فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [سورة الأعراف آية 34].
إن كتابة الآجال وتثبيت الأعمار ، وتدوين كل ما هو كائن على اللّه يسير ، وبه جدير.
وانظروا إلى المياه التي حولكم : هذا عذب شديد العذوبة سائغ شرابه سهل تناوله يزيل العطش أو يجلب الري ويمنع الظمأ ، وبجواره مياه ملحة شديدة الملوحة لا يستساغ شربها ، وإن كانت هي أصل المياه العذبة فهل تصدق أن جميع المياه العذبة أصلها ماء البحر الملح ؟ وما ذلك على اللّه بعزيز ، لا يستوي البحران أبدا ، هذا ملح أجاج ، وهذا عذب فرات ، ومن كل واحد منهما تأكلون لحما طريا ، وتستخرجون من البحر الملح حلية تلبسونها يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ « 1 » وترى الفلك الموقرة بالأحمال الثقال في البحار تمخر العباب جيئة وذهابا ، سخر ذلك لكم لتبتغوا من فضل اللّه عليكم بالتجارة والانتقال ، ولتشكروا ربكم الذي سخر لكم البحر بقدرته.
أليس في العذوبة والملوحة مفارقات ؟ وفي الحلي التي تخرج من البحار والسمك الذي يعيش في جوفه مفارقات. أليس في جرى السفينة على الماء ، ولا ترسب في قاعه مفارقات ؟ ولكنها القدرة فلا تنكروا البعث لأن فيه مفارقات.
هو اللّه الذي يولج الليل في زمن النهار : ويدخل النهار في زمن الليل إن هذا بلا شك لعجيب! وهو الذي سخر الشمس والقمر ، كل يجرى لأجل مسمى عنده ذلكم اللّه صاحب القوى والقدر ، والعالم بكل ما غاب وما حضر ، والمتفضل بكل نعمة ما عظم منها وما صغر ، ذلكم اللّه ربكم وحده له الملك ، وإليه وحده الأمر ، فاعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا ، وآمنوا به وبرسله وباليوم الآخر.
___________
(1) - سورة الرحمن آية 22.(3/159)
ج 3 ، ص : 160
وأما الذين تدعونهم من دون اللّه فأولئك لا يملكون شيئا مهما صغر ، فهم لا يملكون نقيرا ولا قطميرا ، ولا صغيرا ولا حقيرا.
إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ، وكيف يسمعون وهم أصنام وأحجار ؟ ولو سمعوا فرضا ، ما استجابوا لكم! ويوم القيامة يوم الفزع الأكبر يكفرون بشرككم ، ويتخلصون منكم ، انظروا إلى قول الحق مخبرا عن عيسى بن مريم : ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [سورة المائدة آية 117] ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [سورة المائدة آية 116].
ولا ينبئك عن هذا كله مثل خبير ، وهو اللّه - سبحانه - فهو العالم بخلقه أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ؟ [سورة الملك آية 14] والمراد تحقيق وتأكيد ما أخبر به عن آلهتهم ونفى ما يدعون لها من الألوهية.
وعظ وإرشاد [سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 26]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19)
وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)(3/160)
ج 3 ، ص : 161
المفردات :
الْفُقَراءُ : المحتاجون وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ المراد : لا تحمل نفس وازرة ، أى :
آثمة وِزْرَ أُخْرى : حمل أخرى تَزَكَّى : تطهر أُمَّةٍ : الأمة الجماعة الكثيرة وَبِالزُّبُرِ : الكتب المكتوبة نَكِيرِ أى : عقابي على أعمالهم.
المعنى :
يا أيها الناس : أنتم الفقراء المحتاجون إلى اللّه في كل أموركم الظاهرة والخفية ، وكل الخلائق محتاجة إليه ، إلا أن حاجة الإنسان إلى اللّه أكثر ، فكأنه قال : أنتم وحدكم الفقراء (مع عدم الاعتداد بحاجة غيرهم) واللّه وحده هو الغنى عن الكل فليس في حاجة إلى عبادة العباد. ولا تضره معصيتهم ، وهو الغنى المحمود في الأرض والسماء ، أى :
الغنى النافع بغناه الرحمن الرحيم بخلقه.
أيها الناس : اعلموا أن اللّه على كل شيء قدير ، إن يشأ يذهبكم ويستبدل قوما غيركم أطوع منكم وأزكى ، يذهبكم ، ويأت بخلق جديد ، وما ذلك على اللّه بعزيز فإنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
واعلموا أنه لا تزر وازرة وزر أخرى ، ولا تحمل نفس وازرة حمل نفس أخرى : بل كل نفس بما كسبت مرهونة ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأن سعيه سوف يرى ، ثم يجزاه الجزاء الأوفى ، فكل نفس لا تستطيع أبدا حمل أى ذنب عن أخرى مهما كانت.(3/161)
ج 3 ، ص : 162
وإن تدع نفس مثقلة بحملها نفسا أخرى لتحمل عنها لا يحمل منه شيء أبدا ولو كان الإنسان المدعو ذا قربى.
روى أن الرجل يأتى إلى أبيه يوم القيامة فيقول : ألم أكن بك بارا ، وعليك مشفقا وإليك محسنا ، وأنت ترى ما أنا فيه فهب لي حسنة من حسناتك أو احمل عنى سيئة فيقول : إن الذي سألتنى يسير ، ولكن أخاف مثل ما تخاف وإن الأب ليقول لابنه مثل ذلك فيرد عليه نحو هذا الرد.
روى أن امرأة تلقى ولدها فتقول : يا ولدي ألم يكن بطني لك وعاء ، ألم يكن حجري لك وطاء ؟ فيقول : بلى يا أماه! فتقول : يا بنى قد أثقلتنى ذنوبي فاحمل عنى ذنبا واحدا فيقول : إليك عنى يا أماه فإنى بذنبي عنك مشغول.
وأما أنت يا محمد فإنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب .. نعم إنك لا تنذر إلا هؤلاء أما غيرهم فقلوبهم في أكنة مما تدعو إليه فلا تلق بالا لهم. إنما يهتدى بك ويسمع لك الذين يخشون ربهم بالغيب ، وهم الذين يؤمنون بالغيب ، فالناس نوعان : نوع يؤمن بأن هناك إلها له قدرة ، هذه القدرة هي اليد المحركة لهذا الكون وهذا الصنف قلبه مفتوح لقبول رسالات الرسل ، وهناك صنف مادى لا يؤمن إلا بالمادة فلا يؤمن بالقوة الغيبية ، القوة الإلهية ، وهذا لا يمكن أن ينتفع بإنذارك.
إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب ، ويقيمون الصلاة ، ويؤدون الزكاة ، ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه ففائدة زكاته عائدة عليه ، وإلى اللّه المصير.
وهل يستوي المؤمن والكافر ؟ ! أظن لا يستويان أبدا ، وكيف يستويان ؟ وما يستوي الأعمى والبصير ، ولا تستوي الظلمات ولا النور ، ولا يستوي الظل ولا الحرور ، وما يستوي الأحياء ولا الأموات ، فالمؤمن حي حياة سعيدة ، والكافر ميت القلب والضمير يعيش كالحيوان ، فحياته غير معترف بها.
إن اللّه يسمع من يشاء فهو الذي علم ما فيهم من خير فوفقهم له ، وعلم ما في غيرهم من شر فخذلهم عن الحق ، وأما أنت فخفى عليك حالهم ، ولذا تطمع فيهم وما أنت بمسمع الأموات الذين عطلوا حواس قلوبهم حتى كأنهم أموات في القبور بل أشد ، ولا عليك شيء بسببهم ، إن أنت إلا نذير ، وما أرسلك ربك إلا بالحق حالة كونك مبشرا بالجنة ومنذرا بالنار ، وما من أمة إلا مضى فيها نذير من الأنبياء ينذرها.(3/162)
ج 3 ، ص : 163
وإن يكذبوك فلا تحزن فقد كذبت رسلي من قبلك ، كذبتهم أممهم حينما جاءوهم بالبينات ، وبالكتب المكتوبة ؟ وبالكتاب المنير الذي ينير لهم الطريق كالتوراة والإنجيل والزبور ، ثم لما كذبوا أخذتهم أخذ عزيز مقتدر ، فانظر كيف كان عقابي ؟
الناس مختلفون في خشية اللّه وأخشاهم للّه أعلمهم به [سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 30]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
المفردات :
جُدَدٌ : جمع جدة. وهي الطرائق المختلفة الألوان وَغَرابِيبُ سُودٌ أصل اللفظ : وسود غرابيب ، والعرب تقول للشديد السواد : لونه كلون الغراب. أسود غريب لَنْ تَبُورَ : لن تفنى ولن تضيع.
وهذا كلام مسوق لتقرير ما مضى من اختلاف أحوال الناس ببيان أن الاختلاف أمر عام ، وحقيقة مطردة في كل زمان ومكان.(3/163)
ج 3 ، ص : 164
المعنى :
أنزل اللّه من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ، وانتفع بالماء من أراد اللّه له الخير.
وكل على قدر طاقته ، وهكذا كانت الشرائع أشبه شيء بالماء فالماء يحيى موات الأرض ، ويزيل الضمأ والصدى ، والدين يحيى موات القلوب ويزيل ظمأها وصداها ، والناس معه مختلفون اختلافا بينا ، وما أدق التعبير القرآنى حين يتكلم على الدين واختلاف الناس فيه فيقدم له بالكلام على نظيره وشبيهه وهو الماء.
ألم تر وتعلم أن اللّه - سبحانه - أنزل من السماء ماء ، فأخرجنا من الأرض ثمرات مختلفا ألوانها فهذا رمان وذاك تفاح ، والصنف الواحد مختلف ألوانه فهذا أصفر فاقع ، وذاك أبيض ناصع ، وهذا أحمر قان. ألم تر إلى البرتقال واختلاف شكله ولونه وطعمه وحجمه ، وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل ، انظر إلى السر في قوله :
فأخرجنا : وكان الظاهر أن يقال : فأخرج كما قال : أنزل من السماء ماء. ولعل هذا الالتفات والانتقال من أسلوب الغيبة إلى أسلوب التكلم في قوله : فأخرجنا لأن المنة بإخراج الثمرات مختلفة أبلغ من إنزال الماء وأظهر وأدل على كمال القدرة ، وشبيه بهذا تماما قوله تعالى فيما مضى في آية 9 : وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ ومن الجبال ما هو ذو طرائق مختلفة في الألوان مع أن الجبل كله من تراب أو صخر فمن الذي غير الألوان ؟ منها ما هو أبيض ناصع وأحمر قان ، وأصفر فاقع ، وأسود قاتم ، وسود غرابيب ، فهذه ألوان مختلفة.
ومن الناس والدواب والأنعام صنف مختلف ألوانه اختلافا كثيرا في أصل الصفة ومقدارها ، مثل ذلك الاختلاف الذي رأيناه ، وكذا فيما يخرج من الأرض مع أن الماء واحد ، واختلاف الناس في خشية اللّه مع أن اللّه أنزل الدين عاما للجميع وطالب به الكل على السواء.
إنما يخشى اللّه من عباده العلماء ، فهم أحق الناس بخشية اللّه لأنهم أعرف الناس به وبقدرته وعظمته ، وهم أعرف الناس بيوم القيامة وما فيه ، ولذا كان من أوائل الناس عذابا يوم القيامة العلماء الذين لم يعملوا بما علموا.(3/164)
ج 3 ، ص : 165
ومن هم العلماء ؟ قال ابن عباس : الذين علموا أن اللّه على كل شيء قدير ، وفي
الحديث : « أعلمكم باللّه أشدكم خشية له »
وقال رجل للشعبى : أفتنى أيها العالم.
فقال : العالم من خشي اللّه .. ثم ختم الآية بقوله : إن اللّه عزيز غفور ، وهذا مما يدعو إلى الخشية ، إذ العزة تقتضي عقوبة العصاة وقهرهم ، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم والمعاقب والمثاب حقه أن يخشى اللّه.
ولم يتركنا القرآن نبحث عن العلماء فقد قال : هم الذين يتلون كتاب اللّه ، ويقيمون الصلاة ، وينفقون مما رزقناهم سرا وعلانية راجين من اللّه حسن المثوبة وكمال الأجر ، وزيادة الفضل.
فالعلماء هم الذين يتلون كتاب اللّه ويتدارسونه ، ويعلمونه ، ويعملون بما فيه خاصة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ويقيمون صلاتهم بالخشوع والخضوع ويؤدون زكاتهم وصدقتهم سرا ما استطاعوا وجهرا إذا دعت الظروف إلى ذلك ، وهم المخلصون في أعمالهم وأقوالهم لا يرجون من غير اللّه ثوابا. ولا يفعلون ذلك رياء ، وإنما يرجون من اللّه تجارة لن تضيع ، وثوابا لن يذهب ، طالبين من اللّه زيادة الثواب والفضل ، وهو الغفور للسيئات الشكور على قليل الأفعال ، الذي يثيب على العمل القليل جزيل الثواب.
فكل من توافرت فيهم هذه الأوصاف فهم العلماء العاملون ، نسأل اللّه أن نكون منهم.
القرآن والمؤمنون به والكافرون [سورة فاطر (35) : الآيات 31 الى 38]
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38)(3/165)
ج 3 ، ص : 166
المفردات :
أَوْرَثْنَا الْكِتابَ : أعطيناه بلا تعب ولا مشقة كما يعطى الميراث اصْطَفَيْنا : اخترنا ، واشتقاقه من الصفو وهو الخلوص من شوائب الكدر ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الظلم تجاوز الحد مُقْتَصِدٌ : متوسط سابِقٌ بِالْخَيْراتِ : سبق غيره وبزه بعمل الخير أَساوِرَ : وهي حلية تلبس في اليد كَفُورٍ : كثير الكفر يَصْطَرِخُونَ : يستغيثون في النار بصوت عال ، والصراخ الصوت العالي ، والصارخ : المستغيث ، والمصرخ : المغيث نُعَمِّرْكُمْ : نجعلكم تعمرون وقتا.(3/166)
ج 3 ، ص : 167
المعنى :
الذي أوحينا إليك من القرآن هو الحق لا شك فيه ولا مرية ، حالة كونه مصدقا لما بين يديه من الكتب ، ومهيمنا عليه ، واللّه هو الذي وضعه هذا الوضع ، وأنزله على خاتم رسله محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لأن الحكمة والعدل يقتضيان ذلك واللّه بعباده خبير بصير.
أوحينا إليك الكتاب ثم أورثناه الذين اصطفينا دينهم واخترناهم من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ، ومنهم سابق بالخيرات بإذن اللّه.
إلا أن هذه الآية فيها مشكل لم يخف على الصحابة والتابعين ، ولا على المفسرين وذلك أن قوله : ظالم لنفسه مع قوله : اصطفينا ، وقوله بعده : جنات عدن يدخلونها مشكل ، إذ كيف يكون ظالما لنفسه مع أنه من المصطفين ؟ ! وكيف يدخل في قوله تعالى : جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ؟ ولقد تعرض لهذا الإشكال العلامة القرطبي في تفسيره ، وذكر عددا من الأقوال فروى عن عمر ، وعثمان ، وأبى الدرداء وابن مسعود ، وعقبة بن عامر ، وعائشة وخلاصته : أن الظالم لنفسه مؤمن عمل الصغار والمقتصد مؤمن أعطى الدنيا حقها والآخرة حقها ، ويكون قوله : جنات عدن يدخلونها تشمل الأصناف الثلاثة.
ومما يؤيد هذا قول كعب الأحبار : استوت مناكبهم - ورب الكعبة - وتفاضلوا بأعمالهم ، وما
روى أسامة بن زيد أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ هذه الآية وقال : « كلّهم في الجنّة »
، وما
روى عن عمر بن الخطاب أنه قرأها ثم قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :
« سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له » .
وعلى هذا القول يقدر مفعول اصطفينا - كما قلنا أولا - اصطفينا دينهم ، فالاصطفاء موجه إلى دينهم لا إلى أشخاصهم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ وخلاصة الآراء الأخرى : أن الظالم كافر أو فاسق أو مرتكب للكبيرة ، وهو لا يدخل الجنة ، والرأى الأول على ما أظن أحسن لأن الكافر والمنافق والفاسق لم يصطفوا ، وكفاه فخرا أنه رأى ستة من كبار الصحابة. ذلك أن إيتاء الكتاب لهم هو الفضل الكبير ، وأى فضل أكبر من هذا ؟ جنات عدن يدخلونها مقيمين فيها إلى ما شاء اللّه يحلون فيها بعض أساور من ذهب ويحلون فيها لؤلؤا ، ولباسهم فيها حرير ، ولا شك أن نعيم الجنة فوق هذا بكثير ،(3/167)
ج 3 ، ص : 168
ولكنه تقريب لأذهاننا وإدراكنا وقالوا : الحمد للّه على نعمه ، الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن الذي كان يساورنا من خشية اللّه والإشفاق من عذابه إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ.
إن ربنا لغفور للسيئات شكور على فعل الطاعات ، الذي أحلنا دار الإقامة من عطائه وأفضاله ، لا يمسنا فيها نصب ، أى : تعب ، ولا يمسنا فيها لغوب ، أى : إعياء واسترخاء.
هؤلاء هم المؤمنون بالقرآن ، وهم حزب الرحمن ، أما حزب الشيطان الكافرون بالقرآن فها هم أولاء : والذين كفروا لهم نار جهنم خالدين فيها أبدا لا يقضى عليهم بالموت فيموتوا ليستريحوا ، بل كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ، ولا يخفف عنهم من عذابها أبدا ، مثل ذلك الجزاء نجزى كل كفور باللّه ورسوله ، وهم يصرخون فيها ، ويستغيثون منها بأصوات عالية قائلين : ربنا أخرجنا منها وأرجعنا إلى الدنيا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل ، فيقال لهم : اخسئوا فيها ولا تكلمون أو لم نعمركم وقتا كافيا يتذكر فيه من يريد التذكر ؟ وجاءتكم النذر : من الكتاب والرسول ونذر الشيب والموت فلم تتعظوا أبدا بشيء وغرتكم الدنيا وغركم باللّه الغرور.
فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ، وذوقوا فما للظالمين من نصير ، وهل يجابون إلى طلبهم بالرجوع إلى الدنيا ؟ ! لا فلو رجعوا لعادوا لأفظع مما عملوا ، وربك يعلم غيب السماء والأرض ، وهو عليم بذات الصدور.
نقاش المشركين [سورة فاطر (35) : الآيات 39 الى 41]
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)(3/168)
ج 3 ، ص : 169
المفردات :
خَلائِفَ : جمع خليفة مَقْتاً : غضبا شديدا شِرْكٌ : شركة غُرُوراً : باطلا تَزُولا : من الزوال ، أى : يمنعهما منه.
المعنى :
وهذا نقاش لهم بتعداد نعم اللّه عليهم وعلى الناس جميعا ، وبيان كمال قدرته ، مع تسليط الأضواء الكاشفة على آلهتهم وأصنامهم لنعرف أثرها وحقيقتها.
هو الذي جعلكم خلائف في الأرض يخلف بعضكم بعضا ، أنتم خلائف للّه في أرضه إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً « 1 » وهذا الوضع يقتضى منكم أن تتذكروا أنكم مفارقون لهذه الدنيا ، فلا تغتروا بها ، ولتنظروا إلى أنفسكم ، وأنتم خلفاء للّه فلا تتخذوا معه شركاء لا يمتون لكم بصلة شريفة.
وأنتم خلفاء في أرضى ولقد حكمت أن من يكفر فعليه وزر كفره ، فمن كفر من الناس فعليه وبال كفره ، ولا يزيد الكافرين كفرهم عند اللّه إلا مقتا وغضبا شديدا ولا يزيدهم إلا خسارا في الآخرة وعذابا أليما.
يا عجبا لكم! قل يا محمد تبكيتا وتأنيبا : أخبرونى عن شركائكم الذين تدعون من دون اللّه ، ماذا خلقوا من الأرض ؟ بل ألهم شركة في خلق السماء ؟ بل أآتيناهم كتابا يشهد لهم بذلك ؟ فهو حجة في أيديهم بأنهم شركاء في خلق أى شيء .. لا شيء من هذا
___________
(1) - سورة البقرة آية 30.(3/169)
ج 3 ، ص : 170
أبدا .. وفائدة هذا الكلام توجيه الأنظار لهم ، ولفت العقول إلى باطلهم لعلكم تتفكرون! بل ما يعد الظالمون من رؤسائهم وقادتهم وشياطينهم ما يعد الظالمون غيرهم من أتباعهم ، فهم ظالمون أيضا لأنفسهم ، ما يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا بقولهم :
لا بعث ولا حساب ، وإن كان فالآلهة تشفع لنا وسترد عنكم العذاب ، ونحن سادة في الدنيا فسنكون كذلك في الآخرة ، أليس هذا كله غرورا في غرور ؟
وكيف يكون شيء من هذا ؟ وللّه الأمر وحده من قبل ومن بعد ، وهو الذي رفع السماء وبسط الأرض ، ويمنعها من السقوط والزوال إلى الأبد ، ولئن حكم عليها بالزوال فما أحد من الموجودين بقادر على إمساكهما ومنعهما من الزوال ، إنه كان حليما بخلقه غفورا لسيئاتهم.
فانظروا أيها المشركون أين أنتم ؟
حقيقة هؤلاء المشركين [سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 45]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)(3/170)
ج 3 ، ص : 171
المفردات :
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ : طاقتها وغايتها نُفُوراً : إعراضا وتباعدا عن الهدى يَحِيقُ : يحيط يَنْظُرُونَ : ينتظرون لِيُعْجِزَهُ : ليسبقه ويفوته.
بلغ قريشا قبل مبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم ، فقالوا : لعن اللّه اليهود والنصارى أتتهم رسلهم فكذبوهم ، فو اللّه لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم ، فلما بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كذبوه.
المعنى :
وأقسموا باللّه جاهدين بالغين طاقة جهدهم ، وغاية أيمانهم ، وذلك لأنهم كانوا يحلفون بآبائهم وأصنامهم ، فإذا اشتد عليهم الحال ، وأرادوا تحقيق الحق حلفوا وأقسموا باللّه جهد أيمانهم وطاقتها ، لئن جاءهم نذير من أنفسهم ، ونبي من العرب - وكانوا يتمنون ذلك لأن الأنبياء كانت من بنى إسرائيل - ليكونن أهدى من كل الأمم ، وليؤمننّ به مسرعين.
فلما جاءهم نذير من العرب ، ورسول من أشرف قبائلهم ما زادهم النذير إلا نفورا وإعراضا عن الحق الذي جاء ، حالة كونهم مستكبرين في الأرض وحاسدين وباغين ، وماكرين مكر السوء على الضعاف والأتباع وحرصا على دنيا كاذبة ، وعرض زائل ولا يحيق المكر السيّئ إلا بأهله ، وقد وقعوا في شر أعمالهم ، وباءوا بالخسران المبين في الدنيا والآخرة.(3/171)
ج 3 ، ص : 172
فهل ينتظرون بأعمالهم إلا سنة الأولين ، وسنة اللّه فيهم العذاب لتكذيب رسلهم بعد سوق الآيات الناطقة بصدقهم ، فكفار مكة لا ينتظرون بعد تكذيبهم النبي إلا العذاب كما نزل بمن سبقهم من الكفار ، وتلك سنة اللّه ولن تجد لسنة اللّه تبديلا ، ولا تحويلا.
أقعدوا ولم يسيروا في الأرض فينظروا حين ينتقلون إلى الشام والعراق واليمن كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ممن كذب رسله واتبع نفسه وهواه ؟ وقد كانوا أشد منهم قوة ، وأكثر أموالا وأولادا ، فما أغنت عنهم في شيء ، وما كان اللّه ليعجزه شيء في السموات ولا في الأرض ، وكيف يعجزه أحد ، وهو الخالق البارئ العالم المحيط بكل شيء.
وانظر إلى تذييل الآية وختامها بقوله : إنه عليم قدير.
وبعد هذا يبين اللّه أنه الرحمن الرحيم بخلقه وهو الغفور الستار بعباده ، ولو يؤاخذ اللّه الناس بما كسبوا من المعاصي ما ترك على ظهر الأرض من دابة انتقاما وجزاء لما يصنعون ، ولكن اقتضت الحكمة الإلهية والرحمة الربانية أن يؤخرهم إلى أجل مسمى عنده هو أعلم به ، إكراما للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وتشريفا له ولأمته ، ولعلهم يتوبون ، ويثوبون إلى رشدهم ، فإذا جاء أجلهم لا ستأخرون ساعة ولا يستقدمون بل سيفارقون الدنيا ، ويحاسبون على أعمالهم إن كانت خيرا فخير ، وإن كانت شرا فجزاؤهم شر ، ولا غرابة فإن اللّه كان بعباده خبيرا بصيرا. فبادروا أيها الناس بالتوبة والرجوع إلى اللّه وأسرعوا فأنتم لا تدرون انتهاء الأجل ، فربّ ليلة نبيتها لا نصبح معها ، بل ربّ نفس خرج لا يعود ، ولا تقنطوا من رحمة اللّه إن اللّه يغفر الذنوب جميعا ، إنه هو الغفور الرحيم ، وهو بالعباد خبير بصير.(3/172)
ج 3 ، ص : 173
سورة يس
وهي مكية بالإجماع كما حكى القرطبي ، وعدد آياتها ثلاث وثمانون آية ، وقد ذكر في فضلها أحاديث كثيرة ، واللّه أعلم بصحتها.
وهي كالسور المكية المفتتحة بأحرف هجائية تعرضت للقرآن الكريم والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وإثبات البعث ، ثم ضرب الأمثال ، وذكر القصص ، والتعرض للآيات الكونية ، ومناقشة الكفار في بعض عقائدهم وأفعالهم ، ثم ذكر صور لمشاهد يوم القيامة ، والتعرض لمبدأ التوحيد والبعث مع الاستدلال بالمشاهد المحسوسة على ذلك ، وتفنيد شبهة المشركين وقطع حججهم ، وكل هذه الموضوعات ترمى إلى فتح قلوب غلف ، وإحياء نفوس طال عليها الأمد حتى قست فأصبحت كالحجارة أو أشد.
موقف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مع قومه [سورة يس (36) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)(3/173)
ج 3 ، ص : 174
المفردات :
يس نقرأ هكذا : يأس بمد الياء وإدغام السين في الواو التي بعدها ، وقرأ بعضهم ياسين بإظهار النون ساكنة ، وبعضهم أظهر حركة النون بالضم أو بالفتح أو بالكسر ، ولكل وجه تخريج في الحكم الإعرابى حَقَّ الْقَوْلُ ثبت فلا يبدل الْأَذْقانِ جمع ذقن ، وهي ملتقى الفكين الأسفلين مُقْمَحُونَ والمقمح : هو الذي يرفع رأسه ويغض بصره ، وفي القاموس : وأقمح الغل الأسير : ضاق على عنقه وترك رأسه مرفوعا وَآثارَهُمْ المراد : ما خلفوه وراءهم من خير أو شر.
ولا بد لذكر هذه الحروف من حكمة ، ولا بد لها من معنى ، وإن خفى علينا وستظل سرّا بين اللّه وبين رسوله ، فهي أشبه شيء بالشفرة في عصرنا ، واللّه أعلم بمراده منها ، وقيل : إن هذا اسم من أسماء اللّه واسم من أسماء النبي ذكر قبل القسم تعظيما له ، وقيل غير ذلك.
المعنى :
أقسم الحق تبارك وتعالى بالقرآن المحكم الآيات الكامل المعجزات بأنك يا محمد لمن المرسلين على صراط مستقيم لا عوج فيه وهو الإسلام ، وهو طريق الأنبياء من قبلك ..
وليس القسم بالقرآن قد ذكر عرضا من غير قصد ، لا. بل الظاهر - واللّه أعلم - أنه لفت لأنظارنا إذ هو المعجزة الباقية ، والدليل الأول على أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم صادق في دعواه ، وأنه رسول من عند مولاه.
هذا القرآن نزل تنزيل العزيز في ملكه الرحيم بخلقه ، وفي هذا إشارة إلى مكانة القرآن وأنه أجل نعمة من نعم الرحمن ، أنزل عليك لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم(3/174)
ج 3 ، ص : 175
الأقربون - وإلا فآباؤهم الأقدمون قد أنذروا بإسماعيل - عليه السلام - فهم غافلون عن طريق الحق والنور.
لقد حق القول على أكثرهم وثبت ، إذ لا يبدل القول عند العزيز الحكيم ، وعلى ذلك فالمراد بالقول : الحكم والقضاء الأزلى ، تحقق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون ، ولكن لا بطريق الجبر والإلجاء ، بل باختيارهم وإصرارهم على الكفر والعناد ، وفي هذا تطمين للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وهذه الآية لتقرير الحكم السابق عليهم « 1 » بأنهم لا يؤمنون ، ولا تنفع معهم النذر بالآيات ، فالقرآن الكريم يريد أن يشبههم ويمثلهم حيث لم يؤمنوا ولم يذعنوا بمن غلت يده في عنقه فلم يستطع أن يتعاطى مقصودا للمعنى الحسى القائم به ، وهو الغل البالغ إلى الذقن الذي جعل صاحبه مقمحا ، أى : رافعا رأسه لا يستطيع أن يبصر تحت قدميه.
وقيل : إن الآية حقيقة وليس فيها (استعارة) وإنما هذا تصوير لهم يوم القيامة إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ [سورة غافر آية 71].
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وهذا تمثيل آخر لهم أنهم وقد سدت عليهم طرق الإيمان سدا إلهيا معنويا يشبهون من سدت عليهم الطرق سداّ حسيا فلم يصلوا إلى مطلوبهم ، والسد الذي بين أيديهم منعهم من قبول الشرائع في الدنيا ، والسد الذي خلفهم منعهم عن قبول البعث ، انظر إلى قوله تعالى : وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ [سورة فصلت آية 25] والمراد زينوا لهم الدنيا فاغتروا بها ، وزينوا لهم الآخرة فكذبوا بها.
وجعلنا من بين أيديهم سدا ، ومن خلفهم سدا فأعميناهم عن الحق فهم لا يبصرون وسواء عليهم إنذارك وعدمه - وهذا توبيخ لهم - فهم لا يؤمنون.
هذا شأن من ختم اللّه على قلبه ، وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد اللّه! وما ذاك إلا أنه صرف نفسه عن النظر الصحيح والرأى المجرد عن الهوى ، البعيد عن ضلال التقليد.
___________
(1) لذلك فصل بين الجملتين ، والفاء في قوله فهي إلى الأذقان! وفي قوله فهم مقمحون فاء النتيجة والعاقبة.(3/175)
ج 3 ، ص : 176
إنما ينتفع بإنذارك الذين يتبعون الذكر ، أى : القرآن ، ويخشون بالغيب الرحمن ، وعلى هذا فالآية تفيد أن المنتفع بالذكر طبقة خاصة ، وأما الإنذار العام فالنبي مكلف به سواء اتبعه فيه بعض الناس أم لا ، فلا تعارض بين الآية وعموم الرسالة وعموم الإنذار للجن والإنس.
حقا لا ينتفع بالإنذار إلا من طرق قلبه ذكر القرآن ، وخشي الرحمن بالغيب ، أما تلك القلوب المغلقة ، والنفوس الميتة التي لا تؤمن إلا بالمادة وأحوالها فلا يمكن أن ينتفعوا بالإنذار ، فبشر - كما أنذرت - من اتبعك وانتفع بك بمغفرة واسعة وجنة عرضها السموات والأرض ، وبأجر على ذلك كريم.
وإذا سأل سائل عن وقت تحقيق البشارة والنذارة ؟ فالجواب : إن ربك يحيى الموتى ليجازى الكل ، ويحقق ما وعده من البشارة وضدها ، واللّه يكتب ويحصى ما قدمه الناس وما أخروه من كافة الأعمال ، وهو يكتب آثارهم ، فآثار المرء التي تبقى وتذكر بعده من خير وشر يجازى عليها ، فالآثار الحسنة من علم ينتفع به ، أو تكوين جيل تغرس فيه معاني الإسلام غرسا صحيحا ، أو تأسيس بناء نافع كمسجد أو مستشفى ، أو عمل خيرى باق.
والآثار السيئة : كدعوة في كتاب أو مقالة تدعو إلى السوء وإلى التحلل في الأخلاق نرى من بعض كبار الكتاب في مصر يصفون لياليهم الحمراء العابثة ، وهم في موضع يقلدهم فيه الشباب المغرور بهم ، وكاختراع ألحان أو تأسيس ملاه أو عمل على نشر السوء بأى وسيلة من الوسائل العامة أو الخاصة ، تلك هي الآثار النافعة والآثار السيئة الضارة ، وكل شيء فعلوه في الزبر ، وكل صغير وكبير مستطر. وكل شيء من هذا كله أحصاه ربك في كتاب مبين ظاهر ، وسيجازى عليه.
قصة أصحاب القرية [سورة يس (36) : الآيات 13 الى 29]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29)(3/176)
ج 3 ، ص : 177
المفردات :
مَثَلًا : الصفة والحال الغربية التي تشبه في الغرابة المثل أَصْحابَ الْقَرْيَةِ قيل : هي إنطاكية فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ : فقوينا وأيدنا بثالث ، وفي قراءة فعززنا(3/177)
ج 3 ، ص : 178
بالتخفيف بمعنى غلبنا وقهرنا تَطَيَّرْنا : تشاءمنا بكم لَنَرْجُمَنَّكُمْ : لنقتلنكم رميا بالحجارة طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أى : حظكم وشؤمكم معكم وليس منا أَقْصَى الْمَدِينَةِ المراد من عند أقصى باب من أبواب المدينة فَطَرَنِي : خلقني على أحسن مثال مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ جند السماء : ملائكة الوحى أو ملائكة تنزل بالعذاب خامِدُونَ : ميتون وهامدون كالرماد الخامد.
المعنى :
اجعل يا محمد أصحاب القرية التي سيأتيك خبرها لهؤلاء مثلا في الغلو والعناد والكفر مع الإصرار على تكذيب الرسل ، والمراد : طبق حال مشركي مكة الغريبة بحال أصحاب تلك القرية إذ « 1 » جاءهم المرسلون ، حين أرسلناهم اثنين فلم يكن مجيئهم عن محض اختيارهم بل كان بإرسالنا إليهم فكذبوهما فقوينا الحق وأيدناه برسول ثالث ، فقالوا جميعا : إنا إليكم يا أهل القرية مرسلون.
وفي تعيين القرية وأسماء الثلاثة ذكر المفسرون كلاما كثيرا اللّه يعلم أنه لا يسند إلى سند متين ، ولكنه من الإسرائيليات. على أننا لا يهمنا معرفة نفس القرية ولا أشخاص الرسل ، ولكن المهم أن نعرف ماذا حصل ؟ وماذا كانت النتيجة ؟ والمفسرون يذكرون أن هؤلاء الرسل كانوا لعيسى ابن مريم فهم رسل رسول اللّه ، ولست أدرى ما الذي حملهم على هذا! ولم لا يكونون رسلا للّه سبحانه وتعالى ؟ لأنهم ساقوا في كلامهم أنهم أتوا بمعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه إلى آخر ما ذكره ، وهذا في ظني - واللّه أعلم - لا يكون إلا لنبي يدعى النبوة.
أرسلت الرسل ، وقالوا : إنا إليكم مرسلون .. فماذا قال أصحاب القرية ؟ قالوا :
لستم رسلا ولا يعقل أن تكونوا رسلا لأنكم بشر مثلنا فمن الذي فضلكم علينا ؟ وهل فيكم من غنى أوجاه أو قوة حتى تكونوا رسلا إلينا ؟ اعترضوا بهذا وما علموا أن اللّه يعلم حيث يجعل رسالته ، والرسول بشر من البشر علم اللّه أنه يتحمل مشقة الرسالة فأرسله للناس وهو العليم الخبير بخلقه ، فليست الرسالة تتنافى مع البشرية ، وليست المزية والأفضلية في الاختيار ترجع إلى الغنى أو القوة المادية ، وإنما مرجعها إلى نواح نفسية
___________
(1) إذ بدل من أصحاب القرية فهي منصوبة ، وإذ الثانية ظرف لقوله : جاءهم المرسلون حين أرسلناهم.(3/178)
ج 3 ، ص : 179
روحية اللّه أعلم بها ، ومن هنا نعرف أن اعتراضات الكفار قديما وحديثا واحدة.
وقالوا : ما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون كذبا متجددا حادثا كلما ادعيتم الرسالة ، وهذه شبهة ثانية لهم تتعلق بالحق تبارك وتعالى. والشبهة الأولى تتعلق بالمرسلين ، وخلاصة هذه الشبهة أن الكون أمامنا لم نر فيه أى دليل على أن الرحمن ينزل شيئا من عنده نيابة عنه ، ونحن لا نراكم إلا كاذبين ، فماذا قالت الرسل لهم ردّا على الاتهام ، وتفنيدا لتلك الشبهة ؟
قالت الرسل : ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون فنحن لا ندعى أننا رسل من يجهل الخلق أو هو عاجز في نفسه ، لا : بل نحن رسل الخبير البصير ، فلو أننا كاذبون لمحقنا ولأهلكنا فإن العاقل إذا علم أن هناك من يدعى أنه رسوله ووكيله كذبا وبهتانا لا يمكن أن يتركه بل يفعل معه ما يستطيع من بطلان هذه الدعوى ، وللّه المثل الأعلى ، وأنت ترى أنهم لم يسأموا بل كرروا ما ادعوه مؤكدا أكثر من الأول حيث صدروا دعواهم بقولهم : ربنا يعلم - وهذا كالقسم ثم التأكيد بإن واللام واسمية الجملة - كل ذلك لتأكيد دعواهم ، أو للرد على الكفار.
وما علينا شيء بعد إبلاغهم هذه الحقائق ، وفي ذلك إشارة رقيقة إلى دعواهم فإنهم لم يطلبوا أجرا ولا رئاسة ولا شيئا من حطام الدنيا ، وليس عليهم إلا البلاغ وعلى اللّه الحساب ، فتفكروا في أمركم أيها الكفار! فماذا كان بعد هذا ؟ .
قالوا لهم : إنا متشائمون بكم ، ومتطيرون ، ولقد مسنا سوء حينما ادعيتم هذه الدعاوى الكاذبة وأصررتم وحلفتم الأيمان عليها واليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع فنحن متشائمون بكم لئن لم تنتهوا عما تقولون لنرجمنكم بالقول الغليظ وليمسنكم منا عذاب بالضرب والقتل أليم وشديد.
وماذا كان من الرسل .. ؟ قالوا : لا تتشاءموا بنا ولا تتطيروا ، إنما طائركم معكم ، أى حظكم من خير أو شر معكم ولازم في أعناقكم ، وليس هو منا : أئن ذكرتم ووعظتم وخوفتم تطيرتم وكفرتم ؟ إن أمركم لعجيب!! .. بل أنتم قوم مسرفون متجاوزون الحدود في أعمالكم ، فبدل النظر السليم في دعوى الرسالة ، والبعد عن التقليد الأعمى ، وإطلاق العقول من ربقة الاستعباد الفكرى ، فبدل هذا تشاءمتم وتطيرتم وأسرفتم في الظلم والبهتان. واللّه إن أمركم لعجيب!!(3/179)
ج 3 ، ص : 180
هؤلاء الرسل قاموا بالرسالة وأدوا الأمانة فهل استجاب لهم أحد أم لا ؟ نعم قد استجاب لهم خلق ، وجاء من أقصى المدينة رجل كامل الرجولة يسعى سعيا حثيثا لإظهار الحق ، ونصرته ، ومحاربة الباطل ودولته : قال يا قومي ويا أهلى : اتبعوا هؤلاء المرسلين فإنهم صادقون في دعوى الرسالة ، اتبعوا من لا يسألكم أجرا ، ولا يطلب منكم مالا ، ولا يسعى إلى رئاسة أو غرض وهم مهتدون سائرون على الطريق الحق ، والمنهج القصد ، وهذا كاف في اتباع الرسل لو أنصف الناس .. وكأنهم ردوا عليه وقالوا له : أنت مؤمن بهم وبأنهم رسل اللّه ، وصدقتهم في عبادة إله واحد ؟ قال :
وما لي لا أعبد الذي خلقني وأبدعنى على تلك الصورة ؟ أى مانع عندي يمنعني من عبادة من فطرني وخلقني فسوانى في أحسن صورة ؟ وإليه وحده ترجع الخلائق يوم القيامة للثواب والعقاب ، وهكذا المنصف يعبد اللّه لأنه خلقه ، أو يعبده لأنه سيحاسبه. فهو يعبد رغبا أو رهبا.
أأتخذ من دونه آلهة لا تنفع ولا تشفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، إن أرادنى الرحمن بضر ، لا تدفع ضره ولا تغنى عنى شفاعتهم شيئا ، ولا هم ينقذوننى مما بي فلأى شيء يعبدون ؟ أليست العبادة تقديسا لمن يستحق التقديس ؟ ! إنى إذ أعبد حجرا أو مخلوقا لا ينفع ولا يضر إنى إذا لفي ضلال مبين.
اسمعوا يا قومي : إنى آمنت بربكم وربي فاسمعون.
قيل له : ادخل الجنة ، فهل قيل له بعد الموت ؟ أو بشر بهذا ممن لا يكذب فبنى على تلك البشارة ما يأتى ؟ وعلى الرأى الأول يكون ما يأتى حكاية لحاله يوم القيامة ، وعلى الثاني فكلامه في الدنيا سيق عبرة وعظة للناس يا ليت قومي يعلمون بغفران ربي لي حيث جعلني من المكرمين يوم القيامة بالثواب الجزيل والأجر العريض ، وهذا حال المؤمن المصدق لرسل اللّه.
أما حال من أشرك وكفر وكذب فعاقبته الخسران والضلال والهلاك ، اسمع إلى الحق تبارك وتعالى يقول وهو أصدق القائلين : وما أنزلنا على قوم هذا الرجل المؤمن بعد نجاته من جند من السماء ، وما كان ينبغي لنا أن ننزل فلسنا في حاجة إلى ذلك أبدا.
ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة فقط من جبريل فإذا هم بسرعة كسرعة البرق خامدون هامدون لا حراك ولا حرارة ولا حياة ، وسبحان اللّه الواحد القهار فاعتبروا يا أهل مكة إن كنتم من أولى الأبصار!!(3/180)
ج 3 ، ص : 181
بعض مظاهر قدرة اللّه تعالى [سورة يس (36) : الآيات 30 الى 44]
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)
لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44)(3/181)
ج 3 ، ص : 182
المفردات :
يا حَسْرَةً الحسرة : أن يلحق الإنسان من الندم ما به يصير حسيرا الْمَيْتَةُ :
التي لا نبات فيها جَنَّاتٍ : بساتين من شجر النخيل والأعناب وَفَجَّرْنا :
شققنا وأنبعنا فيها عيونا كثيرة سُبْحانَ : تنزيها للّه عما لا يليق به الْأَزْواجَ :
الأصناف والأنواع المختلفة نَسْلَخُ : نفصل منه النهار ونزيله عنه قَدَّرْناهُ مَنازِلَ الأصل : قدرنا له منازل ، ثم حذفت اللام فقيل : قدرناه منازل ، المراد :
جعلنا له منازل ، والمنازل : جمع منزل ، والمراد به المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة ، وهي في حسابهم 27 منزلا كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ العرجون : عود العذق - القنو - ما بين الشماريخ إلى منبته من النخلة فِي فَلَكٍ والفلك : هو المدار الذي يدور فيه الكوكب سمى به لاستدارته كفلكة المغزل يَسْبَحُونَ : يسيرون بانبساط وسهولة الْمَشْحُونِ : المملوء فَلا صَرِيخَ : فلا مغيث.
المعنى :
وما أنزل ربك - القادر على كل شيء - على قوم الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة يسعى من بعد موته ، ما أنزل عند إهلاكهم جندا من السماء ؟ وما احتاج الأمر إلى شيء من ذلك فبأى شيء كان إهلاكهم ؟ ما كانت إلا صيحة واحدة من جبريل فإذا هم بعدها مباشرة خامدون وميتون لا حراك بهم ، خمدوا كما تخمد النار فتصير رمادا.
يا حسرة « 1 » على هؤلاء المكذبين!! يا حسرة على هؤلاء وأمثالهم!! ما يأتيهم من رسول يهديهم إلى الحق ، وإلى الصراط المستقيم إلا كانوا به يستهزئون ، فاستحقوا الهلاك من رب العالمين ، نعم إنهم يستحقون أن يتحسر عليهم المتحسرون وخاصة الملائكة والمؤمنون من الثقلين لما رأوا عاقبة أمرهم ونهاية كفرهم واستهزائهم.
عجبا لهؤلاء وأمثالهم من كفار قريش! ألم يروا أن أهلكنا قبلهم كثيرا « 2 » من الأمم
___________
(1) المنادى محذوف والأصل يا قومي تحسروا حسرة على هؤلاء ، وفي قراءة : يا حسرتا ، والأصل : يا حسرتى على أنه من كلام الملائكة أو المؤمنين أو من اللّه. وقيل : المنادى الحسرة نفسها ، أى : هذا أوانك فاحضرى. [.....]
(2) الاستفهام في (ألم يروا) للتقرير ، وكم خبرية مفعول لأهلكنا ، وأنهم لا يرجعون بدل اشتمال في المعنى لا في اللفظ من أهلكنا لأن إهلاكهم مشتمل ومستلزم لعدم رجوعهم.(3/182)
ج 3 ، ص : 183
السابقة لما كذبوا وكفروا ؟ ! ألم يروا أنهم بعد الهلاك إليهم لا يرجعون أبدا ؟ وما كلهم إلا محشورون « 1 » ومجموعون ، ولدينا للحساب يوم القيامة محضرون ، فهل يتعظون ويعتبرون ؟ ويعلمون أن اللّه على كل شيء قدير ، وأنه يجازى كل كفور ، وهذا تهديد لهم.
والأرض الميتة التي لا نبات فيها ولا حركة ، آية شاهدة ناطقة لهم على قدرة اللّه ، وعلى أنه القادر على إحياء الخلائق بعد موتها ، والأرض الميتة أحياها ربك بالنبات والخضرة ، وأخرج منها حبا كالحنطة وغيرها ، فمنه يأكلون ويعيشون ، وجعل فيها جنات من نخيل وأعناب ، وفجر فيها من العيون ليأكلوا بعد هذا من ثمره الذي تفضل به علينا ، وليأكلوا مما عملته أيديهم من أصناف المأكولات الجافة والمحفوظة والطازجة مما نراه ونشاهده أفلا يشكرون اللّه ؟ ! سبحان اللّه! ما أعظم فضله وأجل نعمه! سبحانه وتعالى عما يشركون ، تنزه سبحانه عما لا يليق به مما فعلوه وتركوه ، وهذا أيضا تعليم للمؤمنين وإرشاد لهم ليقولوا : سبحان اللّه معتقدين مصدقين بهذا التنزيه الإلهى.
سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض من النبات وغيره ، مما عملته أيديهم ، ومما لا يعلمون ، فهو للّه سبحانه وتعالى نعم سبحانه خالق هذه الأصناف كلها مما لا يحيط به إلا هو فكل ما في الكون لا يعلمه إلا خالقه سبحانه وتعالى ..
وهذا الليل وما فيه آية لهم لو كانوا يعقلون ، فهذا الظلام الشامل بعد النور الساطع ، وهذا السكون والهدوء بعد الجلبة والضجيج ، وتلك الكواكب السيارة والأفلاك الدوارة كل ذلك آية على وجود الخبير البصير الذي يسير العالم على وفق نظام محكم دقيق لا يختل أبدا.
وآية عظيمة لهم الليل ، نسلخ « 2 » منه النهار ، ونزيل ضوءه عنه ، ونكشفه عن الليل فيبدو الليل بسكونه وظلامه كالشاة بعد السلخ ، فإذا سلخ بك النهار عن الليل فإذا هم
___________
(1) « وإن كل لما جميع » في مثل هذا إعرابان يرجعان إلى قراءة لما مخففة ومشددة ، فعلى قراءة التشديد إن نافية ولما بمعنى إلا ، وعلى قراءة التخفيف إن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشان وكل مبتدأ واللام هي الفارقة ، وما زائدة صلة وجميع خبر ، ولدينا ظرف متعلق به ، ومحضرون خبر ثان.
(2) وفي قوله (نسلخ) استعارة تبعية حيث استعار السلخ لكشف الضوء من مكان الليل ، والجامع ما يعقل من ترتب أمر على أمر فإنه يترتب ظهور اللحم وظهور الظلمة.(3/183)
ج 3 ، ص : 184
مظلمون ، أى : داخلون في الظلام مفاجأة وبغتة ، فيكون النوم العميق والهدوء الشامل ، سبحانه من قادر حكيم.
وآية لهم الشمس ذلك الكوكب النهارى الضخم تجرى في فلكها لحد مؤقت مقدر تنتهي إليه ، ولا تتجاوزه أبدا ، فكأنها تجرى لإدراكه حتى إذا ما انتهت إليه توقفت ، واللّه وحده هو العالم إلى متى تجرى ؟ ومتى تقف ؟ ذلك تقدير العزيز العليم ، نعم هو تقديره وحده ، ونظامه المحكم الدقيق الذي لو اختل قيد شعرة فلا يعلم إلا اللّه ما الذي يحصل ؟ ! فالشمس تجرى وتدور حول نفسها وفي فلكها ، والأرض أمامها تجرى وتدور حول نفسها وحول الشمس فينشأ عن كل ذلك النهار والليل والنور والظلام ، والفصول الأربعة ، أرأيت لو أن هذا النظام اختل في وقت ماذا يكون ؟ أمن المعقول أن ذلك يحصل بطبعه بدون إله مدبر ؟ تعالى اللّه عما يقولون.
والقمر قدر له ربك منازل يسير فيها ، فتراه يبدو صغيرا دقيقا ثم يكبر فيصير هلالا فبدرا ثم يعود يصغر شيئا فشيئا حتى يصير كالعرجون القديم في الرقة والانحناء والصغر وانظر يا أخى إلى هذه الكواكب السماوية وإلى أبعادها وأجرامها وكثرة عددها وسرعة حركتها ، ثم هي بعد ذلك كله في نظام دقيق وعمل وترتيب لا عوج فيه ولا خلل لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ، ولا الليل يسبق النهار فيفوته ، ولكن يعقبه وإنما جعل اللّه لهذا كله وقتا محددا ونظاما دقيقا فلا يجوز أن تطغى آية الليل (القمر) على آية النهار (الشمس) بل لكل مدة وزمن ونظام لا يعدوه ، وكل من النجوم والكواكب في فلك خاص به يسبحون ويجرون ، وهذا لا يمنع أن اللّه يولج النهار في الليل ، وبالعكس في بعض أيام السنة. أليست هذه من أعظم الآيات الدالة على وجود اللّه وقدرته ؟ !! وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في ظهور آبائهم ساعة حملوا في فلك نوح المشحون بالخلق ، وخلقنا لهم من مثل السفن ما يركبون من السيارات والقطارات والطائرات وغير ذلك! وما أروع هذا التعبير ، وما أدق تصويره! وهم في قبضتنا إن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ، أى : فلا مغيث لهم ، ولا ينقذون لشيء أبدا إلا لرحمة منا وتمتيع بالحياة الدنيا إلى حين معلوم.(3/184)
ج 3 ، ص : 185
ذكر بعض أحوال الكفار [سورة يس (36) : الآيات 45 الى 54]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
المفردات :
يَخِصِّمُونَ : يختصمون تَوْصِيَةً : وصية الصُّورِ : القرن وهو كالبوق الْأَجْداثِ : جمع جدث ، وهو القبر يَنْسِلُونَ : يخرجون مسرعين مَرْقَدِنا : مكان نومنا.(3/185)
ج 3 ، ص : 186
المعنى :
هؤلاء الكفار أمرهم عجيب : لقد ساق اللّه الآيات الظاهرة التي يعرفها كل مخلوق في الليل والنهار والشمس والقمر والأرض الميتة ، وحمل ذرياتهم في ظهور آبائهم فما اتعظوا ، ولا تذكروا. بل ظلوا كما هم.
والآن يخوفهم اللّه عاقبة أمرهم بعد عرض الآيات عليهم لعلهم يتوبون فيرحمون ولكنهم مع كل ذلك معرضون فالويل لهم.
وإذا قيل لهم : يا أيها الناس اتقوا ما بين أيديكم من أيام الدنيا وحوادثها الجسام واعتبروا بما حل بغيركم ، واتقوا ما خلفكم من أيام الآخرة وأهلها ومواقفها الشداد اتقوا اللّه واخشوا حسابه وعقابه لتكونوا على رجاء رحمة اللّه عاملين ، إذا قيل لهم هذا أعرضوا وأصروا على عنادهم واستكبروا استكبارا ، وما تأتيهم من آية من آيات ربهم الكونية أو القرآنية للعبرة والعظة إلا كانوا عنها معرضين ، فدأبهم الإعراض عند كل آية وموعظة.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ نزلت هذه الآية في مشركي قريش حين قال فقراء الصحابة لهم : أعطونا من أموالكم التي زعمتم أنها للّه. يعنون قوله تعالى وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [سورة الأنعام آية 136] فلم يعطوهم وحرموهم ، وقالوا للذين آمنوا : أنطعم شخصا لو شاء اللّه لرزقه كما تزعمون.
كان المشركون يسمعون المؤمنين ، وهم يعلقون الأفعال بمشيئة اللّه فيقولون : لو شاء اللّه لأغنى فلانا ، لأعطى فلانا ، ولو شاء اللّه لكان كذا وكذا فأخرج المشركون هذا الجواب أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولونه من تعليق الأمر بمشيئته تعالى.
كانوا يفهمون لسوء رأيهم : إنه إذا كان اللّه هو الرازق فهو قادر أن يرزقكم فلم تلتمسون الرزق ؟ ! وهذه حجة واهية ، ورأى مأفون فاللّه قد ابتلى قوما بالفقر وقوما بالغنى ، وأمر الفقراء بالصبر وأمر الأغنياء بالعطاء والشكر فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى . وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [سورة الليل الآيات 5 - 10].(3/186)
ج 3 ، ص : 187
ما أنتم أيها المشركون إلا في ضلال مبين حيث تفهمون هذا الفهم العقيم وتقولون :
متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ؟ ! كان الكفرة يستبعدون قيام الساعة ، وتحقق الوعد للمؤمنين والوعيد للكفار والمشركين!! واسمع الجواب من جهته سبحانه وتعالى : ما ينتظرون إلا صيحة واحدة هي النفخة الأولى التي يموت بها أهل الأرض ، وهل هم ينتظرون ذلك ؟ لا ينتظرون بل هم مكذبون ، ولكن لما كان لا بد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها ، هذه الصيحة تأخذهم فيهلكون بعدها فورا ، وهم يتخاصمون ويتنازعون في أمور دنياهم أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الأعراف 95] فالناس عندها لا يستطيعون وصية في أمر من أمورهم إلى أهليهم ، ولا هم يستطيعون الرجوع لهم بل تبغتهم على حين غفلة منهم.
ونفخ في الصور نفخة ثانية فإذا هم قيام من قبورهم ، خارجون منها بسرعة إلى ربهم ليوفيهم حسابهم ، وكان ذلك على اللّه يسيرا.
وماذا كان قولهم ؟ في ابتداء بعثهم من القبور : يا هلاكنا احضر فهذا أوانك ، أو يا قومنا انظروا وويلنا وهلاكنا وتعجبوا منه.
من بعثنا من مرقدنا ؟ والقوم لاختلاط عقولهم ظنوا أنهم كانوا نياما ، ولم يدركوا عذاب القبر فاستفهموا عن موقظهم ، ولكنهم أجيبوا من اللّه على طريقة الأسلوب الحكيم : لا تسألوا عن الباعث والموقظ فلستم نياما وليس الباعث يهمكم وإنما الذي يهمكم حقا أن تسألوا ما هذا البعث ذو الأهوال ؟ وما هذا الموقف الرهيب ؟ ! والجواب إذا : هذا الذي وعدكم به الرحمن وقد صدق المرسلون فيما قالوا عنه.
وما كانت الفعلة التي حكيت قبل وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ إلا صيحة واحدة لا أكثر ولا أقل ، وهي نفخ إسرافيل في البوق ، وروى أنها قوله بصوت مرتفع : « أيتها العظام النخرة والأوصال المتقطعة والشعور الممزقة إن اللّه يأمركم أن تجتمعوا لفصل القضاء » .
ما كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم مجموعون لدينا محضرون لفصل الحساب ، فاليوم هو يوم الفصل ليس بالهزل ، هو يوم القضاء العدل فلا تظلم نفس شيئا. ولا تجزون إلا بما كنتم تعملون وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [سورة الأنبياء آية 47].(3/187)
ج 3 ، ص : 188
أصحاب الجنة وأصحاب النار [سورة يس (36) : الآيات 55 الى 65]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65)
المفردات :
فاكِهُونَ الفاكه والفكه : المتنعم والمتلذذ. ومنه الفاكهة ، لأنها مما يتلذذ بها يَدَّعُونَ أصله : يدتعون ، والمراد : يتمنون ، وعليه قولهم : ادع على ما شئت ، بمعنى تمن على بما شئت وَامْتازُوا : تميزوا وانفردوا أَلَمْ أَعْهَدْ : ألم أوص ، والعهد : الوصية جِبِلًّا : جمع جبلة ، والمراد خلقا كثيرا نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ : نمنعها من الكلام.(3/188)
ج 3 ، ص : 189
المعنى :
هذا يوم الفصل والقضاء العدل ، فلا تظلم نفس شيئا ، ولا تجزى إلا بأعمالها ويقال لهم زيادة في إيلامهم : إن أصحاب الجنة اليوم في شغل عنكم بنعيمهم ومتاعهم فاكهون.
نعم إن أصحاب الجنة الذين هم يتمتعون بها في شغل ، وأى شغل ؟ إنه شغل من سعد بالجنة ونعيمها ، وفاز بنيل ذلك النعيم المقيم والملك الكبير ، وتمتع بما أعده اللّه للمصطفين من عباده الأبرار ثوابا لهم وإكراما ، وجزاء لهم على ما كانوا يعملون ، وما أدق وصفهم بقوله : فاكهون ، أى : متنعمون ومتلذذون بما هم فيه ، فحقّا إنهم لفي شغل عن النار وأصحاب النار ، فيا ويلكم أيها المشركون من النار ومن عذابها!! وأزواجهم وهم في ظلال وارفة ، على الأرائك والسرر متكئون ، يسمرون ويتمتعون ويرزقون رزقا كريما ، لهم فيها فاكهة كثيرة ، ولهم ما يتمنون مما لا يقع تحت حصر ، ومما لا عين رأته ولا أذن سمعته ، ولا خطر على قلب بشر.
تحيتهم سلام يقال لهم .. قولا من رب رحيم ، وهذا السلام بواسطة الملائكة أو من اللّه مباشرة مبالغة في تعظيمهم ، وزيادة في إكرامهم والحفاوة بهم.
هذا حال المؤمنين العاملين. نعيم مقيم في جنات الخلد مع التحية والإكرام. أما الفريق الثاني فيقال لهم : امتازوا وانفردوا عن المؤمنين أيها المجرمون ، وكونوا على حدة ، وحين يحشر الناس ويذهب بالمؤمنين إلى الجنة وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ [الروم 14 - 16].
ثم يقال لهم تأنيبا وتوبيخا على ما مضى من أعمالهم : أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ وعهد اللّه ببني آدم ما ركب فيهم من القوى العاقلة والفطرة السليمة التي تهتدى إلى الخير ، وما أرسل إليهم من رسل مبشرين ومنذرين يدعونهم إلى عبادة الرحمن ، ويحذرونهم دائما من طاعة الشيطان ، حذرنا اللّه بواسطة رسله من الشيطان فإنه لنا عدو مبين بين العداوة ، وأمرنا بعبادته وحده والاستعانة به وحده فهو اللّه لا إله إلا هو.(3/189)
ج 3 ، ص : 190
هذا - الإشارة إلى ما عهد به اللّه من طاعة الرحمن وعصيان الشيطان - صراط مستقيم وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الأنعام آية 153].
هذا الدين هو الدين الحق وهو الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه لأنه من رب العالمين.
ولقد أضل منكم الشيطان خلقا كبيرا ، ووسوس لهم وزين لهم فعل السيئات حتى وقعوا في المعاصي والعذاب الشديد ، أعميتم فلم تكونوا تعقلون ؟ هذه جهنم - والإشارة لها لتميزها وظهور آثارها الشديدة - التي كنتم توعدون بها فتكذبون ، ويقال لهم مع هذا : اصلوها وذوقوا حرها جزاء لكم بما كنتم تكفرون.
روى أنهم حين يقال لهم ذلك يجدون ما صدر عنهم في الدنيا فيخاصمون فتشهد عليهم جيرانهم وأهلهم وعشيرتهم فيحلفون أنهم ما كانوا مشركين ويقولون : لا نجيز علينا شاهدا إلا من أنفسنا ، فيختم اللّه على أفواههم ، ويقال لأعضائهم : انطقى فتنطق بما صدر منها ، وهذا يفسر قوله تعالى : الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
ولعل سائلا يقول : ما السر في جعل الكلام لليد والشهادة للرجل ؟ والجواب كما هو مذكور في كتاب الخازن : أن اليد تباشر والرجل تكون حاضرة ، وقول الحاضر على غيره شهادة بما رأى ، وقول الفاعل إقرار على نفسه بما فعل.
فضل اللّه على الناس كبير [سورة يس (36) : الآيات 66 الى 68]
وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68)(3/190)
ج 3 ، ص : 191
المفردات :
لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ الطمس : تغطية شق العين حتى تعود ممسوحة ، والطميس والمطموس : الأعمى الذي ليس في عينه شق فَاسْتَبَقُوا : تسابقوا إلى الصراط وبادروا إليه فَأَنَّى : فكيف لَمَسَخْناهُمْ المسخ : تبدل الخلقة وقلبها حجرا أو جمادا أو بهيمة نُعَمِّرْهُ : نطل عمره نُنَكِّسْهُ من التنكيس ، مأخوذ من نكست الشيء أنكسه نكسا : قلبته على رأسه فانتكس.
المعنى :
اللّه - سبحانه وتعالى - صاحب النعم والفضل الكبير على الناس جميعا مسلمهم ومشركهم ، ولو شاء إزالة نعمة البصر عنهم فيصيروا عميا لا يقدرون على التردد والسير في الطريق الواضحة المألوفة لهم لفعل ، ولكنه فضلا منه وإحسانا أبقى عليهم نعمة البصر فحق الناس أن يشكروا ولا يكفروا.
ولو شاء ربك لمسح أعين الكفار ، وأذهب أحداقهم وأبصارهم حتى لو أرادوا سلوك الطريق الواضح المعروف لهم لما استطاعوا ، فكيف يبصرون حينئذ ؟ ! ولو شاء ربك لمسخ الكفار والعصاة قردة أو خنازير أو حجارة ، ولو شاء لمسخهم مسخا يحل بهم في منازلهم فلا يقدرون أن يفروا منه بإقبال ولا بإدبار وما استطاعوا ذهابا ، ولا رجوعا ، ولكنه لم يشأ ذلك جريا على سنن الرحمة وموجب الحكمة ، فكان واجب أن يقابل ذلك بالشكر والعبودية للّه ، هذا نقاش للكفار وبيان لموقفهم ، وقطع لأعذارهم ، وبيان لفضل اللّه عليهم ، وقد كانوا يقولون : لو امتد بنا الأجل ، وطال العمر لفعلنا كذا وكذا. فيقول اللّه لهم : أعميتم فلا تعقلون أنكم كلما دخلتم في السن وتقدمتم في العمر ضعفتم اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً « 1 » وقد عمركم ربكم مقدارا يمكنكم فيه من العمل والتذكر أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ « 2 » على أن الواجب أن تعلموا أنه كلما مر الزمان بكم وطال عمركم ازداد ضعفكم فإنه من يطل عمره انتكس خلقه وبدل سمعه صمما وبصره عمى وقوته ضعفا ، ولذلك يقول اللّه : وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ « 3 » ، وقد تعوذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من أن يرد إلى أرذل العمر ..
___________
(1) - سورة الروم آية 54.
(2) - سورة فاطر آية 37.
(3) - سورة النحل آية 70.(3/191)
ج 3 ، ص : 192
إثبات الوحدانية للّه مع نفى الشعر عن رسول اللّه [سورة يس (36) : الآيات 69 الى 76]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76)
المفردات :
الشِّعْرَ : كلام موزون مقفى وَيَحِقَّ الْقَوْلُ : يثبت مالِكُونَ :
ضابطون وقاهرون وَذَلَّلْناها لَهُمْ : سخرناها لهم مُحْضَرُونَ : يدفعون عنهم ويغضبون لهم.
تقدم ما يتصل بالوحدانية في قوله : أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ وما يتعلق بالحشر في قوله : الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وبقي الأصل الثالث وهو الرسالة يتكلم عنها هنا.
المعنى :
الشعر نوع من الكلام العربي له طابع خاص ، ووزن خاص ، وهو يعتمد على وحدة القافية ، يعنى بالخيال الخصب ، والتصوير الرائع والعاطفة المشبوبة ، ولهذا لا يتحرى(3/192)
ج 3 ، ص : 193
الشاعر غالبا في كلامه الصدق ، ولا يلتزم جادة الصواب ، بل تراه كما وصفه القرآن أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ « 1 » ، وقد قيل :
أعذب الشعر أكذبه ، وقبيل مبعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ظهر التكسب بالشعر ، وتعرض الشعراء للقول بالحق وبالباطل ، وظهر بعد العصر الإسلامى الأول التكسب بالشعر ، وصار صنعة يتحاشاها الأشراف لهذا وأشباهه لم يقل النبي الشعر ، وما كان ينبغي له ، وقد رمى الكفار القرآن بأنه شعر مرة ، وأنه سحر مرة أخرى ، أو هو من عمل الكهان.
وهنا يرد القرآن على المشركين هذه الدعوى الباطلة مثبتا أن اللّه لم يعلمه الشعر وما ينبغي له - لما قدمناه - والقرآن ليس شعرا ، وإن كان أبلغ كلام وأعلاه ، وكيف يكون شعرا مع أن للشعر طابعا خاصّا في وزنه ومعناه وأخيلته ؟ وما القرآن إلا ذكر للعالمين ، وموعظة وشفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمتقين ، هو جلاء القلوب ، وعلاج الأرواح ، أنزل على النبي المصطفى لينذر به من كان حيّا من الناس.
إنه لتعبير دقيق جدّا ، وتصوير رائع ، فإنه لا يهتدى به ولا يتعظ ولا يقبل إنذار القرآن إلا الأحياء ، والأحياء في عقولهم وتفكيرهم وأرواحهم ، أما الأموات فأنى يسمعون ؟ وكيف يبصرون ؟ فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ « 2 » وعند ذلك يحق القول الحق لأنه من الحق تبارك وتعالى ، وتجب الحجة بالقرآن على الكافرين الذين لا يعقلون ولا يتدبرون ، بل هم أموات لا يشعرون ، وما لهم ينكرون كون القرآن من عند اللّه ، أهم في شك من قدرته ؟ أم هم في غفلة عن قوة إعجازه ودلالته على أنه من عند اللّه ؟
ألم يعلموا خلقهم ولم يروا أنّا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون فاللّه خلق الحيوانات وذللها فنحن متصرفون فيها مختصون بمنافعها. ضابطون لها مهما كان الإنسان صغيرا ومهما كان الحيوان ضخما كبيرا.
يصرفه الصبى بكل وجه ويحبسه عن الخسف الغرير
وتضربه الوليدة بالهراوى فلا غير لديه ولا نكير
وذللناها لهم فمنها ركوبهم ، ومنها أكلهم ، ومنها شربهم ، ولهم فيها منافع أخرى كالأصواف والأوبار والجلود وغيرها. أفلا يشكرون اللّه على ذلك ؟ ما فعلوا من ذلك شيئا.
___________
(1) - سورة الشعراء الآيتان 225 ، 226
(2) - سورة الروم آية 52.(3/193)
ج 3 ، ص : 194
واتخذوا من دون اللّه آلهة راجين منها النصرة ، آملين منها المنفعة ، وما علموا أنهم لا يستطيعون نفعا ولا ضرّا ، وأنهم لا ينصرون أحدا ، بل إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ، والحال أن المشركين لهذه الآلهة جند محضرون في الدنيا يخدمون ، ويذبون عنهم ، ويغضبون لهم ، والآلهة لا يستطيعون لهم شيئا ولا قدرة عندهم ، والأمر على خلاف ما توهموا ، بل إنهم يوم القيامة جند معدون لهم محضرون لعذابهم لأنهم وقود للنار ، وإذا كان الأمر كذلك فلا يهمنك أمرهم ، ولا تحزن لتكذيبهم وأذاهم ، إن ربك عالم بسرهم وعلنهم وسيجازيهم على أعمالهم.
إثبات البعث [سورة يس (36) : الآيات 77 الى 83]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81)
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
المفردات :
نُطْفَةٍ المراد : ذرة من المنى خَصِيمٌ : مجادل في الخصومة مَثَلًا(3/194)
ج 3 ، ص : 195
المراد : ساق أمثلة عجيبة غريبة كغرابة المثل رَمِيمٌ من رم العظم : إذا بلى بَلى : حرف جواب كنعم : إلا أنه يختص بالاستفهام الإنكارى الذي هو بمعنى النفي أَمْرُهُ : شأنه في الإيجاد مَلَكُوتُ : هو الملك التام.
المعنى :
هذا كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكارهم البعث وإثباته بالدليل القاطع ، بعد بيان بطلان إشراكهم باللّه بالأدلة المشاهدة ، ألم « 1 » يتفكر الإنسان ولم يعلم أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم بين الخصومة ؟ ألم يعلموا خلقه تعالى لأسباب معايشهم ولم يعلموا خلقه تعالى لأنفسهم مع كون العلم بذلك في غاية الظهور والوضوح ، ورجوع الإنسان بنفسه إلى مبدأ خلقه ، وإلى نشأته الأولى ، وأنه خلق من ماء مهين من نطفة قذرة تخرج من مجرى البول ، ومع ذلك يفاجئ بالخصومة والجدل للخالق الكبير المتعال ، إن هذا لشيء عجيب تنكره العقول السليمة.
وقوله تعالى : (فإذا هو خصيم مبين) داخل في حيز الإنكار والتعجب كأنه قيل : أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من أخس الأشياء وأحقرها ففاجأنا بالخصومة في أمر يشهد بصحة مبدأ خلقه شهادة بينة.
وروى أن بعض المشركين كأبى بن خلف والعاص بن وائل السهمي ذهبوا يجادلون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومعهم عظام بالية قد رمت فقال أحدهم : يا محمد أترى أن اللّه يحيى هذا بعد ما رم ؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « نعم ويبعثك اللّه ويدخلك النّار »
ونزلت هذه الآية وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ أى : ونسى خلقنا إياه من نطفة من منى يمنى ثم صار ذا عقل وتفكير وإرادة.
عجبا لهذا الإنسان وإنكارا لقوله وضربه الأمثال ، أى : إتيانه بقصة غريبة عجيبة تشبه في غرابتها المثل ، وهي قوله : من يحيى العظام وهي رميم ؟ أتعجب ؟ قل لهم يا محمد : يحييها الذي أنشأها أول مرة فمن قدر على الإيجاد الأول من العدم قادر بلا شك على الإعادة بل هو أهون عليه ، وللّه المثل الأعلى ، وهو بكل شيء عليم.
___________
(1) الهمزة للإنكار مع إفادة التعجب ، والواو للعطف على مقدر ذكرناه في الشرح.(3/195)
ج 3 ، ص : 196
يحييها الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ، وكان أهم شيء يدور في أذهانهم ، ويعمى بصائرهم أن العظام البالية أصبحت باردة يابسة لا تقبل الحياة ، والحياة لا بد لها من حرارة فمن الذي يحيى هذه العظام ؟
واللّه يضرب الأمثال لهم بأنه يجعل من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم من ذلك الشجر الأخضر توقدون. والمشاهد أن الرجل يأتى بشجر (السنط) وهو أخضر مورق فيوقد فيه النار فتلتهب. وصدق اللّه الذي جعل من الشجر الأخضر نارا. وهم يقولون : إن المشهور بذلك شجر المرخ والعفار. كان يتخذ من المرخ الزند الأعلى ومن العفار الزند الأسفل فإذا ما احتكا بشدة أوقدا نارا مع أنهما أخضران يقطران ماء.
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أو ليس الذي خلق السموات والأرض مع كبر جرمهما وعظم شأنهما بقادر على أن يخلق مثل الإنسان في الصغر والضعف بالنسبة لهما ؟
بلى - نعم - وهو جواب من اللّه تعالى يقرر قدرته على الخلق. وهو الخلاق كثير الخلق. العليم كثير العلم. ومن كان كذلك فلا عجب أن يخلق الإنسان وغيره ، إنما أمره وشأنه إذا أراد إيجاد شيء أن يقول له : كن فهو يكون ، وهل هناك لفظ (كن) ؟
ذهب إلى هذا السلف مفوضين أمره وحقيقته إلى علام الغيوب. وقال الجمهور من العلماء : ليس هناك لفظ (كن) وإنما المراد تمثيل لقدرة اللّه في مراده يأمر الأمر المطاع للمأمور المطيع في سرعة الحصول من غير امتناع ولا توقف ، وإذا كان الأمر كذلك فسبحان اللّه الذي بيده الملك التام لكل شيء.
وإليه وحده ترجع الخلائق.
وهذا تنزيه للّه - سبحانه وتعالى - عما وصفوه إذ بيده الملك وهو القادر على كل شيء وإليه يرجع الأمر كله ، فاعبدوه وقدسوه ووحدوه سبحانه وتعالى عما يشركون.(3/196)
ج 3 ، ص : 197
سورة الصافات
مكية بالإجماع وآياتها ثنتان وثمانون ومائة.
وهي كباقي السور المكية فيها الكلام على التوحيد وإثبات البعث. والتعرض للمشركين وأحوالهم في الدنيا والآخرة والتعرض لإثبات النبوة. والكلام على المؤمنين وأحوالهم في الدنيا والآخرة. مع ذكر قصص بعض الأنبياء وأممهم ، ثم كان ختام السورة مع مشركي مكة. وتقوية عزيمة المسلمين. وتوهين عضد الكافرين.
إن إلهكم لواحد مع إثبات البعث [سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 21]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9)
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)
وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)(3/197)
ج 3 ، ص : 198
المفردات :
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا الصف : أن يجعل الشيء على خط مستقيم ، يقال : صففت القوم فاصطفوا : إذا أقمتهم على خط مستقيم لأجل الصلاة أو الحرب مثلا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً : الزجر الدفع بقوة الصوت ، يقال : زجرت الغنم أو الإبل :
إذا فزعت من صوتك فَالتَّالِياتِ : القارئات قرآنا الْمَشارِقِ : جمع مشرق ، وهو مطلع الشمس الْكَواكِبِ : هي النجوم والأجرام السماوية التي لا يعلمها إلا خالقها مارِدٍ : عات عار عن الخيرات ، مأخوذ من قولهم : شجر أمرد : إذا تعرى عن الورق ، ورجل أمرد لتجرده من الشعر. والشيطان من شاط : إذا احترق ، لا يَسَّمَّعُونَ : لا يتسمعون مصغين إلى الملأ الأعلى من الملائكة وَيُقْذَفُونَ :
يرمون ويرجمون دُحُوراً : طردا وإبعادا واصِبٌ : دائم خَطِفَ الخطف : الاختلاس والأخذ بسرعة وخفة على غفلة من المأخوذ منه شِهابٌ الشهاب : الشعلة الساطعة من النار الموقدة ، والمراد به العارض المعروف في الجو الذي يظهر كأنه كوكب منقض من السماء ، وهو الذي يسمى بالشهب والنيازك ثاقِبٌ أى : مضيء ، أو يثقب ما ينزل عليه فَاسْتَفْتِهِمْ : فاستخبرهم لازِبٍ : شديد متماسك ، يقال : لزب يلزب : إذا اشتد ولزق يَسْتَسْخِرُونَ : يبالغون في السخرية داخِرُونَ : صاغرون وذليلون ، يقال :
دخر : ذل وصغر.
المعنى :
يقسم اللّه - سبحانه وتعالى - بالملائكة المصطفين صفوفا للعبادة ، أو الصافات أجنحتها في الهواء انتظارا لأمر اللّه ، وقيل : المراد بها الطير تصف أجنحتها في الهواء وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ فالملائكة التي تزجر ما نيط بها من الأجرام العلوية والسفلية(3/198)
ج 3 ، ص : 199
وغيرها على وجه يتناسب بالمزجور ، ومن جملة ذلك زجر العباد عن المعاصي بالإلهام وزجر السحاب ، أى : سوقها إلى مكانها ، زجر الشيطان عن الوسوسة والإغواء ، فالملائكة التاليات ذكرا على العباد ، إذا هم الذين يجيئون بالكتاب من عند اللّه - عز وجل - إلى الناس.
ولعلك تسأل كيف يقسم اللّه بالملائكة أو غيرها مع أن الشرع ينادينا بألا نقسم إلا باللّه أو بصفة من صفاته ؟ ولهذا قيل : إن المراد ورب الصافات صفاّ .. استنادا إلى أنه صرح بهذا في قوله تعالى : وَالسَّماءِ وَما بَناها « 1 » ويظهر - واللّه أعلم - أن اللّه يقسم بهذه الأنواع إظهارا لعظمتها ، وبيانا لجميل صنعها ، وهذا بالتالى يشعرنا بعظم الخالق وجلال قدره ، وكمال قدرته إذ هذه آثاره : « 2 » إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ وهذا جواب القسم السابق ، ولا يقال : إنه كلام مع منكر فماذا يفيد القسم ؟ والجواب أنه قسم متبوع بالبرهان الذي يثبت الوحدانية للّه - تعالى - رب السموات والأرض ، وما بينهما من خلق ، ورب مشارق الشمس والكواكب كلها ، فإن وجود هذه الكائنات على ذلك التقدير البديع والنظام المحكم أوضح دليل على وحدانية اللّه - تعالى - وعلى كمال قدرته.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
وللشمس مشارق بعدد أيام السنة الشمسية ، فإن للشمس كل يوم مشرقا خاصا ، ولها في كل عام مشرقان رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ « 3 » باعتبار أقصى مشرق في الشمال وأقصى مشرق في الجنوب ، واكتفى بالمشرق عن المغرب لأن عظمة اللّه في المشرق أظهر وأوضح.
إنا زينا السماء الدنيا التي هي أقرب السموات من أهل الأرض بزينة هي الكواكب فإن الكواكب بذاتها وأوضاعها زينة وأى زينة ؟ زيناها وحفظناها حفظا من كل شيطان مارد ، فاللّه - سبحانه وتعالى - خلق الكواكب زينة للسماء وحفظا لها من كل شيطان مارد عات خارج عن الطاعة. متعر عن الخيرات. لئلا يسمعوا « 4 » مصغين إلى الملأ
___________
(1) - سورة الشمس آية 5.
(2) - أما الفاء في قوله : والصافات صفا ، فالزاجرات زجرا فإنها للترتيب الرتبي.
(3) - سورة الرحمن آية 17.
(4) - ثم حذفت أن فرفع الفعل ، والجملة مستأنفة استئنافا نحويا.(3/199)
ج 3 ، ص : 200
الأعلى : أهل السماء الدنيا فما فوقها وهم الملائكة ، وكانوا أعلين بالنسبة إلى ملأ الأرض ، وكانت الشياطين يتسمعون ، ولكن لا يسمعون ، ويقذفون ، أى : الشياطين ترمى وترجم من كل جانب من جوانب السماء إذا قصدوا الصعود إليها ، أى : كل من صعد من جانب رمى منه الدحور والطرد والإبعاد. ولهم في الآخرة عذاب آخر غير عذاب الرجم بالشهب ، عذاب دائم إلى ما شاء اللّه.
لا يسمعون إلى أخبار السماء ، إلا من اختلس من كلام الملائكة مسارقة تبعه شهاب يثقب ما ينزل عليه.
ومن الثابت أن الشياطين كانت قبل البعثة ترمى وقتا ، ولا ترمى وقتا ، وترمى من جانب ولا ترمى من جانب ، وبعد البعثة صاروا يرمون واصبا من كل جانب ، كانت الجن قبل البعثة كالمتجسسة من الإنس قد يبلغ الواحد حاجته ، وقد لا يبلغ ، وقد يقبض عليه ويعاقب ، وقد ينجو.
فلما بعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم زيد في حفظ السماء. وأعدت لهم الشهب في كل مكان ليدحروهم عن جميع جوانب السماء ولا يقروا في مقعد من المقاعد التي كانوا يقعدونها فصاروا لا يسرقون السمع ، ولا يقدرون على سماع شيء مما يجرى فيها إلا أن يختطف أحد منهم بخفة وحركة سريعة خاطفة فيتبعه شهاب ثاقب قبل أن ينزل على الأرض فيلقيها إلى إخوانه ، وبهذا بطلت الكهانة ، وثبتت النبوة والرسالة. وقد كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع حتى إذا قضى اللّه أمرا وتحدث به أهل السماء استرقوه وأخبروا به بعض الكهان فيضيفون إليه الكثير فتصدقه الناس في الحق وفي الباطل ، حتى إذا بعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وجدت الشياطين في السماء الشهب مرصودة لكل من يحاول السمع إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [سورة الشعراء آية 212] [سورة الجن الآيتان 8 ، 9].
فانظروا أيها الناس إلى عظم ملكوت اللّه وإلى مظاهر قدرته وقدس نوره - جل جلاله - انظروا واعتبروا لعلكم تهتدون .. وإذا كان الأمر كذلك فاستفتهم - الخطاب لأهل مكة ولكل مشرك باللّه - أهم أشد خلقا ؟ بل أم من خلقنا من عوامل السماء وما فيها من ملائكة وأفلاك وعوالم الأرض - وما تقل من بحار وجبال وأشجار وأنهار ؟ ! -(3/200)
ج 3 ، ص : 201
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ « 1 » إنما خلقنا الإنسان من طين لازب لاصق ، وهناك بعد بين الإنسان ككائن حي وبين التراب أو الطين ، ولا تستبعدوا البعث ولا تنكروه ، بل - إضراب انتقالي من أسلوب لأسلوب - عجبت أنت يا محمد من صنع اللّه وقدرته ، وامتلأ قلبك - وكذا قلب كل مؤمن - خشية من اللّه وهيبة من جلاله! وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من الآيات ، وقيل : المعنى : إنك عجبت يا محمد من إنكارهم للبعث والتوحيد مع ظهور الآيات ناطقة بهذا وهم يسخرون من الآيات ، وإذا ذكروا بآية ووعظوا بها لا يذكرون ، وإذا رأوا آية يستسخرون ، أى : يبالغون في السخرية ، ويقولون : إنه سحر وأمر عجيب خفى علينا سببه ، أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما بالية أنبعث ؟ ! أو آباؤنا الأولون الذين ضاعوا في الأرض وغابت آثارهم فيها أيبعثون كذلك ؟ ! قل لهم يا محمد : نعم ستبعثون أنتم وآباؤكم ، وأنتم صاغرون أذلاء ، وستأتون فرادى كما خلقكم ربكم أول مرة.
إذا كان الأمر كذلك فإنما هي - البعثة المفهومة من السياق العام - زجرة واحدة ، وهي النفخة الثانية ، فإذا الخلائق كلها مسلمها ومشركها طائعها وعاصيها قيام من مراقدهم أحياء يبصرون كما كانوا في الدنيا يشعرون بكل شيء ، وقالوا : يا ويلنا احضر فهذا أوانك! هذا يوم الدين!! هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون ، وقد كانوا به يكذبون.
من مواقف المشركين يوم القيامة [سورة الصافات (37) : الآيات 22 الى 38]
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38)
___________
(1) - سورة غافر آية 57. [.....](3/201)
ج 3 ، ص : 202
المفردات :
احْشُرُوا : اجمعوا ، والحشر : الجمع وَأَزْواجَهُمْ : أشباههم وقرناءهم من عبدة الأصنام والكواكب وغيرها فَاهْدُوهُمْ : دلوهم وعرفوهم طريقها وَقِفُوهُمْ احبسوهم عند الصراط لا تَناصَرُونَ : لا ينصر بعضكم بعضا.
مُسْتَسْلِمُونَ : منقادون خاضعون يَتَساءَلُونَ : يتلاومون ويتخاصمون عَنِ الْيَمِينِ : عن الجهة التي نأمنها ونظن أن فيها الخير سُلْطانٍ : قوة وحجة طاغِينَ : متجاوزين الحدود فَحَقَّ عَلَيْنا : فثبت ووجب فَأَغْوَيْناكُمْ :
فدعوناكم إلى الغي.
المعنى :
أيها الملائكة : احشروا الذين ظلموا أنفسهم بالشرك إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ « 1 » احشروهم وأزواجهم وقرناءهم ومن على شاكلتهم من عبدة الأصنام والأوثان والكواكب وكل من عبد إلها دون اللّه : احشروهم وما كانوا يعبدونه من دون اللّه ، فإنهم حطب جهنم - وقودها - وهم لها واردون ، فكل عابد ومعبود في النار إلا عيسى ابن مريم وعلى بن أبى طالب ، ومن عبد من الصالحين بلا ذنب ، وهذه زيادة في
___________
(1) - سورة الفرقان آية 13.(3/202)
ج 3 ، ص : 203
تحسيرهم ، وإيلامهم ، احشروهم فاهدوهم إلى صراط جهنم ، وعرفوهم طريقها ، ووجهوهم إليها ، وفي هذا تهكم بهم ، وقفوهم في الموقف واحبسوهم فيه لما ذا ؟ إنهم مسئولون ، ولكن عن أى شيء يسألون ؟ لا يسألون عن عقائدهم ، ولا عن أعمالهم فإن ذلك قد حصل ، وإنما يسألون عما يتضمنه قوله : ما لكم لا تناصرون ؟ ! أى مالكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا ؟ ! وهذا سؤال للتوبيخ والتهكم بهم.
لا يقدر بعضهم على نصرة أخيه بل هم اليوم مستسلمون ومنقادون للعذاب لا ينازعون أبدا في أى شيء.
وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون عن طريق الخصومة والجدال العنيف ، ولكن كيف يتساءلون ؟ فأجيب : قال « 1 » الأتباع للرؤساء : إنكم أيها المتبوعون كنتم تأتوننا عن اليمين ، واليمين عند العرب اصطلاح خاص فإنهم يتيامنون بها ويزاولون بها أشرف الأشياء ، وبالشمال يتشاءمون ، ويتناولون بها أرذل الأشياء وأحقرها ، جاء القرآن فجعل اليمين لها كرامتها ، ووعد المحسن باستلام كتابه بيمينه ، والمسيء يستلم كتابه بشماله ، وكان النبي يحب التيامن ، ومن هنا استعيرت اليمين ، أى : استعملت في جهة الخير وناحيته فقيل أتاه عن اليمين أى من قبل الخير.
وفي الآية يكون المعنى : إنكم أيها الرؤساء كنتم تأتوننا عن اليمين ، أى : من جهة الخير فتصدوننا عنه ، وكنتم تأتوننا عن اليمين ، أى : من الجهة التي نحبها ونثق فيها فكنتم تحلفون لنا فنصدقكم ، وكنتم تأتوننا عن اليمين ، أى : عن الدين ، أى : من قبل الدين فتهونون علينا أمر الشريعة وتنفروننا عنها.
وبعضهم يفسر اليمين بالقوة والقهر ، بمعنى : كنتم تأتوننا عن جهة القوة والسيطرة وبحكم الرياسة لكم في الدنيا فتضلوننا سواء السبيل.
وماذا كان رد المتبوعين ؟ قالوا : بل لم تكونوا مؤمنين بقلوبكم حتى يصدق علينا أننا نقلناكم من الإيمان إلى الكفر ، بل كنتم قوما بطبعكم طاغين متجاوزين الحدود المعقولة مثلنا.
___________
(1) - كل قول في القرآن كهذا (قالوا. قال ... إلخ) يكون جوابا عن سؤال مقدر ، فهو استئناف بيانى واجب الفصل عن الجملة السابقة إذ هو جواب ، والجواب يفصل عن السؤال.(3/203)
ج 3 ، ص : 204
فحق علينا وثبت وعد ربنا لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة السجدة آية 13] إنا لذائقو العذاب الأليم لأننا عصينا أمر ربنا وأمر رسله.
فلما وجب وثبت علينا قضاء ربنا - وهو الوعيد السابق - أغويناكم لأننا صرنا أشقياء مثلكم ، ودعوناكم إلى الغي دعوة ملجئة فاستجبتم لنا باختياركم واستحبابكم الغي على الرشد ، إنا كنا غاوين فلا عتب علينا في هذا ، وإذا كان الأمر كذلك فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون.
إن بطش ربك لشديد ، وإنه يفعل بالمجرمين الأتباع والمتبوعين كلهم مثل ذلك الفعل ، وهو عذابهم جميعا إنهم كانوا إذا قيل لهم : لا إله إلا اللّه يستكبرون عن النطق بها والإيمان بوحدانية اللّه وتصديق رسوله ، ويقولون كبرا : أإنا لتاركوا آلهتنا وعبادتهم لرجل شاعر ؟ يقول الشعر الذي لا يعتمد على الحق ، ويقصدون بذلك القرآن وأنه شعر ، وهذا الشاعر مجنون ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا وزورا.
بل هو الرسول المصطفى من عند اللّه الذي جاء بالحق والنور ، والهدى والشفاء لما في الصدور ، وصدق المرسلين جميعا ومُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ وما حال هؤلاء المكذبين الضالين ؟ إنهم لذائقو العذاب الأليم ، وما تجزون إلا ما كنتم تعملون ..
المخلصون في الجنة [سورة الصافات (37) : الآيات 39 الى 61]
وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43)
عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)
قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58)
إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)(3/204)
ج 3 ، ص : 205
المفردات :
الْمُخْلَصِينَ : هم الذين أخلصهم اللّه لعبادته ، واصطفاهم لدينه وطاعته أو هم المخلصون الذين أخلصوا للّه في العبادة فَواكِهُ : وهي جمع فاكهة ، وهي الثمار بأى شكل بِكَأْسٍ : الكأس في اللغة يطلق على الإناء مع شرابه ، فإن لم يكن فيه خمر مثلا فهو إناء أو قدح مِنْ مَعِينٍ : من خمر تجرى كما تجرى العيون على وجه الأرض ، وترى بالعين غَوْلٌ : هلاك وفساد يُنْزَفُونَ نزف الرجل ينزف فهو منزوف ونزيف : إذا سكر ، وأصل النزف : نزع الشيء وإذهابه بالتدريج ، والمراد لا تذهب عقولهم قاصِراتُ الطَّرْفِ : قد قصرن طرفهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم ، والطرف : النظر عِينٌ : جمع عيناء ، وهي المرأة واسعة العين مع حسنها مَكْنُونٌ : مصون لا غبار عليه قَرِينٌ : صديق ملازم الْمُصَدِّقِينَ أى : بالبعث ، وفي قراءة : المصّدّقين أى : المنفقين لَمَدِينُونَ : لمجزيون ومحاسبون ، وقيل : لمسوسون مربوبون ، يقال : دانه : ساسه ، وفي الحديث : العاقل من دان نفسه سَواءِ الْجَحِيمِ : وسطها إِنْ كِدْتَ إن هذه هي المخففة من(3/205)
ج 3 ، ص : 206
الثقيلة واسمها ضمير الشأن ، واللام بعدها هي الفارقة لَتُرْدِينِ الإرداء : الإهلاك نِعْمَةُ رَبِّي : عصمته وتوفيقه الْمُحْضَرِينَ : الذين أحضروا العذاب وذاقوه.
ما مضى كان في شأن الكفار وجزائهم ، وقد حكم اللّه عليهم بأنهم لذائقو العذاب الأليم ، وما يجزون إلا بما كانوا يعملون.
لكن عباد اللّه المخلصين لهم جنات الخلد ، فيها ينعمون بنعيم دائم مقيم ، ولعل ذكر هؤلاء وهؤلاء وجزاء كل متجاورين أدعى للتأثير. وأبلغ في إظهار الفرق جليا للناس لعلهم يعتبرون.
المعنى :
إنكم أيها الناس لذائقو العذاب الأليم إلا عباد اللّه الصالحين في عبادتهم الذين أخلصهم اللّه لطاعته ، وحباهم بتوفيقه وهدايته ، أولئك لهم رزق معلوم كنهه ، معروف بطيب الطعم والرائحة ، وجمال المنظر وحسن المخبر ، هذا الرزق المعلوم فسر « 1 » بالفواكه وهي كل ما يؤكل تلذذا ولا يؤخذ تقوتا إذ ليسوا في حاجة إلى ما يقيتهم.
وهذا الرزق المعلوم ، والفواكه الطيبة يأكلها أصحابها في حال أنهم مكرمون ومعظمون ، وهذا النعيم الروحي بعد النعيم الجسماني وليس أكمل عند النفس ، ولا أفضل عند الإنسان من التكريم مع الإكرام. لا سيما إذا كان ذلك في جنات خلقت للنعيم المقيم ، والمتاع الدائم.
وهم فيها على سرر متقابلون ، والتقابل أتم للسرور ، وآنس للنفس ، فلا خصام ولا جدال ، بل الوجوه متقابلة ، والصدور منشرحة ، وهم في مجالسهم يطاف عليهم بخمر في صحاف من ذهب ، ويطوف بها عليهم غلمان كأنهم لؤلؤ مكنون ، يطاف عليهم بخمر من معين ، موصوفة بأنها بيضاء لذيذة للشاربين ، هذه الخمر ليست كخمر الدنيا التي فيها السكر والعربدة ، والقيء ، وإثارة الشهوة الحيوانية ، وهلاك النفس والمال وضياع الشرف والكرامة.
___________
(1) - وهذه إشارة إلى أن فواكه تعرب بدلا أو عطف بيان للرزق.(3/206)
ج 3 ، ص : 207
خمر الآخرة لا فيها غول ، ولا هم ينزفون ، ما أروع هذا التعبير وما أبلغه!! خمر الآخرة ليس فيها فساد ، ولا هلاك للنفس ، وللعقل ، وللمال ، ولا للشخصية ، أى :
لا فيها غول ، وليس هم لأجلها ينزفون ، أى : لا تذهب الخمر عقولهم ، ولعل إفراد هذا بالذكر مع أنه داخل في عموم قول : لا فيها غول دليل على أن فساده كثير ، وخطر ضياع العقل كبير ، حتى كأنه جنس يستحق الذكر برأسه.
وعندهم زوجاتهم قاصرات الطرف ، قد قصرن أبصارهن عليهم فلا يمددن طرفا إلى غيرهم ، فهن عرب - متحببات إلى أزواجهن - أتراب ، عين ، واسعات العيون والأحداق ومع هذا فهن قاصرات الطرف ، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ، كأنهن البيض المكنون في البياض والصفاء ، والحفظ والنقاء.
يطاف عليهم بخمر كأنها النهر فيشربون ويتحادثون كما هي عادة المجتمعين للشرب.
فأقبل بعضهم على بعض يتجاذبون أطراف الحديث يتساءلون عما جرى لهم في الدنيا ، وما أحلى الذكرى عند فراغ البال ، ورفاهية الحال.
ماذا قالوا ؟ قال قائل منهم في أثناء حديثه : إنى كان لي قرين في الدنيا يقول موبخا ومؤنبا لي على ما كنت عليه من الإيمان والتصديق بالبعث يقول : أإنك لمن المصدقين بيوم القيامة ؟ أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما نبعث ؟ أإنا لمدينون ، أى : لمبعوثون مجازون ؟ وهكذا يقول الكفار! قال ذلك القائل الذي كان له قرين يعترض عليه لأنه آمن قال لجلسائه : هل أنتم مطلعون « 1 » على أهل النار لأريكم هذا القرين ومآله ، فاطلع على أهل النار من كوة أو على كيفية - اللّه أعلم بها - فرآه - أى : القرين - في وسط الجحيم يتلظى بالنار المسعرة التي وقودها الناس والحجارة ، وبئس القرار.
وماذا قال له ؟ قال لقرينه : تاللّه إن كدت وقاربت لتردينى وتهلكني بما كنت تفعله معى ، ولو لا نعمة ربي وتوفيقه وهدايته لكنت من المحضرين للعذاب كما أحضرت أنت وأحزابك.
أفما نحن بميتين إلا بموتتنا الأولى « 2 » وهذا رجوع إلى محاورة جلسائه ابتهاجا بما منحه
___________
(1) - الاستفهام هنا مراد به العرض أو الأمر ، أى : اطلعوا.
(2) - الاستفهام للتقرير فيه معنى التعجب ، والفاء فيه للعطف ، والمعطوف عليه تقديره : أنحن مخلدون ؟(3/207)
ج 3 ، ص : 208
اللّه من فضل ، وما أجزله له من عطاء ، وتعريضا بالقرين ، وعبرة وعظة للناس أجمعين ، أنحن مخلدون في الجنة فما نحن بميتين أبدا إلا موتتنا الأولى التي حصلت في الدنيا ، وما نحن بمعذبين كأصحاب النار ؟ !! إن هذا - النعيم الدائم المقيم وهذا الفضل العظيم - لهو الفوز العظيم الذي يستحق ذلك الاسم الكريم ، لمثل هذا الأمر الجليل ينبغي أن يعمل العاملون ، ويطلب الطالبون لا أن يعمل الناس للدنيا الفانية والأعراض الزائلة ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وهذه هي جهنم مأوى الظالمين [سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 74]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
المفردات :
نُزُلًا : هو الرزق الواسع ، وذكر الراغب : ما يعد للنازل من الزاد شَجَرَةُ الزَّقُّومِ التزقم : هو البلع مع الجهد والألم للأشياء الكريهة الرائحة فِتْنَةً : ابتلاء(3/208)
ج 3 ، ص : 209
أو عذابا أَصْلِ الْجَحِيمِ : قعر جهنم طَلْعُها الطلع : اسم لثمر النخلة أول بروزه ، وإطلاقه على ثمر هذه الشجرة مجاز لَشَوْباً الشوب : الخلط ، يقال : شاب طعامه وشرابه إذا خلطهما بشيء يشوبهما حَمِيمٍ الحميم : الماء الحار يُهْرَعُونَ الإهراع : الإسراع برعدة كهيئة الهرولة ، يقال : جاء فلان يهرع إلى النار : إذا استحثه البرد إليها ، فهذا الفعل ملازم للبناء للمجهول.
المعنى :
قل يا محمد لقومك - على سبيل التوبيخ والتبكيت والتهكم - : أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم ؟ والخيرية بالنسبة إلى ما اختاره الكفار على غير ذلك المعلوم في جنات النعيم الذي مضى ذكر طرف منه وكانت نهايته اللذة والسرور ، أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم التي هي طعامه الظلمة الآثمين ، والتي نهايتا الألم والحزن ، وبعبارة واضحة : إن الرزق المعلوم - الذي مضى وصفه - نزل أهل الجنة. والشجرة الملعونة شجرة الزقوم نزل أهل النار ، فأيهما خير في كونه نزلا .. ؟ !
إنا جعلنا شجرة الزقوم ذات الرائحة الكريهة والطعم المر البشع جعلناها فتنة للذين كفروا حيث قالوا : كيف تكون شجرة تنبت في قعر جهنم وبين النار المحرقة ورطوبة النبات بون شاسع ؟ وجعلها ربك عذابا لهم في الآخرة ، وأى عذاب أشد من هذا ؟
إنها شجرة تنبت في قعر جهنم ثمرها كأنه رءوس الشياطين في تناهى القبح والهول وفظاعة المنظر وبشاعته « 1 » .
فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون على بشاعتها وسوء طعمها وقبح مذاقها ، ثم إن لهم بعد ذلك لشرابا مخلوطا بالحميم.
ويقول الكشاف ذاكرا الحكمة في الإتيان بثم هنا : إنه ذكر الطعام بتلك الكراهة والبشاعة ثم ذكر الشراب بما هو أكره وأبشع فجاء بثم للدلالة على تراخى حال الشراب عن حال الطعام. أى أن حال الشراب كانت أشد فظاعة وألما ، ثم إنهم بعد ذلك كله مرجعهم ومأواهم لإلى الجحيم المهيأ لهم نزلا جزاء بما كانوا يعملون.
___________
(1) - والعرب تشبه هنا المنظر الحسن بالملك « إن هذا إلا ملك كريم » وصاحب المنظر الكرية بالشيطان والغول ، وتشبيه الشيء المحسوس بالأمر الثابت في الذهن والخيال يسمى تشبيها تخييليا وهو معروف في اللغة يقول امرؤ القيس « ومسنونة زرق كأنياب أغوال » .(3/209)
ج 3 ، ص : 210
ولقد علل القرآن استحقاقهم ما ذكر بتقليد الآباء في الدين من غير أن يكون لهم وجه حق إذ قلدوهم في الباطل بدون دليل أو حجة ، وقد كان آباؤهم في ضلال مبين فهم على آثار آبائهم يهرعون ويسيرون بسرعة شديدة كأنهم مساقون بسياط من نار.
ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين في الأمم السابقة ، ولقد أرسلنا فيهم أنبياء منذرين أنذروهم سوء العاقبة فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ؟ فلقد أهلكوا إهلاكا تامّا لما كفروا وكذبوا ، لكن عباد اللّه المخلصين الذين أخلصهم اللّه له بتوفيقهم إلى الخير والإيمان هم على صراط مستقيم ، ولهم جزاء الخلد جزاء بما كانوا يعملون.
من قصة نوح [سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 82]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
المفردات :
نادانا : المراد من النداء الاستغاثة الْكَرْبِ : الغم الشديد
المعنى :
وهذا تفصيل لما أجمل سابقا ببيان أحوال بعض المنذرين مع بيان حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة المشركين ، وبدأ بقصة نوح لأنه أول الأنبياء أولى العزم ، وأبو البشر بعد آدم.(3/210)
ج 3 ، ص : 211
وتاللّه لقد نادانا نوح واستغاث بنا ، ودعا على قومه بالهلاك حيث قال : رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً وذلك بعد كثرة دعائه لهم إلى الإيمان فلم يزدهم إلا فرارا ، فأجابه إلى طلبه أحسن الإجابة فو اللّه لنعم المجيبون نحن ونجيناه وأهله الذين آمنوا من الغم والكرب العظيم ، والمراد نجيناهم من الغرق قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ وجعلنا ذريته هم الباقين الناجين ، وتركنا عليه في الأمم التي جاءت بعده الثناء الحسن وهو سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ أى تركنا عليه هذا الكلام بعينه ، والمراد أبقينا له دعاء الناس له أمة بعد أمة.
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وهذا تعليل لما ذكر من أنه من استحق الثناء والدعاء له من الأمم كلها ، بكونه - عليه السلام - من زمرة المعروفين بالإحسان ، وإحسان نوح مجاهدته أعداء اللّه - تعالى - بالدعوة إلى دينه والصبر الطويل على الأذى في سبيل اللّه.
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وهذا تعليل لكونه - عليه السلام - من المحسنين بوصفه بخالص الإيمان وكمال العبودية ، ونجيناه وأهله ، ثم أغرقنا الآخرين المغايرين لنوح - عليه السلام - في الإيمان فاعتبروا بذلك يا أولى الأبصار لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ.
من قصة إبراهيم عليه السلام [سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 101]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92)
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)(3/211)
ج 3 ، ص : 212
المفردات :
شِيعَتِهِ شيعة الرجل : أتباعه وأنصاره ، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم متشيعون له ثم صارت بعد موت سيدنا على بن أبى طالب تطلق على جماعة خاصة جاءَ رَبَّهُ : حقيقة المجيء بالشيء نقله من مكانه والمراد هنا جاء ربه سليم القلب « 1 » أَإِفْكاً الإفك : أسوأ الكذب سَقِيمٌ : مريض وعليل فَراغَ مال في خفية روغان الثعلب يَزِفُّونَ : يسرعون المشي والزفيف والإسراع الْجَحِيمِ : النار الشديدة كَيْداً : شرّا.
المعنى :
وهذه قصة إبراهيم - عليه السلام - أبى الأنبياء جاءت بعد قصة نوح الأب الثاني للبشر ، ومما يزيد المناسبة حسنا أن نوحا نجاه اللّه من الغرق ، وإبراهيم نجاه اللّه من النار ، وكذلك ينجى ربك المؤمنين ، وإن ممن شايع نوحا وتابعه في الأصول العامة للشريعة ، وإن اختلفا في الأحكام الفرعية لإبراهيم الخليل.
___________
(1) - ففي جاء استعارة تصريحية حيث شبه إخلاصه قلبه للّه بمجيئه ، والجامع تحقق الفوز مما يستجلب الرضا.(3/212)
ج 3 ، ص : 213
اذكر وقت أن جاء ربه بقلب سليم من كل سوء ومكروه ، جاءه مخلصا صادقا إيمانه ، كأنه جاء بتحفة من عنده لربه ، فاستحق المثوبة والجزاء.
إذ قال في هذه الحالة لأبيه وقومه : ما الذي تعبدونه ؟ أنكر عليهم عبادتهم للأصنام ولا غرابة في إنكار إبراهيم هذا بعد قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ فقال : أإفكا آلهة دون اللّه تريدون « 1 » ؟ ! أى أتريدون آلهة دون اللّه لأجل الإفك والكذب على الناس ؟ أتتخذون آلهة من دون اللّه الواحد القهار لأجل الإفك والكذب .. ؟
فما ظنكم برب العالمين إذ عبدتم غيره ؟ أتظنون أنه يترككم بلا عقاب شديد جزاء على عملكم هذا القبيح ؟ : لا ..
وقد كان إبراهيم - عليه السلام - كثير التأمل في ملكوت اللّه فنظر نظرة تفكر في النجوم : من خلقها ؟ وكيف تسير ؟ ومن حركها ؟ وأين هي في النهار ؟ هذا هو نظر إبراهيم للنجوم ليتوصل بذلك إلى إدراك بعض الواجب نحو خالق السماء والنجوم وفاطر السموات والأرض.
فقال لقومه : إنى سقيم ومريض ، ولست مستريحا إلى عبادتكم للأفلاك والنجوم وهذه الأصنام والأوثان ، أما قومه فحين حاجهم إبراهيم تولوا عنه مدبرين ورموه بالإفك والبهتان العظيم ، فقصد آلهتهم في الخفاء ، وراغ إلى أصنامهم قاصدا التعرض لها ليكلموه في شأنها ، ويعلمون بالدليل أنها أحجار وخشب لا تسمع ولا تبصر ، ولا تغنى ولا تنفع.
وقد كانوا يأتون بالطعام إلى آلهتهم لتأكل وتبارك لهم فيه ، ويظهر أن السدنة كانت تأكل بعضه فيظنون أن الآلهة أكلت.
أما إبراهيم فذهب إلى الآلهة وأمامها الأكل فقال : ألا تأكلون!! ما لكم لا تنطقون ؟
عجبا لكم أى شيء دهاكم حتى منعكم من الكلام ؟ فلما لم يحصل منهم أكل ولا جواب عن سؤال مال عليهم ضاربا ضربا بالقوة والشدة.
___________
(1) - في هذه الآية الاستفهام إنكارى ، وقدم المفعول لأجله على المفعول به لأنه أهم ، وقدم المفعول به على الفعل لأن إنكاره - أى المفعول - هو المقصود.(3/213)
ج 3 ، ص : 214
فأقبلوا إليه مسرعين المشي لما سمعوا بالذي حصل من إبراهيم قائلين له : نحن نعبدها ونقدسها ، وأنت تضربها وتكسرها ؟ ! : إن هذه لجرأة منك شديدة! قال لهم موبخا : أتعبدون ما تنحتونه بأيديكم ، وتصنعونه على أعينكم من حجارة أو خشب ، وتتركون عبادة اللّه الذي خلقكم وسواكم وعد لكم في أحسن صورة وهو الذي خلقكم والمادة التي تعملون منها الأصنام ؟ !.
قالوا بعد أن تشاوروا في أمره : ابنوا له بنيانا واسعا تملأونه حطبا كثيرا ، وأضرموا فيه النار ، فإذا التهبت فألقوه في تلك النار المسعرة ، فأرادوا به كيدا وسوءا باحتيال منهم ومكر فجعلهم ربك من الأسفلين الأذلين حيث أبطل كيدهم ورده في نحورهم ، وجعله دليلا على صدق إبراهيم ، ودليلا على علو شأنه حيث جعلت النار المحرقة بردا وسلاما عليه.
وقال إبراهيم لما نجا من كيدهم : إنى ذاهب إلى ربي يهديني إلى ما فيه صلاح ديني ودنياى ، رب هب لي ولدا من الصالحين يعينني على الدعوة والطاعة. ويؤنسني في الغربة والمجاعة. فبشرناه بغلام حليم ..
قصة الذبيح [سورة الصافات (37) : الآيات 102 الى 113]
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106)
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)(3/214)
ج 3 ، ص : 215
المفردات :
السَّعْيَ : الحد الذي يسعى فيه مع أبيه في تحصيل المعاش وَتَلَّهُ : صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض ، وأصل التل : الرمي على التل الذي هو التراب المجتمع ، ثم استعمل في كل صرع لِلْجَبِينِ والجبين : أحد جانبي الجبهة ، بين جبينين ، واللام لبيان ما صرع عليه ، كقوله تعالى : يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وكقول الشاعر : وخر صريعا لليدين وللفم - بِذِبْحٍ : بحيوان يذبح.
المعنى :
دعا إبراهيم ربه قائلا : رب هب لي غلاما من الصالحين ، فقبل اللّه دعاءه واستجاب له ، وبشره بغلام كريم الخلق حليم - على لسان الملائكة فوهبناه له ، ونشأ كما ينشأ الغلمان فلما « 1 » بلغ درجة أن يسعى مع أبيه في أشغاله ، وتحصيل معاشه قال له أبوه :
إنى أرى في المنام أنى أذبحك ، ورؤيا الصالحين من عباد اللّه قبس من نور اللّه ، ورؤيا الأنبياء وحى من السماء لا ينكر ، وقد رأى إبراهيم الخليل في منامه أنه يذبح ابنه. وأول رؤياه على هذا ، وكان ذلك الولد عزيزا على أبيه لأنه فلذة كبده وإنسان عينه ، وقد جاء من اللّه بعد الدعاء وبشارة الملائكة به فكان له مزيد فضل ، وعلو كعب ، ومع ذلك فقد صدع إبراهيم لأمر ربه ، وعرض الأمر على ابنه الوحيد ليرى ماذا يرى ؟ فقال ابنه : يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء اللّه من الصابرين ، وهنا تبرز أمام الإنسان معاني الإيمان الصادق والاستسلام الحق والصبر والرضاء بالقضاء والقدر ؟
___________
(1) - الفاء هنا فاء الفصيحة التي تفصح عن كلام مقدر يفهم من السياق العام (و قد ذكرناه فتنبه).(3/215)
ج 3 ، ص : 216
يؤمر أب بذبح ابنه فيمتثل الأب والابن فَلَمَّا أَسْلَما أى : استسلم الأب ورضى الابن ، إن هذا لعجيب!! وليس بالكثير على إبراهيم الخليل وابنه الصابر صادق الوعد الأمين.
قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى « 1 » قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.
فلما أسلما وخضعا للّه وانقادا لأمره ، وصرع الأب ابنه على الجبين ، وأمرّ السكين على الودجين فلم تقطع ولم تكسر ، وأعادها مرارا فلم تزد إلا كلالا ، وتعجب إبراهيم من هذا ، وضجت ملائكة السماء وأتى اللّه بالفرج القريب ، فنادى إبراهيم ملك من قبل الحق - تبارك وتعالى - أى : إبراهيم كفى كفى!! قد صدقت الرؤيا ، وقمت بالواجب عليك وبذلت جهدك ، وأتيت بما في وسعك (قد حققت ما نبهناك عليه ، وفعلت ما أمكنك ثم امتنعت لما منعناك) انتهى من القرطبي.
فلما أسلما وتله للجبين ، وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ، فديناه بكبش سمين وخلصناهما من الشدة والكرب الشديد ، لما ذا ؟ إن ربك يجزى المحسنين جزاء مثل هذا الجزاء ، وقد أحسنا حيث امتثلا الأمر في بذل النفس على صورة رائعة لا يقبلها إلا أولو العزم من الرسل ، إن هذا لهو البلاء المبين ، وأى بلاء أشد من أن تؤمر بذبح وحيدك فتمتثل صابرا محتسبا أجرك عند ربك ؟ ! وفديناه بذبح عظيم.
روى أنه كان كبشا نزل من الجنة فذبحه إبراهيم وهلل وكبر
وتركنا عليه في الأمم الآخرة ثناء حسنا وذكرا عاطرا - وسلام على إبراهيم - مثل ذلك أى : بقاء الذكر العاطر فيما بين الأمم نجزى المحسنين ، وهذا لأنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق حالة كونه نبيا من الصالحين.
ومن هنا شرعت الأضحية في عيد الأضحى ، عيد الفداء ، وذكر إتمام النعمة وظهور كلمة الإسلام ، والقضاء على الشرك والظلم والبهتان ، ولم يكن ذلك كله إلا
___________
(1) - ذكروا في هذه أعاريب منها أن ماذا (مركبة) من ما الاستفهامية مفعول مقدم لترى ، وجملة ترى في محل نصب بالنظر ، أو ما استفهام ، و(ذا) اسم موصول (مبتدأ أو خبر) والجملة مفعول مقدم أيضا.(3/216)
ج 3 ، ص : 217
بعد التضحية من الرسول وصحبه بالنفس والنفيس ، وفداء العقيدة والدعوة بالوطن والنفس والمال والجهاد في سبيل اللّه.
فهيا بنا نحن أمة الإسلام ، وأتباع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم نعاهد اللّه على الجهاد في سبيله وفي سبيل دعوته ، باذلين كل مرتخص وغال في إحقاق الحق وإزهاق الباطل وفي سبيل نشر علم الإسلام على حصون الظلم والطغيان.
هيا بنا نجاهد ونجاهد في سبيل القرآن وإعادة مجد الإسلام حتى يكون الدين كله للّه وكفى باللّه شهيدا.
وباركنا على إبراهيم وعلى إسحاق فكان منهما الأنبياء والملوك والحكام ، وكان من ذريتهما محسن في عمله ، وظالم لنفسه ظلما مبينا ، ومن هنا كان النسب لا أساس له في الهدى والضلال.
بقيت مسألة : من هو الذبيح أهو إسحاق أم إسماعيل ؟ في الواقع الآيات القرآنية بعد ما ساق قصة الذبيح قال : وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين فهذا يدل على أن الذبيح غيره ، وهو إسماعيل ، وبعض العلماء يرى أنه إسحاق ، ويستدل على ذلك بأن إبراهيم دعا ربه أن يهب له غلاما صالحا حين فارق قومه وهاجر إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط واللّه يقول : فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ [مريم 49] والفداء كان للغلام الذي بشر به ، والذي بشر به هو إسحاق : وبشرناه بإسحاق ، ويظهر أن إسحاق كان أكبر من إسماعيل ، وأن البشارة كانت قبل إسماعيل ، وبعضهم يرى الرأى الأول. واللّه أعلم بكتابه ، والخطب سهل.
طرف من قصة موسى وهارون [سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 122]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)(3/217)
ج 3 ، ص : 218
المعنى :
بعد ذكر نجاة إسماعيل من الذبح ، وخلوص إبراهيم من البلاء الذي نزل به ظافرا بالرضا ممتثلا أمر ربه الكريم.
ذكر : ما من به على موسى وهارون وتاللّه لقد مننا عليهما بالنبوة وآتيناهما الحكمة ، ونجيناهما وقومهما من الكرب والخسف وسوء العذاب الذي كان ينالهم من فرعون وملئه ، فقد كان يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم إنه كان من المفسدين ، وقد أراد اللّه أن يمن على بنى إسرائيل الذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم الوارثين ، فنصرهم على عدوهم ، وكانوا هم الغالبين ، وآتينا موسى وهارون التوراة كتابا بينا ظاهرا فيه الحق الذي لا تحريف فيه ولا بهتان ، وأبقينا عليهما في الآخرة ثناء حسنا - سلام على موسى وهارون - وذاك لأن ربك يجزى المحسنين جزاء حسنا مثل ذلك ، وقد كان موسى وهارون من المحسنين لأنهما من عبادنا المؤمنين.
طرف من قصة إلياس [سورة الصافات (37) : الآيات 123 الى 132]
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)(3/218)
ج 3 ، ص : 219
المفردات :
إِلْياسَ : نبي من أنبياء بنى إسرائيل بَعْلًا : اسم صنم ، وقيل : البعل الرب ، ومنه بعل المرأة لزوجها وَتَذَرُونَ : تتركون إِلْ ياسِينَ العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعبا مثل : ياسين وإلياس وإلياسين ، كل ذلك شيء واحد.
المعنى :
وإن إلياس لنبي وإنه لمن المرسلين إلى قومه بنى إسرائيل ، واذكر إذ قال لقومه : ألا تتقون اللّه ربكم ، وتخافون يوما يجعل الولدان شيئا ، أتدعون ربا غيره ، وتتركون اللّه ربكم الذي هو أحسن الخالقين ؟ وليس هناك خالق سواه يستحق العبادة والتقديس :
وهو اللّه ربكم وخالقكم ، وخالق آبائكم الأولين. ومن كان كذلك فلا إله غيره ، ولا معبود سواه.
فكذبوه وكفروا به وبرسالته فكان جزاؤهم أنهم محضرون في جهنم يذوقون العذاب الأليم ، لكن عباد اللّه المخلصين الذين أسلموا للّه رب العالمين ، وآمنوا بالرسل الأكرمين لهم جنات الخلد ، فيها ينعمون وبظلها يتمتعون.
وأبقينا عليه الثناء الجميل الذي هو - سلام على إل ياسين - وفي قراءة « آل ياسين » فكأنه - واللّه أعلم - جعل اسمه إلياس وياسين ، وسلّم على آله ، أى : أهل دينه ومن اتبعه بالحق ، وإذا سلم على آله فالسلام عليه من باب أولى.
ثم ذكر في تعليل هذا الإكرام قوله : إنا كذلك نجزى المحسنين ، وقد كان إلياس من المحسنين لأنه كان من عبادنا المؤمنين ، وسلام اللّه ورحمته وبركاته عليهم أجمعين.(3/219)
ج 3 ، ص : 220
ذكر طرف من قصة قوم لوط [سورة الصافات (37) : الآيات 133 الى 138]
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138)
المعنى :
وهذا لوط من المرسلين الذين أرسلوا لقومهم يخرجونهم من الظلمات إلى النور ، ويهدونهم الطريق المستقيم فكذبوا وأوذوا حتى غضب ربك على القوم الكافرين فأمطرهم بعذاب من عنده ، وإن عذاب ربك لشديد ، واذكر إذ نجينا لوطا ومن معه من المؤمنين نجيناه وأهله أجمعين إلا امرأته وكانت عجوزا في عداد القوم الغابرين الهالكين. ثم دمرنا الآخرين الذين كذبوا وعصوا أمر ربك ، وهذه ديارهم وآثارهم شاهدة عليهم ، وإنكم لتمرون عليهم صباحا ومساء بالنهار وبالليل .. أفلا تعقلون أيها المشركون من قريش ؟ أفلا تتعظون بما حل بغيركم ؟ !.
قصة يونس عليه السلام [سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 148]
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)(3/220)
ج 3 ، ص : 221
المفردات :
أَبَقَ
: هرب بلا إذن ، ومنه : عبد آبق الْمَشْحُونِ
: المملوء فَساهَمَ
: قارع أهل السفينة ، من المساهمة وهي الاقتراع الْمُدْحَضِينَ
:
المغلوبين بالقرعة مُلِيمٌ في كتب اللغة : ألام الرجل : أتى بما يلام عليه ، أو مليم نفسه فَنَبَذْناهُ : ألقيناه بِالْعَراءِ : بالساحل سَقِيمٌ : عليل يَقْطِينٍ اليقطين : شجرة الدباء حِينٍ : إلى مدة وأجل معلوم.
لقد ذكر يونس بن متى في القرآن الكريم أربع مرات باسمه ، وذكر بوصفه مرتين : في سورة الأنبياء وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً [الآية 87] وفي سورة القلم وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ [الآية 48].
المعنى :
وإن يونس بن متى لمن المرسلين إلى أهل نينوى ، اذكر وقت أن أبق إلى الفلك المشحون بعد أن ذهب مغاضبا قومه لأجل ربه.
وإن ليونس مع قومه قصة تتلخص في أنه أرسل إليهم ، ودعاهم إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام ، ولكنهم لم يستجيبوا لقوله ، ولم يسمعوا لأمره ، فشق عليه ذلك ، وامتلأ قلبه غضبا وغيظا من مواقف قومه ، فرحل عنهم مغاضبا لقومه يائسا من إيمانهم ، وأبق قاصدا الهروب منهم والبعد عنهم فلما وصل إلى شاطئ البحر وجد سفينة مملوءة بالناس فركب معهم ولما جاوز الساحل هاجت الأمواج ، واصطلحت على السفينة(3/221)
ج 3 ، ص : 222
الرياح ، وتوقع الراكبون سوء المصير ، فاضطرب القوم ، واشتوروا فيما يصنعون ، ثم اتفقوا على الاقتراع فيلقون بمن تقع عليه القرعة ، فساهم الجميع ، ووقع السهم على يونس ، فعز عليهم إلقاؤه في البحر ، تكريما لشأنه وعرفانا لفضله ، فعادوا للمساهمة مرة ثانية وثالثة فيقع السهم على يونس وحده وأنه سيكون من نصيب البحر حتى تخف السفينة براكبيها فتسير.
ولما تحقق يونس من هذا أنه اقترف شيئا يغضب اللّه لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وأدراك أن تركه قومه ، وعدم صبره على أذاهم ، وخروجه بلا إذن عمل ما كان ينبغي أن يكون فألقى بنفسه في البحر ، فالتقمه الحوت ، وهو مليم نفسه على ما فرط منها.
وأوحى اللّه إلى الحوت أن يبتلعه وظل في جوفه في ظلمات ثلاث ، ولقد امتدت يد العناية الإلهية به فكان محفوظا ينادى اللّه ويدعوه ، ويسبحه ويرجوه فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنبياء آية 87] ، فاستجاب اللّه دعاءه وأوحى إلى الحوت فألقاه على الساحل ، وتلقته العناية وأنبتت عليه شجرة من يقطين ، قيل : هي الدباء ، أى : القرع.
ثم أرسله ربك إلى مائة ألف أو يزيدون وهم أهل نينوى على الصحيح ، فآمنوا به وصدقوا برسالته ، وتركوا عبادة الأصنام فمتعهم ربك إلى حين معلوم وأجل محدود هو مدة بقائهم في الدنيا ، أو مدة إيمانهم والتجائهم إلى اللّه في كل أمورهم.
وهكذا كل أمة آمنت بربها فنفعها إيمانها وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [سورة هود آية 3].
نقاش المشركين في عقائدهم [سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 170]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163)
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)(3/222)
ج 3 ، ص : 223
المفردات :
فَاسْتَفْتِهِمْ : استخبرهم واطلب منهم الفتيا أَمْ معناها بل - الإضرابية - مع همزة الاستفهام إِفْكِهِمْ الإفك : أشد أنواع الكذب أَصْطَفَى : اختار ، والاصطفاء : أخذ صفوة الشيء.
سُلْطانٌ : حجة قوية. الْجِنَّةِ : الملائكة وسموا بذلك لاستتارهم عن الأنظار نَسَباً : مصاهرة وصلة بِفاتِنِينَ : بحاملين على الفتنة والإضلال صالِ الْجَحِيمِ يقال : صلى النار يصلاها : دخلها واحترق بها.
هذه السورة مكية ناقشت المكيين في عقائدهم وخاصة إثبات التوحيد ونفى الشركة ، وإثبات البعث يوم القيامة ، وساق اللّه فيها البراهين القاطعة على ذلك ، وبين(3/223)
ج 3 ، ص : 224
ما يلاقيه الإنسان من خير أو شر يوم الجزاء ، وما أعد للمؤمنين من النعيم المقيم ، ثم ذكر - سبحانه - أنه قد ضل من قبلهم أكثر الأولين ، وأنه أرسل إليهم منذرين ، ثم أورد قصص بعض الأنبياء - عليهم السلام - بشيء من التفصيل متضمنا كل منها ما يدل على فضلهم وعبوديتهم له - عز وجل - وما أعد لهم.
ثم أمر اللّه نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم هنا - في ختام السورة - بتبكيتهم بطريق الاستفتاء عن كل شيء تنكره العقول ، وتأباه الطباع وهو القسمة الجائرة الباطلة حيث كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات اللّه ، وذلك أن قبائل جهينة وخزاعة. وبنى مليح. وبنى سلمة.
وعبد الدار زعموا أن الملائكة بنات اللّه تعالى عما يقولون علوا كبيرا أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ؟ « 1 » كيف يكون ذلك منهم ؟ والحال أنه إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم! يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ويقول : واللّه ما هي بنعم الولد - الولد يطلق على الذكر والأنثى - أيمسكه على هون وذل أم يدسه في التراب ؟ ألا ساء ما يحكمون! فهم يجعلون للّه ما يكرهون ، وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار ، وأنهم قوم مفرطون.
بل أخلقنا الملائكة إناثا ؟ وهم حاضرون ذلك ؟ وهذا تبكيت وإنكار لهم حيث وصفوا الملائكة وهم قوم أطهار - عباد بالليل والنهار - بأنهم إناث ، فهم لا دليل لهم على ذلك إلا الحضور وقد نفى ، أما الأدلة العقلية أو النقلية فلا تحتاج إلى بطلان.
ألا إنهم من كذبهم وإفكهم الباطل ليقولون : ولد اللّه وإنهم لكاذبون في هذه الدعوى إذ ليس لها مصدر إلا الإفك الصريح والافتراء القبيح من غير دليل أو شبهة.
أصطفى البنات على البنين ؟ عجبا لكم كيف تقولون إن البنات أولاد اللّه ، وكيف يصطفى البنات على البنين ؟ وما لكم كيف تحكمون بهذا الحكم الذي تشهد ببطلانه بدائه العقول ؟ !.
أتلاحظون ذلك فلا تتذكرون بطلانه ؟ مع أن من له أدنى مسكة من عقل ينكره.
بل ألكم سلطان مبين ؟ وهذا إضراب انتقالي من توبيخهم وتبكيتهم بما ذكر إلى
___________
(1) الهمزة هنا للاستفهام الإنكارى وهكذا كل استفهام في هذه الآيات.(3/224)
ج 3 ، ص : 225
مطالبتهم بالحجة المنقولة على ما يدعون من أن الملائكة بنات اللّه إذ الحكم المقبول لا بد له من سند حسى أو عقلي أو نقلي ، وقد انتفى حضورهم ومشاهدتهم خلق الملائكة إناثا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ؟ ولا دليل لهم عقلي يؤيد دعواهم أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ؟ فلم يبق إلا الحجة المنقولة فإن كانت فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين ، والأمر هنا (فأتوا) للتعجيز ، كقولك : اصعد السماء.
روى أن بعض كفار قريش لما قالت : الملائكة بنات اللّه قال لهم أبو بكر - على سبيل التبكيت والإنكار - : فمن أمهاتهم ؟ فقالوا : بنات سروات الجن ، فنزل قوله تعالى وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً
وقد كان الخطاب معهم فالتفت يتكلم عنهم (بالغيبة) للإشارة إلى انقطاعهم عن الجواب وسقوطهم عن درجة الخطاب ، وعلى ذلك فالمراد بالجنة هم الشياطين ، وبالنسب المصاهرة ، ولعل المراد بالجنة هم الملائكة وبالنسب النسبة له - سبحانه وتعالى - حيث قالوا : هم بنات اللّه.
وباللّه لقد علمت الجنة : أن من يقول ذلك لمحضرون ، وفي عذاب جهنم مخلدون فانظروا أين أنتم يا كفار مكة ؟
سبحان اللّه ، وتنزيها له عما يصفون! سبحانه وتعالى عما يشركون ، وتقديسا له وتنزيها عما يدعيه المبطلون المفترون!! إن من يشرك باللّه لفي جهنم محضرون إلا عباد اللّه المخلصين الذين أخلصوا للّه في عبادتهم واصطفاهم ربهم فأخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام ، أولئك في الجنة لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [سورة ص الآيتان 82 ، 83].
إذا علمتم هذا فإنكم أيها المشركون ومن عبدتموهم ما أنتم على اللّه - عز وجل - بفاتنين ، على معنى : ما أنتم ومعبودكم مفسدين أحدا على اللّه - عز وجل - بإغوائكم إلا من سبق في علم اللّه - تعالى - أنه ممن يدخلون النار ويصلونها ، وبئس القرار ، فالأمر كله للّه ، وقد ترك للعبد حرية الاختيار ليجازيه على عمله بالحسنى أو بالنار.
أما الملائكة الذين تدعون أنهم بنات اللّه أو تشركونهم مع اللّه فها هو ذا اعترافهم الصريح ، وها هو ذا موقفهم مع الحق - تبارك وتعالى - وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ(3/225)
ج 3 ، ص : 226
مَعْلُومٌ
في العبادة لا يتعداه ، وأما نظام الكون ، وتدبير العالم فموكول إلى اللّه وحده لا شريك له ، ونحن لنا حد لا نتجاوزه ، ولا نستطيع أن نتعداه خضوعا واستسلاما لقضائه وتواضعا لجلاله ، فمنهم الراكع لا يقيم صلبه ، ومنهم الساجد لا يرفع وجهه ، ولكل منهم مقام معلوم في العبادة لا يتعداه ، واللّه يحكى عنهم أنهم الصافون أنفسهم للعبادة فلا يتقدم أحد ولا يتأخر عن صفته ، ومن هنا كانت تسوية الصفوف في الصلاة من إقامتها ، وأنهم هم المسبحون والمنزهون اللّه عما وصفه المشركون ، وها هو ذا إقرار الملائكة عن أنفسهم فكيف تعبدونهم أو تقولون : إنهم بنات اللّه ؟ ! وكان المشركون قبل بعثة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا عيروا بأنهم أميون جهلاء قالوا : لو أن عندنا ذكرا من الأولين ، أى لو بعث لنا رسول لكنا أول المؤمنين ، فلما جاءهم ما تمنوه كفروا به فسوف يعلمون عاقبة ذلك ، يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى اللّه بقلب سليم من الشرك خالص من الوثنية.
تقوية العزائم [سورة الصافات (37) : الآيات 171 الى 182]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)(3/226)
ج 3 ، ص : 227
المفردات :
كَلِمَتُنا : وعدنا وَأَبْصِرْهُمْ : دلهم وأخبرهم عن أشياء كأنها مرئية بِساحَتِهِمْ : بدارهم والساحة في اللغة : فناء الدار الواسع.
المعنى :
لما هدد اللّه الكفار ، وأوعد المشركين وأنذرهم بسوء العاقبة أكد بما يقوى قلب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وجنده ويشد من عزيمته هو وصحبه.
وتاللّه لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ، وباللّه سبق وتحقق وعدنا لهم بالنصر والغلبة حيث يقول الحق - تبارك وتعالى - : كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي « 1 » .
وما المراد بالوعد المدلول عليه بقوله : كلمتنا ؟ هو : إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون « 2 » والنصرة والغلبة تكون بالحجة والبرهان ، أو بالسيف والسنان ، وإقامة الدولة وكمال السلطان ، فالمؤمن وإن غلب في بعض الأوقات بسبب بعده عن دينه ، وضعف نظامه العام وسلوكه في دولته فهو الغالب بالحجة والبرهان ، على أن اللّه يتكلم عن المسلمين حقا الحاكمين بكتابه العاملين بسنة رسوله المتمسكين بما يدعو إليه الدين والقرآن من العمل والجد والنشاط والاستعداد بدليل إضافة الجند له - سبحانه وتعالى - هؤلاء المنصورون وهم الغالبون ، وعلينا أن ننظر أين نحن من هؤلاء! وإذا كان الأمر كذلك يا محمد فتول عن الكفار إلى حين ، وأعرض عنهم إلى زمن معلوم ، وأبصرهم مما ينزل عليهم من العذاب كالقتل والأسر ، وبصرهم عاقبة ذلك وأرشدهم إلى أن هذا واقع لا محالة حتى كأنه مشاهد محسوس يدرك بالبصر ، أبصرهم فسوف يبصرون كل ما وعدتهم به.
وقد كانوا يستعجلون العذاب الذي يهددهم به اللّه - سبحانه وتعالى - فيرد اللّه عليهم بقوله : أفبعذابنا يستعجلون ؟
___________
(1) - سورة المجادلة آية 21.
(2) - وهذا إشارة إلى أن قوله : « إنهم لهم المنصورون » بدل من « كلمتنا » التي هي تفسير لها ، أو هو استئناف بيانى.(3/227)
ج 3 ، ص : 228
فإذا نزل العذاب - الذي هو كالجيش الزاحف - بساحتهم وحل بدارهم فبئس الصباح صباح المنذرين بهذا العذاب ، وخص الصباح بالذكر لأن العذاب كان يأتيهم فيه والغارات والهجوم على الأعداء يكون فيه ، وتول عنهم حتى حين ، وأبصر فسوف يبصرون.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين. والحمد للّه رب العالمين.
وهذا أدب رباني ، وختام إلهى لتلك السورة التي نفت عن اللّه - عز وجل - الصاحب والشريك والولد والقرين حتى يتأدب المسلمون بهذا ، ويتحلون به في ختام جلائل أعمالهم
فقد ورد عن على - رضى اللّه عنه - عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم « من سرّه أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر جلسته حين يريد أن يقوم سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ
إلى آخر السورة.
وهذه الآيات تشتمل على تنزيه اللّه وتقديسه عن كل ما لا يليق به (سبحانه) ووصفه بكل ما يليق به من جلائل الصفات ، وسمات الجلال (رب العزة) فإن الربوبية تشير إلى التربية مع الحكمة والرحمة والفضل والنعمة ، والعزة إشارة إلى كمال القدرة والعلم وتمام الإرادة والوحدانية.
سلام من اللّه - عز وجل - ومن عباده المؤمنين على رسل اللّه الذين بلغوا عن اللّه التوحيد الصحيح والرسالة الكاملة
فقد ورد عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم « إذا سلّمتم علىّ فسلّموا على المرسلين فإنّما أنا رسول من المرسلين »
وسلام اللّه عليهم وأمن لهم يوم الفزع الأكبر.
والحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على رسل اللّه أجمعين.(3/228)
ج 3 ، ص : 229
سورة ص
هي مكية عند الجميع ، وعدد آياتها ست وثمانون آية.
وهي تشمل مناقشة المشركين في عقائدهم والرد عليهم ، وذكر قصص بعض الأنبياء التي تؤيد هذا المعنى وخاصة قصة داود وسليمان ، وأيوب ، والتعرض للمشركين ، وبيان حالهم يوم القيامة مع ذكر قصة خلق آدم وسجود الملائكة له.
[سورة ص (38) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4)
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14)
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16)(3/229)
ج 3 ، ص : 230
المفردات :
ذِي الذِّكْرِ : صاحب الشرف عِزَّةٍ : استعزاز بالباطل واستكبار عن الحق والإيمان به شِقاقٍ : خلاف قَرْنٍ : أمة من الأمم ، سميت بذلك لأنها تتقدم غيرها من الأمم كالقرن يتقدم الجسم مَناصٍ : منجى ومهرب عُجابٌ : كثير العجب الْمَلَأُ مِنْهُمْ أى : الأشراف أَنِ امْشُوا أى :
امشوا ، والمشي : نقل الأقدام عن المكان ، وقيل : هو من مشت المرأة : إذا كثرت ولادتها ، ومنه الماشية فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ المراد : ملة العرب ونحلتهم التي أدركوها اخْتِلاقٌ : كذب مختلق لا أساس له فِي الْأَسْبابِ : في المعارج الموصلة إلى ما يريدون جُنْدٌ الجند : هم الأصحاب والأتباع الممتثلون للأمر مَهْزُومٌ وأصل الهزم : غمز الشيء اليابس حتى ينهزم ، كهزم القثاء والبطيخ ذُو الْأَوْتادِ المراد : ذو الملك الثابت الذي يشبه البيت المؤسس على أوتاد وعمد فَواقٍ الفواق : الوقت بين الحلبتين أو الرضعتين حتى يجتمع اللبن في الضرع قِطَّنا :
قسطنا أو كتابنا.
المعنى :
صاد ، وأقسم بالقرآن ذي الذكر السامي والشرف العالي إنه لحق ، وإن محمدا لصادق في دعواه ، نعم إنه القرآن كلام اللّه ذو الذكر الحكيم ، والبيان الجامع لكل ما يهم العالم أجمع ، وما به صلاح الدنيا وقوم الآخرة وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ « 1 » . هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ « 2 »
___________
(1) - سورة البقرة آية 158. [.....]
(2) - سورة النحل آية 89.(3/230)
ج 3 ، ص : 231
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ « 1 » بل الذين كفروا في عزة وشقاق .. وكأن نظم الآيات هكذا : صاد وأقسم بالقرآن ذي الذكر إنه لمعجزة وإنه لحق ، بل الذين كفروا في عزة واستكبار عن الإذعان لذلك والاعتراف بالحق ، وهم في شقاق للّه ورسوله وخلاف مستمر معهما ، ثم أتبع ذلك بتهديد لهم ووعيد يزلزل كبرياءهم ، ويحطم عزتهم الجوفاء - أما العزة الحقيقة المرتكزة على أسس من الحق والعدل والكرامة فلله ولرسوله وللمؤمنين فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً « 2 » - بقوله : كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ بمعنى :
كثيرا من الأمم التي مضت والتي كانت أشد قوة وأكثر مالا وأولادا أهلكهم ربهم لما طغوا وبغوا ، وحينما نزل بهم نادوا واستغاثوا ، ولات الحين حين مناص لهم « 3 » ، وليس لهم في هذا الوقت منجى ولا مهرب.
وهذه سيئة من سيئاتهم المتفرعة عن عزتهم الفارغة واستكبارهم بالباطل وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ الآية .. كانوا يرون أن الرسالة تتنافى مع البشرية ، وإذا سلمنا بها فكان الأولى والأجدر أن تنزل على رجل من القريتين عظيم ، فهم عدو رسالة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أمرا عجيبا خارجا عن نطاق العقل والمألوف فقال الكافرون منهم : هذا ساحر لأنه يأتى بما نعجز عن تفسيره وتعليله ، وكذاب فيما يدعيه ، ويرويه عن رب العالمين.
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ « 4 » تعجبوا عجبا كثيرا من أن الرسول يقول : إن ربكم اللّه وحده لا شريك له ، ويصير الآلهة إلها واحدا ، أى :
يصيرها ويجعلها في قوله لا في الخارج ، تعجبوا من ذلك لأنه خلاف ما ألفوه ، وقد أعماهم التقليد عن النظر الصحيح والفكر السليم ، فقاسوا الأمور الحية التي هي في مكنة الفرد من الإنسان فرأوا أنه يستحيل عليه القيام بمطالب هذا الكون ، فقالوا بتعدد الآلهة ، وتعجبوا ممن يقول بوحدة الإله.
وروى أنهم اجتمعوا ، أى : الأشراف منهم مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عند عمه أبى طالب وطالبوه بالكف عن آلهتهم وذمها فرد عليهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قائلا : إنى أريد منكم كلمة واحدة تدين لكم بها العرب وتخضع لكم بها العجم. فقالوا : وما هي ؟ قال : لا إله إلا
___________
(1) - سورة الزخرف آية 44.
(2) - سورة فاطر آية 10.
(3) - لات حين : أخذت من (ليس حين) زيدت عليها التاء لتأكيد النفي ، ولا تعمل إلا في زمان ، ويحذف أحد معموليها ، والغالب أن المحذوف هو الاسم.
(4) - الاستفهام للإنكار والتعجب.(3/231)
ج 3 ، ص : 232
اللّه. فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم قائلين : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ؟ !
وانطلق الأشراف منهم يتحاورون قائلين : أن امشوا واتركوه ، وسيروا على ما أنتم عليه ، واصبروا على عبادة آلهتكم ، وتجمعوا على عبادتها إن هذا - الإشارة إلى ما وقع وشاهدوه من أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وتصلبه في أمر التوحيد وتشدده في نفى الآلهة - لشيء عظيم يراد من جهته صلّى اللّه عليه وسلّم إمضاؤه وتنفيذه لا محالة مهما كانت الظروف .. وقيل المعنى : إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا ، فلا حيلة معه إلا الصبر والمثابرة عليه.
ما سمعنا بهذا الذي يقوله في الملة التي عليها العرب أخيرا والنحلة التي رأيناهم عليها فمن أين بهذا ؟ ما هو إلا اختلاق وكذب ، وزور وبهتان.
كانت لمشركي مكة شبه ثلاث هي أوهى من بيت العنكبوت :
(ا) تعجبوا من كون الرسول واحدا منهم.
(ب) أنكروا أن تصريف هذا الكون يرجع إلى إله واحد.
(ج) أنكروا إنزال القرآن على محمد دونهم.
وقد تصدى القرآن للرد على الشبهة الثالثة بردود مفحمة ، واكتفى بسرد الشبهة الأولى والثانية لأن إثبات أن القرآن نزل من عند اللّه على محمد هو الغاية والنهاية ، وبه تزول كل شبهة.
أنزل عليه الذكر من بيننا ؟ ولما ذا اختص هو بذلك الشرف العالي والدرجة السامية درجة الرسالة عن رب العالمين ، وهذه شبهة قديمة وسلاح شهرته الأمم في وجه الرسل فها هم أولاء قوم صالح يقولون : أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هو كذاب أشر ؟ ! وقال المشركون من قريش : لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ؟ أهم يقسمون رحمة ربك ؟ ! وهذا هو الرد : بل هم في شك من ذكرى ، هؤلاء الناس قد أعماهم التقليد ، وأضلهم الجهل المطبق فلم ينظروا بالعقل المجرد عن الهوى إلى الدلائل الشاهدة على(3/232)
ج 3 ، ص : 233
صدق محمد وأن القرآن من عند اللّه فهم في شك وليس عندهم دليل ، ولذلك تارة يقولون : إنه سحر ، ومرة إنه شعر ، وثالثة إنه كهانة.
بل - وهذا إضراب عما مضى - لما يذوقوا عذابي فإنهم لو ذاقوه ولمسوه لفكروا وتدبروا ، وأدركوا أن محمدا على حق ، ولا غرابة فمن الناس من لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم ، ومن النفوس نفوس كالحجارة أو أشد قسوة لا تفتح إلا بالحديد الصلب والضرب الشديد. وفي التعبير بلما دليل على أنهم على وشك ذوقان العذاب. وما لهم ينكرون إنزال القرآن على النبي ؟ ويرون أنه لا يستحق ، بل أعندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب ؟ حتى ينكروا ذلك على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ؟ ! نعم فهذه النبوة لا تكون إلا ممن عنده مفاتيح الخزائن كلها ، وهو بخلقه رحيم ورحمن. وهو صاحب العزة والسلطان ، كثير الخيرات والهبات ، واللّه - سبحانه وتعالى - عنده مفاتيح خزائن هذا الكون ، وهو صاحب الرحمة والعزة وواهب الوجود لكل موجود ، والعالم بخلقه الحكيم في صنعه. وقد منح النبوة لمن يستحقها ، فلا يليق بكم أن تعترضوا هذا الاعتراض ، أما أنتم فلا حول لكم ولا قوة. ولا تعلمون شيئا من ذلك ، ليرتقوا في الأسباب ، وليبلغوا ما أرادوا ، وما هم ببالغيه هم جند هنالك مهزوم من الأحزاب ، وسيهزم جمعهم ويولون الدبر بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ! [سورة القمر آية 46].
ولا غرابة في ذلك فهذا قصص من سبقهم : كذبت قبلهم قوم نوح. وعاد. وقوم فرعون ، وقد كانوا ذوى سلطان ثابت الأركان قوى الدعائم ، وكذبت ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وقد أرسل إليهم شعيب فكذبوه فحقت عليهم جميعا كلمة ربك ، وحاق بهم سوء العذاب.
أولئك المكذبون هم الأحزاب المتحزبون على الرسل ، المهزومون ، إن كل إلا كذب الرسل فحق عقابي ، فأغرق قوم نوح ، وأهلك فرعون وجنده في البحر : وقوم هود بالريح ، وقوم صالح بالصيحة ، وقوم لوط بالخسف ، وأصحاب الأيكة بعذاب الظلة.
وما ينتظر المشركون من قريش إلا صيحة واحدة هي النفخة الثانية ، وما لها من فواق أى : ما لها من توقف مقدار فواق ، والمعنى أن الصيحة إذا جاء وقتها لم تستأخر لحظة واحدة ، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ، ولما سمعوا أن اللّه منع عذاب الاستئصال عنهم في الدنيا إكراما للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم ، وجعل عذابهم في الآخرة قالوا : ربنا عجل لنا قطنا وحقنا في العذاب قبل يوم الحساب!(3/233)
ج 3 ، ص : 234
قصة داود [سورة ص (38) : الآيات 17 الى 26]
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21)
إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)(3/234)
ج 3 ، ص : 235
المفردات :
ذَا الْأَيْدِ : صاحب القوة والجلد أَوَّابٌ : كثير التوبة والرجوع إلى اللّه بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ أى : في وقت صلاة العشاء وصلاة الضحى مَحْشُورَةً :
مجموعة وَشَدَدْنا مُلْكَهُ : قويناه حتى ثبت الْحِكْمَةَ يمكن تفسيرها هنا بالنبوة والعلم بكتاب اللّه ، أو العدل في الأحكام وَفَصْلَ الْخِطابِ : البيان الفاصل بين الحق والباطل الْخَصْمِ المتخاصمين تَسَوَّرُوا : أتوا من أعلى السور ، يقال :
تسور الحائط : تسلقه الْمِحْرابَ قيل : هو الغرفة لأنهم تسوروا عليه فيها. أو صدر المجلس ومنه : محراب المسجد فَفَزِعَ مِنْهُمْ : خاف منهم وَلا تُشْطِطْ :
ولا تجر ولا تمل أَكْفِلْنِيها أى : انزل لي عنها حتى أكفلها ، والمراد : أعطنيها وَعَزَّنِي : غلبني الْخُلَطاءِ : جمع خليط وهم الشركاء فَتَنَّاهُ ابتليناه لَزُلْفى لقربة إلى اللّه بعد المغفرة وَحُسْنَ مَآبٍ : وحسن رجوع إلى اللّه.
بعد ما ذكر أحوال المشركين وعنادهم وأذاهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمر النبي بالصبر على ما يقولون وأن يذكر إخوانه الأنبياء الذين لا قوا ما لاقوا وصبروا محتسبين أجرهم عند اللّه مقدما في الذكر داود - عليه السلام - وهنا قصته ، وقد ذكر فيها عناصر ثلاثة (ا) ما آتى اللّه داود من فضل (ب) الحادثة التي وقعت له (ج) مسألة استخلافه في الأرض.
المعنى :
اصبر على ما يقوله هؤلاء المشركون ، واذكر عبدنا داود إنه أواب ، وفي وصفه بالعبودية الدالة على حسن امتثاله لربه تشريف له وتكريم ، ألا ترى إلى قوله تعالى :
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ ... [سورة الإسراء آية 1].
وقد ذكر لداود هنا عشر صفات ، أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالاقتداء بداود فيها : الصبر ، وأن اللّه وصفه بالعبودية ، وأنه صاحب الأيد والقوة في العبادة ، وأنه أواب كثير التوبة والرجوع إلى اللّه ، وأن اللّه سخر له الجبال حالة كونها تسبح معه « 1 » وتردد تسبيحه
___________
(1) يسبحن : حال من الجبال ، والطير : معطوفة عليه ، ومحشورة حال من الطير ، وجاء (يسبحن) فعلا للدلالة على التجدد والحدوث ، ومحشورة : اسم مفعول للدلالة على الدوام وعدم التجدد لأنه أبلغ.(3/235)
ج 3 ، ص : 236
حتى يسمعها اللّه بالعشي والإشراق ، أى : في صلاة العشاء وصلاة الضحى ، وأنه سخر الطير معه محشورة كل له أواب ، وشددنا ملكه ، أى : أقويناه بالقوى المادية والأدبية ، وآتيناه الحكمة ووهبناه النبوة ، وأرشدناه إلى فصل الخطاب وإصابة الغرض والعدل في الأحكام وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ..
؟
ولما مدح اللّه داود وذكر له صفات عشرا كلها ثناء عليه أتبع ذلك بذكر حادثة له. وبدأها باستفهام للتنبيه على القصد وسمو الغرض ولفتا للنظر ، ألا ترى إلى قوله : « نبأ » والنبأ : هو الخبر المهم ، وهذه القصة كانت مثار نقاش كثير من قديم الزمن ، وخب فيها وأوضع القصاص ونقلة الأخبار ، وقد ساعدهم على ذلك أن في التوراة والإنجيل ما يثبت لبعض الأنبياء - كداود - ما يترفع عنه عامة الناس ، فكيف الحال مع الأنبياء والمرسلين ؟
ونحن - المسلمين - نقول بعصمة الأنبياء ، أى : ترفعهم عن الدنايا وبعدهم عن سفساف الأمور ، فإنا نرى أن زعماء الإصلاح قوم غير عاديين يكونون غالبا بعيدين عن الدنايا والأنبياء - عليهم السلام - أولى بذلك منهم ، وهم قوم اصطفاهم اللّه واختارهم ، وصنعهم على يده فأرواحهم طاهرة ، ونفوسهم عالية ، يستحيل عليهم ما قاله الإسرائيليون في حقهم ونقله بعض علماء المسلمين ودونوه في كتبهم ، وإن كنا رأينا كثيرا من العلماء نفى مثل هذه الأقوال بشدة كالفخر والبيضاوي وغيرهم.
ونحن نسوق القصة على أساس أن داود نبي اللّه وهو معصوم من الزنا والقتل والدس والوقيعة ، فإن ذلك غير مقبول بحال من الأحوال ، وسياق القصة يثبت ذلك فالقرآن قد ذكر لداود صفات كلها مدح وثناء فإنه تواب أواب وله زلفى ومكانة عند ربه ، وصاحب قوة وفضل في عمله ثم ذكر القصة وأردفها بذكر مدائح له وهذا كله يتنافى مع وصفه بالفعل المنكر والعمل القبيح.
بعض الناس أثبت لداود أنه فعل الكبيرة كالزنا والقتل ، وبعضهم أثبت له بعض الصغائر التي لا تليق.
وفي الواقع تتلخص الحادثة : أن داود كان ملكا له سلطان ، وله أتباع وخدم ، وله مصالح مادية مع الناس ، وهذا كله يوجد له أعداء. واتفق أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن ينالوا من نبي اللّه داود ، وكان له يوم يخلو فيه للعبادة ، وانتهزوا الفرصة وتسوروا عليه المحراب ، فلما دخلوا عليه ووجدوا عنده ما يمنعهم من ذلك ، اختلقوا كذبا وزورا(3/236)
ج 3 ، ص : 237
سببا لدخولهم فقالوا : نحن خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ، ولا تجر ، واهدنا إلى سواء السبيل ، ويجوز أن يكونا متخاصمين حقيقة ، ولما دخلوا على داود بلا إذن ، وتوجس منهم خيفة وظن بهم الظنون ، وهم بذلك أن يصيبهم بسوء كانت هذه الواقعة فتنة وابتلاء لداود ، ثم إنه استغفر ربه مما هم به من الانتقام ، وتاب عما دار بخلده من ظن ، وخر راكعا فتاب اللّه عليه وغفر له.
أما قصتهما كما أخبر فهي : إن هذا أخى ، أى : في الدين والإنسانية له تسع وتسعون نعجة - هي الواحدة من الغنم أو بقر الوحش - ولى نعجة واحدة ، فقال صاحب الغنم الكثيرة أعطنى نعجتك أكفلها لك وأضمها لغنمي وغلبه في المخاصمة والمجادلة.
قال داود متسرعا قبل أن يسمع جواب الخصم الثاني - ولعل هذا هو الذنب الذي ألم به داود - : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ، وإن كثيرا من الخلطاء والشركاء ليبغى بعضهم على بعض حبا في الدنيا ، وشحا في النفوس إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلا يبغى بعضهم على بعض وقليل ما هم.
وظن داود أنما فتناه بهذه الحادثة فاستغفر ربه مما ألم به وتاب ، وخر راكعا وصلى للّه قائما وساجدا وأناب ، فغفر له ربه ذنبه - لا تنس أن حسنات الأبرار سيئات المقربين - وإن لداود عند ربه لقربى ومنزلة كريمة ، وحسن مآب ، أليس وصف داود بعد القصة بأن له زلفى وحسن مآب يدل على أنه عبد صالح أواب يستحيل عليه الإلمام بمعصية تغضب اللّه.
أما خلافته في الأرض فيقول اللّه عنها : يا داود إنا جعلناك خليفة للّه في أرضه ، خليفة للّه على عباده تقيم حكمه ، وتدعو إلى شرعه. وتثبت دعائم عدله وتقضى بين الناس ، فاحكم يا داود بينهم بالحق. ولا يحملنك شنآن قوم على عدم العدل فأنت خليفة أحكم الحاكمين ، وأعدل العادلين ، يا داود لا تتبع الهوى فإن من اتبع هواه ضل ، ومن انحرف عن الصراط وقع في الهاوية ، لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل اللّه وهو الصراط المستقيم.
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ وهذا تعليل لما قبله ، إن الذين يضلون عن سبيله لهم عذاب شديد وقعه بسبب أنهم نسوا يوم الحساب ، ولم يعملوا لذلك اليوم ، أولئك الذين نسوا اللّه فأنساهم العمل لخيرهم فكان جزاؤهم النار وبئس القرار.(3/237)
ج 3 ، ص : 238
لا بد من ثواب وعقاب [سورة ص (38) : الآيات 27 الى 29]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)
المفردات :
باطِلًا : هزلا ولعبا فَوَيْلٌ : عذاب شديد ، أو هو واد في جهنم كَالْفُجَّارِ : هم الأشقياء مُبارَكٌ : كثير الخير والبركات.
وهذه كالروضة وسط الصحراء ، ورجوع إلى الأصل الأول الذي هو إثبات البعث وسط القصص للإشارة إلى أنه هو المقصود المهم للشارع.
المعنى :
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا لا حكمة فيه ، ما خلقنا هما لاعبين ، بل خلقنا هما لأسرار وحكم عالية فيها الاستدلال على كمال القدرة وتمام العظمة وهذه الدقة المحكمة في خلقهما دليل على أن اللّه لن يترك الناس سدى إذا ماتوا ، بل يعيدهم ويحاسبهم ويعطى كلا جزاءه ، ذلك أن خلقهما باطلا ظن الذين كفروا ، فإنهم ينكرون البعث ، وإنكاره معناه نفى عظم القدرة ، وتعطيل للحكمة أَمْ « 1 » نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ؟ بل أنجعل المؤمنين الصالحين كالكفرة المفسدين في الأرض ؟ وكيف نسوى بين هؤلاء وهؤلاء ؟ فلو قلنا بعدم البعث ، وأنه
___________
(1) هذه هي (أم) المنقطعة تقدر ببل التي للإضراب الانتقالى ، والهمزة استفهامية ، ويراد بها الإنكار.(3/238)
ج 3 ، ص : 239
لا حياة إلا في الدنيا لاستوى الفريقان في التمتع بالدنيا بل أكثر الكفرة أوفر حظا من أكثر المؤمنين في الدنيا ، لكن ذلك النظام محال مخالف للحكمة فتعين أن هناك حياة يظهر فيها عدم التساوي بين المؤمن والكافر هي في دار الجزاء.
أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ؟ بل أنجعل المتقين كأشقياء الكفرة ؟ لا يعقل هذا وإذا ثبت أن هناك فرقا كبيرا بين المؤمن وغيره ، وأن المؤمن له حياة دائمة ، فيها السعادة والنعيم فما الطريق إلى ذلك ؟
الطريق هو اتباع القرآن الذي نزل تبيانا لكل شيء ، وهدى ورحمة للمؤمنين ، كتاب أنزلناه إليك يا محمد كثير الخيرات عظيم البركات فيه شفاء للناس ونور وموعظة للمؤمنين ، أنزلناه ليدبروا آياته ، وليتذكر أولو الألباب.
سليمان عليه السلام [سورة ص (38) : الآيات 30 الى 40]
{ وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) }(3/239)
ج 3 ، ص : 240
المفردات :
الصَّافِناتُ القائمات ، أو الصافن من الخيل : الذي يرفع إحدى رجليه ويقف على مقدم حافرها الْجِيادُ : جمع جواد ، وهو الذي يجود في سيره ، أى : يسرع مع الخفة تَوارَتْ : اختفت وغابت بِالْحِجابِ : بالحاجز وقيل : بالليل بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أى : بسيقانها وأعناقها رُخاءً لينة مع قوتها وشدتها.
أَصابَ : أراد الْأَصْفادِ : جمع صفد ، وهو القيد.
المعنى :
ذكر بعض المفسرين في تفسير هذه الآية أن سليمان عرض عليه خيل جياد في وقت العصر فألهاه ذلك عن صلاة العصر فغضب ، وطلب من اللّه أن يرد عليه الشمس بعد غروبها ليصلى العصر فردت إليه ، ثم غضب على الخيل التي كانت سببا في فوات الصلاة فقطع أعناقها وسوقها ، والضمير في قوله : (حتى توارت بالحجاب) للشمس ، ثم قالوا في قوله تعالى : « أحببت حب الخير عن ذكر ربي » إنه أحب هذه الخيل معرضا عن ذكر ربه ، وهو الصلاة.
وهذا تأويل فاسد ، يدل على فساده بداهة أسلوب القرآن ، ومكان القصة هنا ، وسياق الآيات.
إن هذه القصص إنما ذكرها اللّه - تعالى - بعد قول المشركين : رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ وقد بلغوا مبلغا من السفاهة عظيما ، حتى قال اللّه للنبي :
اصبر على ما يقولون. واذكر عبدنا داود ، ثم ذكر بعد ذلك قصة سليمان وهذا الوضع والسياق يفيد أن القصص سيقت لبيان جلائل الأعمال ، وفضائل الخلال التي قام بها هؤلاء الأنبياء وأصحابهم ، وعلى هذا فداود وسليمان ليس من الحق أن نفهم فيهما أنهما أتيا أعمالا تتنافى مع مركز النبوة وشرف الرسالة ، وخاصة بعد قول اللّه لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم :
اصبر واذكر داود وسليمان ، أى : تأس بهؤلاء ، وعلى هذا فيمكن أن نلخص ما يمكن فهمه من هذه الآيات بما يأتى : أن اللّه وهب لداود سليمان وكان نبيا من المرسلين ، وهو نعم العبد الصالح ، إنه أواب ومطيع ، واذكر وقت أن عرض عليه بالعشي الخيل المطهمة ، والصافنات الجياد ، ويمكن أن نقول : إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في(3/240)
ج 3 ، ص : 241
دينهم ، لأنه ملك له دولة وله سلطان ، وله جيش منظم ، وخيل معدة ، وأمر بإحضارها وإمرارها عليه لينظرها ويبدي رأيه فيها ، وهو لا يحب الخيل لذاتها وإنما يحبها لأمر اللّه ، وتقوية دينه وتثبيت دعائمه.
ثم لما سارت الخيل أمامه وتم عرضها حتى توارت عنه ، وغابت عن بصره أمر قواده أن يردوها إليه فلما عادت طفق يمسح مسحا بسيقانها وأعناقها ، وإنما فعل ذلك تشريفا لها وتكريما ، وليرى رأيه في الخيل لأنه على علم بها وبعيوبها.
ولقد فتنا سليمان ، فتنة اللّه أعلم بها ، وألقينا على كرسيه جسدا ، ثم أناب ، وهذه الفتنة تكلم فيها القصاص والإسرائيليون كثيرا ، والذي نختاره ما ذكره أئمة التفسير المحققون من أمثال أبى السعود والفخر والآلوسي وغيرهم من أفاضل العلماء ، وكان مرجع آرائهم إلى القول بعصمة الأنبياء ومنع تمثل الشيطان بهم ، وغلق باب زعزعة الناس في معتقداتهم ، وأظهر ما قيل في فتنة سليمان - عليه السلام - ما
روى مرفوعا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : أنه قال : قال سليمان بن داود : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتى كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل اللّه تعالى ، ولم يقل (إن شاء اللّه) فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل ، والذي نفسي بيده لو قال : إن شاء اللّه لجاهدوا في سبيل اللّه فرسانا أجمعون
، هذا الحديث ثابت في الصحيحين البخاري ومسلم ، وروى بعدة طرق ، تلك هي فتنة سليمان كما وردت في الحديث وأما إلقاؤه على كرسيه جسدا فأنه حين الفتنة كان يجلس على كرسي الحكم جسدا لا روح فيه لأنه لما لم يقل : إن شاء اللّه كأنه ارتكب ذنبا فصار بسببه جسدا ، ثم تاب وأناب.
وأما قول سليمان : رب اغفر لي فلا يصح أن يكون هذا دليلا على صدور الزلة منه كما قال القصاص مستندين إلى أن طلب المغفرة يدل على سبق الذنب.
فالإنسان ولو كان نبيا لا ينفك عن ترك الأفضل والأولى ، وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، ألم تر إلى
قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « إنى لأستغفر اللّه في اليوم والليلة سبعين مرة » .
وانظر إلى سليمان ، وقد طلب من اللّه المغفرة قبل طلبه الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ، هذا دليل على طلب المغفرة ، والرجوع إلى اللّه سبيل وطريق إلى السعادة في الدنيا والآخرة فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ(3/241)
ج 3 ، ص : 242
مِدْراراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً
[نوح 10 - 12] ولقد طلب سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فسخر له ربه الريح حالة كونها جارية بأمره ، لينة لا تعب معها ، وإن كانت في الأصل عاصفة قوية فهي رخاء لينة تجرى بأمره حيث أراد.
وسخر الشياطين له تعمل تحت أمره من كل بناء وغواص يغوص في البحار لاستخراج الدر منها والأصداف ، وآخرين منهم مقرنين في الأصفاد والقيود خاضعين لأمره ، عاملين تحت إذنه.
هذا - والإشارة إلى ما تقدم من إعطاء الملك الواسع والتسلط على الرياح والجن والشياطين - عطاؤنا الخاص لك فأعط من تشاء وامنع من تشاء غير محاسب على ذلك يوم القيامة.
وإن لسليمان عند ربه لزلفى وقربة وكرامة وحسنى ، وله حسن مآب ومرجع في الجنة ، وإن ختام القصة بهذا لدليل على أن كل ما قيل عن سليمان مما هو ثابت في كتب أهل الكتاب أو عند قصاص الأخبار من المسلمين خرافة وأكاذيب لا تليق بمركز النبوة واللّه أعلم.
أيوب عليه السلام [سورة ص (38) : الآيات 41 الى 44]
{ وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) }(3/242)
ج 3 ، ص : 243
المفردات :
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ اركض : التحريك ، ومنه : ركض الدابة : إذا حرك راكبها رجليه والمراد : اثبت ضِغْثاً والضغث : الحزمة الصغيرة من الحشيش.
المعنى :
للناس فيما يقصون عن أيوب طريقان ، أحدهما يقول : إن أيوب مسه الشيطان في بدنه وماله بنصب وعذاب ، ثم يرسلون خيالهم في تصوير المرض الذي أصابه حتى نفر الناس منه إلى أبعد الحدود المعقولة وغير المعقولة ، وهذا بلا شك باطل وأى باطل لا يستسغيه عقل مسلم ، فإنا نعتقد أن النبي يستحيل عليه أن يصاب بمرض جسمي ينفر فإنه أرسل ليهدى الخلق ويحتك بهم ، فليس من الجائز عقلا أن يكون بحيث ينفر منه الناس ، وهل يقدر الشيطان على البلاء بالمرض إلى هذا الحد ، لو كان كذلك ما الذي منعه من إصابة أعدائه الألداء جميعا كالأنبياء والمرسلين والهداة والمرشدين بهذا أو أشد منه ؟ فإنهم أعداء حقيقة. وكيف يتصور مسلم في الشيطان غير ما حدده له ربه حيث يقول : ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [يوسف 22] فقد صرح اللّه بأنه لا قدرة له في حق البشر إلا على إلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة قال :
فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص 82 ، 83].
وعلى هذا الأساس فالمعقول في قصة أيوب هو أن اللّه أمر محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم أن يذكر عبده الممتثل لأمره أيوب وقت أن نادى مستغيثا به : أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب.
مسه الشيطان بوسوسته وإلقاء الخواطر الفاسدة في ذهنه ، وإبليس وجنده يتحينون الفرص. ويطرقون لكل إنسانا بابا خاصا به. ويدخلون عليه من النقطة الضعيفة عنده - واللّه أعلم - هل دخل الشيطان على أيوب من جهة بدنه إذ كان مريضا صابرا ، أو من جهة ماله أو ولده ، أو من جهة قومه ودعوته لهم ؟ اللّه أعلم.
ثم أمر من قبل اللّه أن يركض برجله وأن يضرب الأرض بها ثابتا مستقرا غير عابئ بما حوله من أعاصير ، فالعلاج الوحيد عنده هو ما أنزله اللّه عليه وهداه إلى العمل به فهو(3/243)
ج 3 ، ص : 244
الذي يغسل الأوضار والأدران وهو المغتسل البارد والشراب ، والقرآن كثيرا ما يكنى عن الوحى بالماء والمطر ، ولا شك أن كلام اللّه هو العلاج لكل داء والدواء لكل مرض وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً. [الإسراء 82].
ووهبنا له أهله وأضعافهم معه ، ولعل المراد بالأهل أتباعه في الدين ، ووهبنا له ذلك رحمة منا وعظة وذكرى لأولى الألباب الذين يعلمون أن الأمر بيد اللّه ، وأنه يكشف السوء ويجيب المضطر ، ويدافع عن عباده المؤمنين الصابرين.
وأمر أيوب أن يأخذ بيده ضغثا فيضرب به ولا يحنث. قالوا : إن امرأته خالفته في أمر فأقسم ليضربنها مائة فأرشده اللّه إلى أخذ (قنو) فيه مائة شمروخ أو يأخذ حزمة فيها مائة عود فيضرب بها ولا يحنث.
إن ربك وجد أيوب صابرا على البلاء شاكرا على النعماء لأنه العبد أيوب ، وإنما مدحه ربه بهذا لأنه أواب.
وهذه ثالث قصة ذكرت في هذه السورة ، وكلها فيها بلاء وفتنة واختبار وصبر ، ثم نجاح في البلاء والفتنة ، ولأصحابها زلفى ومكانة وحسن مآب عند اللّه ، وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء.
إبراهيم عليه السلام ونسله [سورة ص (38) : الآيات 45 الى 54]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)(3/244)
ج 3 ، ص : 245
المفردات :
أُولِي الْأَيْدِي : أصحاب القوة وَالْأَبْصارِ : جمع بصر ، أى : بصيرة في الدين أَخْلَصْناهُمْ : جعلناهم خالصين بِخالِصَةٍ : بخصلة خالصة لا شوب فيها الْمُصْطَفَيْنَ : جمع مصطفى ، أى : المختارين الْأَخْيارِ : جمع خير قاصِراتُ الطَّرْفِ : حابسات نظرهن على الأزواج أَتْرابٌ : جمع ترب ، أى : لدات في سن واحدة نَفادٍ أى : انقطاع.
المعنى :
واذكر عبادنا إبراهيم الخليل أبا الأنبياء ، وإسحاق ابنه ، ويعقوب بن إسحاق بن إبراهيم اذكرهم وقد وصفوا بالعبودية وأنهم أصحاب القوة في الطاعة ، والبصيرة في الدين فهم من أولى العزم الثابت والنظر الكامل في أمور الدين ، ولا غرابة في ذلك فتلك شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، إنا أخلصناهم بخالصة هي ذكرى الدار الحقيقة دار المثوبة. وهذا تعليل للحكم عليهم بأنهم أولو قوة وبصيرة إنا جعلناهم خالصين لنا بسبب خصلة خالصة جليلة الشأن لا شوب فيها ، هي تذكرهم دائما الدار الآخرة ، فإن خلوصهم في الطاعة ، وصدقهم في العمل كان بسبب تذكرهم الحياة الباقية فإنها مطمع أنظارهم ، وأمل نفوسهم في جوار اللّه - عز وجل - والفوز بلقائه ولا يتسنى ذلك إلا بتذكر الآخرة ، والخوف من الحساب يوم الحساب.
وإنهم عندنا لمن المصطفين المختارين الأخيار.
واذكر إسماعيل ابن إبراهيم وأبا النبي الكريم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم واليسع وذا الكفل ، وكل الأنبياء والمرسلين الذين ذكروا هنا أو ذكروا في غير هذا الموضع من الأطهار الأخيار.(3/245)
ج 3 ، ص : 246
هذا - والإشارة إلى ما وصفهم به - ذكر لهم ، وأى ذكر أبعد من هذا ؟
وإن للمتقين وأصحابهم وأتباعهم - وهم يدخلون في ذلك من باب أولى - لحسن مآب ومرجع في الآخرة ، فهؤلاء لهم شرف وذكرى في الدنيا ، ومثوبة في الآخرة ، هي جنات عدن وإقامة يقيمون فيها ، حالة كونها مفتحة أبوابها لهم ، يدعون فيها بكل فاكهة كثيرة وشراب ، ولهم فيها ما يدعون نزلا من غفور رحيم.
وعندهم الحور العين مقصورات الطرف على أزواجهن ، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ، حور كاللؤلؤ المكنون ، وهن عرب أتراب.
هذا ما أعد لكم أيها الصابرون المحتسبون في يوم الحساب.
إن هذا - ما ذكر من نعيم دائم مقيم - لرزقنا لأهل الجنة ماله من نفاد ولا انقطاع عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ لهم أجر غير ممنون.
إن ذلك لحق تخاصم أهل النار [سورة ص (38) : الآيات 55 الى 64]
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59)
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)(3/246)
ج 3 ، ص : 247
المفردات :
لِلطَّاغِينَ : للظالمين من الكفار مَآبٍ : مصير ومرجع الْمِهادُ :
ما مهدوا لأنفسهم حَمِيمٌ : الماء الحار غَسَّاقٌ : اسم لما يجرى من صديد أهل النار أَزْواجٌ : أصناف وأجناس فَوْجٌ الفوج : الجمع الكثير مُقْتَحِمٌ :
داخل فيها بشدة مَرْحَباً بِهِمْ الرحب : السعة ، ومنه الرحبة للفضاء الواسع في الدار صالُوا النَّارِ : داخلوها الْقَرارُ : المقر وهو جهنم ضِعْفاً :
مضاعفا ، ومعناه : ذا ضعف زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ : مالت عنهم احتقارا لهم.
المعنى :
ما ذكر سابقا كان للمتقين ، وما هنا للطغاة المشركين. الأمر هذا ، وإن للطاغين لشر مآب ومصير. وإن لهم لجهنم يصلونها ، ويدخلونها يصلون حرها ولهيبها فبئس المهاد ما مهدوه لأنفسهم من أعمال العذاب ، هذا ولعل الإشارة إليه (بهذا) ليعلم أنه متميز عن غيره كأنه لا عذاب إلا هو ، وإذا كان الأمر كذلك فليذوقوه هذا حميم وغساق قد أعد لمن يصلى جهنم.
وعذاب آخر من شكله على شاكلته في الشدة والفظاعة أزواج وأجناس لا يعلم كنهها إلا اللّه.
هذا فوج وجمع آخر مقتحم النار داخل فيها معكم أيها القادة والمتبوعون ، وتقول الملائكة لهم : لا مرحبا بهم ، إنهم صالوا النار ، وهذا تعليل لدعاء الملائكة عليهم ، ويحتمل أن يكون الدعاء (لا مرحبا بهم) من المتبوعين على التابعين ، وماذا قال الأتباع الداخلون النار ؟ قالوا : بل أنتم لا مرحبا بكم أيها القادة والمتبوعون ، أنتم قدمتم العذاب لنا ، وأنتم أغريتمونا على عملنا فاستحققنا ذلك العذاب فأنتم أحق بهذا الدعاء ، فبئس المقر جهنم لنا ولكم قالوا - أى : الأتباع - : ربنا من قدم لنا هذا العذاب فزده عذابا مضاعفا من النار.
وقالوا ، أى : الطغاة بعضهم لبعض على سبيل التعجب والتحسر : مالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار الأرذال الذين لا خير فيهم ؟ قال ابن عباس : يريدون(3/247)
ج 3 ، ص : 248
أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الفقراء كبلال وصهيب وعمار ، فيقول : أين عمار ؟ أين صهيب ؟ .. أولئك في الفردوس ينعمون ، وا عجبا لكم يا زعماء قريش!! أتخذناهم سخرية واستهزاء أم زاغت عنهم الأبصار ؟ ! والمعنى : أى الأمرين فعلنا بهم : السخرية والاستهزاء أم الازدراء بهم وتحقيرهم وأن الأبصار تعلو عنهم وتقتحمهم ؟ ! والمراد إنكار الأمرين جميعا على أنفسهم فإنهم قد فعلوا كل ذلك معهم. إن ذلك الذي حكى عنهم لحق ثابت لا شك فيه ، هو تخاصم أهل النار ، وفي الإبهام أولا والبيان ثانيا زيادة تقرير وتأكيد ..
من الأدلة على صدق النبي [سورة ص (38) : الآيات 65 الى 70]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
المفردات :
نَبَأٌ عَظِيمٌ : خبر مهم جدّا بِالْمَلَإِ الْأَعْلى : هم أشرف الخلق الذين يملؤون العيون بهجة ورواء.
وهذا رجوع إلى مناقشة الكفار ، وإثبات النبوة والتوحيد والبعث.
المعنى :
قل لهم يا محمد : إنما أنا منذر من يخشاها ، وما من إله إلا اللّه الواحد القهار ، وقد أنذرتكم عذابا شديدا وحذرتكم يوما يجعل الولدان شيبا وجئت بالتوحيد ونفى(3/248)
ج 3 ، ص : 249
الشركاء ، وإثبات أن اللّه هو الواحد القهار ، رب السموات والأرض وما فيهما وهو العزيز الغفار ، أيها الناس إنما هو نبأ عظيم ما جئتكم به. وهو جد ليس بالهزل ، وأنتم عنه وعن دلائله معرضون ، يا قوم هذه الدلائل ناطقة بصدقى ، وهذه المعجزة الباقية الخالدة شاهدة ، وهي القرآن.
فما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون ، والمراد بالملإ الأعلى : ما عدا البشر وقت أن قالوا شبههم في صورة المخاصم : أتجعل فيها من يفسد فيها ، وقول إبليس لآدم :
أنا خير منه ، وقول اللّه على لسان ملك لآدم : أنبئهم بأسمائهم فإخبار النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن كل دليل واضح على صدقه ، وأن هذا القرآن من اللّه لا من عنده فهو نبي أمى ولم يقرأ ولم يكتب ولم يجلس إلى معلم ، وإنما هو وحى يوحى ، وما يوحى إلى إلا أنما أنا نذير لكم من بين يدي عذاب شديد ، فاعتبروا يا أولى الأبصار.
قصة خلق الإنسان وإكرام اللّه له [سورة ص (38) : الآيات 71 الى 88]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75)
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)(3/249)
ج 3 ، ص : 250
المفردات :
سَوَّيْتُهُ : أكملت خلقه فَقَعُوا لَهُ : فاسقطوا له ساجدين اسْتَكْبَرَ :
عد نفسه كبيرا بغير استحقاق خَلَقْتُ بِيَدَيَّ : تمثيل لكونه - عليه السلام - معتنيا بخلقه الْعالِينَ : المستحقين للعلو. رَجِيمٌ : مرجوم ومطرود.
فَأَنْظِرْنِي : فأمهلنى لَأُغْوِيَنَّهُمْ : لأزينن لهم المعاصي نَبَأَهُ : خبره المهلك حِينٍ : مدة من الزمن.
وهذا تفصيل لأخبار الملأ الأعلى إذ يختصمون ، فهو بيان لما أجمل من الاختصام ، وإن ختام هذه السورة ذي الذكر العالي بهذا الختام الرائع لبيان فضل اللّه على آدم وبنيه ، ومعاملة الملائكة له ، ومعاملة إبليس لأبينا ، وليعلم الناس بعض السر في عناد المشركين وشركهم حتى يحذروا من إبليس وجنده إنه لختام رائع حقا.
المعنى :
أنا رسول رب العالمين ، وها أنذا أبلغكم عن ربي ما كان حاصلا مع الملأ الأعلى إذ يختصمون - وما كان لي ولا لقومي علم بذلك - إذ « 1 » قال ربك للملائكة ، ويدخل معهم إبليس للمجاورة والملازمة ، إذ لم يكن منهم على التحقيق كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ « 2 » إذ قال لهم : إنى خالق بشرا من طين مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ
___________
(1) إذ قال ربك بدل من إذ يختصمون.
(2) - سورة الكهف آية 50.(3/250)
ج 3 ، ص : 251
[الحجر 26 ، 28 ، 33]. فإذا سويته ، وأتممت خلقه المادي ، ونفخت فيه من روحي ، والنفخ تمثيل لإفاضة ما به الحياة ، فليس هناك نافخ ولا منفوخ ، وإنما المعنى : فإذا أكملت استعداده وأفضت عليه ما يحيا به من الروح الطاهرة التي هي من أمر اللّه وشأنه فقعوا له ساجدين سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة وتأليه.
فسجد الملائكة كلهم أجمعون ، و(كل) للإحاطة ، و(أجمع) للاجتماع إلا إبليس اللعين فإنه أبى واستكبر واستعظم ولم يكن من الساجدين ، وكان من الكافرين المستكبرين المتعاظمين على أمر اللّه.
وماذا قال اللّه له عند ذلك ؟ قال - عز وجل - على سبيل الإنكار والتوبيخ :
يا إبليس أى شيء منعك من السجود لما خلقته بيدي ؟ ما الذي منعك من السجود لآدم وقد خلقته بيدي ، وصنعته بنفسي ، وقولك : فعلت هذا بيدي مثلا ، وصنعته بنفسي :
تمثيل لكونك معنيا بفعله عناية تامة.
يا إبليس أستكبرت أم كنت من العالين .. ؟ ! أى : أتكبرت ادعاء من غير استحقاق أم كنت من العالين المستحقين لذلك ؟ والمراد إنكار هذا وذاك.
وقال إبليس مدفوعا بطبعه المفهوم من طبيعة النار التي خلق منها - فإن طبعها الحماقة والاندفاع والتعالي والإضرار - قال إبليس : أنا خير منه ، لأنك خلقتني من نار وخلقته من طين.
قال اللّه له - ردّا على عمله القبيح - : فاخرج من الجنة فإنك رجيم مطرود من كل خير وبركة ، وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين.
قال إبليس : إذا جعلتني يا رب رجيما مطرودا من رحمتك فأنظرنى وأمهلنى إلى يوم يبعثون عند النفخة الثانية ، فلا تمتنى في الدنيا بل أمهلنى مع آدم وذريته إلى يوم البعث ، طلب هذا الطلب ليظل يوسوس لآدم وذريته فيأخذ ثأره من آدم فإنه هو السبب في طرده من رحمة اللّه ، فاتعظوا يا بنى آدم واحذروا ..
قال اللّه - سبحانه - : إنك من المنظرين إلى ذلك اليوم المعلوم ، وهكذا اقتضت إرادة اللّه أن يظل إبليس وجنده في وضع يتمكن معه من الوسوسة.(3/251)
ج 3 ، ص : 252
قال إبليس : فبعزتك وجلالك لأغوينهم أجمعين بتزيين المعاصي لهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين الذين أخلصتهم لعبادتك ، وأصفيتهم لنصرة دينك ، وعصمتهم من الغواية. وقرئ المخلصين الذين أخلصوا للّه في العبادة والطاعة.
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ « 1 » .
قال - عز وجل - : فالحق منى ، وأنا الحق ، وإنى أقول الحق. لأملأن جهنم منك يا إبليس ومن ذريتك الشياطين ومن تبعك في الغواية والضلالة من ذرية آدم أجمعين.
يا كفار مكة هذه آيات شاهدة ناطقة على صدقى ، وقد أخبرتكم خبرا صدقا عن الملائكة ، وعن إبليس وطبيعته ، وعن الإنسان وغريزته ، والواقع يؤيد ذلك كله ، أليس هذا دليلا على صدقى ؟ ! أيها المشركون : أنا لا أسألكم على القرآن ، وهذا النور الذي أسوقه لكم لا أسألكم على ذلك شيئا أبدا من حطام الدنيا الفاني. وما أنا من المتكلمين الذين يدعون ويتصنعون ويتحلون بما ليس فيهم وأنتم تعلمون عنى ذلك فإنى أنا منكم ونشأت بينكم.
ما هو إلا وحى من اللّه يوحى إلى. وما هو إلا ذكر للعالمين ونور. وهدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، فيه الشفاء والذكرى والموعظة والعلاج والدواء من كل داء.
ولتعلمن نبأه حقيقة بعد حين من الزمان سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ « 2 » . وقد ذكرت هذه القصة وكررت قبل ذلك في سورة الحجر وغيرها.
___________
(1) - سورة الحجر آية 42.
(2) - سورة فصلت آية 53.(3/252)
ج 3 ، ص : 253
سورة الزمر
وبعضهم يسميها سورة الغرف ، وهي مكية. قيل : كلها ، وعند بعضهم كلها إلا آيتين نزلتا بالمدينة اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وهي خمس وسبعون آية.
وكأنها امتداد لآخر سورة (ص) حيث ذكر فيها خلق حواء من آدم ، وخلق الناس كلهم ، ثم ذكر أنهم ميتون ثم ذكر أحوال القيامة من حساب وجنة ونار ، وختم بالقضاء العدل بين الناس فالحمد للّه رب العالمين ، ترى أن اللّه ذكر أحوال الخلق من المبدأ إلى المعاد مع اتصال ذلك كله بقصة آدم - عليه السلام - ذلك هو مجمل ما جاء في السورة ، وزيادة على ما فيها من التعرض إلى نقاش المشركين وغيره مما هو معروف في السور المكية ، وستعرفه في شرحها.
[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)(3/253)
ج 3 ، ص : 254
المفردات :
زُلْفى : قربة لَاصْطَفى : لاختار.
وهذه سورة مكية تكلمت أولا عن القرآن الذي أنزل على محمد بن عبد اللّه بالحق وناقشت المشركين في عقائدهم ، ونفت عن اللّه اتخاذ الولد.
المعنى :
ذلك الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت ، تنزيل من اللّه العزيز الذي لا يعجزه شيء في السماء ولا في الأرض ، الحكيم صاحب الحكمة الذي يضع كل شيء في موضعه ، واللّه سبحانه حكيم حقا لأنه عالم بكل الجزئيات ، لا يعجزه شيء من الممكنات ، ومستغن عن كل الحاجات ، وإذا كان هذا كلامه وجب أن نتبعه في كل شيء وأن نؤمن به ، وقد شرع اللّه في الكلام على ما أنزل عليه بعد الكلام على القرآن نفسه فقال : إنا أنزلنا إليك يا محمد القرآن ملتبسا بالحق الذي لا شك فيه ، وبالصدق الذي ليس معه باطل ولا هزل ، فكل ما فيه حق لا ريب فيه ، موجب العمل به حتما ، وإذا كان الأمر كذلك فاعبد اللّه أيها الإنسان مخلصا له الدين عبادة ليس فيها رياء ولا سمعة عبادة خالصة لوجه اللّه ليس معها شرك ولا وثنية.
ألا للّه الدين الخالص ، نعم للّه وحده الدين الخالص فلا شريك له ولا ند ، فالاشتغال بعبادة اللّه على سبيل الإخلاص أفادته الآية الأولى ، وأما نفى الشريك والبعد عن عبادة غير اللّه فقد أفادته الآية الثانية أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وعلى ذلك فلا تكرار ، القرآن يحثنا على عبادة اللّه وحده مع الإخلاص والصدق في العمل ، والذين اتخذوا من دون اللّه آلهة عبدوها وأشركوها باللّه ويقولون : ما نعبدهم إلا ليقربونا زلفى .. كانوا إذا قيل لهم من ربكم ؟ ومن خلقكم ؟ ومن خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء ؟ قالوا : اللّه! فيقال لهم : ما معنى عبادتكم غيره ؟ قالوا : عبدناهم ليقربونا إلى اللّه زلفى. ويشفعوا لنا عنده فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً.
[الأحقاف 28] كأنهم يقولون : إنا نتخذهم وسطاء وشفعاء للّه ، واللّه - سبحانه - ليس في حاجة إلى ذلك إذ هو العليم الخبير بخلقه البصير بهم ، واسع الفضل والرحمة فليس في حاجة إلى(3/254)
ج 3 ، ص : 255
واسطة أو شفيع ، وفرق شاسع بين الخالق والمخلوق ، وقياس فاسد جدا أن تقيس الرئيس من بنى الإنسان على الرحمن العليم الخبير.
إن اللّه يحكم بين الخلائق الموحدين والمشركين. إن اللّه لا يهدى من هو كاذب في اتخاذ الشركاء كافر باللّه وبحقوقه وصفاته.
وكانوا يقولون : الملائكة بنات اللّه ، عجبا لهم!! لو أراد اللّه أن يتخذ ولدا لما رضى إلا بأكمل الأولاد وهو الابن ، فكيف نسبتم إليه البنات ؟ ! تجعلون لكم البنين ، وللّه البنات ، تلك إذا قسمة ضيزى ؟ ! سبحانه وتعالى عما يشركون ، سبحانه هو الواحد الأحد الفرد الصمد ، وإذا كان اللّه واحدا في ذاته وصفاته وأفعاله لم يكن من المعقول أن يكون له ولد لأن الولد من الصاحب والصاحبة ، وإذا لم يتأت أن يكون له صاحبة لم يتأت أن يكون له ولد ، أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ؟ ! وكيف يحتاج إلى ولد وهو القهار الذي يقهر غيره فلا يحتاج إلى شيء أبدا ، والمحتاج إلى الولد مقهور ، أما القاهر فهو الواحد الأحد الغنى عن الشريك والصاحبة والولد ، تبارك اسمه وتعالى جده ، سبحانه له الملك وله الحمد ..
من دلائل عظمة اللّه وكماله وقدرته! [سورة الزمر (39) : الآيات 5 الى 7]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)(3/255)
ج 3 ، ص : 256
المفردات :
يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ : يلقى هذا على هذا فإن التكوير في اللغة : طرح الشيء بعضه على بعض ، ومنه كور المتاع والعمامة ، أى : ألقى بعضه على بعض لِأَجَلٍ مُسَمًّى : لأجل معين محدود أَزْواجٍ : جمع زوج وهو اسم لكل واحد معه غيره ، فإذا انفرد فهو فرد ، والمراد الذكر والأنثى وِزْرَ حمل.
ثبت مما تقدم في الآيات السابقة أن اللّه منزه عن الصاحبة والولد لأنه إله واحد قهار غالب لكل شيء.
ومن كان كذلك فهو كامل القدرة غنى عن كل شيء ، وهنا بين بعض مظاهر القدرة.
المعنى :
ذلكم اللّه خالق كل شيء ، القادر على كل كائن حي ، المنفرد بالوحدانية والملكوت ، الغنى عن الصاحبة والولد والشريك ، الذي خلق السموات وعوالمها ، والأرض وما عليها ، خلقها بالحق الذي لا يأتيه باطل ولا عبث ولا لهو. يكور الليل على النهار ، ويكور النهار على الليل ، سبحانه وتعالى جعل الليل والنهار خلفة يخلف بعضه بعضا ، فهو يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل. فالتكوير. وجعل كل من الليل والنهار خلفة. وإيلاج زمان أحدهما في الآخر ، كل هذا بمعنى واحد. فإن هذا الليل بجحافله وهدوئه وسكونه مع الظلام الدامس. إذا طرح شيء من هذا وألقى. ثم جيء بدله بالنهار وضوئه وضجيجه وشمسه وحره. فيه ما فيه من دلائل العظمة وكمال(3/256)
ج 3 ، ص : 257
القدرة ، وهو اللّه الذي سخر الشمس والقمر. وذللهما. كل يجرى لأجل مسمى.
وزمن معلوم ونظام محدد ، وبعده تنفطر السموات والأرضين. ويجمع اللّه الشمس والقمر. ويتبدل الحال غير الحال. وهذه مظاهر القدرة التي تدل على كمال العزة والسلطان فناسب أن تختم الآية بما يدل على الرحمة وسعة الرضوان. ألا هو العزيز الغفار.
ثم تعرض القرآن لذكر الإنسان والحيوان فقال : خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ - هي آدم - ثُمَّ « 1 » جَعَلَ مِنْها زَوْجَها. وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أصناف من الإبل والبقر و، الغنم والمعز كل ذكر وأنثى منها زوج ، فتلك أزواج ثمانية أنزلها ربك من عنده. وتفضل بها من لدنه.
ثم ذكر حالة عامة تشمل الإنسان والحيوان فقال : يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ. وحالا من بعد حال : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة ... الآية .. فتلك أطوار الخلق وهم في بطون أمهاتهم حالة كونهم في ظلمات ثلاث : ظلمة المشيمة ، ثم ظلمة الرحم ، ثم ظلمة البطن ، ذلكم اللّه ربكم خالق كل شيء فاعبدوه. وهو على كل شيء وكيل. له الملك وحده. لا إله إلا هو فكيف تصرفون عبادته إلى عبادة غيره ؟ ذلكم اللّه ربكم الغنى عن عبادتكم لا تضره معصيتكم. إن تكفروا فاللّه غنى عنكم. وليس محتاجا إلى إيمانكم ، ولكنه لا يرضى لعباده الكفر فإنه ظلم. والرضا غير الإرادة.
وإن تشكروا اللّه - سبحانه وتعالى - يرض لكم ذلك ويثبكم عليه لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [سورة الفتح آية 18] بمعنى أنه أثابهم.
واعلموا أنه لا تحمل نفس عن نفس حاملة للأزوار والأثقال من الذنوب شيئا بل كل نفس بما كسبت رهينة ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ يوم القيامة يجازى كلّ على عمله بالعدل والقسطاس المستقيم لأنه خبير بما تعملون. وهو العليم بذات الصدور ومكنونات النفوس.
___________
(1) ثم كما تكون للترتيب في الزمن مع التراخي كذلك لمطلق الترتيب والمعطوف عليه هو خلقكم.(3/257)
ج 3 ، ص : 258
المؤمن والكافر [سورة الزمر (39) : الآيات 8 الى 9]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9)
المفردات :
ضُرٌّ : شدة مُنِيباً : راجعا إليه خَوَّلَهُ : أعطاه وملكه أَنْداداً :
جمع ند والمراد : قرناء وشركاء قانِتٌ : مطيع خاشع آناءَ اللَّيْلِ المراد : في جوف الليل.
المعنى :
هؤلاء المشركون أمرهم عجيب! الأدلة على وحدانية اللّه وأنه قادر أظهر من الشمس في رابعة النهار. ومع هذا يشركون به غيره من صنم ووثن. وإن تعجب لهذا فعجب حالهم إذا مسهم ضر وشدة في مال أو ولد أو نفس دعوا اللّه منيبين إليه مستغيثين به. ثم إذا كشف الضر عنهم وخولهم نعمة سابغة لهم نسوا دعاءهم الذي كانوا يدعون به ربهم وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [سورة يونس آية 12].(3/258)
ج 3 ، ص : 259
وهكذا إن الإنسان دائما إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ « 1 » . يجعل للّه أندادا وشركاء من دونه ، وكانت العاقبة أن يضل بعمله هذا غيره عن سبيل اللّه. قل : تمتع أيها الإنسان بكفرك زمنا قليلا إنك من أصحاب النار ، تمتع بالدنيا الزائلة وبمتاعها الفاني المصحوب بالألم والتعب والتهديد بالفناء ، هذا هو الكافر بنعمة ربه. أما المؤمن الصالح فهذا وصفه :
بل أم من هو قانت في جوف الليل ساجدا وقائما يدعو ربه ، ويحذر حسابه ويخشى عقابه ، ويرجو رحمته كمن تقدم ذكره من العصاة ؟ ! هل يستوي المؤمن والكافر والطائع والعاصي ؟ لا يستويان أبدا فإنه لا يستوي الذين يعلمون الحق فيتبعوه ، ويعملوا به ، والذين لا يعلمون الحق ولذلك فإنهم يتخبطون تخبط العشواء ، ويسيرون في ضلالة عمياء ، وإنما يتذكر أولو الألباب والعقول الصافية من المؤمنين.
التقوى والإخلاص واجتناب الطاغوت [سورة الزمر (39) : الآيات 10 الى 20]
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14)
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)
___________
(1) - سورة العاديات آية 6.(3/259)
ج 3 ، ص : 260
المفردات :
ظُلَلٌ : جمع ظلة وهي ما أظلك ، والمراد : طبقات النار التي تعلو الطَّاغُوتَ من الطغيان : وهو الظلم ، والتاء فيه مزيدة للتأكيد ، والمراد : كل ما عبد من دون اللّه وَأَنابُوا : رجعوا حَقَّ : ثبت ووجب غُرَفٌ : جمع غرفة ، وهي الحجرة وَعْدَ اللَّهِ : وعدهم اللّه بذلك وعدا الْمِيعادَ : الوعد.
المعنى :
أمر اللّه رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقول لعباده من المؤمنين مذكرا لهم وواعظا ، أمره أن يأمرهم بتقوى اللّه ولزوم طاعته ، وتقوى اللّه أخذ الوقاية من عذابه ، وامتثال أو امره واجتناب نواهيه ، لم ذا ؟ لأن اللّه قد حكم بأنه للذين أحسنوا في هذه الدنيا بامتثال أمر اللّه وتنفيذ أحكامه حسنة عظيمة ، حسنة في الدنيا بالعزة والسلطان والغنى والجاه ، وحسنة في الآخرة بالثواب الجزيل والعطاء الكثير.(3/260)
ج 3 ، ص : 261
ومن هنا نعلم أن الإيمان وحده - وهو التصديق باللّه وملائكته وكتبه ورسله - لا يكفى بل نحتاج معه إلى تقوى اللّه ، وإن كان الإيمان الكامل جامعا لكل شيء ، ولكن اللّه - سبحانه وتعالى - يرشدنا هنا إلى أن المؤمنين هم أولى الناس بتقبل الوعظ وأنهم في حاجة قصوى إلى تقوى اللّه في كل وقت ، فإنى أسمع من بعض الناس يتشدقون بأنهم مسلمون وليسوا في حاجة بعد الذي هم فيه إلى شي ء! وإن تعلل بعض المؤمنين بأنهم من بيئة لا تقام فيها أحكام اللّه وفي بلد يسير على غير الطريق المستقيم فليس هذا عذرا فأرض اللّه واسعة أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها « 1 » وأنتم أيها المسلمون ستلاقون في حلكم وترحالكم وفي جميع أوطانكم بعض العنت والشدة من إخوانكم المواطنين ، ولا علاج لهذا كله إلا الصبر الذي يقضى على الشدائد ، ولكم الجزاء الأوفى على صبركم. إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
وأمر اللّه نبيه أن يقول لهم : إنى أمرت أن أعبد اللّه وحده مخلصا له ديني عبادة خالية من الشرك والرياء وحب السمعة ، أمر صلّى اللّه عليه وسلّم ببيان ما أمر به من الإخلاص في عبادة اللّه الذي هو عبارة عما أمر به المؤمنون من التقوى والإخلاص مبالغة في حثهم على الإتيان بما كلفوه ، وتمهيدا لما يعقبه.
وأمرت لأن أكون أول المسلمين ، أى : المقدم في الشرف والعمل الكامل.
قل لهم يا محمد : إنى أخاف إن عصيت ربي أخاف عذاب يوم عظيم هوله ، شديد ألمه. وفي هذا تحذير للناس وأى تحذير ؟ ! قل لهم : اللّه وحده أعبد مخلصا له ديني. وليس هذا تكريرا مع قوله : إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ لأنه إخبار بأنه مأمور من جهة اللّه بالإتيان بالعبادة مع الإخلاص : أما قوله : اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فهو إخبار بأنه أمر بألا يعبد أحدا غير اللّه « 2 » .
فاعبدوا ما شئتم من دونه. وهذا الأمر المقصود منه الزجر والتهديد ، وكأنه قال بعد هذا البيان السابق : فاعبدوا ما شئتم فأنتم أعرف بأنفسكم.
___________
(1) - سورة النساء آية 97. [.....]
(2) - إذ تقديم المفعول - اللّه - يفيد الحصر.(3/261)
ج 3 ، ص : 262
قل لهم يا محمد : إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم بالشرك والمعاصي ، وخسروا أهليهم ، أى : أتباعهم حيث أضلوهم ، وأضاعوا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة. ألا ذلك هو الخسران المبين.
لهم من فوقهم ظلل من النار وطبقات تعلو رؤوسهم. ولهم من تحتهم ظلل.
وتسميتها ظللا من باب المشاكلة. على أنها ظلل لمن تحتهم في طبقة أخرى من النار.
ذلك العذاب الفظيع يخوف اللّه به عباده ليخافوا فيجتنبوا ما يوقعهم به. يا عبادي فاتقون ، ولا تتعرضوا لما يوجب سخطى وعذابي.
والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ، وأنابوا إلى اللّه لهم البشرى. والطاغوت هو الشيطان لأنه سبب الكفر والعصيان ، أو هو كل معبود دون اللّه. هؤلاء الذين تركوا عبادة الأوثان ، وخالفوا الشيطان لهم البشرى بالثواب من اللّه على ألسنة الرسل الكرام.
فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم اللّه ووفقهم ، وأولئك هم أولو الألباب وأصحاب العقول السليمة.
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ « 1 » لست أنت مالك أمر الناس ولا أنت تقدر على إنقاذ من في النار ، بل المالك والقادر على ذلك كله هو اللّه - سبحانه وتعالى - فأنت ترى أن اللّه - سبحانه وتعالى - جعل استحقاقهم للعذاب وهم في الدنيا بمنزلة دخولهم النار يوم القيامة. وقد جعل حالة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يدعوهم إلى الإسلام ، ويبالغ في تحصيل هدايتهم ، بمنزلة حال من ينقذهم من النار إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص 56].
لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف مبنية من فوقها غرف تجرى من تحتها الأنهار. وعد اللّه المؤمنين بذلك وعدا كريما محققا. واللّه - سبحانه - لا يخلف وعده. ومن أصدق من اللّه حديثا ؟ !
___________
(1) الهمزة للاستفهام الإنكارى ، والفاء للعطف على مقدر تقديره : أأنت مالك أمر الناس فمن حقت عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه ؟ ! والهمزة الثانية لتوكيد الأولى.(3/262)
ج 3 ، ص : 263
هذه هي الدنيا [سورة الزمر (39) : آية 21]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21)
المفردات :
فَسَلَكَهُ : أدخله يَنابِيعَ : جمع ينبوع ، وهو عين الماء يَهِيجُ :
ييبس ، وقيل : يشتد حُطاماً : فتاتا مكسرا ، من تحطم العود : إذا تفتت.
المعنى :
وهذه هي الدنيا الفانية متاعها زائل ، وهي عرض حائل ، الملتحف بها لا يدفأ ، والمعتمد عليها معتمد على أوهى من بيت العنكبوت ، إنما مثلها كماء أنزله اللّه من السماء فسلكه ينابيع من الأرض وأرسل منه عيونا متفجرة أخرج بها زرعا مختلف الأشكال والألوان والأنواع ، ثم يهيج وييبس فتراه مصفرا ذابلا ، ثم يكون حطاما مكسرا وعصفا مأكولا ، إن في ذلك لذكرى ، ولكن لأولى الألباب.
نعم ، إن العاقل الذي ينظر إلى تلك المظاهر التي يمر بها النبات يعرف أن عمر الحيوان كذلك مهما طال ، وأنه وإن طال عمره فلا بد له من الانتهاء كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [سورة القصص آية 88] وهكذا الدنيا.(3/263)
ج 3 ، ص : 264
النور وشرح الصدور بالقرآن [سورة الزمر (39) : الآيات 22 الى 26]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)
المفردات :
شَرَحَ : فتح وبسط صَدْرَهُ : المراد قلبه نُورٍ : هدى مُتَشابِهاً أى : يشبه بعضه بعضا في الحسن والدقة مَثانِيَ جمع مثنى ، والمراد تتكرر فيها القصص والمواعظ والأحكام تَقْشَعِرُّ الاقشعرار : التقبض ، يقال : اقشعر الجلد :
إذا تقبض تقبضا شديدا ، والمراد : تضطرب وتتحرك بالخوف الْخِزْيَ : الذل والصغار.(3/264)
ج 3 ، ص : 265
المعنى :
إنما يتذكر القرآن ، ويتعظ بالمواعظ الإلهية أولو العقول الصافية من المؤمنين الذين يؤمنون بالغيب ، والذين شرح اللّه صدورهم للإسلام ، وهل هؤلاء الناس كمن انحرف عن الحق ، وضل عن سواء القصد ؟ .. ليس كل الناس سواء ، فمن شرح اللّه صدره للإسلام ، وخلقه مستعدا لقبول الحق فبقى على فطرته السليمة فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها فهو بسبب هذا متمكن من نور الحق مستقر على هدى اللّه ، أفمن شرح اللّه صدره - كما ذكرنا - كمن قسا قلبه ، وضاق صدره وغير فطرة اللّه بسوء اختياره وإعراضه عن آيات اللّه حتى لا يتذكر بها ؟ ؟ لا يمكن أن يسوى هذا بذاك.
فويل شديد لمن قسا قلبه ، وضاق صدره من أجل ذكر اللّه ، الويل ثم الويل لهؤلاء الكفرة الذين إذا ذكر اللّه وحده أو تليت آية من آياته اشمأزت قلوبهم من أجل ذلك أولئك البعيدون في درجات جهنم في ضلال بيّن ظاهر.
عجبا لهؤلاء!! اللّه نزل أحسن الحديث ، وهو القرآن الكريم ، ولا شك أنه أحسن ما تحدث به الإنسان لأنه حديث الرحمن ، وهو ذلك الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه تنزيل من حكيم حميد ، وعزيز عليهم ، وهل هناك أصدق من اللّه حديثا ؟ .
وروى عن سعد بن أبى وقاص أنه قال : قال أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لو حدثتنا ؟
فأنزل اللّه - عز وجل - : اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ فقالوا : لو قصصت علينا ؟
فنزل : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ فقالوا : لو ذكرتنا ؟ فنزل : أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ فاللّه نزل على محمد أحسن الحديث وأكمله وأعلاه ، وما أروعه وأصدقه أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ؟ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ.
اللّه نزل أحسن الحديث حالة كونه كتابا موصوفا بصفات هي التشابه ، والمعنى أنه كتاب متشابه الأعجاز والأطراف ، متشابه في المعنى والغرض ، والصحة ودقة الحكم ، وتتبع منافع الناس ، فهو كما قالت الأعرابية في بنيها : هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها. فالقرآن كذلك - وللّه المثل الأعلى - كله حسن وجميل وبليغ ودقيق ، وكله من عند اللّه وكفى.(3/265)
ج 3 ، ص : 266
وهو كتاب يشبه بعضه بعضا وتثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام ، أى : تعاد وتكرر بمنتهى البلاغة وروعة التصوير ودقة التعبير.
هذا وصفه في نفسه ، فإذا سمعه المؤمنون اقشعرت منهم الجلود ، واضطربت منهم القلوب ، ووجلت منهم النفوس ، إذا سمعوا وعيد اللّه ، ورأوا بعيون البصيرة ما أعد للمكذبين الكفار دمعت عيونهم وخشعت أصواتهم ، واقشعرت جلودهم ، ثم تلين قلوبهم وتسكن حينما يسمعون ذكر رحمة اللّه بالمؤمنين ، تفرح نفوسهم ، وتنشرح صدورهم إلى ذكر فضله على المؤمنين يوم لقائه.
عن أسماء بنت أبى بكر الصديق - رضى اللّه عنهما - قالت : كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا قرئ عليهم القرآن - كما نعتهم اللّه - تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم ، فقيل لها : فإن أناسا اليوم إذا قرئ القرآن خر أحدهم مغشيا عليه ، فقالت : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم. ومر ابن عمر - رضى اللّه عنه - برجل من أهل القرآن ساقطا ، فقال : ما بال هذا ؟ قالوا : إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر اللّه سقط : فقال ابن عمر : إنا لنخشى اللّه وما نسقط .. ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك - والإشارة إلى الكتاب الذي مر ذكر وصفه - هدى اللّه ، يهدى به من يشاء من عباده ومن يضلله اللّه فما له من هاد يهديه بعده ، ومن هنا ندرك أن القرآن وتلاوته وسماعه هو سر شرح الصدور ، والعامل الأول في جلاء القلوب وإزالة صدأ النفوس.
هل يستوي المهتدى إلى نور الحق والضال عن سواء السبيل ؟ لا يستويان بحال أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ؟ بمعنى : أكلّ الناس سواء ؟ فمن شأنه أن يتقى - بوجهه الذي هو أشرف أعضائه - يتقى به العذاب السيئ يوم القيامة لأن يده التي جعلت للاتقاء بها مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن لا يعتريه مكروه ، ولا يصيبه سوء أبدا ؟ من يسوى هذا بذاك ؟ وكيف يستويان ؟ ! أحدهما كافر بالقرآن متحزب مع الشيطان والآخر قد اهتدى بنور القرآن ، وأفعم قلبه وصدره ببرد اليقين ونور رب العالمين.
ولا يستويان وقد قيل للظالمين : ذوقوا ما كنتم تكسبون ، وهذا عذاب الكفار يوم القيامة ، وهاك عذابهم في الدنيا : كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب المقدر لهم(3/266)
ج 3 ، ص : 267
كالخسف والإبادة أو الذل من حيث لا يشعرون ، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى ، ولكنهم لا يعلمون.
الأمثال في القرآن [سورة الزمر (39) : الآيات 27 الى 31]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
المفردات :
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا : المراد بضرب المثل : تطبيق حالة غريبة على حالة تشبهها غَيْرَ ذِي عِوَجٍ : غير ذي اختلاف بوجه من الوجوه. والعوج : ما يدرك بالفكر والنظر ، والعوج : ما يدرك بالحس سَلَماً : سالما.
المعنى :
بعد ما تقدم ذكره يقول الحق - تبارك وتعالى - : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن - والإشارة فيه للتعظيم - الكامل في كل شيء الأمثال في جميع ما يحتاجون إليه في(3/267)
ج 3 ، ص : 268
شئون دينهم ودنياهم ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ « 1 » ضربناه لهم لعلهم يتذكرون ويتعظون ، ضربناه في هذا القرآن حالة كونه قرآنا عربيا لا اختلال فيه بوجه من الوجوه فهو المستقيم في كل قصد وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ « 2 » وإنما كان ذلك كذلك لعلهم يتقون. فأنت ترى أن الأمثال في القرآن تضرب للتذكرة والموعظة لتحصل التقوى التي هي الغرض الأسمى.
ضرب اللّه للمؤمن الموحد وللكافر المشرك مثلا : رجل مملوك لشركاء متشاكسين مختلفين كل له رأى وحاجة. فكل يطلب من هذا العبد حاجة لا يطلبها الآخر ، فماذا يفعل ؟ وقد تقاسمته الأهواء واختلفت به السبل ؟
وهذا رجل آخر مملوك لشخص واحد فهو سالم له ، ليس لغيره سبيل عليه ، هكذا المسلم لا يعبد إلا اللّه ، ولا يسعى لإرضاء غير ربه الرحمن الرحيم ذي الفضل العظيم عليه فهل تراه في راحة أم حيرة وضلال ؟
أما المشرك فهو يعبد آلهة ، ويتجه إلى شركاء مختلفين فهو دائما في حيرة وارتباك لا يدرى كيف يرضى الجميع ؟
هل يستوي المسلم الموحد بالكافر المشرك ؟ لا يستويان بحال .. الحمد للّه الذي وفقنا للإسلام ، وهدانا إلى الحق ، ولولاه ما اهتدينا فالحمد له جل شأنه ، بل أكثر الناس لا يعلمون ذلك.
ولما لم يلتفتوا إلى الحق ، ولم ينتفعوا بضرب الأمثال هددهم ربك بالموت ، وانتهاء هذا الوضع بقوله : إنك ميت يا محمد ، وإنهم ميتون ، فالكل فان ولا يبقى غير وجه ربك ذي الجلال والإكرام.
ثم إنكم يوم القيامة تختصمون ، وسيحكم اللّه بينكم يوم القيامة فلا تأسوا يا أمة محمد على القوم الكافرين ، واصبروا إن اللّه مع الصابرين.
___________
(1) - سورة الأنعام آية 38.
(2) - سورة الأنعام آية 153.(3/268)
ج 3 ، ص : 269
من أظلم الناس .. ؟ ومن أصدقهم ؟ [سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 37]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37)
المفردات :
مَثْوىً أى : مقاما لهم ، يقال : ثوى بالمكان إذا أقام به بِكافٍ أى : يقيه وعيد المشركين.
المعنى :
إنك يا محمد ميت ، وإنهم ميتون ، إذ كل شيء هالك إلا وجهه ، ثم إنكم بعد مفارقة الدنيا عند ربكم تختصمون ، وسيحكم اللّه بينكم حكمه الفصل ، ويقضى(3/269)
ج 3 ، ص : 270
قضاءه العدل ، وإذا كان الأمر كذلك فمن أظلم الناس ؟ لا أحد أظلم ممن كذب على اللّه حيث أضاف إليه الشريك والولد ، وكذب بالأمر الذي هو عين الصدق إذ جاءه فلم يترو ولم يفكر ، بل فاجأ بالتكذيب والرد ، والمعنى أن هذا الذي كذب على اللّه ، وكذب بالقرآن أظلم من كل ظالم ، ولا أحد أظلم منه.
أليس في جهنم مثوى لهؤلاء الذين افتروا على اللّه الكذب ، وسارعوا إلى التكذيب بالصدق ، والمراد أن جهنم أعدت لهؤلاء ، وهي كافية لهم حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها [سورة المجادلة آية 8] فهي عقوبة لكفرهم.
وأما الذي جاء بالصدق ، والقول الحق ، وهو رسول اللّه وخاتم أنبيائه وإمام رسله صلّى اللّه عليه وسلّم والذين صدقوا به وآمنوا بأنه من عند اللّه وفيه تبيان كل شيء والخير لكل كائن حي ، أولئك هم المتقون دون سواهم ، لهم ما يشاءون ويطلبون عند ربهم ، من كل نافع لهم ومفيد يوم القيامة ، لا في الجنة فقط ، ولكن لهم ما يشاءون يوم الحساب يوم الفزع الأكبر ، وعند كل موقف عسير ، ذلك الجزاء المذكور جزاء المحسنين.
وعدهم اللّه بذلك كله ليكفر عنهم سىء ما عملوا إن كان لهم سىء ، وليجزيهم أجرهم كاملا بأحسن أعمالهم التي كانوا يعملونها ، وكل عمل لهم فهو أحسن لمزيد إخلاصهم وحسن تقبل اللّه له.
قد يقول قائل : ما معنى أن اللّه يكفر عن المتقين أسوأ ما عملوا ؟ وهل لهم سيّئ وأسوأ واللّه يكفر الأسوأ فقط ؟ والجواب أن هؤلاء المتقين لشدة تقواهم إذا فرط منهم ذنب صغير فهو عندهم أسوأ الذي عملوا لاستعظامهم المعصية في جنب اللّه ، فكل ذنب صغير فهو في نظرهم كبير ، بل أسوأ أعمالهم ، فليس لهم سىء وأسوأ في الواقع ، وكذلك الحسن الذي يعملونه هو عند اللّه الأحسن ، لحسن إخلاصهم ومزيد تقواهم فلذلك ذكر سيئهم بالأسوإ - في نظرهم كما سبق - وحسنهم بالأحسن كما علمت ..
أليس اللّه بكاف عبده « 1 » والمعنى أن اللّه كاف عبده وهو النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومؤيده وعاصمة
___________
(1) مثل هذا التركيب من كل استفهام دخل على نفى يفيد التقرير بمدخول النفي أو بما يعلمه المخاطب ، كقوله تعالى : أَلَمْ نَشْرَحْ ، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ إلخ ومنشأ هذا أن الاستفهام إنكارى دخل على النفي فأفاد معنى التقرير والتثبيت بالدليل إذ نفى النفي إثبات.(3/270)
ج 3 ، ص : 271
من الناس جميعا ، وهذا الأسلوب العربي العالي يفيد أن كفاية اللّه لعبده من التحقيق والظهور بحيث لا يقدر أحد على إنكارها ، بل على التفوه بعدمها ، ولذلك قيل : أمدح بيت قالته العرب :
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
فلما سمعه عبد الملك بن مروان من جرير الشاعر وكلاهما عربي بطبعه ، وكان منصرفا عنه التفت وأجزل مثوبته ، والبيت في مدح بنى مروان.
أليس اللّه بكاف عبده ؟ ويخوفونك بالذين من دونه من الأصنام التي لا تسمع ولا تنفع ، بل لا تدفع عن نفسها الأذى ، فأبشر بطول سلامة!! ومن يضل اللّه حتى يغفل عن قدرته اللّه وكفايته عبده ورسوله فيخوف النبي بما لا ينفع ولا يضر فما له من هاد يهديه إلى الخير أبدا.
ومن يهده اللّه إلى الحق والصواب فما له من مضل أبدا ، أليس اللّه بعزيز لا يغلب ، ولا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض ، ذي انتقام ينتقم من أعدائه لأوليائه.
مناقشة أهل الشرك في عبادتهم الأصنام [سورة الزمر (39) : الآيات 38 الى 40]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40)(3/271)
ج 3 ، ص : 272
المفردات :
بِضُرٍّ الضر : الشدة والبلاء بِرَحْمَةٍ المراد بها : النعمة والرخاء مَكانَتِكُمْ أى : حالكم التي أنتم عليها وعداوتكم التي تمكنتم فيها ، وقد استعمل المكانة بمعنى المكان في الحالة التي عليها الشخص « 1 » .
المعنى :
لما أطنب اللّه - تعالى - في ذكر وعيد المشركين وعذابهم في الدنيا والآخرة وفي ذكر ما أعد للمتقين في الفانية والباقية ، لما أطنب في ذلك عاد إلى إقامة الدليل على بطلان الشرك وعبادة الأصنام فقال ما معناه :
ولئن سألتهم يا محمد : من خلق السموات والأرضين ؟ ليقولن مجيبين بجواب واحد لا خلاف فيه : خلقهن اللّه.
عجبا لهؤلاء ؟ ! إذا كانوا يقرون بخلق اللّه الكون - سماءه وأرضه - فكيف يشركون معه غيره ؟ ! قل لهم : أإذا كان الأمر كذلك فأخبرونى عن آلهتكم إن أرادنى اللّه بضر هل هن يكشفن عنى ذلك الضر!! نعم وهذا عجيب حقا إذا لم يكن خالق سواه فهل يمكن غيره أن يكشف ما أراده من خير أو ضر ؟ ! هل هذه الأصنام تمنع ضرّا أراده اللّه ؟ أو تمسك رحمة أرادها اللّه ؟ لا هذا ولا ذاك ، وقد كانوا يخوفون النبي بالأصنام.
قل لهم وقد وضح الصبح لذي عينين : اللّه حسبي وكفى ، وعليه أتوكل وإليه ألجأ ، فهو نعم المولى ونعم النصير ، وعليه يتوكل المتوكلون.
قل : يا قوم اعملوا ما شئتم ، اعملوا على مقتضى حالتكم التي أنتم عليها من العداوة السافرة لي ولأصحابى ، إنى عامل على مقتضى ما وضعني اللّه فيه ، فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه في الدنيا ، ويحل عليه في الآخرة عذاب دائم مقيم.
___________
(1) - حيث شبه الحال بالمكان - بمعنى المكانة - القائم فيه الشخص ، أى : ثباتهم في تلك الحال بثبات المتمكن في مكانه ووجه الشبه الثبات في كل.(3/272)
ج 3 ، ص : 273
إثبات وحدانية اللّه وقدرته مع مناقشتهم وبيان جزائهم [سورة الزمر (39) : الآيات 41 الى 48]
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48)(3/273)
ج 3 ، ص : 274
المفردات :
يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ : يقبضها عند انتهاء آجالها اشْمَأَزَّتْ الاشمئزاز : انقباض في القلب وضيق في النفس يظهر أثره في الوجه يَسْتَبْشِرُونَ الاستبشار : امتلاء القلب سرورا فيظهر أثر ذلك في بشرة الوجه وَبَدا لَهُمْ : ظهر ما لم يكن في الحسبان.
لا يزال القرآن الكريم يسوق الدليل تلو الدليل على وحدانية اللّه - سبحانه وتعالى - ووصفه بكل كمال وتنزيهه عن كل نقص ، مع مناقشة هؤلاء المشركين في عقائدهم الفاسدة ، تارة بلفت أنظارهم إلى معبوداتهم من حيث ضررها ونفعها ، وتارة ببيان آثار القوى القادر ، وتارة بالتهديد لهم وتسفيه أحلامهم وبيان عاقبتهم يوم القيامة لعلهم يرجعون عن غيهم ، ويثوبون إلى رشدهم.
المعنى :
اللّه - سبحانه وتعالى - هو الذي أنزل عليك الكتاب هدى للناس وتبيانا لكل ما يحتاجون في دينهم ودنياهم ، أنزله ربك مقرونا بالحق متلبسا به ، فمن اهتدى به فلنفسه بغى الخير ، ومن ضل عنه وحاد عن طريقه فإنما يضل وضلاله على نفسه ، إذ عاقبة خسارته عليها وحدها ، وأما أنت يا محمد فلست عليهم بوكيل ، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ، فلا يهمنك أمرهم ، ولا تحزن عليهم.
اللّه - سبحانه - هو الذي يتوفى الأنفس ويقبضها عن أبدانها حين موتها بحيث لا يستقدمون عنه ساعة من الزمن ولا يستأخرون ، ويتوفى الأنفس التي لم تمت في نومها والمعنى أنه - سبحانه - يتوفى هذه الأنفس في وقت نومها فاللّه - سبحانه - يقطع تعلق الأرواح بالأبدان حتى لا تتصرف فيها إلا بقدر ، فتوفيها حين الموت قطع لتصرفها(3/274)
ج 3 ، ص : 275
في البدن ظاهرا وباطنا دائما لا رجوع فيه ، وتوفيها حين النوم قطع للتصرف فيه ظاهرا فقط ، وإلى وقت محدود ، ثم تعود الروح بعده إلى الجسم كما كانت. وتظل معه إلى أجل معلوم محدود اللّه يعلمه ، وهذا معنى قوله تعالى : فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى.
فالنوم - كما يقولون - موت أصغر ، والموت نوم أكبر ، والأمر كله للّه ، وما أشبه النوم والموت بجهالة المشركين ، وما أشبه الحياة واليقظة بنور الإسلام وهدى القرآن ، والكل من اللّه - سبحانه - إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون بعقولهم فلا يحيلون البعث بعد الموت ، فيها أنت إذ تصحو بعد النوم ، وتحيا بعد الموت في كل يوم مرة أو مرتين « لتموتنّ كما تنامون ، ولتبعثنّ كما تستيقظون » ، وكان الكفار إذا لزمتهم الحجة ، وانقطع بهم السبيل قالوا - وبئس ما قالوا - : اللّه خالق كل شيء هو الحكيم العليم ، وهذه الأصنام نبعدها لأنها تشفع لنا وتقربنا من ربنا! عجبا لهؤلاء! بل اتخذوا من دون اللّه شفعاء لهم ، يشفعون عند ربهم بدون إذنه ولا علمه ؟ ! قل لهم يا محمد : أيشفعون والحال أنهم لا يملكون شيئا ولا يعقلون ؟ عجبا لكم أتتخذونهم شفعاء ولو كانوا لا يملكون شيئا من الأشياء فضلا عن أن يملكوا الشفاعة عند اللّه - تعالى - وهم لا يعقلون.
قل لهم : للّه الشفاعة جميعا ، فلن يستطيع أحد أن يشفع إلا بإذنه ، والسبب في هذا أنه له وحده الملك التام للسموات والأرض ، ثم إليه وحده الأمر والمصير يوم القيامة ، فاحذروا عقابه وارجوا ثوابه.
وتلك سيئة من سيئاتهم التي لا تحصى إذا ذكر اللّه مفردا عن الآلهة اشمأزت قلوب المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وامتلأت قلوبهم غيظا وغما حتى يظهر ذلك في وجوههم وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً [الإسراء 46].
وإذا ذكر الذين من دونه من الآلهة إذا هم يستبشرون ، أى : فاجأهم وقت الاستبشار.
ولما ذكر عنهم هذا الأمر العجيب الذي تشهد بدائه العقول ببطلانه أردفه بأمرين أحدهما دعاء اللّه مع وصفه بالقدرة التامة والعلم الشامل ، ثم
قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : أنت(3/275)
ج 3 ، ص : 276
يا رب تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون
،
وهؤلاء المشركون بعد ظهور الأدلة ووضوحها ينفرون من التوحيد ويستبشرون بالشرك ، وأنت يا رب وحدك القادر على إزالة هذا منهم وصدهم عن عبادتهم هذه. ثانيهما أنهم يوم القيامة في حال يودون أن لو كان لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أنفسهم من عذاب جهنم إن عذابها كان غراما ، وفيه ظهر من أنواع العذاب التي أعدها اللّه لهم ما لم يكن في حسابهم ولا تقديرهم ، ونظير ذلك قول اللّه في جانب المؤمنين : فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ وقد ظهر لهم سيئات ما كسبوا من سىء الأعمال ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون.
فهذا هو جزاؤهم ، وقد كانوا من قبل يستهزئون بالنبي وينكرون وعيده لهم ، وها هم أولاء قد لمسوه وعرفوه ، وندموا ولات ساعة مندم ..
هكذا الإنسان [سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 52]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)(3/276)
ج 3 ، ص : 277
المفردات :
مسه : أصابه خَوَّلْناهُ : أعطيناه وملكناه فِتْنَةٌ : اختبار وابتلاء بِمُعْجِزِينَ : بسابقين اللّه وبفائتيه.
المعنى :
وتلك سيئة أخرى من سيئاتهم المتكررة ، وهذه كلها تنشأ من أنهم لا يؤمنون حقا بوجود إله قوى يصرف هذا الكون ، فهم ينظرون إلى الدنيا نظرة سطحية خاطئة ، فإذا مسهم الضر ، ووقعوا في الشدة لجئوا إلى اللّه ، ودعوه منيبين إليه ، ثم إذا كشف الضر عنهم ، وخولهم ربك نعمة من عنده نسوا ما كانوا يدعون من قبل وقالوا : إن هذا الخير وصل إلينا لعلم عندنا بأمور الدنيا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص 78].
وهكذا الإنسان يلجأ إلى اللّه في الشدائد حتى إذا نجا وأدرك ساحل السلامة وآتاه اللّه بسطة في مال أو جاه قال : إنما حصل لي هذا بسبب نشاطي وجدي وكمال عقلي وقوة حدسى ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم دائما يذكرون اللّه في السراء والضراء ، فإن مسهم خير شكروا اللّه لأنه صاحب النعمة ، وإن مسهم ضر صبروا ولجئوا إلى اللّه لأنه وحده هو الذي يكشف الشر ، أيها الناس : لا تغتروا بما أوتيتم ، بل النعم فتنة وابتلاء ليعلم أتشكرون أم تكفرون ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن إعطاءهم بلاء واختبار! قد قال مقالة الكفار هذه الذين من قبلهم من كفار الأمم السابقة ، وهذا دليل على أن ذلك طبع في الإنسان ، إنه كثير النسيان ، مغرور بما أعطى من مال أو جاه ، قد قالها من قبلهم ، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون. لم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب اللّه ، فأصابهم سيئات ما كسبوا ، والذين ظلموا من هؤلاء - أى : كفار مكة - سيصيبهم سيئات ما كسبوا فإنهم مغرورون بأموالهم ، وكثيرا ما قالوا : أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ؟ ! أو لم يعلموا أن اللّه يبسط الرزق لمن يشاء له ذلك ولو كان كافرا جاهلا ، وله في ذلك حكم تخفى على كثير من الناس ، واللّه يقتر الرزق على من يشاء ولو كان مسلما عاقلا حكيما لحكم هو وحده يعلمها ، فليس الرزق(3/277)
ج 3 ، ص : 278
الواسع دليلا على محبة اللّه ، وليس الفقر دليلا على بغض اللّه ، وليس واحد منهما يرجع إلى عقل صاحبه وتفكيره فقط ، فكثيرا ما نرى أن المال يأتى لمن لا حيلة له حتى يتعجب صاحب الحيلة ، إن في ذلك لآيات ناطقة بأن الكل من اللّه ، والأسباب الظاهرة ملغاة في غالب الأحوال ، ولا يعقل ذلك كله إلا القوم المؤمنون.
وعظ وإرشاد [سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 59]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59)(3/278)
ج 3 ، ص : 279
المفردات :
أَسْرَفُوا : تجاوزوا الحد لا تَقْنَطُوا : لا تيأسوا وَأَنِيبُوا : ارجعوا وَأَسْلِمُوا : من الاستسلام والخضوع بَغْتَةً : فجأة يا حَسْرَتى الحسرة :
الندامة فِي جَنْبِ اللَّهِ : المراد طاعة اللّه وطلب مرضاته السَّاخِرِينَ :
المستهزئين كَرَّةً : رجعة.
روى عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال : لما اجتمعنا على الهجرة ، اتعدت أنا وهشام بن العاص بن وائل السهمي ، وعياش بن أبى ربيعة بن عتبة ، أى : تواعدنا فقلنا : الموعد أضاة بنى غفار - أى : غديرهم - وقلنا : من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه ، فأصبحت أنا وعياش بن أبى ربيعة وحبس عنا هشام ، وإذا به قد افتتن فكنا نقول بالمدينة : هؤلاء قد عرفوا اللّه - عز وجل - وآمنوا برسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ثم افتتنوا لبلاء لحقهم ألا نرى لهم توبة ؟ ! وكانوا هم أيضا يقولون هذا في أنفسهم ، فأنزل اللّه - عز وجل - في كتابه قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ .. الآيات. قال عمر : فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام ، قال هشام : فلما قدمت علىّ خرجت بها إلى (ذي طوى) مكان بمكة فقلت : اللهم فهمنيها فعرفت أنها نزلت فينا ، فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ورويت روايات أخرى في سبب النزول ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
المعنى :
قل يا محمد مبلغا عنى الذين أسرفوا على أنفسهم ، وأفرطوا في المعاصي : يا عبادي لا تيأسوا من رحمة اللّه فإنه لا ييأس من رحمة اللّه إلا القوم الكافرون ، لا تقنطوا من مغفرة اللّه ، إن اللّه يغفر الذنوب جميعا ، إنه هو الغفور الرحيم ، وهو تعليل للنهى عن اليأس والقنوط ، وهذه الآية في كتاب اللّه ، فهي تفتح باب الأمل للعصاة من المؤمنين حتى لا يظلوا سادرين في غيهم راكبين رءوسهم في طاعة أنفسهم وشياطينهم.
والنفس كثيرا ما تشعر بذنبها ، وتندم على فعلها ، وتذكر ماضيها ، وتود لو أنها كانت من المؤمنين الذين عملوا الصالحات ، فلو سد باب التوبة والرجوع إلى اللّه لظل(3/279)
ج 3 ، ص : 280
أغلب الناس يتخبطون في ظلمات المعاصي ، ولكن فتح باب التوبة يسد على إبليس كثيرا من النوافذ ، وقد تكون توبة العاصي عند اللّه أحسن من عبادة العابد ، والذي يرجع عن السوء ، وينخرط في سلك التوابين قد يكون عند اللّه من المقربين ، لأنه يعمل عن عقيدة عملا صادرا من نفس أدركت خطر المعاصي ولذة الطاعات.
اللّه - سبحانه وتعالى - ينهانا عن اليأس ويفتح أمامنا باب الأمل ، ويأمرنا بقوله :
وأنيبوا إلى ربكم الذي رباكم وتعهدكم وأنتم ضعاف حتى قوى ساعدكم ، وأسلموا له واخضعوا لحكمه وامتثلوا أمره ، وبادروا إلى ذلك بسرعة من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة ساعة الموت وطلوع الروح ثم لا تنصرون ، ومن ينصركم من اللّه ويمنعكم منه ؟
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ الآية إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ .. [سورة النساء الآيتان 17 ، 18].
واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ، واللّه - سبحانه - أنزل على الأنبياء كتبا كالتوراة والإنجيل ، وأحسنها وأوفاها وأكملها هو القرآن لأن ما تقدمه كان تهيئة لنزوله وإعدادا لقبوله ، واللّه أعلم بأسرار كتابه ، وقيل غير ذلك ، وسارعوا إلى ربكم ، وأسرعوا في امتثال أمره واجتناب نهيه وأنتم الآن في فسحة من العمل من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة ، وأنتم لا تشعرون به ، اتبعوه كراهة أن تقول نفس يوم الحساب :
يا حسرتى احضرى فهذا أوانك ، يا حسرتى على ما فرطت في طاعة اللّه وأهملت في كل ما يوصلني إلى جواره ، ويدخلني جنته ، ولات ساعة مندم.
ويا ليتني فرطت في العمل فقط بل كنت من المستهزئين الذين استهزءوا بدين اللّه ، وبمن آمن به ، ولعله يخبر بذلك متحسرا على ما قدم.
أو تقول نفس حينما ترى المؤمنين وقد جوزوا على عملهم أحسن الجزاء : لو أن اللّه هداني لكنت من المتقين كهؤلاء.
أو تقول نفس حين ترى العذاب الذي أعد لها : لو أن لي كرة ورجوعا إلى الدنيا فأعمل صالحا وأكون من المحسنين ، كلا إنها كلمة هو قائلها ، بلى « 1 » قد جاءتك آياتي
___________
(1) بلى حرف جواب من اللّه تعالى لما تضمنه قول القائل : « لو أن اللّه هداني » من نفى ، لأنه لا يجاب بها إلا بعد نفى.(3/280)
ج 3 ، ص : 281
على لسان رسلي واستكبرت عن اتباع الحق ، وكنت من الكافرين وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ - الطريقين - فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [سورة البلد الآيتان 10 ، 11].
لا إله إلا اللّه يجزى كلا على عمله [سورة الزمر (39) : الآيات 60 الى 67]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64)
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
المفردات :
مَثْوىً : مكان إقامة ، يقال : ثوى بالمكان : أقام به بِمَفازَتِهِمْ : بفوزهم(3/281)
ج 3 ، ص : 282
بالعمل الصالح مَقالِيدُ : جمع مقليد أو مقلد أو مقلاد : وهو المفتاح لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ الإحباط : الإبطال والإفساد بِيَمِينِهِ اليمين : تطلق على الجارحة ، أو على القدرة والملك ، أو القوة لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ وعليه قول الشاعر :
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
المعنى :
في هذه الآيات الكريمة بيان جزاء الكافرين والمؤمنين يوم القيامة بالإجمال وبيان دلائل التوحيد والألوهية وموقف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من ذلك .. ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على اللّه وجوههم مسودة ، والخطاب هنا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولكل من تتأتى منه الرؤية ، ولا شك أن المشركين كذبوا على اللّه حيث وصفوه بغير صفاته ، وأثبتوا له الشريك والولد ، وهؤلاء الكذابون ، تراهم يوم القيامة قد اسودت وجوههم ، وعليها غبرة ترهقها قترة ، أولئك هم الكفرة الفجرة الذين كذبوا على اللّه وعلى رسوله ، لما رأوا ما أعد لهم ظهرت عليهم علائم الخوف والاضطراب.
أليس في جهنم مثوى لأولئك الكذابين الذين جاءتهم آيات اللّه فكذبوا بها واستكبروا عنها ؟ وهذا تقرير لرؤيتهم يوم القيامة سود الوجوه ، وأما المؤمنون الصادقون فأولئك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وقد نجاهم ربك لأنهم اتقوا ما أعد للكفار حالة كونهم متلبسين ومقترنين بفلاحهم وظفرهم بطلبهم وهي الجنة قد أعدت لهم ، لا يمسهم فيها سوء ، ولا هم يحزنون.
لا غرابة في هذا ، فاللّه خالق كل شيء ، وهو على كل شيء وكيل يتصرف فيه كيفما شاء ، والكل محتاج إليه « 1 » ، له مقاليد السموات والأرض وهذه كناية عن قدرته - تعالى - وحفظه لها بمعنى أنه لا يملك التصرف في خزائن السموات والأرض - وهي ما أودع فيها من منافع - غيره تعالى.
و
أخرج البيهقي عن ابن عمر أن عثمان بن عفان - رضى اللّه عنه - سأل رسول اللّه :
صلّى اللّه عليه وسلّم عن تفسير قوله تعالى : لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فقال رسول اللّه
___________
(1) الفصل بين الجملتين لأن الثانية بمنزلة التوكيد للأولى ، وقيل : هي تعليل لقوله : (و هو على كل شيء وكيل) أو بمنزلة عطف البيان ، ويرجح بعضهم أنها مستأنفة.(3/282)
ج 3 ، ص : 283
صلّى اللّه عليه وسلّم : ما سألنى عنها أحد : لا إله إلا اللّه واللّه أكبر. وسبحان اللّه وبحمده. أستغفر اللّه. ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلى العظيم ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، يحيى ويميت ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير.
والمراد أنه يعطى أجرا على ذلك كبيرا ، ويحرس من كل شر كما ورد في بعض الروايات ، فكأن هذا الدعاء إذا ذكرته صباحا ومساء وكررته تفتح لك خزائن السموات والأرض ولا حرج على فضل اللّه.
روى أن المشركين قالوا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : أسلم ببعض آلهتنا ونحن نؤمن بإلهك ، فقيل للنبي : قل لهم : أفغير اللّه الذي اتصف بأنه خالق كل شيء والمتصرف في كل شيء ، وله وحده التصرف الكامل في هذا الكون أرضه وسمائه! أفغير اللّه الموصوف بهذا أعبد ، ما هو غير اللّه ؟ أصنام وأحجار ، وتماثيل وأوثان ، وجمادات مخلوقة لا تسمع ولا تبصر ، ولا تغنى شيئا ، بل هي الضرر كل الضرر ، أعبد غير اللّه الواحد القهار ؟
أتأمروني أيها الجاهلون بعبادة غير اللّه بعد ما وضح الحق وظهر الصبح ؟ إن أمركم لعجيب ، وتاللّه لقد أوحى إليك بالتوحيد وأوحى إلى الذين من قبلك كذلك : لئن أشركت يا محمد ليحبطن عملك وليفسدن ، ولتكونن من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأضلوا أعمالهم ، وهذا كلام على سبيل الفرض ، أى : لو فرض منك ذلك لكان كذلك ، ولقد سيق لإقناط الكفرة من ترك محمد لرسالته ، وليعلم الكل فظاعة الشرك وقبحه ، فلقد نهى عنه من لا يستطيع الإلمام به ، فكيف بمن يأتيه ؟ !! بل اللّه وحده فاعبد يا محمد أنت وكل من آمن بك ، وكن من الشاكرين على هذا التوفيق فالحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا اللّه.
وما قدروا اللّه حق قدره أبدا حيث عبدوا معه شركاء لا تسمع ، ولا تنفع ، والحال أن الأرض في قبضته ، والسموات مطويات بيمينه ، له الأمر كله وإليه ترجعون ، وسبحان اللّه وتعالى عما يشركون.
وهذا الكلام وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ عند بعضهم تمثيل لحال عظمته - تعالى - وكمال تصرفه ونفاذ قدرته بحال من يكون له قبضة فيها الأرض كلها ، وله يمين تطوى السموات طيا. ويرى بعضهم أن الكلام على حقيقته.(3/283)
ج 3 ، ص : 284
أحوال الخلق يوم القيامة [سورة الزمر (39) : الآيات 68 الى 75]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)(3/284)
ج 3 ، ص : 285
المفردات :
الصُّورِ : هو بوق ينفخ فيه قبل قيام الساعة فَصَعِقَ صعق الرجل : إذا غشى عليه من هزة أو صوت شديد ، وصعق : إذا مات ، والمراد المعنى الثاني أَشْرَقَتِ : أضاءت بِنُورِ رَبِّها أى : تجليه للحكم والعدل بين الناس ، وقيل :
هو نور يخلقه اللّه بلا واسطة أجسام مضيئة وَوُضِعَ الْكِتابُ المراد : صحائف الأعمال سِيقَ : السّوق يقتضى الحث على المسير بعنف وشدة مع الكفار ، ومع المؤمنين بلين ولطف للإسراع بالإكرام.
زُمَراً : جماعة قليلة متفرقة مرتبة حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ : وجبت كلمة العذاب ، أى : حكم اللّه عليهم بالشقاوة حَافِّينَ : محدقين ومحيطين حول العرش.
المعنى :
وتلك آية أخرى دالة على كمال قدرته ونفاذ إرادته مظهرها يكون يوم القيامة حيث يكون الأمر يومئذ للّه لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ونفخ صاحب الصور الموكل به من الملائكة ، نفخ فيه النفخة الأولى فصعق ومات كل من في السموات والأرض إلا من شاء اللّه عدم موته ساعة النفخة فيموت بعدها كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [سورة القصص آية 88].
ثم ينفخ فيه نفخة أخرى فإذا الخلائق كلها قيام ينظرون الأمر والتوجيه ، أو ينظرون نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم ، ولا يمنع هذا قول اللّه في حقهم : يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ « 1 » . وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ « 2 » أى : يسرعون المشي ، لأن لهم في ذلك الوقت مواقف متعددة.
___________
(1) - سورة المعارج آية 43.
(2) - سورة يس آية 51.(3/285)
ج 3 ، ص : 286
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ عند ذلك بِنُورِ رَبِّها أى : أضاءت بنوره ، ولعل هذا إشارة إلى تجليه - عز وجل - لفصل القضاء أو الحكم بين الناس بالعدل ، ولا يبعد أن يكون هذا النور هو الذي يعنيه
الحديث : حجابه النور
.
وهو نور يظهر عند ذلك التجلي ، وفي الحق أن الأمر فوق ما تنتهي إليه عقول البشر ، واللّه أعلم بكتابه ، وأشرقت أرض المحشر بنور ربها جل شأنه ، ووضع الكتاب وبرزت صحائف الأعمال ليتلقاها أصحابها باليمين أو بالشمال ، وجيء بالنبيين - صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين - ليسألوا عما فعلوا ، وجيء بالشهداء الذين يشهدون على الأمم أو الأفراد وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ « 1 » وقيل : المراد بالشهداء الذين يشهدون على الأمم من أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً « 2 » وقيل : هم الشهداء الذين استشهدوا في سبيل اللّه.
ووفيت كل نفس ما عملته من خير أو شر ، ولا عجب فالذي يجازيها هو أعلم بما فعلته من خير أو شر يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ « 3 » .
وهاك تفصيلا لتوفية كل نفس عملها : وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً يا سبحان اللّه!! أيساقون إليها سوق الأنعام بالشدة والغلظة ؟ ! يساقون إليها زمرا وجماعات مرتبة على حسب شرورها وآثامها حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها لهم كالسجن يفتح بابه للسجين حينما يصله ، وقال لهم خزنتها وحراسها تأنيبا وتقريعا : ألم تأتكم رسل منكم ومن جنسكم تفهمون عنهم ، وتعرفون أمرهم ، يتلون عليكم آيات ربكم ، وينذرونكم يوما عبوسا قمطريرا كهذا اليوم ؟ ويخوفونكم لقاء يومكم هذا ؟ ! قالوا : بلى قد جاءتنا الرسل وكثيرا ما وعظتنا وذكرتنا باللّه ، وخوفتنا لقاء هذا اليوم ، ولكن حقت كلمة اللّه لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ « 4 » نعم حقت كلمة العذاب على الكافرين ، أى : كلمة اللّه المقتضية للعذاب ، والمراد بها حكم اللّه عليهم بالشقاوة وأنهم من أهل جهنم بسوء اختيارهم وشنيع فعلهم الذي فعلوه مع الأنبياء.
___________
(1) - سورة ق آية 21.
(2) سورة البقرة آية 143.
(3) سورة لقمان آية 16.
(4) - سورة السجدة آية 13. [.....](3/286)
ج 3 ، ص : 287
وماذا حصل بعد هذا ؟ قيل لهم من قبل الملائكة : ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثواكم جهنم ، وهي مثوى المتكبرين الذين تكبروا على قبول الحق والانقياد للرسل المنذرين لهم ، وهذا يشم منه تعليل دخولهم النار بسبب تكبرهم.
وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة جماعات على حسب رتبهم في الفضل والشرف ، وسوقهم هنا معناه الحث على السير للإسراع في الإكرام بخلافه مع الكفرة فإنه للإهانة والتحقير.
حتى إذا جاءوها والحال أن أبوابها مفتحة جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ كالكريم الذي يصنع مع ضيفه يهيئ له المكان ويعد له النمارق والزرابي ثم تفتح له الأبواب استعدادا لمقدمه ، ويقف الخدم والحشم عليها للتحية .. ويا حظ أصحاب الجنان حيث يفتح لهم ربهم أبواب جناته وتقف الملائكة للتحية والإكرام ، ويقولون لهم مرحبين : سلام عليكم طبتم نفسا وقررتم عينا بذلك النعيم الدائم المقيم فادخلوها خالدين. ونعم أجر العاملين ، وقال الذين اتقوا وعملوا الصالحات : الحمد للّه والشكر له صدقنا وعده بالبعث والثواب وأورثنا الأرض ، أى : المكان الذي نستقر فيه ، يتبوأ كل منا في أى مكان أراده من جنته الواسعة الوارفة الظلال ، فنعم أجر العاملين هذا الأجر.
وترى الملائكة حافين حول العرش محدقين ينتظرون الإشارة من صاحب العرش - جل جلاله - وهم يسبحون بحمد ربهم ، ويستغفرونه ، وقضى بين العباد كلهم بالقسط ، وقيل من المؤمنين : الحمد للّه رب العالمين ، حمدوا ربهم أولا على إنجاز وعده ووراثتهم الأرض يتبوءون من الجنة حيث يشاءون ، وحمدوه ثانيا على القضاء بالحق ، والحكم بالعدل بين الناس جميعا .. فالحمد له رب العالمين.(3/287)
ج 3 ، ص : 288
سورة غافر
وتسمى سورة المؤمن ، وسورة الطول ، وهي مكية كلها في قول أكثر القراء ، وعن ابن عباس : هي مكية إلا آيتين منها هما إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ والتي بعدها ، وهي خمس وثمانون آية.
والسور المبدوءة في القرآن بلفظ حم سبع سور وكلها مكية ، وهي عرائس القرآن ، وروى عن أنس قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : الحواميم ديباج القرآن.
وروى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « لكل شيء ثمرة وثمرة القرآن ذوات حم ، هن روضات حسان مخصبات متجاورات ، فمن أحب أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم » .
وسورة غافر تدور آياتها حول مناقشة المجادلين في آيات اللّه المشتملة على التوحيد وإثبات البعث والرسالة ، ويتطرق الكلام إلى وصف حال المشركين والمجادلين يوم القيامة ، ثم ذكر قصة فرعون وهامان وقارون للمشركين ، وفي خلال ذلك سيقت آيات تثبت وصف اللّه بكل كمال وتنزيهه عن كل نقص.
القرآن ومن جادل فيه ومن آمن به [سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)(3/288)
ج 3 ، ص : 289
المفردات :
حم تقرأ هكذا : حاميم بالسكون ، وقرأ بعض القراء حاميم ، وفي معناها ما مضى في أول سورة البقرة وغيرها من أنها سر بين اللّه ورسوله اللّه أعلم به ، أو هي سيقت للتحدى ، أو هي وغيرها حروف سيقت للاستفتاح والتنبيه لخطر ما بعدها ، وقد سئل رسول اللّه عنها
فقال : « بدء أسماء وفواتح سور »
التَّوْبِ : مصدر تاب ، والمراد التوبة ذِي الطَّوْلِ : صاحب النعم والفضل ، والطول : الغنى والسعة أيضا وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا. تَقَلُّبُهُمْ : تصرفهم وتنقلهم وَالْأَحْزابُ أى : الأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب كعاد وثمود وَهَمَّتْ أى : عزمت لِيَأْخُذُوهُ المراد : ليقتلوه ويعذبوه لِيُدْحِضُوا أى : ليزيلوا به الحق حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وجبت ولزمت كلمة ربك ، أى : حكمه وَقِهِمْ : اصرف عنهم.(3/289)
ج 3 ، ص : 290
وفي هذه الآيات تكلم الحق - تبارك وتعالى - عن نزول القرآن وأنه من عند اللّه الموصوف بصفات ست ، ثم تعرض للكفار الذين كفروا به وجادلوا بالباطل ومآلهم.
ثم تعرض لموقف من آمن به وطمأنهم غاية الاطمئنان حيث جعل الملائكة تدعو لهم وتستغفر للمؤمنين.
المعنى :
هذا القرآن الكريم الذي بين يديك يا محمد تنزيله من اللّه ، فأنت صادق فيما تدعيه من أنك رسول اللّه وأن القرآن من عند اللّه ، هذا القرآن يجب اتباعه ، والسير على طريقته لأنه منزل من عند اللّه الخالق لكل شيء ، القادر الذي له ملك السموات والأرض ، العزيز الذي لا يغلبه غالب ، العليم الذي يعلم السر وأخفى ، ويعلم الغيب والشهادة ، وهو مع هذا يغفر الذنوب جميعا ويقبل التوبة من عباده لأنه كتب على نفسه الرحمة ، وهو مع هذا شديد العقاب لمن عصى وبغى ، ولم يرع ذمة ولا عهدا ، ولم يرجع نادما تائبا عما فرط منه ، وهو صاحب الطول ، وواهب الفضل ومجزل العطاء ، وصاحب النعم في السراء والضراء ، وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها ، ترى أن اللّه وصف نفسه بصفات الرحمة والفضل ، فلو كان معه إله آخر يشاركه ويساويه لما كان جديرا بهذه الصفات ولما كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة ، أما إذا كان واحدا ليس له شريك ولا شبيه ، كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة ، وكانت هذه الصفات به جديرة.
فلذلك قال هنا : لا إله إلا هو ولا معبود بحق سواه ، واعلموا أنه إليه وحده المرجع والمآب فاحذروا عقابه وارجوا ثوابه. روى عن عمر بن الخطاب - رضى اللّه عنه - أنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام فقيل له : تتابع في هذا الشراب وأصبح من أهل المدام ، فقال عمر لكاتبه : اكتب إليه : سلام عليك وأنا أحمد اللّه إليك ، الذي لا إله إلا هو بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ .. إلى قوله إِلَيْهِ الْمَصِيرُ.
ثم ختم الكتاب وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا ، ثم أمر عمر من عنده بالدعاء له بالتوبة ، فلما أتته صحيفة عمر ، جعل يقرؤها ويقول : وعدني اللّه أن يغفر لي ، وحذرني عقابه وذكرني بنعمه فلم يبرح يرددها حتى بكى ، ثم نزع نفسه مما هي(3/290)
ج 3 ، ص : 291
فيه وتاب فأحسن التوبة ، فلما بلغ عمر أمره قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم زل زلة فسددوه وادعوا اللّه له أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه.
هذا هو القرآن الكريم الذي أنزل على النبي الصادق الأمين ، والذي أنزله رب العالمين غافر الذنب ، وقابل التوب ، شديد العقاب ، ذو الطول. لا إله إلا هو إليه المصير ، فهل آمن به كل الناس ؟ لا : من الناس من كفر باللّه وجادل في كتاب اللّه جدالا بالباطل الذي لا حق فيه ، وقال تمويها وتضليلا : إنه سحر أو شعر أو كهانة أو هو أساطير الأولين ، وإنما يعلمه بشر ، وأمثال هذا كثير مما كانوا يقولون للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولذا يقول اللّه هنا : ما يجادل في آيات اللّه جدالا بالباطل لا بالحق ، وإلا فالجدال لإظهار الحق ولتفهم المعنى مطلوب شرعا ، ما يجادل بالباطل إلا الذين كفروا ، وهؤلاء سنريهم آياتنا ، وحسابنا العسير لهم في الدنيا والآخرة ، فلا يغررك ما هم فيه من نعمة ، ولا يهمنك تمتعهم في الدنيا فهو متاع قليل ، مأواهم جهنم وبئس المصير ، انظر تر أن العذاب الذي لحقهم سببه أنهم عزموا على إيذاء الرسول وقتله ، وجادلوا بالباطل لإزهاق الحق فكانوا بذلك من أصحاب النار.
وهذه سنة اللّه مع من يكذب رسله ، ولن تجد لسنة اللّه تبديلا ، فقد كذبت قبلهم قوم نوح ، وكذبت عاد وثمود وقوم فرعون وإخوان لوط ، هؤلاء تحزبوا ضد أنبيائهم ، وتجمعوا للكيد بهم ، وعزمت كل أمة منهم لتأخذ رسولها أسيرا فتهلكه وتقتله ، ومكروا ومكر اللّه واللّه خير الماكرين ، فعلوا هذا ، وما علموا أن اللّه ينصر رسله ويدافع عنهم وعمن آمن معهم.
وهؤلاء الذين كذبوا رسل اللّه وهموا أن يأخذوا رسلهم ليقتلوهم ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، ويطمسوا معالمه ، أخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر ، فكيف كان عقاب ؟ ! وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ أى : كما وجب وثبت حكمه - تعالى - وتحقق هلاك هؤلاء المتحزبين على الأنبياء ، وجب وتحقق حكمه - سبحانه وتعالى - بالإهلاك على هؤلاء المتحزبين عليك أيضا من قريش لأنهم أصحاب النار « 1 » فالسبب واحد والعلة واحدة.
___________
(1) هذا إشارة إلى أن (أنهم) منصوبة بنزع الخافض ، ويجوز إعرابها بدلا ، (و أن وما دخلت عليه) بدل من (كلمة ربك).(3/291)
ج 3 ، ص : 292
هؤلاء الكفار تحزبوا ضد النبي والمؤمنين ، وبالغوا في إظهار العداوة للنبي وصحبه وهم قلة بالنسبة لهم ، فأراد ربك أن يطمئن خاطر المسلمين ويشد أزرهم ببيان أن معهم أشرف الخلق ، من الملائكة الأطهار ، يدعون لهم ويستغفرون ، وذلك بلا شك هو الفوز العظيم ، فقال ما معناه :
الذين يحملون عرش ربك ، ومن حوله حافين به وهم في خدمته ، ورهن إشارته ، والقائمون بحفظه وتنفيذ أمر ربهم هؤلاء يسبحون حامدين منزهين ربهم عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل ، ويؤمنون به إيمانا حقيقيا كاملا بظهر الغيب. ويستغفرون للذين آمنوا قائلين : ربنا وسعت رحمتك وعلمك كل شيء ، وإنما عدل عن هذه العبارة إلى ما في النظم الكريم للمبالغة. ربنا فاغفر للذين تابوا إليك ، واتبعوا سبيلك الحق وهو الإسلام ، وقهم عذاب الجحيم ، ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ، وأدخل معهم من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ليتم سرورهم ، ويضاعف ابتهاجهم وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور 21] ، وقهم السيئات ، واحفظهم من المكروه والآلام كلها يوم القيامة ، ومن يتق السيئات يومئذ يقوم الناس لرب العالمين لقد رحمته بدخول الجنة وذلك هو الفوز العظيم.
ومن أهوال يوم القيامة [سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 17]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14)
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)(3/292)
ج 3 ، ص : 293
المفردات :
لَمَقْتُ اللَّهِ المقت : أشد أنواع البغض ، والمراد به في جانب اللّه لازمه وهو تعذيبهم والغضب عليهم رَفِيعُ الدَّرَجاتِ : مرتفع الصفات منزه عن مشابهة المخلوقات ذُو الْعَرْشِ : خالقه ومالكه الرُّوحَ المراد به : الوحى ، سماه روحا لأنه كالروح في إحيائه الموات من الناس يَوْمَ التَّلاقِ : يوم اجتماع الخلائق للحساب بارِزُونَ : ظاهرون لا سبيل إلى إخفائهم.
وهذا حال من أحوال الكفرة يوم القيامة ، وهم في جهنم ، بعد ما بين سابقا أنهم أصحاب النار.
المعنى :
إن الذين كفروا باللّه ورسوله ينادون من بعيد ، وهم في النار يتلظون سعيرها فقال لهم : لمقت اللّه أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون ، وذلك أنهم حينما يرون ما كانوا يكفرون به حقا لا شك فيه يمقتون أنفسهم أشد المقت لأنهم وقعوا(3/293)
ج 3 ، ص : 294
فيما وقعوا باتباع هواها ، ويصح أن يكون المعنى أنهم يمقت بعضهم بعضا ، الأتباع والمتبوعين الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ « 1 » يكفر بعضكم ببعض ويعلن بعضكم بعضا فيقال لكم عند ذلك رءوس الأشهاد : لمقت اللّه أنفسكم الأمارة بالسوء إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أشد من مقتكم أنفسكم ، أو المعنى لمقت اللّه أنفسكم في الدنيا إذ « 2 » تدعون من جهة الأنبياء إلى الإيمان فتأبون قبوله فتكفرون اتباعا لأنفسكم ومسارعة في هواها أو اقتداء بأخلائكم المضللين ، لمقت اللّه هذا أكبر من مقتكم أنفسكم أو أكبر من مقت بعضكم لبعض.
هؤلاء الكفار حينما يشتد بهم العذاب ، ولا يطيقون الصبر يقولون : ربنا أمتنا اثنتين أى : موتتين ، الأولى قبل الحياة ، والثانية في الدنيا ، وأحييتنا اثنتين ، الأولى في الدنيا والثانية يوم القيامة ، فاعترفنا بذنوبنا وآثامنا ، وبدا لنا سيئات ما عملنا ، فارجعنا نعمل صالحا في حياة ثالثة فإنا أدركنا خطأنا وتبين لنا صدق الرسل - عليهم السلام - وأصبحنا موقنين بذلك ، فهل إلى خروج من سبيل « 3 » ؟ لا .. فإنهم « لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه » ، ذلكم العذاب الدائم المستمر الذي هم فيه بسبب أنه إذا دعى اللّه وحده كفروا باستمرار ، وإن يشرك به يؤمنوا على أن له شريكا ، وحيث كان الأمر كذلك فالحكم للّه العلى الكبير.
هو الذي يريكم أيها الناس آياته الكونية وآياته القرآنية الشاهدة له بالوحدانية والقدرة والاتصاف بكل كمال والتنزه عن كل نقص ، وهو الذي ينزل لكم من السماء رزقا ، ترى أن اللّه - سبحانه - جمع في الآية نعمه التي تحيى الأديان والتي تحيى الأبدان ، وتقوى الروح والأجسام ، ولا يتذكر بهذا ، ولا يتعظ إلا من ينيب.
وإذا كان الأمر كذلك فادعوا اللّه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ، هو رفيع الدرجات ، عظيم الصفات ، رافع درجات المؤمنين ، ذو العرش وصاحب الملك وكامل التصرف لا إله إلا هو ، يلقى الروح على من يشاء من عباده ، وهو أعلم حيث يجعل رسالته ، فهو الذي ينزل الوحى على الأنبياء ، لينذروا الناس يوم التلاقي ، واجتماع الخلق
___________
(1) - سورة الزخرف آية 67.
(2) - إذ تدعون إذ ظرف لمقت الأول وإن توسط بينهما الخبر ، واللام في لمقت لام الابتداء وقعت بعد ينادون لأنها في معنى يقول لهم.
(3) - هذا استفهام مراد به التمني لأنهم يعلمون أنهم لا يخرجون.(3/294)
ج 3 ، ص : 295
للحساب ، ويخوفونهم يوما يبرزون فيه أمام الحق - تبارك وتعالى - وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام 94] بروزا أمام اللّه لا حول لهم ولا قوة ولا ساتر ولا وقاية من عذابه لا يخفى على اللّه منهم شيء.
يا حسرتا على القوم الكافرين!! يقول اللّه - تعالى - بعد فناء الخلق أجمعين ، أى : بعد النفخة الأولى : لمن الملك اليوم ؟ فيجيب اللّه : للّه الواحد القهار ، فالسائل والمجيب هو اللّه ، أو هو على لسان ملك ، أو حال الخلائق ناطقة بذلك.
اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن اللّه سريع الحساب فهو لا يشغله حساب عن حساب.
تخويف الكفار وترويعهم [سورة غافر (40) : الآيات 18 الى 22]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22)(3/295)
ج 3 ، ص : 296
المفردات :
الْآزِفَةِ المراد : يوم القيامة سميت بذلك لقربها إذ كل ما هو آت قريب ، ويقال : أزف الرحيل يأزف أزفا : إذا قرب كاظِمِينَ : ممتلئين غما الْحَناجِرِ : جمع حنجرة وهي الحلقوم حَمِيمٍ : قريب نافع خائِنَةَ الْأَعْيُنِ :
المراد الأعين الخائنة وهي التي تختلس النظر إلى المحرم وتسارقه واقٍ : حافظ يدفع عنهم السوء.
وهذا وصف آخر لأهوال يوم القيامة حتى يرتاع الكفار وتمتلئ قلوبهم روعة ورهبة.
المعنى :
وأنذر الناس وخاصة الذين يجادلون في آيات اللّه بالباطل ، أنذرهم يوم القيامة اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ « 1 » ، والقيامة وإن بعد زمانها إلا أنها آتية لا شك فيها ، وكل آت قريب أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ « 2 » إذ « 3 » القلوب لدى الحناجر كاظمين ، والمراد تخويفهم وترويعهم من ذلك اليوم وقت أن تكون القلوب لدى الحناجر ، وهذه العبارة كناية عن شدة الخوف والوجل إلى درجة أن تخلع القلوب من أماكنها حتى تصل إلى الحلقوم فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ « 4 » حالة كون أصحاب القلوب كاظمين ، أى : مكروبين وساكتين مع امتلائهم غما وحزنا.
ومن هنا فهمنا أن الكفار يوم القيامة يخافون خوفا شديدا يجعل قلوبهم لدى حلقومهم وأنهم من شدة الهم والخوف ساكتون فلا يستطيعون الكلام ، ليس للظالمين - وهم أو لهم - حميم يدافع عنهم من صديق أو قريب ، وليس لهم شفيع يشفع لهم ويجادل عنهم ، وكانوا يعبدون الأصنام على أنها شفعاء عند اللّه.
___________
(1) - سورة القمر آية 1.
(2) - سورة النجم الآيتان 57 ، 58.
(3) - (إذ) بدل من (يوم الآزفة) و(لدى الحناجر) خبر ، و(كاظمين) حال من القلوب ، على معنى قلوبهم.
(4) - سورة الواقعة الآيتان 83 ، 84.(3/296)
ج 3 ، ص : 297
وهذا الذي يحاسبهم يوم القيامة يعلم الأعين الخائنة التي تسرق النظر إلى المحرم وتختلسه اختلاسا حتى لا يشعر بها أحد من الجالسين ، ويعلم ما تخفيه الصدور من الرغبات والحاجات والنوايا ، والإنسان يصدر عنه عمل نفسي قلبي أو عمل بالجوارح ، فإذا كان اللّه يعلم أدق شيء عن جوارح الإنسان وهو النظر خلسة فمن باب أولى أن يعلم اليد التي تبطش والرجل التي تسير واللسان الذي يتكلم ، ويعلم كذلك خطرات القلوب وما تخفيه الصدور وهو يعلم السر وأخفى ، ويا ويلنا إذا كان يحاسبنا وهو من يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور!! واللّه يقضى بالحق ، لا ظلم اليوم ، فلا تظلم نفس شيئا ، وإن كان مثقال حبة من خردل أتى بها اللّه وكفى به خير الحاسبين.
والذين يدعونهم من دونه لا يقضون بشيء ، وكيف يقضون ، وهم لا يعلمون شيئا ، إن اللّه هو السميع لكل قول ، والعليم بكل فعل ، وسيجازى على ذلك كله.
نرى أن القرآن ملأ قلوبهم خوفا ورعبا من ذلك اليوم لو كانوا يعقلون ، فذرك أنه قريب ، وأن القلوب تنخلع فيه لهول ما ترى ، وأن المجرمين لا يستطيعون الكلام مع امتلاء قلوبهم غيظا ، وليس لهم صديق ولا حميم ولا شفيع يطاع ، والحاكم يومئذ عالم بكل شيء لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، وهو يقضى بالحق فلا محاباة عنده ، وهؤلاء الأصنام لا تنفع عنده بشيء ، وهو وحده السميع البصير.
ولما بالغ الحق - تبارك وتعالى - في تخويفهم من يوم القيامة أردفه بإنذارهم وتخويفهم في الدنيا ، وبيان ما عمله اللّه مع من كفر وعذب الرسل السابقين لعلهم يتعظون فقال ما معناه :
أغفلوا ولم يسيروا « 1 » في الأرض التي هي حولهم وفي طريقهم فينظروا نظرة اعتبار وموعظة ما حل بالأمم السابقة لما كذبت رسلهم كعاد وثمود وغيرهما ، وهؤلاء السابقون كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا ، وقد مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ، وقد أثاروا الأرض وزرعوها ، وأصبحت لهم مدن وحضارة ، وزراعة وصناعة ولكنهم
___________
(1) الاستفهام إنكارى ، و(كيف) خبر مقدم لكان ، و(عاقبة) اسمها ، والجملة من كان واسمها وخبرها في محل نصب على المفعول لينظروا ، وقوله تعالى : (كانوا هم أشد منهم قوة) جواب (كيف).(3/297)
ج 3 ، ص : 298
كذبوا وكفروا فأخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر بسبب ذنوبهم ، وما كان عند ذلك من واق يقيهم العذاب.
ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالآيات البينات والحجج الواضحات فكفروا بها ، فأخذهم اللّه بسيئات أعمالهم ، إنه قوى شديد العقاب.
يا أهل الشرك ، ويا أصحاب الفسق : احذروا هذا اليوم وخافوه واتعظوا بمن سبقكم ، فالعاقل من اتعظ بغيره ، وتلك سنة اللّه ولن تجد لسنة اللّه تبديلا.
وهذه قصة موسى مع فرعون وملئه ، ذكر معها موقف رجل آمن من آل فرعون وكتم إيمانه ، وقد تخللها حكم ومواعظ ، وعبر وآيات ، وإنما يتذكر بهذا وأمثاله أولو الألباب ، وهي في جملتها بيان لعاقبة بعض الأمم التي سبقتهم ، وكانت أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا .. وتتلخص القصة في :
1 - موقف فرعون من دعوة موسى وما رد به عليه قولا وفعلا.
2 - مارد به موسى على تهديد فرعون.
3 - دفاع الرجل المؤمن عن موسى.
4 - تحذير لآل فرعون من عاقبة فعلهم في الدنيا والآخرة وتذكيرهم بما حل بقوم نوح وعاد وثمود.
5 - تذكيرهم بما حصل أيام يوسف - عليه السلام.
6 - إنكار فرعون وجود إله واحد كما يقول موسى بدليل حسى.
7 - وعظ الرجل المؤمن لقومه وبيانه حقيقة الدنيا والآخرة.
8 - نجاة موسى منهم ونهاية أمره وأمرهم.
تلك هي عناصر القصة التي سيقت هنا ، وسنذكرها بالتفصيل ، واللّه هو الهادي إلى سواء السبيل.(3/298)
ج 3 ، ص : 299
موسى مع فرعون وهامان وموقف الرجل المؤمن [سورة غافر (40) : الآيات 23 الى 27]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)
المفردات :
وَسُلْطانٍ : وحجة قوية ظاهرة وَاسْتَحْيُوا : أبقوهم أحياء ضَلالٍ :
ضياع وخسران ذَرُونِي : اتركوني.
المعنى :
وتاللّه لقد أرسلنا موسى بآياتنا التسع التي أهمها اليد والعصا وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ أرسلناه بآياتنا وبحجة قوية واضحة على أنه رسول من عند اللّه ، أرسلناه إلى فرعون ملك مصر وهامان وزيره ، وقارون وكان صاحب أموال وكنوز ،(3/299)
ج 3 ، ص : 300
وكان مدار العداوة على هؤلاء الثلاثة وغيرهم تابعا لهم ، فقالوا لما عجزوا عن معارضته ودفع الحجة بالحجة : إنه ساحر كذاب ، ولكن موسى لم يعبأ بقولهم ، وظل يقوم بدعوته ، فلما جاءهم الحق من عند الحق - تبارك وتعالى - قالوا : اقتلوا من الآن أبناء الإسرائيليين الذين معه ، واتركوا البنات يعشن فإن خطر الذكور كبير ، ونخشى أن يتجمعوا ويكثروا ، وفي هذا الضرر ، ويظهر أن فرعون كان قد امتنع عن هذا مدة من الزمن ، ولكن أنى لهم ذلك وعين اللّه لا تنام عن أوليائه وأحبائه ؟ فأرسل عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم حتى شغلهم ذلك عن استئصال بنى إسرائيل ، فهم قد مكروا ومكر اللّه ، وكان كيدهم في ضلال وخسران ، ونجى اللّه المؤمنين وأغرق قوم فرعون أجمعين.
وقال فرعون في أثناء ذلك : ذروني أقتل موسى وانتهى من أمره ، وليدع ربه الذي يدعى أنه رب السموات والأرض ورب المشارق والمغارب وأنه الذي خلق كل شيء ثم هدى ، ذروني أقتله وليدع ربه ليخلصه ، يريد بذلك إنكار وجود الإله ، إنى أخاف أن يبدل دينكم الحق - في اعتقاده - أو أن يظهر في الأرض الفساد إن لم يبدل دينكم.
هذا ما كان من أمر فرعون وآله ، أما ما كان من أمر موسى إزاء هذا التهديد فها هو ذا : وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ وقال موسى : إن ربي وربكم الذي خلقنا ورزقنا ، ورعانا في بطون الأجنة وفي ظلمات ثلاث ، والذي وهب لنا الوجود وعمنا بالخير والبركات أستعيذ به من كل متكبر جبار تعاظم عن الإيمان ، وكان لا يؤمن بيوم الحساب ، ومن كان كذلك فهو إلى الوحشية أقرب ، بل أشد طغيانا وظلما من الحيوان المفترس ، ولنا في موسى وهو يستعيذ باللّه من كل متكبر طاغ أسوة حسنة واللّه معنا يحرسنا ويرعانا إن شاء اللّه.
دفاع الرجل عن موسى [سورة غافر (40) : الآيات 28 الى 33]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)(3/300)
ج 3 ، ص : 301
المفردات :
ظاهِرِينَ : غالبين بَأْسِ اللَّهِ : عذابه التَّنادِ المراد به : يوم القيامة.
وهكذا لا تذهب الدعوة إلى اللّه سدى بل لا بد من وجود من يدافع ويرد كيد الكائدين لها في مجتمع أعدائها ، وقد كان ذلك مع موسى وفرعون ، فأوجد اللّه في قوم فرعون رجلا مؤمنا حقا يكتم إيمانه فلم يعرفه أحد بأنه مؤمن ، ويظهر أن الرجل كانت له مكانة في القوم حتى استطاع أن يدلى برأيه هذا.
قال : أتقتلون يا قوم رجلا لأنه يقول : ربي اللّه الذي خلق كل شيء وهو رب السموات والأرض ، وقد جاءكم بالبينات والحجج الواضحات على أنه رسول من عند اللّه ؟ ! فإن يك كاذبا فعليه وزر كذبه ، ولا يضركم شيء فاتركوه وشأنه ، ولا تتعرضوا(3/301)
ج 3 ، ص : 302
له ولأتباعه ، وإن يك صادقا في الذي يحذركم به من عذاب الدنيا والآخرة فلا أقل من أنه يصيبكم بعض الذي يعدكم ، واعلموا أن اللّه لا يهدى من هو مسرف في قوله وعمله وهكذا فيما يدعيه. وقد هدى اللّه الرجل إلى الحق فبعيد جدّا أن يكون كما تقولون :
مسرف كذاب.
المعنى :
وهذه مقالة الرجل الذي امتلأ قلبه بنور الإيمان ، وخالط بشاشته برد اليقين فنظر إلى الدنيا نظرة الحكيم العاقل ، فقال : يا قومي لكم الملك اليوم - ملك ظاهرى - حالة كونكم ظاهرين لا يعلو عليكم أحد غالبين لا يغلبكم أحد في أرض مصر ، يا قوم لا تفسدوا أمركم ، ولا تزيلوا عزكم بتعرضكم لهذا الرجل الذي يقول : ربي اللّه ، ولا تتعرضوا لبأس اللّه ، فإنه إن جاءنا لم يمنعه مانع ، فمن ينصرنا من بأس اللّه ؟
قال فرعون بعد سماعه لهذا الكلام : ما أريكم إلا ما أرى ، ولا أشير عليكم إلا بقتله حتى نستريح ، وما أهديكم بهذا الرأى إلا سبيل الرشاد وطريق الصواب.
وقال الذي آمن : يا قوم إنى أخاف عليكم يوما يجعل الولدان شيبا ، يا قوم إنى أخاف عليكم من تكذيب موسى والتعرض له بسوء أن يحل بكم مثل ما حل بالذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية فقد أخذهم ربكم أخذ عزيز مقتدر ، وحل بهم الخسف والإغراق ، وما اللّه بهذا يريد ظلما للعباد ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون بتكذيبهم الأنبياء ، وتعرضهم لهم بالسوء.
هذا الذي أخافه عليكم في الدنيا أما في الآخرة فإنى أخاف عليكم يوم التنادى الذي هو يوم القيامة ، وما أكثر النداء فيه!! فيه ينادى أصحاب الجنة أصحاب النار ، وفيه ينادى أصحاب النار أصحاب الجنة ، وينادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم - كما ذكر هذا في سورة الأعراف - وينادى المنادى بالشقوة لأهل الشقاء ، وبالسعادة لأهل السعادة وفيه تنادى الملائكة كلا بما يستحقه يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ إنى أخاف عليكم يا قوم يوم التنادى يوم تولون مدبرين هاربين ما لكم من اللّه من عاصم ، وليس لكم من دونه ملجأ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ومن يضلل اللّه فما له من هاد ، ومن يهد اللّه فما له من مضل ، وكل ميسر لما خلق له.(3/302)
ج 3 ، ص : 303
تذكيرهم بما حصل لهم أيام يوسف [سورة غافر (40) : الآيات 34 الى 35]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
المعنى :
يا قوم تنبهوا ، واذكروا ما حصل أيام يوسف الذي أرسل لكم ، وتاللّه لقد جاءكم يوسف من قبل موسى بالآيات البينات فما زلتم ، أى : أسلافكم في شك مما جاءكم به ، ومتى شك الإنسان في الأمر أعرض عنه ولم يبحثه ، حتى إذا هلك قلتم : لن يبعث اللّه من بعده من يدعى الرسالة ، مثل هذا الإضلال والخروج عن جادة الصواب يضل اللّه كل شخص مسرف في العصيان مرتاب في دينه شاك فيما تشهد به الآيات البينات ، وهذا بيان لمن هو مسرف مرتاب وهم الذين يجادلون في آيات اللّه بغير علم ولا هدى ولا حجة ولا برهان إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ « 1 » كبر مقتا عند اللّه ، أى : كبر مقت المجادل في آيات اللّه وعظم جرمه عند اللّه ، وعند الذين آمنوا!! مثل ذلك الطبع الفظيع يطبع اللّه على كل قلب متكبر جبار يصدر عنه هذا الإسراف والارتياب والمجادلة بغير حق ..
___________
(1) - سورة غافر آية 56.(3/303)
ج 3 ، ص : 304
إنكار فرعون وجود الإله [سورة غافر (40) : الآيات 36 الى 37]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37)
المفردات :
صَرْحاً : القصر الضخم الْأَسْبابَ : جمع سبب ، وهو الطريق الموصل إلى المطلوب تَبابٍ : خسارة وهلاك.
المعنى :
ولما سمع فرعون قول الرجل المؤمن وخاف أن يذاع خبره ويصل إلى قلوب الناس أراد أن يهدم أساس الدعوة ، وينفى وجود الإله بالدليل الحسى ويعلم الناس أن قول موسى : إنى رسول من رب العالمين خطأ باطل ، إذ كان رسولا منه فلا بد أن يتصل به شأن كل رسل الملوك ، وهذا يكون بالصعود إلى السماء ، وهو محال لأن موسى لم يبن بناء مرتفعا وأصلا إليها ، ومنشأ ذلك الفهم أن فرعون يفهم أن اللّه مستقر في السماء ، وأن رسله كرسل الملوك.
وإذا كان الصعود إلى السماء محالا فكيف نقول بوجود اللّه فيها ؟ وكيف نسلم بأن موسى رسوله ؟ ولهذا قال فرعون : يا هامان ابن لي صرحا ، ليظهر للكل أن الصعود إلى السماء محال .. لعلى أبلغ الأسباب والطرق الموصلة إلى السماء. فأطلع إلى إله موسى(3/304)
ج 3 ، ص : 305
وإنى لأظنه كاذبا في دعواه أنه رسول ، وأن هناك إلها غيرى. ومثل ذلك التزيين البليغ المفرط في الغباوة والطبع على القلوب زين لفرعون الجبار سوء عمله ، وقبح صنعه ، وصد عن سبيل الحق والعدل والإنصاف ، أو هو صد غيره عن ذلك ، وما كان كيده وعمله إلا في تباب وخسران.
وعظ الرجل المؤمن لقومه [سورة غافر (40) : الآيات 38 الى 46]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46)(3/305)
ج 3 ، ص : 306
المفردات :
لا جَرَمَ : لا شك. أى ثبت وحق أن ما تدعون إليه .. الآية مَرَدَّنا :
مرجعنا وَحاقَ : أحاط بهم النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها : المراد يصلونها ويحرقون بها « 1 » .
المعنى :
وقال الذي آمن من آل فرعون يعظ قومه : يا قوم اتبعونى فيما أدعوكم إليه أهدكم سبيل الرشاد ، سبيل يصل بكم إلى الخير والسداد وفي هذا تعريض بأن سبيل فرعون وآله وما هم عليه سبيل الغي والفساد.
يا قوم : إنما هذه الحياة الدنيا متاع زائل وعرض حائل فلا تكن هي السبب في كفركم وغيكم ، واعلموا أن الآخرة هي دار القرار والبقاء والخلود ، فاعملوا لها واسعوا في نعيمها ، ولا تغرنكم الدنيا الفانية فالآخرة خير وأبقى ، يا قوم من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها عدلا من اللّه ، ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة التي عرضها كعرض السموات والأرض ، يرزقون فيها رزقا رغدا بغير حساب أضعافا مضاعفة ، فضلا من اللّه ورحمة.
___________
(1) في قوله تعالى : (النار يعرضون) استعارة تمثيلية حيث شبه حالهم بحال متاع يعرض للبيع ويبرز لمن يريد أخذه ، وقد جعل النار كالطالب الراغب في الكفار لشدة استحقاقهم للهلاك.(3/306)
ج 3 ، ص : 307
ويا قوم : مالي أدعوكم إلى النجاة من عذاب النار وغضب الجبار ، وأنتم تدعونني إلى النار وعذاب الجبار إذ تدعونني لأكفر باللّه وأشرك به ما ليس لي به علم ، أى :
ما ليس له حقيقة في الوجود حتى أعلم به فنفى العلم هنا كناية عن نفى المعلوم ، وأما أنا فأدعوكم إلى العزيز الغفار الموصوف بكل كمال المنزه عن كل نقص.
لا شك أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة ، أى : ثبت وحق عدم دعوة الذين تدعونني إليه من الأصنام إلى عبادته أصلا من أن من حق المعبود بالحق أن يدعو عباده إلى عبادته ، ويظهر ربوبيته لخلقه ، وما تدعونهم أصناما وأحجارا لا نفع لها ولا ضرر لا تسمع ولا تبصر ، فليس لها دعوة إلى عبادتها في الدنيا ، في الآخرة يتبرءون من عبادتكم لهم واعلموا أن مردنا إلى اللّه ، وأن المسرفين في ارتكاب الذنوب والآثام هم من أصحاب النار.
يا قوم ستذكرون ما أقوله لكم يوم لا تنفع الذكرى ، وستندمون يوم لا ينفع الندم ، وأما أنا فسأفوض أمرى إلى اللّه ليعصمني من كل سوء ومكروه إن اللّه بصير بالعباد ، فوقاه اللّه سيئات ما مكروا ، وكفاه شر المستهزئين به المعاندين له ، وحاق بآل فرعون العذاب السيئ وأحاط بهم من كل جانب ، وما هو العذاب السيئ ؟ هو النار يصلونها ويحرقون بلهيبها ، ويعرضون عليها صباحا ومساء.
ومن هنا كان القول بعذاب القبر. وصح ما روى عن بعضهم : إن أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود تغدو وتروح على النار فذلك عرضها ، يشهد بذلك ما
روى عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم « إنّ الكافر إذا مات عرضت روحه على الجنّة بالغداة والعشىّ » وخرج البخاري ومسلم حديثا كهذا.
روحه على النّار بالغداة والعشىّ » ثم تلا : النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وإنّ المؤمن إذا مات عرضت روحه على الجنّة بالغداة والعشىّ »
وخرج البخاري ومسلم حديثا كهذا.
ويوم القيامة يقال للملائكة : أدخلوا آل فرعون أشد أنواع العذاب ، وهذا دليل على أن عرض النار عليهم في الدنيا ، وأن عذاب القبر حقيقة واقعة ، واللّه أعلم.(3/307)
ج 3 ، ص : 308
من مواقف الكافرين في الدنيا والآخرة [سورة غافر (40) : الآيات 47 الى 55]
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55)(3/308)
ج 3 ، ص : 309
المفردات :
يَتَحاجُّونَ : يتخاصمون ويتجادلون تَبَعاً : جمع تابع ، كخدم جمع خادم ، وقيل : هي نفس التبع مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً : حاملون عنا جزءا من العذاب ضَلالٍ : هلاك وخسران الْأَشْهادُ : جمع شهيد.
المعنى :
واذكر يا محمد لقومك لعلهم يتعظون : وقت خصام الكفار ومجادلة بعضهم لبعض ، فيقول الضعفاء الأتباع للذين استكبروا بغير حق وادعوا الرياسة بالباطل والظلم : أيها المتبوعون. إنا كنا لكم تبعا وخدما ، وأنتم قدمتمونا إلى الضلال والفساد ، ولولاكم ما وقعنا في الإثم والشرك ، فهل أنتم متحملون عنا جزءا من عذاب النار ؟ ! قال الذين استكبروا للمستضعفين : إنا كل في جهنم فلو قدرنا على دفع شيء من العذاب لدفعنا عن أنفسنا ، إن اللّه قد حكم بين العباد حكمه العدل ، ولكل نفس ما كسبت لا ظلم اليوم. وكلنا نستحق ما نحن فيه.
ولما يئسوا من دعائهم سادتهم وقادتهم اتجهوا إلى خزنة جهنم يطلبون منهم أن يسألوا ربهم التخفيف ، ولو بمقدار يوم من أيام الدنيا ، وقالوا لخزنة جهنم : ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب فرد عليهم الخزنة : ألم تنبهوا على هذا ولم تك تأتيكم رسلكم في الدنيا بالحجج الواضحة التي تحذركم سوء عاقبتكم وغاية ما كنتم عليه من الكفر والمعاصي ؟
أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا « 1 » والمراد بذلك توبيخهم وإلزامهم الحجة. قالوا - أى الذين في النار - : بلى قد جاءتنا من عند ربنا رسله فكذبنا وقلنا : ما نزل اللّه من شيء ، ما أنتم أيها الرسل إلا في ضلال كبير.
قالت الملائكة : إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم ، وما دعاء أمثالكم من الكفار إلا في ضلال وخسران.
___________
(1) - سورة الزمر آية 71.(3/309)
ج 3 ، ص : 310
أما هؤلاء الرسل الذين أرسلوا إليكم ومن آمن بهم من المؤمنين فإنا ننصرهم ونؤيدهم بالحق والآيات البينات إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فهذا شأننا دائما ننصر رسلنا ومن آمن بهم بالحجة والسلطان المبين ، وبالانتقام لهم من الكفار بالقتل والسبي والعذاب المبين وغير ذلك من العقوبات ، ولا يقدح في ذلك ما نراه الآن في المسلمين. فإنهم إذا آمنوا حقّا أتاهم نصر اللّه بين عشية أو ضحاها.
ويوم يقوم الأشهاد من الملائكة والنبيين وصالحي المؤمنين ، أما الملائكة فهم الكرام الكاتبون يشهدون بما شاهدوا ، وأما النبيون فاللّه يقول : فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً « 1 » وأما المؤمنون فاللّه يقول : وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً « 2 » ويوم يقوم الأشهاد وهو يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم. ولهم فيه اللعنة ، ولهم سوء الدار ، ترى أن القرآن وصف الكفار في هذا اليوم بأنه لا تنفعهم المعذرة ، ولهم سوء الدار وبئس المصير!! أما المؤمنون فاللّه ينصرهم ويؤيدهم ويهديهم ولذلك يقول : ولقد آتينا موسى الهدى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ « 3 » وجعلنا بنى إسرائيل يأخذون الكتاب ، أى : التوراة ويستحقونه استحقاق الميراث حالة كونه مصدر هدى وهداية ، ومنبع ذكرى وتذكر ، ولكن لأولى الألباب.
وإذا كان الأمر كما ذكر فاصبر يا محمد على أذى المجادلين في آيات اللّه بغير حق ، اصبر على أذاهم فاللّه ناصرك ومؤيدك ، وعاصمك من الناس جميعا ، إن وعد اللّه حق ، وعليك أمران ، أحدهما أن تتوب إلى ربك وتستغفر من ذنبك ، وثانيهما أن تسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار ، وهذا أدب للأمة الإسلامية رفيع ، وإنما خوطب به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ليعلم أنه طريق لا بد منه ، وأدب عال رفيع يجب أن يتحلى به كل مسلم ، وانظر إلى هدى القرآن حيث قدم التوبة والمغفرة على العمل ، فإنه لا يقبل العمل إلا بعد أن تطهر القلوب من الآثام بالتوبة ، والتوبة قد تكون من عمل خلاف الأولى ، ولذا لا غرابة أن اللّه يأمر بها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
___________
(1) - سورة النساء آية 41.
(2) - سورة البقرة آية 143. [.....]
(3) - سورة المائدة آية 44.(3/310)
ج 3 ، ص : 311
الجدل في آيات اللّه وسببه مع ذكر بعض النعم [سورة غافر (40) : الآيات 56 الى 65]
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِي ءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)(3/311)
ج 3 ، ص : 312
المفردات :
سُلْطانٍ : حجة وبرهان كِبْرٌ : تكبر وتعاظم لا رَيْبَ فِيها :
لا شك ادْعُونِي : اعبدوني داخِرِينَ : صاغرين أذلاء تُؤْفَكُونَ أفك إفكا : كذب ، والإفك : الكذب ، وأفكه عنه يأكفه أفكا : صرفه وقلبه ، وعليه قوله تعالى : قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا. قَراراً : مستقرا بِناءً أى : قبة ومنه أبنية العرب لقبابهم التي تضرب.
وهذا رجوع إلى الأصل الأول الذي بنيت عليه السورة وهو مناقشة المجادلين في آيات اللّه بالباطل ، مع التعرض لإثبات البعث ، والكلام على صفات اللّه ونعمه على الناس.
المعنى :
إن الذين يجادلون في آيات اللّه ودلائله التي نصبها دالة على الوحدانية وصدق الرسل ، بغير سلطان ولا حجة تؤيد كلامهم : إن الذين يجادلون في آيات اللّه بغير حجة ولا برهان ما في قلوبهم إلا كبر وتعظم عن الحق والتفكير الحر ، فهم قوم يريدون الرياسة والتعاظم لأنفسهم حسدا وبغيا حيث قالوا : لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف 31] لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف 11] ولذلك يجادلون في آيات اللّه.(3/312)
ج 3 ، ص : 313
بالباطل ، قد دفعهم الكبر وحب الرياسة إلى هذا الجدال الممقوت ، ما هم ببالغي ما يريدون ، لأن اللّه أذلهم ، وقضى على أطماعهم.
وقيل : إن الآية نزلت في يهود المدينة ، وهي مدينة ، الحق أن كل جدال في آيات اللّه من مشركي مكة أو يهود المدينة أو من غيرهم كبر مقته عند اللّه وعظم جرمه مطلقا ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
إذا كان الأمر كذلك فاستعذ باللّه ، والجأ إليه من كيد الكائدين ، وحسد المشركين ، وفيه رمز إلى أن ذلك كان من همزات الشياطين وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ « 1 » . إنه هو السميع لكل قول ونية ، البصير بكل فعل وعمل ، ولو كان من إشارات العيون وخطرات القلوب.
لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس بدءا وإعادة فلا تجادلوا في أمر البعث فإن اللّه خلق السموات وما فيها ، والأرض وما عليها وما في باطنها من عوالم ، فلا تظنوا أن اللّه هذا ليس بقادر على أن يحيى الموتى ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس.
ولا يستوي الأعمى عن الحق ، والبصير به ، ولا يستوي المؤمنون الذين عملوا الصالحات ، وأحسنوا العمل ، ولا المسيئون الذين أساءوا الفهم والتقدير حتى جادلوا في آيات اللّه كلها وكان تذكرهم قليلا جدّا.
إن الساعة لآتية لا شك فيها ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون لقصور نظرهم ، وسوء رأيهم.
وقال ربكم : ادعوني أثبكم ثوابا يتكافأ مع أعمالكم ، وفعلكم الطاعات ، وترك الذنوب والآثام هو الدعاء ، فمن ترك الذنب فقد دعا. وأخلص في الدعاء ، ومن يقترف ذنبا فليس بداع إلى اللّه وإن دعا ألف سنة. وبعضهم فسر الدعاء بالعبادة ، ويؤيد هذا قوله تعالى : إن الذين يستكبرون عن عبادتي ودعائي سيدخلون جهنم داخرين أذلاء صاغرين ، وحق من يستكبر عن دعاء ربه الذي رباه وخلقه ، وصوره فأحسن صوره أن يدخل جهنم صاغرا ذليلا ، ومهينا حقيرا.
___________
(1) - سورة الأعراف آية 200.(3/313)
ج 3 ، ص : 314
وكيف تتكبرون عن عبادة اللّه الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا ؟ فاللّه الذي خلق لكم الليل لتستريحوا فيه وتسكنوا من وعثاء الطريق ، ومتاعب الحياة حتى يعود الإنسان نشيطا مجدا مقبلا على عمله بالنهار الذي جعله ربه مبصرا فيه وفيه الضوء والحركة والنشاط.
يا سبحان اللّه!! لو خلقت الدنيا بلا ليل أو خلقت بلا نهار كيف الحال .. ؟ وكيف نعيش ؟
يا رب : هذا الليل المظلم وهذا النهار المبصر ينشآن من حركة واسعة ، ونظام دقيق محكم فأنت يا رب الواحد القهار الذي لا يعجزه شيء في السموات والأرض ، إن اللّه لذو فضل على العالمين. ولكن أكثر الناس لا يشكرون ، ومن كان هذا شأنه أنجادل في قدرته على البعث ، ونقول : من يحيى العظام وهي رميم ؟
ذلك اللّه - جل جلاله - خالق كل شيء ، فاطر السموات والأرض واهب الوجود لا إله إلا هو ، فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره من الأحجار والأوثان ؟ !! وهذا كالنتيجة لما تقدم.
مثل ذلك الإفك العجيب الذي لا أساس له ولا سند من عقل أو منطق سليم يؤفك الذين كانوا بآيات اللّه يجحدون.
اللّه الذي جعل لكم الأرض قرارا : مستقرا أو مكانا ، وجعل السماء كالبناء ، وهذا بيان فضله - تعالى - المتعلق بالمكان بعد بيان فضله في الزمان ، ثم تعرض لفضله المتعلق بالإنسان فقال : صوركم فأحسن صوركم ، ورزقكم من الطبيات الطاهرات ، ذلكم اللّه ربكم فتبارك اللّه ، وتزايد فضله. وتكامل خيره ، وهو رب العالمين ، أى : مالكهم ومربيهم ، هو الحي حياة ذاتية ، لا إله إلا هو ، ولا معبود بحق في الوجود سواه. إذا كان الأمر كذلك فادعوه واعبدوه مخلصين له الطاعة صادقين في النية.
ولما كان موصوفا بصفات الجلال والعزة ، ومنعوتا بالإنعام الكامل على خلقه استحق لذاته أن يقال : الحمد للّه رب العالمين.(3/314)
ج 3 ، ص : 315
كيف نعبد غير اللّه ؟ !! [سورة غافر (40) : الآيات 66 الى 68]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
المفردات :
أُسْلِمَ : أنقاد لرب العالمين أَجَلًا مُسَمًّى : وقتا محدودا ينتهى عند الموت.
المعنى :
لما أورد تلك الأدلة التي تثبت للّه كمال القدرة والوحدانية ، وقال : ذلكم اللّه ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين. الحمد للّه رب العالمين ، أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقول المشركين : إنى نهيت نهيا عامّا بالبراهين القاطعة من الآيات القرآنية ، أو البراهين العقلية ، نهيت أن أعبد الذين تدعونهم من دون اللّه ، نهيت حين جاءني البينات ودلائل التوحيد كلها من عند ربي ، وأمرت كذلك أن أسلم لرب العالمين.(3/315)
ج 3 ، ص : 316
ولما ذكر سابقا أنه خالق الليل والنهار لتسكنوا فيه ، والنهار لتبصروا أمر معاشكم وخالق الأرض للاستقرار عليها ، والسماء كالبناء عليكم ، وصوركم في أحسن صورة ورزقكم من فضله بأبهى نعمه. ذكر هنا من دلائل التوحيد والكمال أنه خلقكم من تراب ، أى : خلق أباكم آدم منه أو خلقنا من تراب إذ المنى من الدم ، والدم من الغذاء وهو من التراب ، ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا ثم يرعاكم لتبلغوا قوتكم ومنتهى شبابكم ، ثم يبقيكم لتكونوا شيوخا كبارا ضعافا بعد القوة والفتوة ، ومنكم من يتوفى من قبل هذا ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ، فعل ذلك بكم لتبلغوا أجلا مسمى ووقتا محدودا ينتهى بانقضاء الآجال.
ولعلكم بعد هذه الآيات الكونية الناطقة بوحدانية اللّه تعالى ، وأنه الخالق القادر السميع البصير وأنه الإله ولا إله غيره ، ولعلكم بعد هذا تعقلون دلائل التوحيد فتوحدوه.
هو الذي يحيى ، وهو الذي يميت ، وهو الذي إذا أراد شيئا حصل بمقتضى إرادته بسرعة كأنه قال له : كن فيكون ، وهذا تمثيل لتأثير قدرة اللّه في المقدورات التي يريدها وتصوير لسرعة حصولها من غير أن يكون أمر ولا مأمور.
المجادلون وجزاؤهم وصبر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على إيذائهم [سورة غافر (40) : الآيات 69 الى 78]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)(3/316)
ج 3 ، ص : 317
المفردات :
يُصْرَفُونَ : يبعدون الْأَغْلالُ : جمع غل وهو القيد الذي يوضع في العنق يُسْحَبُونَ السحب : الجر بعنف يُسْجَرُونَ : سجر التنور ملأها بالوقود ، والمراد أنهم يحرقون ظاهرا وباطنا ضَلُّوا عَنَّا يقال : ضل الماء في اللبن ، أى :
خفى ، والمراد أنهم صاروا بحيث لا نجدهم تَمْرَحُونَ المرح : فرح بعدوان كالبطر والأشر.
اعلم أنه - تعالى - عاد إلى ذم المجادلين في آيات اللّه مبينا عظيم جرمهم في التكذيب ، وجزاءهم على ذلك ، فليس فيه تكرار ، إذ ما سبق كان لبيان منشأ الجدال وسببه ، وهذا تعجيب من أحوالهم الشنيعة وآرائهم الفاسدة مع بيان نهاية جدالهم ..(3/317)
ج 3 ، ص : 318
المعنى :
انظر إلى هؤلاء المجادلين في آيات اللّه الواضحة ، الموجبة للإيمان والإقرار بالوحدانية والبعث ، الزاجرة عن الجدال والتكذيب ، انظر إليهم كيف يصرفون عنها ؟ ! هؤلاء المجادلون هم الذين كذبوا بالكتاب المنزل من عند اللّه ، وبكل ما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون عاقبة فعلهم ونهاية تكذيبهم عند مشاهدتهم العقوبة المعدة لهم ولأمثالهم ، فسوف يعلمون يوم القيامة وقت « 1 » أن تكون الأغلال والسلاسل في أعناقهم ، والمعنى أنه يكون في أعناقهم الأغلال والسلاسل ثم يسحبون بها في الحميم ، أى : في الماء المغلى بنار جهنم ، ثم هم في النار فهي محيطة بهم من كل جانب تحرقهم ظاهرا وباطنا نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [سورة الهمزة الآيتان 6 ، 7].
ثم قالوا : بل لم نكن ندعوا شيئا ، أى : كنا نظن أننا ندعوا من ينفع أو يشفع من دون اللّه ؟ ! قالوا : ضلوا عنا ، وغابوا عن عيوننا فلا نراهم ، ولا نستشفع بهم وما أروع التعبير بقوله : ضلوا عنا! ثم قالوا : بل لم نكن ندعوا شيئا ، أى : كنا نظن أننا ندعوا من ينفع أو يشفع فتبين لنا أنهم لم يكونوا شيئا ، وما كنا نعبد بعبادتهم شيئا ، ويصح أن نفهم : أنهم كذبوا وأنكروا أنهم عبدوا غير اللّه وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ « 2 » . مثل ذلك الإضلال يضل اللّه الكافرين عن طريق الجنة ، ويضلهم عن الصراط المستقيم.
ذلكم العذاب الذي أنتم فيه بسبب أنكم كنتم تفرحون بالمعاصي وارتكاب الآثام وإيذاء الرسل الكرام ، وتمرحون مرح بطر وأشر.
ادخلوا أبواب جهنم فإن لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ، ادخلوها خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين. إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ « 3 » .
___________
(1) - « إذ » هنا أعربت مفعولا به لقوله : (تعلمون) وهي مضافة لجملة (الأغلال في أعناقهم) وبعضهم تخلص من تعارض (سوف) مع (إذ) التي للماضي فقال : إن (إذ) هنا بمعنى (إذا) ظرف ل (يعلمون) وعبر ب (إذ) بدلا من (إذا) للدلالة على تحقق ما بعدها.
(2) - سورة الأنعام آية 23.
(3) - سورة غافر آية 56.(3/318)
ج 3 ، ص : 319
هذا جزاء المجادلين في آيات اللّه بغير حق ولا حجة ، وأما أنت يا رسول اللّه فاصبر على أذاهم وتوكل على اللّه واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار ، فاللّه معك وناصرك ومؤيدك ، ووعده الحق وكلامه الصدق ، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وقد وعدك بالنصرة ، وأوعدهم بالخزي والمذلة فإن رأيت بعض الذي يوعدون - كما حصل في بدر - في حياتك ثم توفاك اللّه قبل رؤية الباقي فثق في تحقيق وعدنا ، فإنهم إلينا راجعون.
ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك خبرهم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم ، ومنهم من لم نقصص عليك خبرهم مما لا يعلمهم إلا ربك. وجميعا كذبوا وأوذوا في سبيل اللّه وصبروا.
وما كان لرسول أن يأتى بآية من عنده بل الآيات من اللّه يرسلها تبعا للمصلحة وهو أعلم بها ، لا كما يريدون فهو أعلم بخلقة ، لكل أجل كتاب فإذا جاء أمر اللّه وقضاؤه قضى بالحق وخسر هنالك المبطلون الذين يجادلون في آيات اللّه ، ويقترحون المعجزات وهم لا يعلمون شيئا ، وما دفعهم إلى ذلك إلا تعنتهم وكبرهم وسوء فهمهم ..
بعض آيات اللّه ونعمه علينا [سورة غافر (40) : الآيات 79 الى 81]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
المفردات :
الْأَنْعامَ : هي الإبل والبقر والغنم الشامل للمعز حاجَةً : أمرا مهما يشغل بالكم.(3/319)
ج 3 ، ص : 320
وهذا تذكير بنعم اللّه على الناس ، وبآياته الدالة على كمال القدرة وسط الوعيد الشديد ليعلم الخلق أنه وعيد ولكن من إله رحمن رحيم ، قادر عليهم.
المعنى :
اللّه - عز وجل - الذي جعل لكم الأنعام ، وخلقها لأجلكم ولمصلحتكم لتركبوا بعضها ، ومنها تأكلون ، ولكم فيها منافع غير الركوب والأكل كالألبان والأوبار والجلود وغير ذلك ، ولتبلغوا عليها حاجة تشغل بالكم وهي نقل الأثقال والأحمال من بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ، وعليها وعلى الفلك ، أى : السفينة تحملون ، فقد حملنا ربنا في البر على الإبل وفي البحر على السفن ، وقد علمنا اللّه كيف نسخر الطبيعة فحملنا الريح والحديد والماء وغيرها.
وهكذا يريكم اللّه آياته الكونية التي تدل على باهر عظمته ، وعظيم قدرته جل شأنه.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
فأى آية من آياته الباهرة تنكرون ؟ وبأى آية من آياته تعجبون ؟ فكيف تنكرون البعث وتعدونه عظيما ؟ من يحيى العظام وهي رميم ، عجبا لكم ؟ ! أنتم أشد خلقا في البدء والإعادة أم السماء بناها رفع سمكها فسواها ؟ ! تركيب هذه الآية قد حير جهابذة العلماء قديما حيث قالوا : كان الظاهر أن يؤتى باللام في الجميع أو تترك في الجميع فيقال (مثلا) لتركبوا : ولتأكلوا ، ولتنتفعوا ، ولتبلغوا .. الآية.
وقد أجاب بعضهم على هذا السؤال بأن المراد بالأنعام الإبل خاصة ، وركوبها وبلوغ الحاجة بها من أتم الأغراض لأن جل منافعها الركوب والحمل عليها ولذا قال :
لتركبوا. وتبلغوا ، وأما الأكل والانتفاع بالأوبار والشعر فغرض بسيط ، واللّه أعلم بأسرار كتابه.(3/320)
ج 3 ، ص : 321
تهديد المجادلين في آيات اللّه [سورة غافر (40) : الآيات 82 الى 85]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)
هذا ختام للسورة رائع ، محور الكلام فيها مع المشركين المجادلين في آيات اللّه المتكبرين على رسله غرورا منهم بدنياهم وأموالهم وأولادهم فكان هذا تهديدا ببيان من هم أشد منهم وأكثر أموالا وأولادا.
المعنى :
أعجزوا فلم يسيروا في أطراف الأرض فينظروا بعين الاعتبار كيف كان عاقبة الذين من قبلهم « 1 » ؟ ! عجبا لهؤلاء المتكبرين من قريش المغرورين بأموالهم وأولادهم ، ودنياهم البسيطة بالنسبة لغيرهم ، أقعدوا فلم يسيروا حتى يروا آثار من تقدمهم من الأمم صاحبة الصولة
___________
(1) الاستفهام للإنكار ، والمنكر هو عدم السير المترتب عليه النظر السليم ، وكيف خير متقدم لكان ، وعاقبة اسمها مؤخر ، ومن قبلهم صلة للموصول ، وكانوا أكثر منهم : استئناف مبين لحالهم.(3/321)
ج 3 ، ص : 322
والدنيا العريضة الذين بنوا الأهرام ، وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين ، وكانت لهم حضارة وعلوم ، ومعارف وفنون ؟
أفلم يروا إلى ما بين أيديهم من آثارهم التي تدل على مبلغ ما كان عندهم من الجاه وعلى نهاية عصيانهم وتكبرهم على أنبيائهم ؟
فما أغنى عنهم كسبهم وجاههم ، ولم ينفعهم ما لهم ولا أولادهم ، فلما جاءتهم رسلهم بالآيات والمعجزات الواضحات فرحوا بما عندهم من العلم الدنيوي يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا « 1 » ، وقيل : فرحوا بما عندهم من الخرافات والشبهات الواهية ، وقالوا : نحن أولو علم وحضارة فلا حاجة بنا إلى دين أو رسالة ، عجبا لهؤلاء وأتباعهم!! وربك لقد رأينا وسمعنا عن بعض الجهلة بأمور دينهم الذين تربوا في أحضان (اللادينية) يقولون : لا حاجة بنا إلى شريعة الغاب بعد أن عرفنا أحدث القوانين وأدق النظم!! يا ويلهم فرحوا بما عندهم من علم ، الجهالة خير منه ، وحاق بهم ونزل ما كانوا به يستهزئون من العذاب.
وقيل : إن هذا وصف للأنبياء لما كذبوا من أممهم فرحوا بما عندهم من العلم الذي ينبئهم بأن العاقبة لهم وأن الهلاك للمكذبين المجادلين.
فلما رأى هؤلاء المكذبون بأسنا في الدنيا ، قالوا : آمنا باللّه ربنا ، آمنا به وحده وكفرنا بما كنا به مشركين ، آمنوا ساعة العذاب ، فلم ينفعهم إيمانهم ، وتلك سنة اللّه مع الناس جميعا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [سورة النساء آية 18].
وخسر هنالك الكافرون ، وضل أولئك المبطلون الكافرون ، وتلك سنة اللّه ولن تجد لسنته تبديلا.
فاحذروا يا أهل مكة ، احذروا ثم احذروا ..
___________
(1) - سورة الروم آية 7.(3/322)
ج 3 ، ص : 323
سورة فصلت
وتسمى سورة السجدة ، أو سورة المصابيح ، وهي مكية عند الجميع ، وعدد آياتها أربع وخمسون آية .. وتشتمل هذه السورة على الكلام على القرآن ، وموقف المشركين منه والتعرض لمظاهر القدرة في خلق الأرض والسماء ، ثم تهديد المشركين بمثل ما حل بعاد وثمود ، وتهديدهم بما يحصل لهم يوم القيامة ، ثم الكلام على المؤمنين المستقيمين وبيان نهايتهم في الدنيا والآخرة وذكر بعض أخلاقهم ، ثم ذكر بعض آياته مع الكلام على القرآن الكريم ، وبعض أخلاق الإنسان وطباعه ، وغير ذلك مما يذكر في ثنايا الكلام فتفتح به القلوب ، وتنار به البصائر ، وتزكو به النفوس.
القرآن وموقف المشركين منه [سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4)
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)(3/323)
ج 3 ، ص : 324
المفردات :
حم تقرأ كأخواتها حاميم ، ومن جهة المعنى فاللّه أعلم به وإن كان الظاهر أنها كأداة الاستفتاح التي يؤتى بها لتنبيه المخاطب لخطر ما بعدها ، أو هي مسوقة لتأكيد إعجاز القرآن وتحديه لهم كما سبق فُصِّلَتْ : بينت وميزت أتم بيان وأروع تفصيل أَكِنَّةٍ : جمع كنان كغطاء وأغطية والكنان - وهو ما يسمى بالجعبة الذي يجعل فيه السهام وَقْرٌ : صمم حِجابٌ : ساتر ، والمراد خلاف فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ :
توجهوا إليه وَوَيْلٌ : كلمة تهديد لهم ، وقيل. اسم واد في جهنم مَمْنُونٍ :
مقطوع.
المعنى :
حم : هذا تنزيل من الرحمن الرحيم والرءوف بعباده الخبير البصير ، كتاب وأى كتاب يدانيه ؟ هو كتاب أحكمت آياته لأنها من الحكيم العليم ، وفصلت آياته وميزت لفظا بفواصلها ومقاطعها ، ومبادئ السورة ونهايتها. وفصلت آياته معنى : فهذا وعد وذاك وعيد ، وهذا قصص وذلك أحكام وتنظيم ، وبعضها في اللّه وبيان قدسيته وكمال قدرته ، وعجائب رحمته ، وأحوال خلقه ، وعظمة ملكوته ، وهذه آيات في المواعظ تضطرب لها القلوب وتخضع لها الجباه ، وهذه آيات في فلسفة الأخلاق الإسلامية ، وبناء الأسرة وتكوين الجماعة ، وماذا نقول ؟ إن السكوت في هذا لبيان وبلاغة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وانظر يا أخى - وفقك اللّه للخير - إلى قوله : تنزيل من الرحمن الرحيم ، أى : هذا المنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم من الرحمن الرحيم ، وفي هذا إشارة إلى تمام النعمة ، وكمال الرحمة حيث نزل القرآن شفاء لما في الصدور. وهدى ورحمة للعالمين وهو تبيان لكل شيء ، والجامع لكل فضل ، والأساس لكل علم ، وهو مفتاح السعادة وطريق النجاة ، من تمسك به نجا ، ومن هدى إليه سما إليه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم اللّه عليهم ولم يكونوا من المغضوب عليهم ولا الضالين.
وكيف لا يكون القرآن فوق هذا وأكثر منه! وهو تنزيل رب العالمين الرحمن الرحيم !!(3/324)
ج 3 ، ص : 325
وكتاب فصلت آياته حالة كونه قرآنا عربيا نزل بلغة العرب ، وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ، فهو أنزل عربيا لقوم يعلمون أسراره ويدركون معانيه وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ « 1 » حالة كونه بشيرا لمن آمن ، ونذيرا لمن عصى فنشأ عن وصف القرآن بهذه الصفات أن أعرض عنه أكثر أهل مكة فهم لا يسمعون سماعا ينتفعون به.
وقالوا : قلوبنا في أغطية تمنعنا من فهم ما تدعونا إليه من أمر التوحيد والإقرار بالبعث والتصديق بالرسالة ، وفي آذاننا وقر وصمم يمنعنا عن السماع ، ومن بيننا وبينك حجاب سميك ابتدأ من عندنا وانتهى إليك. هذا الحجاب يمنعنا عن سماع ما تدعو إليه تراهم وصفوا أنفسهم بثلاث صفات : قلوبهم في أغطية ، وفي سمعهم صمم ، وبينهم وبينك حجاب.
يقول بعض العلماء : هذه تمثيلات لبعد قلوبهم عن إدراك ما يدعوهم إليه واعتقاده ، ومج أسماعهم له وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسول ، وقيل : إنهم شبهوا قلوبهم بالشر المحاط بالغطاء المحيط له بجامع عدم الوصول له من أى ناحية : وشبهوا أسماعهم بآذان بها صمم حيث لم تنتفع بشيء من دعوة النبي ، وشبهوا حال أنفسهم مع الرسول بحال شيئين بينهما حجاب سميك يمنع من وصول أحدهما إلى الآخر.
وإذا كان الأمر كذلك فاعمل على دينك ، إننا عاملون على ديننا.
وانظر إلى رد القرآن عليهم الذي أمر به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : قل لهم : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد ، أى : لست ملكا ولا جنيا ، وإنما أنا بشر مثلكم وواحد منكم فكيف تقولون : إن بيننا وبينك حجاب ؟ والحجاب المانع عن التفاهم يعقل لو كان النبي من جنس آخر أو يتكلم بلغة أخرى لا تفهم ، وكأن النبي يسل سخائم حقدهم بقوله : أنا بشر مثلكم لم أزد عليكم في شيء ، ولست مكلفا بأكثر مما يعمله البشر غاية الأمر أنه أوحى إلى أنما إلهكم إله واحد ، وكلفت بتبليغكم هذه الحقيقة فكيف نقول : إن قلوبنا في أكنة من هذه الحقيقة ، وفي آذاننا وقر فلا نسمعها ، أى أن دعوتكم حقيقة يقر بها العقل ، ويدعو إليها المنطق السليم ، والعقل الرشيد ، فكيف يكون هذا موقفكم من هذه الدعوة ؟ !
___________
(1) - سورة فصلت آية 44.(3/325)
ج 3 ، ص : 326
وإذا كان الأمر كذلك فاستقيموا للّه ، وتوجهوا إليه وحده ، واستعينوا به ، واعبدوه ولا تشركوا به شيئا مما لا يسمع ولا يبصر ، ولا يغنى عنكم شيئا.
يا قوم استقيموا له واستغفروه مما سلف منكم ، وويل للمشركين من شركهم برب العزة والجبروت ، ومن هم المشركون ؟ هم الذين لا يؤتون الزكاة .. يا حسرتاه على ما نعى الزكاة من المسلمين! يا حسرتاه على الذين يصلون ولا يزكون ، يا حسرة على من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر بالبعض الآخر ، ومانع الزكاة قد شغلته الدنيا وأعمته عن الآخرة ، وهم بالآخرة هم كافرون.
ولا غرابة في تخصيص منع الزكاة من بين أوصاف الكفرة بالذكر لأنها المعيار على الإيمان الصحيح المستكن في القلب ، فالمال شقيق الروح ، وبذله دليل على صدق النية وإخلاص الطوية ، ولا نجد مانعا للزكاة من المسلمين كامل الإيمان.
إن الذين آمنوا باللّه ورسوله ، وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون ولا مقطوع فنعم أجر العاملين.
اللّه هو القادر المريد [سورة فصلت (41) : الآيات 9 الى 12]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)(3/326)
ج 3 ، ص : 327
المفردات :
أَنْداداً : جمع ند وهو الشريك رَواسِيَ : هي الجبال الثابتة سَواءً :
استوت بلا زيادة ولا نقصان اسْتَوى إِلَى السَّماءِ : قصد ، أى : تعلقت إرادته بها دُخانٌ الدخان : ما ارتفع من لهب النار ، ويراد به ما يرى من بخار الأرض عند جدبها ، وفي الحقيقة هو شيء اللّه أعلم به يشبه الدخان في رأى العين فَقَضاهُنَّ :
أكملهن وفرغ منهن بِمَصابِيحَ المراد : بنجوم كالمصابيح.
وهذا بيان لوحدانية اللّه التي أوحى بها لرسوله حيث ذكر هنا مظاهر قدرته التي تثبت له الوحدانية ، وتنفى عنه الشركة مع تأنيب المشركين وتعنيفهم على كفرهم.
المعنى :
قل لهم يا محمد : أإنكم « 1 » لتكفرون باللّه الذي خلق الأرض في يومين ، وتجعلون له أندادا وشركاء ؟ ! وهو منزه عن الشريك والند ، والمراد بخلق الأرض هنا - كما هو الظاهر - تقدير وجودها ، والحكم بأنها ستوجد لا خلقها وإيجادها بالفعل ، ولا غرابة في هذا فاللّه يقول : إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ « 2 » فخلقه من تراب ، أى : أراد خلقه وقدره بالفعل وإلا لما كان لقوله تعالى : كن فيكون معنى أبدا .. والمراد باليوم الوقت مطلقا لا اليوم المعروف ، لأنه لم يكن هذا النظام وجد بعد.
وكفرهم باللّه يتمثل في جدالهم في ذاته وأفعاله ، وإنكارهم لوصفه بكل كمال وتنزهه عن كل نقص ، وإنكارهم قدرته على البعث وإرسال الرسل ، وغير ذلك من عقائد الكفار.
ذلك الموصوف بخلق الأرض في يومين - وما سيعطف على هذا في آخر الآية - هو اللّه جل جلاله ، وتعالت أسماؤه رب العالمين رب كل ما في السموات والأرضين! فكيف تجعلون من هذه الكائنات المخلوقة التي تقر له بالربوبية بلسان الحال أو المقال
___________
(1) الهمزة هنا للاستفهام الإنكارى ، واللام التي في (لتكفرون) لتأكيد الإنكار ، وتقديم الهمزة لصدارتها لا لإنكار التأكيد.
(2) - سورة آل عمران آية 59.(3/327)
ج 3 ، ص : 328
كيف تجعلون منها شريكا وندا ؟ تعالى اللّه عما يقولون علوا كبيرا خلق الأرض في يومين ، وجعل فيها رواسى ثابتات من الجبال الشامخات قدر ذلك وأراد أن تكون الجبال من فوقها كأوتاد ، وانظر إلى قوله : خلق الأرض وجعل فيها رواسى فالخلق إيجاد من العدم. والجعل تحوير وتبديل في نفس الشيء فكان الخلق بالأرض أولى ، وكان الجعل بالرواسى أنسب.
وبارك فيها أى قدر - سبحانه - أن يكثر خيرها. ويزداد نفعها من نبات وحيوان وأنهار ومعادن ، وقوى خفية فيها سيظهرها علام الغيوب على أيدى سكان تلك المعمورة.
وقدر فيها أقواتها ، وبين كميتها وأقدارها التي تتناسب مع سكانها وأبنائها وقد سمعنا أن سكان الأرض عددهم (كيت) فأصبحوا الآن يزيدون أضعافا مضاعفة وهم في ازدياد مطرد ومع هذا فالأقوات موجودة والخير كثير ، وإنما نحن في حاجة إلى مواصلة الجهود ، واستخدام الطاقة والانتفاع بالطبيعة في كل مظاهرها.
كل ذلك حصل في أربعة أيام : استوت استواء بلا نقصان ولا زيادة ، يومان في خلق الأرض ، ويومان في جعل الرواسي وتقدير الأقوات فتلك أربعة كاملة ، ثم يومان آخران في السموات السبع فتلك ستة أيام كما نطقت الآيات ، واللّه هو القادر على خلق العالم كله علويه وسفليه في لحظة ، ولعله يعلمنا التأنى ، ويرشدنا إلى الصبر.
ثم استوى إلى السماء وقصد إليها ، وهي دخان اللّه أعلم وحده بكنهه وحقيقته ، وكل ما وصل إلينا عن طريق الأخبار فشيء لا نجزم بصحته ، وما يقرره العلم كنظرية السديم فشيء ينقصه الدليل العلمي القاطع : فقال لها وللأرض : ائتيا طوعا أو كرها ، والظاهر واللّه أعلم أن الأمر في قوله : ائتيا طائعين أو مكرهين للأرض والسماء أمر تكويني كقوله لشيء كن فيكون ، أى : كونا وأحدثا على وجه معين ، وفي وقت مقدر ، ويكون - كما قلنا - خلق الأرض ، وجعل فيها رواسى ، وبارك ، وقدر فيها أقواتها كلها مراد منها التقدير ، أى : قدر خلق الأرض وجعل الرواسي والبركة وتقدير الأقوات ، ويكون هنا قوله : ائتيا طوعا أو كرها بيان لكيفية التكوين إثر بيان كيفية التقدير.(3/328)
ج 3 ، ص : 329
ولعل تخصيص إرادة الخلق والجعل والبركة ... إلخ بالأرض للإشارة إلى الاعتناء بأمر المخاطبين فكان الأجدر ألا يحصل منهم كفر ولا شرك ولعل تخصيص الاستواء بالسماء دون الأرض مع أن الأمر المترتب لهما معا. جبرا لخاطرها واكتفاء بذكر تقدير الأرض وتقدير ما فيها السابق.
قالتا - أى : الأرض وما فيها ، والسماء وما فيها - : أتينا طائعين ، وهذا تمثيل لسرعة الانقياد ، وتصوير لكون وجودهما كما هما عليه جاريا على مقتضى الحكمة البالغة والإرادة السامية.
وهذا تفسير وتفصيل لتكوين السماء الذي أجمل ذكره فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ أى : خلقهن خلقا متقنا ، وأبدع أمرهن حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية في وقتين اللّه أعلم بمقدارهما.
وأوحى إلى أهل كل من السموات والأرض أوامره ، كلفهم بما يليق بهم ، وزين السماء الدنيا بالنجوم التي هي كالمصابيح ، وحفظها من كل شيطان رجيم.
ذلك المذكور الذي يعجز القلم عن وصفه ، وكيف يصفه إنسان لا يدرى كنه نفسه ؟ ! ذلك تقدير العزيز القوى القادر العليم الخبير البصير.
وليس في الآية ما يثبت أن الأرض خلقت قبل السموات ، فليس هناك تعارض أبدا بين هذه الآية والآيات الأخرى مع هذا التأويل.
تهديدهم بمثل ما حل بعاد وثمود [سورة فصلت (41) : الآيات 13 الى 18]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17)
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18)(3/329)
ج 3 ، ص : 330
المفردات :
أَنْذَرْتُكُمْ الإنذار : هو التخويف بنزول العذاب صاعِقَةً المراد بها هنا :
الهلاك والعذاب يَجْحَدُونَ : ينكرون ويفكرون صَرْصَراً : ريحا شديدة البرد أو شديدة الحر أو شديدة الصوت إذ يحتمل أن تكون الكلمة مأخوذة من الصر ، أى :
البرد ، أو الصر ، أى : الحر أو صر يصر صريرا إذا صوت ، ومنه صرير الأقلام ، وعليه قوله تعالى : فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ نَحِساتٍ المراد : مشئومات عَذابَ الْخِزْيِ : عذاب الذل الْعَذابِ الْهُونِ : الهوان فَاسْتَحَبُّوا : اختاروا.
المعنى :
قل لهؤلاء المشركين : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فإن لم يؤمنوا وكفروا فسق لهم الحجة القوية الواضحة بأنه خلق الأرض والسماء وقدر في الأرض أقواتها : وبارك فيها ، وخلق السموات سبعا شدادا وأوحى في كل سماء أمرها ، وزينها للناظرين ، كل ذلك في ستة أيام سواء للسائلين. فهل يليق بكم أن تشركوا به شيئا ؟(3/330)
ج 3 ، ص : 331
فإن أعرضوا ولم يقبلوا الحجة المعقولة وركبوا رءوسهم واستوحوا العناد من شياطينهم فقل لهم : إنى أنذركم صاعقة تنزل بكم وعذابا شديدا يحل بكم مثل العذاب الذي نزل بعاد وثمود وقت « 1 » أن جاءتهم الرسل تبشرهم وتنذرهم وتدعوهم إلى الهدى ودين الحق ، وقد سلكوا معهم كل الطرق وأتوهم بجميع وجوه الحيل ، جاءتهم الرسل بالوحي والشرائع بألا « 2 » تعبدوا إلا اللّه وحده ولا تشركوا به شيئا.
فماذا قالوا ردّا على هذه الدعوة ؟ قالوا : لو شاء ربنا إنزال رسل من عنده للناس لأنزل ملائكة تكون رسلا له لكنه لم يشأ ذلك ، وعلى ذلك فإنا بما أرسلتم به - على زعمكم أيها الرسل - لكافرون وغير مؤمنين أبدا فإنكم بشر مثلنا ، ولا فضل لكم علينا.
فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وهذا تفصيل لما حصل لكل من قبيلة عاد وثمود مع رسلهم بعد ذكره بالإجمال ، وبدأ بذكر عاد لأنهم أقدم زمنا من قبيلة ثمود ، فأما عاد فكانوا قوما يبنون بكل ريع ومرتفع من الأرض آية بها يعبثون وكانوا يتخذون مصانع لظنهم أنهم مخلدون ، وكانوا إذا بطشوا بطشوا جبارين ، فهم لذلك قوم مستكبرون ، استكبروا في الأرض بغير الحق وكذبوا بالرسل واستهزءوا بنبيهم وقالوا مغترين : من أشد منا قوة ؟ قالوا ذلك عند ما أنذرهم رسولهم بالعذاب.
عجبا لهؤلاء وأى عجب ؟ أغفلوا ولم يعلموا أن اللّه الذي خلقهم ورزقهم هو أشد منهم قوة وقدرة فليس العذاب الذي يخوفون من عند الرسل ، لا ، ولكنه من عند خالق القوى والقدر ، الإله القوى القادر على كل شيء ، وكانوا بآيات ربك الكثيرة يكفرون.
فأرسلنا عليهم صرصرا شديدة تهلك بحرها أو ببردها أو هي ريح قاصفة تهلك بصوتها ، جاءتهم في أيام نحسات سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ « 3 » ؟ أرسلنا عليهم لنذيقهم
___________
(1) إذ هنا طرف لصاعقة الثانية لأنها بمعنى (عذب) وقيل : هي حال منها لأنها خصصت بالإضافة.
(2) أن هذه يصح أن تكون مفسرة لأن مجيء الرسل بالوحي والشريعة يتضمن معنى القول ، و(لا) ناهية. ويصح أن تكون مصدرية ، ولا ناهية أيضا على قول ، ويصح أن تكون مخففة واسمها ضمير الشأن وفيه تكلف وبعد.
(3) - سورة الحاقة الآيتان 7 ، 8.(3/331)
ج 3 ، ص : 332
عذاب الخزي المذل لأولئك المستكبرين المتعاظمين عن اتباع الرسل ، ولعذاب الآخرة بالنسبة لهذا العذاب المبين أشد وأخزى وهم لا ينصرون في الدنيا ولا في الآخرة ، وأما ثمود فقد هداهم ربك إلى الطريقين ، طريق الخير وطريق الشر ، طريق العمى وطريق الهدى ، فاختاروا وآثروا طريق الضلال طريق الكفر واستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب المهين بما كانوا يكسبون ، وقد كانوا قبل ذلك في جنات وعيون وزرع ونخل طلعها هضيم « 1 » وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا فارهين « 2 » فلما كذبوا وكفروا أهلكهم ربك بالطاغية وهم ينظرون ، وأما الذين آمنوا فاللّه نجاهم من العذاب بسبب إيمانهم وخوفهم من عذاب اللّه.
فانظروا يا آل مكة أين أنتم من هؤلاء!
روى أن الملأ من قريش وأبو جهل معهم قالوا : قد التبس علينا أمر محمد ، فلو التمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره ، فقال عتبة بن ربيعة : واللّه لقد سمعت الكهانة والشعر والسحر ، وعلمت من ذلك علما لا يخفى على إن كان كذلك ، قالوا : ائته فحدثه فأتى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال له : يا محمد أنت خير أم قصى ابن كلاب ؟ أنت خير أم هاشم ؟ أنت خير أم عبد المطلب ؟ أنت خير أم عبد اللّه ؟ فيم تشتم آلهتنا ، وتضلل آباءنا وتسفه أحلامنا وتذم ديننا ؟ فإن كنت إنما تريد الرياسة عقدنا إليك ألويتنا فكنت رئيسنا ما بقيت ، وإن كنت تريد الباءة زوجناك عشر نساء من أى بنات قريش شئت ، وإن كنت تريد المال جمعنا لك مالا تستغني به أنت وعقبك من بعدك ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا من الجن قد غلب عليك بذلنا لك من أموالنا في طلب ما تتداوى به أو نغلب فيك. والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ساكت ، فلما فرغ من كلامه قال :
(قد فرغت يا أبا الوليد) قال : نعم. (قال فاسمع منى) :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا .. إلى قوله : فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فوثب عتبة ووضع يده على فم الرسول ، وناشده الرحم ليسكتن ، ورجع إلى أهله ، ولم يخرج إلى قريش ، فجاء أبو جهل فقال له : أصبوت إلى محمد ؟ أم أعجبك طعامه ؟ فغضب عتبة وأقسم ألا يكلم محمدا أبدا. ثم قال : واللّه لقد تعلمون أنى من
___________
(1) لين متكسر ، مأخوذ من هضم يهضم. [.....]
(2) أى : حالة كونهم حاذقين ونشطين.(3/332)
ج 3 ، ص : 333
أكثر قريش مالا ، ولكني لما قصصت عليه القصص أجابنى بشيء واللّه ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ، ثم تلا عليهم ما سمع منه إلى قوله : مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ وأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ، فو اللّه لقد خفت أن ينزل بكم العذاب
، يعنى الصاعقة ، وفي رواية :
فأطيعونى في هذه وأنزلوها بي ، خلوا محمدا وشأنه واعتزلوه ، فو اللّه ليكونن لما سمعت من كلامه نبأ ، فإن أصابه العرب كفيتموه بأيدى غيركم ، وإن كان ملكا أو نبيا كنتم أسعد الناس به ، لأن ملكه ملككم وشرفه شرفكم. فقالوا : هيهات!! سحرك محمد يا أبا الوليد. فقال : هذا رأيى لكم فاصنعوا ما شئتم.
تهديدهم بعذاب يوم القيامة [سورة فصلت (41) : الآيات 19 الى 25]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25)(3/333)
ج 3 ، ص : 334
المفردات :
يُوزَعُونَ : يساقون حتى تتكامل عدتهم ثم يدفعون ، أى : يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا ثم يدفعون وَجُلُودُهُمْ : وهي المعروفة ، وقيل المراد بها الفروج تَسْتَتِرُونَ : تستخفون أَرْداكُمْ أى : أهلككم مَثْوىً : مأوى يَسْتَعْتِبُوا : استعتب وأعتب بمعنى استرضى ، أى : طلب الرضا يقال : استعتبته فأعتبنى ، أى : استرضيته فأرضانى (و أعتبنى فلان ، إذا عاد إلى مسرتي) راجعا عن الإساءة ، والاسم منه العتبى الْمُعْتَبِينَ : المقبول عتابه ، وفي قراءة المعتبين ، على معنى إن أقالهم وقبل عتابهم وردهم إلى الدنيا لم يعملوا بطاعته وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ هيأنا لهم شياطين من الإنس والجن وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ : ثبت.
المعنى :
واذكر لهم يا محمد طرفا من عذاب يوم القيامة بعد تهديدهم بعذاب الدنيا لعلهم يرجعون ، اذكر لهم يوم يحشر أعداء اللّه من الكفرة إلى النار ومواقف الحساب فهم يساقون إليها كما تساق الأنعام بشدة حتى إذا تكاملوا واجتمع أولهم على آخرهم يدفعون إلى جهنم دفعا ، حتى « 1 » إذا ما حضروها وسئلوا عما أجرموا فأنكروا شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون.
وقالوا لجلودهم ، وهل هي المعروفة أو هي كناية عن فروجهم ؟ بكلّ قيل ، ولكل وجه. قالوا لهم : لم شهدتم علينا ؟ قالوا : أنطقنا اللّه - تعالى - وأقدرنا على بيان الواقع
___________
(1) حتى : غاية لقوله يوزعون ، وما في (إذا ما) زائدة لتأكيد ارتباط المجيء بشهادة الأعضاء.(3/334)
ج 3 ، ص : 335
فشهدنا بما كنتم تعملون ، ولا غرابة في ذلك فاللّه الذي أنطق كل شيء ، وخلقكم أول مرة ، وإليه وحده ترجعون ، هو الذي أقدرنا على النطق والشهادة فليس نطقنا بعجيب بقدرة اللّه.
ثم يقال لهم توبيخا وتقريعا ، وتقريرا لجواب الجلود : وما كنتم تستترون وتستخفون عند مباشرتكم الفواحش مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك ، ولكن ظننتم ظنّا خاطئا أن اللّه لا يعلم كثيرا مما تعملونه خفية فلا يظهره يوم القيامة ولا ينطق جوارحكم به ، ولذلك استترتم من الخلق ، ولم تستتروا من الخالق وهو يعلم الغيب والشهادة.
وذلك - والإشارة إلى ظنهم المذكور في قوله : (ظننتم) - ظنكم الذي ظننتم بربكم هو الذي أرداكم وأهلككم ، فأصبحتم بسببه من الخاسرين.
فإن يصبروا على ما هم فيه أولا يصبروا فالنار مثوى لهم ، ومحل إقامة أبدية لأمثالهم وإن يستعتبوا ويعتذروا عما فرط منهم ويطلبوا رضا اللّه فما هم من المعتبين المقبول عذرهم لأنهم فارقوا الدنيا التي هي دار العمل ، والرسول صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « ليس بعد الموت من مستعتب » .
وهذا بيان السبب الذي دفعهم إلى العمل الفاسد وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ بمعنى : أننا هيأنا لهم قرناء السوء من شياطين الإنس والجن فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم من أعمالهم ، وألقوا في قلوبهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب ، وقيل : المراد ما بين أيديهم من أعمال الدنيا ، وما خلفهم من أعمال الآخرة فاستمعوا لهم ، وعملوا بمشورتهم التي صادفت هوى في نفوسهم. وحق عليهم القول ، وتقرر العذاب حالة كونهم في جملة أمم قد مضت قبلهم من الجن والإنس إذ دأبهم كدأب هؤلاء وعملهم كعملهم إنهم كانوا خاسرين.
الكفار وأعمالهم وجزاؤهم [سورة فصلت (41) : الآيات 26 الى 29]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)(3/335)
ج 3 ، ص : 336
المفردات :
وَالْغَوْا فِيهِ : وأتوا باللغو عند قراءته ، والمراد باللغو هنا : ما لا معنى له أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ المراد : أعمالهم السيئة الْأَسْفَلِينَ : الأذلين المهانين.
بعد أن هددهم اللّه بالعذاب في الدنيا والآخرة ، وتوعدهم بما هو أشد عليهم من وقع السهام بين هنا بعض أعمالهم القبيحة التي تستوجب هذا العذاب وأكثر منه.
المعنى :
وقال الذين كفروا من مشركي مكة لأتباعهم - أو قال بعضهم لبعض - :
لا تسمعوا لهذا القرآن الذي يتلوه محمد ، ولا تنصتوا له أبدا. وقد كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا قرأ وهو بمكة رفع صوته فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون : لا تسمعوا لهذا القرآن ، وائتوا عند قراءته باللغو ليشوشوا على قارئه ، وكانوا يأتون عند قراءته بالمكاء والصفير ، وإنشاد الشعر والأراجيز يقولون لبعضهم : افعلوا هذا لعلكم تغلبونه وتميتون ذكره.
فو اللّه لنذيقن هؤلاء الذين كفروا عذابا شديدا يقض مضاجعهم ، ويفرق جمعهم ويحط من كبريائهم في الدنيا ، وو اللَّه لنجزينهم في الآخرة على سيئات أعمالهم التي هي نفسها أسوأ أفعالهم جزاء وفاقا.(3/336)
ج 3 ، ص : 337
ذلك - الذي عرفته - جزاء أعداء اللّه المعد لهم بسبب ما كانوا يعملون هو النار لهم فيها دار الخلد والإقامة. فهم في جهنم مخلدون إلى ما شاء اللّه جزاء بسبب ما كانوا بآياتنا يجحدون : فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً.
وقال الذين كفروا ، وهم يتلظون في نار جهنم : ربنا أرنا الفريقين اللذين أضلانا من الجن والإنس ، وأغرونا حتى علمنا ما علمنا نجعلهما تحت أقدامنا وندوسهما انتقاما منهم ، وليكونا في الدرك الأسفل من النار ، فهم كانوا يمنوننا بالأمانى ويقودوننا إلى ما نحن فيه. أين هما الآن ليكونا من الأسفلين الأذلين المهانين ؟
الذين قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا [سورة فصلت (41) : الآيات 30 الى 32]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
المفردات :
اسْتَقامُوا : ثبتوا وداموا على الاستقامة أَلَّا تَخافُوا الخوف : غم يلحق النفس لتوقع مكروه في المستقبل وَلا تَحْزَنُوا الحزن : غم يلحق النفس لفوات نفع في الماضي تَدَّعُونَ
: تتمنون وتطلبون نُزُلًا النزل : طعام يعد للضيف.
وهذا شروع في بيان أحوال المؤمنين ونهايتهم بعد بيان أحوال المشركين ونهايتهم ليظهر الفرق جليا بين الخبيث والطيب.(3/337)
ج 3 ، ص : 338
المعنى :
إن الذين قالوا : ربنا اللّه وحده ، لا شريك له ولا إله غيره ، قالوا هذا اعترافا بربوبيته ، وإقرارا بوحدانيته ، وأنه - عز وجل - مالك الأمر ومدبره وأن الخلق عبيد له ومربوبون بين يديه لا حول لهم ولا طول.
ثم « 1 » استقاموا على الطريقة وداوموا السير على الصراط المستقيم فلم تزل قدمهم عن طريق العبودية قلبا وقالبا ، ونية وعملا واعتدلوا على منهج الطاعة ومنهج العبادة قولا وعملا وعزما ، وداوموا على ذلك أولئك تنزل عليهم الملائكة في كل وقت وحين وخاصة عند الموت وفي وحدة القبر وعند شدة الحساب وهوله ، وقيل : إن الملائكة تتنزل على عباد الرحمن وجند القرآن يمدونهم فيما يعن ويطرأ عليهم من الأمور والمشاكل الدينية والدنيوية ، ويتنزلون عليهم بما يشرح صدورهم ، ويدفع عنهم هموم الخوف والحزن ، وقد ثبت أن « للشيطان لمة ، وللملك لمة » وقد عرفنا أن للكفار قرناء زينوا لهم كل معصية وكفر. وللمؤمنين أولياء من الملائكة يدفعون عنهم كل هم وغم ويتنزلون عليهم بكل خبر سار وإرشاد سليم وبشرى كريمة ويقولون لهم : أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون.
ويقول اللّه لهم : نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، فاللّه ولى الذين آمنوا يخرجهم من ظلمات النفس والشيطان إلى نور الهدى والقرآن ، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ، واللّه ولى المتقين يوم القيامة يثيبهم ويجازيهم بما قدموا أحسن الجزاء.
ويصح أن يكون هذا من كلام الملائكة كما يقتضيه السياق العام ، على معنى نحن أعوانكم في الدنيا نلهمكم الحق ونرشدكم إلى الصواب ، ولعل ذلك عبارة عما يخطر في بال المؤمنين حين يعملون الخير أن ذلك يرضى اللّه وهو بتوفيقه. ونحن أولياؤكم في الآخرة نمدكم بالشفاعة ونلقاكم بالتحية والكرامة ، في حين يلقى المشركون أولياءهم بالكراهية والبغض والتنكر ، ولكم فيها ما تدعون حالة كونه نزلا من غفور رحيم. والنزل ، ما يعد للضيف من إكرام له ، ولا مانع من إطلاقه على ما يعد للمتقين يوم القيامة على سبيل التشبيه للإشارة إلى عظم ما يعد لهم من الكرامة والإجلال.
___________
(1) ثم وضعت للدلالة على الترتيب مع التراخي في الزمن ويصح هنا أن تكون للترتيب الرتبى.(3/338)
ج 3 ، ص : 339
والاستقامة في الآية ورد تفسيرها عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم
فقد ورد في صحيح مسلم عن سفيان بن عبد اللّه الثقفي قال : قلت يا رسول اللّه : قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال : « قل آمنت باللّه ثمّ استقم »
. وعن أبى بكر هي : عدم الإشراك باللّه شيئا .. وعن عمر - رضى اللّه عنه - : استقاموا - للّه - على الطريقة لطاعته ثم لم يروغوا روغان الثعلب .. وعن عثمان - رضى اللّه عنه - : استقاموا أخلصوا العمل للّه ..
وعن على - رضى اللّه عنه - أدوا الفرائض ، .. وعن الحسن - رضى اللّه عنه - : استقاموا على أمر اللّه فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته ، ويقول العلامة القرطبي : وهذه الأقوال وإن تداخلت فتلخيصها : اعتدلوا على طاعة اللّه عقدا وقولا وفعلا وداوموا على ذلك.
يا سبحان اللّه! الذين يقولون : ربنا اللّه ثم يستقيمون على الطريقة المثلى تنزل عليهم الملائكة بالطمأنينة وعدم الخوف وبالبشرى ، وهم أولياؤهم في الدنيا والآخرة ولهم جنات الخلد نزلا من غفور رحيم! إنها تجارة واللّه رابحة.
الدعوة إلى اللّه وآداب القائمين بها [سورة فصلت (41) : الآيات 33 الى 36]
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
المفردات :
حَمِيمٌ في كتب اللغة : الحميم : الماء الحار ، وعليه قوله تعالى : ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ(3/339)
ج 3 ، ص : 340
عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ
وقد استحم ، أى : اغتسل بالحميم ، ثم صار كل اغتسال استحماما ، ولا شك أن صديقك يزيل عنك الأدران الحسية والمعنوية كالماء. ولذا سمى حميما يَنْزَغَنَّكَ النزغ والنخس واحد ، والمراد : صرفك عن الخصلة الفاضلة صارف فاستعذ.
هذه السورة مكية كما مر ، وفيها نقاش المشركين الذين يقولون : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ، وقالوا لبعضهم : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون. وهذا بلا شك مما يؤذى النبي ويقطع أمله في هدايتهم فبين الحق - تبارك وتعالى - هنا أن الواجب عليك يا رسول اللّه أن تتابع المواظبة في الدعوة والسير في طريقها مهما لاقاك من صعاب فإن الدعوة إلى اللّه أكمل الطاعات وأحسن العبادات ، ولا عليك شيء أبدا بعد اتباع هداية القرآن والتخلق بخلقه.
ولنا أن نقول وجها آخر - كما ذكره الفخر - ولعله أنسب ، وخلاصته أن المبادئ المسلم بها : أصلح نفسك ثم ادع غيرك ، ولا شك أن مرتبة دعوة الغير إلى الهدى والخير مرتبة عالية ، ولا يلقاها إلا أفراد قلائل زكت نفوسهم وطهرت أرواحهم وامتلأت إيمانا ويقينا.
أما مرتبة تربية النفس وإعدادها فهي مأخوذة من قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا الآية.
وأما المرتبة الثانية فهي مأخوذة من قوله : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
الرأى الأول مبنى على أن قوله تعالى : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ نازلة في شأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولتوبيخ الذين تواصوا باللغو في القرآن.
وأصحاب الرأى الثاني توسعوا في مدلول اللفظ فقالوا : هذه الآية تشمل كل من دعا إلى اللّه بالموعظة والحجة ، وسوق البرهان والقتال بالسيف إذا لم تنفع الحجة.
المعنى :
ولا أحد أحسن قولا ، وأرفع منزلة ممن دعا إلى اللّه ودعا غيره - بعد تكميل(3/340)
ج 3 ، ص : 341
نفسه - إلى دين اللّه ، فهؤلاء الذين يرفعون عقائرهم في المجتمعات والمحافل وعلى المنابر يطالبون بتحكيم كتاب اللّه ، والسير على شريعة العدل شريعة السماء ، شريعة المنطق السليم ، قانون رب العالمين الذي وضعه لخلقه وهو أعلم بهم ، هؤلاء بلا شك أحسن قولا من غيرهم ، بل إن غيرهم الذين لا يدعون إلى اللّه ليس في قولهم خير ولا في عملهم بركة.
الذي يدعو إلى اللّه لا بد أن يكون عمله صالحا يلتقى مع قوله ، بل هو في عمله الظاهر والباطن يكون أشد مراقبة للّه وخشية منه ، فإنا في زمن ليس للكلام فيه تأثير كثير وإنما التأثير للعمل والتقليد ، فما أشد حاجتنا إلى علماء ووعاظ ربانيين وقرآنيين يكون عملهم مثلا أعلى يحتذيه كل مسلم ، وقال على سبيل المفاخرة والمجاهرة : إننى من المسلمين وجماعتهم ، وهذه الآية مسوقة لتثبيت قلب من يدعو ، وتربيته بأدب القرآن واللّه يعلم أن دعاة الحق لا بد أن يصادفهم ما يؤلمهم فيقول لهم : لا تستوي الحسنة - كالدعوة إلى اللّه - ولا السيئة كالإعراض عنها وذم القائم بها.
والعلاج هو أن تدفع السيئةبالحسنة يا سبحان اللّه! هذا علاج القرآن وحقا كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم خلقه القرآن ، ادفع السيئة بالخصلة التي هي أحسن منها ، كدفع الغضب بالصبر ، ودفع الجهل بالحلم ، والإساءة بالعفو.
فإذا فعلت مع عدوك ذلك فاجأك « 1 » في الحضرة انقلابه وصيرورته مشابهة في المحبة للصديق الذي لم تسبق منه عداوة.
وما يؤتى هذه الخصلة التي هي دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على المكروه وراضوا أنفسهم على تحمل الأذى ، وكانوا أقوياء أشداء ، ليس الشديد بالصرعة - هو من يصرع الناس ويغلبهم - إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم من خلق النفس وكمالها.
تلك مرتبة عالية ، ومركب صعب أن يقابل الإنسان منا السيئة بالحسنة وخاصة وهو يتحمل العذاب في سبيل خير الناس ، فإن لعب بك الشيطان ونزغك وحاول أن
___________
(1) (فإذا الذي بينك) الفاء للسببية ، وإذا الفجائية ظرف مطلق ، المعنى التشبيه ، وهذا على القول باسميتها.(3/341)
ج 3 ، ص : 342
يصرفك عن تلك المرتبة فلا عليك إلا أن تستعيذ باللّه منه ، واللّه يرعاك ويحميك وهو ولى المتقين ، وبالمؤمنين رؤوف رحيم ، وهو السميع العليم.
فالخلاصة أن الدعوة إلى اللّه أحسن الأعمال وأفضلها ، ولا بد أن يكون الداعية ممن حسن قوله وعمله ، وطهر باطنه وظاهره ؟ وكان مؤمنا بفكرته إيمانا عميقا إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ولا بد أن يكون واسع الصدر حليما يقابل السيئة بالحسنة حتى ينقلب أعداؤه وأعداء دعوته أصدقاء له ولدعوته ، وهذه مرتبة لا يحظى بها إلا أولو العزم من الرجال وأصحاب النفوس العالية.
بعض آيات اللّه عز وجل [سورة فصلت (41) : الآيات 37 الى 39]
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (39)
المفردات :
آياتِهِ : جمع آية ، وهي العلامة الدالة على وحدانيته وقدرته اسْتَكْبَرُوا :
تكبروا لا يَسْأَمُونَ : لا يملون عبادته خاشِعَةً المراد : يابسة لا نبات فيها ، والخشوع : التذلل والتقاصر ، استعير لحال الأرض اليابسة وَرَبَتْ : انتفخت.(3/342)
ج 3 ، ص : 343
وهذه بعض الآيات الدالة على الوحدانية للّه تعالى ، وعلى القدرة الكاملة له ، سيقت كمادة للدعوة إلى اللّه.
المعنى :
ومن آياته ودلائل قدرته وعظمته ، وعلامات وحدانيته وكمال خلقه آية الليل والنهار ، وآية الشمس والقمر ، وهذه من مظاهر قدرة اللّه الكونية الناطقة بجلاله وكبير فضله ، وعظيم سلطانه ومنتهى حكمته. وقوة إرادته.
هذه الآيات لا تسجدوا لها ولا تعظموها. ولكن الذي يستحق التعظيم والتقديس والعبادة هو خالقها ، وصاحب الأمر فيها ، ومبدعها على أحسن نظام وأحكمه وإذا كان هذا حال الليل والنهار والشمس والقمر فكيف يعبد بعض الناس حجرا أو خشبا أو حيوانا!! لا. لا. اعبدوا اللّه وحده ، ولا تشركوا به شيئا إن كنتم إياه تعبدون.
فإن تكبروا عن اتباع كلامك فدعهم وشأنهم ولا يهمنك أمرهم ، فالذين عند ربك - عندية مكانة لا مكان - من أشراف الخلق كالملائكة يسبحون له بالليل والنهار ، وهم لا يفترون.
ومن آياته الدالة على كمال قدرته ، وأن البعث يجب أن يكون حقيقة ظاهرة مفهومة للجميع : أنك ترى الأرض خاشعة هامدة يابسة لا نبات فيها فإذا نزل عليها المطر أو سقيت بماء النهر ، وفيها البذور اهتزت ، وعلماء النبات يسجدون للّه عند هذه الكلمة فإنهم يعرفون ذلك « بالمجهر » اهتزت وتفاعلت وتحركت ، ونمت ثم انشقت عن نبات غض طرى ، يا سبحان اللّه!! أحييت الأرض بعد موتها ، وإنك يا قوى يا قادر لتحيى الموتى يوم القيامة فإنك على كل شيء قدير.
تهديد الملحدين في القرآن [سورة فصلت (41) : الآيات 40 الى 43]
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43)(3/343)
ج 3 ، ص : 344
المفردات :
يُلْحِدُونَ الإلحاد : الميل عن الحق والصواب إلى غيره عَزِيزٌ : منيع عن الإبطال والتحريف.
وهذا رجوع إلى مشركي مكة الذين قالوا : قلوبنا في أكنة ، وقالوا : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ، رجوع إلى تهديدهم وبيان حقيقة القرآن.
المعنى :
إن الذين يلحدون في آياتنا القرآنية ويميلون عن الاستقامة فيها بالطعن عليها والتحريف لها ، والتأويل الباطل واللغو عند سماعها ، هؤلاء لا يخفون علينا ، وكيف يخفون على عالم الغيب والشهادة ؟ ! فهو مجازيهم على فعلهم جزاء وفاقا. أغفلتم « 1 » فمن يلقى في النار إلقاء على سبيل القسر والإلجاء خير أم من يأتى آمنا مطمئنا ويدخل الجنة يوم القيامة ؟ لا يقول عاقل بالتسوية اعملوا « 2 » ما شئتم حيث كان الأمر كذلك إنه بما تعملون بصير ، وسيجازى كلا على عمله إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
إن الذين كفروا بالذكر ، أى : القرآن ذي الذكر العالي والشرف الرفيع لما جاءهم نجازيهم على كفرهم ، والحال إنه لكتاب عزيز لا يناله بشر ، منيع عن الإبطال
___________
(1) الهمزة هنا للاستفهام المراد به الإقرار بأن الملحدين يلقون في النار وأن المؤمنين يأتون آمنين.
(2) والأمر هنا مراد به التهديد.(3/344)
ج 3 ، ص : 345
والتحريف ، وصدق اللّه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ « 1 »
فها هو ذا القرآن ظل محفوظا طوال السنين لم يمس بسوء رغم كثرة أعدائه وقوتهم ، وضعف أنصاره وأتباعه ، نعم إنه لكتاب عزيز ، لا يأتيه الباطل من بين يديه أى : لا يأتيه الباطل من أى ناحية ، من ناحية اللفظ أو العرض أو الحكم أو القصة أو الأسلوب ، وكيف يأتيه الباطل بأى صورة ومن أى باب ، وهو تنزيل الحكيم العليم المحمود في الأرض والسماء.
وأما أنت يا محمد فما قيل لك إلا ما قيل للرسل من قبلك ، فالرسالات كلها واحدة تهدف إلى التوحيد الخالص وإثبات مبدأ الثواب والعقاب والحياة والآخرة تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ « 2 »
وما قيل لك من الناس الذين يلحدون في آياتنا هو مثل ما قيل للرسل قبلك فتلك (شنشة أعرفها من أخزم) وتلك هي عادة الناس قديما وحديثا ، وإن ربك مع هؤلاء الناس لذو مغفرة واسعة لمن أطاع ، وذو عقاب شديد لمن عصى فاحذروا يا أهل مكة عقابه ، وانظروا أين أنتم ؟ ! ..
القرآن والذين يلحدون فيه [سورة فصلت (41) : الآيات 44 الى 46]
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)
___________
(1) - سورة الحجر آية 9.
(2) - سورة آل عمران آية 64.(3/345)
ج 3 ، ص : 346
المفردات :
أَعْجَمِيًّا الأعجمي وصف للكلام الذي لا يفهم ، وللمتكلم الذي لا يفصح سواء كان من العرب أو العجم ، والعجمي : الرجل الذي ليس من العرب فُصِّلَتْ : بينت بلغتنا حتى نفهمها وَقْرٌ : ثقل في السمع وصمم مُرِيبٍ : شديد الريبة بِظَلَّامٍ : بذي ظلم.
المعنى :
لقد أنزل ربك القرآن على نبيه بلسان عربي مبين ، فقال المشركون : لو كان القرآن أعجميّا فرد اللّه عليهم : ولو جعلناه قرآنا أعجميا بلسان غير عربي لما أعجبهم ذلك ، ولقالوا : لو لا فصلت آياته! أى : نتمنى لو كانت آياته قد فصلت وبينت بلغتنا العربية ، فإنا قوم عرب لا نفهم الأعجمية بحال ، أيكون أعجميا والذي أنزل عليه عربي ؟
وهكذا موقف المعترض بغير حق ، لو كان الشيء خيرا محضا لقال : هلا كان فيه خير وشر! وقد رد اللّه عليهم بقوله : قل لهم يا محمد : هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم ، ويبشر المؤمنين ، وينذر الكافرين فهو هدى ، وأى هدى! وهو شفاء لما في الصدور وطب للقلوب ، وعلاج لأمراض الفرد والمجتمع ، علاج وصفه الذي خلق المرض وعلم به ، فهل ترى علاجا خيرا منه ؟ ! وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [سورة الإسراء آية 82].
والذين لا يؤمنون باللّه في آذانهم صمم عن سماع القرآن ، ولهذا تواصوا عند سماعه ، والقرآن عليهم عمى فكأن بينهم وبين الداعي حجابا كثيفا ، أولئك المذكورون(3/346)
ج 3 ، ص : 347
المتصفون بالتعامي عن الحق الذي يشهدونه كأنهم « 1 »
ينادون من مكان بعيد فهم لا يسمعون إلا دعاء ونداء ، ولا يفهمون شيئا.
ولا يهولنك أمرهم واختلافهم في القرآن فتلك عادة الأمم مع أنبيائهم ، ولقد آتينا موسى التوراة ، وفيها هدى ونور - أى : قبل تحريفها - فاختلف بنو إسرائيل فيها بين مصدق ومكذب ومؤمن وكافر ، وهكذا حال قومك فلا تأس ولا تحزن على شيء.
ولو لا كلمة سبقت من ربك ، وحكم فيها على أمتك بتأخير العقوبة إلى يوم القيامة بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ « 2 »
لو لا هذا الحكم لقضى بين المؤمنين والكافرين باستئصال المكذبين المشركين كما فعل مع الأمم السابقة ، وإن كفار قومك لفي شك من القرآن مريب يوجب القلق والاضطراب ، وهذا حكم عام : من عمل صالحا فلنفسه بغى الخير ، ومن أساء فإساءته على نفسه وحده ، وما ربك بذي ظلم للعباد فهو يجازى المحسن على إحسانه لا ينقص منه شيء ، ويجازى المسيء على إساءته بلا زيادة ولا نقصان إذ هو أحكم الحاكمين.
___________
(1) وهذا تمثيل لحالهم من عدم فهمهم وانتفاعهم بما دعوا إليه بمن نودي من مسافة نائية بعيدة فهو يسمع الصوت ولا يفهم.
(2) سورة القمر آية 46.(3/347)
ج 3 ، ص : 348(3/348)
ج 3 ، ص : 349
إليه يرد علم الساعة [سورة فصلت (41) : الآيات 47 الى 48]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
المفردات :
أَكْمامِها : جمع كم وكمة ، والمراد : أوعيتها ، فالأكمام أوعية الثمر ، والكم يطلق أيضا على ما يغطى اليد من القميص آذَنَّاكَ : أسمعناك وأعلمناك وَضَلَّ عَنْهُمْ : غاب مَحِيصٍ : مهرب من العذاب.
ما مضى كان تهديدا للكفار بأنهم سوف يعاقبون على أعمالهم يوم القيامة ، وكأن سائلا سأل : ومتى يكون هذا اليوم ؟ فأجيب بأنه إليه يرد علم الساعة.
المعنى :
إلى اللّه وحده يرد علم الجواب عن السؤال الخاص بوقت القيامة وزمانها ، فلا سبيل إلى معرفة ذلك اليوم ، ولا يعلمه إلا هو إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ .. [سورة لقمان آية 34]. يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ [سورة الأحزاب آية 63].
وكما أن علم الساعة عند اللّه فقط كذلك لا يعلم الأحداث المستقبلة إلا هو ، وقد ذكر هنا نوعان. فاللّه وحده يعلم متى تخرج الثمرة من كمها بالضبط لأنه وحده الخالق لها ، والمشاهد عندنا في المزارع أن أحدا لا يعلم متى تخرج الثمرة بالضبط ؟ واللّه وحده(3/349)
ج 3 ، ص : 350
هو الذي يعلم ما تحمل كل أنثى أذكر هو أم أنثى ، أناقص أم كامل ؟ ولا تضع أنثى إلا بعلمه وحده ، فمهما ارتقى العلم فهو لا يعلم بالضبط متى يحصل الشيء ، وما يقول بعض الناس عن المستقبل فهو من باب الحدس والتخمين لا من باب العلم واليقين ، فتارة يصادف الواقع وتارات لا يصادف ، ولا تنس أن الموضوع الأساسى في هذه السورة الرد على المشركين وبيان حقائق يوم القيامة وخاصة ما يتعلق بهم وبالمؤمنين مع نقاشهم في قولهم : قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ ولذا يقول اللّه : واذكر يوم يناديهم الحق - تبارك وتعالى - على لسان ملائكته تبكيتا لهم وتأنيبا : أين شركائى الذين كنتم تدعونهم من دوني ، وتتخذونهم شفعاء عندي بلا إذنى! قالوا : آذناك وأعلمناك الآن ما منا من شهيد بذلك ، فليس أحد منا يشهد بأن لك يا رب شريكا ، ونحن لا نشاهدهم الآن أمامنا بل ضلوا عنا ، وغابوا عن عيوننا ، وقد كانوا يدعونهم من قبل في الدنيا!! فيقول اللّه ما معناه : وظن الكفار أولا أن لهم منجى ثم تيقنوا الآن أنه لا محيص ولا مهرب من عذاب اللّه ، وقيل : إن الظن هنا مراد به اليقين.
الإنسان وطبعه [سورة فصلت (41) : الآيات 49 الى 51]
لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51)(3/350)
ج 3 ، ص : 351
المفردات :
لا يَسْأَمُ : لا يمل فَيَؤُسٌ : اليأس قطع الرجاء من رحمة اللّه قَنُوطٌ والقنوط : إظهار أثر اليأس على ظاهر البدن أَذَقْناهُ : آتيناه لَلْحُسْنى المراد :
الجنة غَلِيظٍ : كناية عن الشدة وَنَأى أى : انحرف عنه وذهب بنفسه وتباعد عن الشكر عَرِيضٍ المراد : كثير ، فإن العرب تستعمل لفظ الطول والعرض في الكثرة ، يقال : أطال فلان في الكلام وأعرض في الدعاء إذا أكثر.
المعنى :
هذا هو الإنسان على طبعه وحقيقته ، كما وصفه خالقه الذي هو أعلم به ، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك 14] وهذه الصفات التي ذكرت هنا وفي بعض السور هي للإنسان من حيث هو إنسان ، ولا يخفف من حدتها أو يعدل سورتها أو يقلبها بالمرة إلا اتباع الدين ، وتطهير النفس بطهر القرآن ، وملؤها بشعاع الإيمان ونور الإسلام وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر] وهذه الصفات هي التي تكون له عونا له أو عليه في الآخرة وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً [الكهف 36] وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [طه 9 - 11].
ونحن نرى أن القرآن وصف الإنسان بأوصاف :
1 - أنه لا يمل من طلب الخير كالمال والجاه والصحة وغيرها ، وهذا ينشأ من حبه للدنيا وإغراقه في المادة ولقد صدق رسول اللّه حيث قال : « اثنان منهومان لا يشبعان :
طالب علم وطالب مال » .
2 - إن مسه شر أو حلت به مصيبة فهو يئوس يقطع الرجاء من رحمة اللّه ، قنوط تظهر آثار يأسه على وجهه وبدنه ، وقد بالغ القرآن في يأس الإنسان إذا مسه شر ، وهذا ينشأ من عدم الإيمان باللّه والكفر به فإنه لا ييأس من روح اللّه إلا القوم الكافرون ، فاليأس والإيمان لا يجتمعان في قلب.(3/351)
ج 3 ، ص : 352
3 - إذا آتاه اللّه رحمة من بعد ضراء مسته في صحته أو ماله ، نسى ما كان عليه أولا لأنه إنسان كثير النسيان ، واغتر بما أوتى ، وقال : إنما أوتيت هذا على علم عندي ، فهو لي ، وأنا له ، وهكذا الماديون الذين يؤمنون بالأسباب المادية فقط دون الإيمان بمسببها جل شأنه ، وهذا هو الغرور بعينه ، يغتر صاحبه في الدنيا حتى يقول : ما أظن الساعة قائمة ، ولو فرض ورددت إلى ربي ، وكان هناك حساب وبعث ، إن لي عند ربي للجنة والسعة لأنه أعطانى في الدنيا وأكرمنى فيعطيني في الآخرة مثلها وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها أى : من الجنة التي أوتيتها في الدنيا مُنْقَلَباً هذا داء الغرور قد استشرى في الناس ، ولا يمنعه إلا سلاح الدين وحرارة الإيمان ، ولذا يقول اللّه :
فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا ، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ فإنه لا يقول بهذا ، ولا يعمل بمقتضاه إلا كل كافر أثيم أو من هو مثله.
4 - وإذاأنعمنا على الإنسان بنعمنا التي لا تحصى ولا تعد أعرض عن الشكر ، ونأى بجانبه ، وذهب بنفسه وتباعد عن اللّه الذي أعطاه تلك النعم وتباعد عن شكر اللّه بكليته تكبرا وطغيانا.
5 - وإذا مسه الشر أو حلت به مصيبة فهو ذو دعاء عريض ، فهو إن مسه ضر أو فقر أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع ، وإن مسه خير أعرض عن شكر اللّه ، فهذا هو الإنسان على حقيقته دائم التبدل والتغير لا يستقر على حال أبدا ، فهو في الدنيا مشرك متعصب وفي الآخرة ينكر الأصنام وعبادتها ويتبرأ منها ، وهو إن أصابه ضر دعا ، وإن أصابه خير بغى ، فيا ويلك يا إنسان إن لم يدركك الرحمن بلطفه.(3/352)
ج 3 ، ص : 353
ختام السورة [سورة فصلت (41) : الآيات 52 الى 54]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ (54)
المفردات :
شِقاقٍ بَعِيدٍ : خلاف كبير حتى كأنه في شق وجانب والحق في شق وجانب آخر الْآفاقِ : جمع أفق والمراد آفاق أقطار السموات والأرض مِرْيَةٍ : شك.
ثبت فيما مضى أن الإنسان لا يقر على حال وهو دائم التغير والانتقال فالواجب على المشركين ألا يقروا على حال العناد والشرك بل يعيدوا النظر لعلهم يثوبون إلى رشدهم.
المعنى :
قل لهم يا محمد : أخبرونى « 1 »
عن حالكم!! إن كان هذا القرآن من عند اللّه حقا ثم كفرتم به وأعرضتم عنه إعراضا من غير حجة ولا برهان ، وقلتم حين دعاكم إليه : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ، وفي آذاننا وقر ، ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون! ماذا أنتم فاعلون ؟ !
___________
(1) استعمال (رأى) في معنى (أخبر) مجاز لأن الرؤية بمعنى الإبصار طريق للعلم بالشيء ، والعلم به طريق إلى الإخبار عنه لهذا استعملت الصيغة التي هي لطالب الرؤية في طلب الإخبار بجامع مطلق الطلب في كل ، ففي العبارة مجازان : استعمال رأى بمعنى أبصر في الإخبار ، واستعمال الهمزة التي هي لطلب الرؤية في طلب الإخبار.(3/353)
ج 3 ، ص : 354
وكون القرآن من عند اللّه وكون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رسولا أمر ممكن وجائز عقلا ، وليس الشرك ونفى التوحيد أمرا بدهيّا لا يحتاج إلى دليل فإذا أعرضتم عن ذلك كله ، ولم تنظروا في دليل أصلا وقلتم ما قلتم ، ثم تبين أنه الحق ، وأن التوحيد والبعث وصدق الرسول حقائق ، ماذا يكون موقفكم ؟ ! أخبرونى باللّه ماذا أنتم فاعلون ؟ ! أرأيتم أنفسكم - إن كان من عند اللّه ثم كفرتم به - من أضل ممن هو في شقاق بعيد ؟ ! سنريهم آياتنا الكونية التي تظهر في الآفاق ، وصدق آياتنا القرآنية في أقطار السموات والأرض وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق.
وقد صدق العلم الحديث في القرن التاسع عشر والقرن العشرين كثيرا من نظريات القرآن في المطر والسحاب ، والسماء والأرض وفي العلم بما تحمله الأنثى وغير ذلك ، سنرى العالم كله آياتنا الكونية في الآفاق وفي أنفس الناس ، الآيات الدالة على كمال القدرة وتمام الحكمة ودقة العلم حتى يتبين لهم أن الدين الحق جاء على يد خير الخلق صلّى اللّه عليه وسلّم وها هي ذي الأيام والواقع يثبتان ذلك.
أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ، وأنه عالم الغيب والشهادة ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، وهو اللطيف الخبير ، ألا إنهم في مرية وشك من لقاء ربهم حيث أنكروا البعث ، ولم يقولوا بوجود إله موصوف بصفات الكمال والجلال ، ألا إنه بكل شيء محيط علما وقدرة وسيجازى الكفار على أعمالهم.
ألست معى في أنه ختام رائع لتلك السورة حيث ألزمهم الحجة ، ورد كيدهم في نحورهم ، وأبان أن الزمن كفيل ببيان صدق الآيات وأنهم على خطأ فيما ذهبوا إليه ، والعاقبة للمتقين.(3/354)
ج 3 ، ص : 355
سورة الشورى
وتسمى سورة حم عسق ، وهي مكية عند الجمهور ، وحكى عن ابن عباس أنها مكية إلا أربع آيات أولها قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً وقيل : المدني من قوله تعالى ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ إلى قوله : إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ومن قوله : وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ .. إلى قوله : ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ والأفضل قول الجمهور.
وهذه السورة كأخواتها المكية يدور بحثها حول التوحيد والنبوة وإثبات البعث ، وركزت أبحاثها في القرآن المنزل على محمد من عند اللّه الموصوف بصفات الكمال والجلال والقدرة والعلم والحكمة ، وإثبات أن هذا الشرع المحمدي يتفق مع الشرائع السابقة في الأصول العامة ، فلا عذر لمن كفر ولا حجة له ، مع تهديدهم ببيان ما أعد للكفار ، وما أعد للمؤمنين ، مع ذكر بعض آياته ، وبيان أن كل أفعاله موافق للحكمة والمصلحة ، مع بيان صفات المؤمنين وصفات غيرهم ، وقد بدأ السورة بالكلام على الوحى وختمها كذلك ببيان كيفية اتصاله بالأنبياء.
الذي أوحى بهذا القرآن هو اللّه [سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)(3/355)
ج 3 ، ص : 356
المفردات :
حم عسق تقرأ هكذا : حا ميم. عين سين قاف ، بإدغام النون في القاف ، وهي كأخواتها من الحروف التي بدأت بها السور إلا أن هنا جعلت حم آية ، وعسق آية ثانية ، والمعروف أن كل بدء السور آية واحدة مثل كهيعص أول سورة مريم ، والمر أول سورة الرعد فلسائل أن يقول : لما ذا هذا التفريق ؟ والجواب أن ذلك مما استأثر اللّه بعلمه. وهو أعلم بكتابه يَتَفَطَّرْنَ : يتشققن حَفِيظٌ أى :
حافظ ومحص عليهم أعمالهم.
المعنى :
حم. عسق. كما أوحى إليك هذه السورة العظيمة الشأن الشريفة المقصد يوحى إليك غيرها من القرآن ، ويوحى إلى الذين من قبلك الكتب القديمة « 1 »
فالكل من اللّه ، ويهدف إلى دعوة الخلق إلى التوحيد والعدل وإثبات الرسالة عن اللّه ، وتقرير مبدأ المعاد والثواب والعقاب ، وإن شئت فاقرأ سورة الأعلى وختامها إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى تجدها تهدف إلى مبدأ التوحيد أولا ثم النبوة ثانيا ، ثم المعاد ثالثا ، ثم تختم بقوله : إن هذا لفي الصحف الأولى.
ومن الذي أوحى بهذه السورة وأخواتها في القرآن الكريم ؟ إنه هو اللّه - جل جلاله ، وتباركت أسماؤه - العزيز في ملكه لا يغلبه غالب ، القادر على كل شيء الحكيم في كل صنع ، العالم بجميع المعلومات ، الغنى عن الحاجات ، سبحانه وتعالى لا إله إلا هو ، له الملك ، وإليه الأمر ، في هذا الكون كله ، سمائه وأرضه ، فقدرته كاملة نافذة في جميع أجزاء السموات على عظمتها وسعتها إيجادا وإعداما ، وتكوينا وإنشاء ، وهو العلى المتعالي عما يقوله الظالمون ، صاحب العظمة والأمر.
___________
(1) الكاف في قوله : كذلك بمعنى مثل ، وهي مفعول مطلق لقوله : يوحى ، ولفظ (يوحى) فعل مضارع مستعمل في حقيقته بالنسبة لما سينزل من القرآن ، وفي مجازه بالنسبة لما أنزل من القرآن والكتب السابقة ، وفي العبارة تشبيه : المشبه هو ما سينزل من القرآن وما نزل سابقا منه ومن الكتب السابقة ، والمشبه به هو هذه الصورة ، ووجه الشبه أن الموحى به في كل يرجع إلى تقرير مبدأ التوحيد والنبوة والمعاد. وتقبيح أحوال الدنيا والترغيب في الآخرة.(3/356)
ج 3 ، ص : 357
تكاد السموات يتشققن من فوق الأرضين هيبة وإجلالا لعظمته - جل شأنه - أو من هول كلمة المشركين الذين قالوا : اتخذ الرحمن ولدا وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا أمرا فظيعا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا هدما شديدا. [سورة مريم الآيات 88 - 89].
وهؤلاء الملائكة الذين هم خلق من خلقه يسبحون حامدين ربهم شاكرين له نعمه التي لا تحصى ، ويستغفرون لمن في الأرض : أما للكافرين فيدعون لهم بالتوفيق والهداية وأما للمؤمنين فيدعون لهم بأن يتجاوز ربهم عما فرط منهم من سيئات وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ [سورة غافر آية 7].
ألا إن اللّه هو الغفور الذي ألهم الملائكة الاستغفار لمن في الأرض ، الرحيم بالخلق ، ألا إن اللّه هو الذي يعطى المغفرة لمن طلبها مخلصا ، ويضم إليها الرحمة الكاملة ، الرحمن الرحيم.
والذين اتخذوا من دونه أولياء وشركاء وأندادا من الأصنام والأوثان ، فاللّه وحده حفيظ عليهم ، ومحص عليهم سيئاتهم ، لا يفوته شيء ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة من عمل في السموات أو في الأرض ، وما أنت عليهم بوكيل.
حقائق الإسلام [سورة الشورى (42) : الآيات 7 الى 12]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (12)(3/357)
ج 3 ، ص : 358
المفردات :
أُمَّ الْقُرى المراد بها : مكة كأنها أصل للقرى التي حولها يَوْمَ الْجَمْعِ :
هو يوم القيامة تجتمع فيه الخلائق السَّعِيرِ : جهنم المسعرة أَمِ اتَّخَذُوا : أم هنا بمعنى بل - التي للانتقال من معنى - والهمزة الاستفهامية يراد بها الإنكار فاطِرُ السَّماواتِ : خالقها ومبدعها لا على مثال سابق يَذْرَؤُكُمْ : يكثركم ، ذرأ اللّه الخلق : بثهم وكثرهم أَزْواجاً : ذكورا وإناثا.
المعنى :
مثل ذلك الإيحاء البليغ البديع أوحينا إليك قرآنا عربيا بلسان قومك ، لا لبس فيه ولا غموض ، ولا التباس عليك وعلى قومك ، أوحيناه إليك لتنذر أم القرى وتخوفهم بعذاب شديد ، وتنذر الناس جميعا بيوم الجمع الذي يجتمع فيه الخلق للحساب أو تجتمع فيه الأعمال وأصحابها ، والأرواح وأشباحها ، هو يوم لا شك فيه أصلا بعد جمعهم للحساب يكون منهم فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، وهذا حكم اللّه وقضاؤه ، فليس في قدرة مخلوق أن يغيره ، ولو كان نبيا مرسلا ، وهذا يؤيد قوله - سبحانه وتعالى - اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ فلست عليهم رقيبا ولا(3/358)
ج 3 ، ص : 359
حفيظا ، ولا يجب عليك أن تحملهم على الإيمان فإن هذا العمل أمره إلى اللّه ، ولو شاء اللّه ذلك لجعلهم أمة واحدة لأنه هو القادر على ذلك ، ولكن ترك للخلق حريتهم ، وكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون ليدخل المؤمنين في رحمته ، وقد شاء لهم ذلك ، وهم قد اقتحموا العقبة واختاروا الهدى وآثروه على الضلالة ، وقد ترك الظالمين بلا ولى ولا نصير سوى شياطينهم وأنفسهم فاستحبوا العمى على الهدى ، فكانوا في عذاب شديد لا خلاص منه.
بل اتخذوا من دونه أولياء ؟ لم يتخذوا وليا ينفعهم ، ولا نصيرا ينصرهم ، وإذا كان الأمر كذلك فاللّه وحده هو الولي النافع ، وهو يحيى الموتى ، وهو على كل شيء قدير ، أما غيره فلا ينفع بل يضر ، ولا يقدر على شيء بل إن يسلبه الذباب شيئا لا يستنقذه منه.
وما اختلفتم فيه من شيء من أمور الدين أو الدنيا فحكمه إلى اللّه الواحد القهار فهو الذي يحكم بين عباده. ذلكم اللّه - جل شأنه - هو ربي. عليه وحده توكلت ، وإليه وحده أنيب وأرجع إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فالكل منه وإليه ، وهو فاطر السموات والأرض ، وخالقهما على نظام بديع محكم ، جعل لكم من جنس أنفسكم أزواجا إليها تسكنون ، وبسببها تتناسلون وتتكاثرون ، وجعل من الأنعام أزواجا كذلك ، فكل حيوان في الكون له ذكر وأنثى ، وفيه غريزة المحافظة على جنسه ونوعه ، وبهذا يتكاثر ويتوالد ، وكأنه منساق إلى ذلك بطبعه وغريزته ، وبهذا يفهم قوله تعالى :
يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ أى : يخلقكم ويكثركم في هذا الجعل السابق ، أى : خلق الذكر والأنثى في الإنسان والحيوان ، وكان هذا الجعل منبعا للتكاثر ومصدرا له ، وأظن أن الواقع يؤيد ذلك.
هو اللّه الواحد الفرد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، وهو الواحد في ذاته وصفاته وأفعاله ليس مثله شيء من خلقه ، ولا يشبهه شيء من الحوادث في أى ناحية كانت.
وهو السميع البصير ، صاحب الملك والملكوت ، بيده الخير وعنده مفاتيح الخزائن كلها ، ومن عنده المفتاح فهو صاحب الخزانة والمتصرف فيها ، يبسط الرزق لمن يشاء ، ويقتر الرزق على من يشاء لحكم هو وحده يعلمها ، إنه بكل شيء عليم.(3/359)
ج 3 ، ص : 360
تلك حقائق إسلامية يجب الاعتراف بها ، وهي من أمهات المسائل الدينية ، فالقرآن عربي مبين أوحى به إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم غايته الإنذار والبشارة ، والناس معه فريقان ، وقد اقتضت حكمته ذلك ، اللّه وحده هو الولي وهو يحيى الموتى ، وهو على كل شيء قدير ، والقرآن والسنة مرجع الحكم ، وبهما يزال الخلاف ، واللّه - سبحانه - موصوف بكل كمال ومنزه عن كل نقص وهو وحده الخالق لكل الخلق ، والمتصرف في هذا الكون كله.
حقيقة الرسالة المحمدية وهدفها [سورة الشورى (42) : الآيات 13 الى 19]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)(3/360)
ج 3 ، ص : 361
المفردات :
شَرَعَ : أوضح وبين وسن ما وَصَّى المراد : أمر به نوحا ومن معه ، ولعل ذكرها دون الأمر للإشارة إلى الاعتناء بشأن المأمور به وتأكيده أَقِيمُوا الدِّينَ المراد : تعديل أركانه والمحافظة عليه كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ : عظم وشق عليهم ذلك يَجْتَبِي إِلَيْهِ : من الاجتباء والاصطفاء « قالوا : لولا اجتبيتها » . يُنِيبُ :
يرجع إليه ويقبل بَغْياً : ظلما وتجاوزا للحد مُرِيبٍ : شديد الريب والشك لا حُجَّةَ لا احتجاج داحِضَةٌ : زائلة باطلة وَالْمِيزانَ : العدل والمساواة مُشْفِقُونَ الإشفاق : الخوف مع الاعتناء ، فإذا عدى بمن كما هنا فالخوف أظهر ، وإذا عدى بعلى كقولك ، أشفقت على اليتيم فالعناية أظهر يُمارُونَ : يجادلون ، وأصل المري : مسح ضرع الناقة للحلب. وإطلاقه على المجادلة لأن كلا من المتجادلين يحاول استخراج ما عند صاحبه.
وهذا تفصيل لما أجمل سابقا في قوله تعالى : كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة الشورى آية 3] ، وبيان لحقيقة الرسالة المحمدية وهدفها.(3/361)
ج 3 ، ص : 362
المعنى :
اللّه - سبحانه وتعالى - له مقاليد السموات والأرض شرع لكم من الدين ، وسن وأوضح ، ما وصى به نوحا والأنبياء أولى العزم ، وأصحاب الشرائع القديمة ، الخطاب لأمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لبيان أن الرسالة المحمدية ليست بدعا من الرسالات ، وهي موافقة لما جاء به الأنبياء السابقون في الأصول العامة ، وما أمرهم اللّه به أمرا مؤكدا - كما يشير إلى ذلك لفظ وصينا - ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وتخصيص هؤلاء الأنبياء بالذكر لأنهم أولو العزم وأرباب الشرائع القديمة ، ونوح أول رسول أرسل بشريعة موافقة لزمانه ، وإبراهيم أبو الأنبياء ، ويدين له أكثر العرب ، وموسى نبي اليهود ، وعيسى نبي المسيحيين.
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ ولعل إيثار الإيحاء عند الكلام على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم دون ما قبله وما بعده لأن فيه تصريحا برسالة محمد التي هي الأساس والمقصود ، ولتوافق هذه الآية ما قبلها كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ والإشارة إلى الاعتناء به وبشريعته التي جمعت كل خير ، وأتمت كل نقص ، ولعل تقديمه في الذكر على من سبقه في الزمن من الرسل يشير إلى ذلك.
وما هذا الذي شرعه ؟ هو أن أقيموا الدين الحق ، دين التوحيد والطاعة والتقديس للّه وعدم الإشراك به بأى صورة كانت من قرب أو من بعد ، مع الإيمان برسل اللّه كلهم وكتبه واليوم الآخر وما فيه ، والإيمان بالمثل العليا التي تبنى الفرد والأسرة والمجتمع ، وإقامة الدين هو الإيمان الكامل والمحافظة عليه من الزيغ وزيف العقائد والمواظبة على كل ما يطلبه الشرع ، ولا تتفرقوا فيه يا أمة الإسلام ، حتى تكونوا كغيركم شيعا وأحزابا ، وجماعات ، بل الزموا سنة رسول اللّه والخلفاء الراشدين بعده ، الزموا القرآن والسنة الصحيحة وروح الدين تكونوا الأمة الناجية يوم الحساب.
كبر على المشركين ، وعظم ما تدعوهم إليه من التوحيد والهداية وترك الآثام والفسوق والإشراك باللّه أصناما وأوثانا!! وأنت يا محمد ثق بأن اللّه يجتبى إليه وإلى دينه من يشاء من خلقه الذين يعلم فيهم الصلاحية والخضوع للحق وقبوله ، يعلم فيهم ذلك في عالم الأرواح ، ويهدى إليه من(3/362)
ج 3 ، ص : 363
يميل إليه وينيب ، ويقبل على طاعته ، ويثوب إلى رشده ، وما تفرقت أمم الأنبياء السابقة إلا من بعد ما جاءهم العلم بأن الفرقة ضلال وفساد ، وبأنهم مأمورون بإقامة الدين وعدم التفرقة فيه ، وهذا بلا شك ينطبق على الأمة الإسلامية تمام الانطباق.
تفرقوا عن الحق الصريح بغيا بينهم وحسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم أنه الحق. وفي القرطبي : عن ابن عباس أن المراد : وما تفرق أهل مكة إلا من بعد ما جاءهم العلم ، أى : النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وذلك لأنهم كانوا يتمنون أن يبعث لهم نبي فلما أرسل لهم كفروا به وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً. اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ [سورة فاطر الآيتان 42 ، 43] وقيل : هم أهل الكتاب بدليل قوله تعالى : وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [سورة البينة آية 4].
وكان هذا التفرق بعد مجيء العلم لهم بفساده ناشئا من البغي بينهم والحسد ، وليس ناشئا عن قصور في الرسالات والحجج.
ولو لا كلمة سبقت من ربك. وهي : وعدة بترك معاجلتهم بالعذاب إلى أجل مسمى عنده لقضى أمرهم واستأصلوا حين افترقوا لعظم جرمهم ، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم ، وهم أهل الكتاب الذين كانوا في زمنه صلّى اللّه عليه وسلّم لفي شك من كتابهم مريب! فهم لم يؤمنوا به إيمانا كاملا ولذا تفرقوا فرقا شتى.
إذا كان الأمر كما ذكر وأن الأمم السابقة تفرقت واختلفت ، وكان مبعث ذلك هو عدم الإيمان الصحيح الكامل فلذلك فادع إلى الائتلاف والاتفاق على الحنيفية البيضاء واستقم كما أمرت ، واثبت على الدعاء إلى ذلك ودم عليه ، وقد رأينا أن التفرق في الشريعة الإسلامية ظهر عند ضعف الوازع الديني ، وقام به أناس دخلوا في الإسلام عنوة أو لغرض ، ولم يدخلوه رغبة أو حبا فيه ، هؤلاء قاموا بدور خطير جدا واستغلوا طيبة الشعوب الإسلامية وسلامة ضميرها ، وحسن نيتها ، ألست معى في أن هدف الشريعة الإسلامية هو الوحدة والاتحاد على قبول الحق ، والبعد عن الخلافات المذهبية الضارة وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وليس المراد الاختلاف في الفروع الفقهية فذلك له سند من الكتاب والسنة وفعله النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أو هذا الاختلاف المذهبى في الفروع أشبه بالاختلاف في الرسالات مع اتفاق كل الأنبياء على مبدأ التوحيد الخالص(3/363)
ج 3 ، ص : 364
والإيمان باليوم الآخر وبالأنبياء كلهم وبالكتب ، أما الشرائع العملية فتختلف باختلاف الأمم وعصورها لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [سورة المائدة آية 48].
فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم الباطلة ، وقل لهم : آمنت بما أنزل اللّه من الكتب كلها ، وأمرت لأعدل بينكم في كل شيء ، وأحكم بينكم بالحق ، اللّه ربنا وربكم ، لنا أعمالنا لا يتخطانا ثوابها ولكم أعمالكم لا يتخطاكم ثوابها آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ « 1 »
تلك هي الحقائق الإسلامية التي جاء بها محمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
فهل بعد هذا الإيمان الصريح الكامل الذي لا يفرق بين نبي ونبي ولا بين كتاب وكتاب مع التوحيد الخالص البريء من الشرك وشوائبه هل بعد هذا تكون حجة ؟
لا حجة ولا احتجاج ولا خصومة بيننا وسيحكم بيننا وبين غيرنا إذا لم يبق بعد ذلك إلا المكابرة والعناد ، ومع كل فاللّه يجمع بيننا بالعدل ، وإليه وحده المصير والمآب ، والذين يحاجون في اللّه وصفاته من بعد ما استجاب له الناس ، ودخلوا في دينه أفواجا ، حجتهم - بل في الواقع أوهامهم وأباطيلهم - داحضة عند ربهم وزائلة وباطلة ، وعليهم غضب لمكابرتهم في الحق بعد ظهوره ، ولهم عذاب شديد هوله عظيم وقعه.
اللّه الذي أنزل الكتاب الكامل الجامع المهيمن على غيره من الكتب ، وهو القرآن متلبسا بالحق بعيدا عن الباطل ، وأنزل الميزان ليحكم بالعدل والقسطاس المستقيم ، وما يدريك لعل الساعة تكون قريبة.
يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها من الكفار ، لأنهم يظنون أنها أوهام لا حقائق لها ، والذين آمنوا بها ، واعتقدوا بوجودها مشفقون منها وخائفون من مواقفها المشهودة التي تذهل فيها كل مرضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب اللّه شديد وكيف لا يشفقون منها ، وهم يعلمون أنها الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ألا إن الذين يمارون في الساعة ويشكون فيها لفي ضلال بعيد حيث لم يعملوا لها ، واللّه لطيف بعباده يفيض عليهم بجلائل نعمه التي لا يعلمها إلا هو يرزق من يشاء من عباده بما يحب ، وهو القوى العزيز ، فلا غرابة في أن يخص بعض عباده بألطاف إلهية.
___________
(1) - سورة البقرة آية 285.(3/364)
ج 3 ، ص : 365
العاملون وجزاؤهم [سورة الشورى (42) : الآيات 20 الى 26]
مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24)
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26)(3/365)
ج 3 ، ص : 366
المفردات :
حَرْثَ الْآخِرَةِ الحرث في الأصل : إلقاء البذر في الأرض ، وقد يطلق على الثمر ، ويستعمل في ثمرات الأعمال ونتائجها « 1 »
الْفَصْلِ أى : القضاء والحكم رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ المراد : أطيب بقعة فيها ، وأصل الروضة : المكان الذي يكثر فيه الماء والشجر أَجْراً : نفعا ، والعرف يخصصه بالنفع المالى يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ : يطبع عليه بالخاتم وَيُحِقُّ أى : يثبته يَقْبَلُ التَّوْبَةَ : يثيب عليها.
لما بين اللّه - سبحانه وتعالى - أنه لطيف بعباده كثير الإحسان إليهم ، بين هنا أنه لا بد من العمل والسعى في طلب الخير ، والبعد عن القبيح ، وقد ناقش هنا الكافرين في أعمالهم وبين جزاء العاملين مطلقا ، ثم رد على من يقول بافتراء القرآن وختم بأنه واسع الفضل يقبل التوبة من عباده.
المعنى :
الإنسان في الدنيا أحد رجلين : رجل قلبه ملئ بنور الإيمان ومراقبة اللّه فهو دائما في خوف وحذر منه يرجو ثوابه ويخشى عقابه ، ويريد بعمله ثواب الآخرة فكل عمل يعمله يثاب عليه ، وإنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى وهذا الصنف يعمل للدنيا وللآخرة ، ولكنه يريد بعمله كله ثواب اللّه في الآخرة وهؤلاء يضاعف اللّه ثواب أعمالهم مرات أو تزيد.
ورجل آخر قد ملئ قلبه شكا ونفاقا ، وحبا للدنيا بشكل عنيف ، فهو دائما ينظر للأمور بمقياس الدنيا فقط ، فما وافق نفسه وميله إلى الدنيا والمادة الفانية فعله ، ولو أغضب اللّه ، فهو يرجو متاع الدنيا الفاني ، وعرضها الزائل ، وهؤلاء يؤتيهم اللّه شيئا من الدنيا حسب ما قدره لهم أزلا ، ولم يكن لإغراقهم في حب الدنيا مدخل فيما يعطيه اللّه لهم ، وليس لهم في الآخرة نصيب أبدا إذا كان همهم الدنيا وعبادتها مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً!! وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ [الإسراء 18 - 20]
___________
(1) - على سبيل الاستعارة حيث شبه ثمرة العمل بالغلال الحاصلة من البذور ، وهذا يتضمن تشبيه الأعمال بالبذور. [.....](3/366)
ج 3 ، ص : 367
وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس 7 - 10] وروى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : « من أصبح وهمّه الدّنيا شتّت اللّه - تعالى - عليه همّه وجعل فقره بين عينيه ، ولم يؤته من الدّنيا إلّا ما كتب له ، ومن أصبح وهمّه الآخرة جمع اللّه همّه وجعل غناه في قلبه وأتته الدّنيا وهي راغمة عن أنفها » .
وهذا هو أساس الدعاء وأصل الضلالة والشقاء يكشف عنه القرآن. حيث يقول :
بل ألهم شركاء شرعوا لهم من الدين شيئا لم يأذن به اللّه ، ولا شرعه ولا سنه ، ولم يأت نبي أبدا يوصى به ، وشركاؤهم أصنامهم وأوثانهم وشياطينهم الذين زينوا لهم الشرك وإنكار البعث والوقوع في المعاصي ، ولما كانت الشركاء سببا في ذلك جعلت كأنها شارعة لضلالتهم وآمرة بها.
ولو لا كلمة الفصل والقضاء العدل الذي حكم اللّه به على نفسه حيث قال : وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [سورة الأنفال آية 33] لو لا هذا لقضى عليهم بالفناء كما فعل مع غيرهم ، وقيل : المراد الفصل بين المؤمن والكافر.
وإن الظالمين لأنفسهم بالشرك والمعاصي لهم عذاب أليم في الآخرة. ولو ترى - يا من تتأتى منه الرؤية - إذ الظالمون يوم القيامة مشفقون مما كسبوا من أعمال في الدنيا حيث يرون ما أعد لهم من عذاب شديد. وهو واقع بهم لا محالة ، وهذا الإشفاق لا يغنى عنهم شيئا.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنة ، أى : مستقرون في أطيب بقاعها وأعلى منازلها لهم فيها ما يشاءون ، وما يتمنون عند ربهم ، ذلك هو الفضل الكبير ، وأى فضل يدانيه ؟ إنه فضل لا يعرف قدره ولا يقف على كنهه إلا خالقه.
ذلك الفضل الكبير هو الذي يبشر اللّه به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويعدهم به ، ومن أصدق من اللّه حديثا ؟
والناس لتوغلهم في المادة وتعلقهم بالدنيا ، ولأنهم لا يعملون إلا لغرض يظنون الظن السيّئ بمن يقوم بعمل الخير. ويدعو إلى العمل الصالح ، هؤلاء الناس دائما ينسبون أعمال الناس إلى غايات ومنافع دنيوية ، وقديما وصفوا دعوة النبي بهذا ، فيرد اللّه عليهم(3/367)
ج 3 ، ص : 368
بقوله : قل لهم : لا أسألكم على هذا التبليغ وتلك الدعوة أجرا إن أجرى إلا على اللّه ، عليه توكلت ، وعليه فليتوكل المؤمنون ، والأنبياء جميعا برءوا أنفسهم من هذا الغرض الدنيوي قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ. أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ. قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى بمعنى لا أسألكم أجرا إلا مودتكم لقرابتي منكم أخرج أحمد والشيخان والترمذي عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى : إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فكتب أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان أوسط الناس في قريش فلا بطن من بطونهم إلا وقد ولده فقال اللّه له :
لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أى : إلا أن تودوني في قرابتي منكم ؟ فالقربى هاهنا قرابة الرحم ، كأنه قال : اتبعونى ولا تؤذوني لقرابتي منكم إن لم تتبعوني للنبوة.
فهذا قول ، وهناك قول آخر بمعنى أنى لا أسألكم أجرا إلا أن تودوا قرابتي وأهل بيتي ، قيل : ومن هم ؟ قيل : هم على وفاطمة وأبناؤهم ، فالقربى على ذلك هي القرابة ، وهناك قول ثالث ولعله هو الأرجح أن المعنى لا أسألكم عليه أجرا إلا أن توادوا وتتقربوا إلى اللّه بالطاعات. وروى هذا المعنى عن رسول اللّه ، وهو المبين عن اللّه - عز وجل - فهذه أقوال ثلاثة في الآية.
ومن يقترف حسنة ويكتسبها نزد له فيها حسنا ونضاعفها له إلى عشر أو تزيد إن اللّه غفور للسيئات شكور للحسنات.
محور الكلام الذي تدور عليه الآيات بل السورة في مجموعها هو القرآن الموحى به إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ولذا قال هنا ما معناه : بل أيقولون : افترى على اللّه كذبا وزورا هذا القران ؟ !. لا ، إنهم كاذبون في هذا ، ولقد أثبت قبل ذلك أن ما هم عليه شرع الشركاء ، وليس من عند اللّه ، وهذا إثم وشرك ، وأكثر منه فظاعة وجرما جعلهم القرآن افتراء واختلاقا مع وضوح الأدلة والآيات على أنه من عند اللّه ، إى وربي إنهم ادعوا أنه افتراء على اللّه ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ، فإن يشأ اللّه يجعلك في عداد المختوم على قلوبهم حتى تفترى على اللّه الكذب فإنه لا يجترئ على ذلك إلا من كان مختوما على قلبه ، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ، وهذا أسلوب مؤداه استبعاد الافتراء على اللّه من مثل سيد المرسلين صلّى اللّه عليه وسلّم وتعريض بأنهم المفترون على اللّه الكذب حين شرعوا شرعا ما أنزل اللّه به من سلطان.(3/368)
ج 3 ، ص : 369
وكيف يكون هذا القرآن افتراء على اللّه ؟ ومن عادة الحق - تبارك وتعالى - أنه يمحو الباطل ويزيله ، ويحق الحق بكلماته ويؤيده إنه عليم بذات الصدور ، ولا تيأس أيها الإنسان من عمل عملته ، واعلم أن اللّه - جل شأنه - قد كتب على نفسه الرحمة ، وأنه يقبل التوبة متجاوزا عن معصية عباده الذين يتوبون إليه ، ويرجعون عن عملهم عازمين على عدم العودة نادمين على أفعالهم رادين حقوق العباد لأصحابها ، وهو الذي يعفو عن السيئات ، ويتجاوز عن الخطيئات لمن يشاء من عباده ، ولا غرابة فهو يعلم ما تفعلون.
ويستجيب اللّه لدعاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات إذا دعوه منيبين إليه ، ويزيدهم من فضله الواسع ورزقه العميم ، والاستجابة تكون في الدنيا أو الآخرة ، وأما الكافرون الذين كفروا باللّه وبنعمه فلهم عذاب شديد ما داموا متمسكين بباطلهم ، وهذا وعد للتائبين ووعيد للكافرين المصرين.
من مظاهر حكمته وقدرته [سورة الشورى (42) : الآيات 27 الى 36]
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31)
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)(3/369)
ج 3 ، ص : 370
المفردات :
بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ : وسع ، وأصل البسط : النشر لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ البغي : تجاوز الحدود بِقَدَرٍ : بتقدير الْغَيْثَ : المطر النافع قَنَطُوا :
يئسوا بَثَّ : فرق ونشر مِنْ دابَّةٍ : كل ما دب وتحرك فهو دابة الْجَوارِ : جمع جارية وهي السفينة تجرى في الماء إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ كَالْأَعْلامِ جمع علم وهو الجبل ، أو هو كل شيء مرتفع رَواكِدَ : سواكن على ظهره لا تتحرك يُوبِقْهُنَّ : يهلكهن ويغرقهن مَحِيصٍ : مهرب وملجأ.
لقد مضى قول اللّه : وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ فكأن سائلا سأل : ما بال بعض المؤمنين قد يكون في شدة وفقر يدعو ويظل حاله كما هو ؟ فأجاب اللّه بهذه الآيات.
المعنى :
ولو بسط اللّه الرزق ووسعه لعباده جميعا لبغوا في الأرض وتجاوزوا الحدود المرسومة ، فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ، والظلم من شيم النفوس ، فإن رأيت أحدا لا يظلم مع القدرة فلعله لسبب ، والغنى كما يقولون مبطرة مأشرة - أى : داع إلى البطر والأشر - وكفى بحال قارون وفرعون وما نراه الآن شاهدا على ذلك.(3/370)
ج 3 ، ص : 371
ولكن الحق - تبارك وتعالى - ينزل بتقدير الخبير البصير ما يشاء من الرزق لمن يشاء من الخلق تبعا للحكمة والمصلحة التي تخفى على كثيرين ، إنه بعباده خبير بصير ، فهو يستجيب لدعاء المؤمنين إن عاجلا أو آجلا ، وقد يكون في المرض أو الفقر مصلحة والبغي كما يكون وليد الغنى يكون تابعا للفقر ، فكلما دخل الفقر بلدا دخل الكفر.
والخروج عن المألوف معه ، ولكن من المسلم به أن البغي مع الغنى أكثر ، والذي عليه نظام العالم من وجود الغنى والفقر هو علاج المجتمع وهو النظام المحكم الدقيق.
وقال القرطبي - رحمه اللّه - قال علماؤنا : أفعال الرب - سبحانه وتعالى - لا تخلو عن مصالح وإن لم يجب عليه فعل الصلاح ، فقد يعلم من حال عبده أنه لو بسط عليه الرزق قاده ذلك إلى الفساد فيزوى عنه الدنيا مصلحة له ، فليس ضيق الرزق هوانا ولا سعة الرزق فضيلة ، وقد أعطى أقواما مع علمه أنهم يستعملونه في الفساد ، ولو فعل بهم خلاف ما فعل لكانوا أقرب إلى الصلاح ، والأمر على الجملة مفوض إلى مشيئته.
وروى عن أنس من حديث طويل « وإنّ من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلّا الغنى ولو أفقرته لأفسده الفقر. وإنّ من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلّا الفقر ولو أغنيته لأفسده الغنى. وإنّنى لأدبّر عبادي لعلمي بقولهم فإنّى عليم خبير » .
وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما يئسوا من رحمته ، وهو الذي ينشر رحمته إذ هو واسع الفضل كثير الخير ، وهو الولي الحميد إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [سورة الشرح الآيتان 5 و6] ولن يغلب عسر واحد يسرين.
ومن آياته الدالة على كمال القدرة وتمام العلم والحكمة وأن هذا العالم يسير بحكمة الحكيم الخبير ، من آياته خلق السموات والأرض وما فيهما من عوالم لا يعلمها إلا اللّه خالقها ، ومن آياته ما بث فيهما من دابة لا يعلمها إلا اللّه ، يظهر أن قول العلماء الطبيعيين : إن في الكواكب حياة ، كلام له نصيب من الصحة ، فالآية تثبت أن في السماء والأرض قد بث اللّه فيهما دابة تدب وتتحرك أما حقيقتها في السماء فلا يعملها إلا خالقها - سبحانه وتعالى - وإن كان من المقطوع به أنها ليست إنسانا ، وهو على جميع خلقه يوم يشاء جمعهم للحساب قدير.
وما أصابكم أيها الناس في الدنيا من مصيبة فبما كسبته أيديكم ، واقترفته جوارحكم حتى بعض الأمراض والآفات الزراعية ، ويظهر واللّه أعلم أن الذنوب نوعان ، نوع(3/371)
ج 3 ، ص : 372
يعذب اللّه صاحبه في الدنيا لأنه هين بسيط فيصيبه بسببه مرض أو ألم ، ونوع عذابه شديد فهو في الآخرة فقط ، وإذا أحب اللّه عبدا عجل له العقوبة في الدنيا ، وإذا كرهه لسوء عمله تركه يقترف من السيئات ما شاء ، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر لحساب عسير وعذاب شديد.
وقد ينال الإنسان منا بعض الألم تكفيرا له عن ذنوب أو زيادة له في ثواب.
واللّه يعفو عن كثير من الذنوب عفوا مع القدرة الكاملة ، وما أنتم بمعجزين اللّه في الأرض هربا منه ، وما لكم من دون اللّه من ولى يلي أموركم ولا نصير ينصركم إن أراد بكم سوءا وهو على كل شيء قدير ..
وهذه آيات أخر تشهد للّه بالقدرة وأنه بخلقه رحمن رحيم ، فها هي ذي السفن التي تمخر عباب البحر ، وتقطع المسافات ، وتحمل الأثقال ، وهي على ثقلها وضخامتها ، وارتفاعها كالأعلام ، تجرى على سطح الماء ، ولأمر ما لم تغرق في القاع ، واللّه - سبحانه وتعالى - هو الذي خلق الجاذبية وقوة الدفع وقوة الضغط في الماء والهواء ، إن يشأ - سبحانه - يسكن الريح التي تدفع السفينة على الماء فتظل راكدة لا تتحرك إلا بقوة دافعة من بخار أو غيره.
إن في ذلك كله لآيات لكل صبار على البلاء شكور على النعماء ، نعم العبد الصبور الشكور إن أعطى شكر وإن ابتلى صبر ، وهذا هو المؤمن الكامل الذي يتذكر ويتعظ بآيات اللّه وينظر إليها نظرة المعتبر الفاحص.
وإن يشأ يجعل الرياح عواصف تعصف بالسفن فيوبقهن ويهلكهن ، أى : يهلك ركابها ، ويعف عن كثير من أهليها فلا يغرقهم معها ، كل ذلك لتظهر قدرته على كل شيء ، وليعلم الذين يجادلون في آياتنا جدال تكذيب وإنكار إذا توسطوا البحر وغشيتهم الرياح من كل مكان. واصطلحت على سفينتهم حتى أيقنوا بالهلاك عند ذلك يعلمون أن لا ملجأ لهم سوى اللّه ، ولا منجى لهم من عذابه ، ولكنهم بعد ذلك يشركون به ما لا ينفع ولا يضر!! ولا تغرنكم الدنيا وما أوتيتم فيها أيها الكفار فما أوتيتم من شيء من الغنى والجاه والسعة فيها فمتاع الحياة الدنيا الزائل ، وما عند اللّه من ثواب وجزاء فهو خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.(3/372)
ج 3 ، ص : 373
من صفات المؤمنين وجزائهم وأحوال الكافرين وعاقبتهم [سورة الشورى (42) : الآيات 37 الى 46]
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)(3/373)
ج 3 ، ص : 374
المفردات :
كَبائِرَ الْإِثْمِ : ما رتب عليه وعيد شديد وَالْفَواحِشَ : ما فحش وعظم قبحه كالزنا مثلا شُورى : ذو شورى ، أى : أن أمورهم يتشاورون فيها الْبَغْيُ : الاعتداء الظالم سَيِّئَةٍ : هي الفعلة التي تسيء من تنزل به عَزْمِ الْأُمُورِ : معزومات الأمور التي أمر بها اللّه.
مَرَدَّ : رجوع إلى الدنيا سَبِيلٍ : طريق خاشِعِينَ : ذليلين طَرْفٍ الطرف : العين ، والطرف مصدر طرف بصره يطرف طرفا إذا أطبق أحد جفنيه على الآخر والمرة منه طرفة ، يقال : أسرع من طرفة العين مُقِيمٍ : دائم إلى ما شاء اللّه.
ما مضى كان في بيان صفات المؤمنين التي تؤهلهم إلى التمتع بنعيم الجنان الذي هو خير وأبقى وما هنا بيان الكفار وحالهم ليظهر الفرق جليا واضحا.
المعنى :
ما أعده اللّه يوم القيامة خير وأبقى من متاع الدنيا الفاني الذي قد يكون سببا في عدم قبول الحق ، ما أعده اللّه للذين آمنوا باللّه ورسوله. والذين هم من المتوكلين على اللّه المفوضين الأمر إليه. لا الذين هم من المتكلين على أعمالهم خير وأبقى.
والذين يجتنبون كبائر الإثم التي توعد اللّه عليها وعيدا شديدا ، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وإذا ما غضبوا هم يغفرون ويعفون ، تراهم كفوا نفوسهم عن الشر ، وقوتهم الشهوانية عن الفاحشة ، وقوتهم العصبية عن الاسترسال في الشر ، والذين استجابوا لربهم وانقادوا له وأذعنوا لكل ما يريده منهم راضين محتسبين ذلك عنده من صميم قلوبهم وهم مع ذلك يقيمون الصلاة ، وأمرهم يتشاورون فيه فلا يقدم رئيسهم على عمل إلا بعد الاستشارة وأخذ الرأى ، يا سبحان اللّه! تلك هي صفات المؤمنين في كتاب اللّه لم يلفت نظرنا إلى ترك الكبائر والفواحش وإقامة الصلاة والزكاة فقط ، وإنما يبين لنا أن الشورى من مبادئ الإسلام وصفات المؤمنين التي يستحقون بها الفلاح في الدنيا والآخرة حتى تقضى على الدكتاتورية الغاشمة ، فلتهنأ الديمقراطية العربية ففي الإسلام متسع لكل خير وفضل ، وبعد عن كل ضرر وخطر.(3/374)
ج 3 ، ص : 375
ومن صفاتهم أيضا الإنفاق مما رزقهم اللّه ، تلك الاشتراكية المنظمة السليمة من الآفات والعيوب.
وهكذا الإسلام يبين لنا أن من صفات المؤمنين العزة والكرامة ، والاعتزاز بقوة اللّه والوثوق في نصره ، وعلى ذلك فإذا أصابنا بغى وظلم بغير حق وجب علينا أن ننتصر وندافع عن حقوقنا ، وقد كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يغضب جدا إذا انتهكت حرمة من محارم اللّه ، ويغفر ويعفو لمن ينال من شخصه في بعض الأحيان ، والشخص المعتدى عليه ينطبق - إذا كان اعتداؤه بغير قصد ، ولم يكن مصرّا عليه ، وكان في العفو عنه تسكين لفتنة - عليه قوله تعالى : وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ « 1 »
وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى « 2 »
.
وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ « 3 »
وغير ذلك من آيات العفو.
فإن كان في ترك الانتصار جرأة السفهاء ، ومذلة المؤمنين ، وانتهاك حرمة الدين فالانتصار واجب إذ هم يكرهون أن يذلوا أنفسهم حتى يجترئ عليهم السفلة من الناس بل ينتصرون على من بغى عليهم واعتدى واللّه معهم. وعلى ذلك فلا تعارض في الآية.
ولكن رد الاعتداء والانتصار للحق يكون على أى شكل ؟ لقد رد اللّه على هذا بقوله : وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فإن النقصان حيف ، والزيادة ظلم ، وبدء الاعتداء سيئة وشر ، ورده كذلك يسيء من ينزل به ،
لقد صدق الحكيم العربي حيث قال : « الشر بالشر والبادي أظلم » .
فمن عفا عمن ظلمه وأصلح ما بينه وبينه حتى لا يعود إلى الاعتداء فأجره على اللّه وذلك خير بلا شك ، إذ قد شرطنا في القصاص ورد الاعتداء المساواة ، وتحقيقها واقعيا بعيد ، ففي الغالب يكون معه ظلم وزيادة واللّه لا يحب الظالمين ، ومن هنا نعلم أن الشرع يميل إلى العفو ، وأنه أقرب إلى التقوى ، وهذا كما قلنا بشروط موكول أمرها للمسلم.
وهل المنتصر لنفسه معتد أم لا ؟ لا. ولمن انتصر بعد ظلمه والاعتداء عليه أولئك ما عليهم من سبيل ، ولا عقوبة عليهم ، إنما الإثم والعقوبة والسبيل على الذين يظلمون الناس بغير حق ويبدءون بالعدوان على الآمنين الهادئين أولئك لهم عذاب أليم.
___________
(1) - سورة الشورى آية 37.
(2) - سورة البقرة آية 237.
(3) - سورة آل عمران آية 134.(3/375)
ج 3 ، ص : 376
ولمن صبر « 1 »
ولم يقتص حينما اعتدى عليه ، وغفر فإن ذلك لمن عزائم الأمور وعظائمها التي لا يفعلها إلا أصحاب العزائم القوية ،
فقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « ليس الشّديد بالصّرعة إنّما الشّديد الّذى يملك نفسه عند الغضب » .
المعنى :
ومن يضلله اللّه لأن نفسه ميالة إلى الشر والبعد عن الحق بمحض اختيارها ، ومن كان كذلك فما له من ولى بعد اللّه يهديه إلى الحق وإلى الصواب ، وهؤلاء هم الذين أعرضوا عن دعاء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الإيمان باللّه والمودة في القربى ، وهم الظالمون.
وتراهم لما رأوا العذاب يوم القيامة ، وأنه حق لا شك فيه ، ندموا على ذلك وقالوا :
هل من رجوع إلى الدنيا فنعمل عملا صالحا ؟ لما رأوا العذاب آمنوا وتمنوا الرجوع إلى الدنيا ، ولكن هيهات ، وأنى لهم ذلك! وتراهم يعرضون على النار وهم في قبورهم صباح مساء ، يعرضون عليها حالة كونهم خاشعين من الذل ، ينظرون إليها بعيون ضعيفة لأنهم ناكسو الرءوس ذليلون ، فهم ينظرون مسارقة فلا يستطيعون أن يمكنوا عيونهم منها ، وقال الذين آمنوا يوم القيامة : حقا إن الخاسرين هم الذين خسروا أنفسهم حيث حرموا من الجنة ، ودخلوا النار يصلونها نارا مسعرة ، وخسروا أهليهم وأحبابهم لأنهم إن كانوا في الجنة فقد حيل بينهم وإن كانوا في النار فلا فائدة فيهم ، ألا ذلك هو الخسران المبين! وأى خسارة فوق هذا ؟ ألا إن الظالمين لأنفسهم في عذاب مقيم دائم إلى ما شاء اللّه ، وما كان لهم في هذه الحالة من أولياء ينصرونهم متجاوزين اللّه كما كانوا يفهمون هذا خطأ ، ولا غرابة في ذلك فمن يضلله اللّه فلا هادي له ، وما له من سبيل إلى الخير يسلكه!
___________
(1) - هذه اللام أفضل فيها أن تكون لام ابتداء لا قسم.(3/376)
ج 3 ، ص : 377
الأمر كله للّه [سورة الشورى (42) : الآيات 47 الى 50]
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
المفردات :
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ : أجيبوه مَلْجَإٍ : منجى ينجيكم عَقِيماً يقال :
عقمت المرأة تعقم عقما : لم تلد ، وأصل العقم : القطع ، ومنه : ريح عقيم أى :
لا تلقح سحابا ولا شجرا ... وهذا كالنتيجة لما تقدم حيث بين الوعد والوعيد ورتب عليه الأمر بالاستجابة مع تهديد المخالفين وبيان أن الأمر كله للّه.
المعنى :
استجيبوا إلى ربكم إذا دعاكم لما يحييكم ، واعلموا أن اللّه يحول بين المرء وقلبه ، فأجيبوه إلى شرعه بسرعة وبلا تأجيل من قبل أن يأتى يوم لا راد له ، هو يوم القيامة ، اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم وما لكم فيه من منجى ينجيكم من عذاب اللّه ، ولا تقدرون على الإنكار يومئذ.(3/377)
ج 3 ، ص : 378
فإن أعرضوا يا رسول اللّه فدعهم ، فما أرسلناك عليهم حفيظا تحفظهم من الوقوع في الأخطار ، وتقيهم أعمال السوء إنما أنت نذير ، وهاد إلى سواء السبيل ، ما عليك إلا البلاغ فقط ، وعلينا الحساب فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ.
[الغاشية 21 - 26] ثم إن اللّه - تعالى - بين أن السبب في كفر هؤلاء وعنادهم يرجع إلى انغماسهم في المادة ، وغرورهم الباطل بها ، وتكبرهم عن الحق لأنهم أولو قوة وبأس ، ومال وأولاد فقال : ولو أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها واغتر وتكبر ، وإن تصبه سيئة بما قدمته يداه فإنك تراه كفورا جحودا نعم ربه ، وتراه نسى ما كان عنده من نعمة وفضل ، والكافر الذي لا يؤمن باللّه وبصفاته القدسية هو كذلك ، أما المؤمن باللّه حقا فإن أعطى شكر اللّه وازداد خضوعا وإيمانا ، وإن حرم شيئا صبر وآمن بقضاء اللّه وقدره ، وأن للّه ملك السموات والأرض يتصرف فيهما كيف شاء.
للّه وحده ملك السموات والأرض ، وهو صاحب التصريف في هذا الكون يخلق ما يشاء ، ويعطى ويمنع من يشاء ، ويهب لمن يشاء أولادا إناثا ، ويهب لمن يشاء أولادا ذكورا ، ويعطى لمن يشاء ذكورا وإناثا فيزاوج بينهما ، ويجعل من يشاء عقيما فلا يعطيه ولدا بالمرة ، إنه عليم بخلقه قدير على كل شيء.
وليست هناك قوة في الأرض تستطيع فعل غير هذا.
وإذا كان اللّه هو المعطى والمانع أيليق بك أيها الإنسان أن تدعى ادعاء كاذبا أنك أعطيت هذا على علم من عندك ؟ أيليق بك أن تجعل الكفر بدل الشكر والغرور والكبر والغطرسة بدل الخضوع والعبادة والتقديس للّه واجب الوجود المبدئ والمعيد ؟ !
كيفية اتصال اللّه برسله [سورة الشورى (42) : الآيات 51 الى 53]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)(3/378)
ج 3 ، ص : 379
المفردات :
وَحْياً الوحى : إلقاء شيء في القلوب سواء كان في اليقظة أم في المنام رُوحاً : المراد قرآن كالروح.
بدأ اللّه السورة بالكلام على الوحى وخاصة القرآن ، وكذلك ختمها بالكلام على الوحى العام للأنبياء كلهم وخاصة الوحى الذي نزل على خاتمهم وإمامهم صلّى اللّه عليه وسلّم وإنه لختام رائع.
روى في سبب نزول هذه الآيات : أن اليهود قالوا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : ألا تكلم اللّه وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى نبينا ونظر إليه ، فإننا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك ؟
فقال النبي : « لم ينظر موسى إلى اللّه » ونزلت هذه الآيات.
المعنى :
اللّه - جل جلاله وتقدست أسماؤه - له ذات ليست كالذوات ، وله صفات ليست كالصفات ، وهو يخالف جميع خلقه لأن خالق هذا الكون وما فيه من أعاجيب يستحيل عليه أن يشبه شيئا من خلقه ، فهو الواحد في ذاته وصفاته وأفعاله تلك حقائق آمن بها الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة.
ولهذا ما كان لبشر أن يكلمه اللّه إلا بإحدى ثلاث ، إما أن يوحى إليه وحيا بأن ينفث في قلبه ، ويلقى في روعه سواء كان هذا في اليقظة أم في النوم.(3/379)
ج 3 ، ص : 380
وإما أن يكلمه اللّه من وراء حجاب فيسمع الكلام ولا يعرف مصدره كما حدث لموسى - عليه الصلاة والسلام - ، وإما أن يكلم الرسول من البشر بأن يرسل إليه ملكا من الملائكة كجبريل - عليه السلام - فيوحى ذلك الرسول إلى المرسل إليه من البشر يوحى إليه بإذنه ، أى : بأمره - سبحانه وتعالى - وتيسيره ، فيوحى إليه ما يشاء.
وكان لهذه الآية وأمثالها وضع خاص ، وكانت مثار نزاع بين المسلمين كفرقة المعتزلة وفرقة أهل السنة ، ففهم المعتزلة من حصر كلام اللّه - سبحانه - لخلقه في الأحوال الثلاثة أن رؤية اللّه غير جائزة ، وأثبت الرؤية أهل السنة استنادا إلى آيات من القرآن ، على أن الخلاف في رؤية اللّه يوم القيامة ، والحق مع أهل السنة في هذا.
إن ربك عليم بخلقه ، يعلم أن أحدا من خلقه لا يستطيع - مهما كان - أن يقوى على المشافهة أو الوقوف في الحضرة القدسية أو الانغماس في الأنوار الإلهية. ولذا ما كان لبشر أن يكلمه اللّه إلا وحيا أو من وراء حجاب إنه علىّ حكيم يضع الأمور في نصابها فلا اعتراض ولا نقاش.
ومثل ذلك الإيحاء البديع ، الإيحاء الإلهى أوحينا إليك يا محمد روحا من أمرنا .. إى وربي إنه روح من أمر اللّه ، وسر من أسراره ، وأمر لا يدرى كنهه إلا هو ، وهل القرآن روح ؟ ! نعم إنه للدنيا روح ، وأى روح ؟ إنه أحيا العالم ، ونقله من حضيض الجهل إلى ذروة العلم والعرفان. هل يستوي الأعمى والبصير ، أم هل تستوي الظلمات والنور ؟
وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ « 1 »
والواقع عند المنصفين أن القرآن حينما نزل كان نزوله حدّا فاصلا بين عهدين ، وكان مبدأ للحضارة والعلم ، وحياة للناس قضت على ظلمات الجهل.
وهذا هو الدليل على صدق محمد في دعواه الرسالة وأن هذا القرآن من عند اللّه ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [سورة الشورى آية 52].
نعم فالنبي أمى لم يقرأ ولم يكتب وما جلس إلى معلم أو مرشد ، فحقّا وما كان يدرى قبل القرآن الكامل ما الكتاب « 2 »
والإيمان ؟ نعم هذا النبي الأمى العربي يستحيل
___________
(1) - سورة فاطر الآية 22.
(2) - ما اسم استفهام مبتدأ والكتاب خبره والجملة سدت مسد مفعول تدرى ، وجملة ما كنت تدرى كلها حال من الكاف في إليك.(3/380)
ج 3 ، ص : 381
عليه أن يأتى بهذا القرآن الكامل في كل نواحيه ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه رغم كثرة أعدائه وحساده قديما وحديثا ، فحقا إنه تنزيل من رب العالمين.
كيف ينشأ من تلك البيئة رجل يقول مثل هذا الكلام ، ويتحدى به العرب بل كل الناس فيعجز الكل عن الإتيان بمثله ؟ ! فحقا إن النبي ما كان يدرى ما الكتاب ؟ حتى يتصور أن يكون ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه من وضعه.
وما كان يدرى ما الإيمان ؟ والإيمان بأصوله وفروعه وتشريعاته وقوانينه ، هل من المعقول أن يحيط بها فرد نشأ في بيئة أمية كبيئة العرب الجاهلين ؟
ولكن أرسل اللّه رسوله بالهدى ودين الحق بشيرا ونذيرا فأعرض أكثر الناس عنه ، أرسله اللّه وأنزل معه القرآن نورا للناس يهتدى به من استرشد بعقله ، ونظر نظرا بريئا خاليا من التعصب الأعمى ، وإنك يا محمد لتهدى بدينك إلى صراط مستقيم إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ « 1 »
يهدى إلى صراط مستقيم صراط اللّه الذي له كل ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا ، وهو العالم به ، ألا إلى اللّه وحده تصير الأمور.
هذا هو القرآن روحا من عند اللّه ، ونورا يهدى به الناس في ظلمات الحياة ، وهذا هو الرسول يدعو إلى الخير وينادى بنصرة الحق ويهدى إلى صراط مستقيم صراط الذين أنعم اللّه عليهم. ولم يكونوا من المغضوب عليهم ولا الضالين .. اللهم اجعلنا من هؤلاء.
___________
(1) - سورة الإسراء آية 9.(3/381)
ج 3 ، ص : 382
سورة الزخرف
وهي مكية بالإجماع. وعدد آياتها تسع وثمانون آية.
وهي تدور حول الكلام على القرآن ونقاش المشركين ، والاستدلال على وجود اللّه وصفاته بآثاره ونعمه على الناس. وتمتاز هذه السورة بتعداد أباطيلهم ومعتقداتهم الفاسدة والرد عليهم بما يفحمهم ثم الاستشهاد ببعض الرسل السابقين كموسى وعيسى.
مع التعرض لأحوال يوم القيامة بالنسبة للمؤمنين والكافرين إلى غير ذلك من الآيات والحكم القرآنية.
القرآن الحكيم وقريش [سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)(3/382)
ج 3 ، ص : 383
المفردات :
أُمِّ الْكِتابِ المراد : اللوح المحفوظ فإنه أم الكتب السماوية ، أى : أصلها أَفَنَضْرِبُ : أفننحي عنكم القرآن ونمسكه مُسْرِفِينَ : منهمكين في الإسراف وتجاوز الحد بَطْشاً : قوة وشدة وَمَضى : سبق مَثَلُ الْأَوَّلِينَ : صفتهم العجيبة التي تشبه المثل في الغرابة صَفْحاً أى : إعراضا ، يقال : صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه ، والأصل فيه أن يقال : أعرضت عنه إذا أوليته صفحة عنقي.
المعنى :
حم. أقسم ربك بالكتاب المبين إنا جعلنا ما أنزل عليك وصيرناه قرآنا عربيا غير ذي عوج في لفظه أو معناه كي تعقلوا وتفكروا فيه تفكيرا سديدا لتعلموا أنه من عند اللّه لا من عند محمد.
أقسم اللّه بالكتاب لفتا لنظر الناس إليه وبيانا لعظمته المقتضية لأن يقسم اللّه به ، ووصفه بالإبانة لأنه أبان الحق من الباطل ، والهدى من الضلال ، وكان المقسم عليه كونه قرآنا عربيا لإثبات أنه وارد على أساليب العرب فلا يعسر عليهم فهمه وإدراك أسراره وإعجازه ولذا ختم الآية بقوله : لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
ويقول الآلوسي في تفسيره : والقسم بالقرآن على ذلك من الأيمان الحسنة البديعة لما فيه من رعاية المناسبة والتنبيه على أنه لا شيء أعلى منه فيقسم به : ولا أهم من وصفه فيقسم عليه : وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [سورة الواقعة آية 76].
إن هذا القرآن في أم الكتاب لدى الحق - تبارك وتعالى - لعلى ورفيع الشأن وكبير المقام بالنسبة لغيره وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [سورة المائدة آية 48] ، وإنه لعلىّ حكيم ذو حكمة بالغة.
هذا كلام مع مشركي مكة أولا ومع الناس جميعا بعدهم ، فالخطاب لهم وإن كانت العبرة بعموم اللفظ ، هؤلاء المشركون كانوا مسرفين في الإنكار والتكذيب ، وكلما زادهم الرسول دعاء ازدادوا نفورا واستكبارا ، فقال الحق لهم :(3/383)
ج 3 ، ص : 384
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً « 1 »
أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ ؟ على معنى أنهملكم فننحى « 2 »
عنكم الذكر ، أى : القرآن ونبعده ؟ ! لا. لن يترككم اللّه أبدا بل سيظل ينزل عليكم القرآن ويهديكم إلى سبيل الرشاد فربما جاء منكم قوم يؤمنون باللّه ورسوله ، وقد كان فهدى اللّه بعضهم ، ودخل الناس في دين اللّه أفواجا ، وأتم اللّه النعمة وأكمل الدين ورضيه للناس دينا أساسيا هو دين الحق.
ولا تعجب يا محمد من حالهم فتلك سنة اللّه في الخلق جميعا من يوم أن خلق اللّه الخلق إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها ، وكثيرا من الرسل أرسلناهم في الأمم السابقة ، وما أتاهم من رسول أو نبي إلا كانت أمته تكذبه وتستهزئ به ، فنملى لهم نوعا ما حتى إذا استيأس الرسل أهلكناهم ، ف أهلكنا من الأمم أقواما أشد من أمتك بطشا وقوة فلم يغن عنهم شيئا ، وسبق في القرآن كثيرا ذكر أخبارهم التي أضحت كالمثل في الغرابة ، فانظروا يا آل مكة كيف يكون موقفكم ؟ واحذروا بطش العزيز الجبار إن بطش ربك لشديد!!
من نعم اللّه علينا [سورة الزخرف (43) : الآيات 9 الى 14]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)
وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
___________
(1) - صفحا مفعول مطلق لنضرب من غير لفظه كقولك : قعدت جلوسا فإن تنحيته الذكر إعراض.
(2) - يقول علماء البلاغة : في هذه الآية استعارة تمثيلية. شبه حال الذكر وقد نحى عنهم بحال غرائب الإبل. وقد نحيت عن الحوض إذا دخلت مع غيرها للشرب ثم استعمل اللفظ الدال على المشبه به في المشبه ، وقيل : إنها استعارة تبعية في نضرب بمعنى ننحى.(3/384)
ج 3 ، ص : 385
المفردات :
مَهْداً : ممهدة كالبسط المفروشة سُبُلًا : طرقا بِقَدَرٍ : بتقدير فَأَنْشَرْنا : فأحيينا الْأَزْواجَ : الأصناف والأنواع مُقْرِنِينَ : مطيقين أو مماثلين في القوة ، من قولهم : فلان قرن فلانا : إذا ماثله لَمُنْقَلِبُونَ انقلب :
انصرف.
المعنى :
أفنضرب عن المشركين الذكر صفحا لأنهم قوم مسرفون ؟ ولئن سألنهم من خلق السموات والأرض ؟ ومن خلق هذا الكون البديع : سماءه وأرضه ؟ ليقولن مجيبين على ذلك : خلقه العزيز العليم ، والظاهر أن هذه هي الإجابة المتعينة لا غيرها وليس معقولا أن يقولوا ذلك ويصفون اللّه بالعزة والعلم ، وكأن القرآن يتعجب من حالهم : يؤمنون بأنه خالق ثم يشركون معه في العبادة غيره.
اللّه - جل جلاله - الذي خلق السموات والأرض هو الذي جعل لكم الأرض ممهدة معدة للإقامة عليها مع تكورها وسرعة دورانها ، وسلك لكم فيها سبلا وطرقا مائية وزراعية لعلكم بهذا تهتدون إلى وجود الصانع الحكيم ، أو تهتدون إلى مقاصدكم ومصالحكم.(3/385)
ج 3 ، ص : 386
والذي نزل من السماء ماء بتقدير محكم تبعا للمشيئة الإلهية فأنشرنا به بلدة ميتة فأحييناها بالنبات الأخضر والثمر اليانع ، وإن هذا لمشاهد وكثير.
مثل ذلك الإخراج - أى : إخراج النبات الأخضر من الأرض الجدبة القاحلة - تبعثون من قبوركم أحياء للحساب.
وهو الذي خلق الأزواج كلها وأصناف المخلوقات جميعا ، ما نعلمه ومالا نعلمه ، وجعل لكم من الفلك والأنعام - أى : الخيل والبغال والحمير - ما تركبون ، ولعل السفن نوع من أنواع ما يركب ، ورمز للباقي كالطائرة والسيارة وغيرهما مما اخترعه الإنسان لكي تستووا على ظهور ما تركبون ، وتستقروا عليه ثم تذكرون نعمة ربكم الذي أنعم عليكم بهذا تذكرون بلسانكم معترفين مستعظمين بقلوبكم تلك النعم.
وتقولوا : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا لذلك مطيقين ، بمعنى أنه ليس لنا من القوة ما نضبط به الدابة والفلك ، وإنما اللّه هو الذي سخر لنا هذا كله ، وإنا إلى ربنا راجعون وصائرون.
روى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ما معناه أنه كان إذا وضع رجله في ركاب الدابة قال : « باسم اللّه - فإذا استوى قال - الحمد للّه على كلّ حال سبحان الّذى سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين ، وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون. وإذا نزل قال : اللّهمّ أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين » .
ألوان من مفترياتهم وأباطيلهم والرد عليهم [سورة الزخرف (43) : الآيات 15 الى 25]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19)
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)(3/386)
ج 3 ، ص : 387
المفردات :
جُزْءاً المراد : ولدا لأنه جزء من أبيه أَصْفاكُمْ : اختاركم وخصكم بالبنين مَثَلًا المراد : شبها. ظَلَّ وَجْهُهُ : صار كَظِيمٌ : مملوء غيظا يُنَشَّؤُا : يربى وينشأ ومنه النشء.
والنشوء : التربية ، وعليه قولهم : نشأت في بنى فلان الْحِلْيَةِ أى : الزينة فِي الْخِصامِ : في الجدال والنقاش يَخْرُصُونَ : يحدسون ويكذبون أُمَّةٍ الأمة لها معان والمراد منها هنا : الطريقة والمذهب.(3/387)
ج 3 ، ص : 388
المعنى :
ألم تر إلى أولئك المشركين حين يسألون : من الذي خلق السموات والأرض ؟
يقولون : خلقهن العزيز العليم ، يقولون هذا والحال أنهم جعلوا له جزءا من عباده! عجبا وأى عجب ؟
جعلوا للّه من عباده جزءا - أى : ولدا - ولعل تسمية الولد بالجزء لأنه قطعة من أبيه كما
قال العربي « وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشى على الأرض »
. وإثبات الولد للّه محال فإنه يستحيل على خالق السموات والأرض أن يكون له ولد إذ ليس له حاجة به فهو الغنى المتعالي عن الصاحبة والولد ، على أن الولد جزء من الوالد ، وما كان له جزء كان مركبا ، فاللّه إذن مركب ، والمركب بلا شك حادث إذ هو يقبل الاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق ، وتلك كلها أمارة الحوادث فكيف يكون الإله القديم الأزلى الواحد في كل شيء له ولد ؟ ! قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ إن الإنسان الذي يقول بهذا السخف الخالي من الحجة لكفور بين الكفر.
والفخر الرازي - رحمه اللّه - يرى أن الأولى في الآية أن يكون معناها : وجعلوا له من عباده جزءا والباقي للشركاء وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا [سورة الأنعام آية 136].
فهم قد زعموا أن كل العباد ليس للّه ، بل بعضها للّه وبعضها للشركاء ، والذي ساعده على هذا أن الآية التي بعدها لإنكار الولد وهذه لإنكار الشريك فتكون الآيات جامعة.
عجبا لهؤلاء يثبتون للّه ولدا ثم بعد ذلك يقولون : إنه أنثى ، فلو فرض أن له ولدا فإنه يمتنع أن يكون أنثى لأن الابن أفضل من البنت فكيف يتخذ البنات ويعطى لعباده البنين أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى أى : جائرة ، كيف يجعلون للّه البنات وهم إذا بشر أحدهم بالأنثى صار وجهه مسودّا من الحزن والغم ، وهو كظيم ، ويتوارى من القوم من سوء ما بشر به ، ولا يدرى ماذا يفعل في بنته أيمسكها على هون وذل أم يدسها في التراب ألا ساء ما يحكمون .. عجبا لهم إذا كان(3/388)
ج 3 ، ص : 389
ولا بد للّه من ولد فليكن ذكرا لا أنثى. أعموا وجعلوا للّه - سبحانه وتعالى - ما من شأنه أن يتربى في الحلية والزينة ، وأن يكون قعيدا في البيت ، وهو في الخصام والجدال غير مبين ؟ وتلك أوصاف النساء ، انظر إليهم وقد جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن ، وهم العباد المكرمون ، الذين يعبدون اللّه ليلا ونهارا ، ولا يعصونه ما أمرهم ، جعلوا هؤلاء إناثا ، وحكموا بأنهم كذلك.
هذا أيضا مما يستدعى العجب لأنه إثبات بلا دليل ، وقول بلا برهان ، إذ لا دليل عقلي ولا نقلي على ذلك فلم يبق إلا المشاهدة ، وهم لم يشاهدوا خلقهم أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ستكتب تلك الشهادة عليهم ، ويسألون عنها يوم القيامة.
وانظر إليهم ، وهم يتعلقون بما هو أوهى من بيت العنكبوت ، وهي حجة أملاها عليهم شيطانهم إذ قالوا : لو شاء الرحمن ما عبدنا الملائكة ، وهم يقصدون أن اللّه شاء عبادتنا لهم بدليل وقوعها إذ لو لم يشأ منا ذلك لما وقع منا شرك ، وإذا كانت مشيئته حاصلة فكيف يأمرنا بترك العبادة ؟ وهو استدلال باطل بلا شك لأن المشيئة لا تستلزم الأمر إذ هي عبارة عن ترجيح بعض الممكنات على بعض وفقا لعلمه سواء كانت تلك الممكنات حسنة أم قبيحة ، واللّه - سبحانه - يأمر بالخير ويحث عليه ، وقد يشاء لنا غير ما أمرنا به : ونحن لا نعلم حقيقة مشيئته وإرادته حتى يتخلصوا من ذنوبهم وآثامهم! لا. ليس عندهم علم قبل وقوع الفعل أبدا إن هم إلا يظنون ويخرصون.
بل آتيناهم كتابا يدرسون فيه ما شئناه فهم به مستمسكون! لا. لا ، فهؤلاء ليست لهم حجة عقلية ولا حجة نقلية تبرر لهم أفعالهم ، وإنما السبب الحقيقي أنهم يقلدون آباءهم تقليد الأعمى مع التعصب الشديد ولو كانوا على باطل ، بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ طريقة ومذهب وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ.
ولا تذهب نفسك عليهم حسرات فتلك عادة قديمة في الأمم قبلهم ، ومثل ذلك الذي تراه من تشبث المشركين بالتقليد الأعمى وترك الحجة والبرهان تراه كذلك مع الأمم السابقة إذ ما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي في قرية من القرى إلا قال مترفوها وأغنياؤها المنغمسون في المادة المتشبثون بالدنيا المغرورون بها فحقّا
« حب الدنيا رأس كل خطيئة »
إلا قالوا للرسول : إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ.
ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [سورة فصلت آية 43].(3/389)
ج 3 ، ص : 390
قال الرسول لأمته : أتقتدون بآبائكم ولو جئناكم بدين هو أهدى وأفضل مما وجدتم عليه آباءكم من الضلالة والبهتان ؟ ! ويظهر أن كل رسول كان يقول هذا ، ولذا حكى اللّه عن الأمم جميعا قولهم قالوا : إنا بما أرسلتم به أيها الرسل لكافرون.
وماذا كان جزاؤهم ؟ كان الانتقام الشديد والعذاب الأليم ، فانظر كيف كان عاقبة المكذبين ، وانظروا يا أهل مكة كيف أنتم من هؤلاء ؟
إنكارهم النبوة والرد عليهم مع بيان حقارة الدنيا [سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 39]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30)
وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39)(3/390)
ج 3 ، ص : 391
المفردات :
بَراءٌ : برىء فَطَرَنِي : خلقني عَقِبِهِ : ذريته الْقَرْيَتَيْنِ : هما الطائف ومكة ، والرجلان هما الوليد بن المغيرة في مكة ، وعروة بن مسعود الثقفي في الطائف سُخْرِيًّا أى : مسخرا لقضاء المصالح سُقُفاً : جمع سقف وَمَعارِجَ : جمع معرج وهو درج السلم يَظْهَرُونَ : يرتقون ويعلون على السطح وَزُخْرُفاً : المراد به الزينة حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ قيل : هو الذهب خاصة يَعْشُ يقال عشا يعشو : إذا تعامى وتغافل ، وفي القاموس :
العشا سوء البصر نُقَيِّضْ : نسبب له شيطانا الْمَشْرِقَيْنِ المراد : مشرق الشمس شرقا ومشرق القمر غربا الْقَرِينُ : الصاحب ، والصديق.
المعنى :
لقد تقرر في الآيات السابقة أن حب التقليد داء عضال مرض به كثير من الأمم السابقة ، وينشأ من تغلغل المادة في نفوس الناس ، وجاء الإسلام ينعى على مشركي مكة تقليدهم لآبائهم تقليد الأعمى ، وانغماسهم في المادة حتى جعلوها كل شيء ، وهنا يحكى القرآن الكريم مقالة لإبراهيم الخليل أبى العرب الأول ، حين تبرأ من دين آبائه(3/391)
ج 3 ، ص : 392
وأجداده مؤثرا الدليل والنظر السليم ، على تقليد الآباء في الباطل : وإن حالكم أيها العرب لعجيب!! فإذا كنتم مصرين على التقليد مغرمين به فها هو ذا أبوكم إبراهيم أشرف العرب قاطبة أحق بالتقليد من غيره ، فقلدوه في هجر الأصنام ، وترك عبادة الأوثان واحتقار ما عليه الآباء والأجداد إذا كان منافيا للعقل والمنطق السليم.
واذكر إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه : إننى برىء منكم ، وبرىء مما تعبدون من دون اللّه حيث إنها أصنام لا تنفع ولا تضر ، لكن اللّه خلقني فسوانى ، وفطرني وأتمنى على أكمل صورة فإنه سيهدينى مستقبلا ، ويهديني حالا ، إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ تقوم مقام قولك : (لا إله) وقوله : إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي تقوم مقام (إلا اللّه) فكأنه قال : لا إله إلا اللّه ، ومعلوم أن هذه - لا إله إلا اللّه - كلمة التوحيد ، وإبراهيم الخليل جعلها باقية في ذريته وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ : يا بَنِيَّ ، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ « 1 »
جعلها كلمة باقية في عقبه ، ووصى بها بنيه لعلهم يرجعون إلى التوحيد الخالص البريء من الشرك في كل صوره وقد كان ذلك كذلك ، فلا يزال في عقب إبراهيم وذريته من يعبد اللّه حقا إلى يوم القيامة ولكنهم قلة فلم يرجع أكثرهم عن الشرك ، وما عاجلهم ربك بالعقاب الذي يستحقونه بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ على معنى : بل أعطيتهم نعما أخرى غير الكلمة الباقية ليشكروا صاحبها ويوحدوه ، ولكنهم لم يفعلوا بل زاد طغيانهم لغرورهم بالدنيا وتمسكهم بحبها ، فاللّه - سبحانه وتعالى - لم يكتف بأن جعل كلمة التوحيد باقية في ذرية إبراهيم بل متعهم بالنعم التي لا تحصى ، وأرسل لهم رسلا حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ أى : جاءهم الحق على لسان رسول بين المعجزة ظاهر الصدق ، فانظر إلى هؤلاء المشركين : زادهم اللّه من نعمه وأمدهم بفضله ، فلم يزدهم ذلك إلا كفرا وضلالا ، فلما جاءهم الحق من عند اللّه قالوا : هذا سحر ، وإنا به كافرون.
هذه المواقف العجيبة منهم وتلك الأباطيل رأسها وأساسها حب الدنيا وتمتعهم بنعيمها الباطل ، واعتقادهم أنها كل شيء ، ولذلك قالوا منكرين كون محمد اليتيم الفقير رسولا من عند اللّه. قالوا : لو لا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم! أنكروا أساس النبوة فلم يفلحوا فلجأوا إلى طريق آخر فقالوا : النبوة والرسالة درجة رفيعة
___________
(1) - سورة البقرة آية 132.(3/392)
ج 3 ، ص : 393
لا يستحقها إلا رجل شريف ، والشرف عندهم وليد المال ، لذلك أنكروا على محمد بن عبد اللّه الرسالة ، ولكن اللّه يرد عليهم فيفحمهم بقوله : أهم « 1 »
يقسمون رحمة ربك ؟ ! أنكر عليهم أنهم يقسمون رحمة اللّه وفضله على الناس ، وأنى لهم ذلك ؟ وهم أجهل الناس بأنفسهم فكيف يعرفون غيرهم ويعطونه حقه من الفضل ؟ ! نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا. وأعطينا هذا مالا وذاك أولادا ، وهذا مالا ورجالا ، وذلك فقير من المال والرجال. وكذلك في الصحة والنعم الأخرى ، وكان العطاء والمنع لحكم اللّه يعلمها ، لا لشيء آخر.
ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات في الفضل والجاه وغيره فكانت النتيجة أنهم اتخذ بعضهم بعضا سخرياّ! كل يخدم نفسه ، وإن كان في الظاهر يخدم غيره ، ورحمة ربك الشاملة للنبوة وغيرها خير مما يجمعون من حطام الدنيا الفاني.
هذه الدنيا وما فيها من أموال لا تزن عند اللّه جناح بعوضة ، ولو كانت تزن لما أعطى الكافر منها جرعة ماء ، وهي سجن المؤمن ومتاع غيره ، والآخرة خير وأبقى ، ولو لا أن يكون الناس أمة واحدة على ديدن الكفر لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم « 2 »
سقفا من فضة ، ومعارج من فضة كذلك عليها يعرجون ويصعدون ، ويجعلون لبيوتهم أبوابا ولهم سرر عليها يتكئون وتكون من فضة خالصة ، ويجعل لهم زينة في أثاثهم ومتاعهم وقصورهم ومراكبهم تتناسب مع كل زمان ومكان.
لو لا أن يكون الناس كفارا لميلهم إلى الدنيا وزخارفها بطبعهم لجعل اللّه لهم ذلك هوانا للدنيا ، وتحقيرا لشأنها ، وأنها متاع فان لا قيمة له ، ولذا قال ما معناه : وإن كل ذلك « 3 »
إلا متاع الحياة الدنيا ، والآخرة خير وأبقى ، والجنة ونعيمها الدائم قد أعدت عند ربك للمتقين.
ولا عجب في ذلك فإن من يعش عن ذكر الرحمن ، ويتعام عن النظر في القرآن ويصم أذنيه عن سماع الحق يقيض اللّه له شيطانا ، ويهيئ له ذلك لأنه آثر العمى على
___________
(1) - الاستفهام هنا للإنكار والتعجب.
(2) - لبيوتهم بدل من لمن يكفر بالرحمن.
(3) - هذا الحل المعنوي يشير إلى أن لما بمعنى إلا ، وإن بمعنى ما النافية ، وفي قراءة : لما بالتخفيف ، وعليه فما زائدة أو موصولة وصدر الصلة محذوف ، وأن هي المخففة من الثقيلة.(3/393)
ج 3 ، ص : 394
الهدى ، فهو له قرين لا يفارقه ، ودائما يدعوه إلى كل ضلال ، ويزين له كل شر ، لأنه تعامى أولا عن النظر في القرآن ، وإنهم ليصدونهم عن السبيل ، ويحسبون أن الشياطين مهتدون أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً. [سورة فاطر آية 8].
حتى إذا جاءنا الذي عشى عن الحق ورأى أنه كان على ضلال في كل عمله قال مخاطبا الشيطان الذي كان يعتقد أنه على حق في كل ما أمر به : يا ليت بيني وبينك بعدا لاحد له بعد ما بين المشرق والمغرب ، فبئس القرين أنت.
ولن ينفعكم اليوم إذ تبين لكم أنكم ظلمتم ، لن ينفعكم أنكم في العذاب مشتركون.
تقوية العزيمة [سورة الزخرف (43) : الآيات 40 الى 45]
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44)
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
المفردات :
الصُّمَّ : جمع أصم ، وهو من بأذنه صمم نَذْهَبَنَّ بِكَ المراد : قبضناك إلينا فَاسْتَمْسِكْ : تمسك لَذِكْرٌ لَكَ : شرف عظيم به تذكر.(3/394)
ج 3 ، ص : 395
المعنى :
لقد وصف اللّه الكفار بأن في أعينهم ضعفا في البصر ، والمراد أنهم يتعامون عن الحق ، وهنا وصفهم بالصمم والعمى فكان ترتيبا طبيعيا ، وتصويرا رائعا لما عليه الإنسان عند أول اشتغاله بالدنيا وتعلقه بها ، يكون كمن في عينه رمد بسيط ثم إذا أوغل فيها وتمكنت منه كان كالأعمى والأصم.
والمراد إنكار وتعجيب من أن يسمع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مهما كان من في أذنه صمم وفي عينه عمى كان مستقرّا في الضلال المبين لا يفارقه ولو إلى حين ، على أن المقصود بالعمى والصمم هو عمى القلب وصممه فهو عمى معنوي لا حسى ، ومن كان كذلك فقد ختم اللّه على قلبه ، وجعل على عينه حجابا كثيفا فلن يبصر شيئا ولن يسمع خيرا أبدا ، وهؤلاء لا تقدر أنت يا محمد على هدايتهم فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، وتظن أنك قصرت في دعوتهم أبدا ، فإما نذهبن بك ونتوفينك إلينا قبل أن ترى عقابهم في الدنيا ، فثق أنا منهم منتقمون أشد انتقام لموقفهم هذا ، وإما نرينك في حياتك الذي وعدناهم من الذل والهوان ونصرة الحق ، ودخول الناس في دين اللّه أفواجا فإنّا عليهم مقتدرون ، واللّه بكل شيء محيط. وعلى كل شيء قدير. فكن قرير العين مطمئن القلب إلى نصر اللّه ، واللّه ينصر من يشاء.
وإذا كان الأمر كذلك فاستمسك بالذي أوحى إليك من القرآن ، وتمسك بأهدابه واحرص عليه ، واعمل به ، وادع الناس إليه مهما كلفك هذا.
لما ذا ؟ لأنك ما دمت متمسكا به فأنت على الصراط المستقيم.
وعلى أنه ذكر لك ولقومك ، وشرف عظيم وأى شرف يدانيه لك ولقومك ؟
فالعرب - كما يقص علينا التاريخ - كانوا قبل البعثة المحمدية محصورين في شبه الجزيرة العربية لا يحس بهم أحد من جيرانهم ، وكانوا في شظف من العيش ، وتحلل في الخلق ، وتقاتل وتنازع لأتفه الأسباب ، وكانوا في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش 3 ، 4].
فلما أراد اللّه أن يبرز من هؤلاء الرعاة الجفاة الغلاظ الأكباد المتقاطعين المتباذلين أمة ذات حضارة ومدنية وعلوم ومعارف ، ونهضة وحكومة ، وجيش وقيادة ، أمة لها(3/395)
ج 3 ، ص : 396
سلطان ونظام مالي ورجال ، لما أراد ذلك من عليهم بأن أرسل من أنفسهم رسولا يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وظلت الأمة العربية وستظل إن شاء اللّه أمة ترنو لها الأبصار ، وتحط عندها الرحال ، ولها الأثر الكبير في توجيه السياسة العامة للعالم كله.
فحقا إنه لذكر لك ولقومك! وسوف تسألون عن هذا كله يوم القيامة.
وكان من أهم أسباب نفرة المشركين عن الإسلام أنه دين يدعو إلى التوحيد وذم الأصنام وترك عبادة الأوثان ، فجاء القرآن بشتى الصور يبين أن أمر التوحيد ليس بدعا عند الإسلام بل هو أساس كل دين. وقال : واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا ..
الآية.
واسأل من أرسلنا من الرسل قبلك ، أجعلنا « 1 »
من دون الرحمن آلهة يعبدون فالمسئولون هم الرسل ولذلك فالآية مكية ، وقيل : المسئول أمم الرسل ، وعلى ذلك فالآية مدنية ، ونص القرآن يحتمل هذا وذاك ، وليس المقصود على الرأيين نفس السؤال بل المراد انظر في أديانهم وابحث عن مللهم وادرس كتبهم التي لم تحرف لترى جواب هذا السؤال ، وأن الأديان كلها متفقة على التوحيد الخالص البريء ، وعلى نفى عبادة غير اللّه.
فأقروا بذلك يا أهل مكة واعملوا على هذا الأساس ، وآمنوا باللّه ورسوله حقا يؤتكم كفلين - جزأين - من رحمته ويدخلكم الجنة عرفها لكم.
___________
(1) - الاستفهام للإنكار. [.....](3/396)
ج 3 ، ص : 397
العبرة من قصة موسى وفرعون [سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 56]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)(3/397)
ج 3 ، ص : 398
المفردات :
يَنْكُثُونَ : ينقضون العهد الذي جعلوه على أنفسهم مَهِينٌ : ضعيف فقير فهو يمهن نفسه في قضاء حاجاته يُبِينُ يقال : أبان عن رأيه بمعنى يفصح عنه أَسْوِرَةٌ : جمع سوار ، وهو حلية تلبس في اليد آسَفُونا : أسخطونا وأغضبونا سَلَفاً : قدوة لغيرهم من الكفار وَمَثَلًا : عظة وعبرة لمن يأتى بعدهم.
ولقد طعن الكفار في نبوة سيدنا محمد بن عبد اللّه ، وقالوا : لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ، ولقد رد اللّه عليهم مقالتهم وألقمهم حجرا ، ثم بعد هذا ساق قصة موسى مع فرعون هنا عبرة وعظة وسلوى ، وليعلم الناس أن ذلك سلاح قديم ، وتلك مقالة - لو لا نزل هذا القرآن .. الآية - سبقهم إليها فرعون وقومه فكانت عاقبة أمرهم خسرا ، ونجى اللّه المؤمنين بفضله.
المعنى :
وتاللّه لقد أرسلنا موسى ، ومعه الآيات التسع - التي تقدم ذكرها في سورة الإسراء وغيرها - أرسلناه إلى فرعون وملئه ليخرج بنى إسرائيل من كيد المصريين وظلمهم حتى إذا خرجوا من مصر ونزلت عليهم التوراة وفيها هدى ونور وكانت لهم شريعة ، وكان منهم المؤمنون ، وكثير منهم فاسقون - كما عرفت ذلك فيما مضى - فلما أرسل موسى لفرعون وملئه قال لهم : إنى رسول رب العالمين إليكم ، فطلبوا منه الآيات فلما جاءهم بها - كالعصا واليد - إذا هم منها يضحكون بسرعة وخفة ، وبدون نظر ولا بحث ، أى : لما جاءتهم الآيات فاجأوا المجيء بها بالضحك عليها سخرية من غير توقف ولا تأمل ، وهذا المعنى الذي هو السرعة والمفاجأة بالضحك استفيد من قوله تعالى :
إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ [سورة الزخرف آية 47].
ما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها ، بمعنى أن كل آية تعد كأنها أكبر من أختها وزميلتها ، إذ كل واحدة لكمالها في نفسها ووفائها بالغرض المقصود منها كأنها أكبر من زميلتها ، كما قالت أعرابية وقد سئلت عن بنيها : أيهم أفضل ؟ فقالت : « هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها » وكما قال الشاعر :(3/398)
ج 3 ، ص : 399
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسرى بها السارى
فلما لم يؤمنوا أخذهم ربك بالسنين ، وأصابهم بنقص الزرع وقلة الضرع وسلط عليهم القمل والضفادع والدم .. إلخ ، لعلهم يرجعون ويثوبون إلى رشدهم.
وقالوا لما رأوا الآيات تترى عليهم ، وسخط ربك حالا بهم : يا أيها الساحر ، قيل :
هو خطاب تعظيم عندهم - ادع لنا ربك بما عهد عندك من النبوة لئن كشفت عنا العذاب الذي نزل بنا لنؤمنن لك ولنرسلن معك بنى إسرائيل ، وإننا لمهتدون إلى الصواب وإلى الحق الذي تدعو إليه ، فلما كشفنا عنهم العذاب فاجأوا الكشف عنهم بأنهم ينكثون العهود وينقضون المواثيق.
هذا ما كان من أمر القوم وخاصة الملأ منهم ، أما فرعون ملك مصر فها هي ذي أعماله : ونادى فرعون في قومه بأن جمعهم في مكان واحد كالسوق مثلا ، أو جمع أشرافهم وهم بلغوا عنه فكأنه نادى فيهم جميعا ، فماذا قال ؟ قال : يا قومي أليس لي ملك مصر « 1 »
؟ وهذه الأنهار - فروع نهر النيل - تجرى من تحتي ، وتسير بأمرى ، وأنا صاحب التصرف في كل ما ينتج عن جريها من مزروعات وغيرها. وعلى أنها كانت تجرى من تحت قصره ، أفلا تبصرون تلك الحقائق ؟ بل تبصرون أنى أنا خير من هذا الذي هو فقير وضعيف مهين يمتهن نفسه في قضاء مصالحه بنفسه ولا يكاد يبين ويفصح عن حجته بقوة وذلاقة لسان ، وحسن تصرف يا سبحان اللّه!! هذه حجة فرعون الطاغية ، وهي مشابهة تماما لحجة مشركي مكة ، والعاقبة والنهاية واحدة.
فهلا ألقى عليه أسورة من ذهب تجيء له من قبل ربه الذي يدعى أنه رب السموات والأرض!! أو تجيء مع موسى الملائكة كما يدعى متعاونين مجتمعين ليؤيدوه ويدفعوا عنه!! هكذا لا يؤمن بعقله بل يؤمن إذا رأى ببصره!! فاستخف قومه فأطاعوه بمعنى أنه طالبهم بالخفة والسرعة في الإجابة لما يطلب فأطاعوه لخفة عقولهم وسوء تفكيرهم ، ولا غرابة في ذلك إنهم كانوا قوما فاسقين.
فلما آسفونا وأغضبونا وأسخطونا بأعمالهم السيئة التي لم يرتدعوا عنها رغم كثرة التنبيه وتوالى النذر ، فلما آسفونا انتقمنا منهم بعذاب بئيس فأغرقناهم أجمعين ، ونجى
___________
(1) استفهام المراد منه التقرير ، أى : قروا بما تعرفونه من أنى ملك مصر.(3/399)
ج 3 ، ص : 400
اللّه موسى ومن معه من المؤمنين ، فجعلهم ربك سلفا وقدوة لمن يأتى بعدهم من الكفار وجعلهم مثلا وعبرة وعظة للآخرين من الأمم.
فانظروا يا آل مكة أين أنتم من هؤلاء! وكيف عاقبة الكفار الظالمين ؟ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ [يونس 92] وأما أنتم أيها المؤمنون فثقوا بنصر اللّه لكم ، فاللّه ينصر من ينصره ، ويدافع عن الذين آمنوا ، ألم تروا إلى فرعون وملئه مع قوة بطشه ونفاذ حكمه في جنده ، وهذا موسى الضعيف المسكين مع بنى إسرائيل وقد نصرهم اللّه على عدوهم ؟ !
بعض مفترياتهم والرد عليها [سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 66]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66)(3/400)
ج 3 ، ص : 401
المفردات :
يَصِدُّونَ : صدّ يصدّ بمعنى : يضج ويضحك جَدَلًا أى : لأجل الجدل والمراء خَصِمُونَ : شديد والخصومة لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أى نزوله علامة للساعة.
فَلا تَمْتَرُنَّ بِها : لا تشكّنّ فيها. بِالْحِكْمَةِ أى : أصول الدين عامة.
بَغْتَةً أى : تبغتهم بغتة وتأتيهم فجأة.
لقد عدد القرآن الكريم في هذه السورة مفترياتهم ورد عليهم ردودا أفحمتهم ، وتتخلص هذه الأباطيل في : (1) أنهم جعلوا للّه من عباده جزءا (2) جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا (3) قولهم : لو شاء الرحمن ما عبدنا الأصنام (4) قولهم : لو لا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (5) هذه الآية التي نحن الآن معها تفيد أنه لما ضرب ابن مريم مثلا أخذ القوم يضجون ويصوتون فرحا واستبشارا ، تلك هي المفتريات الخمس التي ذكرت في هذه السورة ودار الكلام فيها حول هذه الموضوعات.
روى أن عبد اللّه بن الزبعرى قال للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : أنت قلت : إنكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم ، قال النبي : نعم ، قال ابن الزبعرى : أليست اليهود تعبد عزيرا ، والنصارى تعبد عيسى ، وبنو مليح يعبدون الملائكة ؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « بل هم يعبدون الشّيطان » ونزل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [سورة الأنبياء آية 101] ونزل قوله تعالى : وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ.
المعنى :
ولما ضرب ابن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلا ، وحاجك بعبادة النصارى له حيث قال : أليست النصارى تعبد المسيح وأنت يا محمد تقول : إنه كان نبيا وعبدا من عباد(3/401)
ج 3 ، ص : 402
اللّه صالحا فإن كان في النار فقد رضينا أن نكون وآلهتنا مع عيسى ابن مريم ، وقد فرحت قريش بهذه المحاجة وضحكوا وارتفعت أصواتهم ، وهذا المعنى قوله تعالى : إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ.
وقالوا تمويها بالباطل الذي يغتر به ضعاف العقول : أآلهتنا خير أم عيسى ؟ أى أآلهتنا عندك خير أم عيسى الذي هو خير كما تزعم في النار فلا بأس أن تكون آلهتنا معه.
ما ضربوا لك هذا المثل إلا مجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق ، وأنى لهم ذلك ؟ بل هم قوم خصمون شديد والخصومة والجدال ، يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم ، ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
وكيف يدخل عيسى في عداد ما هو حصب جهنم كما تدعون وتضربون به الأمثال ؟
ما عيسى إلا عبد من عباد اللّه أنعمنا عليه بالنبوة فهو مرفوع القدر والمكانة ، ولكنه لا يستحق العبادة والتقديس لأنه عبد اللّه ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وقد جعلناه مثلا ، أى : أمرا غريبا حقيقا بأن يسير مسيرة الأمثال لأنه خلق من غير أب إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ جعلناه مثلا وأرسلناه لبنى إسرائيل ، وكانت معجزاته إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، ومع هذا كله فهو لا يستحق العبادة. وإنما يستحق العبادة القادر الموجد المحيي المميت الذي خلق عيسى وغيره ، ولو يشاء لجعل بدلكم ملائكة في الأرض يخلفونكم في عمارتها فهو على كل شيء قدير ، ولو يشاء لجعل منكم يا رجال مكة ملائكة مع أنها ليست من جنسكم كما خلق عيسى بلا أب ، ملائكة تخلفكم في عمارة الأرض كما تخلفكم أولادكم لتعلموا أن اللّه هو القادر ، ولتعلموا أن الملائكة خلق من خلق اللّه فكيف يعبدون ؟ وبأى شكل تقولون إنهن بنات اللّه ؟ وإن عيسى سينزل آخر الزمان كما نطق بذلك صريح الأحاديث في الكتب الصحاح ، وإن نزوله لعلم للساعة إذ هو من أشراطها أى علاماتها ، أو أن خلقه بلا أب أو إحياءه الموتى في معجزاته دليل على إمكان الساعة وصحة البعث. فلا تشكن فيها واتبعونى يا أمة محمد ، وقيل : إنها من كلام عيسى لأمته ، هذا صراط مستقيم ، ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو ظاهر العداوة.
ولما جاء عيسى بالآيات التي تدل على صدقه ، وأنه رسول اللّه إلى بنى إسرائيل قال لهم : قد جئتكم بالحكمة وأصول الدين العامة كتوحيد اللّه ، وإثبات اليوم الآخر(3/402)
ج 3 ، ص : 403
والتصديق بكتب اللّه ورسله ، وجئت لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه من أحكام التوراة التي نزلت على موسى فيحل حلالها ، ويحرم حرامها ، ويقضى بالعدل بين بنى إسرائيل ، فاتقوا اللّه وأطيعونى ولا تخالفوني ، إن اللّه هو ربي وربكم فاعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا ، هذا هو الصراط المستقيم الذي نزل به عيسى فكيف يكون إلها فكيف يكون حالكم يا كفار مكة وهذا عيسى ابن مريم دعا إلى عبادة اللّه وحده وعدم الإشراك به ، وهذا موجود في الإنجيل على تحريفه وتبديله ، انظر إليه في إنجيل يوحنا « وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته » فاختلف الأحزاب والجماعات من بعد موت عيسى وانقضاء أجله في الدنيا اختلفوا في أمره اختلافا بينا كله خطر وكفر صريح فقال البعض : إنه إله ، وقال آخرون : إنه ابن الإله ، وقد عرفتم الحق في عيسى : يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [سورة النساء آية 171].
فويل للذين كفروا منهم ، وظلموا أنفسهم وغيرهم ، من عذاب يوم القيامة! هل ينظر كفار مكة وينظرون إلى الساعة أن تأتيهم فجأة ، وتبغتهم بغتة ، وهم في الدنيا ونعيمها الزائل ساهون ولا هون فلا يشعرون : ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ. فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس 49 ، 50].
بعض أحوال يوم القيامة [سورة الزخرف (43) : الآيات 67 الى 80]
الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)
وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)(3/403)
ج 3 ، ص : 404
المفردات :
الْأَخِلَّاءُ : جمع خليل ، وهو الصاحب والصديق تُحْبَرُونَ في الأساس يقال : حبره اللّه : سره ، والكلمة تدل على ظهور أثر السرور على الوجه بِصِحافٍ أى : بقصاع ، والصحفة : إناء يوضع فيه الأكل يكفى خمسة ، وفي الأساس الصحفة : القصعة المسطحة وَأَكْوابٍ : جمع كوب وهو إناء أشبه ما يكون بالكوبة التي نستعملها الآن وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ يقال : لذ الشيء يلذ لذاذة ولذذت بالشيء ألذ به لذاذة : وجدته لذيذا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ : لا يخفف عنهم بجعل العذاب على فترات مُبْلِسُونَ : ساكتون سكوت يأس ماكِثُونَ : مقيمون أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً : بل هم أحكموا أمرا ضد النبي والإبرام : الفتل الثاني ، والأول يسمى سحيلا وهذا بيان لبعض أحوال يوم القيامة التي تصادف المؤمن والكافر ، وهذا بلا شك نظام محكم دقيق إذ بعد بيان ما اجترحه الكفار وأنهم في انتظار الساعة التي تأتيهم بغتة يبين لهم بعض أهوالها وأحوالها التي ستصادف مؤمنهم وكافرهم.(3/404)
ج 3 ، ص : 405
المعنى :
يبين اللّه - سبحانه وتعالى - أن في طبع الإنسان وغريزته استشارة غيره وخاصة في مهمات الأمور ، وقد كان الناس يتشاورون في شأن الدعوة الإسلامية فمنهم من كان صديقه وخليله يدعوه إلى الخير ويحثه على سلوك الطريق المستقيم ، ومنهم من كان صديقه وخليله يدعوه إلى الشر ويحثه عليه ، فإذا رأى يوم القيامة أن عمله كان خطأ ، وأن مشورة خليله كانت وبالا عليه أنحى باللائمة على صديقه ، بل يصير عدوا من ألد أعدائه ، وينسب إليه كل أفعاله طالبا من اللّه عقابه أشد العقاب ، وقد قص القرآن علينا صورا كثيرة مما سيحصل بين التابعين والمتبوعين والقادة والعامة.
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ، فإنهم يظلون على صداقتهم التي أنتجت لهم الخير ، وهدتهم إلى الحق ، فهم على سرر متقابلون ، وعلى الأرائك ينظرون. وقد نزع اللّه ما في صدورهم من غل ، ويقال لهم تطمينا وتثبيتا : يا عبادي لا خوف عليكم فيما مضى ولا أنتم تحزنون في المستقبل ، ويقال لهم تكريما : ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم حالة كونهم مسرورين ، ويطاف عليهم بصحاف من ذهب ، وأكواب من فضة ، فيها من الشراب والطعام ما لا عين رأته.
روى الترمذي عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلا سأل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم هل في الجنة من إبل ؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « إن يدخلك اللّه الجنّة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذّت عينك »
نعم في الجنة ما تشتهيه الأنفس ، وتلذه الأعين من كل شيء لا يقع تحت الوصف ، ولا يدركه العقل ، فإن ذكر طرف منه فتقريب للخيال ، وتصوير لبعض ما هنالك
« فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر »
وأنتم أيها المؤمنون مع هذا فيها خالدون ، ويقال لكم : تلك الجنة التي استحققتم متاعها كما يستحق الوارث ميراثه بسبب ما كنتم تعملون ، لكم فيها فاكهة ، ولكم فيها ما تدعون.
هذا هو الوعد الذي وعده اللّه للمتقين ، وأما وعيد الكافرين فها هو ذا : إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون إلى ما شاء اللّه ، عذاب دائم مقيم ، لا يخفف عنهم فيها بل هم فيها ماكثون ، وهم من رحمة اللّه آيسون وساكتون ، وما ظلمهم ربك ، ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم بالشرك والمعاصي.(3/405)
ج 3 ، ص : 406
هؤلاء المجرمون تمر عليهم فترات طوال ، ففي فترة يسكتون ولا يتكلمون ، ولا يؤذن لهم فيعتذرون ، وفي حالة أخرى ينادون : يا مالك ادع لنا ربك حتى يقضى علينا بالموت والهلاك ، فنخرج من ذلك الموقف الشديد وهذا العذاب الأليم ، فيسكت مالك ولا يجيب زمنا اللّه أعلم به ، ثم يقول لهم : إنكم ماكثون.
وقد
روى أن أهل النار استغاثوا بالخزنة وسألوهم أن يخفف عنهم ربهم يوما واحدا من العذاب فردت الخزنة عليهم أسوأ رد وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ « 1 »
فلما يئس الكفار مما عند الخزنة نادوا مالكا ليسأل لهم ربهم الموت فسكت عنهم لا يجيبهم ثمانين سنة ثم بعدها قال لهم : إنكم ماكثون.
وذلك لأنا جئناكم في الدنيا بالحق الذي لا شك فيه ، وفيه الخير لكم فلم تقبلوه وكان أكثركم - أى : رؤساؤكم - للحق كارهين.
بل أبرم مشركو مكة أمرا ، وكادوا كيدا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فإنا مبرمون كيدنا حقيقة أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ « 2 »
فالآية تشير إلى ما كان منهم من تدبير قتله - عليه الصلاة والسلام - في دار الندوة بمكة ، وإلى ما كان من إحباط تلك المؤامرة ورد كيدهم في نحورهم وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ « 3 »
.
بل أهم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم ؟ وكيف لا يسمع سرهم ونجواهم علام الغيوب الذي يعلم السر وأخفى وهو العليم بذات الصدور ، بل يسمعها ويطلع عليها رسله التي جعلها معقبات من بين أيديهم ومن خلفهم يكتبون كل ما صدر عنهم من الأفعال سرا أو جهرا ليلا أو نهارا.
فيا خير من تكتب له الحسنات ، ويا ويل من تكتب له السيئات.
___________
(1) - سورة غافر الآيتان 49 و50.
(2) - سورة الطور آية 42.
(3) - سورة المائدة آية 67.(3/406)
ج 3 ، ص : 407
استحالة الولد والشريك للّه [سورة الزخرف (43) : الآيات 81 الى 89]
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
المفردات :
فَذَرْهُمْ : اتركهم يَخُوضُوا يقال : خاض الماء يخوضه : اقتحمه ، وخاض في الحديث ويخوض مع الخائضين ، أى : يبطل مع المبطلين تَبارَكَ : تعالى وتعاظم وزادت بركاته وخيراته يُؤْفَكُونَ أفك يأفك بمعنى الكذب ، أى : فكيف يكذبون فَاصْفَحْ : أعرض عنهم قِيلِهِ : القيل والقال والمقالة واحد.
من أهم الأغراض مناقشتهم في قولهم : إن للّه ولدا ، وإشراكهم به غيره ، ولذا ختم اللّه السورة بالكلام عليه مع ذكر الأدلة الدامغة التي تهدم قولهم هذا.(3/407)
ج 3 ، ص : 408
المعنى :
قل يا محمد لهؤلاء المشركين - أيا كانوا - للذين يثبتون للّه ولدا ، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا!! قل لهم : إن كان للرحمن ولد ، وصح هذا في شرعة الإنصاف وثبت بالدليل القاطع أن له ولدا ، إن صح هذا فأنا أول العابدين لذلك الولد المقدسين له لأنه ابن الإله ، وابنه جزء منه وله منزلته ، سبحانه وتعالى عما يصفونه به من كونه له ولد ، سبحان رب السموات والأرض رب العرش والكرسي ، سبحان اللّه واجب الوجود الحي الذي لا يموت ، صاحب هذا الملك والملكوت ورب السماء والأرض وما فيها ، سبحانه أنى يكون له ولد ؟ فإن ربوبيته لهذا الكون سمائه وأرضه تدل على أنه ليس شيء فيهما جزءا منه سبحانه ، وإلا لما كان واجب الوجود لذاته ، وكان مركبا من أجزاء انفصل منها جزء كوّن ولدا ، وكان له حتما صاحبة ، واللّه - جل جلاله - منزه من كل ذلك ، وإلا لكان حادثا غير مخالف للحوادث.
وإذا كان الأمر كذلك فذرهم يا محمد واتركهم يخوضون في أباطيلهم التي هي كالبحر أو أشد ، ويلعبون في دنياهم حتى يلاقوا يومهم الموعود بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ « 1 »
والمقصود بذلك تهديدهم ، يعنى قد ذكرت الحجة القاطعة على فساد من يقول بالولد للّه ، وهم لم يلتفتوا إليها لأنهم غارقون في دنياهم طالبون للمال والجاه والسلطان ، فاتركهم لهذا في باطلهم يعمهون.
واللّه - سبحانه - ليس له ولد كما ثبت ، وليس له مكان بل هو في كل مكان ، ويستحيل عليه المكان لأنه يكون محدودا محصورا له أبعاد ونهاية وتلك كلها من صفات الحوادث واللّه منزه عنها ، وهو معبود في السماء ومعبود في الأرض ، وهو الواحد في كل شيء لا يحده زمان ولا مكان ، وهو الحكيم في كل أعماله العليم بكل أحوال خلقه ، ولا تنس أن هاتين الصفتين تتنافيان مع إثبات الولد ، فالنصارى يقولون : عيسى ابن اللّه مع أنهم يثبتون له الجهل وعدم الحكمة في بعض التصرفات ، ألا ترى أنه كان يبكى عند ما سمع بقتل برىء ويطلب من أتباعه أن يدلوه على قبره كما ورد في الإنجيل. فهل
___________
(1) - سورة القمر آية 46.(3/408)
ج 3 ، ص : 409
يعقل أن يكون إلها ؟ ! وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما ، وعنده علم الساعة ، وإليه ترجعون ، وهذه صفات كلها تتنافى مع إثبات ولد للّه كعيسى ، فإنه كان محتاجا لغيره وكان يأكل الطعام ، وكان يجهل بعض ما حوله ، وما كان يعرف من علم الغد شيئا ، وكان يخاف من اليهود ، ومن العجيب أن النصارى تقول بألوهيته أو أنه ابن الإله ومع ذلك تقول بأنه صلب وقتل ، وابن الإله الذي خلق هذا الكون له ملكه وتصريفه وهو العليم بكل شيء لا بد أن يكون كأبيه في هذا ، وعيسى بإقراره لم يكن كذلك.
وكيف يثبتون له شركاء ؟ ولا يملك الذين يدعونه من الأصنام وغيرها الشفاعة لأحد أبدا إلا الذين شهدوا بالحق وهم يعلمون كعيسى وعزير والملائكة فإنهم يشفعون بإذنه لمن يشاء ويرضى.
ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ؟ ليقولن : إنه خلقهم فكيف يصرفون عن عبادته وحده إلى الإشراك به ؟ ! واذكر وقت قيله : يا رب ، إن هؤلاء قوم لا يؤمنون. وإذا كان الأمر كذلك فاصفح عنهم وأعرض ، وقل أمرى معكم سلام ومتاركة إلى حين. وأما هم فسوف يعلمون عاقبة هذا الكفر ، وتلك المفتريات التي تقدم ذكرها ، سيعلمون غدا نتيجة ذلك كله في الدنيا والآخرة.(3/409)
ج 3 ، ص : 410
سورة الدخان
مكية باتفاق ، وهي سبع وخمسون آية. وتشمل على بيان عظمة القرآن ، وتهديد المشركين. وضرب الأمثال لهم بفرعون وقومه ونهايته ، ثم إثبات البعث ومناقشتهم فيه ، وبيان بعض أحواله الخاصة بالكفار والمؤمنين. ثم ختمت كما بدئت بالكلام على القرآن.
ذلك هو القرآن الكريم [سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)(3/410)
ج 3 ، ص : 411
المفردات :
الْمُبِينِ : صاحب البيان الواضح لكل ما يحتاج إليه الإنسان في أمور دينه ودنياه مُنْذِرِينَ أى : مخوفين به يُفْرَقُ : يفصل ويبين حَكِيمٍ : محكم لا لبس فيه مُوقِنِينَ أى : تريدون اليقين من الأمور يَلْعَبُونَ اللعب : الشغل بما لا يجدي. فَارْتَقِبْ : انتظر. بِدُخانٍ : دخان النار معروف. يَغْشَى النَّاسَ : يحيط بهم من كل جانب مُعَلَّمٌ أى : يعلمه غيره نَبْطِشُ البطش :
الأخذ بقوة وشدة.
المعنى :
حم. أقسم ربك بالقرآن الكريم الذي هو الكتاب المبين على أنه أنزل القرآن في ليلة مباركة كثيرة الخيرات. وهذا النسق من الكلام يدل على أن اللّه يعظم القرآن غاية التعظيم حيث أقسم به على أنه أنزل في ليلة مباركة. وهذا شبيه بقولك لصديق لك :
أقسم بحقك عليك.
واللّه - سبحانه - يقول في سورة البقرة : شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ويقول : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ويقول هنا : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ومن هذه النصوص الصريحة يتبين لنا أن القرآن نزل في ليلة مباركة هي ليلة القدر. وهذه الليلة إحدى ليالي شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن حتى تتوافق جميع النصوص القرآنية ، ولعل إبهامها ليترقبها الناس في ثلاثين ليلة ، والكتاب المبين إنا أنزلنا هذا القرآن في ليلة مباركة - هي ليلة القدر لا ليلة نصف شعبان كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء - إنا كنا منذرين الناس بهذا القرآن. والقرآن الكريم نزل منجما تبعا للحوادث في ثلاث وعشرين سنة بين مكة والمدينة المنورة. والمعروف أن بدء نزوله كان في ليلة القدر التي هي الليلة المباركة ، وقيل : إن معنى نزوله فيه أنه نزل إلى السماء الدنيا في تلك الليلة واللّه أعلم بذلك.
وهذه الليلة المباركة وصفت هنا بصفات مشابهة لصفاتها في سورة القدر ، فقال جل شأنه : فيها يفرق كل أمر حكيم ، أى : يفصل ويبين كل أمر محكم ذو حكمة يدل على حكمة بالغة للّه تعالى. وهذه الأمور المحكمة يزداد شرفها بأنها أمر من عند الحق -(3/411)
ج 3 ، ص : 412
تبارك وتعالى - وكما اقتضاه علمه وتدبيره ، ثم قال : إنما فعلنا ذلك لأجل أننا كنا مرسلى الرسل لإنفاذ العلم بكل فعل ، فهي رحمة حقيقية لأنها صادرة من إله سميع عليم ، وهو رب السموات ورب الأرض ، ورب ما بينهما من كل شيء بعد. وإذا كان المنزل للقرآن موصوفا بالجلالة والعظمة والكبرياء والربوبية كان القرآن الذي أنزله في غاية الشرف والرفعة. إن كنتم تريدون اليقين وتطلبون الوصول إلى الحقائق فاعلموا ذلك ، واعرفوا أن الأمر كما ذكر القرآن.
كانوا يقرون بأن اللّه خالق السموات والأرض ، فقيل لهم : إن إرسال الرسل وإنزال الكتب معهم رحمة من اللّه السميع العليم الذي هو رب السموات والأرض إن كان إقراركم بأنه خالق السماء والأرض عن علم ويقين فآمنوا بذلك ، ثم رد اللّه - سبحانه - أن يكونوا موقنين فقال : بل هم في شك يلعبون. وإن إقرارهم غير صادر عن علم ويقين ، وإذا كان الأمر كذلك فارتقب يوم تأتى السماء بدخان بين ظاهر ، أمروا بأن ينتظروا اليوم الذي يثار فيه عليهم الغبار الذي يغشى الناس ويحيط بهم وهذا عذاب أليم بلا شك. وهل هذا اليوم لقريش في الدنيا ؟ والمراد بالغبار جوع وفقر ؟ أو غبار الحرب في يوم بدر أم المراد بذلك اليوم يوم القيامة وعذابها الذي يحيط بكل كافر وهم أولهم ؟
اللّه أعلم.
ويقولون : ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون ، فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم يرجعون إلى ما كانوا عليه ، ولم يذكروا هذا العذاب ، وأنى لهم الذكرى ؟
ويقولون : ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون ، فلما كشفنا عنهم أعرضوا عن النبي وآياته الظاهرة ، وقالوا : إنما يعلمه بشر ، وقد أعانه على هذا القرآن قوم آخرون ، ومنهم من كان يقول : إنه مجنون ، وهذا يؤيد من يقول : إن الآيات نزلت في قريش.
إنا كاشفو العذاب قليلا : إنكم عائدون إلى الكفر ، فهم قوم لا يوفون بالعهد ، بل هم في حال الشدة يتضرعون إلى اللّه فإذا نجاهم وزال الخوف عنهم عادوا إلى الكفر وتقليد الآباء في الشرك.
واذكر يوم نبطش البطشة الكبرى يوم القيامة يوم يأخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر بلا هوادة ولا رحمة ، إن بطش ربك لشديد ، وإن انتقامه لقوى بالغ ، وهذا تهديد لهم وأى تهديد.(3/412)
ج 3 ، ص : 413
ولقد رأيت أن اللّه عظم القرآن في هذه الآية بأمور منها :
1 - أقسم به ، واللّه لا يقسم إلا بالعظيم من خلقه.
2 - أنه أقسم به على أنه أنزل في ليلة مباركة.
3 - وصفه بكونه مبينا.
4 - الغاية منه إنذار البشر ليخرجوا من الظلمات إلى النور.
5 - كان إنزاله رحمة من اللّه ، وتبعا لحاجة المحتاجين ، إذ هو السميع العليم رب السماء والأرضين.
ما لهم لا يعتبرون بفرعون وقومه ؟ [سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 33]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26)
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33)(3/413)
ج 3 ، ص : 414
المفردات :
فَتَنَّا : بلوناهم واختبرناهم كَرِيمٌ المراد : جامع لخصال المحامد والمنافع أَدُّوا : أطلقوا بنى إسرائيل وَأَنْ لا تَعْلُوا : وأن لا تستكبروا مستهينين بوحيه عُذْتُ : التجأت تَرْجُمُونِ : ترموني بالحجارة ، أو المراد تؤذوني فَاعْتَزِلُونِ : كونوا بمعزل عنى. فَأَسْرِ : سر ليلا بعبادي. رَهْواً :
ساكنا كما هو ، أو ذا فرجة واسعة وَنَعْمَةٍ النعمة : التنعيم ، والنعمة اليد والضيعة وما أنعم به عليك ، وقيل : لا فرق بين النعمة والنعمة ، والأولى تفسيرها بالشيء المنعم به لأنه أنسب لقوله : كم تركوا فاكِهِينَ أى : أصحاب فاكهة ، وقرئ فكهين ، بمعنى : أشرين بطرين ومستخفين مستهزئين مُنْظَرِينَ : ممهلين.
المعنى :
وباللّه لقد فتنا قبل مشركي قريش قوم فرعون : وبلوناهم بالسيئات والحسنات ، وفعلنا « 1 »
معهم فعل المختبر الذي يريد أن يعرف حقيقة الشيء ، وكانت فتنتهم بزيادة الرزق والتمكين في الأرض وإرسال الرسل ، وكان من جملة ما امتحنوا به أن جاءهم رسول كريم هو موسى الكليم - عليه السلام - فما لكم يا كفار مكة لا تتعظون بما حل بغيركم ؟ ما لكم لا تثوبون لرشدكم وتعلمون أن سنة اللّه مع الأمم كلها لا تختلف ؟ ! ولقد جاء آل فرعون نبي اللّه موسى ، وهو رسول كريم على اللّه : كريم في نفسه لأنه جمع خصال المحامد والمنافع ، جاءهم فقال : أدوا إلى بنى إسرائيل ، وأطلقوهم وفكوا سراحهم فهم عباد اللّه لا عبادكم ، فاستعبادكم لهم ظلم كبير ، وقيل المراد : أدوا
___________
(1) وعلى ذلك فيكون في قوله : تعالى (فتنا) استعارة تبعية حيث شبه الابتلاء والاختبار بالفتنة .. إلخ إجراء الاستعارة.(3/414)
ج 3 ، ص : 415
إلى حقوق اللّه بالإيمان الصادق يا عباد اللّه وهو شامل للقبط ولبنى إسرائيل فإنى لكم رسول من اللّه أمين ، وأطالبكم بألا تعلوا على اللّه ولا تتكبروا على طاعته لأنى آتيكم بحجة قوية وسلطان مبين وبرهان قاطع على صدقى فاسمعوا إلى وآمنوا بي.
وقبل أن يخبره اللّه بأنه حافظه ومانعه من الناس فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ « 1 »
قال موسى : وإنى عذت بربي وربكم والتجأت إليه حتى يحفظني من أن ترجمونى بالكذب أو بالحجارة أو تؤذوني بأى نوع كان ، وقد حفظه اللّه منهم ونجاه من كيدهم كما سيأتى.
وإن لم تؤمنوا باللّه لأجل برهاني وتعاليمى التي أثبتها لكم فاعتزلوني واتركوني حرا أدعو الناس إلى اللّه ، ولهذا جاءت الرسل كلها لتوجد الحرية في الناس فيكونوا أحرارا من أنفسهم وشهواتهم ودنياهم وأحرارا في عبادتهم لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ « 2 »
.
وبعد أن أصروا على تكذيبه دعا ربه فقال : إن هؤلاء الناس قوم مجرمون تناهى أمرهم في الكفر والبهتان ، وأنت أعلم بهم ، فافعل معهم ما يستحقون بإجرامهم فقال اللّه له : أسر بعبادي - بنى إسرائيل ومن آمن من القبط - ليلا لا نهارا إنكم قوم متبعون ومطاردون من فرعون وجنده إذا علموا بخروجكم فسيتبعونكم للإيقاع بكم.
فلما ساروا وعبروا البحر من جهة السويس أمر موسى بأن يترك البحر كما هو ساكنا لوجود الطريق وسطه ، أو ذا فرجة واسعة بسبب الطريق فيه ، أى : اترك يا موسى البحر كما هو ، ولا تضربه بعصاك حتى يرجع كما كان ، فإن اللّه يريد أن يسيروا وراءكم في طريق البحر حتى إذا توسطوا فيه أغرقهم إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ يا حسرتا على القوم الكافرين! يا ويلهم كم تركوا بمصر من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ، وقصور ومجالس للسمر والمتعة ، وكم تركوا من نعمة كانوا فيها أصحاب فاكهة ، وكانوا فيها أشرين بطرين مستخفين مستهزئين لا يقومون بالشكر لصاحب تلك النعمة.
الأمر كذلك ، أو مثل ذلك الذي فعلناه بفرعون وقومه نفعل مع كل جبار عنيد لا يؤمن باللّه ولا باليوم الآخر ولا يؤمن برسوله الذي أرسل إليه ، نفعل هذا معهم ولو كانوا أمة بل أمما.
___________
(1) - سورة القصص آية 35.
(2) - سورة البقرة آية 256.(3/415)
ج 3 ، ص : 416
وأورثنا أرضهم وديارهم قوما آخرين غيرهم وهل هم بنو إسرائيل أو غيرهم ؟ اللّه أعلم ، وإن كان التاريخ لا يثبت أن الإسرائيليين حكموا مصر ، ولما هلك فرعون وآله وأشراف قومه وجنده فما بكت عليهم أهل السماء ولا أهل الأرض « 1 »
هوانا بهم ولعدم الاكتراث لهم ، وما كانوا منظرين في هذا بل حقت عليهم - لما أساءوا - كلمة ربك بالعذاب الشديد.
ولقد نجينا بنى إسرائيل من ظلم المصريين من العذاب المهين من فرعون وعمله فإنه كان يسومهم سوء العذاب يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم إنه كان عاليا متكبرا من المسرفين المتجاوزين الحدود في الشر والفساد.
ولقد اخترناهم واصطفيناهم وشرفناهم بإرسال الأنبياء منهم وجعل الملوك فيهم على علم منا باستحقاقهم ذلك ما داموا ينعمون بنعم الدين ويتمتعون بالعمل كما يأمر اللّه ويرضى ، اخترناهم على علم منا وبصر على العالمين ، أى : عالمي زمانهم لا كل العالم إذ أمة محمد خير أمة أخرجت للناس.
وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء لهم واختبار « وبلوناهم بالحسنات والسيئات » فانظروا يا آل مكة كيف فعل اللّه بفرعون وآله وهم أشد منكم قوة وأكثر مالا وأولادا ، وعلما وحضارة ؟ ! وانظروا كيف نجى موسى من فرعون ذي البطش والجند والسلطان ؟ ! نعم العاقبة للمتقين والنصر في النهاية للمؤمنين الصابرين.
إنكار البعث والرد عليهم [سورة الدخان (44) : الآيات 34 الى 50]
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38)
ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43)
طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48)
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
___________
(1) والظاهر أن هذا كناية عن أنهم لم يكونوا يعلمون عملا صالحا ينقطع بموتهم فتبكى الأرض أى أهلها ، ولم يكن يصعد إلى السماء شيء من عملهم حتى إذا انقطع بموتهم بكت السماء أى أهلها.(3/416)
ج 3 ، ص : 417
المفردات :
بِمُنْشَرِينَ : بمبعوثين ، يقال : نشر اللّه الموتى وأنشرهم : إذا بعثهم تُبَّعٍ يقول القرطبي نقلا عن السبيلى : تبع اسم لكل ملك من ملوك اليمن والشحر وحضر موت - والظاهر أن اللّه - سبحانه - يتكلم عن واحد منهم كان معروفا عند العرب - يَوْمَ الْفَصْلِ : هو يوم القيامة ، وسمى بذلك لأنه يفصل فيه بين الناس مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم مَوْلًى المولى : يطلق على السيد وعلى العبد ، وعلى ابن العم وعلى الناصر والقريب والصديق الزَّقُّومِ : شجرة الزقوم هي الشجرة الملعونة التي أنبتها اللّه في قعر جهنم الْأَثِيمِ : صاحب الإثم كَالْمُهْلِ المهل : هو عكر الزيت والقطران ومذاب النحاس أو غيره من المعادن الْحَمِيمِ : الماء الساخن.(3/417)
ج 3 ، ص : 418
فَاعْتِلُوهُ : جرّوه وسوقوه بشدة وعنف. سَواءِ الْجَحِيمِ : وسط الجحيم تَمْتَرُونَ : تشكون.
الكلام من أول السورة مع مشركي مكة وقد تخلله ذكر قصة فرعون وقد ظهر فيها إصرارهم على الكفر والعناد ، وكيف كانت عاقبتهم ؟ ليبين لكفار مكة أنهم يشبهون قوم فرعون في إصرارهم على الكفر وأن عاقبتهم ستكون مثلهم.
وبعد ذلك عاد إلى الكلام الأول الذي يدور حول نقاش المشركين في معتقداتهم بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ.
المعنى :
إن هؤلاء - والإشارة للتحقير - أى : كفار مكة ليقولون : إن هي إلا موتتنا الأولى ، وما نحن بمبعوثين ، كان يقال لهم : إنكم ستموتون موتة يعقبها حياة كما تقدمتكم موتة أعقبها حياتكم هذه رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فقالوا ردا على هذا : نسلم لكم أن لنا موتة تعقبها حياة لكن المراد بها الأولى فقط وهي حياتنا هذه بعد موتنا في ظهور آبائنا ، أما الموتة التي بعد انقضاء الأجل فليس بعدها حياة. وما نحن بعدها بمبعوثين في حياة أخرى فكأنهم قالوا : إن هي إلا حياتنا الدنيا.
ثم إنهم احتجوا على عدم البعث ونفى الحشر والنشر فقالوا : إن كان هذا حقا فأحيوا لنا من مات من آبائنا لنسأله عن دعواكم هذه ، تلك شبهة واهية لم يعن القرآن بردها ، وإنما أشار إشارة خفية إلى أن هؤلاء الناس قوم مغرورون بدنياهم وما هم فيه فضرب لهم الأمثال بقوم تبع ومن هم أشد منهم قوة وأكثر جمعا ومن هم أشد في إثارة الأرض وعمارتهم ، لأن هذا الغرور يمنعهم من التفكير السليم فيما وراء الحياة الدنيا.
أهم خير وأشد قوة ومنعة أم قوم تبع في اليمن ؟ بلاد الزرع والضرع والقوة والمنعة ، هؤلاء أهلكناهم لما طغوا وبغوا وكفروا برسلهم ، ومثلهم قوم عاد ، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ، وقوم فرعون ذي الأوتاد أين هؤلاء منهم ؟ فاحذروا يا آل مكة عاقبة كعاقبة هؤلاء أو أشد!! وكيف ينكرون البعث والآيات كلها شاهدة بذلك ، وهذه السماء والأرض وهذا الكون كله شاهد عدل على وجود إله حكيم عليم قوى خبير عادل(3/418)
ج 3 ، ص : 419
في حكمه ما خلق هذا الخلق عبثا ، ويستحيل أن يتركه هملا بل لا بد من يوم يحاسب فيه كل إنسان على ما قدم ، ويثاب عن عمله ، وخالق هذا الكون يستحيل عليه أن يسوى بين الظالم والمظلوم ، والمؤمن والكافر والطائع والعاصي ، بل لا بد من يوم الفصل ، وليس الأمر بالهزل ، وهذه الدنيا المحفوفة بالمكاره ، القصيرة الأجل ، الكثيرة الألم هي دار عمل ، وليست دار جزاء وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا « 1 » ما خلقناهم إلا متلبسين بالحق ، وما خلقناهم إلا لإظهار الحق وإثابة كل عاص وطائع لأن هذا من أقوى دعائم الحق ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وهذا هو الكلام على يوم الفصل وما فيه ، وبدأ بالكلام على الأهوال التي يصادفها العصاة والكفار لعلهم يرتدعون.
إن يوم الفصل ميقات الناس جميعا ، وإن يوم الفصل والقضاء بالعدل بين المسيء والمحسن والطائع والعاصي حتى يكون فريق في الجنة وفريق في السعير لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ « 2 » . وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ « 3 » فهذا هو يوم الفصل ، يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا. يوم لا ينفع فيه ابن والده ولا يجزى والد عن ولده ، يوم لا ينفع مال ولا بنون ، ولا صديق حميم وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ « 4 » إلا من رحمة اللّه تعالى بالعفو عنه وقبول الشفاعة فيه لا يمنع من العذاب إلا من رحمه اللّه إنه هو العزيز الرحيم لمن أراد رحمته.
إن الشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة الزقوم وهي طعام الآثمين العصاة وهي شجرة تنبت في قعر جهنم ، فإذا جاع أهل جهنم التجأوا إليها فأكلوا منها ، فيغلي الأكل في بطونهم كما يغلى الماء الحار ، وهذا الأكل كالمهل ، وهو يغلى في البطون كغلي الحميم ، ثم يقال لزبانية جهنم : خذوه فجروه جرّا بعنف وشدة ، خذوه فجروه إلى وسط جهنم ثم صبروا فوق رأسه عذابا وهو الحميم ، ويقال للكافر حينئذ : ذق هذا إنك أنت العزيز الكريم ، يقال له هذا تقريعا وتوبيخا على ما كان يزعمه وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً « 5 » ثم يقال لهم : إن هذا العذاب وما أنتم فيه الآن هو ما كنتم فيه تمترون وتشكون!!
___________
(1) - سورة ص آية 27.
(2) - سورة الممتحنة آية 3.
(3) - سورة الروم آية 14.
(4) - سورة البقرة آية 123.
(5) - سورة الكهف آية 36. [.....](3/419)
ج 3 ، ص : 420
هؤلاء هم المتقون يوم القيامة [سورة الدخان (44) : الآيات 51 الى 59]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
المفردات :
مَقامٍ : مكان ، والمقام : المكان سُندُسٍ السندس : ما رق من الديباج وَإِسْتَبْرَقٍ : ما غلظ منه بِحُورٍ الحور : هو البياض ، والحور : جمع حوراء وهي المرأة البيضاء التي يرى ساقها من وراء ثيابها ، وقيل : الحور : شدة بياض العين في شدة سوادها عِينٍ : جمع عيناء ، وهي الواسعة العظيمة العينين يَسَّرْناهُ :
سهلناه بلغتك فَارْتَقِبْ : انتظر.
لما ذكر مستقر الكافرين ونهايتهم ذكر نزل المؤمنين وما أعد لهم ، ثم ختم السورة بالكلام على القرآن كما بدأها به ليعلم الكل أن الخير في اتباعه مع سهولة ويسر ، وأن الشر في اجتنابه والبعد عنه.(3/420)
ج 3 ، ص : 421
المعنى :
إن المتقين في مقام أمين ، يأمنون فيه على أنفسهم من كل شر فهم آمنون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وكفاهم سلامة وأمنا في جوار العزيز الرحمن ، وهم مع إخوانهم متقابلون متسامرون ، قد نزع اللّه ما في قلوبهم من غل وحسد فهم دائما متقابلون.
الأمر كذلك ، أو كما أدخلناهم الجنة وفعلنا بهم ما تقدم ذكره كذلك أكرمناهم بأن زوجناهم حورا عينا ، كأنهن الياقوت والمرجان ، حور مقصورات في الخيام ، لم يطمثهن قبلهم إنس ولا جان ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟ ! يدعون الخدم في الجنة ويطلبون منهم كل فاكهة آمنين من كل أذى أو مكروه ، وهم في الجنة خالدون ، لا يذوقون فيها الموت أبدا ، لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا ، وأعطاهم ربك ما عرفت ووقاهم عذاب الجحيم الذي يصلى به كل فاجر أثيم ، فعل ذلك بهم ربك تفضلا منه وإحسانا عليهم ، ذلك الجزاء هو الفوز العظيم لا غير ، وذلك فضل اللّه وتوفيقه يؤتيه من يشاء ، وهذا الكتاب المبين الذي أنزل في ليلة مباركة شأنه شأن الكتب التي تأتى مع الرسل رحمة بالعباد ، فيا محمد ذكر بالكتاب المبين قومك فإنا سهلنا عليك تلاوته وتبليغه إليهم إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
« 1 » . وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ « 2 » .
ذكرهم به واقرأه عليهم لعلهم يتذكرون ويتعظون ، فإن لم يتعظوا ولم يؤمنوا فارتقب هلاكهم وارتقب نصرك الذي وعدناك إنهم مرتقبون ، وتوكل على العزيز الرحيم ، فاللّه معك وناصرك وعاصمك من الناس ، وهو على كل قدير.
___________
(1) - سورة القيامة الآيات 17 - 19.
(2) - سورة القمر آية 33 وآية 40.(3/421)
ج 3 ، ص : 422
سورة الجاثية
مكية على الصحيح. وهي سبع وثلاثون آية.
وهي كأخواتها من السور المكية ، في الكلام على التوحيد وإثبات البعث والنبوة وغير ذلك مما يفتح القلوب الغلف ، وتمتاز هذه السورة بأنها اتجهت نحو بيان آيات اللّه الكونية كدليل على قدرة اللّه ووحدانيته وإمكان البعث ، وتصديق أن القرآن كلام اللّه.
تلك بعض آياته الدالة عليه [سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
المفردات :
وَما يَبُثُّ : ينشر ويفرق رِزْقٍ : مطر هو سبب في الرزق تَصْرِيفِ الرِّياحِ : تقليبها وتحويلها.(3/422)
ج 3 ، ص : 423
المعنى :
حم. تنزيل الكتاب من اللّه العزيز الحكيم لا من عند غيره إذ لو كان من عند غيره ثم نسبه إليه جل شأنه لخسف به وبداره الأرض لأنه هو العزيز الغالب الذي لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [سورة الحاقة الآيات 44 - 47].
وكيف يكون من غيره ؟ وهو في منتهى الحكمة والضبط ونهاية الإعجاز وبلوغ القصد في كل نواحيه ، فهو حقا من حكيم عليم ، ولا يمكن أن يكون من إنسان أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [سورة النساء آية 82] تلك دلائل دالة على أن هذا القرآن تنزيله من اللّه العزيز الحكيم.
إن في عالم السماء وعالم الأرض لآيات دالة على وجود اللّه وأنه متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص ، وأنه سبحانه هو الواحد القهار ، وتلك آيات ينتفع بها المؤمنون وإن كانت لكل الناس أجمعين هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ.
[البقرة 185] وإن في خلقكم أيها الناس من تراب ثم من نطفة قذرة فعلقة فمضغة إلى أن صار الواحد إنسانا حيا كاملا ، وفي خلق ما يبثه اللّه في الأرض وينشره من دابة تدب على الأرض لآيات وشواهد صدق على وجود اللّه ووحدانيته ، ولكن لقوم يوقنون.
وإن في اختلاف الليل والنهار بالطول والقصر ، وتعدد مشارق الشمس ومنازلها واختلاف الفصول بسبب خطوط العرض والطول ، وفي اختلاف الليل والنهار بحلول كل مكان الآخر ، وما أنزل اللّه من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها بالنبات الأخضر اليانع ، والثمر المختلف الأنواع والألوان والأشكال ، وتصريف للرياح وتقليبها من حارة إلى باردة ، من شمالية إلى جنوبية ، أليس كل ذلك آيات ناطقة على وجود اللّه وقدرته ووحدانيته ؟ ! ولكن لقوم يعقلون.
ولعل سائلا يسأل ويقول : ما بال القرآن الكريم قال أولا : آيات لقوم يؤمنون ، ثم لقوم يوقنون ، ثم لقوم يعقلون ؟ وهل لهذا حكمة أم لا ؟(3/423)
ج 3 ، ص : 424
بلا شك هذا الاختلاف لحكم إلهية ، لحكم عالية تدل على الكثير ، ولقد تعرض لهذا كثير من فطاحل العلماء ، ولعل المناسب أن نقول كما في حاشية زادة على تفسير البيضاوي بتصرف : دلالة السموات والأرض على وجود الصانع والإيمان به ظاهرة واضحة. وأدق منها وأعلى مرتبة خلق الإنسان وتحوله من حال إلى حال ، وخلق الحيوان الذي لا يعلم جنسه وعدده إلا خالقه ، والنظر في هذا يحتاج إلى عمق في التفكير ودقة في البحث وشمول في الملاحظة ، عند ذلك يحصل الناظر على مرتبة أعلى وهي مرتبة اليقين آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وأدق من هاتين النظر في الليل والنهار وحلول أحدهما مكان الآخر بانتظام واختلافهما بالطول والقصر ، والنظر في المطر الذي ينزل من السحاب كيف يتكون ؟ وكيف ينزل ؟ وما يترتب على نزوله من حياة الإنسان والحيوان ، وحياتهما حياة للأرض الميتة ، وهذه الرياح المتقلبة التي تأتى تارة بالحرارة وتارة بالبرودة ، ومرة شمالية وأخرى جنوبية أو غربية ، من الذي صرف هذا كله ؟
ومن الذي سخر هذا كله وكيف ذلك ؟ لا شك أن النظر إلى هذا ، والوقوف على سره العجيب لا يتأتى إلا لمن كان له قلب يعقل ، وعين تبصر ، وأولئك هم الذين يعقلون ولذا قال : آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
تلك آيات اللّه الكونية ، وآياته القرآنية نتلوها عليك يا رسول اللّه بالحق لا شك فيها ولا لبس ولا تغير ، بل هي آيات بينات وحجج واضحات ، وما يعقلها إلا العالمون ، وأما أنتم يا أهل مكة فبأى حديث بعد هذا الحديث الذي أنزل اللّه وبأية آية بعد هذه الآيات تؤمنون ؟ !!
الويل لكل أفاك أثيم [سورة الجاثية (45) : الآيات 7 الى 11]
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)(3/424)
ج 3 ، ص : 425
المفردات :
أَفَّاكٍ الأفاك : الكذاب ، من الإفك. وهو الكذب مُسْتَكْبِراً : متعاظما مُهِينٌ : من الإهانة ، أى : عذاب مخز مذل رِجْزٍ الرجز : أشد أنواع العذاب ، وقيل : هو القذر كالرجس.
وهذا هو الوعيد الشديد لمن ظهرت له الآيات ظهورا تاما ومع هذا كفر وكذب على اللّه.
المعنى :
الويل والثبور ، والهلاك الشديد - وقيل : الويل واد في جهنم - لكل أفاك أثيم ، أى : كذاب كثير الآثام مبالغ في اقترافها مع الإصرار عليها ، وهذا الأفاك الأثيم له حالتان الأولى : أنه يسمع آيات اللّه الدالة على وحدانيته وقدرته دلالة واضحة أظهر من الشمس في رابعة النهار ، هذه الآيات تتلى عليه ثم يصر « 1 » مستكبرا كأنه لم يسمعها.
يا عجبا لهذا!! يسمع آيات اللّه ثم يصر على التعاظم عليها والكفر بها كأنه لم يسمعها ، ومن كان كذلك فبشره بعذاب مؤلم غاية الألم.
روى أنها نزلت في النظر بن الحارث : كان يشترى أحاديث الأعاجم ويؤجر القيان ويدعو الناس إلى الاستماع والتمتع ليصرفهم عن استماع القرآن
، وفي الواقع الآية تشمل كل كافر باللّه والقرآن.
___________
(1) الإصرار على الشيء : ملازمته وعدم الانفكاك عنه ، وثم هنا للترتيب الرتبى.(3/425)
ج 3 ، ص : 426
الحالة الثانية : أن ينتقل من مقام الإصرار على التكذيب والاستكبار إلى مقام الاستهزاء بالآيات فقد روى أن أبا جهل حين سمع قوله تعالى : إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [سورة الدخان الآيتان 43 ، 44] قال : الزقوم زبد وتمر ، وحين سمع أن جهنم عليهم تسعة عشر قال : إنى ألقاهم وحدي.
وإذا علم من آياتنا شيئا ، وعلم أنه منها بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلها ، ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه.
أولئك - والإشارة إلى كل أفاك أثيم مصر على الكفر مستهزىء بآيات اللّه - لهم عذاب ذو إهانة تتكافأ مع استكبارهم واستهزائهم ، فالجزاء من جنس العمل ، ومن ورائهم « 1 » جهنم ، ولا يغنى عنهم ما كسبوا شيئا من الأموال والأولاد فتلك مواقف لا ينفع فيها مال ولا بنون ، بل يفر المرء فيها من أمه وأبيه وصاحبته وبنيه ، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.
ولا يغنى عنهم ما اتخذوهم أولياء من دون اللّه كالأصنام وسائر المعبودات الباطلة ، ولهم في جهنم عذاب عظيم لا يعرف قدره أحد من الخلق.
يا قوم هو القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، هذا هو القرآن يهدى للطريقة التي هي أقوم ، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، وأما الذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب مؤلم للغاية ، عذاب من أشد أنواع العذاب وأقساها.
فيا ويلكم أيها الكفار! ويلكم أيها الأفاكون والآثمون ، وسلام على عباده الذين اصطفى والحمد للّه رب العالمين.
من فضل اللّه علينا [سورة الجاثية (45) : الآيات 12 الى 15]
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
___________
(1) الوراء : اسم للجهة التي توارى بها الشخص من خلف أو قدام ، وهنا المراد من قدامهم لأنهم متوجهون إليها.(3/426)
ج 3 ، ص : 427
المعنى :
اللّه - سبحانه وتعالى - صاحب الفضل على الخلائق. ورب النعم على العباد ، وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها ، فهو الذي سخر لكم البحر وذلله بأن جعل فيه الاستعداد لأن تجرى الفلك فيه بأمره ، فهو الذي خلق فيه قوة الضغط وجعله سائلا تجرى على صفحته السفن ، وأرسل الرياح تدفعها إلى حيث يريد الإنسان ، كل هذا لتبتغوا من فضل اللّه بالتجارة والانتقال من مكان إلى آخر ، ولعلكم مع هذا تشكرون ربكم الذي أنعم عليكم ولا تكفرون.
وهو الذي سخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه ، وها هو ذا الإنسان بما أودع فيه من قوة العقل والتفكير استخدم الطبيعة في أغراضه وسخرها لمنافعه وأصبح يشارك السمك في الماء والطير في الهواء والأصداف في قاع البحار ، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ، وينظرون.
قل يا محمد للذين آمنوا بربهم ، واهتدوا بنوره السماوي ، قل لهم : يغفروا للذين لا يرجون لقاء اللّه يوم القيامة ، فمن عفا وأصلح فأجره على اللّه ، يغفر لهم سيئاتهم ليجزيهم اللّه على ذلك أحسن الجزاء ، وليجزي قوما أساءوا غيرهم بلا ذنب ولا جريرة إلا أنهم يقولون ربنا اللّه ليجزيهم بما كانوا يكسبون ، وعلى هذا فالذين أساءوا هم الكفار ، وسيجزيهم ربك يوم القيامة ، فالكل خاضع لقانون عام هو : من عمل صالحا فلنفسه بغى الخير وسيجازى على معروفه ، ومن أساء وارتكب الآثام فعلى نفسه وحدها وقع الجزاء ، ثم بعد ذلك إلى ربكم ترجعون فتجزون الجزاء الأوفى ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.(3/427)
ج 3 ، ص : 428
تحذيرهم من أن يكونوا كبني إسرائيل وأمرهم باتباع شريعة القرآن [سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 22]
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22)(3/428)
ج 3 ، ص : 429
المفردات :
وَالْحُكْمَ : الفهم والقضاء شَرِيعَةٍ الشريعة : ما يرده الناس من المياه والأنهار « 1 » بَصائِرُ : جمع بصيرة ، والمراد الدلالة الواضحة والحجة القائمة.
وهذه نعم خاصة بعد النعم العامة تتعلق ببني إسرائيل ، ومع ذلك لم يشكروا بل اختلفوا في أمر الدين بعد ما جاء العلم بحقيقة الحال على سبيل البغي والحسد ، فكذلك كفار قريش جاءتهم أدلة واضحة قوية ثم أصروا على الكفر وأعرضوا عداوة وحسدا وبعد ذلك أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم باتباع الشريعة الغراء ومخالفة من يتبعون أهواءهم.
المعنى :
لقد آتينا بنى إسرائيل الكتاب الشامل للتوراة والإنجيل والزبور ، وآتيناهم الحكمة والفهم السليم ، والحكم بين الناس بما أنزل اللّه ، وآتيناهم النبوة فقد كانت النبوة فيهم إلى أن ظهر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من نسل إسماعيل. وتلك نعم تتعلق بالدين ، وهاك ما يتعلق بالدنيا من النعم : رزقهم ربك رزقا طيبا حلالا لا إثم فيه فأورثهم أموال فرعون وديارهم ، ثم أنزل عليهم المن والسلوى ، وجعل منهم الملوك والحكام ، وفضلهم بهذا على عالمي زمانهم فكانوا أكبر درجة وأرفع منقبة ممن عاصرهم.
أتاهم ربك ببينات في أمور دينهم ودنياهم ، فكانوا على بصر وبصيرة ، وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم الذي كان المفروض أن يكون سبب هداية لا سبب اختلاف ، وما كان اختلافهم إلا بغيا وحسدا لا لتقصير في الحجة وضعف في البرهان.
فبنو إسرائيل كانوا على بينة من أمر شريعتهم وأمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فالبشارة به وصفاته كانوا على ذكر منها ، وما اختلفوا معه وكفروا به إلا من بعد ما جاءتهم حقائق النبوة الصادقة على يد محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ « 2 » إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة
___________
(1) - ثم استعير ذلك للدين لأن العباد يردون فيه ما تحيا به نفوسهم.
(2) - سورة البقرة آية 89.(3/429)
ج 3 ، ص : 430
فيما كانوا فيه يختلفون مع النبي وصحبه ، وعلى هذا فصاحب النعم يجب ألا يغير بما عنده من نعم مهما كانت ، بل دائما يراقب اللّه ، ويعلم أن ما أوتى من خير فعليه شكره لا كفره.
ولما بين اللّه - تعالى - إعراض بنى إسرائيل عن الحق لأجل البغي والحسد أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يعدل عن تلك الطريقة ، وأن يتمسك بالحق فقط فقال : ثم جعلناك يا محمد أنت وأمتك على شريعة من الأمر ، أى : على طريق واضح ، ومنهل عذب ومورد كريم ، به تحيا النفوس كما تحيا الأجساد بالماء ، فاتبعها فإنها شريعة الحق والعدل والخير في الدنيا والآخرة ، إنها شريعة ثابتة مؤيدة بالحجة والبرهان القوى ، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ، فإنهم لا حجة معهم ولكنها جهالات وأهواء ليست على أساس.
إنهم لن يغنوا عنك من عذاب اللّه شيئا ، ولن يدفعوا عنك ألما ، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض ، أما المسلمون فاللّه وليهم وهو هاديهم يخرجهم من الظلمات إلى النور ، وإذا كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يهدده ربه بأنه لن ينفعه أحد لو انحرف عن الشريعة فما بالنا نحن ؟ ! هذا القرآن بصائر للناس ، ففيه دلائل واضحة تبين لهم المعالم وتهديهم إلى الخير بمنزلة البصائر في القلوب التي تنير الطريق لصاحبها ، وهو هدى ورحمة ولكن لقوم يوقنون.
بل أحسب الذين اكتسبوا الآثام واقترفوا الذنوب أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ، لا ينبغي أن يكون ذلك ولا يصح أن نسوى بينهم في شيء ، أحسبوا أن نجعلهم مثل الذين آمنوا وعملوا الصالحات مستويا حياتهم ومماتهم ، ألا ساء ما يحكمون! وهذا تهديد عام لكل من خرج على الدين ، ولم يمتثل أمره ، بأنه ليس من العدل أن يسوى بينه وبين من سار على الصراط المستقيم ، واللّه جل شأنه خلق السموات والأرض بالحق ، ولو لم يوجد دارا أخرى للثواب والعقاب لما كان خلقه السموات والأرض بالحق ، فإن العالم فيها بين غنى وفقير ، ومريض وصحيح ، وفرح ومحزون ، فلا بد إذن من حياة يثاب فيها المؤمن على إيمانه في الدنيا ، فربما كان فيها فقيرا مريضا ممتحنا بالبلاء ولقد صدق اللّه حيث يقول : خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ « 1 » فلو ترك الظالم الذي ظلم غيره في الدنيا ، ولم
___________
(1) - سورة الجاثية آية 22.(3/430)
ج 3 ، ص : 431
يقتص من الظالم في الحياة الأخرى لما كان خلقه السموات والأرض بالحق ، وعلى ذلك فمعنى الآية : خلق اللّه السموات والأرض لإظهار الحق ولتجزى كل نفس بما كسبت ، وهم لا يظلمون ، فالمقصود من خلق السموات والأرض وما فيهما إظهار العدل والرحمة وذلك لا يتم إلا إذا حصل البعث ، وكان يوم القيامة الذي يفصل فيه بين المحق والمبطل.
بعض سيئاتهم وجزاؤهم عليها يوم القيامة [سورة الجاثية (45) : الآيات 23 الى 35]
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)(3/431)
ج 3 ، ص : 432
المفردات :
هَواهُ : ما تهواه نفسه وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ : وضع عليه الخاتم غِشاوَةً : غطاء حتى لا يبصر الدَّهْرُ : اسم لمدة وجود العالم من يوم مبدئه إلى انقضائه ، ويطلق على كل مدة كثيرة ، والزمان يقع على المدة القليلة والكثيرة جاثِيَةً : مستوفزة ، والمستوفز : الذي لا تصيب الأرض منه إلا ركبتاه وأطراف أنامله يَنْطِقُ : يشهد ويبين نَسْتَنْسِخُ : نجعلها تنسخ وتكتب وَبَدا :
ظهر وَحاقَ : أحاط بهم وحل هُزُواً : مهزوءا بها يُسْتَعْتَبُونَ : يطلب منهم العتبى.
المعنى :
انظر أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ، وأضله على علم منه ، وختم على سمعه وقلبه حتى لا تصل إليه موعظة ، وجعل على بصره غشاوة تمنعه من الإبصار أفرأيت من هذه حاله أيهتدى « 1 » ؟ !!
___________
(1) في قوله : (أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه) مجاز مرسل حيث أطلق الرؤية وأراد الإخبار ، فهو من إطلاق السبب وإرادة المسبب ، وجعل الاستفهام بمعنى الأمر مجاز أيضا ، والجامع مطلق الطلب في كل.(3/432)
ج 3 ، ص : 433
والمعنى : أخبرنى عن حال من اتخذ إلهه هواه ، أى : ترك متابعة الهدى وطاوع النفس والهوى حتى كأنه يعبده!! فهذه حال تدعو إلى العجب ، وكان الحارث بن قيس لا يهوى شيئا إلا ركبه ، والعبرة من الآية بعموم لفظها.
والنفس الإنسانية دائما تدعو إلى الشر ، وتهدف إلى الضار ، والإنسان يهوى ما فيه حتفه ، ولهذا ذم القرآن دائما اتباع الهوى في غير موضع وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ [سورة الأعراف آية 176]. بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [سورة الروم آية 29]. وعن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : « لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعا لما جئت به » .
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وطار وراء ما تهواه نفسه ، وقد خلقه اللّه ضالا عالما أنه من أهلها ، ولا يصلح لغيرها ، وختم على سمعه وقلبه فلم يعد يدخلهما نور من الوعظ والإرشاد ، وجعل ربك على بصره غشاوة مانعة من الاعتبار ورؤية الآيات .. أفرأيت هذا الموصوف بتلك الصفات الأربع! فمن يهديه من بعد إضلال اللّه له ؟ لا أحد يقدر على ذلك.
أعميتم فلا تتعظون بهذا ؟ وتعلمون الخير في الابتعاد عن الهوى والرجوع إلى طريق الهدى ، وهذا يقتضى من اللّه التوفيق والهداية ، وفتح السمع والقلب وتنوير البصائر حتى يمتلئ القلب بنور الحق ، واللّه هو الهادي إلى سواء السبيل ، وهو نعم المولى ونعم النصير.
وانظر إلى بعض معتقداتهم الفاسدة حيث قالوا : ما هي إلا حياتنا الدنيا فقط ولا حياة بعدها ، ونحن نحيا فيها ونموت ، ويحييا بغضنا ويموت البعض الآخر ، وليس موتنا من طريق الخالق يتوفى أرواحنا بسبب ملك الموت ، بل ما يهلكنا إلا الدهر فقط ، فإذا طال عمرنا ، وضعفت قوانا ماتت أجسادنا وحدها وصرنا إلى فناء ليس بعده حياة ، وما لهم بذلك من علم يقيني ، إن هم إلا يظنون ظنا لا أساس له من حجة ولا سند له من دليل ، وكان المشركون أصنافا منهم من يشك في البعث ، ومنهم من يجزم بعدم وجوده ، وانظر إليهم ، إذا تتلى عليهم آياتنا الناطقة بالحق والصادرة من رب الخلق ، حالة كونها بينات واضحات تدل دلالة واضحة على قدرة اللّه على البعث وإحياء الموتى(3/433)
ج 3 ، ص : 434
كما خلقهم ، ما كان لهم من شبهة - وقد سماها حجة لتمسكهم بها - هي في الواقع أوهى من بيت العنكبوت ، إلا أن قالوا : ائتوا بآبائنا الذين ماتوا حتى نسألهم عما تقولون ، ائتو بهم إن كنتم يا أتباع محمد صادقين.
وقد رد اللّه عليهم بقوله : قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ووجه الرد أنهم مقرون بأن اللّه أحياهم أولا ثم يميتهم ثانيا كما دلل على ذلك بالحجج والبراهين في غير هذا الموضع ، ومن قدر على جمعهم يوم القيامة وخاصة بعد ما ثبت أن مبدأ الثواب والعقاب أمر ضروري توجيه الحكمة والعدالة الإلهية ، وهذا اليوم لا ريب فيه في الواقع ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وكيف يستبعدون البعث أو يشكون فيه ؟ وللّه ملك السموات والأرض وحده لا شريك له يحيى ويميت ، ويبدئ ويعيد. ذو العرش المجيد ، فعال لما يريد ، ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون منازلهم في جنات النعيم ليتمتع بها أصحابها المستحقون لها من المؤمنين.
وترى يا من يتأتى منه الرؤية كل أمة باركة على الركب مستوفزة على هيئة المذنب الخائف المنتظر جزاءه ، كل أمة تدعى إلى صحيفة أعمالها التي كتبتها الحفظة الكرام البررة ، والتي أحصوا بها الأعمال ، والمراد أن لكل فرد من أمة صحيفة.
اليوم تجزون جزاء ما كنتم تعملون ، ويقال لهم : هذا كتابنا ينطق عليكم نطقا بالحق الذي لا زيادة فيه ولا نقصان ، ونطق الكتاب معناه شهادته عليهم بما عملوا لأنا كنا نأمر الملائكة ونطلب إليهم أن تنسخ الكتب وتكتب بالحق محصية أعمالكم بلا زيادة ولا نقصان.
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى يدخلهم فيها ربهم ، ذلك هو الفوز المبين الذي لا فوز وراءه.
وأما الذين كفروا فيقال لهم تأنيبا وتوبيخا : ألم تكن تأتيكم رسلكم ؟ أفلم تكن آيات ربكم تتلى عليكم ؟ فاستكبرتم عن الإيمان بها وكنتم قوما مجرمين فالآن ادخلوا جهنم جزاء لكم ومصيرا ، وإذا قيل لهم : إن وعد اللّه حق ، وإن الساعة آتية لا ريب فيها ، قلتم : نحن ما ندري ما الساعة ؟ لا نظن إلا ظنا ، وما نحن بمستيقنين إمكان(3/434)
ج 3 ، ص : 435
الساعة ، وحين يجمعون ليوم الفصل تظهر لهم قبائح أعمالهم ، ويبدو لهم خطأ رأيهم ، وأنهم كانوا على ضلال مبين ، ويومها يحيق بهم جزاء ما كانوا به يستهزئون من آيات اللّه.
وقيل لهم : اليوم ننساكم كما نسيتم أنفسكم ولم تعملوا في الدنيا لإسعادها الآن ، كما أنكم نسيتم لقاء يومكم هذا ، ومأواكم النار ، وما لكم من ناصرين.
ذلكم العذاب الشديد بسبب أنكم اتخذتم آيات اللّه هزوا ، وغرتكم الحياة الدنيا فحسبتم أنه لا حياة غيرها. فاليوم تجزون عذاب الهون. وأنتم لا تخرجون من النار ولا يطلب منكم أن تزيلوا عتب ربكم ، وترضوه لأنكم في وقت الجزاء لا في وقت العمل.
ختام السورة [سورة الجاثية (45) : الآيات 36 الى 37]
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
هذه السورة الكريمة قد احتوت على آيات اللّه وآلائه ، ونعمه وأفضاله ، واشتملت على تعداد الآيات الكونية والبراهين الآفاقية ، وأثبتت مبدأ الثواب والعقاب إلخ ما فيها من آيات بينات فلله الحمد والثناء الجميل والوصف الكريم الذي يستحقه من عباده لأنه رب السموات ورب الأرض ، ورب العالمين ، وله وحده جل شأنه الكبرياء والعظمة ، وله كمال الذات وكمال الوجود ، والتنزه عن كل نقص ، والاتصاف بكل كمال ، وله وحده الكبرياء التي تظهر آثارها في السموات والأرض ، وهو العزيز الذي لا يغلب ، القادر الذي لا يعجز ، الحكيم في كل ما قضى وقدر ، وأنزل ودبر.
فله الحمد فاحمدوه وحده واعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وله الكبرياء فكبروه وعظموه - تبارك اسمه - وهو العزيز الحكيم فأطيعوه في كل ما أمر.
ألست معى في أنه ختام للسورة رائع ، وإنه لكتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير.(3/435)
ج 3 ، ص : 436(3/436)
ج 3 ، ص : 437
سورة الأحقاف
وهي سورة مكية على الصحيح ، وعدد آياتها أربع وثلاثون آية وتشتمل كغيرها من السور المكية على إثبات التوحيد ونفى الشركاء ، وإثبات النبوة وصدق محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فيما ادعاه عن ربه ، ورد شبهاتهم في القرآن والنبوة ، ثم تسلية النبي ببيان موقف الأولاد من آبائهم. وضرب الأمثال للمشركين بقوم هود وغيرهم ، ثم بيان انقياد الجن له حتى يطمئن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، ثم بعد ذلك أثبت المعاد والبعث ، وختم السورة بالنصيحة الغالية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولكل من يقوم بالدعوة إلى اللّه.
إثبات الوحدانية للّه ونفى الشركاء [سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6)(3/437)
ج 3 ، ص : 438
المفردات :
وَأَجَلٍ مُسَمًّى المراد به : يوم القيامة. شِرْكٌ : شركة. أَوْ أَثارَةٍ أى : بقية من علم يؤثر ويروى ، وفي كتب اللغة : أثر الحديث : ذكره عن غيره ، ومنه حديث مأثور ، وقولهم : جاء في الأثر. يَدْعُوا الدعاء : العبادة.
المعنى :
حم. تنزيل الكتاب - الكامل في كل شيء وهو القرآن - من اللّه العزيز الذي لا يغلب ، الحكيم الذي يضع كل أمر في موضعه ، وإذا كان الأمر كذلك فآمنوا بالقرآن على أنه من عند اللّه ، وصدقوا بكل ما فيه ، وآمنوا بأن محمدا نبي من عند اللّه وصادق في كل ما يدعيه من توحيد خالص ، وإثبات للبعث والجزاء ، ودعوة إلى الخلق الكامل والمثل العليا.
ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما من أصناف الخلق التي لا يعلمها إلا خالقها ما خلقنا هما في حال من الأحوال إلا في حال ملتبسة بالحق والحكمة والغرض الصحيح فلم تخلق هذه الدنيا العريضة عبثا ، وليس من المعقول أبدا أن يترك هذا الخلق بلا حياة ثانية يجازى فيها المحسن على إحسانه ، ويعاقب فيها المسيء على إساءته ، إذ ليست الدنيا دار جزاء بل هي دار عمل ، واللّه خلق السموات والأرض بالحق والحكمة ، ومن الحق والعدل ومن مقتضيات الحكمة أن تكون هناك دار للجزاء وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الجاثية 22].
وما خلقهما ربك إلا بالحق وبتقدير أجل مسمى عنده وهو يوم القيامة ، والحال أن الذين كفروا عما أنذروا به من هول ذلك اليوم وشدائده ، الذي لا بد من الانتهاء إليه ، والذين كفروا عما أنذروا به معرضون لا يؤمنون به ولا يهتمون ولا يعملون لأجله.(3/438)
ج 3 ، ص : 439
قل لهم يا محمد : أرأيتم ما تدعونهم من دون اللّه من الأصنام والأوثان والآلهة الكاذبة أرونى ما الذي خلقوه من أى نوع من الأنواع في الأرض « 1 » ؟ !!.
بل ألهم شركاء في السموات مع اللّه ؟ ! لم يكن لهم شركاء في السماء ، ولم يخلقوا شيئا مما في الأرض على اتساعها فكيف تعبدونهم من دون اللّه ؟ ! أمعكم دليل عقلي واحد على خلقهم لشيء أو لشركتهم مع اللّه في شي ء ؟ الجواب :
لا وإذا لم يكن دليل عقلي ، فهاتوا دليلا نقليا أو ائتوني بكتاب أنزل من قبل هذا القرآن الذي يدعو إلى التوحيد الخالص من كل شوائب الشرك ، ائتوني بكتاب من قبل القرآن نزل مؤيدا لما تدعون من وجود الشركاء للّه أو ائتوني ببقية من علم أثر وروى لكم ، يؤيد ما تذهبون إليه ، إن كنتم صادقين! وهذا تحد سافر لهم مبطل لدعواهم الشركة مع اللّه.
وهل هناك أحد أكثر ضلالا ممن يدعو من دون اللّه مالا يسمع ولا يبصر ولا يستجيب لدعواه ؟ لا أحد أضل منكم يا من تدعون وتعبدون حجرا لا يسمع ولا يبصر ولا يستجيب لكم إلى يوم القيامة وهم - أى : الآلهة - عن دعاء الكفرة غافلون فلا يسمعون ولا يجيبون ، لأنهم إن كانوا حجارة فهم لا يسمعون ، وإن كانوا عقلاء كعيسى مثلا فهم مشغولون عنهم لا يلتفتون إلى باطلهم.
لا أحد أكثر ضلالا من عبدة الأصنام حيث يتركون السميع البصير المجيب القادر على تحصيل كل بغية وطلب ، ويدعون من دونه الجماد الذي لا يستجيب ، ولا قدرة له على الاستجابة ، ما دامت الدنيا وإلى أن تقوم القيامة ، وإذا قامت القيامة وحشر الناس وبدا الصبح لذي عينين ، وتفرد الواحد الأحد وقال : لمن الملك اليوم ؟ فأجيب : للّه الواحد القاهر! إذا حشر الناس كان الأصنام ومن عبد من دون اللّه أعداء للمشركين ، وكانوا بعبادتهم كافرين وجاحدين ، وتبرأوا منهم ، ولكل منهم يومئذ شأن يغنيه ، وتبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام.
___________
(1) قل أرأيتم ما تدعون من دون اللّه أرونى ماذا خلقوا من الأرض ، في قوله : أرأيتم مجازان حيث أطلق الرؤيا وأراد الإخبار والعلاقة السبية ، وفي استعمال همزة الاستفهام في الأمر كذلك مجاز إذ كل من الاستفهام والأمر يدل على الطلب ، وأرونى توكيد لأرأيتم ، وماذا خلقوا يجوز فيها أن تكون (ماذا) استفهاما كلها وهي مفعول مقدم لخلقوا وجملة خلقوا مفعول ثان لقوله : أرأيتم ، أو ما استفهام مبتدأ وذا موصولة خبر و(خلقوا) صلة ، وجملة (ماذا خلقوا) مفعول ثان لقوله : أرأيتم ، والمفعول الأول ما تدعون.(3/439)
ج 3 ، ص : 440
شبهاتهم في نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وصدق القرآن [سورة الأحقاف (46) : الآيات 7 الى 14]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)(3/440)
ج 3 ، ص : 441
المفردات :
بَيِّناتٍ : واضحات كالشمس. لِلْحَقِّ أى : لأجل الحق. أَمْ المراد : بل أيقولون. افْتَراهُ : اختلقه من عنده. تُفِيضُونَ : تأخذون فيه وتندفعون إليه كاندفاع السيل. بِدْعاً البدع : الأول وقرئ بدعا جمع بدعة ، وشيء بدع أى : مبتدع ليس له مثال. إِفْكٌ قَدِيمٌ أى : كذب قديم.
إِماماً : يقتدى به.
بعد أن عاب عليهم اتخاذ شركاء للّه وعبادة الأوثان ، أراد أن يبين شبههم الواهية في أن القرآن من عند محمد وليس من عند اللّه ، وفي صدق محمد فيما يدعيه.
المعنى :
وإذا تتلى على المشركين آياتنا البينات ، ومعجزاتنا الواضحات التي هي أوضح من الشمس وأقوى من فعل السحر قالوا لأجل الآيات التي هي الحق من عند اللّه : هذا سحر بين ظاهر فإنها تعمل عمل السحر ، وتفرق بين المرء وما يحبه ويهواه ، وتخلق من المسلم رجلا آخر ، لما يروا هذا يقولون : إن محمدا ساحر ، وما يأتيه سحر مبين.
أم يقولون افترى القرآن ؟ « 1 » أى : بل أيقولون افتراه واختلقه من عند نفسه ونسبه إلى اللّه ؟ وهذه شبهة ثانية ، كأنه قيل : دع هذا واسمع قولهم الذي ينكره كل عاقل ، قولهم العجيب الذي يدعو إلى العجب العجاب فإن افتراء محمد للقرآن ، مع تحديه لكم أن تأتوا بمثله مجتمعين ، ثم أنتم تعجزون عن ذلك ، إن قدرة محمد على اختلاق القرآن وحده فرضا مع عجزكم عنه لدليل على أن هذه القدرة من عند اللّه ، ومعجزة لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وتصديق من اللّه له ، والعزيز الحكيم لا يصدق الكاذب! قل لهم يا محمد : إن افتريته على سبيل الفرض عاجلني اللّه بالعقوبة على الكذب وأنتم لا تقدرون على كفه ، ومنعى من وقوع العذاب على فكيف أفتريه وأتعرض لعقاب لا يملك أحد شيئا يمنعني به من عذاب اللّه ؟ !
___________
(1) (أم) هنا بمعنى (بل) الإضرابية - إضرابا انتقاليا من معنى لآخر - والهمزة الاستفهامية وهي تفيد هنا الإنكار.(3/441)
ج 3 ، ص : 442
ربكم أعلم بما تفيضون فيه وتندفعون إليه من القدح في وحى اللّه والطعن في آياته وتسميتها تارة سحرا وطورا افتراء وكذبا ، كفى به شهيدا يشهد بيني وبينكم حيث يشهد لي بالصدق والبلاغ ، وعليكم بالتكذيب والجحود ، وهو الغفور الرحيم لمن تاب وأناب ورجع إلى اللّه.
وما لكم تكذبونني في دعوى الرسالة عن اللّه ، وتكفرون بما جئت به من التوحيد وإثبات البعث ؟ هل أنا وحدي في ذلك ؟ هل أنا أول رسول أرسل للبشر ؟ لا.
ما كنت بدعا من الرسل ، ولم أكن أولهم بل سبقني إبراهيم وموسى وعيسى - عليهم جميعا الصلاة والسلام - .
ولست أدرى ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا فالأمر مفوض إليه ، وإن كان وعد المؤمنين بالنصر والخير وأوعد الكافرين بالخذلان والشر. ومن أصدق من اللّه حديثا ؟ ! أما في الآخرة فاللّه قد أكد بأن أولياءه لا خوف عليهم فيها ولا هم يحزنون ... وكانوا يطلبون من النبي آيات للتعجيز ، فيقول اللّه لهم على لسان رسوله : إن أتبع إلا ما يوحى إلىّ ، وما أنا إلا نذير. إن علىّ إلا البلاغ وعلى اللّه وحده الحساب.
قل لهم : أرأيتم - أخبرونى - إن كان هذا القرآن من عند اللّه وليس معجزا ولا مختلقا كما تزعمون والحال أنكم كفرتم به ، وشهد شاهد من بنى إسرائيل ، أى :
رجل منصف بعيد عن الشبهة عارف بالتوراة ملم بها فليس المراد به شخصا بعينه كعبد اللّه بن سلام أو موسى - عليه السلام - كما قال بعضهم ، وشهد رجل من بنى إسرائيل على مثل الذي في القرآن من الدعوة إلى التوحيد وإثبات البعث والحث على الخير فآمن هذا الرجل واستكبرتم أنتم عن الإيمان وكفرتم بالقرآن. أخبرونى ماذا أنتم فاعلون! أرأيتم حالكم إن كان القرآن من عند اللّه وكفرتم به ... إلخ فقد ظلمتم أنفسكم « 1 » ألستم ظالمين ؟ واللّه لا يهدى القوم الظالمين.
وهناك حكاية أخرى لبعض مفترياتهم : وقال الذين كفروا لأجل الذين آمنوا وفي شأنهم : لو كان هذا الدين حقّا والقرآن خيرا ما سبقنا إليه الضعفاء والفقراء والعبيد
___________
(1) هذا هو جواب الشرط (إن) والمفعول الثاني لقوله (أرأيتم) مقدر ، تقديره : ألستم ظالمين ، وقوله : (إن اللّه لا يهدى القوم الظالمين) استئناف بيانى تعليلا لاستكبارهم.(3/442)
ج 3 ، ص : 443
ورعاة الشاء من أمثال صهيب وبلال ، وبعض قبائل جهينة ومزينة وغفار. وما علموا أن اللّه يهدى من يشاء ويضل من يشاء ممن يستحق ذلك ، وإذا لم يهتدوا بعد هذا بالقرآن ظهر عنادهم ، فليس لهم حجة في عدم الاهتداء ، فسيقولون : هذا إفك قديم.
وكيف ذلك ؟ ومن قبله كتاب موسى وهو التوراة حالة كونه إماما يقتدى به في دعوة الناس إلى التوحيد والحكم بكتاب اللّه والحث على الفضائل ، وحالة كونه أنزل رحمة للناس ، وهذا القرآن مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه ، وهو يهدى للتي هي أقوم حالة كونه لسانا عربيا مبينا نزل بلسان قريش ليفهموه ويتدبروه وإنما يتذكر أولو الألباب.
أنزله ربك لينذر به الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم بالشرك ، وهو هدى وبشرى للمحسنين فكيف يقولون بعد هذا : إن هذا القرآن إفك قديم ؟ إن الذين قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا على الطريقة المثلى وساروا عليها مخلصين مؤمنين فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، أولئك هم أصحاب الجنة خالدين فيها وذلك الجزاء بما كانوا يعملون ، واللّه ذو الفضل العظيم ..
الإنسان بين خالقه ووالديه [سورة الأحقاف (46) : الآيات 15 الى 20]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)(3/443)
ج 3 ، ص : 444
المفردات :
وَوَصَّيْنَا التوصية : الأمر المقترن بالوعظ والإشعار بأن المأمور به محل اعتناء.
كُرْهاً الكره : المشقة. فِصالُهُ : فطامه ، وهو الرضاع المنتهى بالفطام ولذا عبر بالفصال عن الرضاع. بَلَغَ أَشُدَّهُ : كمل عقله ورأيه واشتد ساعده.
أَوْزِعْنِي : رغبني ووفقني إليه حتى أكون راغبا فيه. أُفٍّ : هو صوت يظهر عند الضجر. أُخْرَجَ المراد : أبعث من القبر خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي :
مضت القرون. يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ يطلبان الغوث من اللّه. وَيْلَكَ الويل : دعاء بالثبور والهلاك ، أو هو واد في جهنم. أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ جمع أسطورة ، والمراد أباطيلهم التي سطورها في الكتب. دَرَجاتٌ المراد : منازل ، فإن كانت في العلو فهي درجات ، وإن كانت في الانخفاض فهي دركات.
هذه الآيات الكريمة سيقت لبيان جانب من جوانب نعم اللّه على الإنسان وفضله عليه حيث تعهده في الصغر ، ووضع في قلب والديه - وخاصة الأم - غريزة حبه والعطف عليه حتى يكتمل ، وبعد بلوغ عقله وكماله كان منه من وفق إلى الخير واهتدى ورد(3/444)
ج 3 ، ص : 445
بعض الجميل إلى أهله ، ومنه من ضل وبغى ولم يرع لحق حرمة بل كفر وأنكر رغم إلحاح والديه عليه وإرشاد هما له ، ولكل درجات فانظر - وفقك اللّه تعالى إلى الخير - مكانك في الناحيتين. على أن وضع الوصية بالوالدين هنا دليل على أنها من أصول الإسلام.
المعنى :
ووصينا الإنسان بوالديه أن يحسن لهما إحسانا ، وألزمناه إحسانا إليهما فهما أحق الناس به ، والأمر بالإحسان إليهما محل اعتناء من اللّه ، فكان وصية لا أمرا إذ هما قد توليا إيجاده ظاهرا ، واللّه تولى خلقه خفية وباطنا ، والأم أحق بذلك من الأب فهي حملته على كره وتعب ، ووضعته بمشقة وألم ، ومدة حمله وفطامه ثلاثون شهرا ، وقد مضى أن مدة الرضاع لمن أراد إتمامه سنتان وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ بقيت مدة الحمل وهي ستة أشهر ولحظتان ، وهذه أقل مدة يمكن نسبة الولد فيها إلى أبيه ، إن أقل الحمل ذلك ، وأما أكثره فلم ينص عليه القرآن ، والفقهاء قالوا : أقصاه سنتان ، وقيل : أربع ، والغالب أن مدة الحمل حول تسعة أشهر.
ومدة الحمل والرضاع ثلاثون شهرا والولد فيها حمل على أمه ، فبطنها وعاء له ، وثديها سقاء له ، وهي فوق ذلك تسهر وتتعب ، وتشقى ليسعد ، فمن باب الذوق ورد الجميل الإحسان إلى الوالدين وخاصة الأم.
فإذا عاش الرضيع ودرج كما يدرج الصبيان ، وأيفع مع الشبان ، حتى إذا بلغ أشده واستحكم عقله واستوت قوته ، وبلغ أربعين سنة. قال : رب أوزعنى ووفقني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علىّ وعلى والدي حيث وضعت في قلوبهما العطف علىّ ، وخلقتني بسببهما على أتم صورة ورعيتنى في الصغر وربيتني وحفظتني وأنعمت علىّ نعما لا تحصى ، ويظهر - واللّه أعلم - أن قول الإنسان هذا عند بلوغ الأشد واكتمال العقل وبلوغ الأربعين ، قوله هذا من حيث هو إنسان فقط بقطع النظر عن الإرشادات والتعاليم التي تأتى على ألسنة الزمان. وتجعل الطفل عند البلوغ أو الاحتلام مكلفا بكل فروع الشريعة إذ طلب الإنسان من ربه أن يوفقه إلى العمل وأن يهديه إلى الشكر ورد الجميل ليس موقوفا على بلوغ الأربعين وكمال الرشد.(3/445)
ج 3 ، ص : 446
رب اهدني إلى شكرك حيث أنعمت على وعلى والدي نعما لا تحصى ، واهدني إلى صالح الأعمال ، واجعل الصلاح والتقوى ساريا في ذريتي راسخا في أبنائى لأنى تبت إليك وأنبت ، وإنى من المسلمين القانتين فاغفر لي ووفقني يا أكرم الأكرمين.
أولئك - والإشارة للتعظيم - الذين نتقبل عنهم أحسن أعمالهم ، وكلها بسبب كمال الإخلاص من أحسن الأعمال ، ونتجاوز عما فرط من سيئاتهم ، وعدهم ربك بذلك وعدا هو الصدق بعينه ، الذي كانوا يوعدون به على ألسنة الرسل ، أما الصنف الثاني الذي لم يرع في اللّه حقا ، ولم يرع لوالديه حرمة ، ورد الجميل بالقبيح ، وجازى الحسنة بالسيئة فهذا والداه وهما كما عرفت تعبا وسهرا لراحته وصنعاه حتى اكتمل ، وأشارا عليه بما فيه خيره وسعادته ومع هذا ما زاده ذلك كله إلا استكبارا وعنادا وكفرا وجحودا .. انظر إليه وهو يقول : والذي قال لوالديه حينما أشارا عليه بالإسلام والإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر قال لهما : أف لكما أتعداننى بالبعث وأنى سأخرج من القبر للحساب ، والحال أنه قد خلت القرون من قبلي ومضت آلاف السنين ولم نر أحدا بعث ، يريد بهذا إنكار البعث.
وهما يستغيثان باللّه من أفعاله ، ويلجئان إلى اللّه أن يرشده ويهديه ، ويقولون له :
ويلك وهلاكك آمن مع المؤمنين ، وليس مرادهم الدعاء بالويل والثبور ، بل هما يحثانه على الإيمان والدخول فيه بسرعة ، لأن وعد اللّه حق ، وقد وعد المؤمنين بالثواب ، والكافرين بالعقاب.
فيقول بعد هذا : ما هذا الذي تقولانه إلا أساطير الأولين وأباطيلهم! انظر يا رعاك اللّه : الوالدان يحبان أولادهما حبا غريزيا ، وهما ينصحانهم بما هو خير لهم ، وقد نصحوا بالإيمان الكامل ، ولكن إذا كان الابن غير موفق لم يرع لهما حرمة ، ولم يقدس لهما رأيا ، ولهذا لا تأس يا محمد على كفر من كفر من قومك.
أولئك - والإشارة للتحقير - الذين حقت عليهم كلمة ربك بالعذاب وهي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ حالة كونهم في عداد أمم قد مضت من قبلهم من الجن والإنس ، لأنهم كانوا خاسرين.
ولكل من الفريقين : فريق المؤمنين ، وفريق الكافرين ، درجات معلومة بسبب أعمالهم التي عملوها ، فريق في الجنة له درجات عليا ، وفريق في السعير له دركات(3/446)
ج 3 ، ص : 447
سفلى ، وقد فعل ربك ذلك ليوفيهم جزاء أعمالهم التي عملوها في الدنيا ، وهم لا يظلمون شيئا بنقص ثواب وزيادة عقاب.
واذكر يوم يعرض الذين كفروا على النار ، ويعذبون بها غدوّا وعشيّا ، ويقال لهم تأنيبا وتوبيخا : أنتم أذهبتم طيباتكم وملذاتكم في الحياة الدنيا ، واستنفدتم حقكم فيها وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ فاليوم تجزون عذاب الهون والهوان ، العذاب الذي جعل للمستكبرين المتغطرسين ليذل تلك الأنوف التي طالما شمخت بغير حق ، ويخضع تلك الرءوس التي طالما تعالت في سبيل الشيطان ، كل ذلك بسبب ما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق ، وانظر إلى قوله : تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ نعم وهل يكون التكبر والتعالي إلا في الأرض وبالمادة الحقيرة! وبسبب ما كنتم تفسقون كان جزاؤكم ...
وإذا نظرنا إلى قوله تعالى : أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها وقد وضعت للنعى على الكفار الذين يعذبون بالنار مع قوله : « واستمتعتم بها » أمكننا أن نفهم أن هناك فرقا بين هذه الآية وبين قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [سورة المائدة آية 78].
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف 32].
إذ الآية التي نحن بصددها تشير إلى أن الكفار تمتعوا بطيباتهم وملذاتهم واتبعوا شهواتهم وأفنوا شبابهم في الإثم والفسوق والعصيان والاعتداء وتجاوز الحدود ، أما الآيات الأخرى فهي تبيح للمسلم أن يتمتع بطيبات الرزق مع عدم الاعتداء وتجاوز الحد في أى ناحية سواء كانت اقتصادية أم خلقية أم دينية ، أقول هذا لأنى رأيت كثيرا من المفسرين ذكروا قصصا تفيد أن الإسلام يحارب التمتع بالرزق الحلال مستندين إلى ظاهر هذه الآية واللّه أعلم بكتابه.
قصة نبي اللّه هود مع قومه عاد [سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 28]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ ءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)(3/447)
ج 3 ، ص : 448
المفردات :
أَخا عادٍ عاد : قبيلة ، وأخوهم هود من أشرافهم. بِالْأَحْقافِ : ما استطال من الرمل العظيم واعوج ولم يبلغ أن يكون جبلا ، وهي رمال باليمن كانت تسكنها قبائل عاد. خَلَتِ : مضت. لِتَأْفِكَنا : لتصرفنا عن عبادة الآلهة ،(3/448)
ج 3 ، ص : 449
يقال : أفك يأفك أفكا بمعنى صرف وقلب عن الشيء ، والإفك : الكذب.
عارِضاً العارض : السحاب الذي يعترض في الأفق. تُدَمِّرُ : تهلك ، والتدمير : الهلاك كالدمار. وَصَرَّفْنَا الْآياتِ : بيناها لهم. فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ :
هلا نصرهم. قُرْباناً القربان : كل ما يتقرب به إلى اللّه من طاعة. إِفْكُهُمْ أى : كذبهم ، وقرئ أفكهم أى : صرفهم.
هذه القصة تذكر أهل مكة بقوم هود ، وما حل بهم ، وقد كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا فلما كفروا أرسل اللّه عليهم جنده فأبادهم ، فهل من مدكر ؟ !!
المعنى :
واذكر يا محمد لأهل مكة هودا أخا عاد إذ أنذر قومه ، وقد كانوا يسكنون الأحقاف فقال لهم : لا تعبدوا إلا اللّه الذي خلقكم ورزقكم لأنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم هوله ، وأعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله ، والذين سيبعثون بعده كلهم ينذرون قومهم بهذا الإنذار وهو ألا يعبدوا إلا اللّه.
فماذا كان قولهم إزاء هذا ؟ « 1 » قالوا : أجئتنا يا هود لتأفكنا عن آلهتنا وتصرفنا عن عبادتها ، وقد عبدها آباؤنا ومن هم خير منك ؟ ! وإذا أصررت على دعوتك وما تقوله لنا من إنذار فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال لهم : إنما العلم عند اللّه ، فهو وحده الذي يعلم متى يأتى العذاب ، وإنما أنا رسول فقط لا علم لي بشيء ، وظيفتي البلاغ ، أبلغكم ما أرسلت به إليكم ، ولكني أراكم قوما تجهلون الحقائق العامة.
ظلوا على هذا الحال ، ودام عنادهم حتى حقت عليهم الكلمة وحل بهم ما استعجلوه وأنكروه ، فلما رأوه حالة كونه معترضا بين السماء والأرض يملأ الأفق يتهادى
___________
(1) - هذه إشارة إلى أن (قالوا) وقعت جوابا عن سؤال فهو استئناف بيانى.(3/449)
ج 3 ، ص : 450
كالسحاب المملوء ، ماء ، وهو في الواقع عذاب شديد ، لما رأوه عارضا يستقبل أوديتهم ، قالوا فرحين : هذا عارض ممطرنا ، بل - إضراب انتقالي - هو ما استعجلتم به وما هو ؟ قيل : ريح فيها عذاب مؤلم للغاية ، هذه الريح تدمر كل شيء أتت عليه وتهلكه ، تدمره بإذن ربها وأمره ، وهو على كل شيء قدير.
جاءتهم الريح وأرسلها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما لا خير فيها - فترى القوم بعدها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية ، فهل ترى لهم من باقية ؟ فأصبحوا بعد هذا لا يرى من آثارهم إلا مساكنهم فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [سورة النمل آية 52] مثل ذلك الجزاء الصارم نجزى القوم المجرمين فاحذروا يا آل مكة ما يحل بكم.
وكانت عاد قد أمدها اللّه بأنعام وبنين ، وجنات وعيون ، وكانوا يبنون بكل ريع « 1 » آية يعبثون ، ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون ، ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه ، وأمدهم ربك بما ترى ، وجعل لهم سمعا وأبصارا وقلوبا ، ولكنهم لم يستعملوها فيما خلقت من أجله ، ولم يغن عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء لأنهم كانوا بآيات اللّه ومظاهر الكون التي تدل على وجود اللّه واتصافه بكل كمال ، كانوا بها يكفرون ، وحاق بهم حينئذ ما كانوا به يستهزئون.
يا آل مكة لقد أهلكنا ما حولكم من القرى - كحجر ثمود وقرى قوم لوط وغيرها - وكانت أخبارهم ظاهرة عندهم ، وآثارهم يمرون عليها بالليل وبالنهار أفلا تعقلون ؟ ! لقد أهلكنا ما حولكم من القرى بعد أن صرفنا لهم الآيات وبيناها لعلهم يرجعون ، فهل تتذكرون بذلك وتتعظون ؟ ! فهلا نصرهم عند نزول العذاب بهم الذين اتخذوهم من دون اللّه آلهة.
بل في الشدائد ضلت عنهم الآلهة ، وغابت فلم تعرفهم لأنها أصنام لا تحس ، وذلك كذبهم الذي كانوا به يتشدقون ، وهذا جزاء ما كانوا به يفترون على اللّه.
___________
(1) - أى : مرتفع من الأرض ، وقيل : هو الطريق.(3/450)
ج 3 ، ص : 451
إيمان الجن بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم [سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 32]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)
المفردات :
صَرَفْنا : أملناهم ووجهناهم. نَفَراً النفر : الجماعة دون العشرة ، وأصل النفر يطلق على الجماعة التي تنفر إلى العدو أَنْصِتُوا : اسمعوا بأدب له.
قُضِيَ : انتهى. وَلَّوْا : رجعوا.
هذا تأنيب للمشركين الذين لا يسمعون لهذا القرآن ، وهم أعلم الخلق به لأنه بلغتهم ، وعلى لسان رجل منهم يعرفون عنه كل شيء ، تأنيب لهم حيث آمن بالقرآن الجن وهم على غير لغته ومن غير جنس صاحبه ، في حين كفر به المشركون : وبهذا تشتد عزيمة النبي ، وتقوى روحه ، وماذا يبغى النبي بعد ذلك والجن يؤمنون به حين ينكر بعض الإنس رسالته ؟(3/451)
ج 3 ، ص : 452
المعنى :
من الحقائق الثابتة في كتب التاريخ والسيرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعد موت خديجة وموت أبى طالب الذي كان درعه الواقي ، وبعد أن أسرفت قريش في إيذائه ، خرج إلى الطائف موطن قبائل ثقيف لعله يجد فيهم الناصر والذائد عنه ، ولكنهم ردوه ردّا غير جميل ، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع الناس وألجئوه إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة ، فرجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، بعد أن أدموا رجليه واختضبت نعلاه بالدم.
وهكذا الأنبياء والمرسلون والمصلحون دائما يلقون العنت والمشقة من بنى وطنهم ولما عاد صلّى اللّه عليه وسلّم من الطائف بعد أن لقى من ثقيف وغلمانها ما لقى ، واتجه إلى اللّه في تضرع وخشوع قائلا :
« اللهم إنى أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ، لمن تكلني ؟ ! إلى عبد يتجهمني - يلقاني بالغلظة والشدة - أو إلى عدو ملكته أمرى! إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى. ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك أو يحل على سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك » .
وكان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم نازلا في موضع يسمى (نخلة) من ضواحي مكة ، وبينا هو يصلى في جوف الليل يقرأ القرآن ، ويناجى صاحب الملك والجبروت إذ صرف اللّه إليه سبعة من أشراف الجن ، فاستمعوا إليه ، وهو يقرأ ، ولم يشعر بهم ساعة نزولهم عليه وانصرافهم إلى قومهم ، ونزل قوله تعالى : وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ (الآية) نزلت تطييبا لخاطره ، وشدّا لعزيمته وتقوية لروحه ، وبرهانا دامغا لأولئك المشركين الضالين ، وبعد ذلك ازداد يقينه بالإسراء والمعراج إلى الملأ الأعلى ، ولا شك أن فيها ترفيها روحيا وسموا نفسيا واتصالا ولقاء وتسلية وعزاء.
واذكر يا محمد لقومك وقت أن صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروا القرآن وأنت تتلوه ، قالوا لبعضهم : أنصتوا أدبا لهذا الحديث الذي ما سمعنا مثله أبدا ، فلما قضى وانتهى النبي منه ، رجعوا إلى قومهم منذرين يقولون : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد فآمنا به ، ولن نشرك بربنا أحدا ، وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأنه كان يقول سفيهنا على اللّه شططا ، يا قومنا : إنا سمعنا كتابا(3/452)
ج 3 ، ص : 453
أنزل من بعد موسى حالة كونه مصدقا لما بين يديه ، فالتوراة والإنجيل والقرآن والزبور وكل كتاب من السماء يدعو إلى التوحيد ويقرر مبدأ النبوة والبعث ، وهذا الكتاب الذي سمعنا جزءا منه يهدى إلى الحق ، وإلى الصراط المستقيم يا قومنا : أجيبوا داعي اللّه ، أى : هذا النبي المبعوث خاتم الأنبياء ، وآمنوا به ، إن تؤمنوا به يغفر لكم بعض ذنوبكم ، ويجركم من عذاب أليم.
ومن لا يجب داعي اللّه فليس بمعجزه في أرضه وتحت سمائه ، ولن يفلت منه بحال وليس له من دون اللّه أولياء تلى أموره ، وتدفع عنه السوء ، أولئك الذين لم يجيبوا في ضلال مبين ، وأى ضلال أضل من هذا ؟ !
من دلائل البعث [سورة الأحقاف (46) : الآيات 33 الى 34]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)
المفردات :
يَعْيَ يقال : عيى يعيى بأمره : إذا لم يهتد لوجهه ، والمراد يعجز ويضعف.
بَلى : نعم هو قادر على إحياء الموتى ، والفرق بين (بلى) ونعم أن (بلى) جواب للنفي بإبطاله وتقرير نقيضه كما هنا ، أما (نعم) فهي لتقرير ما قبلها.(3/453)
ج 3 ، ص : 454
المعنى :
ألم يتفكروا ولم يعلموا أن اللّه الذي خلق السموات والأرض بالحق ، والحال أنه لم يعي بخلقهن ، ولم يتعب لذلك أصلا ، ولم يتحير فيه أبدا.
ألم يعلموا أن اللّه قادر « 1 » على أن يحيى الموتى ؟ ! نعم هو قادر على ذلك ، بل هو أهون عليه ، إذ هو على كل شيء قدير.
ويقال للذين كفروا يوم يعرضون على النار ويعذبون بها ، يقال لهم توبيخا وتهكما :
أليس هذا العذاب الذي ترونه وتلمسونه حقّا لا شك فيه ؟ قالوا : بلى وربنا إنه لحق وعدل.
قال اللّه لهم مشافهة أو على لسان الملائكة : إذا كان الأمر كذلك فذوقوا العذاب بسبب ما كنتم تكفرون.
ختام السورة [سورة الأحقاف (46) : آية 35]
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)
المفردات :
أُولُوا الْعَزْمِ : أصحاب الثبات والصبر على الشدائد.
لما تقررت المبادئ الهامة في الدين الإسلامى ، وهي التوحيد وإثبات النبوة والبعث يوم القيامة ، ورد القرآن الشبهات ، وضرب الأمثال بما يقوى العزائم ، ويوهن حجج
___________
(1) - قادر خبر أن ، والباء زائدة ، والذي حسن زيادتها كون ما قبلها في حيز النفي فإن الاستفهام إنكارى. [.....](3/454)
ج 3 ، ص : 455
المعاندين ويبين مآلهم يوم القيامة أردف ذلك بأمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالصبر والثبات واحتمال الأذى.
المعنى :
إذا كان الأمر كما علمت فاصبر يا محمد كما صبر إخوانك من المرسلين ، اصبر على أذى المشركين ، إنا كفيناك المستهزئين ، وعصمناك من كيد الظالمين ، فاصبر على أذاهم الذي لا يتجاوز الماديات ، وقو عزيمتك حتى يتكسر عليها باطلهم الضعيف وعنادهم الأعرج ، وتذكر قول اللّه : وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [سورة البقرة آية 214].
اصبر على البأساء فهكذا إخوانك المرسلون يبتليهم اللّه ويختبرهم لتقوى نفوسهم وتصفو أرواحهم حتى تتحمل الرسالة ، ولا تستعجل لقومك عذابهم ، فإنه آت لا محالة وكل آت قريب ، كأنهم يوم يرون ما يوعدون من العذاب يوم القيامة لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة يسيرة من النهار ، كأنهم حين يشاهدون العذاب الشديد وطول مدته يرون أنهم لم يلبثوا إلا مدة من الزمن يسيرة.
هذا الذي وعظتم به أيها الناس كفاية في الموعظة وبلاغ كامل للناس فهل يهلك بعد ذلك إلا القوم الفاسقون ، القوم الخارجون عن الاتعاظ والطاعة ؟ !!(3/455)
ج 3 ، ص : 456
سورة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم
وتسمى سورة القتال ، وهي سورة مدنية ، وقيل : كلها مدني إلا آية وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ وعدد آياتها تسع وثلاثون آية ، وهذه السورة تشتمل على بيان أحوال الكفار والمؤمنين في الدنيا والآخرة ، وعنيت بالتقابل بينهم ، وذكر فيها كثير من أحكام القتال.
أحوال الكافرين والمؤمنين [سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3)
المفردات :
صَدُّوا : أعرضوا ومنعوا غيرهم. أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ : أحبطها وأبطلها.
بالَهُمْ البال : الحال. قال الراغب : البال : الحال التي يكترث بها ، ولذلك يقال : ما باليت بكذا.(3/456)
ج 3 ، ص : 457
المعنى :
هكذا خلق اللّه الخلق ، وجعلهم فريقين ، فريق في الجنة وفريق في السعير ، فريق اتبع الباطل من نفسه وهواه ، وآخر اتبع الحق من ربه ومولاه ، فالذين كفروا باللّه ورسوله ، وأعرضوا عن النور الذي أنزله على رسوله ، وصدوا غيرهم عن سبيل اللّه الذي هو سبيل العدل والكرامة ، هؤلاء أضل اللّه أعمالهم وأبطلها ، وجعلها ضائعة لا أثر لها ولا خير فيها.
والمراد بالذين كفروا المطمعون يوم بدر ، وهم أبو جهل والحارث بن هشام ، وعتبة ابن ربيعة وأخوه شيبة ، وأبى بن خلف وأخوه أمية وغيرهم من صناديد المشركين ، وكانت لهم أعمال في الخير أضلها اللّه وأبطلها كسقى الحجاج ، وإطعام الطعام وحماية الجار ... إلخ.
والذين آمنوا باللّه ورسوله وعملوا الصالحات من الأعمال ، وآمنوا بما أنزل على محمد خاصة وهو القرآن الكريم ، وخص بالذكر لما له من مكانة عليا ، والحق مقصور عليه لا يتعداه إلى غيره فهو الحق من ربهم ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات كفر اللّه عنهم سيئاتهم ، وسترها بستار الإيمان وعمل الصالح من الأعمال ، وأصلح حالهم في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد حتى جعلهم لا يبالون بشيء بعد إيمانهم باللّه.
والإضلال الخاص بالكافرين ، والإصلاح الخاص بالمؤمنين ، كل ذلك بسبب أن الذين كفروا اتبعوا الباطل الذي لا حق فيه ولا خير ، وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم.
مثل ذلك الضرب البديع والتبيان الرائع يبين اللّه لأجل الناس أحوال الفريقين ونهايتهم ، هذه الأحوال والصفات التي تجرى في الغرابة مجرى الأمثال السائرة.(3/457)
ج 3 ، ص : 458
القرآن والقتال [سورة محمد (47) : الآيات 4 الى 9]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8)
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)
المفردات :
لَقِيتُمُ المراد : لقيتموهم في الحرب. فَضَرْبَ الرِّقابِ أى : فاضربوا الرقاب ضربا ، وضرب الرقاب مجاز عن القتل. أَثْخَنْتُمُوهُمْ : أكثرتم القتل فيهم.
فَشُدُّوا الْوَثاقَ الوثاق : هو الحبل الذي يوثق به الأسير كالرباط ، وشده إحكام ربطه حتى لا يفلت. فَإِمَّا مَنًّا فإما تمنون منا ، أى : تطلقونهم من غير فدية.
وَإِمَّا فِداءً وإما تفادونهم فداء ، أى : تطلقونهم في نظير فداء بعض أسراكم عند المشركين. أَوْزارَها : جمع وزر ، وهو الحمل ، والمراد : أثقالها وأحمالها ، وهذا كناية عن انتهائها. فَتَعْساً لَهُمْ أى : هلاكا لهم وخيبة.
جاء الإسلام ينشد العدالة ويدعم أسس الحق ، وينشر لواء الحرية ، وينادى بأن الناس أحرار في كل ما يفعلون أو يعتقدون في حدود الحرية المكفولة لهم ، ولهذا كانت(3/458)
ج 3 ، ص : 459
دعوته الناس إلى الإسلام بلا إكراه ولا قتال : لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [سورة البقرة آية 256] ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [سورة النحل آية 125] وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [سورة ق آية 45].
وجاءت آيات في القرآن تدعو إلى القتال وتحث عليه ، فعلى أى وجه نفهمها ؟ نعم وردت آيات القتال لتنظيم تلك الغريزة الفطرية المطبوع عليها الخلق منذ بدء الخليقة ووضع حدود ثابتة لها ، وتوجيهها الوجهة الصالحة ، لتكون أداة تعمير لا تخريب.
فرسالة الإسلام إذا لم تحمل الناس على ظبا السيوف ، ولم يعتنقها بعضهم تحت ظلال الحراب ، وإنما كان طريق الإسلام دائما دعوة رقيقة وموعظة حسنة ، مع دعم الرأى بالحجة والبرهان الناصع ، فمن قبل الدعوة الإسلامية كان من المسلمين له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، لا فضل لعربي على أعجمى إلا بالتقوى ، والناس سواء ، كلكم لآدم وآدم من تراب ، ومن أبى الدخول في الإسلام فرضت عليه الجزية دليلا على إذعانه ، وبرهانا على حسن نيته للمسلمين وتمهيدا لهدايته فعسى أن يشرح اللّه صدره للحق والخير ويدخل في الإسلام هو أو ابنه من بعده ، ومساهمة منه في جيش الدولة التي تحميه ، ومن لم يقبل الدعوة ورفض أن يدفع الجزية وجب قتاله ، وليس ذلك اعتداء بل ردا لخطر لا شك في وقوعه ، وتأمينا للدعوة.
فالإسلام لا يطالبنا بأن نقاتل أهل الكتاب أو الوثنيين أو المجوس مثلا من غير سبب ، وإنما يطالبنا بأن ندعوهم إلى الإسلام فإن تركونا أحرارا في بث الدعوة وإقامة البراهين عليها فلا نقاتلهم ، وإن قاوموا الدعوة أو اعتدوا على الدعاة قاتلناهم تقريرا لمبدأ الحرية الدينية وحماية للدعوة وكفا لأذاهم ، وقد طبق الإسلام هذا المبدأ مع المخالفين جميعا كتابيين ووثنيين ، فكان يعرض عليهم أولا الدخول في الإسلام فإن قبلوا ذلك كانوا كالمسلمين ، وإن رفضوا هذا العرض وتمسكوا بمعتقداتهم مع ترك الدعاة أحرارا وجب على المسلمين ألا يقاتلوهم أو يعترضوهم في شيء فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [سورة النساء آية 90].
فإن لم يقبلوا الإسلام واعترضوا دعوته وآذوا دعاته ونقضوا عهودهم كان ذلك إعلانا منهم بالمناوأة ، وهؤلاء نطالبهم بالجزية دليلا على الخضوع وكف الأذى ، فإن دفعوها أصبحوا رعية للدولة الإسلامية عليها حمايتهم ورعايتهم وتأمينهم على أموالهم(3/459)
ج 3 ، ص : 460
وأنفسهم ، وكانت الجزية مقدار ما يتحملون من تكاليف الجيش الإسلامى المدافع عنهم وإن رفضوا دفع الجزية قاتلناهم حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [سورة التوبة آية 29] أى : عن قوة والحال أنهم خاضعون للحكم الإسلامى.
أما مشركو العرب : فقد فرق الإسلام بينهم وبين غيرهم من المشركين فكان لا يقبل منهم إلا الإسلام أو الحرب بينما كان يخير غيرهم في الإسلام أو الجزية أو الحرب ، ولعل السبب في ذلك أنهم وقفوا من المسلمين موقفا شاذّا وعاملوهم معاملة قاسية ، وعملوا جاهدين على إطفاء نور الإسلام وحاربوه حرب إبادة لا هوادة فيها وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا [البقرة 217] ولا تتحمل الجزيرة العربية دينا يعبد اللّه ودينا يعبد الأصنام.
فكان القتال معهم منحصرة أسبابه في رد العدوان ، وقطع الفتنة ، وتأمين الدعوة وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [سورة البقرة آية 193].
ومن هنا نفهم معنى
قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلّا اللّه »
فالمراد بالناس هم مشركو العرب خاصة.
ونفهم إذا سر التشديد في قتال المشركين ، وأنهم هم المقصودون بالذين كفروا في هذه الآية ، ويكون معناها ما يأتى :
إذا كان الأمر كذلك فإذا لقيتم المشركين في الحروب فاضربوا الرقاب ضربا شديدا وكثيرا ، ولعل إيثار هذه العبارة على قوله : فاقتلوهم للإشارة إلى أن القتل يجب أن يكون بإطاحة الرءوس وإزاحتها عن البدن ، وبقائه ملقى على صورة منكرة ، وفي هذا تشجيع للمسلمين وأى تشجيع!.
إذا لقيتموهم في المعركة فالواجب بذل الجهد في قتل الأعداء دون أخذهم أسرى حرب لأن ذلك يجعلنا أعزة وهم أذلة حتى إذا أثخناهم في المعركة جرحا وقتلا ، وتم لنا الرجحان عليهم فعلا رجحنا الأسر المعبر عنه في هذه الآية بشد الوثاق لأنه يكون حينئذ من الرحمة الاختيارية ، وتكون الحرب ضرورة تقدر بقدرها ، وليس المراد بها سفك الدماء وحب الانتقام ، ثم أنتم بعد انقضاء الحرب وانفصال المعركة التي أثخنتموهم قتلا وجرحا فيها مخيرون في أمرهم إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أسراهم بلا مقابل ، وإن شئتم(3/460)
ج 3 ، ص : 461
فاديتموهم بمال تأخذونه منهم أو برجال أسرى عندهم ، وهو ما يعبر عنه الآن بتبادل الأسرى ، والظاهر - واللّه أعلم - أن هذه الآية نزلت بعد غزوة بدر التي عاتب اللّه النبي فيها على الاستكثار من الأسارى يومئذ ليأخذ منهم الفداء ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة الأنفال آية 67].
وعلماء الأحناف يرون أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة 5] وعند الأكثرين أنها ليست بمنسوخة والإمام مخير بين المن على الأسير ومفاداته فقط ، ولا يجوز له قتله بعد المعركة وانتهائها فالإمام عقب المعركة مخير بين الأسر أو القتل ، فإذا أسر له أن يمن أو يفادى ، وليس له القتل.
وعلماء الشافعية يقولون : إن الإمام مخير بين أربعة خصال ، يختار الأحسن منها للإسلام والمسلمين ، فله أن يقتل الأسير إن لم يسلم ، أو يمن عليه بلا مقابل ، أو يفاديه بمال أو بفك أسير عندهم منا ، أو استرقاقه ، وقد استدلوا على ذلك بأن النبي من على أبى عزة الجمحي ، وعلى ثمامة بن أتاك ، وفدى رجلا برجلين من المشركين ، وأمر بقتل بعضهم ، كالنضر بن الحارث ، وعقبة بن أبى معيط ، وذلك كله ثابت في كتب التاريخ والسير والسنة.
وهذه الأحكام كلها جارية معهم حتى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم وعودة البشرية إلى حالة الهدوء والطمأنينة والحرية الكاملة ، وهذا ما ينشده الأئمة والمصلحون ، أما تحققه فهو موكول إلى اللّه ، وهذا معنى قوله : حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها « 1 » الأمر ذلك فاعرفوه ، ولو شاء اللّه لانتصر لكم بإهلاكهم بعذاب من عنده لا جهاد لكم فيه ، ولكن مضت سنته وشاءت قدرته أن يجعل سعادة الدنيا والآخرة للناس بأعمالهم وجهادهم ، وذلك ليمحص اللّه الذين اتقوا ويعلم علم ظهور المنافقين من غيرهم.
والذين قتلوا في سبيل اللّه ، واستشهدوا في سبيل الدفاع عن الحق ونصرته فلن يضل أعمالهم ، بل سيجازيهم عليها أحسن الجزاء : سيهديهم ويصلح حالهم « 2 » ، ويدخلهم
___________
(1) - في هذه العبارة مجاز في الإسناد ، والمراد حتى تضع أهل الحرب ، ومجاز في الحرب أطلق وضع آلة القتال وأراد تركه.
(2) - الجملة واقعة موقع البيان مما قبلها ولذا فصلت.(3/461)
ج 3 ، ص : 462
الجنة التي عرفها لهم ، ووصف لهم نوع نعيمها الدائم المقيم ، ثم إنه تعالى لما بين ثواب القتال ، وجزاء الاستشهاد ، وعدهم بالنصر في الدنيا زيادة في الحث على القتال فقال :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ « 1 » على أعدائكم مهما كانوا فاللّه يدافع عن الذين آمنوا واللّه يثبت أقدامكم في الحرب ، ويقوى روحكم المعنوية تقوية بها تخوضون غمار الحرب فائزين منتصرين ، وقد حصل ذلك مع النبي وصحبه ، والذين كفروا فتعسوا تعسا وهلكوا هلاكا وأضل اللّه أعمالهم ، وأبطل كيدهم ، ورده في نحورهم ، ذلك كله بسبب أنهم كرهوا ما أنزل اللّه من القرآن والتوحيد والدعوة إلى مكارم الأخلاق ، فكان جزاؤهم أن أحبط اللّه أعمالهم ، ووجه كراهتهم للدين الجديد أنه جاء بتكاليف وهم قوم ألفوا الإهمال وإطلاق العنان للنفس والهوى ، فلما جاء القرآن بالتكليف وترك الملذات كرهوه.
المؤمنون والكافرون في الدنيا والآخرة [سورة محمد (47) : الآيات 10 الى 14]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)
___________
(1) - سورة محمد آية 7.(3/462)
ج 3 ، ص : 463
المفردات :
دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يقال : دمره اللّه : أهلكه ، ودمر اللّه عليه : أهلك ما يختص به من المال والنفس ، والعبارة الثانية أبلغ. مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا : ناصرهم ومتولى أمورهم. مَثْوىً لَهُمْ : محل إقامة ، يقال : ثوى بالمكان : أقام به. وَكَأَيِّنْ :
بمعنى كم من قرية ، والمراد كثير من القرى. بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ : على حجة وبرهان ، والمراد أنه يسير على هدى القرآن.
المعنى :
أقعدوا فلم يسيروا في الأرض فينظروا نظر اعتبار بقلوبهم كيف كان عاقبة الذين من قبلهم من الأمم التي كذبت رسلها كقوم عاد وثمود وأصحاب القرية وقوم لوط فإن آثار ديارهم تنبئ عن أخبارهم! وكأن سائلا سأل وقال : كيف كان عاقبتهم ؟ فأجاب الحق - تبارك وتعالى - : دمر اللّه عليهم ، وأهلك كل ما يختص بهم من النفس والمال والأهل والولد ، ولم يبق إلا آثارهم الشاهدة عليهم.
وللكافرين المشركين من قريش أمثال عقوبتهم ، وقد قتلوا وأسروا يوم بدر بأيدى من كانوا يسومونهم سوء العذاب ، هؤلاء هم الكفار ، وهذا عذابهم في الدنيا ، ولا غرابة في ذلك ، فاللّه مولى الذين آمنوا ينصرهم ويهديهم ويرشدهم إلى ما فيه خيرهم ، والكافرون لا مولى لهم ينصرهم من آلهتهم وشركائهم الذين عبدوهم من دون اللّه.
وأما حالهم في الآخرة : فاعلم أن اللّه يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الأنهار لهم فيها نعيم مقيم ، والذين كفروا في الدنيا يتمتعون بمتاعها الفاني أياما قليلة ، ويأكلون أكلا كأكل الأنعام أكلا مجردا عن التفكير والنظر إلى عواقب الأمور ، فهم يأكلون غافلين عن الآخرة والحال أن النار مثوى لهم.
فانظر إلى من عرفوا الدنيا على أنها خيال باطل ونعيم زائل ، فتركوا الشهوات وتفرغوا لعمل الصالحات ، فكانت عاقبتهم النعيم المقيم في مقام كريم ، وهؤلاء الكفار(3/463)
ج 3 ، ص : 464
غفلوا عن الآخرة ، وغرتهم الدنيا بمفاخرها الكاذبة ، فتمتعوا بشهواتهم ، وكانت عاقبة أمرهم خسرا ، وكانت النار مثوى لهم.
وكم من أهل قرية هم أشد قوة من أهل قريتك الذين أخرجوك أهلكناهم « 1 » بعذاب بئيس ، ولم يستطيعوا الخلاص منه بأنفسهم ، ولم يكن لهم ناصر ينصرهم من أوليائهم وأصنامهم « فلا ناصر لهم » وعلى ذلك فاصبر كما صبرت الرسل من قبلك : وهذا تقرير لتباين حال الفريقين المؤمنين والكافرين ، وبيان لسبب الحكم على كل منهما أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ « 2 » والمعنى : أيستوى الفريقان ؟ فمن كان ثابتا على حجة ظاهرة ، وبرهان واضح من ربه الذي تولى تربيته ، وهذا البرهان وتلك الحجة هي القرآن الكريم ، وسائر المعجزات والحجج العقلية الأخرى كمن يزين له الشيطان عمله السيئ من الشرك وسائر المعاصي ، واتبع هواه الداعي إلى الشر من غير أن يكون له شبهة أو حجة ؟ ! أيعقل أن يستوي هذا وذاك ؟ !.
مثل النعيم والعذاب الأليم يوم القيامة [سورة محمد (47) : آية 15]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)
___________
(1) - كأين بمعنى كم الخبرية وهي مبتدأ ومن قرية تمييز لها وقوله أهلكناهم خبر.
(2) - الاستفهام في قوله : أفمن استفهام إنكارى ، والفاء عاطفة على محذوف تقديره أيستوى الفريقان فمن كان.(3/464)
ج 3 ، ص : 465
المفردات :
غَيْرِ آسِنٍ : غير متغير الرائحة لطول مكثه ، وهو من أسن الماء يأسن إذا تغيرت رائحته. لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أى : لذيذة لهم ليس فيها ما يسوؤهم. مُصَفًّى أى :
خال من الشمع والقذى. حَمِيماً : ماء حارا شديد الغليان. أَمْعاءَهُمْ : جمع معى وهي ما ينتقل إليه الطعام بعد المعدة ، وينتهى به إلى الشرج - فتحة الدبر -
المعنى :
وهذا بيان الحال فريقى المؤمنين والكافرين في الآخرة مع توضيح الجنة وما بها ، والنار وما فيها ، بعد بيان حالهما في الاهتداء والضلال صفة الجنة التي وعد المتقون بها ، صفاتها الغريبة التي تشبه المثل ما تسمعون : فيها أنهار من ماء غير آسن ، أى : غير متغير الطعم والريح واللون لطول المكث بل ماؤها عذب فرات ، من شربه لا يظمأ أبدا ، وفيها أنهار من لبن صابح لم يتغير طعمه بحموضة كلبن الدنيا ، وفيها أنهار من خمر لذيذة لكل من يشربها لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ خمر الجنة ليس فيها حموضة ولا غضاضة ، ولا مرارة ، وليس في شربها ذهاب للعقل ، ولا ضياع للمال ، ولا صداع في الرأس بل هي خمر ليس فيها إلا اللذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ، عسل خال من الشوائب والقذى حتى الشمع الذي يكون معه.
وانظر إلى تعبير القرآن عن بعض الأصناف التي في الجنة وعن كثرتها بأنها أنهار ، وصدق اللّه : ولكم فيها ما تدعون.
وللمتقين في الجنة المعدة لهم من كل الثمرات أشهاها وأحسنها ، ولهم فيها مغفرة من ربهم ورضوان منه أكبر من كل ذلك ، وذلك هو الفوز العظيم. أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ؟ ! أم من هو في هذا النعيم وتلك الجنة وما فيها كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ؟ ! لا يستويان بحال!! يا ويل من هو في النار ؟ ويلاقي عذاب الجبار ، ويسقى ماء حميما شديد الغليان إلى درجة أنه يقطع الأمعاء حتى تنزل مع الطعام ، انظر إلى هذا الماء الذي يعطى لهم بدل الأنهار من الماء الزلال ، واللبن الصابح والخمر اللذيذة والعسل المصفى أين هذا من ذاك ؟ !(3/465)
ج 3 ، ص : 466
المنافقون والمهتدون [سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 19]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19)
المفردات :
آنِفاً المراد به : الساعة التي قبل الساعة التي أنت فيها ، أى : ماذا قال قبيل وقتنا أو هو من استأنف الشيء إذا ابتدأه أى : ماذا قال آنفا ، أى : في أول وقت يقرب منا « 1 » . وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ : ألهمهم ما يتقون به ربهم. بَغْتَةً : فجأة.
أَشْراطُها : جمع شرط وهو العلامة. ذِكْراهُمْ : تذكرهم.
مُتَقَلَّبَكُمْ : تصرفكم واشتغالكم. مَثْواكُمْ : سكونكم.
وهذا بيان حال المنافقين ، ومقابلتهم بالمؤمنين المهتدين ، بعد بيان الكفار وتقابلهم بالمؤمنين في الدنيا والآخرة.
___________
(1) - وعلى ذلك فهو اسم فاعل لائتنف أو استأنف بعد حذف زوائده لأن مجرده لم يستعمل ، والذي يقول : إنه الساعة فهو يقصد إلى بيان المعنى لا بيان اللفظ ، وعليه فهو إما حال أو ظرف.(3/466)
ج 3 ، ص : 467
المعنى :
ومن الناس الذين حقت عليهم كلمة ربك ، وصاروا من أصحاب النار قوم يستمعون إليك بآذانهم ، حتى إذا خرجوا من عندك ، وانتهى مجلسهم معك ، قالوا للذين أوتوا العلم والفهم الصحيح : ماذا قال آنفا ؟ ماذا قال في تلك الساعة القريبة ؟ لم يقل شيئا يعتد به ، وما قال إلا أخلاطا وأحاديث لا خير فيها.
أولئك هم الذين طبع اللّه على قلوبهم حتى لا يفقهوا شيئا مما قلت ، وختم عليها حتى لا يدخلها نورك الوضاح ، فهؤلاء تركوا اتباع الحق فأمات اللّه قلوبهم فلم تفهم ولم تعقل فعند ذلك اتبعوا أهواءهم.
ويقابل هؤلاء - والإشارة للتحقير والتوغل في الضلال - الذين اهتدوا إلى طريق الحق ، وزادهم اللّه - عز وجل - هدى بالتوفيق والإلهام والعمل الصالح ، وآتاهم تقواهم بأن خلق فيهم قدرة على التقوى وفعل الطاعة جازاهم على ذلك.
فهؤلاء الذين طبع اللّه على قلوبهم فلم يسمعوا الخير ولم يهتدوا به ، هل ينظرون إلا أن تأتيهم الساعة فجأة ، على معنى : هؤلاء لم يتذكروا بأحوال الأمم الخالية ، ولم يتعظوا بما ينزل عليهم من أنباء الساعة وأهوالها. فهم ما ينتظرون إلا إتيان الساعة نفسها بغتة.
فقد جاء أشراطها وعلاماتها ، وإذا كان الأمر كذلك فكيف لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة ؟ ومن أين لهم التذكر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم الساعة بغتة ؟ ! إذا علمت ذلك فاثبت على ما أنت عليه ، ودم على العلم بوحدانية اللّه والإيمان بالبعث ، واعلم أنه لا إله إلا اللّه ، فإن ذلك هو النافع المنجى يوم لا ينفع مال ولا بنون.
واستغفر لذنبك ، واستغفر للمؤمنين والمؤمنات ، واللّه يعلم تقلبكم في الدنيا وتصرفكم فيها ، ويعلم مكان استقراركم في الآخرة ، وسيثيبكم على ذلك كله فإنه لا تخفى عليه خافية.
أما أمر النبي بالاستغفار فقيل : لتستن به أمته وتقتدى به فإذا كان هو مأمورا بالاستغفار وهو المعصوم فكيف بنا نحن ؟(3/467)
ج 3 ، ص : 468
وقد روى مسلم عن الأغر المزني قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « إنّه ليغان على قلبي - الغين : التغطية والستر ، أى : يلبس على قلبي ويغطى - حتّى أستغفر اللّه في اليوم مائة مرّة » . وروى البخاري عن أبى هريرة قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « إنى لأستغفر اللّه وأتوب إليه في اليوم سبعين مرّة » .
ولقد عللوا ذلك بأن النبي كان يشتغل فترات من الزمن بأحوال المسلمين فيرى أنه شغلعن الحق - تبارك وتعالى - فيستغفر اللّه لذلك ، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وقد يكون استغفار النبي شكرا لا عن ذنب
« أفلا أكون عبدا شكورا »
وفي أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات إكرام لهم وتشريف وتوجيه للاستغفار ، فإنه وصف لازم للمؤمن والمؤمنة.
المؤمنون الصادقون والمنافقون الكاذبون [سورة محمد (47) : الآيات 20 الى 32]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29)
وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32)(3/468)
ج 3 ، ص : 469
المفردات :
مُحْكَمَةٌ : لا شبهة فيها ولا غموض ولا تشابه. مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ مَرَضٌ : شك ونفاق. نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ : نظرا كنظر المحتضر الذي لا يطرف بصره. فَأَوْلى لَهُمْ : تلك عبارة تهديد ووعيد ، والمراد قاربهم ما يهلكهم ، على أنها مشتقة من الولي وهو القرب ، أو هي مشتقة من الويل بمعنى الهلاك. عَزَمَ الْأَمْرُ : جد ووجب ، والمراد بالأمر القتال.(3/469)
ج 3 ، ص : 470
عَسَيْتُمْ : عسى للتوقع ، وهي هنا من اللّه فتفيد التحقق. أَقْفالُها : جمع قفل.
سَوَّلَ : زين لهم خطاياهم. وَأَمْلى لَهُمْ : مد لهم في الأمل ووعدهم بطول الأجل. إِسْرارَهُمْ أى : سرهم ، وفي قراءة : أسرارهم على أنه جمع سر.
وَأَدْبارَهُمْ المراد : ظهورهم. مَرَضٌ المرض : فتور في الجسم ، ولا شك أن النفاق فتور في الإيمان ، وعلى ذلك فسمى اللّه شكهم ونفاقهم مرضا. أَضْغانَهُمْ :
أحقادهم الدفينة. بِسِيماهُمْ : بعلامتهم. فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أى : بسببه ، ولحن القول : صرف الكلام عن التصريح إلى التلويح والتعريض. وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ :
نعاملكم معاملة المختبر بالتكليف بالجهاد. وَشَاقُّوا الرَّسُولَ : خالفوه حتى كأنهم في شق وجانب ، وهو في شق وجانب. وَسَيُحْبِطُ : سيبطل.
المعنى :
المؤمنون الصادقون حريصون على الجهاد ، تواقون لبذل النفس والنفيس في سبيل إعلاء كلمة اللّه ، ولذلك يقولون حرصا منهم على الجهاد وثوابه : هلا أنزلت سورة يؤمر فيها بالجهاد! هؤلاء هم المؤمنون يتمنون أن تنزل سورة وفيها الأمر بالجهاد ، أما المنافقون فإذا أنزلت سورة محكمة ، لا شبهة فيها ولا خفاء ، وذكر فيها القتال على أنه فرض واجب على المسلمين رأيت ، ويا هول ما رأيت! رأيت الذين في قلوبهم مرض الشك ، ينظرون إليك نظرا كنظر المحتضر الذي لا يطرف بصره ، تراهم تشخص أبصارهم إليك جبنا وهلعا ، أو من شدة العداوة لك ، أو من خوف الفضيحة الفاضحة لهم ، وما أروع تصوير القرآن لهم حيث قال :
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فأولى لهم. ثم أولى لهم « 1 » ! وهذا تهديد لهم ووعيد بقرب هلاكهم ، وحصول الويل لهم.
___________
(1) - أولى لهم مبتدأ وخبر.(3/470)
ج 3 ، ص : 471
طاعة وقول معروف خير لهم وأولى بهم « 1 » وقيل المعنى : أولى بهم من النظر إليك نظر المغشى عليه من الموت طاعة وقول معروف « 2 » .
فإذا عزم الأمر وجد الجد ، فلو صدقوا اللّه في نيتهم وأخلصوا العمل لكان « 3 » خيرا لهم وأفضل من نفاقهم وكذبهم ، فإن وبال ذلك عليهم وحدهم.
فهل يتوقع منكم إن توليتم عن الحق ، وأعرضتم عن القرآن أن تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، وتقطعوا الأرحام ؟ وهذا التوقع والاستفهام إنما يكون مع غير اللّه من كل إنسان يقف على أمور المنافقين ، ويعرف إسرارهم على حقيقته ، والتوقع من اللّه إنما هو إخبار عن شيء حاصل قطعا وعلى ذلك فمعنى الآية : هؤلاء المنافقون ضعاف في الدين شديد والحرص على الدنيا بشكل ظاهر ، فهم جديرون بأن يتوقع منهم الإفساد لا الإصلاح وتقطيع الأرحام لا صلتها ، كل إنسان عرف حالهم ويقول لهم : فهل عسيتم ... ؟ والمراد بإفسادهم وتقطيع الأرحام أنهم يعودون إلى الجاهلية الجهلاء والضلالة العمياء التي كانوا فيها ، يعودون إليها بعد أن رأوا نور الهدى على يد خير الخلق ، وبين سطور القرآن الكريم ، فهل يفهم المسلمون الآن أنهم تولوا عن القرآن وأعرضوا عن الدين فأفسدوا في الأرض الفساد ، وقطعوا وشائج الأرحام فصب عليهم ربك سوط عذاب حتى وصلوا إلى ما وصلوا ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه!!! أولئك الذين لعنهم اللّه وأبعدهم عن رحمته ، فأصمهم عن الحق فلم يسمعوه وأعمى أبصارهم عن النور فلم يروه.
أفلا يتدبرون القرآن ، وما فيه من مواعظ وزواجر ؟ حتى لا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات ؟ ! بل أعلى قلوب أقفالها ؟ حتى لا يمكن التدبر والاتعاظ بها ، وهم كذلك.
___________
(1) - وعلى ذلك فطاعة مبتدأ وخبره محذوف تقديره خير لهم.
(2) - وعلى ذلك فأولى مبتدأ ولهم متعلق به على أن اللام بمعنى الباء وطاعة خبر.
(3) - جواب الشرط (إذا) قوله : فلو صدقوا اللّه ، ولا يضر اقترانه بالفاء ، وجواب (لو) قوله : لكان.(3/471)
ج 3 ، ص : 472
إن الذين ارتدوا على أدبارهم ، وكفروا بعد إيمانهم ، كل ذلك من بعد ما تبين لهم الهدى ، وظهر لهم الحق جليا ، إن الذين وصفوا بهذا : الشيطان سول لهم وزين خطاياهم « وأملى لهم ، أى : مد لهم في الأمل » ، ووعدهم بطول العمر ومد الأجل ، هذا الكلام قيل : إنه في أهل الكتاب ، والظاهر أنه في المنافقين ، والكلام موصول فيهم لا مقطوع بدليل قوله : ذلك الارتداد والكفر بعد الإيمان بسبب أنهم قالوا : أى المنافقون الذين كرهوا ما أنزل اللّه ، وهم بنو قريظة والنضير من يهود المدينة قالوا لهم :
سنطيعكم في بعض الأمر أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ : لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً ، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ [سورة الحشر آية 11] واللّه يعلم إسرارهم وإخفاءهم.
فكيف حالهم ؟ إذا توفتهم الملائكة ظالمي أنفسهم « 1 » حالة كون الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم ، وضرب الوجه والظهر في حالة الحرب مما يتقيه الكريم ، فهم تجنبوا ذلك في الدنيا فضربوا عليها في الآخرة ، وذلك كله بسبب أنهم اتبعوا ما أسخط اللّه من الكفر والمعاصي وكرهوا رضوانه وطاعاته ، فأحبط أعمالهم ، وأبطل كيدهم ، بل أحسب الذين في قلوبهم مرض النفاق أن لن يخرج اللّه أضغانهم ، ويظهر حقدهم وحسدهم المدفون ؟ لا تظنوا هذا فاللّه عالم يعلم الغيب والشهادة ، وهو العليم بذات الصدور.
ولو يشاء ربك يا محمد أن تراهم وتعرفهم لعرفك إياهم ، فلتعرفنهم « 2 » بعلامتهم الدالة عليهم ، ولتعرفنهم بسبب لحن القول وفحواه.
والمعنى : إنك يا محمد لتعرفن المنافقين فيما يعرضونه عليك من القول ولحنه ، فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلا عرفه بقوله ، واستدل بفحوى كلامه على فساد باطنه ، وضعف إيمانه ونفاقه ، ولا غرابة فاللّه يعلم أعمالكم الظاهرة والخافية.
___________
(1) - الفاء فاء التفريع لترتب ما بعدها على ما قبلها ، وكيف خبر لمبتدأ محذوف وتقديره حالهم.
(2) - الفاء هنا فاء تفريع لمعرفته صلّى اللّه عليه وسلّم على تعريف اللّه عز وجل واللام بعدها كاللام في لأريناكهم واقعة في جواب لو ، واللام في « ولتعرفنهم » جواب قسم محذوف.(3/472)
ج 3 ، ص : 473
وباللّه لنبلونكم ونعاملنكم معاملة المختبر بأمركم بالجهاد في سبيل اللّه وغيره حتى نعلم علم ظهور وانكشاف ، ويعلم الكل حقيقة حالكم.
إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللّه بالقول أو الفعل أو إذاعة السوء وتحريف الأخبار ، وتحريف الكلم من بعد مواضعه ، إن الذين فعلوا ذلك وشاقوا الرسول وخالفوه من بعد ما تبين لهم الهدى : فوصف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عندهم ظاهر في كتبهم قبل تحريفها ، وكانوا يستفتحون النبي على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، والمنافقون قوم آمنوا ثم كفروا ، وخالفوا بعد ما اهتدوا ، هؤلاء لن يضروا اللّه شيئا ، وسيحبط أعمالهم ، ويبطل مكرهم ، ولا يثيبهم اللّه يوم القيامة على أعمالهم التي يظنونها خيرا.
ختام السورة [سورة محمد (47) : الآيات 33 الى 38]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37)
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)(3/473)
ج 3 ، ص : 474
المفردات :
فَلا تَهِنُوا أى : فلا تضعفوا. السَّلْمِ : هو السلام والمصالحة.
يَتِرَكُمْ قال الزمخشري في تفسيره - على أنه من أئمة اللغة - : وحقيقته : أفردته من قريبه أو ماله من الوتر وهو الفرد ، فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر وهو من فصيح الكلام ، وقال أبو عبيدة والمبرد : هذا اللفظ مأخوذ من : وترت الرجل : إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخذ حميم ، أو سلبته ماله وذهبت به ، والمراد باللفظ في الآية : لن يظلمكم ، أو لن ينقصكم ، أو لن يضيع عليكم شيئا من أعمالكم. لَعِبٌ وَلَهْوٌ المراد : باطل وغرور وليس فيه خير. فَيُحْفِكُمْ الإحفاء : المبالغة في الطلب. أَضْغانَكُمْ : أحقادكم.
بعد بيان أحوال الكفار والمنافقين ، في الدنيا والآخرة أمر المؤمنين بطاعة اللّه ورسوله ، وحثهم على الجهاد والبذل ، وكره إليهم الدنيا ، وهددهم إن لم يؤمنوا أن يستبدل قوما غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا باللّه ورسوله : أطيعوا اللّه وأطيعوا رسوله في كل أمر ونهى فها أنتم أولاء قد رأيتم من يشاقق الرسول وعاقبته ، وإياكم أن تبطلوا أعمالكم الصالحة بالمن والأذى ، ولا تحبطوها بالكفر والعصيان ، أو بالسمعة والرياء ، أو بالشك والنفاق ، أو بالعجب والتكبر فإن ذلك كله يبطل صالح الأعمال : واعلموا أن الذين كفروا باللّه ورسوله ، وصدوا عن سبيل اللّه أنفسهم وغيرهم ، ثم ماتوا وهم كفار ، فلن يغفر اللّه لهم. قيل نزلت هذه الآية في أهل القليب ، وهم المشركون الذين ماتوا في غزوة بدر ، وحكمها عام في من مات على الكفر.
إذا علمتم وجوب الجهاد وتأكده ، وأن اللّه مع المؤمنين بالنصر والتأييد ، وأن اللّه أوعد الكافرين بالخذلان والهلاك. إذا علمتم ذلك فلا تهنوا في ابتغاء القوم ، ولا تضعفوا ، إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وأكثر. والوهن : حب الدنيا وكراهية الموت ، فإياكم والوهن والخضوع للكفار وطلب الصلح إذا لقيتموهم ، والحال(3/474)
ج 3 ، ص : 475
أنكم الأعلون ، فجهادكم في سبيل اللّه ستثابون عليه ثوابا جزيلا ، وحربهم في سبيل الشيطان سيلقون به عذابا شديدا ، وأنتم الأعلون فمقصدكم إعلاء كلمة اللّه وإحباط كيد الشيطان ، واللّه معكم بالنصر والتأييد ، والمعونة والمثوبة ، ومن كان معه اللّه فلا يضره شيء بعد هذا ، وكفاكم شرفا وفخرا وتأييدا أن اللّه معكم ، ولن ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا ، ولا تنسوا أن قتلاكم شهداء في الجنة ، وقتلاهم في سعير جهنم.
واعلموا أن الدنيا لعب ولهو ، وزينة وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد ، وهذا كله باطل إلا ما كان منها في عبادة اللّه - عز وجل - وطاعته ، وإذا كان الأمر كذلك فيجب ألا تشغلكم الدنيا عن الآخرة والفوز بلذائذها الفاخرة ، فالآخرة خير وبقي وإن تؤمنوا وتتقوا أيها الناس يؤتكم أجوركم ، ولا يسألكم أموالكم كلها : إنما يسألكم قليلا من المال هو في الواقع تحصين لكم ولمالكم ، وإنما أنتم في الواقع خلفاء للّه في ماله ، فأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ، إن يسألكموها فيحفكم ويبالغ في طلبها كلها تبخلوا ولا تقرضوه قرضا حسنا تثابون عليه ، ويخرج هذا أضغانكم وحبكم للمال ، إذ كراهيتكم للإنفاق كراهية طبيعة.
ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل اللّه ، فمنكم من يبخل ، ومن يبخل فإنما بخله وعاقبته على نفسه وحده ، واللّه الغنى عن إنفاقكم ، وإنما سبحانه قد ربط أسباب النجاح والفلاح بالإنفاق والجهاد في سبيل اللّه واللّه الغنى وأنتم الفقراء إليه.
وإن تتولوا وتعرضوا يستبدل قوما غيركم ، ثم لا يكونوا أمثالكم ، بل يكونوا طائعين مؤمنين عاملين.(3/475)
ج 3 ، ص : 476
سورة الفتح
وهي مدنية بالإجماع. وعدد آياتها تسع وعشرون آية. ونزلت ليلا بين مكة والمدينة في شأن صلح الحديبية.
خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من المدينة في ذي القعدة من السنة السادسة معتمرا (زائرا للبيت) لا يريد حربا ، وإنما هو مشتاق إلى رؤية بلده الحبيب ، خرج ومعه حوالى 1500 من المهاجرين والأنصار ومن دخل في الإسلام من الأعراب وساق معه الهدى - ما يهدى إلى الحرم من النعم - وأحرم بالعمرة من (ذي الحليفة) وخرج معه من نسائه أم سلمة - رضى اللّه عنها - ولم يكن مع رسول اللّه وصحبه إلا سلاح المسافر :
السيوف في القرب ، فلما أصبح على مرحلتين من مكة لقيه بشر بن سفيان الكعبي قائلا : يا رسول اللّه هذه قريش علمت بمسيرك فخرجوا ومعهم العوذ المطافيل (النوق ذات اللبن والأولاد) أى : خرجوا عازمين على طول الإقامة ، وقد نزلوا بذي طوى يحلفون باللّه لا تدخلها عليهم أبدا. وأخذت الرسل من قبل قريش تفاوض رسول اللّه وقد أرسل رسول اللّه في هذه الأثناء إلى قريش عثمان بن عفان يبلغهم قصد رسول اللّه وأنه لا يريد إلا العمرة ، وفي غيبة عثمان في مكة مفاوضا أشيع أنه قتل ، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المسلمين إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت شجرة الرضوان ، روى سلمة بن الأكوع - رضى اللّه عنه - قائلا : بايعناه وبايعه الناس على عدم الفرار ، وأنه إما الفتح وإما الشهادة.
علمت قريش بهذا فأرسلت سهيل بن عمرو لعقد الصلح ، وقد تم ذلك وسمى صلح الحديبية ، وخلاصة شروطه : أن يكف الفريقان عن الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس فلا قتال ولا اعتداء ، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يرده عليه ، وأن بين القوم عيبة مكفوفة ، وأن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده من القبائل دخل فيه. ومن أراد أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ، وقد سارعت خزاعة فدخلت في عقد محمد وحالفته ، وتواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عهد قريش وعقدهم هذا على أن المسلمين يرجعون عن مكة(3/476)
ج 3 ، ص : 477
هذا العام فلا يدخلونها ، وإذا كان العام القابل خرجت قريش من مكة ودخلها المسلمون ثلاثة أيام ، معهم سلاح الراكب : السيوف في القرب.
رجع المسلمون عن مكة بعد الصلح ، وقد كان هذا الصلح مثار اعتراض بعض كبار المسلمين إلا أبا بكر فحينما اعترض عمر بن الخطاب على الصلح قال له : الزم غرزه (أى ركابه وسر مع النبي) يا ابن الخطاب ، وقد أثبتت الأيام أنه كان فتحا جديدا ونصرا مبينا للمسلمين ، ونزلت في شأنه : هذه السورة الكريمة.
صلح الحديبية [سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)(3/477)
ج 3 ، ص : 478
المفردات :
فَتَحْنا الفتح : الظفر بالبلد عنوة أو صلحا بحرب أو بغيره لأنه منغلق ما لم يظفر به ، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح ، مأخوذ هذا المعنى من فتح باب الدار وهذا على أن المراد فتح مكة ، وقيل : هو صلح الحديبية ، والمراد : أوجدنا لك سبب الفتح « 1 » . عَزِيزاً : ذا عز لا ذل معه ، أو عزيزا أى : فريدا لا شبيه له.
السَّكِينَةَ : الطمأنينة. السَّوْءِ ساءه يسوءه سوءا ومساءة : نقيض سرّه ، والاسم : السوء ، والمراد : الهزيمة والشر. دائِرَةُ وهي في الأصل : عبارة عن الخط المحيط بالمركز ثم استعملت في الحادثة المحيطة بالإنسان كإحاطة الدائرة بالمركز إلا أن أكثر استعمالها في الشر والمكروه والمراد : دائرة هي السوء.
المعنى :
يخبر اللّه تعالى عن نفسه بنون العظمة أنه فتح للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فتحا عظيما بعقد صلح الحديبية بينه وبين المشركين بمكة ، فقد كانت هذه أول مرة اعترفت فيها قريش بمحمد لا على أنه ثائر خارج ، أو طريد لا يعبأ به ، بل اعتبرت محمدا وصحبه قوة يحسب لها حساب ، ويجب أن يعقد معها صلح ، ثم إن تسليمها بحق الزيارة للمسلمين في العام القابل اعتراف صريح بأن الإسلام دين مقرر معترف به ، وهذه الهدنة قد جعلت المسلمين يأمنون شر عداوة المشركين ألد أعدائهم الخطرين ، ويوجهون عنايتهم لنشر دعوتهم الإسلامية في أرجاء الجزيرة العربية ، ولذا نرى الرسول بعث البعوث وأوفد الرسل لكسرى والمقوقس وهرقل وأمراء الغساسنة وعمال كسرى في اليمن ، وإلى نجاشى الحبشة ، وفيها صفى حسابه مع اليهود وقد انتشر الإسلام بعد هذا الصلح انتشارا واسعا بسبب تلك الهدنة التي اندفع الدعاة للدين الجديد يشرحون للناس الإسلام حتى دخلوا في دين اللّه أفواجا ، وها هو ذا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم يدخل مكة بعدها بعامين اثنين في عشرة آلاف مقاتل.
___________
(1) - وعلى ذلك فهو مجاز مرسل من إطلاق السبب على المسبب ، أو هو استعارة تبعية في فتحنا حيث إنه أطلق الفتح وأراد الصلح لعلاقة المشابهة في الظهور والغلبة.(3/478)
ج 3 ، ص : 479
وقد كان أشد شيء على نفوس المسلمين وخاصة أمثال عمر - رضى اللّه عنه - شرطا قبله النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وخلاصته أن من ارتد من المسلمين قبله المشركون ، ومن جاء من المشركين إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رده النبي ولم يقبله ، وحجة النبي في ذلك أن من ارتد عن الإسلام فلا حاجة لنا به ، ومن جاء مسلما منهم وحاول اللحاق بالمسلمين فليصبر وسيجعل اللّه له مخرجا.
وقد أثبتت الحوادث أن هذا العهد كله - خاصة هذا الشرط الذي ظنه المسلمون مجحفا بهم - حكمة سياسية ، وبعد نظر كان له أكبر الأثر في الدعوة الإسلامية. فهذا أبو بصير وقد إلى النبي مسلما ينطبق العهد عليه برده إلى قريش لأنه خرج بغير رأى مولاه ، فقال له النبي حينما طلب إليه الرجوع : يا أبا بصير إنا قد أعطينا لهؤلاء عهدا ولا يصح لنا الغدر ، وإن اللّه جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا فانطلق إلى قومك ، قال أبو بصير : أتردنى إلى المشركين يفتنونى في ديني ؟ ! وأخيرا بعد حوار مع مرافقيه نزل في مكان على ساحل البحر الأحمر في طريق قريش إلى الشام ، واجتمع معه جمع من المسلمين الفارين بدينهم ، وأخذوا يقطعون على قريش سبيل تجارتهم حتى ضجوا وطلبوا من النبي بإلحاح أن يجيرهم من هؤلاء ، وأن يبقيهم معه في المدينة ، وسقط بذلك الشرط الذي أقلق عمر وغيره.
أليس هذا فتحا مبينا فتح اللّه به على المسلمين ، وكان فتحا مبينا ، وفوزا عظيما ؟ ! نعمه هو أعظم الفتوح فقد رضى المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح - الراحة - ويسألوكم القضية ، ويرغبوا إليكم في الأمان ، ويعاملوكم معاملة الأنداد وقيل : هو فتح مكة ، ولتحقق وقوعه عبر عنه اللّه بقوله : فتحنا.
وهل الفتح علة لمغفرة اللّه لنبيه ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ وقد أجاب العلامة الزمخشري عن ذلك بقوله : لم يجعل علة للمغفرة فحسب ، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة ، وهي المغفرة ، وإتمام النعمة ، وهداية الصراط المستقيم ، والنصر العزيز ، كأنه قيل : يسرنا لك فتح مكة - هو يرى أن الفتح لمكة - ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين عز الدارين والجزاء العاجل والآجل ، ويجوز أن يكون الفتح من حيث هو جهاد للعدو سببا للغفران والثواب والهداية للصراط المستقيم ، والنصر العظيم وما تقدم من الذنب وما تأخر المراد به : ما فرط من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو المعصوم عن(3/479)
ج 3 ، ص : 480
معصية ربه - من خلاف الأولى بالنسبة لمقامه فهو من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وقيل : المراد ما هو ذنب في نظره العالي ، وإن لم يكن في الواقع كذلك ، ولعل الإضافة في قوله : (ذنبك) تشير إلى هذا المعنى ، وبعض العلماء يفسر المغفرة للذنب بالستر بينه وبين صاحبه فلا يقع منه ، أو بالستر بين الذنب وبين عقابه ، والمعنى الأول يعامل به المعصومون من الأنبياء ، والثاني يعامل به بقية البشر ، ويتم نعمته عليك بإعلاء الدين وانتشاره ودخول الناس فيه أفواجا ، وما أفاضه عليك ربك من نعم الدنيا والآخرة.
ويريك صراطا مستقيما في تبليغ الرسالة ، وينصرك اللّه نصرا عزيزا ذا عز ، لا ذل معه ، أو هو عزيز المنال فريد المثال ، والنصر لا يكون إلا من عند اللّه ، ولذا أظهر لفظ الجلالة معه.
وهذا فضل اللّه على نبيه ، أما فضل اللّه على المؤمنين من أصحابه فقال اللّه فيه : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ، ووضع فيها الطمأنينة والثبات بعد التزعزع والاضطراب الذي جعل عمر يقول : ألسنا مسلمين ؟ ألسنا على الحق ؟ فعلام نعطى الدنية في ديننا ؟ ! ، ولكن اللّه بعد هذا أنزل الطمأنينة في قلوبهم وأثلج صدورهم ببرد اليقين ، وشرحها لما رآه النبي ، وصدقت الأيام رأيه كما مر ، أنزل في قلوبهم السكينة ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ، ويقينا على يقينهم ، ولا غرابة في ذلك فللّه جنود السموات والأرض ، وما يعلم جنود ربك إلا هو ، وكان اللّه عليما كامل العلم بجميع الأمور حكيما كامل الحكمة فلا يضع الشيء إلا في موضعه.
دبر سبحانه ما دبر من تسليط المؤمنين على الكافرين ليعرفوا نعمة اللّه - تعالى - في ذلك ويشكروها فيدخلهم الجنة « 1 » ، ويكفر عنهم سيئاتهم ، وكان ذلك عند اللّه فوزا عظيما وفعل ذلك أيضا ليعذب المنافقين والمنافقات لغيظهم من تمام النعمة على المسلمين ، ولا شك أن ازدياد الإيمان بالعمل مما يغيظ المنافقين والمشركين ، ولعل تقديم المنافقين والمنافقات على المشركين والمشركات لأنهم أكثر ضررا على المسلمين ، أعنى بهم
___________
(1) - العلة في الحقيقة معرفة النعمة والشكر عليها لكنها لما كانت سببا في دخول الجنة أقيم المسبب - دخول الجنة - مقام السبب. [.....](3/480)
ج 3 ، ص : 481
الظانين باللّه ظن السوء ، أى : ظن الأمر الفاسد المذموم ، وهو أن اللّه - عز وجل - لا ينصر رسوله والمؤمنين.
على هؤلاء وحدهم دائرة السوء ، وما يتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ، ودائر عليهم ، وغضب اللّه عليهم وطردهم من رحمته شر طردة ، وأعد لهم جهنم ، وساءت مصيرا ، ولا عجب في ذلك فهم وإن كثروا عدة وعددا فللّه جنود السموات والأرض ، وكان اللّه عزيزا لا يغالب ، حكيما في كل أفعاله ، انظر إلى تذييل الآية السابقة بقوله : وكان اللّه عليما حكيما ، وهنا : عزيزا حكيما لأن المقصود أولا التدبير التام لأمر الخلق فيناسب العلم والإحاطة ، وهنا المراد تهديد المنافقين والمشركين فيناسبه العزة والغلبة.
المتعاهدون مع اللّه ورسوله [سورة الفتح (48) : الآيات 8 الى 10]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)
المفردات :
شاهِداً : تشهد على أمتك بالبلاغ. وَتُعَزِّرُوهُ : تعظموه وتفخموه ، والتعزير والتعظيم والتوقير : المنع ، ومنه التعزير في الحد. وَتُوَقِّرُوهُ : من التوقير وهو التعظيم ، وقيل : المراد تسودوه. يُبايِعُونَكَ المبايعة : مبادلة المال بالمال ، وهم(3/481)
ج 3 ، ص : 482
عاهدوا النبي على الثبات في محاربة الكفار ، وعاهدهم النبي على ضمان الجنة لهم ، فأطلق المبايعة على المعاهدة « 1 » التي عقدها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مع المسلمين ، وهي بيعة الرضوان ، وكانت تحت شجرة بالحديبية - قرية بينها وبين مكة حوالى مرحلة ، وهي في حدود الحرم. نَكَثَ : نقض البيعة. أَوْفى بِما عاهَدَ يقال : أوفى ووفى بالعهد : إذا أتمه.
المعنى :
إنا أرسلناك يا محمد شاهد صدق تبلغ الدعوة الإلهية لإنقاذ البشرية ، وتبشر من اهتدى إلى الصراط المستقيم بجنة عرضها السموات والأرض ، وتنذر من حاد وتردى في الهوى وسلك سبيل الغي والضلال لتنذره بجهنم ونارها التي أعدت للكافرين وإنما فعل ذلك ربكم لتؤمنوا باللّه ورسوله ، وتعزروه وتنصروا رسوله ، وتوقروه وتعظموه ، وتسبحوه وتنزهوه وتصلوا له - سبحانه - بكرة وأصيلا في الغداة والعشى ، وهما طرفا النهار ، وما بينهما تبع لهما ، ولا شك أن نصرة رسول اللّه نصرة للّه ، والتفانى في تبليغ دعوة اللّه من أكبر الدواعي لرضا اللّه ورضا رسوله ، وهذا كله يتطلب من المسلمين عقد العهود ، وتأكيد المبايعة مع النبي على نصرة دينه مهما كلفهم ذلك ، وقد كان ذلك ، وتعاهد المسلمون وعقدوا معه بيعة الرضوان.
ولما بين اللّه أنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ، بشيرا ونذيرا وداعيا إلى اللّه بإذنه وسراجا منيرا لينقذ البشرية من جهالتها ، ويرفعها من وهدتها ، ومن كانت هذه منزلته عند اللّه يكون من بايعه في الظاهر فقد بايع اللّه حقيقة وفي الواقع ، ومن بايع رسول اللّه على ألا يفر في القتال حتى ينصر اللّه دينه أو يستشهد في سبيل ذلك إنما كان يقصد بذلك رضا اللّه ورسوله وثواب جنته إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ فالرسول سفير محض بين اللّه وبين أوليائه من المؤمنين يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وهذا استئناف مؤكد لما تضمنه الكلام السابق من أن مبايعة الرسول مبايعة للّه.
___________
(1) - هذا الإطلاق على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية ، ووجه الشبه : اشتمال كل على المبادلة.(3/482)
ج 3 ، ص : 483
والسلف - رضوان اللّه عليهم - يفهمون في مثل هذه الآيات المعنى العام والغرض من السياق ، مع تنزيه المولى - جل شأنه - عن مشابهة الحوادث وصفات الأجسام وإثبات الجوارح له ، ويكلون أمر ذلك للّه قائلين : إن معرفة حقيقة « اليد » التي وردت هنا فرع عن معرفة حقيقة الذات ، وأنى لمخلوق ذلك ؟ وهيهات ثم هيهات له ذلك! فالأولى التفويض لعلام الغيوب مع الإيمان الكامل بكل ما جاء في القرآن والسنة الصحيحة.
وأما الخلف فيؤولون ذلك بأن في الآية استعارة « 1 » أو المراد باليد القوة لا الجارحة والمعنى : قوة اللّه ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم فثق باللّه وحده فالنصر من عنده لا من عند غيره ، أو المعنى : نعمة اللّه عليهم بالهداية ، وتوفيقهم لمبايعتك فوق مبايعتهم ونصرتهم لك وهذا على أن اليد تطلق أيضا على النعمة لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [سورة الحجرات آية 17].
وإذا كان الأمر كذلك فمن نكث العهد ونقضه فإنما وبال إثمه وعاقبة فعله على نفسه فقط لا على غيره ، ومن أتم عهده وأدى واجبه كاملا فله جزاء الحسنى ، وسيؤتيه ربك أجرا عظيما ، حتى يرضى.
روى الشيخان عن يزيد بن عبيد قال : قلت لسلمة بن الأكوع : « على أى شيء بايعتم رسول اللّه ؟ قال : على الموت » ... وروى مسلم عن معقل بن يسار قال : « لقد رأيتنى يوم الشجرة - التي كانت تحتها بيعة الرضوان بالحديبية - والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم يبايع الناس وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه ، ونحن أربع عشرة مائة ، قال : لم نبايعه على الموت ، ولكن بايعناه على ألا نفر » قال العلماء : لا منافاة بين الحديثين. فجماعة كانت مع سلمة وجماعة مع معقل.
___________
(1) - بالكناية في لفظ الجلالة حيث شبه بالمبايع وذكر اليد قرينة وإسنادها له تخييل ، وفي ذكر اليد مع أيدى الناس مشاكلة ، ويقول علماء البلاغة : إن في الآيات محسنات بلاغية كثيرة.(3/483)
ج 3 ، ص : 484
المتخلفون عن الحديبية [سورة الفتح (48) : الآيات 11 الى 17]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17)(3/484)
ج 3 ، ص : 485
المفردات :
الْمُخَلَّفُونَ : هم المتخلفون الذين خلفهم اللّه عن السير إلى مكة مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم. الْأَعْرابِ المشهور : أنهم سكان البوادي من العرب. ضَرًّا : هو الضد للنفع من هزيمة أو هزال أو سوء حال. يَنْقَلِبَ : يرجع. بُوراً أى :
هلكى وفاسدين لا تصلحون لخير. ذَرُونا : اتركونا نسير معكم.
لا يَفْقَهُونَ : لا يفهمون ولا يعلمون من أمر دينهم إلا قليلا. أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ : أصحاب قوة وشدة. حَرَجٌ : إثم وذنب. الْأَعْرَجِ : من في رجله آفة.
المعنى :
خرج رسول اللّه عام الحديبية إلى مكة معتمرا لا يريد حربا ولا اعتداء ، واستنفر القبائل العربية الضاربة حول المدينة أن يخرجوا معه إلى مكة ، ليشهد أكبر عدد ممكن على أنه لا يريد حربا ، فإن اعتدت عليه قريش أو منعته ظهر أمرهم للعرب كافة ، وليكون في أكبر عدد ممكن من أنصاره حتى لا تتعرض لهم قريش بسوء.
وكان ممن طلبهم للخروج معه قبائل غفار ، ومزينة ، وجهينة ، وأسلم. وأشجع ، والديل ، فتخلف من هؤلاء أكثرهم حذرا من قريش مع أن النبي أحرم بالعمرة ، وساق الهدى معه ليعلم الناس أنه لا يريد حربا.
ومع هذا تخلفت الأعراب ، وتثاقلوا عنه ، واعتلوا بالشغل ، وقالوا : شغلتنا أموالنا التي جمعناها ، وأهلونا ، وليس لنا من يقوم بها فاستغفر لنا ربك يا محمد وادعه ليقبل العذر ، قالوا هذا بألسنتهم ، واللّه يعلم أنهم كاذبون ففضحهم ، وأنزل في شأنهم قرآنا(3/485)
ج 3 ، ص : 486
يخبر بخبرهم قبل أن يقولوه ، وقال اللّه تعالى : يقولون هذا الكلام السابق بألسنتهم فقط ولم يكن لهم عذر ، ولم يطلبوا المغفرة حقّا.
بعد ذلك أمر صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقول لهم : فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً من يستطيع لكم إمساك شيء من قدرة اللّه - تعالى - إن أراد بكم ضرّا أو أراد بكم نفعا ؟ لا أحد يقدر على ذلك. وإذا كان الأمر كذلك ، فليس الشغل بالأهل والمال عذرا ، لأنه لا يدفع ضرّا ، ولا لقاء العدو يمنع نفعا أراده اللّه.
بل الأمر أخطر من هذا ، واللّه بما تعملون أيها المخلفون خبير وبصير وسيجازيكم عليه بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا ، وذلك ظنكم الذي ظننتم بربكم! والمعنى : السبب الحقيقي في تخلفكم ليس هو كما تقولون ، وإنما هو ظنكم أن محمدا وأصحابه قلة فكيف يحاربون قريشا ومن حولها وكانوا بالأمس يحاربونهم على أبواب المدينة - في غزوة الخندق - وزين ذلك في قلوبكم أيها المتخلفون ، والذي زينه هو الشيطان وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النمل 24] أو هو اللّه وزَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ [النمل 4] وظننتم ظنا سيئا ، وكنتم قوما هلكى ، لا خير فيكم أبدا.
ومن لم يؤمن باللّه ورسوله ، فإنا أعتدنا له وهيأنا له نارا وسعيرا لأنه في عددا الكفار ولا عجب فللّه ملك السموات والأرض يدبر أمره بحكمة تامة وعلم كامل فيعذب من يشاء ممن يستحق العذاب ، ويغفر لمن يشاء ممن يستحق المغفرة ، وهو أعلم بخلقه ، وكان اللّه غفورا رحيما.
سيقول الذين خلفهم اللّه عن الخروج معكم ، وأقعدهم عن السير مع رسول اللّه وصحبه ، سيقولون وقت انطلاقكم إلى مغانم - هي مغانم خيبر - : ذرونا نتبعكم ونسير معكم في الغزو ، قالوا هذا لأنهم ظنوا أن المسلمين سيغنمون ، هؤلاء المتخلفون يريدون بطلبهم هذا أن يبدلوا كلام اللّه ، إذ هو قد وعد من حضر صلح الحديبية وبيعة الرضوان بالمغانم خاصة فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ على من حضر بيعة الرضوان وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها [سورة الفتح الآيتان 18 ، 19].
قل يا محمد لهم : لن تتبعونا في غزو بعد هذا فإنا عرفناكم ، مثل ذلك القول الصادر منى أى من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو لن تتبعونا - قال اللّه وحكم به ، وهو خير الحاكمين ، فهو(3/486)
ج 3 ، ص : 487
قد حكم بأنكم لا تتبعون النبي ، وأن غنائم خيبر لمن شهد الحديبية فقط ولما كان هؤلاء المنافقون لا يعتقدون شيئا من هذا ، بل يظنون أن هذه حيل يحتال بها المسلمون حتى يفوتوا عليهم غنائم خيبر ، وما دفعهم إلى ذلك إلا الحسد والبغضاء قالوا - أى :
المنافقون المتخلفون - : بل « 1 » تحسدوننا فليس الأمر كما تدعون بل إنما قلتم هذا حسدا وبغيا علينا ، هذا ما كان منهم ، وقد رد اللّه عليهم مضربا عن كلامهم مبينا أنهم قوم لا يفقهون من أمر دينهم إلا قليلا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ولذا تراهم يخادعون اللّه ورسوله ، وما يخادعون إلا أنفسهم ، وما يشعرون قل يا محمد لهؤلاء المتخلفين :
ستدعون إلى محاربة قوم أولى بأس شديد ، والظاهر - واللّه أعلم - أنهم المرتدون بعد موت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهم بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب ، وقد دعا أبو بكر خليفة رسول اللّه المسلمين - ومنهم هؤلاء المتخلفون - إلى قتالهم حتى يسلموا ، والمشركون من العرب والمرتدون هم الذين يقاتلون حتى يسلموا ، ولا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف بخلاف غيرهم من المشركين والوثنيين والمجوس وأهل الكتاب فإنه يقبل منهم الإسلام أو الجزية أو القتال ، وهذا رأى أبى حنيفة بخلاف الشافعى ، والحق مع أبى حنيفة.
أيها المتخلفون : إن تطيعوا اللّه وأمر إمامكم يؤتكم أجرا حسنا ، ويقبل منكم التوبة ، وإن تتولوا وتعرضوا كما أعرضتم سابقا يعذبكم اللّه عذابا أليما فهذه فرصة لكم فاهتبلوها بتوبة خالصة صادقة.
وهذه رحمة الإسلام لا يحاسب إلا القادر ، ولا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها ، ولذا يقول : ليس على الأعمى حرج ، وليس عليه ذنب أو إثم في تخلفه عن رسول اللّه ، وليس على الأعرج حرج كذلك ، ولا على المريض حرج أيضا في ترك الجهاد حيث لا قدرة له عليه ، تلك أعذار مقبولة ، واللّه - سبحانه - هو العليم بذات الصدور ، وصدق رسول اللّه « إنّما الأعمال بالنّيّات وإنّما لكلّ امرئ مّا نوى » .
وهناك القانون العام الذي يجمع الخلائق كلها حتى لا يكون عذر لمعتذر : من يطع اللّه ويطع رسول اللّه في كل أمر ونهى يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار ، جنات عرضها السموات والأرض ، ومن يتول معرضا عن أمر اللّه ورسوله مؤثرا نفسه وهواه يعذبه عذابا أليما ، ويدخله جهنم ، وساءت مصيرا ..
___________
(1) - بل هنا للإضراب في الموضعين.(3/487)
ج 3 ، ص : 488
بيعة الرضوان وما فيها من خير [سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 26]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً (21) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22)
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (26)(3/488)
ج 3 ، ص : 489
المفردات :
الشَّجَرَةِ : المعهودة التي كان تحتها بيعة الرضوان. وَأَثابَهُمْ : كافأهم على عملهم. آيَةً : علامة على أن اللّه يدافع عن المؤمنين. قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها أى : فهي محصورة لا تفوتكم. بِبَطْنِ مَكَّةَ المراد : بالحديبية. وَصَدُّوكُمْ :
منعوكم. الْهَدْيَ : هو ما يهدى للحرم ويذبح فيه. مَحِلَّهُ أى : محل ذبحه وهو منى. مَعْكُوفاً أى : محبوسا. أَنْ تَطَؤُهُمْ المراد : الإيقاع بهم بالقتل أو غيره. مَعَرَّةٌ : وهي العيب. تَزَيَّلُوا : تفرقوا. الْحَمِيَّةَ : هي الأنفة ، يقال : حميت عن كذا حمية إذا أنفت منه وداخلك عار وأنفة أن تفعله. سَكِينَتَهُ المراد : الطمأنينة والوقار. كَلِمَةَ التَّقْوى : هي كلمة : لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه ..
بيعة الرضوان بيعة مشهورة كان لها أثر كبير في سياسة المسلمين العامة ، وقد كتب عنها كثير من المؤرخين وكتاب السيرة وعلماء التفسير ، وقد ذكرنا طرفا من أخبارها في أول السورة ، والذي عجل بعقدها أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان أرسل عثمان بن عفان رسولا له إلى قريش يبلغهم قصده ، وأنه لا يريد إلا العمرة بدليل أنه ساق الهدى وليس معه إلا السيوف في القرب وقد أشيع وقتذاك أن عثمان قتل ، وقد كانت قريش احتبسته أياما ، وكان وقع هذا الخبر شديدا على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وصحبه ، فدعا إلى عقد بيعة ، وفي صحيح مسلم عن أبى الزبير عن جابر قال : كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فبايعناه وعمر آخذ(3/489)
ج 3 ، ص : 490
بيده تحت الشجرة - شجرة الطلح - فبايعناه ، غير جد بن قيس الأنصارى اختبأ تحت بطن بعيره ، بايعناه على ألا نفر ولم نبايعه على الموت ، وفي رواية : بايعناه على الموت ، فلما علمت قريش بأمر المبايعة خافوا وأرسلوا سهيل بن عمرو لعقد الصلح الذي سمى (صلح الحديبية) ، و
كتب علىّ - رضى اللّه عنه - : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، فقال سهيل بن عمرو : فما ندري ما بسم اللّه الرحمن الرحيم ، ولكن اكتب ما نعرف :
باسمك اللهم ، فكتب ، وكتب بعدها : هذا ما كاتب عليه محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال سهيل : لو نعلم أنك رسول اللّه لا تبعناك ولما قاتلناك. ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « امحه » فما استطاع أن يمحوه ، فطلب النبي من علىّ أن يريه هذا.
فمحاه النبي بنفسه
، وهكذا نرى اندفاع قريش نحو جاهليتهم وحميتهم في حين أن النبي كانت تنزل عليه من ربه السكينة والطمأنينة وقد ألزمه كلمة التقوى ، وكان النبي وصحبه أحق بها وأهلها ، وكان هذا الصلح الذي لم يرض عنه بعض الصحابة فتحا مبينا ، ونصرا عظيما للدعوة الإسلامية ، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
المعنى :
لقد رضى اللّه عن المؤمنين الراسخين في الإيمان الكاملين في الإخلاص ، حيث فعل معهم فعل الراضي عنهم ، بما جعل لهم من الفتح المبين والتوفيق السديد ، وما قدر لهم من الثواب الجزيل ، لقد رضى اللّه عن المؤمنين جميعا الذين بايعوك إلا جد بن قيس الأنصارى فقد كان منافقا ولم يبايع ، وفهم من ذلك أنه لم يرض عن الكفار حيث خذلهم في الدنيا ، وأعد لهم سوء المصير في الآخرة ، ولأجل هذا الرضا سميت تلك البيعة بيعة الرضوان.
لقد رضى اللّه عن المؤمنين إذ بايعوك تحت الشجرة ، شأن الواثق بنفسه المطمئن لنصرة اللّه له ، فعلم اللّه ما استقر في قلوبهم من الإيمان والإخلاص والصدق في مبايعتهم ، فأنزل السكينة عليهم ، وأثابهم فتحا قريبا هو فتح خيبر ، وقد كان نزول هذه الآيات عند منصرف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم هو وصحبه من الحديبية ، أى : قبل فتح خيبر ، فيكون هذا وعدا من اللّه وقد تحقق ، وأثابهم مغانم كثيرة يأخذونها فقد كانت قرية خيبر غنية بالزروع والثمار ، وكان سكانها من اليهود على جانب من الثراء ، وانظر إلى ختام الآية(3/490)
ج 3 ، ص : 491
بقوله : وكان اللّه عزيزا لا يغلبه غالب ، حكيما فيما صنع لأوليائه ، ولا شك أن هذا تذبيل مناسب جدّا.
وعدكم اللّه مغانم كثيرة في حروبكم - أيها المسلمون - ما دمتم صادقي النية تجاهدون في سبيل اللّه ولإعلاء كلمته ، وهذه المغانم ممتدة إلى يوم القيامة بهذا الشرط ، فجعل لكم هذه - أى : غنيمة خيبر - جزاء لكم على امتثالكم أمر اللّه وأمر رسوله ، وكف أيدى الناس عنكم ، والظاهر أن المراد بالناس هنا أهل خيبر وحلفاؤها من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرة حلفائهم فقذف اللّه في قلوبهم الرعب ، وقيل المراد بالناس : أهل مكة حينما كان المسلمون بالحديبية ، والرأى الأول أصح لأن الكف وهم في الحديبية سيأتى خبره ، كف أيدى الناس عنكم لتشكروه على ذلك ، ولتكون هذه آية للمؤمنين ، وأن اللّه يدافع عن المؤمنين ما داموا مؤمنين ، واللّه بهذا يهديكم إلى صراط مستقيم هو طريق التوكل على اللّه وتفويض الأمر إليه ، فإنه نعم المولى ونعم النصير.
فعجل لكم مغانم خيبر هذه ، وعجل لكم أخرى هي غنائم هوازن يوم حنين لم تقدروا عليها في أول الأمر حيث ر كنتم إلى قوتكم ، ولم تتوكلوا على اللّه ، ولكن اللّه أحاط بها واستولى عليها فهي في قبضته وتحت تصرفه يظهر من يشاء عليها ، وقد أظهركم عليها حينما لجأتم إليه وتوجهتم له ، وكان اللّه على كل شيء قديرا وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (الآيتان : 25 ، 26 من سورة التوبة) ، فهل لنا أن نعتبر ونفوض الأمر إلى اللّه إنه بصير بالعباد ؟ !! ولو قاتلكم الذين كفروا من أهل مكة ولم يصالحوكم لولوا الأدبار وانهزموا هزيمة شنيعة ، ثم لا يجدون لهم من دون اللّه وليا ولا نصيرا ، وتلك سنة اللّه مع رسله وأوليائه التي قد مضت من قبل ، ولن تجد لسنة اللّه تبديلا.
وهو الذي كف أيدى كفار مكة عنكم ، وكف أيديكم عنهم ، وأنتم ببطن مكة ، فإن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في حرم مكة ، كف أيديكم عنهم من بعد أن أظفركم عليهم فقد روى عن ثابت عن أنس أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من جبل التنعيم متسلحين يريدون أخذ النبي وصحبه على غرة فأخذناهم(3/491)
ج 3 ، ص : 492
سلما - باستسلام منهم وإذعان - فهم قد أخذوا قهرا واستسلموا عجزا ، واستحييناهم فأنزل اللّه وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وكان اللّه بما تعملون بصيرا وسيجازيكم على ذلك بالجزاء الأوفى.
ولم يكن كفهم عنكم لخير فيهم فإنهم كفروا باللّه ورسوله ، وأخرجوا رسول اللّه من مكة ، وصدوكم عن المسجد الحرام. وصدوا الهدى - ما يهدى إلى البيت من النعم حالة كون الهدى معكوف ومحبوسا من أن يبلغ محله ، وكل ذلك يقتضى قتالهم ، فلا يعقل أن يقال : إن الفريقين اتفقوا على عدم القتال ، واصطلحوا ولم يبق بينهم نزاع بل النزاع مستمر لأنهم كفروا وصدوا عن المسجد الحرام ومنعوا الهدى من أن يبلغ محله.
وإنما كان الكف والمنع لحكم إلهية اللّه يعلمها ، منها أن هناك رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموا أشخاصهم ، واللّه يعلمهم ، فإذا كان القتال ولم يكن الكف لقتلتم هؤلاء ، وأنتم لا تعلمونهم فتصيبكم منهم معرة وعيب ومكروه ومشقة حيث تجب الكفارة ويحصل الأسف لقتلهم ، وخلاصة المعنى : ولو لا كراهة أن تهلكوا في الحرب رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات بين ظهراني الكفار ، وأنتم لا تعلمونهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه لما كف أيديكم عنهم ، واللّه يكره أن يصيبكم مكروه ومعرة ، ولكن اللّه - سبحانه - كفكم عنهم ، وكفهم عنكم ليدخل اللّه بذلك الكف من يشاء في رحمته ، أى : في توفيقه لزيادة الخير في الإسلام ومنع إيذاء من لا يستحق من المؤمنين الذين يعيشون في مكة.
لو تميز المؤمنون عن الكفار في مكة ، وافترق بعضهم عن بعض ، لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما في الدنيا بالقتل والأسر غير عذاب الآخرة « 1 » .
اذكر إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية الأولى حيث أنفوا من كتابه بسم اللّه الرحمن الرحيم ، ومن وصف النبي بأنه رسول اللّه ، ومن تمسكهم بشروط هي في ظنهم مجحفة بالمسلمين ، فأنزل اللّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين
___________
(1) - وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها ، وجوز بعضهم أن يكون (لو تزيلوا) كالتكرار لقوله تعالى : لو لا رجال مؤمنون ، وقوله : (لعذبنا) هو جواب لو لا.(3/492)
ج 3 ، ص : 493
حيث قبلوا كل ما عرض عليهم في سبيل ترك الحرب المهلكة ، وقد كان هذا فتحا ونصرا مبينا ، فانظر إلى توفيق اللّه ورعايته للمسلمين.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان
تحقيق رؤيا الرسول [سورة الفتح (48) : الآيات 27 الى 28]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28)
المفردات :
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أصل الإظهار : جعل الشيء على الظهر ، ثم كنى به عن الإعلاء.
رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في المنام قبل خروجه إلى الحديبية ، أنه هو وأصحابه دخلوا مكة آمنين ، وقد حلقوا شعور رءوسهم وقصروا ، فقص رؤياه على المسلمين ففرحوا واستبشروا ، وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم ، وقالوا : إن رؤيا رسول اللّه حق ، فلما تأخر ذلك ، وردهم المشركون عن مكة عام الحديبية تكلم بعض المنافقين في ذلك قائلين : واللّه ما حلقنا ولا قصرنا ، ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت هذه الآية.(3/493)
ج 3 ، ص : 494
المعنى :
لقد صدق اللّه رسوله الرؤيا ، ولم يجعلها أضغاث أحلام ، وإن كان تفسيرها عمليا لم يقع إلا بعد عام ، والصدق يكون بالقول أو بالفعل ، وما في الآية صدق بالفعل فاللّه - سبحانه وتعالى - صدقه في رؤياه صدقا ملتبسا بالحق ، أى : بالحكمة البالغة ، والقصد الصحيح الذي يظهر به الإيمان الكامل والنفاق الصريح ، ولهذا أخر تفسير الرؤيا ووقوعها إلى العام القابل.
واللّه لتدخلن المسجد الحرام إن شاء اللّه ، ولعل سائلا يسأل ويقول : اللّه خالق الأشياء كلها وعالم بها قبل وقوعها فكيف وقع التعليق بالمشيئة في فعله ؟
الجواب : أنه تعليم للعباد ، وإيذان بأن منهم من يدخل ومنهم من يتخلف لموت أو مرض ، ولعل هذا التعليق - إن شاء اللّه - حكاية لما قاله ملك الرؤيا ، أو حكاية كلام النبي لأصحابه ، وإيذان بأن دخولهم مكة بأمر اللّه ومشيئته لا بشيء آخر.
لتدخلن المسجد الحرام حالة كونكم آمنين من العدو ، محلقين شعور رءوسكم ومقصرين له ، لا تخافون بعد الدخول « 1 » فعلم ما لم تعلموا من الأمور « 2 » ، فجعل من دون ذلك ، أى : من قبل تحقيق الرؤيا عمليا فتحا قريبا ، وهو فتح خيبر ، جعله كالدليل على صدق الرؤيا وتحقيقها.
وكيف تشكون في تحقيق رؤيا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ؟ وقد أرسله ربه بالهدى ودين الحق ، فلا يصح أن يريه في المنام خلاف الواقع ، فيكون ذلك داعيا لتكذيبه وزعزعة الناس فيه وفي أخباره ، هو الذي أرسل رسوله هاديا للناس ، ومصاحبا للهدى وملتبسا به ومؤيدا بالحجة والبرهان ، والنور والقرآن ، أرسله بالهدى ودين هو الحق لا شك فيه ، ليعليه على الأديان كلها فيقر الحق منها ، ويبطل الباطل ويغير من أحكامها ما لا يصلح في هذا الزمان ، وكفى باللّه شهيدا على ذلك ، وأنك رسوله وخاتم أنبيائه. أليس في هذا تسلية ؟ وأى تسلية أقوى من ذلك ؟ على رد سهيل بن عمرو لرسالة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم.
___________
(1) - وقيل : هي جملة مستأنفة واقعة جواب سؤال : كيف الحال بعد الدخول ؟ فقيل : لا تخافون.
(2) - والفاء عاطفة لعلم على صدق ، والترتيب باعتبار التعليق الفعلى بالمعلوم لا بنفس المعلوم ، وإلا فهو متقدم على تصديق الرؤيا.(3/494)
ج 3 ، ص : 495
محمد وصحبه الأبرار [سورة الفتح (48) : آية 29]
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)
المفردات :
أَشِدَّاءُ : جمع شديد ، وهو الغليظ القاسي. رُحَماءُ : جمع رحيم ، وهو من في قلبه رحمة. سِيماهُمْ السيما : العلامة. مَثَلُهُمْ : صفتهم. شَطْأَهُ الشطء : فراخ النخل والزرع ، أو هو ورقه والمراد بالفراخ فروع الشجر التي تنبت حول الأصل. فَآزَرَهُ : أعانه. فَاسْتَغْلَظَ : صار نظيفا وشديدا. فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ أى : استقام وقوى على أصوله التي هي قضبانه.
وتلك خاتمة سورة الفتح ، وبيان أسباب النصر ، ودعائم الفوز.
المعنى :
ذلك الرسول الذي أرسل بالهدى ودين الحق ، هو محمد رسول اللّه وخاتم أنبيائه وإمامهم ، الذي قال اللّه فيه : وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.
هذا هو محمد الرسول الأمين الصادق الصدوق ، الذي يصلى عليه اللّه في علاه ، وملائكته الأبرار وصالحو المؤمنين - صلى اللّه عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.(3/495)
ج 3 ، ص : 496
هو محمد رسول اللّه وهؤلاء هم أصحابه الذين معه ، أشداء على الكفار رحماء بينهم ، هؤلاء هم أصحابه أعلام الهدى وأئمة الدين ، الذين
يقول فيهم النبي ما معناه :
« أصحابى كالنّجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه »
أى : نصفه ، ويقول اللّه فيهم : هم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين.
فالمؤمن حقا الذي لا يلين مع الكفار الذين حاربوا دينه ، فهو شديد عليهم رحيم بالمؤمنين ، غضوب عبوس في وجه الكافرين ، بشوش في وجه أخيه المؤمن. وإنما المؤمنون إخوة ، ويقول النبي : « مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى »
هؤلاء هم المؤمنون الذين قامت على رءوسهم دعوة الإسلام ، وفتحت بسواعدهم الحصون والقلاع ، كانوا أشداء على الكفار رحماء بينهم ، وما ضل المسلمون ، ولا كسرت شوكتهم إلا يوم أن تفرقوا ، وأصبحوا أذلة مع غيرهم أعزة على بعضهم ، وكانت بينهم الفتن والمحن والإحن التي تهد كيان الإسلام ، وتقيم صروح الكفر ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!!! أيها الناس! نحن في عصر يكاد يتخطفنا فيه أعداء الإسلام من كل جانب ، وهم قوم برعوا في السياسة والدعاية ، والدعوة إلى الإلحاد بكل طريق ، وبكل أسلوب ، وسلاحهم في ذلك الاقتصاد والعلم المادي ، وهذه الفرقة البادية ، والخلاف الظاهر في صفوف المسلمين ، لا ينتج إلا كل شر ، وللأسف لا يتحمل تبعة هذا إلا الإسلام الذي قل ناصره ، وضعف ساعده ، حتى أصبح يستهزأ بسوره ، ويتندر بأحكامه أيها الناس! ماذا نقول ؟ !!! اللهم لطفا من عندك ، ونصرا لدينك وحماية لقرآنك إنك يا رب نعم السميع المجيب.
هؤلاء المسلمون تراهم ركعا سجدا فهم كثير والعمل والصلاة ، ولا يقصدون بذلك إلا وجه اللّه ، ولا يبتغون إلا فضل اللّه وإحسانه ، ولا يرجون إلا رضا اللّه ورضوانه وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ « 1 » هؤلاء سيماهم في وجوههم من أثر السجود
___________
(1) - سورة التوبة آية 72.(3/496)
ج 3 ، ص : 497
وما هي علامتهم ؟ أهو الأثر الذي يظهر من أثر السجود في جبهة المصلى ؟ ؟ ربما يكون صاحبها أقسى قلبا من فرعون ، والظاهر - واللّه أعلم - أنها نور في الوجه ، وهدوء في النفس ، ولين في الجانب ، وخشوع وخضوع ، فإن من أصلح سريرته أصلح اللّه - تعالى - علانيته ، وعلامة الإيمان الصحيح أن تكون قرآنا يتحرك ، وصورة صحيحة للإسلام وعنوانا كاملا لتهذيبه فلا تفسق ولا ترفث ، ولا تكذب ولا تغش ، ولا تخادع ولا تضلل ، ولا تقسو ولا تفجر ، فشر الناس من خافه الناس اتقاء شره ، تلك بعض علامات الإيمان تبدو في وجه المسلم الكامل.
ذلك مثل المؤمنين في التوراة ومثلهم في الإنجيل ، وهذا تكريم لهم من اللّه كبير ولقد ضرب اللّه لهم مع النبي مثلا من أروع الأمثلة ، فقد بدأ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الدعوة وحده ثم آمن به قليل من الناس ، هذا القليل كثر وزاد حتى أصبح الكل قوة لا يستهان بها كما تقوى الطاقة الأولى من الزرع بالفروع التي تنبت حول الأصل حتى تعجب الزراع ، فعل اللّه معهم ذلك ليغيظ بهم الكفار ، وقد غاظ بهم الكفار فعلا ، وانهدم عزهم ودالت دولة الروم وفارس ، وعلت راية الإسلام حتى امتلأ قلب الكفر وأهله غيظا منه ، وحقدا عليهم إلى اليوم ، فهذه آثار التبشير وحملات أعداء الإسلام تترى ، والمدهش أنهم يجدون في شباب الإسلام المثقف ثقافة غير دينية مرعى خصبا ويستغلون قلة ثقافتهم الدينية فينفثون سمومهم ، أيها المسلمون : وعد اللّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم مغفرة كبيرة ، وأجرا عظيما ، واللّه صادق الوعد ، وهو لكل من يعمل صالحا في كل زمان ومكان. نسأل اللّه التوفيق والخير للإسلام والمسلمين.(3/497)
ج 3 ، ص : 498
سورة الحجرات
وهي مدنية بإجماع العلماء ، وعدد آياتها ثماني عشرة آية ..
هذه السورة جمعت مكارم الأخلاق ، وأرشدت المسلمين إليها ، وبينت لهم موقفهم مع اللّه ، ومع رسول اللّه ، وكيف يقابلون أخبار الفساق ؟ وبما ذا يعاملون إخوانهم المؤمنين ، سواء أكانوا حاضرين معهم أم غائبين ، وبينت حقيقة الإيمان والمؤمنين إلى غير ذلك من فضائل الأعمال ، وكريم الخلال ..
موقف المسلمين من أحكام اللّه [سورة الحجرات (49) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
المفردات :
لا تُقَدِّمُوا : بمعنى لا تقدموه ، أى : لا تسبقوه بالقول والحكم وهذا معنى لازم للتقدم ، أو هو بمعنى لا تتقدموا ، أى : لا يحصل منكم تقديم بقطع النظر عن المقدم. بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ المراد : أمامهما.
المعنى :
يا أيها الذين اتصفوا بالإيمان الصحيح ، وهم أحق الناس بامتثال أمر اللّه : لا تسبقوا اللّه ورسوله بالقول أو الحكم في أمر من الأمور ، وكونوا كالملائكة الذين شهد اللّه بأنهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ، وهذا نهى صريح عن الإقدام على أمر من الأمور دون التقيد بكتاب اللّه - تعالى - وسنة رسوله وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما(3/498)
ج 3 ، ص : 499
نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
لا تقدموا بين يدي اللّه ورسوله « 1 » ، ولعل ذكر الرسول لأنه مبلغ عن اللّه وحافظ لشريعته.
واتقوا اللّه ، أى : خذوا الوقاية من سخطه وعذابه باتباع أمره واجتناب نهيه والوقوف عند الحدود المرسومة التي بينها لكم ، إن اللّه سميع بكل المسموعات ، ويجازى بها أتم الجزاء ، وهو عليم بكل المعلومات ، وسيجازيكم عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وهذه الآية تقرر أصلا من أصول الدين المهمة ، وهو أن الحكم للّه وحده لا معقب لحكمه وهو أحكم الحاكمين فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً وإذا كنا نهينا عن أن نتقدم اللّه ورسوله في حكم من الأحكام ، فيا ويل المسلمين ويا هلاكهم! حين يتركون اليوم أمر اللّه ورسوله ، ويتحاكمون إلى طواغيت الغرب وقوانينه.
من أدب الحديث مع الرسول [سورة الحجرات (49) : الآيات 2 الى 5]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
___________
(1) - في هذه العبارة مجاز مرسل في لفظ اليدين حيث أطلقهما وأراد الجهتين المقابلتين لهما القريبتين منهما لعلاقة المجاورة ، وفي العبارة كلها استعارة تمثيلية حيث استعيرت الجملة - التقدم بين اليدين - للقطع بالحكم بلا اقتداء ومتابعة لمن تلزمه متابعته تصويرا لشناعة هذا الفعل بصورة المحسوس ، كتقدم الخادم لسيده.(3/499)
ج 3 ، ص : 500
المفردات :
تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ الجهر : ظهور الشيء بإفراط لحاسة السمع أو حاسة البصر. أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ حبط عمله : بطل ثوابه لطغيان السيئات عليه.
يَغُضُّونَ الغض : النقصان من النظر أو الصوت. امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أصل الامتحان : إذابة الذهب ليخلص إبريزه من الخبث ، وقد يطلق ويراد منه الاختبار والتجربة ، ويلزم من هذا المعرفة وهي المرادة هنا. الْحُجُراتِ : جمع حجرة ، وهي قطعة من الفضاء تحجر أى : يمنع من الدخول فيها بحائط أو نحوه. وَراءِ الْحُجُراتِ : خارجها.
كانت الآية السابقة لبيان أدب المسلمين مع اللّه ورسوله ومكانتهما ، وهذه الآيات لبيان الأدب مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في حديثه ومعاملته.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا : لا تجعلوا أصواتكم عند الحديث مع الرسول الأكرم فوق صوته ، بل كلموه بصوت منخفض ، بلا جلبة ولا ضوضاء ، وكونوا معه كما يكون الابن مع أبيه ، وإياكم والجهر له في القول إذا كلمتموه وهو صامت ، فلا تظهروا أصواتكم معه كما تجهرون مع بعضكم.
أدبهم اللّه الأدب العالي في حديث النبي ، ولم يكن النبي جبارا متعاليا ، وإنما كان مثلا أعلى في التواضع والحياء تكلمه الأمة في الطريق فلا يتركها حتى تتركه ، ولكنه كان كثير الشغل ، كثير التفكير ، والتأمل في شأن الأمة الإسلامية ، والعرب قوم جفاة غلاظ لا يعرفون اللين وأدب الخطاب ، فنهاهم اللّه عن رفع صوتهم على صوت النبي ، وعن الجهر بالقول عند مخاطبته وهو ساكت. مخافة بطلان أعمالهم الصالحة التي(3/500)
ج 3 ، ص : 501
عملوها ، وذهابها سدى من غير مثوبة من حيث لا يشعرون بذلك فإن العادة إذا استحكمت مع شخص فعلها بدون فكر ، ولا نظر ، وربما كانت سيئة فأكلت حسناته وهو لا يشعر!! وهذا ترغيب في لين القول وأدب الحديث فيقول اللّه : إن الذين يغضون أصواتهم ولا يرفعونها عند رسول اللّه ، أولئك قوم أخلص اللّه قلوبهم وصفاها وأعدها للتقوى ، أو عرفها اللّه مستعدة للتقوى بعد الاختبار ، هؤلاء لهم مغفرة وأجر عظيم على ما كسبوه من صالح الأعمال.
روى عن زيد بن الأرقم أنه : جاء أناس من العرب إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس به ، وإن يكن ملكا عشنا في جناحه ، ثم جاءوا إلى حجرة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ينادونه : يا محمد ، فأنزل اللّه إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ...
وقد تأذى من ندائهم على هذه الصفة.
وقد حكم اللّه على أكثرهم بعدم العقل لأن بعضهم لم يكن موافقا ، أو هو أسلوب عربي معروف ينسب للأكثر ما هو للكل ، ولا شك أن هؤلاء يستحقون هذا الوصف لجهلهم بقانون الأدب العام ، وما ينبغي أن يكون عليه الزائر من أدب الحديث واختيار الزمان والمكان المناسبين ، ولو أن هؤلاء صبروا حتى يخرج إليهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقد كان في قيلولة مستريحا لكان خيرا لهم وأتم.
وما كان النبي يحتجب عن أصحابه إلا في أوقات خاصة قليلة ليستريح بعض الوقت ليلا أو في الظهر.
وهكذا القرآن الكريم لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها بالإجمال أو التفصيل حتى أدب الحديث وأدب الاستئذان نراه يرسم لنا طريقهما ..(3/501)
ج 3 ، ص : 502
التثبت في تلقى الأخبار [سورة الحجرات (49) : الآيات 6 الى 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
المفردات :
فاسِقٌ الفسق : الخروج عن حدود الشرع. بِنَبَإٍ النبأ : هو الخبر المهم.
فَتَبَيَّنُوا أى : فتثبتوا ، وبه قرئ ، وهذا اللفظ مأخوذ من البيان الذي هو الكشف عن الشيء.
نادِمِينَ : من الندم الذي هو التحسر من خطأ في أمر فات ، والمادة تفيد الملازمة ومنه المنادمة والنديم. لَعَنِتُّمْ العنت : الجهد والمشقة والهلاك.
وَزَيَّنَهُ : حسنه. وَالْعِصْيانَ : الخروج عن الطاعة ، ومفارقة الجماعة ، وأصله أن يمتنع الرجل بعصاه. الرَّاشِدُونَ الرشد : ضد الغي وهو العمل لصالح الدين والدنيا.
روى في سبب النزول أنه : بعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الوليد بن عقبة في جمع صدقات بنى المصطلق ، فلما سمعوا بمقدمه أعدوا أنفسهم للقاء رسول اللّه فحدثه الشيطان بأنهم قاتلوه. فرجع ، وقال للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : إن بنى المصطلق منعوا صدقاتهم ، فغضب لذلك رسول اللّه ، وهم بغزوهم ، أما هم فلما بلغهم رجوع ابن عقبة أتوا رسول اللّه يشرحون له حقيقة الحال ، وقالوا : نعوذ باللّه من سخط اللّه ورسوله! بعث إلينا رجلا(3/502)
ج 3 ، ص : 503
يجمع الصدقة فسررنا لذلك وجمعنا أنفسنا لاستقباله ثم رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك لغضب من اللّه ورسوله ... ثم نزلت الآية.
ولقد سمى الوليد بن عقبة فاسقا تنفيرا وزجرا عن المبادرة والاستعجال إلى الأمر من غير تثبيت كما فعل هذا الصحابي الجليل ، لكنه مؤول ومجتهد فليس فاسقا حقيقة.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا باللّه ورسوله إن جاءكم فاسق كاذب بخبر فتثبتوا أولا لتعرفوا الحق من الباطل ، وتقفوا على حقائق الأمور قبل الوقوع في الأخطار فكم فرق الكذب بين الأصدقاء ؟ وكم سفك من دماء ؟ وكم كان التسرع في الحكم مدعاة لشن حروب وغارات ، وإثارة إحن وثارات ، ولذلك
يقول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ذمّا في الكذب ومدحا في الصدق : « إنّ الصّدق يهدى إلى البرّ ، وإنّ البرّ يهدى إلى الجنّة ، وإنّ الكذب يهدى إلى الفجور ، وإنّ الفجور يهدى إلى النّار »
وكان
النبي يقول : « التّأنّى من اللّه والعجلة من الشّيطان » .
تبينوا كراهة أن تصيبوا قوما بجهالة وخطأ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ، فلو أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عمل بقول ابن عقبة لغزا قوما مؤمنين يحبون اللّه ورسوله ، وسفك منهم دماء ، وأخذ أموالا بغير حق ، فإذا ما تبين الواقع ندم على كل ذلك.
فاللّه يرشد عباده وأولياءه إلى هذا الأدب الكامل ، ويحذرهم من العمل بالخبر قبل الكشف عنه والتثبت منه لئلا يصيبوا قوما بسبب الجهل والكذب فيصبحوا نادمين آسفين على ذلك.
والروايات تثبت أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والصحابة كانوا يشكون في كلام وفد بنى المصطلق ، فمن الصحابة من أشار بغزوهم ، ومنهم من تريث ، ولقد بعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم خالدا يستطلع الحقيقة ، وأمره بعدم العجلة في حربهم.
واعلموا أيها الصحابة أن فيكم رسول اللّه ، وليس المراد هذا الخبر فإنه مشاهد معروف ، ولكن المراد لازمه ، وهو أن فيكم الرسول الأمين المبلغ عن الوحى المعصوم من الخطأ ، الذي يجب ألا يكذبه أحد من أصحابه ، فإن الكذب عليه قد يوقعه في أمر(3/503)
ج 3 ، ص : 504
يؤلمه ، على أن طاعته هي الواجبة ، وأن الخير في طاعته ، والرسول معنا في كل عصر إن لم يكن بجسده الشريف فهو مع المسلمين بأحاديثه وتعاليمه ، وخير الهدى هدى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فيجب الرجوع إلى ما أرشد به والاقتداء بهديه الشريف ، ولو انعكس الأمر وأطاعكم الرسول - في مثل هذا - لأصابكم العنت ، ونالتكم المشقة ، وربما انعكس الحال وتبدل إلى ما تكرهون.
ولكن ذلك لا يكون لأن رسول اللّه لا يتبع إلا الموحى به ، والمؤمنون لا يرضون عن مخالفة الرسول لأن اللّه حبب إليهم الإيمان وطاعة الرسول وزينه في قلوبهم ، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان.
أولئك المؤمنون الموصوفون بذلك هم الراشدون في الدنيا والآخرة ، وقد فعل اللّه معهم ذلك تفضلا منه ورحمة ونعمة عليهم ، واللّه عليم بخلقه حكيم في فعله.
كيف نقضي على النزاع الداخلى [سورة الحجرات (49) : الآيات 9 الى 10]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
المفردات :
طائِفَتانِ الطائفة : الجماعة من الناس. بَغَتْ البغي : الظلم وتجاوز الحد. تَفِي ءَ : ترجع إلى حالة محمودة. بِالْعَدْلِ : بالسوية بلا ظلم.(3/504)
ج 3 ، ص : 505
وَأَقْسِطُوا : يقال : قسط الرجل إذا أخذ قسط أخيه ، وأقسط : إذا عدل فأعطى قسط غيره.
هذه الآيات نزلت كما روى عن ابن عباس في رجلين أو في قبيلتين من أهل الإسلام يقتتلان.
المعنى :
وإن اقتتلت طائفتان من المؤمنين فالواجب على المسلمين أن يصلحوا بينهما ، ويقضوا بالحق الذي شرعه اللّه في كتابه : إما القصاص والقود ، وإما العقل والدية ، هذا الواجب العام على المسلمين يقوم به الإمام ، أى : الحاكم فيدعو المتنازعين إلى الصلح ، وإلى تحكيم كتاب اللّه والرضا بما فيه من التسامح والتساهل.
فإن تعدت إحداهما ولم تقبل نصحا بل ركبت رءوسها وقاتلت الطائفة الأخرى بغير حق ، فالواجب على المسلمين والإمام الذي ينفذ ما دام موجودا وإلا فعلى عامة المسلمين وجمهورهم ، الواجب قتال الفئة الباغية ، وردعها عن ظلمها حتى ترجع إلى كتاب اللّه وتحكيمه ، فإن رجعت بعد القتال ، وفاءت إلى الهدوء والسكينة وترك الشرور والحروب فالواجب الصلح بينهما بالعدل صلحا على السواء والإنصاف بلا تحيز ، لا صلح القوى مع الضعيف والمنتصر مع المهزوم كما يحصل اليوم ، والواجب الإصلاح بالعدل لتسل الضغائن وتزول الأحقاد ، ويعود الصفاء ويحل محل الخصام ، وبذلك يأمن الناس الرجوع إلى الحرب ، واللّه - تعالى - يحب المقسطين العدول وهذه الحروب الداخلية لها أحكام خاصة في كتب الفقه الإسلامى ، منها أنه لا يجهز على جريحها ، ولا يقتل أسيرها ، ولا يطلب هاربها ، ولا تؤخذ أموالها ، والذي يتلف في غير القتال فمضمون ، وأما في القتال فلا ضمان.
وإن كانت الفئتان باغيتين وكل يدعى لنفسه الحق فعلى المسلمين جميعا الإصلاح بما يحفظ على الناس دماءهم وأموالهم ، ويمنع من وقوع الحرب والدمار.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ في هذه الآية تقرير لما أمر اللّه به من الإصلاح في الآية السابقة وبيان للعلة ، إذ لحمة الإيمان وقرابته أقوى من لحمة النسب وقرابته ، والأخوة(3/505)
ج 3 ، ص : 506
بين المؤمنين في الإسلام قوية الأواصر متينة الصلة ، والناس حينما يرون أخوين في النسب اقتتلا أسرعوا في فض النزاع. ويبين اللّه هنا أن صلة الإيمان أقوى من صلة النسب
« المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يعيبه » .
واعلموا أن تقوى اللّه هي العلاج العام الذي يمنع النزاع ، ويفك الخصام وهي سبيل الرحمة وطريق النجاة.
إرشادات إلهية في المعاشرة والاجتماع [سورة الحجرات (49) : الآيات 11 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
المفردات :
لا يَسْخَرْ السخرية : الاستهزاء والنظر إلى المسخور منه بعين النقص(3/506)
ج 3 ، ص : 507
والاحتقار. قَوْمٌ : هم الرجال خاصة لأنهم القوامون على النساء.
وَلا تَلْمِزُوا اللمز : الطعن والضرب باللسان والتنبيه على المعايب. تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ المراد : لا يدع بعضكم بعضا بلقب قبيح. الِاسْمُ أى : الذكر ، مأخوذ من قولهم : طار اسمه في الآفاق ، أى : ذكره وشهرته. اجْتَنِبُوا : كونوا على جانب والظن على آخر ، والمراد التباعد. الظَّنِّ : حد وسط بين العلم والوهم ، وهم اسم لما يحصل في النفس عن أمارة قوية أو ضعيفة. الإثم : الفعل المعوق عن الثواب. وَلا تَجَسَّسُوا الجس : جس العرق باليد وتعرف نبضه للحكم عليه ، وهو أخص من الحس ، أى : التحسس فإنه يدرك بإحدى الحواس.
وَلا يَغْتَبْ الغيبة : ذكرك أخاك بما يكره. شُعُوباً الشعب : الجماعة من الناس التي لها وطن خاص وهو أعم من القبيلة.
إنه لترتيب إلهى عال حيث رتب مسألة النزاع والقتال بين الطوائف والأشخاص على أنباء الفاسقين ، ووقيعة الدساسين ، ولذا نبهنا فيما سبق إلى التبين والتثبت في تلقى الأخبار ، وإنه لنسق فريد أن يسوق تلك الإرشادات الإلهية في هذه الآيات التي تتضمن سل السخائم وإماتة الأحقاد حتى تصبح الأمة الإسلامية كالجسد الواحد بعد ذلك.
المعنى :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ نادانا اللّه بوصف الإيمان لينهانا عن السخرية وغيرها ليشعرنا بأن ما يدعونا إليه من إرشاد هو مقتضى الإيمان الصحيح.
يا أيها المؤمنون لا يسخر رجل أو جماعة من رجل آخر أو جماعة أخرى ، والسخرية بالناس رذيلة تغضب الرحمن ، وترضى الشيطان ، وتثير كوامن الفتن ، وبواعث الشر ، وهي صفة المجردين من الخير المنغمسين في حمأة الرذيلة ، فالسخرية دليل خبث الطوية ، وسوء السريرة ودناءة النفس ولا يصح أن يسخر نساء من نساء عسى أن يكنّ خيرا منهن ، فالمستهزأ به غالبا يكون خيرا عند اللّه وأفضل من المستهزئ.
وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وتلك مرتبة ثانية ، وأن المؤمنين كالجسد الواحد كأن من لمز غيره وعابه كأنه لمز نفسه ، ولعل المعنى أنك تلمز نفسك بسبب لمزك لغيرك كما ورد(3/507)
ج 3 ، ص : 508
في
الحديث « من الكبائر أن يشتم الرّجل والديه »
وفسر بأنك إذا شتمت غيرك فشتمك فكأنك شتمت نفسك.
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ وكأن اللقب السيئ حجر تنبزه في وجه أخيك فينبزك هو بمثله ، وللّه در النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حيث يوصى بأن تدعو أخاك بأحب الأسماء إليه ، وقد بدأ اللّه بالأهم حيث نهانا عن السخرية التي هي داء له دواع كثيرة منها حب التظرف ، والرغبة في جلب السرور على الحاضرين ، ومنها الحسد الكامن والداء الباطن ، ثم ثنى باللمز لما فيه من الخفاء والإشارة ، وصاحبه قد يستخف به ، ثم ختم هذه الإرشادات بالتنابز بالألقاب لأنه أخفها فقد يكون اللقب المكروه مما يتسامح فيه صاحبه إذا شاع وذاع.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ... (الآية). وهذه إرشادات لما ينبغي مراعاته في حق المسلم إذا غاب ، بعد بيان ما يجب مراعاته في حق المسلم وهو حاضر من ترك السخرية به واللمز عليه والتنابز معه بالألقاب.
وهذا القسم مشتمل على ثلاثة أمراض :
(أ) الظن السيّئ.
(ب) تتبع عورات أخيك.
(ج) إشاعة عوراته بين الناس بالغيبة ، وتلك صفات لعمري تتنافى مع الإيمان الصحيح ولا يصح أن تكون في المؤمنين.
ولذا صدر الكلام بالنداء بوصف الإيمان ، ولقد أخذ هذا القسم بالتدرج الطبعي ، فإن أول بوادر الشر أن يخطر ببالك ظن سىء وتأويل غير مقبول لفعل أخيك ، فتأخذ في تأكيد هذا الخاطر وتثبيته وبتتبع حركاته واستقصاء أعماله ، لتبنى من ذلك كله عقائد يعلم اللّه أنها على أسس من الوهم والظن السيئ ، وربما فعلها أخوك من غير قصد ، ولو كان قلبك سليما من سوء الظن لما فهمت هذا ، ثم يأتى بعد هذا التجسس دور الغيبة وإذاعة السوء محبة أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين ، وهو دور التقاطع والتدابر ، والتباغض ، وربما تفاقم الشر حتى يصل إلى أعلاه ، وقد كان السبب أوهاما وخيالات لا أساس لها.(3/508)
ج 3 ، ص : 509
يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ، وهذا أعلى أسلوب وأدقه حيث قال :
اجتنبوا كثيرا من الظن ، فإن من الظن ما هو مطلوب كالاحتياط في دفع الأذى عن النفس والمال ، والظن في استنباط الأحكام الشرعية ، والظن في وجوه الكسب والعمل كالذي يحصل من أصحاب العمل والتجارة ، أما الظن السيئ الذي نهانا عنه هو ما يحيك في نفوس بعض الناس بالنسبة لإخوانهم ، إذا رأى أحدهم عملا يحتمل في تأويله الخير والشر ، فيؤوله هو ويحمله على جانب الشر ، والذي دفعه إلى ذلك منافسة ومناظرة بينه وبين أخيه ، ويؤيده في ذلك اعتقاد خاطئ أن الناس كلهم شر وفساد فيتبرم بهم ويتنكر لهم ويظن بهم الظنون ، وهو داء استشرى بين الناس ، فنحن في حاجة ماسة إلى التمييز بين الظن الحسن بأنواعه والظن السيئ الكثير الوقوع ، وما أدق قول اللّه بعد ذلك :
إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ نعم هو موقع في الإثم والحرج ، وإذا كان بعض هذا الظن يوقع في هذا الإثم المبهم ، أليس من الحكمة والعقل البعد عن الكثير من هذا النوع ؟ حتى نسلم من آثامه ، والنبي يقول في حديثه : « الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من النّاس ، فمن اتّقى الشّبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ، ومن وقع في الشّبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه »
والحديث وإن كان في أعمال الجوارح فخطرات القلوب وأعمالها أشد وأدهى.
والظن المنهي عنه هو ما يترتب عليه الإضرار بالناس ، أما ما ينشأ عنه من الاحتراس المأمور به والتحفظ الذي لا يضر الغير فهذا مطلوب ، وهو من الحزم « الحزم سوء الظّنّ » وقيل : حسن الظن ورطة وسوء الظن عصمة.
وَلا تَجَسَّسُوا هذا هو الدور الثاني للظن السيئ فإن الإنسان يظن بأفعال أخيه الظنون ثم ينظر فيها فلا يجد لها أسبابا قوية فيأخذ في البحث وتتبع العورات لعله يجد ما يؤيد ظنه ، وهو في ذلك إن رأى حسنة أعرض عنها ، وإن رأى سيئة شنع بها ، ذلك من ضعف الإيمان ، وسوء الاعتقاد ، و
لقد صدق رسول اللّه حيث قال خطيبا : « يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه : لا تتّبعوا عورات المسلمين فإنّ من تتبّع عورات المسلمين فضحه اللّه في قعر بيته »
نعم فإنه لا يعمل هذا إلا ضعيف الإيمان حقّا ، وليس المربى والراعي داخلين في ذلك حيث يتتبعان العورات للإصلاح لا لإشاعة السوء والتشنيع.(3/509)
ج 3 ، ص : 510
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ولقد روى أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « أتدرون ما الغيبة ؟ » قالوا. اللّه ورسوله أعلم ، قال : « هي ذكرك أخاك بما يكره » قيل : أفرأيت لو كان في أخى ما أقول ؟ قال : « إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه » .
والغيبة تباح عند رفع الظلم ، والشهادة في الخصومات ، والاستشارات العامة ، وكالتشنيع على المتجاهر بالمعصية ، وما أروع هذا التمثيل حيث يقول اللّه : أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً وحقا من ولغ في العرض فكأنه أكل اللحم من أخيه وهو ميت لا يقدر على رده ، وكذلك المغتاب في غيبة أخيه ينهش من عرضه وهو لا يستطيع رده ، فهذا أسلوب غاية في التنفير من الغيبة ، ثم أتبع ذلك بقوله :
فَكَرِهْتُمُوهُ فقد صور المغتاب بصورة من يحب شيئا ، حقه أن يكون في غاية الكراهية وهو أكل لحم الأخ ، وزاده أن صوره بصورة الميت ، وحقه أن يكون منه أنفر ، وخلاصة المعنى : إن يفعل ذلك أحد فقد كرهتموه واتقوا اللّه الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم ، وهو بالمؤمنين رءوف رحيم.
« وبعد » : فالغيبة عادة مرذولة ، وصفة مستهجنة ، كثيرا ما أودت بالصلات ، وأثارت الأحقاد ، وشتتت من جمع ، وفرقت من شمل ، وهي مع هذا عذابها شديد وعقابها أليم ، وهي بالفساق أولى فاتقوا اللّه واجتنبوها
« وهل يكبّ النّاس على مناخرهم إلّا حصائد ألسنتهم » صدق رسول اللّه.
ما مضى كانت إرشادات إسلامية يوجهها اللّه إلى المؤمنين ليبين لهم أن مقتضى الإيمان ألا يحصل هذا منكم كما عرفنا سابقا. وهنا قال : « يا أيها الناس » لأن هذا الداء الذي هو التفاخر والتباهي بالأنساب والأحساب داء قديم عام في جميع الأمم ، فهو يعرض للناس من حيث كونهم ناسا فهو في طبيعة الإنسان ، ولقد عالج اللّه هذا الداء علاجا حاسما حكيما ، فإنك تفضل هذا على ذاك إذا كان من معدن وهو من آخر ، أو هذا من صنع فلان ، وذاك من صنع فلان ، فإذا كانت المادة واحدة والصانع واحدا ففيم إذن الاختلاف والتفاضل ؟ !(3/510)
ج 3 ، ص : 511
يا أيها الناس : اللّه خلقكم من تراب وماء وكنتم من ذكر وأنثى ، فالأصل واحد والخالق واحد ففيم تتفاضلون ؟ وبأى شيء تفتخرون ؟
وهذه هي الديمقراطية الصحيحة ، وهكذا تحطيم الفروق والطبقات ، أما الديمقراطية الكاذبة التي ما زالت تفرق بين الأجناس والألوان كما نرى في أمريكا الآن وجنوب أفريقيا فشيء لا يقره الدين الإسلامى الذي أصبح - وللأسف - مضغة في أفواه جنود أمريكا وأعوانها من مبشرين وملاحدة.
اللّه خلقكم من آدم وحواء ليس غير ، وجعلكم شعوبا وقبائل ، وميزكم أشكالا وأجناسا ليكون ذلك أدعى إلى التعارف ، ففي التنويع تقريب للضبط وعون على المعرفة ، فكيف انقلب هذا وأصبح مدعاة للمفاخرة الكاذبة ، ووسيلة للتدابر والتناكر والتقاطع ؟
وإذا كان لا بد من أن يفضل بعضكم بعضا فاعلموا أن التسابق يجب أن يكون بالأعمال الشخصية ، وليس هناك أفضل من تقوى اللّه عملا ، فبذلك فليفرح المؤمنون ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم ، ولا فضل لعربي على أعجمى إلا بالتقوى ، والتقوى أمر عام جماعها الخوف من اللّه والعمل على ما يرضيه ، وهذا باب واسع يشمل خيرى الدنيا والآخرة ، فليست التقوى محصورة في أضيق حدودها ، بل هي جماع كل خير ، وأساس كل فضل ، واللّه - سبحانه - هو العليم بها ، والخبير بعباده ، وسيجازى كلا على عمله الظاهر والباطن ، وهو بكل شيء عليم.
الإيمان الصحيح [سورة الحجرات (49) : الآيات 14 الى 18]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)(3/511)
ج 3 ، ص : 512
المفردات :
آمَنَّا الأمن : طمأنينة النفس وزوال الخوف ، وقد أخذ منه الإيمان وهو التصديق والإذعان بالحق مع الأمن ، والإسلام والاستسلام والانقياد الظاهري وترك التمرد والعناد ، وقد يكون معه إخلاص وقد لا يكون ، وفي عرف الشرع استعملهما مترادفين تارة ، أى : بمعنى واحد ومختلفين مرة أخرى كما في هذه الآية ، وكما في حديث جبريل حين سأل النبي عن الإيمان
فقال : « أن تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالبعث بعد الموت وبالحساب وبالقدر خيره وشرّه »
ولما سأله عن الإسلام
قال : « أن تعبد اللّه ولا تشرك به شيئا وتقيم الصّلاة وتؤدّى الزّكاة وتصوم رمضان » .
لا يَلِتْكُمْ لاته يليته عن كذا : صرفه عنه ، ونقصه حقه ، ولا يلتكم من أعمالكم أى ينقصكم من أعمالكم شيئا. يَرْتابُوا رابه : أوقعه في الشك والتهمة ، وارتاب : وقع في الشك ، ومنه قيل : ريب المنون للشك فيه من جهة وقته.
يَمُنُّونَ المن : تعداد النعم اعتدادا بها وإظهارا لفضل صاحبها ، وأصله من المن :
وهو القطع ، كأن المان قطع نظره عن الجزاء أو قطع حاجة المنعم عليه.(3/512)
ج 3 ، ص : 513
روى أن هذه الآية نزلت في بنى أسد بن خزيمة كانوا يقيمون في جوار المدينة فأصابهم سنة مجدبة فقدموا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأظهروا الإسلام ، وصاروا يقولون للنبي صلّى اللّه عليه وسلم : جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما تقاتلك بنو فلان ويقولون : آمنا فاستحققنا الكرامة ، وهم يريدون بذلك أعراض الدنيا ، وكانوا يمنون على النبي بإسلامهم ويستجدون به
، وعلى ذلك فليس المراد كل الأعراب بل هم قوم مخصوصون منهم.
المعنى :
قالت الأعراب - وهم بنو أسد وإن كان اللفظ يتناول كل من أراد بدينه وإسلامه وتقواه عرضا من أعراض الدنيا - قالت الأعراب : آمنا باللّه ورسوله ، وهم في الواقع لم يؤمنوا إيمانا كاملا خالصا لوجه اللّه ، ولذا يقول اللّه : قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وهذا تكذيب لهم في دعواهم الإيمان ، فإن الإيمان تصديق وإذعان ، وامتلاء القلب بنور اليقين ، وأولئك قوم ألجأتهم ظروفهم إلى ادعاء ذلك ، ولذا يقول اللّه ما معناه : ما كان يصح أن تقولوا : آمنا. ولكن قولوا : أسلمنا وانقدنا ظاهريا فقط للنجو من القتل والأسر وننعم بالفيء عند المسلمين ، فلا تكذبوا على علام الغيوب فإنه يعلم السر وأخفى.
ثم عاد القرآن فجبر خاطرهم ونفى عنهم الإيمان مع ترقب حصوله لهم فقال : ولما يدخل الإيمان قلوبكم ، أى : إلى الآن لم يدخل ، ولكنه سيدخل فيها إن شاء اللّه وهذا تشجيع لهم على العمل والدخول حقّا في صفوف المؤمنين فقال : وإن تطيعوا اللّه ورسوله لا ينقصكم من أعمالكم شيئا بل يوفيكم جزاءها كاملا غير منقوص فهيا اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون ، إن اللّه غفور للمؤمنين رحيم بهم.
وبعد هذا ألسنا في حاجة إلى بيان الإيمان حقا ، وإلى تعرف المؤمنين وصفاتهم حتى نكون على بينة من أمرهم ؟ نعم يقول اللّه شارحا الإيمان ومبينا صفات المؤمنين : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... (الآية). وقد ذكر اللّه صفات لهم عدة في هذه الآية وفي غيرها ..
1 - المؤمنون هم الذين آمنوا باللّه على أنه واهب الوجود ، والقادر على كل موجود ، والعالم بالسر وأخفى ، والمحيط بخفايا النفوس والعليم بذات الصدور ، وهو(3/513)
ج 3 ، ص : 514
صاحب الفضل ، وصاحب الطول ، ولا حول لأحد عنده ولا قوة ، إليه يرجع الأمر كله وكل شيء هالك إلا وجهه ، له الحكم وإليه ترجعون.
2 - وآمنوا برسوله محمد صلّى اللّه عليه وسلّم على أنه خاتم الرسل وإمامهم ، وأنه المبلغ عن ربه كل شيء ، وأنه عبد اللّه ورسوله إلى الناس جميعا ، وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى علمه شديد القوى.
3 - ثم لم يرتابوا في شيء بل كان إيمانهم عن عقيدة ثابتة ، ويقين كامل لا تزعزعه العواصف ، ولا تدفعه الرياح ، آمنوا باللّه ورسوله لأنه حق وواجب بقطع النظر عن أى شيء آخر لم يكن إيمانهم لغرض ، فإن أعطوا منه رضوا ، وإن لم يعطوا منه إذا هم يسخطون ، ومن هنا كان نفى الريب والشك درجة عليا تناسب ذكر (ثم) معه.
4 - الجهاد في سبيل اللّه بالأموال والأنفس محك الإيمان ودليله ، وعنوانه وأساسه ، فليس الإيمان دعوى تردد باللسان ، ولا خداع بالكلام ، وإنما هو جهاد للنفس وللعدو ولأعداء الإسلام ، ودعوته جهاد في سبيل اللّه فقط ولإعلاء كلمة اللّه فقط لا لدنيا يصيبها أو لغرض يحققه ، ولقد سئل صلّى اللّه عليه وسلّم عن الرجل يقاتل شجاعة. ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء : أى ذلك في سبيل اللّه ؟
فقال : « من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا فهو في سبيل اللّه »
ومعنى كون كلمة اللّه هي العليا أن يكون الناس أحرارا في أن يدينوا بدين اللّه وأن يدعوا إلى سبيل اللّه ، لا يمنعهم من ذلك مانع.
أولئك الموصوفون بما ذكرهم الصادقون في إيمانهم ودعواهم لا هؤلاء الأعراب من بنى أسد.
روى أنه لما نزلت تلك الآية التي تقضى بتكذيبهم جاءوا وحلفوا أنهم مؤمنون وصادقون فنزلت هذه الآية أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ
لتكذيبهم وتسفيه عقولهم إذ هم يخاطبون الرسول الذي يستقى علمه من علام الغيوب العليم بذات الصدور فكيف تنطلى الأكاذيب عليه ، وهو يعلم كل ما في السموات ، وما في الأرض ، وهو بكل شيء عليم.
يمنون عليك أيها الرسول أن أسلموا ، سمى اللّه ما أظهروه إسلاما ، ونفى أن يكون إيمانا كما زعموا ، قل لهم يا محمد : لا تمنوا على إسلامكم ، وفي إضافة الإسلام لهم معنى(3/514)
ج 3 ، ص : 515
دقيق ، أى : الذي تظهرونه ينبغي ألا يسمى إسلاما إلا عندكم فقط إذ هو استسلام منشؤه الرهبة والخوف لا التصديق الخالص ، بل اللّه يمن عليكم أن دلكم على الإيمان الصحيح وأرشدكم إليه ، وإن كنتم لم تنتفعوا بالإرشاد ، ولم تصلوا إلى المراد ، فالهداية هنا بمعنى الدلالة فقط وصلت أم لم تصل ، إن كنتم صادقين فاعترفوا بذلك كله فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
تلك أحكام اللطيف الخبير ، وإرشادات العليم البصير الذي يعلم غيب السموات والأرض وهو بصير بما تعملون ، وسيجازيكم عليه ، وهذا ختام للسورة رائع.(3/515)
ج 3 ، ص : 516
سورة ق
وهي مكية كلها عند الكثير ، وفي رواية لمسلم عن أم هشام بنت حارثة قالت : لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقرأ هذه السورة كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس
، وفي رواية أخرى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقرأ في صلاة الأضحى والفطر ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ واقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
وهي كغيرها من السور المكية تعرضت للبعث ومنكريه ، وضربت الأمثال بالأنبياء وأممهم وكيف كانت عاقبتهم ، ثم تعرضت لخلق الإنسان ونهايته ، ولأحوال يوم القيامة وما فيها من جنة ونار ، ونعيم وجحيم ، ويتخلل ذلك ذكر بعض آيات اللّه الشاهدة على إمكان البعث وأنه في قدرته ، فمحور الكلام في هذه السورة يدور حول إمكان البعث وإثباته.
إنكارهم للبعث والدليل عليه [سورة ق (50) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)(3/516)
ج 3 ، ص : 517
المفردات :
ق تقرأ هكذا. قاف بإسكان الفاء ، وهي قراءة حفص المشهورة.
عَجِيبٌ العجيب : الأمر الذي يتعجب منه ، وكذلك العجاب والأعجوبة.
رَجْعٌ أى : رجوع. تَنْقُصُ : تأكل. مَرِيجٍ : مضطرب.
فُرُوجٍ : شقوق تعيبها. زَوْجٍ : صنف من النبات. بَهِيجٍ : يحصل به السرور. مُنِيبٍ : راجع إلى اللّه وتواب. جَنَّاتٍ : جمع جنة وهي البستان.
الْحَصِيدِ : ما يحصد كالشعير والقمح وغيرهما. باسِقاتٍ : طويلات.
نَضِيدٌ : متراكب بعضه فوق بعض.
المعنى :
لقد افتتح اللّه هذه السورة الكريمة بحرف من حروف المعجم ، ثم بالكلام على القرآن الكريم ، وهذا هو الشأن العام في السور المكية المفتتحة بالحروف التي لا تزال سرّا بين اللّه والنبي فاللّه ورسوله أعلم بها ..
ولقد أقسم الحق - تبارك وتعالى - بالقرآن المجيد على أنك يا محمد جئت منذرا بالبعث ، فشكوا في صدقك ، ويا ليتهم ظلوا في شكهم يتحيرون بل جزموا بخلاف ذلك وأنكروا البعث مطلقا حتى جعلوا إثبات البعث من الأمور العجيبة بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ.(3/517)
ج 3 ، ص : 518
وفي وصف القرآن بالمجيد بيان لاشتماله على المكارم الدينية والدنيوية التي تكفل السعادة لمن اتبعها في الدارين ، ولعل وصف القرآن بذلك لأنه كلام الإله المجيد الرحمن الرحيم ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ ...
هؤلاء الكفار عجبوا لأن جاءهم رسول منهم ينذرهم بالبعث ، فأنكر اللّه عليهم تعجبهم مما ليس بعجب « 1 » ، وهو أن ينذرهم رجل منهم قد عرفوا فيه العدالة والصدق والأمانة حتى لقبوه بالأمين ، ومن كان كذلك لم يكن إلا ناصحا لقومه عطوفا عليهم رائدا لهم غير كاذب عليهم - كما أقروا له بذلك قبل البعثة - ومثل هذا الرجل إذا رأى خطرا عليهم أنذرهم به ، والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنذرهم بما هو غاية في المخاوف ، ونهاية في المتاعب لو ظلوا على شركهم ، واللّه - سبحانه وتعالى - ينكر عليهم تعجبهم مما أنذرهم به من البعث مع علمهم بقدرة اللّه - تعالى - على خلق السموات والأرض وما بينهما ، وإقرارهم له بأنه خلق العالم أولا ، والعقل شاهد عدل بإمكان البعث بل لا بد منه ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالحسنى ، وليجزي الذين أساءوا بالسوء.
فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ وتلك حكاية لتعجبهم « 2 » والإشارة لكونه صلّى اللّه عليه وسلّم منذرا بالقرآن ، والكلام عن هؤلاء الكفار أولا بالإضمار في قوله : بَلْ عَجِبُوا ثم بالإظهار في قوله : فَقالَ الْكافِرُونَ للإشارة إلى تعيينهم بما أسند إليهم أولا ، والتسجيل عليهم بالكفر ثانية.
ثم أكدوا تعجبهم من الإيمان بالبعث فقالوا : أإذا متنا وكنا ترابا نبعث ؟ !! أى : حين نموت ونصير ترابا نرجع ؟ إن ذلك رجوع بعيد جدّا عن الأوهام والعقول والواقع.
ترى أن أساس إنكارهم للبعث وتعجبهم منه أنهم يظنون أن إعادة الجسم بعد التفرق والانحلال والصيرورة إلى تراب أمر بعيد جدّا بل هو محال ، ومن الذي يجمع الجزئيات بعد تفرقها في التراب أو ذهابها في بطون السباع والوحوش والأسماك ؟ ومن الذي يحصى
___________
(1) - لأن قوله تعالى : بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ بل للإضراب الإبطالى مع تقدير استفهام إنكارى لعجبهم هذا.
(2) - والفاء للتفصيل مثلها في قوله تعالى : وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ.(3/518)
ج 3 ، ص : 519
كل هذا حتى لا يفلت منه جزئى ؟ إن ذلك لرجع بعيد جدا!! فيرد اللّه عليهم بأبلغ رد وآكده : ببيان علمه الشامل ، وقدرته الكاملة ، وضرب الشواهد المادية والأمثال على ذلك قد علم ربكم الذي خلقكم ورزقكم ، وخلق ما أظلكم وما حملكم قد علم علما أكيدا ما تأكل الأرض من لحومكم وعظامكم ، وما يتفرق منها في كل ناحية وهو العليم بكل شيء المحيط بكل ما في السموات وما في الأرض. وعنده كتاب حافظ لتفصيل كل شيء ، ولعل المراد بالكتاب تمثيل علمه تعالى بالكليات والجزئيات والأشكال والألوان وبكل شيء أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [سورة الملك آية 14].
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ وهذا إضراب - أفاده لفظ بل - بل جاء بعد الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاءوا بأفظع وأشنع من تعجبهم السابق بالإنذار ، والمعنى أن هؤلاء كذبوا بالحق الذي هو القرآن أو النبوة مع قيام الشواهد المحسوسة والمعقولة على ذلك ، التي لا تقبل شكا ، كذبوا به بمجرد مجيئه من غير تفكير ولا روية وهذا تكذيب أفظع وأشد من الأول ، فهم في أمر مضطرب حيث أنكروا النبوة على الإطلاق مرة ، ومرة قالوا : إنه لا يستحقها إلا رجل غنى ، ومرة قالوا : إن النبي ساحر وتارة كاذب ، وأخرى كاهن ، وهذا شأن المتردد الذي يبنى حكمه على غير أساس.
وهذه مظاهر قدرته تعالى شاهدة عليهم : أغفلوا فلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بناها اللّه بقدرة قادرة وسواء قلنا : إنها جرم - وهو الأصح - أو قلنا بغير ذلك فهي بلا شك قد بنيت بإحكام ، ورفعت بدقة كاملة وقدرة واسعة. وكيف زينها بنجوم للناظرين ، وليس لها فروج ، وليس فيها شقوق ، ولا عيوب.
أفلم ينظروا أيضا إلى الأرض كيف بسطها وكورها ، وألقى فيها رواسى شامخات وأنبت فيها نباتا حسنا من كل صنف يأخذ الألباب ، ويستهوى القلوب ، ويسر الناظرين فعل ذلك كله تبصرة وذكرى لكل عبد تواب منيب وأنزل من السماء ماء مباركا كثير الخير والبركة ، كثير النفع والخيرات ، فأنبت منه جنات وعيونا ، وزروعا وكروما ، وأنبت به حب الزرع الذي يحصد كالبر والشعير والأرز وغيره ، وانظر إلى النخل الباسقات الفارعات ، لها طلع قد صف بعضه فوق بعض بنظام دقيق.(3/519)
ج 3 ، ص : 520(3/520)
ج 3 ، ص : 520
كل ذلك جعله رزقا لعباده ، فهل يليق منهم الكفر والتكذيب ؟ ! وانظر إلى الماء وقد أحيا به بلدة ميتة لا نبات بها ، أحياها بالخضرة والنبات بين عشية أو ضحاها ، إن الذي قدر على ذلك كله ليس عليه بعزيز أن يعيد خلقكم للبعث والثواب ، ومثل ذلك المتقدم الخروج من القبور للبعث والحساب ، وما ذلك على اللّه بعزيز ..!
العبرة من سير الأولين [سورة ق (50) : الآيات 12 الى 15]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
المفردات :
الرَّسِّ : البئر التي لم تطو. الْأَيْكَةِ : وهي الغيضة سموا بها تُبَّعٍ هو تبع الحميرى وكان مؤمنا وقومه كفار. أَفَعَيِينا العي : العجز ، تقول : عييت بالأمر : إذا لم تعرف وجهه.
المعنى :
هكذا الرسل جميعا جاءوا بالتوحيد وإثبات البعث ، وكذبتهم ، أممهم أى :
أكثرهم ، فاستحقوا العقاب الشديد من اللّه ، فانظروا يا آل مكة موقفكم من رسولكم الذي أرسل إليكم.
كما كذب المشركون من العرب بالبعث كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب البئر المعروفة ، قيل : هم قوم شعيب ، وكذبت قوم ثمود ، وقوم عاد ، وفرعون وقومه ،(3/521)
ج 3 ، ص : 521
وقوم لوط الذين كانوا إخوانه ، وقوم تبع الحميرى ، وقد مضى قبل ذلك قصص هؤلاء في غير موضع ، كل كذب الرسل فيما أرسلوا من أجله ، وخاصة أمر البعث ، فوجب عليهم وعيد ربك ، وحقت عليهم كلمة العذاب.
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ؟ وهذا استئناف مقرر لصحة البعث الذي حكيت أحوال المنكرين له ، والمعنى : أقصدنا الخلق الأول - أى بدء الخلق - فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة ؟ ! إنهم معترفون بذلك ، وأن اللّه هو الذي خلق الخلق أولا ، فلا وجه لإنكارهم البعث ، بل هم في خلط وشبهة من هذا الخلق الثاني ، أى :
البعث ..
تقوى اللّه والخوف من عذابه يوم القيامة [سورة ق (50) : الآيات 16 الى 35]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35)(3/522)
ج 3 ، ص : 522
المفردات :
ما تُوَسْوِسُ الوسوسة : الصوت الخفى ، ومنه وسواس الحلي ، أى : صوت الحلية ، والمراد هنا حديث النفس. حَبْلِ الْوَرِيدِ : هو عرق في صفحة العنق.
يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ : يأخذ ويثبت الملكان الموكلان بالإنسان. قَعِيدٌ : جالس.
رَقِيبٌ عَتِيدٌ الرقيب : الحافظ للأعمال المراقب لها ، والعتيد : الحاضر الذي لا يغيب. سَكْرَةُ الْمَوْتِ : شدته التي تذهب بالعقل. تَحِيدُ : تنفر وتهرب. سائِقٌ وَشَهِيدٌ أى : ملكان أحدهما يسوقه إلى المحشر والآخر يشهد عليه. حَدِيدٌ أى : حاد قوى. عَتِيدٌ أى : مهيأ لجهنم. عَنِيدٍ : معاند ومجانب للحق. مُعْتَدٍ : ظالم متخط للحق. مُرِيبٍ : شاك في اللّه وفي أخباره. ما أَطْغَيْتُهُ : ما أوقعته في الطغيان. وَأُزْلِفَتِ : قربت.
أَوَّابٍ : كثير الرجوع إلى اللّه. حَفِيظٍ : كثير الحفظ لحدود اللّه.
مُنِيبٍ : مقبل على الطاعة. مَزِيدٌ : زيادة.
المعنى :
يقول اللّه - جل جلاله - : ولقد خلقنا الإنسان وأبدعنا صورته ، وأكملنا خلقته ، ونحن نعلم السر وأخفى ، ونعلم ما توسوس به نفسه ، وما يستكن في ضميره ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فاللّه يعلم ما يخفيه الإنسان ويكنه في نفسه ، من الخواطر(3/523)
ج 3 ، ص : 523
وحديث النفس ، ولا غرابة في ذلك ، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد ، وهذا تمثيل لكمال القرب ، مع أن اللّه منزه عن الحلول في مكان وزمان ، فهو قرب علم به وإحاطة بأحواله كلها فكأن ذاته قريبة منه « 1 » .
ومع كمال العلم بالإنسان ، وتمام الإحاطة بأحواله ، ونفاذ قدرته عليه ، وكل به ملكين يكتبان ويحصيان عليه عمله ، إلزاما للحجة ، وقطعا للمعذرة.
فاللّه أقرب إليه من حبل الوريد حين يتلقى المتلقيان اللذان يأخذان عنه ويحصيان عليه ، أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات ، والآخر عن شماله يكتب السيئات ، ما يلفظ الإنسان من قول ، ولا يعمل من عمل إلا لديه ملكان موصوفان بأنهما رقيبان وعتيدان ، فكل منهما رقيب ، أى : حافظ للأعمال متتبع لأمور الإنسان ، يحصيها ويسجلها ، وكل منهما عتيد ، أى : حاضر مهيأ معد لذلك.
وقال بعض العلماء : في هذه الآية رهبة وهيبة وخوف وفزع لقوم ، وسكون وأنس وطمأنينة لقوم آخرين ، فهنيئا للعاملين المؤمنين ، وبؤسا وهلاكا للكافرين والفاسقين!! ويا حسرة على العصاة والمذنبين! حيث ينزل بهم الموت وفزعه ، فتراهم سكارى من هول ما يلاقونه وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ نعم كل إنسان يلاقيه الموت وشدته وتغمره غمرته التي تغلب عقله ، وتلهيه عمن حوله ، ويشغله عن ماله وولده ، وعند ذلك يظهر له الحق ، ويتضح له الأمر ، ويدرك مكانه ، ويرى عمله وأن ما جاءت به الرسل من الإخبار بالبعث والثواب والعقاب حق لا شك فيه ولا مراء ، تلك مواقف شديدة على غير المؤمنين ، أما المؤمنون فعند سكرات الموت يبشون ويفرحون لما يرون من مقدمات الخير الذي ينتظرهم.
ذلك هو الموت وما فيه ، الذي كنت أيها الكافر منه تحيد وعنه تميل.
ونفخ في الصور النفخة الثانية ليقوم الناس لرب العالمين ، ذلك الوقت الذي أوعد اللّه به الكفار والعصاة ، وانظر - رعاك اللّه - إلى قوله : وجاءت كل نفس معها سائق
___________
(1) - فيه إشارة إلى أنه تجوز عن قرب العلم بقرب الذات.(3/524)
ج 3 ، ص : 524
وشهيد ، أى : سائق يسوقها إلى نتيجة عملها ، وشاهد يشهد لها بعملها ويقال لها :
تاللّه لقد كنت أيها الإنسان في غفلة من هذا الذي نزل بك - وكل إنسان وله اشتغال ما عن الآخرة - فكشفنا عنك غطاءك ، وأزلنا عنك غفلتك التي كانت عندك في الدنيا ، بانهماكك في المحسوسات ، واشتغالك بالماديات ، وقصر نظرك عليها ، فبصرك اليوم حاد وقوى تدرك به ما غفلت عنه أو أنكرته في الدنيا.
وقال قرينه - وهو شيطانه الذي قيض له في الدنيا - : هذا - والإشارة إلى نفس الشخص الكافر - الذي عندي وفي ملكي عتيد لجهنم ، أى : قد هيأته لها بإغوائى وإضلالى « 1 » ، فيقال للموكل به من الملائكة : ألقيا في جهنم كل كفار معاند للحق مجانب له ، مناع للخير ، معتقد ظالم ، شاك في دينه مرتاب في ربه ، الذي جعل مع اللّه إلها آخر فألقياه - والأمر للسائق والشهيد كما مضى - في العذاب الشديد.
وحينما يلقى الكافر في جهنم يقول : يا رب أطغانى الشيطان وأضلنى!! فيقول الشيطان « 2 » : ربنا ما أطغيته ولا أضللته ولكن كان هو في ضلال بعيد الغور ، فأنا وسوست له وزينت له السوء فقط ، وهو الذي ارتكب الإثم بنفسه بعد اختياره له وقصده ، وبعد ما جاء التحذير له من السماء مرارا ، فيا رب : ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد يستحق معه هذا العقاب ، فيقول اللّه : لا تختصموا لدى ، والحال أنى قدمت لكم بالوعيد ، وهو القرآن ، وأنذرتكم على ألسنة الرسل ، وحذرتكم من سوء العاقبة مرارا ، ودعوتكم إلى الخير جهارا.
ما يبدل القول لدى ، ولا معقب لحكمي ، وقد حكمت بتخليد الكافر في النار وتعذيب العاصي بها على حسب عمله ، ولن يغير هذا الحكم ، وما ربك بذي ظلم للعباد.
___________
(1) - وإعراب هذه الآية « هذا ما لدى عتيد » يجوز في (ما) أن تكون موصوفة و(عتيد) صفتها و(لدى) متعلق به و(ما) هذه خبر اسم الإشارة ، ويجوز أن تكون (ما) موصولة مبتدأ و(لدى) صلتها و(عتيد) خبرها والجملة خبر اسم الإشارة.
(2) - فصلت هذه الجملة لأنها واقعة جواب سؤال مقدر تقديره : ماذا قال الشيطان ردّا على اتهام الكافر له ؟
وعطف قوله : وَقالَ قَرِينُهُ على ما قبله لأن إرادة الجمع بينها وبين ما قبلها وهي وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها ... مطلوبة ، ولا مانع من العطف لاتحادهما خبرا وإنشاء.(3/525)
ج 3 ، ص : 525
واذكر يوم نقول لجهنم : هل امتلأت جوانبك الفسيحة بمن دخلك من المذنبين ؟
فتقول جوابا على هذا السؤال : هل من زيادة.
أى : لا أسع أكثر من ذلك فإنى قد امتلأت « 1 » .
ثم لما فرغ من بيان حال الكفار شرع في بيان حال المؤمنين يوم القيامة فقال ما معناه : وأزلفت الجنة وقربت للمتقين تقريبا غير بعيد فهم يشاهدونها ويرون فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ويقال لهم : هذا ما توعدون أيها المتقون فهو لكم ولكل أواب كثير التوبة والرجوع إلى اللّه محافظ على حدوده ومحارمه لا يقربها ، وهو من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ، ويقال للمتقين :
ادخلوها بسلام ، أى : سالمين من كل خوف ، ذلك يوم الخلود ، لهم فيها ما يشاءون ، وما يدعون ، ولدي ربك الكريم مزيد من الفضل والإكرام.
« وبعد » : أليس في ذكر أحوال يوم القيامة ، وما يلاقيه الإنسان فيها ، جزاء على أعماله التي تحصيها الملائكة الكرام الكاتبون ، بعد تصدير الآية بما يثبت للّه القدرة القادرة والعلم التام بكل شيء أليس هذا كله مما يثبت عقيدة البعث ، ويقوى الإيمان به ؟ ويدعو إلى اقتفاء أثر المؤمنين به الذين ينعمون في الجنة التي أعدت لهم ، وعند ربك فوق هذا كله مزيد من الفضل والإحسان لمن يؤمن باللّه واليوم الآخر.
تهديد لمنكري البعث وختام السورة [سورة ق (50) : الآيات 36 الى 45]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)
___________
(1) - الاستفهام الأول للتقرير ، فاللّه يقررها بأنها امتلأت ، أى : يجعلها تقر بذلك ، والاستفهام الثاني بمعنى النفي ، وهو جواب الاستفهام الأول. [.....](3/526)
ج 3 ، ص : 526
المفردات :
قَرْنٍ القرن : الأمة والجماعة المتقدمة ، سميت بذلك لأنها تتقدم غيرها كالقرن يتقدم الحيوان. فَنَقَّبُوا التنقيب : التنقير عن الأمر والبحث والطلب ، وقرئ فنقبوا ، أى : خرقوا في البلاد ودوخوا فيها غيرهم ، والمراد طافوا في البلاد من أقصاها إلى أقصاها طلبا للتجارة أو هربا من الموت. مَحِيصٍ : مهرب. لُغُوبٍ أى : تعب وإعياء. وَأَدْبارَ السُّجُودِ يقال : أدبر الشيء إدبارا : إذا ولى ، وقرئ : وإدبار جمع دبر ، والمراد بعد السجود ، أى : الصلاة. الصَّيْحَةَ أى :
صيحة البعث. تَشَقَّقُ أصله : تتشقق ، والمراد : تتفتح ، ويخرجون من قبورهم.
يَسِيرٌ : سهل. بِجَبَّارٍ : تجبرهم على الإيمان.(3/527)
ج 3 ، ص : 527
المعنى :
كثيرا من الأمم السابقة « 1 » ، والقرون الماضية قبلكم أهلكناهم بعذاب شديد عاجل لما كذبوا الرسل ، وكفروا بالبعث ، وقد كانت تلك الأمم أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا ، وأصحاب تجارات ومصانع ، هؤلاء اشتد بطشهم فنقبوا البلاد ، وأكثروا فيها الفساد ، وقيل : أكثروا في السفر والترداد والبحث والطلب عن المال والتجارة ، فانظر هل من محيص أو محيد عن اللّه ولقائه ؟ لا مناص منه ولا ملجأ إلا إليه ، فاعتبروا أيها المنكرون وآمنوا أيها المشركون.
إن في ذلك لذكرى وعبرة لمن كان له قلب يعقل به فيرى الحسن حسنا والقبيح قبيحا ، لأن من لا يتعظ بالمواعظ كأنه لا قلب له لمن كان له قلب يعقل أو أصغى بسمعه إصغاء من يريد أن يعرف الحق من غير تعصب ، وهو شهيد ، أى : حاضر بروحه وعقله لا بجسمه فقط ، وكثيرا ما نعى اللّه على الكفار عدم استفادتهم لأن على قلوبهم الأقفال ، وأنهم يحضرون بأجسادهم فقط أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ؟ ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما من عجائب في ستة أيام ، وهو القادر على خلقها في لحظة ، وما مسنا بعد ذلك إعياء ولا تعب ، قيل : نزلت ردّا على اليهود الذين يقولون : إن اللّه استراح يوم السبت واستلقى على العرش بعد أن خلق الدنيا طلبا للراحة ، وإذا كان هذا خلقه فكيف نستبعد عليه البعث ؟ !! ولقد ختم اللّه السورة بعلاج من حكيم خبير ، علاجا لمن يدعو إلى الخير ويصاب بالأذى من قومه. ويجازى على الحسنة بالسيئة ، ليس لهذا علاج إلا الصبر وأن يحتسب أجره عند اللّه ، ويفوض أمره إليه ، واللّه بصير بالعباد ، وهو مع المؤمنين بالنصر والتأييد إن كانوا مؤمنين حقا.
اصبر يا محمد على ما يقولون ، واستعن على ذلك بالتسبيح والصلاة ، وتقوية الروح باللقاء المعهود مع خالق هذا الوجود ، في الصلاة والمناجاة والتسبيح والتكبير ، وسبح
___________
(1) - « كم » خبرية منصوبة بأهلكنا ، و« من قرن » تمييز لها ، وجملة « هم أشد » صفة لقرن ، والفاء في قوله :
« فنقبوا » عاطفة على المعنى مع إفادة السببية.(3/528)
ج 3 ، ص : 528
حامدا ربك شاكرا له فضله ونعمه ، مهما أصابك من سوء ، سبحه قبل طلوع الشمس في وقت السحر. وقبل الغروب ومن الليل فسبحه ، وأدبار كل صلاة ، وخصت هذه الأوقات بالذكر لأنها أوقات تظهر فيها عظمة اللّه ، وجلاله ، وقدرته على إحياء هذا الوجود بعد سكونه ، وعلى إماتته في الغروب بعد هذه الحركة والضجيج والحرارة والنور ، وفي صحيح الحديث أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقول دبر كل صلاة مكتوبة : « لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيى ويميت ، وهو على كلّ شيء قدير ، اللّهمّ لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ » .
واستمع - أيها الإنسان - لما أخبرك به من حال يوم القيامة ، وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به ، والمحدث عنه : يوم ينادى المنادى يخرجون من القبور ، يوم يسمعون الصيحة بالحق ، ذلك هو يوم الخروج.
إنا نحن نحيى ونميت في الدنيا ، لا يشاركنا في ذلك أحد ، وإلينا وحدنا المصير ، اذكر يوم تتشقق عنهم الأرض مسرعين إلى مكان الحشر ، ذلك حشر ونشر علينا يسير وسهل.
أيها الرسول : نحن أعلم بما يقولون ، وسنجازيهم على ذلك كله ، فلا يهمنك أمرهم وما أنت عليهم بجبار تجبرهم على الإيمان ، ولست عليهم بمسيطر ، إن أنت إلا رسول عليك البلاغ فقط فذكر إنما أنت مذكر ، ذكر بالقرآن ، فإنه لا ينتفع به إلا من يخاف الوعيد ، ويؤمن بالغيب ، وفيه استعداد للخير.(3/529)
ج 3 ، ص : 529
سورة الذاريات
وهي سورة مكية عند الجميع ، وعدد آياتها ستون آية.
وعلى الجملة فالسورة تدور حول إثبات البعث بالقسم عليه ، وذكر بعض أحواله مع المؤمنين والكافرين ، ثم قصت قصص بعض الأنبياء ، وخلصت من ذلك كله إلى الأمر بالتوحيد وعدم الشرك ، مع بيان طبائع الناس.
إثبات البعث [سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
المفردات :
وَالذَّارِياتِ : هي الريح التي تذرو التراب وغيره ، أى : تفرقه وتبدد ما رفعته عن مكانه. وِقْراً الوقر : ثقل الحمل على ظهر أو في بطن. يقال : هذه امرأة(3/530)
ج 3 ، ص : 530 موقرة : إذا حملت حملا ثقيلا ، وأما الوقر : فهو ثقل السمع ، وهل المراد بالحاملات السحائب يحملن الماء ؟ أوهن السفن الموقرة بالناس وأمتعتهم. فَالْجارِياتِ يُسْراً أى : جريا سهلا إلى حيث تسير. فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً : هي الملائكة تقسم أمور العباد ، وقيل : هي الرياح تقسم المطر عليهم. الدِّينَ : هو الجزاء ، ومنه قولهم :
دنته بما صنع ، أى : جزيته ، وعليه قولهم : « كما تدين تدان » ومنه « يوم الدين » .
الْحُبُكِ أى : الطرائق ، أى : والسماء ذات الطرق ، أو ذات الخلق القوى المستوي ، أو ذات الزينة. يُؤْفَكُ : يصرف عنه من صرف. الْخَرَّاصُونَ الخرص : التخمين والحزر ، وهو سبب الكذب ، فالمراد : لعن الكذابون. غَمْرَةٍ الغمرة : ما ستر الشيء وغطاه. ساهُونَ أى : لا هون وغافلون. يُفْتَنُونَ :
يحرقون ، وهو من قولهم : فتنت الذهب : أحرقته.
المعنى :
لقد قال اللّه - تعالى - في السورة السابقة : ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ وقال :
وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ وفي هذا إشارة إلى إنكارهم البعث وإصرارهم على الكفر به بعد إقامة البرهان وتلاوة القرآن فلم يبق بعد ذلك إلا القسم باليمين المؤكدة إن ما توعدون لصادق ، وإن الدين لواقع.
ولكن أليس من الأفضل أن ندرك بعض السر في قسم اللّه بهذه الأشياء ، بعد ما نهانا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن الحلف بغير اللّه ؟
ولعل السر في ذلك أن العرب كانت تعتقد أن النبي رجل قوى الحجة ، غالب في المجادلة وإقامة الدليل ، فأقسم لهم القرآن على لسان النبي بكل شريف ليعلموا صدقه إذ هم كانوا يعتقدون أن الأيمان الكاذبة تدع الديار بلاقع (خرائب) وأنها تضر صاحبها ، وقد كان إكثار النبي من الحلف مع أنه لم يصب بسوء بل ارتفع شأنه كان هذا كله دليلا على صدقه على أن الأيمان التي أقسم اللّه بها دلائل على كامل قدرته على البعث وقد ساقها اللّه في صورة اليمين لفتا لأنظارهم وإيذانا بخطر ما يتحدث عنه ، وأنه حرى بالبحث التام ، فالإله الذي خلق هذه الأشياء وصرفها حيث شاء قادر بلا شك على البعث وإعادة الخلق يوم الجزاء.(3/531)
ج 3 ، ص : 531
وهنا بحث آخر : في جميع السور التي بدئت بالقسم بغير الحروف كالسورة التي معنا نجد أن المقسم عليه واحد من ثلاثة : التوحيد ... الرسالة ... البعث ، تلك أصول الدين العامة ، ويلاحظ أن سورة الصافات وحدها هي التي أقسم فيها على التوحيد فقال اللّه إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ وفي سورة النجم. والضحى ، أقسم على صدق الرسول حيث قال : ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وقال : وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى وبقية السور كان المقسم عليه فيها هو البعث والجزاء وما يتعلق به لأنهم أنكروا البعث وبالغوا في إنكاره ، وصدق اللّه حيث يقول :
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ.
أقسم اللّه بالرياح التي تذرو التراب ذروا ، وتبدده في كل مكان ، فالرياح التي تحمل السحب الموقرة بالماء المحملة بالمطر ، فالرياح التي تجرى جريا سهلا فتحمل السحب ، وتدفع السفن ، فالتي تقسم المطر على الأماكن التي يريدها اللّه ، فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء وهو على كل شيء قدير وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن الذاريات فقال : هي الرياح ، وسئل عن الحاملات فقال : هي السحاب ، وسئل عن الجاريات يسرا فقال : هي السفن ، وسئل عن المقسمات أمرا فقال : هي الملائكة ، ويقول عمر - رضى اللّه عنه - في ذلك كله : لو لا أنى سمعت رسول اللّه يقول بهذا ما قلته
.
واللّه أعلم بكتابه ، أقسم اللّه بهذا على أن ما توعدون به لصادق ومتحقق الوقوع ، وأن الدين والجزاء لواقع وفي تخصيص المذكورات بالقسم رمز إلى شهادتها بتحقيق المقسم عليه وهو البعث من حيث إن من قدر على ذلك فهو قادر على تحقيق الوعد بالبعث ، إذ الرياح تذرو ذرات المياه ، وتحملها إلى طبقات الجو العالية ، فتتجمع سحبا بعد تفرقها ، ثم تجرى بيسر وسهولة إلى حيث شاء فتنزل مطرا أليس القادر على ذلك بقادر على أن يعيد الخلق بعد تفرق أجزائه وانحلاله في التراب أو الجو أو البحار ؟ ! وأقسم اللّه كذلك بالسماء ذات الحبك ، أى : الطرق المحسوسة التي تسير فيها الكواكب أو هي ذات الخلق البديع القوى ، وذات الزينة بالنجوم ، على أنكم - يا كفار مكة - في قول مختلف متباين ، فتارة تقولون على النبي : إنه شاعر ، وطورا إنه ساحر ، ومرة : إنما يعلمه بشر ، وأخرى : إنه مجنون وهذا دليل على التخبط وسوء الرأى ليس الأمر كذلك وإنما يصرف عن الرأى الحق والإيمان الكامل من صرف(3/532)
ج 3 ، ص : 532
بحسب طبعه وميله النفسي عنه قتل « 1 » الخراصون الذين ينكرون البعث عن ظن وحدس لا عن رأى وعقيدة وهؤلاء هم الكذابون الذين هم في جهل يغمرهم كالماء الكثير وهم ساهون ولا هون عن الخير الذي ينفعهم.
يسألون سؤال استهزاء قائلين : أيان يحصل يوم الجزاء ؟ والجواب : يقع يوم الدين يوم هم على النار يحرقون ، أى : يوم الجزاء هو يوم تعذيب الكفار ، ويقال لهم عند ذلك :
ذوقوا فتنتكم ، أى : عذابكم المعد لكم جزاء على كفركم ويقال لهم كذلك : هذا العذاب هو الذي كنتم به تستعجلون وتسألون عنه استهزاء وكفرا به.
من هم المتقون وما جزاؤهم ؟ [سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 23]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
المفردات :
يَهْجَعُونَ الهجوع : النوم ، وقيده بعضهم بالنوم ليلا ، وقال آخرون : إنه النوم القليل. وَبِالْأَسْحارِ : جمع سحر ، وهو الجزء الأخير من الليل ، أى : قبيل
___________
(1) - حقيقة القتل معروفة ، والمراد هنا بالقتل : الدعاء عليهم باللعن لأن الملعون يشبه المقتول في الهلاك ، وعلى ذلك ففي (قتل) استعارة تبعية.(3/533)
ج 3 ، ص : 533
الفجر. وَالْمَحْرُومِ : هو الذي حرم المال ، والظاهر أنه هنا المتعفف الذي لا يسأل الناس ... وهؤلاء هم المتقون المؤمنون ، وهذا جزاؤهم بعد الكلام على الكفار والمجرمين ، مع ذكر حقائق أخرى تتعلق بالاستدلال على قدرة اللّه ووحدانيته ، وبالمن على الناس بأن رزقهم من اللّه ويأتى من السماء.
المعنى :
إن المتقين الموصوفين بالصفات الآتية في جنات وبساتين يتمتعون بكل ما فيها ولهم فيها عيون فوارة بالماء الزلال تجرى خلال الجنة ، فلا يرون فيها عطشا ، كما أنهم لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ، إنهم في جنات وعيون حالة كونهم آخذين ما آتاهم ربهم من نعيم وقابلين لكل ما أعطاهم بقبول حسن ، وقد كانوا في الدنيا يتقبلون أوامر اللّه التي تأتيهم على ألسنة الرسل بصدور رحبة ، ونفوس مطمئنة ، وكأن سائلا سأل وقال : هل فعلوا ما يستحقون عليه هذا الجزاء ؟ فأجيب : إنهم كانوا قبل ذلك في الدنيا محسنين لأعمالهم ، آتين بها على ما ينبغي ، عابدين اللّه عبادة خالصة لوجهه كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ « 1 » أى : كانوا يهجعون زمانا قليلا من الليل ، ولا شك أن هذا وصف للمتقين بأنهم عاملون مخلصون ، فالليل وإن كان وقت راحة ونوم ، فهم لا يهجعون فيه إلا قليلا ، ويكابدون العبادة في أوقات الراحة والبعد عن الناس ، وعند سكون النفس وعدم اشتغالها بالدنيا وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً « 2 » وهم مع ذلك كله يستغفرون اللّه في الأسحار ، كأنهم أجرموا في الليل أو عصوا اللّه في النهار ، أليس هذا هو وصف المؤمن التقى دائما يخشى اللّه ويعمل له ، ويحاسب نفسه ثم يستغفر اللّه بالأسحار بعد ذلك ؟
وهم دائما في خشية من عذاب اللّه ، ومع ذلك ففي أموالهم حق ثابت معلوم ، للسائل والمحروم ، الذي يتعفف عن السؤال ، ويحسبه الجاهل غنيّا ، وهو في أشد حالات الفقر.
عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : « ليس المسكين الّذى تردّه التّمرة والتّمرتان
___________
(1) - هذه الجملة بيان للجملة التي قبلها ولذلك فصلت.
(2) - سورة الإسراء آية 78.(3/534)
ج 3 ، ص : 534
والأكلة والأكلتان ، قيل : فمن هو المسكين ؟ قال : الّذى ليس له ما يغنيه ولا يعلم مكانه فيتصدّق عليه فذلك المحروم » .
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وهذا دليل على قدرة اللّه في الأرض وفي الناس سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ « 1 » وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ « 2 » نعم في الأرض وما أقلت من سهول وجبال ، وأنهار ووديان ، وما عليها من زروع وثمار ، وحدائق ونبات وما في جوفها من ماء عذب فرات ، وماء كالملح الأجاج ، وما فيها من زيوت ومعادن ، وغازات وأبخرة ، في الأرض وحركاتها ، ودوراتها ورياحها ، وحرها وبردها ، آيات ودلائل ولكن للمتقين.
وفي أنفسكم آيات كذلك للمتقين ، أليس في نفسك وما فيها من علوم ومعارف وغرائز وميول واتجاهات للخير تارة وللشر أخرى آيات للمتقين ؟ أليس في نفسك التي بين جنبيك وما فيها من حواس السمع والبصر والإحساس واللمس والذوق وما فيها من دورة الدم ، وأجهزة التنفس والبول والهضم والإفراز كل ذلك آيات لمن يعقلها ، ولا يعقلها حقيقة ويدرك سرها الخفى ودلالتها على الإله القوى القادر الحكيم الخبير إلا المؤمنون المتقون اللّه ، أما غيرهم فقد يدرك حقائقها المادية فقط!! ، وفي أنفسكم أفلا تبصرون ذلك بقلوبكم لا بأبصاركم! وتفقهون أن هذا كله لخالق قادر على البعث وإعادة الحياة.
واعلموا أن في السماء تقدير رزقكم ، وتحديده وأسبابه ، فليس الرزق موقوفا على شيء يتعلق بالكون الأرضى فقط ، بل الأمر كله للّه ، واللّه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، أى : في السماء رزقكم وما توعدون من خير أو شر ، فعلى المسلم إذا طلب أمرا من مخلوق فليطلبه بعزة مع العمل فإن الأمور تجرى بالمقادير وبعضهم فسر السماء في الآية بالمطر ، فورب السماء والأرض إن تقدير الرزق وتحديده في السماء لحق لا شك فيه ، ويجوز أن يراد هذا وغيره من كل وعد سابق في هذه السورة ، إنه لحق مثل « 3 » نطقكم فكما أنكم لا تشكون في نطقكم فكذلك هذا.
___________
(1) - سورة فصلت آية 53.
(2) - سورة فصلت آية 39.
(3) - مثل حال من الضمير المستكن في قوله : الحق.(3/535)
ج 3 ، ص : 535
وروى عن بعض الأعراب حينما سمع هذه الآية قال : يا سبحان اللّه من الذي أغضب الجليل حتى حلف ؟ ! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين ؟ !
إكرام اللّه لأوليائه وإهانته لأعدائه [سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 46]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38)
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43)
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46)(3/536)
ج 3 ، ص : 536
المفردات :
ضَيْفِ أى : ضيوف. مُنْكَرُونَ : غير معروفين. فَراغَ المراد :
ذهب إلى أهله على خفية من ضيفه ، وأصل الروغ : الميل على سبيل الاحتيال ، ومنه روغان الثعلب. سَمِينٍ : ممتلئ الجسم بالشحم واللحم. فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً : أضمر في نفسه منهم خوفا. فِي صَرَّةٍ : في صوت وجلبة. فَصَكَّتْ وَجْهَها : ضربت وجهها بأطراف أصابعها عجبا. عَقِيمٌ : عاقر فكيف ألد ؟
وأصل العقم : اليبس. فَما خَطْبُكُمْ : ما شأنكم الخطير. مُسَوَّمَةً :
معلمة. لِلْمُسْرِفِينَ : المتجاوزين الحدود. آيَةً : علامة دالة على ما أصابهم.
بِرُكْنِهِ أى : بجانبه وهذا كناية عن الإعراض التام ، وقيل : الركن القوة والسلطان ، أو القوم.نَبَذْناهُمْ
: طرحناهم بلا مبالاة.لِيمٌ
أى : أتى بما يلام عليه. الْعَقِيمَ : التي لا تلقح شجرا ولا تأتى بخير بل تهلك الحرث والنسل.
ما تَذَرُ : ما تمر على شيء وتتركه. كَالرَّمِيمِ : كالشىء البالي من عظم أو نبات أو غيره. فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ : استكبروا عن امتثال أمره. الصَّاعِقَةُ أى : المهلكة التي صعقتهم.
المعنى :
ألم يأتك يا رسول اللّه حديث ضيف إبراهيم المكرمين « 1 » ، وهذا الأسلوب فيه تفخيم
___________
(1) في هذا إشارة إلى أنه استفهام تقريرى ، وقيل : إن هل بمعنى قد ، كقوله تعالى : هل أتى على الإنسان حين من الدهر أى : قد أتى.(3/537)
ج 3 ، ص : 537
لشأن القصة ، ورفع لمكانة الحديث ، ولفت لأنظار الناس إليه وتنبيه على أن مثل هذا الحديث مما لا يعلمه رسول اللّه إلا عن طريق الوحى لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى « 1 » وقد سبقت هذه القصة في سورتي هود والحجر ، ولا شك أن ضيوف إبراهيم مكرمون عند اللّه ، لأنهم من الملائكة. بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ « 2 » وإبراهيم أكرمهم غاية الإكرام فهم مكرمون من اللّه ومن المضيف ، هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه « 3 » فقالوا : نسلم عليك سلاما ، فأجابهم إبراهيم بأحسن مما حيوا حيث قال : عليكم سلام من اللّه ورحمته ، وعلماء البلاغة يقولون : (الجملة الاسمية كما في قولك : السلام عليك ، أبلغ من قولك : أسلم عليك ، لأن الأولى تفيد الدوام والثبوت ، والثانية تفيد التجدد والحدوث).
ثم قال إبراهيم في نفسه أو قال مظهرا لهم : أنتم قوم منكرون غير معروفين وهيئتكم العامة غير معهودة لنا ، وعقب هذا ذهب إلى أهله في خفية منهم وطلب إليهم إعداد طعام للضيفان ، فجاء بعجل سمين مشوى ، فقربه إليهم ، قال لهم : ألا تأكلون ؟
ولكنهم أعرضوا عن الأكل ، فلما أعرضوا أوجس منهم خيفة ، وأضمر في نفسه خوفا منهم على عادة الناس يظنون أن الامتناع عن الطعام لشر مبيت ، وأكل الضيف يزيل هذا الظن ، وماذا قالت الملائكة عندئذ ؟ قالوا : يا إبراهيم لا تخف إنا رسل ربك ، وبشروه بغلام عليم عند استوائه وبلوغه الرشد ، وهو إسحاق على الصحيح.
فلما سمعت امرأته تلك البشارة ، وكانت يائسة من الحمل أقبلت على أهل بيتها في صوت وجلبة ، فضربت جبهتها بأطراف أصابعها كما تفعل النساء عند ظهور أمر عجيب وقالت : أألد وأنا عجوز عقيم ؟ !! ماذا قالت الملائكة لها ؟ قالوا : لا تعجبي من أمر اللّه ، مثل ذلك القول الكريم الذي أخبرناك به قال ربك ذلك ، وإنما نحن مبلغون فقط ، ونحن رسل اللّه إليك ، إنه هو الحكيم الذي يضع الأمور في نصابها وهو العليم بكل خلقه ، فلا تعجبي من أمر اللّه ، وذلك تذييل موافق لما قبله.
___________
(1) - سورة يوسف آية 111.
(2) - سورة الأنبياء آية 26.
(3) - في هذا إشارة إلى أن (إذ دخلوا عليه) ظرف للحديث أو معمول ل (اذكر) محذوفة.(3/538)
ج 3 ، ص : 538
قال إبراهيم لما علم أنهم رسل اللّه حقا : ما شأنكم الخطير وما خبركم ؟ قالوا : إنا أرسلنا إلى قوم لوط ، وهم قوم مجرمون كذبوا لوطا وعصوا أمر ربهم فحقت عليهم الكلمة ، إنا أرسلنا إلى هؤلاء لنقلب قراهم رأسا على عقب ، ونجعل عاليها سافلها ، ونرسل عليهم حجارة من طين ، معلمة من عند اللّه ، ومعدة من عنده لهؤلاء القوم المسرفين المتجاوزين الحدود.
ثم قاموا من عند إبراهيم ، وجاءوا لوطا ، فضاق بهم ذرعا لأنه أنكرهم أول الأمر ، وقال : هذا يوم عصيب ، قالت الملائكة : يا لوط إنا رسل ربك جئنا لإنقاذك من هؤلاء الظالمين فأسر بأهلك في ظلام الليل ، ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم ، وإن موعدهم الصبح ، وليس الصبح ببعيد ، فباشرت الملائكة ما أمروا به.
وأخرجوا من كان في القرى من المؤمنين ، فما وجدوا فيها غير بيت من المسلمين ، وهو بيت لوط ، وجاء الصبح ، وقد جعلوا عاليها سافلها ، وأمطروا عليهم حجارة من سجيل ، مسومة عند ربك ، وما هي من الظالمين أمثالهم ببعيد ، فانظروا يا آل مكة أين أنتم من قوم لوط ؟ واعتبروا بما حل بهم ، وما ربك بظلام العبيد.
وهذه أمثال يضربها الحق تبارك وتعالى للطغاة المتكبرين ، والكفار الظالمين ، لعلهم يثوبون لرشدهم ، ويكفون عن تكذيبهم وكفرهم بما يجب الإيمان به وخاصة يوم البعث.
المعنى :
وجعلنا في قصة موسى عبرة وعظة ، إذ أرسلناه « 1 » إلى فرعون بمعجزات ظاهرة ، وآيات بينة كالعصا وغيرها فتولى بركنه ، أعرض عن الإيمان مصاحبا قومه معتزا بهم ، وقال : إن موسى ساحر أو هو مجنون ، فأخذه ربك أخذ عزيز مقتدر ، أخذه هو وجنوده فنبذه في اليم نبذ النواة بلا مبالاة ولا اعتداد به ، والحال أنه أتى من أفعال الكفر والطغيان ما يلام عليه ، فهو مليم بهذا المعنى.
وفي قصة عاد آية كذلك إذ أرسل ربك إليهم أخاهم هودا يدعوهم إلى الإيمان
___________
(1) الظرف بدل من موسى.(3/539)
ج 3 ، ص : 539
فكذبوا وكفروا ، فأرسل عليهم ريحا صرصرا عاتية ، سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما ، فترى القوم فيها صرعى ، كأنهم أعجاز نخل خاوية ، أرسل عليهم الريح العقيم التي لا تنبت كلأ ، ولا تنزل غيثا. ولا تلقح شجرا « 1 » فهي لا تدع شيئا تمر عليه وقدر اللّه إهلاكه إلا جعلته كالشىء البالي الذي لا خير فيه.
وفي قصة ثمود آية كذلك إذ أرسل إليهم ربك أخاهم صالحا فكفروا ولم يؤمنوا فقيل لهم : تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ، ذلك وعد غير مكذوب ، فعتوا عن أمر ربهم واستكبروا عن امتثاله ، فأخذتهم الصاعقة ، وأهلكتهم نار من السماء أتت على الأخضر واليابس ، وهم ينظرون إلى أنفسهم ، وقيل : وهم ينتظرون العذاب ، ما أصبرهم على ذلك ؟ وما كانوا منتصرين بغيرهم إذ لا ناصر لهم ، وأهلكنا قوم نوح من قبل لما استحقوا ذلك ، إنهم كانوا قوما فاسقين.
وهكذا حكم اللّه مع الأمم قديما وحديثا ، وتلك سنة اللّه ، ولن تجد لسنة اللّه تبديلا فهل من معتبر ؟ !.
أليس إهلاك الكافرين مع كثرتهم وشدة قوتهم ، ونصرة المؤمنين على ضعفهم وقلة عددهم آية على قدرة اللّه ؟ ! وأى آية أقوى من هذه ؟ !
من آيات اللّه الكونية [سورة الذاريات (51) : الآيات 47 الى 60]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
___________
(1) في هذا إشارة إلى أنه شبه عدم تضمن النفع والإهلاك بالعقم ، واشتق منه عقيم بمعنى فاعل أو مفعول فهي استعارة تصريحية تبعية.(3/540)
ج 3 ، ص : 540
المفردات :
بِأَيْدٍ : بقوة وقدرة. لَمُوسِعُونَ : لقادرون ومطيقون. فَرَشْناها :
بسطناها كالفراش. الْماهِدُونَ يقال : مهدت الفراش مهدا : بسطته ووطأته ، وتمهيد الأمور : تسويتها وإصلاحها. زَوْجَيْنِ : صنفين ونوعين.
أَتَواصَوْا : أوصى أولهم آخرهم. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ : أعرض. ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ : الشديد القوى. ذَنُوباً : أصل الذنوب يطلق في اللغة على الدلو العظيمة المملوءة ماء ، وكانوا يستقون الماء به فيقسمون به على الأنصباء ، ثم قيل للذنوب : نصيبا ، من هذا قال الشاعر :
لنا ذنوب ولكم ذنوب فإن أبيتم فلنا القليب « 1 »
تلك آيات اللّه الكونية الظاهرة للعيان ، التي يراها كل إنسان ، في كل زمان ومكان بعد الآيات التي مضت في طيات الزمن مع عاد وثمود وقوم نوح وإخوان لوط.
___________
(1) أى : البئر. [.....](3/541)
ج 3 ، ص : 541
المعنى :
وبنينا السماء بقوة قوية. بنيناها بأيد ، وإنا لقادرون ، وما مسنا في ذلك من تعب ولا مشقة ، وفرشنا الأرض وبسطناها لتستقروا عليها ، وتعيشوا فوقها ، ولا ينافي ذلك كروية الأرض ، وانظر إلى السماء وبنائها ، والشيء المبنى ثابت لا يتغير ، وإلى الأرض وفرشها ، والفراش يبدل وينقل ، وهكذا الأرض وما عليها ، وتبارك من مهدها وبسطها ، ووطأها وسواها وأصلحها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ.
ومن كل شيء خلق ربك صنفين ونوعين ذكرا وأنثى ، في النبات والحيوان ، وفي الطبيعة ليل ونهار ، ونور وظلام ، وحر وبرد ، وبحر وبر ، وسهل وجبل ، وجن وإنس ، وخير وشر وهكذا وَمِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
وإذا كان الأمر كذلك ، وقد أهلك ربك من كفر وكذب ونجى من آمن وصدق وهذه آياته الشاهدة بقدرته على البعث والثواب والعقاب والجزاء ، إذا كان الأمر كذلك ففروا إلى اللّه ، فروا من معاصيه إلى طاعاته ، فروا إليه بالتوبة الصادقة والإيمان السليم واقصدوه وحده ، ولا تشركوا به شيئا ، ولا تجعلوا معه إلها آخر ، إنى أنا رسول اللّه إليكم ، ونذير مبين لكم بين يدي عذاب شديد.
الأمر كذلك « 1 » أى : الأمر الحق مثل الذي يذكر لك ويأتيك خبره بالوحي ، وهو :
ما أتى الذين من قبلهم من رسول إتيانا مثل إتيانهم إلا قالوا في حقه : هو ساحر ، أو قالوا : هو مجنون. أأوصى بهذا القول أولهم آخرهم ؟ إن هذا لعجيب « 2 » .
بل هم قوم طاغون ، فهم مشتركون في الطغيان والظلم الذي حملهم على ذلك وإذا كان الأمر كذلك وأن مصدر تكذيبهم وعصيانهم هو ما تأصل عندهم من غرائز الطغيان والظلم فأعرض عنهم ، ولا تشتغلن بهم ، فما أنت بملوم على تكذيبهم بل أنت لم تأل جهدا في دعوتهم ، وأنت رسول ، وإنما عليك البلاغ ، وعلى اللّه الحساب.
___________
(1) كذلك خبر لمبتدأ تقديره : الأمر ، والجملة تقرير وتوكيد لما مضى وتسلية للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم واسم الإشارة يعود على ما سيأتى وهو ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... الآية.
(2) الاستفهام للتعجب والإنكار.(3/542)
ج 3 ، ص : 542
ولكن ذكّر وعظ ، ولا تدع ذلك ، فإن الذكرى تنفع المؤمنين الذين قدر اللّه لهم الإيمان والاتعاظ.
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وهذا كلام جديد مستأنف لتقرير وتأكيد الأمر بالتذكر ، فإن خلقهم للعبادة ، مما يدعو النبي صلّى اللّه عليه وسلم ومن دعا بدعوته إلى تذكير الناس دائما حيث خلقهم اللّه للعبادة ، وما المراد بالعبادة ؟ هل هي التسخير الثابت لجميع الخلق والدلالة التامة الكاملة على وجود الخالق ، الذي عبر عنه بالسجود في قوله تعالى : وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ « 1 » ؟ أم هي العبادة الاختيارية التي يوصف بها المؤمنون ؟ والظاهر هو المعنى الثاني وعلى ذلك فما معنى كون الجن والإنس ما خلقت إلا للعبادة ؟ مع قوله تعالى : وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ « 2 » أى : خلقنا لجهنم خلقا كثيرا يفعل ما به يدخلها ، وهذا يدل على إرادة المعاصي لكثير ، ويتنافى مع إرادة العبادة من الجن والإنس ، ولعل المخلص من ذلك أن اللّه خلق الخلق صالحين للعبادة مستعدين لها ، فيهم العقول والحواس التي تدعوهم إلى عبادة اللّه ، ولما خلقهم على ذلك الوضع جعل خلقهم مغيا بغاية هي العبادة ، والذي يؤيد ذلك أن أفعاله تعالى تنساق إلى الغايات الكاملة ، وكون بعض الناس أو كثير من الناس لا يصل إلى تلك الغاية لا يمنع كون الغاية غاية ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ما أريد من الخلق رزقا ، وما أريد أن يطعموني ، وقيل : المعنى ما يريد منهم أن يرزقوا أحدا من خلقه ، ولا يريد أن يطعموا أحدا ، فاللّه حين يكلفهم بشيء لم يكلفهم لغرض يعود عليه ، ولكن لنفع عائد على المكلفين الممتثلين أمر اللّه.
إن اللّه هو الرزاق الذي يرزق من يشاء ، ذو القوة والبطش ، القوى المتين.
إذا ثبت أن اللّه تعالى ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه ، وأنه سبحانه ما يريد منهم من رزق ولا يريد منهم أن يطعموه بل هو الرزاق ذو القوة المتين. إذا كان الأمر كذلك فإن للذين ظلموا أنفسهم باشتغالهم بغير ما خلقوا له من العبادة ، وإشراكهم باللّه ، وتكذيبهم لرسول اللّه ، فإن لهؤلاء نصيبا من العذاب كبيرا ، نصيبا مثل نصيب نظرائهم من الأمم السالفة ، وهو واصل لهم بلا شك فلا يستعجلون ولا يطلبون من اللّه التعجيل فويل ثم ويل للذين كفروا وكذبوا بالبعث من يومهم الذي يوعدونه على لسان الرسل الكرام ، وهذا ختام سورة بديع.
___________
(1) - سورة الرحمن آية 6.
(2) - سورة الأعراف آية 179.(3/543)
ج 3 ، ص : 543
سورة الطور
وهي مكية كلها في قول الجميع ، وعدد آياتها ثمان وأربعون آية.
وتشتمل هذه السورة على الكلام على البعث ، وما فيه ، واستتبع ذلك وصف الكفار والمؤمنين يوم القيامة ، وأطالت هذه السورة في الكلام على الجنة وما فيها من نعيم مقيم للمتقين ، ثم أخذت في خطاب المشركين ونقاشهم في معتقداتهم الفاسدة ، ثم كان ختام السورة بذكر نصائح للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وللمؤمنين بدعوته.
يوم القيامة والكفار فيه [سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9)
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14)
أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)(3/544)
ج 3 ، ص : 544
المفردات :
وَالطُّورِ الطور : هو الجبل ، وقيل : هو الجبل الذي فيه نبات ، أو هو الذي ناجى عليه موسى ربه ، وهو بطور سيناء. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ : وكتاب مكتوب على وجه الانتظام. رَقٍّ مَنْشُورٍ الرق : جلد رقيق يكتب فيه. والمنشور :
المبسوط. الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ : هو البيت الآهل بالزوار ، والمراد به هنا الكعبة.
الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ : هو البحر المملوء ماء ، أو هو الفارغ ، وقيل : هو المملوء نارا. تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً أى : تتحرك وتجيء وتذهب وتضطرب. خَوْضٍ وأصل الخوض : المشي في الماء ثم تجوز فيه عن الشروع في كل شيء ، وغلب في الخوض في الباطل. يُدَعُّونَ : يدفعون إلى النار دفعا عنيفا شديدا. اصْلَوْها :
ادخلوها وقاسوا شدائدها.
المعنى :
أقسم الحق - تبارك وتعالى - بالطور ، وكتاب مسطور في رق منشور ، والبيت المعمور والسقف المرفوع ، والبحر المسجور إن عذاب ربك لواقع ، ما له من دافع.
وهل الطور هو الجبل مطلقا أو هو الذي وقف عليه موسى يناجى ربه ؟ ! يحتمل هذا وذاك ، وما المراد بالكتاب المسطور ؟ قيل : هو الكتاب الذي تكتب فيه الأعمال ، ويعطى إلى العبد في يمينه أو شماله يوم القيامة وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً وقيل : هي التوراة أو القرآن ، أو اللوح المحفوظ ، وينبغي ألا يحمل شيء من هذه الأقوال على التعيين والكتاب المسطور ، أى : المكتوب على وجه النظام والترتيب في جلد منشور ومبسوط ليقرأه الكل.
وأقسم بالبيت المعمور ، وهو بيت اللّه الحرام الذي يعمر بالحجاج كل عام ، بل هو دائما عامر بمن يطوف حوله مع أنه مكان جدب لا زرع فيه ولا ماء ، ومع ذلك تهوى إليه نفوس كثيرة من المسلمين.(3/545)
ج 3 ، ص : 545
وأقسم بالسقف المرفوع وهو السماء التي رفعت بلا عمد ترونها ، وأقسم بالبحر المملوء نارا أو هو المملوء ماء ، أقسم بهذا كله على أن عذاب ربك لواقع حتما وليس له من دافع يدفعه.
وقد يسأل سائل : ما وجه ذكر هذه الأشياء المختلفة في القسم ؟ والجواب أن كل هذه الأشياء من دلائل القدرة مع الإشارة إلى يوم الحساب ، وما يستتبعه من ثواب أو عقاب ، والطور على أنه محل مناجاة موسى ، والكتاب فيه ذكر ثوابهم وعقابهم ، والبيت الحرام محل تقديس وإجلال ، وطواف الملائكة والرسل به ، وفيه اجتماع كاجتماع الحشر ، والسماء والبحار كلها مظهر من مظاهر العظمة ، ودليل على إمكان البعث ، واللّه سبحانه أعلم بأسرار كلامه.
إن عذاب ربك لواقع ، ما له من دافع ، يوم تضطرب السماء اضطرابا ، وتزلزل الأرض زلزالا ، فتسير الجبال سيرا ، فتكون هباء منثورا ، وذلك يكون يوم القيامة ، فويل يومئذ يحصل ذلك للمكذبين بالرسل واليوم الآخر ، الذين هم في اندفاع عجيب في الأباطيل والأكاذيب يلهون ، يوم يساقون إلى جهنم سوقا ، ويقال لهم : هذه هي النار التي كنتم بها تكذبون! أفسحر هذا « 1 » كما كنتم تقولون للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ؟ أم أنتم لا تبصرون هذه الحقائق.
ويقال لهم : اصلوا جهنم وادخلوها وقاسوا حرها فاصبروا على ذلك أو لا تصبروا ، الأمران سواء عليكم لا ينفعكم شيء من صبر أو غيره ، إنما تجزون ما كنتم تعملون جزاء واقعا لا شك.
المتقون وجزاؤهم يوم القيامة [سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 28]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21)
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26)
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
___________
(1) - الاستفهام للتوبيخ والتقريع.(3/546)
ج 3 ، ص : 546
المفردات :
فاكِهِينَ أى : أصحاب فاكهة كثيرة ، وقرئ : فكهين والمراد أنهم طيبو النفس يقال : فكه الرجل فهو فكه : إذا كان طيب النفس مزاجا ، ومن معاني الفكه :
الأشر والبطر وعليه قوله تعالى في سورة الدخان وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ أى :
أشرين بطرين. هَنِيئاً الأكل والشرب الهنيء : هو ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر. مَصْفُوفَةٍ أى : موصولة بعضها إلى بعض حتى تصير صفا واحدا.
بِحُورٍ عِينٍ حور : جمع حوراء ، وهي المرأة البيضاء ، وعين : جمع عيناء ، وهي المرأة العظيمة العين الواسعة. أَلَتْناهُمْ : أنقصناهم. رَهِينٌ أى : مرتهن يؤاخذ بالشر ويجازى بالخير. وَأَمْدَدْناهُمْ أى : وزدناهم على ما عندهم وقتا فوقتا. يَتَنازَعُونَ : يتجاذب بعضهم الكأس من بعض. كَأْساً الكأس : إناء الخمر ما دام مليئا فإذا كان فارغا لم يسم كأسا. لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ اللغو : ما(3/547)
ج 3 ، ص : 547
لا خير فيه ، والتأثيم : من الإثم : كل ما يغضب اللّه. مَكْنُونٌ أى : مصون في أصدافه. مُشْفِقِينَ : خائفين من عذاب اللّه. السَّمُومِ : اسم من أسماء النار ، والسموم : الريح الحارة ، وقد تستعمل في لفح البرد وهي في لفح الشمس أكثر.
وهذا شروع في ذكر حال المؤمنين وجزائهم يوم القيامة بعد ذكر البعث وأنه واقع لا محالة ، وما يلاقيه المنكرون له بالإجمال ، وتلك عادة القرآن الكريم في الترهيب والترغيب.
المعنى :
إن المتقين الذين آمنوا باللّه وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر إيمانا صحيحا كاملا مقرونا بالعمل في جنات عظيمة ، ونعيم مقيم ، وفضل كبير ، ورضوان من اللّه أكبر ، هم في جنات الخلد حالة كونهم فاكهين ومتلذذين بما آتاهم ربهم من الإحسان والفضل العميم ، وقد وقاهم ربهم عذاب الجحيم ، ويقال لهم تكريما : كلوا واشربوا ، أكلا وشرابا هنيئا ، بسبب ما كنتم تعملون في الدنيا من صالح الأعمال.
إن المتقين في جنات حالة كونهم متكئين « 1 » على نمارق موضوعة على سرر مصفوفة وقرناهم بحور عين ، وكأنهم البيض المكنون ، والذين آمنوا ، وأتبعتهم ذريتهم بإيمان أى كانوا مؤمنين ، وإن لم يكونوا في درجة آبائهم ، هؤلاء ألحقنا بهم ذريتهم في الدرجة وما أنقصناهم من عملهم شيئا ، ولكنه فضل من اللّه ونعمة عليهم. روى عن ابن عباس قال : إن اللّه ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة ، وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ، ثم قرأ هذه الآية.
كل نفس بعملها مرهونة عند اللّه ، إن خيرا فخير وإن شرّا فشر ، كأن العمل بمنزلة الدين ونفس العبد بمنزلة الرهن ، فإن كان العمل مقبولا عند اللّه فكأن صاحبه أدى دينه
___________
(1) هو حال من الضمير المستكن في الخبر ، ويجوز أن يكون حالا من ضمير كلوا أو آتاهم.(3/548)
ج 3 ، ص : 548
وفك رهنه ، وإن لم يكن كذلك فهو مرهون كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ « 1 » ولعل وجه وضع هذه الآية هنا للإشارة إلى أن المؤمنين فكوا رقابهم ، وغيرهم لا زال أسيرا بعمله السيئ ، على أنه مناسب لعدم نقصان الآباء شيئا من عملهم.
وأمددنا المتقين بفاكهة ولحم مما يشتهون ، أى : وزدناهم على ما كان لهم من أصل التنعيم شيئا فشيئا ووقتا فوقتا حالة كونهم يتنازعون الكأس ، ويتجاذبونها ، هم وجلساؤهم في الجنة كما يفعل الندامى على خمر الدنيا ، ولكن لا لغو في شرب هذه الخمر ولا تأثيم فيها لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ « 2 » ويطوف عليهم بالكأس غلمان لهم ممتعون بالنعيم كخدم الملوك كأنهم لؤلؤ مكنون من البياض والصفاء ، وهم في الجنة يتساءلون ويتجاذبون أطراف الحديث عن ماضيهم ولقد قالوا : إنا كنا قبل ذلك في أهلنا مشفقين أرقاء القلوب خائفين من عذاب اللّه ، ومن هول ذلك اليوم ، فمن اللّه علينا ، وهدانا ووفقنا إلى العمل الصالح ، ووقانا بفضله عذاب السموم ، والسبب أنا كنا من قبل ندعوه وحده ، ونعبده لا شريك له ، إنه هو البر الرحيم ، المحسن الكريم ذو الفضل العميم سبحانه وتعالى.
نقاش الكفار في معتقداتهم وختام السورة [سورة الطور (52) : الآيات 29 الى 49]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33)
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38)
أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49)
___________
(1) - سورة المدثر الآيتان 38 و39.
(2) - سورة الصافات آية 47.(3/549)
ج 3 ، ص : 549
المفردات :
بِكاهِنٍ : هو المخبر عن الأمور الماضية الخفية بلا وحى ، والعراف : هو المخبر عن الأمور المستقبلة ، وكانوا يستمدون ذلك من الجن. نَتَرَبَّصُ : ننتظر.
رَيْبَ الْمَنُونِ الريب : هو الشك وأطلق على الحوادث ، والمنون : هو الدهر لأنه يقطع الأجل. أَحْلامُهُمْ : جمع حلم وهو الأناة والعقل. طاغُونَ : ظالمون مجاوزون الحدود بعنادهم. تَقَوَّلَهُ : اختلقه وافتراه من عند نفسه.
الْمُصَيْطِرُونَ الأرباب الغالبون. سُلَّمٌ السلم : هو ما يتوصل به إلى الأماكن العالية. بِسُلْطانٍ : بحجة قوية. مَغْرَمٍ : غرامة وهي التزام الإنسان ما ليس(3/550)
ج 3 ، ص : 550 عليه ولم يكن لخيانة منه. كِسْفاً جمع كسفة وهي القطعة من الشيء.
مَرْكُومٌ أى : بعضه فوق بعض. بِأَعْيُنِنا : بعناية منا وفي حفظنا وحراستنا « 1 » . وَإِدْبارَ النُّجُومِ المراد : وقت إدبارها من آخر الليل ، أى : غيبتها بظهور نور الصبح.
المعنى :
من الناس من هم في أهلهم مشفقون ، ومن عذاب اللّه خائفون ، وهؤلاء ينفع معهم التذكر ، والنبي مأمور بأن يذكر بالقرآن من يخاف وعيده.
وإذا كان الأمر كذلك فذكر إنما أنت مذكر ، ونبي مرسل ، فما أنت بكاهن تبتدع القول وتخبر به من غير وحى ، ولست مجنونا لا تعى ما تقول ، وهذا رد لقولهم في النبي وبطلان لاعتقادهم فيه أنه كاهن أو مجنون ، كما كان يقول عنه عقبة بن أبى معيط ، وشيبة بن ربيعة ، والمعنى : انتفى عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة اللّه عليك ، فأنت بحمد اللّه ونعمته صادق النبوة راجح العقل سليم المنطق أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ ؟ « 2 » أيقولون : هو شاعر ؟ ننتظر به ريب المنون وحوادث الدهر ، فإنهم كانوا يجتمعون ويتشاورون في دعوة محمد وأثرها وخطرها ، وتكثر آراؤهم ثم ينتهى المجلس في أغلب الأوقات ، على أن محمدا شاعر ، من الخير أن ننتظر عليه ونصبر وسيهلك كما هلك زهير والنابغة وغيرهما قل لهم : تربصوا فإنى معكم من المتربصين أتربص هلاككم ونجاح دعوتي عجبا لهؤلاء! أتأمرهم أحلامهم بهذا التناقض في قولهم حتى قالوا مرة إنه كاهن ، وأخرى إنه مجنون ، وثالثة إنه شاعر! ما هذا ؟ أيجتمع في رجل واحد الشعر والكهانة والجنون ؟ !! بل هم قوم طاغون ؟ نعم هم قوم أعمت بصيرتهم الضلالة ، وأضلهم العناد وسوء التقليد حتى ختم على قلوبهم ، وجعل على أبصارهم وأسماعهم غشاوة ، فمن يهديهم بعد هذا ؟
___________
(1) - فالعين مجاز عن الحفظ.
(2) - أم التي ذكرت هنا في خمسة عشر موضعا هي بمعنى بل والهمزة ، أما بل فللإضراب الانتقالى والهمزة للإنكار والتقريع والتوبيخ بمعنى ما كان ينبغي أن يحصل ، أو بمعنى ما حصل هذا.(3/551)
ج 3 ، ص : 551
بل أيقولون تقوله وافتراه من عنده ؟ بل هم قوم لا يؤمنون بحال من الأحوال ، وكيف هذا ؟ أليس محمد واحدا منكم ونشأ في بيئتكم ، وتربى في مجتمعكم فهل يعقل أن يأتى بهذا القرآن المعجز ؟ إذا كان صحيحا ما تقولون فهاتوا حديثا مثل حديثه ، أى : قرآنا مثل قرآنه إن كنتم صادقين. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ كيف تكذبون محمدا رسول اللّه في التوحيد والرسالة والبعث ، وهذا الكون شاهد عدل على ذلك .. أما خلقتم ؟ بل أخلقتم من غير شيء أم أنتم الخالقون ؟ ! فأنتم خلقتم أنفسكم فلذلك لا تعبدون الخالق ، ولا تصدقون رسوله ، وتستبعدون خلقه لكم ثانيا في البعث.
بل أخلقوا السموات والأرض ؟ !! بل لا يوقنون!! وكيف ينكرون الرسالة لأنها جاءت لمحمد رسول اللّه من عند ربه الذي خلقه ، وهو أعلم بخلقه ، وهو المتصرف في هذا الكون لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، بل أعندهم خزائن رزقه ورحمته حتى يرزقوا من يشاءون ، ويقولون : لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم!! بل أهم المسيطرون والأرباب الغالبون ؟ لا هذا ولا ذاك ، فاللّه وحده هو الغنى ، وعنده مفاتح السموات والأرض ، وهو الغالب القادر على كل شيء دون سواه ، وهو أعلم حيث يجعل رسالته.
ومن الذي أعلمهم بأسرار الكون ونظامه ؟ بل ألهم سلّم يرقون به فيستمعون إلى هذه الأخبار ؟ وإذا كان هذا صحيحا فليأت مستمعهم بحجة واضحة ودليل قوى على ما يقول.
عجبا لكم تجعلون للّه البنات ولكم البنين! بل أله البنات حيث تقولون : إن الملائكة بنات اللّه ، وتجعلون لكم البنين مع أنه إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودّا وهو كظيم ، فإذا كان لا يرضى بشيء لنفسه فكيف يرضاه اللّه ؟
عجبا لهؤلاء كيف يكذبون رسالتك ولا يتبعون شرعك مع قيام الشواهد على صدقك ، بل أتسألهم أجرا على هذا ؟ فهم مثقلون بتلك الغرامة ، منكرون لها ، بل أعندهم علم الغيب فهم يكتبون منه ويخبرون به الناس ؟ فإن العقل لا يرى أى دليل على صدق دعواهم الباطلة.
بل أيريدون كيدا بك وبشرعك ؟ فالذين كفروا هم المكيدون الذين يحيق بهم المكر السيئ ، ويعود عليهم وباله ، وقد حصل هذا.(3/552)
ج 3 ، ص : 552
بل ألهم إله غير اللّه يعينهم ويحرسهم ويملى عليهم تلك الأباطيل ؟ ! سبحان اللّه وتعالى عما يشركون!! هؤلاء الناس قد ناقشهم القرآن نقاشا معقولا ، وأقام عليهم الحجة ، وألزمهم البرهان ومع هذا فهم لا يؤمنون ، وإن يروا قطعة عظيمة من السماء ساقطة ليعذبهم يقولوا من فرط عنادهم وطغيانهم : هذا سحاب تراكم بعضه على بعض ، جاء يمطرنا بالخير والبركات ولم يصدقوا أنه سحاب ساقط عليهم من السماء لعذابهم. وهكذا الإنسان المغرور.
وإذا كان الأمر كذلك ، وقد لزمتهم الحجة وظهروا بمظهر المعاند المجادل بالباطل فذرهم غير مكترث بهم ، ولا يهمنك أمرهم حتى يلاقوا يومهم المشهود ، اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون ، يوم الصواعق والشدائد ، اليوم الذي لا يغنى عنهم كيدهم ولا مكرهم شيئا من الإغناء.
وإن للذين ظلموا أنفسهم وغيرهم هؤلاء عذابا دون ذلك يأخذونه في الدنيا ، وليس لهم ما يخفف عنهم أو يسليهم أو يريح ضمائرهم أو يقوى عزائمهم كالمؤمنين المصابين في الدنيا ، إذا لنا العزاء والتسلية والصبر وحسن الأجر ، ورضا الرب الجليل كل ذلك يخفف عنا ما يصيبنا ، ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك.
ما مضى كان في شأن الكفار المعاندين الذين وقفوا من النبي موقف العناد والطغيان لم يسمعوا لحجة ، ولم يلتفتوا لبرهان ، بل ظلوا سادرين في غلوائهم مغرورين بقوتهم وبدنياهم أما أنت أيها الرسول الكريم فاسمع لنصيحة ربك وأنت خير من يعمل بها واصبر لحكم ربك ، فكل ما يحكم به ويقدر فهو خير ورحمة ، وإن كان فيه ألم وتعب فإنك أيها الرسول في كلاءة ربك وحفظه وعنايته ، واللّه عاصمك من الناس ومؤيدك ومبلغك ما تصبو إليه نفسك الشريفة ، وما عليك إلا الرضا بالقضاء وأن تسبح ربك حين تقوم لأى عمل من الأعمال ، فسبحه في جوف الليل حيث يسكن الناس وينامون ويبقى الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، وسبحه في إدبار النجوم ، أى : قبيل الفجر عند مغيبها حيث تصحو النفس نشيطة صافية من الأكدار.
اللهم وفق كل من يعمل لنشر دينك واستقرار دعوتك إلى العمل الصالح باتباع نصائح القرآن ، وتتبع سيرة إمام الأنبياء وخاتم المرسلين.(3/553)
ج 3 ، ص : 553
سورة النجم
مكية على القول الصحيح ، وعدد آياتها ثنتان وستون آية ، وهي أول سورة أعلنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بمكة.
وتشتمل هذه السورة على إثبات الرسالة وصدق الرسول في أن القرآن من عند اللّه ، ثم الكلام على الأصناف وبيان أنها أسماء لا مسميات لها ، ثم الكلام على الذات الأقدس ببيان آثاره في الوجود ، وذكر حقائق إسلامية وجد بعضها في الكتب السابقة.
تحقيق أمر الوحى [سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14)
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18)(3/554)
ج 3 ، ص : 554
المفردات :
وَالنَّجْمِ : هو النجم المعروف ، والمراد كل ما طلع من النجوم ، وقيل : بل المراد به معين هو الثريا أو زهرة ، وقيل : هو المقدار من القرآن النازل على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم واللّه أعلم به. إِذا هَوى أى : سقط ، والمراد : غرب أو طلع أو انقض على الشيطان. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ : ما عدل عن طريق الحق إلى طريق الباطل والإثم ، والمراد بالصاحب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم. وَما غَوى الغي : هو الجهل مع الاعتقاد الفاسد ، أى : هو الجهل المركب. شَدِيدُ الْقُوى أى : صاحب القوى الشديد ، وهو جبريل - عليه السلام - . ذُو مِرَّةٍ : ذو حصافة في العقل ، واستحكام في المنطق ، وأصل المعنى مأخوذ من قولهم : أمررت الحبل : إذا أحكمت فتله ، فالمرة تدل على المرة بعد المرة ، ولا شك أنها تدل على زيادة القوى. فَاسْتَوى : استقام على صورته الحقيقية التي خلق عليها ، فالاستواء بمعنى اعتدال الشيء في ذاته الذي هو ضد الاعوجاج ، وعليه : استوى الثمر إذا نضج. بِالْأُفُقِ الْأَعْلى أى : الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر. دَنا : قرب. فَتَدَلَّى : فتعلق في الهواء. قابَ قَوْسَيْنِ : قد جاء التقدير بالقوس كالذراع والشبر والرمح ، والقاب : المقدار أيضا ، والمراد به هنا مقدار ما بين مقبض القوس وسيتها - ما عطف من طرفيها - وعلى ذلك فلكل قوس قابان لأن له طرفين ، وعلى ذلك ففي الكلام قلب ، والمراد : قابى قوس ، وبعضهم نقل أنه يجوز أن تقول : قاب قوسين. وقابى قوس ، وبعضهم فسر القاب :
أنه المقدار الذي بين المقبض والوتر ، والعرب كانت عند الاتفاق تأتى بقوسين وتجعلهما في وضع واحد ثم ترمى بهما دفعة واحدة إشارة إلى تمام الاتفاق ونهاية القرب والالتصاق ، وعلى ذلك فيكون قاب واحد لقوسين ، وعن ابن عباس : القوس : ذراع يقاس به ، أى : مقدار ذراع ، وعلى الجملة فالمعنى اللفظي : فكان مقدار مسافة قربه منه مثل مقدار مسافة قاب قوسين.
أَوْ أَدْنى : أو أقرب من ذلك. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى أتكذبونه فتجادلونه على ما يراه معاينة ، وهذا مأخوذ من المراء ، الذي هو مشتق من مرى الناقة إذا مسح ضرعها وظهرها ليخرج لبنها ، شبه به الجدال لأن كلا من المتجادلين يحاول(3/555)
ج 3 ، ص : 555
إبراز ما عند صاحبه ليلزمه الحجة. نَزْلَةً : مرة أخرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى : مكان في السماء اللّه أعلم به. جَنَّةُ الْمَأْوى : الجنة التي تأوى إليها أرواح المؤمنين. يَغْشَى : من الغشيان بمعنى التغطية والستر. ما زاغَ الْبَصَرُ : ما مال البصر. ما طَغى : ما تجاوز حده المرسوم له.
يقول العلامة الفخر في تفسيره - أجزل اللّه مثوبته - (باختصار) : السور التي تقدمت وافتتحها اللّه بالقسم بالأسماء دون الحروف هي : والصافات ، والذاريات ، والطور ، وهذه السورة ، والأولى أقسم فيها لإثبات الوحدانية له ، وفي الثانية لإثبات الحشر ووقوعه والثالثة لإثبات دوام العقاب والعذاب يوم الساعة كما قال : إن عذاب ربك لواقع ، وفي هذه السورة أقسم لإثبات النبوة لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وبذلك تكمل أصول الدين الثلاثة ، ويلاحظ أن القسم على إثبات التوحيد وإثبات رسالة محمد قليل وقوعه في القرآن ، والقسم على إثبات البعث كثير ، ألا ترى إلى سورة الذاريات والطور ، والليل إذا يغشى ، والشمس وضحاها ، والسماء ذات البروج إلى غير ذلك مما سيأتى ، ولعل هذا لأن دلائل التوحيد وإثبات الرسالة ظاهرة وآياتها في الكون وفي معجزات الرسول واضحة ، أما البعث فإمكانه بالعقل ، ووقوعه بالفعل لا يمكن ثبوته إلا بالدلائل السمعية ، أى : القرآن والحديث ، لذا أكثر اللّه في القرآن من القسم عليه ليؤمن به الناس.
المعنى :
أقسم الحق - تبارك وتعالى - بجنس النجم الصادق بالثريا وغيرها إذا هوى « 1 » أى :
غرب أو طلع أو انقض على الشياطين المسترقة للسمع ، وقيل : إنه أقسم به على أنه جزء من القرآن نازل على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وفي القسم بالنجم الذي شأنه أن يهتدى به السارى إشارة إلى أنه صلّى اللّه عليه وسلّم علم الاهتداء ، ومنارة الوصول إلى خير الدنيا والآخرة والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم عن طريق الحق ولا عدل عن الصراط المستقيم الذي هو مسلك الآخرة ، وما غوى في اعتقاد فاسد أبدا ، وهو صاحبكم ، وأنتم أدرى الناس به ، وما ينطق النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وما يصدر عنه من قول أو فعل أتاكم به من جهته - سبحانه وتعالى -
___________
(1) ظرف لأقسم المقدر ، وقد تجردت إذا من الزمان المستقبل ، وأريد بها مطلق زمان.(3/556)
ج 3 ، ص : 556
كالقرآن مثلا ، أى : ما صدر عنه ذلك عن هوى نفسه ورأيه ، إن هو - أى :
القرآن - إلا وحى من اللّه - عز وجل - يوحى به إليه « 1 » .
علم النّبىّ جبريل - عليه السلام - الذي هو شديد القوى ، علمه القرآن ، ولا عجب في ذلك فقد قلع قرى قوم لوط ، وصاح بقوم صالح فأصبحوا جاثمين ، وكان هبوطه على الأنبياء في لمح البصر ، وهو القادر بأمر اللّه على التشكل بأشكال مختلفة ، وهو ذو مرة ، أى : صاحب حكمة وحصافة في العقل ، وبعد في النظر ، فاللّه قد وصفه بقوة الجسم وقوة العقل والرأى.
فهل رآه النبي على صورته الحقيقية ؟ فقيل في الجواب : نعم رآه فاستوى واستقام على صورته الحقيقية التي خلقه اللّه تعالى عليها له ستمائة جناح كل جناح منها يسد الأفق على ما روى ، رآه والحال أن جبريل بالأفق الأعلى ، وفي المروي أن ذلك في أول البعثة ، ثم قرب جبريل من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فتدلى ، أى : كان معلقا في الهواء ، فكان قريبا من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بمقدار قابى قوسين أو أقرب من ذلك ، وأو للشك من جهة العباد لا من اللّه سبحانه ، أى : من يراه يظن أنه كذلك أو أقرب.
فأوحى جبريل إلى عبد اللّه « 2 » ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم من القرآن ما أوحى ، وفي الصورة الحقيقية أو غيرها ما كذب فؤاد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ما رآه ببصره ، أى : لم يقل بقلبه لما رآه ببصره : لم أعرفك فيكون كذبه.
ويقول العلامة الآلوسي نقلا عن الكشف : إن هذه الآيات سيقت لتحقيق أمر الوحى ، ونفى الشبهة والشك فيه ليتأكد الكل أن هذا الوحى ليس من الشعر ولا من الكهانة ، فليس للشيطان ولا للجن أى قدرة على تصورهم للنبي في صورة جبريل الحقيقة أو غيرها لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عرفه بقلبه وبصره ، ورآه في حالاته المتعددة ، ومن ثم لم يكن من المعقول أن يشتبه عليه ، انظر إلى قوله : فاستوى ، ثم إلى قوله : ثم دنا فتدلى ، فأوحى ، ما كذب الفؤاد ما رأى ، ومن هنا كان ترتيب قوله تعالى : أفتمارونه
___________
(1) هذه الجملة واقعة في جواب سؤال مقدر نشأ بعد قوله تعالى : وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، لذلك فصلت وجملة يوحى وصف لوحى لدفع المجاز وتأكيد الإيحاء.
(2) نعم هو عبد اللّه فقط ، وما كان عبدا لأى كائن في الدنيا! وكيف يكون غير ذلك!!(3/557)
ج 3 ، ص : 557
على ما مضى ترتيبا إلهيا ، وكفى!! أى : أبعد ذلك تكذبونه في دعواه فتجادلونه على ما يرى ويعتقد ويحدثكم به.
وتاللّه لقد رأى جبريل مرة أخرى في السماء عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ، ما زاغ البصر وما طغى ، نعم لقد رأى النبي جبريل على حقيقته مرة أخرى في هذا المكان من السماء عند جنة المأوى وقت أن يغشاها ما يغشى ، وما زاغ بصره أبدا وما تجاوز حده المرسوم ، وقد كان ذلك في المعراج ، لقد رأى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في ذلك الوقت وهذا المكان الآيات الكبرى من آيات ربه ، وآيات اللّه الكبرى ليلة المعراج لا تحصى ، ولذا قيل : إن المعنى : لقد رأى بعض آيات ربه الكبرى ساعتها ، سرنا في التفسير على أن الرؤية من النبي لجبريل ، وبعضهم يراها أنها من النبي إلى اللّه واللّه وحده هو العالم بالحقيقة ، وإن كان ظاهر النظم الجليل من الدنو والتدلي ، وقوله : وهو بالأفق الأعلى ، أن ذلك كله كان بين جبريل والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
تلك هي آلهتهم التي لا تغنى عنهم شيئا [سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 31]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23)
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28)
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)(3/558)
ج 3 ، ص : 558
المفردات :
اللَّاتَ : اسم صنم كان لثقيف بالطائف ، وقيل : كان لرجل يلت السويق للحاج على حجر فلما مات عبدوا ذلك الحجر إجلالا له وسموه بذلك.
وَالْعُزَّى : كانت لغطفان وهي على المشهور شجرة ببطن نخلة ، وهي تأنيث الأعز ، وقيل : كانت ثلاث شجرات. وَمَناةَ : صخرة كانت لهذيل وخزاعة ، وقيل : كانت بالكعبة واستظهر بعضهم أن هذه الأصنام الثلاثة كانت بالكعبة.
ضِيزى أى : جائرة لا عدل فيها. مِنْ سُلْطانٍ : من برهان وحجة قوية.
الظَّنَّ المراد به هنا : التوهم.
لما ذكر اللّه - سبحانه وتعالى - الوحى وصاحبه. بعد القسم بالنجم ، وهذا كله من آثار قدرة اللّه تعالى ، ومعالم وحدانيته ، عرج على آلهتهم التي لا تسمن ولا تغنى من جوع لعلهم يلتفتون إلى الحق فيتبعوه.(3/559)
ج 3 ، ص : 559
المعنى :
لما قص اللّه الأقاصيص العجيبة التي تمثل صدق الوحى وثبوته قال للمشركين موبخا لهم : أفرأيتم ما تعبدون من دون اللّه ؟ أى : أخبرونى عن الآلهة التي تعبدونها من دون اللّه. هل لها قدرة توصف بها ؟ هل أوحت لكم بشيء كما أوحى اللّه إلى محمد ؟ أم هي جمادات لا تعقل ولا تنفع ، وقد ذكر من هذه الأصنام ثلاثة مشهورة ، وكانت معظمة عندهم جميعا ، والظاهر - واللّه أعلم - أنها كانت في أماكن متعددة ، أى : بالطائف ومكة وغيرهما ، أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى التي هي غاية في الذم والحقارة ؟ ألكم الذكر وله الأنثى ؟ وكيف تجعلون للّه ما تكرهون من الإناث وتجعلون لأنفسكم ما تحبون من الذكور ، وذلك قولهم : الملائكة بنات اللّه ، تلك إذا قسمة ضيزى قسمة جائرة غير عادلة ، وهذا ، أى : قوله أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى توبيخ آخر لهم.
ما الأوثان والأصنام التي تدعونها آلهة إلا أسماء محضة ليس فيها شيء من معنى الألوهية لأنها لا تسمع ولا تبصر ، ولا تغنى ولا تنفع ، فما هي إلا أسماء لا مسميات لها ولا حقائق ، تلك أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم من قبل ، ما أنزل اللّه بها من سلطان ، ولا حجة ولا برهان ، وما حجتهم في ذلك ؟ ما يتبعون فيما ذكر من التسمية واتخاذهم الأصنام آلهة إلا العمل بالظن الذي لا يغنى من الحق شيئا ، ولا يتبعون إلا ما تهواه نفوسهم وتشتهيه ، ولقد جاءهم من ربهم الهدى والبيان الرائع ، جاءهم : أن اعبدوا اللّه وحده ، ولا تشركوا به شيئا ، وأن هذه الأصنام لا تغنى ولا تنفع ، وجاءهم كل هذا في القرآن الحكيم الذي يدعوهم إلى التوحيد بالدليل والبرهان القوى الذي لا يقبل الشك ... أم للإنسان ما تمنى ؟ « 1 » نعم ليس للإنسان شيء مملوك له مما يتمناه ، يتصرف فيه حسب ما يريد ، ومن باب أولى هؤلاء الكفار وأمانيهم الباطلة ، ترى أن اللّه أضرب عن اتباعهم الظن الذي هو مجرد التوهم وعن اتباعهم هوى النفس الأمارة بالسوء ، وانتقل إلى إنكار أن يتحقق لهم ما يتمنون كأن تنفعهم الأصنام أو تشفع لهم ، ثم علل ذلك بقوله. فللّه أمور الآخرة والدنيا فما شاءه كان ، وما لم يشأ لم يكن ، ثم أكد ذلك
___________
(1) هي أم المنقطعة بمعنى بل الإضرابية وهمزة الاستفهام التي للإنكار. [.....](3/560)
ج 3 ، ص : 560
وزاد في بطلان شفاعة الأصنام لهم يوم القيامة فقال : وكثير من الملائكة ، في السموات لا تغنى شفاعتهم ولا تنفع إلا بعد إذن اللّه لمن يشاء ، واللّه لا يأذن إلا للمقربين من خلقه ، فكيف تشفع الأصنام إن هؤلاء الناس الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ليسمون الملائكة تسمية الأنثى بقولهم : إن الملائكة بنات اللّه فجعلوهم إناثا ، وسموهم بنات ومن أين لهم هذا ؟ أعندهم علم بذلك ؟ أم لهم كتاب يدرسون فيه هذا ، بل هم لا علم لهم أبدا ، وما يتبعون إلا الظن الذي لا يبنى على أساس بل على مجرد الوهم ، ولا شك أن هذا الظن في مثل هذه المسائل لا يغنى من الحق شيئا من الإغناء ، وإذا كان الأمر كذلك فأعرض عمن أعرض عن ذكرنا ، ولم يستمع لكلامنا ، أعرض عن هؤلاء ، ولا تأبه بهم ، ولا تجادلهم ، فهؤلاء قصروا نظرهم على الدنيا ، ولم يفكروا فيما بعد الموت ، فشغلتهم الدنيا عن الآخرة ، ذلك »
- والإشارة إلى التولي عن الآخرة وقصر النظر على الدنيا - مبلغهم من العلم ، فأعرض عن هؤلاء لأن اللّه أعلم بمن ضل عن سبيله ، وركب رأسه وهو أعلم بمن اهتدى ، وسيجازى كلا على عمله وها هي ذي آثار قدرته الكاملة وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ له كل ذلك ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا ، وسيجازى الذين أساءوا بعملهم ، والذين أحسنوا بالمثوبة الحسنى ، وتلك عاقبة أمر الخلق الذين فيهم المحسن والمسيء.
من هم المحسنون [سورة النجم (53) : آية 32]
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)
___________
(1) - والجملة مسوقة لتقرير جهلهم واتباعهم الظن فهي مستأنفة ، وقيل : معترضة بين العلة والمعلل ، أى : بين الأمر بالأعراض وعلته.(3/561)
ج 3 ، ص : 561
المفردات :
كَبائِرَ الْإِثْمِ : جمع كبيرة ، وهي كل ذنب توعد اللّه صاحبه بالعذاب الشديد ، أو ذم فاعله ذما كثيرا ، وقيل غير ذلك. وَالْفَواحِشَ : جمع فاحشة ، وهي الذنب الذي جعل اللّه في عقوبته الحد كالزنا مثلا ، وقيل غير ذلك مما هو قريب منه. إِلَّا اللَّمَمَ وأصل اللمم : ما قل وصغر ، وعليه ألم بالمكان : قل لبثه فيه ، والمراد باللمم هنا : صغائر الذنوب التي تفعل بلا مداومة عليها. أَجِنَّةٌ : جمع جنين وهو الولد ما دام في بطن أمه سمى بذلك لاجتنانه ، أى : استتاره.
المعنى :
المحسنون الذين لهم المثوبة الحسنى هم الذين يجتنبون كبائر الإثم ، ويجتنبون الفواحش والمنكرات التي ينكرها العقل ويأباها الدين ، من الموبقات والمهلكات التي ورد من الشرع تحذير شديد على اجتنابها ، أو توعد صاحبها بالحد أو بالعقاب الشديد ، وقد اختلف العلماء في عد المنكرات والفواحش ، وذكرت في السنة بطرق مختلفة ، وعلى العموم فالشرك باللّه ، والقتل إلا بحق الإسلام ، والزنى والربا وعقوق الوالدين ، وشهادة الزور ، والافتراء على اللّه من الكبائر ، وهكذا كل معصية ذنبها كبير وجرمها خطير.
الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ، وهو صغائر الذنوب التي تعمل بلا قصد ولا مداومة ، أما إذا داومت على الذنب الصغير أصبح كبيرا فقد قيل :
لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الندم والاستغفار.
وهذا اللمم ذنب بلا شك ، خففه الندم وعدم معاودته ، عند ذلك تدخل المغفرة والرحمة ، وربك واسع المغفرة كثير الرحمة ، وهو أعلم بنا - نحن بنى الإنسان - وقد خلقنا ضعافا أمام الدنيا ومغرياتها ، وقد خلقنا فهو أعلم بنا ، وقد أنشأنا من الأرض ، وهو أعلم بنا إذ نحن أجنة في بطون الأمهات ، بل وذرات في أصلاب الآباء ، وفي عالم الذر ، وإذا كان الأمر كذلك فلا تزكوا أنفسكم أبدا ، هو أعلم بمن اتقى ، فرب من يظن نفسه قد عمل صالحا يكون عمله مشوبا بالرياء أو السمعة أو الغرض الدنيوي فيبوء بالفشل والندامة ، واللّه أعلم بمن اتقى حقا.(3/562)
ج 3 ، ص : 562
حقائق إسلامية [سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 62]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)
أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42)
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47)
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52)
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57)
لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)(3/563)
ج 3 ، ص : 563
المفردات :
تَوَلَّى : أعرض. وَأَكْدى يقال لمن حفر بئرا ثم بلغ حجرا لا يتهيأ له فيه حفر : قد أكدى ، ثم استعملته العرب لمن أعطى ولم يتمم ، ولمن طلب شيئا ولم يبلغ آخره. صُحُفِ مُوسى : هي التوراة. وازِرَةٌ : نفس حاملة. وِزْرَ :
حمل. الْمُنْتَهى : النهاية. نُطْفَةٍ النطفة : الماء القليل ، مشتق من نطف الماء إذا قطر. تُمْنى يقال : منى الرجل أو أمنى : إذا أنزل المنى ، والمراد بقوله (تمنى) أى : تصب في الرحم. النَّشْأَةَ الْأُخْرى المراد : إعادة الأرواح في الأشباح.
أَغْنى وَأَقْنى أغنى : أعطى المال ، وأقنى : أعطى القنية التي تقتنى كالعقار مثلا.
رَبُّ الشِّعْرى : الكوكب المضيء وهو ما يسمى بالعبور. وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى المراد : قرى قوم لوط قد قلبها وخسف بها بعد رفعها إلى السماء. أَزِفَتِ الْآزِفَةُ :
قربت القيامة. كاشِفَةٌ أى : كشف وانكشاف ، أو نفس كاشفة.
سامِدُونَ : لاهون وغافلون ومعرضون.
لما بين جهل المشركين في عقائدهم الباطلة ، وأنه لا وجه لهم في شيء ذكر واحدا منهم بسوء فعله وكبير جرمه ، وإن قصته لتثبت أن كفر هؤلاء لم يكن عن عقيدة ، وإنما هو عناد وعصبية جاهلية ، وحماقة ما بعدها حماقة.
روى أن الوليد بن المغيرة كان قد اتبع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على دينه فعيره بعض المشركين وقال له : أتركت دين الأشياخ وضللتهم وزعمت أنهم في النار ؟ ! قال الوليد : إنى خشيت عذاب اللّه. فقال من عيره : أنا أضمن لك الجنة إن رجعت إلى الشرك وأعطيتنى شيئا من المال ، فقال الوليد ذلك ، وأعطى بعض ما كان ضمنه له ثم بخل ومنعه فنزلت هذه الآيات
تذمه لرجوعه عن الحق وخلفه الوعد.
المعنى :
أخبرنى عن الذي تولى وأعرض عن الحق ، وأعطى قليلا من المال ، وبعد ذلك امتنع ، إذ أصابته صخرة شح النفس ، فوقع عليها شحيحا بخيلا « 1 » أعنده علم بالأمور
___________
(1) « أفرأيت » معناها المراد : أخبرنى - على ما سبق تفصيله ، ومفعولها الأول الذي ، والثاني جملة الاستفهام.(3/564)
ج 3 ، ص : 564
الغيبية ، فهو بسبب ذلك يرى أن صاحبه يتحمل عنه شيئا من وزره ؟ ! أو نزل عليه قرآن من عالم الغيب فهو يرى أن ما صنعه حق.
بل ألم ينبأ بما في صحف موسى ، وصحف إبراهيم الذي وفي ما عليه ، وابتلى بشدائد كثيرة فخرج منها وافى الإيمان سليم العقيدة ، مستحقا هذا اللقب : « خليل الرحمن » ألم يعلم بأن صحف موسى وإبراهيم فيها أنه لا تزر وازرة وزر أخرى ، بمعنى لا تحمل نفس مستعدة للحمل ذنب نفس أخرى ، وفيها أنه ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأن سعيه سوف يرى يوم القيامة ، ثم يجزاه الجزاء الأوفى ، وأن « 1 » إلى ربك نهاية الخلق ومنتهاهم ، وأنه هو أضحك بعض عباده وأبكى ، أضحكهم لأنه وعدهم السعادة في الدنيا والآخرة ، وأبكى في الحقيقة من حرمهم السعادتين ، وأنه هو أمات وأحيا ، أى :
خلق الموت والحياة ، وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من الإنسان والحيوان ، خلقهما من نطفة إذا تمنى ، وهذه النطفة لا يفرق فيها بين الذكر والأنثى ، فليس هناك شك في أنه وحده هو الخالق للذكر والأنثى ، وأن عليه النشأة الأخرى ، أى : الإحياء بعد الإماتة وأنه هو وحده الذي أغنى وأقنى ، أغنى بالمال والمنقولات وأقنى بالعقارات الثابتة ، وأنه هو رب الشعرى ، وغيرها من الكواكب ، وأنه أهلك عادا الأولى الذين أرسل لهم هود ، وأهلك ثمود الذين أرسل لهم صالح ، فما أبقى منهما شيئا ، وأهلك قوم نوح من قبل هؤلاء ، إنهم كانوا هم أظلم وأطغى من غيرهم ، وأهلك قرى قوم لوط ، وهم المؤتفكة التي رفعها اللّه إلى السماء ثم قلبها إلى الأرض فغشيها من الهم والحزن ما غشيها.
فبأى آلاء ربك أيها الإنسان تتمارى ، وتتشكك ؟ هذا القرآن الذي أنزل على محمد هو نذير من جنس النذر الأولى التي كانت تنزل على الأمم السابقة ، فما بالكم لا تؤمنون ، ولا تتعظون بما حل بغيركم ؟ ! أزفت الآزفة ، وقربت القيامة ، ليس لها من دون اللّه نفس كاشفة تكشفها وتزيلها ، بل الأمر كله للّه سبحانه وتعالى.
___________
(1) إن هذه تحتمل الفتح والكسر ، ويحتمل مدخولها وما بعده أنه مما في الصحف أو هو خاص بالقرآن.(3/565)
ج 3 ، ص : 565
أفمن هذا الحديث - القرآن - تعجبون إنكارا ، وتضحكون استهزاء ، ولا تبكون خوفا من عذاب اللّه ، وأنتم لاهون بالحديث متشاغلون بأى شيء ، ومن هنا يستحب البكاء أو التباكي عند سماع القرآن ، وقد ورد عن أبى هريرة قال : لما نزلت هذه الآية « أفمن هذا الحديث .. ؟ » بكى أصحاب الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم فلما سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حنينهم بكى معهم فبكينا لبكائه فقال - عليه السلام - « لا يلج النار من بكى من خشية اللّه تعالى » .
وإذا كان الأمر كذلك من إنكار مقابلة القرآن بالتعجب والضحك ، وعدم البكاء مع اللهو وقت استماعه ، إذا كان الأمر كذلك فاسجدوا للّه تعالى الذي أنزله على عبده ، ولم يجعل له عوجا ، قيما ، واعبدوه - جل جلاله - ، وهذه آية سجدة عند الكثير ، وقد سجد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عندها ، واللّه تعالى أعلم.(3/566)
ج 3 ، ص : 566
سورة القمر
وهي مكية كلها في قول الجمهور ، وهو الصحيح ، وعدد آياتها خمس وخمسون آية وتشمل على كثير من الوعد والوعيد ، وذكر أخبار الأمم الماضية للعبرة والعظة ثم تهديد الكفار بذكر ما يحل بهم يوم القيامة ، وما يلاقيه المتقون من جزاء في جنات صدق.
الكافرون وموقفهم من دعوة الحق [سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْ ءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
المفردات :
مُسْتَمِرٌّ أى : محكم قوى على أنه مأخوذ من المرة وهي القوة ، أو هو مأخوذ من إمرار الحبل وهو شدة فتله ، وقيل : المراد سحر ذاهب ، مأخوذ من قولهم : مر(3/567)
ج 3 ، ص : 567
الشيء واستمر إذا ذهب. مُسْتَقِرٌّ أى : منته إلى غاية « 1 » . مُزْدَجَرٌ : ما يزجرهم ويكفهم يقال : زجره فانزجر وازدجر ، أى : كفه فانكف. بالِغَةٌ :
واصلة غاية الإحكام لا خلل فيها نُكُرٍ : فظيع شديد تنكره النفوس.
الْأَجْداثِ : جمع جدث وهو القبر. جَرادٌ مُنْتَشِرٌ الجراد : حيوان يأكل النبات فيجرد الأرض منه ، والمنتشر : الكثير التموج. مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ :
مسرعين إليه. عَسِرٌ : صعب شديد.
روى قتادة عن أنس - رضى اللّه عنهم - قال : خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقد كادت الشمس تغيب فقال : « ما بقي من دنياكم فيما مضى إلا مثل ما بقي من هذا اليوم فيما مضى »
قال الراوي : وما نرى من الشمس إلا يسيرا وثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث ابن مسعود ، وابن عمر وأنس وغيرهم أنه قال : سأل أهل مكة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم آية فانشق القمر
، ورواية البخاري : انشق القمر فرقتين ، وقد كذبه أهل مكة ، وقالوا : سحرنا ابن أبى كبشة فنزلت الآية : اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ .. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ.
المعنى :
إن الساعة آتية لا شك فيها ، وكل آت قريب ، ومتحقق الوقوع ، وعلى ذلك اقتربت الساعة ، أو صارت باعتبار نسبة ما بقي من الزمن بعد قيام النبوة المحمدية إلى ما مضى من الدنيا قريبة جدا ، ولقد صدق رسول اللّه حيث يقول : « بعثت أنا والساعة هكذا »
وأشار النبي بإصبعه السبابة والوسطى ، وأنت تعرف قرب ما بينهما.
اقتربت الساعة وانشق القمر ، فانشقاق القمر آية ظاهرة على هذا القرب وعلى إمكانه في العقول والأذهان ، وقيل : إنه آية على قرب الوقوع ومعجزة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم كما مضى ، وعلى ذلك فانشقاق القمر من معجزاته صلّى اللّه عليه وسلّم ويؤيده الحديث السابق أول الكلام ، وظاهر الآيات هنا ، فإن قوله تعالى : وَإِنْ يَرَوْا آي َةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ
يقتضى أن الانشقاق آية رأوها وأعرضوا عنها وكذبوا بها.
___________
(1) وفي قراءة مستقر ، أى : ذو استقرار ، أو له زمان استقرار ، أو مكان ، فهو إما مصدر أو ظرف زمان أو مكان.(3/568)
ج 3 ، ص : 568
ويرى بعضهم أن انشقاق القمر عبارة عن انشقاق الظلمة وقت طلوعه ، لا انفلاقه فلقتين كما روى في البخاري ، وبعضهم يرى أنه كناية عن وضوح الأمر وظهوره ، ولست أرى داعيا إلى إنكار انشقاق القمر على أنه معجزة فالمعجزة أمر خارق للعادة ، وعدم تواتره لا يقدح ، فإنها آية ليلية ، وقد ذكرت في القرآن ، والصحيح أن منكرها لا يكفر بها لعدم تواترها في السنة ، وليست الآية نصّا فيها.
وإن يروا - هؤلاء الكفار كما هو شأنهم - أى آية يعرضوا عنها ، ويقولوا : هذا سحر مستمر ، أى : مطرد دائم عرفناه من محمد ، أو هو سحر مستمر ، أى : محكم قوى عرفناه من هذا الساحر القوى ، أو هو سحر سيذهب عن قريب ويضيع كما ضاع غيره ، وتلك أمانيهم الباطلة ، ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، وهكذا كذبوا بآياتنا الظاهرة واتبعوا في هذا التكذيب والإعراض أهواءهم التي زينها لهم شياطينهم فقط ، ولم يتبعوا حجة أو منطقا سليما ، وما علموا أن كل أمر مستقر وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ « 1 » نعم كل أمر لا بد منته إلى غاية يتبين عندها حقه من باطله.
وتاللّه لقد جاءهم في القرآن من أخبار القرون الماضية ما فيه ازدجار لهم « 2 » ومنع عما هم فيه من القبائح لو كانوا يعقلون ، هذه حكمة بالغة قد بلغت الغاية ووصلت إلى النهاية في الإحكام والدقة فكان من المعقول أن ينتفعوا بوعيد هذه الأنباء ووعدها ، فما انتفعوا ، وما أغنتهم هذه النذر « 3 » .
وإذا كان الأمر كذلك فتول عنهم ، وأعرض ، ولا يهمنك أمرهم ، واذكر يوم يدعو الداعي ، وهو إسرافيل - عليه السلام - يدعوهم ليخرجوا من الأجداث فيرون شيئا منكرا فظيعا تنكره النفوس لعدم عهدها بمثله ، وهو هول يوم القيامة ، يخرجون من القبور أذلة أبصارهم من شدة الهول كأنهم جراد منتشر في الكثرة والتموج والانتشار في الأقطار ، وقد جاء تشبيههم - مرة أخرى - يوم يخرجون من القبور كالفراش المبثوث ،
___________
(1) وهذا استئناف مسوق للرد على الكفار في تكذيبهم ببيان أنه لا فائدة لهم في ذلك حيث إن كل أمر لا محالة ينتهى إلى غاية ، ومن جملة ذلك أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سينتهي إلى غاية يظهر فيها أنه على حق ، وأنهم على باطل.
(2) (من الأنبياء ما فيه مزدجر) الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال مقدم من (ما) الواقعة فاعلا لجاءهم.
(3) وعلى هذا فما نافية ويصح أن تكون استفهامية للاستنكار ، والفاء لترتيب عدم الإغناء على مجيء الحكم.(3/569)
ج 3 ، ص : 569
ولا تعارض إذ إن كلا من التشبيهين في وقت ، فهم عند الخروج يكونون هائمين ليس لهم مقصد كالفراش ، وعند نداء الداعي والتوجه إلى المحشر يكونون كالجراد المنتشر حالة كونهم مهطعين إلى الداعي ومسرعين نحوه لا يلوون على شي ء! يا ويلهم في هذا الظرف! يقول الكافر : هذا يوم عسر شديد لما يشاهد من الأهوال ، وما يرتقب من سوء المصير!!!
عاقبة المكذبين من قوم نوح وعاد وثمود وآل فرعون وقوم لوط [سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 42]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18)
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23)
فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)
فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33)
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38)
فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)(3/570)
ج 3 ، ص : 570
المفردات :
وَازْدُجِرَ أى : زجر عن دعوة النبوة ، وأصل ازدجر : ازتجر ، ثم قلبت التاء دالا لتناسب الزاى ، وهذا أصل معروف في اللغة العربية. بِماءٍ مُنْهَمِرٍ أى : كثير متدفق. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً أصله : وجعلنا الأرض عيونا متفجرة. قَدْ قُدِرَ : على مقدار مقدر لم يزد أحدهما عن الآخر. ذاتِ أَلْواحٍ أى : على سفينة ذات ألواح. وَدُسُرٍ : هي المسامير التي تشد بها السفينة. مُدَّكِرٍ : متعظ ، وأصله : مذتكر ، ثم قلبت التاء دالا ثم قلبت الذال دالا وأدغمت في مثلها كل ذلك للتخفيف اللفظي. صَرْصَراً : شديد البرد أو الصوت. يَوْمِ نَحْسٍ : يوم شؤم كله. أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ الأعجاز : جمع عجز ، وهو مؤخر الشيء ، والمنقعر : المنقطع من أصله. وَسُعُرٍ أى : جنون ، وعليه ناقة مسعورة كأنها من شدة نشاطها مجنونة. أَشِرٌ الأشر : هو المرح والتجبر والنشاط مع التعاظم.
شِرْبٍ الشرب : الحظ من الماء. مُحْتَضَرٌ أى : يحضره من هوله.
فَتَعاطى أى : تناول عقرها فعقرها. كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ المحتظر : الذي يعمل الحظيرة لغنمه بالشوك والشجر فما سقط من ذلك وداسته الغنم فهو الهشيم ، والهشيم :
هو العصف ، أى : التبن ، وقرئ : المحتظر ، أى : الاحتظار ، أى : هو الشجر المتخذ منه الحظيرة.(3/571)
ج 3 ، ص : 571
حاصِباً أى : ريحا ترميهم بالحصباء. بِسَحَرٍ السحر : هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر. راوَدُوهُ : أرادوا تمكينهم ممن كان أتاهم ضيفا. فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ أى : صارت أعينهم مطموسة لا شق لها كما تطمس الريح الأعلام بما تسفى عليها من التراب.
وهذه قصص خمسة ، فيها أنباء بعض الأمم الذين جاءتهم رسلهم بالبينات فكذبوهم وآذوهم ، ثم كانت عاقبة أمرهم خسرا ، ولم يكن كفار مكة بأقوى منهم أو أشد ، فكان من الخير أن يعتبر المشركون بقصصهم ويزدجروا ، ولكنهم ما اعتبروا وما أغنتهم النذر وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ ، وهذا بيان وتفصيل لتلك الأنباء وتقرير لفحوى قوله : فما تغنى النذر.
ولقد بدأ القرآن بقصة نوح ، ثم عاد ، ثم ثمود ، ثم ذكر قوم لوط ، وختم بقصة فرعون.(3/572)
ج 3 ، ص : 572
المعنى :
كذبت قبل مشركي مكة قوم نوح فكذبوا « 1 » عبدنا نوحا ، ويا ليتهم اقتصروا على ذلك بل قالوا له : هو مجنون ، وكذبوه ، ورموه بالجنون ، وزجروه عن تبليغ الدعوة بالإيذاء والتخويف.
ولما اشتد عليه الإيذاء دعا ربه بأنى مغلوب على أمرى فانتصر لي ، وانتقم من هؤلاء رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [سورة نوح آية 26].
فاستجاب اللّه دعاء نوح ، وحقت عليهم الكلمة ، وفتح عليهم أبواب السماء بماء متدفق كثير « 2 » ، وفجر اللّه عيون الأرض ، وفتحها لينساب الماء منها بتدفق غزير ، فالتقى الماء النازل من السماء والماء النابع من الأرض حالة كونه على قدر قدره اللّه لم يتجاوز واحد منهما قدره.
وكان نوح قد أمر بصنع السفينة ، وصنعها بين استهزاء قومه وسخريتهم ، فلما ازداد الماء ركب نوح ومن معه السفينة ونجا من الغرق ، فانظر إليه وقد حمله ربك على السفينة وصارت تجرى بعناية اللّه وتحت رعايته! حتى نجا وغرق من كفر به ، فعل ذلك ربك إكراما لنوح - عليه السلام - وجزاء لمن كفر به وبرسالته من قومه ، ولقد تركناها آية وعبرة لمن يأتى بعدها ، فهل من معتبر ؟ ! فانظر كيف كان عذاب ربك للعصاة الكافرين ، وكيف كان إنذارهم ؟ ! وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ؟ وهذه جملة ذكرت عقيب كل قصة تقريرا لمضمون ما سبق من قوله تعالى : وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ ولعلها كررت لبيان أن كل قصة كافية في الاعتبار والاتعاظ.
___________
(1) الفاء فاء تفصيل وتفريع ، وقيل : إنها للسببية ، على معنى : كذبوا بالأنباء جميعا فتسبب عن ذلك تكذيب نوح.
(2) في الكلام استعارة تمثيلية حيث شية تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت بها أبواب السماء ، وبعضهم يرى أن الكلام على حقيقته وأن السماء تحت أبوابها بالماء بدون سحاب.(3/573)
ج 3 ، ص : 573
المعنى :
وباللّه لقد يسرنا القرآن وسهلناه بأن أنزلناه بلسان عربي مبين ، وملأناه بالحكم والمواعظ والقصص التي تفيد العبرة ، فعلنا ذلك للذكر والاتعاظ فهل من مدكر ؟ !! وقيل المعنى : سهلنا القرآن للحفظ فهل من طالب للحفظ فيعان عليه ؟ والمعنى الأول هو الأنسب بالمقام.
وهذه قصة عاد : لقد كذبت رسولها هودا فانظر كيف كان عذابي وإنذارى بهم ؟ ! إنا أرسلنا « 1 » عليهم ريحا صرصرا عاتية ، سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما لا خير فيها أبدا ، وكان هلاكهم في يوم نحس وشؤم عليهم ، يوم مستمر حتى أهلكهم ، ولا شك أنه يوم مرّ كريه ، وهذه الريح كانت تنزع الواحد منهم وتقلعه إذا دخل حفرة أو كهفا في جبل كأنهم والحالة هذه أعجاز نخل منقطع عن مغارسه ساقط على الأرض.
فانظر كيف كان عذابي للكفار المكذبين وإنذارى ؟ ! ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر! وتلك قصة ثمود : لقد كذبت بالرسل جميعا إذ تكذيب صالح - وهو واحد منهم - تكذيب للكل ، كذبت ثمود بالنذر ، فقالوا منكرين رسالة نبيهم صالح : أبشرا منا واحدا منفردا لا تابع معه. وليس من الأشراف نتبعه ؟ ! إن اتبعناه لنكونن في ضلال وجنون.
عجبا لهذا الرجل! أألقي عليه الذكر ، وأنزل عليه الوحى من بيننا ؟ وفينا من هو أحق منه لغناه وعلو شرفه وكثرة أتباعه! ليس الأمر كما يدعى صالح. بل هو كذاب شديد البطر كثير الفرح والمرح يتعاظم علينا بهذه الدعوة ، واللّه سبحانه يرد عليهم بقوله لصالح : سيعلمون غدا - وإن غدا لناظره قريب - من هو الكذاب الأشر.
وكانوا قد طلبوا من صالح آية لهم ، وأراد اللّه إبرازها فتنة لهم ، فأخرج الناقة من الهضبة إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ إنا مخرجوها لهم فتنة وابتلاء وآية فانتظر يا صالح واصبر على أذى قومك ، فقد قرب اليوم الموعود ونبئهم أن الماء قسمة بينهم ، أى :
___________
(1) جملة استئنافية لبيان ما أجمل أولا في قوله : كيف كان عذابي ونذر.(3/574)
ج 3 ، ص : 574
بين آل ثمود ، وبين الناقة ، لها يوم ولهم يوم لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ روى ابن عباس : كان يوم شربهم لا تشرب الناقة شيئا من الماء ، وتسقيهم لبنا.
وإذا كان يوم الناقة شربت الماء كله فلم تبق لهم شيئا ، ونبئهم يا صالح : أن الماء مقسوم بينهم : لها يوم ، ولهم يوم ، كل شرب ونصيب محتضر ، أى : يحضره صاحبه في نوبته لا يتعداه كما روى عن ابن عباس.
ولكن ثمود ملوا هذه القسمة ، وطغوا وبغوا ، وعزموا على عقر الناقة فنادوا صاحبهم الجريء في الباطل ، قيل : اسمه قدار بن سالف ، فتعاطى هذا الفعل الشنيع واجترأ على قتل الناقة فعقرها ، فاستحقوا غضب العزيز الجبار ، فانظر كيف كان عذابهم وإنذارهم ؟ إن ربك أرسل عليهم صيحة واحدة من جبريل ، فصاروا بسببها كالشجر الجاف الذي يجمعه صاحب الغنم ليعمل حظيرة تمنع عن غنمه عوائد البرد والسباع.
ولقد يسرنا القرآن للذكرى والموعظة ، فهل من متذكر أو متعظ بما حل بغيره ؟
وأما قوم لوط فقد كذبوا بالنذر وعصوا أخاهم لوطا ، وارتكبوا من الفواحش أحقرها - كما عرفنا سابقا عنهم - ولذا أرسل اللّه عليهم ريحا حاصبا أهلكتهم وأبادتهم جميعا إلا آل لوط الذين آمنوا به فقد نجاهم ربك بسحر ، فعل بهم ذلك إنعاما من عند الغنى الحكيم ، مثل ذلك يجزى ربك من شكر ، ويعذب من كفر ، ولا غرابة في ذلك فلقد أنذرهم لوط بطشتنا وشدتنا ، فجادلوه وكذبوا بالنذر ، ولقد راودوه عن ضيوفه ، وما علموا أنهم من الملائكة وأنهم جاءوا لتنفيذ الوعيد بهم فطمس اللّه عيونهم ، وقال لهم على لسان الملائكة : ذوقوا عذابي ونذر ، ولقد نزل بهم العذاب في الصباح الباكر ، فذاقوا عذاب البطش الشديد ونذره ، ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ؟ ! ولقد جاء آل فرعون النذر الكثيرة والآيات المادية التسع ، ولكنهم كذبوا بالآيات كلها ، فأخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر حيث أغرق فرعون وجنده ، ونجى موسى ومن آمن معه ، وكذلك ينجى ربك المؤمنين ، ويعذب الكفار المكذبين فهل من مدكر ؟ !(3/575)
ج 3 ، ص : 575
تهديد المشركين مع بيان عاقبة المتقين [سورة القمر (54) : الآيات 43 الى 55]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
المفردات :
بَراءَةٌ المراد : سلامة من العذاب مكتوبة. فِي الزُّبُرِ : في الكتب.
أَدْهى مأخوذ من الداهية ، وهي الأمر الفظيع الذي لا يهتدى للخلاص منه.
وَأَمَرُّ : أشد مرارة ، والمراد أكثر صعوبة على النفس ، وقيل المراد : أقوى.
وَسُعُرٍ المراد هنا : النيران المستعرة. مَسَّ سَقَرَ والمراد : ألمها وعذابها « 1 » .
بِقَدَرٍ : بمقدار معين مكتوب. أَشْياعَكُمْ والمراد : أشباههم في الكفر من الأمم السابقة. مُسْتَطَرٌ أى : مسطور ومكتوب. مُقْتَدِرٍ أى : قادر عظيم.
___________
(1) فالمس مجاز مرسل من الألم وعلاقته السببية ، فإن مسها سبب للألم ، وتعلق الذوق بمثل ذلك شائع في اللغة العربية.(3/576)
ج 3 ، ص : 576
المعنى :
لقد كذب الكفار بالنبوة ، وكانوا كلما رأوا آية يعرضون ويقولون : سحر مستمر ، فخوفهم اللّه بذكر أخبار الذين كذبوا بالآيات وأعرضوا عنها من الأمم الماضية ، وطالبهم بالعبرة والموعظة مرارا ، ثم أنحى عليهم باللائمة قائلا ما معناه : لم لا تخافون أن يحل بكم ما حل بغيركم ؟ أأنتم أقل كفرا وعنادا من قوم عاد وثمود وقوم فرعون وإخوان لوط ؟ ! حتى يصح لكم أن تأمنوا مكر اللّه بكم ؟ ! بل أأعطاكم اللّه - عز وجل - براءة من عذابه مكتوبة حتى تكون حجة في أيديكم ؟ بل أيقولون واثقين بشوكتهم : نحن جماعة أمرنا مجتمع لا يرام ، ونحن جماعة جمعنا منصور لا يضام « 1 » .
ولقد رد اللّه عليهم هذا الزعم الفاسد بقوله : سيهزم الجمع ويولون الدبر وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه ما كان يعرف معنى هذه الآية وهو في مكة حتى وقعت غزوة بدر وسمعت النبي يقرأ هذه الآية ، فعرفت تأويلها ، وقد كانت من دلائل النبوة ، فهزمت جموعهم ، وولوا الأدبار ، وليس هذا تمام عقوبتهم ، بل الساعة موعد عذابهم ، والساعة أدهى من ذلك العذاب الدنيوي وأمر.
ولا عجب أن يعذب اللّه الكفار في الدنيا والآخرة ، فإن للّه قانونا حكم به عباده لن يتخلف وهو : إن المجرمين المكذبين في ضلال عن الحق ونيران حامية مسعرة وهم يعذبون يوم يسحبون في النار على وجوههم إهانة لهم حالة كونهم يقال لهم تبكيتا وإيلاما : ذوقوا مس سقر. إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر ، أى : بتقدير منا وإحكام وعلم فكل فعل أو أى شيء يصدر في هذا الكون خيرا كان أو شرا إنما هو بقدر اللّه ، وواقع بعلمه ، وسيجازى عليه جزاء وافيا ، ويدخل في ذلك أفعال العباد كلهم.
وليس هذا بكثير على قدرة اللّه وعلمه وإرادته ، فما أمره - سبحانه وتعالى - إلا فعلة واحدة ، وعلى نهج لا يختلف ، وهو الإيجاد لجميع الأشياء بلا معالجة ولا تعب
___________
(1) الاستفهام في الآية إنكارى وجميع خبر نحن ، ومنتصر خبر لمحذوف تقديره : أمرنا أو جمعنا.(3/577)
ج 3 ، ص : 577
ولا مشقة بل بقوله للشيء : كن ، فيكون كلمح البصر في السرعة والتنفيذ ، وفي الحقيقة هذا تقريب للعقول في سرعة تعلق القدرة بالمقدور على وفق الإرادة الأزلية ، ولقد أهلكنا أشياعكم وأشباهكم من الأمم السابقة فهل من مدكر ؟ وكل شيء فعلوه في الدنيا مسجل عليهم في الزبر وصحائف الأعمال ، وكل صغير وكبير من الأعمال مسطور ومكتوب في اللوح وعند الحفظة من الملائكة وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً!! « 1 » .
وهذه حال المتقين بعد حال الكافرين المذنبين ليظهر الفرق جليا بين الفريقين ، وبهذا يتم الترهيب والترغيب.
إن الذين اتقوا اللّه فابتعدوا عن الكفر والمعاصي في جنات عظيمة الشأن ، وأنهار تجر ى في وسطها وهم في مقعد صدق ، أى : مكان مرضى ،
روى أن جعفر الصادق - رضى اللّه تعالى عنه - قال في هذه الآية : مدح اللّه المكان بالصدق ، فلا يقعد عليه إلا أهل الصدق ، وهو المقعد الذي يصدق اللّه فيه مواعيد أوليائه ، ويتمتعون فيه بالنظر إلى وجهه الكريم ، يقعدون فيه عند مليك مقتدر قادر عظيم القدرة ،
وما أروع هذا التعبير حيث أفهم العندية والقرب ، وذكر مليكا مقتدرا للإشارة إلى أن ملكه تعالى وقدرته لا تدركها الأفهام ، ولا تحيط بها العقول والأبصار.
___________
(1) - سورة الكهف آية 49.(3/578)
ج 3 ، ص : 578
سورة الرحمن
وهي مكية كلها على الصحيح ، وعدد آياتها ثمانية وسبعون آية ، ولقد صح أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قام يصلى الصبح بنخلة ، فقرأ سورة « الرحمن » ومر النفر من الجن فآمنوا به ، وفي الترمذي عن جابر قال : خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقرأ عليهم سورة « الرحمن » من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال النبي : « لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن ردا منكم كنت كلما أتيت على قوله : فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ؟ قالوا : ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد » .
وروى عن على - رضى اللّه عنه - أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « لكل شيء عروس ، وعروس القرآن سورة الرحمن » .
وتشتمل هذه السورة على ذكر النعم مبتدئة بذكر القرآن الذي هو أكبر نعمة على الإنسان ، ثم بذكر النعم الكونية في السماء والأرض ، ثم خلق الإنسان والجان ، ثم صفة يوم القيامة ، ثم صفة أهل النار ، ثم ختم السورة ببيان الجنة وما فيها من نعيم أعد للسابقين وأصحاب اليمين.
أمهات النعم [سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)(3/579)
ج 3 ، ص : 579
المفردات :
الْبَيانَ : المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير. بِحُسْبانٍ : بحساب دقيق. وَالنَّجْمُ : النبات الذي ينجم ، أى : يظهر ويطلع من الأرض ولا ساق له. يَسْجُدانِ المراد ينقادان. الْمِيزانَ المراد : شرع العدل وأمر به.
بِالْقِسْطِ : بالعدل. وَلا تُخْسِرُوا أى : تنقصوا. لِلْأَنامِ أى للخلق جميعا ، أى : الإنس والجن. الْأَكْمامِ : جمع كم ، والمادة تدل على الستر ، والكمة والكمامة : وعاء الطلع وغطاء النّور ، والجمع كمام وأكمة وأكمام ، ومنه : كم القميص لستره الذراع ، والكمة : القلنسوة لتغطيتها الرأس ، وأكمام النخل : أوعية التمر ، أعنى الطلع أو كل ما يغطى من ليف وسعف وطلع. ذُو الْعَصْفِ : ورق الزرع الجاف. وَالرَّيْحانُ : هو كل مشموم طيب الرائحة من النبات ، وقيل : المراد به الرزق الخاص بالإنسان. آلاءِ : جمع إلى وهو النعمة.
المعنى :
ربنا الرحمن ، المتصفة ذاته بالرحمة ، وهذه نعمه ظاهرة ، وآثار رحمته بادية ، ولقد أخذ القرآن الكريم في تعدادها ، وقدم مصدر الدين ، وأساس الهداية ومنبع النور ألا وهو القرآن ، ثم أتبعه بذكر الإنسان وخلقه ليعلم أنه إنما خلقه للعبادة والدين ثم ذكر ما يتميز به عن سائر الخلق ، وهو البيان الصريح والمنطق الفصيح المعرب عما في الضمير ، المبين لآثار القرآن الموضح لأغراضه وأسراره ثم بعد ذلك ذكر بعض نعمه في الأكوان العلوية ، ثم في الأكوان السفلية ، وهكذا.
الرحمن على القرآن « 1 » أى : علم الإنسان القرآن ، نعم : القرآن وتعليمه مصدر
___________
(1) في هذا إشارة إلى أن الرحمن مبتدأ وما بعده خبر ، ويجوز أن يكون الرحمن خبر مبتدأ محذوف كما شرحنا أولا. [.....](3/580)
ج 3 ، ص : 580
السعادة الدينية والدنيوية ، وهو مصدق للكتب السماوية ، وحارسها وراعيها والمهيمن عليها ، وفيه الخبر الصدق ، والتشريع المحكم ، والقضاء العدل ، والقصص المملوءة عبرة وعظة ، والإرشادات إلى الخلق الكامل والمثل العليا ، والدعوة الصريحة لتنظيف القلوب من أدران الدنيا وأكدار النفس ، والدعوة إلى خلق المسلم الصحيح والإنسان الكامل السعيد في الدنيا والآخرة ، ومع هذا فأكثر الناس لا يعقلون.
وإذا نظرنا إلى هذا النور الذي نبه العالم في القرن الحديث ، وأيقظه من غفوته لم نجد له مصدرا إلا القرآن والرسالة المحمدية ، حقيقة لم تبلغ الحضارة الحديثة الدرجة العليا والغرض السامي لأنها لم تنهل من تعاليم القرآن ، ولم تجر على نظامه المحكم ، فكانت المذاهب والنظريات في السياسة والاقتصاد والاجتماع فيها الإفراط أو التفريط ، ولو شاء ربك لهدى الناس جميعا إلى نوره ، ولكن حكمته اقتضت ذلك ، إذا لا غرابة أن يبدأ تعداد نعمه بذكر تعاليم القرآن أولا ، ألست معى في أن أول نعمة هي القرآن ؟ ! وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ.
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً.
[النحل 89 - الإسراء 82 - الكهف 1 و2] الرحمن علم القرآن. خلق الإنسان ، أى : أنشأه على ما هو عليه من القوى الظاهرة والباطنة ، والغرائز الموجهة ، ولقد كان خلق الإنسان بهذا الشكل الدقيق ، وما أودع فيه من غرائز وميول ، واتجاهات وأفكار ، وقوى عاقلة مدركة ، وهذا فضلا عن تركيبه المادي الدقيق ، كان خلقه على هذا الوضع من أجل النعم وأرقاها عَلَّمَهُ الْبَيانَ نعم قد علمنا اللّه البيان ، وأودع فينا قوة الإفصاح عما في الضمير ، ولذا نرى أن علماء التفسير وضحوا لفظ البيان في الآية بأنه الحلال والحرام ، أو سبيل الهدى والضلال أو هو علم الدنيا والآخرة ، أو أسماء الأشياء كلها ، وبعضهم ذهب إلى أن المراد بالإنسان هو النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والبيان خصوص بيان القرآن ، وفي الواقع : البيان اسم جامع لكل هذا ، وهو أغلى ما يمتاز به الإنسان على سائر الحيوان.
الشمس والقمر ، وكذلك سائر الكواكب والأفلاك يجريان بحساب دقيق ، ونظام رتيب ، فلا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ، ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ، والشمس والقمر آيتان من آيات اللّه الكبرى ، وهما من نعم اللّه علينا(3/581)
ج 3 ، ص : 581
فالشمس مصدر الحرارة والحياة ، والقمر أساس معرفة الزمن والنجم الذي يطلع من الأرض ولا ساق له ، والشجر الذي يطلع وله ساق وفروع وهما يسجدان للّه وينقادان له « 1 » والسماء خلقها مرفوعة العماد بلا عمد ، ووضع الميزان ، أى : شرع العدل وأمر به حتى انتظم أمر العالم واستقام كما
قال صلّى اللّه عليه وسلّم « بالعدل قامت السموات والأرض »
فعل ذلك لئلا تطغوا في الميزان بأن تعتدوا وتتجاوزوا الحدود ، ولا تنقصوا الميزان ، بل كونوا عادلين فلا زيادة ولا نقصان ، والأرض وضعها وهيأها للأنام ، يعيشون فيها ويسكنون عليها ، ويتمتعون بكل ما فيها ، فيها فاكهة « 2 » يتفكه بها ، وفيها النخل ذات الأكمام وفيها الحب ذو العصف والريحان ، أى : الرزق المأكول لأنه يرتاح له ، فكأن الآية تقول : خلق الأرض لكم فيها الفواكه وخاصة النخل ذات الأكمام ، وفيها الحبوب من قمح وشعير ذات العصف ، أى : التبن لعلف الماشية ، وذات اللب الذي هو رزقكم وأكلكم.
فبأى آلاء ربكما أيها الثقلان من الإنس والجن تكذبان ؟ ! « 3 » بأى نعمة من نعم مربيكما ومالك أمركما أيها الثقلان تكذبان ؟ وتكذيب النعمة يكون بإنكار كونها من اللّه سبحانه مع عدم الاعتراف بكونها نعمة كتعليم القرآن ، أو بإنكار كونها من اللّه مع الاعتراف بكونها نعمة كالنعم الدنيوية ، والتعبير عن كفرهم المذكور بالتكذيب لأن دلالة النعم على اللّه ظاهرة ، وكأنها شاهدة بذلك فكفرهم بها تكذيب لها ، ولعل سائلا يسأل ويقول : لم هذا التكرار في قوله : فبأى آلاء ربكما تكذبان ؟ والجواب : إنه إنما حسن التكرار للإقرار بالنعم المختلفة ، إذ كلما ذكر اللّه نعمة وبخ وأنكر على من كذب بها ، وهذا أسلوب معروف في الشعر والنثر العربي « 4 » .
___________
(1) - في لفظ يسجدان استعارة تصريحية تبعية حيث شبه جريهما على مقتضى الطبيعة بانقياد الساجد لخالقه وتعظيمه له واستعمل المشبه به في المشبه ... إلخ.
(2) - استئناف مسوق لتقرير ما أفادته الجملة السابقة.
(3) - الفاء لترتيب الإنكار والتوبيخ على ما فصل من أنواع النعم ، والاستفهام للإنكار.
(4) - هذه الآيات التي مرت من أول السورة إلى ما وقفنا نجد فيها فصلا بين جملة علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان مع أن موجب الوصل موجود وهو اتحادها في الخبرية ، وقصد التشريك حاصل ، ولكنه فصل للإشارة إلى أن كل جملة تضمنت نعمة مستقلة تقتضي الشكر وحدها ، وتوجب الإنكار على كفرها مع عدم التقابل بين الجمل وعطف قوله : والنجم والشجر على قوله : والقمر رعاية لتناسبها من حيث التقابل ولأن الشمس والقمر علويان ، والنجم والشجر سفليان ، والكل منقاد له وخاضع.(3/582)
ج 3 ، ص : 582
بعض نعمه أيضا [سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 28]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23)
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28)
المفردات :
صَلْصالٍ الصلصال : الطين اليابس الذي له صلصلة ، أى : صوت.
كَالْفَخَّارِ : وهو الخزف ، أى : ما أحرق من الطين حتى تحجر. مارِجٍ :
لهب خالص لا دخان فيه. مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ : أرسلهما وأجراهما. بَرْزَخٌ :
حاجز. اللُّؤْلُؤُ : صغار الدر. وَالْمَرْجانُ : كبار الدر ، وقيل : هو خرز أحمر. الْجَوارِ : جمع جارية وهي هنا السفينة. الْمُنْشَآتُ : الرافعات الشرع ، أو المخلوقات للجري في البحر. كَالْأَعْلامِ : كالجبال ، والعلم : الجبل الطويل. فانٍ هالك. ذُو الْجَلالِ الجلال : العظمة والكبرياء.(3/583)
ج 3 ، ص : 583
المعنى :
إن من أجل نعم اللّه على الإنسان أن يبين له نشأته الأولى ، ومادته التي خلق منها ليفهم الإنسان نفسه ، ويعاملها على أساس سليم ، وإذا عرف الداء فلن يعز عليه الدواء.
اللّه يقول : إنه خلقكم من تراب كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ وقال إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وقال هنا : خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ ومن هذا كله نفهم أنه أخذ تراب الأرض فعجنه بالماء حتى صار طينا لازبا ثم انتقل فصار كالحمإ المسنون ، ثم انتقل فصار صلصالا كالفخار ثم نفخ فيه من روحه جل جلاله فكان الإنسان ، ومن هنا نعرف أننا معشر بنى آدم من مادة طينية سوداء كالحمإ المسنون الذي جف حتى صار كالفخار في الصوت والضعف ، نعم وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً أمام الدنيا ومغرياتها وأمام المرأة ومفاتنها وأمام عرض الحياة وزخارفها ، فاعرفوا أنفسكم ، وقووا ضعفكم وانصروا دواعي الخير والفضيلة فيكم التي هي من دواعي الروح ، واحذروا إبليس فإنه من الجان ، وقد خلق من مارج من نار ، أليس لهب النار أحمق متعاليا مغرورا مدفوعا إلى الإيذاء ؟ فاحذروا وسوسته واستعيذوا باللّه منه ، ألست معى أن ذلك البيان من أجل نعم اللّه علينا ؟ ! فبأى آلاء ربكما تكذبان ؟ ! هو رب المشارق والمغارب - إذ الشمس لها عدة مشارق ومغارب - ، وهو رب المشرقين ورب المغربين - أى : مشرق الصيف والشتاء ومغربهما - والشمس حين تشرق من مدار السرطان يكون الصيف في نصف الكرة الشمالي ، وحين تشرق من مدار الجدى يكون الصيف في الجنوب والشتاء في الشمال ، ولا شك أن مشارق الشمس ومغاربها وانتقالها من مدار إلى مدار من أجل النعم علينا إذ لو بقيت كما هي في شروق واحد وغروب واحد لتعطلت نواميس الحياة ، وتعطلت زراعة الصيف أو الشتاء ، ولقل العمران ، ألا ترى إلى سكان خط الاستواء وسكان المناطق الشمالية والجنوبية « 1 » التي يظهر عندهما المشارق والمغارب ، فبأى آلاء ربكما تكذبان ؟ هو الذي مرج البحرين العذب والملح يلتقيان في مصاب الأنهار بينهما حاجز من اليابس لا
يبغيان على بعضهما ولو شاء لاختلطا فضاعت فوائد الملح وعذوبة الماء العذب ، فبأى آلاء
___________
(1) - المراد : المناطق التي هي حول مدار السرطان ومدار الجدى لا المناطق القطبية.(3/584)
ج 3 ، ص : 584
ربكما تكذبان ؟ يخرج من مجموع البحرين اللؤلؤ والمرجان ، فبأى آلاء ربكما تكذبان ؟ وللّه جل جلاله في البحر عذبه وملحه السفن متى تجرى على سطح الماء وتتهادى كالعروس ، هذه السفن المرفوعات الشراع في البحر كالجبال تغدو وتروح حاملة الخير والبركات ، ولو شاء لجعل البحر ساكنا ولما استطاعت السفن أن تطفو على الماء ، فبأى آلاء ربكما تكذبان ؟
هو الذي خلق الموت والحياة ، والحياة نعمة بلا شك ، ولكن هل الموت نعمة ؟ نعم الموت نعمة للمتقين فسينقلون من حياة التعب والنصب إلى حياة الهدوء والاستقرار والثواب الجزيل والعطاء الكثير ، وهو للمرضى والمتعبين نعمة ، وعلى العموم فالدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، والموت من أجل النعم على الخلق ولذا حكم الحي القيوم الباقي بعد فناء خلقه بأن كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ، كل شيء هالك إلا ذاته القدسية فإنها باقية ، ويبقى ذات ربك ذي الجلال ، والتعظيم والإكبار من خلقه ، فبأى آلاء ربكما تكذبان ؟ !.
من نعم اللّه يوم القيامة [سورة الرحمن (55) : الآيات 29 الى 45]
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38)
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43)
يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)(3/585)
ج 3 ، ص : 585
المفردات :
سَنَفْرُغُ المراد : سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم الثَّقَلانِ : الجن والإنس ، سميا بذلك لعظم شأنهما بسبب التكليف شُواظٌ : هو اللهب الذي لا دخان له وَنُحاسٌ : هو الدخان الذي لا لهب فيه فَلا تَنْتَصِرانِ : فلا تمتنعان انْشَقَّتِ السَّماءُ : انصدعت كَالدِّهانِ : جميع دهن بِسِيماهُمْ :
علامتهم بِالنَّواصِي : جمع ناصية وهي مقدم الرأس حَمِيمٍ : ماء حار آنٍ قيل : إنه واد في جهنم.
المعنى :
إن اللّه - جل جلاله - مصدر الوجود ومنشئه ، وخالقه ومبدئه ، فالكل منه وإليه ، يسأله من في السموات والأرض بلسان الحال أو بلسان المقال سؤالا مستمرّا وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه بحيث لو تركهم لحظة واحدة لاختل النظام وانهدم الوجود ، واللّه جل جلاله - كل يوم - والمراد كل وقت ولحظة - هو في شأن من شئون خلقه ، فهو يعطى من سأل إذا شاء ويمنع من يسأل إذا شاء ، وهو ينشئ خلقا ، ويفنى آخرين ، ويرفع قوما ، ويخفض غيرهم ، و
روى أن من شأنه أن يغفر ذنبا ، ويفرج كربا ، ويرفع قوما ويضع آخرين على أن شئون الإله لا يحيط بها وصف ولا يدركها حد ، فهي(3/586)
ج 3 ، ص : 586
شئون صاحب الملك والملكوت الذي بيده الأمر ، وإليه يرجع الأمر تبارك اللّه رب العالمين
، وإذا كان الأمر كذلك فبأى آلاء ربكما ونعمه تكذبان مما يجيب به سؤالكما أيها الثقلان ؟
اللّه سبحانه لا يشغله شأن عن شأن ، ولكن شئون العالم كله من حياة وموت ورزق وغيره ستنتهى يوم القيامة ويفرغ الحق - تبارك وتعالى - إلى جزاء المكلفين فقط سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ أى : سنحاسبكم لا يشغلنا شيء عن شيء ، ولأتفرغن لكم يوم القيامة « 1 » فبأى آلاء ربكما تكذبان التي من جملتها التنبيه على ما سيلقاه الناس يوم القيامة تحذيرا عما يؤدى إلى سوء الحساب.
يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض ، وتخرجوا من جوانبها هاربين من اللّه تعالى فاخرجوا منها ، وخلصوا أنفسكم من عقابه عز وجل ، لا تقدرون على النفوذ إلا بسلطان ، أى : بقوة وقهر منكم وأنتم لا تقدرون على ذ لك إذ أقطار السموات والأرض فوق ما يتصور الإنسان ، ومن حاول الصعود إلى القمر أو صعد إليه أو إلى غيره ، فإنه أشبه بذبابة تطير وسط الحجرة فقط!! فبأى آلاء ربكما تكذبان ؟ !.
وما الداعي إلى طلبهم الفرار ومحاولتهم له! ثم لا يقدرون! والجواب أنه يرسل عليكم أيها العصاة شواظ من نار ، ولهب خالص ، بلا دخان ، يشبه النحاس في اللون فلا تقدرون على الامتناع مما يرسل عليكم ، فبأى آلاء ربكما تكذبان ؟ ولا شك أن التهديد بالعقاب ، والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء الكامل من عداد النعم الجليلة.
فإذا انشقت السماء وانصدعت يوم القيامة فكانت كالوردة في الحمرة ، تذوب مع الانشقاق حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم ، وتصير مثل الدهن لرقتها وذوبانها فبأى آلاء ربكما تكذبان ؟ فيوم إذ تنشق السماء لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان لأنهم يعرفون بسيماهم ، وهذا عند الخروج من القبر وما يدل على السؤال كقوله : فوربك لنسألنهم أجمعين : في موقف آخر وهو موقف الحساب.
___________
(1) - في العبارة الكريمة استعارة حيث شبه حال هؤلاء وأخذه تعالى في جزائهم فقط بمن فرغ لهذا من جميع المهام التي عليه.(3/587)
ج 3 ، ص : 587
فبأى آلاء ربكما تكذبان ؟ ! ولم لا يسألون ؟ والجواب أنهم يعرفون بسيماهم ، فيؤخذون بالنواصي والأقدام ، فبأى آلاء ربكما تكذبان ؟ ! ويقال لهم : هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون ، وينكرونها ، ويطوفون بين نارها وبين ماء حار متناه في الحرارة والنعمة فيما وصف من هول القيامة وعقاب المجرمين ، هو ما في ذلك الزجر عن المعاصي والترغيب في الطاعات ، وروى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه أتى على شاب في الليل يقرأ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ فوقف الشاب وخنقته العبرة وجعل يقول : ونحيى من يوم تنشق فيه السماء ونحيى! فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « ويحك يا فتى مثلها ، فو الذي نفسي بيده لقد بكت ملائكة السماء لبكائك »
فبأى آلاء ربكما تكذبان. ؟ !
من نعم اللّه على المتقين يوم القيامة [سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 60]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55)
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60)(3/588)
ج 3 ، ص : 588
المفردات :
خافَ الخوف : توقع مكروه ، وهو ضد الأمن ، والمراد به هنا : الكف عن المعاصي وتحرى الطاعات. ذَواتا أَفْنانٍ أى : صاحبتا أفنان ، جمع فنن ، وهو ما دق ولان من الأغصان. زَوْجانِ : صنفان وفرعان. فُرُشٍ : جمع فراش وهو معروف. إِسْتَبْرَقٍ : ما غلظ من الديباج. وَجَنَى الجنى : هو المجنى ، أى : المجتنى من الشجر. دانٍ : قريب. قاصِراتُ الطَّرْفِ المراد : قصرن أعينهن على أزواجهن. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ : لم يفض بكارتهن قبل أزواجهن أحد.
الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ : جواهر كريمة تضرب مثلا في الصفاء والبياض.
وتلك بعض نعم اللّه التي أنعم بها على عباده المؤمنين في الجنة ذكرت بعد ما بين اللّه طرفا من عذاب جهنم.
المعنى :
الخوف من اللّه ، واعتقاد المؤمن أن ربه مهيمن عليه مراقب له ، حافظ لأحواله يدعوه إلى العمل الصالح ، وإلى الإحسان فيه ، ولمن خاف قيام ربه عليه جنتان يتمتع فيهما ، وينتقل بينهما ، فبأى آلاء ربكما تكذبان ؟ وهاتان الجنتان ذواتا أفنان ، أى :
ذواتا أنواع من الشجر والثمار ، ففيهما ثمر وظلال ، فبأى آلاء ربكما تكذبان ؟ فيهما عينان تجريان بالماء الزلال ،
روى أن إحداهما تسمى بالتسنيم والأخرى بالسلسبيل
فبأى آلاء ربكما تكذبان ؟ فيهما من كل فاكهة صنفان صنف معروف مألوف ، وآخر غير معروف ولكنه في منتهى الحلاوة واللذة. فبأى آلاء ربكما تكذبان ؟ ! ولمن خاف مقام ربه جنتان حالة كونهم متكئين على فراش بطانته من ديباج غليظ ، والاتكاء من صفات التنعم الدالة على فراغ البال وهدوء النفس ، وإذا كانت البطانة من ديباج فما بال الظاهر من الفراش ؟ ! على أن جنى الجنتين دان وقريب فهو على طرف الثمار يدركه القائم والنائم والجالس والماشي فليس عاليا كالنخل ، ولا يحوطه شوك كالوردة ، وإنما هو من نوع عال لكنه قريب المنال ، فبأى آلاء ربكما تكذبان ؟
في تلك الجنان نساء قاصرات الطرف ، قد قصرن عيونهن على أزواجهن فلا ينظرن(3/589)
ج 3 ، ص : 589
إلى غيرهم ، وهن أبكار لم يفض بكارتهن قبل أزواجهن إنس ولا جان ، وهن كالياقوت صفاء والمرجان بياضا ، وقيل : كالمرجان حمرة ، فبأى آلاء ربكما تكذبان ؟ .
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان « 1 » أى : ما جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في الثواب والجزاء.
من نعمه على المؤمنين يوم القيامة [سورة الرحمن (55) : الآيات 61 الى 78]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65)
فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75)
مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
المفردات :
مُدْهامَّتانِ المراد : شديدة الخضرة من كثرة الري ، والدهمة في اللغة :
السواد.ضَّاخَتانِ
فوارتان بالماء ، والنضخ بالخاء أكثر من النضح. خَيْراتٌ حِسانٌ
___________
(1) - الاستفهام بمعنى النفي ، والجملة استئناف مقرر لمضمون ما قبله.(3/590)
ج 3 ، ص : 590
: جمع خيرة على معنى ذوات خير. حُورٌ : نساء بيض ، والحور : شدة بياض بياض العين مع شدة سواد سوادها. مَقْصُوراتٌ : محبوسات ومستورات.
رَفْرَفٍ : هو ثوب يطرح على ظهر الفراش للنوم عليه ، وقيل : هو فضول الفرش والبسط واشتقاقه من : رف يرف إذا ارتفع. وَعَبْقَرِيٍّ : هي ثياب أو بسط منقوشة ، وقيل العبقري : هو كل ما يعجب من حذقه وجودته وصنعته وقوته.
وهذا وصف آخر لجنان خصصت لأصحاب اليمين ، وما قبل هذا كان وصفا لجنان السابقين المقربين. والذي نفهمه أن هذه الصفات كلها تقريبية ، وردت ليقف الخلق على بعض ما في الجنة ، وفي الواقع هي كما قال اللّه : وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ ...
[سورة فصلت آية 31].
المعنى :
ومن دون هاتين الجنتين التي مضى وصفهما جنتان أخريان ، والكل أعد للخائفين الوجلين المسارعين في الخيرات ، السابقين ، وأصحاب اليمين ، فبأى آلاء ربكما تكذبان ؟ ! هاتان الجنتان مدهامتان ، وقد وسط القرآن قوله : فبأى آلاء ربكما تكذبان بين الجنة وصفتها للإشارة إلى أن تكذيبهم بوجود الجنة فضلا عن تكذيبهم بصفتها حقيق بالإنكار والتوبيخ.
هاتان الجنتان اشتدت خضرتهما لكثرة مائهما ، فبأى آلاء ربكما تكذبان ؟ ! فيهما عينان فوارتان بالماء الكثير ، فبأى آلاء ربكما تكذبان ؟ ! فيهما فاكهة يتفكه بها ، وخاصة النخل والرمان ، ولعل تخصيصهما بالذكر لكثرة وجودهما في الجزيرة العربية ، فبأى آلاء ربكما تكذبان ؟ !.
فيهن نساء خيرات حسان في الخلق والخلق ، وإذا وصفهن بالحسن ربك فكيف تقف من مخلوق على بيان كنهه والوقوف على مداه ؟ فبأى آلاء ربكما أيها الثقلان تكذبان ؟ .
هؤلاء النساء حور شديدات البياض ، وفي عيونهن حور ، وهن مقصورات في الخيام ، محبوسات محجبات ، لا يتبذلن في شارع أو سوق ، ولا يخرجن لبيع أو شراء ، والحجاب الذي يقصده الشارع ويصف به الحور العين هو البعد عن التبذل والولوج إلى(3/591)
ج 3 ، ص : 591
المجتمعات والنوادي ، وأنهن مقصورات على أزواجهن لا ينظرن إلى رجال غيرهم ، وكلنا بينه وبين نفسه لا يحب إلا المرأة المقصورة عليه ، أما التي تتركه وتصادق غيره ، وتراقصه وتستضيفه الأيام والليالى ، ففي الواقع ليست هذه امرأته وحده ، تلك طبيعة الرجال ، أما الذين طغت على عقولهم المدنية الكاذبة ، حتى فقدوا رجولتهم ، وتركوا نساءهم للأصدقاء والخلان تحت اسم الحرية والمدنية فهؤلاء قوم لم يعد للعقل وللمنطق معهم سبيل!! ونساء الجنة حور مقصورات في الخيام أبكار لم يمسسهن قبل أزواجهن إنس ولا جان ، فبأى آلاء ربكما تكذبان!.
أصحاب هذه الجنان يتمتعون متكئين على رفرف خضر ، وثياب تشبه الرياض عبقرية عجيبة غريبة ، بلغت منتهى الحسن والجمال ، فبأى آلاء ربك تكذبان!.
تبارك الرحمن الذي أنعم بتلك النعم ، وتعالى اسمه ، وتقدست ذاته ، وتنزهت عن كل نقص ، سبحانه وتعالى صاحب الفضل ، وواهب الخير ، ومصدر النعم ، تبارك اسم ربك ذي الجلال والكمال ، وصاحب العطاء والإكرام ، سبحانه وتعالى عما يصفون ، سبحانه جل جلاله هو الرحمن الرحيم.(3/592)
ج 3 ، ص : 592
سورة الواقعة
وهي مكية على الصحيح ، وعدد آياتها سبع وتسعون آية وقد ورد في فضلها آثار كثيرة ، منها
حديث ابن مسعود قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا »
وروى عن أنس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « سورة الواقعة سورة الغنى فاقرأوها وعلموها أولادكم »
ويمكن أن نفهم أنها سورة تحبب في العمل للآخرة ، والعزوف عن الدنيا فتولد بها القناعة والرضاء وهما الغنى والسعادة.
وتشتمل على الكلام على القيامة وأحوالها ، ثم بيان ما أعد للمؤمنين السابقين وأصحاب اليمين في الجنة ، ثم ما أعد لأصحاب الشمال في النار ، ثم ذكرت خلق الإنسان ، والنبات والماء ، والنار ، ثم ذكرت النجوم والميزان إلى غير ذلك من دلائل القدرة ، وآيات البعث والقوة.
قيام القيامة [سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6)
المفردات :
الْواقِعَةُ : علم بالغلبة على القيامة ، وسميت بذلك لتحقق وقوعها لا محالة كاذِبَةٌ والمراد : نفس كاذبة رُجَّتِ : زلزلت وحركت تحريكا شديدا وَبُسَّتِ الْجِبالُ : فتتت حتى صارت كالسويق الملتوت هَباءً : غبارا مُنْبَثًّا : متفرقا.(3/593)
ج 3 ، ص : 593
المعنى :
إذا كانت القيامة ، ووقعت الواقعة التي تحقق وقوعها بلا شك فكأنها واقعة في نفسها مع قطع النظر عن الإخبار بوقوعها ، إذا وقعت الواقعة كان الجزاء والثواب والعقاب « 1 » حالة كونها ليس لوقعتها « 2 » نفس كاذبة ، والواقعة هي السقطة القوية ، وشاعت في وقوع الأمر العظيم - بمعنى أنه لا يكون حين وقوعها نفس تكذب على اللّه تعالى - كما في هذه الدنيا - وتكذب في تكذيبه سبحانه في خبره بها ، أليس منكر الساعة الآن مكذبا له تعالى في أنها واقعة ؟ وهو كاذب في تكذيبه لأنه - أى : المنكر - قد أخبر بخبر على خلاف الواقع ، فلا يبقى هناك كاذب بل الكل صادق مصدق.
هي خافضة لأقوام كانوا أعزة بالباطل ، رافعة لأقوام كانت عزتهم باللّه ورسوله وإن كانوا في الدنيا فقراء المال والجاه ، هي خافضة رافعة ، إذا رجت الأرض رجا ينهدم ما فوقها من بناء ومساكن ، وبست الجبال بسّا فصارت غبارا متفرقا ، وذرات متناثرة ، وكنتم أيها الناس ساعتها أصنافا ثلاثة : أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والسابقون المقربون.
هؤلاء هم السابقون ، وذلك جزاؤهم [سورة الواقعة (56) : الآيات 7 الى 26]
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16)
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)
وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)
___________
(1) - هذا إشارة إلى أن (إذا) ظرف لما يستقبل خافض لشرطه منصوب بجوابه المحذوف الذي قدر مكان الجزاء إلخ ، وقيل : إنها ظرف وليس شرطا ، وهو معمول ل (اذكر) مقدره.
(2) - اللام هنا للتوقيت.(3/594)
ج 3 ، ص : 594
المفردات :
أَزْواجاً : أصنافا ثلاثة. الْمَيْمَنَةِ : وأصحابها هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة. الْمَشْئَمَةِ : هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار.
وَالسَّابِقُونَ والمراد بهم : السابقون إلى الإيمان والعمل الصالح. ثُلَّةٌ :
جماعة. مَوْضُونَةٍ أى : منسوجة بإحكام ، وفي كتب اللغة أن الوضن : النسج المضاعف. وِلْدانٌ : كصبيان في الوزن والمعنى. مُخَلَّدُونَ : باقون على حالتهم لا يهرمون كأولاد الدنيا. بِأَكْوابٍ : جمع كوب ، وهي الآنية التي ليس لها مقبض ولا خرطوم ، والأباريق : أوان لها مقابض وخراطيم ، وأقرب الأشباه بهما ما نستعملهما الآن في مصر ونطلق عليهما لفظ - كوب وإبريق. وَكَأْسٍ : لفظ الكأس يطلق على الإناء الذي فيه الخمر أو على نفس الخمر ، فإذا خلا الإناء من الخمر فهو قدح. مَعِينٍ المعين حقيقة : هو النهر الجاري على وجه الأرض الظاهر للعيون ، أو الخارج من العيون « 1 » . يُنْزِفُونَ من نزف الشارب أو من أنزف الشارب : إذا سكر. لا يُصَدَّعُونَ عَنْها أى : لا تنصدع رءوسهم من شربها فلا يصابون بصداع. عِينٌ : كبار الأعين حسانها. الْمَكْنُونِ : المستور لا يصل إليه غبار. لَغْواً : فاحشا من القول. تَأْثِيماً : ما يؤثم.
وهذا تفصيل للأزواج الثلاثة ، وبدأ بذكر السابقين.
___________
(1) - وهو مأخ وذ من عان المرء يعينه إذا نظر إليه بعينه فيكون اسم مفعول ، ويجوز أن يكون من معن الماء إذا نبع فهو اسم فاعل كشريف من شرف.(3/595)
ج 3 ، ص : 595
المعنى :
وكنتم - والخطاب لأمة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والأمم السابقة من باب التغليب - أصنافا ثلاثة :
أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة ، والسابقون ، فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة « 1 » نعم هم في غاية حسن الحال ، كما أن أصحاب المشأمة في نهاية سوء الحال ، والسابقون السابقون أولئك - والإشارة لبعد مركزهم وعلو مكانتهم - المقربون « 2 » في جنات النعيم بمعنى السابقون هم الذين سبقوا في الإيمان غيرهم وسارعوا إلى عمل الصالحات ، وكأن سائلا سأل وقال : وما جزاء هؤلاء ؟ ؟ فأجيب : أولئك المقربون من الحضرة القدسية المتمتعون بالرضا السامي في جنات النعيم.
هم جماعة كثيرة من الأمم السابقة وقليل من أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ممن جاءوا أخيرا ، فالقلة والكثرة راجعة إلى العدد ، هم جميعا في الجنة حالة كونهم على سرر منسوجة بالذهب نسجا محكما ، حالة كونهم متكئين عليها ، متقابلين فوجوههم متقابلة ، وهكذا الأدب العالي ، وقلوبهم صافية نقية ، ولذا تراهم متقابلين يطوف عليهم في الجنة ولدان مخلدون لا يعتريهم هرم ولا ضعف بل هم دائما في طراوة الشباب ورقته ونشاطه ، يطوفون عليهم بأكواب من فضة وأباريق من ذهب ، ويطوفون بخمر جارية من العيون فلا تنقطع ، ظاهرة للعيون ، فليست كخمر الدنيا التي تعصر وتحجز ، ولا يصيبهم بسببها صداع ولا ألم ، ولا يتفرقون عنها بسبب من الأسباب ، ولا هم عنها ينزفون ، أى : لا تذهب عقولهم ، ولا تبيد أموالهم ، ولا تهدم صحتهم ، ولا تضيع كرامتهم ، خمر الجنة ، وكفى أنها من صنع الخلاق الحكيم! ويطوفون عليهم بفاكهة كثيرة يأخذون منها ما يختارون ، وبلحم من جميع الأشكال والأنواع يأكلون منه ما يشتهون ، ولعلك معى في أن تقديم الفاكهة على اللحم مما يدعو إليه الطب.
___________
(1) - أصحاب الميمنة مبتدأ ، والاستفهام للتعجب مبتدأ ثان ، وأصحاب الميمنة خبره ، والجملة خبر المبتدأ الأول.
(2) - أحسن الأعاريب أن (السابقون) مبتدأ و(السابقون) الثانية خبر - من باب شعري شعري - وفي هذا تفخيم لشأنهم ، وجملة (أولئك المقربون) مبتدأ وخبر ، واقعة استئنافا بيانيا.(3/596)
ج 3 ، ص : 596
ولهم في الجنة حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون!! إن هذا كان لهم جزاء بسبب ما كانوا يعملون ، على أنهم في الجنة يتمتعون - كما عرفت نوعا من نعيمهم - ولكن هل هو نعيم مصحوب بألم كنعيم الدنيا ؟ لا : إنهم لا يسمعون فيها ما يكدرهم ، ولا يسمعون فيها لغوا ، ولا تأنيبا ، ولا يقال لهم : أثمتم ، لكنهم يسمعون فيها قولا سالما من كل عيب بأن يقول بعضهم لبعض : سلاما ، وتقول لهم الملائكة : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار.
هؤلاء هم أصحاب اليمين وهذا جزاؤهم [سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36)
عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
المفردات :
سِدْرٍ مَخْضُودٍ السدر : نوع من الشجر يمتاز بكثرة أوراقه وأغصانه إلا أن له شوكا فقيل : سدر مخضود أى : مقطوع الشوك. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ الطلح : شجر الموز ومنضود : متراكب الثمر ، أى : نضد أوله وآخره بالحمل فليست له سوق ظاهرة بل ثمره مرصوص بعضه فوق بعض بنظام. مَمْدُودٍ أى : دائم باق(3/597)
ج 3 ، ص : 597
لا يزول. ماءٍ مَسْكُوبٍ : جار لا ينقطع ، وأصل السكب : الصب. وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ المراد : نساء مرتفعات الأقدار. أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً : خلقناهن خلقا وأبدعناهن إبداعا. عُرُباً : جمع عروب ، وهن النساء المتحببات إلى أزواجهن بإظهار المحبة لهم.
وهذا هو الصنف الثاني ، المتوسط في المرتبة ، وهو يشمل عصاة المؤمنين بعد أخذهم جزاء المعصية أو العفو عنهم.
المعنى :
وأصحاب اليمين ، ما أصحاب اليمين ؟ ! وهذا أسلوب يدل على التفخيم لشأنهم ، والتعجب من حالهم « 1 » هم في سدر مخضود ، وطلح منضود ، وظل ممدود ، أى :
منبسط دائم ، لا يزول بشمس ، فهو كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وماء مسكوب منساب لا ينقطع ، يجرى بين أيديهم ، وفاكهة كثيرة ، ليست مقطوعة ولا ممنوعة في أى وقت ، وما أروع هذا البيان! وما أرقه حيث وصف السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن من كونهم على سرر مصفوفة ، تطوف عليهم خدامهم بأنواع الملاذ ، ووصف هنا جزاء أصحاب اليمين بأقصى ما يتصور لأهل البوادي ، وبأغلى شيء عندهم ، من نزولهم في أماكن مخصبة ، بين الماء المنسكب المتدفق الذي لا ينقطع ، والشجر الكثيف ، والظلال الوارفة والثمار الكثيرة فإن وصفها بالنظام يشير إلى الكثرة والجودة ، والفرق بين الصنفين كالفرق بين عيشة البوادي والحواضر.
لهم هذا كله ، وهم في فراش مرفوع على الأسرة ، وقيل : إن هذا كناية عن النساء المرتفعات الأقدار والمنازل ، إنا أنشأناهن ، أى : النساء إنشاء وأبدعناهن إبداعا على أتم صورة ، وأكمل وضع ، فجعلناهن أبكارا لا ثيبات ، وكن عربا متحببات إلى أزواجهن ، أترابا ، أى : مستويات في سن واحدة فليست الواحدة منهن عجوزا شمطاء ، ولا طفلة بلهاء بل هن المستويات الكاملات في باب النساء أنشأهن ربك
___________
(1) - وجملة الاستفهام خبر عن أصحاب اليمين.(3/598)
ج 3 ، ص : 598
لأصحاب اليمين ، الذين هم جماعة من الأولين أو السابقين في الوجود ، وجماعة من الآخرين ، أى : المتأخرين في الزمن كأمة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقيل : هذا الصنف من أمة محمد والتأخر والتقدم في زمن الرسالة المحمدية ، ولم يقل الحق - تبارك وتعالى - : جزاء بما كانوا يعملون كما قال في بيان السابقين المتقدم ، إشارة إلى أن هذا الصنف المتوسط قد غمر بالفضل من اللّه لقصر عمله عن السابقين.
هؤلاء هم أصحاب الشمال ، وهذا هو جزاؤهم [سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 56]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
المفردات :
سَمُومٍ السموم : الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن ، أو التي تؤثر تأثير السم. وَحَمِيمٍ : ماء حار شديد الحرارة. يَحْمُومٍ اليحموم : دخان أسود(3/599)
ج 3 ، ص : 599
شديد السواد من نار جهنم. مُتْرَفِينَ الترف : التنعم ، والمراد ، متنعمين بالحرام.
الْحِنْثِ : الذنب العظيم ، وعليه الحديث : كان يتحنث في حراء ، أى : يفعل ما يزيل الذنب العظيم ، وقيل الحنث : عدم البر بالقسم ، وكانوا يقسمون على أنه لا بعث ، وأن للّه شريكا. مِنْ زَقُّومٍ : هو شجر كريه الطعم والشكل. شُرْبَ الْهِيمِ : جمع أهيم وهيماء ، والمراد بالهيم الإبل العطاش التي لا تروى لداء أصابها.
وهذا هو جزاء أصحاب الشمال ، الذين حقت عليهم كلمة العذاب بعد ذكر السابقين وأصحاب اليمين ليظهر الفرق جليا بين عاقبة الطاعة ونهاية المعصية.
المعنى :
وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ؟ ! هم في ريح حارة تفعل فعل السموم ، وتدخل إلى البدن من مسام الجسم ، هم في سموم وحميم ، أى : ماء شديد الحرارة وظل من دخان أسود من نار جهنم ، وتسميته ظلا من باب التهكم ، هذا الظل ليس باردا بل حارّا ، ولا كريما ، أى : ليس كريم المنظر ، ولا كريم المخبر لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [سورة الزمر آية 16].
وما سبب هذا ؟ إنهم كانوا قبل ذلك في الدنيا مترفين ، أتبعوا أنفسهم هواها ، ولم يكن لهم رادع يردعهم بل ظلوا يتنعمون بالحرام ، ويتكبرون عن الحق والحلال ، وكانوا يصرون على فعل الذنب العظيم ، وهو الشرك ، وكل منكر قبيح ، وكانوا كذلك يقسمون بالأيمان على أنه لا بعث ولا ثواب ، وعلى أنه للّه شركاء وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ « 1 » وكانوا يقولون منكرين ومتعجبين : أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون « 2 » ؟ !! والمعنى : أنبعث إذا متنا وكنا ترابا ؟ ! وتقييد الإنكار والاستبعاد للبعث بوقت كونه ترابا ليس للتخصيص ، فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت وإن كان البدن يظل كما هو ، أنبعث نحن وآباؤنا الأولون ؟ مع أنهم أقدم منا فبعثهم أبعد وأشد إنكارا.
وقد ذكر اللّه هنا سبب عقابهم في قوله : إِنَّهُمْ كانُوا ... الآية ، ولم يذكر
___________
(1) - سورة النحل آية 38. [.....]
(2) - الهمزة للإنكار والتعجب وتكريرها في أإذا وأ إنا لتأكيد الإنكار.(3/600)
ج 3 ، ص : 600
سبب إحسانه لأصحاب اليمين للإشارة إلى أن العقاب عدل يبين وجهه ، أما الثواب فبمحض الفضل في الحقيقة فلا يحسن ذكر السبب.
قل لهم يا محمد ردّا على افتراءاتهم وإنكارهم للبعث : إن الأولين والآخرين من الأمم كلها ، ومن جملتهم أنتم وآباؤكم لمجموعون بعد البعث من القبور إلى ميقات يوم معلوم وهو يوم القيامة ، ويوم الجزاء والحساب ، ثم إنكم أيها الضالون عن الحق ، المكذبون بالبعث والوحدانية وإرسال الرسل لآكلون يوم القيامة أكلا مبتدأ من شجر هو زقوم ، شجرة تنبت في قعر جهنم جعلت فتنة للظالمين ، وهي كريهة المنظر والمخبر ، فيملأ الكفار منها بطونهم من شدة الجوع ، فإنه هو الذي اضطرهم إلى الأكل منها ، وعقب الأكل يشربون عليها من ماء حار لشدة العطش ، فشاربون منه شرابا كثيرا كشرب الإبل الهيم التي تشرب حتى تموت أو تسقم ، ولا ترتوى ، عجبا لهم يأكلون من الزقوم ثم يشربون من الحميم ، ثم هم لا يرتوون!! هذا - الذي ذكر من ألوان العذاب - نزلهم الذي أعد لهم يوم الدين ، وهو أشبه بما يقدم للضيف ساعة قدومه ، فما بالك بما أعد لهم من بعد ذلك!!
بعض الأدلة على إثبات قدرة اللّه الكاملة على البعث وغيره [سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 74]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)(3/601)
ج 3 ، ص : 601
المفردات :
ما تُمْنُونَ : ما تصبونه من المنى في الأرحام. قَدَّرْنا : قضينا به وأوجبناه عليكم. تَحْرُثُونَ الحرث : تهيئة الأرض للزراعة وإلقاء البذور فيها.
تَزْرَعُونَهُ الزرع : يطلق على نفس الإنبات. حُطاماً : هو الهشيم الهالك المتكسر الذي لا ينتفع به. تَفَكَّهُونَ أصل التفكه : أكل الفاكهة ثم استعمل مجازا في التلذذ بالحديث ، وتفكه قد يستعمل مرادا به إلقاء الفكاهة عن النفس ، ولا تلقى الفكاهة إلا من الحزن وعلى هذا فيكون تفكه مثل تحرج وتأثم : إذا أزال الحرج والإثم عنه وقد يطلق التفكه ويراد به التعجب لأن عدم التفكه حيث تطلب الفاكهة يدعو إلى العجب ، وفي كتاب الأساس للزمخشري : فظلتم تفكهون : وارد على سبيل التهكم ، أى : تجعلون فاكهتكم وما تتلذون به قولكم : إنا لمغرمون. الْمُزْنِ : هو السحاب. أُجاجاً : ملحا ولا يمكن شربه. تُورُونَ : تخرجونها نارا.
لِلْمُقْوِينَ أى : المسافرين ، مأخوذ من قولهم : أقوى القوم إذا نزلوا بالقوى أى :
الأرض الخالية القفراء البعيدة عن العمران ، وقيل المراد بالمقوين : المقيمين والمسافرين جميعا ، ويقال : الفقر مقو لخلوه من المال ، وللغنى مقو لقوته على ما يريد ، ولا شك أن النار يحتاج إليها الكل.
وتلك حجج وبراهين على إمكان البعث وإثبات أنه في مقدور اللّه بضرب الأمثلة والنظائر المشاهدة المحسوسة التي لا يمكن إنكارها.(3/602)
ج 3 ، ص : 602
المعنى :
نحن خلقناكم أول مرة وحدنا فهلا تصدقون بذلك تصديقا مقرونا بالطاعة والأعمال الصالحة! فإنهم أقروا ظاهرا بأن اللّه خلقهم ، ولكنه إقرار لم يتبع بالطاعة الصحيحة فنزل منزلة العدم ، ولذا حضهم اللّه على الإقرار بالخلق فقال : فلو لا تصدقون! ، وقيل المعنى : نحن خلقناكم أول مرة فهلا تصدقون بأنا قادرون على الخلق ثانيا يوم القيامة! ثم أخذ يسوق الأدلة والحجج التي تثبت ذلك فقال : أفرأيتم ما تصبون في رحم النساء من المنى! أأنتم تخلقونه وتصورونه بشرا تام الخلقة ؟ أم نحن الخالقون له وحدنا « 1 » ؟ لم يخلق بالطبيعة ، ولم يخلق وحده ، ولم تخلقوه أنتم ، وهذا المنى تحول من حال إلى حال ، ومن صفة إلى صفة فكيف تستبعدون الخلق يوم البعث ؟ وإحياءكم بعد أن كنتم ترابا أنتم وآباؤكم ؟ ! نحن قدرنا بينكم الموت ، ووقتنا موت كل واحد بزمن لا يتقدم ولا يتأخر ، وما نحن بمغلوبين في ذلك أبدا ، وما نحن بمغلوبين أيضا على أن نذهبكم ، ونأتى مكانكم بأمثالكم من الخلق ، وننشئكم فيما لا تعلمون من الخلق والأطوار ، فنحن قادرون على كل ذلك ، ولقد علمتم النشأة الأولى لكم حيث خلقتم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ... إلخ ما هو معروف ، وقيل المعنى : لقد علمتم النشأة الأولى لخلق أبيكم آدم من تراب ، وبين التراب والحياة البشرية بون شاسع ، فهلا تذكرون ذلك ؟ وتعلمون أن من قدر على ذلك كله قادر على إحياء الموتى ؟ !.
أفرأيتم ما تحرثون ؟ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ؟ نعم اللّه هو الذي يحيى الأرض بالنبات بعد موتها ، وهو القادر على إخراج النبات الأخضر المثمر من البذور والطين مع أن الحب في الطين قابل للعفونة ، ولكن اللّه بقدرته يخرج منه نباتا أصفر طريا غضا أفلا يدل هذا على القدرة ؟
___________
(1) - الاستفهام في قوله أرأيتم المراد به الطلب ، أى : أخبرونى عن المنى ، وقوله : أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون :
في موضع المفعول الثاني على أن الرؤية علمية ، وعلى أنها بصرية تكون مستأنفة لا محل لها ، وقوله : أم نحن الخالقون إنها متصلة ، وقيل : إنها منقطعة لأن ما بعدها جملة الاستفهام المقدر للتقرير.(3/603)
ج 3 ، ص : 603
لو يشاء ربك بعد خلقه لجعله هشيما متكسرا لا غلة ولا خير ، كما يحصل الآن ونراه بأعيننا في حقلين متجاورين متفقين في كل شيء أو نفس الحقل الواحد ، ونرى أن هذا النبات يثمر ، وذاك في ليلة واحدة يصبح هشيما لا خير فيه ، وتبارك اللّه أحسن الخالقين! لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون ، وتتعجبون من سوء الحال والمصير ، أو فظللتم تتلاومون على سوء أفعالكم ، وكل ذلك تفسير باللازم ، والأقرب فظللتم تزيلون التفكه والف كاهة عنكم ، والرجل لا يطرح الفكاهة والمسرة عن نفسه إلا عند الألم والحزن ، أو المراد تتفكهون قائلين : إنا لمغرمون - وهذا من باب التهكم - بل نحن محرومون من عطاء اللّه.
أفرأيتم الماء الذي تشربونه ؟ أأنتم أنزلتموه من السحاب أم نحن المنزلون ؟ نعم هو اللّه وحده القادر على إنزال المطر ، وإخراج الماء من البحار على هيئة البخار حالة كونه نقيّا صافيا من كل شيء ثم جمعه في السحاب ، ثم إنزاله مطرا يصيب به من يشاء من عباده.
ولو شاء ربك أنزل « 1 » المطر من السماء ملحا أجاجا لا يصلح للرى ، ولكنه اللطيف الخبير فهلا تشكرون ربكم على ذلك ولا تكفرون! أفرأيتم النار التي تورونها ، وتستخرجونها من الزند أو ثقاب الكبريت ، أو على أى صورة أأنتم أنشأتم شجرها ؟ أأنتم خلقتم مادتها ؟ أم نحن الخالقون ؟ نعم هو ربك وحده الذي خلق فقدر كل ذلك ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
نحن جعلنا النار تذكرة لجهنم ، وعبرة لمن يعتبر ، وجعلناها متاعا يتمتع بها الخلق جميعا المقيم والمسافر ، والغنى والفقير ، والحاضر والبادي ، ولا غرابة فالنار أحد العناصر المهمة كالماء والتراب والهواء.
إذ كان الأمر كذلك فسبح باسم ربك العظيم ، ونزهه عن كل نقص. وإذا كان الأمر بتقديس الاسم فما بال المسمى جل شأنه ؟ !
___________
(1) - جواب لو هنا مجرد من اللام ، وفيما قبله مقرون باللام ، والنحويون يجيزون ذلك ، أما لما ذا كان هذا الوضع هنا ؟ ففي الحقيقة اللّه أعلم بأسرار كتابه ، وإن كان الكشاف والآلوسي وغيرهما عللوا عللا عللا ليست قوية في نظري.(3/604)
ج 3 ، ص : 604
وانظر - وفقك اللّه - إلى الاستدلال بخلق الإنسان وأطواره ، ثم بالإنبات ثم بالأمطار ، ثم بالنار. وهل هناك إنسان في أية بقعة لا يرى أمامه خلق الإنسان والنبات ، والمطر ، والنار ؟
إن هذا لهو حق اليقين [سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 96]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84)
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89)
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)
إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)(3/605)
ج 3 ، ص : 605
المفردات :
بِمَواقِعِ النُّجُومِ : بمساقطها للغروب. مَكْنُونٍ : محفوظ ومصون.
مُدْهِنُونَ الإدهان : جعل الأديم - الجلد - مدهونا بمادة زيتية ليلين ليونة حسية ، ثم استعمل الإدهان في الليونة المعنوية ، ولذا سميت المداراة والملاينة مداهنة على سبيل المجاز ، وهو لشهرته صار حقيقة عرفية ، ورشح هذا أن المتهاون في الأمر لا يتصلب فيه ولا يتشدد. رِزْقَكُمْ أى : شكركم. الْحُلْقُومَ : مجرى الطعام.
مَدِينِينَ من دان بمعنى حاسب وجازى ، أى : محاسبين ومجزيين ، وعليه قولهم :
كما تدين تدان ، وقيل المراد مربوبين. فَرَوْحٌ أى : استراحة. وَرَيْحانٌ :
رزق حسن. وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ : احتراق بها.
تلك حقائق ختمت بها السورة الكريمة تتعلق بالقرآن الكريم ، وبمناقشة المنكرين وما يكون عند خروج الروح ، وما يلاقيه السابقون وأصحاب اليمين ، والمكذبون الضالون ، تلك حقائق من رب العالمين.
للّه أن يقسم بما يشاء من خلقه ، فهو تعظيم له بالدليل ، ولفت لأنظار المخلوقين حتى يروا ما في هذه الأشياء المقسم بها من عظمة تدل على القدرة الكاملة للّه - سبحانه وتعالى - وأما نحن فليس لنا أن نقسم بغير اللّه وصفاته القديمة.
المعنى :
فلأنا أقسم بمواقع النجوم ، أى : مساقطها عند الغروب « 1 » - وإن هذا القسم عظيم لو تعلمونه لعظمتموه إنه لقرآن كريم ... الآية.
أما القسم بالنجوم عند غروبها ، وذهاب أثرها ، فلأنها والحالة هذه تكون أكثر دلالة على وجود خالقها والمؤثر فيها ، وأن هذا النجم الذي بزغ بعد غروب الشمس لا يصح
___________
(1) - في هذا إشارة إلى أن لا في قوله لا أقسم أصلها لام التوكيد الداخلة على مبتدأ وخبر ثم حذف المبتدأ وأشبعت الفتحة فتولد منها الألف فليست هي لا النافية ، وقيل هي لا النافية ، ولكنها زائدة للتوكيد وتقوية الكلام ، وقيل غير زائدة والمنفي قول المشركين ، وأقسم كلام جديد ، ويضعف هذا الرأى أن وجود الواو في مثل هذا واجب كقولك :
لا ، وشفاك اللّه ، وأيضا يصح المعنى على أصالة النفي كما ذكرنا ذلك في الشرح.(3/606)
ج 3 ، ص : 606
أن يعبد بل يجب أن يكون هو دليلا على وجود اللّه ، ولذا قال اللّه : وإنه لقسم - لو تعلمون - عظيم ، وقيل ، إن المعنى : لا أقسم بمواقع النجوم على أن القرآن كريم ، إن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم ما فضلا عن هذا القسم العظيم ، واللّه أعلم بأسرار كتابه.
إنه لقرآن كريم ، البحر مثله ، من أى النواحي أتيته تجد هدى ونورا وعلما وخيرا وبركة قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ « 1 » .
إنه لقرآن كريم كائن في كتاب مصون من غير المقربين من الملائكة « هذا الكتاب المصون هو اللوح المحفوظ ، فلا يطلع عليه سواهم ، ولا يمسه إلا الطاهرون المطهرون من كدر الطبيعة البشرية ودنس الغرائز النفسية ومطهرون من دنس الأجسام وقذارة الأحداث » ، ومن غير الملائكة الأطهار يوصف بهذا ؟ والطهارة على ذلك معنوية.
هذا كتاب لا ينبغي أن يمسه إلا المطهرون من كل حدث ولذا فهم بعض الأئمة أن القرآن ينبغي ألا يمسه إلا طاهر من الحدث الأصغر والأكبر ، وبعضهم رأى أن سند هذا الحكم هوالحديث عن رسول اللّه « لا يمسّ القرآن إلّا طاهر »
هو تنزيل من رب العالمين ، لا يأتيه باطل ، ولا يقرب منه شك ، وهو هدى للعالمين.
أفهذا الحديث الذي ذكرت نعوته هنا أنتم أيها الكفار مدهنون ، ومتهاونون ؟ ! لا يصح هذا ولا يليق ، وأنتم تجعلون شكر رزقكم وما أنعم اللّه به عليكم أنكم تكذبون ؟ تكذبون بما يجب عليكم تصديقه ، وبما أنزل في هذا القرآن.
فلو لا إذا بلغت الروح الحلقوم عند الحشرجة وأنتم حينئذ بلغت هذا الحد تنظرون ونحن أقرب إلى هذا الشخص منكم قرب علم وقدرة ، ولكن لا تبصرون ، فهلا إن كنتم غير مؤمنين بالبعث يمكنكم أن ترجعوا روحه ، وتمنعوا موته كما تظنون أن لا بعث ولا عقاب!! والمعنى باختصار : إن صدقتم نفى البعث فردوا روح المحتضر إلى جسده لينتفى عنه الموت فينتفى البعث أى إن تحقق الشرطان وهما : إن كنتم غير مدينين إن كنتم
___________
(1) - سورة المائدة آية 16.(3/607)
ج 3 ، ص : 607
صادقين فهلا أرجعتم نفس الميت وأنتم حاضرون ساعة خروجها من جسده « 1 » .
ولكن البعث أمر محقق نطق به الحق - تبارك وتعالى - ومن أصدق من اللّه حديثا! والناس فيه ثلاثة أنواع فأما إن كان من السابقين المقربين فله روح وريحان وجنة نعيم ، وأما إن كان من أصحاب اليمين فله السلامة من العذاب لأنه من أصحاب اليمين ، أو فعليه سلام من إخوانه أصحاب اليمين ، وأما إن كان من المكذبين الضالين فله نزل من حميم يشربه بعد أكل الزقوم - وهذا تهكم به - وله تصلية جحيم واحتراق بها.
إن هذا الذي ذكر في هذه السورة وخاصة في أواخرها لهو اليقين الحق والخبر الصدق الذي لا شك فيه ولا ريب ، وإذا كان الأمر كذلك فسبح مستعينا باسم ربك العظيم ، وقدسه ونزهه عن كل نقص وعيب فتعالى اللّه عما يشركون!
___________
(1) - فلو لا بمعنى هلا ، ولو لا الثانية تأكيد له ، وإذا في قوله « فلو لا إذا » إذا ظرفية فقط ، وجواب الشرطين هو هلا ترجعونها.(3/608)
ج 3 ، ص : 608
سورة الحديد
حكى القرطبي أنها مدنية بالإجماع ، وبعضهم نقل في سبب إسلام عمر بن الخطاب : أنه سمع آيات من أول سورة الحديد عند أخته فأسلم ، وعلى هذا تكون هذه الآيات مكية ، والظاهر أنها مدنية كلها كما حكى القرطبي ، وعدد آياتها تسع وعشرون آية وتشمل هذه السور الحث على التسبيح للّه ، ثم طلب الإيمان والإنفاق ، ثم التعرض لجزاء الإيمان والإنفاق يوم القيامة ، ووعظ المؤمنين بالعظات البالغات ، ثم بيان الدنيا وحقيقتها ، وبيان دعائم الحكم ، وضرب الأمثال بالأنبياء وأممهم ، وعلى العموم فالسورة تدور حول الحث على الإنفاق والبذل في سبيل اللّه.
التسبيح للّه وحده [سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)(3/609)
ج 3 ، ص : 609
المفردات :
سَبَّحَ لِلَّهِ التسبيح : التنزيه والتقديس للّه ووصفه بكل كمال وتنزيهه عن كل نقص. أَيَّامٍ : جمع يوم وهو الوقت المحدد بطلوع الشمس إلى غروبها.
اسْتَوى : تطلق في اللغة على معان كثيرة : بمعنى استقر. ومنه استوى على الكرسي ، وعلى ظهر الدابة ، واستوى بمعنى : قصد ، وبمعنى : استولى وظهر ، ومنه :
« استوى بشر على العراق » والمراد : استولى وتصرف بما يريد. الْعَرْشِ : هو سرير الملك ، وعليه قوله تعالى نَكِّرُوا لَها عَرْشَها وقد يطلق على سقف البيت ، وعلى هودج المرأة ، وعلى الملك والسلطان ، وعليه قولهم : ثل عرشه وسقط : إذا ذهب ملكه. يَلِجُ : يدخل. يَعْرُجُ فِيها : يصعد. يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ :
يدخل أحدهما في زمن الآخر. بِذاتِ الصُّدُورِ : صاحبات الصدور ، والمراد الأسرار العميقة التي لا تفارق الصدر أبدا.
المعنى :
التسبيح : تنزيه اللّه - تعالى - في القول والاعتقاد والعمل ، عما لا يليق به ، ووصفه بكل كمال ، والسمو به عن كل نقص ، واللّه - جل جلاله - يسبح له كل ما في السموات وما في الأرض بلسان المقال أو بلسان الحال وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ « 1 » فتسبيح العقلاء تنزيه وتقديس وعبادة. وتسبيح غيرهم دلالة على الصانع وأنه صاحب كل كمال ومنزه عن كل نقص ، أو هو الانقياد والخضوع لأمر اللّه وتصريفه ، ولا شك أن الكل بهذا المعنى يسبح له « 2 » ، سبح للّه ما في السموات والأرض ، وهو العزيز الذي لا يغلب - سبحانه وتعالى - الحكيم في كل ما يفعل - جل شأنه - للّه « 3 » ملك السموات والأرض ، وله التصرف المطلق فيهما وكأن سائلا سأل وقال : ما مظاهر ملكه ؟ فأجيب بأنه يحيى من يشاء ويميت من يشاء وهو على كل شيء قدير.
___________
(1) سورة الإسراء آية 44.
(2) وقد عبر القرآن عن التسبيح تارة بالمصدر كما في أول سورة الإسراء ، وبالماضي كما هنا وفي سورة الحشر والصف ، وعبر في سورة الجمعة والتغابن بالمضارع ، وفي سورة الأعلى بالأمر عبر بذلك استيفاء لأنواع الكلمة وليسبح كل إنسان في جميع الأوقات والأحوال اللّه سبحانه وتعالى.
(3) هذه الجملة مستأنفة بمنزلة التوكيد المعنوي لما قبلها ، ولذلك فصل بينهما.(3/610)
ج 3 ، ص : 610
هو الأول فليس قبله شيء ، إذ هو السابق على جميع الموجودات لأنه مصدرها ، وهو الآخر لأنه الباقي بعد فناء خلقه ، وهو الظاهر وجوده لكثرة الدلائل المادية والمعنوية عليه ، وهو الباطن فلا تعرف العقول ذاته على حقيقتها ، ولا تدركها الأوهام وهو بكل شيء عليم ،
روى في صحيح مسلم من حديث أبى هريرة : « اللّهمّ أنت الأوّل فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظّاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عنّا الدّين وأغننا من الفقر! »
. هو الذي خلق السموات والأرض « 1 » في ستة أيام ، اللّه أعلم بمقدارها ، وهو القادر على خلقها في لحظة إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ « 2 » لكنه ذكر هذه المدة ليعلم العباد التأنى والتثبت في الأمور ، وليعلمهم أن خلق السموات والأرض أكبر من خلقهم ، وليس هو بالهين لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ « 3 » .
ثم استوى على عرشه ، واستقام أمره ، واستقر على حسب ما يريده مما لا يعلم ذلك إلا هو ، وهذا هو رأى السلف ، وأما الخلف فيؤولون قائلين : استوى على عرشه بعد تكوين خلقه بمعنى أنه يدبر الأمر ويفصل الآيات ، يعلم ما يلج في الأرض ويدخل فيها من نبات وبذور ، وإنسان ومعادن وكنوز ، وما يخرج منها من زروع وثمار ، ومياه وجثث وغيرها ، وهو يعلم ما ينزل من السماء من مطر أو شهب أو ملك أو آيات ، وما يعرج فيها ويصعد إليها من عمل أو ملك أو غيره ، وهو معكم بعلمه وقدرته أينما كنتم ، واللّه بما تعملون بصير.
له ملك السموات والأرض ، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، وإلى اللّه وحده ترجع الأمور ، يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، بمعنى أنه يدخل هذا في زمن ذاك ، وبالعكس ، ونحن في مصر نرى الليل في الشتاء طويلا بينما يكون النهار في الصيف قصيرا ، وفي الصيف يكون العكس ، وفي الربيعين يتساوى الليل والنهار ، سبحانه من قادر حكيم! وهو العليم بذات الصدور ومكنوناتها التي لا تفارقها يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ « 4 » سبحانه وتعالى عما يشركون ؟
___________
(1) - الظاهر واللّه أعلم أن هذه الجمل بيان وتفسير لتمام ملكه ولذا فصلت عن سابقتها.
(2) - سورة يس آية 82.
(3) - سورة غافر آية 19.
(4) - سورة غافر آية 57.(3/611)
ج 3 ، ص : 611
الحث على الإيمان والإنفاق [سورة الحديد (57) : الآيات 7 الى 12]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
المفردات :
مُسْتَخْلَفِينَ : خلفاء عن اللّه فيه ، أو خلفاء عمن سبقكم ليأخذه من بعدكم.(3/612)
ج 3 ، ص : 612
مِيثاقَكُمْ : عهدكم الذي أخذه عليكم في عالم الذر. الْفَتْحِ أى : فتح مكة.
الْحُسْنى أى : الجنة. يُقْرِضُ المراد : ينفق في سبيل اللّه.
وهذه الآيات تدعو إلى الإيمان باللّه ورسوله وإلى الإنفاق في سبيل اللّه بعد ما مضى من وصفه جل شأنه.
المعنى :
البذل والتضحية أول الدعائم في حياة الأمم ، وأساس نجاح الدعوات والإنفاق في سبيل اللّه للقيام بأعباء الأمة وما تتطلبه حياتها فريضة فرضها الإسلام الذي هو النظام الإلهى والدستور السماوي وهو حين يعالج مشكلة ، يوقظ أولا الضمير ، ويحيى الروح الديني ، ويربط علاجه بالإيمان ورضا اللّه ورسوله وكان الإسلام في مستهل حياته - ولا زال كذلك - في أشد الحاجة إلى البذل والتضحية والإنفاق ليسد حاجة المحتاج ، ويلم شعث الدولة ويدعم أركان الجيش.
آمنوا أيها الناس باللّه ورسوله ، فإن كنتم كفارا فكونوا مؤمنين ، وإن كنتم مؤمنين فآمنوا باللّه إيمانا كاملا ، وداوموا عليه ، وأنفقوا في سبيل اللّه ، وسبيل اللّه كل خير يعود عليكم وعلى وطنكم ودينكم ، أنفقوا مما تحت أيديكم من الأموال وأنتم خلفاء اللّه عليها ، فالمال مال اللّه والخير خيره ، فأنفقوا منه ولا تبخلوا ، وثقوا أنكم ورثتم غيركم فيه وخلفتموه عليه وهو بلا شك سينتقل إلى غيركم ، ولن ينفعكم منه إلا ما قدمتموه للّه ، والحديث : « ليس لك من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدّقت فأبقيت » .
وإذا كان الأمر كذلك فالذين آمنوا منكم ، وأنفقوا جزءا من مالهم ، لهم أجر عند ربهم كبير.
وما لكم لا تؤمنون باللّه وال رسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم ؟ أى شيء استقر لكم وثبت عندكم حالة كونكم غير مؤمنين « 1 » والحال أن الرسول يدعوكم والقرآن في يمينه
___________
(1) - في هذا إشارة إلى أن (ما) مبتدأ وهي اسم استفهام للإنكار ، و(لكم) خبر ، و(لا تؤمنون) حال ، و(الرسول يدعوكم) حال أخرى [.....](3/613)
ج 3 ، ص : 613
والسنة في يساره لتؤمنوا بربكم من أول الأمر أو لتداوموا على الإيمان وتقووه وقد أخذ اللّه ميثاقكم بما نصب من الأدلة المادية في الكون ، وما خلق فينا من قوى وغرائز كلها توصل إلى الإيمان ، لو نظرنا بها مجردين عن الهوى والتقليد الأعمى ، وقيل : إن الميثاق هو ما أخذه ربك على الناس في عالم الذر ، حين أشهدهم على أنفسهم قائلا : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى وما لكم لا تؤمنون والرسول يدعوكم للإيمان ، وقد أخذ ربكم عليكم الميثاق ، لا عذر لكم ، إن كنتم تريدون الإيمان فبادروا إليه.
هو الذي ينزل على عبده محمد آيات بينات هي القرآن الكريم ، وينزل معجزات واضحات ، كل ذلك ليخرجكم من الظلمات إلى النور ، وينقذكم من الكفر إلى الإيمان ويهديكم الصراط السوى ، وإن اللّه بكم لرءوف رحيم.
وأى شيء ثبت لكم غير منفقين في سبيل اللّه بعد هذا ؟ ! وللّه ميراث السموات والأرض وما فيهن ، فستخرجون من الدنيا ، واللّه هو الذي يرث الأموال ويعطيها لمن يشاء ، ويبقيها عند من يشاء ولن تستفيد إلا ما قدمته من خير ، وأما الوارث فأمره عند ربه ، وله رزقه وحظه في الدنيا ، وكم رأينا من جمع المال الكثير من طريق الحلال أو الحرام ثم تركه لوارثه ، فلم يبقه الوارث أكثر من شهور ، وأما من جمع فالويل له إن لم يكن قد أدى الزكاة وأنفق في سبيل اللّه ، وتوخى الحق في جمع المال ، وكم رأينا أناسا جمعت القليل أو لم تجمع أصلا ، وكانت في حياتها مثلا أعلى للمسلم في المعاملة فلم يغش ولم يخادع ولم يكن في جمع المال كحاطب ليل ، ثم ترك أولاده ولهم اللّه فلم يمض غير القليل حتى من اللّه عليهم بالمال والجاه والغنى والسعادة وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً.
[الكهف 82] يا أخى ثق أنك لن تغني ابنك ، والمورث هو اللّه وحده فأد حقوق اللّه واحذر الدنيا والمال!! وليس معنى هذا أن تنفق كل مالك ، لا : بل اعمل كما أشار النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على سائله في هذا قائلا معناه : أنفق الثلث والثلث كثير لأن تذر أولادك أغنياء خير من أن تتركهم عالة على الناس يتكففون السؤال. وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [سورة الإسراء آية 29].
لا يستوي منكم من أنفق من قبل فتح مكة وقاتل وقتئذ مع من أنفق وقاتل بعده أولئك السابقون أعظم درجة عند اللّه من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ، وكلهم خير بلا شك ، وقد وعدهم اللّه الجنة ، مثوى لهم ، واللّه بما تعملون خبير.(3/614)
ج 3 ، ص : 614
من ذا الذي يقرض اللّه قرضا حسنا ؟ « 1 » بمعنى : من ذا الذي ينفق ماله في سبيل اللّه مخلصا متحريا أكرم ماله رجاء أن يعوضه سبحانه بدله كمن يقرض اللّه قرضا حسنا فيضاعفه اللّه ويعطيه أجره على الإنفاق مضاعفا أضعافا كثيرة ، وله أجر كريم ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
لهذا المنفق المقرض هذا الأجر الكريم يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم ، وعن أيمانهم وفي كل جهاتهم ، ويقال لهم : بشراكم اليوم دخول جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ، وذلك هو الفوز العظيم ، وهل هناك أرفع درجة من هذا ؟ !
المنافقون يوم القيامة [سورة الحديد (57) : الآيات 13 الى 15]
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
___________
(1) - هذا ندب للإنفاق على صورة بديعة ، يؤكد الأمر السابق ، ويوبخ من يترك الإنفاق ، والاستفهام ليس على حقيقته بل للحث والطلب ، والعبارة فيها استعارة في الفعل (يقرض) تبعية أو استعارة في الجملة كلها استعارة تمثيلية ، وسنشير في الشرح إلى ذلك.(3/615)
ج 3 ، ص : 615
المفردات :
انْظُرُونا أى : انتظرونا ، وفي قراءة : أنظرونا ، أى : أمهلونا ، أو انتظرونا.
نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ : نستضيء بنوركم. بِسُورٍ : هو حائط بين الجنة والنار.
بَلى : نعم. فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ : امتحنتموها بالنفاق واستعملتموها في الفتنة.
الْأَمانِيُّ : طول الأمل وامتداد الأجل. فِدْيَةٌ : ما يفتدى به. مَوْلاكُمْ أى : أولى بكم.
المعنى :
اذكر يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا ، والحال أن نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون لهم : انظرونا لعلنا نقتبس من نوركم ، ونستضيء به ، وذلك أنه
روى أنه يعطى المؤمنون النور يوم القيامة على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط المستقيم ، ويستضيء المنافقون بنورهم ولا يعطون النور ، فبينما هم يمشون على نورهم - كما كانوا يسيرون ظاهرا معهم في الدنيا - إذ يبعث اللّه فيهم ريحا وظلمة فيطفئ بذلك نور المنافقين
، ويقول المؤمنون : رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا « 1 » خوف أن يسلبوا النور كما سلب من المنافقين ، فإذا بقي المنافقون في الظلمة لا يبصرون مواقع أقدامهم قالوا للمؤمنين : انتظرونا نقتبس من نوركم. قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً والقائل هم الملائكة أو المؤمنون ، فلما رجعوا وانصرفوا يطلبون النور ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور ضخم باطنه فيه الرحمة لأنه جهة الجنة التي فيها المؤمنون ، وظاهره أى :
جانبه مما يلي المنافقين من قبله العذاب.
ينادى المنافقون المؤمنين قائلين : ألم نكن معكم نصلى ونصوم ونحارب معكم ؟
قالوا : بلى! ولكنكم فتنتم أنفسكم وامتحنتموها بالنفاق واستعملتموها في الفتنة وغركم باللّه الغرور. فحقّا السعيد من لا يغتر بالطمع ولا يركن إلى الخداع ، ومن ذكر المنية وهولها نسى الأمنية وما حولها ، ومن أطال الأمل ، قصر في العمل ، بل غفل عن الأجل وجاء الغرور بالباطل ، وقانا اللّه شره.
___________
(1) - سورة التحريم آية 8.(3/616)
ج 3 ، ص : 616
فاليوم لا يؤخذ منكم فداء ، ولا ينفعكم مال ولا بنون ، ولا يؤخذ من الذين كفروا كذلك ، مأواكم أيها المنافقون النار ، هي مولاكم وأولى بكم « 1 » ، وبئس المصير.
وعظ وإرشاد [سورة الحديد (57) : الآيات 16 الى 19]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)
المفردات :
يَأْنِ المراد : ألم يأت وقته ، مأخوذ من أن يأنى ، وفي قراءة : يئن مأخوذ من آن يئين يقال : آن لك أن تفعل كذا ، أى : حان وقرب وقت الفعل. تَخْشَعَ :
تذل وتلين ، والمراد تمتثل جميع أحكام القرآن. الْأَمَدُ : الزمن. فَقَسَتْ :
___________
(1) - مولاكم هل هي مصدر ؟ أى : ولايتكم بمعنى ذات ولايتكم ، أو هي ظرف مكاني بمعنى أنه مكانكم الذي يقال فيه « إنه أولى بكم » .(3/617)
ج 3 ، ص : 617
صارت قاسية لا تلين. الشُّهَداءُ : جمع شهيد ، والمراد به من قتل في سبيل اللّه ، والملائكة تشهد له بالجنة.
المعنى :
أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم ، أى : تلين عند الذكر وسماع القرآن فتفهمه وتنقاد له وتطيعه! أما آن لطائفة من المؤمنين - وهم الذين فترت قلوبهم نوعا ما عن الخشوع - أن تخشع قلوبهم ، وتقبل على امتثال أمر اللّه بأرواح مطمئنة ، ونفوس راضية مرضية ، لأجل تذكيرهم باللّه ، ولأجل استماعهم لوعظ القرآن!! روى عن ابن عباس أنه قال : إن اللّه تعالى استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال سبحانه : أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا ... الآية.
وَلا يَكُونُوا « 1 » كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ نهى اللّه المؤمنين أن يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبلهم كاليهود والنصارى ، فطال عليهم الزمن. وجرفتهم حوادث الأيام فطغت عليهم حتى قست قلوبهم وصارت كالحجارة أو أشد قسوة ، وبعدوا بذلك عن الدين الحق فكتبوا كتبا نسبوها للّه ، والواقع أنها لهم ، هذه الكتب فيها شيء من الحق ، وكثير من الباطل ، فكان منهم لهذا قليل من المؤمنين لم يغيروا ولم يحرفوا ، وكثير منهم فاسقون.
فيا أيها المسلمون : لا تكونوا كهؤلاء ، وقد كان المسلمون كذلك - حافظوا على القرآن ، ولم يغيروا فيه ، ولم يبدلوا ، ولقد صدق اللّه : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ، والحمد للّه كان للأزهر نصيب كبير في المحافظة على عقائد المسلمين ألا ترى إلى عقائد كثير من المسلمين في إيران والعراق وغيرهما ، وإن كان الأزهر الآن ، يجحد فضله الكثير من المصريين ، ولا يعرف فضله حقيقة إلا في غير مصر.
أيها المسلمون : لقد عاتب اللّه المؤمنين في العصر الأول بهذه الآية ، ونحن نعرف للرعيل الأول كله على العموم فضله وسبقه وحسن إيمانه ، وكمال إسلامه فما بالنا نحن
___________
(1) - لا الناهية والواو عاطفة للفعل المنفي بلا على تخشع ، ولذا نصب ، ويصح أن تكون لا ناهية والفعل مجزوم بها وصحح هذا قراءة : ولا تكونوا بالتاء.(3/618)
ج 3 ، ص : 618
الآن!! ألم يأن لنا أن نعود إلى القرآن! ، ألم يأن للمسلمين جميعا في مشارق الأرض ومغاربها أن يهتدوا إلى الحق ، وإلى الصراط المستقيم! ألم يأن لهم أن يثوبوا إلى رشدهم ، ويعودوا إلى صوابهم مرة ثانية ؟ ؟ ولا غرابة في ذلك ، ولا عجب فاللّه يحيى الأرض الجدبة بعد موتها بالنبات والزرع ، وهو القادر على أن يحيى القلوب الميتة بالصدق والإخلاص وحسن الخشوع ، وقوة الإيمان ، قد بين اللّه لكم الآيات لعلكم تعقلون.
إن الذين تصدقوا من الرجال والنساء ، وأقرضوا اللّه قرضا حسنا ، حيث بذلوا أموالهم خالصة لوجه اللّه ، لا يريدون جزاء ولا شكورا ، هؤلاء يضاعف لهم أجرهم أضعافا ، ويعطون في مقابلة الحسنة عشر أمثالها ، وقد يزاد على ذلك إلى سبعمائة ضعف ، ولهم أجر كريم ، وثواب جزيل ، والذين آمنوا باللّه ورسوله إيمانا صادقا كاملا أولئك - والإشارة إلى بعد مرتبتهم وكمال جزائهم - هم الصديقون والشهداء عند ربهم أى : أولئك عند ربهم وفي حكمه بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الرتبة ورفعة المحل ، والصديقون هم الذين سبقوا إلى الإيمان ورسخوا فيه ، والشهداء هم الذين استشهدوا في سبيل اللّه ، وسموا بذلك لأن اللّه والملائكة شهدوا لهم بالجنة ، وقيل : لأنهم أحياء فهم شهود ، لهم أجرهم الكامل ونورهم الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم.
والذين كفروا باللّه ورسوله ، وكذبوا بآياته القرآنية ، والكونية ، أولئك - والإشارة لبعد منزلتهم في النار - أصحاب النار الخالدون فيها الملازمون لها ، وهي لهم وبئس القرار قرارهم.
حقيقة الدنيا والآخرة [سورة الحديد (57) : الآيات 20 الى 21]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)(3/619)
ج 3 ، ص : 619
المفردات :
لَعِبٌ وَلَهْوٌ : هما شيء واحد ، وقيل : اللعب : ما رغب في الدنيا ، واللهو :
ما شغل عن الآخرة. وَزِينَةٌ الزينة : ما يتزين به من اللباس والحلي ونحوها.
وَتَفاخُرٌ : التباهي بالأموال والأولاد. غَيْثٍ : مطر. الْكُفَّارَ أى :
الزراع. وسمى الزارع كافرا لأنه يستر البذر في الأرض وقيل : هم غير المسلمين.
يَهِيجُ : يتحرك إلى أقصى ما يتأتى له. حُطاماً أى : هشيما متكسرا من اليبس.
المعنى :
الدنيا الغرور هي سبب البعد عن الدين ، الدنيا الفانية هي التي يؤثرها ضعفاء العقول والنفوس على الآخرة الباقية ، وهي سبب الإعراض عن اللّه ، والبعد عن الخشوع ، وحبها رأس كل خطيئة ، وهي مركب الشيطان بها يعد الإنسان بالفقر ويأمره بالفحشاء واللّه يعدكم مغفرة منه وفضلا ، فالدنيا هي سبب قسوة القلب ، وتغيير الذمم ، وتحريف أهل الكتاب الكلم من بعد مواضعه ، وهي التي تدعو إلى الشح وعدم البذل ، هذه الدنيا ما هي!! أليس من الخير أن نعرفها على حقيقتها.
اعلموا أيها الناس أن الدنيا عرض زائل ، ومتاع حائل كل ما فيها لعب يتعب صاحبه ، ولا خير فيه كلعب الصبيان ، وكل ما فيها لهو يشغل الإنسان عما ينفعه(3/620)
ج 3 ، ص : 620
ويفيده ، وهي لعب ولهو ، ومتاعها زينة يتزيا به الجهلاء والكفار ، مع أن زينة العقلاء السعداء هي إيمان راسخ ، ويقين ثابت وذكر صاحب النعم وإيمان بوجوده وجودا ذاتيا كاملا وإيمانه بكتبه ورسله واليوم الآخر ذلك هو الإيمان وتلك زينة المؤمنين باللّه ورسله وهي كذلك تفاخر بالأحساب والأنساب وتكاثر في جمع الأموال والأولاد هذه هي مشاغل الدنيا الفانية الزائلة فكل ما يشغل عن الآخرة فهو الدنيا أما الدنيا عند المؤمن الصحيح فهي قنطرة الآخرة وممر لها يعمل فيها وينتفع ببعض مباهجها وزينتها ولكنه دائما يذكر اللّه ولا ينساه ، ويستعين بالدنيا على تحصيل الثواب والأجر الذي ينفعه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم.
هذه الدنيا الفارغة سريعة الزوال والانصرام. فهي كمثل غيث نزل بأرض فأنتج زرعا أعجب الكفار نباته أما المسلمون حقا فهم لا يعجبون به ولا يغترون بل إذا رأوه قالوا : ما شاء اللّه ولا قوة إلا باللّه! وذكرهم هذا بربهم الواحد الأحد.
عيون من لجين شاخصات على أطرافها ذهب سبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن اللّه ليس له شريك
والكافر لا يتخطى نظره الماديات وقيل : المراد بالكفار : هم الزراع مطلقا ، هذا النبات الذي أعجب الزراع لا يلبث أن تراه قد هاج ووصل إلى أقصى ما يتأتى له ، فتراه عقيب ذلك مصفرّا ينذر بالنهاية ، ثم يكون حطاما متكسرا يابسا بعد خضرة يانعة ، كل ذلك في وقت وجيز.
هكذا الدنيا تقبل سريعة ثم تزداد وتقوى زمنا يسيرا ثم تراها وقد انفضت من حولك أو خرجت منها ، كما يخرج الإنسان من الدنيا صفر اليدين إلا من العمل الصالح.
وفي الآخرة عذاب شديد للعصاة والمذنبين ، وفيها مغفرة ورضوان من اللّه كبير وما الحياة الدنيا إلا متاع يغتر به من يطمئن له.
سابقوا أيها العقلاء إلى ما يكون سببا للمغفرة « 1 » والرضوان من ربكم ، وسارعوا مسارعة السابقين إلى جنة عرضها كعرض السماء والأرض ، أعدت للذين آمنوا باللّه
___________
(1) - مجاز مرسل علاقته السببية.
ا لتفسير الواضح ، ج 3 ، ص : 621
ورسوله وعملوا الخير كالإنفاق في السراء والضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس.
وعمل الطيبات.
ذلك فضل من اللّه يؤتيه من يشاء ، واللّه ذو الفضل العظيم.
الأمر كله للّه [سورة الحديد (57) : الآيات 22 الى 24]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
المفردات :
مُصِيبَةٍ هي لغة : كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر ، وخصها العرف بالشر. نَبْرَأَها : نخلقها. تَأْسَوْا : تحزنوا. مُخْتالٍ فَخُورٍ : المتكبر ، والفخور : المباهي بماله أو جاهه.
المعنى :
يعالج القرآن الكريم مرضا في النفوس قد يحول دون الجهاد والبذل في سبيل اللّه ، فإن الإنسان قد يترك هذا خوفا من الفقر أو القتل ، ولكنه إذا علم أن للقدر سهاما لا ترد ،(3/621)
ج 3 ، ص : 622
وأن ما قدر لا بد أن يكون .. قاتل بقلب المؤمن الواثق في اللّه ، وأنفق عن سعة واثقا أن في السماء الرزق ، وأن الجود لا يفقر ، وأن الإقدام لا يقتل إذ الأمر كله للّه أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ « 1 » ما أصابتكم مصيبة في الأرض أيا كان نوعها من جدب أو هلاك حرث أو نسل أو إصابة في أنفسكم كمرض أو قتل أو فقر ، ما أصابت الخلق إصابة إلا كانت في كتاب من قبل أن نخلقها ، وتظهر للعيان ، فالدنيا رواية تظهر على الخيالة ، ولكنها أعدت من قبل أن يخلق الخلق ، إن ذلك كله على اللّه يسير.
أخبركم الحق - تبارك وتعالى - لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ، ولا تفرحوا بما آتاكم ، فإن من علم أن ما قدر أزلا لا بد من حصوله حتما لم يفرح لشيء لم يكن ليخطئه ، ولا يحزن على شيء لم يكن ليدركه ، فالمؤمن عند المصيبة يصبر ، ومع الغنيمة يشكر ، والفرح والحزن المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز ، واللّه لا يحب كل متكبر مغتر بنفسه ، فخور بماله أو جاهه على الناس فإن النعمة من اللّه لا من نفسه.
والمختال الفخور غالبا يكون بخيلا لأنه لا يرى لغيره حقا عليه ، على أنه شحيح النفس قصير العقل ويأمر الناس بالبخل ، وينهاهم عن البذل ، ومن يعرض عن تلك الأدوية الإلهية ، فإن اللّه هو الغنى عنه ، المحمود في السماء والأرض فليس في حاجة إليه.
أسس الحكم في الإسلام [سورة الحديد (57) : آية 25]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
___________
(1) - سورة النساء آية 78.(3/622)
ج 3 ، ص : 623
المعنى :
تاللّه لقد أرسلنا رسلنا كلهم بالحجج والمعجزات ، مؤيدين بالبرهان والآيات وأنزلنا معهم الكتاب ، أى : جنسه الشامل لكل كتاب كالتوراة والزبور والإنجيل والقرآن وأنزل معهم الميزان ، أى : العدل في الأحكام ، أى : أمر الرسل بذلك وهم أولو الأمر ومن يأتى بعدهم خلفا لهم كذلك ، إذ هم الحراس على تنفيذ الأحكام.
أنزل الكتب من السماء ، وأمر بالعدل في كل شيء ليقوم الناس بالقسط في معاشهم ومعادهم ، وفي كل أمورهم الدينية والدنيوية.
وأنزل الحديد - خلقه وأنشأه - فيه بأس شديد ، وقوة صارمة.
اللّه سبحانه قرن إنزال الكتب ، والأمر بالعدل بإنزال الحديد ، وفي هذه إشارة إلى أن الكتاب يمثل القوة التشريعية ، والعدل يمثل القوة القضائية ، وإنزال الحديد يمثل القوة التنفيذية ، فإن تشريع السماء لا بد له من قاض يحكم به بالعدل ، ولا بد لها من قوة تنفذ حكمها ، فإن الحق وحده لا يسير إلا بالقوة ، وكل ذلك ليقوم الناس بالقسط فإن الظلم من شيم النفوس وطبائعها.
وفي الحديد بأس شديد ، وفيه منافع للناس. أليس هذا الكلام من أربعة عشر قرنا ، في الوقت الذي لم يعرف العالم للحديد فيه كل منافعه ، أليس هذا دليلا صادقا على أن محمدا ما قال هذا الكلام من عنده ، وإنما هو الوحى الصادق من عند اللّه العالم بكل شيء ، وأما منفعة الناس بالحديد فأمر ظاهر معروف لكل من عاش في هذا العصر ، خلق اللّه كل ذلك لينتفع الناس ، وليعلم اللّه من ينصره ، وينصر رسله بالغيب ، يا سبحان اللّه! كأن اللّه شرع الأحكام ، وأمرنا بالعدل فيها ثم أرشدنا إلى السلاح والحديد لنعلم أنه لن تقوم قيامة هذا الدين إلا بالجهاد والاستعداد التام للحرب ، والاستعداد للحرب يمنع الحرب كما يقولون ، ولقد أضمر اللّه لفظ « لينتفع الناس » « 1 » وأظهر قوله : وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ للإشارة إلى أن هذا هو المقصود وأن نفع الناس نفعا ماديا مقدمة له ، إن اللّه لقوى عزيز ، وهذا تذييل محكم في
___________
(1) - هي المعطوف عليه ، وهي مقدرة قطعا لوجود العاطف.(3/623)
ج 3 ، ص : 624
نهاية الآية للإشارة إلى أن تكليفهم الجهاد وتعريضهم للجهاد وتعريضهم للقتال ليس عن حاجة له سبحانه ، ولكن لينتفعوا هم بالجرأة على الجهاد.
الغرض من إرسال الرسل [سورة الحديد (57) : الآيات 26 الى 29]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)(3/624)
ج 3 ، ص : 625
المفردات :
قَفَّيْنا قفى أثره : اتبعه ، وقفى على أثره بفلان : أتبعه إياه ، وعليه قوله : قفينا على آثارهم برسلنا ، والمراد جعلناهم تابعين متأخرين عنهم في الزمان. رَأْفَةً وَرَحْمَةً وهما : شيء واحد ، قال بعضهم : إذا اجتمعا كانت الرأفة درء الشر ورأب الصدع ، وكانت الرحمة جلب الخير والمودة. وَرَهْبانِيَّةً الرهبنة والرهبانية : هي المبالغة في العبادة والرياضة الروحية ، والانقطاع عن الناس مع حمل النفس على المشقة والامتناع عن لذيذ المطعم والمشرب والنكاح. كِفْلَيْنِ الكفل : الحظ والنصيب :
وهو في الأصل كساء يكتفل به الراكب فيحفظه من السقوط ، وعلى ذلك فالمراد :
يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلاك المعاصي.
المعنى :
وتاللّه لقد أرسلنا نوحا ، وهو الأب الثاني للبشر ، وأرسلنا إبراهيم وهو أب العرب ، وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ، فكل الأنبياء من نسلهما ، فكان من الذين أرسل إليهم رسل مهديون ، وكان كثير منهم فاسقون ، وتلك سنة اللّه مع الأنبياء جميعا ، ولن تجد لسنة اللّه تبديلا ، ثم أتبعناهم بعيسى بن مريم ، فجاء متأخرا عنهم في الزمان ، وآتيناه الإنجيل الصحيح الذي لم يحرف بعد ، لا الإنجيل الذي هو موجود عند المسيحيين اليوم ، فإن فيه التثليث والصلب ، واللّه هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، واللّه قد نجى الأنبياء أولى العزم من أعدائهم وعصمهم من الكفار بهم فنجى نوحا من الغرق ، ونجى إبراهيم من النار ، ونجى موسى من فرعون ، ونجى عيسى من اليهود ، ونجى محمدا من كيد المشركين ، وكفاهم جميعا شر المستهزئين ، على أن نظرية الصلب التي في الإنجيل الموجود نظرية دليل بطلانها معها ، ولا يقبلها عقل ، ولا تقرها شريعة ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون وجعل ربك في قلوب حوارى المسيح وأصحابه السابقين رأفة ورحمة « رحماء فيما بينهم » .(3/625)
ج 3 ، ص : 626
وجعل في قلوبهم رهبانية مبتدعة لهم ، فهم ابتدعوا رهبانية من عند أنفسهم ، ما فرضناها عليهم رأسا ، ولكن ابتدعوها وألزموا بها أنفسهم ابتغاء رضوان اللّه « 1 » فما رعوها حق رعايتها وما حافظوا عليها إذ أصبحت كالنذر عندنا ، والنذر يذم صاحبه إذا ترك الوفاء به ، والذين لم يرعوها هم المتأخرون ، والذين ابتدعوها هم السابقون.
فآتينا الذين آمنوا منهم إيمانا صحيحا سليما - سواء مات قبل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أو عاش حتى أسلم به - أجرهم ، وكثير منهم فاسقون لأنهم لم يؤمنوا بالإنجيل الصحيح فلم يؤمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
يا أيها الذين آمنوا باللّه ورسله وداوموا على تقوى اللّه وعلى الإيمان بالرسول صلّى اللّه عليه وسلّم إن تفعلوا ذلك يؤتكم بسبب ذلك نصيبين عظيمين يكفلان لكم الخلوص من هلاك المعاصي ، ويجعل لكم نورا تمشون به ، ويغفر لكم ، واللّه غفور رحيم ، وقيل المعنى :
يا أيها الذين آمنوا بعيسى اتقوا اللّه وآمنوا بمحمد يؤتكم كفلين من رحمته كفل على الإيمان بعيسى وكفل على الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
أعلمناكم بذلك ليعلم أهل الكتاب القائلون من آمن بكتابكم منا فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم ليعلم هؤلاء أنهم لا ينالون شيئا من فضل اللّه ، أى :
من الأجرين أو غيرهما ، ولن يصيبهم خير ما لم يؤمنوا بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فإيمانهم بالنبي عيسى لا ينفعهم بعد بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين ، فقولهم للمسلمين : من لم يؤمن بكتابكم منا فله أجر : باطل باطل.
واعلموا أن الفضل بيد اللّه وحده يؤتيه من يشاء ، واللّه ذو الفضل العظيم.
___________
(1) - على هذا المعنى تكون جملة (ما كتبناها عليهم) صفة رهبانية ، و(إلا ابتغاء) استثناء منقطع ، ويصح أن يكون متصلا على معنى : ما قضيناها عليهم وجعلناهم يبتدعونها لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا رضوان اللّه.(3/626)
ج 3 ، ص : 627
سورة المجادلة
مدنية على الصحيح ، وعدد آياتها اثنتان وعشرون آية.
وهي كيفية السور المدنية تعالج أمراض المجتمع ببيان التشريع السليم للمشكلات وبيان الآداب الإسلامية في المجتمعات ، مع لفت أنظار المسلمين إلى أعدائهم في الدين وتحديد علاقتهم بهم.
الظهار وحكمه وكفارته [سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)(3/627)
ج 3 ، ص : 628
المفردات :
تُجادِلُكَ : تراجعك. يَظْهَرُونَ أى : يقولون لنسائهم : أنت على كظهر أمى ، أى : في الحرمة. مُنْكَراً أى : قولا منكرا ينكره الشرع ، ويأباه الطبع السليم. وَزُوراً : كذبا وبهتانا. فَتَحْرِيرُ أى : فعتق إنسان مؤمن كامل. أَنْ يَتَمَاسَّا أى : بالنكاح أو المتعة. تُوعَظُونَ أى : تزجرون به حتى لا تعودوا لمثله أبدا.
كانت خولة بنت خويلد « 1 » الخزرجية تحت أوس بن الصامت أخى عبادة بن الصامت ، وكانت حسنة الجسم فرآها زوجها ساجدة فنظر عجيزتها فأعجبه أمرها ، فلما انصرفت أرادها فأبت فغضب عليها - قال الراوي : وكان أوس شخصا به شيء من جنون - فأصابه بعض حالاته فقال لها : أنت على كظهر أمى! وكان الإيلاء - وهو حلف الرجل على امرأته ألا يطأها مدة - والظهار من الطلاق في الجاهلية ، فسألت خولة - وقد سمعت زوجها يظاهرها - النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن ذلك
فقال لها : « حرمت عليه »
فقالت : واللّه ما ذكر طلاقا ، ثم قالت : أشكو إلى اللّه فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وابن عمى ، وقد نفضت له بطني ،
فقال النبي : « حرمت عليه »
فما زالت تراجعه ويراجعها حتى نزلت عليه هذه الآية.
المعنى :
قد سمع اللّه قول المرأة التي تجادلك في شأن زوجها - وهي خولة بنت ثعلبة - والحال أنها تشتكي إلى اللّه ضعفها وقلة حيلتها ، وفراقها لزوجها ووحشتها ، واللّه هو السميع بذاته لكل مسموع ، البصير بذاته لكل مبصر ، تقول عائشة - رضى اللّه عنها - : تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إنى لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ، ويخفى على بعضه ، وأنا وهي في حجرة واحدة ، سمعتها وهي تشتكي زوجها إلى رسول اللّه قائلة :
يا رسول اللّه أكل شبابي ، ونثرت له بطني ، حتى إذا كبر سنى وانقطع ولدي ظاهر
___________
(1) - وفي رواية هي خولة بنت ثعلبة ، ولا حرج إذ قد تنسب المرأة إلى أبيها أو جدها.(3/628)
ج 3 ، ص : 629
منى ، اللهم إنى أشكو إليك! فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية. فحقّا : إن اللّه سميع بصير بخلقه.
هذه الفعلة التي هي عملية الظهار - قول الرجل لزوجه : أنت علىّ كظهر أمى - فتصبح محرمة عليه ، ولا تعود إلا إذا كفّر كما سيأتى - هذه الفعلة ما حكمها ؟ .
الواقع أن الظهار ممقوت شرعا ، وهو قول منكر وزور ، إذا أمك هي التي ولدتك وزوجك هي زوجك فلا يصح أن تجعل زوجك محرمة عليك كأمك أبدا.
أبعد أن يقول اللّه : إن الظهار منكر من القول وزور وبهتان ، وإنه لعفو غفور عما فرط ؟ هل يشك عاقل في أن الظهار أمر محرم شرعا ولا يصح فعله ؟
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ ... وهذا تفصيل لحكم الظهار ، وبيان لحكمه الخاص بعد بيان حكمه العام الذي يفيد أنه منكر وزور.
والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لقولهم ، أى : فيه ، فعليهم كفارة شديدة والعود في الظهار لأنه مطلق في الآية اختلف فيه أئمة الفقه الإسلامى فالعود عند الشافعى يحصل بإمساك الزوجة المظاهر منها زمانا بعد الظهار يمكنه مفارقتها فيه ولم يفعل ، فيعتبر عائدا في ظهاره ، أى : أنه ظاهر ولم يتبعه بطلاق فيكون عائدا ، وعند الأحناف يحصل باستباحته الاستمتاع بها مطلقا ، وعند مالك يحصل بالعزم على الجماع وعند بعضهم بالجماع نفسه ، والآية تحتمل كل هذا ، ولم تخصص السنة الصحيحة شيئا.
هذه الكفارة الواجبة على الزوج المظاهر العائد في ظهاره هي : عتق رقبة مؤمنة سليمة من كل عيب ، هذا العتق يكون قبل أن يتماس الزوجان بالوطء ، فلا يقرب المظاهر من امرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ بها بشيء حتى يكفر ، خلافا لمن يقول : المحرم الوطء فقط ، فإن وطئها قبل التكفير استغفر اللّه وأمسك حتى يكفر كفارة واحدة فقط وإن وطئها مرارا ، ذلك - والإشارة إلى هذه الكفارة المشددة - تؤمرون به ، وتزجرون عن ارتكاب مثل هذا المنكر ، فليس هذا الحكم المشدد لتكتسبوا ثوابا ، بل هو للردع والزجر عن ارتكاب ما يسببه الظهار فمن لم يجد الرقبة ليعتقها فعليه صيام شهرين متتابعين فإن أفطر فيهما لعذر قيل : لا ينقطع التتابع ، وقيل : ينقطع ، أما إفطاره(3/629)
ج 3 ، ص : 630
لغير عذر شرعي فإنه يقطع التتابع ويعيد من الأول ، وهذا الصيام من قبل أن يتماسا كما في الكفارة ، فمن لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكينا من قبل أن يتماسا ، لكل مسكين مد ، وقيل : بل أكثر من المد « 1 » ، والمراد إشباع ستين مسكينا يوما بغالب قوت البلد.
ذلك الذي وصفناه من التغليظ في الكفارة لتكونوا مطيعين للّه تعالى ، واقفين عند حدود الشرع لا تتعدوها ، لئلا تعودوا للظهار الذي هو منكر شرعا وزور وبهتان ، إذ فيه انفصام عرى الزوجية ، والشرع حريص كل الحرص عليها ، وسمى التكفير إيمانا لأنه طاعة ، وتلك حدود اللّه التي تبين معصيته من طاعته ، فالظهار معصية بلا شك والكفارة له طاعة ، وللكافرين بأحكام الشرع عذاب أليم في جهنم.
اللّه بكل شيء محيط [سورة المجادلة (58) : الآيات 5 الى 7]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (7) ___________
(1) - المد : نصف قدح بالكيل المصرى ، وعلى هذا فالملوة أربعة أمداد.(3/630)
ج 3 ، ص : 631
المفردات :
يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ : يعادونهما ويشاقونهما لأن كلا من المتعادين يكون في حد وجهة. كُبِتُوا : أهينوا وذلوا. نَجْوى المراد : التناجي ، أى :
المسارة ، مأخوذ من النجوة : وهي ما ارتفع من الأرض لأن المتسارين يخلوان بنجوة من الأرض.
المعنى :
أن الذين يحادون اللّه ورسوله ، ويعادونهما بمخالفتهما ، واتخاذ حدود غير حدودهما ، وأحكام غير أحكامهما ، هؤلاء كبتوا وأذلوا ، وسيجزيهم اللّه خزيا مؤكدا ، كما أذل من قبلهم من الكفار وأخزاهم ، والحال أنا قد أنزلنا آيات بينات واضحات في من حاد اللّه ورسوله من الأمم قبلهم ، وفيما فعلنا بهم ، وللكافرين بتلك الآيات - ويدخل معها آيات القرآن من باب أولى - عذاب مهين يذهب بعزهم وكبرهم يوم يبعثهم اللّه جميعا بحيث لا يبقى منهم أحد ، فينبئهم بما عملوا من القبائح.
كيف ينبئهم بأعمالهم كلها ؟ الجواب : أحصاه اللّه تعالى عددا ، ولم يفته - سبحانه - منه شيء ، والحال أنهم قد نسوه ، واللّه على كل شيء شهيد ، لا يغيب عنه أمر من الأمور.
هذا استشهاد آخر على شمول علمه ، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ، بمعنى ما يقع من تناجى ثلاثة أو مسارة بينهم إلا كان اللّه رابعهم فيعلم نجواهم كما لو كان رابعهم في التناجي ، ولا تكون النجوى بين خمسة إلا هو سادسهم ، ولا أدنى من ذلك عددا ، ولا أكثر إلا هو معهم بذاته علما وإحاطة أينما كانوا ، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ، ويجازيهم عليه ، إن اللّه بكل شيء عليم ، وهذا تذييل محكم.(3/631)
ج 3 ، ص : 632
آداب المناجاة في الإسلام [سورة المجادلة (58) : الآيات 8 الى 10]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
المفردات :
بِالْإِثْمِ : هو ما حاك في صدرك وخفت أن يطلع عليه غيرك. الْعُدْوانِ المراد : عداوة الرسول والمسلمين. حَيَّوْكَ المراد : خاطبوك بالتحية ، وفي المصباح : حياة تحية دعا له بالحياة ، ومنه التحيات للّه ، أى : البقاء ، ثم كثر استعمالها في مطلق الدعاء ، ثم استعملت شرعا في دعاء مخصوص وهو : السلام عليكم.
حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ : كافيهم عذابها. بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى أى : بالطاعة والبعد عما نهى اللّه.
سبب النزول :
قال ابن عباس : نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم ، فيقول المؤمنون : لعلهم بلغهم عن إخواننا وقرابتنا من المهاجرين والأنصار قتل أو مصيبة أو هزيمة أو يسوؤهم ذلك فشكوا إلى رسول اللّه فنهاهم - أى : اليهود والمنافقين - عن النجوى فلم ينتهوا فنزلت الآية : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى .(3/632)
ج 3 ، ص : 633
و
روى البخاري أن اليهود أتوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا : السام عليك - أى : الموت عليك - قالت عائشة : ففهمتها. فقلت : عليكم السام ولعنكم اللّه ، وغضب عليكم ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : مهلا يا عائشة ، عليك بالرفق ، وإياك والعنف والفحش ، قالت : أو لم تسمع ما قالوا ؟ قال : أو لم تسمعي ما قلت ورددت عليهم ؟ فيستجاب لي فيهم ، ولا يستجاب لهم وفي رواية أخرى : فأنزل اللّه تعالى :
وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ.
المعنى :
إن أمر هؤلاء الذين يؤمرون بترك شيء ، وينهون عنه ثم يعودون إليه - إن أمر هؤلاء - لعجيب. ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى من المنافقين واليهود ؟ ! حينما شكاهم المسلمون للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فنهاهم عن ذلك ، فعادوا لمثل فعلهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ ؟ ! « 1 » ، ومع ذلك فهم يتناجون بما هو إثم عند أنفسهم ، ووبال عليهم لأن ضرره عائد لهم ، وبما هو عدوان على المؤمنين ، وبما هو تواص بمخالفة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم انظر إلى هؤلاء أيها المسلم ، واحذر أن تكون ممن يتناجى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول التي هي رمز لانتهاك القانون العام.
ولقد جر ذكر بعض صفاتهم إلى ذكر صفة أخرى ، تدل على سوء القصد ، وخبث النية ، فهؤلاء المنافقون واليهود كان يأتى بعضهم إلى النبي ، ويحييه بتحية لم يشرعها اللّه ، ولم يأذن بها ، وهي قولهم : السام عليك ، يريدون الدعاء عليه بالموت والهلاك ، فكان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يرد عليهم قائلا : وعليكم. ويا ليتهم وقفوا عند هذا الحد ، بل يقولون في أنفسهم : هلا يعذبنا اللّه بما نقول! والمراد لو كان محمد نبيا لعذبنا اللّه بسبب قولنا هذا. واللّه يرد عليهم بقوله الفصل : حسبهم جهنم وكفى! يدخلونها ، ويصطلون بنارها ، فبئس المصير مصيرهم.
___________
(1) - الاستفهام في الآية للإنكار والتعجب ، والتعبير بالمضارع في (يعودون) للدلالة على تكرار عودتهم وتجددها واستحضار صورتها العجيبة.(3/633)
ج 3 ، ص : 634
يا أيها الذين آمنوا : إن مقتضى هذا الإيمان أن تمتثلوا أمر اللّه ، وتبتعدوا عن كل ما يتنافى مع الإيمان الصحيح وخاصة التناجي بالإثم والعدوان ، فلا تتناجوا كما يتناجى المنافقون واليهود ، ولكن تناجيكم المشروع بالبر والتقوى ، وبالخير الصالح ، واتقوا اللّه في السر والعلن فإنه مطلع عليكم ، ثم إليه تحشرون.
روى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : « إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتّى تختلطوا بالنّاس من أجل أن يحزنه »
أى : من أجل أن يقع في نفسه ما يحزن لأجله إذ كثيرا ما يفهم أن الحديث عنه بما يكره.
إنما التناجي سرّا أى : مع وجود من يظن شرّا من تزيين الشيطان ليحزن الذين آمنوا إذ قد فهموا من تناجى اليهود والمنافقين أن إخوانهم أصيبوا بشر ، وليس التناجي بضارهم في شيء إلا بإذن اللّه ، وعلى اللّه وحده فليتوكل المؤمنون ، انظر إلى أدب القرآن في المناجاة ، وكيف يوجهها إلى البر والتقوى ، ويمنعها عن الإثم والعدوان ؟ !
من أدب الإسلام في المجالسة [سورة المجادلة (58) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
المفردات :
تَفَسَّحُوا : توسعوا ، يقال : فسح فلان لأخيه في مجلسه يفسح فسحا ، أى :
وسع له. انْشُزُوا يقال : نشز ينشز : إذا انتحى من موضعه ، أى : ارتفع منه ، وامرأة ناشز ، أى : منتحية عن زوجها ، وأصل النشز : ما ارتفع من الأرض وتنحى.(3/634)
ج 3 ، ص : 635
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا باللّه ورسوله ، وتحلوا بالخلق القرآنى : إذا قيل لكم : توسعوا في المجالس لإخوانكم فوسعوا يوسع اللّه لكم ، فمن أفسح لأخيه في مجلسه ، وأكرمه وسع اللّه عليه وأكرمه إذ الجزاء من جنس العمل.
روى أن هذه الآية نزلت يوم الجمعة ، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يومئذ في الصفة وفي المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء أناس من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شماس ، وقد سبقوا في المجلس ، فقاموا حيال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فلم يفسحوا لهم ، فشق ذلك على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال لمن حوله من غير أهل بدر : قم يا فلان وأنت يا فلان »
بعدد القائمين من أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم ، وعرف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الكراهية في وجوههم ، فغمز المنافقون وتكلموا بأن قالوا : ما أنصف هؤلاء وقد أحبوا القرب من نبيهم فسبقوا إلى المكان ، فأنزل اللّه - عز وجل - هذه الآية.
فمن الآداب الإسلامية أن المكان لمن سبق ، وأن الرجل لا يقام من مجلسه ليجلس فيه آخر ، ولكن من الأدب أن تفسح لأخيك في المجلس ، توسع له من غير أن تضار.
وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للقادم : فمنهم من أجازه محتجاّ
بحديث « قوموا إلى سيّدكم »
وقيل : هذا في الحاكم ورئيس القوم بشرط ألا يتخذ عادة وشعارا كما نفعل الآن ، ومنهم من منع ذلك محتجاّ
بحديث « من أحبّ أن يتمثّل له الرّجال قياما فليتبوّأ مقعده من النّار »
. وكان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يجلس حيث ينتهى به المجلس.
وإذا قيل لكم : انشزوا ، وانهضوا للخير فانشزوا وارتفعوا يرفع اللّه الذين آمنوا منكم - وخاصة العلماء - يرفعهم درجات في الدنيا والآخرة ، واللّه بما تعملون خبير.
نجوى الرسول [سورة المجادلة (58) : الآيات 12 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)(3/635)
ج 3 ، ص : 636
المفردات :
أَأَشْفَقْتُمْ : أخفتم الفقر من تقديم صدقة بين يدي نجواكم ؟
كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سمحا كريم الخلق لين الجانب لهذا كثرت مناجاة الناس له في غير حاجة ، وما دفع أكثرهم إلا حب الناس التظاهر فنزلت هذه الآية.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا إذا أردتم مناجاة الرسول والتحدث إليه سرّا في أمر من الأمور ، فقدموا بين يدي « 1 » نجواكم صدقة ، أى : فتصدقوا قبلها ، ولعل السر في ذلك تعظيم الرسول ، ونفع الفقراء ، وتمييز المخلص من المنافق ، ومنع تكاثر الناس عليه بدون حاجة ، وذلك التقديم خير لكم وأطهر ، فإن لم تجدوا شيئا فإن اللّه غفور رحيم ، وهل الأمر في ذلك للندب ، أو هو للوجوب ثم نسخ بالآية الآتية ؟ قولان : على أن الصدقة هنا لم تحدد لتشمل القليل والكثير ، والمشهور أنه لم يعمل بهذه الآية غير علىّ ،
فقد روى عن علىّ - رضى اللّه عنه - أنه قال : إنه في كتاب اللّه تعالى آية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي هي آية النجوى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ.
___________
(1) - في الكلام استعارة بالكناية حيث شبه النجوى بالإنسان وحذفه ورمز إليه بشيء من لوازمه ، وهو اليد ، ويصح أن يكون في التركيب استعارة تمثيلية.(3/636)
ج 3 ، ص : 637
فلما نزل قوله تعالى : أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ
قال صلّى اللّه عليه وسلّم : « خفّف اللّه عن هذه الأمّة » .
وهكذا الإنسان شحيح بطبعه ، محب للمال بغريزته ، فإن لم تفعلوا ما ندبتم إليه أو ما أمرتم به هنا ، وقد تاب عليكم ، ورخص لكم المناجاة بدون صدقة ، مع أنها خير لكم وأطهر إن لم تفعلوا فأقيموا الصلاة لتقوم نفوسكم ، وأدوا الزكاة لتطهر أموالكم ، وتحصنها ، وأطيعوا اللّه ورسوله ، واللّه خبير بما تعملون.
ومن هنا يجب أن نعلم أنه يستحسن أن تقدم خيرا عند طلبك من اللّه شيئا وقبل دعائك له!
موالاة غير المؤمنين [سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 22]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)(3/637)
ج 3 ، ص : 638
المفردات :
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ : غلب على عقولهم. حِزْبُ الشَّيْطانِ : أتباعه وأنصاره. يُوادُّونَ : يصادقون. أَوْ عَشِيرَتَهُمْ العشيرة : هي الأهل والأقارب. بِرُوحٍ مِنْهُ : بقوة وطمأنينة من عنده.
المعنى :
انظر يا من يتأتى منه النظر - متعجبا - إلى الذين تولوا قوما غضب اللّه عليهم ، وهم اليهود ، وقد تولاهم المنافقون يسرون إليهم بالمودة ، ويحلفون لهم إنهم لمعكم ، ويعلم اللّه أن المنافقين لكاذبون ، كيف يتولون قوما غضب اللّه عليهم ؟ حالة كونهم ما هم منكم ، ولا منهم ، أى : هؤلاء الذين تولوا اليهود ليسوا من المؤمنين الخلص ، ولا من الكافرين الخلص بل هم مذبذبون بين ذلك ، لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء « 1 » .
___________
(1) في هذا إشارة إلى أن « ما هم منكم ولا منهم » جملة حالية من فاعل (تولوا) ويصح أن تكون استئنافية ، والمعنى واحد ، ويصح أن تكون صفة لقوم ، والمعنى : قوما هم اليهود ليسوا منكم أيها المسلمون ولا من المنافقين ، ومع هذا تولوهم.(3/638)
ج 3 ، ص : 639
روى أن هذه الآية نزلت في عبد اللّه بن نبتل ، المنافق - وكان أزرق أسمر قصيرا خفيف اللحية - وكان صلّى اللّه عليه وسلّم يجالسه ، ثم يرفع حديثه إلى اليهود ، فبينا نحن جلوس مع النبي في إحدى حجراته إذ قال : « يدخل عليكم الآن رجل قلبه جبّار وينظر بعيني شيطان » فدخل عبد اللّه بن نبتل ، فقال النبي له : علام تشتمني أنت وأصحابك ؟
فحلف باللّه ما فعل ، فقال له النبي : « فعلت » فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا باللّه ما سبوه ، فنزلت الآية
. وهذا معنى قوله تعالى : وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ « 1 » نعم حلفوا باللّه أيمانا فاجرة ، وهم يعلمون أنهم كاذبون ، وتلك هي اليمين الغموس.
هؤلاء أعد اللّه لهم عذابا شديدا ، وهو الدرك الأسفل من جهنم ، إنهم بئس العمل عملهم ؟ هؤلاء اتخذوا أيمانهم الفاجرة الكاذبة جنة ووقاية لهم حتى أمنوا القتل ، وفي قراءة « إيمانهم » أى : الظاهري كان وقاية لهم من القتل ، فصدوا المؤمنين عن سبيل اللّه ، وهو جهادهم بقتلهم وأخذ أموالهم ، وقيل : صدهم عن سبيل اللّه بإلقاء الأراجيف وتثبيط المسلمين عن الجهاد وتخويفهم من القتل ، وقد كان المنافقون كذلك ، ويترتب عليه أن لهم عذابا ذا إهانة في الدنيا والآخرة ، لن تنفعهم أموالهم التي جمعوها ، ولا أولادهم الذين يعتزون بهم ، ولن يغنوا عنهم من عذاب اللّه شيئا من الإغناء ، وكيف تنفعهم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ؟ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
اذكر يوم يبعثهم اللّه جميعا فيحلفون له أنهم مؤمنون ، وما علموا أن ذلك لا ينفعهم أبدا ولا يليق بعاقل أبدا ، يحلفون للّه كما يحلفون لكم ، ويحسبون أنهم على شيء من منفعة بسبب يمينهم ، ألا إنهم هم الكاذبون المبالغون في الكذب ، حيث كذبوا بين يدي علام الغيوب يوم القيامة في الحال التي يؤمن فيها الفاجر ، فلا عجب إذ يحلفون لكم الآن ، ولسائل أن يسأل عن السبب في هذا ، والجواب : أنه استحوذ عليهم الشيطان فملك عنانهم ، وغلب على عقولهم حتى اتبعوه بلا عقل ولا روية ، وهذا هو سبب كذبهم وضلالهم السابق ، استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر اللّه ، حتى نسوا أنفسهم
___________
(1) - جملة استئنافية مسوقة لتعليل خسرانهم. [.....](3/639)
ج 3 ، ص : 640
فتركوها ترتكب الآثام والأباطيل ، أولئك - والإشارة لبعدهم في الغواية والبهتان - حزب الشيطان وجماعته المتجمعون على الإثم والعدوان ، ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ، وأى خسارة بعد هذا ؟
إن الذين يحادون اللّه ورسوله « 1 » بمخالفة أمره ، واتباع الشيطان أولئك في عداد الأذلين ، لأن العزة للّه ولرسوله وللمؤمنين. وما سبب ذلك! الجواب : كتب اللّه لأغلبن أنا ورسلي ، أى : قدر وأراد إرادة مؤكدة كأنه أقسم عليها ، ولذا جاء الجواب باللام المؤكدة في قوله : لأغل بن أنا ورسلي وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ « 2 » ولا غرابة إن ربك لقوى قادر عزيز غالب.
لا تجد قوما يؤمنون باللّه ورسوله حقا إيمانا كاملا ، يوادون من حاد اللّه ورسوله بقلوبهم مخلصين ، والغرض من هذا الأسلوب بيان أنه لا ينبغي أن يجتمع في قلب واحد إيمان كامل مع موادة الكفار. وحقه أن يمتنع ، ولا يوجد بحال وهذه مبالغة في النهى عنه والزجر عن سلوك طريقه والمنهي عنه الإخلاص القلبي للكافر ، ولو كان أبا أو ابنا أو أخا أو من العشيرة ، وقد كان الصحابة لا يفضلون على حب اللّه ورسوله شيئا ، بل بعضهم قتل وصفع وأهان بعض أقاربه في سبيل اللّه أولئك الممتثلون أمر اللّه الذين يرون حلاوة الإيمان في حب اللّه ورسوله. وهم بالطبع لا يوادون أعداء اللّه وأعداء الإسلام والقرآن أولئك كتب اللّه في قلوبهم الإيمان وثبته ، وأيدهم بروح من عنده وأنار قلوبهم للحق فاعتنقوه ، وسيدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، رضى اللّه عنهم ، ورضوا عنه أولئك حزب الرحمن المختصون بالقرآن ألا إن حزب اللّه هم المفلحون وحدهم وأى فلاح بعد ذلك ؟ !!
___________
(1) - جملة استئنافية مسوقة لتعليل خسرانهم
(2) - سورة الصافات الآيتان 171 و172.(3/640)
ج 3 ، ص : 641
سورة الحشر
وتسمى سورة بنى النضير ، وهي مدنية بالإجماع ، وعدد آياتها أربع وعشرون آية ، وتشتمل السورة على قصة إجلاء بنى النضير ، وحكم الفيء في الإسلام ، وموقف المنافقين من بنى النضير ، ثم وعظ المسلمين بالتقوى وموجباتها.
إجلاء بنى النضير [سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)(3/641)
ج 3 ، ص : 642
المفردات :
سَبَّحَ لِلَّهِ أى : نزهه وقدسه. لِأَوَّلِ الْحَشْرِ : في وقت أوله ، أى : عند الحشر الأول ، والثاني إخراجهم من خيبر إلى الشام. حُصُونُهُمْ ، جمع حصن وهو : ما يمنع صاحبه من العدو. يَحْتَسِبُوا أى : لم يخطر لهم على بال. وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أى : ألقى فيها الخوف إلقاء كإلقاء الحجارة في البئر.
الْجَلاءَ : الخروج الجماعى. شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ : عادوه حتى كأنهم في شق وهو في شق. لِينَةٍ هي : النخلة مطلقا ، وقيل : هي الكريمة فقط ، وقد تطلق على أغصان الشجر.
إجلاء بنى النضير يحتاج فهمه إلى مقدمة تاريخية بسيطة ، تتلخص في أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حينما هاجر إلى المدينة وادع اليهود ، وعقد معهم العهود على أن لا يقاتلهم ، ولا يقاتلوه. وظل الحال كذلك حتى وقع ما جعل المسلمين يحاصرون بنى قينقاع ويجلونهم عن المدينة ، عقب غزوة بدر ، ثم كانت غزوة أحد التي هزم فيها جيش المسلمين ، وكان لهذا أثر عميق في نفوس المنافقين واليهود ، وقبائل العرب مما كان سببا في حوادث تتابعت كيوم الرجيع - وفيه قتلت هذيل ثلاثة من خيار الصحابة وأسرت ثلاثة قتلت منهم واحدا في الطريق ، وباعت اثنين لقريش قتلوهما ، وهما زيد بن الدثنة وخبيب - ويوم بئر معونة ، وفيه قتل من المسلمين أربعون غيلة. ووجد المنافقون واليهود فيما أصاب المسلمين في بئر معونة والرجيع ، وغزوة أحد ما شجعهم على الانتقاص من محمد وصحبه ، ووجدوا ما أضعف في نفوسهم هيبته ، وفكر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كثيرا في هذا الأمر ، وعمل على تقوية الجبهة الداخلية حتى لا يكون هناك خلاف في وجهة النظر في المدينة وما حواليها ، ورأى النبي من الحكمة السياسة أن يستطلع نوايا اليهود فذهب يوما إلى بنى النضير يسألهم المعونة في دية قتيلين قتلهما أحد المسلمين خطأ وهما من بنى عامر حلفائهم ، ذهب إليهم في عشرة من أصحابه.
فلما ذكر لهم ما جاء من أجله أظهروا الغبطة والسرور ، إلا أنهم بدت فيهم حركة مريبة وأنهم يدبرون قتله على يد عمر بن جحش بن كعب اليهودي بواسطة حجر يلقيه على النبي من فوق السطح وهو جالس بجوار الجدار ، فلما أطلعه اللّه على ذلك خرج الرسول وحده وقصد المدينة ، وظن من معه من الصحابة أنه قام لبعض شأنه فلما(3/642)
ج 3 ، ص : 643
استبطئوا النبي طلبوه فعلموا أنه قصد المدينة ودخل المسجد ، فلما ذكر ما رابه من أمر اليهود ، ومن اعتزامهم الغدر به ، قرر المسلمون إجلاءهم من المدينة حتى يهدأ الجو ، ويصفو ، فأرسل النبي لهم محمد بن مسلمة وقال لهم على لسان الرسول : « اخرجوا من بلادي لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي ولقد أجلتكم عشرا فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه » ضاقت الدنيا في وجه بنى النضير وتشاوروا في أمرهم وبينا هم كذلك إذ جاءهم رسول عبد اللّه بن أبى المنافق يشير عليهم بالبقاء والتحصن ، ويعرض عليهم ألفين من قومه وغيرهم ، فانتهى الأمر فيما بينهم إلى التحصن بالحصون ، وظنوا أنها تمنعهم من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
أما المسلمون فساروا إليهم وحاصروهم عشرين ليلة ، وأمر النبي المسلمين أن يقطعوا نخلهم ويحرقوه حتى لا تبقى اليهود متعلقة بأموالها متحمسة لديارها ، وجزع اليهود ، ونادوا يا محمد : قد كنت تنهى عن الفساد وتعيب من يصنعه ، فما بال قطع النخل وتحريقها!! وفي ذلك نزل قوله : ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها الآية.
المعنى :
يخبر الحق - تبارك وتعالى - بأن جميع ما في السموات وما في الأرض يسبحه ويقدسه ويصلى له ويوحده ، وينقاد له ويسجد تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ « 1 » وكيف لا يكون ذلك كذلك! وهو العزيز الجناب الحكيم الفعال ، ومن مظاهر هذا إجلاء بنى النضير الذي ذكر في قوله تعالى بما معناه : هو الحق سبحانه الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب - وهم بنو النضير - من ديارهم وأموالهم بعد ما نقضوا العهود ، وعادوا الرسول والمؤمنين ، أخرجهم في وقت الحشر الأول من ديارهم.
سبحانه أخرج بنى النضير من ديارهم رغم كثرة عددهم ، ووفرة عددهم ، وقرب بنى قريظة وأهل خيبر منهم ، وعرض المنافقين مساعدتهم عليهم ، لهذا كله ما ظن المسلمون أنهم يخرجون ، وقد ظنوا أن حصونهم تمنعهم من بأس اللّه إذا جاءهم ، فما أغنى عنهم من ذلك شيء أبدا ، وجاءهم من اللّه ما لم يكن ببالهم ، وقد قذف اللّه في قلوبهم الرعب ، وكيف لا ...! والنبي نصر بالرعب من مسيرة شهر ، فكان ما أراد
___________
(1) - سورة الإسراء آية 44.(3/643)
ج 3 ، ص : 644
المسلمون وصالحوهم على أن يخرجوا من ديارهم ، ولكل ثلاثة منهم بعير ، يحملون عليه ما شاءوا من مال أو طعام أو شراب ليس لهم غيره ، فكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم ليأخذوا ما غلا ثمنه وخف حمله يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ وتفكروا في عاقبة من خاف اللّه ورسوله ، ومن لم يخف اللّه ورسوله!! ولو لا أن كتب اللّه عليهم هذا الجلاء لكان لهم عذاب في الدنيا أشد ، وهو القتل والأسر ، ولهم في الآخرة على كفرهم عذاب النار.
ذلك كله بسبب أنهم شاقوا اللّه ورسوله وعادوه ، وأرادوا قتله ، وأطلقوا عليه ألسنتهم وأيديهم بالسوء ، ومن يشاقق اللّه ورسوله ، فإن اللّه شديد العقاب ، وانظر إلى القرآن حيث جعل عداوة الرسول عداوة للّه ، كما أن طاعته كذلك.
وقد كان المسلمون أثناء الحصار يقطعون نخيلهم ويحرقونه ، فقيل : إن هذا سعى في الأرض بالفساد واللّه حرمه ، فأجاب العزيز الحكيم بقوله : ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها كما هي بلا قطع فذلك كله بإذن اللّه وأمره ، وفي هذا خير بلا شك ، واللّه أمر بهذا ليعز المؤمنين ، وليذل ويخزى الفاسقين.
الفيء وحكمه [سورة الحشر (59) : الآيات 6 الى 10]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)(3/644)
ج 3 ، ص : 645
المفردات :
وَما أَفاءَ المراد : ما رده اللّه على رسوله ، والفيء في اصطلاح علماء الإسلام ما أخذ من الكفار بلا حرب ولا إيجاف خيل ، بخلاف الغنيمة ، فإنها ما أخذت بحرب ، ولكل تقسيم يخالف الآخر. فَما أَوْجَفْتُمْ وجف الفرس والبعير وجيفا :
عدا ، وأوجفه : جعله يعدو أى : يسرع في الجري. مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ : الخيل معروفة ، والركاب : هي الإبل خاصة. دُولَةً يقال : تداول القوم الكرة : كانت في يد هذا ثم في يد هذا ، والاسم الدّولة - بضم الدال وفتحها - وقال بعضهم :
الدولة في الملك ، والدولة في الملك. تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ : اتخذوها مباءة ومنزلا مع الإيمان. وَيُؤْثِرُونَ والإيثار : هو تقديم الغير على النفس في أعراض(3/645)
ج 3 ، ص : 646
الدنيا. خَصاصَةٌ : حاجة. شُحَّ نَفْسِهِ الشح : لؤم الطبع ويلزمه البخل مع الحرص. غِلًّا : حقدا وحسدا.
وهذا شروع في بيان حكم الأموال التي أخذت منهم بعد بيان ما حل بهم في الدنيا ، وما أعد لهم في الآخرة ، ثم استطرد فذكر أصناف المؤمنين الذين يستحقون الفيء.
المعنى :
وما أعاده اللّه على رسوله من أموال بنى النضير فما ركبتم لأجلها خيلا ولا إبلا ولا تجشمتم في تحصيلها مشقة ، ولا لقيتم بها حربا ، ولذا كانت هذه الأموال لرسول اللّه بعد تقسيم خمسها على مستحقيه كما في الآية.
ولكن اللّه يسلط رسله على من يشاء من أعدائه ، وفي هذا بيان أن الأموال للرسول وليست لأصحابه لأنهم لم يوجفوا لها خيلا ، ولم يركبوا لها إبلا ، ولم يقاسوا فيها شدة من شدائد الحرب ، واللّه على كل شيء قدير يسلط من يشاء على من يشاء.
وكأن اللّه خلق المال والمتاع ليتقرب به العبد إلى ربه ، فإذا صرف في غير محله ، واستولى عليه الكفار ليصرفوه في غير وجهه فقد خرج عن وضعه الأصلى ، ثم إذا عاد إلى المسلم الذي ينفقه في وجوه الخير فقد عاد إلى الوضع الأول ، ولذا عبر اللّه بقوله :
ما أفاء اللّه على رسوله.
وكأن سائلا سأل وقال : قد علمنا حكم ما أفاء اللّه على رسوله من أموال بنى النضير ، فما حكم الفيء إذا كان من غيرهم ؟ والجواب هو : ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى فللّه وللرسول ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل.
والفيء يقسم خمسة أقسام : خمس منها يقسم خمسة أخماس : سهم للّه وللرسول ، كان له في حياته ثم يصرف على مصالح المسلمين بعد وفاته ، وسهم لذوي القربى من أقارب الرسول وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل ، وأما الأربعة أخماس الباقية فهي للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم خاصة ، وقد وزعها في حياته على المهاجرين ولم يعط من الأنصار إلا رجلين أظهرا الفقر ، وبعد وفاته تصرف للمرتزقة من الجند ، أى : للجيش ما لم يوجد لهم تبرع أو مرتب خاص ، أما الغنيمة(3/646)
ج 3 ، ص : 647
فتقسم خمسة ، خمس لهؤلاء الخمسة كما في سورة الأنفال ، والأربعة الأخماس الباقية للمقاتلين الذين حضروا المعركة على ما مر بيانه في سورة الأنفال ، وإنما كان تقسيم الفيء على هذا النظام كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم يتداولونه بينهم ، ويحرم الفقير منه ، فإذا يفهم من هذا التعليل أن هذا المال يصرف للفقراء المحتاجين كما أنفقه النبي على المهاجرين دون الأنصار.
أيها المسلمون : ما آتاكم الرسول فخذوه ، وما نهاكم عنه فانتهوا ، واتقوا اللّه ، وهذا هو دستور الإسلام الحق الجامع لكل أمر ونهى ، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ في سبيل الله فكأن اللّه قال : أعنى بأولئك الأربعة - لذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل « 1 » هؤلاء الفقراء المهاجرين والأنصار والتابعين وقال بعضهم : اعجبوا لهؤلاء الفقراء حيث تركوا الأوطان والأموال وتحملوا الضيق والتغرب في حب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهل الفقر شرط في إعطائهم أو لا ؟ قولان.
للفقراء المهاجرين الذي أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا : ربنا اللّه حالة كونهم يبتغون فضلا من اللّه ورضوانا ناوين نصرة الرسول ودينه ، أولئك الموصوفون بما ذكر من الصفات الجليلة هم الصادقون في دعوى الإيمان حيث نالهم ما نالهم من أجله.
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ هم الأنصار - رضى اللّه عنهم - نزلوا المدينة واتخذوها مباءة ومنزلا للإسلام ، وموئلا له ، وألفوا الإيمان وأخلصوا له من قبل هجرة المهاجرين إليهم ، يحبون من هاجر إليهم من المهاجرين ، ولا يجدون في صدورهم حسدا ولا غيظا مما أوتوا - أى : مما أعطى المهاجرون من الفيء وغيره - مع حرمانهم منه ، فنفوسهم لم تتبع ما أعطى المهاجرون ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه ، على أنهم يؤثرون على أنفسهم غيرهم ، ويقدمون المهاجرين على أنفسهم في كل شيء من الطيبات مع الحاجة إليه ، حتى إن من كان عنده امرأتان نزل لأخيه المهاجر عن واحدة
___________
(1) - هذا إشارة إلى أن قوله (للفقراء المهاجرين) بدل من قوله (لذي القربى) وما عطف عليه ، وبعضهم يرى أنه متعلق بقول مقدر هو : اعجبوا للفقراء المهاجرين - وهذا خطاب لكل من يتأتى منه التعجب من حال المهاجرين حيث تركوا أمر أموالهم وأوطانهم ، ويرشحه قوله بعد : ألم تر إلى الذين نافقوا!!(3/647)
ج 3 ، ص : 648
وخيره فيهما ، وهذا هو مظهر الإخاء الذي فعله النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عند ما استقر بالمدينة ، وهذا بلا شك يدل على صفاء النفس من أكدار المادة والدنيا ويدل على قوة الروح ومبلغ العزوف عنها ، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون لا غير ، فالشح داء عضال لا يصدر عنه خير ، وهو سبب الكثير من الجرائم.
والذين جاءوا من بعدهم إلى الدين الجديد حيث تأخر زمانهم ، أو جاءوا بعد المهاجرين وآمنوا بعد الفتح واستتباب الدولة الإسلامية حالة كونهم يقولون : ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، فهي أخوة في الدين ، ولا شك أنها أعز من أخوة النسب ، اللهم لا تجعل في قلوبنا غلا ولا حقدا للذين آمنوا مطلقا ، ربنا إنك رءوف بنا رحيم بخلقك ، ومن هذا يظهر موقف الصحابة ومكانتهم ، وأن الواجب أن ندعو لهم بخير وأن نفهم فيهم الصدق والإخلاص الكامل ، وفي
الحديث : « أصحابى كالنّجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » .
هكذا المنافقون واليهود [سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 17]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)(3/648)
ج 3 ، ص : 649
المفردات :
لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ : ليفرن من الميدان. رَهْبَةً : خوفا. جُدُرٍ : سور.
بَأْسُهُمْ : حربهم. جَمِيعاً : مجتمعين. شَتَّى : متفرقة. وَبالَ أَمْرِهِمْ : عاقبة كفرهم.
وهذه هي صفات المنافقين واليهود وخلالهم التي تدعو إلى العجب بعد ذكر صفات المؤمنين على اختلاف طبقاتهم.
المعنى :
انظر - يا من يتأتى منه النظر - متعجبا إلى الذين نافقوا في إيمانهم وبعثوا إلى بنى النضير - كما سبقت إشارتنا إليه ، وهو ما فعله عبد اللّه بن أبى بن سلول - يقول هؤلاء المنافقون لإخوانهم الذين كفروا من اليهود ، وهم بنو النضير ، وكانوا إخوانهم في الدين والكفر والصداقة يقولون : واللّه لئن أخرجتم من دياركم كما يطلب محمد وصحبه منكم لنخرجن معكم ، ولا نطيع في شأنكم أحدا يمنعنا من الخروج وإن طال الزمن ، وو اللّه لئن قوتلتم لننصرنكم ، ولنعاوننكم على عدوكم ، ولو كانوا هم المسلمين.(3/649)
ج 3 ، ص : 650 واللّه يشهد إن المنافقين لكاذبون في مواعيدهم وعهودهم المؤكدة بالأيمان ، واللّه لئن أخرج اليهود لا يخرجون معهم لأنهم منافقون ، وو اللّه لئن قوتل اليهود ، أى : بنو النضير لا ينصرهم المنافقون أبدا ، وهذا وعد وإخبار بالغيب وقد تحقق ذلك كله ، ولئن نصروهم - فرضا وتقديرا - ليولن الأدبار ويمنعون في الفرار ، ولا يلوون على شيء فإنهم المنافقون وكفى! لأنتم - أيها المسلمون - أشد رهبة في صدورهم من اللّه - عز وجل - فهم يرهبونكم في السر رهبة أشد مما يظهرونه لكم من رهبة اللّه - عز وجل - ذلك بسبب أنهم قوم لا يفقهون ولا يعرفون عظمة اللّه فيخشونه حق خشيته.
لا يقاتلونكم - أى : اليهود والمنافقون - جميعا إلا في قرى محصنة بالتحصينات التي عرفوها والتي ستعرف في المستقبل ، أو من وراء جدار ، نعم رأيناهم في حروب فلسطين لا يقاتلون الناس إلا كذلك ، فإن أفئدتهم هواء ، وقلوبهم مليئة بالجبن والخور والضعف وحب الدنيا وكراهية الموت والخوف الموروث من المسلمين ، وهم إن أبدوا شجاعة ظاهرية لا تلبث أن تذهب ، ولقد صدق اللّه في وصفهم هذا الوصف الدقيق :
بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ فهم كما يقول الشاعر :
وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا
وما أروع قول اللّه : بَيْنَهُمْ أما إذا كان البأس والحرب بينهم وبين غيرهم كانوا أجبن من الجبن ، تحسبهم جميعا مجتمعين ، والواقع أن قلوبهم واتجاهاتهم شتى ، اللّه يقول ذلك عن اليهود ، وهو أصدق القائلين ، بقي من يقاتلهم هل هو مثلهم أو أشد ، أم أصبح المسلمون تتوزعهم الفرقة والخلافات والإحن والتارات وأصبحوا يجرون وراء أمريكا وانجلترا ، وتركوا دينهم وقرآنهم وراءهم ظهريّا!! ولا حول ولا قوة باللّه!! أيها المسلمون : تشجعوا واتحدوا ، ولا يهمنكم أمر تلك الشرذمة من العصابات اليهودية مهما ساعدتها أمريكا وإنجلترا وروسيا فإنه يقول : تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون.
مثل اليهود من بنى النضير كمثل الذين من قبلهم حيث ذاقوا وبال أمرهم ، وعاقبة(3/650)
ج 3 ، ص : 651
كفرهم قريبا ، فلم تتأخر عقوبتهم إلى يوم القيامة ، ولهم عذاب النار ، وقد كان ذلك مع المشركين يوم بدر ، ومع بنى قريظة قبل بنى النضير.
ومثل المنافقين الذين وعدوا بنى النضير بالمساعدة ثم خانوهم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان : اكفر ، وأغراه على الكفر ، فلما كفر باللّه وعصى رسله ، ووقع في عاقبة كفره تبرأ الشيطان منه ولم يقف معه وقال كذبا ورياء : إنى برىء منك إنى أخاف اللّه رب العالمين ، فكان عاقبتهما - لمن وسوس بالكفر ومن كفر - أنهما في النار خالدين فيها ، وذلك جزاء الظالمين مطلقا.
التقوى وموجباتها [سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 24]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)(3/651)
ج 3 ، ص : 652
المفردات :
لِغَدٍ المراد به : يوم القيامة ، أطلق عليه لقربه وتحقق وقوعه كالغد « 1 » .
الْمَلِكُ : المالك المتصرف في خلقه وملكه تصرفا تاما. الْقُدُّوسُ : البليغ في البعد عن النقص ، أو الكامل في ذاته وصفاته وأفعاله. السَّلامُ : ذو السلامة من كل نقص وعيب. الْمُؤْمِنُ : المصدق لنفسه ورسله فيما بلغوه عنه بالقول أو خلق المعجزات على أيديهم ، أو واهب الأمن لعباده. الْمُهَيْمِنُ : الرقيب الحافظ لكل شيء ، مأخوذ من قولهم : أمن الراعي الذئب على غنمه : إذا حفظهم حفظا كاملا من كل سوء. الْعَزِيزُ : الغالب ، من عز إذا غلب ، أو هو الذي لا مثل له ، من قولهم : هذا شيء عزيز أو نادر المثال. الْجَبَّارُ : الذي جبر خلقه على ما أراد.
الْمُتَكَبِّرُ : البليغ الكبرياء والعظمة. الْخالِقُ : المقدر لخلقه على حسب ما تقتضيه حكمته. الْبارِئُ : الموجد لخلقه بريئا من التفاوت المخل به.
الْمُصَوِّرُ : الموجد لصور الأشياء وكيفياتها. الْأَسْماءُ الْحُسْنى : الأسماء الدالة على محاسن المعاني.
ما مضى كان في الكلام على اليهود والمنافقين ، وبيان نهايتهم في الدنيا والآخرة ، ولما أتم هذا شرع في وعظ المسلمين وتنبيههم إلى يوم القيامة وما فيه ، وأنه لا يستوي العاصي والمطيع ، ولفت نظرهم إلى القرآن الكريم وما فيه ، ثم ذكر بعض صفات الحق - تبارك وتعالى - التي تغرس في النفوس الإيمان الصحيح ، والعقيدة الراسخة وكان هذا ختاما للسورة ما أجمله!!
___________
(1) - في لفظ (الغد) استعارة تصريحية وتنكيره للتعظيم والإبهام ، وتنكير نفس للتقليل.(3/652)
ج 3 ، ص : 653
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا : اتقوا اللّه حيثما كنتم ، وفي أى عمل عملتم ، ولتنظر كل نفس إلى أى شيء قدمته من الأعمال ليوم القيامة ، ولتحاسب نفسها عما عملت ، قبل أن تحاسب هي عليه ، وفي هذا حث عظيم على النظر فيما ينفع لغد ، وبيان أن النظر فيه قليل ، واتقوا اللّه إن اللّه خبير بما تعملون ، وسيجازيكم عليه إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشر.
وإياكم أن تكونوا كالذين نسوا حقوق اللّه وما قدروا اللّه حق قدره ، ولم يراعوا الواجب عليهم نحو الذات الأقدس - جل شأنه - لا تكونوا كالذين نسوا اللّه فأنساهم اللّه بسبب ذلك أنفسهم فلم يعملوا لخيرها ، ولم يحصلوا ما يخلصها يوم القيامة ، أولئك الذين نسوا اللّه هم الفاسقون الكاملون في الفسق والفجور ، فإياكم أن تكونوا مثلهم ، واعلموا أنه لا يستوي أصحاب النار الذين عملوا لها حيث خالفوا أمر اللّه في كل شيء وأصحاب الجنة الذين اتقوا اللّه فاستحقوا الخلود في الجنة ، أصحاب الجنة هم الفائزون وحدهم ، وفي هذا تنبيه للناس وأى تنبيه ؟ وإيذان لهم بأنهم لفرط غفلتهم وقلة تفكيرهم في الآخرة وأحوالها ، كأنهم لا يعرفون أن هناك فرقا بين أصحاب الجنة وأصحاب النار ، وهذا كما تقول لمن يسيء إلى أخيه : هذا أخوك.
يا أيها الذين آمنوا : ألم تعلموا أن معكم حبل اللّه المتين ، وكلامه الكريم ، وقرآنه المجيد ، فكيف لا تتعظون به ؟ وكيف لا تملأ قلوبكم خشية عند سماع كلامه ؟ مع العلم أنه لو أنزل هذا القرآن على جبل ، وكان له عقل يميز - مع أن الجبل علم في القساوة - لرأيته خاشعا متشققا من خشية اللّه ، وهذا تمثيل وتخييل لعلو شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ والزواجر.
وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون.
واعلم أن الذي أنزل القرآن وأمر بالتقوى هو اللّه - جل جلاله - واجب الوجود أزلا وأبدا ، الحاضر الذي لا يزول ، المعبود فلا أحد يستحق العبادة غيره ولا معبود بحق(3/653)
ج 3 ، ص : 654
سواه ، هو الرحمن الرحيم بخلقه في الدنيا والآخرة وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ « 1 » هو اللّه الذي لا إله إلا هو ، صاحب الملك والملكوت بيده الأمر أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ « 2 » يعز من يشاء ويذل من يشاء وهو على كل شيء قدير ، هو الملك القدوس المتنزه عن كل نقص وعيب ، الكامل في كل شيء ، ذو السلامة من كل ما يشينه ذاتا وصفات وأفعالا ، وهو المؤمن المصدق لنفسه ولرسله بما أنزل من كتاب وما خلق من معجزات ، سبحانه وتعالى وهب الأمن لعباده في الدنيا والآخرة ، وهو المهيمن والرقيب على خلقه وملكه ، أو هو الذي أمن على خلقه وملكه من كل شيء لإحاطة علمه وكمال قدرته ، وهو العزيز الجبار الذي جبر خلقه على ما أراد ، لا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه ، وهو المتكبر الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله ، والكبرياء في صفات اللّه مدح ، وفي صفات المخلوقات ذم ، وفي الصحيح عن أبى هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال فيما يرويه عن ربه - تبارك وتعالى - أنه قال : « الكبرياء ردائي والعظمة إزارى فمن نازعنى في واحدة منهما قصمته قذفته في النّار » .
سبحانه وتعالى عما يشركون!! هو اللّه الخالق المقدر لكل شيء ، البارئ لهذا الكون والموجد له خاليا من تفاوت يخل به ، وهو الذي أوجد صوره على حسب حكمته وإرادته.
للّه سبحانه الأسماء الحسنى الدالة على محاسن المعاني وفضائلها وأشرافها.
يسبح له لأجل هذا كل ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم الجامع للكمال كله.
روى عن ابن عباس : اسم اللّه الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر ، وفي رواية عن البراء عن علىّ - رضى اللّه عنهما - أنه قال : يا براء إذا أردت أن تدعو اللّه باسمه الأعظم فاقرأ من أول سورة الحديد عشر آيات. وآخر الحشر ثم قل : يا من هو كذلك ، وليس شيء هكذا غيره ، أسألك أن تفعل لي كذا وكذا
.
والعبرة في هذا كله بالإخلاص وصفاء الروح ، والقرآن كله - وخاصة أمثال هذه الآيات - مما يصفى الروح ، وينقيها ويجعل دعاءها مقبولا ... نفعنا اللّه بالقرآن آمين.
___________
(1) - سورة الأعراف آية 156.
(2) - سورة الأعراف آية 54.(3/654)
ج 3 ، ص : 655
سورة الممتحنة
وهي مدنية في قول الجميع ، وعدد آياتها ثلاث عشرة آية.
وهذه السورة تحدد موقف المسلمين من المشركين تحديدا تامّا من ناحية الصلة والمودة ، ومن ناحية القتال والمسالمة ، ومن ناحية العلاقة الزوجية القائمة بين المسلم وغيره ، وكيف بايع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم النساء ، وفي الختام - كما في البدء - النهى عن موالاة الكفار.
موالاة الكفار وعلاقتنا بهم [سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)(3/655)
ج 3 ، ص : 656
المفردات :
أَوْلِياءَ جمع ولى ، والمراد به الصديق الذي توليه بالسر. بِالْمَوَدَّةِ المراد :
النصيحة. مَرْضاتِي : رضائى. يَثْقَفُوكُمْ : يظفروا بكم.
أَرْحامُكُمْ : قرابتكم. أُسْوَةٌ : قدوة حسنة. بُرَآؤُا : جمع برىء ، أى : لا نعتد بكم ولا بشأن آلهتكم. وَبَدا : ظهر. الْعَداوَةُ : ضد(3/656)
ج 3 ، ص : 657
الصداقة والمحبة ، والبغضاء : وهي شدة البغض ، ضد المحبة. فِتْنَةً أى : مفتونين للذين كفروا ، أى : معذبين بسببهم أو بسبب غيرهم. مَوَدَّةً : صلة وقربى.
وَتُقْسِطُوا أى : تحكموا بينهم بالعدل. الْمُقْسِطِينَ : العادلين.
وَظاهَرُوا أى : وعاونوا الغير وتعاونوا على إخراجكم.
روى الأئمة - واللفظ لمسلم - عن على - رضى اللّه عنه - قال : « بعثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنا والزبير والمقداد فقال : ائتوا روضة خاخ - موضع بين مكة والمدينة - فإن بها ظعينة ، أى : امرأة في هودج ، معها كتاب فخذوه منها » قال علىّ : فانطلقنا مسرعين حتى أدركنا المرأة ، وطلبنا منها الكتاب فأبت أول الأمر ، فلما رأت منا الجد والإصرار والتهديد أخرجت الكتاب من عقاصها - شعرها - فأتينا به رسول اللّه ، فإذا هو من حاطب بن أبى بلتعة إلى مشركي مكة يخبرهم ببعض أمر الرسول.
فقال رسول اللّه : يا حاطب ما هذا ؟ قال : لا تعجل علىّ يا رسول اللّه ، إنى كنت امرأ ملصقا في قريش فأحببت أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي ، ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم « صدق » وهم عمر يضربه بالسيف ، فأجيب بأنه من أهل بدر ، وأنزل اللّه - عز وجل - هذه الآية
، وفي معناه نزلت آيات عدة : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة 51] لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران 28] ... إلخ.
المعنى :
يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان : لا يليق بكم - لأجل هذا الوصف - أن تتخذوا عدو اللّه وعدوكم « 1 » أولياء وأصدقاء ، ولو في الظاهر ، فاللّه ينهانا عن موالاتهم والإسرار إليهم بأخبارنا ، ولو كان هذا في الظاهر ، لا عن عقيدة وإيمان : لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء حالة كونكم تلقون إليهم بالمودة ، وتسرون إليهم بها كما فعل أخوكم حاطب بن أبى بلتعة عن حسن نية ، لا تتخذوهم أولياء والحال أنهم كفروا بما جاءكم من الحق والقرآن ، فأنتم مؤمنون به مصدقون له ، وهم كافرون فبينكم عداوة شديدة في العقيدة فكيف تلتقون ؟ هم كفروا باللّه ورسوله ، والحال أنهم يخرجون الرسول وإياكم من
___________
(1) عدو على زنة فعول مصدر ، لهذا صح أن يقع على الواحد والجمع.(3/657)
ج 3 ، ص : 658
دياركم وأموالكم وأوطانكم لا لشيء أبدا إلا لأنكم تؤمنون باللّه ربكم ، عجبا كيف تجعلونهم أولياء وتسرون إليهم بالمودة ؟ !! إن كنتم خرجتم للجهاد في سبيل اللّه وابتغاء مرضاته فلا تتخذوهم أولياء ، أى :
لا تتولوا أعدائى إن كنتم أوليائى.
كيف تلقون إليهم بالمودة ؟ تسرون « 1 » إليهم بأخبار الرسول سرّا ، وأنا أعلم السر وأخفى ، نعم اللّه يعلم ما أخفيتم وما أعلنتم ، ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ، وأخطأ طريق الهدى والحق.
كيف هذا مع أنهم إن يظفروا بكم ويدركوكم - على أى وضع - يكونوا لكم أعداء ويعاملوكم معاملة العدو اللدود ، ويسطوا إليكم أيديهم بالضرب والسبي والقتل وألسنتهم بالشتم والسب والذم ، ولا عجب فإنهم يودون من صميم قلوبهم لو تكفرون.
وما لكم توادون أعداء اللّه وأعداءكم من أجل قرابتكم وأولادكم ؟ مع أنه لن تنفعكم أرحامكم ولا قراباتكم ، ولن تنفعكم أولادكم وأموالكم في شيء ، يوم القيامة يفصل بينكم ويقضى بحكمه فاعملوا لأجل هذا اليوم ، وانظروا ماذا قدمتموه لهذا الغد ، واعلموا أن اللّه بما تعملون بصير فسيجازيكم على كل عمل.
أسوة إبراهيم في هذا :
كيف تتخذون أعدائى وأعداءكم أولياء ؟ ألا تقتدون بأبيكم إبراهيم ؟ قد كانت لكم أسوة حسنة ، وقدوة طيبة في أبيكم إبراهيم الخليل والذين معه من المؤمنين إذ قالوا « 2 » لقومهم : إنا برآء منكم ومما تعبدون فنحن لا نعتد بكم ، ولا نحفل بآلهتكم بل أنكرنا ، وبدا بيننا وبينكم العداوة لا المحبة ، والبغضاء لا الصداقة في كل وقت ، كل هذا حتى تؤمنوا باللّه وحده ، وتكفروا بشرككم. اقتدوا بأقوال إبراهيم وأفعاله إلا قوله لأبيه : لأستغفرن لك.
واستثناء قول إبراهيم هذا من الأسوة - الحسنة ، لأنها - واجب اتباعها وتقليد إبراهيم فيها حيث ذكر بعدها هذا الوعيد وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ
___________
(1) هذه الجملة بدل بعض من كل في قوله تلقون.
(2) (إذ قالوا) بدل اشتمال من (إبراهيم).(3/658)
ج 3 ، ص : 659
واستغفار إبراهيم لأبيه حيث لم يعرف إصراره على الكفر وموته عليه بمعنى الدعاء له بالتوفيق جائز شرعا بدليل قوله : فلما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه ، والحكم في الإسلام على هذا بالجواز حيث لم نعلم أن الكافر مصر على الكفر أو مات عليه ، فالاستغفار بهذا المعنى جائز لا واجب ، ولهذا استثنى من القدوة الواجب اتباعها ، وبعضهم أجاب عن هذا بقوله : إبراهيم - عليه السلام - استغفر حيث لم يعلم إصرار أبيه ، وقد كان وعده ، أما أنتم فتعرفون إصرار هؤلاء وفظاعة عنادهم وشدة كراهيتهم لكم فلا ينبغي أبدا أن تجاملوهم وتدعوا لهم بالخير بعد أن وصف اللّه لكم نياتهم ورأيتم أفعالهم ، وهذا تخريج حسن بلا شك.
لأستغفرن لك ربي والحال أنى لا أملك لك من اللّه شيئا فاعمل بما يرضيه فلن أغنى عنك من اللّه شيئا يا أبت! ربنا : عليك توكلنا ، وإليك وحدك أنبنا وتبنا ، وإليك وحدك المصير.
ربنا : لا تجعلنا فتنة للذين كفروا فتعذبنا على أيديهم أو بعذاب من عندك فيظنوا أنهم على حق ونحن على باطل فيفتنوا لذلك ، وللأسف ما يحصل اليوم هو هذا. فيا رب لا تجعلنا فتنة للذين كفروا ، واغفر لنا سيئاتنا ، وقنا عذاب الخزي في الدنيا والآخرة ، ربنا إنك أنت العزيز الحكيم.
لقد كان لكم في إبراهيم ومن معه أسوة حسنة لمن « 1 » كان يرجو اللّه واليوم الآخر ، ومن يتول عن ذلك ، ولا يقتدى بالصالحين فليعلم أن اللّه هو الغنى عنه وعن عمله ، المحمود في السموات والأرض ، وهذا تهديد لمن لا يقتدى بالقدوة الحسنة.
وأما أنتم - أيها المسلمون - فلا يشقن ذلك عليكم عسى أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتموهم في الدين من أقاربكم وأهليكم المشركين ، عسى اللّه أن يجعل بينكم وبينهم مودة وصلة وأخوة في الإسلام ، واللّه على كل شيء قدير ، وهو الغفور لما فرط من الذنوب الرحيم بخلقه إذا تابوا وأنابوا.
___________
(1) بدل من (لكم) بإعادة حرف الجر وهذا كثير لغة.(3/659)
ج 3 ، ص : 660
وفي هذه الآية حدد علاقتنا بالكفار : فقد نهانا عن مودتهم واصطفائهم بأخبار الحروب والأخبار التي تضر الأمة الإسلامية ، ولكن هل نحن منهيون عن البر بهم ماديا والقسط إليهم والعدل معهم ؟ ولقد أجاب اللّه عن ذلك جوابا شافيا فقال ما معناه : لا ينهاكم اللّه عن الذين لم يقاتلوكم في أمر الدين وشأنه ، ولم يخرجوكم من دياركم ، لا ينهاكم اللّه عن الذين لم يفعلوا هذا أن تبروهم بالخير ، وتقسطوا إليهم بالعدل ، وتعاملوهم بالحسنى ما داموا لم يسيئوا إليكم في الدنيا إن اللّه يحب المقسطين ، إنما ينهاكم اللّه عن موالاة ومحبة من قاتلوكم في الدين ، وجاهدوكم عليه بكل نفس ونفيس كما فعلت قريش مثلا حيث قاتلوكم لأجل الدين ، وأخرجوكم من دياركم وأموالكم وظاهروا الغير وتعاونوا على إخراجكم ، ينهاكم اللّه عن موالاتهم ومحبتهم ومن يتولهم ويتخذهم أنصارا وأحبابا فأولئك هم الظالمون.
المهاجرات من النساء ومبايعتهن [سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْ ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)(3/660)
ج 3 ، ص : 661
المفردات :
أُجُورَهُنَّ : مهورهن. بِعِصَمِ : جمع عصمة ، والمراد هنا عقد النكاح.
فَعاقَبْتُمْ : من العقبة ، وهي النبوة ، والمراد : أصبتموهم في القتال حتى غنمتم.
وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ المراد بذلك : الوأد. بِبُهْتانٍ المراد بذلك الولد.
يَفْتَرِينَهُ : يختلقن نسبته إلى الزوج.
لما أمر اللّه المسلمين بترك موالاة المشركين اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام خوفا من موالاة المشركين ، وكان التناكح من أقوى أسباب الموالاة ، فبين اللّه حكم المهاجرات بهذه الآية.
وكان من أسباب النزول ما روى عن ابن عباس أنه قال : جرى الصلح بين المسلمين ومشركي قريش عام الحديبية ، وكان من شروطه : أنه من أتى من أهل مكة رد إليهم ومن أتى من المسلمين لم يرد إليهم ، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من كتابة الصلح مباشرة إلى النبي ، وأقبل زوجها المشرك يطلبها - صيفي بن الراهب - فقال : يا محمد. اردد على امرأتى فإنك شرطت ذلك! وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.(3/661)
ج 3 ، ص : 662
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا : إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات من دار الشرك إلى دار الإسلام ، فامتحنوهن بما يغلب على ظنكم أنهن صادقات في إيمانهن ، ولم يأتين حبا في الانتقال من دار إلى دار أو بغضا في زوج ، بل كان الدافع لهن هو حب اللّه ورسوله ، واعلموا أن اللّه أعلم بإيمانهن حقيقة ، فلا سبيل لكم إلى ما تطمئن به قلوبكم ، من الإحاطة بحقيقة إيمانهن ، ولكن هذا ما يمكن فعله فإن علمتم فيهن صدق الإيمان فلا ترجعوهن إلى الكفار - وهذا تقييد للشرط المطلق في عقد الصلح - بل أبقوهن معكم ، وقد فرق الشارع الحكيم هنا بين الرجل والمرأة فإن الرجل قوى يمكنه أن يستقل ويترك دار الكفر والمرأة لا تقوى على الإغراء فيخشى معها الفتنة ... لا هن « 1 » حل لهم حالا ، ولا أزواجهم الكفار يحلون لهن في المستقبل بأى شكل ما داموا مشركين ، وهن مؤمنات ويلزم على هذا أن تؤتوا الأزواج ما أنفقوا ، محل ذلك في الأزواج الذين بيننا وبينهم عهد أما الحربيون فلا يلزمنا شيء لهم ، على أن هذا الأمر للندب ، وبشرط أن يطلبه الزوج وإلا فلا يجب شيء.
وهؤلاء المهاجرون لا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن مهورهن ، وما حكم المرأة التي يتركها زوجها في دار الشرك مشركة وهو مسلم ؟ الحكم أنه إذا أسلم الزوج وكان إسلامه حقيقيّا فيجب فسخ عقد النكاح السابق بينه وبين المشركة الوثنية أما الكتابية فلا فسخ لأنه يجوز العقد عليها ابتداء ، ومحل قطع العلاقة الزوجية بين المسلم والمشركة مشروط بألا يجمعهما الإسلام في العدة.
وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا قال المفسرون : كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار : هاتوا مهرها ، ويقال للمسلمين إذا جاءت إحدى الكافرات مسلمة مهاجرة : ردوا إلى الكفار مهرها ، وكان ذلك نصفة وعدلا بين الناس ، ثم نسخ هذا الحكم ، وذلك حكم اللّه يحكم بينكم بالعدل ، واللّه عليم حكيم.
___________
(1) هذه الجملة بمنزل التعليل للجملة السابقة.(3/662)
ج 3 ، ص : 663
وإن فاتكم شيء من أزواجكم وذهبن إلى الكفار ثم لم يعطوكم شيئا من المهر فعاقبتم ، وأتت العاقبة لكم فغنمتم شيئا منهم ، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم ، ولم يأخذوا مهورهن مثل ما أنفقوا لفواته عليهم من جهة الكفار ، واتقوا اللّه في كل شيء ، اتقوا فأنتم به مؤمنون ، ومن الواجب على المؤمنين تقوى اللّه في السر والعلانية وقد فعل المؤمنون ما أمروا به من الإيتاء للكفار والمؤمنين ، وقد رفع هذا الحكم العام ، وأصبح الحكم شخصيّا على الإمام والمسلمين عامة.
يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على عدم الإشراك باللّه شيئا وعدم السرقة ، والزنا ، وقتل الأولاد خوف الفقر أو العار كما كان يفعل في الجاهلية من وأد البنات أحياء ويبايعنك على ألا يأتين بولد يختلقن نسبته للزوج مقدرا وجوده بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف عرف حسنه شرعا وعقلا من طاعة اللّه ورسوله والإحسان للناس وكل ما أمر به الشرع الشريف.
إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على هذا الأساس فبايعهن ، واستغفر لهن اللّه عما فرط منهن ، وقد كانت مبايعته الرجال على الإسلام والجهاد ، ومبايعة النساء على ما ذكر في الآية ، وقيل : هما سواء في كل ذلك ، ولعل السر في مبايعة النساء بهذا أن النساء كثيرا ما يرتكبن مثل هذه الأعمال. والثابت أن هذه الآية نزلت في مبايعة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في فتح مكة ، وكانت فيهن هند بنت عتبة ، ولها قصة مذكورة في كتب السيرة.
بدئت هذه السورة بالنهى عن موالاة الكفار وخاصة اليهود ، وختمت بمثل ذلك تأكيدا لعدم موالاتهم وتنفيرا للمسلمين عنها.
يا أيها الذين آمنوا : لا تتولوا قوما قد غضب اللّه عليهم ، ولعنهم - وهم اليهود - قد يئسوا من الآخرة وثوابها مع أنهم يوقنون بها ، وذلك لعنادهم مع النبي مع علمهم بصدقه ، هؤلاء يئسوا كما يئس الكفار حالة كونهم من أصحاب القبور الذين ماتوا ، يئسوا من الرجوع إليهم والالتقاء بهم في أى وقت.(3/663)
ج 3 ، ص : 664
سورة الصف
هذه السورة مدنية كلها على الصحيح ، وآياتها أربع عشرة آية ، ونزلت بعد التغابن.
وتشتمل على تنبيه المؤمنين لبعض الواجب عليهم ، وتحذيرهم من أن يكونوا كقوم موسى وعيسى ، مع بيان أن الإسلام هو دين اللّه ، وأنه غالب على الأديان ، ثم رسمت طريق الهدى الموصل إلى النجاة من العذاب.
توجيهات دينية [سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)(3/664)
ج 3 ، ص : 665
المفردات
لِمَ أى : لأى شي ء ؟ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ المقت : أشد أنواع البغض من أجل ذنب أو معصية أو دناءة يصنعها الممقوت. صَفًّا أى : صافين أنفسهم.
مَرْصُوصٌ والبناء المرصوص : المتلائم الأجزاء المتضام بنظام وحكمة. زاغُوا أى : مالوا عن الحق وانصرفوا عنه. لِما بَيْنَ يَدَيَّ : لما تقدمني من الكتب كالتوراة والزبور. أَحْمَدُ أى : محمد - عليه الصلاة والسلام - ولعله خصه بالذكر للإشارة إلى أنه أحمد الناس لربه.
روى عن ابن عباس - رضى اللّه عنه - أنه قال : قال عبد اللّه بن رواحة : لو علمنا أحب الأعمال إلى اللّه لعملناه ، فلما نزل الجهاد كرهوه ، وفي رواية أخرى أن هذه الآية نزلت تعيّر المسلمين بترك الوفاء ، وتلومهم على الفرار يوم أحد.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا باللّه وبرسوله : لأى شيء تقولون ما لا تفعلونه من الخير والمعروف ؟ ! ومدار التوبيخ والإنكار في الحقيقة عدم فعلهم ، وإنما وجه إلى قولهم أولا للدلالة على أنهم مؤاخذون على شيئين : الوعد ، وترك العمل
« آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان » .(3/665)
ج 3 ، ص : 666
كبر المقت عند اللّه وفي حسبانه أن تقولوا ما لا تفعلون « 1 » !! نعم إن قولهم : سنفعل الخير ثم لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه ، ومبغوض عند اللّه أشد البغض ، ومن هنا كان الخلف في الوعد ، والكذب ، مذمومين شرعا ، ولا يرضى عنهما اللّه ، أما الذي يرضى عنه اللّه فها هو ذا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ نعم إن اللّه يحبهم ويرضى عنهم لأنهم يقاتلون في سبيله وابتغاء مرضاته ، يقاتلون بنظام ودقة وحكمة صافين أنفسهم مستعدين للقتال على حسب زمانهم ، حالة كونهم كالبنيان المرصوص الذي يحمى بعضه بعضا ، البنيان المحكم الدقيق الذي لا فرجة فيه ولا خلل ، وهذه إشارة إلى إحكام الأمر في القتال والاستعداد له استعدادا مناسبا مع الوحدة والاجتماع التام على الكلمة ، ومقابلة العدو بقلوب ثابتة راسخة رسوخ البنيان الشامخ المحكم.
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي ؟ وهذا كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال ، ومخالفة أمر الرسول ، واذكر وقت قول موسى لقومه - والمراد ذكر ما حصل في الوقت - : يا قوم لأى شيء تؤذونني بمخالفة أمرى ، وتخلفكم عن القتال حين ندبتم لقتال الجبارين ، وقولكم : إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ « 2 » فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ « 3 » .
يا قوم : لم تؤذوننى ؟ والحال أنكم تعلمون علما أكيدا أنى رسول اللّه إليكم ، فلما أصروا على الزيغ والانحراف عن الجادة أزاغ اللّه قلوبهم وصرفها عن الخير لاختيارهم العمى وتركهم الهدى مطلقا ، ولا عجب فهم مالوا عن الحق أولا باختيارهم ، وهذا بلا شك يؤثر فيهم ، فإذا استمروا على ذلك طمس اللّه على قلوبهم فأمالها عن الحق دائما ، وكيف يهديهم ربهم إلى الصواب ؟ واللّه لا يهدى القوم الفاسقين ، فاحذروا يا أمة محمد أن تكونوا كهؤلاء ، واذكر إذ قال عيسى بن مريم : يا بنى إسرائيل : إنى رسول اللّه إليكم حالة كوني مبشرا برسول يأتى من بعدي اسمه أحمد فشريعتى تؤيد
___________
(1) (كبر) فعل يفيد التعجب كبئس ، وفاعله ضمير ، و(مقتا) تمييز و(أن تقولوا) هو المخصوص بالذم ، ومعنى التعجب : تعظيم الأمر في قلوب السامعين.
(2) سورة المائدة آية 22. [.....]
(3) سورة المائدة آية 24.(3/666)
ج 3 ، ص : 667
الرسل السابقين واللاحقين ، وهذا الاسم الجليل - أحمد - من أسماء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ويقول حسان بن ثابت :
صلى الإله ومن يحف بعرشه والطيبون على المبارك أحمد
وبشارته - عليه السلام - بالنبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم مما نطق به القرآن ، وهو الصادق في خبره الذي لا يقبل الشك ، فهو الكتاب الوحيد الذي نقل بالتواتر عن صاحبه وقيد كتابة وحفظا قبل لحوق النبي بالرفيق الأعلى ، وأما إنكار النصارى لتلك البشارة فأمر لا يعبأ به ، كشأنهم في بقية عقائدهم ، على أن الإنجيل الذي وصل إلينا فيه البشارة وشأنها أن تكون كناية لا صريحة ، ففي إنجيل يوحنا طبع (نيويورك بإمريكا) الإصحاح السادس عشر آية (7) : لكن أقول لكم الحق إنه لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى ولكن إن ذهبت أرسله إليكم. (8) ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطيئة وعلى بر وعلى دينونة. (9) أما على الخطيئة فلأنهم لا يؤمنون بي. (10) وأما على بر فلأنى ذاهب إلى أبى ولا تروني أيضا. (11) وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين (12) إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن (13) وأما متى جاء ذلك ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية. (14) ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم.
هذه بشارة بالنبي المرسل الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحى يوحى ، يجيء والعالم يكفر بعيسى إذ يعتقد فيه الألوهية أو أنه ابن اللّه مع أنه ابن مريم ، يجيء ليرشد الخلق إلى جميع الحق ، فمن غير محمد صلّى اللّه عليه وسلّم جاء بهذا ؟ على أننا لا ننسى أن هذا ما سلم من التحريف والتغيير والتبديل ، والنصارى يؤولون في مثل هذا تأويلا غير مستساغ ، ولفظ (البارقليط) ورد كثيرا في كتبهم ، قال يسوع المسيح : « إن البارقليط روح الحق الذي يرسله أبى - إلهى - يعلمكم كل شيء » والبارقليط لفظ يفيد معناه الحمد ، ولفظ (المعزى) السابق كناية عن خاتم الأنبياء ، ولذا جاءت البشارة في إنجيل برنابا صريحة بلفظ (محمد) والظاهر أنها مترجمة عن البارقليط والمعزى.
فلما جاء عيسى - عليه السلام - بالمعجزات الظاهرة قالوا : هذا سحر مبين ، فانظر إلى الناس جميعا وقد كذبوا برسلهم مع ظهور الآيات والمعجزات الدالة على صدق(3/667)
ج 3 ، ص : 668
الرسل ، وتلك سنة اللّه ولن تجد لسنة اللّه تبديلا ، وكانت عاقبة أمرهم خسرا فاحذروا يا أمة محمد مثل هذه العاقبة! ثم تطرق الكلام إلى المكذبين بمحمد - عليه الصلاة والسلام - فقال اللّه ما معناه :
أى الناس أشد ظلما ممن يدعى إلى الإسلام الذي هو دين الحق والعدل والكرامة الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة ؟ فتكون إجابته على تلك الدعوة الافتراء على اللّه كذبا وزورا بتكذيب رسوله وتسمية آياته سحرا ، نعم لا أحد أظلم من هذا ، واللّه لا يهدى القوم الظالمين ، يريدون بهذا التكذيب أن يطفئوا نور اللّه « 1 » ، بأفواههم وأنى لهم ذلك ؟ واللّه متم نوره ولو كره الكافرون.
هو اللّه الذي أرسل رسوله محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم بمصدر الهداية والنور : بالقرآن الذي يدعو إلى الهدى والفلاح ، أرسله بدين الحق والعزة والكرامة ، بالشريعة السهلة الصالحة لكل زمان ومكان ، ليظهره على الدين كله وليعليه على جميع الأديان ، ولو كره المشركون ذلك ، لأنه هو الدين الوحيد الذي يدعو إلى التوحيد الخالص البريء من شوائب الشرك ، وقد أنجز اللّه وعده وأظهر دينه بالحجة والبرهان على جميع الأديان ... إلخ.
التجارة الرابحة [سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)
___________
(1) - هذا تمثيل لحالهم وقد اجتهدوا في إبطال الحق بحالة من ينفخ الشمس بفيه ليطفئها وهل يستطيع ذلك ؟(3/668)
ج 3 ، ص : 669
المفردات :
تِجارَةٍ التجارة : تداول البيع والشراء لأجل المكسب. طَيِّبَةً : جيدة حسنة. أَنْصارَ اللَّهِ المراد : أنصار دينه ورسوله. لِلْحَوارِيِّينَ : وهم أصحاب عيسى - عليه السلام - وأصفياؤه. طائِفَةٌ : جماعة. ظاهِرِينَ :
غالبين.
سبب نزول هذه الآية قول المؤمنين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : لو نعلم أى الأعمال أحب إلى اللّه لعملنا به! وقول عثمان بن مظعون : وددت يا نبي اللّه أن أعلم أى التجارات أحب إلى اللّه فأتجر فيها. فنزلت الآية.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا : هل أدلكم على تجارة عظيمة الشأن كثيرة الربح ؟ ربحها عشرة أمثال ، وقد تزيد إلى سبعمائة مثل ، واللّه يضاعف بعد ذلك لمن يشاء وتلك تجارة رابحة ، وأى ربح أكثر من هذا ؟ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ .. [سورة التوبة آية 111].
وكأنه قيل : ما هذه التجارة ؟ دلنا عليها ، فقيل : تؤمنون باللّه ورسوله ، وتجاهدون في سبيل اللّه وابتغاء مرضاته بأموالكم وأنفسكم « 1 » والمعنى أن المؤمنين يداومون على ذلك من باب قوله تعالى : فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [سورة هود آية 112].
___________
(1) و(تؤمنون) فعل مضارع بمعنى الأمر ، أى : آمنوا أو جاهدوا يغفر لكم ، والتعبير به للإيذان بأنهم امتثلوا واللّه أخبر عنهم ، وقيل : إن المضارع على حقيقته وهناك شرط مقدر ، جوابه قوله : « يغفر لكم » .(3/669)
ج 3 ، ص : 670
ذلكم الإيمان والجهاد خير لكم من كل شيء إن كنتم تعلمون أنه خير فهو خير ، إن تؤمنوا وتجاهدوا يغفر لكم ذنوبكم ، ويسترها أو يباعد بينكم وبينها ، ويدخلكم جنات عالية ، تجرى من تحتها الأنهار ، ويدخلكم مساكن طيبة جيدة حسنة لا عيب فيها ، ولا خوف عليكم فيها ولا أنتم تحزنون ، وهي في جنات عدن لا زوال فيها ، ذلك هو الفوز العظيم ، نعم هو الفوز العظيم ، والربح الكثير ، والفضل العميم.
ولكم إلى جانب ما ذكر نعمة أخرى جليلة أنتم تحبونها هي نصر من اللّه على الأعداء وفتح قريب للأقطار والأمصار ، وانظر - وفقك اللّه - إلى عاقبة الإيمان الصحيح والجهاد في سبيل اللّه.
يا أيها الذين آمنوا - والخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولأمته - : آمنوا وجاهدوا يكن لكم الثواب الجزيل ، وبشرهم يا محمد بذلك ، فأنت الصادق المصدق.
يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار اللّه وأعوانا لرسول اللّه ، كما كان الحواريون أنصارا لعيسى حين طلب منهم ذلك ، وقال لهم : من أنصارى متوجها إلى اللّه ؟ قال الحواريون نحن أنصار نبي اللّه.
ولما لحق عيسى بالرفيق الأعلى آمنت طائفة من بنى إسرائيل ، آمنت باللّه الواحد الأحد وبعيسى ابن مريم رسوله إليهم ، وكفرت طائفة أخرى حيث ادعت أنه الإله أو ابنه أو هو ثالث ثلاثة ، وغلب أهل الباطل على أهل الحق ، فلما جاء محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أيدنا به الذين آمنوا على عدوهم الكافرين ، فأصبحوا ظاهرين عليهم بالحجة والبرهان.(3/670)
ج 3 ، ص : 671
سورة الجمعة
مدنية بالإجماع ، وعدد آياتها إحدى عشرة آية.
وقد تكلمت السورة على فضل اللّه بإرسال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من العرب وتناولت اليهود حيث لم يحافظوا على شريعتهم ، ثم بعد ذلك أتت بحكم تتعلق بالجمعة.
منّ اللّه على العرب والناس جميعا [سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
المفردات :
الْأُمِّيِّينَ المراد بهم العرب لأن أكثرهم لا يقرأ ولا يكتب إذ الأمى منسوب إلى الأم ، فهو على جبلته لا يقرأ ولا يكتب. يُزَكِّيهِمْ : يطهرهم.(3/671)
ج 3 ، ص : 672
المعنى :
يسبح للّه كل ما في السموات ، وما في الأرض تسبيحا متجددا مستمرا ، لأنه صاحب الملك ، وبيده الأمر والخلق ، وهو القدوس المنزه عن كل نقص المتصف بكل كمال ، العزيز الذي لا يغلبه غالب ، الحكيم في كل شيء.
وأول مظهر من مظاهر فضله ونعمه على خلقه إرسال الرسل وخاصة النبي محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم خاتما للرسل كلهم ، ولا شك أن هذا من مظاهر عزته وحكمته ، هو الحق - تبارك وتعالى - الذي بعث في العرب رسولا من جنسهم أميا مثلهم ، لا يقرأ ولا يكتب ، ومع ذلك فهو يتلو عليهم الآيات ، ويحملهم على طهارة النفس ويخلق فيهم الضمير الحي ، وهو الذي يعلمهم القرآن ، والحكمة النافعة المأخوذة من حديثه وقوله وفعله ، فهو المثل الأعلى الذي قاد أمته إلى الحياة الصحيحة ، في التشريع والقضاء والسياسة والاقتصاد ، وإن كانوا من قبل لفي « 1 » جاهلية جهلاء ، وضلالة عمياء ، وأى ضلالة أكبر من ضلالة العرب قبل الإسلام ؟
يعلم العرب الكتاب والحكمة ، ويزكيهم من دنس الرجس والشرك وسوء الفعل ، ويعلم آخرين منهم لم يلحقوا بهم وسيلحقون بهم ، هؤلاء هم الذين دخلوا في الإسلام من العرب ومن غيرهم أخيرا بعد الصحابة ، وما أروع كلمة « منهم » أى : من الأمة الإسلامية ، إذ الإسلام لا يقر اختلاف الأجناس والألوان بل كل مسلم من أى جنس ولون فهو عضو في أسرة الإسلام ، وإن بعدت الدار ، وشط المزار.
ذلك الفضل العظيم فضل اللّه ونعمته يؤتيه من يشاء من عباده ، واللّه ذو الفضل العظيم ، لا حرج على فضل اللّه حيث فضل الرسول وقومه وجعلهم متبوعين بعد أن كانوا أوزاعا لا وزن لهم ولا قيمة عند غيرهم من الأمم ، وظل الحال كذلك.
فالعرب لعبوا ويلعبون دورا مهما في العالم إلى الآن.
___________
(1) هذه هي إن المخففة من الثقيلة بدليل اللام.(3/672)
ج 3 ، ص : 673
هؤلاء هم اليهود [سورة الجمعة (62) : الآيات 5 الى 8]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
المفردات :
حُمِّلُوا التَّوْراةَ المراد : كلفوا العمل بها ، وليس هو من الحمل على الظهر بل هو من الحمالة ، أى : الكفالة. أَسْفاراً : كتبا كبارا ، وسميت أسفارا لأنها تسفر عن معناها إذا قرئت. أَوْلِياءُ لِلَّهِ : أحباؤه. تَفِرُّونَ مِنْهُ : تخافون منه.
وهذا مثل ضربه اللّه لليهود حيث أعطاهم التوراة ، ولم يعملوا بها فكانوا كالحمار الذي يحمل الكتب الكبار ، وفي ذكر هذا المثل هنا تحذير لأمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم من أن يكونوا كاليهود يدعون ولا يعملون ويحملون ولا ينتفعون.
المعنى :
شبه اللّه - سبحانه وتعالى - اليهود حيث حملوا التوراة وكلفوا بها وعلموا بما فيها وحفظوها ثم لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بما فيها - بالحمار يحمل كتبا كبارا ، من كتب(3/673)
ج 3 ، ص : 674
العلم ، فهو يمشى بها ولا يعلم عنها شيئا ، وخص الحمار بالذكر لأنه علم في الجهالة والبلادة ، وهذا مثل ينطبق على من لم يعمل بالقرآن وأحكامه ، ويعرض عنه.
بئس المثل مثل القوم الذين كذبوا بآيات اللّه ، واللّه لا يهدى القوم الظالمين.
وكان اليهود يزعمون أنهم أبناء اللّه وأحباؤه ، وأن الآخرة لهم دون سواهم ، فنزل في ذلك قل لهم يا محمد : يا أيها الذين هادوا واتبعوا موسى والتوراة إن زعمتم صادقين أنكم أولياء اللّه ، وأحباؤه من دون الناس ، إن كنتم صادقين في هذا الزعم فتمنوا الموت الذي ينقلكم إلى دار الكرامة فتحظوا بالسعادة التي أعدها لكم ربكم ، ولا يتمنونه أبدا بسبب ما قدمته أيديهم من الكفر والمعاصي وتكذيب الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم مع علمهم بصدقه ووصفه في التوراة ، وفي حديث أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال لما نزلت هذه الآية « والّذى نفس محمّد بيده لو تمنّوا الموت ما بقي على ظهرها يهودىّ إلّا مات »
وفي هذا إخبار عن الغيب ومعجزة للنبي الكريم.
قل لهم : إن الموت الذي تفرون منه وتخافونه فإنه ملاقيكم حتما « 1 » إذ كل شيء هالك إلا وجهه ، ثم تردون أيها اليهود إلى عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفى عليه منكم خافية ، فينبئكم بما كنتم تعملون ويجازيكم عليه.
بعض أحكام تتعلق بصلاة الجمعة [سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
___________
(1) - والفاء التي في خبر إن لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار وصفه بالموصول.(3/674)
ج 3 ، ص : 675
المفردات :
نُودِيَ لِلصَّلاةِ : أذن لها. يَوْمِ الْجُمُعَةِ : هو اليوم المعروف من أيام الأسبوع ، وتصلى فيه صلاة الجمعة. فَاسْعَوْا : فامضوا إلى ذكر اللّه بقصد حسن. وَذَرُوا الْبَيْعَ : اتركوه. قُضِيَتِ الصَّلاةُ : أديت وفرغ منها.
انْفَضُّوا إِلَيْها : أسرعوا لها.
المعنى :
خاطب اللّه - سبحانه وتعالى - المؤمنين خاصة بهذا النداء تشريفا لهم وتكريما ، وليعلموا أن إيمانهم يقتضى الإسراع في إجابة هذا الطلب وتحقيق هذا الأمر ، يا أيها المؤمنون : إذا أذن لصلاة الجمعة في يوم الجمعة فالواجب عليكم أن تسعوا إلى ذكر اللّه سعيا يتحقق به شهود الصلاة وحضورها والحصول على الثواب كاملا ، والمطلوب هو السعى بالأقدام والعمل مع الإخلاص بقلوب ذاكرة ، ونفوس راغبة في الحضور والمشاهدة بين يدي اللّه جل جلاله.
اسعوا إلى ذكر اللّه ، وذروا البيع والشراء وما شابههما.
ومن الذي تجب عليه الجمعة ويجب عليه السعى لها ؟ هم الرجال المقيمون الأحرار الذين لا عذر لهم ، وما المراد بهذا النداء ؟ هل هذا الأذان الأول أو هو الأذان بين يدي الخطيب ؟ الذي كان أيام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه كان يؤذن المؤذن بين يديه ثم يقيم الصلاة ، والأذان الأول حصل أيام عثمان ، وعلى ذلك فالمراد هو الأذان الثاني لا الأول ، ولكن في الواقع أن الاستعداد المعقول في هذه الأيام يقتضى أن نترك البيع ونسعى للصلاة عند سماع الأذان الأول حتى يكمل الاستعداد بهدوء وطمأنينة.(3/675)
ج 3 ، ص : 676
وقد ورد حديث عن النبي - عليه السلام - : « من ترك الجمعة ثلاث مرّات تهاونا بها طبع اللّه على قلبه »
والجمعة كأى صلاة يلزمها الوضوء والطهارة ، ويسن لها الغسل.
فإذا قضيت الصلاة ، وفرغتم منها فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم ، وابتغوا من فضل اللّه ، واذكروا اللّه كثيرا رجاء أن تكونوا من الفالحين وروى عن بعضهم أنه كان يقول عقب صلاة الجمعة : اللهم إنى أجبت دعوتك وصليت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتنى ، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين.
روى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يخطب قائما يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا ، فأنزلت هذه الآية : وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً.
قل لهم : ما عند اللّه من الثواب الجزيل والفضل العميم والرزق الواسع ، والبركة التي يعطيها بعض عباده خير من اللهو ومن التجارة التي تسرعون إليها قصدا ، واللّه وحده خير الرازقين. فاطلبوا منه الرزق ، واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيرى الدنيا والآخرة.(3/676)
ج 3 ، ص : 677
سورة المنافقون
مدنية في قول الجميع ، وهي إحدى عشرة آية ، وقد تعرضت لذكر المنافقين وأعمالهم وصفاتهم ثم ختمت السورة بإرشادات هامة للمؤمنين.
المنافقون [سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9)
وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)(3/677)
ج 3 ، ص : 678
المفردات :
جاءَكَ الْمُنافِقُونَ. حضروا مجلسك. نَشْهَدُ : نحلف ، ولا شك أن الحلف والشهادة كل منهما إثبات لأمر معين. جُنَّةً : سترة ووقاية. فَطُبِعَ :
ختم عليهم بالخاتم. خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ أى : خشب ممالة إلى الجدار قاتَلَهُمُ اللَّهُ أى : لعنهم وطردهم من رحمته « 1 » أَنَّى يُؤْفَكُونَ « 2 » ؟ أى : يصرفون عن الحق إلى الباطل والكفر الذي هم فيه. لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ : عطفوها وأمالوها إلى غير جهة الأعادى ، فلا تغتر بهم قاتلهم اللّه ، أى : لعنهم وطردهم من رحمته. والكلام
___________
(1) فالقتل مستعمل في اللعن والطرد استعارة تبعية لعلاقة المشابهة ، والجامع أن كلا نهاية الشدائد ومنتهى العذاب ، وذكر بعضهم أن « قاتله اللّه » كلمة ذم وتوبيخ وتستعملها العرب في التعجب من غير قصد إلى طلب اللعن ، والمشهور تعقيبهم بما يدل على التعجب.
(2) فأنى ظرف متضمن للاستفهام معمول لما بعده.(3/678)
ج 3 ، ص : 679
دعاء وطلب من ذاته - تعالى - أن يلعنهم هو ويطردهم ، أو هو تعليم للمؤمنين أن يدعوا على المنافقين بذلك.
وإذا قيل لهم : تعالوا إلى رسول اللّه يستغفر لكم عما فرط منكم ، أشاحوا برءوسهم وعطفوها كبرا وإعراضا عن هذا الطلب واستهزاء به .. ورأيتهم يصدون جاهدين عن سبيل اللّه غيرهم ، وهم مستكبرون.
سواء عليهم استغفارك لهم وعدمه « 1 » فإنهم لن ينتفعوا به ، ولن يؤمنوا لأن اللّه لن يغفر لهم ، إن اللّه لا يهدى القوم الفاسقين ، ولا غرابة في وصفهم بالفسق والخروج عن حدود الدين والعرف فهم يقولون لأصحابهم من الأنصار : لا تنفقوا على من عند رسول اللّه حتى ينقضوا.
يَنْفَضُّوا : يتفرقوا. الْعِزَّةُ : الغلبة لا تُلْهِكُمْ : لا تشغلكم.
أَجَلُها الأجل : آخر العمر.
المعنى :
إذا جاءك المنافقون وحضروا مجلسك قالوا بألسنتهم : نشهد إنك لرسول اللّه « 2 » واللّه يعلم إنك لرسوله حقا « 3 » واللّه يشهد إن المنافقين لكاذبون ، فالتكذيب من اللّه لهم ليس لقولهم : إنك لرسول اللّه ، ولكنه راجع إلى ادعائهم الصدق والموافقة في الشهادة بين اللسان والقلب ، ولا شك أنهم كاذبون في قولهم هذا ، لأنهم لا يؤمنون به بناء على أن الكذب ما خالف الاعتقاد.
___________
(1) الهمزة في (أستغفرت) للاستفهام في الأصل واستعملت للتسوية مجازا.
(2) إذا ظرف لقالوا ، والتأكيد بأن واللام واسمية الجملة لتأكيد علمهم بهذا الخبر وشهادتهم ، شهادة يطابق فيها اللسان القلب.
(3) جملة اعتراضية بين قولهم وتكذيب اللّه لهم فائدتها دفع وهم أن التكذيب لقولهم في حد ذاته والتأكيد فيه لمزيد الاعتناء حقيقة بشأن الخبر.(3/679)
ج 3 ، ص : 680
اتخذوا أيمانهم التي تعودوا الحلف بها كذبا ، اتخذوها جنة لهم ووقاية ، فهم كلما ظهر منهم شيء يوجب المؤاخذة حلفوا عليه كاذبين عصمة لأموالهم ودمائهم - كما روى البخاري في سبب النزول - واتخاذ الأيمان جنة عبارة عن إعدادهم وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة ، فهم صدوا عن سبيل اللّه من أراد الدخول في الإسلام ، واستمروا على ذلك ، وقرئ (إيمانهم) والمراد ما كانوا يظهرونه من إسلام ليكون وقاية لهم من القتل أو الأسر ، إنهم ساء ما كانوا يعملون من النفاق وما يتبعه.
ذلك - والإشارة إلى أنهم أسوأ الناس عملا أو إلى ما حكى من نفاقهم وكذبهم وأيمانهم - بسبب أنهم آمنوا نفاقا وكذبا ، ثم كفروا ، أى : ظهر من أقوالهم وأفعالهم ، فطبع على قلوبهم وختم عليها بالخاتم حتى لا يدخلها نور الحق ، فهم لا يفقهون الحق والطريق السوى.
وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم لقوتها وتناسب أعضائها ، وإن يقولوا تسمع لقولهم لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وحسن كلامهم في الدنيا ، والخطاب في الآية لكل من يصلح للخطاب أو لسيد المخاطبين صلّى اللّه عليه وسلّم وكانوا يحضرون مجلس الرسول كأنهم خشب مسندة ، شبهوا وهم جالسون مستندون إلى الحائط بالخشب المسندة ، إذ لا روح فيهم يعقل ، ولا بصيرة تبصر الخير ، فهم كما نقول : أصنام أو كراسي.
وهم لفرط هلعهم ، وشدة خوفهم من أن ينزل فيهم قرآن يفضحهم ، ويظهر طويتهم يحسبون كل صيحة واقعة عليهم ، هم العدو الكاملون في العداوة ، إذ لا أخطر من العدو المنافق الذي يضحك لك ، وقلبه يتميز غيظا منك ، فاحذرهم.
روى البخاري عن زيد بن أرقم قال : كنت مع عمى فسمعت عبد اللّه بن أبى بن سلول يقول : « لا تنفقوا على من عند رسول اللّه حتى ينفضوا » وقال : « لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل » فذكرت ذلك لعمى فذكر عمى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى عبد اللّه بن أبى وأصحابه فحلفوا ما قالوا وصدقهم رسول اللّه ، وكذبني ، فأصابنى هم لم يصبني مثله فجلست في بيتي فأنزل اللّه - عز وجل - :
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ إلى قوله : هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ إلى قوله : لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ فأرسل إلىّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم قال : « إن اللّه صدقك »
.(3/680)
ج 3 ، ص : 681
لا تنفقوا على من عند رسول اللّه من المهاجرين حتى ينفضوا ويتفرقوا عنه. عجبا لهؤلاء ، أما علموا أن في السماء الرزق ، وأن للّه خزائن السموات والأرض ، وأنه هو الرزاق ذو القوة المتين ، ولكن المنافقين لا يفقهون ذلك. يقولون : لئن رجعنا إلى المدينة من غزوة بنى المصطلق ليخرجن الأعز منها - أرادوا أنفسهم - الأذل من المهاجرين وأصحاب رسول اللّه ، بئسما قالوا والحال أن العزة والقهر والغلبة للّه على أعدائه ، ولرسوله العزة بنصرة دينه وإظهاره على الأديان كلها ، وللمؤمنين العزة بنصرتهم على أعدائهم ، وخاصة من يقول هذا الكلام السابق ، ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك.
أرأيت إلى المنافقين وإيمانهم الكاذب ، وأيمانهم ، وشهادتهم ؟ - واللّه يعلم إنهم لكاذبون - انظر إليهم وقد اتخذوا أيمانهم جنة لهم ، وقد صدوا عن سبيل اللّه وساء عملهم ، وهم في المجالس كالخشب المسندة ، ويظنون أن كل صيحة واقعة عليهم ، وهم الذين يدعون غيرهم إلى الإمساك والشح لقصر عقولهم ، ويتعاهدون على إخراج المؤمنين معتزين بالباطل والغرور ، ولكن العزة للّه ولرسوله وللمؤمنين إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [سورة النساء آية 145].
يا أيها الذين آمنوا : لا تكونوا كالمنافقين الذين يغترون بالأموال والأولاد ، ويشتغلون بتدبيرها ورعايتها عن ذكر اللّه ، ولا شك أن من أهم الأسباب التي تدفع الإنسان إلى النفاق أو التحلل من الدين هو الانشغال بالدنيا وعوارضها ، والانهماك الشديد في تحصيلهما ورعايتهما ، فذلك مما يشغل الإنسان عن ذكر اللّه وعن عبادته ، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون لأنهم باعوا الباقية بالفانية ، واشتروا الضلالة بالهدى ، وليس معنى هذا أننا نترك الدنيا بما فيها من الأموال والأولاد ، لا. ولكن المنهي عنه هو الانشغال بهما عن ذكر اللّه ، أما إعطاء الدنيا حقها مع العبادة وذكر اللّه فهذا هو مطلوب الشرع الشريف ، وفي هذه الدائرة يتنافس المتنافسون ، وأنفقوا بعض ما رزقناكم ، أنفقوا بعض ما جعلكم اللّه خلفاء فيه ، وأنفقوا بعضا يكن لكم حصنا ووقاية من عذاب اللّه ، أنفقوا بعض المال يكن حصنا لكم ولمالكم حتى لا يذهب في الدنيا ، ولا تعاقبوا في الآخرة ، أنفقوا قليلا من المال من قبل أن يأتى أحدكم مقدمات الموت وأماراته فيقول حين يرى ما أعد للمتخلفين عن أوامر اللّه ، فيقول : رب لولا(3/681)
ج 3 ، ص : 682
أخرتنى ، أى : هلا أمهلتنى إلى أجل قريب وأعطيتنى أمدا قصيرا في الدنيا فأتصدق ببعض مالي ليكون وقاية لي من هذا العذاب وأكن « 1 » من العباد الصالحين.
ولن يؤخر اللّه نفسا إذا جاء أجلها ، ولن يمهلها طرفة عين فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ. [سورة الأعراف آية 34].
وهكذا كل مفرط في دينه ، وعابث في دنياه عند الاحتضار يكون نادما على ما فرط سائلا الرب - سبحانه وتعالى - طول الأجل ولو مدة يسيرة ليستعتب وليستدرك ما فاته ، ولكن هيهات ثم هيهات! قد كان ما كان. وهو آت آت ، واللّه خبير بما تعملون.
___________
(1) قرئ وأكون عطفا على (فأصدق) ، وقرئ وأكن بالجزم بالعطف على موضع (فأصدق) كأنه قيل : إن أخرتنى أصدق وأكن ، وعند سيبويه أنه جزم على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني.(3/682)
ج 3 ، ص : 683
سورة التغابن
مدنية عند الأكثرين ، وقال بعضهم : مكية إلا قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ إلى آخر السورة. وعدد آياتها ثماني عشرة آية ، وهي في بيان قدرة اللّه وعلمه.
من مظاهر قدرته وعلمه [سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)
المفردات :
صَوَّرَكُمْ التصوير : تخطيط وتشكيل ، وهو الذي يكون به صورة الشيء وهيئته التي يعرف بها ويتميز عن غيره بسمتها. بِذاتِ الصُّدُورِ أى : صاحبة الصدور التي لا تبارحها ، المراد بذلك حديث النفس والسر الذي لم يبح لأحد.(3/683)
ج 3 ، ص : 684
المعنى :
يسبح للّه ما في السموات ، وما في الأرض ، وينزهه عن كل نقص ، تنزيها مستمرّا كل ما فيهما ، وذلك بدلالته على اتصافه بكل كمال ، وسموه عن كل نقص ، له الملك وحده دون غيره إذ هو المبدئ المعيد الخالق المصور - سبحانه وتعالى - وله وحده الحمد إذ هو المولى لكل النعم الرحمن الرحيم ، وأما ملك غيره لبعض الأشياء فاسترعاء منه - جل شأنه - وتمليك منه له ، وما حمد غيره - تبارك وتعالى - فلجريان بعض النعم على يديه فهو له في الحقيقة والواقع. وهو على كل شيء قدير.
وها هي ذي بعض آثار القدرة : هو الذي خلقكم وأوجدكم من العدم ، خلقكم من تراب وسواكم ، ثم نفخ فيكم من روحه فكان الإنسان مكونا من مادة وروح ، وفيه نوازع الخير ونوازع الشر ، فمنكم أيها الناس كافر ، ومنكم مؤمن ، واللّه - جل جلاله - هو الذي أراد هذا وقدره ، وكفر الكافر من تغلب مادته على روحه ، وهكذا العاصي ، والمؤمن بالعكس ، وسيجازى ربك على الكفر والمعصية ، أو على الإيمان والحسنة لأن صاحبها اختار ذلك ، واللّه بما تعملون بصير ، وهو بخلقه خبير.
الذي خلقكم ، وكان منكم الكافر والمؤمن خلق السموات والأرض ، وهذا الكون كله الذي عرف بعضه ، وجهل أكثره لم يخلق عبثا بل خلق خلقا ملتبسا بالحق والحكمة البالغة ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى ، وهو الذي صوركم فأحسن صوركم لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ « 1 » نعم خلقنا فصورنا على أتم صورة ، وأكمل نظام ، وأدق ترتيب ، خلق فينا العقل والفكر ، والنظر والبيان لنعرف مآلنا ونهاية أمرنا إن كنا من المفكرين! صورنا في أحسن صورة وإليه وحده المرجع والمصير ، فالواجب أن نتقي اللّه وننظر ما قدمناه لغد ، ونعلم أن اللّه يعلم ما في السموات والأرض ، وهو يعلم الغيب والشهادة ، ويعلم السر وأخفى ، وهو العليم بذات الصدور جل شأنه وتبارك اسمه سبحانه وتعالى!
___________
(1) - سورة التين آية 4.(3/684)
ج 3 ، ص : 685
إثبات البعث وتهديد الكفار [سورة التغابن (64) : الآيات 5 الى 10]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
المفردات :
نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا : خبرهم المهم. وَبالَ أَمْرِهِمْ : عاقبته « 1 » .
___________
(1) أصل الوبال الثقل والشدة المترتبة على أمر ، ومنه الوبيل : الطعام يثقل على المعدة ، والوابل للمطر الثقيل ، ثم أطلق على الضرر الذي يصيب الإنسان لأنه يثقل عليه ، وعبر عن كفرهم بالأمر إشارة إلى أنه أمر هائل فظيع.(3/685)
ج 3 ، ص : 686
زَعَمَ : ظنوا ، الزعم : هو ادعاء العلم بالباطل. بَلى : نعم. النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا أى : القرآن. لِيَوْمِ الْجَمْعِ : هو يوم القيامة تجمع فيه الخلائق كلها.
يَوْمُ التَّغابُنِ : هو يوم القيامة الذي يغبن فيه أهل الجنة أهل النار.
المعنى :
ألم يأتكم - أيها الكفار - خبر من كان قبلكم من قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، هؤلاء كفروا فذاقوا وبال أمرهم ، وكان عاقبة كفرهم خسرا عليهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب أليم لا يقادر قدره. ذلك العذاب الذي ذاقوه في الدنيا ، وسيذوقونه في الآخرة بسبب أنه كانت تأتيهم رسلهم بالآيات المبينات والمعجزات الظاهرات ، فكانوا يكفرون عنادا وكبرا ، ويقولون - أى : تقول كل أمة منهم - : أبشر يهدينا ؟ ! منكرين أن يكون الرسول بشرا ولو ظهرت في يديه المعجزات أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ ؟ فكأن الكل قالوا : أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا « 1 » ؟ فكفروا ، وأعرضوا عن الآيات ، واستغنى اللّه عنهم حيث أهلكهم بعذاب من عنده ، ولو لا غناه عنهم لهداهم إلى الإيمان ووفقهم إليه ، واللّه هو الغنى عن خلقه فضلا عن طاعتهم وإيمانهم ، المحمود في السماء والأرض بلسان الحال لا بلسان المقال.
زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا. ظنوا هذا بلا دليل وحجة ، وادعوا العلم على ذلك بلا برهان ، ولا شك أنه زعم باطل ، قل لهم يا محمد : بلى. وربي لتبعثن يوم القيامة ثم لتنبؤن بما عملتم ، ولتجزون على ذلك ، وذلك كله على اللّه يسير ، فإنه على كل شيء قدير.
وإذا كان الأمر كذلك فآمنوا باللّه ورسوله ، وآمنوا بالنور الذي أنزلنا. وهو القرآن الذي أنزل رحمة للعالمين ، ونبراسا للناس أجمعين يهديهم إلى الصراط المستقيم. ويقودهم إلى سعادة الدنيا والآخرة ، فهو بلا شك نور رب العالمين ، واللّه بما تعملون خبير.
___________
(1) البشر هنا اسم جنس فوصف بالجمع ، على أنه مبتدأ ويهدوننا خبر ، وقيل : هو منصوب على الاشتغال. [.....](3/686)
ج 3 ، ص : 687
اذكروا يوم يجمعكم الحق - تبارك وتعالى - ليوم الجمع ، يوم تجمع فيه الخلائق كلها ، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون ، والثقلان أجمعون ، ذلك يوم التغابن ، وهو يوم القيامة سمى بذلك لأنه يوم يظهر فيه غبن كل كافر ترك الإيمان ، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان. ولا شك أن ذلك هو التغابن حقيقة الجدير بهذا الاسم « 1 » .
وَمَنْ يُؤْمِن ْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً ...
وكأن هاتين الآيتين بيان لمعنى التغابن :
ومن يؤمن باللّه حقا ويعمل صالحا يكفر اللّه عنه سيئاته ويسترها عليه ، ويدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار ، خالدين فيها وذلك هو الفوز العظيم ، والذين كفروا باللّه ورسوله ، وكذبوا بآياته - وخاصة القرآن الكريم - أولئك هم أصحاب النار خالدين فيها وبئس مصيرهم ، فانظر إلى عاقبة المؤمنين. ونهاية الكافرين.
الحياة الدنيا في نظر المؤمنين [سورة التغابن (64) : الآيات 11 الى 18]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
___________
(1) والتغابن تفاعل من الغبن ، وهو أخذ الشيء من صاحبه بأقل من قيمته ، وهو لا يكون إلا في عقد المعاوضة ، ولا معاوضة في الآخرة فإطلاق التغابن على ما يكون يوم القيامة إنما هو بطريق الاستعارة ، وذلك لأن كلا من المؤمن والكافر جعله اللّه قادرا على اختيار ما يؤدى إلى سعادة الآخرة فاختيار كل فريق ما يشتهيه مما كان قادرا عليه يدل ما اختاره الآخر فهذا الاختيار منهما مشبه بالمبادلة والتجارة ، وشبه ما يتفرع عليه من نزول كل واحد منها منزلة الآخر بالتغابن 1 ه من حاشية الجمل وزادة.(3/687)
ج 3 ، ص : 688
المفردات :
ْنَةٌ
والفتنة : بلاء ومحنة. مَا اسْتَطَعْتُمْ : جهد طاقتكم. شُحَّ نَفْسِهِ الشح : البخل والحرص الشديدان. تُقْرِضُوا المراد : تتصدقوا وتنفقوا.
سبب النزول :
روى أن الكفار قالوا : لو كان المسلمون مسلمين حقا لصانهم اللّه عن المصائب في الدنيا.
فنزل قوله تعالى : ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ ... الآيات توضح حقيقة الدنيا ، وما يصيب المسلم فيها من خير أو شر.
المعنى :
لقد سبق بيان نتيجة الإيمان ونهايته ، ونتيجة الكفر وغايته من الفوز العظيم للمؤمنين في الآخرة والمصير السيئ للكافرين فيها.(3/688)
ج 3 ، ص : 689
أما الدنيا فأمرها سهل هين جدّا إذ هي ليست دار جزاء ولا مثوبة ، ولكنها دار عمل وتعب ، وقد تكون محل ابتلاء واختبار بنزول المصائب والمحن على بعض الناس.
ومن يؤمن باللّه ، ويعتقد هذا فإن اللّه هاديه إلى الحق والصواب من الصبر والثبات ، والرجوع إلى اللّه ، ولذلك يبيت هادئ النفس قرير العين مستريح القلب ، واللّه بكل شيء عليم ، وغير المؤمن إذا نزل به حادث أو ألمت به مصيبة ضجر وجزع ، وأصابه الغم والكرب ، وقضاء اللّه نافذ على الجميع.
وما علينا إلا أن نطيع اللّه ورسوله في كل أمر ونهى فهذا هو العلاج الناجع ، والدواء الصادق ، فإن تولى البعض وأعرض فإنما حسابه على ربه ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين ، فاللّه وحده هو الإله المقصود في كل شيء الذي له الملك وإليه يرجع الأمر كله فعليه وحده يتوكل المؤمنون ...
أما الفهم الصحيح السليم للأزواج والأولاد ، وللأهل والأموال فقد تكفلت الآيات : 14 ، 15. إلى آخر السورة بذلك فقد
روى أن عوف بن مالك الأشجعى كان ذا أهل وولد ، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه وقالوا : إلى من تدعنا ؟ فيرق فيقيم فنزلت الآية ..
وفي رواية أنها نزلت في رجال أسلموا بمكة ، وأرادوا أن يأتوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فلما أتوا النبي ورأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم فأنزل اللّه تعالى هذه الآيات.
يا أيها الذين آمنوا إن بعض أزواجكم وأولادكم عدوّا لكم ، حيث يفعلون معكم فعل العدو ، ويكونون حجر عثرة أمامكم يمنعونكم من فعل الخيرات ، وقد يدعونكم إلى ارتكاب الذنوب والآثام في سبيل راحتهم والحرص على سعادتهم ، ألست معى في أن من يفعل معى فعل العدو ، ويمنعني عن الخير الذي ينفعني ، ويحملني على فعل المعاصي يكون عدّوا لي ، ولو كان زوجا أو ابنا أو غيرهما ؟ إذا كان الأمر كذلك فاحذروهم ، وقوا أنفسكم من شرورهم وآثامهم إن كانت لهم.
ولكنهم من أهلك وذوى قرابتك فالمطلوب منك أن تحذر ما يوقعك في الشر فقط ، ثم تعفو وتصفح وتغفر ، فإنك إن تعف وتصفح وتغفر يعف عنك اللّه ، إن اللّه غفور رحيم.(3/689)
ج 3 ، ص : 690
إنما أموالكم وأولادكم فتنة وبلاء ، ومحنة واختبار قد يترتب عليهم الوقوع في الآثام والشدائد ، وكثيرا ما رأينا المال والأولاد يدفعان صاحبهما إلى فعل المهلكات ويحملان بعض الناس على الغرور الكاذب ، وارتكاب الآثام والفظائع كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى « 1 » واللّه عنده أجر عظيم ، فانظروا إليه ودعوا المال والولد فإنه لن ينفعكم يوم الحساب.
فاتقوا اللّه ما استطعتم ، وابذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم ، وليكن أحب شيء إلى النفس حب اللّه ورسوله ، واسمعوا مواعظه وأوامره سماع قبول ، وأطيعوا في كل ما أمر ، وأنفقوا مما رزقكم يكن خيرا لكم وأفضل ، ولا يكن الولد والأهل مدعاة للجبن والبخل ، واعلموا أنه من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ، إن تصرفوا « 2 » بعض الأموال في سبيل اللّه وابتغاء رضوانه يثبكم على ذلك ثوابا جزيلا ويغفر لكم ، واللّه شكور مجاز على الطاعات ، حليم في العقاب على المعصية ، وهو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم.
___________
(1) سورة العلق الآيتان 6 و7.
(2) سماه اللّه قرضا من حيث التزام اللّه ثوابه فهو يشبه القرض من هذه الناحية فيكون استعارة.(3/690)
ج 3 ، ص : 691
سورة الطلاق
مدنية بالإجماع ، وعدد آياتها إحدى عشرة آية ، أو اثنتا عشرة آية.
وتشتمل على أحكام تتعلق بالعدة وأحكامها ، ثم تهديد بذكر عاقبة المخالفين.
أحكام تتعلق بالعدة [سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً (3) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4)
ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)(3/691)
ج 3 ، ص : 692
المفردات :
وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ : اضبطوها ، وأصل معنى الإحصاء : العد بالحصى كما كان أولا ، ثم صار حقيقة في العد مطلقا. بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ : بسبب ارتكاب ذنب ظاهر كالزنا مثلا. حُدُودُ اللَّهِ : أحكامه. بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ : قضين عدتهن ، والمراد : شارفن على انقضائها. ذَوَيْ عَدْلٍ : أصحاب عدل وذمة. وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ : أدوها لوجه اللّه بلا تحريف. مَخْرَجاً : طريقا للخروج من المآزق والأزمات العائلية. حَسْبُهُ : كافيه. بالِغُ أَمْرِهِ المراد : يبلغ ما يريده عز وجل. مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ : من جهة لا تخطر له على بال. قَدْراً :
تقديرا لا يتعداه أصلا. يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ : أصابهن اليأس من الحيض لتقدم سنهن. إِنِ ارْتَبْتُمْ : إن شككتم أو ترددتم في عدتهن. وَأُولاتُ الْأَحْمالِ :
أصحاب الأحمال ، جمع حمل والمراد النساء الحبليات. أَجَلُهُنَّ : انقضاء عدتهن(3/692)
ج 3 ، ص : 693
بالوضع. مِنْ وُجْدِكُمْ أى : مما تجدونه ، ويكون في وسعكم وطاقتكم.
وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ : ائتمر وتآمر بمعنى واحد ، والمراد : تشاوروا في إرضاع الطفل ، والمعروف : المسامحة والروح الكريمة. تَعاسَرْتُمْ : أصابكم إعسار واختلاف. قُدِرَ : قتر عليه في الرزق.
المعنى :
يا أيها النبي : إذا أردتم طلاق النساء فالواجب أن تطلقوهن لعدتهن ، نادى اللّه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ثم خاطب الجميع بقوله : إذا طلقتم للإشارة إلى أنه إمام أمته. وسيد جماعته كما يقال : يا فلان افعلوا كذا فهو المتكلم عنهم ، والآمر لهم وهم لا يصدرون إلا عن رأيه فكان هو وحده سادا مسد الجميع ، ولعل اختيار لفظ النبي في هذا يؤيد هذا المعنى ، وقيل : نودي أولا ثم خوطبت أمته لأن أمر الطلاق مما لا يصح توجيهه للنبي الكريم.
الطلاق جعل سلاحا في يد الزوج ، ولكن يجب أن يستعمل في أضيق حدوده ، ولا يشرع إلا إذا كان لا بد منه. فهو كما
يقول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « أبغض الحلال إلى اللّه الطّلاق »
وروى عن أبى موسى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « ولا تطلّقوا النّساء إلا من ريبة - أى : بسببها - فإنّ اللّه عزّ وجلّ لا يحبّ الذّوّاقين ولا الذّوّاقات »
وعن أنس قال : قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « ما حلف بالطّلاق ولا استحلف به إلّا منافق »
هذا الطلاق المبغوض عند اللّه يجب ألا يوقعه الزوج في حالة يزداد بها ضرر المرأة ، ولذا قال الفقهاء : إن الطلاق نوعان سنى وبدعى ، أما السنى فهو الذي يقع في طهر مسبوق بحيض لم تجامع فيه المرأة ، والبدعى غير ذلك ، والمراد في الآية أن يكون الطلاق لعدتهن أى : في الوقت الذي يشرعن فيه في العدة ، وهو في أى طهر لم تجامع فيه ، وهذا ما يسمى بالطلاق السنى.
وأحصوا - أيها الأزواج والزوجات - العدة - فإن المرأة المدخول بها إذا طلقت طلاقا واحدا أو اثنين كان لزوجها حق مراجعتها في العدة ، فإن فاتت العدة كانت خطبة من جديد إن أراد ، فإن طلقها ثلاثا لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره.
واتقوا اللّه ربكم ، نعم أمرنا بالتقوى وسط هذه الأوامر التي يطل فيها الشيطان برأسه ، وتسرع فيها الفتنة إسراعا كثيرا قد يدعو إلى تغيير الذمة ، لهذا أمرنا بتقوى اللّه(3/693)
ج 3 ، ص : 694
في الطلاق وهدم البيوت ، وتقوى اللّه في إحصاء العدة ، وتقوى اللّه في القضاء على آمال امرأة ، وربما كان لها أطفال. اتقوا اللّه أيها الناس ولا تخرجوهن ، أى : المطلقات من بيوتهن التي هي ملك للزوج ، ولكنها أضيفت لهن لتأكد النهى عن إخراجها من مسكنها الذي كانت تسكن فيه قبل الطلاق ، ولا يخرجن ، أى : النساء من تلك البيوت إلا أن يأتين بفاحشة ظاهرة تدعو إلى الإخراج كالزنا أو السرقة أو سبها لمن في البيت من الأهل والأبوين ، فلو اتفق الزوجان على الخروج جاز عند بعض الأئمة.
وتلك حدود اللّه وأحكامه ، ومن يتعد حدود اللّه بأن أخل بشيء منها فقد ظلم نفسه وأضر بها ، إذ حدود اللّه لمصلحة الإنسان ، وأنت لا تدرى ، لعل اللّه يحدث بعد ذلك أمرا ، نعم أنت لا تدرى فربما كان بقاء المرأة في مسكنها مدة العدة يدعوك إلى أن تراجع نفسك وترجع عما فعلته فتراجعها في العدة ، وهذا كثيرا ما يحصل ، بخلاف ما لو خرجت من البيت وكثر القيل والقال. وتدخل الناس بالإفساد انقطع غالبا حبل الصلة ، والمشرع حريص جدّا على عدم انقطاعه.
فإذا شارفن على آخر العدة فإما إمساك بمعروف بأن تراجعها لا للإضرار ، أو تسريح بإحسان ومفارقة بمعروف ،
فالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « لا ضرر ولا ضرار » .
ويندب أن تشهدوا رجلين عدلين على الطلاق أو الرجعة حتى لا يحصل خلاف فإن الذاكرة قد تخون ، والنفس قد تسول لك أمرا لا يحبه اللّه ، والواجب على الشهود أن يقيموا الشهادة للّه ، ويؤدوها خالصة لوجهه.
ذلكم - الأحكام - يوعظ بها المؤمنون باللّه واليوم الآخر حقا ، أما غيرهم فلا يؤمنون ولا يوعظون بها.
ومن يتق اللّه يجعل له مخرجا من كل شدة ، ومتسعا من كل ضيق ، وغنى من كل فقر ، وسعادة من كل بؤس فالتقوى هي الطريق الأقوى ، ومن يتق اللّه يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يدرى ، ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه وكافيه ، والتقوى والتوكل ليسا باللسان وإنما هما بالقلب ، ولا يعرفهما إلا الخالق العالم فلا يطلع عليهما سواه ، واللّه يقول ذلك ، وهو أصدق القائلين ، ولكن من ذاق عرف ، ولا يعرف الشوق إلا من يكابده. قال الربيع بن خيثم : إن اللّه - تعالى - قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ، ومن آمن به هداه ، ومن أقرضه جازاه ، ومن وثق به نجاه ، ومن دعاه أجاب(3/694)
ج 3 ، ص : 695
له ، وتصديق ذلك في كتاب اللّه وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن 11] وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق 3] إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ [التغابن 64] وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران 101] وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة 186] وكيف لا تتوكل على اللّه ، واللّه بالغ ما يريده ، قد جعل اللّه لكل شيء قدرا وتقديرا لا يتعداه بحال ، فلا يبقى إلا التسليم والتوكل على اللّه حق التوكل ، وهذا تأكيد وتقرير لقبول أحكام اللّه.
عدة الآيسة من الحيض : عرف اللّه الناس عدة المطلقة التي تحيض بقوله :
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وبين هنا حكم الطلاق والرجعة فيه.
أما عدة الآيسة التي لا تحيض لكبر سنها فعدتها ثلاثة أشهر إن شككتم فلم تدروا ما الحكم فيهن ، وقيل : إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض ، أو لم يجر على الطريق المألوف وعند ذلك تسمى بالمستحاضة.
عدة الصغيرة التي لم تحض : واللائي لم يحضن من الصغار فعدتهن ثلاثة أشهر كذلك.
عدة الحامل : وأصحاب الحمل من النساء عدتهن بوضع الحمل مطلقا سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها زوجها ، وسواء كان الحمل علقة أو مضغة أو سقطا أو جنينا كاملا ولو كان الوضع بعد الوفاة بلحظة.
ومن يتق اللّه حق تقواه يجعل له من أمره يسرا ، ذلك الذي ذكره من الأحكام أمر اللّه أنزله إليكم ، وبينه لكم ، ومن يتق اللّه باجتناب كل نواهيه ، وامتثال كل أوامره يكفر عنه سيئاته ، ويعظم له أجره في الآخرة.
حق السكنى :
أسكنوهن - أى : المطلقات البائنات من أزواجهن واللاتي لا رجعة لهم عليهن - كالمطلقة مع الإبراء وليست حاملا وهذه المرأة لها حق السكنى دون النفقة والكسوة لأنها بائن منه لا يتوارثان ولا رجعة لها ، ولذا أوجبت لها السكنى فقط ، أما الحامل فلها السكنى والنفقة والكسوة حتى تضع ، أما المرأة التي لم تبن من زوجها فهي امرأته ترثه ويرثها ، ولا تخرج من البيت إلا بإذنه كما أمر ، لأنها مطلقة طلاقا رجعيا فهي ملحقة بالزوجة لها كل ما لها ، وأما المطلقة ثلاثا فمذهب مالك والشافعى أن لها السكنى دون النفقة كالبائن ، وأبو حنيفة يقول : لها السكنى والنفقة.(3/695)
ج 3 ، ص : 696
أسكنوهن بعض مكان سكناكم « 1 » من وجدكم ، أى : مما تجدونه ومما تطيقونه ، ولا تضاروهن في شيء فلتجئوهن إلى الخروج.
نفقة الحامل : والحامل المطلقة تجب لها النفقة والسكنى حتى تضع ، وأما الحامل المتوفى عنها زوجها فقيل : ينفق عليها من جميع المال حتى تضع ، وقيل : ينفق عليها من نصيبها فقط.
رضاع الطفل :
إذا طلقت المرأة وهي ترضع طفلها ، فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة الرضاع ، وهل للمرأة أن تأخذ الأجرة على الرضاع مطلقا وهي في عصمة الزوج أو لا يجوز لها إلا إذا كانت مطلقة بائنة أو غير بائنة ؟ أقوال للفقهاء ، وعلاج القرآن في هذا هو : وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ والمراد هو التشاور بالمعروف والقول الجميل بلا شدة ولا إضرار ، فهو يقوم بطلباتها : وهي تقوم بإرضاع طفلها بلا معاكسات ومحاكمات. فإنها مهما كانت أم أولاده ، وهو أب أولادها فمن الخير الإبقاء على الصلة :
لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً.
وإن تعاسرتم في أجرة الرضاع ، أو اشتطت الأم في الأجرة ، أوشح الرجل في دفعها فسترضع له امرأة أخرى ، على أن المرأة المطلقة ليست ملزمة بالإرضاع للطفل إلا إذا أبى ثدي غيرها.
النفقة :
لينفق الزوج على زوجته المطلقة وعلى ولده الصغير على قدر وسعه بالنسبة لحاله فإن كان غنيا أنفق نفقة الأغنياء ، وإن كان فقيرا أنفق نفقة الفقراء وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ ، وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ « 2 » وقد قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لهند : « خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف »
لا يكلف اللّه نفسا إلا ما آتاها وما في وسعها. واتقوا اللّه فلا تظلموا غيركم ، ولا تدعوا ما ليس فيكم ، اتقوا اللّه في ادعاء الفقر أو الغنى ، واعلموا أن اللّه سيجعل بعد عسر يسرا ، وبعد الضيق فرجا ، وبعد الفقر غنى وهو على كل شيء قدير.
___________
(1) يقولون : إن جملة (أسكنوهن) وقعت جوابا على سؤال تقديره : كيف يتقى اللّه فيهن ؟ وقوله : (من وجدكم) بيان : أو بدل من قوله : (من حيث سكنتم).
(2) سورة البقرة آية 233.(3/696)
ج 3 ، ص : 697
وعد ووعيد [سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 12]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً (12)
المفردات :
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ : وكثير من القرى عَتَتْ : من العتو ، والمراد :
أعرضت. نُكْراً : شديدا منكرا. وَبالَ أَمْرِها : عاقبته. أُولِي الْأَلْبابِ : أصحاب العقول. ذِكْراً : هو القرآن. رِزْقاً : جزاء حسنا.
الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ المراد : أمر اللّه وقضاؤه.
لقد سبقت أوامر للّه وأحكام تتعلق بالأسرة والبيوت والطلاق والزواج والعدة والنفقات ، وكانت في أول العصر الحديث مثار نقد شديد وطعن من علماء الغرب على(3/697)
ج 3 ، ص : 698
الإسلام ، ثم انتهى الأمر إلى أن أخذوا بمبدأ الإسلام في الطلاق والزواج. سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ « 1 » واللّه - جل جلاله - يهددنا إن تركنا أحكام القرآن بأنه سيغضب علينا ويذيقنا سوء العذاب في الدنيا والآخرة جزاء إهمال أحكام الإسلام ، وقد كان ذلك.
المعنى :
كثير « 2 » من القرى - والمراد أصحاب كل قرية - عتت عن أمر ربها ، وأعرضت عنه ، وأهملته وخرجت عن أمر رسولها ، ولم تمتثل له فكان الجزاء أنها حوسبت على أعمالها حسابا شديدا على ذلك ، وعذبت عذابا منكرا في الدنيا والآخرة ، فهي قد ذاقت وبال أمرها وعاقبته ، وكانت عاقبة أمرها خسارة هائلة. أعد اللّه لها عذابا شديدا بعد ذلك في الآخرة غير ما مضى ، ألست معى في أن من يترك أحكام اللّه ، ويهمل أمر الدين يكون جزاؤه العذاب في الدنيا والآخرة ؟ ! وإذا كان الأمر كذلك فاتقوا اللّه يا أصحاب العقول الراجحة - أعنى بهم الذين آمنوا باللّه ورسوله - وكأن سائلا سأل وقال : لم هذا ؟ فكان الجواب : قد أنزل اللّه إليكم أيها الناس ذكرا لكم هو القرآن ، وأرسل رسولا يتلو عليكم آيات اللّه مبينات ، تبين لكم كل شيء وتهديكم إلى كل خير ، وقد بينها لكم ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ، والمراد بهم من أراد اللّه لهم هذا ، وسبق في علمه أنهم من أهل الجنة.
ومن يؤمن باللّه ويعمل صالحا يدخله ربك جنات تجرى من تحتها الأنهار ، وقد أحسن اللّه له رزقا فيها ، ووسع له في جنات النعيم.
ولا غرابة في ذلك كله فهي تشريعات الحكيم الخبير بكل شيء ، فاحذروا مخالفة أمره
___________
(1) سورة فصلت آية 53.
(2) في هذا إشارة إلى أن (كأين) بمعنى كم الخبرية وهي تفيد التكثير ، وأعربت مبتدأ و(من قرية) تمييز ، و(عتت) خبر لها.(3/698)
ج 3 ، ص : 699
فإنه من يخالفه يذقه عذابا شديدا ، فهو اللّه الذي خلق السموات السبع. وخلق من الأرض مثلهن ، أى : سبعا وإن تكن مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات ، وقيل : المثلية في خضوعها للّه وأمره وإرادته ، اللّه الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل أمر اللّه وقضاؤه وحكمه بينهن ، فالكل خاضع له جل جلاله ، ومن كان كذلك كان قادرا على إيقاع العذاب على العصاة والمخالفين لأمره - جل جلاله - ، ولتعلموا أن اللّه على كل شيء قدير ، وأن اللّه قد أحاط بكل شيء علما ، فاتقوا اللّه يا أصحاب العقول ، واحذروا عقابه الشديد ، واعتبروا بمن سبقكم من الأمم ، واعلموا أن علاج القرآن لمشاكلكم إنما هو علاج الخبير البصير.(3/699)
ج 3 ، ص : 700
سورة التحريم
مدنية بالإجماع ، وعدد آياتها اثنتا عشرة آية وتسمى سورة النبي ، ولذا تعرضت إليه كزوج وإلى بعض ما حدث من زوجاته ، وذكرت مع بعض توجيهات مواعظ وأمثلة.
ما حدث من بعض زوجاته من خصومة [سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5)(3/700)
ج 3 ، ص : 701
المفردات :
فَرَضَ : شرع وسن. تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ : تحليلها ، وحل ما عقدته الأيمان بالكفارة ، أو بفعل المحلوف عليه. مَوْلاكُمْ : سيدكم ومتولى أموركم. نَبَّأَتْ بِهِ : أخبرت. وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ : أطلعه عليه وجعله ظاهرا عليه.
صَغَتْ : مالت وقرئ : زاغت. مَوْلاهُ : ناصره. ظَهِيرٌ أى :
مظاهرون ومعاونون. قانِتاتٍ : مواظبات على الطاعات. عابِداتٍ :
متعبدات أو متذللات. سائِحاتٍ المراد : صائمات. ثَيِّباتٍ : جمع ثيب ، وهي التي ترجع عن الزواج بعد زوال بكارتها. وَأَبْكاراً : جمع بكر من بكر : إذا تقدم غيره ، ولا شك أنها تتقدم الثيب ، والمراد بها من لم تفض بكارتها.
روى الشيخان عن عائشة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يحب الحلوى والعسل ، وكان إذا صلى دار على نسائه فيدنو من كل واحدة منهن ، فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس. فسألت عن ذلك فقيل لي : أهدت إليها امرأة من قومها عكة « 1 » عسل فسقت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منه شربة ، فقلت : واللّه لتحتالن له فذكرت ذلك لسودة وقلت لها : إذا دخل عليك ودنا منك فقولي له : يا رسول اللّه : أكلت مغافير « 2 » وقولي له : وما هذا الريح ؟ وكان صلّى اللّه عليه وسلّم يكره أن يوجد منه الريح الكريهة ، فإنه سيقول لك : سقتني حفصة شربة عسل ، فقولي له : أكلت العرفط « 3 » حتى صارت فيه ، أى :
في العسل - ذلك الريح الكريهة ، وإذا دخل علىّ فسأقول له ذلك ، وقولي أنت يا صفية ذلك ، وقد فعلن هذا.
وفي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة ، وفي رواية أخرى أن التي شرب عندها العسل زينب بنت جحش ، والذي حرمه العسل ، وأن حفصة وعائشة ائتمرتا عليه ، وقد حلف لحفصة عند ما كلمته أنه لن يعود وأمرها ألا تخبر أحدا.
وروى الدّارقطنيّ عن ابن عباس عن عمر قال : دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بأم ولده مارية في بيت حفصة فوجدته حفصة معها - وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها -
___________
(1) العكة : آنية صغيرة يوضع فيها سمن أو عسل.
(2) المغافير : جمع مغفور : بقلة أو صمغة متغيرة الرائحة فيها حلاوة.
(3) - هو نبت له ريح كريح الخمر.(3/701)
ج 3 ، ص : 702
فقالت له : تدخلها بيتي! ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك. فقال لها : « لا تذكري هذا لعائشة فهي علىّ حرام إن قربتها » قالت حفصة وكيف تحرم عليك وهي جاريتك ؟ فحلف لها ألا يقربها ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « لا تذكريه لأحد » فذكرته لعائشة فآلى ألا يدخل على نسائه شهرا فاعتزلهن تسعا وعشرين ليلة فأنزل اللّه - عز وجل - يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ
ويقول العلامة القرطبي : هذه الرواية أمثل في السند وأقرب إلى المعنى ، لكنها لم تدون في الصحيح.
المعنى :
يا أيها النبي المختار : لأى شيء تحرم ما أحل اللّه لك ؟ بمعنى : لا ينبغي منك ذلك ، على أن المراد بالتحريم الامتناع عن الاستمتاع بالعسل ، أو بمارية على الخلاف في الروايات ، وليس المراد بالتحريم اعتقاد كونه حراما بعد ما أحله اللّه.
لم تحرم ما أحل اللّه لك حالة كونك تبتغى مرضاة زوجاتك ؟ إذ لا ينبغي منك أن تشتغل بما يرضى الخلق بل اللائق أن زوجاتك وسائر الخلق تسعى في رضاك ، وتتفرغ أنت لمهام الرسالة ، واللّه غفور رحيم ، وفي ختام الآية بهذا دليل على تعظيم شأنه ، وعلو مكانه حيث جعل ترك الأولى بالنسبة لمقام الكريم يعد كالذنب ، وإن لم يكن في نفسه ذنبا ، ولم يكن عتاب اللّه لنبيه إلا لمزيد الاعتناء به.
لقد فرض اللّه لكم تحلة أيمانكم ، وشرع لكم تحليلها بالكفارة وبفعل المحلوف عليه ، وكفارة اليمين ذكرت في قوله تعالى : فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ (89 من سورة المائدة).
وعلى رواية أنه حلف تكون الآية ظاهرة المعنى ، وعلى أنه لم يحلف يكون سمى التحريم يمينا لأنه تجب فيه كفارة اليمين ، وهل كفر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بأن أعتق رقبة أو لم يكفر ؟ قولان ، قد فرض اللّه لكم تحليل يمينكم بالكفارة لها ، واللّه مولاكم وهو العليم فيعلم ما يصلحكم فيشرعه لكم ، وهو الحكيم في كل أفعاله وأحكامه.
واذكر إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه - هي حفصة على الصحيح - حديثا هو قوله صلّى اللّه عليه وسلّم عند ما عاتبته حفصة : كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود إليه ،(3/702)
ج 3 ، ص : 703
وقد حلف ، وطلب منها ألا تخبر أحدا ، ولكنها أخبرت عائشة بما جرى ، فعاتبها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
فلما نبأت به وأخبرته عائشة ، وقد أطلعه اللّه عليه ، مع أنه كان سرّا بينهما ، لما حصل هذا عرف النبي حفصة بعض الحديث الذي أفشته ، قيل : هو قوله لها : كنت شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود ، وأعرض النبي عن بعضه الآخر تكرما لما فيه من زيادة خجلها ، فلما نبأها به قالت : من أخبرك بهذا ؟ أهو عائشة يا ترى أم من ؟ فأجاب النبي : الذي أخبرنى هو العليم الخبير.
إن تتوبا إلى اللّه هذا خطاب لعائشة وحفصة كما روى عن عمر - رضى اللّه عنه - فلتوبتكما سبب وموجب فقد مالت قلوبكما عن الواجب ، فإن الواجب أن تكونا في مرضاة رسول اللّه تحبان ما يحب وتكرهان ما يكره. وفي قراءة : فقد زاغت قلوبكما ، والمراد : أسرعوا في التوبة وإرضاء رسول اللّه ، وإن تتظاهرا عليه وتتعاونا على ما يسيئه بسبب شدة الغيرة فلن يعدم من يظاهره فإن اللّه مولاه وناصره ، وجبريل وصالحوا المؤمنين كأبى بكر وعمر وغيرهما من كبار الصحابة ، والملائكة بعد ذلك ظهراء له ومتعاونون على إرضائه ، ومن كان كذلك فليس في حاجة إلى أحد بعد.
وهاك تهديدا آخر : عسى « 1 » ربه إن طلقكن أن يعطيه نساء بدلكن خيرا منكن لأنكن لو كنتن خيرا ، ما طلقكن. يبدله أزواجا مسلمات مخلصات ، مؤمنات مصدقات تائبات راجعات إلى اللّه في كل حين ، عابدات كثيرات العبادة ، سائحات صائمات ثيبات وأبكارا « 2 » .
ألست معى في أنه لا ينبغي لأحد أن يمتنع عن تناول ما أحله اللّه ؟ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ « 3 » وفي أن الكفارات تجبر الخلل الذي يحصل منا ، وفي أنا عرفنا موقف النساء بعضهن من بعض وغيرتهن ، أليست هذه القصة دليلا
___________
(1) عسى في القرآن واجب تحقيق ما بعدها إلا هذه ، وقيل : هو واجب ولكن اللّه - عز وجل - علقه بشرط وهو التطليق.
(2) ذكرت صفات بلا عطف لأنها تجتمع في موصوف واحد ولشدة ارتباطها ترك العطف ، وأما في قوله :
(ثيبات وأبكارا) فعطف لتباين الوصفين والعطف يقتضى المغايرة.
(3) سورة المائدة آية 87.(3/703)
ج 3 ، ص : 704
على أن هذا القرآن من عند اللّه لا من عند محمد ؟ ! إذ لا يعقل أن يسجل إنسان على نفسه عتابا ، أو يخبر عن نزاع في بيته.
توجيهات ومواعظ [سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (8) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
المفردات :
قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ : احفظوها. غِلاظٌ : شداد في الخلق.
شِدادٌ المراد : شداد في الجسم. نَصُوحاً : خالصة ، مأخوذة من قولهم :
عسل ناصح ، أى : خالص من الشمع ، أو المراد : بالغة في النصح. لا يُخْزِي :
لا يفضح ولا يستخف. وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ : اشتد عليهم.
وما أقوى هذه التوجيهات بعد سرد النزاع الداخلى في بيت النبي ، وما أروع هذه المواعظ بعده ، وما أحكم هذه المناسبة.(3/704)
ج 3 ، ص : 705
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا باللّه ورسوله قوا أنفسكم وأهليكم نار جهنم ، فإنها نار وقودها الناس والحجارة لا وقودها العشب والحطب احفظوا أنفسكم من هذه النار بترك المعاصي ، وفعل الطاعات ، واجتناب المنهيات ، التي تغضب اللّه ورسوله ، واحفظوا أهليكم منها بأن تأمروهن بالمعروف وتنهوهن عن المنكر ، وتعلموهن الخير وأوامر الشرع وتؤدبوهن بأدب القرآن ، والأهل : هم الزوجة والأولاد والخدم ومن هم في حوزتك ومعيشتك ، ولقد صدق اللّه : وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها « 1 » ، وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ « 2 » فالمسلم الواجب عليه أن يصلح نفسه أولا ، ويقي نفسه شر النار وغضب الجبار ، ثم يتجه ثانية إلى تكوين أسرته على مبادئ الدين الحنيف ويغرس في نفوسهم أدب القرآن الكريم. والفضائل الإسلامية العليا ، بهذا يكون وقى أهله من النار ، فلست مطالبا بنفسك فقط. لا. بل ع ليك نفسك ثم أهلك وأسرتك ، ثم إن أردت زيادة في الخير فادع إلى اللّه واعمل في محيط إخوانك ومعارفك وأصدقائك على نشر أدب الإسلام وتعاليمه.
قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة ، عليها حرس من الملائكة غلاظ الأخلاق شداد الأجسام ، لا يعصون اللّه ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون.
يا أيها الذين كفروا : لا تعتذروا اليوم - أى : عند إدخالهم النار تقول لهم الملائكة ذلك - ليس اليوم يوم عذر وعتاب ، وإنما هو يوم جزاء وحساب ، وإنما تجزون على ما كنتم تعملون في الدنيا.
يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى اللّه توبة نصوحا « 3 » خالصة لوجه اللّه ليست لغرض أبدا توبة بالغة في النصح لينصح بها صاحبها نفسه ، توبة تنصح الناس وتدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها على صاحبها.
والتوبة النصوح تستدعى الإقلاع عن الذنب ، والندم عليه لكونه ذنبا - لا لسبب آخر - ندما قلبيّا يدعو إلى الحزن والأسف على ما فرط ، وهذا بلا شك يستلزم العزم
___________
(1) سورة طه آية 132. [.....]
(2) سورة الشعراء آية 214.
(3) « نصوحا » من أمثلة المبالغة ، وفيها مجاز عقلي حيث أسندت للتوبة ، والمراد أصحابها.(3/705)
ج 3 ، ص : 706
على عدم العودة مرة أخرى ، فإذا كان الذنب في حق اللّه اكتفى الحال بهذا ، وإن كان في حق آدمي لزمك إرجاع الحق إلى صاحبه ، أو طلب عفوه ومغفرته عنه ولو بالجملة ، وهل قبول التوبة لازم أم متروك لمشيئة اللّه حتى يظل العبد متجها إلى اللّه ؟
الحق - واللّه أعلم - أنه لا يجب على اللّه قبول التوبة إذا وجدت بشروطها لكن اللّه يقبلها كرما منه وتفضلا ، عسى ربكم أن يكفر عنكم بالتوبة سيئاتكم ، ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار. يوم لا يخزى اللّه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بل يكرمه ويعزه لأنه الحبيب المصطفى ، ولا يخزى من معه من الذين آمنوا حالة كون نورهم يسعى ويمتد بين أيديهم وبأيمانهم ، بشراهم اليوم حالة كونهم يقولون لما رأوا غيرهم يضلون : ربنا أتمم لنا نورنا. واغفر لنا إنك على كل شيء قدير.
يا أيها النبي جاهد الكفار بكل ما أوتيت من قوة ، وكذا المنافقين ، اغلظ عليهم واشتد في معاملتهم. واعلم أن مأواهم جهنم ، وبئس المصير مصيرهم.
أمثلة حية للنساء [سورة التحريم (66) : الآيات 10 الى 12]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)(3/706)
ج 3 ، ص : 707
المفردات :
مَثَلًا المثل : الصفة العجيبة ، والمراد : إيراد حالة غريبة ليعرف بها حالة أخرى مشاكلة لها في الغرابة. فَلَمْ يُغْنِيا : لم يدفعا عنهما شيئا من الإغناء. أَحْصَنَتْ فَرْجَها : حفظته. بِكَلِماتِ رَبِّها : شرائعه. مِنَ الْقانِتِينَ : من القوم الطائعين.
قد ضرب اللّه هذه الأمثال ليعلم الجميع أن القربى إلى اللّه بالطاعات ، لا بالشفاعات والوسيلة ، وأن المؤمنة الصابرة على الإيذاء ينجيها اللّه من القوم الظالمين ، وفي هذا تعريض بأمهات المؤمنين وتخويف لهن بأنه لن ينفعهن قربهن من النبي إذا أتين بذنب.
وهذا ختام للسورة رائع بذكر ما يدل على مسئولية المرأة.
المعنى :
ضرب اللّه مثلا للذين كفروا والمغرورين الذين يدعون الشفاعة لهم من النبي :
ضرب مثلا امرأة نوح وامرأة لوط ، كانتا متزوجتين رجلين كريمين على اللّه : الأول نوح الأب الثاني للبشر ، والثاني لوط نبي كريم على اللّه ، ولكن هاتين المرأتين خانتا زوجيهما. والظاهر - واللّه أعلم - أنها خيانة في العقيدة أو في الخلق غير الزنا فإن الخيانة الزوجية بالزنا خلق ذميم يتبرأ منه الأنبياء وعائلاتهم ، فمن المعقول أن تكون امرأة النبي كافرة لأنها ترى هذا ، وليس من المعقول أن تكون زانية لأن الزنا مرض وراثي ينشأ من البيئة التي يعيش فيها الشخص ولا يعقل أن يمسك النبي امرأة زانية.
هاتان المرأتان خانت كل منهما زوجها بالكفر أو النميمة أو الاتصال بالأعداء مثلا ، فلم ينفعهما قربهما من الأنبياء ، ولم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما عند اللّه عن زوجتيهما(3/707)
ج 3 ، ص : 708
لما عصتا من عذاب اللّه شيئا ، وهذا بيان صريح على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالشفاعة ، وقيل لهما : ادخلا النار مع الداخلين لها ممن ليس لهم صلة بنبي أو غيره.
وضرب اللّه مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون وكانت مؤمنة صالحة ، أى : جعل حالها العجيب مثلا لحال المؤمنين في أن صلتها بالكافرين لم تضرها شيئا ، ما دامت هي تقوم بالعمل الصالح ، ضرب اللّه مثلها إذ قالت عند تعذيب فرعون لها : رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ، ونجنى من فرعون وعمله ، ونجنى من القوم الطغاة الظالمين.
وضرب اللّه مثلا للذين آمنوا مريم ابنة عمران أم عيسى - عليه السلام - التي أحصنت فرجها وحفظته ، لأنها العفيفة الحصينة المبرأة من العيب ، يا سبحان اللّه هذا هو وصف القرآن لمريم البتول الطاهرة. فنفخ اللّه فيه من روحه ، والنافخ هو جبريل بأمر اللّه ، نفخ في فرجها وفي جيب قميصها روحا من اللّه ، فحملت مريم عيسى ، والإضافة التي في قول اللّه : من روحنا للتشريع والتكريم ولأنه روح وصلت إلى مريم بلا واسطة أب.
وصدقت مريم بكلمات ربها حيث قال لها جبريل : إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
« 1 » صدقت بشرائع اللّه وكتبه ، وكانت مريم من سلالة القوم الطائعين القانتين.
___________
(1) - سورة مريم آية 19.(3/708)
ج 3 ، ص : 709
سورة الملك
وتسمى الواقية والمنجية ، لأنها تقى وتنجي من عذاب القبر ، وهي مكية على الصحيح ، وعدد آياتها ثلاثون آية ، وتشتمل كأخواتها المكيات على إثبات وجود اللّه ببيان مظاهر قدرته وعلمه ، وقد تعرضت لما يلاقيه الناس يوم القيامة ، ولبيان بعض نعمه على عباده ، والسورة على العموم تدور حول بيان النعم.
مظاهر القدرة والعلم [سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9)
وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)(3/709)
ج 3 ، ص : 710
المفردات :
تَبارَكَ البركة : النماء والزيادة حسية كانت أو معنوية ، والمراد : تعالى وتعاظم بالذات عن كل ما سواه ذاتا وصفة وفعلا ، وعليه قول العربي وقد وقف على ربوة :
تباركت عليكم ، أى : تعاليت حسيا. الْمَوْتَ وَالْحَياةَ الموت : عدم الحياة عما هي من شأنه ، والحياة : ما يصبح بها الإحساس. لِيَبْلُوَكُمْ : ليختبركم ، والمراد :
ليعاملكم معاملة المختبر. طِباقاً : متطابقة بعضها فوق بعض بحيث يكون كل جزء منها مطابقا للجزء من الأخرى ، وأصل الطبق : جعل الشيء على مقدار الشيء مطابقا له من جميع جوانبه كالغطاء له. تَفاوُتٍ : تباين وعدم تناسب. فُطُورٍ :
صدوع وشقوق. كَرَّتَيْنِ : أى : كرة بعد كرة ، والمراد : ترديد النظر.
يَنْقَلِبْ : يرجع. خاسِئاً : محروما ذليلا لعدم إدراك مطلوبه. حَسِيرٌ :
منقطع كليل. بِمَصابِيحَ المراد : بنجوم. رُجُوماً : جمع رجم ، المراد ما يرجم به. وَأَعْتَدْنا : هيأنا. السَّعِيرِ : النار الملتهبة. شَهِيقاً : هو الصوت المنكر الذي يشبه صوت الحمار. تَفُورُ : تغلى. تَمَيَّزُ أى :
تنقطع. فَوْجٌ : جماعة. فَسُحْقاً : بعدا عن رحمة اللّه ، والمراد ألزمهم اللّه سحقا. الْغَيْظِ : شدة الغضب.
المعنى :
تعالى اللّه وتعاظم - جل شأنه - عما سواه ذاتا وصفة وفعلا وتكاثر خيره وبره على(3/710)
ج 3 ، ص : 711
جميع خلقه ، فهو صاحب التصرف التام في الموجودات « 1 » على مقتضى إرادته ومشيئته بلا منازع ، وهو على كل شيء قدير وهو الحكيم الخبير ، ولفظ « تبارك » يدل على غاية الكمال ونهاية التعظيم والإجلال ، ولذا لا يجوز استعماله في حق غيره سبحانه وتعالى ...
وقد شرع القرآن في تفصيل بعض أحكام الملك وآثار القدرة ، وبيان أن لهما حكما وغايات جليلة كلها تعود على الإنسان بالخير العميم.
وهو الذي خلق الموت والحياة ، وقدرهما على كل كائن في الوجود ، وراعي ترتيبهما الوجودي فقدم الموت على الحياة. ولعل في ذكر الموت مقدما عظة وعبرة لمن يعتبر ، قدرهما ليعاملكم « 2 » معاملة من يختبر أمركم فيعرف خيركم وشركم ، ويعلم أيكم أحسن عملا! وأكثر إخلاصا ، وأبعد عن محارم اللّه ، وأسرع في طاعة اللّه ، وكان المفروض أن يكون عمل الإنسان دائرا بين الحسن والأحسن لا بين الخير والشر ، وقد خلق اللّه الموت والحياة ليبلوكم وليختبركم ، فالحياة محل الاختبار والتكاليف ، والموت محل الجزاء والثواب الذي هو نهاية الاختبار ، وهو العزيز الذي لا يعجزه عقاب من أساء ، الغفور لمن شاء أو لمن تاب.
وهو الذي خلق سبع سموات متطابقة بعضها فوق بعض ، وهل السموات هي مدارات الكواكب أو مادة لا يعلمها إلا اللّه ؟ الظاهر - واللّه أعلم - من مجموع النصوص الواردة في القرآن والسنة أن السماء مادة لا يعلمها إلا اللّه ، والعلماء الطبيعيون يقولون : إنها فراغ يدور فيها الكواكب. والخطب سهل ، لو تبصر الإنسان لرأى أن اللّه هو الذي خلق سبع سموات - والعدد على حسب ما كان معروفا عند العرب متطابقة بعضها فوق بعض أشبه ما تكون بطبقات البيضة ، ليس فيها عيب ولا خلل ، ولا ترى في خلقها تفاوتا في أى ناحية من النواحي ، إن كنت في شك في ذلك فارجع البصر ، ودقق النظر حتى يتضح لك الحال ، ويتبين لك المقام ، ولا تبقى
___________
(1) - وعلى ذلك يكون قوله « بيده الملك » استعارة تمثيلية ، أى : لفظ اليد مجاز وليس على حقيقته. ويرى السلف أن اليد على حقيقتها واللّه أعلم بها.
(2) - في قوله (ليبلوكم) استعارة تمثيلية حيث شبه معاملة المولى جل شأنه لعباده بالابتلاء والاختبار.(3/711)
ج 3 ، ص : 712
لك شبهة في تناسب خلق الرحمن واستكماله لكل أسباب الحكمة. فارجع البصر هل ترى من فطور أو شقوق ؟ الجواب : لا. ثم ارجع البصر ، ودقق النظر مرة بعد مرة - والمراد التكثير في النظر لمعرفة الخلل - يعد إليك البصر محروما من إدراك العيب والخلل في السموات ، فكأن النظر طرد عن ذلك طردا بالصغار وعاد خاسئا ذليلا ، وهو كليل من طول معاودة النظر.
وعلى الجملة فالسماوات السبع ، وما فيهن آية من آيات اللّه الكبرى لو تأملت ما فيها من تناسب وتجاذب وإحكام ودقة ونظام لا يختل أبدا مع سرعة دورانها ، لهالك هذا النظام العجيب ، وإن شككت في ذلك فارجع البصر مرة بعد مرة فإنه سيرتد إليك خائبا خاسئا وهو كليل وضعيف أمام هذه القدرة العظيمة.
فهذه السموات السبع خالية من العيوب والخلل ، وهي كذلك في غاية الحسن والبهاء. ولقد زينا السماء الدنيا بزينة هي الكواكب ، فهي في السماء كالمصابيح في السقوف ، وإنك لترى السماء ليلا ، وكأنها عروس ليلة الزفاف ، وهذه النجوم والأفلاك ينفصل منها أجزاء ملتهبة أو تلتهب من الاحتكاك بالأجواء هذه الأجزاء جعلت رجوما للشياطين ، وأعدت لذلك فلم يعد للشياطين طريق لاستراق السمع من السماء ، ولم يعد للدجالين الكذابين طريق للكذب على الناس ، حيث إن اللّه أخبر أن النجوم خلقت زينة للسماء ، ورجوما للشياطين ، وأعتدنا لأولئك الشياطين عذاب النار المسعرة المشتعلة في الآخرة.
وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم ، وبئس المصير مصيرهم ، إذا ألقوا فيها سمعوا لها صوتا منكرا كصوت الحمار « 1 » ، وهو حسيسها حالة كونها تفور بهم وتغلى غليان المرجل ، ويا ويلهم حينما يرون النار ، تكاد تتميز ، أى : ينفصل بعضها عن بعض من شدة الغيظ « 2 » والغضب! وهذا وصف لجهنم دقيق.
وهاك وصفا لمن فيها : كلما ألقى فيها جماعة من أصحابها سألهم خزنتها وزبانيتها قائلين لهم : ألم يأتكم نذير يتلو عليكم آيات اللّه ، وينذركم لقاء ربكم ؟ قالوا : بلى قد
___________
(1) - وعلى ذلك ففي (شهيق) استعارة صريحة.
(2) - جهنم لا يعقل أن يكون لها غيظ وغضب وإنما يجوز أن يكون في الكلام استعارة تصريحية حيث شبه اشتعال النار بهم وشدة تأثيرها فيهم باغتياظ المغتاظ على غيره المبالغ في إيصال الضرر ، ويجوز أن يكون الغضب للزبانية.(3/712)
ج 3 ، ص : 713
جاءنا نذير فأنذرنا وتلا علينا آيات ربنا ، فكذبناه ، وقلنا له : ما أنزل اللّه من شيء على بشر مثلنا ، ما أنتم أيها الرسل جميعا إلا في ضلال كبير ، وقالوا معترفين بخطئهم ومتحسرين على ما فاتهم : لو كنا نسمع الكلام سماع قبول وإنصاف ، ولو كنا نعقل ونحكم عقولنا حقيقة في كل ما يلقى إلينا ما كنا في عداد أصحاب السعير اليوم! فاعترفوا بذنبهم الذي هو كفرهم بآيات اللّه فبعدا لهم من رحمة اللّه ورضوانه ، وسحقا لهم إنهم من أصحاب السعير.
أما المؤمنون الذين يخشون اللّه حقا ، ويؤمنون به ، ويخافون عذابه يوم القيامة أولئك لهم مغفرة عظيمة لذنوبهم ، ولهم أجر كبير لا يقادر قدره ولا يعرف كنهه.
بعض مظاهر نعمه وقدرته وعلمه مع تهديد الكفار [سورة الملك (67) : الآيات 13 الى 24]
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)(3/713)
ج 3 ، ص : 714
المفردات :
بِذاتِ الصُّدُورِ : صاحبة الصدور ، والمراد بها الخواطر التي لم تبارح الصدور. اللَّطِيفُ لطف الشيء : دق وصغر حجمه ، والمراد أنه مطلع على دقائق الأمور. ذَلُولًا من الذل : وهو اللين ضد الصعوبة ، وليس من الذل ، وهو الهوان فضده العز. مَناكِبِها : جمع منكب ، بمعنى الناحية ، والمراد نواحيها وجوانبها ، وقيل : جبالها وآكامها إذ المنكب يطلق على ملتقى عظم العضد بالكتف ، ولا شك أنه مرتفع. النُّشُورُ : الحياة بعد الموت. يَخْسِفَ يقال : خسف اللّه بفلان الأرض : إذا غيبه بها. تَمُورُ : تضطرب وتتحرك بشدة. حاصِباً الحاصب : ريح شديدة تحمل الحصباء ، أى : الحجارة الصغيرة. نَكِيرِ : تغيرى ، والمراد عذابي. صافَّاتٍ يقال : صف الطائر جناحيه : بسطها في الجو وهو يطير.
وَيَقْبِضْنَ والمراد بقبضهما : ضم جناحيه إلى جنبه. جُنْدٌ : أنصار وأعوان.
مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ أى : من غيره. بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ لجوا : تمادوا واستمروا ، والعتو : العناد والكبر ، والنفور : البعد عن الحق. مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ يقال : كبه على وجهه : صرعه وقلبه ، والمكب : هو الشخص الذي يعتريه سقوط على وجهه من حين لآخر. سَوِيًّا : منتصب القامة. صِراطٍ : طريق.
ذَرَأَكُمْ : خلقكم على جهة الكثرة.
كان المشركون ينالون من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فيخبره جبريل - عليه السلام - فقال بعضهم لبعض : أسروا قولكم كي لا يسمع رب محمد. فنزلت وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ.(3/714)
ج 3 ، ص : 715
المعنى :
اللّه يعلم الغيب والشهادة ، ويعلم السر وأخفى ، فسواء عنده الإسرار في القول والجهر به ، إنه عليم بصاحبة الصدور ، وبما يكون من الخواطر التي تلازم القلوب فلا تبرحها ، ألا يعلم اللّه مخلوقاته التي خلقها ؟ ألا يعلم الخالق خلقه ؟ والحال أنه هو اللطيف العالم بدقائق شئون البشر ، المطلع على خفايا الخلق ، وهو اللطيف بعباده ، وإن لطفه بعباده لعجيب ، فهو يوصل الخير إليهم ، ويكشف الضر عنهم من أخفى الطرق وأدقها ، وهو الخبير بكل شيء.
هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا : سهلة مذللة ينتفع الخلق بكل ما فيها ، فانقياد الأرض لبنى آدم ظاهر الوضوح ، وخاصة في هذه الأيام حيث لم يدع الخلق ضربا من ضروب الانتفاع إلا سلكوه ، ولا عنصرا إلا حللوه وركبوه ، صهروا المعادن ، وفتتوا الذرات واستنبتوا النباتات ، واكتشفوا أسرار الكائنات ، وغاصوا في أعماق البحار وطاروا في أجواء الفضاء ، أليس اللّه قد لطف بعباده حيث مكنهم من كل ذلك ؟ جعل الأرض ذلولا ، وإذا كان كذلك فامشوا في مناكبها ونواحيها ، وجوانبها وأطرافها ، وآكامها وسهلها وحزنها.
احذروا أيها الناس هذا التمادي في الباطل ، والتكذيب للرسل ، واذكروا أنه تعالى جعل لكم الأرض سهلة لينة منقادة انقياد الدابة الذلول ، فدعوا إذن العناد والتكذيب ، واعلموا أن إليه النشور ، وإليه وحده مرجع الإنسان في الحياة الأخرى ليحاسبه ويجازيه.
واعلموا أيها الناس أن اللّه قادر على تبديل النعم بالنقم ، فاحذروا عقابه ، واخشوا غضبه ، أأمنتم الحق - تبارك وتعالى - أن يخسف بكم الأرض ، ويغيبكم فيها ، فإذا هي تتحرك بشدة حركة غير عادية ؟ أأمنتم أيها القوم ذلك الإله العظيم الذي تعتقدون أنه موجود في السماء - مع أنه ثبت بالدليل العقلي أن اللّه ليس له مكان بل هو موجود بقدرته وعلمه وإحاطته في كل مكان - أأمنتم أن يهلككم ، ويبيدكم ، ويغير هذه الأرض الذلول التي تنتفعون بها في كل شيء ، فإذا هي تمور وتضطرب ؟ ! بل أأمنتم اللّه الذي هو في السماء - كما تعتقدون - أن يرسل ريحا شديدة تثير الحصباء وتحملها ، هذه الريح ترسل عليكم فتهلككم وتستأصل شأفتكم ؟ !(3/715)
ج 3 ، ص : 716
انظر إلى ترتيب الآيات ترتيبا محكما دقيقا حيث ذكرهم ربك بنعمة صلاحية الأرض للمعيشة ، ثم حذرهم عاقبة التمادي في الباطل ، وأن من الحكمة ألا يأمنوا زوال النعم فإن اللّه قادر على سلبهم إياها ، فبعد أن تكون الأرض ذلولا تصبح كالفرس الجموح فترجف وتضطرب اضطراب خسف وهلاك حتى تبتلعهم ، وكأن العرب استبعدوا هذا ، فأضرب الحق - تبارك وتعالى - عن تهديدهم بهذا إلى تهديدهم بشيء كثير الحصول عندهم ، وهو الريح الحاصب التي تنزع الناس ، وتتركهم هلكى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية ؟ ! وفيه يتبين إنذار اللّه لهم حقا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ؟ ! ثم أراد اللّه أن يهددهم بأسلوب آخر يكون بلفت نظرهم إلى من تقدمهم من الأمم التي كذبت رسلها ، وأبيدت عن آخرها ، وفي ذلك سلوى للرسول الأكرم.
ولقد كذب الذين من قبلهم من الأمم السابقة التي عرفوها ، وكانوا يمرون على آثارهم ، فغضب اللّه عليهم وأذاقهم عذاب الحياة الدنيا ، وخسف بهم الأرض ، وأهلكهم وتلك آثارهم ، فانظروا كيف كان نكيري وسخطى على الكفار ؟ ! هؤلاء كذبوا برسلهم ، واستخفوا بوعيدهم ، واغتروا بمالهم ، فكانت عاقبة أمرهم خسرا في الدنيا والآخرة ، وكان المشركون من العرب يعتقدون أن ما يهددون به لن يحل أبدا ، فذكرهم بما حل بغيرهم. وذكر لهم بعض آيات قدرته في الكون ليعلموا أن اللّه على كل شيء قدير. فقال ما معناه : أليس من عجائب القدرة ما يراه الإنسان في كل وقت وآن ، من تحليق الطيور في أجواز الفضاء ، من الذي رفعها ، ومن الذي منعها من السقوط ، ومن الذي أوجد فيها القدرة على الطيران ، وللتحرك في السماء ، من الذي ركبها تركيبا به تقوى على ذلك ؟ أليس هذا من عجائب صنع اللّه ؟ أعموا ولم يروا إلى الطير فوقهم صافات أجنحتهن تارة ، ويقبضنها تارة أخرى ، ما فعل هذا إلا الرحمن الذي سهل لذلك الحيوان وسائل الطير والانتقال ، كان هذا أساسا لتفكير الإنسان في الطيران ، إنه بكل شيء بصير .. بسط الطائر لجناحه أساس طيرانه ، وقد يبقى مستمرّا عليه ساعات ، وقبضه له وهو يطير قليل الحصول ، عارض متجدد. ومن هنا عبر عند البسط بقوله : « صافّات » وعند القبض بقوله : « يقبضن » « 1 » .
___________
(1) - هذا جواب عن سؤال حاصله : لما ذا عبر القرآن بقوله : (صافات ويقبضن) مخالفا بين اللفظين ولم يأت بهما فعلين أو اسمين ؟ ومحور الجواب أن اسم الفاعل يدل على الدوام والاستمرار والفعل يدل على الحدوث والتجدد ، والصف أى : البسط كثير دائم عند الطيران ، والقبض قليل غير متجدد.(3/716)
ج 3 ، ص : 717
أولم ينظر المشركون إلى عجيب صنع اللّه وإلى آثار قدرته الظاهرة في طيران الطائر في الهواء فيعرفوا مبلغ قدرة اللّه على إنزال العذاب بهم ؟ ! أم أنهم تعاموا عن ذلك اعتدادا بأن لهم من دون اللّه قوة تحميهم ولهم آلهة من دون اللّه ترزقهم إن أمسك اللّه عنهم الرزق ، فوبخهم اللّه وأنبهم على هذا الزعم الفاسد ، وأنكر عليهم وجود جند لهم وأعوان يدفعون عنهم عذاب اللّه إن أراد بهم سوءا فقال : أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ « 1 » لا جند لهم ولا أعوان ، ما الكافرون الذين يتوهمون ذلك إلا في غرور باطل ، وخداع كاذب ، وأنكر عليهم اعتقادهم أن الآلهة ترزقهم إن أمسك اللّه عنهم الرزق بقوله : أمن هذا الذي يرزقكم ؟ أى : أخبرونى من هذا - والإشارة هنا للتحقير - الذي تظنون أنه يرزقكم من دون اللّه ؟ ! لا أحد أبدا يرزق غيره ، فإن اللّه هو الرزاق ذو القوة المتين ، بل هؤلاء لجوا في عنادهم ، واستمروا في عتوهم ونفورهم عن الحق.
ولقد ضرب اللّه مثلا للكفار المعاندين الموصوفين بالعتو والنفور مع مقارنتهم بالمؤمنين الذين هداهم اللّه إلى الصراط المستقيم ، ولا شك أن الكافر المغرور الذي نفخ الشيطان في أنفه فامتلأ عتوّا ونفورا فهو كالماشى المكب على وجهه الذي يتعثر في كل خطوة يخطوها ، أما المؤمن فهو كالسائر على طريق لاحب ، أى : ممهد مستقيم ، وهو منتصب القامة معتدل في المشي فأى القبيلين أهدى طريقا ، وأقرب وصولا ؟
وإذا كان المشركون كذلك فهل هم معذورون أولا ؟ لا ، ليسوا معذورين في شيء فاللّه خلق الخلق ، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة لعلهم يتجهون إلى الخير وإلى الحق : نور اللّه! ولكن قليلا ما يشكرون.
قل لهم : هو الذي خلقكم ، وذرأكم في الأرض فكان منكم النسل الكثير ، والتكاثر المفضى إلى الانتشار في بقاع الأرض ، ولكن اعلموا أنكم إليه تحشرون ، ولا غرابة في ختام هذه الآيات بالحشر فإن السورة مكية من أغراضها إثبات البعث.
___________
(1) - أمن هي أم الإضرابية ، ومن هي للاستفهام الإنكارى.(3/717)
ج 3 ، ص : 718
إثبات للبعث وتهديد وبيان لبعض النعم [سورة الملك (67) : الآيات 25 الى 30]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)
المفردات :
زُلْفَةً أى : اقترابا ، والمراد مقتربا. سِيئَتْ : من السوء ، وهو القبيح.
تَدَّعُونَ : من الدعاء بمعنى الطلب والنداء ، أو من الدعاء بمعنى تدعون بطلانه.
غَوْراً أى : غائرا ، وغار الماء : إذا نضب وذهب في الأرض. مَعِينٍ : جار على وجه الأرض تراه العيون ، مأخوذة من عانه إذا نظره بالعين ، أو هو من معن الماء : إذا اطرد وتسلسل.
المعنى :
كان المشركون يسألون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن ميعاد البعث استهزاء به وسخرية بوعيده وإنكارا له فيقولون : متى الساعة أيها المؤمنون إن كنتم صادقين في دعواكم ؟ .
ولكن اللّه رد عليهم بقوله : إنما العلم عند اللّه ، أى : اللّه وحده الذي يعلم الوقت ، وإنما الرسول مبلغ فقط ، أما متى يكون ؟ فليس من اختصاصه.(3/718)
ج 3 ، ص : 719
فلما رأوا هذا اليوم الموعود ، والعذاب السيئ الذي أعد لهم. لما رأوه وقد كانوا يكذبون به استاءت وجوههم ، وامتلأت غيظا وهماّ ، وقيل لهم تأنيبا وإيلاما : هذا الذي كنتم تطلبونه وتسألونه ، أو هذا هو الذي كنتم تدعون بطلانه وتزعمون أنه لا يأتيكم ، فها أنتم أولاء ترونه قريبا منكم ، لا شك فيه الآن.
كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يدعوهم إلى الإيمان ، ويلح في ذلك ، وفي خلال هذا يسفه أحلامهم ويذم آلهتهم ، وكانوا يكرهون ذلك ويستاءون له فكانوا يقولون لبعض : انتظروا فسيموت وتموت دعوته ويهدأ بالنا ، وتطمئن نفوسنا.
فرد اللّه عليهم آمرا النبي أن يقول لهم : أخبرونى إن استجاب اللّه دعاءكم ، فأهلكنا بالموت أو رحمنا فأخر أجلنا قليلا. ماذا تستفيدون من ذلك ، ما دمتم مقيمين على الكفر والضلال ، أتحسبون أن ذلك ينجيكم من عذاب اللّه ؟ لا ولن ينفعكم موتنا أو عدمه ، وإنما الذي ينفعكم هو الإيمان فقط ، والذي نجانا نحن هو الإيمان بالرحمن والتوكل عليه فقط ، وأما أنتم إذا ظللتم على ما أنتم عليه فستعلمون غدا من هو في ضلال كبير ؟
قل لهم مذكرا بنعمة من نعمه : أخبرونى إن أصبح ماؤكم غائرا لا تصله الأيدى ولا الدلاء فمن يأتيكم بماء معين جار على وجه الأرض نابع من العيون ، أو منظور إليه بالعيون ؟ لا أحد غير اللّه فآمنوا به واعملوا صالحا ينجيكم ربكم من عذاب أليم.(3/719)
ج 3 ، ص : 720
سورة ن
وتسمى سورة القلم ، وهي مكية على الصحيح ، وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية وتشمل بيان بعض صفات النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وإرشاده إلى مخالفة المكذبين ثم ذكر قصة أصحاب البستان تهديدا للكفار ، ثم مناقشتهم وإبطال حججهم ، وبعد ذلك أمر النبي بالصبر على أذاهم ، مع بيان شدة بغضهم للنبي والقرآن.
محمد رسول اللّه أكرم الخلق على اللّه [سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14)
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)(3/720)
ج 3 ، ص : 721
المفردات :
ن ينطق بها هكذا نون : وفيها ما في حروف الهجاء التي افتتحت بها السور المكية ، وقد تقدمت مرارا ، وهي بلا شك رمز (شفرة) بين اللّه - تبارك وتعالى - وبين رسوله المصطفى ، على أن بعضهم ذكر حكمة لذكرها ، هي أنها سيقت تنبيها للمشركين إلى أن القرآن الذي أعجزكم مكون من حروف هجائية ينطق بها كل إنسان منكم ، ومع هذا عجزتم عن الإتيان بمثله. وَالْقَلَمِ : وهو الآلة المعروفة.
وَما يَسْطُرُونَ : وما يكتبون. مَمْنُونٍ : مقطوع أو منقوص.
الْمَفْتُونُ : المجنون ، من فتن : إذا أصيب بفتنة أى محنة أو بلاء من ذهاب عقل أو مال أو موت ولد. تُدْهِنُ من الإدهان ، وهو المداهنة والملاينة ، يقال : أدهن الرجل في دينه وداهن في أمره : إذا خان وأظهر خلاف ما يضمر ، وأصل اللفظ من الدهن الذي هو البل ، فإنه يلين اليابس. حَلَّافٍ : كثير الحلف. مَهِينٍ :
ضعيف الرأى حقيره. هَمَّازٍ : كثير الهمز ، والهمز في اللغة : النخس ، ومنه المهماز للدابة ، والمراد به الطعن في الناس والغض منهم وذكرهم بالمكروه ، وهو كاللمز. مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ : يمشى بين الناس بالنميمة والسعاية. مُعْتَدٍ : يتعدى حدود العدل والإنصاف. أَثِيمٍ : كثير الآثام. عُتُلٍّ : هو الأكول والشّراب القوى الجسم الغليظ. زَنِيمٍ : دعى ، أى : يندس في القوم ويلحق بهم في النسب ولا يكون منهم. سَنَسِمُهُ الوسم : أن تضع علامة على الشيء تميزه بها عن غيره.
الْخُرْطُومِ : هو في الخنزير كالأنف للإنسان.
المعنى :
أقسم الحق - تبارك وتعالى - هنا بقوله : ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ أما القسم بالقلم وأثره فهو للإشارة إلى عظم النعمة بهما وأنهما من النعم على الإنسان بعد المنطق والبيان ، إذ على قدر انتشارهما في أمة يكون مقدار نبوغها وتقدمها بين الأمم على أن هذا الإقسام بهما لفت أنظار العالم إلى خطرهما وأثرهما.(3/721)
ج 3 ، ص : 722
وما أروع لفظ وَما يَسْطُرُونَ حيث يشمل كل فنون الكتابة والتعبير عما في الضمير بالرسم والتصوير ، ويشمل كل آلة أو نظام استحدث للتوصل إلى ذلك من آلات ومعدات حدثت أو ستحدث ، وهكذا القرآن ، لأنه صادر من علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما سيكون من البشر ، تجده يختار العبارات التي تشمل كل المخترعات ألا ترى إلى قوله : وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [سورة النحل آية 8].
ولعلك تدهش حين تعلم أن هذه السورة من أوائل السور نزولا ، وكانت سورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ أول سورة نزلت ، ولكن لا غرابة فهذا دين سماوي يعرف مقدار الكتابة والقراءة وأثرهما في نظام الدنيا ، ثم يكون هذا كله على يد نبي أمى عربي لا يقرأ ولا يكتب ؟ وأقسم اللّه بالقلم وما يسطرون به ما أنت يا محمد - بنعمة ربك وفضله - بمجنون ، كما يصفك هؤلاء المشركون ، وكأن المعنى : انتفى عنك الجنون بسبب ما أنعم اللّه عليك من خلق كريم ، ورعاية من ربك الرحمن الرحيم ، وكيف تكون مجنونا ، وأنت العاقل الصادق الأمين ، بإقرارهم جميعا ؟ ! وكيف ذلك ؟ ! وإن لك لأجرا غير مقطوع ، إنه عطاء غير محدود ، على ما قمت به من تبليغ الرسالة وأداء الأمانة ، وما تحملت في سبيل ذلك من عنت وإرهاق ، كيف يكون مجنونا من يقوم بعبء هذه الرسالة ؟ ! والحال أنك على خلق عظيم ، وإذا شهد اللّه هذه الشهادة فهل بعد ذلك شيء.
إذا كان الأمر كذلك ، وأنك في عناية اللّه ورعايته ، وأنك خاتم رسله وإمام أنبيائه فستبصر ويبصرون حقيقة الأمر ، وأن اللّه مع المؤمنين ، وهو ناصر رسله على الكفار والمشركين ، وقد كان المشركون يعتزون بعددهم وأموالهم وأولادهم ويسترسلون في إيذاء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وربما تأثر النبي بشيء من ذلك ، ولكن اللّه يطمئنه - ووعده الحق - أن النصر في جانبه ، وأن الدائرة عليهم.
فستعلم ويعلمون : من منكم هو المجنون ؟ « 1 » ، وهذا كلام مبنى على التعريض بالمشركين بأن الجنون فيهم لا يعدوهم إلى غيرهم ، ووصفه تعالى لهم بالجنون مشاكلة ،
___________
(1) - هذا هو المعنى المراد من قوله « بأيكم المفتون » وللوصول إليه قلنا بأن الباء صلة ، أى : زائدة ، ويصح أن نقول : إن (المفتون) ليس اسم مفعول ولكنه مصدر كالمعقول.(3/722)
ج 3 ، ص : 723
وفي الواقع ليس فيهم جنون حقيقة بل وصفوا به من حيث إعراضهم عن الحق واتباعهم الهوى والباطل : ولا شك أن من كان كذلك كان جديرا بالجنون ، وحيث نصر اللّه عبده وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده علموا وعلم الكل أنهم كانوا كالمجانين حين كذبوا وكفروا ، لا عجب في ذلك الحكم فربك هو أعلم - لا يعلم غيره - بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ، إذ هو خلق الناس من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ، فهو تعالى يعلم الذين حادوا عن السبيل ، أو هدوا إلى صراط العزيز الحميد.
إذا كان الأمر كذلك فلا تطع المكذبين بحال من الأحوال في أى شيء يطلبونه ، إنهم ودوا من صميم قلوبهم لو تداهن في أمر يطلبونه ، فهم يدهنون « 1 » كذلك ، أى :
يكافئونك على ملاينتك لهم.
كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في أول الدعوة يقف وحده أمام قوى الأعداء المتكاثرة ومع هذا كانوا يعرضون على النبي أن يلاينهم نوعا ما فلا يذم آلهتهم ، ولا يسفه أحلامهم وهم لذلك لا يهاجمون المسلمين ، وربما وقع في نفس النبي بعض الشيء من هذا الكلام فجاءت هذه الآية فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ شحنا للعزائم ، وإلهابا للهمة ، بعد أن ذكره ربه في فاتحة السورة بما كان يصفه به أولئك المشركون من أنه مجنون وأفاك أثيم ، فكيف بعد هذا يصانعهم أو يمالئهم ، كان هذا تعليما إلهيا للنبي ولأصحاب الدعوات ، إذ هذا غالبا ما يؤخذ سلاحا يطعن به الأشراف والأبرياء وأصحاب الدعوات ، وهذا نهى للنبي عن إطاعة الكفار المكذبين مطلقا ، ثم نهاه عن إطاعة نوع خاص فيه صفات خاصة ، كل واحدة كفيلة بالتحذير من الطاعة ، وهذه اجتمعت في الوليد بن المغيرة على الصحيح ، وقيل : في غيره.
ولا تطع كل حلاف كثير الحلف باليمين ، فإنه لا يكثر الحلف إلا إذا كان معتقدا أن مخاطبه لا يصدقه ، ولا بد أن يكون كذابا بينه وبين نفسه وبينه وبين ربه.
مَهِينٍ أى : ذليل حقير في عقله ورأيه ، لا في شخصه وماله. هَمَّازٍ :
كثير الهمز واللمز ، والطعن في الناس والغض منهم وذكرهم بالمكروه مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ يمشى بين الناس بالسعاية والفساد وإيقاع العداوة والبغضاء. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ يمنع
___________
(1) - جملة (ودوا لو تدهن) تعليل للنهى قبله ، فيدهنون : الفاء للسببية ، ويدهنون خبر لمبتدأ محذوف ، وعطف هذه الجملة على ما قبلها عطف مسبب على سبب.(3/723)
ج 3 ، ص : 724
نفسه وغيره من الخير والإصلاح. مُعْتَدٍ أَثِيمٍ كثير الاعتداء وارتكاب الآثام والمعاصي مع الناس. عُتُلٍّ جاف غليظ الطبع سىء الخلق ، بغيض المعاملة ، أكول شروب مادى حقير. بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ بعد هذا كله فهو دعى ليس ذا أصل معروف ، وقد كان الوليد كذلك استحلقه أبوه بعد ولادته بثمان عشرة سنة.
لأنه كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال : هي أساطير الأولين وأكاذيبهم ، يتداولها الناس من جيل إلى جيل.
هذا المخلوق ومن على شاكلته سيسمه ربك على أنفه « 1 » وسيلحق به ذل وعار يلزمه لزوم العلامة ، وقد تحقق ذلك فسيظل اسم الوليد بن المغيرة مقرونا بالذل والحقارة إلى يوم الدين.
هذا هو محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أكرم الخلق على اللّه ، وهذه بعض صفاته يسجلها ربه في هذه السورة ، ومعها توجيهات إلهية له ولكل من يقوم بدعوته ، ومع هذا كله صفات عشرة كلها في منتهى الذم والحقارة وصف بها عدو من أعداء الحق والدعوة المحمدية!!!
قصة أصحاب الجنة ومغزاها [سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 33]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21)
أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31)
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)
___________
(1) - هذا كناية عن إذلاله وإخضاعه وإهلاكه ماديا وأدبيا ، وقد تحقق ذلك.(3/724)
ج 3 ، ص : 725
المفردات :
بَلَوْناهُمْ : فعلنا معهم فعل المختبر. الْجَنَّةِ المراد : البستان كثير الزروع والثمار والأغصان الملتفة التي تستر ما تحتها ، والعرف يخص الجنة بفراديس النعيم في الآخرة. لَيَصْرِمُنَّها الصرام : وقت جنى الثمر. مُصْبِحِينَ : داخلين في الصباح. وَلا يَسْتَثْنُونَ المراد لا يقولون : إن شاء اللّه. طائِفٌ أى : طرقها في الليل من أمر اللّه طارق وهو هلاكها. كَالصَّرِيمِ : كالبستان المصروم ثمره أى : المقطوع ، وللصريم معان أشهرها أنه الليل المظلم أو الأرض السوداء.
حَرْثِكُمْ : زرعكم والمراد مكان الزرع ، أى : الحقل. يَتَخافَتُونَ :
يتكلمون كلاما مهموسا لا يسمعه أحد. وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ : ذهبوا حالة كونهم قادرين في ظنهم على حرد أى : منع للمساكين. أَوْسَطُهُمْ : أعدلهم وأحسنهم رأيا لأن الوسط من كل شيء خياره وعليه قوله تعالى : (وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً). لَوْ لا تُسَبِّحُونَ : هلا تنزهون اللّه من كل سوء. يَتَلاوَمُونَ أى : يلوم بعضهم بعضا. يا وَيْلَنا : يا هلاكنا احضر فهذا أوانك.
طاغِينَ : متجاوزين الحد والعقل والشرع. راغِبُونَ أى : متوجهون ومتضرعون.
المعنى :
لقد منّ اللّه على الناس جميعا بنعم لا تعد ولا تحصى ، ومن الناس : أهل مكة ، حيث كانت لهم تجارات واسعة وبعض المزروعات ، وكانت لهم رحلتان صيفا وشتاء ، ثم(3/725)
ج 3 ، ص : 726
أرسل لهم رسول اللّه بالهدى ودين الحق ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الهدى والعلم ، ومع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قرآن فيه ذكرهم وشرفهم يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم ، ولكنهم كفروا وكذبوا ، ولم يراعوا حق اللّه ، وكفروا بالنعم فاستحقوا العذاب والهلاك ، أليس هذا بلاء وأى بلاء ؟
إنا بلونا أهل مكة بالنعم ، ثم بإرسال إمام الرسل ، فكفروا واستحقوا من اللّه عظيم النقم ، حيث اغتروا بالمال والأهل والولد ، ولم يرعوا حق اللّه فيهم ، كما بلونا أصحاب البستان كثير الخير والبركات عظيم الثمر ، ملتف الأغصان ، ولكنهم ما عرفوا حق اللّه وكفروا بالمساكين وحقوقهم ، ثم بعد ذلك ندموا ، ولات ساعة الندم.
ولأصحاب البستان قصة خلاصتها : كان هناك رجل صالح يخاف اللّه ، ويعطى حقوق المساكين ، ويعلن عن يوم الجنى ليحضر كل مستحق فيأخذ من خير اللّه ما يستحق ، ثم توفى هذا الرجل وخلفه أولاده على البستان وكانوا كثرة ، ثم لما قرب جنى الثمار تذاكروا فيما بينهم ماذا يفعلون كما كان أبوهم يفعل ؟ لا. إنه كان رجلا طيبا ، وكان فردا واحدا منهم تبعاته قليلة ، أما نحن فجماعة ولنا أولاد ، وبأى شيء يستحق المسكين في البستان ؟ ونحن الذين قمنا بالحرث والزرع والتسميد. لا. لا. لن نعطى أحدا ، قالوا هذا إلا واحدا منهم وعظهم فلم يتعظوا ، وأمرهم فلم يأتمروا ، وكان واحدا وهم جماعة فنزل على إرادتهم مكرها ، ولا تنس قول اللّه : الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا [سورة البقرة آية 268].
عقدوا أمرهم عشاء على أن يذهبوا مبكرين في الصباح ليصرموا الجنة وحدهم بدون أن يعلم المساكين ولم يقولوا : إن شاء اللّه ، وظنوا أنهم قادرون على منعهم ، وبيناهم كذلك إذ طاف عليها طائف من ربك ، وطرقها بلاء عظيم لم يكن للإنسان فيه أى مدخل ، فأصبحت كالبستان المصروم ثمره. أصبحت كقطعة الليل ظلاما ، أرأيت إلى حقل القطن بعد الجنى ؟ إنه كالليل الأسود.
فلما رأوها هكذا ، بعد أن ساروا ليلا في السر ، وكتموا أنفاسهم حتى لا يعلم مسكين قصدهم ، لما رأوها قالوا : يا ويلنا إنّا لضالون حيث منعنا حقوق المساكين وغفلنا عن قدرة اللّه الكبير ، ثم بعد ذلك ذهبوا إلى أبعد من هذا قائلين : لا تظنوا أنا حرمنا المساكين بفعلنا هذا. لا. ليسوا محرومين أبدا فإن اللّه موجود ، ولكن نحن(3/726)
ج 3 ، ص : 727
المحرومون من التوفيق والهداية ، حيث خرجنا عن أمره. وقسونا على عباده وخلقه.
قال أوسطهم عقلا ، وأرجحهم رأيا : ألم أقل لكم عند ما عزمتم على منع المساكين هلا تسبحون اللّه ؟ هلا تنزهون اللّه فتطيعوا أمره ؟ ولا تظنوا فيه العجز على الرزق والإعطاء ومعاقبة العاصي المتكبر ؟ قالوا إزاء هذا : سبحان ربنا وتنزيها له إنا كنا ظالمين. ندموا على ما فات وهل ندمهم كان صحيحا أم لا ؟ اللّه أعلم.
فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون ، قالوا : يا ويلنا ، إنا كنا طاغين وخارجين عن حدود العقل والشرع والسنن الإلهية ، ندموا وقالوا : عسى ربنا أن يبدلنا خيرا من تلك الجنة التي أبيدت ، إنا إلى اللّه وحده راغبون ومتجهون.
أيها الناس : العذاب العاجل نرسله على الطغاة المتجبرين والكفار والمشركين مثل هذا العذاب الذي أرسل في لحظة واحدة فأهلك الحرث والنسل ، فإياكم والغرور وإياكم ومخالفة أمر اللّه ، ولعذاب الآخرة أكبر وأشد لو كان الناس يعلمون.
مناقشة المكذبين وتهديدهم [سورة القلم (68) : الآيات 34 الى 47]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38)
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)(3/727)
ج 3 ، ص : 728
المفردات :
تَدْرُسُونَ درس الكتاب : قرأه بعناية ليفهمه. أَيْمانٌ : عهود ومواثيق.
بالِغَةٌ : مغلظة مؤكدة. زَعِيمٌ : كفيل وضامن. يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ :
كناية عن اشتداد الأمر وعظيم الهول يوم القيامة. تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ : تلحقهم ذلة واستكانة. فَذَرْنِي : اتركني. الْحَدِيثِ : القرآن والوحى الذي يبلغه النبي إلى الناس. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ الاستدراج : أن تنزل بالمرء درجة درجة إلى حيث تريد ، والمراد سنأخذهم على غفلة. وَأُمْلِي لَهُمْ : أمهلهم وأؤخرهم. كَيْدِي مَتِينٌ : عمل معهم الذي يشبه الكيد القوى. أَجْراً : أجره على البلاغ.
مَغْرَمٍ : غرامة. مُثْقَلُونَ : محملون حملا ثقيلا.
لقد كان مشركو مكة يقفون من الدعوة الإسلامية موقف العدو اللدود الذي ينفق كل نفس ونفيس في سبيل إحباطها والقضاء عليها ، واللّه - جل جلاله - يعلم ذلك ، فهو تارة يهددهم ، ويكشف حالهم ، ويباعد بين النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وبينهم فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وتارة يضرب لهم الأمثال بمن سبقهم من المغرورين والمكذبين الذين نالهم من اللّه ما نالهم كأصحاب الجنة.
ثم بعد ذلك أخذ يناقشهم الحساب وينقض أوهامهم وحججهم.
وقد كانوا يقولون : نحن أحسن حالا من النبي وصحبه فنحن أكثر مالا وأغنى رجالا ، ولنا قوة ومنعة ، وأصحاب محمد في فقر وضعف وقلة عدد وعدد. فإذا كان يوم القيامة فنحن سنكون مثلهم إن لم نكن أحسن منهم.
في هذا سيقت تلك الآيات الواضحات تفند رأيهم وتهدم زعمهم الباطل.(3/728)
ج 3 ، ص : 729
المعنى :
إن للمتقين الذين اتقوا اللّه واتخذوا لأنفسهم الوقاية من عذاب اللّه حيث امتثلوا أمره ، واجتنبوا نهيه ، هؤلاء لهم عند ربهم جنات النعيم ، إن للمتقين - لا الكافرين المكذبين - جنات النعيم ، وانظر إلى قوله : عند ربهم : فهل يعقل أن يكون للكفار جنة مثلهم عند ربهم ؟ وقد كفروا به ولم يعرفوا له حقه.
يقول الحق - تبارك وتعالى - : عجبا لكم أيها الكفار ، أفنجور في الحكم - وهذا محال - فنجعل المسلمين المتقين كالمجرمين الكافرين ، ثم التفت لهم لتأكيد الرد وتشديده قائلا : ما لكم ؟ أى شيء حصل لكم من خلل في العقل وسوء في الرأى ؟
كيف تحكمون ؟ أى : على أى وضع حكمتم هذا الحكم ؟ هل هو عن عقل أو عن اختلال فكر وسوء رأى ؟ « 1 » . لا. إنه حكم مجرد عن العقل والنظر السليم.
أم لكم كتاب فيه تدرسون ؟ إن لكم فيه لما تخيرون ؟ بل « 2 » ألكم كتاب مكتوب سواء كان سماويا أو غيره تدرسون فيه وتقرأون إن لكم فيه الذي تتخيرونه وترضونه بقطع النظر عن أى اعتبار! لا شيء من هذا.
لم يكن لكم كتاب فيه ما تقولونه من أن لكم يوم القيامة ما تختارونه. بل ألكم أيمان ، وعهود علينا ، أيمان مغلظة وعهود موثقة تبلغ إلى يوم القيامة. جوابها إن لكم لما تحكمون! .. لا شيء من هذا أبدا.
سلهم يا محمد متحديا : إن كان لهم كتاب فيه ما ذكر فليبرزوه ، وإن كان لهم يمين من اللّه فليظهروه ، وإن كان لهم زعيم وضامن لهم ما يقولون فمن هو ؟
فليس معهم دليل نقلي من كتاب اللّه أو غيره ، وليست لهم حجة ظنية من يمين أو غيره وليس لهم ضامن يضمن قولهم فماذا بعد هذا ؟ !
___________
(1) - « ما لكم كيف تحكمون » جملتان استفهاميتان الأولى هي (ما لكم). وهي مبتدأ وخبر ، والثانية هي كيف تحكمون ؟
(2) - أم لكم كتاب (أم) بمعنى بل والهمزة ، بل الانتقالية من حديث إلى آخر ، والهمزة للاستفهام التوبيخي ، وكذا يقال في أخواتها التي هنا ، وجملة (إن لكم لما تخيرون) مفعول في المعنى لتدرسون ، وكان حقها فتح أن لكن اللام التي في خبرها علقت الفعل وهو تدرسون عن العمل فكسرت إن. [.....](3/729)
ج 3 ، ص : 730
بل ألهم شركاء من الأصنام والأوثان التي يعبدونها إن كانوا صادقين فليأتوا بشركاء يشهدون لهم ، ويؤيدونهم في أن لهم نصيبا في الجنة ، لا شك أن المشركين ليس لهم شركاء يشهدون لهم ، إذ هي أصنام وأوثان لا تنفع ولا تضر ، ولا تبصر ولا تسمع ، وبذلك تكون قد بطلت حجتهم ، وانقطعت معاذيرهم ، وحقت الكلمة عليهم ، إن كان لهم شركاء كما يدعون فليأتوا بهم يوم يكشف عن ساق : وهو يوم القيامة ، يوم الفزع الأكبر ، يوم يشتد الهول ويعظم الأمر.
اذكروا أيها المشركون ذلك اليوم الشديد الهول الذي يجازى فيه كل على ما فرط في جنب اللّه ، وستجازون أنتم على ذلك ويقال لكم : ها أنتم اليوم قد ظهر لكم الحق ، فاسجدوا للّه واعبدوا ، ولكن أنى لهم ذلك ؟ وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون ؟ ! عند ذلك تخشع أبصارهم ، وترتجف قلوبهم ، وترهقهم ذلة واستكانة مما قدموا من سىء الأعمال ، وقد كانوا قبل ذلك يدعون إلى السجود بإلحاح ، وهم في بحبوحة العيش وسلامة الجسم ، وفي وقت العمل والطاعة ، أما اليوم فهو للجزاء والحساب فقط.
فيا ويلهم من هذا اليوم الذي يكشف فيه عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون.
إذا كان الأمر كذلك فاتركنى مع من يكذب بهذا القرآن ، اتركني وهؤلاء فأنا بهم بصير ، وعلى جزائهم قدير ، سنستدرجهم من حيث لا يعلمون « 1 » ، أما استدراج اللّه لهم فهو أن اللّه أعطاهم مالا وأولادا ، ومتعهم بصحة وعافية فشغلهم كل ذلك عن النظر الصحيح في آيات اللّه واتباع الرسول مع قيام الأدلة الواضحة على صدقه وصحة نبوته ، وقد تمادوا في باطلهم وغفلتهم ، حتى حسبوا أن تأخير العذاب عنهم وإسداء النعم لهم لأنهم يستحقون ذلك ، وأنهم مكرمون عند ربهم ، بل أعماهم الغرور ففهموا أنه سيكون لهم مثل ذلك يوم القيامة كالمؤمنين على الأقل ، وما زال المشركون كذلك سادرين في غيهم وغرورهم حتى نزل بهم البلاء فبدد اللّه جمعهم ، وشتت شملهم أليس هذا استدراجا لهم ؟ وإملاء لهم حتى تكون القاضية.
وقد سمى تأخير العذاب عنهم وتمتعهم بالنعم - مع أنه قدر عليهم الشقاء والفناء
___________
(1) - جواب سؤال مقدر كأن سائلا سأل وقال : وماذا أنت يا رب صانع بهم ؟ فالجواب : سنستدرجهم.(3/730)
ج 3 ، ص : 731
والهلاك وسيلاقونه حتما - سمى اللّه هذا كيدا لأنه يشبه الكيد إذ الكيد الحقيقي عمل الضعيف مع القوى ، واللّه مبرأ من هذا ، فهو القوى القادر ذو البطش الشديد.
بل أتسألهم أجرا كبيرا على رسالتك ، فهم من التزاماته مثقلون ؟ بل أعندهم صحائف الغيب فهم يكتبون ما شاءوا لهم ؟ لا هذا ولا ذاك ، وقد لزمتهم الحجة.
ختام السورة [سورة القلم (68) : الآيات 48 الى 52]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)
المفردات :
كَصاحِبِ الْحُوتِ : هو يونس بن متى. مَكْظُومٌ : من كظم غيظه :
إذا رده وحبسه. بِالْعَراءِ : بالأرض الفضاء. مَذْمُومٌ : ملوم. فَاجْتَباهُ رَبُّهُ : اختاره. لَيُزْلِقُونَكَ : ليجعلونك تزلق وتزل ، يقال : زلقت قدمه :
زلت ، وأزلق فلانا ببصره نظر إليه نظر متسخط كاره.
المعنى :
إذا كان الأمر كذلك ، وأن هؤلاء الكفار قد بطلت حجتهم ، ولم يعد فيه فائدة من نقاشهم فاصبر لحكم ربك وقضائه ، فإن للّه سنة لا تتخلف أبدا مع الناس فهو يملى للمكذبين ، ويؤجل عقوبتهم ، ولكنه لا يهملهم أبدا ، ولا بد من نزول العقوبة بهم ،(3/731)
ج 3 ، ص : 732
وليس عليك إلا الصبر ، ولا تكن كيونس بن متى ذلك النبي الصالح الذي لاقى من قومه عنتا ومشقة وألما وهماّ ، لا تكن مثله في الضجر والألم وعدم التحمل إذ نادى ، ودعا على قومه ، وهو ممتلئ غيظا وألما ، ثم خرج من ديارهم كارها لهم كالآبق ، فلما وصل إلى الساحل ركب السفينة ، وانتهى الأمر إلى إيقاعه في اليم ، فالتقطه الحوت ، وهو مليم آت بما يلام عليه حيث لم يصبر على أذى قومه إلى أن يقضى اللّه أمرا كان مفعولا ...
وفي سورة (ص) المزيد من قصة يونس.
ولكن اللّه تداركه بلطفه ، حين استقر في بطن الحوت ، وأصبح في ظلمات ثلاث فنادى اللّه اللطيف الخبير تائبا نائبا لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ « 1 » لما تداركه اللّه برحمته وقبل توبته ألقاه الحوت في العراء ، والحال أنه غير مذموم إذ قبل اللّه توبته ، فاجتباه وأرسله إلى أهل « نينوى » فآمنوا به ، ومتعهم ربك إلى حين ، ولا عجب فهو من الصالحين.
فيا رسول اللّه لا تكن كيونس ، وإنما اصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ، وسيقضي اللّه أمرا كان مفعولا ، واعلم أن هؤلاء المكذبين لا يألون جهدا في عداوتك فمهما لاقيت منهم فهو قليل ، ولا أدل على ذلك من قوله تعالى : وإن يكاد الذين كفروا لينظرون إليك نظر الحاقد الكاره حتى كأنه من شدة الغيظ والحنق يكاد يزلق قدمك ويرميك من طولك ، فهذه النظرات المسمومة كأنها سهام محسوسة حين يسمعون منك القرآن ، أرأيت وصفا أدق من هذا للحقاد الحاسد! ويقولون : إنه لمجنون كما قالوا سابقا ، وما هذا القرآن إلا ذكر للعالمين ، وشرف للناس أجمعين ، فهل يعقل أن يكون هذا القرآن آتيا على يد مجنون!!
___________
(1) - سورة الأنبياء آية 87.(3/732)
ج 3 ، ص : 733
سورة الحاقة
وهي مكية بالإجماع وعدد آياتها إحدى وخمسون آية ، وهي تشمل الكلام على يوم القيامة ، ومن كذب به من الأمم السابقة ونهايتهم ، ثم وصفا عامّا لهذا اليوم وما يلاقيه المؤمن والكافر ، ثم تعرضت للقرآن وأثبتت أنه من عند اللّه بلا شك ، وأن الواجب على النبي هو الصبر والتسبيح للّه.
جزاء من كذب بالساعة [سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)
المفردات :
الْحَاقَّةُ : من حق فلان الأمر بمعنى حققه وأوجبه وأثبته ، والمراد الساعة والحاقة لأمور الحساب والمثبتة له ، أو هي المحققة الوقوع. بِالْقارِعَةِ : ضرب(3/733)
ج 3 ، ص : 734
الشيء الصلب والنقر عليه بشيء مثله ، والمراد الساعة التي تقرع القلوب بهولها والدنيا بدكها وانصداعها. بِالطَّاغِيَةِ أى : بالطغيان والظلم الواقع منهم. صَرْصَرٍ :
شديدة الهبوب في الآذان وشديدة البرودة على الأبدان. عاتِيَةٍ : متجاوزة الحد في العصف والهبوب. حُسُوماً الحسم في اللغة : القطع بالاستئصال. صَرْعى :
مطروحين على الأرض. أَعْجازُ نَخْلٍ : أصولها وجذوعها. خاوِيَةٍ : نخرة فارغة. وَالْمُؤْتَفِكاتُ : المتقلبات ، يقال : ائتفكت القرية بأهلها : انقلبت ، ومنه الإفك للكذب لأنه يقلب الحقائق. بِالْخاطِئَةِ : بالأفعال الخاطئة.
رابِيَةً : شديدة زائدة في شدتها ، من ربا : إذا زاد. طَغَى : ارتفع وتجاوز حده. الْجارِيَةِ : السفينة التي تجرى على الماء. واعِيَةٌ
: حافظة.
المعنى :
الساعة الحاقة ، التي تحقق أمور البعث ، وتثبتها وهي المحققة الوقوع ما هي ؟ ! وكأن النفس لغرابتها وهولها تتساءل عنها قائلة : ما هي تلك الحاقة « 1 » ؟ ! وما أدراك أيها الإنسان ما الحاقة ؟ « 2 » أليس عجبا من الإنسان وخاصة المكذبين للبعث لا يدرون ما الحاقة على حقيقتها ثم يكذبون بها!! إن أمر التكذيب بيوم القيامة من قديم الزمان ، فقد جاءت رسل كلها تدعو إلى التوحيد وإثبات البعث ، فكذبتهم أممهم ، وأنكروا البعث فكان جزاؤهم ما قصه القرآن ، فاصبر يا محمد على تكذيب قريش للبعث فإن اللّه معك ، واحذروا أيها المكذبون عاقبة عملكم ، فإنها لن تكون أقل من عاقبة عاد وثمود ، ومن ذكر معهم.
كذبت ثمود وعاد - قد مر ذكرهما والكلام عليهما مرارا - بالقارعة التي هي يوم القيامة ، فإنها تقرع القلوب بالإفزاع ، وتقرع السموات والأرض بالدك والنسف والانشقاق ، فهي القارعة بلا شك.
___________
(1) - الحاقة : مبتدأ ، وجملة (ما الحاقة) خبر على أن (ما) الاستفهامية خبر مقدم ، و(الحاقة) مبتدأ مؤخر ، والمقام للإضمار لكنه عدل للإظهار لزيادة التهويل والتفخيم.
(2) - ما أدراك ؟ مبتدأ وخبر ، وجملة (ما الحاقة) سدت مسد المفعول الثاني لأدرى ، والكاف مفعولها الأول.(3/734)
ج 3 ، ص : 735
فأما ثمود فأخذهم ربك بالصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين حين كذبوا أخاهم صالحا وكفروا باللّه ولم يصدقوا بالبعث ، فأهلكوا بسبب أعمالهم الطاغية المتجاوزة الحدود في العقل والعرف والشرع ، أما تفصيل السبب فقد ذكر في قصة الناقة في سورة هود وغيرها ، وأما عاد فأهلكوا بريح قوية شديدة ، متجاوزة الحد في البطش وقسوة الإهلاك لأنهم كفروا باللّه وكذبوا رسولهم هودا ولم يؤمنوا بالبعث ، وضموا إلى ذلك أعمالا أخرى فإنهم كانوا يبنون قصورهم في الطريق وعلى سفوح الجبال للعبث واللهو والمجون ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون ... إلخ ما مرّ من سورة الشعراء وغيرها.
هذه الريح التي أهلكتهم سخرها عليهم ربك سبع ليال وثمانية أيام لم تدع شيئا إلا جعلته كالرميم ، فقطعت كل نبت وزرع وولد وخير ، وأهلكت القوم حتى كنت تراهم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية بالية ، فهل ترى لهم من باقية ؟ لست ترى لهم أثرا ولا عينا. وجاء فرعون ومن قبله من الأمم ، وجاء قوم لوط أصحاب القرى المؤتفكة ، جاءوا بالفعلة الخاطئة والإثم الكبير ، حيث كفروا وكذبوا وأنكروا البعث فأخذهم ربك أخذة رابية شديدة ، أخذ عزيز مقتدر.
واذكروا أيها المشركون من سلالة قوم نوح ، أنه لما طغى الماء ، وتجاوز حده حملناكم في السفينة ونجيناكم من الغرق وأهلكنا المكذبين الكفار ، فأنتم أيها المعاصرون أبناء من نجاهم اللّه ، فهل يليق بكم أن تكفروا به ؟ ؟
حملنا آباءكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وعبرة وموعظة ، ولتعيها آذان واعية فيرويها الخلف عن السلف فيحفظها ويعتبر بها ، فاحذروا يا كفار مكة أن تكونوا مثل هذه الأمم احذروا. ثم احذروا!
يوم الحساب وما فيه من مواقف للأبرار والفجار [سورة الحاقة (69) : الآيات 13 الى 37]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22)
قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27)
ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32)
إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)(3/735)
ج 3 ، ص : 736
المفردات :
الصُّورِ : هو البوق. حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ : رفعتا وسيرتا.
فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً : الدك والدق متقاربان في المعنى غير أن الدك أبلغ والمراد ضرب بعضهما في بعض وصارتا كتلة واحدة ، أى : صارت مجموعة السهول من الأرض مع مجموعة الجبال كتلة واحدة. وَقَعَتِ الْواقِعَةُ : قامت القيامة.
وَانْشَقَّتِ السَّماءُ : وهذا كناية عن انصداعها وتشققها وتبدل أحوالها.(3/736)
ج 3 ، ص : 737
واهِيَةٌ : مختلة ضعيفة لا تماسك بين أجزائها. وَالْمَلَكُ أى : الملائكة.
أَرْجائِها : جنباتها ، جمع رجا بمعنى الجانب. عَرْشَ رَبِّكَ : هو سرير الملك ، أو كناية عن العز والملك والسلطان. خافِيَةٌ أى : حالة خافية كنتم تسترونها عن الناس. كِتابَهُ : صحيفة عمله. بِيَمِينِهِ أى : بيده اليمين ، وهي كناية عن اليمن والخير والبركة. هاؤُمُ : خذوا. ظَنَنْتُ أى : تيقنت.
راضِيَةٍ : ذات رضا ويرضى عنها أصحابها. قُطُوفُها دانِيَةٌ : جمع قطف وهو الثمر الذي حان وقت قطافه ، والدانية : القريبة التي لا تعب في إحضارها.
فَغُلُّوهُ : ضعوا فيه الغل ، أى : ما يكبل به الأسير من القيود والسلاسل.
صَلُّوهُ أى : اجعلوه في جهنم يصلى نارها ويحترق بها. ذَرْعُها : طولها.
حَمِيمٌ : صديق حميم. غِسْلِينٍ : ما يسيل من أهل جهنم من قيح أو صديد أو دم. الْخاطِؤُنَ : الآثمون.
المعنى :
هذا هو وصف ليوم القيامة الموعود به ، والذي عبر عنه القرآن أول السورة بقوله :
الحاقة ، والذي كذبت به الأمم السابقة ، فأهلكها اللّه جزاء تكذيبها ، وحذر قريشا أن تسلك مسلكها.
فإذا أراد اللّه أن يعلم الناس بيوم القيامة ، نفخ الموكل بالبوق نفخة واحدة ، يصعق لها ما في السموات وما في الأرض إلا من شاء اللّه ، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا الناس قيام ينظرون الحساب : فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة ، وحملت الأرض والجبال واضطربت ورفعت من مكانها وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ فدكتا ، أى : الأرض السهلة والجبال المرتفعة دكة واحدة حتى صارت مستوية كأنها كتلة واحدة ، فيومئذ تتزلزل الأرض وتمور مورا ، وتسير الجبال سيرا وتنسف حتى تصير كثيبا من الرمل مهيلا ، يوم إذ يحصل هذا تقع الواقعة وتقوم القيامة ، فالسماء وعوالمها عند ذلك يختل نظامها وتتشقق جوانبها فهي يومئذ بالية متداعية لا ترى فيها هذا النظام المحكم الدقيق ، أما سكانها من الملائكة فيقفون على جوانبها حين تتصدع ، كالبيت إذا انهدم منه جزء انتشر سكانه في أرجائه وجوانبه التي لم تسقط.
ويحمل عرش ربك يومئذ ثمانية فوقهم ، وهذا تمثيل لكمال عزته وانفراد جلالته(3/737)
ج 3 ، ص : 738
بالملك والسلطان ، وأن الكل خاضع لجبروته سبحانه وتعالى لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [سورة غافر آية 16].
وهذه الأوصاف التي ورد ذكرها في هذه الآيات وغيرها مما يجب أن نؤمن به كما ورد في القرآن والسنة الصحيحة ، على أن تشعر قلوبنا بالخشية والخوف من هول ذلك اليوم! يومئذ تعرضون للحساب والثواب لا تخفى منكم حالة خافية كنتم تريدون سترها وإخفاءها وكيف تخفى على علام الغيوب خافية ؟ وهو العليم بذات الصدور ، إذا كان الأمر كذلك ، فأما المتقون الذين اتقوا اللّه وخافوا هذا اليوم فأولئك يؤتون كتابهم بيمينهم ، ويأخذون صحائف أعمالهم باليمين ، واليمين يستعملها العرب في مواضع الخير والبركة والفرح والسرور ، ولذلك يقول فرحا مسرورا لإخوانه : خذوا اقرءوا كتابي إنه كتاب يسر قارئيه ، ولا عجب في ذلك إنى تيقنت أنى ملاق هذا اليوم للحساب فعملت له خير عمل وتجنبت لأجله كل سوء ومعصية ، ولذلك كانت النتيجة أنه أصبح في عيشة مرضية وحياة سعيدة هنية ، هذه الحياة في جنة عالية البنيان شامخة الأركان ، قطوفها دانية على طرف الثّمار ثم يقال له ولأمثاله : كلوا واشربوا هنيئا جزاء ما أسلفتم وقدمتم من صالح الأعمال في الأيام الخوالى.
وأما من أوتى كتابه بشماله لأنه لم يعد لهذا الموقف حسابه ، والشمال تستعمل في مواضع الشؤم والحزن ولذلك تراه يقول : يا ليتني لم أعط هذا الكتاب الذي جمع كل الأعمال ولم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ويا ليتني مت فلم أدر ما حسابيه ، يا ليت الموتة الأولى كانت القاضية ولم يكن هناك حياة ثانيةا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
« 1 » .
يا قوم : أين مالي وأهلى وقوتي وسلطاني ؟ ! ما أغنى عنى مالي وهلك بعيدا عنى سلطاني. ثم يقول اللّه لملائكته : خذوه وضعوا في يديه الأغلال والأصفاد ثم ألقوه في جهنم يصطلى بنارها ، أدخلوه في سلسلة طولها سبعون ذراعا ، أدخلوه في نار جهنم.
ولا عجب ، إنه كان لا يؤمن باللّه العظيم ، لم يؤمن باللّه ولا باليوم الآخر ، وما كان يحض على طعام الفقير والمسكين ، وإذا كان الأمر كذلك فليس له اليوم ها هنا حميم ولا صديق كريم مع أنه في أشد الحاجة إلى الناصر والمعين ، وليس له من طعام إلا من قيح وصديد ، لا يأكله إلا الخاطئون المذنبون قساة القلوب وأصحاب الأعمال السيئة.
___________
(1) - سورة النبأ آية 40.(3/738)
ج 3 ، ص : 739
حقيقة الإنسان وما أنزل فيه [سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 52]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47)
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
المفردات :
كاهِنٍ : هو من يخبر بالغيب ، ويدعى معرفة الأسرار. تَقَوَّلَ التقول :
تكلف القول ، ويراد به الكذب والافتراء. بِالْيَمِينِ : المراد بها اليد اليمنى : أو القوة والبطش. الْوَتِينَ : هو الوريد وهو عرق رئيسى متصل بالقلب يوزع الدم على أجزاء الجسم. حاجِزِينَ : مانعين. لَحَسْرَةٌ : لغمّ وحزن. لَحَقُّ الْيَقِينِ : حق هو اليقين الذي لا شك فيه. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ : نزه اللّه عما لا يليق.
المعنى :
فلأنا « 1 » أقسم بما تبصرون من المخلوقات ، وما لا تبصرون منهم ، إن هذا القرآن لقول رسول كريم يبلغه عن ربه بعد أن أوحاه إليه. وقيل المعنى : إذا كان الأمر
___________
(1) - فاللام لام الابتداء دخلت على (أنا) ثم حذفت فأشبعت فتحة اللام فصارت لا ، وقيل فيها ما قيل في قوله تعالى : فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ من أن (لا) نافية والمنفي ما يدعونه ، أو المنفي نفس القسم لظهور المقسم عليه.(3/739)
ج 3 ، ص : 740
كذلك - وقد تكلمنا عن يوم القيامة وعلى من كذب به ، وما فيه من مواقف المتقين والمشركين كل ذلك ليثوب المشركون إلى رشدهم ويؤمنوا باللّه ورسوله وباليوم الآخر ، ولم يحصل هذا - فلا أقسم بما ترونه وما لا ترونه على أن هذا القرآن نزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم قاله مبلغا عن ربه الذي أوحاه إليه ، لا أقسم على هذا لظهوره كالشمس أو هو أوضح ، وهذا الرسول الكريم ما لكم تكذبونه ، وتدعون تارة أنه شاعر ، وأخرى أنه كاهن ، وأخرى أنه افتراه على اللّه ، عجبا لكم! أهذا القرآن كلام شاعر ؟ وأنتم أعلم الناس بقول الشعر والشعراء! ما هو بقول شاعر لاشتماله على الحقائق والقوانين والقصص العالي ، وما فيه من أحكام وشرائع الشعر عندكم خلو من هذا كله ، فكيف يكون محمد شاعرا ؟ وبطلان هذا ظاهر ، وبهتانكم فيه أكبر ، فلا غرو أن يوبخكم اللّه بقوله : قليلا ما تؤمنون! وكيف تقولون : إن القرآن كلام كاهن وأنتم تعلمون أن الكاهن له غرض مادى وليس في نفسه السمو والكمال ، ولا يدعو إلى الفضيلة والمثل العليا ، وهو إن صدق مرة فيكذب مرارا (و كلام الكهان سجع مصنوع وقول موضوع) على أن الكهانة انتهت بظهور القرآن ، يقول : تذكروا وادرسوا القرآن لتفرقوا بينه وبين الكهانة قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ والقرآن ليس بالشعر وليس بالكهانة ، وإنما هو تنزيل من رب العالمين وفيض من الخالق الرحمن الرحيم ، وسرعان وذكر كريم أنزل على لسان رجل صادق مصدق ذي شرف وخلق كما تقرون له بذلك.
وكيف تدعون أنه اختلقه ونسبه إلى ربه ، ولو تقول علينا بعض الأقاويل والأكاذيب لأخذناه أخذ عزيز قادر ، وقطعنا منه حبل الوريد حتى لا يحيا لحظة واحدة في الوجود لأنه يكذب على اللّه جل جلاله ، وما وجدنا أحدا يرد عنه كيدنا أو يقف منه موقف الناصر والمعين ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ!! [سورة الصافات آية 154].
وإن القرآن لتذكرة وموعظة للمتقين ، أولئك الذين صفت أرواحهم وطهرت ، وخلت من العصبية الممقوتة أو التقليد الأعمى ، وإنه لحسرة على الكافرين فهو يزيد المؤمنين إيمانا وسرورا ، ويزيد الكافرين حسرة وارتيابا وظنونا ، وإنه لحق هو اليقين ، الذي لا شك فيه ولا شبهة ، إذا كان الأمر كما عرفت وأن القرآن الذي أنزل عليك من(3/740)
ج 3 ، ص : 741
ربك لا شك فيه ولا ريب ، وأن المكذبين لك والكافرين باللّه لهم سوء العذاب في يوم بئيس ، إذا كان الأمر كذلك فلم يبق إلا الصبر والمثابرة وتحمل الأذى ، فاصبر واستعن على ذلك بتسبيح اللّه الأقدس وتنزيهه عن كل نقص ، واعلم أن اسم الرب كل لفظ يدل على الذات أو على صفة من صفاته كالرحمن الرحيم ، ولا شك أن تنزيه الاسم الخاص تنزيه للذات. واللّه أعلم.(3/741)
ج 3 ، ص : 742
سورة المعارج
مكية بالإجماع ، وعدد آياتها أربع وأربعون آية.
وتشمل تهديد المشركين بعذاب واقع ، مع التعرض لوصف القيامة ، ثم الكلام على الإنسان وطبعه وعلاجه ، ثم ختام السورة بمثل ما بدئت به.
تهديد المشركين بالعذاب الواقع عليهم [سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18)(3/742)
ج 3 ، ص : 743
المفردات :
سَأَلَ سائِلٌ : السؤال يكون تارة بمعنى طلب الشيء واستدعائه ، ويعدّى حينئذ بالباء فتقول : سألت بكذا ، أى : طلبته وعليه قوله : ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ أو بمعنى الاستبخار عن الشيء اعتناء به ، ويعدى عند ذلك بعن أو بالباء تقول : سألت عنه وعن حاله. وسألت به وبحاله ، وعليه قوله تعالى : فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً دافِعٌ :
مانع وواق. الْمَعارِجِ : هي المصاعد والدرجات. تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ تصعد ، والمراد تلقى الأوامر والنواهي. كَالْمُهْلِ : هو مائع كالزيت ، أو مائع الفلزات - المعادن - المذابة. ولها لون خاص ضارب إلى الخضرة أو الحمرة. كَالْعِهْنِ : هو الصوف الملون ، وقيل : المنقوش. حَمِيمٌ الحميم : صديق المرء وقريبه الذي يهتم به. وَصاحِبَتِهِ : زوجته. وَفَصِيلَتِهِ فصيلة الرجل : عشيرته ورهطه الأدنون. كَلَّا : كلمة ردع وزجر للمخاطب عن اعتقاد أو رأى أو عمل تغالى في التمسك به. لَظى : نار ملتهبة. نَزَّاعَةً لِلشَّوى : هي أعضاء الجسم الخارجية كاليدين والرجلين مثلا ، وقيل : هي جلدة الرأس.
كان المشركون حين يهددهم النبي بعذاب اللّه يستخفون به وبتهديده ، وينكرون عليه ذلك ، بل ويستعجلونه استهزاء به حتى قال زعيمهم في ذلك وهو النضر بن الحارث : اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ وربما كان هذا الموقف مع النبي مما يثير نفسه ، ويجعله يتمنى أن لو نزل عليهم عذاب يردع أمثالهم فيؤثر هذا في انتشار الدعوة الإسلامية ، فأنزل اللّه هذه الآيات ليطمئن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وليهددهم بعذاب واقع عليهم لا محالة ، ثم يأمره بالصبر الجميل.
المعنى :
سأل سائل « 1 » وطالب بعذاب واقع ، وكان النضر بن الحارث هو الذي طلب هذا واستدعاه ، أو سألك سائل عن عذاب واقع طالما حدثتهم به ، ويحتمل أن يكون السائل هو النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وسياق الآية لا يأباه.
___________
(1) - والتنكير للتحقير ، وإذا كان السائل هو النبي فالتنكير للتعظيم.(3/743)
ج 3 ، ص : 744
لقد أجاب اللّه عن هذا السؤال بقوله : هو للكافرين ، ليس له دافع ، أى : هذا العذاب معد ومهيأ للكافرين ، ليس له مانع يمنعه من اللّه رفيع الدرجات صاحب المعارج والمراقي إلى الكمالات وهذه المعارج إذا نسبت إلى الحق - تبارك وتعالى - كانت بمعنى علو الذات وترفعها عن النقائص ووصفها بكل الكمالات.
تعرج وتصعد إليه الملائكة - وخاصة جبريل - في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة من سنى الدنيا ، تعرج إلى حظيرة القدس ، حيث يفاض عليها من التجليات الإلهية ، والأوامر الربانية ما به يحصل النظام العام للكون ، وما يتعلق بتدبير الكائنات ، فليس عروجهم وصعودهم إلى مكان لأنه منزه عن الحلول بالمكان.
وهل هذا اليوم الطويل هو كناية عن أيام الدنيا أو الآخرة ؟ قيل بهذا وبذاك ، واللّه أعلم بكتابه ، على أن المراد بقوله : (خمسين ألف سنة) هو الكثرة المطلقة لا التحديد بهذا العدد ، والعرب تفعل هذا كثيرا في كلامها.
بقي أن نفهم السر في الارتباط بين سؤال السائل والعذاب الواقع ، وبين عروج الملائكة وترددها بين اللّه - سبحانه وتعالى - وبين هذه الأكوان بما يريده منها ويقضيه فيها.
الجواب : أن المعنى : هذا معد للكافرين ، ليس لهم ما يمنعهم من عذاب اللّه أبدا ، ثم نبههم بقوله : تعرج الملائكة ... الآية إلى أن هذا العذاب إنما يرونه بعيدا لطول مدة الدنيا في نظرهم ، مع أنها ليست كذلك عند اللّه تعالى ، وبالنسبة إلى الأحقاب التي تربط الأبد بالأزل ، سوى يوم واحد تعرج فيه الملائكة إلى اللّه بالتدبير لهذه الدنيا التي ترونها خمسين ألف سنة ، فما لكم تستعجلون العذاب ؟ فهم يرون العذاب بعيدا جدّا لأن الدنيا في نظرهم طويلة جدّا ، وأما عند اللّه فالدنيا يوم واحد وزمن قليل فما لكم تستبطئون الحساب ؟ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ « 1 » ترى أن اللّه قدر اليوم عنده بألف سنة مرة ، وأخرى بخمسين ألف سنة ، والمراد الكثرة لا التحديد بزمن - واللّه أعلم - وقيل : المراد باليوم هو يوم القيامة وصف بأنه خمسون ألف سنة تهويلا وتخويفا للكفار ، والخلاصة أن المراد وصف اليوم بالطول مطلقا.
___________
(1) - سورة الحج آية 47.(3/744)
ج 3 ، ص : 745
إذا كان الأمر كذلك فاصبر يا محمد صبرا جميلا لا قلق معه ، فإن الموعود به حاصل لا محالة إنهم يرون العذاب الذي يتوعدهم به النبي بعيدا زمانه ونراه قريبا. يوم تكون السماء كدردي الزيت أو مائع النحاس أو الحديد المذاب في النار ، والمراد تغير الوضع واختلاف الحال ، وتكون الجبال كالصوف المندوف يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [سورة القارعة الآيتان 4 و5].
هذه حال السماء والأرض في ذلك اليوم ، أما حال الخلائق فهي كما وصف اللّه ، الناس في شغل شاغل فلا يسأل حميم حميما ، ولا قريب قريبا إذ كل عنده ما يغني يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ « 1 » هل هم لا يسألون أحماءهم وأقاربهم لأنهم لا يرونهم ؟ الجواب : إنهم يبصرونهم أى : قد جعلهم اللّه لا يبصر بعضهم بعضا ، ولكن لكل منهم ساعتها شأن يشغله عن أى شيء آخر ، ومع هذا فيود كل امرئ منهم من صميم قلبه لو يفتدى نفسه من هول ذلك اليوم بأحب الناس إليه وأعزهم عليه كأولاده وزوجته وإخوته وعشيرته التي تؤويه بل يود لو يفتدى نفسه بمن في الأرض ، ثم ينجيه من هذا العذاب البئيس الذي هو فيه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [سورة المائدة آية 36].
وكأن المكذبين بيوم الدين السائلين عن العذاب المستعجلين له ، يتعللون بالأمانى الكاذبة ، وأنهم يفدون أنفسهم من هذا العذاب ، فكذبهم القرآن وردعهم عن هذا بقوله : « كلا » إن جهنم التي أعدت لهم نار محرقة ، لهبها شديد لا منجى منها ولا هرب ، تكون نزاعة للأطراف من الأرجل والأيادى ، وتنزع كذلك فروة الرأس ، فما أصبرهم عليها!! هذه النار تدعو من أدبر عنها وتولى ، أو من أدبر عن الحق وأعرض عنه في الدنيا ، هذا الدعاء على حقيقته كما روى عن ابن عباس أو هو مجاز « 2 » .
وتدعو من جمع المال فجعله في وعاء وحفظه وكنزه ولم يؤد حقوق اللّه فيه ، فليس الجمع وحده معيبا ، وإنما المعيب الجمع مع عدم إخراج حقوق الفقراء والمساكين فيه.
___________
(1) - سورة عبس الآيات 34 - 37.
(2) - حيث شبه تهيؤ جهنم وظهورها للمكذبين وتفتح أبوابها ووقوف الخزنة عليها شبه هذا بالدعاء والطلب لهم ، وهذا ما يسمى بلسان الحال ، وهذا كثير الشيوع في لسان العرب.(3/745)
ج 3 ، ص : 746
طبيعة الإنسان وعلاج القرآن لها [سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 35]
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
المفردات :
هَلُوعاً الهلع : أفحش الجزع. مع الشح وكثرة الضجر. جَزُوعاً : كثير الجزع والمراد أنه يؤوس قنوط. لِلسَّائِلِ : الفقير الذي يتكفف فيعطى.
وَالْمَحْرُومِ : الذي يتعفف فيحرم. بِيَوْمِ الدِّينِ : يوم القيامة.
مُشْفِقُونَ : خائفون. ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ : طلب غير هذا. العادُونَ :
المتجاوزون الحد.(3/746)
ج 3 ، ص : 747
هدد اللّه المشركين بذكر يوم القيامة ، وما يحصل فيه بعد التعرض للسؤال عن العذاب الواقع ، ثم ذكر هنا طبيعة الإنسان التي تدعوه إلى الكفر واستعجال العذاب والإتيان بأعمال يكون الدافع له حب العاجلة وترك الآجلة ، وتلك من غرائز الناس إلا من آمن به فإنه ينجو منها.
المعنى :
إن الإنسان خلق من طين أسود لازب ، جف حتى صار كالفخار ، ثم نفخ فيه من روح اللّه ، هذا الإنسان لا بد أن ينزع إلى الشر وإلى الخير ، ونزعه إلى الشر كثير بل هو الأصل ، ولا يخفف هذا إلا دواعي الخير كالإيمان السليم والقرآن الكريم ، والعقل الراجح وبدون هذا فالإنسان حيوان ، لكنه مفكر ، فالإنسان من حيث هو إنسان مادى بطبعه يؤثر الدنيا على الآخرة ، ويحب العاجلة على الباقية ، ولا يمنعه من هذا إلا الإيمان باللّه وحبه له ولرسوله ، وامتثال أمر الشرع في أفعاله ، عندئذ يتبصر فيرى الحق ويتبعه وإن خالف نفسه وهواه ويرى الشر فيتجنبه وإن دعته له الدنيا وطبيعته ، فالإنسان خلق كثير الهلع ، شديد الجزع ، إن مسه الشر يستولى عليه يأس قاتل ، وقنوط مميت ، فهو لعدم إيمانه باللّه يظن أن هذا الذي نزل به من فقر أو مرض أو مصيبة لا يمكن أن تتحول عنه ، كأنه ليس في الكون إله يقدر على ذلك ، وهو إن مسه الخير ، وصادفه الحظ كان منوعا له عن الناس جميعا ، لأنه يعتقد أن هذا الذي وصل إليه إنما أوتيه على علم عنده وعلى قوة وبصر منه ليس للّه فضل عليه ، وليس لمخلوق حاجة لديه ، ولذلك تراه يمنع رفده ، ويضرب عبده ويأكل وحده ، تراه فظا غليظ القلب جافى الطبع سىء المعاملة.
تلك بعض طبائع الإنسان الموجودة فيه. أما علاجها فهو الإيمان باللّه ، وحسن التوكل عليه ، وحب الآخرة ، والبعد عن الدنيا وزينتها ، وخلاصة ذلك : طاعة الحق ، والإشفاق على الخلق ، والإيمان بيوم الدين ، والخوف من العقوبة ، وقد استثنى اللّه - سبحانه - من الناس الذين جبلوا على الهلع والجزع ومنع الخير - وفي هذا إشارة إلى العلاج - المؤمنين الكاملين الواثقين في اللّه ثقة كاملة ، وهؤلاء هم المصلحون المحافظون على صلاتهم المداومون عليها ، الذين يعطون الفقير حقه من أموالهم ، سواء سأل أو تعفف ، والذين يؤمنون بالغيب ، ويصدقون بيوم البعث ، والذين هم من عذاب ربهم دائما في خوف ، فليس(3/747)
ج 3 ، ص : 748
عندهم غرور ، ولا تخدعهم تلك الأمانى الكاذبة مع سوء العمل ، إن عذاب ربهم غير مأمون ، إن هؤلاء المؤمنين الكاملين الواثقين في اللّه لا يجزعون عند حلول شر بهم لأنهم واثقون أن هذا من اللّه. ولن يفلتوا منه أبدا مهما كان ، وهم لا يمنعون خيرا عن أحد لأنهم واثقون أن الخير من اللّه وأن الفقراء عيال اللّه ، وأنهم سيجازون عليه من اللّه ، والذين هم لفروجهم حافظون. لا ينظرون إلّا لما أحله اللّه لهم من أزواج أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين على هذا بل مثابون عليه ، فمن طلب غير ذلك وتجاوز حدود الزوجية أو ملك اليمين فأولئك هم العادون ، والذين هم يراعون الأمانة ، يؤدونها كاملة غير منقوصة لأربابها ، وهم عند عهودهم لا يتخطونها ، والذين هم يقيمون الشهادة ، ويؤدونها كاملة حتى لا تضيع الحقوق ، والذين هم على صلاتهم يحافظون على أوقاتها وأركانها وشروطها وسننها وآدابها ، أولئك هم المصوفون بما تقدم في جنات ونعيم ، وهم مكرمون في جوار اللّه.
هؤلاء هم المكذبون وهذه نهايتهم [سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 44]
فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40)
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)
المفردات :
قِبَلَكَ : ناحيتك وجهتك. مُهْطِعِينَ : مسرعين إليك مادى أعناقهم نحوك(3/748)
ج 3 ، ص : 749
شاخصين بأبصارهم لك. عِزِينَ : جمع عزة ، وهي العصبة والجماعة ، وكأنها سميت بذلك لأنها تعزى وتنتسب إلى رأى خاص يجمع بين أفرادها ، والمراد أنهم كانوا يجلسون حوله جماعات. بِمَسْبُوقِينَ : بمغلوبين. فَذَرْهُمْ : اتركهم. يَخُوضُوا :
يتحدثوا في الباطل. الْأَجْداثِ : جمع جدث ، وهو القبر. سِراعاً :
مسرعين. نُصُبٍ جمع أنصاب ، وهو كل ما نصب وأقيم للعبادة. يُوفِضُونَ :
يستبقون ويسرعون. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ : ذليلة كسيرة.
وهذا ختام للسورة بديع ، إذ بعد أن رد على سؤالهم عن العذاب ، ووصف ما يلاقونه يوم الحساب ، تعرض إلى طبيعة الإنسان ، وبين علاج ذلك ، يذكر صفات المؤمنين عادة إلى المكذبين ليختم السورة ببيان حالهم ونهايتهم وتهديدهم.
المعنى :
كان المشركون إذا سمعوا النبي يتلو القرآن أقبلوا مسرعين عليه مادى أعناقهم إليه شاخصة أبصارهم نحوه ، خائفين مضطربين ، حتى إذا اجتمعوا به هدأت نفوسهم قليلا فجلسوا متفرقين حوله عن اليمين وعن الشمال جماعات جماعات كأنهم يأتون أول الأمر وجلين خائفين حتى إذا هدأت قلوبهم - نوعا ما - تحلقوا حول النبي حلقا هنا وهناك يتساءلون - مع الإعراض والهزء به - ماذا قال ؟ فإذا سمعوا من آيات اللّه وصف الجنة ، وما أعد للمؤمنين فيها من نعيم مقيم ، مالت رؤوسهم هازئين ساخرين قائلين : إن كان هؤلاء القوم - أتباع محمد - سيدخلون هذه الجنة ، فنحن أولى بها فإنا أشراف العرب وساداتها وهم خدمنا وعبيدنا.
فقال تعالى متعجبا من حالهم ومنكرا له : أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم!! عجبا لهؤلاء القوم! كلا وألف كلا! ليس الأمر كما زعموا إن الجنة أعدت للذين آمنوا باللّه ورسوله وعملوا الصالحات من الأعمال ، إنا خلقناهم وخلقنا غيرهم مما يعلمون : من ماء مهين ، من نطفة قذرة ، فالكل سواء في هذا ولا فضل لشريف على غيره. وإنما الفضل - وأعلاه دخول الجنة - يكون بالإيمان لا بغيره ، وما لكم تستبعدون ذلك ؟ أليس اللّه خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ... إلخ ؟ فالقادر على ذلك قادر على البعث وإعطاء كل ذي حق حقه.(3/749)
ج 3 ، ص : 750
فلا أقسم برب المشارق والمغارب - في كل يوم تشرق الشمس من مشرق وتغيب في مغرب - إنا لقادرون ، لا يقسم اللّه على ذلك لظهوره ووضوحه أكثر من الشمس في رابعة النهار.
فربك القادر على كل شيء - وخاصة شروق الشمس ومغربها - قادر على تبديل خلق خير من هؤلاء ، فيهلكهم ، ويأتى بخلق جديد ، وما ذلك على اللّه بعزيز وما هو بمسبوق في ذلك ، وما هم بمعجزى اللّه في شيء.
وإذا كان الأمر كذلك فذرهم يخوضوا في باطلهم ويذهبوا فيه كل مذهب ويلعبوا فيما لا يجدي ولا ينفع حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ؟ ! اذكر يوم يخرجون من القبور مسرعين كأنهم يسرعون إلى أنصابهم التي نصبوها في الدنيا للعبادة أرأيتهم وهم يسرعون نحوها ؟ خاشعة أبصارهم ذليلة منكسرة ترهقهم ذلة وتغشاهم وتستولى عليهم.
ذلك هو اليوم الذي كذبوا به ، وسألوه متعجلين مستهزئين به ، ذلك هو اليوم الذي كانوا يوعدون! ويا ليتهم آمنوا به ..(3/750)
ج 3 ، ص : 751
سورة نوح عليه السلام
وهي مكية بالإجماع. وعدد آياتها ثمان وعشرون آية .. وهي تشتمل على بعض من قصة نوح عليه السلام مع قومه.
قوم نوح وتصوير حالهم [سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 28]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24)
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)(3/751)
ج 3 ، ص : 752
المفردات :
أَجَلٍ مُسَمًّى : أجل محدود بحد لا يتجاوزه. فِراراً : هربا وتفلتا منه.
وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ : جعلوها أغشية وأغطية لهم تستر بدنهم كله. وَأَصَرُّوا الإصرار على الأمر : عبارة عن لزومه والانكباب عليه ، وأكثر ما يستعمل في الشرور والآثام. وَاسْتَكْبَرُوا : تكبروا. جِهاراً : مجاهرة. مِدْراراً : كثير الدرور غزير الانسكاب. وَيُمْدِدْكُمْ : يعطكم على فترات ما به تنتفعون.
وَقاراً : عظمة وتوقيرا. أَطْواراً : أحوالا مختلفة في الخلق من نطفة إلى(3/752)
ج 3 ، ص : 753
علقة ، وفي نفس الحياة من طفولة إلى شباب إلى كهولة وغير ذلك طِباقاً : متطابقة بعضها فوق بعض. سِراجاً : كل ما يضيء بنفسه فهو سراج. أَنْبَتَكُمْ :
أنشأكم. بِساطاً أى : ممهدة كالبسط. سُبُلًا فِجاجاً : واسعة. كُبَّاراً أى : كبيرا. وَدًّا. سُواعاً. يَغُوثَ. يَعُوقَ. نَسْراً : هذه أسماء آلهة كانوا يعبدونها. وفي الأصل كانت أسماء رجال صالحين في قومهم. مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ :
من خطاياهم. دَيَّاراً المراد : لا تترك على الأرض من الكافرين أحدا يدور في دار. فاجِراً : فاسقا معتديا. تَباراً : هلاكا.
وهذه السورة الكريمة جاءت تقص على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قصة نوح مع قومه في بعض المواقف الخاصة التي تدور حول دعاء نوح لهم ، وكيف وقفوا منه ، ليتأسى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بما حصل لنوح ، ولا يأسى من قومه ، وليعتبر أهل مكة بما حصل لغيرهم.
المعنى :
إنا أرسلنا نوحا إلى قومه ، أى : حملناه قولا إلهيا ، ورسالة سماوية هي : أن أنذر « 1 » قومك ، وحذرهم عاقبة كفرهم ، ونهاية شركهم من قبل فوات الفرصة ومن قبل أن يأتيهم عذاب أليم شديد الألم للغاية ... وماذا قال نوح! قال يا قومي : إنى لكم رسول أمين ونذير مبين ، جئت بأمر هو أن اعبدوا اللّه وحده ، ولا تشركوا به شيئا ، واتقوا عذابه وأطيعون ، فإنه من أطاع الرسول فقد أطاع اللّه ، إن تعبدوا اللّه حقا يغفر لكم ذنوبكم ، أى : يغفر لكم أفعالكم التي هي ذنوبكم « 2 » ويؤخركم إلى أجل مسمى معلوم عنده إن آمنتم ، أى : جعل لهم أجلا إن ظلوا كافرين ، وأجلا إن آمنوا إن أجل اللّه إذا جاء وقته وحينه لا يؤخر مطلقا ، ليتكم تعلمون ذلك فتعملوا له ولكنهم مع هذا الدعاء
___________
(1) - هذا إشارة إلى الموقف أن « أن » تفسيرية ، ويصح أن تكون مصدرية مجرورة بحرف ، أى : بأن أنذر ، وهكذا (أن) في أن اعبدوا اللّه تفسيرية كالإنذار.
(2) - هذا إشارة إلى أن (من) بيانية ، وقيل : ابتدائية أو تبعيضية.(3/753)
ج 3 ، ص : 754
اللين والعرض الجميل أصروا على كفرهم فماذا كان موقف نوح ؟ إنه ناجى ربه وقال آسفا : رب إنى دعوت قومي - كما تعلم - إلى الإيمان والطاعة ليلا ونهارا وسرّا وإعلانا ، فلم أر منهم إلا عنادا واستكبارا عن الحق وعن الصراط المستقيم ، وإنى كلما دعوتهم إلى الإيمان لتغفر لهم أصموا آذانهم عن سماع تلك الدعوة ، وحجبوا عيونهم عنها ، وأصروا واستكبروا استكبارا.
وانظر إلى القرآن الكريم وهو يصور حالهم العجيبة حيث يعبر عن عدم سماعهم بأنهم جعلوا أصابعهم في آذانهم ، والجعل يقتضى دوام الوضع ، والأصابع يفهم منها المبالغة في السد فإن الذي يوضع طرف الإصبع لا الإصبع كله ، وانظر إلى قوله (و استغشوا ثيابهم) فإن المعنى أنهم بالغوا في التغطى بها مبالغة كأنهم طلبوا من ثيابهم أن تغشى الجسم كله لا عيونهم فقط.
ثم إلى دعوتهم جهارا ، ثم إنى أعلنت لهم الحال وبينته لهم على كل وضع بحيث جمعت بين الإعلان والإسرار.
تلك هي المرحلة الأولى في الدعوة ، تلتها مرحلة ثانية هي مرحلة الشرح وبيان الحجة حيث قال نوح :
فقلت : استغفروا ربكم ، وتوبوا إليه ، إنه يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات ، إنه كان غفارا على أنكم إن آمنتم بربكم يرسل السماء عليكم بالمطر الكثير الذي يخصب الأرض ويأتى بالخير ، ويمددكم ربكم عند ذلك بأموال نافعة وأبناء وذرية صالحة ، ويجعل لكم جنات وبساتين. ويجعل لكم فيها الأنهار والعيون ، أى : إن آمنتم أمدكم بسعادة دنيوية تكفل لكم حياة رغدة وعيشة راضية.
ولكنهم مع ذلك لم يؤمنوا فناقشهم بقوله : أى شيء ثبت لكم حالة كونكم لا ترجون وقارا كائنا للّه ؟ والوقار العظمة ، والرجاء الخوف أو الاعتقاد ، فكأن المعنى أى سبب حصل لكم حال كونكم غير خائفين أو غير معتقدين للّه تعالى عظمة توجب عليكم الإيمان باللّه والطاعة لرسوله ؟ !! إن هذا لشيء عجيب ، وشيء تنكره العقول السليمة.
ما لكم لا تخشون اللّه وقدرته على كل شي ء ؟ وما لكم لا ترهبون سطوته فتؤمنوا به وتصدقوا برسله ؟ وهو القادر على كل شيء ، وهو الذي خلقكم في أطوار مختلفة وفي(3/754)
ج 3 ، ص : 755
أحوال تكاد تكون متباينة ، ألم يخلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم أخرجكم أطفالا ثم كنتم شيوخا ، أليس صاحب هذا بقادر على كل شيء فما لكم لا تخافون عظمة اللّه ؟ ولا تؤمنون بيوم القيامة! ثم لفت نظرهم إلى هذا الكون بعد أن نبههم إلى ما في أنفسهم من آيات فقال : ألم تروا السماء كيف خلقت ؟ لقد خلقها اللّه سبع سموات طباقا ، ما ترى فيها من نقص ولا تفاوت ، وجعل القمر في إحداهن نورا ، وجعل الشمس في أخرى سراجا وهاجا.
يا سبحان اللّه لقد جعل الحكيم العليم للقمر نورا ، وللشمس سراجا ، لأن الدنيا ستصبح بنور الشمس على أنه نور قوى شديد ، ونور القمر بسيط يضيء في الليل نوعا ما ، وهو نور منعكس ليس من ذات القمر وهُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً « 1 » وقد توصل العلم إلى بعض الحقائق الثابتة في كتاب اللّه .. ثم لفت نظرهم إلى أنفسهم فقال : وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً نعم هو خلقنا من تراب ، فعناصرنا المادية تراب مخلوط بماء ، ثم كانت النطفة ، والنطفة خلاصة الدم ، والدم من الغذاء والغذاء من الأرض ، فاللّه سبحانه أنبت الإنسان من الأرض نباتا كالشجر ، ولكنه ميزه عنه بالحياة الحيوانية ، ثم كمله بالعقل والتفكير ، وشرفه بالرسالات الإلهية ، فما لكم لا تؤمنون ، لأى سبب تكفرون.
ثم بعد هذا يعيدكم إلى الأرض أمواتا ، ثم يخرجكم منها إخراجا للبعث والجزاء ... ثم لفت نظرهم إلى الأرض التي أقلتهم فقال : لقد جعلت لكم الأرض بساطا ، فهي ممهدة للعيش ، ميسرة سهلة للانتقال ، لتسلكوا منها طرقا واسعة توصلكم إلى أغراضكم.
هذا هو الدور الثالث في القصة.
وقد أخذ نوح بعد هذا يشكو إلى ربه عصيان قومه مبينا سبب هذا العصيان ونهايته ، وفي هذا كشف لحقيقة كان يجهلها عامة المشركين.
قال نوح : رب إنهم عصوني وخالفوا أمرى واتبعوا رؤساءهم الذين حملوهم على الكفر ، وأشاروا عليهم به لأنهم أصحاب مال وأولاد. فاغتروا بهم ، واستكبروا واشتروا الضلالة بالهدى ، وآثروا هذا الجاه الكاذب على النعيم الدائم ، هؤلاء الرؤساء مكروا بعامتهم وبنوح مكرا كثيرا. فأما مكرهم بالشعب فلأنهم ضللوهم عن اتباع الحق ، وحالوا بينهم وبين الإيمان بنوح - عليه السلام - وأما مكرهم بنوح فلأنهم
___________
(1) - سورة يونس آية 5.(3/755)
ج 3 ، ص : 756
كانوا يتظاهرون أمامه بأن الأمر متروك للناس! وما كانوا يظهرون له أعمالهم الحقيقية ، مكروا مكرا كبيرا ، ولكن اللّه مكر بهم ، وهو خير الماكرين.
ومن طرق المكر التي كان يسلكها أشرافهم ورؤساؤهم أنهم أشاروا عليهم بل ونهوهم عن التفريط في آلهتهم ، وكانوا يظهرون لهم في ثوب الناصح الشفوق. لا تدعن آلهتكم التي عبدتموها وعبدها آباؤكم من قبل ، ولا تدعن خاصة ودّا ، ولا سواعا ، ولا يغوث ، ولا يعوق. ونسرا ، إذ تلك زعماء الآلهة ، وكأن الآلهة كالبشر فيها السوقة والخاصة ، وفيها الأشراف والعامة ، وقد انتقلت هذه الأصنام للعرب « 1 » .
يا رب : هؤلاء الأشراف والرؤساء هم سبب البلاء والشقاء فقد أضلوا كثيرا ، وما زالوا يضلون ، يا رب : لا تزد الظالمين إلا ضلالا فهذه إرادتك ، وهذا عملهم فلا أمل فيهم يرجى ، فيا رب نفذ فيهم إرادتك بهلاكهم.
من خطاياهم أغرقوا فأدخلوا نارا ، بسبب خطاياهم التي أعظمها الكفر وإيذاء نوح وقد جاء خبره مفصلا في سورة هود ، أغرقوا بالطوفان وماتوا فأدخلوا نارا ليأخذوا عذاب الآخرة بعد عذاب الدنيا ومع هذا كله لم يجدوا لهم من دون اللّه أنصارا ينصرونهم ويردون عنهم هذا العذاب ، فأين آلهتهم وأصنامهم وأوثانهم ؟ وأين (ود.
وسواع. ويغوث. ويعوق ، ونسر ؟ ) أين هؤلاء.
وقال نوح من كثرة ما لاقى منهم : رب لا تذر على الأرض من الكافرين - المعاصرين له - شخصا واحدا منهم يسكن دارا أو يدور ويتحرك ، وهذه العبارة تفيد الدعاء عليهم بمحوهم بالكلية ، وقد أجاب اللّه دعاءه إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ثم أخذ نوح يذكر سبب هذا الدعاء - والأمر كله للّه - إنك إن تتركهم بدون هذا العذاب العاجل يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا ذرية تكون فجرة كفرة بسبب إنحاء الكفر لهم وتقليدهم فيه.
أما المؤمنون الذين آمنوا باللّه وبرسوله فيقول نوح في شأنهم : رب اغفر لي واستر ذنبي - إن كان - واغفر لي ولوالدي ، ولمن دخل بيتي - ولعله أراد شريعته أو سفينته - واغفر للمؤمنين والمؤمنات من كل أمة وفي كل زمن.
ولا تزد الظالمين لأنفسهم بالكفر ولغيرهم بالإضلال إلا تبارا وهلاكا.
___________
(1) - كان (ود) لبنى كلب بدومة الجندل ، وكان على صورة رجل ، و(سواع) لهمدان أو هذيل ، وكان على صورة امرأة ، و(يغوث) لمذحج ، و(يعوق) لمراد أو لهمدان وكان على صورة فرس ، و(نسر) لحمير وكان على صورة نسر. [.....](3/756)
ج 3 ، ص : 757
سورة الجن
وهي مكية باتفاق الجميع ، وعدد آياتها ثمان وعشرون آية.
وهي تتضمن حقائق إسلامية نطق بها القرآن على لسان الجن ، مع ذكر توجيهات إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وحقائق تتعلق بالرسالة.
الجن واستماعهم للقرآن [سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14)
وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15)(3/757)
ج 3 ، ص : 758
المفردات :
أُوحِيَ الوحى : هو ما يلقى إلى الأنبياء من عند اللّه ، وفيه معنى الخفاء والسرعة ، والإيحاء : أن تلقى إلى غيرك ما يريده عن طريق الإيماء أو الإشارة أو الرسالة أو الكتابة أو الإلهام. نَفَرٌ النفر : العدد القليل ، هو من الثلاثة إلى العشرة.
اسْتَمَعَ : أصغى. عَجَباً المراد : يثير العجب ويدعو للغرابة والدهشة.
جَدُّ رَبِّنا يقال : جد هذا في عيني ، أى : عظم ، فالمراد : تعالى جلال ربنا وعظمته ، وقيل الجد : الملك والسلطان. يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً السفيه :
من عنده خفة وطيش تنشأ عن حمق وجهل ، والقول الشطط : الذي تخطى صاحبه فيه حد العدل والحق. يَعُوذُونَ : يطلبون النجاة والعون. رَهَقاً : طغيانا وإثما ، أو ذلة وخوفا لا يطاق. لَمَسْنَا السَّماءَ : طلبنا بلوغها واستماع أخبارها.
حَرَساً : لفظ يدل على الجمع ، والمراد عليها حراس من الملائكة شداد.
شُهُباً : وهي شعلة من نار ساطعة. رَصَداً : يرصده ويرقبه لينقض عليه.
رَشَداً المراد : خيرا ورحمة. نُعْجِزَ اللَّهَ : لن نفوته ونفلت من قدرته.
بَخْساً أى : انتقاصا من حقه في الثواب فيعطى أقل مما له. وَلا رَهَقاً :
لا يخاف ظلما غير محتمل. تَحَرَّوْا رَشَداً أى : طلبوا الأحرى والأهدى من الطريقين. الْقاسِطُونَ قسط : ظلم وجار وأقسط : أزال الظلم والجور أى :
عدل.(3/758)
ج 3 ، ص : 759
لقد ثبت في الصحاح أن الجن « 1 » استمعوا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يصلى بأصحابه ، ويقرأ القرآن بصوت أمال الجن فصرفهم إليه ، فلما استمعوا ، وأفهموا حقائق من كلام اللّه انطلقوا إلى أهليهم يبشرونهم ويحملون إليهم ما عرفوه ، ولقد أوحى اللّه إلى النبي بهذا ليطمئن خاطره ، وتستمر نفسه كما هي قوية شديدة في دعوتها ، فإن أعرض عنها المشركون فها هم أولاء الجن يؤمنون ويدعون غيرهم للإيمان بها ، نزلت هذه الآية بالإجمال في سورة الأحقاف ، الآيتان : 29 ، 30 ومرة بالتفصيل كما هنا ، نزلت فيما نزلت تبكيتا لقريش والعرب ، حيث تباطأوا عن الإيمان وكانت الجن أسرع منهم في قبول الدعوة مع أنهم من غير جنس البشر ، أما القرشيون والعرب فقد كذبوا حسدا من عند أنفسهم وبغيا أن ينزل اللّه من فضله على من يشاء من عباده.
المعنى :
قل لهم يا محمد : لقد أوحى اللّه إلىّ أنه استمع نفر من الجن إلى القرآن فقالوا لقومهم عند رجوعهم إليهم : إنا سمعنا قرآنا جليل الشأن بديعا يدعو إلى العجب لأنه مخالف لكلام البشر ، بل ولكل الكتب السابقة ، في نظامه وأسلوبه وأغراضه ومعانيه ، وهو كتاب يهدى إلى الرشد وإلى الخير والحق ، وإلى الصراط المستقيم ، فنشأ عن ذلك أننا آمنا به وبمن أنزل عليه ، وبعد ما آمنا بالقوى القادر الذي أنزله على عبده محمد ، ولن نشرك بعد هذا بربنا أحدا من خلقه أيّا كان.
وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا « 2 » أى : وصدقنا أن الحال والشأن ارتفع جلال ربنا وعظمته أى : عظمت عظمته وتعالى سلطانه ، فهو صاحب الملك والسلطان ، تبارك
___________
(1) عالم آخر غير عالمنا ، مستتر لا يرى ، اللّه أعلم بحقيقته ، ولا نعرف عنه الا ما أخبرنا به الحق أو رسوله في خبره الصحيح ، فهو مخلوق من نار وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ وقد بعثت لهم الرسل كما نص القرآن ا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
؟ وهم كالبشر سواء بسواء ، يثاب مؤمنهم ، ويعاقب كافرهم ، وهل أمر النبي بدعوتهم فدعاهم أو هم صرفوا إليه فدعاهم ثانيا ، اللّه أعلم. هذا عالم غيبي فلا نقول فيه إلا ما قاله خالقه الذي يعلمه.
(2) هنا بضع عشرة آية مفتتحة بأن ، وقد اختلف القراء في فتح أن وكسرها وقيل : الكسر في الجميع ، وقيل :
اتفقوا على الفتح في (أنه استمع). (و أن المساجد للّه) ووجه الخلاف في ذلك أن قوله تعالى : قل أوحى إلى أنه استمع ، وقوله : فقالوا إنا سمعنا .. فآمنا به تصلح أن تكون معطوفا عليه ثم جاءت هذه الآيات فهل تعطف بالفتح على الموحى به الذي هو أنه استمع ؟ أو بالكسر على المقول أى : إنا سمعنا ، وجوز بعضهم الفتح عطفا على محل الجار والمجرور في قوله : آمنا به كأنه قيل : صدقنا به ، وصدقنا بأنه تعالى جد ربنا ، كذلك البواقي ، ولك أن تقدر له فعلا يناسب المقام كما ذكر في الشرح.(3/759)
ج 3 ، ص : 760
اسمه وتعالى سره ، ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ، كأن الجن حينما سمعوا القرآن نبههم ذلك إلى خطأ كان يعتقده الكفرة من الجن حيث شبهوا اللّه بالحادث المحتاج إلى الصاحبة والزوجة والذي يجوز عليه الانفصال والاتصال ، ويحتاج إلى الأولاد ، وكيف يكون ذلك مع أنه تعالى الغنى عن كل شي ء ؟
آمنا باللّه وصدقنا بأن ما كان يقوله سفيهنا في حقه - سبحانه وتعالى - كان شططا وخروجا عن حد المعقول لفرط بعده عن الحق إذ كان ينسب الصاحبة والولد إليه عز وجل.
وها هم يعتذرون عن تقليدهم لسفيههم وقائدهم في الشر فيقولون : آمنا باللّه وصدقنا بخطئنا في ظننا الذي لأجله اعتقدنا ما اعتقدنا في نسبة ما لا يليق باللّه ، لأننا كنا نظن أن من المستحيل أن يقول واحد من الإنس والجن على اللّه قولا كاذبا فيه كنسبة الصاحبة والولد له جل شأنه.
كان الرجل من العرب إذا أمسى في واد مقفر ، وخاف على نفسه نادى بأعلى صوته يا عزيز هذا الوادي - يريد رئيس الجن فيه - أعوذ بك من سفهاء قومك ، فإذا سمع الجن ذلك استكبروا وزادهم هذا إرهاقا وتعنتا وعتوا وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً بمعنى : آمنا باللّه وآمنا بأنه كان رجال من الإنس يلجئون إلى الجن يستعيذون بهم ، فكان الجن يزدادون بذلك عتوّا واستكبارا وقيل إن معنى الآية : وأنه كان رجال من الإنس يستجيرون برجال منهم وهم الكهان والمنجمون والعرافون ، يستجيرون بهم من أذى الجن ، فيزداد الكهان والعرافون عتوّا واستكبارا ، وهذا علاج جاء على لسان إخواننا الجن لرد البشر إلى الصواب في اعتقادهم في الجن. وعلى ذلك فكاذب من يقول : إن بعض الناس يستخدم الجن أو إن للجن عملا نافعا أو ضارّا في حياتنا يقول الآلوسي : ولعل تعلق الإيمان بهذا باعتبار ما يشعر به من كون ذلك ضلالا موجبا لزيادة الرهق.
وآمنا بأن الإنس ظنوا خطأ كما ظننتم أن اللّه لن يبعث أحدا من الرسل إلى أحد من العباد ، وقيل المعنى : أوحى إلى أن الجن ظنوا كما ظننتم أيها الكفرة أن اللّه لن يبعث أحدا من خلقه بعد موته.(3/760)
ج 3 ، ص : 761
وبخبركم بأننا طلبنا بلوغ السماء لنسمع كلام أصحابها كما كنا فوجدناها قد ملئت حرسا قويّا من الملائكة أعد لطرد من يسترق السمع ، وملئت شهبا رصدا لمن يريد السمع لتحرقه.
ونخبركم كذلك بأننا كنا نقعد منها مقاعد كثيرة لاستراق السمع قبل بعثة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فمن يستمع الآن يجد له شهابا خاصا به رصد لأجله لا يخطئه ، وهذه الشهب لا يمنع وجودها الآن وقبل الآن ، وكونها ظاهرة طبيعية لا يمنع أنها أعدت بعد البعثة لذلك مع صفتها الأصيلة ، وكثرت لهذا الغرض ، ويفيد ذلك قوله : « ملئت » .
وآمنا بأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بحراسة السماء أم أراد بهم ربهم رشدا وخيرا ؟
وآمنا بأنا منا الصالحون ، أى : في أنفسهم ، الطيبون في المعاملات مع غيرهم ، المائلون للخير بطبعهم ، ومنا غير ذلك ، وهم كثير ، كنا طرائق مختلفة حيث وكلنا إلى أنفسنا.
وآمنا بأنا لن نعجز اللّه ولن نفلت منه أبدا أينما كنا في الأرض ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء فالكل في قبضته وتحت تصرفه.
وآمنا بأنا سمعنا الهدى ، أى : القرآن فآمنا به من غير تلعثم وتردد فمن يؤمن بربه وبما أنزله - عز وجل - فلا يخاف نقصا ولا يخاف ظلما إذ لا يظلم ربك مثقال ذرة.
وفي الواقع أن ربك لا يظلم أحدا بل الكل يأخذ جزاءه ، لكن نصت الآية على أن المؤمن لا ينقص من حسناته! ولا يبخس شيء من عمله.
وبعد سماع القرآن آمنا بأنا منا المسلمون ، ومنا القاسطون الجائرون على طريق الهدى ، فأما المسلمون المهذبون فأولئك قوم توخوا العدل والحق وقصدوه واتبعوه وآمنوا وعملوا : وأما القاسطون الجائرون عن سنن الحق والعدل والكرامة التي هي سنن الإسلام فأولئك مأواهم جهنم بل كانوا لها حطبا ووقودا.
تلك حقائق إسلامية أوردها القرآن على لسان الجن فكانت دواء لكثير من أمراضنا وتصحيحا لكثير من أفهامنا.(3/761)
ج 3 ، ص : 762
توجيهات إلهية للرسول عليه السلام [سورة الجن (72) : الآيات 16 الى 28]
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20)
قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25)
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً (28)
المفردات :
عَلَى الطَّرِيقَةِ : على ملة الإسلام. غَدَقاً : كثيرا نافعا. لِنَفْتِنَهُمْ لنختبرهم فيه. يَسْلُكْهُ : يدخله. صَعَداً يعلو المعذب فيه ، وقيل : شاقّا(3/762)
ج 3 ، ص : 763
الْمَساجِدَ : أماكن السجود ، والمراد المواضع المعدة للعبادة والصلاة.
لِبَداً : جمع لبدة ، مأخوذة من تلبد القوم : إذا تجمعوا ، وعليه قولهم : لبدة الأسد للشعر المتراكم حول عنقه. يُجِيرَنِي : ينفعني ويدفع عنى. مُلْتَحَداً أى :
ملتجأ ألتجئ إليه ، أو حرزا أتحصن به. أَمَداً : زمنا بعيدا. يَسْلُكُ المراد :
يقيم ويثبت. رَصَداً : حراسا وحفظة.
المعنى :
قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن ، وأوحى إلى أن الحال والشأن لو استقام الإنس والجن على ملة الإسلام التي هي الطريقة المثلى ، الطريقة المحكمة التي فيها خير الدنيا والآخرة ، أن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء كثيرا مباركا فيه وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف 96] وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [سورة المائدة آية 66].
لو استقام الخلق لأتتهم الدنيا وكثرت أرزاقهم ، ثم أتت مرحلة أخرى هي مرحلة الاختبار والابتلاء ليظهر أهم من الشاكرين أم من الذين يكفرون بالنعم! وهذا معنى قوله تعالى : لنفتنهم فيه ، ومن يعرض عن ذكر ربه ، ولا يقبل على عبادته فإنه يدخله عذابا يعلوه ويكون هو فيه ، عذاب - والعياذ باللّه - شديد وبئس هذا المصير.
وأوحى إلى أنه لما قام عبد اللّه ورسوله محمد صلّى اللّه عليه وسلّم يدعو الناس إلى الخير وإلى الهدى والنور ، لما قام يدعوه كادوا - أى : الإنس والجن - يكونون عليه متراكمين متكتلين ليطفئوا نور اللّه فأبى اللّه إلا أن ينصره ويظهر دينه ولو كره المشركون وقد كان ذلك كذلك.
قل لهم يا محمد : ما لكم! وماذا فعلت! إنما أدعو ربي وأعبده وحده ولا أشرك به شيئا فليس هذا بأمر يضركم أو يدعو إلى ما تفعلون.
قل لهم : ما لكم تقفون منى هذا الموقف!! إنى لا أملك لكم ضرّا ولا نفعا ، والذي يملك ذلك هو اللّه ، فلم أكن مقصرا في حقكم في شي ء!(3/763)
ج 3 ، ص : 764
قل لهم : وماذا أعمل لو لم أدعكم إلى الخير فعاقبنى اللّه بالسوء!! إنى لن يجيرني من اللّه أحد ، ولن يدفع عنى العذاب أحد ، ولن أجد من دونه ملتجأ فأنا مكلف ومأمور بهذا العمل من اللّه ، ولو تأخرت لعاقبنى فما لكم تفعلون معى هذا!! قل لهم : إنى لا أملك لكم شيئا إلا أن أبلغ بلاغا جاءني من اللّه لكم ، هذا البلاغ هو القرآن الذي يهدى إلى التي هي أقوم ، إلا بلاغا من اللّه ورسالاته التي هي أوامره ونواهيه الدينية فمن سمع البلاغ ووعاه ، وامتثل جميع الأوامر والنواهي ، وتقبل الرسالات الإلهية وتدبرها كانت له الجنة خالدا فيها أبدا.
ومن يعص اللّه ورسوله في رسالاته وبلاغه ، فيعرض عن سماعها وتدبرها والعمل بها فإن له نار جهنم خالدا فيها جزاء وفاقا لتكذيبه وإعراضه وسوء صنيعه.
ولا يزال المشركون سائرين في ضلالهم مغرورين بأنفسهم وبقوتهم ، ويستهزئون بك وبوعيدك وبمن معك حتى يروا العذاب ، فإذا رأوه فسيعلمون من هو أضعف ناصرا ، ومن هو أقل عددا ، وسيعلمون أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا!! فاحذروا يا آل مكة هذا.
وكان المشركون حينما يسمعون هذا التهديد بالعذاب يوم القيامة ينكرونه ويستهزئون به فأمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقول لهم : ما أدرى وقت هذا العذاب ، أما نفس العذاب فواقع لا محالة ، غير أنى لست أدرى أقريب هو أم بعيد ؟ قد جعل له ربي زمنا طويلا.
هو عالم الغيب وحده ، لا يطلع على غيبه أحدا ، إلا من ارتضاه من رسول فإنه يطلعه على بعض غيبه مما يحتاج إليه في رسالته ويكون من الخير الاطلاع عليه ، أما غير ذلك فلا يرقى إلى غيبه مخلوق من إنس أو جن أو ملك ، وكيف يكون ذلك ؟ وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [سورة الأنعام آية 59].
والخلاصة : أن اللّه عنده علم الغيب ، ولا يطلع عليه أحدا من خلقه إنسيّا كان أو جنيّا حكيما أو كاهنا أو غيرهما ، إلا من ارتضى من رسله الذين هم أصحاب الشرائع السماوية ، فإن اللّه أطلعهم على بعض غيوبه فكانت التوراة والزبور والإنجيل والقرآن وما فيهم. ذلك هو الغيب الذي أطلع اللّه عليه بعض خلقه بواسطة الوحى به على لسان الأمين جبريل وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [سورة التكوير آية 24] فالمراد بالغيب القرآن ، أى : ما هو بمتهم عليه حتى يتصور أنه غير أو بدل.(3/764)
ج 3 ، ص : 765
ويريد اللّه أن يعلمنا أن هذا الغيب وصل إلى الرسل عن طريق محكم جدّا ، وبلغه الرسل بأمانة ودقة وحكمة ، لم يكن معه نسيان أو إهمال أو خطأ في شيء ، ألا ترى قوله : فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ فإنه يسلك من بين يدي الرسول ومن خلفه حرسا شديدا يحفظونه من الوساوس والاختلاط ، والذهول والنسيان حتى لا يترك بعض ما أوحى إليه أو يقصر في تبليغه إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[سورة القيامة آية 17] وهذا ما يسمى في عرف علماء التوحيد بالأمانة والعصمة.
كل ذلك ليعلم ربك علم ظهور وانكشاف - أى : يتحقق هذا في الخارج ويشاهده الجميع - أن قد أبلغوا - أى : الرسل - رسالات ربهم ، أو ليعلم أن قد أبلغ جبريل زعيم الملائكة رسالات ربهم ، وال حال أن الحق - تبارك وتعالى - أحاط بما لديهم كله إحاطة العليم الخبير ، الناقد البصير ، وأحصى كل شيء من هذا الكون حالة كونه معدودا مميزا عن غيره ، فهل يعقل أن يتطرق إلى الرسل شك في زيادة أو نقص إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ! [سورة الحجر آية 9].
وانظر إلى ختام السورة ، بإبراز الغيب الإلهى محاطا بسور لا يقربه إلا المرتضى المختار من الرسل الكرام ، أما الجن والكهان ومن يدعى علم الغيب فأولئك كذبة فجرة ، لا يعرفون أنفسهم ..(3/765)
ج 3 ، ص : 766
سورة المزمل صلى الله عليه وسلم
وهي مكية كلها ، ويرى بعضهم أنه يستثنى من ذلك آخرها ، وعدد آياتها عشرون آية ، وتشمل : إرشادات النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لتقوية جسمه وروحه حتى يقوى على تحمل الرسالة ، ثم أمره بالصبر وترك المشركين مع تهديدهم بأنواع التهديدات.
إرشادات إلهية لزعيم الدعوة الإسلامية [سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)(3/766)
ج 3 ، ص : 767
المفردات :
الْمُزَّمِّلُ : المتلفف بثيابه ، يقال : تزمل وتدثر ، ثم قلبت التاء زايا في المزمل.
ودالا في المدثر. وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ المراد : اقرأ بتثبت وتؤدة. ثَقِيلًا : شاقّا.
ناشِئَةَ : ما يحدث فيه ويتجدد ، مأخوذ من نشأ إذا حدث وتجدد. أَشَدُّ وَطْئاً : أصعب وقعا. وَأَقْوَمُ : أعدل. سَبْحاً طَوِيلًا : عملا كثيرا سريعا ، وأصل السبح : العوم على وجه الماء ، أو سرعة الجري ، ثم استعمل في العمل السريع الكثير. وَتَبَتَّلْ ، انقطع إليه انقطاعا. وَذَرْنِي : اتركني.
النَّعْمَةِ : التنعم والترفه. أَنْكالًا : جمع نكل وهو القيد الثقيل. ذا غُصَّةٍ : ما أعده اللّه في تلك الدار من طعام منكر فظيع. تَرْجُفُ الْأَرْضُ :
تضطرب وتتزلزل. كَثِيباً : تلّا من رمل متناثر جمعته الريح بعد تفرق.
مَهِيلًا : هو ما إذا تحرك أسفله سال من أعلاه وتتابع. وَبِيلًا : ثقيلا شديدا. مُنْفَطِرٌ : متصدع ومتشقق. تَذْكِرَةٌ : عبرة وعظة.
أعد اللّه نبيه الكريم لتحمل أضخم رسالة في الوجود ، الرسالة العامة إلى جميع الخلق إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها ، ولكنه بشر بينه وبين الملك تنافر في الطبيعة المادية ، لذلك اضطرب وخاف عند أول لقاء وذهب إلى خديجة كأنه محموم ، وقال : زملوني زملوني!! وما علم أن هذا الذي لقيه في الغار هو جبريل الذي نزل على موسى وعيسى ، وكانت هذه الرسالة إلى قوم وثنيين مشركين ومتعصبين مقلدين ، وكان النبي يعرف عنهم ذلك فكان كأنه يخشاهم ، ويشعر بخطورة هذه الدعوة في هذا المجتمع! فناداه اللّه بهذا النداء وبقوله في السورة الأخرى : يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ من باب الملاطفة والملاينة وتأنيسا على عادة العرب في اشتقاق اسم من صفة المخاطب التي هو(3/767)
ج 3 ، ص : 768
عليها ، وكانت هاتان السورتان - المزمل والمدثر - من أوائل القرآن نزولا ، ويروى أن الوحى لما نزل على النبي للمرة الثانية وجده متزملا في قطيفة فقال له : يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ وجاءه مرة أخرى وكان متدثرا فقال : يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ.
المعنى :
يا أيها المزمل - المتلفف بكساء وقد اضطجع في ركن داره - قم الليل إلا قليلا منه وهو نصفه « 1 » أو انقص منه قليلا بحيث يزيد على الثلث ، أو زد عليه قليلا بحيث لا يزيد على الثلثين ، فالنبي - عليه السلام - أمر بأن يقوم من الليل ساعات تتراوح بين الثلث والثلثين ، وهو التهجد وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [سورة الإسراء آية 79].
يا أيها المزمل : دع ما أنت فيه وانشط لقيام الليل والصلاة فيه ، وقراءة القرآن وترتيله وتدبر معناه.
هذا خطاب للنبي ويدخل معه في ذلك أمته وخاصة أصحاب الدعوات والمبادئ والأفكار ، والشارع الأعظم يقصد بهذه الإرشادات والتوجيهات التربية الإسلامية الكاملة ، تربية الجسم وتعويده على تحمل المشاق والمكاره ، وتربية النفس بسموها وبعدها عن شوائب المادة وقوتها بحيث تحكم على الجسم ونوازع الشر فيه ، إذ لا شك أن قيام الليل شاق على النفس لكنه يؤدبها ويهذبها ، ويعودها الصبر ، وهو كذلك مما يقوى الأجسام ويساعدها على العمل والثبات في معترك الحياة.
والنبي - عليه السلام - تنتظره في دعوته مشاق ومتاعب وتكاليف ، ودرعه الواقي في ذلك هو تعويد جسمه على تحمل المشاق ، وتقوية روحه بالعمل الصالح وتلاوة القرآن ، يا ليت قومي يعلمون ذلك فيعملون على تحقيقه ، ويفرحون لإرادة اللّه ذلك لهم.
___________
(1) - هذه إشارة إلى أن (نصفه) بدل من (قليلا) ووصفه بالقلة إشارة إلى أن النصف الذي أحياه بمنزلة الكل.(3/768)
ج 3 ، ص : 769
يا أيها المزمل : قم الليل إلا نصفه أو قلل منه قليلا أو زد عليه قليلا ، ورتل القرآن في تهجدك ترتيلا ، واقرأه بتثبت وتدبر ، وتؤدة وتأن فإن القرآن جلاء القلوب ، وحياة النفوس.
ولقد امتثل النبي أمر ربه ، وتأدب بأدب القرآن ، وسهر الليل وجاهد النفس واقتدى به أصحابه حتى شحبت ألوانهم وضعفت أجسامهم وتورمت أقدامهم حتى كأنهم تخطوا الحدود المرسومة فأنزل اللّه طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى .
ولقد أخذ القرآن يذكر سبب هذا الأمر فقال ما معناه : يا محمد إنك تحمل أكبر رسالة ، وتدعو الناس إلى أضخم دعوة : دعوة الحق والحرية والكرامة. وسيكون لك أعداء ، وسيكون لمن يدعو بدعوتك أعداء ، لهذا أمرناك بإعداد نفسك وجسمك إلى تحمل هذه الرسالة ، إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا وقعه شديدا وطؤه على الكفار والمشركين ، ولا ينفع هذا إلا تقوية الجسم والروح ، وتدبر القرآن وتفهم معناه.
وكأن سائلا سأل شاكا في أن قيام الليل وتدبر القرآن مما يساعد على تحمل مشاق الدعوة ، فقال : إن ما حدث في الليل من قيام وصلاة وقراءة قرآن وتدبر له هو أشد وطئا ، وأصعب على النفس الإنسانية ، وهذا بلا شك مما يساعدها على تحمل المشاق ويقويها فتصبر على المكروه ولا شك أن الليل حيث السكون والصفاء مما يساعد على تدبر القرآن وتفهم معناه.
إن لك في النهار عملا كثيرا متواصلا سريعا فلم يبق إلا الليل ، فاغتنم جزءا منه يكن لك خير كثير وفضل كبير.
واذكر اسم ربك وتوكل عليه وحده ، وانقطع عما سواه فلن ينفعك غيره ، وهكذا المؤمن الكامل لا يتوكل إلا عليه ولا يعتمد على سواه ، ولا ينقطع عن كل ذلك لأنه رب المشرق والمغرب وما بينهما ، لا إله غيره ، وكيف يكون غير ذلك ؟ ! وكل ما في الكون شرقه وغربه شاهد عدل على وحدانية اللّه ، وأنه لا إله غيره ، ولا معبود سواه ، إذا كان الأمر كذلك فاتخذه وكيلا ، واعتمد عليه وحده في دعوتك الخلق إلى الإسلام ..(3/769)
ج 3 ، ص : 770
وسيصادفك - وكل من يدعو بدعوتك إلى يوم الدين - ما تكره من أذى الناس والعلاج في ذلك هو الصبر - إنه سلاح المؤمن وعدة المسلم - والهجر الجميل وانظر إلى علاج القرآن حيث جعل دعامته الصبر والسلوان والهجر الجميل.
أما المكذبون المغرورون أولو النعمة والترف فاللّه يقول فيهم : ذرني والمكذبين أولى النعمة والترف وأمهلهم قليلا فإن للكون سنة لا تختلف ، إن عاقبة هؤلاء المكذبين المغرورين سيئة ، واللّه يمهل قليلا ولا يهمل. هذا في الدنيا أما في الآخرة فاللّه يقول : إن لدينا أنكالا وقيودا ثقالا ، وجحيما أعدت لهم وطعاما ذا غصة وهو طعام الزقوم ، الطعام البشع الكريه التي تغص منه النفوس ، وبعد هذا كله فهناك عذاب أليم لهم للغاية.
اذكر يوم ترجف الأرض وتضطرب وتتزلزل الجبال وتتحرك حتى تكون تلّا من الرمل كثيبا مهيلا ، وليس هذا الاضطراب في الأرض فقط بل فيها وفي السماء إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ « 1 » ، إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ « 2 » .
ولقد أخذ القرآن يهددهم بما حل بغيرهم وكانوا أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فقال : إنا أرسلنا إلى فرعون رسولا هو موسى ، فعصى فرعون وقومه رسولهم فأخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر. حيث أغرقهم ونجى موسى ومن معه.
إذا كان الأمر كذلك فكيف تتقون - إن دمتم على كفركم - يوما شديد الهول : يوما يجعل الولدان من شدة أهواله شيبا ، والسماء في هذا اليوم تنفطر وتتشقق بعد أن كانت آية في الإحكام والدقة ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ « 3 » كل ذلك كان وعده مفعولا.
إن هذه الإرشادات والتوجيهات التي سيقت في تلك الآيات تذكرة وعظة ، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا هو الإيمان والتمسك بالقرآن ، وتعود الصبر والسلوان ...
___________
(1) - سورة التكوير الآيتان 1 و2.
(2) - سورة الانشقاق الآية الأولى
(3) - سورة الملك آية 3.(3/770)
ج 3 ، ص : 771
ذلك تخفيف من ربكم ورحمة [سورة المزمل (73) : آية 20]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
المفردات :
أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ المراد : أقل منه. لَنْ تُحْصُوهُ : تطيقوه. فَتابَ عَلَيْكُمْ : رجع بالتيسير عليكم.
المعنى :
هذه الآية ترجع إلى أول السورة حيث كان الأمر فيها للنبي - وكذلك صحبه - بأن يقوم ساعات طوالا من الليل تتراوح بين الثلث والثلثين ، وقد امتثل النبي لذلك بل وبولغ في هذا كما سبق ، وبعد عشر سنين من هذا الأمر نزل التخفيف على الأمة وانتقل الأمر من الواجب إلى المباح ، فلقد خفف اللّه عن الأمة الإسلامية حيث اتسع العدد وأصبح فيها المريض وذو الحاجة والمسافر والمقاتل ، وهؤلاء بلا شك لا يطيقون القيام فجعله اللّه مندوبا ، من شاء فعله فاستحق ثوابه ، ومن شاء ترك هذا الفضل الكبير واللّه هو العالم بكل شيء.(3/771)
ج 3 ، ص : 772
إن ربك يعلم أنك قمت وامتثلت أمر ربك أنت وطائفة من قومك. قمتم أدنى من ثلثى الليل ، وقمتم نصفه ، وثلثه ، وكان معك صحبك ، والمراد بالعلم أن اللّه سيجازيك على ذلك أحسن الجزاء.
واللّه وحده هو الذي يقدر الليل والنهار ، وهو الذي يعلم المصلحة ، وقد علم أن المدة السابقة كافية للتربية الإسلامية ، وقد جاء معكم ناس لا يستطيعون ذلك العمل ، فاللّه علم أنكم كجماعة لن تطيقوا قيام الليل على سبيل الواجب ، أما كأفراد فمنكم من يقدر وأكثركم لا يقدر ، والأحكام الشرعية تبنى على الأعم الأغلب.
فاللّه قد رجع عليكم بالتيسير والتخفيف منذ أن رجعتم إليه بالشكوى والدعاء ، فاقرأوا ما تيسر من القرآن في قيام الليل أو في الصلاة في ساعة من ساعات الليل. علم اللّه أن الحال والشأن سيكون منكم مرضى ضعاف ، لا يستطيعون قيام الليل ، وآخرون منكم مسافرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل اللّه بالتجارة والسعى على تحصيل الرزق من طريق الحلال ، وآخرون يقاتلون في سبيل اللّه ، هؤلاء وهؤلاء لا يستطيعون قيام الليل ، فاللّه خفف عنكم فاقرأوا ما تيسر منه ، وأقيموا الصلاة كاملة الأركان مستوفاة الشروط ، وآتوا الزكاة ، أى : الزكاة الواجبة بناء على أن هذه الآية نزلت بالمدينة أو هي زكاة الفطر ، أو مطلق إنفاق على أن السورة مكية ، وأقرضوا اللّه قرضا حسنا فاللّه غنى قادر سيجازيكم على الدرهم عشرا بل ربما ضاعفه إلى سبعمائة ضعف ، فأقرضوه يكن خيرا لكم وأفضل ، وما تقدموا لأنفسكم من خير مطلقا تجدوا ثوابه عند اللّه كاملا ، وتجدوه عند اللّه هو خيرا مطلقا من العمل مهما كان صعبا ، وأعظم أجرا ، واستغفروا اللّه على ما فرط منكم فإن من أمراض القلوب الرياء وحب السمعة ، وكثيرا ما كان ذلك في الصدقة ، فاستغفروا اللّه مما يكون قد حصل إن اللّه غفور رحيم.(3/772)
ج 3 ، ص : 773
سورة المدثر صلى الله عليه وسلم
وهي مكية كلها عند بعضهم ، وقال بعضهم هي مكية إلا آية وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ... وعدد آياتها ست وخمسون آية وهي تشمل إرشادات للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم يحتاج إليها في دعوته ، ثم تهديد زعيم من زعماء الشرك ، وتطرق الكلام إلى وصف جهنم ومن فيها ، وهذه السورة والتي قبلها متشابهتان إلى حد ما ، فالأولى في إعداد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كداعية ، والثانية ترشده إلى ما به ينجح في دعوته.
توجيهات نافعة للمصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم [سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
المفردات :
الْمُدَّثِّرُ : لابس الدثار ، وهو ما فوق الشعار الذي يلبس فوق الجسد مباشرة. وَثِيابَكَ المراد : قلبك ونفسك. وَالرُّجْزَ : هو العذاب والمراد هنا أسبابه. نُقِرَ فِي النَّاقُورِ : نفخ في الصور. لا تَمْنُنْ المراد : لا تعط مستكثرا.(3/773)
ج 3 ، ص : 774
المعنى :
كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في أول اتصاله بالوحي ولقائه له يتأثر بذلك كثيرا ، وكان يتزمل بعده ويتدثر ، حتى انقطع عنه الوحى حينا ثم جاءه على شوق منه إليه ، وربما كان هذا التخلف ليهدأ روعه وتسكن نفسه ، وقيل : إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يصيبه من أذى قومه ما يجعله يعتزل مجتمعهم مفكرا ويجلس متدثرا بدثاره في بيته ، فجاءه الوحى يحضه على ترك العزلة ، وعلى التشمير للدعوة.
يا أيها المدثر الذي اشتمل بدثاره كمن لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن ، والمستغرق في أفكاره ، والمتهيب للقاء الوحى : قم نشيطا من مضجعك ، ولا تجعل لليأس سبيلا إلى قلبك ، فإن العناية الإلهية أعدتك لرسالة سامية خالدة ، ولنشر دين عام هو خاتم الأديان ، قم فأنذر الناس بذلك الدين ، وخوفهم عاقبة الكفر به ، هذه الرسالة التي كلف النبي بها ، والتي جاءت لتهدى الناس إلى الطريق الحق ، وتجعلهم يعبدون اللّه الواحد الأحد بعد الأصنام والأوثان والصاحبة والولد ، ليست بالأمر الهين السهل ، تصور أنك تحاول أن تقنع شخصا بترك ما يعتقده وورثه عن آبائه .. لذلك أرشد اللّه نبيه إلى طريق النجاح في تلك الدعوة الإسلامية ، وإنها لأسلحة جبارة لو استخدمت استخداما ص حيحا لكسب صاحبها المعركة وهي :
1 - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ نعم مهما يكن من شيء فكبر « 1 » ربك وحده ، ولا تشرك به غيره ، وخلص عقلك من أوهام الشرك وعبادة ما لا ينفع بل يضر.
2 - وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ تطهير الثياب كناية عن تطهير النفس عما تذم به من الأفعال ، ولذلك قالت العرب : فلان طاهر الثوب أو طاهر الجيب ، يريدون بذلك وصف نفسه بالنقاء من المعايب وسىء الأخلاق ، ولا غرابة في ذلك إذ الثياب مما يلازم الإنسان في جميع أطوار حياته. وقد يطلقون الثياب ويريدون ذات النفس أو القلب ، وعليه قول عنترة.
فشككت بالرمح الأصم ثيابه ليس الكريم على القنا بمحرم
___________
(1) وهذا إشارة إلى أن الفاء واقعة في جواب شرط مقدر ، وهكذا كل فاء آتية هنا.(3/774)
ج 3 ، ص : 775
3 - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ أى : اترك كل ما يؤدى بك إلى العذاب من المعاصي والآثام ، وحرر جوارحك من كل ما يغضب ربك.
ألست معى في أن هذه الكلمات جمعت أمهات الفضائل ؟ كتحرير العقل من ربقة الشرك وتقويم النفس بكريم الخلق. وإصلاح البدن والروح بهجر المآثم والمحارم.
وهذه الأوامر من باب فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أى : دم على ما أنت عليه من العبادة الكاملة ، ومن تحلى نفسك بالخلق الشريف ، ومن هجرك لكل ما يغضب اللّه.
4 - هذه صفة مهمة تستحق الإفراد بالذكر وهي : الجود وعدم البخل واستكثار العطاء فإن البخل وشح النفس مما ينفر الناس عن صاحب الدعوة ، حقيقة الجود مما يدخل في قوله تعالى : وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ولكنه خص بالذكر لأثره المهم في جذب قلوب الناس فحقّا صدق اللّه وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أى : لا تعط عطاء مهما كان كثيرا وأنت تقدر في نفسك أنه كثير ، بل اعتقد أنه قليل ، وأعط عطاء من لا يخاف الفقر بحال.
5 - وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أى : إذا كان الأمر كذلك وقد قمت بالواجب عليك واتبعت نصائح ربك ثم وجدت من قومك إعراضا وتكذيبا وإيذاء فاصبر لأجل ربك ولتبليغ رسالاته ، وتلقين وحيه ، فإن الصبر هو عدة المسلم وطريق الوصول إلى ما يريد.
قم يا محمد فأنذر ، وبلغ رسالة ربك كلها ، وإن لم تفعل هذا فما بلغت رسالته ، واللّه عاصمك من الناس ، فإذا أبوا إلا التكذيب ، فاعلم أن وراءهم يوما ثقيلا ، يوما عبوسا قمطريرا ، فإذا نقر في الناقور ونفخ في الصور فذلك - يوم إذ يحصل هذا - يوم عسير جدّا شديد على الكافرين غير يسير.
ما يلاقيه زعماء الشرك [سورة المدثر (74) : الآيات 11 الى 31]
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)
كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)
ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31)(3/775)
ج 3 ، ص : 776
المفردات :
ذَرْنِي : دعني واتركني. مَمْدُوداً : مبسوطا موسعا. شُهُوداً :
حضورا لا يفارقونه. مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً بسطت له الدنيا بسطا. كَلَّا :
كلمة ردع وزجر. عَنِيداً : معاندا له ومكابرا. سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً : سأكلفه وأحمله عذابا شاقا صعبا كصعوبة من يحاول صعود جبل صعب. قَدَّرَ : هيأ الأمر في نفسه ودبره. عَبَسَ وَبَسَرَ العبوس : تقلص عضلات الوجه أو الحاجبين عند ألم أو حزن ، والبسور أشد من العبوس. سَقَرَ : اسم من أسماء جهنم ، وهو من :
سقرته الشمس : إذا لوحته وآلمته. فِتْنَةً : ابتلاء واختبارا. وَلا يَرْتابَ :
ولا يشك. مَرَضٌ : شك ونفاق. مَثَلًا المثل : هو القول السائر على ألسنة(3/776)
ج 3 ، ص : 777
الخلق ، ويكون في أمر عجيب وشأن خطير ، والمراد أن عدد الخزنة أمر عجيب كالمثل.
جُنُودَ رَبِّكَ : أنصاره وأعوانه ، والمراد هنا : صنف من الخلق. ذِكْرى لِلْبَشَرِ : موعظة وعبرة.
المعنى :
لقد رسم اللّه - سبحانه وتعالى - الخطوط لنجاح الدعوة المحمدية باستكمال العقل وتحرره من الشرك ، وباستكمال النفس بالخلق الكامل والمثل العليا ، وبتطهير الجوارح والروح بالبعد عن المعاصي والمحارم ، ولقد ذكر صفتين لهما وضع خاص ، هما الجود والصبر ، وبعد ذلك بين ما يلاقيه الكفار يوم القيامة ، ثم أراد أن يشجع الرسول على التبليغ فذكر أحد زعماء الشرك وتوعده بسقر التي هي لواحة للبشر ، هذه هي دعائم نجاح الرسول في دعوته ، وتلك سنة اللّه في الدعوات كلها لا يستقيم لها أمر إلا بهذا.
ذرني ومن خلقته وحدي بلا شريك معى ، اتركه لي وثق أنى قادر عليه لقد خلقته وحيدا لا مال له ولا ولد ولا حول له ولا قوة ، حتى إذا أنعمت عليه بالمال والولد قام يكفر بي ويكذب رسلي ، لقد مهدت له الدنيا ووسعتها عليه توسيعا ، ثم بعد ذلك يطمع أن أزيده من نعمى ، أو ثم يطمع أن أزيده فأرسله رسولا!! كلا إنه كان لآياتنا القرآنية معاندا ومكابرا ، وماذا يكون جزاؤه ؟ سأرهقه صعودا ، أى : سأحمله من العذاب نوعا شاقاّ عليه تضعف عنه قوته كما تضعف قوة من يصعد في الجبل في طريق وعر ، وكأن سائلا سأل : كيف كانت حالته في معاندة الآيات حتى استحق هذا العذاب ؟ فأجيب : إنه فكر فيها وقدر ، وهيأ في نفسه أمرا وأجال فيها رأيا يقوله ليرضى الباطل وأهله.
فقتل كيف قدر ؟ ثم قتل كيف قدر ؟ وهذا كما يقولون : قاتله اللّه ما أشجعه! في معرض التعجب والاستعظام مدحا للشخص الذي يقولون فيه هذا الكلام ، وكأنه بلغ حدا يجعل حساده يقولون له هذا ، ثم شاع هذا الاستعمال حتى صار يقوله كل معجب بشخص أو كل محب له ، أما العبارة في الآية فليس المقصود منها المدح ، وإنما هي للتعجب المشوب بالذم ، أو المدح الذي فيها للتهكم والاستهزاء ، ثم بعد أن فكر وقدر نظر في جمهور النادي نظر المفكر الساهم ، ثم قطب وجهه وقلص عضلات حاجبيه واشتد ذلك التقطيب متهيئا للكلام والحكم القطعي في شأن الرسول والقرآن.(3/777)
ج 3 ، ص : 778
ولما كان قوله محض افتراء ، ونهاية الإعراض عن الحق والإيمان ، وكان ناشئا عن كبر وغمط للحقوق عبر عنه القرآن بقوله : ثم أدبر واستكبر ، فماذا قال ؟ قال : إن الكلام الذي سمعته ما هو إلا سحر يؤثر عن السحرة من البابليين والآشوريين والمصريين ، ثم أكد رأيه بأنه سحر معروف وليس من كلام اللّه بقوله : ما هذا إلا مثل قول البشر الذين عاشوا في القرون الماضية.
ما جزاء هذا ؟ سأرهقه صعودا ، سأصليه سقر « 1 » وما أدراك ؟ ما سقر « 2 » ؟ أى شيء أعلمك ما سقر ؟ وهذا استفهام يراد به التعجب من هول سقر ، وأنه مهما فكر فيها المفكر لا يمكنه أن يعرف من أمرها إلا ما عرفه الوحى من أنها لا تبقى على شيء يلقى فيها إلا أهلكته ، ولا تذر أحدا من الفجار يفلت منها ، وهي لواحة للبشر تجعل أجسامهم قطعا سوداء متغيرة ، عليها تسعة عشر ، وهم خزنتها الموكلون بخدمتها وهل هم تسعة عشر ملكا أو صنفا أو صفا أو نقيبا ؟ اللّه أعلم بذلك ، وليس لنا أن نبحث في ذلك بعد قوله تعالى : وما أدراك ما سقر ؟ على أن المخاطب بذلك سيد البشر.
وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ، أى : ليسوا بشرا ، وهذا رد على من قال :
سأكفيكم هذه الآية : ثكلتكم أمهاتكم ، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من هؤلاء!! فيرد اللّه عليهم : ليس هؤلاء بشرا بل هم ملائكة ، فاسألوا عنهم عادا وثمود وأهل قرى قوم لوط ، فإنهم يعرفون الملائكة وقوتهم.
وما جعلنا عدتهم - تسعة عشر - إلا ابتلاء واختبارا للناس ، وكانت فتنة وضلالا وإعراضا عن الحق ، حيث كفر المشركون بهذا وضلوا ، فكانت عاقبة أمرهم ضلالا وإعراضا. أما المؤمنون بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم من المسلمين وأهل الكتاب فازدادوا يقينا على يقينهم ، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون بل هم متيقنون ، وكان ذلك ليقول الذين في قلوبهم شك ونفاق كالمنافقين ، وليقول الكافرون بالوحي : ماذا أراد اللّه بهذا ؟
أى : ماذا أراد اللّه بهذا القول - عدتهم تسعة عشر - الذي يشبه المثل في الغرابة والبداعة ؟ فيخوفنا بواسطته من سقر وخزنتها التسعة عشر.
___________
(1) تعرب هذه بدلا من الأولى بدل اشتمال.
(2) ما أدراك (ما) مبتدأ و(أدراك) خبر ، وجملة (ما سقر) ساد مسد المفعول الثاني لأدرى ، وإعرابها خبر مقدم وسقر مبتدأ مؤخر.(3/778)
ج 3 ، ص : 779
مثل ذلك يضل اللّه من يشاء ويهدى من يشاء ، ويهدى من أراد لهم ذلك لأنهم على استعداد للخير أو الشر ، وقد ساروا بمحض اختيارهم في أحد السبيلين.
وما يعلم جنود ربك إلا هو ، نعم لا يعلم خلقه إلا هو ، وجنود ربك التي هي وسائط في تنفيذ إرادته وأحكامه من الأمور الغيبية التي نؤمن بها فقط.
وما سقر ووصفها بهذا إلا ذكرى وموعظة للبشر ، فيخافون ربهم ويبتعدون عن عقابه وعذابه ، أما حقيقتها فشيء لا يعلمه إلا اللّه.
يكاد المفسرون يجمعون على أن قصة التهديد السابقة نزلت في الوليد بن المغيرة فإنه كان كثير المال والولد عظيم الجاه قوى النفوذ ، وكان له عشرة أولاد يحضرون مجلسه لكبر سنهم ورجاحة عقولهم ، ويقيمون معه لا يغادرون مكة لغناهم وثرائهم.
ولما اشتد الأمر رأى زعماء الشرك أن دعوة النبي محمد آخذة في الانتشار ، وأن محمدا سيجتمع بوفود العرب وسيكلمهم في الإسلام. اجتمعوا للتشاور فيما يقولون ليردوا به العرب عن الإسلام ، فقال قائل : نقول : إنه شاعر ، وقال آخر : لا ، إنه كاهن ، وقال ثالث : لا ، إنه مجنون ، وقال رابع : لا ، إنه كذاب! كل هذا والوليد يسمع ولا يتكلم فقالوا له : ما لك لا تتكلم ؟ ؟ فقال : لقد سمعت محمدا يقرأ كلاما ما هو بكلام الإنس ولا الجن ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه ليعلو وما يعلى عليه ، وما يقول هذا بشر. فكان لهذا الكلام وقع شديد على المجتمعين ، وقالوا : لقد صبأ الوليد - أى : ترك دين آبائه وأجداده - ولتصبأن معه قريش ، وتفرق الجمع وكلهم حزين أسيف.
ولكن أبا جهل ذهب لدار الوليد يحتال عليه وأخذ يكلمه بكلام يثير فيه الحمية الجاهلية ، والنخوة الكاذبة فقال له : لقد تركنا قريشا تجمع مالا حتى تكفيك تعرضك لمحمد وماله ، فقال الوليد : لقد علمت قريش أنى من أكثرها مالا ، فهل أنا محتاج لكسر محمد اليتيم ؟ قم بنا إلى دار الندوة ، ولأقول كلاما أصحح به وضعي.
اجتمع الناس فقال الوليد : إن محمدا ليس بشاعر ، ولا كاهن ، ولا كاذب - لقد وصف القرآن الوليد في تلك اللحظة الرهيبة وصفا دقيقا جدّا - فقال :(3/779)
ج 3 ، ص : 780
إن الوليد فكر وقلب وجوه الرأى فيما يقوله ، وقدر الرأى وقلبه على وجوهه ثم قاطعه الوحى بقوله : فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ معجبا من أمره ناعيا عليه سوء فعله ، ثم نظر الوليد في القوم بعد تفكيره ، ثم عبس وبسر ، أى : قطب حاجبيه تقطيبا شديدا ، وقال لهم : إنه ساحر أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ، ففرحت قريش بذلك فرحا شديدا. واغتم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وحزن ورجع إلى بيته ، وتدثر بدثاره وجلس ، فكانت هذه السورة ، وأمره اللّه أن يدع الوليد ومن على شاكلته فاللّه يكفيكه في الدنيا ، وليعذبنه عذابا شديدا في الآخرة بنار هي سقر تسود الوجوه وتشوى اللحم ... إلخ ما في الآيات.
سقر ومن فيه [سورة المدثر (74) : الآيات 32 الى 56]
كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36)
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)
ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)
حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)(3/780)
ج 3 ، ص : 781
المفردات :
إِذْ أَدْبَرَ دبر وأدبر بمعنى : ولى وانصرم. إِذا أَسْفَرَ : أضاء وظهر.
الْكُبَرِ : جمع كبرى ، أنثى الأكبر. رَهِينَةٌ يقال : رهن الشيء رهنا ورهينة ، وهو الشيء المرهون وثيقة لشيء آخر. ما سَلَكَكُمْ : ما أدخلكم. الْمُصَلِّينَ الصلاة في اللغة : الدعاء والدين ، وشرعا : تطلق على الصلاة المعروفة ، والمراد المعنى اللغوي لا الشرعي. نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ : نكذب مع المكذبين ، وأصل الخوض الذهاب في الماء ، ثم نقل إلى الذهاب في الكلام ، ثم غلب على الإكثار من باطل الكلام. الْيَقِينُ : الموت. التَّذْكِرَةِ : المراد القرآن. مُسْتَنْفِرَةٌ : نافرة من نفسها. قَسْوَرَةٍ : اسد. صُحُفاً مُنَشَّرَةً الصحف : القراطيس التي تكتب وتتداولها أيدى الناس ، والمنشرة : المبسوطة المفتوحة.
المعنى :
لقد تكلم المشركون في خزنة جهنم وعددهم ، واتخذوا ذلك مادة لاستهزائهم وسخريتهم فضلوا ضلالا بعيدا ، والقرآن هنا يزجرهم عن ذلك ويردعهم بكلمة زاجرة هي « كلا » ثم أقسم بالقمر ، والليل إذ أدبر ، والصبح إذا أسفر على أن سقر هي إحدى الكبر ، أما قسمه بهذه الأشياء فكما قلنا سابقا : إنه للفت أنظار المشركين إلى تلك الآثار الباهرة التي تدل على قدرة اللّه القادرة ، على أن هذا التقلب ، والتغيير من حال إلى حال ومن نور إلى ظلام ثم منه إلى ضياء على جواز البعث والانتقال من حال الفناء إلى حال الحياة.
أقسم بالقمر ونوره كيف ينشأ صغيرا ثم يكبر ثم يعود صغيرا صغيرا حتى المحاق ، وهذا الليل بجحافله ، وسكونه وهدوئه ، وموت الطبيعة فيه ، ثم يأتى الصبح بأضوائه(3/781)
ج 3 ، ص : 782
اللامعة ووجهه المشرق وحياته الحافلة ، أقسم بهذا كله على أن جهنم المعدة للمكذبين الذين يتخذون القرآن عضين هي إحدى الكبر من جهة أنها نذير « 1 » للبشر لمن « 2 » شاء منكم أيها البشر أن يتقدم للخير ولمن شاء أن يتأخر بفعل الشر ، نعم هي نذير لهؤلاء الذين يخافون يوما عبوسا قمطريرا.
هذا إنذار للعاملين والعصاة المذنبين ، مع العلم أن كل نفس بما كسبت مرهونة ، أى : أن النفس مرهونة بعملها فإن كان خيرا فك رهنها وحبسها ، وإن كان شرّا فستظل حتى تستوفى عقابها ، وعلى ذلك فالعصاة نفوسهم مرهونة بعملهم الشر ، والمؤمنون أصحاب اليمين ليست نفوسهم مرهونة لأنهم أدوا ما عليهم. كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فإنهم في جنات مكرمون ، على سرر متقابلون يتجاذبون أطراف الحديث ويتساءلون ، أى : يسأل بعضهم بعضا عن المجرمين المكذبين ما حالهم ؟ ولعلهم يعرفون الجواب ، ولكن هذا يساق زيادة في تبكيت المجرمين وإيلامهم ، وإمعانا في سرور المؤمنين ، أصحاب اليمين يتساءلون عن المجرمين فيطلعون عليهم ، وهم في جهنم فيقولون لهم : ما سلككم في سقر ؟ ما الذي أدخلكم في جهنم ؟ قالوا لهم : الذي سلكنا أننا لم نك من المصلين ، ولم نك ندعو اللّه رب العالمين بل كنا ندعو غيره ونشرك به سواه ، وأنا لم نك نطعم المسكين المحتاج بل كنا ننفق للدنيا وللرياء ، وكنا نكذب مع المكذبين ونخوض مع الخائضين في هراء الكلام وفاسده ، وكنا نكذب بيوم القيامة ولا نصدق به ، وظللنا على هذا الحال حتى أتانا اليقين الذي لا شك فيه كالموت ، وهذا العذاب الذي نقاسيه اليوم.
إذا كان الأمر كذلك فما تنفع هؤلاء شفاعة الشافعين ، ومن ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ؟ وهذا رد عليهم في دعواهم أن الآلهة تشفع عند اللّه لهم.
عجبا لهؤلاء بعد هذا البيان الساطع فما لهم عن القرآن معرضين ؟ أى شيء حصل لهؤلاء حتى يعرضوا عن كلام رب العاملين مالك يوم الدين.
___________
(1) على هذا فهي مصدر وقع تمييزا ، ويصح أن تكون صفة مشبهة وتعرب حالا.
(2) وعلى هذا فقوله : لمن شاء بدل من بشر ، ورأى آخر أنه خبر مقدم ، والمبتدأ المصدر المأخوذ من (أن يتقدم أو يتأخر) أى : التقدم والتأخر لمن شاء.(3/782)
ج 3 ، ص : 783
ما لهم يعرضون ويفرون ؟ كأنهم حمر - المراد حمر الوحش - نافرة من نفسها وطبعها ، وقد فرت من أسد ، إن أمر هؤلاء لعجيب.
بل - وهذا إضراب عن إعراضهم ونفورهم مما فيه سعادتهم وخيرهم كالحيوان واستمع لما هو أعجب وأغرب : بل يريد كل امرئ منهم أن تنزل عليه صحف من السماء مبسوطة تأمره باتباع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
كلا وألف كلا!! بل هم لا يخافون الآخرة ، ولا يرجونها أصلا ، فهذا هو السبب ، وطلبهم الصحف المنشرة ضرب من العبث واللهو ، فأعرض عن هذا ولا تسمع لهم في شيء ..
كلا إن القرآن تذكرة وعظة لمن يريد الآخرة ويؤمن بالغيب ، وفيه استعداد للخير ، فمن شاء ذكره واتعظ به وآمن ، وما يذكرون إلا إن شاء اللّه ذاك بالقهر والإلجاء ، لكن اللّه ترك الإيمان والكفر لاختيار العبد الذي هو مناط الثواب والعقاب.
وقيل المعنى : وما يذكرون في حال من الأحوال إلا حال أن شاء اللّه لهم ذلك إذ الأمر كله له ، هو اللّه أهل لأن يتقى ويحذر عقابه فلما ذا لا تتقون ؟ وهو أهل للمغفرة فلما ذا لا تصلحون أعمالكم. وتتوبون لربكم وتثوبون لرشدكم ؟(3/783)
ج 3 ، ص : 784
سورة القيامة
وهي مكية بالإجماع. وعدد آياتها أربعون آية.
وهي في الكلام على يوم القيامة والاستدلال عليه. ووصفه وبيان أهواله ، ثم تعرضت لخروج الروح. وذكر مبدأ الخلق.
يوم القيامة وما فيه [سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 25]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19)
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24)
تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)(3/784)
ج 3 ، ص : 785
المفردات :
اللَّوَّامَةِ : كثيرة اللوم لنفسها أو لغيرها. أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ : أيظن ؟
نُسَوِّيَ بَنانَهُ البنان : أطراف الأصابع أو الأصابع كلها ، وتسويتها : جمع عظامها وإعادة تركيب أعضائها. لِيَفْجُرَ أَمامَهُ الفجور : التمادي في ارتكاب الآثام والذنوب والمراد بلفظ (أمامه) بقية حياته. بَرِقَ الْبَصَرُ : زاغ وتحير من شدة الدهش. خَسَفَ الْقَمَرُ : ذهب نوره وأظلم. الْمَفَرُّ : الفرار.
لا وَزَرَ الوزر : الجبل يلجأ إليه والمراد : لا ملجأ ولا معقل ولا حصن.
الْمُسْتَقَرُّ
: الاستقرار والسكون. بَصِيرَةٌ
: حجة وشاهد. مَعاذِيرَهُ
:
أعذاره. وَقُرْآنَهُ
قراءته. الْعاجِلَةَ : هي الدنيا وما فيها. وَتَذَرُونَ :
تتركون. ناضِرَةٌ : حسنة جميلة نضر اللّه وجهها بالنعم. ناظِرَةٌ : رائية ، أو منتظرة باسِرَةٌ : عابسة عبوسا شديدا. فاقِرَةٌ : داهية شديدة تقصم فقار الظهر.
المعنى :
افتتح اللّه هذه السورة بالقسم على إثبات البعث ، إلا أن القسم هنا وفي سورة لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ قد صدر بلا النافية ، وقد تحير العلماء في تخريج ذلك فبعضهم قال : إن الأصل لأنا أقسم بيوم القيامة « 1 » ، وقال البعض : إن لا النافية نفت معتقداتهم الفاسدة ثم بدئ بالقسم على البعث ، وقيل : إن اللّه لا يقسم بهذا على البعث لظهوره وانكشاف أمره حتى لم يعد للمنكر وجه ينفى.
وفي كتاب الآلوسي وجه آخر لعله أدق وأنسب - واللّه أعلم بأسرار كلامه - خلاصته : إن القسم بشيء يتضمن تعظيمه ، وكأن اللّه يقول : لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة على معنى أن يوم القيامة والنفس اللوامة لا يعظمان بالقسم
___________
(1) ثم حذف المبتدأ الذي هو أنا ، ثم أشبعت فتحة اللام فصارت لا.(3/785)
ج 3 ، ص : 786
لأنهما في أنفسهما عظيمان سواء أقسم بهما أم لا ؟ وهذا الأسلوب بلا شك يفيد تعظيمهما جدّا ، وبالتالى يفيد تعظيم المقسم عليه الذي هو البعث. انتهى باختصار وتصرف.
أقسم الحق - تبارك وتعالى - بيوم القيامة على أن الناس لا يتركون سدى بدون حساب بل لا بد أنهم يبعثون ويجاوزن على أعمالهم ، وأقسم كذلك بالنفس التي تكثر اللوم لذاتها لأنها لم تكثر من فعل الخير أو لفعلها الشر ، وهذا اللوم إنما يكون يوم القيامة وقيل : النفس اللوامة التي تلوم نفسها في الدنيا على التقصير في عمل الخير أو على بعض الهفوات في الشر ، وهذه ليس من المعقول أن تترك بلا جزاء على هذا العمل.
لا أقسم بيوم القيامة ، ولا أقسم بالنفس اللوامة لتبعثن ولتحاسبن يوم القيامة على ما قدمتم في الدنيا من خير أو شر.
أيحسب الإنسان الذي من شأنه وطبعه أنه يكذب بالوحي ، أيحسب « 1 » أنا لن نقدر على جمع عظامه بعد موته وتفريقها ؟ !! وهل المراد بالإنسان شخص خاص أو كل إنسان منكر ؟
روى أن الآية وردت في معرض الرد على عدى بن ربيعة والأخنس بن شريق ، وكانا جارين سيئين لرسول اللّه ، فقد جلس عدى يوما إلى رسول اللّه وطلب منه أن يحدثه عن يوم القيامة ، فأخذ النبي يحدثه عن يوم القيامة ، فقال عدى : أما واللّه لو رأيت ذلك اليوم بعيني لم أصدقك يا محمد ، ولم أؤمن بك ولا به. أيمكن أن يجمع اللّه العظام ؟ !
ولذلك جاء في رد القرآن على كل من ينكر - وخاصة عديا والأخنس وأضرابهما - بما يأتى : بلى نجمعها ونعيدها كما بدأنا خلقها أولا حالة كوننا - أى :
الذات الأقدس - قادرين على جمع عظامه مع تسوية بنانه حتى يتمثل بشرا سويّا كاملا كما كان ، فذكر تسوية البنان إشارة إلى إعادة الإنسان كاملا في أعضائه حتى الأطراف ، أو إلى إعادته كاملا في تكوين جسمه كما كان في الدنيا.
والبنان وما فيه من سلاميات ومفاصل ، ودقة في الوضع والتركيب ، وما في أطرافه التي تختلف بصماتها في كل فرد عن الآخر دليل على كمال القدرة بل يدل على أن القادر على ذلك هو بلا شك قادر على جمع العظام وإحياء الموتى.
___________
(1) والاستفهام هنا للإنكار والتوبيخ على ما وقع من المنكرين البعث.(3/786)
ج 3 ، ص : 787
بَلْ « 1 » يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ وهذا إضراب عن توبيخ الإنسان والإنكار عليه لأنه يكذب بيوم الدين إلى توبيخه على فعل أشد وأدعى للإنكار. وهو أنه ينكر البعث لأنه يريد أن يتمادى في الشر. وينبعث في ارتكاب الإثم طول حياته ، فهو يريد أن يعيش كالحيوان لا عقل يمنعه ولا دين يردعه.
وهذا الإنسان المرتكب للمعاصي الفاجر المتعامى عن الحق فإذا وعظه واعظ أو ذكر بيوم القيامة سأل منكرا مستهزئا متعنتا : أيان يوم القيامة ؟ !! أى : متى هو ؟ أقريب أم بعيد ؟ ويظل هذا الوضيع سادرا في غيه لاهيا في شهواته ونزواته ، فإذا برق بصره ، وخسف القمر وانكسف نوره ، واختل نظام الكون حتى جمعت الشمس والقمر في مكان واحد وزمان واحد ، وإذا حصل هذا يقول متحيرا يومئذ : أين المفر ؟ أين النجاة وأين السبيل ؟ ! كلا « 2 » وألف كلا! اليوم لا وزر ولا ملجأ ، ولا معين ولا ناصر ، لا ملجأ منه إلا إليه ، ولا حصن من عذابه إلا عفوه ، إلى ربك يومئذ المستقر ، وإليه وحده الالتجاء والسكون ، وماذا بعد هذا ؟ ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم من عمل لذلك اليوم وما أخر من أمور طلبت منه ولم يعملها ، والمراد بالإخبار مجازاته على عمله كله إن خيرا فخير وإن شرّا فشر.
ثم أضرب الحق - تبارك وتعالى - عن إخباره بأعماله إلى مرتبة أتم وأوضح فقال :
بل الإنسان على نفسه شاهد وحجة ورقيب ، وعلى ذلك فالمعنى أن الإنسان يوم القيامة ينبأ بعمله ، والمراد يجازى عليه ، على أنه هو شاهد على نفسه وسوء عمله وقبيح أثره في الدنيا. فليس الأمر في حاجة إلى شهيد آخر يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ « 3 » . كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً « 4 » فالإنسان يشهد على عمله ، ولو ألقى أعذاره ، وحمله الخجل والخوف على خلق أعذار كاذبة ، فإن شهادة نفسه عليه أحق بالقبول من هذه المعاذير.
___________
(1) هذا حرف يفيد الإضراب الانتقالى من أسلوب لآخر ، أو من حجة لأخرى. [.....]
(2) هي كلمة زجر وردع للمخاطب.
(3) سورة النور آية 24.
(4) سورة الإسراء آية 14.(3/787)
ج 3 ، ص : 788
روى أنه صلّى اللّه عليه وسلّم كان حريصا على حفظ القرآن ، وكان يصعب عليه حفظ الآيات وجبريل يلقيها إليه ، فكان يحرك لسانه وشفتيه بالقرآن أثناء سماعه لجبريل حرصا على عدم ضياع شيء منه ، فنهى النبي عن ذلك في سورة طه. لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ..
الآيات والمعنى : لا تحرك أيها الرسول لسانك وشفتيك بالقرآن قبل أن ينتهى جبريل من إلقاء الوحى ، لا تحرك لسانك لتعجل بأخذه وحفظه ثم ذكر العلة في ذلك فقال : إن علينا جمع هذا القرآن في صدرك ، وتثبيته في قلبك ، وإن علينا أن نوفقك لقراءته كاملا مضبوطا حتى تحفظه ولا تنساه ، فإذا قرأناه عليك بواسطة جبريل فأنصت له حتى يفرغ ، وإذا فرغ جبريل فاتبع قراءته فإنك ستجد نفسك واعيا له وحافظا ، ولا يهمنك معناه فإن على اللّه وحده بيانه وإيضاح مشكلاته وكشف أسراره لك ، أليس ذلك من الأدلة القوية على أن القرآن من عند اللّه ؟
بقيت مسألة هامة : ما السر في وضع هذه المسألة وسط الكلام على البعث ومنكريه ؟ بعض العلماء ذهب في تأويله إلى أن الكلام متصل بما قبله إذ كل إنسان له كتاب يقرأ فيه عمله يوم القيامة ، فإذا جاء المكذب بيوم البعث الفاجر طول حياته يقرأ كتابه ، تلجلج وحرك لسانه بسرعة ليخفى بعض ما في الكتاب ظنا منه أن ذلك ينجيه فنهى عن ذلك وأمر بالإقرار والاعتراف لأن على اللّه بيان كل أعماله.
ولكن أغلب المفسرين على الرأى الأول ، وقالوا عن وضع هذه الآيات هنا : إنها اعتراض بما يؤكد التوبيخ على العجلة ، ولو كانت في الخير كما في حفظ القرآن فكيف بها إذا كانت في حب الدنيا ، والذي يؤيد هذا ما وراء ذلك من آيات.
ويرجح الشيخ عبد القادر المغربي في تفسيره أن هذه الآية أنزلت على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حينما كان جبريل يتلو عليه سورة القيامة فكان صلّى اللّه عليه وسلّم يحرك لسانه متعجلا الحفظ فأوحى إليه ربه آية لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ ...
ولقنه جبريل هذه الآية غضة طرية في غضون تلقينه الآيات التي حرك بها لسانه ليكون ذلك أدعى إلى الامتثال.
كلا ، ارتدعوا أيها البشر عما أنتم عليه من حب العجلة في شئونكم وأعمالكم وهذا داء عام شامل لجميع البشر ، وإن يكن البعض يتعجل في الخير والكثير يتعجل في التكذيب والشر ، أنتم أيها المكذبون بالبعث لم تكذبوا الوحى إحقاقا للحق بل أنتم قوم تحبون العاجلة وتؤثرون الدنيا الفانية ، وتذرون الحياة الآخرة والعمل لها ، وما علمتم أن(3/788)
ج 3 ، ص : 789
الناس في الآخرة فريقان : فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، فريق وجوهه ناضرة بالنعيم جميلة بإكرام اللّه له ، وهي إلى ربها ناظرة وفريق آخر وجوهه يومئذ كالحة منقبضة عابسة باسرة ، تظن لسوء فعلها في الدنيا - بل تتحقق - أنه لا بد أن ينزل بها مصيبة فادحة مصيبة عظمى تقصم الظهر ، وتبيد فقاره.
بقي شيء ، وقع فيه خلاف كبير بين العلماء قديما ، هو : هل نرى ربنا يوم القيامة أو لا ؟ الجمهور على إثبات الرؤية مستدلا بقوله هنا : إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وبالأحاديث عن رسول اللّه : وبعض الفرق تمنع الرؤية بالنظر إذ البصر يحد اللّه وذاته ، وهو لا تدركه الأبصار ، على أنه يلزم معها الانحصار في زمن وجهة ، واللّه محال عليه ذلك ، والآية هنا تؤول بأن الوجوه تنتظر من اللّه النعم والفضل والرضوان ، على أن الخطب سهل فأمور الآخرة أمور غيبية لا نقيسها على الحاضر عندنا بل نؤمن بها ، واللّه أعلم بها.
الإنسان عند موته وعند بدء خلقه [سورة القيامة (75) : الآيات 26 الى 40]
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30)
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)(3/789)