ج 2 ، ص : 394
المفردات :
ظَهِيراً معينا. فَتُفَجِّرَ تجريها بقوة. يَنْبُوعاً الينبوع العين التي لا تنضب. كِسَفاً جمع كسفة وهي القطعة من الشيء.
قَبِيلًا معاينة ومقابلة. مِنْ زُخْرُفٍ من زينة والمراد من ذهب.
المعنى :
لقد أوتينا من العلم قليلا ، ولو شاء ربك لذهب بهذا القليل فعدنا إلى ظلام الجهل ، وحماقة الجاهلية فمصدر العلم في كل ناحية هو القرآن الذي أوحى إليك ، ولئن شاء ربك لأذهبه ، ومحاه من الصدور والمصاحف ، فلم يترك له أثرا ، وبقيت كما كنت من قبل لا تدرى ما الكتاب ولا الإيمان.
ثم لا تجد لك بعد الذهاب به من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظا إلا برحمة ربك فيرده عليك ، فرحمة ربك مصدر الخير كله ، وهذا امتنان من اللّه ببقاء القرآن محفوظا بعد المنة العظيمة في تنزيله ، إن فضله كان عليك كبيرا.
ومن الحقائق المعروفة أن العلوم التي نشأت عند المسلمين ، والحضارة العلمية في الشرق كله من نبع القرآن وفيضه ، فعلوم اللغة والشريعة وأصول الفقه وعلوم القرآن نشأت للمحافظة على القرآن الكريم ، وكان لهذا أثر عميق في الاتجاه العلمي العام.
هذا القرآن وهو المعجزة ، والحجة الدائمة التي تحدى بها اللّه العرب كلها فعجزوا على الإتيان بمثله ، وهم أهل فصاحة وبلاغة ، والنبي واحد منهم وهو أمى لم يقرأ ولم يكتب ، وفيهم الشعراء والخطباء ، وقادة البلاغة والبيان فحيث عجزوا فغيرهم من باب أولى ، تحداهم به بأسلوب لاذع ، مع الحكم عليهم بالعجز والقصور ولو اجتمع الإنس والجن ، وتعاون الكل وبذلوا النفس والنفيس.(2/394)
ج 2 ، ص : 395
ولقد ثبت بما لا يقبل الشك عجزهم فثبت أن القرآن هو المعجزة الباقية وأنه من عند اللّه.
ولقد صرف اللّه للناس في هذا القرآن ، وقلب فيه الأمور كلها على وجوهها بألوان شتى وعبادات مختلفة تارة بالإيجاز وأخرى بالإطناب موفيا الغرض من أمر ونهى ، ووعظ وإرشاد وقصص وأخبار ، وحكم وتشريع ومع هذا يأبى أكثر الناس إلا كفورا وجحودا.
لم يقنعوا بالقرآن معجزة وهم أدرى الناس بحقيقتها لأنها أتت فيما برعوا فيه ، وطلبوا معجزة غيرها. ولو جاءت كما طلبوا لقالوا : إنما سحرت أبصارنا وسكرت.
وقالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض عيونا تفيض بالماء فإننا في صحراء مجدبة قاحلة ، أو تكون لك أنت - إن لم تأت بعيون لنا - جنة من نخيل وأعناب وغيرهما فتجرى فيها الأنهار بقوة حتى يتم زرعها وتؤتى ثمرها كاملا ، أو تسقط السماء علينا قطعا كما زعمت إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ [سورة سبأ آية 9].
أو تأتى باللّه والملائكة معاينة لنا ومتقابلين معنا فيحدثونا بأنك رسول من عند اللّه أو يكون لك بيت من زخرف من ذهب فإنا عرفناك يتيما فقيرا.
ألم يكن عند اللّه إلا يتيم أبى طالب يجعله رسولا! أو تعرج إلى السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا من السماء كتابا نقرؤه يفيد أنك رسول من عند اللّه.
قل لهم متعجبا منزها اللّه ، سبحان ربي!! هل كنت إلا بشرا رسولا فقط ، ولست أقدر على إجابة طلبكم ، واللّه - سبحانه - هو القادر وقد أيدنى بمعجزة القرآن ، وهي المعجزة الباقية الخالدة.
شبهتهم في الرسالة والرد عليها [سورة الإسراء (17) : الآيات 94 الى 100]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)(2/395)
ج 2 ، ص : 396
المفردات :
خَبَتْ سكن لهبها. سَعِيراً نارا ملتهبة شديدة. وَرُفاتاً تقدم شرحها قَتُوراً بخيلا ممسكا.
المعنى :
من الناس من ختم اللّه على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وجعل على أبصارهم غشاوة(2/396)
ج 2 ، ص : 397
فهم لا يطيقون أبدا الإقرار بأن اللّه يرسل رسولا من البشر ويقولون إذا كان ولا بد من رسول فليكن من الملائكة ، ولقد زاد عنادهم وكفرهم أن الرسول محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم يتيم من فقراء قريش!! لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف 31].
نعم ما منعهم من الإيمان باللّه ورسوله وقت أن جاءهم الهدى الذي يخرجهم من الظلمات والجهالات إلى نور الحق والعرفان ، ما منعهم من ذلك إلا اعتقادهم أن الرسول لا يكون بشرا حيث قالوا منكرين : أبعث اللّه بشرا رسولا ؟ فليس طلبهم الآيات السابقة إلا عنادا وتكذيبا ، فلا تظن أن إجابتهم خير أبدا.
قل لهم لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ساكتين يعيشون مع الناس ويتفاهمون معهم ويتلون عليهم آيات اللّه ، وتعرف الناس أخبارهم وأحوالهم قبل النبوة لو كان في طبيعة الملك ذلك لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ، إذ لا يعقل أن يدين الإنسان لمن لا يعرف عنه شيئا ، ومن ليس بينه اتصال وألفة حتى يتم التفاهم ولقد صدق اللّه حيث يقول في سورة الأنعام وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ. وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [سورة الأنعام الآيتان 8 و9].
قل لهم : كفى باللّه شهيدا وحكما بيني وبينكم فإن كنت أتقول عليه ما يلبسون وأفترى عليه الكذب فيجازينى على ذلك وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الأنعام 21].
وإن كنتم تكفرون باللّه الذي خلقكم. ولا تؤمنون برسوله الذي أرسل لكم ، ومعه المعجزة الباقية الخالدة التي تقول بلسان الحال : صدق عبدى في كل ما يبلغه عنى :
فسيحاسبكم ربكم على ذلك ويجازيكم أشد الجزاء إنه بعباده خبير بصير.
وأنت يا محمد فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، وأعلم أنه من يهديه اللّه إلى الخير فهو المهدى الموفق لأن نفسه ميالة إلى ذلك ، ومن يضلله اللّه فلن تجد له أولياء من دون اللّه يتولون أمره ويدافعون عنه ، وهم يوم القيامة محشرون يمشون على وجوههم.
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ « 1 » والذي أقدرهم على المشي على الأرجل يقدرهم على المشي على وجوههم مرغمين ، نحشرهم عميا لا يرون ما ينفع وبكما
___________
(1) سورة القمر الآية 48. [.....](2/397)
ج 2 ، ص : 398
لا يتكلمون بما يفيدهم ، ولا يسمعون ما يلذ لهم وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا مأواهم جهنم التي وقودها الناس والحجارة كلما أكلت جلودهم ولحومهم وعظامهم وأفنتها وسكن لهيبها بدلوا جلودا ولحما وعظما غيرها فرجعت ملتهبة شديدة الالتهاب ، وكانوا يستبعدون إعادة الحياة بعد الممات فكان جزاؤهم النار أن تعاد أجسامهم مرة ثانية ليذوقوا ويعرفوا قدرة الملك الجبار.
ذلك جزاءهم بسبب كفرهم ، وقولهم : أإذا كنا عظاما نخرة وصار جسمنا رفاتا ترابا تعود إلينا الحياة ؟ ونبعث من جديد لنحاسب على أعمالنا إن هذا لعجيب.
يا عجبا لهم!! أعموا ولم يروا أن اللّه خلقهم وخلق السموات وما فيها ، والأرضين وما فيها من العجائب قادر على أن يخلق مثلهم أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ [سورة النازعات الآية 27]. وقد جعل لهم أجلا لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون ، ومع هذا كله فقد أبى الظالمون إلا كفورا وجحودا ، وإنكارا للبعث.
قل لهم : لو تملكون خزائن رحمة اللّه الرحمن الرحيم لبخلتم بها ، وأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا بخيلا.
ولو سئل الناس التراب لأوشكوا إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا
فما بالكم تطلبون آيات بعد هذه الآيات! وأنتم لا تقومون بواجب الشكر للّه الذي أنعم عليكم بكافة النعم إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [سورة العاديات آية 6].
تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلم [سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 109]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105)
وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)(2/398)
ج 2 ، ص : 399
المفردات :
مَسْحُوراً سحرت فاختل عقلك. بَصائِرَ المراد بينات مكشوفات.
مَثْبُوراً هالكا ، وقيل مصروفا عن الخير ممنوعا منه. يَسْتَفِزَّهُمْ يستخفهم ويخرجهم. لَفِيفاً مجتمعين مختلطين. فَرَقْناهُ المراد جعلنا نزوله مفرقا منجما. يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يسقطون على وجوههم خضوعا للّه.
روى ابن عباس - رضى اللّه عنهما - أن الآيات التسع هي العصا ، واليد ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والحجر ، والبحر ، والطور الذي نتقه اللّه على بنى إسرائيل.(2/399)
ج 2 ، ص : 400
المعنى :
ولقد آتينا موسى حين أرسل إلى فرعون وملئه تسع آيات ناطقات بصدقه ، وأنه رسول اللّه إليهم لينقذ بنى إسرائيل من طغيانهم ، مع هذا لم يؤمن فرعون وقال : إنى أظنك يا موسى رجلا مسحورا قد سحر عقله واختلط عليه أمره فهو لا يدرى ما يقول.
وإن كنت في شك فسل المؤمنين من بنى إسرائيل عن الآيات وقت أن جاءهم بها موسى فسيخبرونك الخبر الحق ، ويكون ذلك أقوى حيث تتظاهر الأدلة.
ولما أنكر فرعون رسالة موسى مع وجود الآيات التسع - وفي هذه إشارة إلى أن طلب قريش تلك الآيات السابقة وإجابتهم لها ليس يدفعهم إلى الإيمان فهذا فرعون وما عمل - قال موسى له : لقد علمت يا فرعون ما أنزل هذه الآيات إلا رب السموات والأرض حالة كونها بينات وبصائر تهدى الإنسان النظيف الخالي من عمى القلب تهديه إلى الطريق الحق. ولكنك يا فرعون ما أظنك إلا هالكا ممنوعا من الوصول إلى الخير لأن طبعك يأبى عليك ذلك.
وكان ما كان من أمر فرعون وموسى مما ذكر في غير هذه السورة.
فأراد فرعون بعد هذا أن يخرجهم من أرض مصر مطرودين مبعدين فأغرقه اللّه هو وجنده ، ونجى موسى ومن معه من بنى إسرائيل ، وأورثهم أرضهم وديارهم وقال اللّه لهم : اسكنوا الأرض التي أراد فرعون أن يخرجكم منها وهذا جزاء كل جبار عنيد فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم مختلطين. ثم نعطى كل إنسان جزاءه إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ثم عاد القرآن إلى الكلام عن نفسه فيقول :
وما أنزلنا هذا القرآن إلا بالحكمة والمصلحة العامة النافعة في الدين والدنيا ، وما نزل إلا متلبسا بالحق والخير في الدنيا والآخرة ، وما أرسلناك يا محمد إلا بشيرا ونذيرا وعلى اللّه الثواب والعقاب.
وقرآنا فرقناه أى : جعلنا نزله مفرقا منجما تبعا للحوادث والظروف لتقرأه على الناس على مكث وتؤدة ليحفظ في الصدور ، وتعيه النفوس ، ويفهم فهما عمليا تطبيقيا إذ(2/400)
ج 2 ، ص : 401
كل آية نزلت في حادثة خاصة يفهم سبب نزولها ، ويوقف على سرها ، ونزلناه تنزيلا كاملا لا عوج فيه ولا نقص.
قل يا محمد : آمنوا به أو لا تؤمنوا ، وهذا أمر ، بالإعراض عنهم واحتقارهم حتى لا يكترث بهم. وهم إن لم يؤمنوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك فإن خيرا منهم وفضل وهم أهل الكتاب والعلماء منهم الذين عرفوا الوحى والنبوة قد آمنوا به وصدقوه فهذا عبد اللّه بن سلام ، وتميم الداري وغيرهم ، هؤلاء إذا يتلى عليهم القرآن يخرون سجدا للّه تعظيما لأمره ولإنجاز ما وعد في الكتب المنزلة التي بشرت ببعثة النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
ويقولون سبحان ربنا. إن كان وعد ربنا لمفعولا ، ويخرون ساجدين على وجوههم في حالة البكاء ، ويزيدهم سماع القرآن اطمئنانا في القلب وخشوعا. وهكذا كل مؤمن صادق في إيمانه.
بما ذا ندعو اللّه [سورة الإسراء (17) : الآيات 110 الى 111]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)
المعنى :
سمع المشركون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يقول : يا اللّه يا رحمن ، فقالوا : هذا ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهين! فأنزل اللّه هذه الآيات.
قل لهم : ادعوا اللّه ، أو ادعوا الرحمن ، أى هذين الاسمين دعوتم وذكرتم فهو حسن ، فله الأسماء الحسنى أى : فللّه الأسماء الحسنى فإذا حسنت أسماؤه كلها المأثورة حسن هذان الاسمان منها وهما يفيدان التحميد والتقديس والتعظيم.(2/401)
ج 2 ، ص : 402
ومن الصواب أن نتبع الطريقة المثلى في الدعاء وهي الحد الوسط بين الجهر في الصوت والإسرار والإخفات فيه وخاصة في الصلاة بحيث تصلى فتسمع نفسك ولا تؤذى غيرك ، وقيل المعنى : اجهر في صلاة الجهر ، واخفت في صلاة الإخفات وهي صلاة الظهر والعصر ، وابتغ بين ذلك أى : بين الجهر والسر سبيلا وسطا.
وقل : الحمد للّه والثناء بالجميل على الفعل الجميل للّه - سبحانه - الذي لم يتخذ ولدا فهو ليس محتاجا إليه ، واتخاذ الولد من صفات الحوادث وهو منزه عنها ، ولم يكن له شريك في الملك لأنه غير محتاج إليه ، ولو كان فيهما آلهة غير اللّه لفسدتا ، ولم يكن له ولى من الذل ، أى : لم يكن له ناصر من الذل ومانع له منه ، ولم يوال أحدا من أجل الذل إذ هو القادر المقتدر الخالق صاحب النعم - جل جلاله - .
وكبره تكبيرا وعظمه تعظيما يتناسب مع جلاله وقدسيته ، واللّه أكبر وللّه الحمد.(2/402)
ج 2 ، ص : 403
سورة الكهف
قال القرطبي : وهي مكية في قول جميع المفسرين وقال الكشاف مكية إلا بعض آيات فيها ، والرأى الأول هو الصحيح ، وعدد آياتها عشر ومائة.
وتراها تكلمت عن القرآن الكريم وأثره ، ثم ذكرت قصة أصحاب الكهف وما فيها من عبر. وأتبعتها توجيهات نافعة : ثم سبق مثل عملي المغتر بالدنيا والمغرور بها مع تذكير الناس بيوم القيامة وفي خلال ذلك حكم وآيات ، وتوجيهات وإنذارات ثم بعد ذلك كانت قصة موسى مع الخضر ، وإجابتهم عن الروح وعن ذي القرنين ، وما أروع ختام هذه السورة بالكلام على المؤمنين وكلمات اللّه لا تنفد.
[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4)
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)(2/403)
ج 2 ، ص : 404
المفردات :
عِوَجاً العوج والعوج عدم الاستقامة والمراد نفى الاختلاف والتناقض عن ألفاظه ومعانيه. قَيِّماً مستقيما لا ميل فيه أبدا. باخِعٌ نَفْسَكَ البخع :
الجهد والإضعاف. أَسَفاً الأسف : شدة الغيظ. صَعِيداً جُرُزاً الصعيد :
المستوي من الأرض. والجزر : أرض لا نبات فيها ، ومنه قيل سيف جراز ، أى :
يستأصل المقاتلين.
المعنى :
الحمد للّه والشكر له ، والثناء للّه - سبحانه - علم اللّه عباده كيف يحمدونه على نعمه الجليلة ، التي تفضل بها عليهم فهو الذي أنزل على عبده وحبيبه سيد الأنبياء وإمامهم وخاتمهم ، أنزل عليه القرآن المكتوب في الصحائف ، والمسجل في ضمير الزمن ، والمحفوظ في القلوب والمنقول إلينا عن طريق التواتر إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ولم يجعل له عوجا في لفظه ومعناه ، ولم يكن فيه اختلاف في أى ناحية من نواحيه وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً وهو القيم والمستقيم على الحق والعدل ، الداعي إلى الخير والهدى ، وهو القيم على مصالح العباد في الدنيا والآخرة والقيم على الكتب السابقة والمهيمن عليها.
وها هو ذا التفصيل لما أجمل في قوله - تعالى - قَيِّماً لينذر الكفار والعصاة بأسا شديدا وعذابا أليما من لدنه ، وليبشر المؤمنين العاملين الصالحات ، فكان إيمانهم مصحوبا بالعمل بعيدا عن العجز والكسل يبشرهم بأن لهم أجرا حسنا هو الجنة ماكثين فيها مكثا دائما إلى ما شاء اللّه ، وكرر الإنذار مرة ثانية للتأكيد فقال ، ولينذر الذين قالوا : اتخذ اللّه ولدا كاليهود في عزير ، والنصارى في المسيح ، وكفار قريش في قولهم :
الملائكة بنات اللّه ، ما لهم بالولد واتخاذ اللّه له علم أصلا ولا لآبائهم كذلك علم به ، بل هو محض افتراء واختلاق ، على أنه ليس مما يعلم إما للجهل بالطريق الموصل إليه ، وإما لأنه في نفسه مجال لا يستقيم تعلق العلم به.
كبرت المقالة كلمة تخرج من أفواههم ، أى : ما أكبرها كلمة تخرج من أفواههم والمراد بالكلمة قولهم إن اللّه اتخذ ولدا ، وهم ما يقولون إلا كذبا وزورا.(2/404)
ج 2 ، ص : 405
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا وقد مضى بحث في لعل عند قوله - تعالى - في سورة هود فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ والمعنى : فلعلك قاتلها ومهلكها لأنهم لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا عليهم وحزنا شديدا على شركهم وتوليهم عنك. وفي الكشاف : شبهه وإياهم - حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به ، وما تداخله من الوجد ، والأسف على توليهم - برجل فارقته أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم وتلهفا على فراقهم.
إنا جعلنا ما على الأرض من حيوان ونبات وجماد زينة لها واللّه جعل كل ما عليها زينة لها ، ومصلحة لنا هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، وجعل هذا ليبلوكم فيظهر من هو أحسن عملا ممن هو أسوأ عملا ، والمراد أن اللّه يعاملهم معاملة من يختبرهم ليعرف حالهم ، واللّه - سبحانه - بعد هذا جاعل ما عليها من هذه الزينة ترابا لا نبات فيه ولا حياة ، إذ هو القادر على كل شيء يحيى الأرض بعد موتها ، ويميتها بعد حياتها.
قصة أهل الكهف [سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 26]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13)
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23)
إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)(2/405)
ج 2 ، ص : 406(2/406)
ج 2 ، ص : 407(2/407)
ج 2 ، ص : 408
المفردات :
الْكَهْفِ الغار الواسع في الجبل. الرَّقِيمِ هو اسم كلبهم ، وقيل : هو اسم الوادي. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ المراد أنمناهم نوما ثقيلا بحيث لا يسمعون.
أَمَداً أى : غاية. نَبَأَهُمْ خبرهم صاحب الشأن والخطر. شَطَطاً القول الشطط : هو الخارج عن حد المعقول المفرط في الظلم. مِرفَقاً المرفق ما يرفق به وينتفع. تَتَزاوَرُ أصله تتزاور أى : تتمايل مأخوذ من الزور أى : الميل وشهادة الزور فيها ميل عن الحق. تَقْرِضُهُمْ أى : تقطعهم ولا تقربهم ومنها القطيعة. فَجْوَةٍ مِنْهُ أى : متسع من الكهف. بِالْوَصِيدِ بالفناء وهو موضع الباب من الكهف. بِوَرِقِكُمْ الورق الفضة مضروبة للنقد أو غير مضروبة أى :
معدة للنقد أو غير معدة. فَلا تُمارِ فِيهِمْ أى لا تجادل أهل الكتاب في شأنهم.
المعنى :
سأل القوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن قصة أصحاب الكهف متعجبين ممتحنين ، وسألوه عن الروح ، وعن ذي القرنين ، فقال اللّه مجيبا عن أصحاب الكهف.
أحسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا آية عجبا من بين آياتنا ؟ ! لا تظن ذلك ، فآياتنا كلها عجيبة وغريبة ، فإن من يقدر على جعل كل ما على الأرض زينة لهم ينتفعون به ثم يجعله ترابا بين عشية أو ضحاها كأن لم تغن بالأمس قادر على كل شيء كالبعث وغيره فلا تستبعد أن يحفظ بقدرته طائفة من الناس زمانا معلوما ، وإن كانت قصتهم خارقة للعادة ، فإن آيات اللّه - سبحانه - دائما كذلك.
واذكر وقت أن صار الفتية إلى الكهف وجعله مأوى لهم ، فقالوا متجهين إلى اللّه وحده : ربنا آتنا من عندك رحمة واسعة ، وانشر علينا من ظلال فضلك ما تغمرنا ، وهيئ لنا من أمرنا الذي فارقنا عليه الكفار ما به تكون المصلحة لنا ونكون راشدين غير ضالين.
وهكذا حال المؤمنين الموفقين حينما تشتد عليهم الأمور وتتحزب يكون اللّه هو الملجأ الوحيد يطلبون منه العون والمدد ، ويسألونه الهدى والرشد.(2/408)
ج 2 ، ص : 409
وقد شملهم ربك بالعطف فضرب على آذانهم في الكهف سنين معدودة ، والمعنى :
أنامهم نوما ثقيلا حتى كأنهم وراء حجاب مضروب لا يسمع منه صوت.
ثم بعثهم ربك ، وأيقظهم من النوم ليظهر معلومه - سبحانه - عن أى الحزبين أحصى للبثهم أمدا وغاية ، وقد جعل علمه أى الحزبين أحصى ؟ غاية وعلة للبحث إذ سيظهر عجزهم ، ويفضون أمرهم ، ويحاولون أن يتعرفوا حالهم فيزدادوا يقينا على يقينهم ، وهذا لطف بالمؤمنين في زمانهم ، وآية بينة للكافرين.
وهذه خلاصة للقصة بالإجمال وهاك التفصيل.
نحن نقص عليك خبرهم المهم ذا الشأن والخطر ، أما حواشى الأخبار وتوافهها فلا يتجه لها القرآن ، نقصه قصصا متلبسا بالحق لا زور فيه ولا بهتان ومن أصدق من اللّه حديثا ؟
إنهم فتية آمنوا بربهم إيمانا صادقا خاليا من ضروب الشرك وآثامه ، وزادهم هدى ، وربط على قلوبهم ، وقواها حتى لم يعد فيها مكان للشك والنفاق إذ قاموا مجاهرين قائلين ، ربنا رب السموات والأرض وما فيهن ، لن نعبد من دونه إلها إننا إن عبدنا غيره ، وقلنا به لقد قلنا قولا ذا شطط ، متجاوزين حدود العقل والدين : هؤلاء قومنا البعيدون في درجات الجهل والحماقة اتخذوا آلهة متجاوزين بها اللّه فاطر السموات والأرض من غير علم ولا دليل.
هلا يأتون على ألوهيتهم بسلطان بين ، وحجة ظاهرة! لا حجة لهم أبدا ولكنه الشرك والتقليد الأعمى.
فلا أحد أظلم ممن افترى على اللّه كذبا وزورا باتخاذ الشركاء والآلهة.
وإذ اعتزلتموهم يا أهل الكهف ، وفارقتموهم في الاعتقاد ، واعتزلتم عبادتهم وما عبدتم إلا اللّه الواحد القهار فأووا إلى الكهف ، لتعتزلوهم جسميا بعد فراقهم روحيا ، إن تأووا إليه ينشر لكم ربكم من رحمته في الدارين ، ويهيئ لكم ويصلح من أمركم الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين مرفقا ترتفقون به ، وتنتفعون.
هذا حالهم قبل دخولهم في الكهف. أما بعد الدخول فيه فيقول اللّه :(2/409)
ج 2 ، ص : 410
وترى يا محمد أو كل واحد يصلح للخطاب الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية تحقيقا بل الإخبار بكون الكهف في مكان بحيث لو رأيته ترى الشمس إذا طلعت تتزاور وتنتحى مائلة عن كهفهم جهة اليمين ، وإذا غربت تراها عند الغروب تقرضهم وتبتعد عنهم متجهة جهة الشمال ، وهم في فجوة ومتسع من الكهف معرض لإصابته من الشمس ، لو لا أن صرفتها عنهم القدرة ، ذلك من آيات اللّه العجيبة الدالة على كمال العلم والقدرة.
ومن يهديه اللّه إلى الخير فهو المهتدى حقا الموافق إلى الصالح في الدنيا والآخرة ، كأمثال الفتية أصحاب الكهف ، ومن يضلل ويسلك سبل الشر فلن تجد له وليا مرشدا يهديه إلى الخير وطرق الصلاح في الدنيا والآخرة كأمثال الكفرة المنكرين للبعث ..
وهؤلاء الفتية كنت تراهم في الكهف فتحسبهم أيقاظا لم يبل منهم جسد ، ولم تظهر لهم رائحة كريهة كأنهم أحياء نائمون في القيلولة ، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ، وكلبهم الذي كان معهم باسط ذراعيه بموضع الباب من الكهف ، لو اطلعت عليهم وهم بهذا الوضع لوليت منهم وهربت من منظرهم هروبا ولملئت منهم رعبا وفزعا.
وكما أنمناهم وحفظنا أجسادهم من البلى - وكان ذلك آية على قدرتنا - بعثناهم من نومهم ليسأل بعضهم بعضا فترتب عليه ظهور الحكم الجليلة التي من أجلها أنامهم اللّه هذه المدة ، ولهذا جعل التساؤل علة للبعث.
قال قائل منهم : كم لبثتم في نومكم ؟ قال بعضهم. لبثنا يوما أو بعض يوم ، قيل إنهم دخلوا الكهف من الصباح واستيقظوا في آخر النهار ولذا قالوا : يوما فلما رأوا الشمس لم تغب قالوا : أو بعض يوم. وقال بعض منهم لما رأوا حالتهم العامة متغيرة :
ربكم أعلم بما مكثتم! ولكن امضوا إلى المهم فابعثوا أحدكم بقطعة من الفضة إلى المدينة ليحضر طعاما لنا ، وإذا كان كذلك فلينظر أى أهلها أزكى طعاما وأحسن سعرا فليأتنا بشيء نقتات به ، وليتلطف في الطلب حتى لا يغبن ، ولا يشعرن بكم أحد من المدينة فإنهم إن اطلعوا عليكم يقتلوكم شر قتلة بالرجم أو يعيدوكم في ملتهم وطريقهم الجائر ، ولن تفلحوا إذا دخلتم معهم أبدا.
وكما أنمناهم في الغار ، وبعثناهم أعثرنا وأطلعنا الناس عليهم ليعلموا أن وعد اللّه حق ، وسمى الإعلام إعثارا لأن من كان غافلا عن الشيء فعثر به نظر إليه وعرفه فكان الإعثار سببا في العلم ، وفي الإعثار ما يفيد.(2/410)
ج 2 ، ص : 411
وكذلك أطلعنا الناس عليهم ليعلموا أن وعد اللّه بالبعث حق. فقد كان هناك من ينكر البعث فأراهم اللّه هذه الآية تثبيتا للمؤمنين ، وحجة على الكافرين ، وليعلموا أن الساعة لا ريب فيها فإن من شاهد حال أهل الكهف علم صحة ما وعد اللّه به من البعث.
أطلعناهم عليهم وقت أن كانوا يتنازعون أمرهم فيما بينهم بين مثبت للبعث ومؤمن به ، وبين منكر له وكافر به.
ولما اطلعوا عليهم ، وظهر أمرهم وعرف الناس أن في قدرة اللّه أن يحيى الخلق بعد موتهم أماتهم اللّه فقال بعضهم : ابنوا عليهم بنيانا يمنع الناس عنهم ، ربهم أعلم بشأنهم.
وقال الذين غلبوا على أمرهم من المؤمنين لنتخذن عليهم مسجدا للصلاة ، والذين غلبوا على أمرهم قيل هم المسلمون ، أو هم الملك وأعوانه اللّه أعلم.
وقد اختلف المعاصرون للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم في عددهم. فسيقولون هم ثلاثة رابعهم كلبهم ويقول جماعة أخرى : هم خمسة سادسهم كلبهم ، وهم في هذا يقذفون بالغيب على غير هدى ظنا منهم. لا يقين معه.
ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم ، قل يا محمد لهم ، ربي أعلم بعددهم ما يعلمه إلا قليل وأكثرهم علم أهل الكتاب على ظن وتخمين.
وفي الكشاف : فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة (سبعة وثامنهم كلبهم) ولم دخلت عليهم دون الجملتين الأوليين ؟ والجواب هي الواو التي تدخل لتأكيد اتصال ما بعدها بما قبلها وللدلالة على أن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات وعلم وطمأنينة لم يرجموا بالظن كما فعل غيرهم.
وأصحاب هذا الرأى مؤمنون قالوه مستندين إلى الوحى بدليل عدم سبكه في سلك الرجم بالغيب وتغير النظم بزيادة الواو.
إذا قد عرفت جهل أصحاب الرأيين الأوليين فلا تمار فيهم ولا تجادلهم إلا جدالا ظاهرا لا عمق فيه ، ولا تستفت في شأنهم أحدا منهم.
ولا تقولن لأجل شيء تعزم على فعله إنى فاعله غدا ، لا تقولن ذلك في حال من(2/411)
ج 2 ، ص : 412
الأحوال إلا في حال ملابسته بمشيئة اللّه - تعالى - على الوجه المعتاد على معنى سأفعل ذلك غدا إن شاء اللّه.
روى أن الآية نزلت حين قالت اليهود لقريش سلوه عن الروح ، وعن أصحاب الكهف وذي القرنين. فقال : ائتوني غدا أخبركم ولم يستثن فأبطأ عليه الوحى حتى شق عليه وكذبته قريش.
واذكر ربك إذا نسيت ، اذكره بقلبك ولسانك ذكرا دائما ، وتوجه إليه وقل :
عسى أن يهديني ربي لأقرب من نبأ أصحاب الكهف. والمعنى : اذكر ربك وقل لعله يؤتينى من البينات والحجج الدالة على صدق نبوتي ما هو أعظم من ذلك وأقرب رشدا من نبأ أصحاب الكهف ، وقد فعل ذلك حيث قص عليه قصص الأنبياء.
فإذا نسيت شيئا فاذكر ربك عسى أن يهديك لشيء آخر بدل المنسى أو أقرب منه. ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين ، وازدادوا تسعا.
قل يا محمد : اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا والحق ما أخبرك به لا ما يقولونه إذ له وحده غيب السموات والأرض وهو العالم بكل شيء.
أبصر به وأسمع على معنى ما أبصره بخلقه ، وما أسمعه لما يدور في صدورهم فأمره في إدراك المسموعات والمبصرات على خلاف ما تعهدون فهو اللطيف الخبير.
وما لهم من ولى يتولى أمرهم ، ولا يشرك ربك في حكمه وقضائه أحدا.
توجيهات إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم [سورة الكهف (18) : الآيات 27 الى 31]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)(2/412)
ج 2 ، ص : 413
المفردات :
مُلْتَحَداً ملتجأ تلجأ إليه. وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أى : لا تتجاوز عيناك عنهم. فُرُطاً متجاوزا حدا الاعتدال مأخوذ من قولهم فرس فرط إذ تقدم الخيل وتجاوزها. سُرادِقُها فسطاطها ، أو ما يمد في صحن الدار. كَالْمُهْلِ وهو المذاب من عناصر الأرض بواسطة النار كالحديد المذاب مثلا. سُنْدُسٍ ما رقّ من الديباج وَإِسْتَبْرَقٍ الإستبرق الغليظ منه.
...
كانوا يقولون للنبي صلّى اللّه عليه وسلم : ائت بقرآن غير هذا أو بدله فنزل.
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ .. الآية.
وكانوا يقولون : نح عن مجلسك هؤلاء الموالي أمثال صهيب ، وعمار ، وخباب ،(2/413)
ج 2 ، ص : 414
وياسر وغيرهم حتى نجالسك فنزل : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ الآية ثم ذكر جزاء المؤمن ولو كان فقيرا وجزاء الكافر ولو كان غنيا.
المعنى :
واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك الذي أنزل عليك ولا تسمع لما يهذون به من طلب التغيير والتبديل ، إذ لا مبدل لكلمات ربك ولا يقدر أحد على ذلك ، وإنما اللّه وحده القادر على التبديل والنسخ وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ [سورة النحل آية 101] وإنك إن بدلت يا محمد فلن تجد من دون اللّه ملتجأ تلتجئ إليه.
ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى من الفقراء ، واصبر نفسك معهم واحبسها على مجالستهم ، ولا تسمع لقول الكفار فقديما قيل لنوح : أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [سورة الشعراء آية 111] فهذا غرور الكفر ووسوسة الشيطان.
هؤلاء الموالي الذين يدعون ربهم ، ويعبدونه في كل وقت ، يريدون وجهه ورضاه هم أحباب اللّه وأولياؤه ، ولا تعد عيناك عنهم فتجاوزهم إلى غيرهم من الأغنياء ، وإياك أن تنبو عينك عنهم وتعلو ، تريد زينة الحياة الدنيا الظاهرة في لباس الأغنياء والأشراف ، ولا تطع أبدا من وجدنا قلبه غافلا عن ذكرنا ، واتبع هواه وأسلم نفسه لشيطانه.
وكان أمره متجاوزا الحق والعدل حيث ترك صراط اللّه المستقيم وشرعه القويم.
وقل لهؤلاء الذين يطلبون منك البعد عن الفقراء لفقرهم : الحق جاء من ربكم واضحا ظاهرا فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، أما من كفر فإنا أعتدنا وهيأنا له نارا أحاط بهم سرادقها ، ولقد شبه اللّه ما يحيط بالظالمين الكافرين من النار بالسرادق المضروب على الشخص ، فهل يفلت من السرادق المضروب ؟ !! وإن يستغيثوا وهم في نار جهنم يغاثوا بماء لشدة العطش ولكن بماء كالمهل ، يغاثون بشراب من الحديد والرصاص المذاب من قوة النار ، هذا الشراب يشوى الوجوه بئس الشراب شرابهم ، وساءت جهنم مرتفقا ، ولا ارتفاق فيها ولكنها المشاكلة ، أما من تريدون أن يصرف النبي عنهم وجهه فأولئك المؤمنون الذين يقول اللّه فيهم وفي أمثالهم :
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلن يضيع اللّه أجر من أحسن عملا ، أولئك لهم جنات عدن تجرى من تحتهم الأنهار ، وهم يحلون في الجنة بأساور من ذهب وقد كانوا(2/414)
ج 2 ، ص : 415
محرومين منها في الدنيا ويلبسون ثيابا خضرا من الديباج الرقيق والغليظ حالة كونهم متكئين فيها على الأرائك شأن الملوك والعظماء نعم الثواب الذي ذكر لهم هنا وفي غير هذه الآية ، وحسنت الجنة مرتفقا لهم وأى مرتفق ؟ !!
مثل للمعتز بالدنيا المغرور بها [سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)(2/415)
ج 2 ، ص : 416
المفردات :
جَنَّتَيْنِ بستانين. حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ جعلنا النخل محيطة بهما. وَلَمْ تَظْلِمْ لم تنقص من أكلها. وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً أجرينا وشققنا وسطهما.
يُحاوِرُهُ يراجعه في الكلام. نَفَراً المراد خدما وأتباعا ، وقيل هم الأولاد لأنهم ينفرون مع أبيهم ساعة القتال. مُنْقَلَباً مرجعا وعاقبة. سَوَّاكَ صيرك وعدلك حتى صرت رجلا. حُسْباناً المراد مقدارا قدره اللّه عليها. ووقع في حسابه. زَلَقاً أى : أرضا جرداء ملساء لا نبات فيها ولا حيوان ولا بناء تزل فيها الأقدام لملاستها. غَوْراً أى : غائر لا تناله يد. الْوَلايَةُ النصرة ، وبكسر الواو : السلطان.
وهذا مثل ضربه اللّه للكافر والمؤمن حيث يعصى الأول مع تقلبه في النعم ويطيع الآخر مع مكابدة الفقر والمشقة ، والأول غارق في الدنيا معتز بها مغرور بها والثاني يفهمها على حقيقتها فهي طريق وممر للآخرة ، والمثل بهذا الوضع متصل بقوله - تعالى :
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الآية.
المعنى :
واضرب للفريقين الكافر والمؤمن مثلا : رجلين مقدرين أو حقيقيين ، والعبرة بالعظة المفهومة من المثل ، هما من بنى إسرائيل أخوان أو صديقان أو شريكان أحدهما كافر مغرور بدنياه والثاني موحد باللّه ، وقد آل أمرهما إلى ما حكاه القرآن عنهما لعل الناس يعتبرون ويتعظون ، وإنا لنرى كثيرا من المسلمين يقولون مثل مقالة الكفار في الدنيا(2/416)
ج 2 ، ص : 417
بلسان الحال لا بلسان المقال فاعتبروا يا أولى الأبصار واضرب لهم رجلين مثلا هذا بيانه : جعلنا لأحدهما وهو الكفار بستانين من الكروم المتنوعة ، وجعلنا النخل محيطة بهما ، وجعلنا وسطها زروعا حتى يجمعا بين القوت والفاكهة وهما بهذا الوضع لهما الشكل الأنيق ، والوضع السليم.
كلتا الجنتين آتت أكلها كاملا غير منقوص شيئا ، وقد فجر اللّه وسط كل حديقة نهرا على حدة ليسقيها بلا تعب ومشقة ، ويزيدهما بهاء وروعة ، وكان لهذا الكافر ثمر ومال من غيرهما إذ كان من الأثرياء الكبار.
فقال يوما لصاحبه : وهو يحاوره ويجادله شأن كل غنى مغرور مع مؤمن فقير صالح ، وقد روى أنهم أخوان ورثا مالا أما الكافر فاستغله في أرض ودار وزوجة وخدم وحشم وأما المؤمن فأنفق نصيبه في سبيل اللّه.
يا أخى : أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا وأكثر خدما وولدا ، ودخل مع صاحبه جنته الواسعة العريضة ، الجنة ذات الجناحين الجنة التي ليس له غيرها إذ هي متاعه في الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب ، دخلها وهو ظالم لنفسه معجب بما أوتى ، مفتخر به كافر بالنعمة ، معرض بذلك نفسه لسخط اللّه وهو أفحش أنواع الظلم : وماذا قال ؟
قال لطول أمله وشدة حرصه ، وتمام عقله ، وكثرة غروره بها قال : ما أظن أن تبيد وتفنى هذه الجنة أبدا ، وما أظن الساعة قائمة فيما سيأتى ، وأقسم لئن رجعت إلى ربي على سبيل الفرض ، أو كما يزعم صاحبنا المؤمن لأجدن جنة خيرا من هذه الجنة مرجعا وعافية ، وأقسم لقد سمعنا من جهلتنا المنتسبين للإسلام مثل هذا القول « غنى الدنيا غنى الآخرة » فهم لسوء فهمهم يظنون أن اليسار والغنى إنما يعطى في الدنيا لاستحقاقه ذلك إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً.
وما علم هذا المغرور أن الدنيا لا تزن عند اللّه جناح بعوضة وإلا ما سقى الكافر منها جرعة ماء ، وإن الإنسان قد يعطى استدراجا.
وماذا قال له أخوه المؤمن ؟ قال وهو يحاوره : يا أيها الإنسان : أكفرت بالذي خلق أباك الأول من تراب ثم خلقك أنت من نطفة ثم سواك فعدلك رجلا سويا ؟ ! أبعد هذا تقول : ما أظن الساعة قائمة يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ الآية من سورة الحج.(2/417)
ج 2 ، ص : 418
لكن هو اللّه ربي وحده لا شريك له ، له الحكم وإليه ترجعون.
يا أخى هلا إذا دخلت جنتك قلت ما شاء اللّه كان ، وما لم يشأ لم يكن ، الأمر ما شاء اللّه لا غير ،
روى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم : من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه لم يضره.
فبدل أن تقول : ما أظن أن تبيد هذه أبدا ، وهذه المقالة لا تصدر إلا من شخص مغرور مأفون يظن أن له قوة وحولا ، وأن الأمر بيده لا بيد اللّه ، وأنه الزارع الذي أعطى هذا الزرع عن علم وتجربة ، وأن سماده ونظامه هما اللذان أنتجا! ألا بئس ما يفهم الناس في دنياهم!! إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا في هذه الدنيا الفانية فعسى ربي أن يؤتينى خيرا من جنتك وأبقى يوم القيامة.
وأما جنتك فيرسل عليها عذابا مقدرا في حسابه فتصبح أرضا قاحلة ملساء لا شيء فيها أو يصبح ماؤها غائرا لا تدركه الأيدى بأى شكل ولا تستطيع له طلبا فضلا عن إدراكه ، وقد كان فأحيط بثمره وهلك كل ماله فأصبح يقلب كفيه ندما وأسفا على ما ضاع منه ، يعض بنان الندم على ما فرط منه. والحال أنها خاوية على عروشها أى :
سقطت الكروم على عروشها الممهدة لها.
ويقول : نادما ليتني لم أشرك بربي أحدا ، ولم تكن له فئة تنصره من دون اللّه إذ هو القادر وحده على دفع العذاب ، وما كان هو في حد ذاته منتصرا بنفسه.
هناك : وفي هذه الحال التي يؤمن فيها البر والعاجز النصرة من اللّه وحده ، والسلطان للّه وحده ، هو الحق تبارك وتعالى ، خير ثوابا وخير عقبى للعباد المتقين.
مثل الحياة الدنيا [سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 46]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46)(2/418)
ج 2 ، ص : 419
المفردات :
هَشِيماً مهشوما مكسورا. تَذْرُوهُ الرِّياحُ تفرقه وتطيره. وهذا مثل آخر للدنيا وبيان لصفتها العجيبة التي هي كالمثل حتى لا يغتر بها المغترون.
المعنى :
واذكر لهم صفة الدنيا التي هي كالمثل في الغرابة وهي كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ، فنبت الزرع واخضر واختلط بعضه من كثرته وتكاثفه فأصبح ذلك النبات الغض الوارف صاحب الظل الدائم ، والبهجة والمنظر أصبح هشيما تذروه الرياح حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [سورة يونس آية 24]. ولا غرابة في هذا فاللّه على كل شيء قدير.
وأما ما كانوا يفتخرون به من مال وبنين فهذا عرض زائل ، ومتاع حائل ، وزينة الدنيا الفانية ، ولعل تقديم المال على البنين لأنه أدخل في باب الزينة من الأولاد.
وليس لأحد أن يفتخر بها حيث كانت لهذا فقط بل الباقيات الصالحات من الأعمال الخيرية خير وأبقى عند ربك إذ ثوابها عائد على صاحبها ، وخير أملا حيث ينال بها صاحبها في الآخرة كل ما كان يؤمله.(2/419)
ج 2 ، ص : 420
من مشاهد يوم القيامة [سورة الكهف (18) : الآيات 47 الى 49]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)
المفردات :
وَحَشَرْناهُمْ الحشر : الجمع لأجل الحساب ، والبعث : إحياؤهم من القبور للحشر.فًّا
مجتمعين غير متفرقين.
المعنى :
واذكر يوم نسير الجبال وهي كالعهن المنفوش بعد أن كانت ساكنة في نظر العين ، وهذه إشارة إلى تبدل الحال ، وتغير الوضع في الدنيا ، وترى الأرض بارزة ليس فيها ما يسترها من جبال وأنهار وشجر وبنيان ، وقد ألقت ما فيها من كنوز ودفائن ، وأخرجت أثقالها ، وبرز ما في جوفها ، وحشرناهم جميعا ، وجمعناهم إلى الموقف من كل مكان. فلم نغادر من الخلائق أحدا ، وعرضوا على ربك صفا واحدا بلا تفرق واختلاف ، وقد شبهوا بالجند حيث يعرضهم القائد ، وهم وقوف منتظرون الأمر قلنا(2/420)
ج 2 ، ص : 421
لهم : لقد جئتمونا فرادى مجيئا كمجيئكم وقت أن خلقناكم أول مرة حفاة عراة وبلا ولى ولا نصير ، ولا شفيع معين وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [سورة الأنعام آية 94] بل ، إضراب انتقال من حديث إلى حديث ، زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا نجازيكم بأعمالكم فيه ، وهذا خطاب لمنكري البعث للتقريع والتوبيخ والتأنيب.
ووضع الكتاب ، والمراد به : الصحائف التي تكتب فيها أعمال الإنسان من خير وشر ، فترى المجرمين الذين ارتكبوا السيئات خائفين وجلين مما فيه ويقولون : يا ويلتنا داعين أنفسهم بالويل والهلاك : ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ؟ !! ووجدوا ما عملوا حاضرا مكتوبا فيه ، ولا يظلم ربك أحدا ، إذ مبدأ الثواب والعقاب مما يقتضيه العدل الإلهى ، وعدم الظلم حتى يعطى المحسن جزاءه كاملا ، ويأخذ المسيء جزاءه غير ناقص.
توجيهات إلهيّة [سورة الكهف (18) : الآيات 50 الى 53]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)(2/421)
ج 2 ، ص : 422(2/422)
ج 2 ، ص : 422
المفردات :
فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فخرج عما أمره به. عَضُداً أى : عونا لي.
مَوْبِقاً أى : حاجزا فهو اسم مكان ، وقيل : موبقا أى : مهلكا لهم.
المعنى :
واذكر وقت أن قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم والمراد ذكر ما حصل في الوقت لا نفس الوقت.
وقصة السجود لآدم قد مرت بنا مرارا ، وإنما كان تكريرها ليقف الإنسان على ما حصل لأبيه آدم ، وموقف إبليس منه ، وكيف كان سبب التعب له وخروجه من الجنة ولا يزال هو مصدر الفسوق والعصيان لأنه أقسم ليغوينهم أجمعين ، وكان له ذلك إلا العباد المخلصون فليس له سلطان عليهم.
أمر اللّه الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا طائعين لأنهم لا يعصون اللّه ما أمرهم ولا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ، أما إبليس اللعين فكان من الجن فلم يعمل مثل ما عملوا ، وقال كيف أسجد له ؟ وأنا خير منه ، وترتب على كونه من الجن أنه فسق عن أمر ربه وخرج عن حدود ما أمر به.
وهذه الآية تثبت أن إبليس من الجن ، وفي آية أخرى الإشارة إلى أنه من الملائكة ، وليس فيهم تعارض إذ قد يطلق على الملائكة أنهم جن من حيث استتارهم واللّه - سبحانه وتعالى - يعجب ممن يطيع إبليس وجنده في الكفر والمعاصي بعد أن علم موقفه من أبينا آدم ، وما هو عازم عليه بالنسبة لنا ، أفتتخذونه وذريته وأعوانه أولياء تقتدون بهم ، وتسمعون لهم يا عجبا لكم ثم عجبا ، أفتتخذون أولياء من دون اللّه ، وهو لكم عدو من قديم ، بئس للظالمين الذين يضعون الأمور في غير موضعها الذين يستبدلون طاعة الشيطان بدل طاعة الرحمن بئس البدل بدلا لهم.
ما أشهدت هؤلاء الشركاء الذين وسوس لكم إبليس في شأنهم حتى اتخذتموهم شركاء ، ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ، ولا أشهدتهم خلق أنفسهم ، ولو كانوا شركاء لشهدوا ذلك ، إذن فليسوا لي شركاء أبدا.(2/423)
ج 2 ، ص : 423
وما كنت متخذ الضالين من الشركاء والشياطين عضدا لي وعونا في خلق شيء.
واذكروا يوم يقول المولى لهم تأنيبا : نادوا شركائى الذين زعمتم أنهم شركاء ، وقد فعل المشركون ما أمروا به ، ودعوهم فلم يستجيبوا لهم في شيء فضلا عن أنهم لم ينفعوهم في شيء ، وجعلنا بينهم مكانا سحيقا بعيد الغور ، وهذا يصح إذا أردنا بالشركاء عيسى وعزير والملائكة ، وإذا أريد بالشركاء الأصنام والأوثان فقد جعلنا بينهم حاجزا وصلتهم بهم هلاكا لهم وأى هلاك ، ورأى المجرمون النار واقعة بين أيديهم فأيقنوا أنهم مخالطوها بالوقوع فيها ، ولم يجدوا عنها معدلا ، ولا مكانا يتحولون فيها ، لأن النار قد أحاطت بهم من كل جانب ..
إنذار وتخويف [سورة الكهف (18) : الآيات 54 الى 59]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58)
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)(2/424)
ج 2 ، ص : 424
المفردات :
قُبُلًا جمع قبيل والمراد أنواعا أو عيانا. لِيُدْحِضُوا ليزيلوه ويبطلوه مأخوذ من إدحاض القدم أى : عند إزالتها عن مكانها. مَوْئِلًا أى : منجى وملجأ من قولهم وأل إذا نجا ووأل إليه إذا لجأ إليه.
المعنى :
هذا القرآن هدى للناس ، وبينات من الهدى والفرقان. صرف اللّه معانيه الجليلة وأغراضه السامية التي تدعو إلى الإيمان باللّه وبرسوله ، والتي تشبه في الغرابة والحسن والجمال والروعة المثل الذي يهز القلوب ، ويحرك النفوس صرفه وكرره للناس ولمصلحتهم ، ولكنهم لم يتقبلوه بالقبول الحسن ، وكان الإنسان أكثر الأشياء جدلا وخصومة. ومماراة في الحق ، يعنى أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [سورة النحل آية 4].
وما منع الناس ، أى : أهل مكة من أن يؤمنوا وقت أن جاءهم الهدى والنور من القرآن ، وما منعهم من أن يستغفروا ربهم من أجل الكفر والمعاصي ، ما منعهم عن الإيمان والاستغفار مانع أبدا في الواقع حيث جاءهم نور القرآن وتفصيله الآيات البينات.
ولكن طلبهم إتيان سنة الأولين لهم وهي عذاب الاستئصال بإلحاحهم في طلب آيات أخرى ، أو يأتيهم عذاب يوم القيامة أنواعا مختلفة إذ ماتوا ، أو يأتيهم العذاب معاينة ومقابلة هو السبب في عدم إيمانهم ، وليس في القرآن ما يدعو إلى الكفر ، وإن كان الإنسان مجبولا على حب الجدل المفرط ، وقيل المعنى : إنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا عند نزول عذاب الاستئصال بهم أو عذاب الآخرة.(2/425)
ج 2 ، ص : 425
وما نرسل المرسلين إلى الأمم إلا حالة كونهم مبشرين المؤمنين بالثواب ، ومنذرين الكفار والعصاة بالعقاب ، هذه هي مهمة الرسل مع أممهم ، ويجادل الكفار بالباطل حيث يقترحون الآيات بعد ظهور المعجزات ، ويقولون للرسل : ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [سورة المؤمنون آية 24].
واتخذوا آيات ربهم ، وما أنذروا به من القوارع الناعية عليهم العقاب والعذاب ، اتخذوها هزؤا.
ولا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها عنادا واستكبارا ، ولم يتدبرها ، ونسى ما قدمت يداه مما عمل في الكفر والمعاصي المجادلة بالباطل والاستهزاء بالحق ، وعدم التفكر في العواقب ، ومن كان كذلك فهو أظلم من كل ظالم ، وقد كان حسدهم وتكبرهم ، وتمسكهم بالتقاليد الباطلة وحبهم للرياسة الكاذبة ، والعرض الفاني بمثابة الأكنة والحواجز على قلوبهم : وإسنادهم إلى اللّه قوله : جَعَلْنا للدلالة على ثبوتها ودوامها عندهم.
إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفهموه فهما دقيقا عميقا ، وجعلنا في آذانهم وقرا وصمما عن سماع الحق وتدبره ، وهؤلاء لن يكون منهم اهتداء أبدا ، وإن تدعهم إلى الهدى بكافة الطرق فلن يهتدوا إذا أبدا.
وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذ الناس بما كسبوا من المعاصي التي منها مجادلتهم بالباطل وإعراضهم عن الآيات ، وعدم مبالاتهم بعمل السيئات.
لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب في الدنيا ولكن اللّه أراد غير ذلك. بل لهم موعد حدده اللّه في يوم بدر مثلا لن يحيدوا عنه ولن يجدوا من دونه ملجأ يلجئون إليه.
وهذه هي القرى التي كانت فيها عاد ، وثمود ، ومدين ، وقوم لوط ، أهلكناهم لما ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي ، وجعلنا لهلاكهم موعدا لا محيد عنه فاعتبروا يا أولى الألباب ولا تغتروا يا أهل مكة بتأخير العذاب ..(2/426)
ج 2 ، ص : 426
قصة موسى مع الخضر [سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 78]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64)
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69)
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74)
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78)(2/427)
ج 2 ، ص : 427
المفردات :
لِفَتاهُ هو يوشع بن نون ، وموسى هو نبي بنى إسرائيل بن عمران - عليه السلام. لا أَبْرَحُ لا أزال سائرا. مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ والبحران البحر الأسود والبحر الأبيض ، وقيل : هما بحر الأردن وبحر القلزم. وقيل غير ذلك واللّه أعلم.
حُقُباً جمع حقبة وهي زمان من الدهر غير محدود. سَرَباً السرب كالنفق الذي يتخذه الضب ونحوه في الأرض وهو كالكوة المحفورة في الأرض. قَصَصاً أى : قاصين الأثر متتبعين السير. رُشْداً وقرئ رشدا وهو الوقوف على الخبر وإصابة الصواب. خُبْراً علما بالشيء ، والخبير العالم بالخفايا. أَمْراً عظيما يقال أمر أمر ابن فلان إذ عظم واشتد. تُرْهِقْنِي لا تكلفني عسرا. نُكْراً أى : ينكره الشرع والعقل. يُضَيِّفُوهُما يعطوهما حق الضيافة. يَنْقَضَّ أى : يسقط بسرعة. فَأَقامَهُ فسواه وعدله.(2/428)
ج 2 ، ص : 428
لما سأل اليهود النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن قصة أصحاب الكهف ، وقالوا لقريش : إن أخبركم بها فهو نبي مرسل وإلا فلا. ذكر صلّى اللّه عليه وسلّم قصة موسى والخضر تنبيها على أن النبي لا يلزمه أن يكون عالما بجميع القصص والأخبار ، وقد يؤخر الفاضل عن المفضول وهذه القصة رويت في أحاديث كثيرة ، وأتمها وأكملها ما روى عن ابن عباس عن طريق سعيد بن جبير ، وهي ثابتة في الصحيحين.
قال ابن عباس ما معناه : حدثنا أبى بن كعب أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : إن موسى قام خطيبا في بنى إسرائيل فسئل : أى الناس أعلم ؟ فقال أنا فعتب اللّه عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى اللّه إليه ، إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك ، قال موسى يا رب فكيف لي به قال : تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو هناك ، فأخذ حوتا فجعله في مكتل. ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع ابن نون حتى أتيا صخرة ، ووضعا رءوسهما فناما ، واضطرب الحوت وسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا ، فصار المار عليه مثل الطلق وكأنه دخل في كوة الحائط.
فلما استيقظ نسى صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كانا من الغد ، قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا وتعبا فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة بالأمس فإنى نسيت الحوت ، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ، واتخذ طريقه في البحر اتخاذا أثار عجب الناس. نعم كان للحوت في البحر سرب ، ولموسى وفتاه عجب ومراد فتى موسى بقوله (أ رأيت ؟ ) تعجب موسى - عليه السلام - مما اعتراه هناك من النسيان.
فقال موسى : ذلك ما كنا نبغى ونطلب ، وهذا طلبنا ، فارتدا على آثارهما قاصين الأثر متتبعين سيرهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى.
فقال الخضر : وأنى بأرضك السلام ؟
قال موسى : أنا موسى. قال : موسى نبي إسرائيل ؟ قال : نعم. قال : أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معى صبرا إذ كيف تصبر على شيء يخالف ظاهره شريعتك. قال موسى : ستجدني إن شاء اللّه صابرا غير عاص لك أمرا.
فقال له الخضر : فإن اتبعتنى فلا تسألنى عن شيء وعن سره حتى أحدث لك منه كرا فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم(2/429)
ج 2 ، ص : 429
فحملوهم فلما ركبا في السفينة فوجئوا بقلع لوح من السفينة فقال له موسى : ما هذا قوم حملونا بغير أجر تعمد إلى سفينتهم فتخرقها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا عظيما في الجرم.
قال الخضر : ألم أقل إنك لن تستطيع صبرا على. قال موسى : لا تؤاخذني بنسياني ، ولا تكلفني أمرا عسيرا على.
ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فقتله. فقال موسى : أتقتل نفسا زاكية طيبة لم تأثم بغير نفس ، أى :
بغير قصاص لقد جئت شيئا منكرا. قال الخضر : ألم أقل لك إنك لن تستطيع صبرا على عملي وزيادة (لك) لزيادة التأنيب على عدم الصبر.
قال موسى : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني فقد أعذرتنى حيث خالفتك ثلاث مرات وهذا كلام النادم ندما شديدا.
فانطلقا حتى إذ أتيا أهل قرية وطلبوا منهم طعاما بأسلوب الضيافة فأبوا أن يعطوهما شيئا.
فوجدوا فيها جدارا ، أثر السقوط فيه ظاهرة حتى أشبه إرادة السقوط بسرعة هذا الجدار قد أقامه الخضر وعدله قال موسى منكرا : لو شئت لاتخذت عليه أجرا يكفى لطعامنا.
قال الخضر : هذا الإنكار هو فراق اتصالنا ونهاية اجتماعنا وسأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ، وأخبرك بالواقع الذي دفعنى إلى العمل وإن خالفت الظاهر الذي تعرفه يا موسى .. ومن هذه القصة نفهم ما يجب أن يكون عليه المتعلم بالنسبة إلى أستاذه وكيف يسافر ويتأدب معه إلى آخر ما فيها
.(2/430)
ج 2 ، ص : 431
جواز ارتكاب أخف الضررين [سورة الكهف (18) : الآيات 79 الى 82]
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)
المفردات :
لِمَساكِينَ المسكين : من يملك شيئا لا يكفيه ، والفقير أسوأ حالا منه وَراءَهُمْ مَلِكٌ أمامهم ملك والمراد بورائهم : أنه غائب عنهم وإن كان أمامهم ، ويصح أن يكون المراد خلفهم على الأصل يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً يكلفهما بسبب حبهما له تجاوزا عن حدود الدين ، وكفرا باللّه زَكاةً طهارة رُحْماً رحمة وحنانا يَبْلُغا أَشُدَّهُما أن يصلا إلى كمال عقلهما ورأيهما وتمام رجولتهما ..(2/431)
ج 2 ، ص : 432
وهذا تفسير للمسائل الثلاث التي حصلت من الخضر بحضور موسى ، عليهما السلام ، ولم يستطع صبرا عليهما لأنها تخالف شريعته في الظاهر.
ومن هنا نعرف أن الشرائع كلها مبنية على الظواهر العامة ، واللّه وحده هو الذي يتولى السرائر ، وهذا هوالرسول صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « أمرت أن أحكم بالظّاهر »
وفي حديث آخر يقوله لمن تعجل في الحكم وقتل من شهد الشهادتين :
« وهلّا شققت عن قلبه » !!
فموسى نبي صاحب شريعة يحكم بالظاهر على أن إفساد السفينة ، وقتل الغلام تصرف في حق الغير على جهة الإفساد من غير سبب ظاهر ، وإقامة الجدار فيه تحمل تعب ومشقة من غير سبب ظاهر ولهذا اعترض على صاحبه الخضر ، وكرر الاعتراض.
أما الخضر فعالم علمه اللّه من لدنه علما ببواطن الأمور ، وأوقفه على بعض الأسرار الخفية التي تبيح مخالفة الظاهر ، ولذا كانت مرتبة الخضر العلمية فوق مرتبة موسى في هذه المسائل ، والعلم ببواطن الأمور مرده إلى قوة النفس وصفائها وإشراقها والوحى هو الأستاذ الأول في ذلك ، ويظهر - واللّه أعلم - أن الخضر نبي.
وقد جرى الخضر على أن المسائل الثلاث فيها تعارض بين ضررين : ضرر بسيط ، وضرر جسيم ، ففعل الأول دفعا للثاني ، والذي علمه ذلك هو رب العالمين العليم الخبير وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء ، وليس لنا الآن أن ندعى العلم ببواطن الأمور التي تخالف الشرع ، فتلك مرتبة مردها إلى قوة النفس ونزول الوحى!! ولسنا من أهلها.
المعنى :
أما السفينة التي خرقتها. وأنكرت علىّ ذلك يا أخى. فقد كانت لمساكين محتاجين يعملون في البحر للتجارة وصيد الأسماك وهي مرتزقهم في الحياة ، وكان لهم ملك جبار ظالم نهم يأخذ لنفسه كل سفينة صالحة ، ويغتصبها غصبا من أهلها بدون الرجوع إلى حق أو قانون.
فأردت أن أعيبها عيبا بسيطا حتى لا يستولى عليها الملك الظالم ، وتبقى للمساكين فأنا لم أعمل سوءا ، وإنما ارتكبت أخف الضررين وأحسن الأمرين بالنسبة لهما.(2/432)
ج 2 ، ص : 433
وأما الغلام الذي قتلته ، واعترضت علىّ بأنى قتلت نفسا زكية طيبة بغير ذنب ولا جريرة فأنت معذور في هذا ، ولكن اعلم أنى قتلته لأن اللّه أطلعنى على مستقبله ، وأنه إذ بلغ فسيقع في المنكرات ، ويؤذى الأفراد والجماعات وسيتعصب له أبواه وهما مؤمنان ، ويدفعان شر الناس عنه ، ويكذبانهم ، وهذا يسبب لهما الفسوق والعصيان ويجرهما إلى الكفر والطغيان ، وهما المؤمنان الصالحان ، ولكن حب الولد غريزة.
فخشينا أن يكلفهما عسرا ، ويدفعهما إلى الطغيان والكفر فقتلته رجاء أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وطهارة ، وأقرب رحمة وعطفا بأبويه.
فأنا لم أعمل سوءا ، وإنما ارتكبت أخف الضررين فقتله ضرر وبقاؤه أضر ، ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
وأما الجدار الذي أقمته ، وتعبت فيه ، بلا سبب ظاهر فها هي ذي قصته : إنه لغلامين يتيمين في المدينة ، وتحته كنز لهما ، وكان أبوهما صالحا ، وصلاح الآباء ينفع الأبناء إلى حد محدود ، فأراد ربك الكريم الذي تعهدك وأنت رضيع وقد ألقتك أمك في البحر ، أراد ربك أن يحفظ لهما الكنز حتى يكبرا ، ويتقلدا أمرهما فأمرنى بإقامة الجدار إذ لو سقط لضاع الكنز ، فكان ذلك رحمة من اللّه وعطفا ، وهو الرحيم الودود.
وما فعلت ذلك كله عن أمرى واجتهادي ، ولكنه الوحى من اللّه والتوفيق منه إلى ذلك ، وذلك تأويل وتفسير ما لم تستطع عليه صبرا.
قصة ذي القرنين [سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 98]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92)
حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97)
قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)(2/433)
ج 2 ، ص : 434
المفردات :
ذِكْراً ما به تتذكرون وتتعظون مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً السبب في الأصل الحبل تم استعمل في كل ما يتوصل به إلى المقصود عَيْنٍ حَمِئَةٍ عين ذات طين(2/434)
ج 2 ، ص : 435
أسود نُكْراً أى : منكرا شديدا الْحُسْنى أى : الجنة سِتْراً أى :
حاجزا يسترهم سَدًّا هو ما يسد به خَرْجاً أى خراجا والخراج يشمل الضريبة وغيرها بِقُوَّةٍ بعدد قوى من الرجال الصناع رَدْماً الردم كالسد إلا أنه أكبر منه وأمتن ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ما جعلني فيه مكينا من كثرة المال واليسار زُبَرَ الْحَدِيدِ أى : قطع الحديد بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ هما جانبا الجبل قِطْراً أى : نحاسا مذابا أَنْ يَظْهَرُوهُ يعلوه ويصعدوا عليه نَقْباً أى :
خرقا دَكَّاءَ مستويا بالأرض.
هذا هو السؤال الثالث الذي سأله اليهود للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو بمكة بواسطة بعض المشركين ، وذو القرنين الذي سألوا عنه هل هو الإسكندر المقدونى الذي ظهر قبيل الميلاد ؟ بهذا قال بعض العلماء محتجا بأن هذا هو الذي بلغ ملكه أقصى المغرب وأقصى المشرق وأقصى الشمال. وقيل : ليس هو بل غيره من اليمن ، ويظهر - واللّه أعلم - أنه ليس هذا ولا ذاك وإنما هو عبد صالح أعطاه اللّه ملكا واسعا عريضا وأعطاه الحكمة والهيبة والعلم النافع ونحن لا نعرف من هؤلاء ؟ ولا في أى وقت ظهر ، وسياق القصة ومخاطبة اللّه له في أوله إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً وقوله أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً ، ويدل على أنه لم يكن الإسكندر المقدونى فإنه لا يمكن أن يصدر منه ما نسبه القرآن إليه مما يدل على التوحيد والإيمان بل كان عبدا صالحا كما قلنا وهل هو نبي أو خوطب على لسان نبي ، اللّه أعلم ، وعدم ثبوت ذلك تاريخيا ليس يضيرنا في شيء فالتاريخ إلى الآن لا يزال يثبت أشياء كانت مجهولة له والحفريات التي يقوم بها علماء الآثار شاهد صدق على ما قلناه ، على أن الذي ينم به القرآن من قصته أنه سيتلو علينا منه ذكرا لا خبرا تاريخيا!!
المعنى :
ويسألونك عن ذي القرنين ، ولم يكن يعرف العرب من أخباره شيئا أبدا ولكن اللّه - سبحانه - أمر نبيه بقوله : قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً وعبرا وموعظة إنا مكنا له في الأرض ، وجعلنا له قدرة ومكنة على التصرف فيها ، وآتيناه من أسباب كل شيء أراده في ملكه سببا وطريقا موصلا إليه فأتبع سببا يوصله إليه حتى بلغه.(2/435)
ج 2 ، ص : 436
وقد أراد بلاد المغرب فأتبع سببا يوصله إليها حتى بلغها ، وكذلك بلاد المشرق ، وبلاد الشمال التي فيها السد.
حتى إذا بلغ مغرب الشمس أى : نهاية الأرض من جهة الغرب وجد الشمس تغرب في عين حمئة ذات ماء وطين أسود ، ولعل ذا القرنين لما بلغ ساحل البحر من جهة المغرب وجد الشمس كذلك في نظره.
وإنى لأذكر لك رأى الإمام الرازي في كتابه الفخر « إنه ثبت بالدليل أن الأرض كرة وأن السماء محيطة بها ، ولا شك أن الشمس في الفلك ، وأيضا قال : ووجد عندها قوما ، ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير ممكن ، وأيضا الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض ؟ إذا ثبت هذا فنقول : تأويل قوله - تعالى - : فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ من وجوه ، الأول : لما بلغ موضعها في المغرب ، ولم يبق بعده شيء من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عين مظلمة وإن لم تكن كذلك في الحقيقة كما أن راكب البحريرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشط وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر. هذا هو التأويل الذي ذكره أبو على الجبائي في تفسيره انتهى كلام الفخر ص 511 ج 5 ثم ذكر تأويلات أخرى غير معقولة وغير مقبولة تمسك القلم عنها وأظن الرأى الذي ذكرناه عن الفخر يتفق مع نظريات العلم الحديث في كثير.
ووجد عندها قوما هاله كفرهم ، وكبر عليه بغيهم وظلمهم قد عاثوا في الأرض الفساد ، وسفكوا الدماء ، وأطاعوا أنفسهم وشياطينهم فاستخار اللّه في أمرهم فخيره ربه بين أمرين قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً إما أن تختار القتل والإبادة لهم جزاء كفرهم وطغيانهم ، وإما أن تمهلهم وتدعوهم بالحسنى فاختار ذو القرنين الإمهال والدعوة وقال : أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى والمعنى :
أنه أقام فيهم مدة ضرب فيها على يد الظالم ، ونصر المظلوم ، واقام العدل ، ودعا إلى اللّه.
وبدا له أن يتجه إلى المشرق فسار غازيا مجاهدا منصورا وأتبع لذلك سببا حتى بلغ مطلع الشمس ، وأقصى العمران من جهة المشرق ، وهناك وجد أقواما تطلع الشمس(2/436)
ج 2 ، ص : 437
عليهم ، وليس لهم ساتر يسترهم منها جبال أو بيوت أو شجر وهذا يتصور في البلاد الصحراوية. ولعلهم كانوا على نصيب كبير من الجهل والفوضى.
أمر ذي القرنين كذلك كما وصفناه لك ، وهو تعظيم له ولشأنه ، وقد أحطنا بما لديه من الجند وأسباب الظفر والملك خبرا وهذا يفيد كثرة ما لديه.
ثم بدا له أن يتجه إلى الشمال فأتبع سببا لذلك حتى وصل إلى بلاد بين جبلين يقال إنهما بين أرمينيا وأذربيجان ، وقيل غير ذلك .. ويسكن تلك البلاد أقواما لا تكاد تعرف لغتهم إلا بصعوبة ، وقد جاوروا يأجوج ومأجوج قبائل من سكان سهول سيبريا الشمالية وهم قوم مفسدون في الأرض على جانب من الفوضى والبدائية.
أما أصحاب السد فحينما رأوا ذا القرنين ، وما هو عليه من جاه وسلطان ، وما معه من جند وعتاد قالوا له : يا ذا القرنين ، إن يأجوج ومأجوج قوم مفسدون في الأرض ويسعون فيها بالفساد ، قوم كالوحوش أو أشد ؟ فهل نجعل لك جعلا على أن تجعل بيننا وبينهم سدّا حتى لا يصلوا إلينا بحال.
ولكن ذا القرنين رجل مطبوع على حب الخير ومفطور على الصالح من الأعمال ومع هذا قد مكنه اللّه في الأرض ، وأعطاه الكثير من المال والثروة فقد أجابهم إلى سؤالهم ، ورد عطاءهم قائلا : ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ثم طلب إليهم أن يعينوه بالرجال والعمال.
فحشدوا له الحديد والنحاس والخشب والوقود حتى وضعوه مكان السد ثم أوقدوا النار فيها وأفرغ على ذلك كله ذائب النحاس مرة بعد مرة حتى استوى بين الجبلين سد منيع.
فما استطاع يأجوج ومأجوج وقبيلهما أن يعلوه ويظهروا عليه لارتفاعه وملاسته وما استطاعوا له نقبا لقوته وسمكه ، وأراح اللّه منهم شعوبا كانت تتألم منهم كثيرا.
أما ذو القرنين فما إن رأى السد منيعا حصينا حتى هتف قائلا هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا.
ويمكننا أن نقول إن أقصى المشرق وأقصى المغرب وأقصى الشمال هذا بالنسبة للمعمورة في ذلك الوقت السحيق لا بالنسبة للمعروف في ذلك الوقت ، وليس لنا(2/437)
ج 2 ، ص : 438
أن نقول أين هذا السد الآن وأين مكانه ؟ فتلك أزمان بعيدة موغلة في البعد وقد قال اللّه فإذا جاء وعد ربي جعله أرضا مستوية فعدم وجوده دليل على أن الوعد جاء ، ولم يعد للسد وجود ، واللّه أعلم بكتابه.
عاقبة الكفر يوم القيامة [سورة الكهف (18) : الآيات 99 الى 106]
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103)
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106)
المفردات :
يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ماج الناس إذا دخل بعضهم في بعض حيارى كموج البحر والمراد أنهم يضطربون ويختلطون فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي غطاء الشيء ما يستره من جميع جوانبه ، والمراد بذكر اللّه آياته الكونية والقرآنية وذكرها تدبرها وتفهم معانيها نُزُلًا جعلنا جهنم لهم مهيأة كالنزل الذي يعد ويهيأ للضيف فَحَبِطَتْ أصل الحبوط انتفاخ بطن الدابة عند تغذيتها بنوع سام في الكلأ ثم هلاكها وما أشبه العمل(2/438)
ج 2 ، ص : 439
الضار الذي ينفخ صاحبه ثم يهلك به بالحبوط وَزْناً المراد لا نعبأ بهم ، ولا يكون لهم عندنا قدرة.
وهذا رجوع إلى الأساس الأول في السورة وهو إثبات البعث.
المعنى :
يقول الحق - تبارك وتعالى - : وتركنا عبادنا يوم يأتيهم وعدنا الذي وعدناهم بأنا ندك الجبال دكا ، وننسفها عن الأرض نسفا ، فنذرها قاعا صفصفا تركناهم يومئذ يموج بعضهم في بعض كموج البحر مضطربين مختلطين ، وذلك في أول أيام القيامة ، ونفخ في الصور النفخة الأولى فصعق من في السموات والأرض أى : مات وهلك حتى الملك الذي نفخ فيه ثم نفخ فيه أخرى - وهي المراد هنا - فإذا هم قيام ينظرون ماذا يحل بهم بدليل قوله - تعالى - فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً فإن الفاء تشعر بذلك والمعنى :
جمعنا الخلائق بعد تلاشى أبدانهم ومصيرها ترابا جمعا تاما على أكمل صفة وأبدع هيئة.
وعرضنا جهنم يومئذ على الكافرين عرضا ، لا يكون ذلك إلا بإبرازها وإظهارها حتى يشاهدوها ، وما فيها ، وفي هذا تنكيل بهم ، وإيلام لهم ، وأى إيلام ؟
هم الكافرون الذين كانت أعينهم القلبية في غطاء وساتر عن آياتي التي يشاهدها من له عقل رشيد ، وقلب سليم فيذكر اللّه بالتوحيد والتمجيد ، وآيات اللّه تشمل آياته الكونية والقرآنية.
وكانوا لا يستطيعون سمعا لكلام اللّه ، وكلام رسوله وصدق اللّه ، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ. وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ.
أكفروا فحسبوا أن يتخذوا عبادي كالملائكة وبعض الخلق من دوني أولياء ؟ فظنوا أنهم ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبير آيات اللّه ، وتعاميهم عن قبول الحق ؟ ! أكافيهم أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء ؟ ! لا يكفيهم هذا ولن ينفعهم كما ظنوا ، ولا غرابة في ذلك لأن اللّه أعد جهنم للكافرين وهيأها لهم كما يهيأ المنزل للضيف ، وفي هذا استهزاء بهم وأى استهزاء ؟(2/439)
ج 2 ، ص : 440
قل لهم يا محمد : هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وخاب فألهم فيها ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، الذين يعبدون اللّه على غير الحق فيدخلون في الدين ما ليس فيه ، وهم يحسبون أنهم على الحق وغيرهم على الباطل ، وهؤلاء هم التاركون لكتاب اللّه وسنة رسوله المفارقون للجماعة.
أولئك الذين كفروا بآيات ربهم التكوينية والتنزيلية وكفروا بلقائه فحبطت أعمالهم ، وبطلت وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً. [الفرقان 23]. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً [الغاشية 2 - 4] فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ، وليس لهم قدر ، ولا نعبأ بهم ، وذلك جزاؤهم جهنم بسبب كفرهم واتخاذهم آيات اللّه ورسله هزوا فلم يؤمنوا بها ... وهكذا يكون مآل كل خارج عن حدود الدين ..
عاقبة الإيمان والعمل الصالح [سورة الكهف (18) : الآيات 107 الى 108]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108)
المفردات :
الْفِرْدَوْسِ أعلى مكان في الجنة وأوسعه وأفضله ، وقال المبرد : الفردوس - فيما سمعت من العرب - الشجر الملتف ، والأغلب عليه أن يكون من العنب حِوَلًا أى : تحولا.
وهذا هو الإيمان المصحوب بالعمل الصالح ، وعاقبته بعد بيان الكفر والفسوق ونهايته لعل الناس يتعظون.
المعنى :
إن الذين آمنوا إيمانا عميقا بعد فهمهم الدين فهما روحيا خالصا وعملوا الصالحات الباقيات : هؤلاء كانت لهم جنات الفردوس التي هي أعلى مكان في الجنة ، وأرفع مرتبة(2/440)
ج 2 ، ص : 441
فيها قد أعدت لهم إعدادا كاملا وهيئت لهم كما يهيأ المنزل للنزيل والضيف ، حالة كونهم فيها خالدون ومقيمون إلى ما شاء اللّه وهم لا يبغون عنها تحويلا ، ولا تتجه نفوسهم ، إلى أحسن منها لأنها جمعت كل حسن ، وحازت كل وصف ، فتبارك اللّه أحسن الخالقين ، وذلك فضل ربك وعطاؤه.
كمال علمه واحاطته بكل شيء [سورة الكهف (18) : الآيات 109 الى 110]
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)
المفردات :
مِداداً المداد ما يكتب به. وسمى بذلك لإمداده الكاتب ، وفيه معنى زيادة ومجيء الشيء بعد الشيء لَنَفِدَ الْبَحْرُ لفرغ البحر وانتهى مَدَداً أى : زيادة.
سئل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن أصحاب الكهف والرقيم ، وعن الروح وعن ذي القرنين ، وأوحى اللّه إليه بالإجابة عن هذه الأسئلة التي قصد بها إحراجه وفي ختام السورة تعرض القرآن لبيان علمه - سبحانه - المحيط بكل شيء الذي لا يتناهى عند حد لبيان قدرته وتكوينه مع بيان موقف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأنه بشر أوحى إليه وهنا يتطامن الإنسان أمام علم اللّه وقدرته.
والمهم ليس كثرة السؤال وإنما العمل للقاء رب الأرباب مع البعد عن نواحي الإشراك.
المعنى :
قل لهم يا محمد : لو كان البحر مدادا يكتب به وكتبت كلمات علم اللّه به لنفد(2/441)
ج 2 ، ص : 442
البحر وفرغ ، ولم تنفد كلمات اللّه العليم الخبير العزيز الحكيم ، لو لم تجيء بمثله مددا وزيادة ، ولو جئنا بمثله مددا وزيادة ، إذ لا حصر لكلمات اللّه لأنها تابعة لمعلوماته وهي غير متناهية عند حد ، وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ « 1 » وتذييل هذه الآية التي تشبه آياتنا تماما بقوله تعالى عَزِيزٌ حَكِيمٌ يشير إلى أن المراد بكلمات اللّه كلماته التكوينية التي هي قوله للشيء كن فيكون أى التي بها الإيجاد والخلق ، وإيجاد اللّه وخلقه للأشياء لا حد له أبدا ولا نهاية له أصلا إذ هو الخالق دائم الإيجاد في الدنيا كما ترى ، وفي الآخرة ليتم نعيم المؤمنين ، وعذاب الكافرين الذين هم فيه خالدون ومداد البحر مهما كان فهو محدود ، وله نهاية واللّه أعلم بكتابه.
قل لهم : إنما أنا بشر مثلكم تماما لا علم لي بشيء أبدا لم أحضر عند معلم ، ولم أقرأ كتابا ولم أجلس لإنسان يهديني لهذا الذي أجبتكم به ، ولكن أوحى إلى ، وعلمني ربي من لدنه علما ، ومما أوحى إلى أنما إلهكم إله واحد ، لا شريك له فانظروا إلى مصيركم! فمن كان يرجوا لقاء ربه ويحبه ويؤمن به حقا فليعمل عملا صالحا ينفعه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم ، وعليه ألا يشرك بعبادة ربه أحدا كائنا ما كان.
___________
(1) سورة لقمان الآية 27.(2/442)
ج 2 ، ص : 443
سورة مريم
وهي مكية كلها على القول الصحيح ، نزلت بعد فاطر ، وعدد آياتها ثمان وتسعون آية. وتهدف إلى تقرير مبدأ التوحيد للّه ونفى الشريك والولد عنه وإثبات البعث ، وتتخذ القصص مادة لذلك ، ثم تعرض لبعض المشاهد يوم القيامة ، ومناقشة المنكرين للبعث.
قصة زكريا [سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9)
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)(2/443)
ج 2 ، ص : 444
المفردات :
كهيعص تقرأ هكذا : كاف. ها. يا. عاين. صاد. مع إدغام نون عاين في الصاد خَفِيًّا لا جهر فيه وَهَنَ الْعَظْمُ يقال وهن العظيم يهن إذا ضعف اشْتَعَلَ المراد انتشر انتشارا يشبه اشتعال النار الْمَوالِيَ هم في هذا الموضع الأقارب الذين يرثون من بنى العم ونحوهم.
مهلا بنى عمنا موالينا لا تنشروا بيننا ما كان مدفونا
عاقِراً المرأة التي لا تلد رَضِيًّا مرضيا عندك ، ومرضيا عنه في الدنيا وراضيا بقضاء اللّه وقدره سَمِيًّا قيل لم نسم أحدا قبله بيحيى ، وقيل لم نجعل له مثلا ولا نظيرا مأخوذ هذا المعنى من المساماة والسمو عِتِيًّا يقال عتا الشيخ يعتو عتيا إذا انتهى سنه وكبر ، وشيخ عاتا إذا صار إلى حال اليبس وجفاف العظم والعصب.
المعنى :
لقد افتتحت السورة بهذه الأحرف الخمسة المقطعة. واللّه أعلم بها. هذا ذكر رحمة اللّه بعبده زكريا ، وكان نبيا عظيما من أنبياء بني إسرائيل ، وفي صحيح البخاري :
كان نجارا يأكل من عمل يده ، والمراد بذكر الرحمة بلوغها وإصابتها ، وإجابته لدعائه وقت أن دعا ربه نداء خفيا مستترا لأنه أبعد عن الرياء.
وفيه طلب الولد وهو عجوز ، وقد يلام على ذلك من قومه ، وعلى العموم فالرحمة الربانية تعبق رائحتها في جو هذه السورة.
قال زكريا : يا رب إنى وهن العظم منى ، وضعفت وخارت قواي ، وذكر العظم لأنه عمود البدن وقوامه وأساس بنائه فإذا وهن تداعى البدن ، وتساقطت قوته ،(2/444)
ج 2 ، ص : 445
واشتعل الرأس منى شيبا بمعنى اضطرم المشيب في سواد رأسى ، وانتشر بياض الشعر في سواده كما ينتشر شعاع النار في الهشيم فيضطرم لهيبا ، وهذا التركيب فيه استعارة من أبدع الاستعارات وأحسنها ، ولم أكن بدعائك يا ربي شقيا وخائبا في وقت من الأوقات بل كلما دعوتك استجبت لي ، وهذا من أكبر النعم عليه.
نرى زكريا - عليه السلام - جمع في دعائه بين إظهار الخضوع والذلة والضعف ثم ذكر النعم عليه من ربه فيستحب لمن يدعو أن يفعل مثله.
وإنى خفت الموالي من ورائي خفت على عصبتي وأبناء عمى من أن يضيعوا الدين فطلبت ولدا يقوم عليه ويحرسه ، ولا يعقل أنه خاف منهم أن يرثوه فهذا حال لا يليق بأمثاله.
وكانت امرأته - أخت حنة أم مريم - عاقرا لا تلد وإذا كان الأمر كذلك فهب لي من لدنك وليا يرثني ، ويرث من آل يعقوب النبوة والعلم والمحافظة على الدين والدعوة إليه ، واجعله يا رب راضيا مرضيا عنه في الدنيا والآخرة وقد أجيب إلى ما سأل في دعائه فقيل له :
يا زكريا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ سورة آل عمران الآيتان 38 و39] .. لم يجعل له من قبل سميا فلم يسم أحد قبله بهذا الاسم ، وقيل لم نجعل له سميا وشبيها وهذا المعنى يؤيده قول اللّه فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [سورة مريم آية 65] أى شبيها.
وهذا زكريا : وقد فرح فرحا شديدا حين أجيب إلى سؤاله ، يتعجب ويسأله عن كيفية الولادة مع أن امرأته عاقر لا تلد ، وهو كبير في السن وضعيف في البنية ، وليس سؤال استبعاد على القدرة.
قال رب كيف يكون لي ولد ؟ !! وكانت امرأتى عاقرا ، وقد بلغت من الكبر عتيا.
قال اللّه - سبحانه - أو قال الملك المبلغ : الأمر كذلك من خلق غلام منكما وأنتما على حالكما.(2/445)
ج 2 ، ص : 446
قال ربك : هو علىّ هين أى : خلق غلام منكما وأنتما بهذا الوضع علىّ هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا قبل خلقك ، ولا غرابة في ذلك فهذا آدم أبو البشر خلق ولم يك شيئا.
قال : رب اجعل لي آية تدل على حمل امرأتى قال : آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال وأنت سوىّ الخلقة ليس بك مانع يمنعك من الكلام ، قال المفسرون : إن نفسه تاقت إلى سرعة الأمر فسأل اللّه آية يستدل بها على قرب ما من به عليه ، وقد أجيب ليعلم وقت العلوق.
فخرج على قومه من المحراب « وهو مصلاه واشتقاقه من الحرب كأن صاحبه يحارب النفس والشيطان » فأوحى إليهم أن سبحوا وصلوا في الصباح والمساء. فتلك أوقات يقبل اللّه فيها على عباده لأنهم يقبلون عليه وقد هدأ الكون وسكن الناس وصفت النفوس ، وخلت من مشاغل الدنيا وضجيج الحياة.
يحيى عليه السلام [سورة مريم (19) : الآيات 12 الى 15]
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
المفردات :
بِقُوَّةٍ بجد ونشاط الْحُكْمَ الحكمة وَحَناناً الحنان المحبة في شفقة وميل مأخوذ من حنين الناقة على ولدها وَزَكاةً وطهارة ونماء وبركة وَبَرًّا
أى : بارّا محسنا لهما.(2/446)
ج 2 ، ص : 447
المعنى :
ولد لزكريا مولود فبلغ المبلغ الذي يجوز أن يخاطب فيه فقال اللّه له : يا يحيى خذ التوراة ، وقم بكل ما فيها كما ينبغي. فأقدم على الأمر فامتثله ، وعلى النهى فابتعد عنه كل ذلك بجد ونشاط ، وعزيمة واجتهاد.
وآتيناه الحكم أى الحكمة وفهم الكتاب وهو التوراة التي يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأخبار ، وهو صبي حديث السن أما تحديد سنه وقتئذ فاللّه أعلم به.
آتيناه الحكم ، وآتيناه حنانا يتحنن به على الناس ، ويتعطف به عليهم من عندنا ، وزكاة وبركة له ، وطهرا ونماء فيه.
وكان يحيى تقيا متجنبا المعاصي مطيعا للّه وكان بارا بوالديه محسنا لهما ، ولم يكن في وقت من الأوقات متكبرا ولا عاصيا لوالديه أو للّه.
وسلام عليه وأمان يوم ولد ، ويوم يموت ، ويوم يبعث حيا ، وهذه الأوقات الثلاثة أوقات شديدة على الإنسان ، ما أحوجه فيها إلى السلام والأمان من رب الأرباب.
انظروا يا شباب إلى خلق شباب أهل النبوة ، والبيوت الطاهرة ، والسلالة الشريفة خذوا يحيى في شبابه مثلا لكم تقتدون به ، حكمة وعطفا ، وزكاة وطهرا وشفقة وتقوى وبرا بالوالدين وإحسانا ، وما كان جبارا في الأرض ، ولا مفسدا وما كان عاصيا ولا مذنبا فسلام عليه وعلى والديه ، ورحمة اللّه وبركاته إنها ذرية بعضها من بعض.
قصة ولادة عيسى ابن مريم [سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 33]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)
وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)(2/447)
ج 2 ، ص : 448(2/448)
ج 2 ، ص : 449
المفردات :
انْتَبَذَتْ
النبد الرح والرمي والرماد ابتعدت وتنحت عن أهلها مَكاناً شَرْقِيًّا
مكانا جهة الشرق حِجاباً
ساترا رُوحَنا
المراد جبريل وهو روح القدس ، والدين يحيا به ويوجبه من الكتب سَوِيًّا
مستوى الخلقة نامها بَغِيًّا المرأة البغي هي الزانية التي تبغى الرجال مَقْضِيًّا محكوما به نافذا قَصِيًّا بعيدا عن الأعين فَأَجاءَهَا اضطرها الْمَخاضُ مقدمة الولادة إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ وهو ساقها اليابس نَسْياً النسى الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى مَنْسِيًّا وقع عليه النسيان بالفعل سَرِيًّا قيل هو النهر كان جافا فامتلأ ماء ، وقيل : هو عيسى والسرى الشريف العظيم من القوم جَنِيًّا أى مجنيا في حينه وَقَرِّي عَيْناً المراد اهدئى ولا تحزني ، والمسرور بارد القلب ساكنه فالمادة مأخوذة من القرى أى البرد صَوْماً سكوتا مُبارَكاً ناميا في الخير ثابتا على الحق الْمَهْدِ شيء يتخذ لتنويم الصبى.
المعنى :
واذكر يا محمد في القرآن مريم البتول وخبرها الصحيح الذي يتضمن ولادتها لعيسى ابنها عبد اللّه ورسوله إلى بني إسرائيل ، ونفى الولد عن اللّه - سبحانه وتعالى - .
نشأت مريم بنت عمران في بيت كريم ونسب شريف ، ونشأت عفيفة طاهرة فلما شبت وترعرعت تحت عناية اللّه ورعايته ، وبلغت مبلغ النساء كان منها أن انتبذت أهلها ، وجلست وحدها في خلوة للعبادة أو لقضاء بعض حاجاتها وكان ذلك في مكان جهة الشرق (و من هنا اتخذ المسيحيون قبلتهم ناحية الشرق).
وبينما هي في خلوتها إذ بجبريل روح القدس يتمثل لها بشرا سويا تام الخلقة مستوى الخلق لم ينقص منه شيء في رجولته.(2/449)
ج 2 ، ص : 450
فلما رأته على هذا الوضع قد اخترق عليها حجابها. ظنت به سوءا أو أنه يريد بها شرا فقالت له إنى أعوذ بالرحمن منك وألتجئ إلى اللّه أن يقيني شرك ، ما كنت يا هذا رجلا نقيا.
وهذا دليل على عفافها وورعها حيث تعوذت باللّه من تلك الصورة الجميلة الفاتنة وكان تمثيله بتلك الصورة ابتلاء من اللّه لها وسبرا لعفتها. قال جبريل لها : إنما أنا رسول ربك الذي تستعيذين به ، جئت لأهب لك غلاما زكيا طاهرا.
قالت مريم : أنى يكون لي غلام ؟ والحال أنى لم يمسني بشر في زواج شرعي ولم أك بغيا من البغايا!! وسؤالها هذا لم يكن عن استبعاد لقدرة اللّه ، ولكن أرادت متعجبة كيف يكون هذا الولد ؟ هل هو من قبل زوج تتزوجه في المستقبل أم يخلقه اللّه ابتداء ؟
قال الملك : الأمر كذلك (و المشار إليه أنى يكون لي غلام ؟ ) قال اللّه : هو على هين وقد خلقناه على هذا الوضع لنجعله آية للناس حيث يستدلون بخلقه على كمال القدرة ، وتمام العظمة للّه - سبحانه وتعالى - .
وكان رحمة منا للخلق ، وهكذا كل نبي يهدى الناس إلى الخير ، ويرشدهم إلى الصراط المستقيم ، وكان ذلك المذكور أمرا مقضيا ومقدرا من اللّه.
اطمأنت مريم إلى كلامه فدنا منها ، ونفخ في جيب درعها أى نفخ في فتحة قميصها من أعلى ، ووصلت النفخة إلى بطنها ، وتنحت عن أهلها قاصدة مكانا قصيا بعيدا فألجأها المخاض متجهة إلى جذع النخلة لتستر به ، وتعتمد عليه عند الولادة قالت :
يا ليتني مت قبل هذا الحادث ، وكنت شيئا منسيا ، تراها تمنت الموت خوفا من أن يظن بها السوء في دينها ، أو يقع أحد بسبها في البهتان.
فناداها جبريل من تحتها إذا كانت هي على مكان مرتفع وقيل الذي ناداها هو عيسى الوليد ، ناداها بألا تحزني ولا تتألمى.
فهذه آية اللّه الدالة على أن الأمر خارق للعادة ، وأن للّه في خلقه شؤونا. فها هو ذا قد جعل لك ربك تحتك نهرا يفيض بالماء بعد أن كان جافا ، وحركي جذع النخلة(2/450)
ج 2 ، ص : 451
اليابسة تتساقط عليك رطبا جنيا شهيا ، أليست هذه أمارات الرضا ؟ ودليلا على أن اللّه معك ولن ينساك يا مريم ، فكلي من الرطب واشربى من النهر وقرى عينا ، واهدئى بالا ، واطمأني نفسا فاللّه معك ، وحافظك من الناس ، فإن رأيت من الناس أحدا فيه أمارة الاعتراض عليك فلا تكلميه ، وقولي : إنى نذرت للرحمن صوما وسكوتا عن الكلام فلن أكلم اليوم إنسانا بل سألكم الملائكة ، وأناجى ربي - سبحانه وتعالى - .
ولما اطمأنت مريم - عليها السلام - بما رأت من الآيات ، وفرغت من نفاسها أتت بعيسى تحمله إلى أهل بيتها ، فلما رأوا الولد معها حزنوا ، وكانوا أهل بيت صالحين إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ [سورة آل عمران الآيتان 33 و34].
قالوا منكرين : يا مريم لقد جئت شيئا فريا وعجيبا ونادرا في بيئتنا وبيتنا فليس هذا من عوائدنا وعادتنا .. يا مريم ما كان أبوك امرأ سوء بل كان رجلا صالحا ، وعبدا قانتا ، وما كانت أمك بغيا فمن أين يأتى لك هذا السوء ؟ ! وفي هذا دليل على أثر الوراثة والبيئة.
فأشارت إلى الوليد الصغير أن تكلم قالوا متعجبين منكرين ذلك : كيف نكلم من كان في المهد صبيا ؟ ! اعتبروا هذا استهزاء بهم وجناية زيادة على جنايتها الأولى.
ولكن الوليد الصغير لم يكن كأمثاله نشأ من أب وأم بل خلقه اللّه آية عجيبة وخلقة غريبة يؤمن بسببه أناس ، ويكفر آخرون.
قال إنى عبد اللّه - ولست ولدا للّه ولا جزءا منه بلى أنا بشر وعبد له - آتاني الكتاب وهو الإنجيل. وجعلني نبيا إليكم ، وجعلني مباركا لي في كل شيء ، وثابتا على دين الحق ، وأوصانى بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ، وجعلني بارا بوالدتي فقط حيث لم يكن له أب ، ولم يجعلني ربي جبارا عنيدا وشقيا مطرودا.
والسلام من اللّه العلى القدير ، علىّ يوم ولدت من غير أب ، ويوم أموت ، ويوم أبعث حيا.(2/451)
ج 2 ، ص : 452
القول الحق في عيسى عليه السلام [سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 40]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)
المفردات :
يَمْتَرُونَ يشكون ويختلفون فَوَيْلٌ أى : فهلاك وعذاب يَوْمَ الْحَسْرَةِ هو يوم القيامة.
المعنى :
ذلك الذي مضى وصفه. والكلام عليه ، والحكاية عنه في قوله : إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً إلخ الآيات هو عيسى ابن مريم عبد اللّه ورسوله إلى بني إسرائيل وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [سورة النساء آية 171].
هذا هو الحق لا مرية فيه ولا شك إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ(2/452)
ج 2 ، ص : 453
مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
[سورة آل عمران آية 61].
هذا هو القول الحق ، والحكم العدل ، والقول الصدق الذي فيه يمترون ويختلفون ويتشككون ، نعم هو القول الفاصل الذي أطاح بأقوال اليهود في عيسى وأمه ، وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً [سورة النساء آية 56]. وأطاح بأقوال النصارى الذين قالوا : ابن اللّه أو ثالث ثلاثة ، أو هو اللّه .. يا أهل الكتاب لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [سورة النساء آية 171].
ولم تتكلم الأناجيل عن عيسى وهو صبي ، وكيف كانت ولادته ، ولم تذكر حادثة النخلة ، ولا نذرها الصوم ، ولا تأنيب قومها لها ، ولا كلامه في المهد ظنا منهم أن ذلك يشين عيسى ، وينقص قدره وقدر أمه ، والقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه المنزل من عند اللّه ، والمهيمن على كتب أهل الكتاب وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ هو الذي ذكر كل هذا.
ولا غرابة إذا لم تذكر الكتب السابقة خصوصا الأناجيل ذلك عن عيسى فاللّه يقول : فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ.
نعم إنهم يمترون فيه ويختلفون إلى الآن. ولقد جمع الإمبراطور قسطنطين مجمعا من الأساقفة فاختلفوا في عيسى اختلافا كثيرا وقالت كل فرقة قولا ، فبعضهم قال : إنه الإله. وقالت الأخرى : إنه ثالث ثلاثة. وقالت فئة أخرى : إنه ابن الإله. وقال بعضهم : إنه عبد اللّه ورسوله وكلمته وروح منه.
ترى أن بعض النصارى نظر بعقله القاصر إلى السيد المسيح وأنه جاء من غير أب وخاطب ربه كثيرا بقوله : يا أبت كما حكى الإنجيل لك فقالوا هو ابن اللّه وما علم أن اللّه قادر على كل شيء ، وأننا نحكم بمقتضى الأسباب التي نعرفها أنه لا ولد من غير أب ولكن اللّه - سبحانه - الذي خلق الأسباب والمسببات قادر على كل شيء - سبحانه وتعالى - عما يشركون! ما كان اللّه أن يتخذ ولدا سبحانه. وكيف يتخذ ولدا ؟ وهو الغنى عن الولد والوالد والأخ والصاحب إذ له السموات والأرض الحي الدائم الباقي بعد فناء الخلق جميعا ، وهو القادر على كل شيء إذا أراد نفذ المراد ، وإذا(2/453)
ج 2 ، ص : 454
أراد شيئا حصل بدون إمهال أو تأجيل كالأمر إذا أمر بشيء وقال له : كن فيكون الشيء قطعا.
ومن كان هذا وصفه أيشبه المخلوقات فيكون له ولد ويحتاج إلى شيء حتى يكون له ولد وهل من المخلوقات شيء يماثله حتى يكون إله أو جزء إله. تعالى اللّه عما يشركون!! وها هو ذا عيسى - عليه السلام - نفسه يقول : أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وكما حكى إنجيل متى عنه في الإصحاح الرابع آية 10 قال له يسوع : اذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد ، وإياه وحده تعبد ، إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.
أما أهل الكتاب فاختلفوا فيما بينهم كما رأيت بين إفراط وتفريط في شأن عيسى وأمه ولم تنجح إلا طائفة آمنت بعيسى على أنه نبي مرسل ، وهو بشر خلق من غير أب ليكون آية للناس.
أما غيرها فويل وهلاك للكافرين منهم الذين ألهوا المسيح أو ذموه ورموا أمه بالزنى ويل لهم حيث يشهدون يوم القيامة ذلك اليوم العظيم الهول.
ما أسمعهم وما أبصرهم يوم يأتون ، وقد كانوا قبل ذلك لا يسمعون ولكن فات الأوان قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [سورة المؤمنون الآيتان 99 و100].
وأنذرهم يا محمد يوم الحسرة وقد قضى الأمر وهم غافلون لا يؤمنون ، وأعلمهم أن اللّه يرث الأرض ومن عليها ، وإليه يرجع الأمر كله.
قصة إبراهيم مع أبيه [سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 50]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45)
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)(2/454)
ج 2 ، ص : 455
المفردات :
صِدِّيقاً مبالغا في الصدق والتصديق سَوِيًّا مستقيما عَصِيًّا كثير العصيان وَلِيًّا ناصرا وقرينا له حَفِيًّا حفى به حفاة فهو حفى به أى : مبالغ في إكرامه وإلطافه والعناية به مَلِيًّا أى : زمنا طويلا لِسانَ صِدْقٍ المراد ثناء حسنا وسيرة عطرة.
لقد مضت قصة عيسى التي نفى فيها القرآن أكذوبة الولد ، وها هي ذي قصة إبراهيم أبو إسماعيل الذي ينتسب إليه العرب ويدعون أنهم على دينه وأنهم سدنة بيته ، وفيها نفى الشرك ودحض عبادة الأوثان.(2/455)
ج 2 ، ص : 456
المعنى :
واذكر يا محمد في الكتاب المنزل عليك إبراهيم الخليل ، واتل عليهم نبأه وقت أن جادل أباه آزر ، وقال له. يا أبت لم تعبد حجرا لا يسمع ، ولا يبصر ، ولا يغنى عنك شيئا من الغناء ؟ !! وانظر إلى أبينا الخليل إبراهيم وهو يخاطب أباه متلطفا بقوله : يا أبت!! ويستفهم منه عن السر في تلك العبادة فإن المعبود لو كان حيا يسمع ويبصر وينفع ويضر في شيء ، وهو مع ذلك مخلوق لكانت عبادته دليلا على قصر العقل وسوء الرأى وفساد الطبع .. ولو كان من أشرف الخلق كالأنبياء والملائكة وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وذلك أن العبادة غاية في التعظيم ، ومنتهى التقديس ولا يكون ذلك لمخلوق أبدا أيا كان وضعه. فما بالك لو كان المعبود حجرا لا يسمع عبادتك ، ولا يبصر قربانك ، ولا يغنى عنك شيئا من الغناء ؟ ! وفي الاستفهام عن السبب لفت للنظر عميق يبعث على الشك والبحث.
يا أبت إنى قد جاءني من العلم شيء لم يأتك فاتبعنى أهدك الصراط المستقيم ، والسبيل الحق ، وانظر إلى الخليل - صلوات اللّه عليه - لم يصف أباه بالجهل ، ولا نفسه بالعلم الكامل فإن ذلك ينفر الناس ، ويمنع الجليس من الائتناس ، بل قال إنى أعطيت شيئا من العلم قليلا ، ولم تعطه ، ولا ضير عليك في شيء إن اتبعت ابنك حتى يهديك إلى الصراط المستقيم ، يا أبت هب أننا سائران في الطريق وأنا على علم به أفلا يكون من الخير أن تتبعني حتى تصل إلى بر السلامة ، وأنت أبى على كل حال وأنا ابنك البار .. وهذا جذب لأبيه ليصل إلى الحق بطرق سديدة ، يشككه في اعتقاده ثم يلمح له بأن الخير في اتباعه وترك ما هو عليه.
وانظر إلى أبى الأنبياء وهو يقول لأبيه : يا أبت لا تعبد الشيطان ، إن الشيطان كان للرحمن كثير العصيان.
آزر أبو إبراهيم كان يعبد الأصنام ، وما كان يعبد الشيطان ، إلا أن عبادتها لا يمكن أن تصدر عن عقل أو عاطفة أو غريزة ، ولكنها تنشأ عن وسوسة الشيطان وإغوائه فكانت عبادتها عبادة له ، وطاعة لإغوائه! والشيطان هو ما تعرفون ، عدو أبيكم آدم ،(2/456)
ج 2 ، ص : 457
وعدوكم يا بنى آدم جميعا ، لا يريد لكم إلا كل شر ، ولا يزين لكم إلا كل إثم وبهتان وهو قد عصى ربكم في السجود لآدم ، وعصاه في كل ما أمره به ، أمن الخير أن يطاع هذا الشيطان ، ويسمع لإغوائه في عبادة الأصنام ، وترك عبادة الرحمن ؟ ! وها هو ذا إبراهيم - عليه السلام - يحذر أباه سوء العاقبة ، وينذره بالشر الوبيل فيقول : يا أبت إنى أخاف أن يصيبك عذاب من الرحمن ربك وخالقك فتكون بذلك للشيطان قرينا في النار ، وتكون بهذا وليا له وناصرا.
وفي ذكر الخوف من العذاب والمس له دون الإصابة به ، وتنكير العذاب المفيد للتقليل أدب جم ، وتلطف كريم ليس غريبا على إبراهيم خليل الرحمن.
أما إجابة الكافر الغليظ القلب الجاف فكانت على صورة بشعة حيث قال : أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ؟ لئن لم تنته عن تعرضك للآلهة لأرجمنك وأشتمنك فاحذرنى واهجرني زمنا طويلا ، وابتعد عنى وأنت سالم البدن والعرض.
انظر إلى آزر ، وقد قابل استعطاف إبراهيم - عليه السلام - وتلطفه في إرشاده بالفظاظة حيث ناداه باسمه بدل قوله : يا بنى وبدأ الكلام بقوله : أراغب ، للإشارة إلى أن الرغبة عن الآلهة أمر يهمه أكثر من غيره.
وصدره بهمزة الاستفهام المفيدة للإنكار والتعجب وجعلها مسلطة على الرغبة للإشارة إلى أن نفس الرغبة مما ينبغي أن تكون ، وأن الآلهة ما ينبغي أن يرغب عنها عاقل ، ثم بعد هذا هدده بالرجم باللسان أو بالحجارة إن لم يكف عن التعرض لذكر الآلهة بالسوء.
قال إبراهيم إزاء ذلك : مقالة المؤمن الكامل سلام عليك سلام توديع وترك لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [سورة القصص الآية 55] ومع هذا كله فأنت أبى سأستغفر لك ربي ، وأدعو لك بالهداية والتوفيق ، إنه كان بي حفيا بارا لطيفا ، وهو لن يضيعني في سفري ، ولن ينساني أبدا ، وقد كان كذلك.
استغفار إبراهيم لأبيه : الثابت أن إبراهيم - عليه السلام - استغفر لأبيه مدة طويلة قيل حتى مات وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [سورة الشعراء آية 86] ، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ [سورة إبراهيم آية 41].(2/457)
ج 2 ، ص : 458
وقد استغفر المسلمون لقرابتهم من المشركين في ابتداء الإسلام اقتداء بإبراهيم - عليه السلام - حتى أنزل للّه ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [سورة التوبة الآيتان 113 و114] قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ [الممتحنة 4] فامتنع المسلمون بعد نزول هذه الآيات عن الاستغفار للكفار على أن الاستغفار لهم وهم أحياء بمعنى طلب الهداية والتوفيق لهم في حياتهم شيء لا غبار عليه كما مر في تفسير آيات التوبة ، والممنوع هو الاستغفار لهم بعد موتهم .. وعلى ذلك فقول بعض الناس : المرحوم فلان وهو ممن نعلم أنه مات على غير الإسلام ليس بسديد.
فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون اللّه أكمل عليه النعمة ، وألبسه ثوب العافية ووهب له إسحاق وأبيه يعقوب ، وجعل كل واحد منهما نبيا ، ووهبنا لهم بعض رحمتنا وجعلنا لهم ثناء صادقا وسيرة طيبة ، فكل الأديان والأنبياء من سلالتهما ، وكل الأديان تحترم إبراهيم ، وإسحاق ويعقوب وذريتهم.
والعرب يدعون أنهم على دين إبراهيم ، وهم من سلالته ، فذكرت لهم قصته وموقفه من أبيه وقومه ليعتبروا ويتعظوا.
ذكر بعض الأنبياء عليهم السلام [سورة مريم (19) : الآيات 51 الى 58]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58)(2/458)
ج 2 ، ص : 459
المفردات :
مُخْلَصاً أى : أخلصه اللّه واختاره لنفسه ، وقرئ مخلصا أى : أخلص في العبادة وابتعد عن الشرك والرياء رَسُولًا هو النبي صاحب الشريعة والكتاب.
والنبي من ينبئ عن اللّه وله وحى وليس له كتاب كيوشع مثلا ويحيى وزكريا فكل رسول نبي ولا عكس نَجِيًّا أى : مناجيا ومصاحبا.
وهذه سلالة إبراهيم وذريته ، فخذوهم مثلا عليا لكم أيها المسلمون.
المعنى :
واذكر يا محمد في الكتاب ، واتل عليهم نبأ موسى - عليه السلام - ، إنه كان مخلصا في عبادته بعيدا عن الرياء والسمعة. والشرك بكافة أنواعه ، وقد أخلصه اللّه لنفسه واجتباه وخلص اللّه نفسه من الدنس وحب الدنيا ، وكان رسولا نبيا ، وناداه ربه من جانب الجبل المسمى بالطور الجانب ذي اليمن والبركة أو الجانب الواقع في الجهة اليمنى لموسى - عليه السلام - ، وقربناه تقريب تشريف حالة كونه مناجيا للحضرة العلية ، تراه مثل حاله بحال من قربه الملك لمناجاته واصطفاه لمصاحبته ، وللّه المثل الأعلى ، وقيل قربه تقريب مكان حتى سمع صريف الأقلام ، وكلام الكبير المتعال ، ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون ، وجعلناه نبيا كما طلب من المولى وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي « 1 » ، قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ « 2 » قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى « 3 » .
___________
(1) طه الآيتان 29 و30. -
(2) الشعراء الآيتان 12 و13. -
(3) طه الآية 36.(2/459)
ج 2 ، ص : 460
واذكر في الكتاب إسماعيل بن إبراهيم وأبو النبي الكريم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم إنه كان صادق الوعد نعم الصادق للوعد وفي وعده سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً [سورة الكهف آية 69] وكل الأنبياء متصفون بصدق الوعد إلا أنها صفة بارزة في إسماعيل وصدق اللّه وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [سورة الصافات آية 164] وكان إسماعيل رسولا نبيا ، وكان يأمر أهله وقومه بالصلاة والزكاة التي كانت مفروضة عليه عند ربه مرضيا عليه.
واذكر في القرآن أو في هذه السورة إدريس إنه كان مبالغا في الصدق وكان نبيا ورفعه اللّه مكانا عليا ، رفعه اللّه رفع مكانة وتشريف وهو الظاهر ، وقيل .. رفع مكان أى في السماء كما نطقت السنة الكريمة واللّه أعلم.
أولئك - يا محمد - الأنبياء الذين مر ذكرهم عليك في هذه السورة وعددهم عشرة أولهم زكريا وآخرهم إدريس عليهم السلام جميعا.
أولئك الذي أنعم اللّه عليهم واختارهم واجتباهم للنبوة والرسالة وكانوا من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ، ومن ذرية إبراهيم - عليه السلام - ، ومن ذرية إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق ، وممن هديناهم إلى الخير ، واجتبيناهم ، فهم خيار من خيار من خيار ، وهم شجرة طيبة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، سلالة كريمة ، وذرية بعضها من بعض ، واللّه فضلهم خلقا وأصلا ونسبا ، هؤلاء إذا تتلى عليهم آيات الرحمن المنزلة عليهم سقطوا ساجدين باكين بقلوبهم وعيونهم ، وهكذا من خالط قلبه حب الإيمان وأشرب في قلوبهم حب القرآن ..
عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا » .
وعن صالح المري - رضي اللّه عنه - « قرأت القرآن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في المنام فقال لي هذه القراءة يا صالح فأين البكاء » ؟
ولبعض آيات القرآن إذا قرأتها أو سمعتها سجدة مستحبة تسمى سجدة التلاوة وفي المصحف علامات لها ، ويستحب أن تدعو اللّه وأنت ساجد فيها فتقول في آية السجدة التي في سورة السجدة. اللهم اجعلنى من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرين عن أمرك .. وفي سجدة الإسراء : اللهم اجعلنى من الباكين إليك الخاشعين لك! وفي سجدة سورة مريم أى : في هذه الآيات تقول.
اللهم اجعلنى من عبادك المنعم عليهم المهتدين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك هذ بعض ما ورد ولا مانع من أن تدعو بما تحب مع الخشوع والخضوع للّه منزل القرآن الكريم.(2/460)
ج 2 ، ص : 461
من آثار بعثة الرسل عليهم السلام [سورة مريم (19) : الآيات 59 الى 63]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)
المفردات :
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ جاء عقبهم خَلْفٌ وفي اللغة يقال لعقب الخير خلف ولعقب الشر خلف غَيًّا الغي الشر ، والخير هو للرشاد ، قال المرقش شاعر عربي قديم.
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغولا يعدم على الغي لائما
مَأْتِيًّا مفعولا منجزا لَغْواً اللغو فضول الكلام الذي يلغى ولا طائل تحته.
هذه نهاية الناس بعد ما ترسل لهم الرسل مبشرين ومنذرين.
المعنى :
فخلف من بعد الرسل والأنبياء خلف ، وجاء عقبهم جماعة أضاعوا الصلاة ولم يقيموها كاملة تامة الأركان والشروط ، بل أضاعوها وتركوها بالمرة ، واتبعوا شهوات نفوسهم ، وما تشتهيه أبدانهم من المحرمات كالخمر والزنى والربا وفعل المنكر ، فهؤلاء(2/461)
ج 2 ، ص : 462
سوف يلقون جزاء غيهم ولا يلقون إلا شرا لا خير فيه ، إلا من تاب ، وآمن وعمل صالحا يرضى اللّه فأولئك يدخلون الجنة ، ولا يظلمون شيئا مما عملوه قبل التوبة وبعدها.
وهذا حكم عام يدخل فيه الناس جميعا من اليهود والنصارى والمسلمين وغيرهم يدخلون الجنة ، جنات عدن وهي نوع من الجنة ، وفيها الإقامة والمكث وهي التي وعد الرحمن بها عباده متلبسين بالغيب فآمنوا بها وعملوا لها فاستحقوا نعيمها ، إنه كان وعده بالجنة مفعولا وحاصلا حتما ، ومن وعد الجنة فإنه يأتيها ، لا يسمعون فيها لغوا أبدا ، وممن يسمعون اللغو ؟ أمن المؤمنين ؟ أم من الملائكة ؟ !! لكن سلام بعضهم لبعض ، وسلام الملائكة عليهم موجود ، فهم لا يسمعون ما يؤلهم وإنما يسمعون ما يسرهم.
ولهم رزقهم حسب ما يطلبون ، والمعتدل من الناس إنما يطلب الأكل بكرة وعشيا أما النهم الحيواني فهو يأكل متى شاء ، وسكان الجنة قوم معتدلون متوسطون في طلبهم.
تلك الجنة التي نورثها لعبادنا الأتقياء ونحفظها عليهم كما يحفظ المال للوارث ، فهم أصحاب حق - لما قدموا من العمل - في هذا النعيم كما أن الوارث صاحب حق في مال مورثه ، واللّه أعلم.
الأمر كله بيد اللّه [سورة مريم (19) : الآيات 64 الى 65]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)(2/462)
ج 2 ، ص : 463
المفردات :
نَتَنَزَّلُ النزول على مهل نَسِيًّا ناسيا سَمِيًّا شريكا له في الاسم أو في المسمى بمعنى ليس له مثيل ولا شبيه.
سبب النزول.
روى أن جبريل احتبس أربعين يوما ، وقيل خمسة عشر يوما ، وذلك حين سئل الرسول عن قصة أصحاب الكهف ، والروح ، وذي القرنين ، فلم يدر بما يجيب ، ورجا أن يوحى إليه فيه فتأخر الوحى فشق ذلك عليه مشقة شديدة ، وقال المشركون. ودعه ربه وقلاه فلما نزل جبريل - عليه السلام - قال له النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
أبطأت حتى ساء ظني واشتقت إليك!
قال إنى كنت أشوق ، ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست وأنزل - سبحانه - هذه الآية وسورة الضحى.
المعنى :
يقول اللّه - سبحانه وتعالى - حكاية على لسان جبريل حين استبطأه النبي ، وما ننزل إلا بأمر ربك فليس نزولنا وقتا بعد وقت عن أمرنا ، وإنما هو بأمر ربك على حسب الحكمة! وما يراه صوابا ، ثم أكد هذا بقوله : له ما بين أيدينا من الجهات والأماكن ، وما خلفنا منها ، وما بين ذلك مما نحن فيه ، فلا نملك أن ننتقل من جهة إلى أخرى ، ومن مكان إلى مكان إلا بأمر المليك ومشيئته - سبحانه وتعالى - فهو الحافظ العالم المحيط القادر المقتدر الذي لا يجوز عليه الغفلة والنسيان وما ربك ناسيا لشيء أبدا ، بل هو المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة ، رب السموات والأرض ، وما بينهما فكيف نقدم على فعل إلا بعد أمره وإذنه على حسب حكمته ، وما كان ربك ناسيا لك ، وما ودعك ربك وما قلاك.
وقيل : هو حكاية لقول المتقين حين يدخلون الجنة على معنى ، وما ننزل الجنة إلا بأمر ربك حيث يمن علينا بالثواب ، وهو المالك لرقابنا المتصرف في أمورنا ، وما كان ربك ناسيا لأعمالنا التي قدمناها في الدنيا ، وكيف يجوز النسيان على رب السموات والأرض وما بينهما ؟ !! ثم يقول لرسوله : وحين عرفت ربك بهذا الوصف العالي وهو الموصوف بكل جميل(2/463)
ج 2 ، ص : 464
المنزه عن كل قبيح فاعبده ، وأقبل على العمل الصالح يثبك كما أثاب غيرك من المتقين الأبرار ، واصطبر للعبادة ففيها الشدائد ، ولكن لها ثوابها هل تعلم له سميا سمى باسم اللّه أو اسم الرحمن ، هل تعلم له من يشاركه في مسماه ويشبهه في شيء.
تعالى اللّه عما يقولون علوا كبيرا ، ولما انتفى المشارك للّه استحق أن يكون هو المعبود بحق دون سواه ، وأنه لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، والاستفهام في الآية للإنكار ، والمراد بنفي العلم هنا نفى الشريك على أبلغ وجه.
المنكرون للبعث وجزاؤهم [سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 72]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)
المفردات :
جِثِيًّا جمع جاث والمراد أنهم بركوا على ركبهم يقال : جثا يجثو إذا جلس على ركبته شِيعَةٍ فرقة تشيعت لشخص أو لمبدأ عِتِيًّا عصيانا يقال عتا يعتو عتوا أى : صار عاتيا عاصيا صِلِيًّا دخولا يقول صلّى النار يصلى دخلها.(2/464)
ج 2 ، ص : 465
المعنى :
ويقول بعض أفراد الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا : وأبعث للحساب ؟ !! إن هذا لعجيب!! نعم يقول الكفار منكرين مستبعدين الحياة للبعث والثواب : أحقا أنا سنخرج أحياء بعد أن متنا ، وتمكن فينا الموت والهلاك ؟ ! والمراد الخروج من القبر أو حال الفناء ، وانظر يا أخى إلى تصوير القرآن لإنكارهم الشديد وأنه منصب على ما بعد الموت ، وهو كون الحياة منكرة ، ولذا قال : أإذا ما مت لسوف أخرج حيا ؟
فهو كقولك أحين تمت عليك نعمة فلان تسيء إليه ؟ ؟ ويقول اللّه - سبحانه وتعالى - في الرد على هؤلاء :
أيقول الكافر ذلك ولا يتذكر أنا خلقناه من قبل ، ولم يك شيئا ؟ !! أيقول الكافر ذلك ولا يتذكر نشأته الأولى ، حتى لا ينكر إعادته للبعث فإن الأولى أعجب وأغرب ، وأدل على قدرة اللّه حيث خلقه ، ولم يك شيئا أبدا فقد خلقه من غير مثال يحتذيه ولا نظام سابق يعيده ويحييه ، وأما الحياة الثانية فقد تقدمت نظيرتها ، وكل ما فيها إعادة تأليف أجزاء تبعثرت ، وتركيبها كما كانت فالإعادة أهون بالنسبة للأولى ، وإن كان البدء والإعادة سواء عند اللّه - سبحانه وتعالى - .
فوربك يا محمد لنحشرنهم والشياطين ، إنه قسم من اللّه برب محمد فهو تشريف له وأى تشريف ؟
واللّه أقسم ليحشرنهم جميعا بعد بعثهم من قبورهم ، ومعهم الشياطين التي هي سبب إغوائهم وضلالهم ليأخذ الكل جزاءه غير منقوص وليروا بأنفسهم أن الشيطان أضلهم وأعمى أبصارهم وسيتنصل منهم وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة إبراهيم آية 22].
ثم بعد هذا لنحضرنهم جميعا حول جهنم جاثمين على ركبهم غير قادرين على الوقوف على أرجلهم من شدة الهول وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً [سورة الجاثية آية 28].
وهل الضمير هنا في قوله لَنُحْضِرَنَّهُمْ للعموم أو للكفار فقط ؟ وهذا سيظهر عند الكلام على قوله : وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها.(2/465)
ج 2 ، ص : 466
ثم بعد هذا لننزعن من كل شيعة الذي هو أشد على الرحمن عصيانا وفسوقا ، والمعنى نختار من كل طائفة من طوائف الغي والفساد أعصاهم فأعصاهم فإذا اجتمعوا في غل واحد طرحناهم في الحجيم على الترتيب نقدم أولاهم بالعذاب فالذي بعده وهكذا.
ثم لنحنأعلم بالذين هم أولى بجهنم صليا ودخولا ، ومن هذه الآية وأشباهها نعلم أن اللّه - سبحانه وتعالى - جعل لأئمة الكفر وقادة الضلال عذابا أشد ، ودركا أسفل في النار الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل 88] وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت 13].
وإن منكم من أحد إلا واردها ، كان على ربك حتما مقضيا ، وفي هذه الآية الحكم بورود جميع الخلق على النار ، ومن هنا اختلف المفسرون في معنى الورود. فهل هو الدخول بالفعل ؟ أو هو المرور عليها من غير دخول ؟ قيل الناس جميعا يدخلونها فأما المؤمنون فتكون عليهم بردا وسلاما ، وروى في تلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن ذلك فقال. إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار فيقال لهم قد وردتموها وهي جامدة
، وأما قوله - تعالى - : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ « 1 » فالمراد أنهم مبعدون عن عذابها ، ولعل الحكمة في الورود بهذا المعنى ليروا ما أعد للكافرين والعصاة ، وما أعد لهم فيزدادوا فرحا وسرورا ، وليمتلئ قلب الكافر حسرة وندما على ما فرط منه.
ويجوز أن يراد بالورود الجثو حولها فقط من غير دخول فيها ، أو الورود بمعنى المرور على الصراط أما المؤمنون فينجون وأما الكافرون فيسقطون ، ويرشح هذا أن قول العرب « وردت القافلة البلد » لا يلزم منه دخولها وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ « 2 » ولعل الرأى الأول أرجح وهو تفسير الورود بالدخول لقوله تعالى.
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا حيث لم يقل وندخل الظالمين ، ولتظاهر السنة الشريفة على هذا المعنى.
وهذا كله إذا أريد العموم في قوله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها أى : من الناس جميعا فإن أريد الكافرون فقط فلا خلاف في معنى الورود.
___________
(1) سورة الأنبياء الآية 101.
(2) سورة القصص الآية 23.(2/466)
ج 2 ، ص : 467
حجة واهية [سورة مريم (19) : الآيات 73 الى 80]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77)
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80)
المفردات :
نَدِيًّا الندى والنادي مجلس القوم ، ومنه دار الندوة قَرْنٍ المراد من أمة وجماعة ، وفي الكشاف وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم لأنه يتقدم بهم ، كقرن البقرة أَثاثاً الأثاث متاع البيت ، وقيل ، المال مطلقا وفيه معنى الكثرة رئيا منظرا حسنا فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ المراد يمد له الرحمن مدا حتى يطول غروره مَرَدًّا أى : مرجعا وعاقبة.
وهذه جناية أخرى من جنايات المشركين المتعددة وبعض أعمالهم المخزية.(2/467)
ج 2 ، ص : 468
المعنى :
وإذا تتلى على هؤلاء الكفار الذين تقدم الكلام عليهم في قوله : وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا إلى قوله : وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا وإذا تتلى عليهم آياتنا حالة كونها بينات المعنى واضحات الحجة قال الذين كفروا لأجل الذين آمنوا. وفي شأنهم. أى : الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ؟ ويحتمل أن الكافرين قالوا مخاطبين المؤمنين : أى الفريقين - فريق المؤمنين وفريق الكافرين - خير إقامة وأحسن ناديا ومجلسا!! وذلك أن زعماء الكفر كانوا ينظرون لأنفسهم. وقد جهلوا كل شيء إلا ظاهرا من الحياة الدنيا فيرون أنفسهم في غنى وسعة ، والمؤمنون في شظف من العيش وقلة في العدد فيقولون. لو كان هؤلاء على حق ونحن على باطل كما يدعون لكان العكس.
ولكانوا هم أكثر مالا وأعز نفرا ، وغرضهم من ذلك زعزعة المسلمين في عقائدهم موهمين بعضهم أن من كان كثير المال كان على الحق والصواب ، ومن الأسف أن بعض جهلة الأغنياء من المسلمين يفهم هذا ، ويقول به.
فيرد اللّه ويقول ما معناه : وكثير من الأمم السابقة كانوا أحسن أثاثا ومنظرا منكم وأكثر عددا وعدة أهلكناهم لما كفروا باللّه.
قل لهم يا محمد. من كان في الضلالة سادرا ، وفي العماية سائرا حيث يقول هذا القول المخزى أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا يمده اللّه ويملى له في العمر مدا حتى يطول اغتراره فيكون ذلك أشد لعقابه.
ونظيره قوله - تعالى - إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً « 1 » وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ « 2 » وهذا غاية في التهديد ، وقيل هو دعاء من النبي عليهم بذلك حتى إذا رأوا ما يوعدون من العذاب في الدنيا بالقتل والأسر وظهور الدين الحق وهم كارهون أو يظلمهم يوم القيامة بعذابه اللافح وحسابه الشديد عن ذلك يرون من هو شر مكانا وأضعف جندا.
وخلاصة الكلام أن اللّه يمد لمن هو في الضلالة حتى يرى واحدا من اثنين إما عذاب الدنيا وإما عذاب يوم القيامة فإذا رأى ذلك علم من هو شر مكانا ومن هو أضعف
___________
(1) سورة آل عمران الآية 178.
(2) سورة الأنعام الآية 110.(2/468)
ج 2 ، ص : 469
جندا بمعنى أنهم يرون أنفسهم أنهم شر مكانا لا خير مكانا ، وأضعف جندا لا أقوى ولا أحسن من فريق المؤمنين وإيراد فعل التفضيل تهكم بهم.
ونظير هذه الآية وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً [سورة الكهف آية 43] هذا حالهم. أما حال المؤمنين فيقول اللّه فيهم :
ويزيد اللّه الذين اهتدوا وآمنوا هدى وتوفيقا إذ الخير يجر بعضه ، والباقيات الصالحات من أعمال الخير ، وذكر اللّه وتسبيحه عند ربك خير ثوابا ، وخير عاقبة ومآلا.
ثم أردف اللّه - سبحانه وتعالى - بهذا مقالة أولئك المفتخرين المغرورين بالمال والولد على سبيل التعجب والإنكار لهم.
ولهذه قصة خلاصتها كما رواها الأئمة عن خباب - وكان قينا أى : حدادا وصائغا ، قال. كان على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لي : لن أقضيك حتى تكفر بمحمد قال فقلت له. لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث قال. وإنى لمبعوث من بعد الموت ؟ !! وإذا بعثت فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مالي وولدي وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً [سورة الكهف آية 36] فنزلت هذه الآية.
أفرأيت الذي كفر بآياتنا كلها أو بعضها وقال. واللّه لأوتين مالا وولدا ، والمعنى أخبرنى بقصة هذا الكافر عقب حديث أولئك المغرورين بمالهم وجاههم.
أنظرت فرأيت الذي كفر بآياتنا كلها أو بعضها وقال. واللّه لأوتين مالا وولدا يوم القيامة عند البعث ، انظر إلى مقالته وتألّيه على اللّه مع كفره وجحوده ثم يجيب اللّه عنه ويرد عليه.
أطلع على الغيب حتى أنه في الجنة ؟ أم اتخذ عند الرحمن عهدا بدخول الجنة وأنه سيكون صاحب يسار فيها ؟ ولا سبيل إلى العلم إلا بإحدى الوسيلتين إما الاطلاع على الغيب ، أو أخذ العهد.
وفي قوله : أطلع على الغيب ؟ ! إشارة إلى أن الغيب أمر صعب أعلى من الجبل الأشم وأمنع منه منالا إذ هو غيب رب السماء والأرض الذي لا يطلع على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول.(2/469)
ج 2 ، ص : 470
كلا كلمة ردع وزجر لم ترد في النصف الأول من القرآن.
سنكتب ما يقول ونجازيه عليه ، ونمد له من العذاب مدا مكان ما يطلبه من المدد بالمال والولد جزاء عمله.
ونرثه جزاء ما يقول ويعمل فهو يستحقه استحقاق الوارث لمال الموروث وسيأتينا فردا خاليا من كل شيء لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [سورة الأنعام آية 94].
هؤلاء هم المشركون [سورة مريم (19) : الآيات 81 الى 87]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87)
المفردات :
عِزًّا أنصارا وأعوانا لهم ضِدًّا أعداء لهم أَزًّا الأز والهز والاستفزاز كلها تفيد التحريك والتهيج والإزعاج وَفْداً جمع وافد كصحب جمع صاحب والوافد من خرج في أمر خطير أو لمقابلة ملك أو أمير وِرْداً الورد القوم يردون الماء وهم عطشى ، والمراد أنهم حفاة عطاش كالإبل والورد نفس الماء.(2/470)
ج 2 ، ص : 471
المعنى :
ويقول - سبحانه وتعالى - عجبا لمن كفر بآيات اللّه يتمنى عليه الأمانى ويتألى على اللّه - سبحانه - قد كفروا واتخذوا من دون اللّه آلهة ليكونوا لهم أنصارا يوم القيامة وأعوانا ، يشفعون لهم ويقربونهم زلفى إلى اللّه.
كلا!! سيكفرون بعبادتهم ، ويتخلون من كفرهم ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ « 1 » وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ [سورة النحل آية 86].
ويجوز أن يكون المعنى كلا سيكفرون بعبادة الآلهة وينكرون ذلك ويقولون كذبا وبهتانا : وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ « 2 » ويكونون عليهم أضداد وأعداء لأنهم حصب جهنم التي فيها يعذب الكفار.
لا تعجب يا محمد من أولئك الكفرة العتاة القساة المغرورين بالمال والولد ، لا تعجب من فعلهم .. ألم تر أنا أرسلنا الشياطين عليهم ؟ وخلينا بينهم وبينهم ؟ ولو شاء ربك ما فعلوا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ « 3 » إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ « 4 » وإذا كان ذلك كذلك فلا تعجل لهم ، ولا تستعجل عذابهم فليس بينك وبين عذابهم إلا أيام محصورة ، وساعات معدودة ، وكل آت قريب.
واذكر يوم حشر المتقين وتجمعهم إلى الرحمن وافدين ويساق المجرمون إلى جهنم وردا عطاشا حفاة عراة أفرادا أو جماعات وانظر إلى تكريم المتقين حيث يحشرون وفودا مكرمة مطهرة مشرقة وإلى المجرمين وهم يساقون كالأنعام إلى الماء عطاشا حفاة وهناك يساقون إلى جهنم وبئس القرار.
لا يملك أحد الشفاعة من مؤمن وكفار إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ، وهم الذين عهد لهم ربهم بهذا ، أما الآلهة التي يظنون أنها عزهم ، وأنها ستشفع لهم فتلك أمان باطلة ، وحجة واهية ، وهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فكيف يكونون مع غيرهم ؟ !!
___________
(1) القصص الآية 63.
(2) الأنعام الآية 23.
(3) الإسراء الآية 64.
(4) الحجر الآية 42.(2/471)
ج 2 ، ص : 472
فرية اتخاذ الولد [سورة مريم (19) : الآيات 88 الى 95]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95)
المفردات :
إِدًّا الإد والإداة الداهية والأمر الفظيع والمراد أتيتم منكرا عظيما يَتَفَطَّرْنَ يتشققن تَنْشَقُّ الْأَرْضُ تتصدع تَخِرُّ الْجِبالُ تسقط وتهد هَدًّا أى شديدا له صوت.
انظر إلى نهاية السورة وقد عادت إلى نفى الولد هو المقصود الأول.
المعنى :
وهذه ثالثة الأثافى ، وداهية الدواهي وهي قولهم إن شاء اللّه اتخذ ولدا ، لقد جاءوا شيئا إدا ، وارتكبوا جرما فظيعا تئود من حمله الجبال الرواسي ، وتكاد السموات يتشققن من هوله ، وتتصدع الأرض من وقعه ، وتسقط الجبال سقوطا شديدا من دعواهم اتخذ اللّه ولدا ، يقول اللّه. كدت أفعل ذلك بالسموات والأرض والجبال لو لا حلمي وعفوي من شدة الغضب ، وقيل : هذا تصور وتمثيل لاستعظام الجرم وأثره في الدين وهدمه لأركانه. وما ينبغي للرحمن ولا يصح أن يتخذ ولدا عن طريق الولادة إذ هذا يقتضى(2/472)
ج 2 ، ص : 473
أن يكون الوالد للولد هو نفسه ولدا لوالده فكيف يكون هذا مع اللّه الرحمن المنعم بجلائل النعم ودقائقها ؟ غير المحتاج لغيره المخالف للحوادث في كل شيء.
روى البخاري عن أبى هريرة قال. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم. « يقول اللّه - تبارك وتعالى - كذّبنى ابن آدم ، ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأمّا تكذيبه إيّاى فقوله : ليس يعيدني كما بدأنى ، وليس أوّل الخلق بأهون علىّ من إعادته ، وأمّا شتمه إيّاى فقوله اتّخذ اللّه ولدا وأنا الأحد الصّمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد » .
وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا كما قالت اليهود : عزير ابن اللّه ، وكما قالت النصارى : المسيح ابن اللّه ، وكما قال المشركون : الملائكة بنات اللّه!! وكيف يكون ذلك ؟ وكل من في السموات من إنسان أو ملك يأتى الرحمن عبدا ذليلا خاضعا لقوته وجبروته وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ « 1 » أى : صاغرين ، وهذا يتنافى مع اتخاذ الولد إذ الولد قطعة من أبيه وهو عبد صار حرا بمجرد الشراء على أن اللّه ليس في حاجة إلى الولد ، وله من في السموات والأرض كلهم ملكا وخلقا وعبيدا ، وهو العالم بكل شيء المحيط بكل كائن في الكون ، القادر لا تحد قدرته بحد القائل في كتابه لقد أحصاهم جميعا ، وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا خالصا مجردا من كل شيء فهل يعقل أن يكون لمثل هذا ولد ؟ أو يكون معه ولد فإن الولد شريك أبيه وصنوه ، وخليفته من بعده ، تعالى اللّه عما يقولون علوا كبيرا. وخير ما يختتم به هذا الموضوع سورة التوحيد والإخلاص قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ وانظر يا أخى إلى التوحيد الخالص البريء في الإسلام ، والتوحيد الصريح الذي لم يدع شكا عند أحد سبحان من هذا كلامه!!!
ختام السورة [سورة مريم (19) : الآيات 96 الى 98]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)
___________
(1) سورة النمل آية 87.(2/473)
ج 2 ، ص : 474
المفردات :
وُدًّا محبة لُدًّا ألداء في الخصومة أشداء في الجدل بالباطل رِكْزاً صوتا خفيا.
المعنى :
ما مضى من الكفار ، ومن أعمالهم السيئة ، لا شك أنه يجعلهم مبغوضين مبعدين ، أما المؤمنون العاملون الخير الصالح فسيجعل لهم الرحمن المنعم بالنعم كلها ودا ومحبة في القلوب.
فإنما يسرنا القرآن بلسانك العربي حتى صار مفهوما يفهمه الخاص والعام فهو كالبحر يغترف منه كل على قدر طاقته وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ « 1 » يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين فيعرفوا جزاء عملهم ، وما أعد لهم ، وتنذر به قوما ألداء أشداء في الخصومة والجدل وهم المشركون ، وكل عدو للدين ، فخذ حذرك واجمع أمرك ، وليعلم من يأتى بعدك أن مهمة الوعظ والتبشير بالدين والإنذار به ليست مهمة سهلة هينة إنما أنت تحارب في ميادين مع قوم شهد اللّه لهم بأنهم ألداء أقوياء لتتذرع بالصبر ، ولتتجمل بالخلق الطيب ، وكن مثلا عاليا في الأدب وحسن الجدل ، واستعد لهذا بتكوين نفسك علميا مع الإحاطة والفهم للبيئة التي تعيش فيها ، ودراسة أحوال من تخاطبهم دراسة دقيقة. عند ذلك يمكنك أن تعرض القرآن عرضا حسنا يستفيد منه الكل.
وأما القوة المادية التي هي في جانب الكفار فلا يهمك منها شيء أبدا ، واعلم أن كثيرا من الأمم السابقة أهلكها ربك وكانوا أكثر من هؤلاء قوة وعددا وأكثر مالا وولدا فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم صوتا ؟ !!
___________
(1) سورة القمر الآية 40. [.....](2/474)
ج 2 ، ص : 475
وفي قوله - تعالى - سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا
حديث شريف عن أبى هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « إذا أحبّ اللّه عبدا نادى جبريل إنّى قد أحببت فلانا فأحبّه فينادى في السّماء ثم تنزل له المحبّة في الأرض » فذلك قوله تعالى : سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا وإذا أبغض اللّه عبدا نادى جبريل إنّى أبغضت فلانا فينادى في السّماء ثم تنزل له البغضاء في الأرض » .
والمحبة التي وعدها اللّه المؤمنين إنما تكون في قلوب الصالحين المتقين وعند الملائكة المقربين ، وإلا فالمؤمن من قد يكون مكروها من الفاسق والكافر.(2/475)
ج 2 ، ص : 476
سورة طه
هي مكية وعدد آياتها خمس وثلاثون ومائة آية وهذه السورة تحدد موقف النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وأنه رسول فقط ، وليس عليه إلا البلاغ ، واللّه معه لن يتركه وتلك سنته مع الأنبياء والمؤمنين فهذا موسى ومن آمن معه مع التذكير بيوم القيامة والتعرض لقصة آدم ليتعظ أبناؤه ويعرفوا موقفهم من الشيطان.
القرآن ومن أنزله [سورة طه (20) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4)
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)
المفردات :
طه هو اسم للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقيل : اسم من أسمائه تعالى أقسم به ، وقيل : أصله طأ الأرض فالهاء ضمير الأرض والهمزة من طأ خففت ألفا ، وقال بعضهم في تصرفها الألف حذفت للأمر وهذه الهاء للسكت ، والرأى الأول أرجح لموافقته رسم المصحف وسياق المعنى تَذْكِرَةً تذكيرا الْعُلى جمع العليا مؤنث الأرض الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى راجع تفسيرها في ج 8 ص.(2/476)
ج 2 ، ص : 477
روى ابن إسحاق في كتب السيرة أن عمر قبل إسلامه كان شديد العداوة للإسلام وقد خرج في يوم متوشحا سيفه يريد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فلقيه نعيم بن عبد اللّه فقال أين تريد يا عمر ؟ فقال : أريد محمدا الصابئ ، الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها ، وعاب دينها ، وسبب آلهتها فأقتله ، فقال له نعيم : واللّه قد غرتك نفسك من نفسك يا عمر ، أترى بنى عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض ، وقد قتلت محمدا ؟ ! أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم ؟ ! فقال : وأى أهل بيتي ؟ قال : ختنك (زوج أختك) وابن عمك سعيد بن زيد ، وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد واللّه أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما ، قال : فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه ، وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها أول سورة « طه » يقرئهما إياها ، فلما سمعوا صوت عمر تغيب خباب في مخدع لهما ، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها ، وقد سمع عمر قراءة خباب فلما دخل قال : ما هذه الهينمة - الكلام الخفى الذي لا يفهم - التي سمعت ؟ قالا له أسمعت شيئا ؟ ! قال : بل واللّه لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه. وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته فاطمة لتكفه عن زوجها فضربها فشجها فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه : نعم قد أسلمنا وآمنا باللّه ورسوله فاصنع ما بدا لك ، ولما رأى عمر ما صنع ندم وارعوى وقال لأخته : أعطنى هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأونها آنفا ، أنظر ما هذا الذي جاء به محمد. فقالت له أخته : إنا نخشاك عليها ، قال لها : لا تخافي وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له : يا أخى إنك نجس على شركك وإنه لا يمسها إلا الطاهر فقام عمر ، واغتسل فأعطته الصحيفة وفيها « طه » فلما قرأ منها صدرا قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع خباب خرج إليه فقال له : واللّه يا عمر واللّه إنى لأرجو أن يكون اللّه قد خصك بدعوة نبيه فإنى سمعته أمس وهو
يقول « اللّهمّ أيّد الإسلام بأبى الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطّاب »
فاللّه اللّه يا عمر فقال له عمر ، دلني يا خباب على محمد حتى آتيه ، فأسلم ورضى اللّه عنه.
المعنى :
يقول اللّه - تبارك وتعالى - : يا طه ، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى وتتعب ، وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان شديد الحرص على إيمان قريش. وكان يلقى في سبيل هذا ألما وتعبا(2/477)
ج 2 ، ص : 478
شديدين حتى قال بعض الكفار له ، ما أنزل عليك القرآن إلا لتشقى ، وقال له النضر ابن الحارث وأبو جهل بن هشام ، إنك يا محمد شقي لأنك تركت دين آبائك وأجدادك ، وقد كان يقوم بالليل حتى تتورم قدماه فقيل له ، يا طه ما أنزل عليك القرآن لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم ، وتحسرك على أن يؤمنوا فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ أو لتتعب بكثرة العبادة. ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر ، ولم يكتب عليك أن تحملهم على الإيمان فالقرآن ما نزل إلا تذكرة وموعظة لمن يخشى ومن هنا تعرف السر في فساد بعض القلوب ، وأنها لا تتذكر بالقرآن ، السر هو أن عنصر الخشية مفقود عندهم ، الخشية من اللّه ومن حسابه ، والخوف من الضمير ومن تأنيبه والمجتمع الإنساني ولومه ، فالقرآن تذكرة وشفاء وهدى ونور لمن يخشى اللّه من الناس ، ومن له قلب فيه شيء من الخوف.
أما النفوس الميتة ، والقلوب التي هي كالحجارة أو أشد قسوة فأصحابها صم بكم لا يعقلون!! هذا هو القرآن الكريم. أما صاحبه والذي أنزله فهذا خبره.
ونزلناه تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى ، فهو المقتدر الحكيم الخبير والعليم البصير ..
هو الرحمن المنعم بجلائل النعم ودقائقها ، على العرش استوى واللّه - سبحانه وتعالى - ليس بجسم ولا يشبه شيئا من الحوادث فاستواؤه على العرش نؤمن به على أنه بلا كيف ولا انحصار ، وهذا رأى السلف وهو قبول ما جاء في تلك من الكتاب والسنة كقوله تعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [سورة الفتح آية 10] من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل.
أما الخلف فقالوا هذا كلام ليس على حقيقته بل هو مؤول ، المراد بالاستواء الاستيلاء والقهر والتصرف الكامل ، والعرش هو الملك ، للّه ما في السموات والأرض وما بينها وما تحت الثرى مما لا تراه العيون ، له كل ذلك مما نعلم ، ومما نعلم ملكا وخلقا وتصريفا - سبحانه وتعالى - ، وهو عالم الغيب والشهادة المحيط بكل شيء الذي يستوي عنده الجهر بالقول والإسرار به ، بل هو يعلم السر ما هو أخفى منه مما لم تحدث نفسك به ، اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى التي تدل على كمال التقديس وتمام التنزيه.(2/478)
ج 2 ، ص : 479
ترى أنه وصف صاحب القرآن ومنزله - سبحانه وتعالى - على عبده ورسوله محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بأنه خلق الأرض والسموات العلى ، وأنه الرحمن صاحب النعم ، وأنه استوى على العرش وصاحب التصريف في الكون ، وأنه له ما في السموات وما في الأرض ، وما بينهما وما تحت الثرى ، وأنه العالم بكل شيء سواء عنده السر والجهر ، وأنه اللّه لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى - تبارك وتعالى - .
فهل يعقل بعد ذلك أن يدعى محمد - وهو المخلوق الضعيف - على اللّه الموصوف بهذه الصفات هذا القرآن ؟ !! وهل يعقل بعد هذا ألا ينصر اللّه رسوله ويؤيده ويعصمه من الناس ؟ !! أبعد هذا يعقل أن يتخذ إنسان صنما من حجر أو خشب شريكا لهذا الباري الموصوف بهذه الصفات.
لذلك كله بادر عمر بن الخطاب لما أراد اللّه له الخير - إلى الإسلام - وجاهر به ، وأصبح الساعد القوى المجاهر بالدعوة ، الفاهم لها المستميت في الدفاع عنها - رضى اللّه عنه - وعن أصحاب رسول اللّه أجمعين.
قصة موسى مع فرعون وبنى إسرائيل
قصة من القصص المهمة التي كثر ذكرها في القرآن في عدة سور ومواضع فيه ، وهي إلى حد تشبه السيرة النبوية في كثير من مراحلها ، لذلك عنى القرآن بها وما ذكر هنا في قصة موسى مناسب لما قبله إذ انتهى السياق أولا إلى التوحيد اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وقد أبانت القصة في أول أمرها التوحيد الكامل حيث خوطب النبي موسى بقوله : إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وهذا يفيد أن التوحيد أمر مستمر فيما بين الأنبياء يتلقونه كابرا عن كابر ، وأنت ترى أن رسالة موسى بدأت به وختمت كذلك إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
ولعلك تدرك بعض السر في اختلاف القصة الواحدة في القرآن لأنها تساق في كل موضع بما يناسبه بدءا ونهاية.(2/479)
ج 2 ، ص : 480
ويحسن بمن يريد أن يلم بقصة موسى - عليه السلام - إلماما مرتبا على حسب الطبيعة والواقع أن يقرأ كتاب قصص الأنبياء للشيخ النجار ، وغيره من الكتب التي كتبت في سيدنا موسى - عليه السلام - ، ونحن هنا مقيدون بشرح القرآن على ترتيبه الإلهى الذي لا يعلم سره إلا اللّه.
والقصة هنا عالجت موضوعات وعناصر أهمها ما يأتى :
موسى بالوادي المقدس بعد قضائه الأجل في مدين ، بعثته وما طلبه من ربه ، بعض الألطاف التي صادفت موسى ، دعوة موسى لفرعون ، ومحاجته له ، موسى والسحرة التي جمعها فرعون ، خروج بنى إسرائيل من مصر وطلب فرعون لهم ، اتخاذ بنى إسرائيل العجل إلها يعبدونه.
موسى بالوادي المقدس [سورة طه (20) : الآيات 9 الى 16]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)(2/480)
ج 2 ، ص : 481
المفردات :
امْكُثُوا أقيموا في مكانكم آنَسْتُ ناراً أبصرت نارا والإيناس الإبصار البين الذي لا لبس فيه ومنه إنسان العين لأنه يبصر الأشياء ويتبينها بِقَبَسٍ القبس النار المقتبسة الْمُقَدَّسِ المطهر طُوىً اسم الوادي أُخْفِيها من الأضداد أى أكاد أظهرهما أو أسترهما فهي تدل على معنيين متضادين فَتَرْدى فتهلك.
المعنى :
فلما قضى موسى الأجل الذي ضربه بينه وبين صهره الشيخ الكبير بمدين قيل :
هو شعيب وقيل : غيره واللّه أعلم.
فلما قضى الأجل واستأذن في السفر إلى مصر خرج هو وامرأته وغنمه فلما وافى وادي طوى ، وهو بالجانب الغربي من الطور ولد له في ليلة باردة مظلمة شاتية ، وقد ضل الطريق ، فأراد نارا ليدفئ بها امرأته التي ولدت فقدح زنده فلم يخرج نارا فبينما هو في أشد الحاجة إلى النار أبصر على يسار الطريق من جانب الطور نارا فقال لأهله :
امكثوا وأقيموا في مكانكم لا تبرحوه إنى آنست نارا : وأبصرت ما يؤنسنا على سبيل الجزم ، وأما إتيان قبس منها أو وجدان هداية للطريق عندها فأمر مشكوك فيه ولذا قال. لعلى آتيكم منها بشعلة من النار المقتبسة منها ، أو أجد على النار هاديا يهديني إلى الطريق الحق الموصل إلى ما نريد.
فلما أتاها وجدها نارا بيضاء صافية ، مشتعلة في شجرة خضراء يانعة ، أنكرها وتوجس خيفة منها ، فلما أتاها بهذا الشكل نودي من قبل الرب - سبحانه وتعالى - : إنى أنا ربك.
ولعل نداءه عند النار بعيدا عن أهله وماله ، وقد ضل الطريق المألوف للناس إشارة إلى ما يجب أن يكون عليه الأنبياء والدعاة إلى اللّه من تجردهم من الدنيا وأهلها وتنكبهم الطرق المألوفة عندهم.
ونودي من قبل اللّه أن يا موسى فارتاع لهذا النداء وشك في مصدره. فقال اللّه له على سبيل التوكيد. إنى أنا ربك الذي خلقك وسواك وعدلك ، ورباك في بيت(2/481)
ج 2 ، ص : 482
عدوك ولحظك بعنايته ورعايته إلى هذا الوقت فاخلع نعليك احتراما وتقديسا ، وإجلالا وتعظيما إنك بالوادي المقدس المطهر الذي يقال له طوى.
وأنا اخترتك يا موسى ، واصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ، فاستمع إلى كل ما يوحى إليك ، وخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين.
إننى أنا اللّه لا إله إلا أنا ، ولا معبود بحق سواي ، فاعبدني مخلصا لوجهي ، وأقم الصلاة لتذكرني بها ، أو لأذكرك في علين بها ، واعلم أن الساعة آتية لا محالة ، أكاد أخفيها فلا أقول هي آتية لفرط إرادتى خفاءها ، ولا ما في الإخبار بإتيانها - مع تعميمه وقتها - من المصلحة لما أخبرت به ، وهذا معنى جميل ، ذكره الزمخشري والقرطبي وغيرهما ، ويؤيده أن كل لفظ في الآية أدى معناه الموضوع له. قال اللغويون : « كدت أفعل » معناه عند العرب قاربت الفعل ولم أفعل ، « وما كدت أفعل » معناه فعلت بعد إبطاء. وعلى هذا فمعنى الآية إن الساعة آتية لا شك فيها وقاربت أن أخفيها ولكني لم أفعل لقولي سابقا إنها آتية ، فهي آتية في وقت اللّه أعلم به ، واللّه أخفى الساعة أى : القيامة ، والساعة التي يموت فيها الإنسان ، ليعمل الإنسان بجد ولا يؤخر التوبة لحظة ، ودائما يترقب الموت في كل لحظة ، ولو عرف الإنسان الساعة لوقفت الحياة وما عمرت الدنيا.
وبعضهم يرى أن المعنى : إن الساعة آتية أكاد أظهرها وقوله : لتجزى كل نفس بما عملت متعلق بآتية ، ويؤيد هذا قراءة أخفيها واللغة لا تمنع ، ذلك وهناك من يرى أن الآية هكذا ، إن الساعة آتية أكاد بمعنى أن الساعة آتية أكاد آتى بها ثم يبدأ كلاما جديدا بقوله أخفيها وأكتمها لتجزى كل نفس بما تسعى ، وهذا المعنى حسن وليس فيه إلا حذف خبر « أكاد » وله نظير في كلام العرب ، قال الضابئ البرجمي :
هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكى حلائله
فالشاعر العربي حذف أى : وكدت أفعل ، ولكني لم أفعل ، وعثمان هو عثمان بن عفان الخليفة الثالث - رضى اللّه عنه - .
فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها ولا يمنعك من الإيمان بها والتصديق لها من لا يؤمن بها ، واتبع هواه ، إنك إن فعلت ذلك تهلك ، وفي هذه إشارة إلى أن كل داعية(2/482)
ج 2 ، ص : 483
للخير لا بد من وجود من يعوقه ويكفر به وبرسالته ، ويعمل على إخفاء نوره ولكن لا يعوقه ذلك ، واللّه متم نوره ولو كره المبطلون.
بعثة موسى - عليه السلام - وما طلبه من ربه [سورة طه (20) : الآيات 17 الى 35]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35)
المفردات :
أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها التوكؤ التحامل على شيء ، وهو بمعنى الاتكاء والمراد أعتمد عليها وَأَهُشُّ يقال هش الورق يهشه إذا خبطه ليسقط والمراد أسقط بها الورق على غنمي لتأكل مَآرِبُ جميع مأربة وهي الحاجة جَناحِكَ جنبك طَغى جاوز(2/483)
ج 2 ، ص : 484
الحد عُقْدَةً مِنْ لِسانِي العقدة اللكنة في اللسان وَزِيراً مأخوذ من الوزر لأن الوزير ملجأ الرئيس ومستشاره في الرأى أو من الوزير لأنه يحمل عن الرئيس بعض العبء أو من المآزرة لأنه يعينه في الحكم أَزْرِي أى : قوتي والمراد قوتي به.
المعنى :
قد أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى وقال إنى أنا ربك إلخ الآية ثم قال له : وما تلك بيمينك يا موسى ؟ ما هذه التي بيمينك يا موسى ؟ سأله عما في يمينه - وهو العالم بكل شيء - ليلفت نظره إلى العصا وحقيقتها ، ليدرك عظمة اللّه وقوته حيث يقلبها إلى حية تسعى!! وفي هذا تربية لموسى حتى لا يستبعد على اللّه شيئا بعد ذلك.
قال موسى مجيبا لربه مطنبا في كلامه لأن المقام يقتضى من التطويل - ليتلذذ بخطاب الرب - سبحانه وتعالى - :
هي عصاي ثم أخذ يسرد بعض منافعها فقال : أعتمد عليها في سيرى ، وأسقط الورق بها على غنمي ، ولي بعد ذلك مآرب وحوائج أخرى فيها ، وللعصا وفوائدها عقدت فصول في الأدب العربي ممتعة كالذي عقد في البيان والتبيين للجاحظ وغيره.
قال اللّه له : ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى على الأرض ، وثعبان يلتهم الحجارة وكل شيء ، وكأنها جان من شدة الحركة وسرعة المشي.
ولما رأى موسى ذلك الأمر العجيب الهائل ملكه الفزع ، وتولاه ما يملك البشر من الخوف والجزع قال له ربه : يا موسى ، أقبل عليها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى فأخذها ووضع يده بين فكيها فعادت كما كانت ، واللّه على كل شيء قدير.
واضمم يا موسى يدك إلى جنبك. أدخل يدك فيه تخرج بيضاء كالشمس من غير برص بها - وكان - عليه السلام - رجلا جعدا طوالا - فأدخل موسى يده في جيبه ثم أخرجها بيضاء كالثلج ثم ردها في جيبه فعادت كما كانت على لونها.
فذلك برهانان من ربك لتعلم بهما قدرة اللّه وتصريفه للأمور ، فعلنا هذا لنريك الآية الكبرى حالة كونها من آياتنا. وهل الآية الكبرى هي العصا أو اليد ؟ قولان(2/484)
ج 2 ، ص : 485
والظاهر واللّه أعلم أنها اليد لأن العصا انقلابها حية كانت تشبه السحر ، وحاول السحرة إبطالها ، وأما اليد فلم يحاول أحد إبطالها ومعارضتها.
بعد هذا اذهب إلى فرعون إنه طغى ، وجاوز الحد في الإشراك باللّه وتعذيب بنى إسرائيل.
قال موسى وقد صدع بالأمر : رب اشرح لي صدري ، افتح لي قلبي حتى أكون حليما صبورا حمولا ، يستقبل ما عساه يرد عليه من الشدائد بصدر رحب ، وقلب ثابت.
ويسر لي أمرى الذي أردته لي حتى يكون سهلا ، لا صعوبة فيه تعوقنى ، ولا شدة فيه تؤودنى.
واحلل عقدة من لساني ، وقد كان في لسانه رثّة لما
روى أنه نتف شعرة من ذقن فرعون وهو صغير فغضب ، وتوجس منه شرا فقالت امرأته : إنه صغير لا يدرى شيئا فأتت له بجمرة وبلحة فوضع الجمرة على لسانه فكان فيه رتة ولكنة.
ويقول الشيخ النجار ، إنه يحتمل أن تكون اللكنة ناشئة من عدم رضاعته وهو صغير مدة أثرت عليه ، وتلك عادة معروفة في الأطفال أو أن موسى حينما مكث في مدين عشر سنين تغير لسانه ونسى لهجة المصريين فطلب أن يكون معه هارون ليترجم له ويساعده على التفاهم ، وكان لسان هارون مصريا لمخالطته المصريين وعبريا لأنه إسرائيلى فيمكنه التفاهم مع موسى بطلاقة ، ومع المصريين كذلك.
واجعل لي وزيرا من أهلى هارون أخى ، اشدد به أزرى ، وأشركه في أمرى ليتحمل معى تلك الأمانة كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً.
بعض الألطاف التي صادفت موسى [سورة طه (20) : الآيات 36 الى 41]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)(2/485)
ج 2 ، ص : 486
المفردات :
سُؤْلَكَ مسئولك أى : مطلوبك مَنَنَّا المن : الإحسان والإفضال التَّابُوتِ صندوق من الخشب فَاقْذِفِيهِ فألقيه واطرحيه فِي الْيَمِّ البحر والمراد نهر النيل وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي ولتربى وأنا مراعيك ومراقبك فُتُوناً اختبرناك اختبارا حتى تصلح للنبوة والرسالة عَلى قَدَرٍ على وعد وأمر مقتضى به وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اصطنعتك لوحيي ورسالتي وَلا تَنِيا تضعفا في أمر الرسالة ، والونى : الضعف والفتور والكلال والإعياء.
مر ببني إسرائيل فترة عصيبة ، وهم في مصر تحت حكم فرعون ، فأخذ يقتل أبناءهم ويستحي نساءهم ، ويذيقهم العذاب ألوانا.
في أثناء تلك العاصفة الهوجاء ولد لرجل من بنى إسرائيل يقال له عمران من زوجته (يوكابد) ولد فلما ولدته خبأته عن عيون من يطلبه من أعوان فرعون وجنوده لقتله فمكث عندها ثلاثة أشهر فلما خافت افتضاح أمرها أعلمها اللّه وعلمها عن طريق الوحى بنبي ، أو ملك ، أو إلهام أن تصنع له ما يشبه الصندوق وتطليه بالزفت والقطران ، وتلقيه في اليم ففعلت ، ووكلت لأخته مريم أن تتبع أثره ، وتعلم خبره.(2/486)
ج 2 ، ص : 487
وكان اللّه - تعالى - قد أعلمها أنه راده إليها ، وجاعله من المرسلين فلم تزل أخته تراقبه حتى علمت أنه التقط وأدخل دار فرعون ، وأن عين زوجة فرعون ، قد وقعت عليه فألقى اللّه عليها محبته. فأحبته ليكون قرة عينها وعين فرعون ، راجية أن ينفعها أو يتخذاه ولدا ، وهذا تدبير من اللّه لموسى وأمه لأنه سيعود إليها لتكون مرضعته وتتقاضى على ذلك أجرا وهي آمنة مطمئنة. يا سبحان اللّه ينشأ موسى في بيت فرعون عدوه وعدو ربه!! وكانت عناية اللّه تلحظه فلم يقبل ثدي امرأة أبدا إلا ثدي أمه.
وسيأتى في سورة القصص مزيد بيان لهذا : وإنما ذكرها ها هنا باختصار على أنه من نعم اللّه على موسى.
المعنى :
لما سأل موسى ربه أن يشرح له صدره ، وييسر له أمره وأجاب سؤله وأتاه طلبته (مطلوبه) ومرغوبه أخذ يسرد ما من به على موسى فقال :
ولقد مننا عليك وأحسنا مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ، وألهمناها أمرا لا سبيل إليه إلا بالوحي إذ فيه مصلحة دينية توجب أن يعتنى به فهو أمر عظيم جدير بأن يوحى به من اللّه.
أوحينا إليها أن تصنع صندوقا محكما ، وتضع فيه موسى ، وأن تقذفه وتلقيه في نهر النيل ، ولما كانت إرادة اللّه حاصلة صار كأن اليم يعقل وقد أمره اللّه بأن يلقيه إلى الساحل الذي فيه فرعون وامرأته ، فبينما هو جالس على رأس بركة بالساحل إذ بالصندوق فأمر به فأخرج ففتح فإذا صبي أصبح الناس وجها ، فأحبه عدو اللّه حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه هو وزوجته ، وذلك معنى قوله : وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أى : أحبه اللّه وحببه إلى خلقه وبالأخص فرعون وزوجته آسية.
ولتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك كما يرعى الرجل الشيء العزيز لديه بعينه إذ تمشى أختك في أثرك فتراك قد امتنعت عن المرضعات كلها. فتقول لهم في ثوب الناصح : أفلا أدلكم على مرضع له فيقول لها : هاتها فأحضرت له أمه فأرضعته ، وهذا معنى قوله تعالى : فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ.(2/487)
ج 2 ، ص : 488
وكان موسى وهو فتى ابن اثنتي عشرة سنة وقد امتلأ قلبه غيظا وحنقا على معاملة المصريين لبني إسرائيل ، رأى رجلا مصريا يقتتل مع إسرائيلى فاستغاثه الذي من شيعته على الذي هو من عدوه فوكزه موسى وضربه فقضى عليه وقتله ، فلما علم فرعون بذلك أراد قتل موسى في المصرى فأخبره رجل مؤمن من آل فرعون بذلك ، ففر هاربا لا يلوى على شيء حتى وصل إلى مدين ، وأقام هناك عشر سنين ، وهذا معنى قوله تعالى وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ قتلت نفسا فنجاك اللّه من الغم في الآخرة بالتوبة والندم وفي الدنيا بالفرار إلى مدين فنجوت من الحبس والقتل والتعذيب وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً اختبرناك اختبارات حتى صلحت للقيام بالرسالة ولا غرابة فأنت تصنع وتخلق لهذا ، وتربى وتنشأ لتحمل الرسالة لبني إسرائيل.
فلبثت سنين في أهل مدين هي عشرة وقيل أكثر.
ثم جئت على قدر يا موسى ، ثم جئت على وعد وزمن محدد قد قدره اللّه وقضاه فلم تتقدم لحظة ولم تتأخر ، وَكُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [سورة الرعد آية 8].
اصطنعتك لنفسي ، واخترتك لوحيي ورسالتي ، وعلى هذا اذهب أنت وأخوك بآياتى ، ولا تضعفا في ذكرى فإنى معكما أسمع وأرى.
دعوة موسى لفرعون ، ومحاجته له [سورة طه (20) : الآيات 42 الى 56]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46)
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51)
قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56)(2/488)
ج 2 ، ص : 489
المفردات :
لَيِّناً سهلا لا خشونة فيه ولا شدة يَفْرُطَ عَلَيْنا أى : يعالجنا بالعقوبة ويعاملنا معاملة المتقدم في الذنب ، والمادة تدل على التقدم والإسراف ولذا قيل اليوم السابق فارط ، ولمن أسرف فرط وأفرط خَلْقَهُ صورته وشكله فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فما حالها وما شأنها ؟ لا يَضِلُّ لا يخطئ مَهْداً كالفراش في الشكل والمعنى لِأُولِي النُّهى لأولى العقل.
موسى وهارون - عليهما السلام - أرسلا إلى قومهما بني إسرائيل قصدا وإلى فرعون وملئه تبعا ليخلصا بني إسرائيل من حكم فرعون وظلمه ، ويدخلوهم في شريعة الحق - سبحانه وتعالى - .(2/489)
ج 2 ، ص : 490
المعنى :
اذهب يا موسى أنت وأخوك إلى فرعون وملئه إنه طغى وجاوز الحد المعقول في الشرك باللّه ، وتعذيب بني إسرائيل : اذهبا إليه فقولا له قولا لينا لا خشونة فيه ، وجادلاه بالتي هي أحسن فهو رجل مغرور كافر معاند لعله يتذكر أو يخشى.
قالا : يا ربنا ، إننا نخاف أن يفرط علينا ، ويبادرنا بالعقوبة ويطغى ، والخوف من الظالم الجبار لا ينافي التوكل على الواحد القهار ، والأخذ بالأسباب والمسالك ، على أن الخوف من طبيعة البشر.
قال اللّه لهما : لا تخافا من شيء إننى معكما أسمع كل شيء يسمع ، وأبصر كل شيء يبصر ، وأرى كل شيء يرى ، نهاهما اللّه عن الخوف من فرعون لأنه معهما بالمعونة والنصر وهو يعلم بكل ما يحصل لهما ، وليس بغافل عنهما.
ثم أمرهما بإتيانه الذي هو عبارة عن الوصول إليه بعد أمرهما بالذهاب إليه فلا تكرار.
فقولا له : إنا رسولا ربك أرسلنا إليك ، فأتياه وقالا له ذلك ، وأمرهما أن يقولا :
فأرسل معنا بني إسرائيل ، ولا تحجزهم وخل عنهم ، ولا تعذبهم ، وقد كانوا في عذاب أليم ، وتعب شديد كما مضى ، وقد جئناك يا فرعون بآية دالة على صدقنا ، وقيل إن فرعون قال : ما هي ؟ فأدخل موسى يده في جيبه ثم أخرجها بيضاء ، لها شعاع مثل شعاع الشمس ، فعجب منها ، ولم يره العصا إلا يوم الزينة.
والسلام من سخط اللّه وعذابه حاصل لمن اتبع الهدى وليس تحية لأن المقام ليس مقام تحية.
ولما فرغ موسى مما قال - وذكر لفرعون أنه يريد إطلاق بني إسرائيل ليعبدوا ربهم في البرية ، وفرعون ملك جبار تدين له الأمة المصرية وتذعن لقداسته ، وقد رأى من موسى أمرا لا يقره ولا يرضاه حيث قال له : إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل وهو يقول للناس أنا ربكم الأعلى ، ويستذل الإسرائيليين ويستعبدهم في أغراضه - أخذ يجادل موسى ويحاجه.
ولما علم موسى وهارون عدم إيمانه ، وتماديه في الباطل قالا له : إنا قد أوحى إلينا(2/490)
ج 2 ، ص : 491
من ربنا أن العذاب والنكال ، والهلاك والدمار في الدنيا والآخرة واقع لا محال على من كذب وتولى ، وكذب بالوحدانية وأعرض عن رسول اللّه ولم يصدقه.
وكان في جداله يقول : فمن ربكما يا موسى ؟ قالا : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه وصورته وشكله ، الذي يناسب المنفعة المطلوبة منه كاليد للبطش والرجل للسير والعين للنظر ، والثدي واختلاف شكله وعدده للرضاع وهكذا.
ثم هدى كل نفس لما يطلب منها ، وما توفق إليه.
قال فرعون : فما بال القرون الأولى ؟ التي انقرضت قبلكما ولم يقروا بالوحدانية.
أجابا : إنها في علم الغيب ، واللّه وحده يعلم ما عملوا وجزاءهم ، وهم في كتاب محفوظ ، لا يطلع عليه أحد.
واللّه لا يضل أبدا ولا يخطئ أبدا ، ولا ينسى أبدا - سبحانه وتعالى - ، وهو الذي جعل لكم الأرض مهادا ، وسلكها سبلا فجاجا ، وجعلها كالفراش المبسوط وهي في الواقع كالكرة المكورة.
وأنزل من السماء ماء فأخرج به أزواجا وضروبا من نبات مختلفة.
كلوا وارعوا أنعامكم ، وتمتعوا بخيراتكم إن في ذلك لآيات لأولى النهى.
من الأرض خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم مرة أخرى للثواب والعقاب تراه وصف الرب - سبحانه وتعالى - بما يقطع حجة فرعون ، ويرد كيده في نحره ، ويملأ قلبه خوفا من عالم الغيب ، وفيه تذكير له بأصله وأنه من تراب عائد إليه ، فلا يغتر بدنياه وملكه ، وليعلم أن وراءه يوما لا ينفع فيه مال ولا بنون ، وتلك آيات بينات ولكنها لأولى النهى ، إنما يتذكر من يخشى .. ولقد أرينا فرعون آياتنا كلها وبصرناه بها ، ولكنه كذب وأبى عنادا واستكبارا وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا « 1 » لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً « 2 » .
___________
(1) سورة النمل الآية 14.
(2) سورة الإسراء الآية 102.(2/491)
ج 2 ، ص : 492
موسى والسحرة الذين جمعهم فرعون [سورة طه (20) : الآيات 57 الى 76]
قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61)
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66)
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71)
قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)(2/492)
ج 2 ، ص : 493
المفردات :
سُوىً مستويا ووسطا وعدلا بيننا يَوْمُ الزِّينَةِ المراد يوم يتزينون فيه بأفخر اللباس ويجتمعون فيه كأنه عيد ويظهر أنه يوم وفاء النيل كَيْدَهُ ما يكيد به وَيْلَكُمْ هلاككم فَيُسْحِتَكُمْ فيبيدكم بعذاب فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ تشاوروا وتجاذبوا أطراف الحديث النَّجْوى ما يتناجون به سرا بِطَرِيقَتِكُمُ بمذهبكم وقيل بأشرافكم وسادتكم فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ أحكموا أمركم واعزموا عزما أكيدا صَفًّا مصطفين اسْتَعْلى غلب فَأَوْجَسَ أحس وأضمر تَلْقَفْ تلتهم وتأكل بسرعة لَكَبِيرُكُمُ لأستاذكم ومعلمكم فِي جُذُوعِ النَّخْلِ على جذوعها لَنْ نُؤْثِرَكَ لن نختارك تَزَكَّى تطهر من دنس الشرك والمعاصي.(2/493)
ج 2 ، ص : 494
المعنى :
ولقد أرينا فرعون المعجزات الدالة على صدق موسى في رسالته ، وأريناه حجج اللّه الدالة على توحيده ونفى الشركاء له فكذب وعصى ، وأبى ذلك وأعرض قائلا : أجئتنا يا موسى مدعيا الرسالة لربك لتخرجنا من أرضنا بسحرك وحيلتك ، جئت يا موسى بآية توهم الناس أنك صادق لتتغلب علينا وتخرجنا من أرضنا وتزيل ملكنا ، وتجعله لنفسك ، وانظر إلى فرعون وهو يحرض الناس على عصيان موسى ومخالفته ، ومن خلال كلامه نفهم أنه كان واثقا أن موسى على الحق ، وأن النصر في النهاية له ، وقوله بسحرك تعليل مزيف لتغطية الموقف.
وإذا كان الأمر للسحر فلنأتينك بسحر مثله ، فاجعل بيننا وبينك موعدا تحدده زمانا ومكانا ، لا نخلفه نحن ولا أنت ، اجعل مكانا مستويا وسطا بيننا وبينك حتى لا يكون عذر في التخلف. قال موسى : موعدكم يوم الزينة يوم الاحتفال بوفاء النيل وكان عيدا من أعيادهم القومية ، يجتمع الناس فيه من كل حدب وصوب مع السحرة المهرة في المملكة كلها ولعل اختيار هذا الموعد الذي يجتمع فيه الناس اجتماعا كاملا والوقت ضحى ، وفيه اتساع للمساجلة والمناقشة والحكم ليكون علو كلمة اللّه وإظهار دينه على ملأ من الناس كثير ، ويكون الحكم على رؤوس الأشهاد في وسط النهار فلا سبيل للإنكار ، وليحدث به كل الناس صغيرهم ، وكبيرهم. وقد كان ذلك.
فتولى فرعون ، وانصرف من ذلك المقام ليهيّئ ما يحتاج إليه ، وليشرف بنفسه على الاستعداد لذلك اليوم الخطير ، فتولى فرعون فجمع كيده وحيله ، وجمع المهرة من السحرة وأتوا مدلين بأنفسهم واثقين من سحرهم طالبين الأجر على ذلك أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ « 1 » وعدهم فرعون بالجزاء المادي والأدبى ليفرغوا طاقتهم وليعملوا جهدهم في التغلب على موسى.
فلما حضروا قال لهم موسى : وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً الهلاك لكم إن اختلقتم على اللّه كذبا وزورا ، إنكم إن فعلتم ذلك فسيسحتكم بعذاب من عنده وسيستأصلكم ويقطع دابركم ، وقد خاب وهلك من افترى على اللّه أو على رسوله كذبا.
___________
(1) سورة الشعراء الآيتان 41 و42.(2/494)
ج 2 ، ص : 495
فلما سمعوا هذا من موسى أخذوا يتجاذبون أطراف الحديث ، ويتشاورون فيما بينهم ، وأسروا نجواهم قائلين : إن غلبنا فسنتبعه ، وقيل إنهم لما سمعوا من موسى قوله :
وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً وأسروا فيما بينهم بأن هذا ليس بساحر أبدا.
وقيل كانت نجواهم هي قولهم إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ، ويذهبا بطريقتكم ومذهبكم الأمثل الحسن ، وقيل يذهب بأشراف قومكم ويهلكهم.
فأجمعوا كيدكم غدا ، وأحكموا أمركم واعزموا عليه ثم ائتوا مصطفين فذلك أدعى إلى تربية المهابة في نفوس النظارة ، وقد أفلح اليوم من استعلى وغلب خصمه ، وكانت له المكانة إلى الأبد.
فلما التقى الصفان ، واجتمع الطرفان قالوا. يا موسى إما أن تلقى أوّلا ، وإما أن نكون نحن الملقين أوّلا.
قال موسى. بل ألقوا أنتم أولا ، أشار بهذا ليفرغوا جهدهم أولا ، ويلقوا بكل أسلحتهم ، فلما ألقوا إذا حبالهم وعصيهم يخيل إلى موسى من سحرهم أنها تسعى ، وذلك أنهم وضعوا فيها مادة الزئبق التي إذا أحست بالحرارة تحركت واضطربت.
في تلك اللحظة ابتهج فرعون وجنوده وعلية القوم ، وأيقنوا أنهم نجحوا ، وأن السحرة قد فازوا على خصمهم موسى وهارون ، وأنه لا يمكنه أن يأتى بشيء أعظم من سحرهم إذ كل ما في يده عصاه فإذا قلبت حية فهي حية واحدة بين آلاف الحيات.
وفي تلك اللحظة الفاصلة هال موسى ما رأى ، وأوجس في نفسه خيفة مما حصل ، ودار بذهنه فيما عسى أن يكون لو لم يبعث اللّه له نصر السماء.
ولكن اللّه - سبحانه وتعالى - العليم الخبير القوى القادر الذي لا يترك عباده المخلصين وحدهم بل هو معهم وقد قال لهما : إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى .
وفي هذه اللحظة أمره ربه أن يلقى عصاه التي هي بيمينه فإذا هي حية تسعى ولكنها ليست كحيات السحرة بل أخذت تبتلع حياتهم كلها وتلتهمها بسرعة وخفة.
واللّه أكبر ظهر الحق وبطل السحر ، وجاء الحق وزهق الباطل ودهش آل فرعون والملأ من قومه بل وكل الناس وعلم السحرة - وهم أدرى الناس بالسحر وطاقته(2/495)
ج 2 ، ص : 496
- أن السحر لا يفعل هذا أبدا وإنما هي القوة الإلهية صنعت هذه المعجزة ، فخروا للّه ساجدين ، وآمنوا برب العالمين ، رب موسى وهارون مفضلين ذلك على الأجر الدنيوي مؤثرين الحق على الباطل ، والباقية على الفانية!! ماذا يفعل فرعون ؟ إنه لموقف جد خطير قد جمع الناس جميعا وجمع السحرة من كل مكان ، وقد أفهم الشعب الذي يقدسه أن نهاية موسى وهارون في ضحى الغد ، يوم يجتمع الناس في وفاء النيل.
ولم يعد موسى وهارون وحدهما بل صار معهما السحرة والعلماء في قومه!! فلا بد أن يختصم الجميع ، ويتهم الكل ، وإن كان مخالفا للعقل والمنطق.
فقال للسحرة سترا لموقفه : إنه لكبيركم وأستاذكم الذي علمكم السحر ولهو أقوى منكم ، وغلب سحره سحركم ، وهو يريد بهذا أن يخرج المسألة عن نطاق المعجزة الإلهية إلى دائرة سحر السحرة.
قال هذا مع علمه أن موسى رحل إلى مدين صغيرا ، وعاد منها قريبا ، ولم يتصل بالسحرة مطلقا فضلا عن كونه أستاذهم ، ولكنه المقهور المغلوب يلتمس لنفسه العذر وإن كان لا يغنى شيئا.
ثم أخذ يتجنى عليهم ويؤنبهم بقوله : آمنتم به قبل أن آذن لكم ، فهم أذنبوا حيث لم يستأذنوا ، وهو لهذا أقسم ليقطعن أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وليصلبنهم على جذوع النخل ، ولتعلمن أيها السحرة أينا أشد عذابا وأقوى ؟ وهو إذ يضع نفسه في كفة وموسى في كفة أخرى إنما يستهزئ ويفتخر.
هذا هو فرعون مصر ، وذلك بطشه الشديد ، وتهديده الكثير ، أما الإيمان العميق المبنى على الفهم الدقيق فقد جعل السحرة يقولون : لن نؤثرك يا فرعون ونختارك على ما جاءنا من البينات والهدى لن نفضل نعمتك على ما هدانا اللّه إليه والذي فطرنا وخلقنا فاقض بما تشاء واحكم بما تريد ، إنما تقضى وتحكم في هذه الحياة الدنيا ، ولن تنال إلا من جسمنا الفاني تقطع منه أو تقتله أما الإيمان واليقين فذلك شيء لن تنال منه.
وذلك إنا آمنا بربنا وصدقنا برسالة نبينا رجاء أن يغفر لنا خطايانا ، وما أكرهتنا عليه من السحر ، واللّه - سبحانه - خير وأبقى ، والدار الآخرة للذين يتقون ، وكيف(2/496)
ج 2 ، ص : 497
لا يكون ذلك ؟ إنه من يأت ربه مذنبا فله جهنم خالدا فيها لا يموت ولا يحيا ، ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالح من الأعمال فاؤلئك لهم الدرجات العليا ، ولهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ، وذلك جزاء من تزكى وتطهر من دنس المعاصي والآثام.
خروج بني إسرائيل من مصر ، ورحيل فرعون لطلبهم [سورة طه (20) : الآيات 77 الى 82]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82)
المفردات :
يَبَساً لا طين فيه ولا ماء دَرَكاً إدراكا ولحوقا بهم فَأَتْبَعَهُمْ يقال أتبعهم إذا تبعتهم وإذا سبقوك فلحقتهم الْمَنَّ وَالسَّلْوى تقدم تفسيرهما في سورة البقرة جزء أول يَحْلِلْ يجب هَوى سقط في الهاوية.
المعنى :
أذن اللّه - سبحانه وتعالى - لموسى أن يخرج من تحت حكم فرعون ، وأن ينقذ(2/497)
ج 2 ، ص : 498
بنى إسرائيل من عذاب المصريين ، فأوحى إليه بأن أسر بعبادي ليلا حتى لا يراك فرعون وجنده ، فذهبوا حتى وصلوا شاطئ البحر الأحمر الغربي من جهة (السويس) فأمره اللّه بأن اضرب بعصاك البحر! فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ، وأصبح لهم عدة طرق بقدر أسباطهم الاثنى عشر ، وسار الطريق وسط الماء يابسا لا طين فيه ولا ماء.
فاجعل لهم طريقا في البحر يابسا غير خائفين إدراك فرعون لهم ، ولا أنت تخشى لحوقه لكم.
أما فرعون فلما علم بخروجهم من مصر وكانوا يسكنون في إقليم الشرقية ، أرسل في المدائن يجمع الجند للحاق بهم وإدراكهم قائلا : إن هؤلاء لشرذمة قليلون ، وإنهم لنا لغائظون ، فلحقهم فرعون ومعه جنده وهم يعبرون البحر ، وقد جعل اللّه لهم طرقا فيه.
فلما أبصر فرعون تلك الطرق سار فيها ظنا منه أنها طرق عامة له أن يسير فيها ، فلما احتواه البحر ونجا موسى ومعه بنو إسرائيل غشيهم من اليم ما غشيهم ، وأصابهم من الهول والخوف والغرق ما أصابهم فكان كالغطاء لهم ، حتى إذا أدركه الغرق قال :
آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ، ولكن هيهات له ذلك ، وقد أضل فرعون قومه وما هداهم إلى خير أبدا بل كان هو الداعية للشر كله ، وما كان مخلصا في إيمانه هذا ، فلما نجا بنو إسرائيل ، وغرق فرعون وجنده على مرأى منهم ، وكان ذلك من النعم عليهم أخذ يعدد نعمه فقال : يا بنى إسرائيل : قد أنجيناكم من عدوكم ، وواعدناكم جانب الطور الأيمن ، بمعنى : وأمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه لنكلمه وأنتم حضور فتسمعوا الكلام فالمواعدة كانت بين موسى وربه ، وإنما خوطبوا بها لأنها كانت من أجلهم ، والأيمن صفة للجانب والمراد يمين الشخص لا يمين الجبل ، وأنزلنا عليكم المن والسلوى ، وهو طعام شهى من صنع اللّه لا تعب فيه ولا ألم.
وقلنا لكم كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تتجاوزوا الحد بالإسراف أو التقتير أو عدم القيام بالشكر ، وإياكم والمعصية فإنها أصل الطغيان.
إنكم إن طغيتم يحل عليكم غضبى ، وينزل بكم عذابي ، ومن يحلل به عذابي ، ويوجب عليه لعلمه السوء فقد هوى في الهاوية وهي قعر جهنم. واعلموا أنى غفار(2/498)
ج 2 ، ص : 499
رحيم بمن تاب وأناب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ، وفي التعبير بثم إشارة إلى بعد المرتبتين.
اتخاذ بنى إسرائيل إلها يعبدونه [سورة طه (20) : الآيات 83 الى 98]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92)
أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97)
إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً (98)(2/499)
ج 2 ، ص : 500
المفردات :
وَما أَعْجَلَكَ ما الذي حملك على العجلة عَلى أَثَرِي المراد هم بالقرب منى فَتَنَّا قَوْمَكَ ابتليناهم واختبرناهم أَسِفاً الأسف الشديد : الغضب الْعَهْدُ الزمان بِمَلْكِنا بملكنا أمورنا والصواب منها أَوْزاراً أحمالا ثقالا خُوارٌ الخوار : صوت البقر يا سامِرِيُّ رجل منافق محتال اسمه السامري قَبْضَةً هي المرة من القبضة التي هي أخذ الشيء بجمع الكف والمراد هنا الشيء المقبوض سَوَّلَتْ زينت لا مِساسَ أى لا أحد يمسني لَنَنْسِفَنَّهُ لنذروه في الرياح والمراد لنلقينه في البحر.
المعنى :
كان موسى قد وعد بنى إسرائيل إذا هلك فرعون أن اللّه سيعطيه الألواح وفيها الوصايا التي يأخذ بها بنو إسرائيل أنفسهم وأعقابهم من بعدهم أى فيها دستورهم الذي يعيشون عليه.(2/500)
ج 2 ، ص : 501
فلما أهلك اللّه فرعون سأل موسى ربه الكتاب فأمره أن يصوم ثلاثين يوما ثم زيدت إلى أربعين يوما وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [سورة الأعراف آية 142].
وكان لمخالطة بنى إسرائيل للمصريين وهم عبدة الأوثان أثر كبير في نفوسهم فكانوا يقولون لموسى بعد خروجهم من مصر : اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [سورة الأعراف آية 138] ولهذا أمكن لرجل منهم أن يؤثر فيهم فعبدوا العجل بعد مفارقة موسى لهم للميقات.
ولما ذهب موسى لميقات ربه ، استخلف على القوم أخاه هارون ، وكان موسى على رأس سبعين نقيبا ذاهبين معه للميقات (كما مر في سورة الأعراف).
ولكن موسى تعجل من بينهم شوقا لربه فقيل له ما أعجلك عن قومك ؟ وما الذي حملك على العجلة حتى تركت النقباء وخرجت من بينهم ، فأجاب موسى : هم أولاء على أثرى وفي عقبى ، وهم بالقرب ينتظرون عودتى إليهم على أنى عجلت إليك يا رب لترضى بمسارعتى للقائك ، وامتثال أمرك.
قال اللّه - سبحانه وتعالى - : فإنا قد فتنا قومك واختبرناهم من بعدك ، وهم الذين تركهم مع هارون - وأضلهم السامري ، ودعاهم إلى الضلالة والكفر حيث قال لهم - وقد تأخر موسى عن الميعاد عشر ليالي : إنما تخلف موسى عن الميعاد الذي بينكم وبينه لما معكم من الحلي وهي حرام عليكم. وأمرهم بإلقائها في النار ، وكان منها العجل على ما سيأتى :
فرجع موسى إلى قومه غضبان شديد الغضب والحزن لما صار إليه حال بعضهم وهو عبادة العجل ، وقد قلت إن جهل الإسرائيليين ومخالطتهم لعبدة الأوثان سهل عليهم قبول خداع السامري.
قال موسى : يا قوم. ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا ؟ حيث قال : وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ، وقد وعدهم بالثواب الجزيل إذا عملوا بما في التوراة التي سينزلها على موسى إذا ذهب للميقات.
أوعدكم ذلك فطال عليكم العهد ، وضقتم ذرعا بطول الزمن ؟ !! أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم ؟ أى أردتم أن تفعلوا فعلا يكون سببا(2/501)
ج 2 ، ص : 502
في حلول الغضب عليكم والعذاب من ربكم ؟ ! فأخلفتم موعدي ، ولم تقيموا على عهدي قالوا يا موسى : ما أخلفنا موعدك بملكنا الصواب والرأى الحسن بل أخطأنا ولم نملك أنفسنا وكنا مضطرين إلى الخطأ الذي وقعنا فيه.
ولكنا حملنا أثقالا من زينة القوم أى المصريين ، وذلك أنهم أخذوا حلى بعض المصريين بحجة أن لهم عيدا أو اجتماعا ، وقيل ، لما غرق فرعون أخذوا زينته فهم حملوا أثقالا من زينة القوم ، فقذفناها كما أشار - بذلك السامري - إلى النار. فمثل ذلك القذف قذفها السامري فأخرج لهم بعد أن أذاب الذهب في النار صورة عجل له جسد ، وله خوار وصوت كصوت العجل الحي.
أكان حقيقة هذا العجل من جسد وروح وله خوار ؟ أو هو عجل جسد فقط وله صوت نشأ من وضع خاص في تركيبه إذا مر به الريح صار له صوت يمكن أن يكون هذا وذاك واللّه أعلم.
والشيخ النجار يرى أن السامري أمكنه بالحيلة أن يحضر لهم عجلا حقيقيا لم يروه قبل هذا ، وكان أخذ الذهب منهم وإلقاؤه في النار حيلة منه فقد عمل عمل الدجالين.
ولما أخرج لهم عجلا له جسد وله صوت قال ومن معه : يا بنى إسرائيل هذا إلهكم وإله موسى الذي ذهب ليطلبه ولكنه نسى مكانه فضل طريقه ، أو هو إلهكم ولكن موسى نسى أن يخبركم به.
ويقول اللّه لهم : أفلا يعتبرون ويتفكرون في أن هذا العجل لا يرجع لهم قولا ولا يرد عليهم بكلمة ، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا .. فيكف يكون إلها ؟ !! ولقد قال لهم هارون محذرا إياهم من عبادة العجل ، يا قوم إنما فتنتم وابتليتم به ، وإن ربكم الرحمن - سبحانه وتعالى - فاتبعوني ولا تتبعوا طرق الشيطان وكلام السامري ، وأطيعوا أمرى فإنى ناصح لكم شفيق بكم قالوا : لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ، ولن نزال مقيمين على عبادته حتى يعود أخوكم موسى.
فلما رجع موسى قال وهو في غاية الحسرة والألم : يا هارون ما منعك أن تتبعني في شدة النكير على المخالف والقسوة على العاصي ؟ أى هلا قاتلتهم إذ قد علمت أنى لو كنت بينهم لقاتلتهم في ذلك قتالا عنيفا.(2/502)
ج 2 ، ص : 503
أفعصيت أمرى ؟ وكان أمره له اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [سورة الأعراف آية 142].
ويصح أن يكون المعنى أفعصيت أمرى لك بالقيام للّه ومنابذة من خالف دينه ، وأقمت بين هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلها!! قال معتذرا. يا ابن أمى لا تأخذ بشعر رأسى ولا بلحيتي وقد كان موسى فعل ذلك من شدة الغضب ، وإنى خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرائيل لو قاتلت ولم ترقب وتنتظر قولي ، اجتهد هارون فرأى أن طريق المسالمة خير من القتال ، وفي موضع آخر اعتذر بقوله. إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي [سورة الأعراف آية 150].
ثم توجه موسى إلى خطاب السامري فقال. ما خطبك يا سامرى!! ما حالك وما الذي دهاك حتى تعمل هذا ؟ !! قال بصرت بما لم يبصروا به ، وعلمت ما لم يعلموا فقبضت قبضة من أثر الرسول - وهو جبريل - فما وضعتها على شيء إلا دبت فيه الحياة ، ولما رأيت بنى إسرائيل يطلبون منك أن تجعل لهم إلها كما لهؤلاء الذين يعكفون على الأصنام آلهة زينت لي نفسي ذلك وعملت لهم إلها عجلا جسدا لها خوار كالذي يعبده المصريون.
ويروى الشيخ النجار في كتابه قصص الأنبياء ص 224 أما قول السامري فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها فمعناها على ما اخترت أنه قبض قبضة من أثر الرسول أى تعاليمة وأحكام التوحيد التي جاء بها الرسول - وهو موسى - فنبذتها أى ألقيتها وأهملتها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي وهذا رأى لا ضير فيه وفي كتب أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن الذي صنع العجل هو هارون أخو موسى ، وهو كذب وافتراء يضيفونه إلى سلسلة الأكاذيب التي ينسبون فيها إلى رسل اللّه أحط الأعمال وأحقرها.
قال موسى للسامري. اذهب فإن جزاءك في الدنيا أن حالك تصل إلى أن تقول لغيرك لا مساس فأنت تنفر من الناس وتعيش منبوذا مطرودا وذلك جزاء الظالمين.
أما في الآخرة فإن لك موعدا هو يوم القيامة لن تخلفه أنت ، ولن تمكن من خلفه واللّه لا يخلف الميعاد. فهو حاصل قطعا وستأخذ فيه جزاءك الأوفى.
وأما هذا الإله الباطل فحكمه الإحراق وأن يذرى في الماء.(2/503)
ج 2 ، ص : 504
إنما إلهكم اللّه الذي لا إله إلا هو. ولا معبود بحق سواه ، العالم بخلقه ، الخبير بشأنهم الذي وسع كل شيء علما .. ترى أن قصة موسى بدئت بالتوحيد الخالص وانتهت به كذلك كانت رسالة كل نبي.
المعرضون عن القرآن يوم القيامة [سورة طه (20) : الآيات 99 الى 114]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108)
يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113)
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)(2/504)
ج 2 ، ص : 505
المفردات :
ذِكْراً هو القرآن الكريم وِزْراً إثما عظيما وحملا ثقيلا يُنْفَخُ فِي الصُّورِ الصور : شيء كالبوق ينفخ فيه مرة فيموت الكل ثم ينفخ فيه أخرى فيحيا الكل وتأتى الناس أفواجا ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ زُرْقاً المراد : تسوء خلقتهم بزرقة عيونهم وسواد وجوههم يَتَخافَتُونَ يتسارون يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً المراد : يفتتها كالرمل ثم تذروها الرياح قاعاً صَفْصَفاً القاع المستوي من الأرض المكشوف ، والصفصف المستوي الأملس. والمعنى يكاد يكون واحدا عِوَجاً أى : اعوجاجا وتعوجا وَلا أَمْتاً أى : تلالا صغيرة عِوَجَ لَهُ لا معدل لهم عنه خَشَعَتِ ذلت وسكنت هَمْساً صوتا خفيا هَضْماً انتقاصا من حقه.
المعنى :
مثل القصص ذلك الذي قصصناه عليك من خبر موسى وفرعون. نقص عليك من أنباء ما قد سبقك من أخبار الأمم الماضية ففي القصص عبرة وعظة ، ودرس وتسلية ، وإحاطة بأخبار الناس وأحوالهم فالزمن يوم مكرر والناس هم الناس وإن اختلفت الأزمان وتغيرت الأحوال.
وآتيناك من لدنا قرآنا هو ذكر لك ولقومك وشرف لك وأى شرف ؟ ، وفي القرآن ذكر للرحمن ، وذكرى وموعظة للإنسان.
من أعرض عن القرآن وذكره ، وما فيه فإنه يحمل يوم القيامة حملا ثقيلا من الآثام(2/505)
ج 2 ، ص : 506
والأوزار خالدين فيه ماكثين في عذابه ، وساء لهم يوم القيامة حملا ، وبئس الحمل حملهم يوم القيامة.
يوم ينفخ في الصور النفخة الثانية بدليل ذكر الحشر بعدها ، ونحشر المجرمين الظالمين وهم المشركون زرق العيون سود الوجوه عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس الآيات 40 - 41 - 42] نحشرهم عطاشا خائفين مضطربين ، يتسارون بينهم قائلين. ما لبثتم إلا عشرا من الليالي أو من الساعات فهم لشدة ما يرون ولهول ما يصادفون يستقصرون مدة الدنيا أو مدة ما كانوا في القبر ، أو مدة ما بين النفختين ، نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم وأصدقهم نظرا ما لبثنا إلا يوما واحدا لا عشرا ، والأمثلية نسبية فلا يمنع أنه على الباطل مثلهم.
ويسألونك عن الجبال ماذا تكون يوم القيامة ؟ استعظاما لها سألوا عنها النبي فأمر صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقول لهم : فقل ينسفها ربي نسفا قال بعضهم : يقلعها من أصولها ، ثم يصيرها رملا دقيقا ، ثم يصير كالصوف المندوف ، ثم تكون هباء منثورا .. فيذر أماكنها أرضا مستوية مكشوفة لا نبات فيها ولا بناء وهي صفصف أى : مواضعها أرض ملساء مستوية لا شيء فيها ، لا ترى فيها عوجا ولا ميلا ، ولا تلالا صغيرة ، والمعنى أن الجبال ذهبت وبقيت مواضعها أرضا مستوية مكشوفة معتدلة لا شيء عليها.
يومئذ يتبعون الداعي وهو إسرافيل الذي ينفخ في الصور ، لا معدل لهم عن ابتاعه! ولا ينحرفون عن طلبه بل يسرعون إليه ولا يحيدون عنه ، وخشعت الأصوات وسكنت فلا تسمع إلا صوتا خافتا ، ولا تسمع إلا وقع الأقدام فقط إذ كل امرئ له شأن يغنيه عن كلام أخيه ، ويومئذ لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شفاعة من أذن له الرحمن ورضى له قولا ، إذ اللّه - سبحانه وتعالى - هو المالك المتصرف في الخلق جميعا العالم ما بين أيديهم من أحوال القيامة ، وما خلفهم من أمور الدنيا ولا أحد يحيط به علما ..
وعنت الوجوه وذلت الرقاب ، وخضعت النفوس للحي القيوم على كل نفس بما كسبت القائم بتدبير الخلق جميعا ، الدائم الذي لا يزول ولا يحول ولا يبيد ، وقد خاب من حمل ظلما وشركا.
ومن يعمل من الصالحات الباقيات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا نقصا لثوابه ولا هضما لحق من حقوقه وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [سورة الأنبياء آية 47].(2/506)
ج 2 ، ص : 507
ومثل ذلك الإنزال أنزلناه أى : القرآن حالة كونه قرآنا بلسان عربي غير ذي عوج لأنه نزل على العرب فكان بلغتهم التي يفهمونها على معجزته كانت من ناحية البلاغة العربية التي أعجزت فحول العرب مجتمعين فلا يبقى عذر لعربي لا يؤمن بالقرآن لأنه بلغته فيمكن الحكم عليه ، وأما غير العرب فإذا رأوا عجز العرب عن الإتيان بمثله مع التحدي لهم آمنوا بأنه من عند اللّه. على أن في القرآن نواحي إعجاز أخرى في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والعلوم. فمن ينظر إلى كلامه في الشجر والنبات يؤمن أنه لا يمكن لمخلوق في القرن السادس الميلادى أن يأتى بهذا ، ويقولون : إن ملاحا انجليزيا نظر في كلام القرآن عن البحار والسفن فآمن أنه من عند اللّه ولا شك ، وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا ، وصرفنا فيه من الوعيد ، وكررناه ، وسقناه على أشكال وألوان مختلفة لعلهم يتقون اللّه ويخافون عقابه ، ولا شك أن كثرة الكلام في الثواب والعقاب يحدث هذا ، ألا ترى إلى فن الإعلان اليوم ، وأنه يعتمد على كثرة العرض والحديث عن الشيء في ألوان مختلفة.
لعل الناس يتقون أو يحدث لهم ذكرا ووعظا وخوفا وتقوى.
وإذا كان اللّه صاحب هذا القرآن الكامل المعجز فتعالى اللّه - سبحانه وتعالى - الملك الحق.
ولا تعجل يا محمد بالقرآن وتلاوته ، وكان النبي لشدة حرصه على القرآن يتابع جبريل فيه بسرعة فقيل له. لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[سورة القيامة الآيتان 16 و17] وقل ربي زدني علما ، وإذا كان هذا حال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فما لنا لا نحرص على القرآن الحرص المناسب لنا ؟ ؟
قصة السجود لآدم [سورة طه (20) : الآيات 115 الى 127]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124)
قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127)(2/507)
ج 2 ، ص : 508
المفردات :
عَهِدْنا العهد من اللّه للناس كل أمر أو نهى منه ، والعهد الذي كان من اللّه لآدم هو أمره الذي حرم عليه الأكل من الشجرة فَنَسِيَ النسيان له معان : منها هو ضد التذكر ، أو هو بمعنى السهو ويظهر أن هذين المعنيين ليسا معنا ، وقيل : هو(2/508)
ج 2 ، ص : 509
بمعنى عدم الاهتمام بالشيء وجعله في زاوية النسيان وعليه قوله : نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ.
عَزْماً العزم التصميم على العمل ، وانعقاد الضمير عليه فَتَشْقى فتتعب وَلا تَعْرى من العرى ضد اللباس وَلا تَضْحى ولا تظهر للشمس فتجد حرها فَوَسْوَسَ الوسوسة : الصوت الخفى المكرر ، والمراد : ما نجده من الخواطر شَجَرَةِ الْخُلْدِ المراد شجرة الحنطة مُلْكٍ لا يَبْلى لا ينفذ سَوْآتُهُما المراد عوراتهما طَفِقا يَخْصِفانِ أخذ يجعلان ورقة فوق ورقة فَغَوى أى :
فشد عليه عيشه بنزوله الدنيا ضَنْكاً أى : شديدة متعبة أَسْرَفَ انهمك في اقتراف الشهوات.
قصة آدم أبى البشر ذكرت في القرآن عدة مرات ، وفي سور مختلفة ، وبأساليب متباينة ، وكانت جديرة بذلك لما فيها من الأسرار والإشارات ، ولما في ذكرها من التذكير والعظات ، لو كانوا يعقلون.
المعنى :
وباللّه لقد عهدنا إلى آدم من قبل وجود هؤلاء الناس ، عهدنا إليه ووصيناه بألا يقرب هذه الشجرة ، وأمرناه ألا يأكل منها فنسي هذا الأمر ولم يهتم به فلم يكن في بؤرة شعوره ، وذلك بوسوسة إبليس له ، ولم نجد له عزما وتصميما إذ هو ناس لا محالة.
إذن يمكن أن نفهم من هذه الآية أن الحق - تبارك وتعالى - يعرفنا أن النسيان وعدم العزم هما سببا هبوط المرء إلى درجة العصيان أما التذكرة وقوة العزم فهما سبب الصعود إلى الخير والرشد.
واذكر إذ قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم تحية وإجلال لا سجود عبادة وتأليه حتى يعرف أبناؤه تكريم اللّه لهم فيقوموا بواجب الشكر ورد الجميل فسجدوا جميعا إلا إبليس الذي كان معهم وقت الأمر ، وإن كان من الجن كما هو ظاهر الآية كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف آية 50].(2/509)
ج 2 ، ص : 510
فقلنا : يا آدم أما وقد عصى إبليس ربه ولم يسجد لك حسدا أو غرورا منه فاعلم أنه عدو لك ، ولزوجك ، وإياك طاعته ، واحذر من وسوسته وتزيينه الباطل في صورة الحق.
إن هذا عدو لكما فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى وتتعب ، إنك يا آدم فيها لا تجوع أبدا ، ولا تعرى أبدا ، ولا تظمأ من العطش ، ولا تظهر في الشمس فتجد حرها ولهيبها - فأنت في الجنة متمتعا بنعم اللّه التي لا تحصى.
ومع هذا التذكير لآدم ، والتحذير له من إبليس.
وسوس له الشيطان وزين له العصيان ، وقال له : يا آدم أقسم ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكون ملكين أو تكونا من الخالدين ، وقاسمهما إنى لكما لمن الناصحين :
يا آدم هل أدلك على شجرة إن أكلت منها كنت من الخالدين ، وكان لك ملك لا يبلى ولا يفنى ، أتى آدم من جهة إثارة غريزتين هما غريزة حب البقاء ، وغريزة الملك فأزلهما الشيطان ، وضحك عليهما بكذبه وتغريره. فأكلا من الشجرة المحرمة.
عند ذلك بدت لهما عوراتهما ، وأخذ يستران العورة ، ويخيطان عليها من ورق الشجر وعصى آدم ربه ففسد عيشه وتبدل حاله لحكمة اللّه يعلمها ، وقيل إن المراد في بدت لهما عوراتهما : ظهور الغريزة الجنسية عندهما.
ثم بعد ذلك اجتباه ربه واصطفاه فتاب عليه لما ندم على ما فرط منه ، وهداه إلى سواء السبيل فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ [سورة البقرة آية 37].
خرج آدم وحواء من الجنة لما أكلا من الشجرة ، وأمرهما أن يهبطا إلى الأرض فقال :
اهبطا أنتم والشيطان الذي أغواكم من الجنة إلى الأرض بعضكم لبعض عدو فاحذروا يا أبناء آدم هذا العدو اللدود لكم.
فإما يأتينكم منى هدى على لسان الرسل فمن اهتدى واتبع وسلك سبيل الخير وابتعد عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ، ولن تراه في الدنيا يضل ، ولن تراه يشقى أبدا بل هو في سعادة أبدية إن أعطى المال شكر وإن حرم منه صبر فهو سعيد راض ، قنوع ، محتسب فائز إن شاء اللّه.(2/510)
ج 2 ، ص : 511
ومن أعرض عن ذكرى وسلك سبيل الغواية والشيطان ، فإن له معيشة ضنكا ، معيشة تعب وألم فهو دائما في تعب ونصب إن أعطى مالا هو مستقله ويطلب المزيد منه مهما كان ، وإن حرم منه فهو غير راض عن ربه فهو في الحالين في عيشة تعسة وحياة منغصة.
أما يوم القيامة فسيحشره أعمى عن درجات السعادة ، وأعمى عن طرق النجاة فسيتردى في جهنم وبئس القرار.
قال : ربّ لم حشرتني أعمى ؟ وقد كنت بصيرا ، قال : ليس العمى الذي أنت فيه الآن عمى البصر ، ولم تكن في الدنيا بصير القلب بل كنت أعمى البصيرة أتتك آياتنا على لسان رسلنا فنسيتها ، وأهملتها ، ولم تر بقلبك فيها نورا ولا هداية ، وكذلك اليوم تنسى وتهمل في عذاب النار.
ومثل ذلك نجزى من أسرف على نفسه ، وانهمك في الشهوات والبعد عن آيات القرآن ولم يؤمن بها الإيمان الصحيح.
وأقسم لعذاب الآخرة وأهوالها أشد وأنكى من عذاب الدنيا ، لأنه دائم لا ينقطع وهم فيها خالدون.
عبر ونصائح [سورة طه (20) : الآيات 128 الى 135]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132)
وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)(2/511)
ج 2 ، ص : 512
المفردات :
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ هدى كاهتدى بمعنى تبين الْقُرُونِ الأمم آناءِ جمع إنى بمعنى وقت وَلا تَمُدَّنَّ المراد : لا تطل نظرهما بطريق الرغبة والميل أَزْواجاً أصنافا زَهْرَةَ الْحَياةِ زينتها وبهجتها بَيِّنَةُ بيان ما في الكتب السابقة نَذِلَّ بعذاب الدنيا ، وَنَخْزى بعذاب الآخرة مُتَرَبِّصٌ منتظر ما يؤول إليه الأمر.
المعنى :
أغفل هؤلاء المكذبون للنبي الكافرون برسالته فلم يتبين لهم خبر من أهلكناهم من الأمم السابقة ؟ حالة كونهم يمشون في مساكنهم التي أصبحت خاوية على عروشها وحتى لم يبق من عاد وثمود ، وأصحاب الأيكة وقوم لوط أثر ولا عين فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [سورة النمل آية 52].
إن في ذلك لآيات واضحات ولكن لأولى النهى والعقل أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [سورة الحج آية 46].(2/512)
ج 2 ، ص : 513
ولو لا كلمة سبقت من ربك بتأخير العذاب عنهم ، وأجل مضروب ومسمى عند اللّه لكان إهلاكهم لأجل تكذيبهم لك لازما لهم فورا ، ولهذا فاصبر على ما يقولون ، وسبح بحمد ربك ، وصل لربك حامدا له ومستغفرا قبل طلوع الشمس كصلاة الفجر وقبل الغروب كصلاة الظهر والعصر وبعض الليل فسبحه فيه عند صلاة المغرب والعشاء وفي قيام الليل ، وعليك بالصلاة خصوصا عند أطراف النهار وعند طلوع الشمس وعند الغروب لعلك أيها المخاطب ترضى بالجزاء الوافر.
أما علاج تكذيب المكذبين ، وعناد المشركين ، وإيلام الكفار للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه بالصبر والسلوان فهذا أمر ظاهر المعنى بين الحكمة وأما العلاج بالتسبيح والاستغفار والصلاة والتكبير فهذا دليل على تأثير الروح في النطاق الجسمى إذ الصلاة والتسبيح غذاء للروح قوى ، وإذا قويت الروح كان الإحساس بالتعب الجسمى ، وبالألم البدني قليلا بل يكاد ينعدم ، ولقد كنا نقرأ حديث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يقول لفاطمة ابنته : وقد شكت له ما تجد من مشقة (الرحا) حين تديرها لطحن طعامها وطعام بنيها ما معناه :
إذا أويت إلى فراشك فقولي : (سبحان اللّه والحمد للّه. واللّه أكبر ثلاثا وثلاثين) قالت فاطمة : فلم أجد بعد ذلك ما كنت أجد من مشقة أو أذى.
فما علاقة التعب الجسماني بالتسبيح والتحميد والتكبير ؟ !! ولكن ظهر أن هذا للروح والروح إذا قويت لم يشعر الجسم بالتعب ، ولقد صدق اللّه حيث يقول :
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها الآية.
وهذا إرشاد آخر ، ونصح للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ونحن أولى به باتباعه ، ولا تطيلن النظر إلى ما متعنا به أصنافا من الناس ، فتلك زهرة الحياة الدنيا وزينتها وبهجتها ، والمعنى : لا تنظر متعجبا طالبا مثله فإنما أعطيناهم لنفتنهم فيه ونبلوهم به ، ورحمة ربك في الآخرة خير من هذا كله وأبقى.
وليست الآية تأمرنا بالكسل وعدم العمل ، ولكنها تنهانا فقط عن أن نتمنى مثل ما في يد الكفار والعصاة من حطام الدنيا الفاني ، والواجب أننا لا نجعل الدنيا أكبر همنا ، ونترك الآخرة بالمرة بل نعمل للآخرة مؤثرين رضاء اللّه وطاعته ولا ننسى نصيبنا(2/513)
ج 2 ، ص : 514
من الدنيا ولا نحزن على فواتها ، ولا نفرح لمجيئها
« اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا » .
وهاك نصحا آخر : وأمر أهلك من أقاربك وأصحابك وأصدقائك بالصلاة ، وحببهم فيها ، وعلمهم الصبر عليها ، واستعينوا بها على قضاء حوائجكم ، وفك أزماتكم « كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا حزبه أمر - أى : وقع في شدة - هم إلى الصلاة » حديث شريف.
كانوا يكثرون من اقتراح الآيات على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كأنهم لم يقنعوا بما في يد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من المعجزات. وخصوصا القرآن الكريم المعجزة الباقية.
وقالوا عنادا وكفرا : لو لا يأتينا بآية من ربه كالعصا والناقة مثلا!! أعموا ولم يأتهم بيان ما في الكتب السابقة ، ولقد جاءهم هذا كله في القرآن المهيمن على الكتب السابقة المصدق لها ، وفيها أن الأقوام السابقة طلبوا آيات فأجيبوا بها ولم يؤمنوا لها فأهلكهم ربهم بعذاب من عنده.
وكيف يطلبون الآية بعد هذا القرآن الجامع الشامل الذي فصل كل شيء تفصيلا وما فرط في شيء أبدا ، بل فيه كل الصحف السابقة وزيادة.
ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبل نزوله على يد المصطفى لقالوا : لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونؤمن بها من قبل أن نذل في الدنيا ونعذب في الآخرة : لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [سورة النساء آية 165].
قل لهم كل منا ومنكم متربص ومنتظر ما يؤول إليه الأمر ، وعند ذلك فستعلمون من أصحاب الصراط السوى والطريق المستقيم ، ومن هو على الهدى ومن هو على الضلال ؟ !!! ولقد علموا نهاية أمرهم ، وعاقبة كفرهم ..(2/514)
ج 2 ، ص : 515
سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
مكية عند الجميع ، وهي مائة واثنتا عشرة آية ، وسميت بذلك لذكر قصص الأنبياء فيها وهي كغيرها من السور المكية ، تهدف إلى إثبات عقيدة الإسلام في نفوس المشركين فتراها تعرض لأقوالهم ، وترد عليهم مهددة منذرة ، وتلفت الأنظار للكون وما فيه حتى يستدل بذلك على خالقه ، ثم تعرض لقصص بعض الأنبياء للعبرة والعظة ، وهي في البدء والنهاية تصور بعض مشاهد يوم القيامة بأسلوب قوى مؤثر.
المشركون ودعواهم والرد عليهم [سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)(2/515)
ج 2 ، ص : 516
المفردات :
غَفْلَةٍ غفل عن الشيء من باب دخل ، وغفلة أيضا وأغفله عنه غيره وقد تستعمل فيمن تركه إهمالا وإعراضا كما هنا ، ومنه قيل أرض غفل أى لا علم بها ورجل غفل لم يجرب الأمور مُعْرِضُونَ من أعرض عنه بمعنى أضرب وولى عنه لاهِيَةً ساهية. معرضة. متشاغلة عن التأمل والتفهم النَّجْوَى التناجي والتسار في القول أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ أتتبعونه أَضْغاثُ أَحْلامٍ هي الرؤيا الكاذبة ، التي لا يكون لها تأويل ، والأضغاث ، جمع ضغث والأصل فيه يطلق على قبضة من حشيش مختلط رطبها بيابسها والرؤيا الكاذبة مختلطة غير منتظمة فلا تأويل لها افْتَراهُ اختلقه من تلقاء نفسه الْمُسْرِفِينَ المبالغين في الكفر والظلم.
المعنى :
لقد صدق عامر بن ربيعة حين جاءه رجل ، كان أكرم مثواه في يوم ، وقال له أى لعامر : إنى استقطعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم واديا ما في العرب واد أفضل منه ، وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك فقال عامر : لا حاجة لي في قطعتك ، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ
.(2/516)
ج 2 ، ص : 517
افتتح اللّه هذه السورة بما يوقف الأطماع ، ويحدد الاتجاه ، وبما يوقفنا على ما كان عليه المشركون المشار إليهم في الآية ، وإن كان لفظ الآية يتناول الناس جميعا.
اقترب للناس زمان حسابهم ، وقرب الوقت الذي فيه يحاسبون على أعمالهم ، والحال أنهم في غفلة ، وهم معرضون عن الذكر الحكيم.
يا للعجب! يقترب الحساب ، والناس عنه غافلون ، وله ناسون وتاركون ، شغلتهم أموالهم وأهلوهم ، وهم معرضون ومضربون عما فيه خيرهم ، وبه سعادتهم في الدنيا والآخرة إن هذا لعجيب!! هذا أمر في الناس جميعا ، وداء أصاب العالم أجمع ، ولكن الأوصاف الآتية تجعلنا نتجه بالكلام ناحية المشركين المعاصرين للنبي خاصة فهم الذين لا يأتيهم ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون.
نعم ما يأتيهم ذكر وقرآن من ربهم محدث يتلوه جبريل على النبي سورة بعد سورة وآية بعد آية ، فالقرآن نزل على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم منجما تبعا للحوادث ، والقرآن أى : هذا الصوت الذي يسمع بالأذن ، والحروف التي ترى بالعين هو حادث بلا شك ، وأما القرآن بمعنى كلام اللّه - سبحانه - النفسي فهو قديم قدم باقى الصفات القدسية.
وقيل : الذكر هو ما يذكرهم به المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم ويعظهم به ، وكونه من ربهم فهو موافق لقوله تعالى : وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [سورة النجم آية 3] ولا شك أن ذكره ووعظه حادث فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ [سورة الغاشية آية 21].
ما يأتيهم من ذكر ربهم محدث في حال من الأحوال إلا في حال استماعهم وهم يلعبون ويلهون.
لاهية قلوبهم ، ومعرضة عن ذكر اللّه ، متشاغلة بالدنيا وزخرفها الكاذب عن الدين وعن ذكر اللّه الذي به تطمئن القلوب ، وتهدأ النفوس.
وأسروا النجوى ، وهل النجوى تكون في غير السر ؟ إنها لا تكون إلا سرا ، والمراد أنهم كتموا التناجي قاصدين ، وبالغوا في إخفائه ليبحثوا عما يطفئون به نور اللّه ، ويبطلون به رسالة رسول اللّه! ولكن هيهات لهم ذلك!(2/517)
ج 2 ، ص : 518
وأسروا النجوى وقال الظالمون منهم : ما هذا إلا بشر مثلكم فكيف يكون رسولا إليكم ؟ وهو لا يتميز في شيء عنكم.
أفتأتون السحر ؟ ومحمد لم يأت إلا بالسحر فكيف تجيئون إليه وتتبعونه ؟ والحال أنكم تبصرون الأمور على حقيقتها ، ولستم غفلا.
ولكن اللّه أطلع رسوله على ما تناجوا به ، وقالوه في السر العميق ، وأمره أن يقول لهم : ربي يعلم القول مطلقا سواء جهرتم به أو أسررتم ، وسواء كان في السماء أم في الأرض فإنه يعلم السر وأخفى ، وهو السميع لكل ما يسمع العليم بطوايا النفوس وخطرات القلوب.
وصفوا رسول اللّه بأنه ساحر وأن ما يقوله سحر ، إذ خفى عليهم سببه ، مع أنه يبهر العقول ، ويأتى بالأعاجيب .. ثم أضربوا عن ذلك ووصفوه بأنه أضغاث أحلام مفتراة ، لا نسق فيها ولا نظام ، ولا أساس لها ولا تأويل ، ثم نظروا إلى القرآن وإلى ما قالوه فيه فعدلوا عن الحكم الأول والثاني وقالوا : لا : بل قد افتراه واختلقه من عند نفسه ، وإنه كاذب في دعواه أنه من عند اللّه.
ثم أضربوا عن ذلك ، وقالوا : بل هو شاعر يؤثر ببليغ كلامه فيفرق بين المرء وأخيه ، وأمه وأبيه.
أليس في هذا الاضطراب والتردد ، والتلون وتغيير الحكم دليل على أنهم جاهلون بحقيقة ما جاء به ، أو عرفوه ولكنهم في حماقة المغلوب ويأس المهزوم رموه بالسحر تارة. والكذب وغيره تارة أخرى.
ثم انتقلوا إلى ناحية أخرى فقالوا : إن لم يكن كذلك فليأتنا بآية غير القرآن كما أرسل موسى بالعصا ، وصالح بالناقة ، ولقد كان سؤالهم هذا سؤال تعنت ، ويعلم اللّه أنهم لا يؤمنون ولو نزل عليهم ما طلبوا وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا [سورة الأنعام آية 111].
اقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهال فقال اللّه مجيبا لهم :
ما آمنت قبلهم قرية من القرى بعد إجابتهم إلى ما اقترحوا ، وقد أهلكناهم بسبب(2/518)
ج 2 ، ص : 519
اقتراحهم قبل هؤلاء فكيف نعطيهم ما يطلبون ؟ ! وسنة اللّه لا تتغير أبدا فكيف يؤمن هؤلاء ؟ أهم غير الأمم فهم يؤمنون ؟ !! وما لهم ينكرون لقصر عقلهم أن الرسول لا يكون بشرا ؟ وما أرسلنا قبلك في زمن من الأزمان إلا رجالا من البشر يوحى إليهم قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [سورة الكهف آية 110]. أيها الناس : إن شككتم في أن الرسل بشر فاسألوا أهل الذكر من اليهود والنصارى فهم لا ينكرون ذلك أبدا إن كنتم لا تعلمون ، وفي هذا تسجيل عليهم بالجهل وعدم المعرفة.
وقد كانوا ينكرون على الرسول عوارض البشرية ، وخصائص الإنسانية ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ؟ [سورة الفرقان آية 7] فيرد اللّه عليهم بقوله : وما جعلنا الرسل ذوى جسد لا يأكلون الطعام ، وما جعلناهم خالدين فالرسول بشر يأكل ويشرب وينام ، ويأتى النساء إلا أن اللّه اصطفاه واختاره لرسالته وأنزل عليه دستوره وكتابه الذي يخرج أمته من الظلمات إلى النور.
وكان للرسل مع ربهم وعد صريح بنجاتهم ومن آمن معهم ، وهلاك الكفار والعصاة من قومهم واقرأ إن شئت قصص الأنبياء في سورة هود.
ثم صدقناهم في الوعد ونجيناهم ومن نشاء من المؤمنين بهم ، وأهلكنا المسرفين المكذبين ، وتلك عاقبة الظالمين.
لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم ، وشرفكم وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ « 1 » وفيه ذكر أمور دنياكم ودينكم وأحكام شرعكم ، وجزاء أعمالكم أفلا تعقلون ؟ !! وتتدبرون أمركم ...
إنذار وتهديد [سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 الى 20]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)
___________
(1) سورة الزخرف الآية 44.(2/519)
ج 2 ، ص : 520
المفردات :
قَصَمْنا القصم : الكسر الشديد ، وهو أفظع مع الفصم الذي هو الكسر من غير إبانه يَرْكُضُونَ الركض : ضرب الدابة بالرجل ، ومنه قوله : ارْكُضْ بِرِجْلِكَ وركضت الفرس برجلي استحثثته ليعدو ، والمراد أنهم يهربون ويسرعون إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم ، المترف المتنعم يقال أترف على فلان أى : وسع عليه في معاشه ، وعليه وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أى :
وسعنا عليهم حَصِيداً محصودين كما يحصد الزرع بالمنجل خامِدِينَ ميتين نَقْذِفُ نرمي ، فَيَدْمَغُهُ المراد : يقهره ويهلكه ، وأصل الدمغ : شج الرأس حتى الدماغ ، ومنه الدامغة زاهِقٌ ، هالك ، وتالف يَسْتَحْسِرُونَ ، يعيون ويتعبون لا يَفْتُرُونَ : لا يضعفون.(2/520)
ج 2 ، ص : 521
لما حكى اللّه - سبحانه - عنهم تلك الاعتراضات الواهية ، ورد عليهم أبلغ رد وأكده مبينا أنه أنزل لهم كتابا فيه ذكرهم وشرفهم وسعادتهم ، وهو المعجزة الباقية.
بالغ في زجرهم وتهديدهم بضرب الأمثال وذكر مظاهر القدرة القادرة.
المعنى :
وكثيرا من القرى قصمناها وأهلكنا أهلها ، لأنها كانت ظالمة لنفسها بالكفر وارتكاب الإثم ، وأنشأنا بعدها قوما آخرين.
روى أن المراد أهل قرية مخصوصة كانت باليمن تسمى (حضور) ، وكان لهم نبي فقتلوه فانتقم اللّه منهم ، ولما رأوا أمارة العذاب خرجوا هاربين ، فقالت لهم الملائكة استهزاء بهم : لا تركضوا وارجعوا فرجعوا وقتلوا. فلما رأوا القتل قالوا يا ويلنا : إنا كنا ظالمين ، ولكن هيهات أن ينفع الندم ..!!
فلما أحسوا بأسنا ، ورأوا عذابنا الشديد إذا هم يهربون ويفرون مسرعين يركضون دوابهم ويستحثونها ، عندئذ. قيل لهم من الملائكة : لا تركضوا ، وارجعوا إلى نعمكم التي أبطرتكم وحملتكم على الظلم والكفر والغرور لعلكم تسألون ، من الذي أنزل بكم هذا ؟ ! أو تسألون لما ذا كان هذا العذاب ؟ ! لما قالت لهم الملائكة : لا تركضوا ، وارجعوا إلى مساكنكم ونعمكم ، ونزل بهم العذاب من كل جانب كانوا يسمعون مناديا يقول : يا لثارات الأنبياء!! قالوا حينذاك : يا ولينا ويا هلاكنا. إنا كنا ظالمين! فما زالت تلك دعواهم ، وما زالوا يرددون تلك المقالة حتى جعلهم ربك كالزرع المحصود بالمنجل ، خامدين ميتين لا حركة بهم ، كالنار إذا انطفأ لهيبها وأصبحت خامدة لا حياة فيها.
هذا هو الحكم العدل ، والقول الفصل ، ما يفعل اللّه بهم هذا إلا بسبب ظلمهم وكفرهم ، وها هي ذي آيات عدل اللّه ، ناطقة شاهدة.
وما خلق السماء المرفوعة ، والأرض الموضوعة ، وما بينهما من عجائب الخلق للّهو واللعب كما يفعل بعض الخلق في دنياه ، ولكنها آيات شاهدة على حكمة الحكيم ، وقدرة القادر العليم ، وعدل الحق - سبحانه وتعالى - ، وكانت ميادين للتفكير السليم ، والنظر(2/521)
ج 2 ، ص : 522
الصحيح الذي يوصل إلى العبادة الخالصة لخالقهما ، وكانت من نعم اللّه على خلقه ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [سورة الدخان آية 39] فانظروا لها واعتبروا بها.
لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا ، ومن جهة قدرتنا ، ولكنا لم نرد إلا الحكمة والصواب فيما خلقنا وفعلنا ، وما كنا فاعلين اللهو واللعب أبدا.
وبعضهم يفسر اللعب بالولد ، واتخاذه من لدن اللّه أى : من الملائكة ، وذلك ردا على من اتخذ المسيح أو عزيرا ابنا للّه - سبحانه وتعالى - .
بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه ، وبل هنا إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب ، وتنزيه منه لذاته كأنه قال : سبحاني! لا أتخذ اللهو واللعب من عاداتي ، بل من صفاتنا وموجب حكمتنا ، وتنزهنا عن القبيح أن نغلب الجد على اللهو واللعب ، وندحض الباطل بالحق ، استعار القذف والدمغ لضياع الباطل وفنائه ، لتصويره بالصورة الحسية المؤثرة ، وبيان أثر الحق في محو الباطل ومحقه ، فجعل الحق كأنه جرم صلب كالصخرة يقذف به في وجه الباطل ، وهو رخو لين ، فدمغه وشج رأسه ، حتى لم يعد له بقاء في الوجود.
إنه لتصوير رائع مؤثر يهز النفوس ، ويستولى على المشاعر ، ويجعلنا نتصور الباطل كسير الجناح ، ذليل النفس ، مشوه الوجه فَإِذا هُوَ زاهِقٌ.
ولكم أيها الظالمون المشركون الويل والثبور والهلاك والدمار ، مما تصفون به ربكم من اتخاذ الولد والشريك - سبحانه وتعالى - ، وكيف يكون ذلك ؟ وله من في السموات والأرض ، ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا ، فكيف يكون له فيهما شريك ؟
ومن خلقه فيهما مجادل ومخاصم ؟ ! ومن عنده من الملائكة لا يستكبرون عن عبادته ، والعندية عندية مكانة وتشريف فكيف بكم تستكبرون عن عبادته ؟
والملائكة همهم العبادة ليلا ونهارا ، لا يستكبرون ولا يعيون ، ولا يتعبون ، خلقوا هكذا ، ليس فيهم داعية من دواعي الشر ، وهم لا يفترون ...(2/522)
ج 2 ، ص : 523
مناقشة المشركين في عقائدهم [سورة الأنبياء (21) : الآيات 21 الى 29]
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
المفردات :
يُنْشِرُونَ : النشر : إحياء الموتى من قبورهم ، والحشر : سوقهم إلى أرض المحشر لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ لا يتقدمون عليه في قول ، بل يقولون بعد قوله ، ويصدرون بعد أمره مُشْفِقُونَ خائفون.(2/523)
ج 2 ، ص : 524
ما تقدم من أول السورة إلى هنا كان في باب النبوات ، وما يتصل بها من نقاش وأما هذه الآيات فهي في بيان التوحيد ، ونفى الشريك.
ويقول الزمخشري - رحمه اللّه - وأسكنه فسيح جناته جزاء ما قدمه لخدمة القرآن وبيان أسراره - فيما كتبه في الكشاف عن « أم » التي في هذه الآية : وهذه أم المنقطعة التي هي بمعنى بل (الإضرابية) والهمزة. قد آذنت بالإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها ..
المعنى :
بل اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ؟ !! والمنكر هو اتخاذهم آلهة من الأرض تحيى الموتى للبعث والحساب ، نعم إن من أفظع المنكرات أن يحيى الجماد الموتى ، عجبا هم ينكرون البعث والحساب ويقولون : أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد ؟ من يحيى العظام وهي رميم ؟ !! ثم بعد ذلك يتخذون آلهة من الأرض هم ينشرون!! نعم في اتخاذهم هذه الأصناف آلهة إلزام لهم بأن ينسبوا لها إحياء الموتى ، فإنه لا يقدر على إعادة الحياة إلا الإله الذي بدأ الحياة ، وفي هذا من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل لهم ما لا يخفى فإن ما استبعدوه على اللّه من البعث لا يصح لأنه لازم للألوهية وانظر إلى قوله - تعالى - : آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ!! فإنهم من الأرض! ولا تعبد إلا فيها ...
لو كان في السماء والأرض آلهة شتى تدبر أمرها غير الواحد الأحد الفرد الصمد الذي فطر السموات والأرض لفسدتا إذ من المعلوم أن أى عمل يفسد بتدبير رئيسين كل يدعى لنفسه حق الرياسة والتوجيه لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف ، وللّه در عبد الملك بن مروان إذ قال حين قتل عمرو بن سعيد : كان واللّه أعز على من دم ناظري ، ولكن لا يجتمع فحلان في شول ، ولعلماء التوحيد في بيان الفساد عند وجود الشريكين أدلة منطقية وفروض شتى ليس هذا مكانها ، وإن حسن الاطلاع عليها.
ولما أقام اللّه - سبحانه وتعالى - الأدلة القاطعة على التوحيد قال : فسبحان اللّه رب العرش عما يصفون : نزه اللّه نفسه ، وأمرنا أن ننزهه عما يصفه المشركون.(2/524)
ج 2 ، ص : 525
فهو اللّه لا إله إلا هو فاطر السموات والأرض. رب العرش ، وسع كرسيه السموات والأرض تعالى اللّه عما يقولون علوا كبيرا.
بعض من يدعى الشريك للّه يرى أن في العالم نورا وظلمة ، وخيرا وشرا وغير ذلك مما يشبهه ويقول : لا يمكن أن يصدر هذا من إله واحد. إذ يسأل عن الشر لم فعلته وأنت إله الخير ؟
فرد اللّه عليهم بقوله : إنما هو إله واحد يصدر عنه كل شيء في الوجود ، وهو لا يسأل أبدا عن فعله لم فعلت ؟ ! والخلائق هي المسئولة عن أعمالها ومجزية عنها.
وإذا كان الرئيس الموثوق فيه لا يسأل عن عمله ، مع أنه عرضة للخطأ لأنه مخلوق ضعيف ، فكيف بالخالق - سبحانه وتعالى - ؟ ! أم اتخذوا من دون اللّه آلهة ؟ ! قل : هاتوا برهانكم ودليلكم على ذلك إن كنتم صادقين.
هاتوا برهانكم من جهة العقل ، ولن تجدوا. أما من جهة النقل فلن تجدوا ، هذا هو الكتاب المنزل على من معى ، وهذا ذكر من قبلي أى الكتاب المنزل على من تقدمني من الأنبياء كموسى وعيسى وداود فعندكم القرآن الذي نزل علىّ ، والتوراة التي نزلت على موسى ، والإنجيل الذي نزل على عيسى والزبور الذي نزل على داود ، هل في هذه الكتب حجة لكم على الشرك باللّه.
بل أكثرهم لا يعلمون فهم الجهلاء بأنفسهم وبما يدعون.
ذلك الكتاب المنزل عليكم هو الحق من عند ربكم فاسمعوا له وأطيعوا ، وإلا فأنتم معرضون عنه ، ومن أعرض عن ذكر اللّه فإن له معيشة ضنكا ، ونحشره يوم القيامة أعمى.
وها هي ذي خلاصة الرسالات السماوية من لدن آدم إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم جميعا ، أنه لا إله إلا هو فاعبدوه وحده لا تشركوا به شيئا أبدا فهل لكم حجة عقلية أو نقلية في اتخاذ الآلهة من دون اللّه ؟ !! ثم بعد ذلك نفى اتخاذ الولد له - سبحانه - فإن الولد يشبه أباه في شيء ويخالفه(2/525)
ج 2 ، ص : 526
في شيء واتخاذ الولد أمارة الحدوث والحاجة ، ودليل مشابهة الحوادث ، واللّه - سبحانه - منزه عن ذلك كله.
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ، قيل : نزلت في خزاعة حينما ادعوا أن الملائكة بنات اللّه وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [سورة الصافات آية 158].
سبحانه وتعالى : نزه اللّه نفسه عن ذلك ، وأمرنا أن ننزهه عن ذلك ، ثم أخبر عن الملائكة أنهم عباد والعبودية تتنافى مع الولدية ، فهم عباد إلا أنهم مكرمون ومقربون ومفضلون على كثير من الخلق لما هم عليه من العبادة ، فهم خلق من خلق اللّه دأبهم العبادة ليلا ونهارا ، لا يعصون اللّه ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، لا يسبقونه في قول بل يعملون كما يؤمرون لا علم لهم بشيء بل اللّه يعلم ما بين أيديهم من أحوال القيامة وما خلفهم من أحوال الدنيا ، وهم لا يشفعون إلا لمن ارتضاه ربه من عباده المؤمنين ثم مع هذا كله هم من عذاب ربهم مشفقون وخائفون.
فكيف تجعلونهم أولادا للّه ؟ !! ، وكيف تكفرون أنتم باللّه بعد هذا ؟ !! وبعد أن وصفهم اللّه بما وصف فاجأهم بالوعيد الشديد ، وأنذرهم بالعذاب الأليم ليعتبر الناس وليعلموا جرم الشرك ، وفظاعته عند اللّه ، وعظم شأن التوحيد ومكانته عند اللّه فقال :
ومن يقل منهم - على سبيل الفرض - إنى إله من دون اللّه فسنجزيه جهنم وبئس القرار. مثل ذلك نجزى نحن الظالمين والمشركين فإنه لا يفعل معهم هذا إلا اللّه الواحد القهار.
الأدلة الكونية على وجود الواحد الأحد [سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 الى 33]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)(2/526)
ج 2 ، ص : 527
المفردات :
رَتْقاً الرتق السد ضد الفتق يقال رتقت الفتق أرتقه فارتتق أى التأم والمراد كانت ملتزقتين ففصل اللّه بينهما رَواسِيَ جبال ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ خوف أن تتحرك وتضطرب فِجاجاً مسالك وطرقا ، والفج : الطريق الواسع بين الجبلين الفلك : مدار الشمس والقمر والنجوم.
هذه هي الأدلة المادية على وجود الواحد الصانع القادر المختار بعد الأدلة العقلية والنقلية ومناقشة الكفار السابقة في اتخاذهم شريكا له ، وفي هذا لفت لأنظار المشركين إلى جهة الكون وما فيه.
المعنى :
أعموا ولم يروا أن السموات وما فيها والأرض وما عليها كانت رتقا ، وكانت السماء والأرض جزءا واحدا ففتقهما القادر المختار وجعل كل جزء في جهة ويدور في فلك ، ويؤدى مهمته على أكمل وجه.
يا أخى : اعلم أن القرآن معجز حقا ، وليس إعجازه في جمال أسلوبه. وكمال نظامه وترتيبه فقط ولكنه معجز أيضا في دلالته على أمور علمية دقيقة عميقة ، لم تظهر لنا إلا بعد أن أثبتها العلم بما لا يقبل الشك ، فإذا عدنا إلى القرآن وجدناه ينادى بها من القرن السادس الميلادى ، أيام كانت الدنيا تغوص في بحر الجهالة والضلالة ، فمن أعلم محمدا بهذا ، ومن الذي علمه ذلك!! ؟(2/527)
ج 2 ، ص : 528
ولكنها المعجزة الباقية الخالدة التي تثبت الأيام صدقها في كل شيء سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ « 1 » والغريب أن القرآن نزل يخاطب العرب الذين لا يعرفون هذه الحقائق وطالبهم بعد ثبوت إعجازه بالإيمان بها غيبيا وأمرهم أن يحملوا تلك الأمانة للناس إلى أن يعرفوا علميا حقائق الكون فإذا بها في القرآن من أربعة عشر قرنا.
من هذه نظرية السديم. فقد أثبت العلم أن الشمس والكواكب والأرض كلها كانت قطعة واحدة ثم انفصلت بكثرة الدوران وبقدرة الحكيم الخبير فصارت إلى ما نرى من الدقة والنظام بفعل الجاذبية الذي خلقه اللّه في الكون.
أليس هذا هو عين ما يقوله القرآن الكريم أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ولقد سبق أن تكلمنا عن نظرية خلق السموات والأرض « نظرية السديم » في الجزء الثاني عشر ص وقد ذكروا رأيا آخر في الآية :
أن السموات والأرض كانتا رتقا لا تمطر ولا تنبت ففتقنا السماء بالمطر والأرض بالنبات.
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ وقد جعل اللّه - سبحانه وتعالى - كل شيء حي من الماء يغتذى به ويرويه ، ولا يمكن أن يصبر عليه وهو حي ، على أنه أصله فالحيوان من النطفة التي هي ماء ، والنبات لا ينبت أبدا إلا بالماء.
فالماء عنصر مهم جدا لحياة الكائن الحي من حيوان ونبات ، ألم تر أن الحيوان قد يعيش بدون غذاء حوالى سبعين يوما ما دام يشرب ماء ، ولا يعيش بدون الماء أياما قليلة ، والنبات يجف ويموت وهو في وسط الأرض التي منها غذاؤه إذا لم يرو بالماء ، فالماء والكائن الحي صنوان لا يفترقان فإذا افترقا هلك الحي.
وجعلنا في الأرض رواسى شامخات من الجبال خوف أن تميد بالناس وتضطرب ، وهي تدور حول نفسها وحول الشمس.
وجعلنا فيها طرقا واسعة وأودية مترامية الأطراف بين الجبال ليصلح عليها السير والإنبات لعلكم تهتدون إلى الصانع المختار.
___________
(1) سورة فصلت الآية 53.(2/528)
ج 2 ، ص : 529
وجعلنا السماء سقفا محفوظا من الوقوع والاضطراب ، ومحفوظا من الشياطين التي تسترق السمع.
وهم عن آياتها معرضون.
هو الذي خلق الليل والنهار بفضل دوران الأرض حول نفسها ، وخلق الشمس والقمر كل واحد منهما يدور في فلك له ، يسبحون في الفضاء اللانهائى الذي لا يعلم حدوده إلا اللّه.
نرى أن اللّه - سبحانه وتعالى - ساق الدليل على وحدانيته وقدرته ، تأييدا لما مضى من قوله : لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا والقرآن يجنح دائما للأدلة الكونية ويلفت النظر إلى هذا الكون وما فيه من عجائب ليعتبر الناس كلهم به أما الجاهل فلما يراه فيه ببصره ، ويسمع بأذنه ويلمس بيده ، وأما العالم فلما يرى ويحس ، ويعلم من أسرار وقضايا علمية ، ونظريات كونية ، وسبحان من هذا كلامه.
ولسائل أن يسأل. كيف يقول اللّه لهم أو لم يروا ؟ ومتى رأوا حتى يجيء تقريرهما بذلك ؟ والجواب كما ذكر الكشاف والفخر : حيث ورد الرتق والفتق في القرآن وقام الدليل الذي لا يقبل الشك على أنه معجزة وأنه من عند اللّه ، وأنه صادق قام ذلك مقام الرؤية ، فإذا أضيف إلى ذلك ثبوت نظرية الرتق والفتق علميا كان الاستفهام وما فيه من تقرير وتعجب آية من آيات اللّه.
من مواقف المشركين مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم [سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 الى 41]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38)
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41)(2/529)
ج 2 ، ص : 530
المفردات :
هُزُواً سخرية بَغْتَةً فجأة فَتَبْهَتُهُمْ فتغلبهم وتحيرهم فَحاقَ أحاط ودار : هذا هو موقفهم مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما أعيتهم الحيل ، وانقطعت بهم السبل.
وغلبتهم الحجج أخذوا يعللون أنفسهم بموت النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
المعنى :
لقد كانوا يمنون أنفسهم بموت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فيشمتون فيه ويستريحون منه فنفى عنه الشماتة بهذا ، وقضى قضاءه العدل بأنه لا يخلد في الدنيا أحد. فلا أنت ، ولا هم بباقين فيها ، وإذا كان الأمر كذلك أفإن مت فيبقون هم أحياء ؟ ! أفإن مت فهم(2/530)
ج 2 ، ص : 531
الخالدون ؟ ! لا : كل نفس ذائقة الموت ، وكل شيء هالك إلا وجهه ، له الحكم ، وإليه ترجعون ، فالموت نهاية كل حي وسبيل كل نفس ، ولا يبقى إلا الحي القيوم الباقي بعد فناء خلقه فاعتبروا يا أولى الأبصار. واعلموا أن محمدا رسول قد خلت من قبله الرسل ، وتولى اللّه دينه بالنصر والحياطة.
فهكذا يحفظ اللّه دينك بعد موتك يا محمد ما دام القرآن موجودا.
واللّه - سبحانه وتعالى - قضى أن يختبر الناس بما يعطيهم من خير أو شر وكان ابتلاؤه بالخير دقيقا جدا قل من ينجح فيه فإن شكروا في الخير والنعيم ، وصبروا في الشر والبلاء ، فذلكم هم الفائزون ، وإن أبطرتهم النعمة وجزعوا من البلاء فأولئك هم الخاسرون ، وإلى اللّه ترجع الأمور.
وإذا رآك الذين كفروا ما يتخذونك إلا هزوا وسخرية لأنك تذم آلهتهم ، وتعيب أصنامهم ، وتذكر الرحمن الرحيم بالخير والتمجيد والتقديس والعبادة ويقولون : أهذا الذي يذكر آلهتكم بالسوء ويذكر الرحمن بالخير ؟ ! ومن أحق بالاستهزاء والسخرية ؟
أمن يذكر الأصنام والحجارة بالخير ، ويذكر الرحمن بالسوء والشر وهم الكافرون أم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الذي يقدس فاطر السموات والأرض ؟ !.
إنهم هم الأحق بالاستهزاء والسخرية لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه ، وهم بذكر الرحمن هم وحدهم كافرون!! كانوا يستعجلون عذاب اللّه وآياته الملجئة إلى الإيمان والإقرار بالعبودية للّه وبالرسالة لمحمد اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [سورة الأنفال آية 32].
فيقول اللّه لهم : خلق الإنسان من عجل حتى كأن العجل جزء من مادة تكوينه ، وهذا طبع في الإنسان كله وغريزة فيه ، سأريكم آياتي الدالة على القدرة وعلى صدق رسالة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فلا تستعجلون ، وقد رأوا ذلك في نصرة الدين وإتمام نور اللّه ولو كره الكافرون.
وكانوا يقولون : متى هذا الوعد ؟ إن كنتم صادقين أيها المؤمنون.
وهذا الاستعجال فيه معنى التكذيب والكفر بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن.
واللّه حين ينهانا عن العجلة مع أنها غريزة وطبع فينا إنما يطالبنا بأن نحكم العقل(2/531)
ج 2 ، ص : 532
في غرائزنا ، ونجعل الدين يتسلط على أعمالنا الظاهرة والباطنة ، ولا شك أن هذا تسامى بالغريزة وإعلاء لها.
لو يعلم الذين كفروا الوقت الذي يستعجلونه بقولهم : متى هذا الوعد ؟ مع أنه وقت صعب ، وموقف شديد إذ تحيط بهم النار من كل جانب فلا يقدرون على دفعها على أنفسهم ، ولا يجدون لهم ناصرا ينصرهم.
لو يعلمون هذا ويعرفونه حقا لما كفروا باللّه واستهزءوا برسول اللّه ، واستعجلوا يوم العذاب ، ولكن جهلهم به ، وعدم تبصرهم في الأمور بعين سليمة وقلب خال من الغل والحسد ، وسوء التقليد هو الذي دفعهم إلى ذلك وهون عليهم عملهم هذا.
وأما أنت يا محمد فصبر جميل فهذه هي طبيعة الناس مع كل من يدعوهم إلى الخير والرضوان فقديما استهزءوا برسل اللّه قبلك وفعلوا معهم الأفاعيل فكان جزاؤهم من اللّه أن أحاط بهم العذاب من كل جانب وأذاقهم اللّه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ، ونجى اللّه رسله ومن معهم من المؤمنين ، وإن اللّه على نصرهم لقدير.
لا راد لقضاء اللّه [سورة الأنبياء (21) : الآيات 42 الى 46]
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46)(2/532)
ج 2 ، ص : 533
المفردات :
يَكْلَؤُكُمْ يحرسكم ويحفظكم ، والكلاءة : الحراسة والحفظ ، كلأه اللّه حفظه يُصْحَبُونَ يجارون من عذابنا نَفْحَةٌ نصيب قليل.
المعنى :
إن استهزأ بك هؤلاء المشركون تكذيبا لك وإضعافا لشأنك فلا يهولنك ذلك أبدا فقد استهزئ برسل من قبلك ، فحاق بالذين سخروا منهم سوء العذاب بما كانوا يستهزئون.
وأنت يا نبي اللّه قل لهم : من يحفظكم من عذاب اللّه إن أتاكم ؟ ومن يحفظكم ويرعاكم بالليل وأنتم نيام ميتون الموتة الصغرى ؟ ! ومن يكلؤكم وأنتم بالنهار تغدون وتروحون ؟ ! من يحفظكم من عذاب الرحمن وبأسه إذا أراد أن ينزله بكم ؟ ! وانظر إلى تعبير القرآن الكريم الذي آثر ذكر الرحمن صاحب النعم للإشارة إلى أن عدم إيقاع العذاب على الكفار والعصاة من أتم النعم على الإنسان ، لعله يبوء إلى نفسه ، ويرجع إلى ربه وإذا كان لا راد لقضائه ، فلن يمنع مانع من إيقاع العذاب بكم!! بل هم عن ذكر ربهم ذكرا قلبيا تسكن إليه النفوس ، وتطمئن له القلوب معرضون بل ألهم آلهة يعبدونها تمنعهم عن عذابنا ، وتقف حائلا دون تنفيذ أمرنا ؟ ليس لهم ذلك إذ آلهتهم لا يستطيعون نصر أنفسهم فضلا عن نفع غيرهم ونصره. وليس لهم شفيع ، ولا هم يمنعون عن عذاب اللّه أبدا.
ولا يغرنكم تقلب الذين كفروا في النعيم ، وما هم فيه من غنى وجاه فهو متاع أعطاهم اللّه إياه ليس لأحد فيه يد ، وليس هناك مانع منع اللّه من إيقاع العذاب بهم بل متعهم اللّه به حتى تطول أعمارهم ، وتقسو قلوبهم ، وتسوء أعمالهم ، ويكون حسابهم شديدا ، وجزاؤهم نارا وحميما ، وليس تركهم عن عجز أو تقصير. أعموا(2/533)
ج 2 ، ص : 534
فلا يرون أنا نأت الأرض ننقصها من أطرافها واللّه يحكم لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه. وما هي الأرض وما معنى نقصها من أطرافها ؟
هذه السورة مكية ، وحالة المسلمين في مكة كما تعرف يا أخى كانت شديدة ، فهل لنا أن نفهم أن المراد بالأرض أرض الكفر ، ومعنى نقص أطرافها دخول الناس في الإسلام شيئا فشيئا ، واتساع نفوذ الإسلام شيئا فشيئا على حساب أرض الكفار ونفوذهم ، وهذا فهم يصح أن يكون إذا تجاوزنا في فهم نقصان الأطراف نوعا ما أو نقول إن هذا من باب الإخبار بالغيب.
وبعض العلماء يقول : هذه آية سيقت للدلالة على قدرة اللّه - سبحانه وتعالى - حتى لا يفهم المشركون أن تركهم بدون إيقاع العذاب بهم عن عجز أو تقصير. لا :
بل هي الحكمة الإلهية ، والترتيب الرباني للمسلمين. فيكون المعنى أفلا يرى الكفار أنا نأتى الأرض أى الكرة الأرضية ننقصها من أطرافها أى : في الشمال والجنوب فعلماء الطبيعة يقولون : إن الأرض ليست تامة التكوير والاستدارة بل منبعجة في الوسط مفرطحة من جهة القطب الشمالي والجنوبي وهذه آية كونية يفسرها العلم الحديث بعد نزولها بثلاثة عشر قرنا.
والرأى الأول لا بأس به أيضا لقوله تعالى : أَفَهُمُ الْغالِبُونَ ؟ فإن معناها كيف يكونون غالبين بعد نقصنا لأرضهم من أطرافها وتقليل عددهم بمن يدخل في الإسلام ولو سرّا وفي هذا إشارة إلى غلبة المسلمين ونصرة أصحاب الحق مهما لاقوا ومهما حصل لهم ، قل لهم يا محمد تهديدا لهم : إنما على البلاغ ، وعلى اللّه الحساب ، وإنما أنذركم بالوحي والقرآن ، وأبين لكم عاقبة كفركم بما أتحدث به عن الأمم السابقة ، وذلك شأنى ؟ وما أمرنى اللّه به. ولكن هل يسمع الصم الدعاء ؟ إذا ما ينذرون!! لا :
إنه لن يسمع أولئك الذين ختم اللّه على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وجعل على أبصارهم غشاوة فقلوبهم مغلقة لا يدخلها خير أبدا فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ وقد قالوا : إن هناك حواس لإدراك المعنويات من الإنذار والتخويف ، ومحلها القلب وسيأتى بيان ذلك قريبا إن شاء اللّه.
وتاللّه لئن مستهم نفحة قليلة من عذاب ربك ليقولن : يا ويلنا ويا هلاكنا ، إنا كنا ظالمين.(2/534)
ج 2 ، ص : 535
وفي هذا إشارة إلى قوة عذاب ربك وشدته إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ « 1 » وإن الإنسان المسكين لفي خسر وخسارة إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ، وأنه سيعرف الحق يوم يرى الجزاء الحق يوم القيامة ، وسيندم حين لا ينفعه ندم ا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[سورة النبأ آية 40].
عدل السماء [سورة الأنبياء (21) : آية 47]
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47)
المفردات :
الْقِسْطَ العدل مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مثقال الحبة وزنها ، وحبة الخردل مثل في الصغر.
المعنى :
لا غرابة في عذاب هؤلاء المشركين والتشديد عليهم ، والتنكيل بهم فاللّه حكم بذلك ، وحكمه العدل ، وهو صاحب الميزان القسط ، وهو الذي يقول : ونضع الموازين العادلة يوم القيامة ، وهل هناك موازين حقيقية توزن بها الأعمال بعد تجسيمها ؟
أو هي موازين توزن بها الأمور المعنوية كما توزن بموازيننا الأمور الحسية ؟ وأظن بعد اختراع موازين للضغط وللحرارة ، وللحركة وغيرها من الأمور العارضة لا تستبعد من اللّه القوى القادر أن تكون هناك موازين لوزن العمل والإخلاص فيه لا تخطئ أبدا ، وقال بعضهم : إن هذا كناية عن عدل اللّه المطلق الذي يعطى كل ذي حق حقه مهما كان واللّه أعلم بكتابه.
فلا تظلم نفس شيئا أبدا أى : فلا ينقص من إحسان محسن ، ولا يزاد في إساءة
___________
(1) سورة البروج الآية 12.(2/535)
ج 2 ، ص : 536
مسيء وإن كان وزن حبة من خردل - فإنها مثل في الخفة والصغر - أتينا بها ، وحاسبنا صاحبها عليها ، وكفى باللّه حسيبا وعلى الأعمال رقيبا وشهيدا ...
موسى وهارون [سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 الى 50]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
المفردات :
الْفُرْقانَ التوراة التي أنزلت على موسى.
يقول الفخر الرازي في كتابه الفخر : اعلم أنه - سبحانه وتعالى - لما تكلم في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد. شرع في قصص الأنبياء تثبيتا للقلوب وتطمينا للنفوس وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة هود آية 120].
المعنى :
وتاللّه لقد آتينا موسى وهارون التوراة الفارقة بين الحق والباطل والفارقة بين الحلال والحرام ، والضياء الذي يتوصل به إلى طريق الهداية وسبل النجاة إذ هي تعرفك باللّه وبشرائعه ، وكانت ذكرى وموعظة فيها كل ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم ، ولكن لن ينتفع بها إلا المتقون ، وهكذا القرآن!! نعم : وهذا كله إنما ينتفع به المتقون الذين يخشون ربهم ويخافون حسابه فيأتمرون(2/536)
ج 2 ، ص : 537
بأمره ، وينهون بنهيه ، وهؤلاء هم الذين يؤمنون بالغيب ، واللّه لا يغيب عنه شيء.
وهم من الساعة وهولها مشفقون وخائفون.
وقد كانت التوراة كذلك هدى وضياء وذكرى قبل أن يحرفوا كلمها عن مواضعه ، ويغيروا ويبدلوا فيها.
وكما أنزل اللّه على موسى وهارون الفرقان فكذلك أنزل عليك يا محمد القرآن ، وها أنا أنذركم بما فيه ، ولست بدعا فالأنبياء قبلي كانت لهم كتب كالتوراة وغيرها.
وهذا القرآن ذكر مبارك ونور وهداية ، فيه الخير والهدى والعلم والمعرفة ، وفيه النجاة والسعادة ، والفوز والفلاح.
فيه أسباب سعادة الدنيا والآخرة إذ هو علاج لكل داء ، ودواء لكل مرض ، وقد أثبتت الحوادث ذلك فيما نرى.
أفأنتم له منكرون بعد هذا ؟ !! إن هذا لعجيب!!!
شيء من قصة إبراهيم عليه السلام [سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 73]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55)
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60)
قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)
قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73)(2/537)
ج 2 ، ص : 538(2/538)
ج 2 ، ص : 539
المفردات :
رُشْدَهُ الرشد : اسم جامع للهدى والخير ووجوه الصلاح التَّماثِيلُ جمع تمثال وهو الصنم ، والتمثال : اسم المصنوع الذي يشبه المصنوع الذي يشبه خلقا من خلق اللّه تعالى عاكِفُونَ مقيمون على عبادتها فَطَرَهُنَّ خلقهن وأبدعهن لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ لأمكرن بها جُذاذاً فتاتا ، والجذ الكسر والقطع وقرئ جذاذا أى : كسرا وقطعا جمع جذيذ وهو الهشيم. قال الشاعر :
جذذ الأصنام في محرابها ذاك في اللّه العلىّ المقتدر
عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ بمرأى منهم نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ عادوا إلى جهلهم أُفٍّ صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر نافِلَةً زيادة على ما سأل ...
وفرق بعضهم بين الصنم والوثن فالصنم هو المصنوع من المعدن يذوب في النار ، والوثن المصنوع من الخشب أو غيره ، وأما التمثال فيلاحظ فيه أنه يشبه إنسانا أو حيوانا ...
إبراهيم خليل اللّه وأب الأنبياء ، ذكر في القرآن كثيرا لعدة أغراض ، وكان قومه أهل أوثان ، وكان أبوه نجارا ، يصنع الأصنام ويبيعها للناس ، وأما إبراهيم فقد صنعه اللّه على عينه ورباه على يده ، وهداه إلى الرشد فعلم أن الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تغنى شيئا ، وما هي إلا خشبة أو حجر صنعها أبوه أمامه بالقدوم.
وها هو ذا إبراهيم قد رأى في الأوثان العجب ، وفي عبادتهم لها ما يبعث الهم والحزن ، فأخذ يناقشهم ويجادلهم تارة بالحسنى ، وطورا بالشدة ، مرة مع أبيه ، وأخرى مع الملك ، وثالثة مع الجمهور ، جادل وناقش فلما لم ينفع حطم الأصنام بيديه ليكلموه في شأنهم لعلهم بذلك يرجعون إلى الصواب ، وانتهى الأمر إلى أن أوقدوا له نارا ، وألقوه فيها فنجاه اللّه منها ثم هاجر من بلده (فدان آدرام) بالعراق إلى الشام ثم وهب اللّه له إسماعيل وإسحاق ثم يعقوب نافلة ، وكانوا للّه عابدين.(2/539)
ج 2 ، ص : 540
المعنى :
ولقد آتينا إبراهيم رشده ، ووفقناه لوجوه الصلاح والخير ، وآتيناه الحكمة من قبل ذلك ، وكنا به عالمين ، وهذا يفيد أن إبراهيم - عليه السلام - خلق ونفسه مطبوعة على التوحيد ، وحب الخير والنظر السليم للأمور ، لهذا لم يعجبه ما هم عليه من عبادة الأصنام التي لا تحس ولا تشعر!! واذكر إذا قال إبراهيم لأبيه وقومه : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ، وعلى عبادتها مقيمون ؟ !! وهذا استفهام المراد منه التجاهل والتحقير لشأنها مع علمه بأنهم يعظمونها ويجلونها ، وهو يفيد إنكار عبادتهم لها.
وانظر إلى الجهل المطبق ، والعمى عن طرق الخير والسداد ، وانظر إليهم وهم يجيبونه على سؤاله حيث قالوا : إنا وجدنا آباءنا لها عابدين!!.
ما أقبح الجهل! وما أتعس الجهلاء!! ليس في أصنامهم وأوثانهم من خير أبدا ، وليس فيها فضل أبدا ، وليس معها مقتض للعبادة والتقديس إلا أن آباءهم لها عابدون ؟
وأنهم على آثارهم مقتدون : يا للعار! ويا للشنار!! وما أعظم كيد الشيطان حين استدرجهم إلى تقليد آبائهم في عبادة التماثيل ، وهم معتقدون أنهم على شيء ، ويجادلون بالباطل أهل الحق! ألا لعنة اللّه على الضالين المقلدين.
وأما إبراهيم فقال لهم : لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ، وفي العبارة من التأكيد ما لا يخفى حيث قال : « أنتم » وقال « في ضلال » ... نعم أنتم وآباؤكم منخرطون في سلك ، ومجتمعون في شمل واحد حيث عبدتم حجرا أو خشبة ، وسندكم في عبادته هوى متبع وشيطان مطاع.
أما هم فحينما صدموا بهذا الرد الشديد ، والحجة التي قرعت أسماعهم ، وملأت نفوسهم ألما وحزنا قالوا متعجبين : أجئتنا بالخير والحق الصريح أم أنت من اللاعبين الهازلين ؟ ! وهكذا المغرور المخدوع حينما يجابه بالحقائق الناصعة يستبعد أن ما عليه هو وأبوه ضلال وخطأ ، فيتعجب لذلك.
قال إبراهيم : ربكم الذي يستحق العبادة والتقديس وتعفير الوجه له بالتراب ، رب السموات والأرض الذي فطرهن ، وخلقهن على مثال عجيب ووضع دقيق وأنا على(2/540)
ج 2 ، ص : 541
ذلكم من الشاهدين الذين يدلون بالحجة على كلامهم ، ويصححون دعواهم بالبرهان كما تصحح الدعوة بالشهادة ، فأنا لست مثلكم إذ سندكم الوحيد ، وحجتكم في عبادة الأصنام أنكم تقلدون آباءكم ، ألا بئس ما تفعلون!! ولقد أضمر إبراهيم الشر في نفسه لهذه الآلهة ، وأقسم باللّه لا بد أن يلحق بها الأذى ، وهذه طريقة أراد بها أن يفهم القوم مركز آلهتهم حيث لم تدفع عن نفسها ضررا وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ « 1 » ، وأن يقيم الحجة عملا على أنها لا يمكن أن تلحق بهم أذى إذا تركوا عبادتها ، أو تكسبهم خيرا إذا عبدوها ، والبرهان العملي أوقع في النفس وأبعد عن التأويل والشك حيث لم يجد المنطق.
وذلك أنه كان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه فقالوا لإبراهيم : لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا فقال إبراهيم في نفسه : تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ وقد تخلف عنهم بحجة أنه مريض فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ [سورة الصافات آية 89].
فلما ذهبوا دخل على الأصنام ، وأمامهم الأكل فجعلهم جذاذا وقطعا أى : كسرهم جميعا إلا كبيرهم فقد وضع الفأس على كتفه. وهذا هو الكيد الذي أقسم ليفعلنه بها وإنما فعل ذلك لعلهم إلى إبراهيم ودينه يرجعون ، حيث يرون أن الأصنام لم تقدر على دفع الأذى عن نفسها ، أو المعنى لعلهم إلى الصنم الأكبر يرجعون في تكسيرها ، ويحملونه تبعة ذلك ، ويسألونه أين كنت ؟ ولما ذا كسرت تلك الأصنام ؟ وأنت صحيح. والفأس على كتفك ، ولعل المعنى : لعلهم إلى هذا الصنم يرجعون استهزاء بهم وبآلهتهم.
ولما رأوا ذلك ، وقد غاظهم ما حل بآلهتهم قالوا ، من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين المتجاوزين الحد في عملهم.
قال بعضهم : سمعنا فتى يذكر الآلهة بسوء يقال له : إبراهيم فهو الذي فعل بهم ما فعل.
قال نمروذ وأشراف قومه. ائتوا به على أعين الناس ليكون ظاهرا بمرأى منهم حتى يروه ويشهدوا. فيكون ذلك حجة دامغة عليه.
___________
(1) سورة الحج الآية 73.(2/541)
ج 2 ، ص : 542
فلما حضر قالوا له : أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ؟ فقال لهم إبراهيم : بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ، وفي تلك الإجابة تبكيت لهم ، ولفت لنظرهم ، وإثبات أنه الفاعل دون سواه حيث لم يكن إلا هو الصنم ، والصنم لا يمكنه أن يصدر منه ذلك فثبت أنه هو الفاعل بالدليل ولم يكن قصده نسبة الفعل للصنم مع أنه الفاعل حقيقة.
ولعل نسبة الفعل إلى الصنم من جهة أنه هو الذي غاظه كثيرا فحمله على التكسير فكأنه هو الفاعل للفعل.
فلما حاروا وبهتوا من إجابة إبراهيم ومناقشته لهم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا : إنكم أنتم الظالمون ، ولكن أترى إبليس يتركهم يتوصلون إلى الحق ؟ ! لا بل وسوس لهم وزين حتى أنهم بعد هذا نكسوا على رؤوسهم ورجعوا إلى الباطل يدافعون عنه وينغمسون في حمأته قائلين :
كيف تطلب منا سؤالهم ؟ لقد علمت ما هؤلاء ينطقون!! قال إبراهيم مقاطعا ومفحما لهم فيما يتقولون : أتعبدون من دون اللّه ما لا ينفعكم شيئا من النفع ولا يضركم شيئا من الضرر ، إذ أنه لا يقدر على الكلام أصلا ، ولم يمكنه أن يدفع عن نفسه شيئا ؟ !! أف لكم!! ولما تعبدون من دون اللّه ، أعميتم فلا تعقلون شيئا أبدا ؟ !! فلما أعيتهم الحيل كلها في إبراهيم وإسكاته ، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت :
قالوا : لا ينفعه أبدا إلا الموت ، ولا يريحنا منه إلا إهلاكه ، وليكن هلاكه على أفظع صورة ، وبأقبح شكل ، وهو إحراقه بالنار فإذا تم ذلك كان لكم النصر ولآلهتكم الفوز ، إن كنتم فاعلين شيئا حقا فافعلوا هذا.
ولكن اللّه - سبحانه - الذي تكفل لعباده وخاصة الأنبياء بالحفظ والرعاية والكلاءة والمعونة أبى إلا نصر إبراهيم وحفظه من النار التي تذيب الحديد ، وتصهر المعدن والفولاذ.
قال اللّه : يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم فلم يشعر إبراهيم بشيء أبدا يؤلمه(2/542)
ج 2 ، ص : 543
بل ظل يسبح بحمد اللّه ، ويشكر فضل اللّه الذي لا ينساه حتى خبت النار ولم يمس بسوء.
وهكذا تكون عناية اللّه ورعايته للأنبياء والأولياء والصالحين من عباده ، ألم تر إلى قريش وقد جمعت جموعها ، وتشاورت في أمرها. واتفقت فيما بينها على أن تقتل محمدا ، ولكن أين لهم هذا!! واللّه تعالى يقول : وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 67] و
روى أبى بن كعب - رضى اللّه عنه - عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « أن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال : لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك » قال ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع فاستقبله جبريل فقال :
يا إبراهيم ألك حاجة قال « أما إليك فلا » ، فقال جبريل فاسأل ربك فقال. « حسبي من سؤالى علمه بحالي » فقال اللّه : يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم.
وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ، ونجيناه ولوطا ابن أخيه إلى أرض الشام ، التي باركنا فيها حيث كانت مهبط الأنبياء ، وإحدى القبلتين ، وكانت من حيث الماء والزرع فيها بركة وخير للساكنين بها.
ووهبنا لإبراهيم إسحاق ، ومن ولده كان يعقوب جعلناه صالحا تقيا.
وجعلناهم أئمة مهديين يقتدى بهم في الخيرات ، وأعمال الصالحات كل ذلك يأمرنا ، وبما أنزلناه عليهم من الوحى والإلهام ، ومن هنا نفهم أن من ينصب نفسه إماما يجب أن يكون مهديا : بطبعه مصلحا لنفسه ثم يصلح غيره ، وأو حينا إليهم فعل الخيرات ، والطاعات ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وكانوا لنا عابدين مطيعين.
طرف من قصة لوط ونوح عليهما السلام [سورة الأنبياء (21) : الآيات 74 الى 77]
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77)(2/543)
ج 2 ، ص : 544
المعنى :
وآتينا لوطا الحكم والنبوة ، والعلم والمعرفة ، بأمور الدين والدنيا ، وآتيناه علما نافعا وفهما سليما ، وتلك مقومات النبوة وأسسها ، وهكذا يعد اللّه - سبحانه - من يتحمل رسالته بما يجعله أهلا لها وأحق بها ، واللّه أعلم حيث يجعل رسالته.
ونجيناه من القرية (سدوم) التي بعث فيها ، وكانت تعمل الخبائث والمنكرات ، تلك القرية الظالم أهلها بالفسق والفجور ، إذ كانوا يأتون في ناديهم المنكر ، وكانوا يأتون الرجال من دون النساء كما تقدم في سورة هود.
وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين.
وهذا هو نوح الأب الثاني للبشر ، اذكر وقت أن نادى من قبل إبراهيم ولوط ، نادى داعيا على قومه فقال : رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً « 1 » .
فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر ، ولم يدع على قومه بهذا إلا بعد أن دعاهم بالحسنى ألف سنة إلا خمسين عاما ولكنهم أبوا إلا العناد والكفر.
فاستجاب اللّه دعاءه وأنزل بهم العذاب ، وأغرقهم بالماء الذي هو مصدر الحياة ، فكان عندهم مصدر الفناء ، ونجا اللّه نوحا والمؤمنين معه من الغرق والكرب الشديد ، ونصره على القوم الكافرين المكذبين الذين كذبوا بآياتنا ، وذلك جزاء الظالمين.
فهل لكم يا كفار مكة أن تعتبروا وتتعظوا بمن سبقكم من قوم لوط ونوح وما حل بهم ، وكيف كان النصر للمؤمنين ، والعذاب الشديد للكافرين.
___________
(1) سورة نوح الآية 26.(2/544)
ج 2 ، ص : 545
داود وسليمان عليهما السلام [سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 الى 82]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82)
المفردات :
الْحَرْثِ هو الزرع عامة ، وقيل : كان الحرث كرما. نَفَشَتْ :
النفش : الرعي ليلا ، وفيه معنى التفرق في الزرع بلا نظام لَبُوسٍ اللبوس عند العرب السلاح بأنواعه ، والمراد في الآية الدروع خاصة عاصِفَةً شديدة الهبوب يَغُوصُونَ الغوص : النزول تحت الماء. والغواص : الذي يغوص في البحر على اللؤلؤ.
المعنى :
واذكر يا محمد داود وسليمان. اذكر خبرهما وقت أن يحكما في شأن الحرث إذ(2/545)
ج 2 ، ص : 546
رعته غنم القوم ليلا. وكان اللّه - سبحانه - لحكم داود وسليمان ومن تابعهما شاهدا وحاضرا إذ لا يغيب عنه شيء ، ولا يكون إلا ما يريد ، ذكر المفسرون. أن رجلين دخلا على داود وعنده ابنه سليمان. أحدهما صاحب الحرث ، والآخر صاحب الغنم.
فقال صاحب الحرث : إن هذا انفلتت غنمه ليلا فوقعت في حرثى ، فلم تبق منه شيئا ، فقضى داود بأن يأخذ صاحب الحرث الغنم ، فإنها تساوى قيمة الحرث التي أفسدته.
فلما سمع سليمان هذا الحكم رأى ما هو خير منه ، وأرفق بالجميع فقال : ينبغي أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بألبانها وسمنها وأصوافها ، ويدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه حتى إذا عاد الزرع إلى حاله التي أصابته الغنم في السنة المقبلة رد كل واحد منهما ماله إلى صاحبه .. فقال داود يا بنى : القضاء ما قضيت ، وقضى بما قضى به سليمان وأقره. وهذا معنى قوله : ففهمناها سليمان ، أى : فهمنا سليمان القضية وحكمها العادل عدلا فيه تعويض وتعمير.
وكلا من داود وسليمان آتيناه حكما صحيحا ، وإدراكا للأمور سليما ، ومن هنا قيل : لكل مجتهد نصيب ، وفي الحديث الصحيح : أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران. وإن اجتهد فأخطأ فله أجر.
وهل كان حكم داود وسليمان عن اجتهاد أو عن وحى ؟ الظاهر أنه عن اجتهاد.
ولما مدح اللّه داود وسليمان معا أخذ يذكر ما يختص به كل واحد منهما فبدأ بداود لأنه أب سليمان ، فقال : وسخرنا مع داود الجبال يسبحن.
فكان داود إذا سبح سبحت الجبال معه ، وقيل : كانت الجبال تسير مع داود فإذا رآها أحد سبح للّه تعظيما له وتقديسا ، وسخرنا مع داود الطير تسبح كما يسبح ، وتمتثل أمره إذا أمر ، وكنا فاعلين.
وعلمنا داود صنعة دروع لكم تقيكم من بأس الحرب وشدته ، فهل أنتم شاكرون ؟
ومعنى الاستفهام اشكروا اللّه على ما أسبغ عليكم من نعمه ، ووفقكم إلى ما فيه خيركم وسعادتكم ، والتركيب يفيد طلب الشكر طلبا شديدا.
ثم ذكر ما خص به سليمان - عليه السلام - فقال :
وسخرنا له الريح حالة كونها عاصفة شديدة الهبوب ، فهي تجرى بأمره وتخضع(2/546)
ج 2 ، ص : 547
لحكمه ، وتنقله إلى الأرض التي باركنا فيها ، وهي أرض الشام كما تقدم ، وكان اللّه بكل شيء عليما.
وسخرنا له من الشياطين من يغوصون في البحار ، ويستخرجون من المعادن ما يحتاج إليه! ويعملون غير ذلك من بناء أبنية ، ومحاريب وجفان كالجواب وقدور راسيات ، وكنا لهم حافظين ، فلا هرب ولا إفساد ، ولا لعب بل كل يجتهد حسب ما يكلف.
هذه الآيات شهادة للعمال وأهل الحرف والصنائع ، بأن العمل شرف واتخاذ الحرفة كرامة ، ولقد قيل : صنعة في اليد أمان من الفقر ، وقد أخبر اللّه - سبحانه وتعالى - عن نبيه داود - عليه السلام - أنه كان يصنع الدروع ، وكان يأكل من عمل يده وكان نوح نجارا يصنع السفن ، ولقمان خياطا ، وهكذا التاريخ يحدثنا أن العمل كان ديدن الصالحين وطريق المؤمنين اثروا العمل على ذل السؤال وفي
الحديث الشريف : « لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب خير له من أن يسأل النّاس أعطوه أو منعوه » .
فالإسلام دين لا يعرف البطالة ولا الكسل بل هو دين العمل والجد ، والكسب والغنى ، ولكن عن طريق الحلال لا عن طريق الحرام.
ولقد يفهم الناس خطأ أن الإسلام يدعو إلى الفقر والزهد والمكث في المساجد وعدم العمل ، وهذا فهم خطأ ، وإنما يحث الدين على القناعة والإجمال في الطلب وعدم التكالب على الدنيا فإن ذلك قد يدفع صاحبه إلى التعدي على أخيه وظلمه إرضاء لشهوة المال وجمعه.
أيوب عليه السلام [سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 84]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84)(2/547)
ج 2 ، ص : 548
المفردات :
الضُّرُّ بفتح الضاد الضرر في كل شيء ، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال.
المعنى :
واذكر يا محمد أيوب وخبره الحق وقت أن نادى ربه أنى مسنى الضر ولحقني التعب والهم ، وأنت يا رب أرحم الراحمين.
أما ضر أيوب الذي لحقه فالمفسرون جالوا في تحديده وصالوا ، وذكر القرطبي في ذلك خمسة عشر قولا. الأول : أنه وثب ليصلى فلم يقدر على النهوض فقال : مسنى الضر : إخبارا عن حاله لا شكوى لبلائه ، وهذا لا ينافي الصبر إلى آخر الأقوال التي ذكرت في تفسير الآية.
والناس يروون في بلاء أيوب أقوالا يوردونها تدل على أنه مرض مرضا مشوها ومنفرا للناس.
وهذا يتنافى مع منصب النبوة ، إذ الأنبياء منزهون عن الأمراض المنفرة ، ويمكن أن نفهم أن الابتلاء بهذا الشكل كان قبل النبوة فلما صبر وصابر اجتباه اللّه واختاره نبيا ، على أن المبالغين في تصوير ضر أيوب ومرضه إنما اعتمدوا فيما يقولون على ما جاء عند أهل الكتاب في السفر المسمى « سفر أيوب » .
وبهذه المناسبة هذا السفر اختلفوا في وضعه هل هم اليهود. أو أيوب ، أو سليمان ، أو أشعيا ، أو رجل مجهول الاسم ، أو حزقيال ، أو عزرا ؟
واختلف أهل الكتاب في زمانه هل هو معاصر لموسى ؟ أو لأزدشير ، أو لسليمان أو لبختنصر ، أو كان زمان قبل إبراهيم إلخ ، حتى قال أحد علماء البروتستانت : إن خفة هذه الخيالات دليل كاف على ضعفها.
أما القول الحق فهو : أيوب عبد صالح امتحنه اللّه في ماله وأهله وولده وبدنه قصير ثم من اللّه عليه بالعافية ، وأعطاه أكثر مما فقد ، وأثنى عليه ثناء جميلا في القرآن وجعله نبيا ، ولم يكن عنده المرض المنفر.(2/548)
ج 2 ، ص : 549
وساق قصته لثبوت رحمته للمؤمنين ، وكيف ينصر عباده المتقين ، ولتكون ذكرى للعباد في كل حين ، حتى لا ييأس إنسان من عفو اللّه ، ولا يطمع إنسان مؤمن في أنه لا يصاب بمكروه في الدنيا ابتلاء ومحنة ، وورد « أشدّ النّاس بلاء الأنبياء ثمّ الصّالحون ثمّ الأمثل فالأمثل »
وصدق رسول اللّه.
إسماعيل وإدريس وذو الكفل [سورة الأنبياء (21) : الآيات 85 الى 86]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
المعنى :
وذكر إسماعيل وهو ابن إبراهيم ، وجد النبي - عليهم جميعا الصلاة والسلام - وإدريس نبي بعث بعد شيث وآدم - عليهم السلام - جميعا.
وأما ذو الكفل فالظاهر أنه عبد صالح ناب وأتاب إلى اللّه - سبحانه - ، وكان من بنى إسرائيل.
روى من حديث ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : كان في بنى إسرائيل رجل يقال له ذو الكفل لا يتورع من ذنب عمله فأتبع امرأة فأعطاها ستين دينارا (على أن يطأها) فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال : ما يبكيك ؟ قالت من هذا العمل واللّه ما عملته قط! قال : أأكرهتك. قالت : لا.
ولكن حملتني عليه الحاجة ، قال اذهبي فهو لك. واللّه لا أعصى اللّه بعدها أبدا ثم مات من ليلته فوجدوا مكتوبا على باب داره إن اللّه قد غفر لذي الكفل
، واللّه أعلم بصحة هذا الحديث! وإسماعيل ، وإدريس ، وذو الكفل كلهم من الصابرين المحتسبين ، وأدخلناهم في رحمتنا ، وشملناهم بعطفنا وتوفيقنا. وذلك لأنهم كانوا من الصالحين القانتين.
وقد ذكر القرطبي في تفسيره بعد أن ساق الحديث السابق في ذي الكفل روايات قال عمر بن عبد الرحمن بن الحارث ، وقال أبو موسى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم : إن ذا الكفل(2/549)
ج 2 ، ص : 550
لم يكن نبيا ، ولكنه كان عبدا صالحا فتكفل بعمل رجل صالح عند موته
إلى آخر ما ذكر ... ولكن سياق الآية وفي سورة (ص) التي ذكر فيها كثير من الأنبياء « وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ » (48) من سورة (ص) أليس دليلا على أنه نبي ؟ ! على أن الكشاف : صرح بأنه نبي وله اسمان إلياس وذو الكفل أى : ذو الحظ الكثير.
يونس عليه السلام [سورة الأنبياء (21) : الآيات 87 الى 88]
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
المفردات :
وَذَا النُّونِ هو يونس - عليه السلام - . صاحب الحوت ، والنون هو الحوت نَقْدِرَ من القدر والتقدير الذي هو القضاء والحكم ، والمراد فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة. ، ويؤيد هذا قراءة نقدر وقيل المراد : أى نقتر يقال قدر يقدر أى : يقتر عليه وقوله تعالى اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أى : يبسط ويقتر أى :
فظن أن لن نضيق عليه.
قصة يونس - عليه السلام - صاحب الحوت من المواضع الدقيقة في القرآن الكريم التي تحتاج من الباحث سعة اضطلاع وحسن تصرف ، وذلك أن القصة ذكرت في سورة الأنبياء كما هنا ، وفي سورة (ص) الآتية ، وفيهما يقول اللّه : إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ، ويقول في سورة (ص) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
ويقول كما هنا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ. إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.(2/550)
ج 2 ، ص : 551
وظاهر نصوص القرآن الكريم تثبت ليونس أنه غاضب. فممّن غاضب ؟ !. ، وأنه أبق! وأنه ظن أن لن نقدر عليه ، وأنه كان من الظالمين .. ، وهذا بلا شك لا يليق بالأنبياء على أن هذا الموضوع سيجرنا إلى البحث عن عصمة الأنبياء وإلى أى مدى تكون ، ويحملنا كذلك على تأويل تلك النصوص بما يتفق وروح الدين والقول الحق في نظري عن عصمة الأنبياء خلاصته : أن الأنبياء - صلوات اللّه عليهم - معصومون عن الكبائر مطلقا. وأما عن الصغائر فهم معصومون على الإتيان بها عمدا في حال النبوة ، وإن جاز أن يقع منهم شيء فهم متأولون أو ناسون وهذه تعتبر ذنوبا في حقهم ، وإن كانت غير ذنوب عند أممهم نظرا لما لهم من القرب والاتصال بالحضرة العلية ، وصدق من قال : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وموضوع كلامنا قصة يونس فنقول : سائلين اللّه أن يحفظنا من الخطأ.
المعنى :
واذكر يا محمد ذا النون وهو يونس إذ ذهب مغاضبا للّه ، أى : لأجل اللّه فيونس غاضب قومه من أجل ربه إذ يكفرون به ولا يصدقون برسله.
والظاهر أن يونس أرسل إلى قومه فعصوه ، ولم يتبعه إلا القليل ، وكان ذلك مما يحز في نفسه ويؤلمه ويغضبه ، وكان يونس ضيق الصدر شديد الإخلاص لقومه كثير الحرص عليهم فهذا كله يجعله يغضب ويثور ، وما هكذا تكون الأنبياء والرسل انظر إلى اللّه يقول لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم : وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ « 1 » وكثيرا ما كان يعالج القرآن ذلك عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم المعصوم والمبرأ من كل عيب فيقول :
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [سورة هود آية 12].
ولهذا كان الأنبياء الذين بالغوا في الصبر والمثابرة وهم - إبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ونوح. ومحمد - صلوات اللّه عليهم جميعا - أولى العزم.
فيونس ذهب مغاضبا من أجل عصيان ربه ، وليس مغاضبا ربه أو آبقا حقا ، وإلا كان من مرتكبا لكبيرة لا تليق بالفرد العادي فما بال يونس النبي الكريم ؟ ! الذي
يقول فيه المصطفى « لا تفضّلونى على يونس بن متّى » .
___________
(1) سورة القلم الآية 48.(2/551)
ج 2 ، ص : 552
إذا فهو مغاضب من أجل ربه ، وكان في خروجه من عند قومه في صورة الآبق وهذا لا يليق بنبي كريم ولذا كان العتاب وكان وصفه لنفسه أنه من الظالمين وأما قوله تعالى : أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فالمعنى فظن يونس أن لن نقتر عليه ونضيق بل نتركه يسير حيث أراد ، أو فظن أن لن نقدر عليه من القدر أى : فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة.
والذي ذكر في قصته أنه خرج مغاضبا من أجل ربه خرج في صورة الآبق إلى ساحل البحر فوجد سفينة فركبها ، وهو هائم على وجهه فلما سارت السفينة إلى عرض البحر اضطربت واهتزت وأشرفت على الغرق فقال ربانها : لأن يغرق شخص خير من أن نغرق جميعا فاستهموا فخرج سهمه فألقى في البحر فالتقمه الحوت وهو مليم ، (فعل فعلا يلام عليه) إذ كان الأولى أن يصبر حتى يأتى أمر اللّه في قومه ، فلما قر في جوف الحوت أدرك نفسه وعرف موقفه فنادى في الظلمات ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة جوف الحوت : أن لا إله إلا أنت سبحانك يا رب!! إنى كنت من الظالمين فاغفر لي يا رب فغفر اللّه له ونجاه مما هو فيه ، وكذلك ينجى اللّه المؤمنين. فاعتبروا يا أولى الأبصار واتعظوا بهذا. أما قومه فلما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يونس 98].
زكريا. ويحيى. ومريم [سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 الى 91]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)(2/552)
ج 2 ، ص : 553
المفردات :
لا تَذَرْنِي لا تتركني وَالَّتِي أَحْصَنَتْ والمراد : حفظت نفسها والإحصان العفة فإنها تحصن النفس من الذم والعقاب.
المعنى :
واذكر زكريا وقت ان نادى ربه نداء خفيّا ، وقال إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ، وقد عودتني الجميل وإجابة الدعاء ، يا رب : لا تذرني وحيدا لا ولد لي وأنت الباقي بعد فناء خلقك ، فأنت حسبي ونعم الوكيل ، فإن لم ترزقني ولدا يحمل عبء الرسالة من بعدي فإنى أعلم أنك لا تضيع دينك ، وأنه سيقوم بذلك من عبادك من تختاره وترتضيه.
فاستجاب اللّه دعاءه ، ووهب له يحيى ولم يجعل له من قبل شبيها ولا نظيرا وأصلح اللّه له زوجه خلقا حتى صارت تحمل ولدا بعد أن كانت عقيما ، وخلقا حتى صارت مثله في الخلق الطيب.
ولا عجب في هذا فإن زكريا ويحيى وزوجه كانوا دائما يسارعون في الخيرات ، ويتسابقون في عمل الصالحات.
وقيل : إن الأنبياء جميعا كانوا دائما يتسابقون مسرعين في عمل الخيرات ، وهذا تعليل لإكرام اللّه لهم ، وإجابته طلبهم ، فاعتبروا أيها الناس .. وكانوا يدعوننا رغبا ورهبا ، وفي الرخاء والشدة ، وفي المنشط والمكره ، وكانوا لنا خاشعين متواضعين متضرعين.(2/553)
ج 2 ، ص : 554
واذكر مريم البتول التي أحصنت فرجها وأعفت نفسها وحفظتها من كل عيب وذم فنفخنا فيها من روحنا ، وقد تقدم قول اللّه في آدم فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي « 1 » أى : أحييته ، فيكون المعنى هنا : فأحيينا عيسى الذي هو في بطن مريم.
وجعلناها وابنها آية على القدرة القادرة للّه - سبحانه وتعالى - ، فقد خلق عيسى من غير أب كما خلق آدم من غير أب وأم ، فجعل عيسى آية للناس جميعا.
وذكر مريم وإن لم تكن من الأنبياء هنا لأجل عيسى ابنها.
الوحدة الكبرى عند الرسل جميعا وجريان السنن على وتيرة واحدة [سورة الأنبياء (21) : الآيات 92 الى 97]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97)
___________
(1) سورة الحجر الآية 29.(2/554)
ج 2 ، ص : 555
المفردات :
أُمَّتُكُمْ ملتكم حَدَبٍ أى : مرتفع شاخِصَةٌ يقال : أبصار وعيون شاخصة إذا كانت لا تكاد تطرف من هول ما هي فيه.
المعنى :
بعد ما ذكر أخبار الماضين من الرسل وأقوامهم ، وظهر أنهم جميعا يسارعون في الخيرات ، ويدعوننا رغبا ورهبا ، وكانوا للّه خاشعين ، وعليه متوكلين ، وله مسلمين ، دينهم التوحيد الخالص ، والإيمان باللّه ورسله وكتبه ، أشار - سبحانه وتعالى - إلى الدعوة المحمدية على أنها ليست بدعا وليس صاحبها بدعا من الرسل.
إن هذه الملة المحمدية هي ملتكم التي يجب أن تتمسكوا بها ، ولا تنحرفوا عنها ، هي ملة واحدة كما عرفتم من الأمم مع أنبيائهم ، أعنى ملة واحدة غير مختلفة في الأصول والعقائد قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [سورة آل عمران آية 64].
إن هذه أمتكم أمة واحدة ، وأنا ربكم الواحد الأحد ، الفرد الصمد فاعبدوني ، ولا تشركوا بي شيئا ، وآمنوا برسلي خاصة خاتم النبيين محمدا صلّى اللّه عليه وسلم.
حول الخطاب إلى الغيبة كأنه ينقل أخبارهم إلى قوم آخرين ، على معنى : ألا ترون ما ارتكب الناس من مخالفات في دين اللّه ، لقد جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا ، كما يوزع الجماعة الشيء ، ويقتسمونه فيكون لهذا قطعة ولذاك قطعة ، وهذا تمثيل لاختلافهم وكونهم أحزابا وفرقا شتى ، وما علموا أن الكل إلينا راجع ، وكلهم واردون على حساب شديد يوم الفزع الأكبر ، فاحذروا أيها الناس أن تكونوا مثلهم.
فإن من يعمل بعض الصالحات وهو مؤمن فسيأخذ جزاءه كاملا غير منقوص ، ولا كفران لسعيه أبدا ، وإن عمله مكتوب عند الملائكة ، وفي كتابه الذي يلقاه بيمينه وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً.
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ. نعم حرام على قرية أردنا(2/555)
ج 2 ، ص : 556
إهلاكها وقدرناه لها أنهم يرجعون عن الكفر إلى الإسلام ، ويثوبون إلى رشدهم فأولئك ختم اللّه على قلوبهم وعلى أبصارهم فهم لا يؤمنون أبدا ..
وقوله : (حرام) مستعار لمنع الوجود ، كقوله في آية أخرى إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ [سورة الأعراف آية 50] ، أى : منعهما.
ومعنى الآية بإيجاز : إن قوما ما أراد اللّه إهلاكهم لعلمه بحالهم غير متصور أبدا أن يرجعوا إلى الإسلام وحدوده إلى أن تقوم القيامة ، وحينئذ يثوبون إلى رشدهم ويقولون : يا ويلنا إنا كنا في غفلة من هذا ، بل كنا ظالمين!! فهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم ، وعلى ذلك فقوله تعالى : حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ غاية لما قبلها كما ذكرنا ذلك ، ولا في قوله لا يَرْجِعُونَ صلة أى زائدة للتأكيد. وهذا شيء مألوف في الأساليب العربية.
وقيل إن معنى الآية : حرام على قرية أهلكناها أن أهلها لا يرجعون إلينا يوم القيامة للحساب إذ الجزاء ليس في الدنيا فقط ...
وقوله تعالى : حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ إلى آخر الآية. مظهر من مظاهر يوم القيامة ، أى إذا فتحت قبور يأجوج ومأجوج وهم الناس جميعا ، وقد خرجوا من قبورهم ، وأقبلوا من كل حدب يسرعون ، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس ، « وهم من كل جدث (قبر) يسرعون » وهذا هو النشر بعينه.
واقترب الوعد الحق فإذا هي الأبصار شاخصة أى : أبصار الذين كفروا من هول ما رأوا لا تطرف أبدا ، ويقولون : يا ويلنا وهلاكنا قد كنا في غفلة من هذا!! ولم نعمل حسابا لهذا الموقف ، بل لم نؤمن أبدا بل كنا ظالمين لأنفسنا ولغيرنا.
وفي التفسير المأثور يروون في قوله تعالى : حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ أن المراد حتى إذا فتح سد يأجوج ومأجوج ، وذلك يكون في الدنيا ، وأنهم يعيثون في الأرض فسادا ، ويخرجون ويدمرون ثم يهلكهم اللّه بعد ذلك ، وذكر ابن كثير في تفسيره أحاديث تثبت هذا.
والذي يمنع ذلك أنه ليس هناك سد مادى موجود في الدنيا ، فإذا تأولنا في السد جاز أن نفهم في تحقيق ذلك جواز طغيان المبادئ الهدامة المنتشرة في روسيا والصين(2/556)
ج 2 ، ص : 557
وأصحابهما في يوم من الأيام ، واكتساحهم العالم ، وسيبقى نفر قليل من المسلمين كما روى الحديث ويكون هلاكهم من اللّه - سبحانه وتعالى - ، والآية على هذا ذكرت مقدمة من مقدمات قيام الساعة ، واللّه أعلم بكتابه.
نهاية الكافرين ونهاية المؤمنين [سورة الأنبياء (21) : الآيات 98 الى 106]
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102)
لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106)(2/557)
ج 2 ، ص : 558
المفردات :
حَصَبُ جَهَنَّمَ حطب جهنم ووقودها ، وكل ما ألقيته في النار قد حصبتها به وارِدُونَ داخلون زَفِيرٌ الزفير : صوت نفس المغموم الذي يخرج من القلب حَسِيسَها صوتها وقيل : حركاتها مَا اشْتَهَتْ الشهوة : طلب النفس اللذة الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ هو النفخة الثانية نَطْوِي الطى ضد النشر السِّجِلِّ هو الصحيفة والمراد كطىّ الصحيفة على ما فيها من الكتابة الزَّبُورِ زبرت الكتاب أى كتبته ، وعلى ذلك صح إطلاق الزبور على التوراة والإنجيل والقرآن ...
ترتيب عجيب محكم ، هذه الآيات الكونية ناطقة بالتوحيد ، وهؤلاء هم الرسل جميعا يدعون إليه فما حال من يشرك بعد ذلك ؟ !! لقد ذكرت الآيات مشهدا من مشاهد يوم القيامة تجلت فيه نهاية الموحدين والمشركين روى عن ابن عباس : أنه لما نزلت آية إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ شق على كفار قريش ذلك ، وقالوا : شتم آلهتنا ، وأتوا ابن الزبعرى وأخبروه فقال : لو حضرت لرددت عليه قالوا : وما كنت تقول ؟ قال : كنت أقول له : هذا المسيح تعبده النصارى ، وعزير تعبده اليهود ، أفهما من حصب جهنم ؟
فعجبت قريش من مقالته ، ورأوا أن محمدا قد خصم ، أى : غلب في المخاصمة ، فأنزل اللّه تعالى : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى وفيها نزل وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ أى : يضجون من سورة الزخرف.
المعنى :
إنكم أيها الكفار والمشركون أنتم وما تعبدون من دون اللّه من صنم أو وثن أو شيطان أو حيوان أو نجم أو غيره حصب جهنم ووقودها فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ « 1 » أنتم جميعا لها واردون ، وفيها داخلون. وانظر يا أخى إلى نار وقودها الناس والحجارة!! وقالوا : إن المراد بالحجارة حجارة الكبريت. وقانا اللّه شرها.
انظر إلىّ بعقلك ، وتفهم قول الحق - تبارك وتعالى - فإنه أوضح من الشمس.
___________
(1) سورة البقرة الآية 24.(2/558)
ج 2 ، ص : 559
لو كان هؤلاء الذين عبدوهم آلهة تنفع وتضر كما هو مقتضى العبادة لما وردوا النار ، ودخلها العابدون والمعبودون!! وكل منهم في جهنم خالدون معذبون عذابا شديدا ، لهم فيها من شدة الكرب والهم - والعياذ باللّه - زفير وشهيق ، ولهم صوت يدل على شدة الألم ، ومنتهى الهم والحزن ، وهم فيها لا يسمعون بل هم صمّ بكم عمى وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [سورة الإسراء آية 97].
هذه عاقبة الكفر ومآله.
أما من آمن وعمل صالحا فلا ضير عليه أبدا ، وإن عبده غيره إذ لا ذنب عليه وما ذنب المسيح ؟ والعزير ، وعلى بن أبى طالب مثلا وما ذنب الملائكة التي عبدها بعض الناس ؟ ! فهم داخلون الجنة في قوله تعالى :
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أى : الجنة بسبب أعمالهم الطيبة لا يسمعون صوت النار ولا يصيبهم شررها أولئك عنها مبعدون ، وهم في جنات الخلد يمتعون بما اشتهته أنفسهم ، وبما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ
[سورة فصلت الآيتان 31 و32].
وهم فيها لا خوف عليهم ولا هم يحزنون أبدا ، لا يحزنهم الفزع الأكبر ، والهول الأعظم الذي ينتاب غيرهم فيزلزل قلوبهم ، ويهز كيانهم ، وتتلقاهم الملائكة بالبشر والترحاب مسلمين عليهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [سورة الزمر آية 73] قائلين لهم : هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فيه الكرامة والمثوبة والحسنى.
وهذا كله يكون يوم يطوى اللّه السماء ويضعها بعد نشرها كما نرى ، كطي الصحيفة للكتاب المكتوب فيها ، إنه لتصوير رائع لقدرة القادر الذي يطوى عوالم السماء كما تطوى صحيفة كتابك! سبحانك يا رب! إنك على كل شيء قدير.
طويت السماء بعد أن كانت منشورة ، وأعدت الخلق أحياء كما كانوا في الدنيا ، تعيد الخلائق كما بدأتها تشبيها للإعادة بالبدء في تناول القدرة لهما على السواء فكما أوجدت الخلائق أولا من العدم إلى الوجود تعيدها كذلك من العدم إلى الوجود بل(2/559)
ج 2 ، ص : 560
هو أهون عليه - سبحانه وتعالى - في نظرنا. وعد ذلك وعدا عليه ، وكان وعد ربك مفعولا ، ومن أصدق من اللّه حديثا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ. ولقد كتبنا في الكتب التي أنزلت على الأنبياء جميعا من بعد الذكر أى : في أم الكتاب أن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده ، وقد حكم أن يرثها عباده الصالحون ، والأرض هي الجنة فهي التي يستحقها الصالحون المؤمنون كما يستحق الوارث ميراث أبيه.
وبعض العلماء يرى أن الأرض أرض الكفار ، ويرثها العباد الصالحون المؤمنون القائمون بأمر الدين الحاكمون بالقرآن المتمسكون بهدى النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وهذا رأى حسن بلا شك فقد جعل اللّه العزة للّه ولرسوله وللمؤمنين ، ولم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا ، ولكن يا أخى أين نحن من القرآن ؟ وأين المسلمون الصالحون ؟ !.
وبعض الناس يرى أن الأرض هي أرض الدنيا ويرثها أى يملكها العباد الصالحون لعمارتها ، ولكن هذا لا يعبأ به حتى يكتب في جميع الكتب :
وأما قول بعضهم إن الأرض يأخذها المؤمن الصالح لا الكافر فهذا مردود بالواقع المحسوس .. واللّه أعلم بكتابه.
إن في هذا الذي تقدم من أول السورة إلى هنا من توجيه أنظارنا لآيات اللّه الكونية ، ومن قصص لنا فيها عبر ومواعظ وحكم. لبلاغا - والبلاغ الكفاية ، وما تبلغ به البغية ، وما تنال به الرغبة - ولكن يكون لقوم عابدين خاضعين قانتين إذ هم المنتفعون بهذا البلاغ.
موقف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من الناس [سورة الأنبياء (21) : الآيات 107 الى 112]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111)
قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)(2/560)
ج 2 ، ص : 561
المفردات :
آذَنْتُكُمْ أعلمتكم ، مأخوذ من الآذن ، أى : الإعلام.
بعد ذلك البيان الرائع ماذا يكون موقف النبي ؟ إنه الرحمة المهداة ، عليه البلاغ ، وعلى اللّه الحساب.
المعنى :
عرفنا فيما مضى جزاء المشركين باللّه. والمؤمنين به ، وكانت العاقبة للمتقين وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هو مفتاح الخير ، وباب الرحمة ، ولقد صدق اللّه وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ أى : للناس أجمعين أما أتباعه فرحمته عمتهم وفضله ونوره وسعهم ، وغيرهم كذلك ، وإن كان عن طريق غير مباشر.
ولسنا مبالغين إذ قلنا إن الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم أول من شرع العدل وسنه وأول من حكم بالقسط ، وقنن القوانين الحكمية ، وهو أول من بذر بذور الديمقراطية الصحيحة في العالم ، وهو أول من نصر الضعيف وأعان المظلوم ، وانتصف للفقير من الغنى ، وساوى بين الخصمين ، وسوى بين أتباعه وأتباع غيره ، وأمر بالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.
وكتابه هو المصباح الذي أنار للعالم طريقه ، وكان فاتحة الخير والهدى والعلم والمعرفة ، كان البلسم الذي هذب عقلية الفرس ، والرومان ، وكون فلسفة إسلامية عالية.
وبدينه ولدت العلوم والمعارف في الشرق أولا ثم انتقلت إلى الغرب عن طريق(2/561)
ج 2 ، ص : 562
الحروب الصليبية وتركيا ، وعن جامعات الأندلس. أخذ الغربيون تلك النفائس فنموها ، وجودوها ، حتى صارت علوما ومعارف واسعة النطاق ، وأراد اللّه لهم ذلك.
وأراد اللّه للشرق وللمسلمين أن يبتعدوا عن دينهم فأهملوا علومهم ومعارفهم فدارت الدائرة عليهم وأذلهم عدوهم. ولقد صدق اللّه وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران 140].
وأملنا في شبابنا خير ، هذا الشباب الذي أخذ ينادى بالقرآن ويدرسه ويتفهمه ليعيد للإسلام مجده ، ويتحقق جليا أن رسوله الكريم أرسل رحمة للعالمين ويكون على يديه إنقاذ العالم من وهدته ، وضرب المثل عمليا للمؤمن القوى الصالح لعمارة الدنيا والفوز بالآخرة.
ويقول ذلك الرسول مأمورا من ربه : قل لهم : إن ديني بسيط جدا. وسهل جدا لا تعقيد فيه ، ولا التواء : قل لهم إنما يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فاعبدوه وحده ، ولا تشركوا به شيئا من الدنيا أو المال أو الشهوة أو الجاه أو السلطان ، وقولوا بقلوبكم ولسانكم : اللّه أكبر وللّه الحمد.
فهل أنتم بعد ذلك مسلمون ؟ والمعنى أسلموا للّه ، وأخلصوا النية له فإن تولوا بعد ذلك فقل آذنتكم بحرب لا هوادة فيها ، وأعلمتكم بها أنا وأنتم سواء في هذا العلم فلا عذر ولا خيانة منى.
ولست أدرى واللّه أقريب أم بعيد ما توعدونه من العذاب! فأنا رسول اللّه إليكم فقط ، ولا أعلم من الغيب شيئا بل العالم بالحقائق حقا هو اللّه - سبحانه - الذي يعلم السر وأخفى ، ويعلم الجهر من القول ، ويعلم ما تكتمون من عداوة وحسد للمسلمين.
ولست أدرى لعل تأخير العذاب عنكم فتنة لكم ، وابتلاء ليرى كيف يكون صنيعكم وهو أعلم بكم ، ولعله متاع لكم تتمتعون به إلى أجل معلوم وزمن محدود ليكون ذلك حجة عليكم ، وليقع الموعد في وقت معين عنده قل لهم يا محمد : رب احكم بالحكم الحق ، فأنت الحق ، ولا نحب إلا الحق ، وربنا رب السموات والأرض صاحب النعم على العالم كله ، وربنا الرحمن المستعان وحده ، والملجأ إليه وحده ، والمفزع إليه وحده ، وهو المستعان وحده على ما تصنعون. وقد نصر اللّه عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده. لا إله إلا هو.(2/562)
ج 2 ، ص : 563
سورة الحج
وهي مكية في القول الصحيح إلا بعض آيات. وقال الجمهور : السورة مختلطة منها مكي ومنها مدني. وهذا هو الأصح ، وآياتها ثمان وسبعون آية ، وهي تتضمن الكلام على البعث وبعض مشاهده ، ثم تنتقل إلى الكلام على المشركين وموقفهم من المسجد الحرام واستتبع ذلك الكلام على البيت وشعائر الحج ، ثم الكلام على المكذبين ومصارعهم للعبرة بهم وفي نهاية السورة آيات اللّه في الكون مع ضرب المثل للآلهة.
الدعوة إلى تقوى اللّه [سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)(2/563)
ج 2 ، ص : 564
المفردات :
زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ أصل الكلمة من زل عن الموضع إذ زال عنه وتحرك ، وزلزل اللّه قدمه أى : حركها ، وعلى ذلك كانت الزلة شدة الحركة مع تكرارها تَذْهَلُ
الذهول الذهاب عن الأمر مع الدهشة سُكارى
جمع سكران مَرِيدٍ متمرد عات.
المعنى :
يا أيها الناس اتقوا ربكم ، وخذوا الوقاية لأنفسكم من عذابه. وحاصل التقوى أنها ترجع إلى امتثال الأمر واجتناب النهى ، والإحسان في العمل ، والإخلاص فيه.
أمر اللّه بنى آدم بتقواه ، ثم علل وجوبها عليهم بذكر الساعة وأهوالها ، ولينظروا إلى يوم الحساب ببصائرهم ، ويتصوروه بعقولهم ، حتى يبقوا على أنفسهم ويرحموها من شدائد ذلك اليوم وهوله ، بامتثال ما أمرهم به ربهم من التحلي بلباس التقوى الذي لا يؤمنهم من الفزع إلا هو.
روى أن هذه الآية نزلت ليلا في غزوة بنى المصطلق فقرأها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة « وكان الصحابة بين حزين وباك ومفكر » .
يا أيها الناس. اتقوا ربكم ، إن زلزلة الساعة واضطرابها شيء عظيم هوله كبير وقعه ، إلا على الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، نعم في يوم القيامة وساعة الزلزلة تذهل كل مرضعة عن طفلها ، الذي ترضعه ، والذهول : الغفلة عن الشيء بطروء ما يشغل عنه من هم ووجع أو غيره ، والمعنى : أن في هذا اليوم أهوالا تذهل المرضعة عن رضيعها ، وتجعل الناس سكارى ، والولدان شيبا يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً وترى الناس كأنهم سكارى ، والواقع أنهم ليسوا سكارى ، ولكن عذاب اللّه شديد يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أَبْصارُها خاشِعَةٌ [النازعات 6 - 9] ومع هذا ما أجهلك يا ابن آدم ، وما أغباك حيث لم تستعد لذلك اليوم ، ولم تأخذ لنفسك الوقاية منه فسيحاسبك خبير عليم وناقد بصير ، ولا تخفى عليه خافية!!(2/564)
ج 2 ، ص : 565
ومع هذا كله فمن الناس من يجادل في اللّه وقدرته على البعث ، واتصافه بصفات الألوهية ، ويا ليته يجادل بالحق ، ولكنه جدال بالباطل ونقاش بغير علم وعقل ، وهو يتبع في هذا كله شيطانه المتمرد العاتي ، مع أنه كتب عليه وقدر تقديرا ظاهرا كالرقم على الشيء المعروض في السوق أنه من تولاه واتبعه من الشياطين الإنسية أو الجنية فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير.
وهناك معنى آخر وهو : كتب على الشيطان أن من تولاه من الإنس فإنه يضله ويهديه - أى : الشيطان - إلى عذاب السعير ، ولعل هذا هو المعنى الظاهر.
من أدلة البعث [سورة الحج (22) : الآيات 5 الى 7]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)(2/565)
ج 2 ، ص : 566
المفردات :
رَيْبَ شك نُطْفَةٍ النطفة : المنى وهو ما يخرج من صلب الرجل سمى نطفة لقلته ، والنطف القطر عَلَقَةٍ العلقة : الدم الجامد. وقيل : الطري مُضْغَةٍ المضغة : قطعة لحم قليلة. قدر ما يمضغ أَشُدَّكُمْ كمال قوتكم أَرْذَلِ الْعُمُرِ المراد : الهرم والخرف حتى لا يعقل هامِدَةً يابسة لا نبات فيها اهْتَزَّتْ تحركت وتفاعلت وَرَبَتْ نمت وارتفعت بالنبات زَوْجٍ لون وصنف بَهِيجٍ حسن للدين الإسلامى مقصدان مهمان جدا ، وأساسان عليهما يدور ، وعليهما تبنى الفروع ، أما الأول : فتوحيد اللّه. واتصافه بكل كمال ، وتنزيهه عن كل نقص ، وأما الثاني : فإثبات البعث والحياة الأخرى ، وما يتبعها من ثواب وعقاب وغيره ، إذا لا غرابة في تكرارهما في القرآن والسنة ، وإثباتهما والاستدلال عليهما بالآيات الكونية وغيرها.
المعنى :
يا أيها الناس جميعا من كل جنس ولون ، في كل عصر وزمن ، إن كنتم في شك من البعث - وهذا الشك يجب أن يكون بسيطا جدّا يزول بأدنى تنبيه لتضافر الأدلة على ثبوته - فاتركوه ، وانظروا مما خلقتم ؟ !! ولقد كان اعتماد المنكرين للبعث على أنه يستحيل حياة بعد موت وتفرق للإجراء وانعدام لها بل تحولها إلى شيء آخر ، ومن الذي يعيد الحياة لتلك العظام النخرة التي أصبحت ترابا أو صارت ذرات في الهواء ، أو انتهى أمرها إلى بطون السباع أو بطون السمك والحيتان ؟ !! وعلى أى وضع يكون حساب وعقاب ؟ !! فنزل القرآن ينادى بالبعث ، ويسوق الأدلة كالصواعق أو أشد ، وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ؟ !! [الرعد 5] فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. [الإسراء 51] وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس 78 - 80].(2/566)
ج 2 ، ص : 567
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ؟ !! [سورة مريم الآيتان 66 و67].
وغير ذلك من آيات القرآن وكلام الرسول كثير.
وخلاصة دعواهم ، استحالة الحياة بعد الموت ، والوجود بعد فناء الخلق ، وما علموا أن القادر على البدء قادر على الإعادة ، وهو أهون عليه ، إذا قسناها بمقاييسنا ..
يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فاذكروا خلقكم أولا ، واعلموا أنه قد مر عليكم أدوار سبعة لا مناسبة بينها أبدا إذ كل دور كنتم من نوع يخالف الآخر.
1 - خلقكم من تراب - أى : خلق أباكم آدم منه ، أو خلقكم من المنى والمنى سواء كان من الذكر أو الأنثى فهو من الدم ، والدم من الغذاء ، والغذاء نباتا كان أو حيوانا من الأرض فصح أن كل إنسان خلق من تراب.
2 - ثم خلقناه من نطفة - ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فمن الذي حول التراب اليابس إلى ماء فيه حيوانات منوية ، ولا علاقة بينهما ولا مناسبة.
3 - ثم من علقة - والعلقة قطعة الدم الجامدة ، ولا شك أن بين المنى كماء والدم الجامد مباينة ، ومع هذا فقد تحول الماء إلى دم جامد بقدرة قادر ، وفي هذا إشارة إلى أنه لا معنى لاستبعاد الإعادة بسبب التحول من مادة إلى أخرى فإنه ثابت في بدء الخلق.
4 - ثم من مضغة ، وهي قدر ما يمضغ من اللحم ، وانظر إلى أصلها الأول وكيف وصل التراب إلى ماء ثم إلى دم ثم إلى لحم يمضغ!! .. وهذه المضغة قد تكون مخلقة مسواة سالمة من العيوب والنقصان ، تمت فيها أحوال الخلق ورسومه ، وقد تكون غير ذلك.
يا أيها الناس إن كنتم في شك من البعث فإن خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة قد صورناها ، ومضغة لم نصورها ، أخبرناكم بهذا كله لنبين ما يزيل عنكم الشك ، وينفى عنكم الريب في أمر بعثكم فإن القادر على هذه الأشياء كيف يكون عاجزا عن الإعادة واللّه - بعد ذلك - يقر في الأرحام ما يشاء إلى أجل مسمى(2/567)
ج 2 ، ص : 568
عنده وهو مدة الحمل فقد يولد الجنين لستة أشهر أو لتسعة أو لسنة أو لسنتين ، وبعض الفقهاء قال إن أقل الحمل ستة أشهر ولحظتان ، ونهايته أربع سنين.
5 - ثم نخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا تتنفسون وتعيشون ، وتطعمون ، وقد كنتم في بطون أمهاتكم تتنفسون ، ولكن على أى كيفية ؟ . وكنتم تطعمون ، ولكن من دم أمهاتكم ، فهل هناك مناسبة بين الحالتين بين الطفل في بطن أمه ، وبينه وهو في الحياة العامة!! 6 - ثم لتبلغوا أشدكم ، نعم فاللّه - سبحانه - القادر على كل شيء مهد لهذا الطفل الصغير سبل الحياة ، وأحيا فيه غريزة حب البقاء التي جعلته يرضع من ثدي أمه ، وهداه إلى طرق الحياة فعاش حتى بلغ أشده وكمال قوته وعقله.
7 - وبعد هذا أو قبله منكم من يتوفى ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر أليس في هذا دليل على وجود إله قوى مختار يحكم لا معقب لحكمه ، قادر على كل شيء إذ منكم من يتوفى وهو في تمام قوته ، وريعان شبابه ، ومنكم من يعيش ويعمر ، وقد يكون مريضا عليلا فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل 61] وإذا عمر الإنسان كثيرا ، ووصل إلى الهرم ضعفت قواه العقلية والجسمية إلى درجة كبيرة ، وفنيت خلايا جسمه كلها أو أغلبها فيصير ضعيف العقل والحواس ، لا يعلم شيئا مما كان يعلمه ، وهذا أمر مشاهد معروف ، وصدق اللّه حيث يقول : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [سورة الروم آية 54].
وكيف تشكون في البعث ، وإعادة الحياة إلى الجسم ، وأنتم ترون مظاهر البعث والحياة بعد الموت أمامكم في كل وقت ، ألم تروا إلى الأرض ، وهي ميتة هامدة ساكنة لا حياة فيها ، ولا نبات بها فإذا أنزل اللّه عليها الماء اهتزت وتحركت وقد أثبت العلم الحديث ذلك - وربت وانتفخت وأنبتت من كل صنف من النبات بهيج وحسن.
انظر يا أخى : إلى ترتيب القرآن المحكم أثبت البعث واستدل على ذلك بدليلين :
(أ) خلق الحيوان. (ب) خلق النبات ثم رتب على ذلك أمورا.
1 - ذلك الذي بينه لنا من أمر الخلق في الحيوان والنبات ، وانتقال كل من حال(2/568)
ج 2 ، ص : 569
إلى حال متباينة بسبب أن اللّه هو الحق ، والحق هو الموجود الثابت الذي لا يحول ولا يزول ، وأن كل ما سواه وإن كان موجودا حقّا ، فإنه لا حقيقة له في نفسه لأنه مسخر مذلل للحق - تبارك وتعالى - صاحب الوجود المطلق ، والغنى المطلق - سبحانه وتعالى - .
2 - وأنه يحيى الموتى ، وإذا كان اللّه صاحب هذه الأفعال ، وموجد هذه الأشياء والأحوال فكيف يستبعد منه إعادة الأموات للثواب والعقاب ؟
3 - وأنه على كل شيء قدير ، ولا عجب فمن صدر منه هذا تكون القدرة صفة ذاتية له ، ويكون على كل شيء قدير.
4 - وأن الساعة آتية لا ريب فيها حيث وعد بها ، وكان وعده مفعولا ، وقضى بها وهو القادر المختار.
5 - وأن اللّه يبعث من في القبور للحساب والجزاء.
هكذا تكون الناس [سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 14]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12)
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14)(2/569)
ج 2 ، ص : 570
المفردات :
ثانِيَ عِطْفِهِ ، المراد معرضا عن الذكر كفرا وتعظما ، والأصل في العطف أنه الجانب ، ويقال : ثنى فلان عنّى عطفه إذا أعرض ، ولوى جانبه خِزْيٌ هوان وذل عَلى حَرْفٍ المراد : على شك وضعف في العبادة كضعف القائم على طرف الجبل وحده.
ولقد أمر اللّه بالتقوى وخوفهم من عذاب يوم شديد ومع هذا فمن الناس من يجادل في اللّه بغير علم ، ثم ساق لهم الأدلة على البعث وقدرة اللّه على كل شيء ، ومع هذا فمنهم من يجادل في اللّه كذلك بغير علم.
هكذا تكون الناس مهما كانت النذر! منهم شقي ومنهم سعيد ، ومنهم المؤمن الصادق ، والمنافق الكاذب ، والكافر الصريح ، وهكذا أراد اللّه.
المعنى :
ومن الناس من يجادل في وجود اللّه وصفاته بغير علم ، ولا هدى ، ولا كتاب منير.
نعم من الناس من يجادل بالباطل ، ويجادل في اللّه وصفاته بغير علم صحيح ، وفكر سليم ، وبغير هدى واستدلال يهدى إلى المعرفة الصحيحة ، وبغير كتاب وحجة منقولة.
وهذا واللّه هو الحق ، يجادل الإنسان ويخاصم بظن واه ، لا دليل معه من علم أو نظر أو حجة ، ولكنه العناد والضلال وعمى القلوب والبصائر فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [سورة الحج آية 46].
وهو إذا ذكّر لا يذّكّر بل يعرض وينأى بجانبه كبرا وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً [سورة لقمان آية 7].(2/570)
ج 2 ، ص : 571
ولما أدى جداله إلى الضلال ، وكانت عاقبته خسرا ، جعل كأنه غرضه ، ولما كان الهدى في استطاعته ، وتحت سمعه وبصره ، ولكنه تركه وأعرض عنه ، وأقبل على الجدال بالباطل جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال وبئس المصير.
وهؤلاء لهم في الدنيا خزي وهلاك ، وهوان وذل ، وفي يوم الجزاء يذوقون عذاب الحريق.
ذلك الجزاء الكامل المناسب بسبب ما قدمته يداه ، وبسبب أنه - سبحانه وتعالى - الحكم العدل ، وعدله يقتضى معاقبة الفجار ، وإثابة الأبرار : لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا ، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [سورة النجم آية 31] ، وما ربك بظلام للعبيد ، فيما يجازى به كلا على عمله.
صنف آخر أمره عجب!! يعبد اللّه عبادة ليست صادقة خالصة ، عبادة ليس فيها صدق نية ، ولا إخلاص في الطوية ، عبادة باللسان وترديد في الكلام. لم يدخل الإيمان قلبه ، ولم تخالط بشاشة الدين روحه ، فهو دائم القلق والاضطراب ، كمن يجلس على حرف الجبل وحده لا يهدأ له قرار ، ولا تسكن له نفس.
هؤلاء هم المنافقون ، أو المنافقون صنف منهم يعبدون اللّه على خوف وشيك ، فإن أصابه خير من غنيمة ومال ، وزيادة في النسل والإنتاج رضى عن هذا الدين.
وإن امتحن بالبلاء ، واختبر في الضراء بنقص في المال أو الأنفس ، أو هلاك في الثمرات والغلات ينقلب على وجهه ، ويرتد معلنا سخطه وعدم رضاه.
وهؤلاء خسروا الدنيا بما أصابهم ، وخسروا الآخرة إذ لا ثواب لهم على ما أصابهم فإنهم لم يصبروا ولم يحتسبوا.
وذلك هو الخسران الكامل ، والضلال المبين.
ومن ذكر من الكافرين أو المترددين المنافقين ، يدعو من دون اللّه ما لا يضره ، ولا ينفعه ، وإنما يتمسك ويتجه إلى ما لا يفيد أصلا ، بل لا ينفع نفسه ، وذلك هو الضلال الموغل في الضلالة البعيد جدا عن الصواب.
يدعو من ضره أقرب من نفعه ، إذ هو سبب كفره وعذابه ، لبئس هذا المولى والناصر ولبئس هذا العشير والصاحب.(2/571)
ج 2 ، ص : 572
ولا بد من وجود المؤمنين الموحدين مع هؤلاء ، وأولئك ليكون ثوابهم على إيمانهم كثيرا ، وها هم أولاء وجزاؤهم.
إن اللّه يدخل الذين آمنوا وأخلصوا في إيمانهم ، وعملوا الصالحات ، يدخلهم جنات تجرى من تحت أشجارها الأنهار ، لهم فيها نعيم مقيم ، وثواب عريض ، إن اللّه يفعل ما يريد ، من إكرام من يطيعه ، وإهانة من يعصيه.
اللّه - سبحانه وتعالى - ناصر رسوله صلّى اللّه عليه وسلم [سورة الحج (22) : الآيات 15 الى 16]
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
تقدم الكلام على من يجادل في اللّه بغير علم ، ومن يعبد اللّه على حرف ، وهؤلاء كان يغيظهم ما يرون من حال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والتفاف الناس حوله. فجاءت هذه الآية لقطع أطماعهم ، ورد كيدهم في نحورهم.
المعنى :
حكى القرطبي عن أبى جعفر النحاس قوله : « من أحسن ما قيل في هذه الآية أن المعنى من كان يظن أن لن ينصر اللّه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم ، وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه. فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ أى : فليطلب أية حيلة يصل بها إلى السماء. ثُمَّ لْيَقْطَعْ أى : ليقطع النصر إن تهيأ له فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ وحيلته ما يغيظه من نصر النبي صلّى اللّه عليه وسلم » .
والفائدة في الكلام أنه إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بأن يفعل مثل هذا لم يصل إلى قطع النصر.(2/572)
ج 2 ، ص : 573
وذكر الزمخشري في كشافه أن المعنى :
«
اللّه ناصر رسوله في الدنيا والآخرة فمن كان يظن من حاسديه وأعاديه أن اللّه يفعل خلاف ذلك ، ويطمع فيه ، ويغيظه أنه لم يظفر بمطلوبه فليستقص كل ما في وسعه ، وليفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعله من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى لو مد حبلا إلى سماء بيته للانتحار فاختنق به منتحرا فلينظر ، وليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر اللّه الذي يغيظه » .
وسمى الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع حياته ، وسمى فعله وهو فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ كيدا لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره ، أو سمى كيدا على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده ، وإنما كاد به نفسه.
ألست معى في أن هذا رد لأعداء الإسلام في أن يطمعوا في إحباط دعوة الإسلام ؟ ! ألست معى في أن اللّه متم نوره ، ومؤيد رسوله ، وعاصمه من الناس ، ومؤيده بوحيه ، ومنزل عليه آياته البينات.
ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله آيات بينات واضحات ، يهدى به اللّه الذين يعلم أنهم مؤمنون ، وفي نفوسهم استعداد للإيمان بالغيب.
من مظاهر عدله وقدرته [سورة الحج (22) : الآيات 17 الى 18]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18)(2/573)
ج 2 ، ص : 574
المفردات :
آمَنُوا الإيمان : هو التصديق باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وَالَّذِينَ هادُوا وهم أتباع موسى - عليه السلام - لقولهم : إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ بمعنى رجعنا وتبنا وَالصَّابِئِينَ قوم يعبدون النجوم والكواكب وَالنَّصارى هم أتباع المسيح - عليه السلام - وَالْمَجُوسَ عبدة النار من الفرس وغيرهم وهم يقولون بأن هناك إلهين للخير والشر ، وللعالم أصلين نورا وظلمة وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا هم مشركو العرب الذين يعبدون الأصنام والأوثان يَسْجُدُ يخضع وينقاد لما يجريه عليه من حكم.
المعنى :
إن اللّه - سبحانه وتعالى - يهدى من يريد لأنه يستحق الهداية على حسب ما اطلع على نفسه وميله في الأزل بحيث لو ترك وحده لاختار ما قدره اللّه له ، وهو يحكم بين الخلائق كلها بالعدل والقسطاس المستقيم فلا يظلم نفسا شيئا ، وإن كان مثقال حبة منخردل.
فالذين آمنوا باللّه وكتبه واليوم الآخر ، وهم المسلمون الموحدون المؤمنون بالنبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وبإخوانه الأنبياء جميعا لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [سورة البقرة آية 285].
والذين هادوا وهم أتباع موسى - عليه السلام - ، ولو كانوا أتباعا له حقيقة ، ولم يغيروا ويحرفوا التوراة لآمنوا كذلك بعيسى ومحمد صلّى اللّه عليه وسلم :
والصابئون الخارجون عن حدود الدين العابدون للكواكب ، والنصارى من أتباع عيسى ابن مريم عبد اللّه ورسوله ، ولو كانوا كذلك لآمنوا بمحمد خاتم الأنبياء والرسل فدينه ينسخ كل ما تقدمه ، وفي التوراة والإنجيل البشارة الصحيحة بالنبي محمد صلّى اللّه عليه وسلم(2/574)
ج 2 ، ص : 575
والمجوس عباد النار القائلون بوجود إله للخير وآخر للشر ، وللعالم أصلان هما النور والظلام.
هؤلاء جميعا يفصل اللّه بينهم بحكمه العدل ، ويقضى يوم القيامة ، فلا فضل لأمة على أمة ، ولا لعنصر على عنصر ولا غرابة في ذلك إن اللّه على كل شيء قدير ، وفي الكون شهيد ورقيب.
ألم تعلم أن اللّه يسجد له من في السموات ومن في الأرض ، والشمس والقمر ، والنجوم والجبال ، والشجر والدواب ؟ !! ، وكيف لا تعلم واللّه أخبر به ، وخبره الصدق. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
والسجود للّه مطلق الانقياد لما أمر ، إذ الكل خاضع لأمره وتصريفه إذا قال للشيء كن فيكون.
وكثير من الناس يسجد سجود طاعة وعبادة فوق السجود العام الشامل له ولغيره.
وكثير حق عليه العذاب لأنه أساء العمل في دنياه ، وفسق عن أمر مولاه.
ومن يهنه اللّه بأن يكتب عليه الشقاوة لما سبق عليه من كفره وفسقه وعصيانه - وقد كتب عليه ذلك لأنه يستحق كما قدمناه ، ولموافقته لما يعلمه اللّه من ميله إلى الشر - فما له مكرم أبدا ، ومن يكرم من أهانه اللّه ؟ !! إن اللّه نافذ أمره لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، وهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. له الملك وله الحمد. وهو على كل شيء قدير :
الكافرون والمؤمنون وجزاء كل [سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 24]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24)(2/575)
ج 2 ، ص : 576
المفردات :
خَصْمانِ فريقان متنازعان الْحَمِيمُ الماء البالغ النهاية في الحرارة يُصْهَرُ الصهر : الإذابة مَقامِعُ جمع : مقمعة ، وهي : قطعة من الحديد اتخذت آلة للقمع سميت مقمعة لأنها تقمع المضروب أى : تذله الْحَرِيقِ أى :
العذاب المحرق مِنْ أَساوِرَ جمع أسورة التي هي جمع سوار فالأساور جمع الجمع ، وهي حلية تلبسها النساء الآن في معاصمها وَلُؤْلُؤاً هو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف وَهُدُوا أى : ارشدوا.
المعنى :
هذان فريقان من الناس يتميز كل منهما عن الآخر ، وقد اختصموا في شأن ربهم الذي خلقهم ، فريق منهم في الجنة ، وفريق في السعير ، فريق كفر باللّه وبرسوله ، ولم يكن عنده استعداد للإيمان بالغيب والحياة الأخروية ، وفريق آمن باللّه وبرسله وآمن بالغيب والحياة الآخرة.
أما الفريق الأول : فهم الذين كفروا ، وكان جزاؤهم أنه قطعت لهم ثياب من نار أى : سويت وجعلت لهم لباسا ، تراه قد شبه النار بالثياب لأنها مشتملة عليهم كاشتمال الثياب ، وقيل إنها ثياب من نحاس مذاب من شدة الحرارة فصار كالنار ، وهذه هي السرابيل التي ذكرت في قوله تعالى : سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ « 1 »
___________
(1) سورة إبراهيم الآية 50.(2/576)
ج 2 ، ص : 577
من سورة إبراهيم. وهؤلاء يصب من فوق رؤوسهم الحميم ، وهو ماء شديد الحرارة مغلى بنار جهنم ، ويا ويلهم من هذا العذاب!! يذاب بذلك الماء الحار ويصهر به ما في بطونهم من الأمعاء ، وتحرق به جلودهم ولهؤلاء مقامع من حديد يضربون به على رؤوسهم لقمعهم وذلهم ، كلما أردوا أن يخرجوا من النار بسبب غمهم بها ، أعيدوا فيها بشدة حتى يأخذوا عذابهم كاملا غير منقوص ، ويقال لهم : ذوقوا العذاب المحرق فأنتم أهل له.
أما الفريق الثاني : فهم الذين آمنوا باللّه ورسله وعملوا الصالحات ، فسيدخلهم ربهم جنات تجرى من تحت أشجارها الأنهار العذبة ، منها يشربون ، وبها يتمتعون ، ويحلون في الجنة أساور من ذهب خالص. ولؤلؤا ، ولباسهم فيها حرير.
وعلى ما أعتقد هذا تقريب وتمثيل لنفهم متاع الآخرة المادي وإلا ففي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، ورضوان من اللّه أكبر من ذلك كله لأنه النعيم الروحي الخالص.
هؤلاء لا غرابة في جزائهم هذا فهم قد هدوا إلى القول الطيب والعمل الصالح وهدوا إلى صراط العزيز الحميد ودينه القويم وهو الصراط المستقيم صراط الذين أنعم اللّه عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
اللهم وفقنا إلى هذا ، واحشرنا مع هؤلاء ، واهدنا الصراط المستقيم آمين.
روى مسلم عن قيس بن عباد قال : سمعت أبا ذر يقسم قسما إن هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ إنها نزلت في الذين برذوا يوم بدر : حمزة ، وعلى ، وعبيدة ابن الحارث - رضي اللّه عنهم - . وعتبة ، وشيبة ابنا ربيعة. والوليد بن عتبة. وبهذا الحديث ختم مسلم - رحمه اللّه كتابه ، وروى هذا الحديث عن ابن عباس مع التنصيص على أن هذه الآية نزلت على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالمدينة.(2/577)
ج 2 ، ص : 578
صد الكفار عن المسجد الحرام وبيان مكانه [سورة الحج (22) : الآيات 25 الى 26]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
المفردات :
وَيَصُدُّونَ الصد : المنع ، والفعل يفيد استمرار المنع الْعاكِفُ ، المقيم الملازم وَالْبادِ ، أى : أهل البادية بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ يقال : بوأته منزلا وبوأت له كما يقال : مكنتك ومكنت لك ، وقيل : بوأنا له مكان البيت ، أى : بيناه له.
ما مضى كان في بيان المؤمنين العاملين وجزائهم ، وهنا بيان للكفار المشركين ، وخاصة المعاصرين للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهذا كالمقدمة لما يأتى.
المعنى :
إن الذين كفروا باللّه ورسوله ، وهم يصدون عن سبيل اللّه صدا دائما مستمرا ، ولا شك أن المشركين صدوا الناس عن سبيل اللّه بما عملوا من أعمال ضد المسلمين في مكة وغيرها.
وهم يصدون عن سبيل اللّه ، وعن المسجد الحرام ، وقد صدوا رسول اللّه عن المسجد الحرام عام الحديبية ، وقد جعله اللّه للناس جميعا لصلاتهم وطوافهم وعبادتهم(2/578)
ج 2 ، ص : 579
والناس من حيث كونهم ناسا ، العاكف فيه والبادي سواء وبهذا يعلم أن المسجد الحرام مكان عالمي عام للمسلمين جميعا يستوي فيه المقيم والمسافر ، ومع هذا فقد صدوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن المسجد الحرام وأخرجوه من مكة بلده الحبيب مكرها.
ومن يرد فيه مكروها حالة كونه ملحدا ظالما ، أى : مائلا عن الحق والعدل بأى صورة كانت يكون جزاؤه أن اللّه يذيقه العذاب الأليم ، وإذا كان هذا هو حكم اللّه فيمن يرتكب المعاصي في المسجد الحرام ، سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، فما بال من يصد عن سبيل اللّه وعن المسجد الحرام ، ويكفر باللّه فيه ؟ إنه لظلم عظيم.
واذكر يا محمد للناس وقت أن بوأنا لإبراهيم مكان البيت ، وهيأنا مكانه ، وبيناه له على أن لا يشرك باللّه شيئا ، وهذا نهى لإبراهيم - عليه السلام - ولأولاده من العرب.
وأمرناه أن يطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ، يطهره من الأصنام والأوثان ، فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ ، وهذا تكريم لإبراهيم وتشريف للبيت ...
وإذا كان هذا هو موقف إبراهيم - عليه السلام - ، وما أمر به فكيف يكون حال المشركين الذين يدعون أنهم من نسل إبراهيم وعلى ملته ؟ ! ثم هم يشركون باللّه ، ويعبدون الأوثان ، ويرتكبون الإثم والعدوان في المسجد الحرام ، والبيت المقدس ، إن هذا لظلم فادح.
حج بيت اللّه الحرام [سورة الحج (22) : الآيات 27 الى 29]
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)(2/579)
ج 2 ، ص : 580
المفردات :
رِجالًا المراد : ماشين على القدم ، جمع راجل ، كتاجر وتجار فَجٍّ الفج :
الطريق الواسع عَمِيقٍ بعيد ، ومنه بئر عميق أى بعيدة القعر الْبائِسَ ذو البأس والشدة الْفَقِيرَ الذي أضعفه الإعسار وأجهدته الحاجة لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ليؤدوا. التفث أى الدرن والوسخ والمراد : تقصير الشعر وقص الظفر ، ونتف الإبط الْعَتِيقِ القديم ، وقيل : الكريم.
روى أنه لما فرغ إبراهيم - عليه السلام - من بناء البيت ، وقيل له : أذن في الناس بالحج قال : يا رب! وما يبلغ صوتي ؟ قال : أذن وعلى الإبلاغ فصعد إبراهيم خليل اللّه جبل أبى قبيس وصاح : يا أيها الناس إن اللّه قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار ، فحجوا ، فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء : لبيك اللهم لبيك. إن تعلمهم بوجوبه عليهم يأتوك سراعا حالة كونهم سائرين على القدم وراكبين.
المعنى :
يا إبراهيم أذن في الناس بالحج ، وأعلمهم بوجوبه ، وطالبهم به وهل الأمر لإبراهيم أو هو للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم اللّه أعلم به.
الركائب ، يأتوك على كل ضامر من الإبل بسبب طول السفر ، وبعد الشقة ، إذ هم يحضرون من كل فج عميق وسفر بعيد ، وبلاد نائبة.
ومن هنا ومن قوله تعالى في سورة إبراهيم على لسانه فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ندرك السّر الإلهى الذي أودعه اللّه في قلب كل مسلم نحو زيارة بيت(2/580)
ج 2 ، ص : 581
اللّه الحرام ، وحج بيته الكريم ، ففي أيام الحج من كل سنة نجد قلوب كثير من المسلمين تتحرق شوقا إلى مكة والمسجد الحرام ، وتنفق في سبيل ذلك النفيس من المال ، وتتحمل المشاق والمتاعب ، وتهيم على وجوهها شوقا للقاء الحبيب حالة كونهم رجالا أو راكبين الإبل وغيرها من مسافات بعيدة ، وترى الحجيج كل عام يجتمع من كل صوب وحدب ، ليشهدوا منافع لهم ، أى : واللّه إنها منافع لهم ، لا يقدرها حقها ، ولا يعرف كنهها إلا اللّه والراسخون في العلم.
نعم : هذا هو الحج : المؤتمر الأكبر الذي يضم شتات المسلمين من كل فج عميق يجتمعون في صعيد واحد وفي أيام معلومات ، ويستهدون من اللّه ، ويطهرون نفوسهم من أدران المادة والدنيا ومتاعها ، ويستلهمون معاني القوة والاتحاد ، والألفة والتعاون والإخاء في سبيل اللّه.
يشهدون منافع لهم دون غيرهم ، منافع عامة ليست خاصة ، منافع كثيرة في الدنيا والآخرة.
وإن من يوفق لأداء فريضة الحج يرى بنفسه أن الحج فيه منافع وأى منافع ؟ فالدولة تنفق الأموال ، وتطلق الألسنة ، وتحشد الجمع لحضور مؤتمر لها ، ولكن أيحضر الناس ، بقلوبهم ؟ معتقدين أنه في ذلك رضاء لربهم ؟ كلا!! ولكن في هذا المؤتمر العام يحضر المسلمون ملبين دعوة اللّه ، مجتمعين بقلوبهم ، باذلين أموالهم على فقرائهم متعاونين متساندين متعارفين متحابين ، يشعرون بالألفة والمحبة والإخاء لكل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها .. فحقا صدق اللّه : ليشهدوا منافع لهم. ويذكروا اسم اللّه في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام.
وانظر يا أخى - وفقك اللّه الخير - وقد كنى القرآن عن النحر والذبح بذكر اسم اللّه لأن الغرض المهم من الذبح أن يتقرب العبد إلى ربه وذكر اسمه حتى يطمئن قلبه ، ويمتلئ بنور اللّه ، ولأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا وذبحوا ، ولقد ازداد الكلام روعة وحسنا ظاهرا حيث جمع بين قوله ليذكروا اسم اللّه وقوله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام من إبل وبقر ، وضأن ومعز.
ولو قال : ليشهدوا منافع لهم ، ولينحروا لكان الكلام أجوف خاليا من البواعث(2/581)
ج 2 ، ص : 582
والدوافع الدينية ، وهذه ميزة الإسلام يحمل المسلمين على العمل بكل الأساليب المرغبة ليقبلوا على العمل بعقيدة ثابتة ونفس راضية.
والأيام المعلومات هي أيام التشريق الثلاث ويوم العيد فتكون أربعة وقيل : هي العشر الأوائل من ذي الحجة ووقت الذبح يوم النحر ، وقيل : يوم العيد وأيام التشريق.
فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير : أما الأكل منها فالأمر فيه للإباحة جبرا لخاطر الفقير وإشعارا له بالمساواة في المأكل والمشرب ومخالفة لما كان في الجاهلية ، والأمر في قوله وأطعموا للوجوب ، ومذهب الشافعى رحمه اللّه أن الأكل مستحب والإطعام واجب فإن أطعمها جميعها أجزأه ، وإن أكلها جميعها لم يجزه ، هذا فيما إذا كان الذبح تطوعا. فأما الواجبات كالنذر والكفارات ودم الجبر الذي يذبح لنقص في أعمال الحج مثل دم القران والتمتع مثلا فلا يأكل منها ، وقيل : يجوز له الأكل.
ثم بعد تحللهم وخروجهم من الإحرام ليؤدوا تفثهم ، وليزيلوا أوساخهم ، ويتحللون بالحلق أو التقصير ، ونتف الإبط وإزالة الوسخ ، وتفسير القضاء في لْيَقْضُوا بالإزالة تفسيرا مجازيا.
وليطوفوا طواف الإفاضة والزيارة ، وهو غير طواف القدوم ، وطواف الوادع وليطوفوا بالبيت العتيق الطاهر القديم شكرا للّه على توفيقه لأداء الحج.
ولعل في ذكر الحج والأذان به عقب التسجيل على الكافرين بالصد عن سبيل اللّه والمسجد الحرام ، وبيان مكانة البيت وطهارته ، ما يجعلنا نشعر بأن من يقف حائلا في يوم من الأيام ويمنع حج بيت اللّه الحرام يكون من الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللّه والمسجد الحرام ...
توجيهات إلهية لتعظيم حرمات اللّه وشعائره [سورة الحج (22) : الآيات 30 الى 35]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)(2/582)
ج 2 ، ص : 583
المفردات :
حُرُماتِ اللَّهِ مالا يحل هتكه الرِّجْسَ القذر ، والمراد : اجتنبوا عبادة الأوثان مِنَ الْأَوْثانِ جمع وثن وأصله من وثن الشيء : أى أقام في مقامه ، وسمى الصنم وثنا لأنه ينصب ويركز في مكانه لا يبرح عنه ، وقد يسمى الصنم تمثالا إذا كان على صورة الحيوان التي يحيا بها حُنَفاءَ لِلَّهِ مستقيمين أو مائلين لجهة اللّه خَرَّ مِنَ السَّماءِ سقط فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ تقطعه بمخالبها تَهْوِي تسقط سَحِيقٍ بعيد شَعائِرَ اللَّهِ الشعائر جمع شعيرة ، وهي : كل شيء للّه فيه أمر أشعر به وأعلم ، وعلى ذلك فشعار القوم في الحرب علامتهم مَنْسَكاً أى : ذبحا الْمُخْبِتِينَ المتواضعين الخاشعين وَجِلَتْ خافت.(2/583)
ج 2 ، ص : 584
المعنى :
الأمر والشأن ذلك الذي ذكر من أحكام الحج وحدوده ، وهذا أسلوب عربي سليم ، إذ للكاتب حيث قدم جملة أو فصلا من كتابه أن يقول : ذلك والمراد تنبه إليه واحفظه ، واعتن بذلك المذكور فالأمر ذلك.
ومن يعظم حرمات اللّه ، ويعمل على أنها واجبة الحفظ والمراعاة ، ويقوم بحفظها ورعايتها وعدم انتهاكها - وحرمات اللّه هي مالا يحل هتكه ، وجميع ما كلفنا اللّه - تعالى - بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها - فالتعظيم خير له عند ربه من التهاون في شيء منها ، وليس المعنى على التفصيل بين التعظيم وغيره بل المراد الوعد الصادق بالخير.
والحج ركن جمع بين العبادة البدنية والمالية ، ففيه نسك وذبح وإهداء ، ولذا ناسب أن يبين ما يحل ذبحه وأكل لحمه وما لا يحل فقال :
وأحلت لكم الأنعام أن تذبحوها وتأكلوا لحمها إلا ما يتلى عليكم في الكتاب من المحرمات كالتي ذكرت في سورة المائدة حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [سورة المائدة آية 3].
والمعنى أن اللّه قد أحل لكم الأنعام فكلوها ، وحرم عليكم الميتة والموقوذة إلى آخر ما هو معروف فحافظوا على الحدود ، وإياكم أن تحرموا مما أحل اللّه شيئا كتحريم عبدة الأوثان البحيرة. والسائبة. والوصيلة (قد سبق معرفتها في سورة المائدة آية 103) وإياكم أن تحلوا شيئا مما حرمه اللّه كما أحلوا الموقوذة والنطيحة وغير ذلك ..
ولما حث على تعظيم حرمات اللّه ببيان أن مراعاتها وامتثال الأمر فيها خير لصاحبها أتبعه بالأمر باجتناب الأوثان وقول الزور.
إذ توحيد اللّه - سبحانه - ونفى الشركاء عنه ، وصدق القول ، والبعد عن الزور كل ذلك من أعظم الحرمات وأهمها.
وانظر إلى جمع القرآن الشرك مع قول الزور في سلك واحد!! ولا غرابة فالشرك صورة من صور الزور إذ المشرك يزعم أن الوثن يستحق العبادة ، وأنه شريك للباري ،(2/584)
ج 2 ، ص : 585
فكأنه قال اجتنبوا الرجس من الأوثان التي هي رأس الزور ، وعنوان البهتان ، واجتنبوا قول الزور لأنه بالغ النهاية في القبح والقذارة.
وانظر يا أخى - وفقك اللّه إلى إدراك أسرار كتابه - إلى جعل الأوثان من الرجس ، والرجس من القذارة ، والطبع السليم يأنف من الأوساخ والقاذورات فالواجب على العاقل أن يباعد بينه وبين الأوثان حيث إنها رجس من عمل الشيطان ، وكأن المعنى فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان.
واجتنبوا قول الزور وشهادة الزور فإنه ميل عن الحق إلى الباطل
عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم : أنه صلّى الصبح فلما سلّم قام قائما واستقبل بوجهه ، وقال : عدلت شهادة الزور والإشراك باللّه. عدلت شهادة الزور والإشراك باللّه. عدلت شهادة الزور والإشراك باللّه. وتلا هذه الآية ... اجتنبوا الرجس الذي هو عبادة الأوثان واجتنبوا الزور والقول به. حالة كونكم حنفاء للّه ، مستقيمين له ، مائلين جهة الحق والعدل ، غير مشركين به شيئا ، ومن يشرك باللّه ، ويعبد غيره فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده هلاك وهو يشبه حال من سقط من السماء فاختطفته الطيور ومزقت جسده قطعا قطعا ، وابتلعته في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في مغاور بعيدة الغور لا يعرف لها قرار.
وما أبلغ تشبيه المشرك باللّه بالساقط من السماء ، مع الأهواء التي تنتابه ونزغات الشيطان التي تتوزعه بالطير تأكل من جسمه ، ومعه الشيطان يطوح به في مهاوي الضلال البعيدة الغور كالريح العاصف.
ذلك أى احفظ ذلك ، أو الأمر هو ذلك الذي ذكرناه.
ومن يعظم شعائر اللّه ، وهي الهدايا لأنها من معالم الحج وتعظيمها أن يختارها سمينة غالية الثمن ، فإن تعظيمها من أفعال ذوى القلوب المؤمنة المملوءة بالتقوى فالتقوى محلها القلب.
لكم فيها منافع إلى أجل مسمى حيث تركبونها ، وتأكلون من لبنها ، وتنتفعون بأصوافها إلى أجل مسمى ، وهو نحرها والتصدق بها وأكلها ... لنا في الهدى منافع دنيوية وهي الركوب وشرب اللبن. ومنافع أخروية وهي التي يعتد اللّه بها وينظر إليها تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [سورة الأنفال آية 67].(2/585)
ج 2 ، ص : 586
وأعظم هذه المنافع الأخروية نحرها في الحرام منتهية إلى البيت الحرام ومن هنا تدرك السر في التعبير بقوله : ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ثم تستعمل للتفاوت في الزمن بمعنى أنك إذا قلت جاء محمد ثم على كان المعنى جاء على بعد محمد بزمن ، وبعد ذلك استعملت ثم في التفاوت في الرتبة ومن هنا أخذ يحببنا في الذبح وأداء النسك فقال :
شرع اللّه لكل أمة أن ينسكوا له أى : يذبحوا له وقد علل اللّه بأنهم يذكرون اسم اللّه على الذبيحة لا اسم غيره شكرا واعترافا بفضله حيث رزقهم من بهيمة الأنعام ، فلستم بدعا في ذلك.
وإذا كان الأمر كذلك فإلهكم إله واحد ، لا إله إلا هو ، فله وحده أسلموا ، وعليه وحده اعتمدوا وتوكلوا وبشر يا محمد المخبتين المتواضعين القانتين الصادقين ، وهم الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم ، وخافت من عقابه وعذابه ، وامتلأت خشية منه وهم الصابرون على ما أصابهم والمقيمون الصلاة تامة ، والمنفقون مما رزقناهم.
من آداب الذبح في الحج [سورة الحج (22) : الآيات 36 الى 37]
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
المفردات :
وَالْبُدْنَ جمع بدنة كما يقال ثمرة وثمر ، وسميت الإبل بدنا لأنها من البدانة وهي(2/586)
ج 2 ، ص : 587
السمن وهذا الاسم خاص بالإبل على الصحيح صَوافَّ قد صفت قوائمها والإبل تنحر وهي قائمة معقولة وأصل هذا الوصف في الخيل يقال صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثنى سنبك الرابعة ، والسنبك طرف الحافر ، وقرئ صوافي أى خوالص للّه - سبحانه - وَجَبَتْ جُنُوبُها أى : سقطت مقتولة على جنوبها ميتة الْقانِعَ هو السائل يقال قنع يقنع من القناعة إذا سأل. وقيل : القانع الراضي الذي لا يسأل وفعله قنع يقنع من القناعة فانظر إلى دقة اللغة وَالْمُعْتَرَّ هو المعترض الذي يطيف بك طالبا ما عندك بالسؤال أو السكوت ، وقيل المعتر : المعترض من غير سؤال.
المعنى :
من نعم اللّه علينا أن جعل البدن من شعائر اللّه تذبح ويتقرب بها ، فهو الذي أعطى ومنح ، وهو الذي يقبل منا ويجازينا على القربى إليه بنعمه التي تفضل بها علينا.
لكم في البدن خير ، وأى خير أكثر من هذا ؟ خير في الدنيا وخير في الآخرة فاذكروا اسم اللّه على ذبحها متقربين بها إليه حالة كونها صواف قائمات على أرجلها ليس بها عيب ولا مرض.
ولعل ذكر صواف يشير إلى أنها تكون سليمة قوية ، وصفها على هذا الوضع يملأ قلب الفقير سرورا واطمئنانا فإذا وجبت جنوبها ، وسقطت على الأرض ساكنة لا حراك بها فكلوا منها جبرا لخاطره ومخالفة للجاهلين في أنهم كانوا لا يأكلون منها ، وهذا الأمر للإباحة ، وأطعموا منها السائل وغير السائل ، القانع المعترض حتى يطعم الكل ، وهكذا الإسلام حريص كل الحرص على أن تكون أعياد المسلمين العامة فيها الفقير ينعم بالخير ، ويتمتع بزكاة الفطر ، والأضحية ، والبدن التي تنحر في الحج.
وفي هذا إشارة إلى وجوب التضحية والبذل والفداء حتى يتحقق معنى العيد وحتى تكون كل النفوس راضية مرضية.
مثل ذلك التسخير سخرنا الحيوانات لكم وهي أقوى جسوما ، ولكن خلق اللّه لكم ما في الأرض جميعا ، وذلل لكم الطبيعة بكل قواها ، لعلكم تقومون بواجب الشكر للخالق البارئ المصور - سبحانه وتعالى - .(2/587)
ج 2 ، ص : 588
كان أهل الجاهلية يضرجون بيوتهم بالدماء فأراد المسلمون أن يفعلوا مثلهم فنزلت الآية لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها والنيل لا يتعلق بالمولى ولكن المراد لن يقبل ولن يصل إليه ، ولن يصعد إليه شيء من لحومها ولا دمائها ، ولكن يناله التقوى والإخلاص ، كذلك سخرها لكم لتكبروا اللّه عند ذبحها على ما هداكم ووفقكم إليه ، وبشر المحسنين الذين يحسنون العمل ، ويقومون به على أتم ما يكون.
المؤمنون الذين يدافع اللّه عنهم وينصرهم [سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 41]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
المفردات :
خَوَّانٍ كثير الخيانة ، لَقَدِيرٌ قادر على نصر عباده نصرا مؤزرا(2/588)
ج 2 ، ص : 589
لَهُدِّمَتْ خربت ، وقيل : عطلت الصلاة فيها صَوامِعُ وهي : صوامع الرهبان ، وقيل : هي خاصة بالصابئين ، وَبِيَعٌ جمع بيعة. وهي كنيسة النصارى ، صَلَواتٌ : هي كنائس اليهود وأصلها بالعبرية صلوتا فعربت ، وَمَساجِدُ هي أماكن الصلاة للمسلمين وإن كانت الأرض كلها جعلت للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم مسجدا وتربتها طهورا لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ والقوى القادر على كل شيء ، والعزيز الذي لا يغلبه غالب.
ولما ذكر اللّه - سبحانه وتعالى - صد الكفار للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن الحج ، ومنعهم له من دخوله الحرم - وبهذه المناسبة بين بعض ما يلزم في الحج ومناسكه ، وما فيه من منافع في الدنيا والآخرة - أتبع ذلك ببيان ما يزيل الصد والمنع ، وما يجعل المسلمين أعزة أحرارا أقوياء ...
المعنى :
إن اللّه يدافع عن الذين آمنوا ، ويدفع عنهم شر أعدائهم ، وينصرهم ، ويؤيدهم على عدوهم ، وإن اللّه لا يحب كل خوان للعهد ، كفور بالنعم ، يذكر غير اللّه ، ويتقرب بذبيحته لصنم أو وثن ، وكان المشركون المعاصرون للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم تنطبق عليهم تلك الأوصاف.
كان المشركون يؤذون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وصحبه الكرام بألسنتهم وأيديهم إيذاء شديدا حتى شكا الصحابة لرسول اللّه ذلك ، فكان
يقول لهم : « اصبروا فإنّى لم أومر بالقتال »
وظل الحال ينتقل من شدة إلى شدة ، حتى هاجر المسلمون إلى الحبشة ، ثم إلى المدينة ، وهاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كذلك ، فأنزل اللّه - سبحانه - بالمدينة آيات القتال ، وكانت أول آية نزلت : قوله تعالى : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ، وهي مقررة أيضا لمضمون قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ، فإذا إباحة القتال لهم ، وكونهم يصمدون في الحرب ضد الكفار ، بل ويهزمونهم دفاع من اللّه عنهم ، ونصر مؤزر لهم!.
أذن للذين يقاتلون ، أى : أذن لهم من اللّه في قتال من يقاتلهم ويعتدى عليهم ، وسبق له أن أخرجهم من ديارهم وأموالهم ، وسامهم سوء العذاب. وذلك بسبب(2/589)
ج 2 ، ص : 590
أنهم ظلموا في كل ما لحقهم من الكفار ، وإن اللّه على نصر المؤمنين لقدير ، ينصرهم بغير حرب ولا تعب ، ولكن يريد اللّه من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته ، وليمحص اللّه الذين آمنوا ، ولو يشاء اللّه لانتصر منهم ، ولكن ليبلو بعضكم ببعض.
ثم وصف هؤلاء المؤمنون بقوله : الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أى مكة بغير حق يقتضى الإخراج. لكن لقولهم : ربنا اللّه ، وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سورة البروج آية 8].
أيها الناس : لا تعجبوا من إذن اللّه لأوليائه بالقتال ، ووعدهم بالنصر على أعدائهم وحثهم على القتال ، فلو لا ما شرعه اللّه للأنبياء والمؤمنين من قتال أعداء اللّه وأعدائهم قديما وحديثا لاستولى أهل الشرك عليهم ، ولضاعت مواضع العبادة في الأرض ، وهدمت صوامع الرهبان ، وبيع النصارى وكنائسهم ، وصلوات اليهود وكنائسهم ، وكذلك مساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم اللّه ذكرا كثيرا.
وواللّه لينصرن اللّه من ينصره ، إن اللّه لقوى قادر. عزيز لا يغالب ومن ينصره اللّه هو من ينصر دينه ويتبع أمره ونهيه ، ويطيع رسوله وكتابه ، واللّه - سبحانه وتعالى - أقسم لينصرنه ، ومن أصدق من اللّه حديثا : إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ، أفبعد صريح القرآن نطلب من اللّه النصر والدفاع. وما نصرنا دينه إلا بالانتساب إليه بالاسم فقط. أما القرآن ، وحكمه ، أما روح الدين والخوف من اللّه ، فشيء في الكتب فقط ، ويردد على اللسان فحسب ، ولقد صدق اللّه : وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سورة سبأ آية 13].
من ينصره اللّه هم الذين إن مكناهم في الأرض وأعطيناهم السلطان على الناس ، أتوا بأربعة أمور عليها ينبنى الملك ، وبها تؤسس الدولة الصالحة وهي :
(أ) إقامة الصلاة كاملة تامة في أوقاتها وبشروطها ، إذ هي الواجب العملي الأول على كل مسلم ، وهي الصلة بين العبد وربه ، وهي مطهرة للنفس ، وتقوية للروح ، وتجديد لمعنى الإسلام ، ودواء لكل داء إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [سورة العنكبوت آية 45] وإقامة الصلاة لامتثال العبد أمر اللّه كله.
(ب) إيتاء الزكاة. والحوادث التي مرت بالعالم في العصر الحديث ، وما نتج من(2/590)
ج 2 ، ص : 591
ظهور المبادئ الهدامة ، والأفكار الضارة كانت دليلا على أن الإسلام دين سماوي ، ونظام رباني ، لا يمكن أن يصدر عن بشر.
وحين أوجب على الغنى حقا للفقير ، وجعل له في مال أخيه المسلم حقا معلوما.
كان يريد الخير للغنى والفقير ، ويؤسس دولة على دعائم العدل والرحمة ، والتعاطف والبر ، بالمجتمع الإنسانى.
(ج ، د) الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر : وجعلهما أساسا في كيان الدولة ، وإباحتهما للجميع. وهما أساس النقد الحر ، دليل على أن الإسلام يريد لأبنائه الحرية المطلقة ، ولكنها حرية مشوبة بروح الدين ، ومطبوعة بالطابع الإسلامى الخالص.
والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إذا توافرا في مجتمع كبح جماع العصاة الخارجين وحد من ثورة الحكام الفاسدين ، وألزم كل إنسان طريق الحق ، وما قيدت الحريات ولا ضعف الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في أمة من الأمم إلا باءت بالخسران ، وانهدم كيانها ، وانمحت من الوجود .. ألم يذكر اللّه من أسباب اللعن لبنى إسرائيل وضياع ملكهم أنهم كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ؟ [المائدة 79].
ومن هنا نعرف أن اللّه ينصر من ينصره ، ويدافع عمن يدفع عن نفسه الهلاك والخسران من الأمم التي تقيم الصلاة ، وتؤدى الزكاة ، وتأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ، وهذه أسس الخير ، ودعائم الإصلاح ، وما فرطت أمة في واحدة إلا ذلت.
ألست معى في أن المسلمين فرطوا في الأربعة ، فضاعت هيبتهم بين الأمم وسلط اللّه عليهم أعدى أعدائهم ، ولا طريق لهم إلا التمسك بالقرآن وحكمه ، وامتثال أمره واجتناب نهيه ، خصوصا هذه الدعائم الأربعة.
حثهم على العبرة بمن تقدمهم من الأمم [سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 48]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)(2/591)
ج 2 ، ص : 592
المفردات :
فَأَمْلَيْتُ أمهلت وأخرت عنهم العقوبة نَكِيرِ النكير بمعنى الإنكار وهو يفيد التغيير وقد غير نعمته عليهم وجعلها نقمة فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ كثير من القرى خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ساقطة على سقوفها أى : أن السقف سقط على الأرض ثم تهدمت الحيطان فوقه مُعَطَّلَةٍ متروكة لأنها غائرة الماء أو لفناء أهلها مَشِيدٍ رفيع طويل ، أو شيد بالجص والطلاء ، وعلى كل فهو قصر حصين.
ما تقدم كان في بيان إخراج الكفار للمؤمنين من ديارهم بغير حق ، وقد أذن اللّه للمؤمنين في قتالهم ووعدهم بالنصر على أعدائهم ، وهزيمة الكفار على كثرتهم ، وللّه عاقبة الأمور ، وها هو ذا التاريخ يعيد نفسه فانظروا لمن سبقكم من الأمم ، وفي هذا سلوى وبيان للمؤمنين.(2/592)
ج 2 ، ص : 593
المعنى :
وإن يكذبك يا محمد هؤلاء الناس ، ويسعوا في الأرض فسادا ويؤذوا أصحابك بأنواع الأذى ، فلا تحزن ولا تتألم أنت وصحبك الأبرار فقديما كذبت الأمم رسلها.
ثم كان النصر للمؤمنين حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [سورة يوسف آية 110].
وها هو ذا أبوك نوح قد كذبه قومه وعصوه ، وأخوك هود مع عاد ، وصالح مع ثمود ، وإبراهيم مع قومه ، ولوط مع قومه ، وشعيب مع أصحاب مدين ، فهل رأيت إلا إيذاء وتكذيبا من القوم ، وصبرا وثباتا من الرسل ، فلست بدعا من الرسل والناس هم الناس.
وهذا موسى - عليه السلام - مع ظهور آياته ومعجزاته كالعصا واليد قد كذب ، ولكن الحكم العام أن اللّه يملى للكافرين ، ويمهل الظالمين ولا يهمل أبدا حتى إذا حان وقت العذاب أخذت بعذاب بئيس ، وعقاب شديد.
فانظر : كيف كان إنكار ربك عليهم ؟ !! وكيف غير نعمتهم إلى نقمة ، وبدل سرورهم إلى حزن ، وقصورهم إلى خراب إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج 12].
فكثير من القرى أهلكناها ، وأبدنا أهلها عن آخرهم ، والحال أنها ظالمة فأصبحت لا ترى إلا مساكنهم ، التي هي خاوية على عروشها ، قد سقط السقف أولا ثم الحيطان عليه ، وهذا نوع من الإبادة شديد.
وكثير من الآبار عطلت لفناء أصحابها أو لغور مياهها ، وكذلك كثير من القصور المشيدة أخليت من سكانها وتركت تنعى أصحابها وروادها بلسان الحال!! أعمى هؤلاء المشركون من قريش ، والمكذبون للنبي صلّى اللّه عليه وسلم ، والذين يؤذون النبي وأصحابه فلم يسيروا في الأرض!! فتكون لهم قلوب يعقلون بها الحقائق ، ويدركون بها الأسرار ، وخفيات الأمور ، حتى يعلموا عاقبة تكذيبهم ، وأنه وبال عليهم ، وسيحل بهم ما حل بمن سبقهم ، فسنة اللّه لا تتغير أبدا ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا « 1 » .
فإنها لا تعمى الأبصار الظاهرة وحواسها ، ولكنها تعمى القلوب التي في الصدور.
___________
(1) سورة فاطر الآية 43.(2/593)
ج 2 ، ص : 594
اعلم يا أخى أن في الإنسان قوة عاقلة مدركة ، تدرك المحسوسات والمشاهدات والمسموعات بواسطة الأذن والعين والأنف وحاسة اللمس والذوق ، وهذه الحواس ليست خاصة بالإنسان ، بل هي في الحيوان كذلك.
وفي المؤمن قوة عاقلة روحية ، تدرك الأسرار ، وتقف على العبر والعظات من المحسوسات والمشاهدات ، فإذا رأت رسما دارسا وبئرا معطلة ، وقصرا مهدما نظرت فاعتبرت ، وأدركت فعلمت ، أن كل شيء هالك إلا وجهه ، له الحكم ، وإليه ترجعون ، وأن أصحاب هذا لا بد أنهم عصوا وبغوا ، فحاق بهم المكر السيئ ونزل بهم جزاؤهم المناسب لهم.
هذه القوة العاقلة الروحية هي التي تدرك معاني الخير والشر ، والفضيلة والرذيلة ، ومحلها القلب ، وللقلب عين وأذن وأنف وإحساس ، ولكن هذه الأشياء كلها ليست هي الظاهرة التي في الإنسان والحيوان ، بل هي حواس قلبية لها زاد هو التقوى ، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى ، إذن قد يكون للإنسان أذنين ، وله عينين وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ، [سورة الأعراف آية 198].
يا عجبا لهم!! يستعجلونك بالعذاب تكذيبا لك ، واستهزاء بوعدك ، واللّه لن يخلف وعده أبدا.
وإن يوما عند ربك من أيام العذاب التي تحل بهم في الآخرة ، كألف سنة مما يعدون!! فأين هم من عذاب ربك ؟ واللّه بالغ أمره ، ولن يخلف اللّه وعده وهو ناصر رسوله وعاصمه من الناس كلهم.
وكثير من القرى أملى لها اللّه وأخر عنها العذاب وهي ظالمة من باب الإمهال ، لا الإهمال ، حتى إذا جاء وعد ربك الذي لا يتقدم ولا يتأخر ، أخذها ربك أخذ عزيز مقتدر ، وإلى اللّه وحده المصير ، وإليه ترجع الأمور.
مهمة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم [سورة الحج (22) : الآيات 49 الى 51]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51)(2/594)
ج 2 ، ص : 595
المعنى :
يقول تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلّم حين طلب منه الكفار وقوع العذاب واستعجلوه به تكذيبا له واستهزاء به لأنهم لا يؤمنون بيوم القيامة ، ولا بقدرة اللّه على إيقاع العذاب. ونسوا ما حصل للأمم السابقة ، ولم يعتبروا بما حصل.
قل لهم يا محمد : إنما أرسلنى اللّه إليكم نذيرا بين يدي عذاب شديد ، إنما أنا نذير بيّن الإنذار قوى الحجة واضحها ، وليس علىّ حسابكم وهدايتكم ، بل أمركم إلى ربكم إن شاء عجل العذاب لكم ، وإن شاء أخره عنكم ليوم معلوم ، لا تستقدمون عنه ساعة ولا تستأخرون ، وهو ربكم وإليه أمركم ، وهو الفعال لما يريد ، لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.
فالذين آمنوا باللّه وكتبه ورسله إيمانا صحيحا سليما مصحوبا بالعمل الصالح لهم مغفرة من اللّه ورزق كريم ، وثواب عظيم ، وسعادة في الدنيا والآخرة مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة النحل آية 97].
والذين سعوا جاهدين في إبطال آياتنا ، وإطفاء نور الإسلام - وما علموا أن اللّه متم نوره ولو كره الكافرون - أولئك أصحاب الجحيم الملازمون لها ، وهي نار اللّه الموقدة التي تطلع على الأفئدة ، إنها عليهم مؤصدة ، في عمد ممددة ...
كتاب اللّه محكم لا ريب فيه [سورة الحج (22) : الآيات 52 الى 57]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57)(2/595)
ج 2 ، ص : 596
المعنى :
روى المفسرون أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ : وَالنَّجْمِ إِذا هَوى فلما بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى سمع المشركون (تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى) فلقيه المشركون والذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه وفرحوا فقال النبي : « إن ذلك من الشيطان » ، فأنزل اللّه تعالى : وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى الآية.
وهناك روايات تثبت أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو المعصوم - هو الذي قرأ وعلى ذلك فيكون معنى الآية : وما أرسلنا يا محمد من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى أى قرأ وتلا ألقى الشيطان في أمنيته أى قراءته وتلاوته ، فينسخ اللّه ما يلقى الشيطان ويزيله ، ثم يحكم اللّه آياته ، واللّه عليم حكيم.(2/596)
ج 2 ، ص : 597
هذه الرواية ، رواية باطلة ، وإن تكن رواية بعض المفسرين وكيف تصح ؟ !! ولو جوزناها لارتفع الأمان عن شرعه ، وجوزنا في كل حكم أن يكون فيه زيادة أو نقص من قبل الشيطان على أن هذه الرواية وأمثالها تفتح باب الطعن والشك ، وتكون سلاحا في يد أعداء الإسلام ، وأعداء الأديان كلها ، ولا ينفعنا أن ذلك بشكل واسع في الكتب السابقة. وهل تساعد اللغة تفسير (تمنى) بقرأ ؟ أظن لا!! وكيف نجوز هذا واللّه يقول وهو أصدق القائلين :
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ « 1 » ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ « 2 » . وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [سورة النجم الآيات 3 - 5] وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [سورة الإسراء 73 و74] وقد عرفنا تفسيرها ووقفنا على معناها.
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [سورة الجن الآيات 26 - 28].
وقال القاضي عياض في كتاب الشفاء « لقد أجمعت الأمة على أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فيما يبلغه عن ربه ، معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا.
واعلم - أكرمك اللّه يا أخى - أنهم خرجوا هذا الحديث المسمى بحديث الغرانيق على أن أصله واه ، وقال علماء الحديث : إنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة ، ولا رواه بسند سليم متصل ثقة ، وإنما أولع به وبمثله جماعة من المفسرين والمؤرخين بعضهم بحسن نية ، وقال أبو بكر البزار : هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بإسناد متصل يجوز ذكره.
وإذا سلمنا بالحديث على أنه مروى بعدة روايات وإن تكن كل واحدة ضعيفة إلا أن كثرة طرقها تجعلنا نقبله بتحفظ ونؤوله بما يتفق مع المبادئ العامة الإسلامية ، بل
___________
(1) سورة الحاقة الآيات 44 - 46. [.....]
(2) سورة يونس الآية 15.(2/597)
ج 2 ، ص : 598
بما يتفق مع صدر السورة ، وعجزها ، ووصف الأصنام بعد قوله تعالى أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ [سورة النجم الآيات 19 - 23] وهذا بلا شك وصف للأصنام بأنها لا حقائق لها ، وليس لكم فيها حجة ، وما تتبعون في عبادتها إلا الظن الذي لا شبهة معه ... وإذا سلمنا بالحديث فتأويله هكذا.
أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يرتل القرآن ترتيلا ، ويفصل آياته تفصيلا في قراءته فالجائز أن الشيطان انتظر سكتة من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ودس ما اختلقه من تلك المفتريات محاكيا صوت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقد شاعت تلك الزيادة في وسط أهل مكة وسر بها المشركون.
وأما المسلمون فيحفظون السورة كما أنزلها اللّه - سبحانه - ، وكما كان يتلوها النبي قبل ذلك ، وكانوا متحققين من ذم النبي للأوثان ، وما عرف عنه في ذلك ، ومن هنا تظهر الحكمة الإلهية وهي الاختبار بأمثال هذا. فأما الكافرون الظالمون ، ومن في قلوبهم مرض فسيقولون هذا من عند اللّه ، واللّه قد مدح الأصنام التي كان يذمها محمد.
وأما المؤمنون فسيعلمون أن القرآن هو الحق من عند اللّه ، وإن هذا إلقاء شيطان لا يعبأ به ، واللّه عليم حكيم وتكون الآية سلوى للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم حيث كان يحصل هذا مع الأنبياء قبله ، وهو لحكمة اللّه يقصدها ويعلمها ، وهي الابتلاء والاختبار.
ويمكن بعد هذا كله أن نفهم الآية على هذا المعنى الآتي - مع أن اللغة لا تمنع منه - يقول اللّه - سبحانه وتعالى - : وما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول له كتاب وشريعة ، ولا نبي - ليس له شريعة ولا كتاب بل ألهم أو أوحى إليه أن يتبع شريعة غيره كأنبياء إسرائيل - وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى - من الأمنية التي تهواها النفس ، وكل الأنبياء كانت تحب وتهوى أن يؤمن بهم كل الناس - ألقى الشيطان في أمنيته وفي سبيل تحقيقها من العراقيل والعقبات الشيء الكثير فكان يلقى من نفوس الناس ويزين لهم الكفر والفسوق والعصيان ، ولا شك أن الناس الذين أرسل إليهم الرسول هم محل الأمنية ، التي يتمناها النبي صلّى اللّه عليه وسلم.(2/598)
ج 2 ، ص : 599
فينسخ اللّه ما يلقى الشيطان ، ويزيل الوساوس من بعض قلوب الناس ثم يحكم اللّه آياته البينات ، حتى تكون محكمة سديدة عند من يؤمن بها ، واللّه عليم بخلقه حكيم في صنعه ، يعلم خلقه وما هم عليه.
ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة وضلالا للذين في قلوبهم مرض ، من شك ونفاق وحسد وبغضاء : وانظر إلى عبارة القرآن فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والمراد استقر وسكن حتى أصبح طبعا وغريزة ، والقاسية قلوبهم ، وهم المشركون المكذبون ، وإن الظالمين من المنافقين والمشركين لفي شقاق بعيد الغور ، كبير الخطر ، ولهم عذاب مقيم ...
وليعلم الذين أوتوا العلم ، وهدوا إلى الصراط المستقيم ، وهم المؤمنون القانتون أنه الكتاب المحكم الآيات ، البعيد عن الشبهات ، هو الحق من ربك ، لا شك فيه تنزيل من حكيم حميد ، فيؤمنوا به إيمانا صادقا لا شبهة معه ، فتخبت له قلوبهم ، وتخشع وتسكن مخلصة مطمئنة ، وإن اللّه لهادى الذين آمنوا بهذا القرآن إلى صراط مستقيم ، وسيجازيهم على ذلك أحسن الجزاء.
ولا يزال الذين كفروا في شك منه مهما أتتهم الأدلة ، وتوالت عليهم الحجج ، لا يزالون هكذا ، في شك وحيرة حتى تأتيهم الساعة بغتة ، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم لا خير فيه.
ولا غرابة في هذا لأن الملك يوم الجزاء والثواب والعقاب للّه الواحد القهار. يحكم بينهم ، وهو الحكم العدل - جل شأنه - ، يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه ، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات خالدين فيها ، ولهم فيها نعيم مقيم.
والذين كفروا ، وكذبوا بآياتنا فأولئك أصحاب الجحيم ، ولهم عذاب ذو إهانة لهم.
جزاء ما عملوا من سيئ الأعمال ، وما ارتكبوا من بوائق السيئات ...
فضله كبير على الناس جميعا وخاصة المؤمنين [سورة الحج (22) : الآيات 58 الى 66]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66)(2/599)
ج 2 ، ص : 600
المفردات :
هاجَرُوا تركوا أوطانهم في سبيل اللّه مُدْخَلًا مكانا يدخلونه ويرضونه وهو الجنة عاقَبَ جازى الظالم بمثل ما ظلمه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ يدخل(2/600)
ج 2 ، ص : 601
الليل في النهار بزيادة وقته على حساب النهار مُخْضَرَّةً ذات خضرة سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ذلل لكم ما في الأرض تنتفعون به وتذللونه.
المعنى :
- الملك يومئذ للّه يحكم بين عباده فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم ، والذين كفروا وكذبوا بآياته لهم العذاب المقيم خالدين فيه أبدا.
والذين هاجروا في سبيل اللّه ، وتركوا أوطانهم وديارهم في سبيله وكرسوا حياتهم للجهاد مع رسوله ، وإنما خص هؤلاء بالذكر لسمو قصدهم وعلو مكانتهم عند ربهم ، وهؤلاء الذين هاجروا ثم قتلوا بعد ذلك أو ماتوا ليرزقنهم اللّه رزقا حسنا ، وانظر إلى علو مكانتهم عند ربهم إذا قتلوا أو ماتوا.
ليرزقهم اللّه رزقا حسنا من عنده. وهو خير الرازقين إذ يعطى بغير حساب وينفق كما يشاء ، وكل عطاء فهو من فضل عطائه ، ليدخلنهم مدخلا يرضونه يوم القيامة ، وهذا المدخل الكريم ما أعد لهم في الجنة من النعيم المقيم ، وهذه الجملة بيان للرزق الحسن إذ لا يعقل أن يكون رزقا في الدنيا بعد الموت أو القتل إلا على التأويل ، ولا غرابةفي ذلك فاللّه هو العليم بأسرار النفوس ، وطوايا القلوب ، حليم بعباده لا يعاجل بالعقوبة بل يعفو ويغفر ، ويمهل ولا يهمل.
الأمر ما قصصناه عليك من إنجاز ما وعدنا المهاجرين الذين قتلوا أو ماتوا. أى الأمر ذلك.
روى أن طوائف من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم. ورضى عنهم قالوا : يا رسول اللّه : هؤلاء الذين قتلوا في سبيل اللّه قد علمنا ما أعطاهم اللّه من الخير ، ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك ؟ أى فما حالنا لو متنا بلا قتل ؟ !! فأنزل اللّه هاتين الآيتين - وهما يفيدان التسوية بين من مات على فراشه ومن قتل في سبيل اللّه ... وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [الحج 60].
ووضع هذه الآية هنا يفيد معناها : أن هؤلاء المهاجرين المقاتلين في سبيل اللّه مع إكرامى لهم في الآخرة بما عرفتم لا أدعهم بل أنصرهم في الدنيا على أعدائهم ، وهذا مشروط بنصرهم للّه إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [سورة محمد آية 7].(2/601)
ج 2 ، ص : 602
والمعنى من قاتل من قاتله ظلما وبغيا ، لينصرنه اللّه ويؤيده بروح من عنده واعلموا أن اللّه عفو غفور فلا تلجئوا للحرب والقتال إلا إذا وقفوا ضدكم ، وحاربوا دعوتكم ، فإن تركوكم وشأنكم ، ولم يعتدوا عليكم فمن الخير ألا تبدءوا بالقتال بل عليكم بالعفو فاللّه كثير العفو والمغفرة والعقوبة إنما تكون بعد فعل وقع. فهي جزاء منه ، وسمى اللّه ابتداء الظلم عقوبة مشاكلة لتسمية الجزاء وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [سورة الشورى آية 40] فسمى عقوبة الجزاء سيئة للمشاكلة ، والمراد بالمثلية عدم الزيادة.
ذلك أى : المذكور كله بسبب أنه - سبحانه - قادر ، ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار ، وإيلاج النهار في الليل بمعنى زيادة أحدهما على حساب الآخر فالقادر على ذلك قادر بلا شك على نصرة المظلوم ، وإثابة الطائع ومجازاة العاصي ، وذلك بسبب أن اللّه سميع لكل دعاء ، بصير بكل عمل فلا يعزب عنه شيء.
ذلك أى ما تقدم من اتصافه - سبحانه وتعالى - بكمال القدرة ، وتمام العلم بسبب أنه هو الحق ، الموجود بلا شك ، الموصوف بكل كمال المنزه عن كل نقص ، وهو صاحب الدين الحق ، فعبادته حق ، ونصره لأوليائه حق ، ووعده حق ، وهو الحق لا شك فيه ، وأن ما تدعون من دونه هو الباطل الذي لا ثبوت له ، ولا وجود ، والحال أن اللّه هو العلى المتعالي على الكل بقدرته ، وقدسيته تنزهه عن الأشباه والأنداد والنظائر.
ثم أخذ القرآن يلفت نظرنا إلى الأدلة الكونية التي تثبت ذلك.
ألم تعلموا أن اللّه أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ؟ بقدرة اللّه ، فاللّه - سبحانه - هو الذي أنزل من السماء ماء فأصاب الأرض الميتة فأحياها بالخضرة والنبات ، أو سلكه ينابيع في الأرض ثم يرفع بالآلات الرافعة فأصبحت به مخضرة ذات خضرة وبهجة.
إن اللّه لطيف بعباده يدبر لهم أمر المعاش ونظام الدنيا خبير بهم ، وبحالهم ، وبنظام معاشهم ولا غرابة في ذلك كله إذ له ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا ، والكل محتاج إليه ، وأن اللّه هو الغنى فلا يحتاج إلى شيء ، الحميد المحمود في السموات والأرض.
وهذه نعمة أخرى.(2/602)
ج 2 ، ص : 603
ألم تعلموا أن اللّه الرحمن الرحيم بكم سخر لكم كل ما في الأرض من حيوان ونبات وأنهار وقوى طبيعية حتى استخدم الإنسان الأثير والذرة وها هي الفلك تجرى في البحر بأمره ، وخصها بالذكر لأنها هي الموجودة ساعة نزول القرآن. أما اليوم فالغواصة ، والطيارة ، والقنابل والتليفزيون وغيره وغيره مما ستتكشف الأيام عنه.
واللّه - سبحانه - يمسك السماء أن تقع على الأرض ، وقد رفعها بلا عمد ترونها فلن تقع السماء (أى ما فيها من كواكب وأجرام) إلا بإذنه وإرادته فليست الدنيا خلقت بالطبع ووجدت بالصدفة لا بل هذا الكون لا يمكن أن يسير وحده بلا مدبر قوى قادر حكيم عليم ناقد بصير هو اللّه - جل جلاله - ، وتقدست أسماؤه.
حقيقة إن اللّه بالناس لرءوف رحيم.
وهو الذي أحياكم من العدم ثم يميتكم عند انقضاء أعماركم ، وهذا الموت من أكبر النعم على الإنسان ، ألم تر لك قريبا عزيزا عليك مرض مرضا شديدا حتى تمنيت له الموت ؟ كلنا ذلك الرجل ، ولذلك عد الموت في النعم كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ من سورة الرحمن ، أليست الدنيا سجن المؤمن وبالموت ينطلق إلى ساحة الرحمن ، ثم يحييكم للبعث والجزاء وإعطاء المحسن جزاءه والمسيء عقابه ، إن الإنسان لكفور بنعم اللّه جحود لفضل اللّه إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وشكروا اللّه حق شكره فأولئك جزاؤهم عند ربهم ...
لكل أمة شريعة صالحة لها [سورة الحج (22) : الآيات 67 الى 70]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)(2/603)
ج 2 ، ص : 604
المفردات :
مَنْسَكاً عبادة وشريعة يعبدون بها ربهم ، والفعل نسك ينسك فهو ناسك ، ونسك أى : عبد فهو عابد.
المعنى :
العالم يتطور تطور الإنسان في الحياة فمن الطفولة إلى دور الشباب إلى دور الرجولة الكاملة ، وتلك سنة التطور ، وقد عالج اللّه العالم وقت أن كان كالطفل بعلاج التوراة التي أنزلت على موسى تحكم بالشدة وتعنى بالمادة ، ثم جاء الإنجيل متمما لحكم التوراة مع علاج الروح وتنمية الغرائز ، والعالم كان في شبابه ميالا لناحية الروح ، ثم لما كمل العالم ، وتمت رجولته ، وأصبح قادرا على تحمل رسالة خاتم المرسلين محمد صلّى اللّه عليه وسلم أرسل له بتشريع يجمع بين العناية بالمادة والروح ، وكان تشريعه وسطا وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [سورة البقرة آية 143].
نعم لكل أمة من الأمم جعلنا منسكا وشريعة تعبد بها ربها ، وهي مناسبة لها فكانت التوراة منسك الأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى ، والإنجيل منسك الأمة من مبعث عيسى إلى مبعث محمد - عليهم جميعا الصلاة والسلام - ، وكان القرآن وما فيه من تشريع وحكم شامل لكل مناحى الحياة الدنيا والأخرى منسك هذه الأمة إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها ولقد أرسل محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم ونزل عليه القرآن هدى للناس جميعا وبينات من الهدى والفرقان ، والعالم في أشد الحاجة إليه ، فكان رحمة للعالمين ، ومنقذا للإنسانية المعذبة الضالة بين المادية القاسية ، والوثنية الضالة لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [سورة المائدة آية 48].
وإذا كان الأمر كذلك فلا ينازعنك في الأمر - أى أمر الدين - فهذا هو الدستور الذي نسخ جمع الدساتير السالفة ، وهذا نهى لهم عن النزاع ، وأنت يا محمد لا تلتف لنزاعهم وجدالهم واثبت في دينك ثباتا لا يطمعون معه أن يخدعوك ليزيلوك عنه ، وادع كل الناس إلى سبيل ربك وهو دين اللّه الحق ، وتوحيده الخالص ، إنك على الحجة البيضاء ليلها كنهارها ، وأنت على الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ، فادع الناس جميعا إلى الإسلام وإن أبوا إلا جدالك بعد ظهور الحجة عليهم فكل أمرهم إلى اللّه وقل لهم :(2/604)
ج 2 ، ص : 605
اللّه أعلم بما تعملون وسيجازيكم على عملكم ، ويحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون.
ألم تعلموا أن اللّه يعلم ما في السماء ، وما في الأرض ؟ وهو العالم الذي لا يغيب عنه شيء في الكون ، إن ذلك كله في كتاب مكتوب عنده ، فكيف يغيب عنه شي ء ؟
بل إن ذلك كله عليه يسير ، وهذا يفيد أن الحكم يوم القيامة بالعدل الذي لا جور فيه.
بعض أعمال الكفار والمشركين [سورة الحج (22) : الآيات 71 الى 76]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)(2/605)
ج 2 ، ص : 606
المفردات :
ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً المراد بالسلطان الدليل الذي ينزله اللّه - سبحانه وتعالى - وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ المراد حجة عقلية الْمُنْكَرَ دلالة الغيظ والغضب يَسْطُونَ يبطشون والسطو شدة البطش ذُباباً الذباب اسما واحدا للذكر والأنثى ، وسمى هذا الحيوان به لكثرة حركته لا يَسْتَنْقِذُوهُ الاستنقاذ والإنقاذ التخليص يَصْطَفِي يختار.
وهذا بيان لما يقدم عليه الكفار والمشركون بعد بيان نعم اللّه - سبحانه وتعالى - على خلقه ، وبيان مظاهر قدرته وتمام علمه المحيط بكل شيء.
المعنى :
- اللّه المتصف بصفات الألوهية الكاملة ، ولا إله إلا هو ، خالق السماء والأرض ، ومبدعهما لا على مثال سابق ، ومولج الليل في النهار ، والنهار في الليل ، ومنزل الماء من السماء ومنبت الشجر والزرع والنبات في الصحراء وهو صاحب الأمر في السموات والأرض ، السميع العليم ، القدير الخبير ، الذي سخر لكم ما في الأرض وخلقه لكم لتذللوه وتنتفعوا به ، ورفع السماء وبسط الأرض وأحياكم ، وهو الذي يميتكم ثم يحييكم لتأخذوا جزاءكم ومع هذا كله إن الإنسان لكفور مبين ، ومع هذا فهم يعبدون من دون اللّه أصناما وأوثانا لم يتمسكوا في عبادتهم بحجة سمعية نزلت عليهم من اللّه ، تكون لها سلطان عليهم ولم يتمسكوا في عبادتهم بعلم وحجة عقلية ، بل عبدوهم من دون اللّه عبادة ليس لها أساس اللهم إلا التقليد الأعمى والجهل المطبق والشبه التي هي أو هي من بيت العنكبوت.
وما للظالمين أمثالهم من ولى يتولى أمرهم يوم الحساب ، ولا نصير ينصرهم ويدافع عنهم ، ومع هذا الجهل والضلال إذا نبهوا إلى الخير والطريق الحق ، وإذا تليت عليهم آياته البينات من القرآن الكريم ظهر في وجوههم المنكر ، وبدت عليها دلائل الغيظ والغضب ، وامتلأت قلوبهم فجورا ونشوزا وإنكارا ، يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا ، ويبسطون إليهم ألسنتهم وأيديهم بالسوء.(2/606)
ج 2 ، ص : 607
ثم أمر اللّه رسوله أن يقابلهم بالوعيد الشديد فقال : قل أفأنبئكم بشر من ذلكم ؟
أى : بشر من غيظكم الذي ملأ قلوبكم ، وكأن سائلا سأل وقال : ما شر من ذلكم ؟
فقيل : هو النار!! وعدها اللّه الذين كفروا ، وبئس المصير مصيرهم.
ولما بين اللّه أنهم يعبدون من دون اللّه مالا حجة لهم فيه أتبع ذلك بيان أن آلهتهم أضعف من الضعف فلا يستحقون العبادة بحال.
ومن عادة القرآن الكريم أن يعبر عن الصفات أو القصة الرائعة الغريبة بالمثل لأنها تشبهه في الغرابة والتأثير على السامع والذيوع بين الناس.
يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له ، وتدبروا فيه ، وحكموا عقولكم في مغزاه إن الذين تدعونهم من دون اللّه ، وتخصونهم بالقربى والدعاء لن يخلقوا ذبابا أبدا ، بل محال منهم ذلك وإنما اختير الذباب لحقارته ، وضعفه وقذارته. وكثرته ، والحال أنهم مجتمعون متكاتفون متحدون.
وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ، ولا يمكنهم أن يستخلصوه منه ، يا لهذا العجز المشين ، ويا له من تصوير فني رائع ، وضع الآلهة في موضع مهين ذليل ضعيف جدا للغاية حتى ولو كانوا مجتمعين!! ضعف الطالب من المشركين ، والمطلوب من الأصنام ، وما أضعفهم! :
وكانوا يزعمون أنهم يعرفون اللّه حقا ، ويتخذون الآلهة قربى إلى اللّه ، فرد اللّه عليهم بأنهم ما قدروا اللّه حق قدره ، حيث جعلوا هؤلاء الأحجار ، والخشب المسندة في صفوف الآلهة ، وما أجهلهم حيث وضعوا الخالق الخبير البصير القاهر القادر في صف من يعجز عن دفع ضرر الذباب فكيف يتخذون العاجز المغلوب شبيها له.
وهذا الآتي رد على دعواهم أن الرسول لا يكون بشرا ببيان أن الرسل نوعان :
رسل من الملائكة إلى الأنبياء كجبريل مثلا ، ورسل من البشر إلى الناس كالأنبياء واللّه وحده هو الذي يختار ويصطفى ، وهو السميع لكل قول البصير بكل نفس ، العليم الذي يعلم السر وأخفى ويعلم أحوال البشر ما مضى منها ، وما هو آت فاختياره على أساس سليم ونظر بعيد ، اعلموا أنه إليه المرجع والمآب ، وإليه وحده ترجع الأمور.(2/607)
ج 2 ، ص : 608
مجمل التشريع الإسلامى [سورة الحج (22) : الآيات 77 الى 78]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
المفردات :
اجْتَباكُمْ اختاركم مِنْ حَرَجٍ الحرج الضيق والعسر مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ شريعته.
لقد ذكر القرآن الإلهيات مع مناقشة المشركين الحساب ، ثم عرج على النبوات واختيار الأنبياء ، وختم السورة بالتشريع العام الذي يطلبه.
المعنى :
يا من اتصفتم بالإيمان ، باللّه وكتبه ورسله واليوم الآخر ، اركعوا واسجدوا والمعنى :
صلوا صلاتكم ، واعبدوا ربكم بامتثال جميع الأوامر واجتناب جميع النواهي ، وافعلوا الخير ، من حيث هو خير ، لكم وللناس ، كصلة الرحم والبر! ومكارم الأخلاق وهذا وصف عام كامل لكل فضيلة حث عليها الدين ، وهذا الترتيب في الآية حسن ، فالصلاة(2/608)
ج 2 ، ص : 609
عبادة ، والعبادة خير ، ثم علل ذلك الأمر بقوله : لعلكم تفلحون ، أى : رجاء الفلاح والفوز ، ولقد صدق رسول اللّه حيث يقول : « لن يدخل أحد مّنكم الجنّة بعمله » .
وجاهدوا في اللّه أى : في دين اللّه أو ذات اللّه أو لأجل اللّه حق جهاده أى : جهادا حقا خالصا لوجه اللّه ، ومن نجاهد ؟ إنا أمرنا بجهاد أنفسنا ، وجهاد عدونا ، وجهاد قرناء السوء ، والجهاد في مجتمعنا لرده إلى الجادة بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
« رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر » قاله رسول اللّه
وهو راجع من غزوة وها هو ذا القرآن الكريم يذكر المرغبات في الامتثال ، وموجبات هذه الأوامر لنعمل راغبين راجين الثواب من اللّه.
هو اجتباكم واختاركم حيث كلفكم وأمركم ، ولعل في التكليف مشقة قد تكون شديدة ، ولكن اللّه يتبع ذلك بقوله : وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، بل كله سهولة ، وقد قال رسول اللّه : « إنّ الدّين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلّا غلبه الدّين »
ويقول اللّه : لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها « 1 » ويقول الرسول. « إنّ اللّه يحبّ أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى عزائمه » .
فلم يحتم عليك استعمال الماء ، وقال « فإن لم تجدوا ماء فتيمموا » .
وجعل التيمم للمريض ، وللمسافر ، ولمن فقد الماء وما حتم علينا الصيام في السفر ولا في المرض بل أباحه وحث على الفطر ، وما حتم علينا القيام في الصلاة بل جعله فرضا على القادر أما غير القادر فقد أباح له الصلاة وهو جالس أو نائم ، وقد أثبتت الأيام أنه ليس في نظم الإسلام مشقة ولا حرج أبدا.
وعلى العموم : ففي الدين رخص كثيرة وقد استعملها الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم تخفيفا على أمته وتحقيقا لقول اللّه وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل هذا أى : في الكتب السابقة وفي هذا أى : في القرآن ، وحيث كانت ملة إبراهيم - عليه السلام - هي كملة المصطفى في الأصول العامة فهذا داع من دواعي الامتثال والذي سماكم المسلمين هو أبوكم إبراهيم أو اللّه - سبحانه وتعالى - ليظهر التعليل في قوله : ليكون الرسول شهيدا عليكم ، وتكونوا شهداء على الناس وأنبيائهم يوم القيامة فقد ورد أن الأنبياء تستشهد
___________
(1) سورة البقرة الآية 286.(2/609)
ج 2 ، ص : 610
بالمسلمين على أنهم بلغوا رسالتهم لأممهم فيشهد المسلمون بذلك فتقول الأمم : وممن علمتم ؟ فيقولون أخبرنا الصادق الأمين صلّى اللّه عليه وسلم.
وعلى هذا كله فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وهما عنوان العمل في الإسلام ، واعتصموا باللّه أى : بدينه وقرآنه وأمره ، واسألوه العصمة والمغفرة هو مولاكم وسيدكم والمتصرف في أموركم.
فنعم المولى ، ونعم النصير ....
انظر إلى القرآن أمرنا بأمور ثم رغبنا في الامتثال والعمل ثم أكدها مرة ثانية.(2/610)
ج 2 ، ص : 611
سورة المؤمنون
مكية كلها في قول الجميع ، وعدد آياتها ثماني عشرة ومائة آية.
وهي تدور حول الإيمان والمؤمنين من أولها إلى آخرها فهي إذ تصف المؤمنين ، تذكر أسس الإيمان في الإنسان والكون ، ثم تتعرض لرسالات بعض الأنبياء وكلها تدعو للإيمان ، ثم تعود إلى المؤمنين وخصالهم وإلى الكافرين وأعمالهم مع تعرض لبعض صفات اللّه ونراها تختتم الكلام بتوجيهات للنبي صلّى اللّه عليه وسلم ، ثم بذكر مشهد من مشاهد يوم القيامة للعبرة والعظة.
من هم المؤمنون ؟ [سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)(2/611)
ج 2 ، ص : 612
المفردات :
اللَّغْوِ ما لا خير فيه ابْتَغى طلب العادُونَ المتجاوزون الحدود الْفِرْدَوْسَ أعلى مكان في الجنة.
روى عن عمر بن الخطاب أنه قال : كان إذا نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الوحى يسمع عند وجهه كدوي النحل فلبثنا ساعة فاستقبل القبلة ، ورفع يديه وقال : « اللّهمّ زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنّا ، وآثرنا. ولا تؤثر علينا ، وارض عنّا وأرضنا ، ثم قال : نزل علىّ عشر آيات من أقامهنّ (أى : عمل فيهنّ) دخل الجنّة ، ثم قرأ :
قد أفلح المؤمنون حتّى ختم العشر » رواه أحمد والترمذي.
وروى النسائي قال : قلنا لعائشة أم المؤمنين : كيف كان خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ؟
قالت : كان خلقه القرآن ، فقرأت قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حتى انتهت إلى وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ قالت : هكذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم.
المعنى :
قد أفلح المؤمنون ، وفازوا وسعدوا ، أولئك المؤمنون الذين وصفهم الحق - تبارك وتعالى - بما يأتى :
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قد سكنت جوارحهم ، وخشعت قلوبهم ، وقال الحسن البصري : كان خشوع الصحابة - رضوان اللّه عليهم - في قلوبهم ، فغضوا بذلك أبصارهم ، وخفضوا جناحهم.
والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن أفرغ قلبه لها ، واشتغل بها عما عداها ، وآثرها على غيرها ، وحينئذ تكون راحة نفسه ، وقرة عينه كما
قال الرسول صلّى اللّه عليه وسلم « حبّب إلىّ من دنياكم ثلاث : الطّيب ، والنّساء ، وجعلت قرّة عيني في الصّلاة »
، وكما
روى قوله صلّى اللّه عليه وسلّم يا بلال « أرحنا بالصّلاة » .
وأمارة الخشوع أن يتوقى إصلاح الثوب ، والالتفات يمينا وشمالا ، والتثاؤب وتغطية الفم باليد ، والتشبيك ، واللعب في اللحى ، والنظر إلى الأصابع ، وتقليب الحصى ،(2/612)
ج 2 ، ص : 613
وغير ذلك مما يكره فعله في الصلاة باعتبار القانون الشرعي ، وفي الواقع هذا مما يضيع الصلاة ويجعلها شيئا لا روح فيه ، ولقد صدق رسول اللّه حيث رأى رجلا يلعب في لحيته وهو يصلى
فقال : « لو سكن قلب هذا لسكنت جوارحه » .
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ اللغو هو الباطل ، وما لا خير فيه ولا فائدة منه والمؤمن حقيقة هو الذي يشعر بثقل الرسالة التي كلف بها ، ويشعر بالواجب عليه نحو نفسه ووطنه ودينه ، ويشعر تماما بأن في عنقه أمانة هو محاسب عليها ، لا يهدأ ، ولا يسكن حتى يقوم بها. ومن كان كذلك كان معرضا عن اللهو ، والمجون والعبث وضياع الوقت في غير المجدي.
وانظر يا أخى إلى أن هذا اللغو دأب أفراد الأمم المتأخرة المتكاسلة ، وإلا فالوقت مهما طال فهو أقل بكثير مما عليك من واجب وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً.
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ يظهر واللّه أعلم أن المراد بالزكاة مطلق الإنفاق في سبيل اللّه ، وإلا فالزكاة الشرعية المحددة النصيب لم تفرض إلا في السنة الثانية للهجرة وكانوا في مكة يؤمرون بالإنفاق المطلق ، ألا ترى إلى قوله - تعالى - في سورة الأنعام الآية 141 وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وفي سورة فصلت وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [الآيتان 6 و7].
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ نعم هم الذين قد حفظوا فروجهم من الحرام فلم يقعوا فيما نهاهم اللّه عنه من زنا ولواط واستمناء باليد ، لا يقربون سوى زوجاتهم التي أحلها اللّه لهم ، أو ما ملكت أيمانهم من السراري التي أخذت في الحروب لا التي شاعت في القرون السابقة ، وكانت تباع في الأسواق ، فالشرع لم يحلل الرق إلا في صورة واحدة هي في حروب الإسلام مع الكفار فتقسم النساء على المحاربين إكراما. لهم ، مع أن الدين حض في كل مناسبة على تحرير الرقاب ، ولم يكن الرق واجبا حتميا بل جعله في يد الإمام يفعله متى يشاء وعلى ذلك فلنا أن نحرمه الآن لما يترتب عليه.
ومن تعاطى ما أحله اللّه فلا لوم عليه ولا حرج ، فمن ابتغى وراء ذلك أى غير الأزواج والإماء فأولئك هم المعتدون المتجاوزون ، وعلى ذلك حرم نكاح المتعة ، والاستمناء باليد.(2/613)
ج 2 ، ص : 614
والإجماع من كل العلماء ما عدا أحمد بن حنبل تحريمه لظاهر الآية ولحديث أنس ابن مالك « سبعة لا ينظر اللّه إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ، ولا يجمعهم مع العالمين ويدخلهم النّار في أوّل الدّاخلين : النّاكح يده ، والفاعل والمفعول به ، ومدمن الخمر ، والضّارب والديه حتّى يستغيثا ، والمؤذى جيرانه حتّى يلعنوه ، والنّاكح حليلة جاره » .
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وهم إذا اؤتمنوا لم يخونوا بل يؤدونها إلى أهلها ، وإذا عاهدوا أو عقدوا عقدا قاموا به ، ووفوا ما عليهم ، وهكذا المسلمون دائما يوفون بالعهد ، وعلى عكسهم المنافقون الذين وصفهم الرسول بقوله « آية المنافق ثلاث ، إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان » .
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ فهم يواظبون عليها ويؤدون جميع الصلوات في أوقاتها ، مع المحافظة على الصلاة وشروطها وآدابها وأركانها.
وقد افتتح اللّه ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة ، واختتمها بالصلاة فدل على أفضليتها ومكانتها وأنها عمود الدين ولقد قال رسول الإسلام : « استقيموا ولن تحصلوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة » .
أولئك البعيدون في درجات الكمال ، المتصفون بهذه الصفات التي تثبت الإيمان في قلب المؤمن ، والتي تغرس في قلبه حب الدين والخوف من اللّه ، والتي تنتج المؤمن الكامل ، المؤمن القوى ، والمؤمن العامل في جيش الإسلام فهذه صفات تخلق الفرد وهناك صفات للمؤمنين كجماعة من الجماعات الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ [سورة التوبة آية 71].
أولئك هم الأحقاء بأن يأخذوا الجنة ، ويستحقوا الفردوس استحقاق الوارث في مال مورثه جزاء ما عملوا ، ونتيجة لما قدموا.
وهم فيها خالدون وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف 72].(2/614)
ج 2 ، ص : 615
الإيمان باللّه القادر الحكيم [سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 22]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21)
وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
المفردات :
مِنْ سُلالَةٍ من خلاصة استلت من الطين ، والسلالة من السل وهو استخراج الشيء من الشيء يقال : سللت الشعر من العجين والسيف من الغمد فانسل قَرارٍ(2/615)
ج 2 ، ص : 616
مَكِينٍ
المراد الرحم طَرائِقَ جمع طريقة والمراد السموات السبع ، سميت بذلك لأن بعضها فوق بعض بِقَدَرٍ بمقدار معلوم عندنا طُورِ سَيْناءَ طور سيناء ، وَصِبْغٍ كل إدام يؤتدم به فهو صبغ ، وأصل الصبغ ما يصبغ به الثوب أى يلون ، وشبه الإدام به لأن الخبز يلون به إذا غمس فيه.
لقد أمر الحق - تبارك وتعالى - بالإيمان وبالاتصاف بشعبه المهمة التي تكون المؤمن الصالح ببيان صفات المؤمنين التي هي سبب في فلاحهم وفوزهم. وذلك في الآيات السابقة. وهذا لا يتم إلا بعد معرفة الإله معرفة حقيقة والإيمان به والاستدلال على ذاته الكريمة وصفاته الجليلة كالقدرة والوجدانية ، والعلم والحكمة وغيرها. ولذا ترى القرآن الكريم أخذ يسوق الأدلة على ذلك في خلق الإنسان ، وفي تكوين السموات وفي نزول الأمطار وخروج النبات ، وفي خلقه الحيوان ومنافعه.
المعنى :
ولقد خلقنا الإنسان ، وقلبناه في أدوار الخلقة وأطوار الفطرة. أفلا يكون ذلك دليلا كافيا على وحدانيته تعالى : واتصافه بكل كمال ، وتنزهه عن كل نقص ؟ هذه الأطوار كل طور فيها لا يمت إلى الآخر بصلة.
لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ومن هو الإنسان ؟ أهو آدم أم أولاده أو هو لفظ عام شامل للكل ؟
أما آدم فخلق من طين لازب إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [سورة ص الآيتان 71 و72].
وأما أولاده فقد خلقت من منى يمنى ، وهذا المنى من الدم ، والغذاء سواء كان نباتا أو حيوانا مصدره الأرض ، إذا الإنسان مطلقا خلق من طين كما نصت الآية وعلى ذلك نفهم قوله تعالى خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ أى : صلب الرجل وترائب المرأة أى : عظام صدرها ، مع قوله : وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السجدة 7 و8].
تلك نظرية القرآن - كلام اللّه الذي خلق الإنسان من العدم - في وضوحها وهي لا تعارض بنظرية النشوء والارتقاء في تكوين الإنسان إذ أنها بنيت على الحدس والتخمين(2/616)
ج 2 ، ص : 617
حيث يظن أن أصل الإنسان حيوان ارتقى ، والواقع لا يشجعنا على هذا على أن نظرية القرآن تكرم الإنسان على الخلق كلهم إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي.
ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ نعم هو قرار مكين حقا فالجنين يوضع في كيس (المشيمة) وهذا الكيس فيه ماء قليل حامل للطفل وحافظ له من الحركات العنيفة ، وتقلبات الأم الشديدة ، وهذا الكيس في الرحم ، والرحم مغلق وهو في الحوض ، أفلا يكون هذا في قرار مكين ؟ ومع هذا كله فالجنين يتغذى ويتنفس بعد مدة من الزمن أما كيف يتنفس ؟ فهذا دليل على القدرة التي لا تحد!.
ثم خلقنا النطفة التي هي حيوان منوي واحد من ملايين تنزل من الرجل علقة أى :
جعلناها علقة فحولنا النطفة من صفاتها إلى صفات العلقة ، وهي الدم الجامد.
فخلقنا العلقة مضغة : أى جعلناها قطعة لحم قدر ما يمضغ بعد أن كانت جزءا من الدم الجامد.
فخلقنا المضغة عظاما ، ومن الذي كون العظام من اللحم ؟ ، والعظام لها طابع خاص ومكون من مواد تختلف عن مواد اللحم ، إنه الخالق - سبحانه وتعالى - .
فكسونا العظام لحما ، نعم قد كسى العظام باللحم والعصب. إنه نظام دقيق جدا يعرفه من مارس صنع الآلات ، وحاجتها الشديدة إلى ما يشبه المفاصل في الإنسان إنه تركيب دقيق ، وصنعة محكمة! والطب الحديث أثبت أن العظم يتكون أولا ثم يكسى باللحم فمن علم ذلك النبي الأمى ؟ ! إنه اللّه!! ثم أنشأناه خلقا آخر ، نعم ثم بعد هذا أنشأناه خلقا آخر يسمع ويتحرك ويتنفس وكان قبل هذا قطعة لحم بدون حياة كاملة ثم بعد ذلك نزل من بطن أمه للحياة يسعى ويعمل ، وصار في وضع لو دخل في بطن أمه لحظة بعد خروجه لمات لساعته ، سبحانك يا رب!! وانظر إلى التعبير بثم هنا ، وبالفاء قبله!! فالفاء للترتيب مع التعقيب ، وثم للترتيب مع التراخي فتبارك اللّه أحسن الخالقين. نعم تعالى اللّه خالق هذا الإنسان ، فالبركات والخيرات والنعم كلها منه - سبحانه وتعالى - وهو المستحق للثناء والتعظيم والعبادة لا إله غيره ، ولا معبود سواه.(2/617)
ج 2 ، ص : 618
ثم إنكم بعد ذلك لميتون الموتة الأولى ، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون والبعث بعد موتكم في قبوركم ليأخذ كل جزاءه وافيا - أليس الموت في الدنيا. والبعث في الآخرة دليلا قويا على القدرة الكاملة ؟ !!
الأدلة الواضحة في خلق السماوات
ولقد خلقنا يا بنى آدم فوقكم سبع سموات طباقا ، وما كنا عن الخلق غافلين ، بل حاسبين عالمين بالغيب والشهادة :
والسموات السبع قيل : إن السماء عبارة عن الفلك الذي يدور فيه مجموعة من الكواكب مثل المجموعة الشمسية وهذه المجموعة مكونة من الشمس مثلا وكثير من الكواكب التي تنجذب إليها وتدور حولها في مدارها ، وهكذا حتى تتكون سبعة أفلاك وهي السموات السبع التي هي جزء من العالم العلوي.
ولكن إذا نظرنا إلى نصوص القرآن المتعددة والمذكورة في كثير من السور مثل قوله تعالى :
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً « 1 » . وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ « 2 » . إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ « 3 » وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ « 4 » . وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ « 5 » .
وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ « 6 » . أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً « 7 » . وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً « 8 » . أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها « 9 » . إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ « 10 » إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ « 11 » .. وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ ... « 12 » أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ « 13 » وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ « 14 » هذه النصوص كلها تجعلنا نقول مع القائلين أن السماء مادة فيها الكواكب واللّه أعلم بهذه المادة ، وإنما قيل سبع طرائق وفي آية أخرى طباقا لأنها متطارقة بعضها فوق بعض ، أى متطابقة ، وقيل لأنها طرائق الملائكة.
ويرى بعض العلماء أن المراد بقوله سبع طرائق - واللّه أعلم - سبع مدارات أو سبعة مجموعات فلكية ، أو سبع كتل سديمية :
___________
(1) البقرة آية 22.
(2) الذاريات آية 47.
(3) الصافات آية 6.
(4) فصلت آية 12.
(5) الطور آية 44.
(6) الحاقة آية 16.
(7) نوح الآيتان 15 و16.
(8) النبأ آية 12.
(9) النازعات الآيتان 27 و28.
(10) الانفطار آية 1.
(11) الانشقاق آية 1.
(12) البروج آية 1. [.....]
(13) الغاشية الآيتان 17 و18.
(14) الحج آية 65.(2/618)
ج 2 ، ص : 619
الأدلة في نزول المطر وإنبات النبات
واللّه - سبحانه وتعالى - أنزل من السماء ماء على هيئة المطر ، وإن قصته لعجيبة تدل على كمال القدرة فالماء الذي على سطح الأرض (و ما أكثره) يتبخر على شكل بخار يصعد إلى أعلى لخفته ثم إذا تجمد تحمله الرياح إلى حيث يراد نزوله ، فينزل عذبا فراتا سائغا شرابه ، كل هذه الأدوار والأطوار التي مر بها الماء من الذي خلقها ؟ إنه اللّه - سبحانه وتعالى - .
اللّه ينزل من السّماء ماء على من يشاء من عباده ينزله بقدر معلوم ، قدر لا يضر ولا يهلك ، بل يقدر المصلحة العامة غالبا.
والمطر إذا نزل على الأرض تسرب فيها ، وكون في باطنها ما يشبه البحيرات والأنهار ، وقد أثبت البحث حديثا أن تحت القطر المصرى نهرا أكثر ماء من نهر النيل ، وآية ذلك العيون والآبار التي في الصحراء وغيرها ، والآلات الميكانيكية التي ترفع المياه الجوفية فيسقى بها الزرع ، وتنشأ بها الجنات والبساتين.
نعم أنشأ اللّه بهذا الماء النازل من السماء جنات من نخيل وأعناب وغيرها من أصناف المزروعات المنتشرة الآن في العالم كله ، وإنما خص النخيل والأعناب بالذكر لأنهما المعروفان عند العرب كثيرا ، وغيرهما بالقياس.
لنا في هذه الزروع ما نتفكه به ، وما نأكل منه ونشأ به شجرة تخرج في طور سيناء - وهي الصحراء القاحلة ، لو لا ما ينزل عليها من الأمطار - هي شجرة الزيتون ومنها الدهن والإدام الذي يؤتدم به ، وفيه الشفاء لكثير من الأمراض وهو أصح من السمن في كثير من الحالات واللّه - سبحانه وتعالى - قادر على إذهاب المطر ومنعه ، وعلى جفاف المياه الجوفية وإزالتها قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ؟ ! [سورة الملك آية 30].
الأدلة في الأنعام وخلقها
أما الأنعام التي خلقها اللّه لنا ، وسخرها لخدمتنا ، وذللها لمنافعنا ، فهي الإبل والبقر بنوعيه والضأن والماعز ، وغيرها كثير :
ولنا في لبنه عبرة وعظة ، وأية عبرة هذه!! إنه اللبن الذي تفرزه الغدد ويخرج من(2/619)
ج 2 ، ص : 620
بين فرث ودم فغذاء الحيوان يتحول إلى دم ولبن وفرث ، كل ذلك بواسطة شعيرات دقيقة منتشرة في الجسم ومتجاورة ، ومع هذا يخرج اللبن صافيا لا كدرة فيه ، فسبحان من خلق هذا!! ولكم فيها منافع كثيرة ، تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ، وتحرث الأرض وتأخذون أصوافها وأوبارها فتجعلونه لباسا وأساسا ، ومتاعا ومن أولادها ولحومها نتغذى ونأكل ، وعليها وعلى السفن التي تسير في البحر نركب وننتقل حسبما نشاء أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ [سورة يس الآيات 71 - 73].
أفلا يدل هذا على وجود الصانع المختار ، الحكيم القادر ؟ جل شأنه ، وأنه قادر على إعادة الحياة بعد فنائها ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.
أليس من الفلاح والسعادة للبشر أن يؤمنوا بهذا الإله الذي خلق فسوى وأنعم وتفضل ؟ !
العبرة من قصة نوح - عليه السلام - [سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 30]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)(2/620)
ج 2 ، ص : 621
المفردات :
الْمَلَأُ هم أشراف القوم الذين يملؤون العيون بهجة يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ يسودكم ويشرف ويتعاظم عليكم جِنَّةٌ جنون وضعف في العقل فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ فانتظروا به ريب المنون بِأَعْيُنِنا برعايتنا التَّنُّورُ مكان يصنع على هيئة خاصة توقد فيه النار لطهى الخبز ، وهو معروف فَاسْلُكْ أدخل فيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ذكر وأنثى من كل حيوان موجود وقتئذ مُنْزَلًا إنزالا مباركا أى فيه الخير والبركة.
اعلم أن اللّه - سبحانه وتعالى - لما بين دلائل التوحيد ، ووصف نفسه بالقدرة الكاملة والعلم التام بما ذكر من خلق الأشياء السابقة وأطوارها ليدعم مبدأ الإيمان باللّه ، أردف ذلك بذكر بعض القصص للأنبياء ، وفيها آية كمال قدرة اللّه تعالى ، وأنه ينصر أنبياءه ومن آمن معهم ، ويهلك أعداءهم ، وبدأ بقصة نوح الأب الثاني للبشر وهو من أولى العزم.
ومن هنا تدرك السر في سياق القصة هنا ، وبهذا الشكل لأنها سيقت لغرض خاص ولون معين ، وقد تقدمت في سورة هود مطولة.(2/621)
ج 2 ، ص : 622
المعنى :
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال : يا قوم اعبدوا اللّه وحده فهو صاحب الفضل عليكم ، ولا يستحق العبادة غيره ، لأن غيره لم ينفع أحدا بل قد يضره. وعلى هذا فليس لكم إله غير اللّه يستحق العبادة ، أفلا تتقون ؟ !! هكذا دعاهم نوح إلى عبادة اللّه ، ولكن أشراف قومه يكرهون ذلك : لخوفهم من الدين الجديد الذي يزيل الفوارق ، ويعامل الناس على السواء ، كرهوا من نوح أن يدعو إلى عبادة اللّه ، إذ هو سيكون متبوعا ، وهم تابعون ، وهذا شيء يؤلمهم. فدفعهم الكبر والغرور ، والحسد والحقد ، إلى أن يتزعموا الخارجين على الدعوة المناوئين لنوح - عليه السلام - ويقولون : ما هذا - أى نوح - إلا بشر مثلكم من عامة الناس يريد أن يتفضل عليكم ، ويستأثر بالتعاظم وحده عليكم حيث يدعى أنه رسول اللّه إليكم ، وهو بشر مثلكم لم يزد عنكم في شيء فكيف تسلمون له بالزعامة والقيادة ؟
ولو شاء اللّه حقيقة - كما يدعى نوح - أن يرسل رسولا لأنزل ملائكة من السماء رسلا عنه فإن هذا أدعى للإيمان ، وأدل على الصدق ، فهم لقصر عقولهم وسوء تفكيرهم يعتقدون أنه لا يمكن أن تكون الرسالة مع البشر ، على أنا ما سمعنا بهذا الذي يدعيه نوح في آبائنا الأولين ، فما الذي جرى حتى يأتى نوح ويدعى الرسالة ؟ ! وما نوح إلا رجل مجنون حيث يدعى ذلك فتربصوا به ريب المنون ، وانتظروا موته ، وهو آت بلا شك وستستريحون منه.
وهكذا كانت شبههم ، وهي أوهى من بيت العنكبوت ، ولذا لم يعن القرآن بالرد عليها ، لأن بطلانها ظاهر لا يحتاج إلى بيان.
فلما ضاق صدر نوح منهم ومن أعمالهم دعا ربه أنى مغلوب فانتصر ، وقال : رب انصرني وأهلكهم بسبب تكذيبهم لي ، فأوحينا إليه أن اصنع السفينة بأعيننا وتحت رعايتنا وكلاءتنا ، وهذا وحينا جبريل يهديك ويعلمك كيف تصنع السفينة ؟
فإذا جاء أمرنا ، وشأننا العظيم ، وقد فار التنور ، وزاد الماء ، وبلغ الربى فأدخل في السفينة من كل حيوان زوجين اثنين ذكر وأنثى ليبقى التناسل في الدنيا ، واحمل فيها أهلك الذين آمنوا فقط لكن من سبق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون فلا تحملهم(2/622)
ج 2 ، ص : 623
ولو كان ابنك وزوجتك. ولا تخاطبني في شأن الذين ظلموا أبدا ... لما ذا ؟ إنهم مغرقون حتما ، فإذا استويت يا نوح أنت ومن معك في السفينة فقل أنت وهم : الحمد للّه رب العالمين الذي نجانا من القوم الظالمين.
وقل عند انحسار الماء عن الأرض أى عند النزول من السفينة. رب أنزلنى إنزالا مباركا فيه البركة والخير ، وأنت خير المنزلين.
وهكذا يعلمنا اللّه ما نقوله عند ركوب السفينة أو ما شابهها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف 12 و13].
إن في ذلك القصص لآيات تدل على قدرة اللّه الذي أغرق الظالمين ، ونجى المؤمنين وعلى تمام حكمته وعدله حيث لم يترك هؤلاء يعيثون في الأرض الفساد ، وهكذا شأن اللّه مع أحبابه وأعدائه إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [سورة محمد آية 7] إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة الحج آية 38].
قصة هود - عليه السلام - [سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 الى 41]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)(2/623)
ج 2 ، ص : 624
المفردات :
قَرْناً القرن : الجماعة المجتمعة في زمان واحد ، سموا بذلك لأنهم يتقدمون على من بعدهم تقدم القرن على الحيوان وَأَتْرَفْناهُمْ أنعمنا عليهم حتى أبطرتهم النعمة هَيْهاتَ اسم فعل بمعنى بعد الصَّيْحَةُ الصوت الشديد غُثاءً المراد هلكى كغثاء السيل.
هذه هي قصة هود - عليه السلام - ، وقد أرسل إلى قومه عاد ، وإن لم يكن ذكر هذا صراحة إلا أنه استفيد من قوله - تعالى - على لسان هود وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وقد ذكرت قصة هود بعد قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود فالأولى أن تكون هذه القصة لهود لا لصالح.
المعنى :
ثم أنشأنا من بعد قوم نوح قوما آخرين من سلالة من حمل مع نوح من المؤمنين إلا أنهم خلفوا من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة ، واتبعوا الشهوات ، وطغوا وبغوا فأرسل اللّه فيهم رسولا منهم أى : من عشيرتهم ويعرفون مولده ومنشأه ليكون سكونهم إلى قوله أكثر ، وتصديقهم له أقرب ، وهذا يفيد أن الوثنية والعصيان كالطبيعة في الإنسان والداء الكامن ، فإذا أرسل رسولا قضى على الوثنية والفساد حينا من الزمن ، ولكن لا تلبث بعده أن تظهر في أجلى صورها ، ولو لا أن اللّه حفظ الأمة الإسلامية(2/624)
ج 2 ، ص : 625
بالقرآن ، ووعد بحفظه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ لرأينا الوثنية منتشرة فينا ، ومع جهاد العلماء ورجال الدين ففيه كثير من الفرق الشيعية والخوارج وغيرهم ضل بهم السبيل.
هؤلاء هم أولاد المؤمنين من قوم نوح ، ولكنهم كفروا وأشركوا باللّه فقال رسولهم هود : اعبدوا اللّه وحده ، ولا تشركوا به شيئا ، فما لكم من إله يستحق العبادة غيره ، أفلا تتقون وتخافون منه ؟ !! وقد وصف اللّه الذين خرجوا على هود وتزعموا قومهم ، وقادوهم إلى الكفر والعصيان بثلاث صفات من أسوأ الصفات :
(أ) كفروا باللّه وبرسوله. (ب) وكذبوا بلقاء الآخرة ، ولم يؤمنوا بالبعث. (ج) أترفوا في الحياة الدنيا ، أى أصابهم داء الترف الذي يعمى القلوب ، ويجعلها في أكنة من وعاء الخير حتى لا يصل إليها شيء منه.
وهؤلاء الذين كفروا ، وكذبوا بيوم القيامة ، وأترفوا في الحياة الدنيا قالوا ، وبئس ما قالوا ، ونطقوا بشبه واهية لم تستحق العناية ، ولا الرد عليها.
أولى الشبهات : هذا الذي يدعى أنه رسول ما هو إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ، ويشرب مما تشربون منه ، فلا فضل له عليكم أبدا فكيف يدعى الفضل عليكم ويتعالى بدعوة الرسالة من اللّه إليكم ، وأقسموا لئن أطعتم بشرا مثلكم ليس له فضل ولا مزية. إنكم إذا لخاسرون الشبهة الثانية : كيف يعدكم أنكم تخرجون وتبعثون إذا متم وكنتم ترابا ، وعظاما بالية ؟ ! هيهات هيهات لما يعدكم به ، وبعيد بعيد ما يدعيه من أن هناك حياة أخرى غير الحياة الدنيا!! ثم أكدوا نفى نظرية البعث : ما هي إلا حياتنا الدنيا ، وليس بعدها حياة ثانية أبدا ، ولكن هي الدنيا نحيا فيها ونموت ، وما يهلكنا إلا الدهر وما نحن بمبعوثين.
وأما هذا الرجل الذي يدعى النبوة وإثبات البعث فما هو إلا رجل اختلق على اللّه الأكاذيب ، وادعى أنه رسول اللّه ، وما نحن له بمؤمنين ولا يمكن أن نصدقه جميعا في دعواه.
ولما يئس الرسول - عليه السلام - من قبول الأصاغر والأكابر للدين فزع إلى ربه(2/625)
ج 2 ، ص : 626
وقال : ربي انصرني وأهلك أعداءك بسبب كذبهم فأجاب اللّه سؤاله ، وقال عما قليل ليصبحن نادمين على ما فرط منهم من العصيان والكفر.
وكان الجزاء أن أخذتهم الصيحة ، وهي صوت شديد جدا أعقبه الهلاك والفناء وكانوا كالغثاء الذي يعلو سطح الماء من بقية الأعشاب.
فبعدا من رحمة اللّه وهلاكا للقوم الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر ، وظلموا غيرهم حيث كانوا قدوة لهم في الفساد والشر ، وانظر إلى التاريخ يوم مكرر ، وإلى أن الشبه واحدة عند الأمم جميعا ، والجزاء واحد عند الكل ، فكأن القرآن ينادى أن اعتبروا يا أولى الأبصار ، وانظروا يا أهل مكة فيمن تقدمكم ، إذ كانوا مثلكم ، بل أشد ، وكانوا يعتقدون كما تعتقدون ، وقد حل بهم عذاب اللّه ..
ذكر بعض الأنبياء [سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 الى 50]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46)
فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50)(2/626)
ج 2 ، ص : 627
المفردات :
تَتْرا يتبع بعضهم بعضا أَحادِيثَ جمع حديث وهو ما يبقى بعد الإنسان من الذكر ، وقيل : جمع أحدوثة كالأعجوبة ، وهي ما يتحدث به ويتعجب منه عابِدُونَ أى : هم خدم لنا وحشم رَبْوَةٍ الربوة : المكان المرتفع من الأرض قَرارٍ وَمَعِينٍ استقرار فيها من السكان ، والمعين الماء الجاري الظاهر للعيون.
يقص القرآن الكريم القصة في أشكال مختلفة تارة بالتطويل ، وتارة بالإيجاز والمقام هنا للإيجاز ، لأن الغرض التحدث عن الإيمان وجزاء الكفر باللّه.
المعنى :
ثم أنشأنا من بعد عاد أمما آخرين فما خلت الديار من المكلفين أبدا ، بل بعد هلاك قوم لكفرهم ينشئ بقدرته من بقاياهم خلقا يعمرون الأرض ، وهم خاضعون لأمر ربهم ، ما تسبق أمة أبدا أجلها : وما يستأخرون فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [سورة النحل آية 61] وتلك سنة اللّه في الأمم ، فلا تستعجلوا العذاب فكل شيء عنده بمقدار.
ثم أرسلنا لتلك الأمم رسلنا يتبع بعضهم بعضا بعد مهلة من الزمن أو بغير مهلة على وفق إرادة اللّه وعلمه. كلما جاء أمة رسولها كذبوه ، وكفروا به وهم قد سلكوا مسلك من تقدمهم من الأمم التي أهلكت بالصيحة والريح العاتية وغيرها فأتبعنا بعضهم بعضا بالهلاك لما اشتركوا في التكذيب والكفر ، وجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق فلم يبق منهم عين ولا أثر ، بل أصبحوا أحاديث في أفواه الناس يتحدثون به ويتعجبون منه ، فبعدا وهلاكا لقوم لا يؤمنون ، وهذا وعيد لكل كافر وإنذار شديد. وبيان لقدرة اللّه ونصرته لعباده المؤمنين ، وعذابه الشديد للكافرين والعاصين ، فاعتبروا أيها الناس ، وانظروا في حاضركم ومستقبلكم.
ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون لفرعون وملئه يدعوانهما للإيمان باللّه الذي خلق فسوى! ! ، وأرسلناهما مؤيدين بآياتنا المعجزة وهي الآيات التسع : العصا ، واليد ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، وانفلاق البحر ، والسنون ، ونقص الثمرات ،(2/627)
ج 2 ، ص : 628
فكان موسى وهارون مؤيدين بالآيات وسلطان مبين وهو أشرف المعجزات وأقواها.
وقيل : المراد به العصا إذ تعلقت بها معجزات شتى كانقلابها حية ، وابتلاعها ما صنعته السحرة وغير ذلك :
وقد حكى اللّه عن فرعون وملئه أخص صفاتهم وشبههم الواهية التي دعتهم إلى عدم الإيمان ، وفي هذا كله عبرة وعظة لأولى الألباب.
أما صفاتهم فهم قوم استكبروا وأنفوا من اتباع موسى ، وكانوا قوما عالين ، أى :
على جانب من الحضارة والعز والسلطان والعلم والعرفان ، والواقع التاريخى يؤيد ذلك كله.
أما شبههم : فقالوا : كيف نؤمن لبشرين مثلنا ؟ ! والرسالة تتنافى مع البشرية ، وهكذا شأن القوم الماديين الذين لا يؤمنون بالقوى المعنوية ، ويظهر أن هذا كان مرضا شائعا في الأمم السابقة ، ولا يزال. الشبهة الثانية : كيف نؤمن بموسى وهارون ونسلم لهما بالزعامة والقيادة ، وهم من بنى إسرائيل الذين يقومون بالخدمة لنا وهم من رعايانا النازلين في بلادنا ، إن هذا لمكر وحيلة ليخلص موسى وهارون بنى إسرائيل قومهما من حكمنا ، ولا يمكن أن يكونا رسولين من عند اللّه ، وترتب على ذلك أنهم كانوا من المهلكين الذين غرقوا في اليم ، ونجا موسى ومن معه من بنى إسرائيل المؤمنين فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ [سورة يونس آية 9].
ولقد آتينا موسى التوراة فيها هدى ونور ، وفيها الحكم والدستور لبنى إسرائيل بعد أن أغرق آل فرعون ، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص 43].
ويقول ابن كثير في تفسيره : لم تهلك أمة هلاكا عاما بعد نزول التوراة ، بل أمر المؤمنون بقتال الكفار.
وتلك قصة مريم وابنها عيسى بإيجاز كما هو النظام العام في ذكر القصص التي في هذه السورة.
وجعلنا عيسى ابن مريم عبد اللّه رسوله وأمه مريم البتول ابنة عمران التي أحصنت(2/628)
ج 2 ، ص : 629
فرجها ، وكانت من القانتين ، جعلناهما آية للناس ، وحجة قاطعة على قدرته الكاملة فإنه على ما يشاء قدير ، واللّه - سبحانه - قد خلق عيسى من غير أب وجعل مريم تلد عيسى من غير أب فذلك آية اللّه على القدرة القادرة.
وآويناهما إلى ربوة ذات استقرار للناس إذ هي طيبة الإنبات كثيرة الخيرات فيها الماء المعين الظاهر للعيون الذي لا ينضب أبدا ، وأين هذه الربوة ؟ إنها في بيت المقدس ، واللّه أعلم.
المبادئ العامة في الرسالات [سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 الى 56]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55)
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)
المفردات :
زُبُراً جمع زبور والمراد : الكتب التي وضعوها وألفوها ، وهذه الكلمة فيها معنى الضم والجمع ، ولذا قيل : زبرت الكتاب أى : جمعت حروفه وضممت بعضه إلى بعض ، وزبر الحديد قطع الحديد المجتمعة حِزْبٍ أى : جماعة وأمة غَمْرَتِهِمْ المراد : في حيرتهم وضلالهم وغفلتهم. والمادة تدل على الستر ، ولهذا قيل الغمر للماء الكثير الذي يغطى ويستر الأرض نُمِدُّهُمْ نعطيهم نُسارِعُ نسرع.(2/629)
ج 2 ، ص : 630
المعنى :
يأمر اللّه - تبارك وتعالى - الرسل جميعا بالأكل من الحلال والطيبات من الرزق ، وبالعمل الصالح ، ثم يحذرهم ويخوفهم من حسابه فإنه عليم خبير.
روى عن أبى هريرة - رضى اللّه عنه - قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « أيّها النّاس إنّ اللّه طيّب لا يقبل إلّا طيّبا ، وإنّ اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال :
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وقال تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ « 1 » ، ثم ذكر الرسول :
« الرّجل يطيل السّفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السّماء يا رب ، ومطعمه حرام ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذّى بالحرام فإنّى يستجاب له » ؟ ؟
وهذا يدل على أن أكل الحلال عون على عمل الصالح من الأعمال ، وعلى ما للأكل من أثر في توجيه النفس ناحية الخير أو ناحية الشر ، إذ الأكل غذاء للبدن وقوة له ، فإذا كان الغذاء طاهرا نقيا ، طيبا حلالا كان وقودا نظيفا يدفع صاحبه إلى العمل الطيب ، وبالعكس إذا كان الغذاء حراما خبيثا دفع صاحبه إلى السيئ من الأعمال.
وهذا الأمر للرسل جميعا وبخاصة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولأنه المخاطب أولا وبالذات وفي هذا دليل على عظم المأمور به ، وأنه أمر عام أمر به جميع الرسل لخطورته.
وقد سوى اللّه بين الأنبياء جميعا ، وبين المؤمنين في وجوب أكل الحلال وتجنب الحرام. ثم شمل الكل بوعيده لما ذكرنا.
واعلموا أيها الناس أن هذا الذي تقدم ذكره في قصص الأنبياء سابقا هو دينكم وملتكم إذ كل الأنبياء أرسلت تدعو إلى الإيمان باللّه وحده. وعدم الإشراك به شيئا فاللّه يقول : اعلموا هذا ، ولا تظنوا أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم أتى بجديد ، والحال أنى أنا ربكم فاتقونى ، ولا تخالفوا أمرى.
هكذا كانت الأمم ، وبمثل هذا أرسلت الرسل ، ولكن بعد ذلك افترقت الأمم فرقا وأحزابا كل حزب بما لديهم فرحون ، وصار لكل جماعة كتاب ثم حرفوه وبدلوه ، وآمنوا به وكفروا بما سواه.
___________
(1) سورة البقرة الآية 172.(2/630)
ج 2 ، ص : 631
وإن اللّه - سبحانه وتعالى - يحذر الأمة الإسلامية من هذا الداء الوبيل ، ويخاطب قريشا خاصة مهددا لهم بقوله : فذرهم في غمرتهم ، والمعنى فذر هؤلاء القرشيين فهم يشبهون من سبقهم في الكفر والعناد ، ولا يضيق صدرك بتأخير العذاب عنهم فلكل شيء وقت معلوم ، وذرهم في غيهم وضلالهم إلى حين معلوم ، وأجل محدود.
أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا كلا! ليس الأمر كما يتوهمون في قولهم : نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ، لقد أخطئوا ، وخاب فألهم ، وما علموا أنا نفعل معهم ذلك استدراجا وإملاء لهم ، ولهذا قال اللّه : بل لا يشعرون فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [التوبة 55] إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران 178].
يا أيها الناس ليس الإنسان بماله وولده ، وليست كرامته عند اللّه بالدنيا التي عنده ، ولكن كرامته ومنزلته بالعمل الصالح إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات 13].
ومن هذه الآيات نفهم أثر الأكل الحلال في سلوك الإنسان ، وأن الرسل جميعا جاءت لعبادة الواحد القهار ، وأن اختلاف الأمم بعد أنبيائها أمر طبيعي والفوز لمن تمسك بالحق وسار على هدى الكتب السماوية التي لم تحرف كالقرآن وسنة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، وأن الكرامة والمكانة عند اللّه ليست بالمال والولد ، ولكن بالتقوى والعمل الصالح.
المؤمنون المسارعون في عمل الخير [سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 62]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61)
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62)(2/631)
ج 2 ، ص : 632
وتلك صفات أخرى للمؤمنين تدل على عمق الإيمان وتأصله في نفوسهم.
المعنى :
إن الذين هم من خشية ربهم وخوف عذابه دائمون في طاعته جادون في طلب رضاه ، إذ من بلغ في خشية اللّه حد الإشفاق وهو كمال الخشية كان في نهاية الخوف من سخط اللّه وعقابه ، وهذا الصنف يكون دائما بعيدا عن المعاصي جادا في الطاعة والعمل الصالح.
والذين هم بآيات اللّه الكونية ، يؤمنون ويصدقون على أنها دليل ناطق على وجود اللّه واتصافه بكل كمال وتنزهه عن كل نقص ، وهذا لا يكون إلا بعد النظر السليم والفكر الصحيح في آيات اللّه الكونية ، وآيات اللّه القرآنية.
والذين هم بربهم لا يشركون شيئا ، وهذا دليل على نفى الشرك الخفى ، والذين يؤتون ما أتوا ، ويفعلون ما يفعلون من صلاة وصيام ، وقيام ، وزكاة ، وصدقة وبر والحال أن قلوبهم وجلة وخائفة من التقصير فليس عندهم غرور ديني ، بل هم دائما خائفون غير مخدوعين ، ولو كانت إحدى رجليهم في الجنة.
روى أن السيدة عائشة سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت : والذين يؤتون ما آتوا ، وقلوبهم وجلة ، أهو الذي يزنى ويشرب الخمر ويسرق وهو على ذلك يخاف اللّه - تعالى - ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم : « لا يا ابنة الصدّيق ولكنّ الرّجل يصلّى ويصوم ويتصدّق ، وهو على ذلك يخاف اللّه - تعالى - .. » .
وهذه صفات عالية في نهاية الحسن إذ الأولى دلت على الخوف الشديد ، والثانية على الإيمان العميق ، والثالثة دلت على نفى الشرك الخفى ، والرابعة دلت على المبالغة في العمل وعدم الغرور والكذب ، وتلك مقامات الصديقين والشهداء والصالحين نسأل اللّه أن يوفقنا ويجعلنا في عدادهم.
لهذا لا غرابة في أن هؤلاء الموصوفين بتلك الصفات يسارعون في عمل الخيرات ويتعجلون دائما على فعل الطاعات ، وهؤلاء آتاهم اللّه ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة وهم لها سابقون ، ولما وصل القرآن إلى العمل ذكر شيئا يتعلق به ، فهؤلاء المتصفون(2/632)
ج 2 ، ص : 633
بهذه الأوصاف الأربعة والمسارعون في عمل الخيرات ، لم يعملوا فوق طاقتهم ، واعلموا أيها الناس أن عند اللّه كتابا تحصى فيه الأعمال ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وهو كتاب اللّه الذي يظهر به الحق المطابق للواقع ، وفي هذا تهديد للعصاة ، واطمئنان للمطيعين وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [سورة الكهف آية 49].
الكفار وأعمالهم وأسبابها [سورة المؤمنون (23) : الآيات 63 الى 74]
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74)(2/633)
ج 2 ، ص : 634
المفردات :
غَمْرَةٍ الغمرة في اللغة : ما يغمرك ويعلوك ، وفيه معنى الستر ، ومنه الغمر للحقد لأنه يغمر القلب أى : يستره ، والغمرة للبحر لأنه يستر الأرض والمراد هنا :
الحيرة وعمق التفكير مُتْرَفِيهِمْ أغنياءهم يَجْأَرُونَ يضجون ويستغيثون.
وأصل الجؤار رفع الصوت بالتضرع كما يفعل الثور ، ومنه الجؤار كالخوار تَنْكِصُونَ ترجعون وراءكم ، والمراد أنهم يعرضون عن الحق سامِراً السامر والسمار الجماعة يتحدثون بالليل وأصله مأخوذ من السمر وهو ظل القمر تَهْجُرُونَ قوله : تهجرون من أهجر إذا نطق بالفحش ، وقرئ تهجرون من هجر المريض إذا هذى والمراد يتكلمون بالهوس وسيئ القول في القرآن والنبي جِنَّةٌ جنون خَرْجاً أجرا ورزقا.
قد تكلم القرآن عن المؤمنين وصفاتهم ثم ذكر حكمين يتعلقان بالعمل العام وبعد هذا عاد فوصف المؤمنين بصفات أخرى ، ثم تكلم عن الكفار وناقشهم وبين أعمالهم ، وسببها ، مفندا آراءهم ردا على كل شبهة.
المعنى :
يقول الحق - تبارك وتعالى - : هؤلاء المؤمنون المخلصون الذين وصفوا بتلك الصفات الأربع هم من هذا الوجل والخوف كالمتحيرين المفكرين تفكيرا عميقا في أعمالهم : أهي مقبولة أم مردودة ؟ لأنهم يفهمون أن أعمالهم مهما كان فيها من إخلاص فهي دون الواجب عليهم ، ولهم أعمال دون ذلك ، نعم ولهم - أيضا - من النوافل والصدقات وأعمال البر التي سيعملونها في المستقبل ما هو دون تلك المرتبة.
وأما قوله : حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب فهذا وصف للكفار قطعا و(حتى) هذه ابتدائية أى : يبتدأ بها كلام جديد.
وهذا رأى حسن ، وتأويل مستساغ ، وقيل : إن هذا الكلام كله في الكفار ولا شك أنهم في غمرة وحيرة وضلال من هذا الذي بيناه في القرآن أو من هذا الذي وصف به المؤمنون المشفقون ، ولهؤلاء الكفار أعمال دون ذلك أى : سوى ذلك الكفر(2/634)
ج 2 ، ص : 635
والجهل ، وهم لها عاملون قطعا لأنها مكتوبة عليهم حتى إذا أخذنا مترفيهم وأغنيائهم بالعذاب يوم القيامة إذا هم يجأرون ويستغيثون رافعين صوتهم لشدة ما هم فيه ، ويقال لهم - على سبيل التبكيت والتأنيب - : لا تجأروا اليوم ، إنكم منا لا تنصرون ويومئذ هم في العذاب محضرون ، ولا هم ينصرون ، فانظر إليهم وقد وصلت حالتهم إلى ما وصلت إليه من الحسرة والندامة ، وهذا كالباعث لهم على ترك الكفر والجهل.
واللّه - سبحانه وتعالى - بعد ما بين أنه لا ناصر لهم أتبع ذلك ببيان سبب هذا الجزاء فقال :
(أ) قد كانت آياتي البينات من القرآن الكريم تتلى عليكم فكنتم تنكصون على أدباركم ، وتنفرون منها ، وتعرضون عنها.
(ب) وقد كنتم مستكبرين بالحرم والبيت العتيق قائلين : لا يظهر علينا أحد لأنا أهل حرم اللّه ، والحال أنكم تعصونه ، ولا تقدرونه قدره.
(ج) وقد كنتم تجتمعون حول الكعبة ليلا للسمر ، وكان سمركم في القرآن والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم والسب فيه ووصفه بأنه ساحر أو مجنون ، ووصف القرآن بأنه أساطير الأولين ، وأنه كذب وزور ، فكنتم تقولون هجرا من القول وزورا ، وكنتم تهزأون وتفحشون!! ثم إنه - سبحانه وتعالى - لما وصف حالهم رد عليهم بأن إقدامهم على هذه الأمور لسبب من الأسباب الآتية لا يصح أن يكون!! فلذا أنكر عليهم ما يأتى :
1 - أعموا فلم يتدبروا القرآن الذي أنزل على محمد ؟ وهو معجزته الباقية الخالدة ، وقد نزل بلسان عربي مبين وهم أهل اللسان والفصاحة ، وقد تحداهم على أن يأتوا بمثله تحديا سافرا ومع هذا فقد عجزوا أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ؟ من سورة محمد. ولو تدبروا لآمنوا ، وما فعلوا ما فعلوا.
2 - بل أجاءهم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بما لم يأت آباءهم الأولين ؟ . لا ، لم يكن محمد بدعا ، وما كانت رسالته عديمة النظير ، فهم يعرفون بالتواتر أن الأمم ترسل إليهم الرسل فيكونون بين مصدق ومكذب فينجى اللّه المؤمنين وينصرهم ويهلك الكافرين والمكذبين .. فلم هذا العناد والتكذيب ؟ !!. أليست هذه الأحوال التي يعرفونها تدعوهم إلى التصديق ؟(2/635)
ج 2 ، ص : 636
3 - بل ألم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ؟ !! نعم هم يقرون ويعترفون أن رسولهم محمدا هو الصادق الأمين ، ما جربوا عليه كذبا قط ، وما خان في يوم مخلوقا! فكيف يخون اللّه ويكذب عليه ؟ وهم أدرى الناس به وبأحواله فكيف يكون إنكاره وتكذيبه بعد الرسالة وكمال العقل والرجولة ؟ إن هذا أمر عجيب ؟
4 - بل أيقولون : إنه لمجنون ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [سورة الكهف آية 5] في اعتقادهم وفي الواقع.
ففي الواقع ونفس الأمر ما حملهم على الرجوع عن الحق ، والاستكبار الكاذب والسمر وهجر القول إلا ضلالهم وعدم تدبرهم للقرآن ، وقد حالت عصبيتهم الممقوتة وجهالاتهم الموروثة. وحقدهم الكامن دون النظر في القرآن بعين الاعتبار المتجردة من الهوى والهوس.
وما دفعهم إلى عمل السوء كذلك إلا اعتقادهم الفاسد أن محمدا كاذب ، وليس رسولا.
تبا لهم!! ألم يعرفوا محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم قبل هذا ؟ وأكثر من هذا أن يقولوا : إنه مجنون ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [سورة القلم آية 2].
بل (إضراب عما مضى) بل جاءهم الرسول الصادق الأمين بالحق. وجاء لنصرة الحق ، وجاء رسولا من عند الحق - سبحانه وتعالى - ، ولكن أكثرهم للحق كارهون وللحق وحده مخاصمون ، وقليل منهم من ينصر الحق ، ويطيع دواعي الحق.
ولو اتبع الحق - تبارك وتعالى - أهواءهم الفاسدة ، ورغباتهم المادية الضالة لفسدت السموات والأرض ، ومن فيهن ، تنزه اللّه عن ذلك وتعالى علوا كبيرا.
بل أتينا هؤلاء العرب الذين أعرضوا عن القرآن ونأوا عنه ، أتيناهم بذكرهم وشرفهم وعلو مكانتهم بين الأمم بل وخلقهم من جديد ، أمة لها كيان ونظام وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [سورة الزخرف آية 44].
ومن العجيب أنهم عن ذكرهم وشرفهم والقرآن الذي نزل عليهم معرضون ، عجبا لهم!! وأى عجب ؟ !! بل أتسألهم رزقا وأجرا على هدايتهم ورفع شأنهم حتى يملوك ويبغضوك ؟ !! فخراج ربك ورزقه خير لك ولغيرك ، وهو صاحب الملك والسلطان ،(2/636)
ج 2 ، ص : 637
وهو خير الرازقين ، وإنك يا محمد لتدعوهم إلى صراط مستقيم. صراط اللّه العزيز الحميد ، طريق العزة والكرامة ، والخير والسداد ، الطريق الوسط ، والدواء الناجع لأنه دواء حكيم الحكماء. وإن الحوادث أثبتت أن علاج الإسلام خير علاج لمشاكلنا كلها الدينية والدنيوية ، وقد شهد بذلك أعداء الإسلام قبل أصدقائه.
ومع هذا كله فالذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط المستقيم بعيدون ، وعنه مائلون إلى الطريق الضالة التي فيها إفراط وتفريط. وما كان أكثرها اليوم.
إصرارهم على الشرك رغم ظهور الأدلة [سورة المؤمنون (23) : الآيات 75 الى 90]
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90)(2/637)
ج 2 ، ص : 638
المفردات :
- لَلَجُّوا لتمادوا في باطلهم يَعْمَهُونَ يترددون ويتخبطون اسْتَكانُوا الاستكانة الخضوع مُبْلِسُونَ يائسون متحيرون لا يدرون ماذا يصنعون ذَرَأَكُمْ أنشأكم وخلقكم وبثكم أَساطِيرُ جمع أسطورة والمراد : أباطيلهم وترهاتهم مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ ملك كل شيء يُجِيرُ يمنع الغير يُجارُ عَلَيْهِ لا يمنع منه : يقال : أجرت فلانا على فلان إذا أغثته ومنعته منه تُسْحَرُونَ تخدعون وتصرفون عن طاعته وتوحيده.
المعنى :
هؤلاء القوم ليس لهم وجه من وجوه الحق في كفرهم بالنبي والقرآن الذي أنزل عليه تشريفا لهم وتكريما ، وهداية لهم ونورا.
ومع هذا كله فهم مصرون على الشرك والكفر به ، والتمادي في الباطل ، ولو رحمناهم ، وأزحنا عنهم الضر ، وأ فهمناهم القرآن لما انقادوا له ، ولا استمروا على كفرهم وطغيانهم وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال 23] وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [سورة الأنعام آية 28].
ولقد أخذناهم بالعذاب ، وابتليناهم بالمصائب الشداد رجاء أن يثوبوا لرشدهم(2/638)
ج 2 ، ص : 639
ويرجعوا عن غيهم ، فما ردهم ذلك عما كانوا فيه ، وما استكانوا لربهم ، وما كانوا يتضرعون فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [سورة الأنعام آية 43].
حتى إذا جاءهم أمر اللّه ، وجاءتهم الساعة بغتة ، فأخذهم من عذاب اللّه ما أخذهم ، وفتح عليهم باب ذو عذاب شديد ، عند ذلك أبلسوا من كل خير ، ويئسوا من كل راحة وانقطع أملهم ، ونفد رجاؤهم فأصبحوا حيارى لا يدرون ماذا يفعلون ؟ !! يا للعجب هذا حالهم!! واللّه - سبحانه وتعالى - هو الرحمن الرحيم صاحب النعم على الناس جميعا ، فهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة لكي تعلموا ما حولكم ، وتنظروا وتفكروا في هذا الكون وما فيه من آيات شاهدة ناطقة بوحدانية اللّه وأنه الفاعل المختار ، ما أقل شكركم على نعمه عليكم ، وما تشكرون إلا شكرا قليلا ، بل إنكم تكفرون به.
وها هي آيات اللّه الناطقة بقدرته التامة ، فهو الذي خلقكم وأنشأكم في الأرض تعمرونها ، على اختلاف أشكالكم وألوانكم ولغاتكم ثم إليه وحده تحشرون وتجمعون ...
وهو الذي يحيى الأحياء ، ويميت الموتى ، وله وحده اختلاف الليل والنهار وله وحده يرجع الفضل في اختلافهما ، وتعاقبهما كل منها يطلب الآخر طلبا حثيثا ينظام دقيق ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة يس آية 40].
ومع هذا كله فقد أنكروا البعث واستبعدوه لما قالوا : من يحيى العظام وهي رميم ؟
قالوا مثل ما قال الأولون السابقون لهم من الأمم قالوا : أإذا متنا ، وكنا ترابا ، وعظاما بالية ، أننا لمبعوثون أحياء ؟ وقالوا : لقد وعدنا نحن وآباؤنا مثل هذا من قبل كثيرا ، ولم يتحقق شيء منه كأنهم لغباوتهم يفهمون أن الإعادة في الدنيا ، وقد قالوا : ما هذا الوعد الذي نسمعه إلا أساطير الأولين ، وأحدوثة من أحاديثهم المكذوبة ..
ثم يقرر الحق - تبارك وتعالى - وحدانيته ، واستقلاله بالخلق والتصريف ليرشدهم(2/639)
ج 2 ، ص : 640
إلى أنه اللّه لا إله إلا هو ، ولا معبود بحق سواه ، ويجب أن تكون العبادة والتقديس له وحده.
ولهذا أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقول للمشركين سائلا وملفتا نظرهم إلى أبسط الأمور :
لمن الأرض ومن فيها ؟ إن كنتم تعلمون من خلقها وما فيها من الآدميين والحيوانات والنباتات وسائر الأصناف والأنواع ؟ !! سيقولون هذا كله للّه ، وهو الخالق البارئ المصور فاطر السموات والأرض تراهم يعترفون بأن ذلك كله للّه وحده لا شريك له فإذا كان ذلك قل لهم يا محمد : أفلا تذكرون أن الذي خلق هذا كله هو الذي يجب أن يعبد وحده ، وهذا مقتضى الفطرة التي فطر الناس عليها ، وما إنكارها إلا ضرب من الغفلة علاجه التذكر.
وهذه الآية تشير إلى أنهم يعترفون للّه بالربوبية ، وأنه لا شريك له فيها ، ويشركون معه غيره في الألوهية حتى عبدوا معه غيره مما لا ينفع ولا يضر ، قل لهم أيضا : من رب السموات السبع ، ورب العرش العظيم ؟ . وفي الحديث « ما السّموات السّبع والأرضون السّبع وما بينهنّ وما فيهنّ في الكرسىّ إلّا كحلقة بأرض فلاة ، وإنّ الكرسىّ بما فيه بالنّسبة إلى العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة » .
سيقولون في الإجابة : هي للّه وحده .. قل لهم : أفلا تتقون ؟ أى إذا كنتم تعترفون بأنه رب السموات ورب العرش العظيم أفلا تخافون عقابه ؟ وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره.
قل لهم : من بيده ملكوت كل شي ء ؟ من بيده الملك والتصريف ؟ ومن إذا قال للشيء كن فيكون ؟ وهو يجير ولا يجار عليه أن يغيث من يشاء ممن يشاء ، ولا يغيث أحد منه أحدا ، فهو العظيم القدير ، له الخلق ، والأمر ، لا معقب لحكمه ، ولا راد لقضائه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن.
وهم سيقولون معترفين هذا للّه وحده لا شريك له قل لهم فكيف تسخرون ؟ ولأى شيء تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره مع اعترافكم الصريح له بأنه الخالق المالك.
ورب السموات السبع ورب العرش العظيم ، وهو صاحب الملك والتصريف.
بل أتيناهم بالقول الحق والدليل الصدق ، وهي تلك الآيات البينات السابقة ، وهم مع ذلك كافرون ، وفي هذا توعد لهم ووعيد ..(2/640)
ج 2 ، ص : 641
ليس للّه ولد وليس له شريك [سورة المؤمنون (23) : آية 91]
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
المفردات :
لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ لغلب بعضهم بعضا وطلب القوى الضعيف.
المعنى :
لقد وصف اللّه نفسه فيما مضى بما يوجب له القدرة والكمال ، وأن له التصريف الكامل في هذا الكون علويه وسفليه ، وهم يقرون بذلك ، ثم أراد اللّه أن ينزه نفسه من اتخاذ الولد والشريك ليرشد الناس إلى الإيمان الصحيح فقال ما معناه :
ما اتخذ اللّه ولدا ، وما كان له أن يتخذ ولدا ، وله ما في السموات والأرض وهو الغنى الذي لا يحتاج إلى غيره ، والكل محتاج إليه وكيف يكون له ولد ؟ واجب الوجود ، القديم المعبود. المخالف لجميع الحوادث ، الذي لا يشبهه أحد من خلقه ، والولد لا بد يشبه والده في شيء.
وما كان معه من إله ، وليس له شريك ، ولو كان كذلك لذهب كل إله بما خلق وانفرد كل منهما بشيء من الكون ، ولو كان هذا لاختل نظام الوجود ، ولفسدت السموات وما فيها والأرض وما عليها ، والمشاهد أن الوجود منتظم متسق بل في غاية الدقة والنظام إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [سورة آل عمران آية 190] ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [سورة الملك آية 3].(2/641)
ج 2 ، ص : 642
ولو كان معه آلهة كما يقولون لعلا بعضهم على بعض ، ولطلب كل منهما قهر الآخر ليعلو عليه لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [سورة الأنبياء آية 22].
سبحان اللّه عما يصفون ، وتنزيها له ثم تنزيها عما يقول الظالمون المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك ، وتعالى ربك علوا كبيرا فهو يعلم الغيب والشهادة ، فتعالى وتقدس - عز وجل - عما يقول الكافرون والظالمون.
توجيهات إلهية للحبيب المصطفى [سورة المؤمنون (23) : الآيات 92 الى 98]
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96)
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
المفردات :
هَمَزاتِ الهمزات جمع همزة والهمزة في اللغة : النخس والدفع.
المعنى :
يقول اللّه - سبحانه وتعالى - آمرا المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم وموجها له أن يدعو بهذا الدعاء ، فيقول : يا رب إن تريني ما يوعدون ، وإن تجعلني أرى تحقيق وعدك الذي وعدته(2/642)
ج 2 ، ص : 643
يا رب فلا تجعلني عندئذ في عداد القوم الظالمين ، ولا تجعلني واحدا منهم. وكان - عليه السلام - يعلم أن اللّه - تعالى - لا يجعله في عداد القوم الظالمين إذا نزل بهم العذاب ومع هذا أمره ربه بهذا الدعاء والسؤال ليعظم أجره ، وليكون في كل الأوقات ذاكرا لربه ، فما بالنا نحن ؟ !!.
وعلى أن نريك الوعد ونحققه لقادرون ، ثم علمه علاجا آخر للناس ، لأن اللّه يعلم أنه لا بد من أن يصيبه أذى منهم فقال : ادفع يا محمد بالفعلة التي هي أحسن السيئة أى : ادفع السيئة بالحسنة ، نحن أعلم بما يصفون وما يفترون على اللّه ، وسنجازيهم على ذلك.
وقل يا محمد : رب إنى أعوذ بك من همزات الشياطين ووسوستها التي هي كالنخس ولقد أمر اللّه تعالى نبيه ، وكذا المؤمنين بهذا ، وعلاجا لسورة الغضب التي كانت تصيب المؤمنين عند سماعهم المشركين ، وهم يصفون اللّه بما لا يليق به فتقع المشادة فلذلك وضعت الآيات هنا.
وكلها علاج لهم بعد بيان صفات اللّه الواجبة والمستحيلة ، وفي هذا إشارة إلى أن النبي وصحبه سيلقون بسبب ذلك شدائد من الناس.
والعلاج هو ذكر اللّه والتوجه إليه أن يبعدنا من العذاب إذا نزل ، وأن نحسن للناس إذا أساءوا لنا فالحسنة تجب السيئة ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [سورة فصلت آية 34] وبعد هذا فإذا همز الشيطان ووسوس بالغضب والسورة فادعوا اللّه واستعيذوا به من الشيطان الرجيم إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [سورة الأعراف آية 201] وإنه لعلاج مفيد يجب أن يتنبه له المسلمون.
من مشاهد يوم القيامة [سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 الى 118]
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103)
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108)
إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113)
قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)(2/643)
ج 2 ، ص : 644(2/644)
ج 2 ، ص : 645
المفردات :
وَرائِهِمْ ، أى أمامهم بَرْزَخٌ أى : سد وحاجز يمنعهم من الرجوع نُفِخَ فِي الصُّورِ الصور بوق ينفخ فيه نفختين النفخة الأولى ليموت الكل والثانية ليحيا الكل وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ وقيل الصور جمع صور والمراد نفخ الروح في الأجساد مَوازِينُهُ موزوناته أى أعماله تَلْفَحُ تحرق واللفح كالنفخ إلا أنه أشد كالِحُونَ عابسون ، وقال أهل اللغة الكلوح تكشر في عبوس وتقلص الشفتين عن الأسنان اخْسَؤُا اسكتوا سكوت هوان وذلة وابعدوا في جهنم كما يقال للكلب اخسأ ، أى : أبعد شِقْوَتُنا شقاوتنا والمراد : غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا فسمى اللذات والأهواء شقوة لأنهما يؤديان إليها سِخْرِيًّا بكسر السين بمعنى الاستهزاء وبضم السين بمعنى التسخير والاستعباد بالفعل ، وهما قراءتان مرويتان عَبَثاً مهملين كالبهائم.
المعنى :
يخبر اللّه - سبحانه وتعالى - وخبره الصدق وقوله الحق - عن حالة المحتضر عند الموت من الكافرين والعصاة والمفرطين في حقوق اللّه حينما يرون ما أعد لهم من العذاب ، يقول الواحد منهم : يا رب ارجعنى ارجعنى ، ارجعنى لعلى أعمل صالحا فيما تركت ، وضيعت من الطاعات ، فهو يطلب الرجوع إلى الدنيا متيقنا من نفسه أنه سيعمل الصالح من غير تردد ، يرجع إلى رده إلى الدنيا أو إلى التوفيق إلى العمل الصالح.
ونصوص القرآن في مثل هذا الموضوع فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ « 1 » فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ « 2 » .
___________
(1) سورة الأعراف الآية 53.
(2) سورة السجدة الآية 12.(2/645)
ج 2 ، ص : 646
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا « 1 » . رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ « 2 » . وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ « 3 » تدل على أنهم يسألون الرجعة فلا يجابون لها عند الاحتضار ، وحين يعرضون على النار ، وقت العرض على الجبار.
ولذلك جاء الرد : كلا! وهي كلمة ردع لمن طلب شيئا بلا حق ، إنها كلمة هو قائلها نعم هو حكم قد حكم به الحكيم الخبير ، ولا راد لحكمه ، ولا معقب على قضائه وكيف يكون غير هذا ؟ !! ، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ، فقول الظالم : رَبِّ ارْجِعُونِ كلمة هو قائلها ، ولا عمل معها البتة ، وحتى التي في أول الآية غاية لما قبلها ، والمعنى : هم مصرون على ما وصفناهم به سابقا حتى إذا جاء أحدهم الموت وتيقن ضلالته وعذابه وشاهد الملائكة تقبض روحه بوجه عابس فطلب ما طلب ، وأمامهم بعد هذا برزخ وحاجز بين الدنيا والآخرة يستحيل عليهم أن يتخطوه ، فهم في حياة بين الدنيا والآخرة وهي حياة القبور ، وستظل كذلك فيها العذاب إلى يوم يبعثون فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى ، وهلك جميع الخلق حتى الملك الذي نفخ في الصورة ، نفخ في الصور مرة أخرى فإذا الناس جميعا قيام ينظرون ماذا يحل بهم ؟
فلا أنساب بينهم يومئذ ، ولا يتساءلون ولا يسأل حميم حميما ، كل امرئ عن أخيه مشغول يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى
[سورة الحج آية 2].
فمن ثقلت موازينه ، ومن رجحت حسناته على سيئاته ، ولو بالقليل فأولئك هم المفلحون الفائزون ، الذين زحزحوا عن النار وأدخلوا الجنة بسلام ، ومن خفت موازينه أى : ثقلت سيئاته على حسناته فأولئك هم الذين خسروا أنفسهم ، وخابوا وهلكوا ، واشتروا الضلالة بالهدى ، وباعوا النعيم المقيم بالزخرف الفاني ، والحياة الفانية ، وهم في جهنم خالدون ، وماكثون مقيمون ، تلفح وجوههم النار وتغشاها وقد كانوا يصعرون خدودهم ، ويشمخون بأنوفهم في الدنيا كبرا وعجبا لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ « 4 » ، وهم فيها كالحون ، وعابسون
___________
(1) سورة الأنعام الآية 27.
(2) سورة غافر الآية 11.
(3) سورة فاطر الآية 37.
(4) سورة الأنبياء الآية 39.(2/646)
ج 2 ، ص : 647
مكشرون ، وذلك جزاء الظالمين ، وهذا تقريع من اللّه وتوبيخ لهم على ما ارتكبوا من الكفر والإثم والعدوان حيث يقول اللّه لهم : أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ؟ !! وهذا استفهام تقرير وتوبيخ لهم ، والمعنى : قروا بهذا واعترفوا فهو أمر ظاهر لا ينكره عاقل.
قالوا : ربنا غلبت علينا شهواتنا. وقادتنا لذاتنا إلى الشقاء ودخول النار ، وكنا قوما ضالين غير فاهمين للأمور على وضعها الصحيح ثم عادوا فكرروا ما طلبوه أولا وقالوا :
ربنا أخرجنا من هذا الموقف إلى الدنيا فإن عدنا إلى أفعالنا تلك فإنا ظالمون نستحق منك العقوبة الصارمة.
فيرد اللّه عليهم بمنتهى الغلظة والشدة قائلا : اخسئوا فيها ، وابعدوا في جهنم ، ولا تكلمون أبدا بعد هذا.
وكأن سائلا سأل وقال. لم هذا العذاب والرد الشديد ؟ فأجيب بقوله : إنه كان فريق من عبادي يقولون في الدنيا : ربنا آمنا بك وصدقنا رسلك فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فما كان منكم أيها المكذبون الظالمون إلا أنكم اتخذتموهم سخريا تسخرون بهم ، وتضحكون عليهم ، وتسخرونهم وتعذبونهم.
اتخذتموهم سخريا إلى أن نسيتم ذكرى لشدة انشغالكم بالاستهزاء ، وكنتم منهم تضحكون ، إنى جزيتهم اليوم بما صبروا على فعل الطاعات ، وترك المحرمات ، والرضا بقضاء اللّه وقدره ، جزاهم ربهم بهذا جنة قطونها دانية ، إنهم هم الفائزون.
يقول اللّه لهم تبكيتا وتأنيبا بعد أن طلبوا الرجوع فردوا ، وقيل لهم : اخسئوا فيها ولا تكلمون : كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ وهذا سؤال عن مدة مكثهم في الدنيا.
قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم ، استقصروا مدة لبثهم لما هم فيه من العذاب فاسأل العادين المتمكنين ، فإننا في حالة تذهب العقول وتحير النفوس.
قال : ما لبثتم في الأرض إلا قليلا من الزمن بالنسبة إلى لبثكم في العذاب المقيم.
ألم تعلموا فحسبتم أنا خلقناكم عابثين لاعبين ليس لغرض صحيح ؟ أفحسبتم أنكم إلينا لا ترجعون ؟(2/647)
ج 2 ، ص : 648
فتعالى اللّه ، وتنزه عن الشريك والولد وتعالى عن العبث واللعب هو الملك الحق ، لا إله إلا هو ، رب العرش الكريم ، فكيف لا يكون هذا إلها وربّا للكون كله ؟ ! ومن يدع مع اللّه إلها آخر. ولا برهان له به ، فإنما حسابه عند ربه ، وجزاؤه عند خالقه فاطر السموات والأرض حساب عسير. إنه لا يفلح الكافرون.
وقل يا محمد لتقتدى بك أمتك : رب اغفر لي سيئاتي ، وارحمني فإنك الرحمن الرحيم.
وهذا دواء لكل ألم ، إذ الاستغفار وطلب الرحمة هما المنجيان من المهالك.
روى عن عبد اللّه بن مسعود. أنه مر بمصاب مبتل فقرأ في أذنه أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً حتى ختم السورة فبرأ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ماذا قرأت في أذنه ؟
فأخبره فقال : « والّذى نفسي بيده لو أنّ رجلا موقتا قرأها على جبل لزال »
ولا غرابة فالقرآن علاج حقا ، ولكن يتوقف على الطبيب وعلى المريض وقابليته فإذا كان الطبيب ذا نفس مؤمنة ، والمحل أى : المريض قابلا للعلاج بالقرآن يبرأ وإلا فلا.(2/648)
ج 2 ، ص : 649
سورة النور
مدنية بالإجماع - وعدد آياتها ثلاث وستون آية. وفيها إشعاعات النور ، والآداب الإسلامية العامة التي تحافظ على الأنساب والأعراض وبيان أن ذلك كله من نور اللّه.
افتتاح السورة [سورة النور (24) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
المفردات :
سُورَةٌ السورة : جملة من القرآن الكريم لها بدء ونهاية معلومان شرعا بالتوقيف. ولعل الأصل في التسمية أنها كالسور لما فيها من الآيات ، أو هي بمعنى المنزلة والمرتبة ، ولا شك أن من يقرأها ويفهمها ويعمل بها يصبح ذا منزلة عالية رفيعة أَنْزَلْناها المراد : أوحينا بها إليك يا محمد ، ولعل السر في التعبير بالإنزال الذي يشعر بالنزول من العلو هو الإشارة إلى أن هذا القرآن من عند اللّه ، ولا شك أن من دونه نازل عنه في الرتبة والمكانة وَفَرَضْناها أمرنا بها أمرا جازما مؤثرا آياتٍ جمع آية هي العلامة ، وقد تطلق على الجملة من القرآن لأنها علامة على النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
افتتح اللّه - سبحانه وتعالى - هذه السورة الكريمة بما هو متحقق في كل سورة فما من سورة في القرآن إلا وقد أنزلها اللّه على نبيه ، وفرضها - جل شأنه - على عباده وألزمهم بالعمل بما فيها من أحكام ، وما أنزل فيها من آيات بينات ، وحجج واضحات.
ولعل السر في بدء هذه السورة بهذا البدء العجيب هو أن يسترعى انتباه المسلمين لها ، فينظروا إلى ما فيها من أحكام ومواعظ ، ويعملوا به.(2/649)
ج 2 ، ص : 650
وهذه السورة حقيقية بهذه العناية فقد عالجت ناحية من أخطر النواحي ناحية الأسرة وما يحفها ، وبخاصة العرض وأثره والخوض فيه ، ثم ذكرت قصة الإفك وما فيها من آداب وحكم غالية. وإشارات سامية ، وما يستتبع ذلك من الأمر بغض النظر ، والاستئذان وغير ذلك مما يساعد على العفة ، وعلى العموم ففي هذه السورة أسس الحياة المنزلية وآداب الحياة الزوجية الصحيحة ، وما يتصل بذلك ، وفيها آية النور اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وغير ذلك كثير.
ولا شك أن في هذه السورة من الأحكام المفصلة ، والآيات البينة ما لو تذكرها المسلم لنجا من مزالق النفس ومسالك الشيطان والهوى ، وهي مدعاة للذكرى وإن الذكرى تنفع المؤمنين.
الزنا وحدّه [سورة النور (24) : الآيات 2 الى 3]
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
المفردات :
فَاجْلِدُوا الجلد الضرب ، وسمى به لأن فيه إصابة الجلد بالسوط أو العصا رَأْفَةٌ الرأفة : الشفقة ورقة القلب.(2/650)
ج 2 ، ص : 651
المعنى :
جريمة الزنا إحدى الموبقات بل هي أشدها بعد الشرك باللّه ، ولا تحصل إلا من زان أو مشرك ، وكان الواجب ألا تكون من مؤمن ولا مسلم ، وهي من الخطورة بمكان. بحيث كانت أول حكم في تلك السورة ، وما بعدها من أحكام فوقاية منها ، وشرعت من أجلها ، وانظر يا أخى إلى حده المخزى الزاجر ، ثم إلى النهى عن الرأفة بالزاني والزانية وإن كان من يقيم الحد يؤمن باللّه واليوم الآخر ، فالغلظة معهما من مقتضيات الإيمان ، ثم اشترط التشهير بهما والفضيحة لهما بشهود طائفة من الناس لعذابهما ، وما بالك ؟ بأن النهى كان عن القرب منه لا عن فعله فقط كغيره من المنكرات ، وقد قرنه اللّه بالشرك وقتل النفس وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً [سورة الفرقان الآيتان 68 و69].
ثم انظر إلى ما رتب من أحكام على مجرد الاتهام به ، وأنه لا يثبت إلا بالإقرار أو الشهادة من أربع شهود عدول.
مما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني ، فإن كان بكرا ببكر فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة على جسمه ما عدا الوجه والفرج.
وهذه عقوبة الزنا في الدنيا ، وفي الآخرة أشد وأبقى. وهذا هو حكم الزنا مع غير الإحصان ، أما المحصن وهو من سبق له زواج شرعي إن زنى فحكمه الرجم بالحجارة ، وقيل البكر يجلد مائة ويغرب عاما ، والمحصن يجلد ثم يرجم.
وكأن الزاني والزانية خرجا عن حدود الإنسانية إلى حد البهائم التي لا تردع إلا بالضرب والألم ، أما الموعظة الحسنة فلم تعد تؤثر فيه.
ولا شك أن عقوبة الزنا كبيرة وشاقة ، ولكنا نهينا عن أن تؤثر فينا الرأفة بهما وتقودنا إلى العطف عليهما في تنفيذ حد اللّه.
وقوله تعالى : إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ من باب الإلهاب ، واستنهاض الهمم ، وشحذ العزيمة حيث علق تنفيذ العقوبة وعدم الرأفة بهما على الإيمان باللّه واليوم الآخر كما نقول : إن كنت رجلا فافعل هذا.(2/651)
ج 2 ، ص : 652
وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ، وهذا إيلام لنفسيهما بعد إيلام جسميهما وهو معنى التشهير والفضيحة فجعل ضربهما أمام جماعة من الناس ليكون الخزي والعار أبلغ وأكمل ، وفي هذا شهادة عامة من الناس جميعا بأن هؤلاء قد تجردوا من الإنسانية ومعانيها السامية ، فلا حق لهما في إعادة الاعتبار ، ودعوى الافتخار.
وانظر إلى التنفير من تلك الفعلة الشنيعة بقوله تعالى : الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
وهذه الآية من المشكلات في القرآن التي تحتاج إلى تؤدة وتأن حتى يمكن فهمها وفي أسباب نزولها روايات. المعقول منها روايتان :
الأولى : أن كثيرا من المهاجرين في المدينة قد أجهدهم الفقر ، وأضرّ بهم الاحتياج حيث تركوا أموالهم وديارهم في سبيل اللّه ، وقد رأوا في المدينة البغايا المعلنات عن أنفسهن ، وقد كثر عندهن المال والخير فحدثتهم أنفسهم لو تزوجوا من هؤلاء فيكن عونا لهم على الإقامة بالمدينة - فاستأذنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في ذلك على عادتهم في كل صغيرة وكبيرة فنزلت الآية ليمتنعوا عن ذلك فامتنعوا.
و
روى جماعة كأبى داود والترمذي والبيهقي أن صحابيا يقال له مرثد ، ذهب إلى مكة مستخفيا ليحمل أسيرا فرأته امرأة اسمها عناق - وكانت بغيا وكان له بها صلة قبل إسلامه - وطلبت منه أن يبيت عندها وتسهل له مأموريته فقال لها مرثد : يا عناق إن اللّه حرم هذا فصاحت المرأة به وأخبرت قريشا بوجوده ، ولكنه بلباقته تمكن من الحصول على طلبته ونقل الأسير إلى المدينة ثم يروى مرثد عن نفسه قائلا : فأتيت الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت يا رسول اللّه : أأنكح عناق ؟ فأمسك ولم يرد على شيئا حتى نزلت هذه الآية فقال النبي : « يا مرثد! الزّاني لا ينكح إلّا زانية أو مشركة والزّانية لا ينكحها إلّا زان أو مشرك وحرّم ذلك على المؤمنين » فلا تنكحها.
واعلم يا أخى أن هناك حقائق شرعية سلّم بها من الجميع. وهي أن المسلم ولو كان زانيا لا ينكح مشركة ، وكذا المسلمة ، وأن المسلم الزاني يحل له نكاح العفيفة ، والزانية يحل لها نكاح العفيف.
وعلى هذا الأساس فالمعنى الظاهر من الآية - وهو أن الزاني لا يحل له أن ينكح إلا امرأة زانية أو مشركة ، وأن الزانية لا يحل لها إلا نكاح الزاني أو المشرك - مخالف(2/652)
ج 2 ، ص : 653
لما أجمع عليه المسلمون ، ولما سار عليه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والصحابة أجمعون ، وهذا يدلنا على أن هذا الحكم المفهوم من الآيات منسوخ ، وبهذا قال بعض العلماء.
وخلاصة هذا الرأى. أن الآية واردة لتحريم نكاح الزواني والزناة إلا من بعضهم لبعض أو من بعضهم للمشركين ، وأن ذلك نسخ بقوله تعالى وَأَنْكِحُوا الْأَيامى والزانية لم تخرج عن كونها من أيامى المسلمين بالإجماع ، ونسخ جواز نكاح المشركين والمشركات ولو زناة المسلمين بقوله تعالى وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [سورة البقرة آية 221].
وعلى هذا فأحل النكاح بين الزناة والعفائف ، وبين الزاني والأعفاء ، وحرم النكاح بين المسلمين - ولو زناة - وبين المشركين.
ولكن النسخ غير مسلم به عند كل العلماء فمن يمنعه قال. إن الآية مسوقة للتنفير من نكاح المسلم العفيف للزانية ، وتنفير المسلمة العفيفة من نكاح الزاني ، ولو جاء لكل واحد منهما خير كثير. وتكون الآية مطابقة لأسباب النزول ، وهي مسوقة لتنفير المسلمين الضعفاء الذين حدثتهم أنفسهم بالتزوج من البغايا رجاء المال وطمعا في الرخاء الذي يعينهم على ما هم فيه من جهد ، وعلى تحقيق ما ألقى على عاتقهم من مسئوليات (كمرثد).
فلما استأذنوا رسول اللّه في ذلك ، نزلت الآية ليبتعد المسلمون عن بيئة الزنى فإنه مدعاة للخروج عن حدود الدين ، وينزل بالمسلم إلى درجة قد تؤثر عليه فإن رؤية المنكرات ، تميت في المسلم الحمية الدينية والعصبية الإسلامية كما هو موجود عند كثير من المسلمين الذين خالطوا اللادينيين.
وهذا بلا شك مما لا يليق بالمؤمن ، وإنما هو من سمات الزناة فهم الذين يميلون أو يقبلون نكاح الزواني أو من هن أفحش كالمشركات وكذلك الزانية هي التي تقبل أو يليق بها أن تميل إلى الزاني ومن هو شر منه كالمشرك ، وعلى ذلك فالآية مسوقة للتنفير ، وبيان ذلك أن هذا لا يليق بالمؤمن المحافظ على دينه ومما يؤيد هذا المعنى قوله تعالى الآتي : الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [سورة النور آية 26].(2/653)
ج 2 ، ص : 654
وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ نعم ومحرم ذلك على المؤمنين الكاملين فنكاح المؤمن الصادق المحمود عند اللّه زانية خبيثة فاجرة وانخراطه في بيئة الفساق محظور عليه ومحرم ، ولو كانت الزانية الفاجرة من أثرياء العالم.
وليس معنى ذلك أن العقد محرم ولا يصح ، وإنما التحريم معناه لا ينبغي للمسلم ولا يصح ذلك منه من حيث كونه مؤمنا صادقا وإن عقد فالعقد صحيح من ناحية الحكم الشرعي ، وكذلك الشأن عند من تتزوج من زان خبيث ، ولقد صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « فاظفر بذات الدّين تربت يمينك »
أما نكاح المؤمن للمشركة وبالعكس فحرام مطلقا وهذا تعليم قرآنى كريم لا يصدر إلا من خبير بصير رءوف بنا رحيم ، فقد أثبتت الأيام أن هذه الزيجات التي تعقد على أساس المادة مع التعامي عن الخلق والسيرة الحسنة فاشلة وغير مجدية.
بقي علينا أن نفهم السر في تقديم الزانية على الزاني في أول الآية ، وتقديم الزاني على الزانية في عجز الآية!!.
ولعل السر أن الزنى ينشأ غالبا وللمرأة فيه الضلع الأكبر فخروجها سافرة متبرجة متزينة ، داعية لنفسها بشتى الوسائل المغرية من أصباغ وعطور وملابس ضيقة تبرز كل أجزاء جسمها فهن العاريات الكاسيات المائلات المميلات ، ثم هي تمشى بحركات وسكنات ونظرات كلها إغراء ، وإلهاب للشباب وفتنة ، وهذه كلها حبائل للشيطان ، وليس معنى هذا أن الرجال بريئون ، لا. بل عليهم قسط كبير في الجرم وقسط المرأة أكبر ولذا قدمها على الزاني وفي عجز الآية حيث يعالج النكاح بمعنى العقد وللمرأة فيه الخطوة الثانية أما الرجل فله مهما كانت الظروف الخطوة الأولى والكلمة الأولى ، ولذا قدمه على المرأة واللّه أعلم بأسرار كتابه.
القذف بالزنا وحدّه [سورة النور (24) : الآيات 4 الى 5]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)(2/654)
ج 2 ، ص : 655
المفردات :
يَرْمُونَ الرمي : الإلقاء والقذف بحجر أو سهم مما يضر أو يؤذى استعير لنفى النسب والقذف بالزنى لما فيه من الأذى والضرر الْمُحْصَناتُ الإحصان هنا معناه العفة شُهَداءُ جمع شهيد وهو الشاهد ، وسمى بذلك لأنه يخبر عن شهادة وعلم ويقين وأمانة.
وهذا حكم القذف بالزنى ، وفيه دلالة على عظيم جرمه وكبير إثمه حيث كان الرمي به حده ثمانون جلدة ، ورد الشهادة ، والحكم بالفسق فما بال من يرتكب ؟ أليس تخصيص هذا الحد بالزنى دون السرقة والقتل دليلا على ذلك.
المعنى :
والذين يرمون المحصنات العفيفات بالزنى ، ويتهمونهم بهذا الجرم الفظيع الذي يثلم العرض ، ويؤذى النفس ، ويطأطئ الرأس ، ثم لم يأتوا بشهداء أربعة يشهدون بصدق قولهم ، ولم يحصل إقرار ممن رمى بالزنا فجزاء هؤلاء القاذفين أن يجلدوا ثمانين جلدة ، وألا يقبل من لسان فاعل هذا الفعل شهادة أبدا جزاء له على ما ارتكب من جرم ، وأولئك هم الفاسقون الخارجون عن حدود اللّه وحدود شرعه.
إلا الذين تابوا وأنابوا من بعد ذلك الخطأ الشنيع ، وأصلحوا ما أفسدوا بأن يقروا بأنهم أخطئوا في رميهم بالزنا فإن اللّه غفور رحيم ، وهل تقبل شهادتهم بعد ذلك ، ويخرجون من حكم الفسق أو لا تقبل شهادتهم أبدا ، ولو بعد التوبة قولان لأئمة الفقه ، ولكل سند يؤيد رأيه.
أما التوبة الصادقة فتقضى من الإنسان أن يعلم علما يقينا قلبيا بجرم ذنبه وخطأ رأيه ، فيندم بعد ذلك ندما عميقا شديدا على فعله ، ويستتبع ذلك الإقلاع عن الذنب(2/655)
ج 2 ، ص : 656
في الحال ، والعزم عزما أكيدا على عدم الرجوع إليه أبدا بحال من الأحوال مهما كانت الظروف والملابسات ، وأن يبعد عن الظروف التي قادته إلى مثل هذا العمل.
والإصلاح : يقتضى إصلاح نفسه ، وتفكيره ، وبيئته وظروفه ، ويرد المظالم إلى أهلها إذا أمكنه ذلك ، تلك يا أخى هي أصول التوبة الطاهرة التي تتوفر ، على أن التوبة أمر قلبي لا يطلع عليه إلا اللّه فحذار حذار من التوبة باللسان فقط إذ هي لا تنفع شيئا.
قذف الرجل زوجته [سورة النور (24) : الآيات 6 الى 10]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
المفردات :
لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ اللعن : الطرد من الرحمة غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها الغضب هو :
إنزال العذاب مع المقت وَيَدْرَؤُا يدفع.
الحكم الأول للزنا ، والثاني للقذف به مع الأجانب ، والثالث للقذف به مع الزوجة ، وهذا ما يسمى في كتب الفقه باللعان.(2/656)
ج 2 ، ص : 657
المعنى :
والذين يرمون أزواجهم بالزنا ، وكأن الكلمة قبل أن تتكلم بها تكون في ملكك فإذا خرجت منك كانت كالسهم إذا انطلق فلا يمكن رده ولعل هذا مما يساعد على تفهم السر في التعبير عن القذف بالرمي على ما فيه - كما قلنا - من الألم والضرر.
ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم ، وهذا أمر معقول فربما يدخل الرجل على امرأته في أماكنها الخاصة فيجد معها الأجنبى على هيئة منكرة فماذا يعمل! أيخرج يطلب الشهود! قد لا يتصور هذا أيسكت ويلحق بنفسه من لا يستحق هذا النسب ، ويتخذ لأولاده أخا يرثه ويرثهم وهو لا يستحق! إن هذا لأمر خطير.
ولكن الشارع الحكيم قال : إن لم يكن له شهداء يشهدون على مثل الشمس رؤية ويقينا ، إذا لم يكن ذلك فليشهد أربع شهادات باللّه ، فيقول : أشهد باللّه العظيم إنى لصادق فيم رميت به زوجتي فلانة من الزنى (أربع مرات) ويقول في المرة الخامسة :
وعلى لعنة اللّه إن كنت من الكاذبين في دعواي ، وحينما رمى زوجته بالزنا وجب عليه الحد كما نصت الآية السابقة فإنها عامة من المحصنات سواء كن زوجات أو أجنبيات.
وليس يرفع الحد إلا البينة بأربعة شهود أو اللعان منه أى أن يشهد أربع شهادات ثم الخامسة كما تقدم ... عند ذلك يجب عليها الحد إن لم تلاعن هي الأخرى ، وذلك كله بعد تحذير الحاكم لهما من الكذب وخطره ، وبيان أن عذاب الدنيا بالحد أخف بكثير من عذاب الآخرة فإن أصرت الزوجة على تكذيب زوجها لا عنت فشهدت أربع شهادات باللّه العظيم إنه لمن الكاذبين ، وتقول : أشهد : باللّه العظيم إن فلانا هذا زوجي لمن الكاذبين فيما رمانى به من الزنى ، وفي الخامسة تقول : وعلى غضب اللّه إن كان من الصادقين.
وهذا معنى قوله تعالى : وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ ومن أحكام اللعان أنه متى لا عن الزوج حرمت عليه زوجته ، قيل حرمة مؤبدة وقيل كالطلقة البائنة يجوز له أن ينكحها إذا عاد وكذب نفسه وأقيم عليه الحد.
ولو لا ما حفكم من فضل اللّه ومزيد إحسانه الذي منشؤه الرحمة التي هي صفة(2/657)
ج 2 ، ص : 658
ذاتية للّه كتبها على نفسه ، وأنه هو التواب الذي يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات لو لا ذلك كله لكان ما كان مما لا يطاق ، ولا تحيط به العبارة.
حقا إن اللّه - سبحانه وتعالى - بما شرع من اللعان قد خلصنا من أزمات جسام! هب أن الرجل الحر فوجئ برجل على سريره يفعل المنكر فإن قتله قتل به أو ناله أذى على فعله شديد ، وإن سكت سكت على ما لا يطاق ، وإن تكلم ورمى زوجته بالزنى أقيم عليه الحد ، وردت شهادته بين المسلمين فماذا يكون إذا ؟
تفضل ربكم عليكم بتشريع يرفع هذا الحرج كله رحمة منه وفضلا فأباح للرجل أن يثبت قوله بشهادته أربع مرات على ما سبق بيانه ، ولم يهمل شأن المرأة فقد يكون للظن السيئ والغيرة الشديدة أثر كبير في رمى الزوجة بالزنى وهي بريئة ، ففتح لها باب الخلاص تدفع عن عرضها وشرفها وشرف قومها ، فشرع لها اللعان ، ورحمهما معا بالستر على الكاذب منهما في الدنيا ، وقد يتوب فتقبل توبته فينجو من عذاب الدنيا والآخرة ، فأى حكم أعدل وأرحم وأفضل من هذا ؟ !!! وروى في سبب نزولها : أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بشريك ابن سحماء فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : « البيّنة أو حدّ في ظهرك قال : يا رسول اللّه ، إذا رأى أحد رجلا على امرأته يلتمس البينة! فجعل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « البيّنة وإلّا حدّ في ظهرك » فقال هلال. والذي بعثك بالحق إنى لصادق ، ولينزلن اللّه في أمرى ما يبرئ ظهري من الحد فنزلت الآية
. وقيل إن القاذف لزوجته عويمر بن زيد لا هلال بن أمية.
وروى أن آية القذف لما نزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الآية وتناول ظاهرها الأزواج وغيرهم قال سعد بن معاذ : يا رسول اللّه إن وجدت مع امرأتى رجلا أمهله حتى آتى بأربعة! واللّه لأضربنه بالسيف غير مصفح عنه فقال رسول اللّه :
« أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير من سعد. واللّه أغير منّى »
ثم لم يمض يسير من الزمن حتى جاء هلال بن أمية ورمى زوجته بالزنى ، ونزلت الآية ..(2/658)
ج 2 ، ص : 659
قصة الإفك [سورة النور (24) : الآيات 11 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)(2/659)
ج 2 ، ص : 660
المفردات :
بِالْإِفْكِ الكذب البعيد عن الصدق عُصْبَةٌ جماعة من الأربعة فصاعدا لا تَحْسَبُوهُ لا تظنوه شَرًّا الشر ما زاد ضرره على نفعه والخير ما زاد نفعه على ضرره كِبْرَهُ وفي قراءة كبره - بالضم - وهو معظم الشيء أَفَضْتُمْ الإفاضة الخوض مع الإكثار كأنهم زادوا في حديثهم حتى فاض من جوانبهم كما يفيض الماء من إنائه تَلَقَّوْنَهُ تلقى الشيء استقباله والتهيؤ لأخذه ، والتلقف كالتلقى إلا أنه يلاحظ فيه معنى السرعة في الالتقاط هَيِّناً سهلا لا مؤاخذة فيه بُهْتانٌ كذب مختلق لا أساس له يفاجأ به الشخص ، ولم يكن يخطر له على بال فإن المرمى به يبهت ويدهش تَشِيعَ الْفاحِشَةُ تفشو وتظهر والفاحشة الفعل القبيح المفرط في القبح وقيل الفاحشة في هذه الآية القول السيئ خُطُواتِ الشَّيْطانِ المراد مسالكه ومذاهبه ووساوسه ، وواحد الخطوات خطوة وهو ما بين القدمين السَّعَةِ الغنى والثراء وَلا يَأْتَلِ لا يحلف من الألية وهي اليمين وَلْيَعْفُوا أى : يمحو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع.
سبب النزول : كان من عادته صلّى اللّه عليه وسلم إذا خرج إلى غزوة أقرع بين نسائه ، فمن خرجت قرعتها أخذها معه ، وفي عزوة بنى المصطلق في السنة السادسة للهجرة خرج ومعه عائشة وفي رجوعه إلى المدينة نزل منزلا مع القوم ثم أمر بالرحيل ، فسارت عائشة(2/660)
ج 2 ، ص : 661
لبعض شأنها بعيدا عن الجيش ثم عادت وتفقدت عقدا لها فلم تجده ، فعادت إلى مكانها في الخلا. تبحث عنه ، وفي هذه الأثناء رحل القوم ، وأتى الرجال إلى هودجها فحملوه ، وكانت فتاة صغيرة قليلة اللحم فلم يشعروا بفقدها وعند ما عادت ، لم تجد أحدا فنامت في مكانها وكان من عادة الجيش أن رجلا يتخلف ليأخذ ما ترك سهوا وكان هو صفوان بن المعطل السلمى ، فلما أدركها عرفها ، فأخذ يسترجع بعد أن أناخ راحلته بجوارها. فاستيقظت ، وركبت وقاد هو الراحلة ، وكانت آية الحجاب نزلت فلم يرها ، وأدرك القوم في المنزل الثاني ومر على قوم من الجيش فيهم عبد اللّه ابن أبى ابن سلول زعيم المنافقين فسأل عنها فقيل : إنها عائشة فقال كلمة الإفك وفتن بكلامه نفر من المؤمنين ، وبخاصة حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش.
وكان صفوان هذا من خيار الصحابة ، وشهد غزوات الرسول ، وقتل شهيدا في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في زمن عمر - رضي اللّه عنهم جميعا - .
وعقب رجوع الجيش من السفر مرضت عائشة شهرا في منزل الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ولم تدر ما يقول الأفاكون ، وهي تحدث نفسها وتقول : ما رابنى من رسول اللّه سوى أنى لم أر منه اللطف الذي اعتدته منه إذا كنت أشتكى ، فكان يدخل ويسلم ، ويقول :
كيف تيكم (و تى إشارة إلى المؤنث) ثم ينصرف ، فلما برئت عرفت ما قيل فمرضت ثانية بأشد من المرة الأولى ، فلما عادها رسول اللّه استأذنت منه في الانصراف إلى بيت أبيها فأذن لها ، فأتت أمها ، فاستيقنتها الخبر فقالت أمها : يا بنيّة هوّنى عليك فقلما كانت امرأة وضيئة ولها ضرائر إلا أكثرن عليها ، فقالت عائشة : سبحان اللّه!! ولقد تحدث الناس بهذا!! وملكها البكاء ليلتها لا يرقأ لها دمع ، ولا ترى النوم.
ولما شاع الخبر وذاع ، قام النبي صلّى اللّه عليه وسلم في المسجد خطيبا ، وقال : يا معشر المسلمين! من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي ؟ ! يريد بذلك عبد اللّه ابن أبى بن سلول. فو اللّه ما علمت على أهلى إلا خيرا.
وروى أنه دخل عليها صلّى اللّه عليه وسلم فقال. يا عائشة ، قد بلغني عنك كذا ، وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك اللّه ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري اللّه وتوبي إليه!! قالت عائشة : فلما قضى النبي مقالته تقلص دمعي من شدة الحزن والألم ، ثم قالت لأبيها :(2/661)
ج 2 ، ص : 662
أجب عنى رسول اللّه قال أبو بكر مقالة المؤمن باللّه لا يرهقه ولده طغيانا وكفرا قال.
واللّه ما أدرى ما أقول ، وقالت لأمها كذلك فأجابت بمثل جواب أبيها فقالت عائشة المؤمنة والواثقة في اللّه الذي يعلم السر وأخفى ، وهو الحكم العادل : واللّه لقد علمت أنكم سمعتم ذلك القول حتى استقر في نفوسكم ، ولئن قلت لكم إنى بريئة - واللّه يعلم أنى بريئة - لا تصدقوني ، وإن اعترفت لكم بما يعلم اللّه أنى بريئة منه لتصدقننى ، واللّه لا أجد لكم ولي مثلا إلا قول العبد الصالح أبى يوسف : فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ واضطجعت في فراشها وقالت عائشة : وأنا أعلم أن اللّه سيبرئنى
. ولكن ما كنت أظن أن سينزل في شأنى وحيا يتلى.
ولقد نزل الوحى على رسول اللّه ، وقلوب الناس تضطرب وبخاصة أبويها خوفا على عائشة ولكن عائشة واثقة من نفسها ، ومطمئنة إلى ربها ، نزل الوحى مبرئا عائشة مما رميت به وقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم أبشرى يا عائشة ، أما واللّه لقد برأك اللّه فقالت لأمها :
لا أقوم إليه
، ولا أحمد إلا اللّه الذي برأنى ، ونزلت الآيات العشر إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ إلى آخر الآيات.
كان مسطح قريب أبى بكر ، كانت أمه بنت خالة أبى بكر ، وكان ينفق عليه لفقره ، فلما وقع في حديث الإفك حلف ألا ينفق عليه فنزل قوله تعالى : وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى - إلى قوله : أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ.
المعنى :
إن الذين جاءوا بالإفك ، واختلقوا هذا الكذب البعيد عن الصدق جماعة صغيرة منكم تآمرت عليه ، واجتمعت حوله ، وأخذت تذيع الأراجيف فيه ، فلم يأت به جمهرة المسلمين وجماعتهم ، على أنهم فيكم ، ومعدودون منكم ، وهذا كله يجعلكم تهونون من شأن الحادثة. ولا تثور نفوسكم عليهم ثورة جامحة. فالمرء عادة عرضة لأن يصاب من أقاربه وأهل بيته وفي هذا سلوى للنبي صلّى اللّه عليه وسلم وآل بيته الكرام.
لا تحسبوا هذا الحدث شرا لكم بل هو خير لكم ، وأى خير ؟ !(2/662)
ج 2 ، ص : 663
إذ هو خير لعائشة حيث برئت منه في القرآن الكريم فكانت كمريم البتول وأصبح التصديق ببراءتها جزءا من إيمان كل مؤمن ، وكل من شك فيه كفر.
وبعد أن بين أن فيه خيرا لا شرا أتبع ذلك بأن لكل امرئ منهم جزاء ما اكتسب من الإثم ، والذي تولى كبره منهم وقاد هذه الحملة ، وهو عبد اللّه بن أبى بن سلول ، له عذاب عظيم من اللّه ، وفي هذا تطمين لنفوسهم ، فقد بان خيرهم ، وانتقم لهم ممن آذاهم.
وهذا عتاب للمسلمين ، وتربية لهم وتنبيه ، حيث كان الواجب عليهم وقت أن سمعوا تلك المقالة الشنيعة أن يقيسوا الأمور بمقياس صحيح على أنفسهم فإذا كان مثل هذا بعيدا على المؤمن الذي عمر الإيمان قلبه من رجل وامرأة ، أفلا يكون بعيدا بل مستحيلا على أمثال عائشة وصفوان ؟ !! فإذا قسنا هذا بقياس الإيمان أنتج هذه النتيجة ، وهذا هو سر قوله تعالى : لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ.
وفي هذا بيان لموضع الإيمان من نفوس المؤمنين ، وأنه مقياس صحيح ، وأن المسلمين جميعا سواء ، كان الواجب ألا يكتفوا بالظن الحسن في نفوسهم بل يقولون : هذا إفك وكذب ظاهر بين ، فمن المستحيل أن تكون زوجة النبي زانية فإن الزنى أكبر عارا ، وأشد حقارة من الكفر ، ولقد صدر هذا الإفك من قوم عرفوا بالنفاق والكذب والزور ، وكيف يتصور حصول هذا ، فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند اللّه وعند الناس جميعا كاذبون!! ولو لا فضل اللّه عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة ، بأن أمهلكم للتوبة في الدنيا وأرشدكم إلى الطريق ، وفي الآخرة حيث قبل منكم التوبة ، وأثابكم على امتثال الأمر.
ولو لا هذا الفضل وتلك الرحمة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم ، وقد أفاضوا في حديث الإفك ، وأكثروا من الكلام فيه حتى فاض من جوانبهم كما يفيض الماء من الإناء والخطاب لجميع المسلمين ، ومنهم ابن أبى ، ولكنه ضيع الفضل والرحمة في الدنيا والآخرة لإصراره على الكلام ، ووقوفه عند دعواه الباطلة لذلك مسه العذاب في الدنيا والآخرة.(2/663)
ج 2 ، ص : 664
ولو لا فضل اللّه عليكم وتوفيقه لكم ، ورحمته بكم لمسكم بسبب ما أفضتم فيه من حديث الإفك عذاب عظيم وقت تلقفكم له بألسنتكم ، فقد كانوا يتلاقون مع بعض ، ويستثير أحدهم الآخر بسؤاله : ما وراءك ؟ ليتكلم ويفيض في الإفك ، ويتلقى القول منه ، ويجتذبه بلسانه ، لا أنه مجرد سماع عفوا ، ولعل هذا السر في التقييد بقوله :
بِأَلْسِنَتِكُمْ نعم وكانوا يقولون هذا بملء أفواههم غير ملقين له بالا ، ولا مقدرين له خطرا ويقولون بأفواههم ما ليس له في قلوبهم حجة ولا برهان ، وتحسبونه هينا سهلا لا جرم فيه ، وهو عند اللّه عظيم ، وكيف لا يكون كبيرا وعظيما ، وفيه رمى بيت النبوة بالزنى ، وتدنيس فراش النبي بأقبح القاذورات ، ترى أن اللّه عاتبهم على ثلاثة أمور :
(أ) تلقى ذلك بالسؤال عنه واستثارة المخاطب ليتكلم فيه.
(ب) قالوا بلا علم ولا دليل.
(ج) استهانوا بما صدر منهم ، ولم يتبعوه باستغفار ولا استنكار!! ولو لا قلتم أيها المسلمون حين سمعتم هذا الخبيث من الكلام : ما يكون لنا أن نتكلم بهذا ، ولا ينبغي أن نخوض في عرض النبي صلّى اللّه عليه وسلم بلا علم ولا حجة أبدا.
بل وتقولون : سبحانك يا رب وتنزيها لك وتقديسا أن ترضى لأكرم خلقك وأشرف الناس عندك أن يحل بأقرب الخلق إليه وألصقهم به تلك النقيصة وهذه الفاحشة سبحانك!! يا رب سبحانك!! هذا بهتان عظيم واختلاق أثيم يبهت له الإنسان ويدهش!! وقد روى أن بعض الصحابة قال ذلك حين سمع هذا.
وكل ما مضى من التسلية والتربية والتوجيه ليس الغرض منه التقريع والتوبيخ بل القصد هو أن يعظكم به ويرشدكم حتى لا تعودوا لمثله أبدا ، إن كنتم مؤمنين ، فهذا العمل وأمثاله يتنافى مع أصل الإيمان وحقيقته ، ويبين اللّه لكم الآيات واللّه عليم بخلقه وبأحوالهم الخاصة والعامة السرية والجهرية حكيم يضع الأمور في نصابها.
وهذا نوع آخر لبيان جرم الوقوع في الأعراض ، وإشاعة أخبار الزنى والفاحشة(2/664)
ج 2 ، ص : 665
بين الناس ، والناس يحسبون هذا هينا لأنه كلام باللسان لا أذى باليد والسنان ، وما علموا أن جرح اللسان قد يكون أشد من جرح السيف والسنان.
إن الذين يحبون أن تشيع وتنتشر الفاحشة وأخبارها بين الناس ، لهم عذاب مؤلم في الدنيا والآخرة ، وإذا كان الهم بالمعصية ثم تركها لا عقوبة عليه ، فما بال حب ذكر الفاحشة! عليه هذا العقاب! ؟ ولعل في ذكر حب الفاحشة إشارة إلى أن هذا داء قلبي يصاب به من يريد التعالي على الناس وهو يحسدهم على ما آتاهم ربهم فتراه يحب من صميم قلبه أن يجرح كرامتهم وأن يقع في أعراضهم ظنّا منه أن هذا شرف له ، وقد كان هذا مع ابن أبى ورسول اللّه ، وهو كذلك مع كل إنسان يتكلم في الأعراض ولا تنس أن الآية تشير إلى أن حب إشاعة الفاحشة كاف في لحوق العذاب فما بال من يشيع بالفعل ؟ ! ولعل المراد أن الذين يحبون أن تشيع أخبار الفاحشة ، ولكن الآية تقول : يحبون أن تشيع الفاحشة نفسها لأن إشاعة الخبر يقتضى إشاعة الفاحشة نفسها ألا تراك تمتنع مع ذكر أخبار الفاحشة أمام أولادك لاعتقادك أن في هذا خطرا عليهم ، ومن الحقائق المعلومة أن ذكر الفاحشة وأخبارها مما يقرب الشخص إليها حتى يقع فيها.
هؤلاء الذين أذاعوا أخبار الفاحشة في بيت النبوة لهم عذاب أليم في الدنيا بالحد والإهانة من الناس ، ألم تعلم أن من يتكلم في أعراض الناس لا بد أن يتكلم الناس في عرضه ؟ فمن غربل الناس نخلوه ، ومن لا يتق الشتم يشتم ، ولهم في الآخرة عذاب شديد.
وانظر إلى التعبير بالفاحشة عن الزنى فإنه أفحش الفواحش لما يلحق صاحبه من المهانة وتنكيس الرأس ، واللّه يعلم هذا وأكثر منه وأنتم لا تعلمون الخطر في أعمالكم فمن الخير لكم أن تمتثلوا أمر اللّه ، وإن الزمن يثبت هذا.
ولو لا فضل اللّه عليكم ورحمته حيث أمركم بالخير ، وهداكم إلى الطريق الحق ، ونهاكم عما يقطع أوصالكم ، ويزرع الضغينة في نفوسكم ، وكفى شرّا أنه من دواعي الوقوع في نفس الفاحشة ، والتكلم في العرض وبخاصة مثل هذه الحادثة فإنها تتعلق ببيت النبوة الذين هم أئمة يقلدون ، حقّا لو لا فضل اللّه ورحمته وأنه رءوف رحيم حيث بين لنا خطر هذا الفعل الشنيع ، لو لا هذا لوقعتم في المهالك ، ولضلت بكم السبل فالحمد للّه الذي هدانا لهذا.(2/665)
ج 2 ، ص : 666
وهذا تحذير من الشيطان ووسوسته بعد تحذيرنا من النفس الأمارة بالسوء التي تحب دائما إذاعة الفاحشة فإن المعاصي تقع دائما من قائد يأمر بالسوء وهو الشيطان ونفس مدفوعة إلى الشر بطبعها.
يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومسالكه فإنه يأمركم بالفحشاء والمنكر ويدعوكم دائما إلى كل ضار في دينكم ودنياكم الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا [سورة البقرة آية 268].
والشيطان يوسوس للنفوس الضعيفة ، ويزين لها الوقوع في المعاصي ، عن طريق التدرج خطوة فخطوة حتى يتم له ما أراد ، وإن خطوات الشيطان تكون فيما نحقر من أعمالنا « ولكنها تجرنا إلى المهالك » .
فأعظم حادثة أو أكبر فاحشة لا تقع دفعة واحدة ، ولكن لها خطوات يضعها الشيطان حتى يتم له ما أراد. نظرة ... فكلام ... فموعد ... فلقاء .. فوقوع في المهالك ... وهكذا.
يحكى أن عابدا في صومعته كان بجواره رجلان لهما أخت ، فسافرا لأمر ، وتركا أختهما في حراسة العابد ، فكان كل يوم يضع لها الطعام أمام باب الصومعة لتأخذه فوسوس له الشيطان أن يضع الطعام على باب بيتها بحجة أنها لا تتجشم مشقة التعب والحضور إليه ، ثم انتقل إلى خطوة أخرى ، وهي أن يزيدها إكراما فيطلبها لتأخذ الطعام ، ثم انتقل إلى خطوة ثالثة ورأى من وسوسة الشيطان أن المرأة في طول مقامها منفردة تلقى مشقة وتعبا فقد يكون من الخير لها أن تجلس معه ليسرى عنها بالتحدث إليه فترة وجيزة ففعل ، وهنا ينطبق
الحديث « ما اجتمع رجل بامرأة إلّا وكان الشّيطان ثالثهما »
، فلما اجتمعا وقعا في التهلكة ، لأن العابد مهما كان فهو رجل ، والمرأة مهما كانت فهي أنثى ، وفيها الغريزة الجنسية! فأنت ترى أن الشيطان جاءهما من طريق مؤثر ، وهو في الظاهر خير ، فحقّا لا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه للإنسان عدو مبين.
أبعد هذا يتوانى المسلمون في فهم الحقائق البشرية ، وتطبيق قواعد الدين ؟ ! ومن العجب أن ينادى بعض المسلمين بالاختلاط بين الجنسين ، ويجره الشيطان إلى هذا بحجة أن الاختلاط يمنع الوقوع في المعصية ، وما علم أن الطبيعة البشرية أقوى ، ولا يعدلها(2/666)
ج 2 ، ص : 667
ويخفف من حدتها ، ويوجهها إلى الوجهة العليا إلا الخوف من اللّه ، وتلاوة القرآن ومدارسة الحديث ، ومجالسة العلماء ، والانضمام إلى الجمعيات الدينية حتى يشغل فراغه ويصرف وقته في النافع ، وإن أساس الوقوع في المعصية هو الشباب والفراغ والمال فإذا أمكننا صرف الشباب إلى الوجهة النافعة ، وشغل وقتهم وفراغهم بالهوايات الصالحة النافعة كالرياضة البدنية وغيرها توصلنا بهذا إلى التقليل من وقوع الجرائم الجنسية. والنبي صلّى اللّه عليه وسلم قد عالج هذا الموضوع
بقوله « يا معشر الشّباب من استطاع منكم الباءة - أى :
النكاح - فليتزوّج وإلّا فعليه بالصّوم فإنّه له وجاء »
ولا شك أن في الصوم جنة ، ورياضة روحية ، وإضعافا للقوة الجسمية.
يا جماعة المسلمين : لو لا فضل اللّه عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا وكيف يسير الإنسان على الصراط المستقيم ، وهو بين قائد ضال ودافع أضل ؟ ولكن اللّه يزكى من يشاء ، ويهدى إليه من ينيب ، واللّه سميع عليم ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ، وهو يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون.
أليس في هذا خير لنا وهداية ؟ نسأله التوفيق والسداد.
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أى : لا يحلف أصحاب الغنى والجاه أن يؤتوا أولى القربى والمساكين مما أعطاهم اللّه من خيره جزاء ما اشتركوا في إثم الإفك ، وهذا نهى لأبى بكر حتى لا يمنع مسطحا من النفقة التي كان يجريها ، وهكذا كل مسلم.
وليعفوا عن السيئات ، وليصفحوا عن العصاة والمذنبين ، ألا تحبون أن يغفر اللّه لكم ؟ وهذا تمثيل أى كما تحبون أن يغفر اللّه لكم ، فاغفروا أنتم لمن دونكم
« من لا يرحم لا يرحم »
واللّه سبحانه كثير المغفرة والرحمة فاقتدوا به واعملوا بما أمر فهو خير لكم.
نهاية القصة [سورة النور (24) : الآيات 23 الى 26]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)(2/667)
ج 2 ، ص : 668
المفردات :
لُعِنُوا طردوا من الرحمة دِينَهُمُ المراد جزاءهم مُبَرَّؤُنَ منزهون وهذا بعد الكلام الخاص في العفو والصفح عن بعض من خاض في الإفك كالدليل على أن هذا الجرم شديد وجزاؤه عظيم.
المعنى :
إن الذين يرمون المحصنات العفيفات الغافلات البعيدات عن التفكير في المعاصي والفواحش المؤمنات الصادقات هؤلاء لعنوا في الدنيا ولعنوا في الآخرة ، ولهم عذاب عظيم هوله شديد وقعه.
ومن المعلوم أن هذا الحكم - مع من يرمى المحصن الغافل المؤمن - كذلك وإنما تخصيصهن بالذكر ، لأنه الكثير الغالب ، وأن رمى النساء بالإفك أكبر إساءة لهن ، وهذا هو الموافق لحديث الإفك.
ولا شك أن القذف بالزنا كالرمى بالحجارة التي تصيب كل من يصادفها بلا تفريق بين أب أو زوج أو أخ أو قريب.
والإحصان والغفلة والإيمان حواجز وموانع كان الواجب أن تمنع القذف وهي كالسبب المقتضى لذلك الجزاء الشديد لمن يقذف المحصنات.
وهؤلاء القذفة وبخاصة من قذف السيدة عائشة ملعونون على لسان الملائكة والمؤمنون إلى يوم القيامة ، ومطرودون من رحمة اللّه في الدنيا حيث استحق الحد والتعذيب ،(2/668)
ج 2 ، ص : 669
ولعن في الآخرة حيث استحق العذاب الشديد وعظم العذاب بقدر عظيم الجرائم ، ومن يقذف بالفاحشة بريئا فقد أقض مضاجع ، ونال من كرامات وثلم من شرف ، وآذى من أبرياء ، فهو يستحق هذا العذاب ، وإن اللّه لا يظلم الناس شيئا ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون ، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.
نعم هم يستحقون ذلك العذاب يوم تشهد عليهم ألسنتهم.
ولعل هؤلاء الناس يوم القيامة يحاولون الإنكار والتنصل فيمنعهم اللّه من الإنكار ، ثم ينطق ألسنتهم ، وأيديهم ، وأرجلهم بما اقترفوا قطعا لعذرهم. وتنكيلا بهم. كل ذلك بسبب ما كانوا يعملون ، يومئذ يوفيهم اللّه دينهم الحق ، ويعطيهم جزاءهم كاملا عادلا لا يزيد على جريرتهم ولا ينقص.
ويومئذ يرون أن كل ما وعد به الرسل ، وما وصفوا به من عذاب العصاة وثواب الطائعين كله حق ولا شك فيه ولا مرية وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ وهل هذه الآية عامة في كل محصنة غافلة مؤمنة ؟ وإن كان سبب النزول قصة عائشة ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. أم هو خاص بعائشة - رضي اللّه عنها - نظرا إلى شدة الوعيد وعدم ذكر التوبة ، وقيل إن الآية خاصة بكفار قريش إذ كانوا يرمون المؤمنات المهاجرات بأنهن هاجرن للفجور.
والظاهر واللّه أعلم أنها عامة في محصنة غافلة مؤمنة ، والسيدة عائشة وأمهات المؤمنين داخلات فيها دخولا أوليّا ، وعظم الجزاء لعظم الجرم ، وعدم ذكر التوبة لا يمنع من قبولها فبابها مفتوح حتى للكفار.
كيف ترمون بيت النبوة بهذا الإفك ؟ !! أو ما علمتم أن الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء ، وهذا حكم غالبى فالخبيث يكون للخبيثة ، ولا يصح أن يتخلف هذا الحكم في أشرف بيت ومع أكرم خلق اللّه على اللّه.
والطيبات من النساء كالسيدة عائشة وغيرها من أمهات المؤمنين للطيبين من الرجال فاللّه يختار لكل فئة ما يناسبها ويليق بها ، فلا يمكن أن يختار أخبث الخبيثات لأطيب الطيبين ، وهذا قريب مما سبق في قوله : الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وعند بعضهم أن المراد الخبيثات والطيبات من الكلام(2/669)
ج 2 ، ص : 670 للخبيثين والطيبين من الرجال والنساء ، على معنى أن خبيث القول إنما يوجه للخبيث من الناس ، والخبيث من الناس هو المستحق للخبيث من الكلام.
أولئك المذكورون من الطيبين والطيبات مبرأون مما يقول الخبيثون والخبيثات. وكلا المعنيين مروى عن ابن عباس.
والرأى الأول هو الظاهر واللّه أعلم.
الاستئذان وآدابه [سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)
المفردات :
بُيُوتاً جمع بيت وهو المسكن لأن المرء يأوى عادة إلى مسكنه ليلا تَسْتَأْنِسُوا المراد تستأذنوا لأن من دخل بيتا غير بيته تلازمه الوحشة حتى يؤذن له لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أى لا حرج ولا إثم.
وهذا حكم آخر يتعلق بالأسرة والبيوت ، وهو مناسب لأصل الموضوع الأول ، ومن دواعي البعد عن الريبة والظن والوقوع في الزنى ، وأسس الآداب والمدنية والإنسانية.(2/670)
ج 2 ، ص : 671
المعنى :
يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان ، اعلموا أنه يدعوكم إلى الفضيلة والآداب ، ويرشدكم إلى أنكم لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم ، أى ليس لكم فيها حق السكنى والمنفعة « وإن كانت ملكا لكم ، لا تدخلوا حتى تستأنسوا وتستأذنوا ، ولا شك أن الإذن يذهب الوحشة ، ولذا سمى الإذن أنسا ، بدليل قوله تعالى : فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ.
والاستئذان يكون بقرع الباب ، أو النداء لمن في البيت ، أو التسبيح والتحميد أو صريح الاستئذان وغير ذلك.
ومنع الدخول قبل الاستئذان عام في الرجال والنساء ، مع المحارم وغير المحارم إذ كل إنسان له حالات لا يحب أن يطلع عليها أحد ، ولو كان والدا أو ولدا ، و
لقد قال رجل للنبي صلّى اللّه عليه وسلم : أأستأذن يا رسول اللّه على أمى ؟ قال النبي « نعم » قال : ليس لها خادم غيرى أأستأذن عليها ؟ قال « أتحبّ أن تراها عريانة ؟ » قال : لا. قال :
« فاستأذن عليها » .
حتى تستأنسوا ، وتسلموا على أهلها أى : على من فيها ، وظاهر الآية أن الاستئذان يحصل ثم السلام ، وبعضهم يرى العكس ، والبعض يرى أنه إذا رأى أحدا في الدار سلم أولا ثم استأذن : فإن لم ير استأذن أولا.
ذلكم خير لكم وأفضل ، فإنه أغض للبصر ، وأحفظ للسر ، وأدعى إلى احترام البيوت والحرمات ، ولا تظنوا أن في الاستئذان مذلة ، بل هو خير لكم وأزكى ، لعلكم تذكرون ذلك فتعملوا بمقتضاه.
ولا مانع من جعل حجرات الموظفين كالبيوت يحسن الاستئذان عند دخولها فلربما كان الموظف في شغل شاغل ، أو عنده شخص في مصلحة لا يحب أن يطلع عليها أحد ، وهذا بلا شك أحفظ للوقت ، وأدعى إلى العمل والجد.
فإن لم تجدوا فيها أحدا من ساكنيها فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم ، وهذا تعبير دقيق يشير إلى معنى أدق ، فربما كان في البيت صاحبه ، ولم يرد عليك ولم يأذن لك فيصدق على المستأذن أنه لم يجد أحدا في البيت.(2/671)
ج 2 ، ص : 672
وإن قيل لكم ارجعوا ، ولا تدخلوا ، فارجعوا وامتثلوا أمر صاحب البيت فهذا حقه وهو حر فيه ، والرجوع أزكى وأطهر ، واللّه بما تعملون عليم ومحيط.
وقد يكون في البيت ما يدعو إلى الدخول بلا إذن كحريق أو حادث أو استغاثة مثلا وهنا تدخل بلا إذن. ولا حرج عليك.
ليس عليكم جناح ولا إثم في أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة ، وفيها متاع لكم كالحوانيت ومحال البيع والشراء ، وقد روى أن أبا بكر - رضى اللّه عنه - لما نزلت آية الاستئذان قال : يا رسول اللّه فكيف يعمل تجار قريش الذين يختلفون من مكة والمدينة والشام ، ولهم بيوت معلومة على الطريق فكيف يستأذنون ويسلمون ؟ وليس فيها سكان ؟ فنزل قوله تعالى : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ الآية.
والمعنى : أن البيوت العامة كالمقاهى والبيوت التجارية ما دامت مفتوحة فلا استئذان في دخولها.
وهل بيت الإنسان الخاص الذي فيه أهل بيته يستأذن أم يكفى السلام فقط والإشعار بالحضور بأى شيء ، الظاهر أن هذا يكفى.
واللّه يعلم ما تبدون وما تكتمون ، فإن إباحة الدخول في الأماكن العامة لغرض ، أو في البيوت الخاصة مثلا قد يتخذه بعض الناس لغرض آخر سيّئ فجاء قوله تعالى :
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ ليذكرهم بأن اللّه يعلم ، وأنتم لا تعلمون وهو يعلم السر وأخفى.
ومن الآداب أنك عند زيارتك لإنسان ، ووجدت الباب مفتوحا ، أن تقف بحيث لا تطلع على شيء في البيت ، فقد روى علماؤنا عن عمر بن الخطاب أنه قال : من ملأ عينيه من قاعة بيت فقد فسق وروى في الصحيح عن سهل بن سعد أن رجلا اطلع في حجر في باب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ومع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مدرى يرجل به رأسه فقال له الرسول : « لو علمت أنّك تنظر لطعنت به في عينك ، إنّما جعل اللّه الإذن من أجل البصر » .(2/672)
ج 2 ، ص : 673
آية الحجاب [سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
المفردات :
يَغُضُّوا غض البصر كفه يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ يظهرن مواضع الزنية بِخُمُرِهِنَّ جمع خمار وهو ما يستر الرأس جُيُوبِهِنَّ جمع جيب وهو فتحة في أعلى الجلباب يبدو منها بعض الصدر لِبُعُولَتِهِنَّ هم الأزواج الْإِرْبَةِ الحاجة يَظْهَرُوا يعرفوا ويطلعوا على عورات النساء.
وهذا حكم آخر من الأحكام التي تحفظ العرض ، ويصان النسب ، وتمنع الفحشاء ،(2/673)
ج 2 ، ص : 674
وببعد الزنى ، فالإذن قبل الدخول ، والحجاب وعدم النظر ومنع الاختلاط مما يباعد بلا شك بين الشخص وبين الخطر.
المعنى :
قل يا محمد ، وكذا كل رئيس للمؤمنين أو إمام لهم ، قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ، ويكفوها عن النظر إلى الأجنبيات غير المحارم ، ويحفظوا فروجهم من كل منكر كالنظر واللمس والزنى ، وانظر إلى قوله - تعالى - وقد قدم تحريم النظر على حفظ الفروج التي هي المقصود الأساسى من الكلام ليعلم الناس جميعا ما للنظر من خطر وأثر ، وأنه رسول الشهوة : وبريد الزنى ، وبذرة الفسق والفجور.
وخص المؤمنين بالذكر لأنهم الممتثلون المنتفعون بهذا. ذلك أزكى لهم وأطهر ، وأبعد عن الشك وأنفى للريبة ، وأبقى للنفس طاهرة زكية بعيدة عن الخطر. واعلموا أيها الناس أن اللّه خبير بما تصنعون ، فراقبوا اللّه واتقوا عذابه ، واعلموا أنه يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ، واللّه يعلم ما تبدون وما تكتمون.
وكل أمر في القرآن للمؤمنين فهو كذلك للمؤمنات ، ولكنه أعيد الحكم هنا مع المؤمنات لأن النساء في أشد الحاجة إلى ذلك ، على أن الحكم من أخطر الأحكام التي تقتضي التفصيل والبيان.
وقل : أيها القائد والمربى والمشرف على المؤمنات وتربيتهن والإرعاء عليهن سواء كنت حاكما أو زوجا أو معلما قل لهن يغضضن من أبصارهن ، ويمنعن بعض أبصارهن عن النظر أما النظر جملة فمنعه شاق وعسير ، ولقد صدق رسول اللّه حيث يقول : « لك الأولى وعليك الثّانية » أى لك النظرة الأولى دون الثانية ، فالمنهى عنه النظر الذي يتجاوز الحد المعروف شرعا.
وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ، ويحفظن فروجهن ، ولا يبدين مواضع الزينة منهن ، وإنما نهى القرآن عن الزينة والمراد مواضعها للمبالغة في المنع ، إلا ما جرت به العادة بكشفه لاقتضاء الضرورة ذلك كالوجه والكفين ، لأنه لا غنى عن كشفهما.
وقد كانت العادة المتفشية في الجاهلية أن تكشف المرأة عن نحرها وصدرها وللأسف(2/674)
ج 2 ، ص : 675
أصبحت هذه العادة متفشية في مجتمعنا الحاضر - ولذا خصها اللّه بالذكر وإن كان في الحكم السابق يشملهما لاقتلاع تلك العادة السيئة التي يقع فيها كثير من الناس.
وكان قوله تعالى : وَلْيَضْرِبْنَ للإشارة إلى معنى الإلصاق والملازمة التي لا تنفك كضرب الخيمة في المكان.
وقوله تعالى : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ، زيادة التقرير والتأكيد وتوطئة للاستثناء الآتي ، فليس تكرارا لما مضى.
وها هم أولاء الذين استثناهم اللّه فجاز أن تكشف المرأة زينتها لهم فيما عدا السرة والركبة فكأن اللّه يقول : ولا يبدين زينتهن لأحد إلا لبعولتهن الآية.
1 - الأزواج لأنهن أحق الناس بألا يستر عنهم شيء ، ولأنه يباح لهم النظر إلى جميع البدن ما عدا الفرج ، وكذلك الاستمتاع بكل أنواعه الحلال ولذا قدمهم على غيرهم.
2 - آباؤهن : وكذا الأجداد ، سواء كانوا لأب أو لأم.
3 - أبناء بعولتهن. سواء كانوا ذكورا. أو إناثا.
4 - الإخوة : الأشقاء أو لأب ، أو لأم.
5 - أبناء الإخوة : كذلك ، ويلحق بهؤلاء المذكورين الأعمام والأخوال وهذا الحكم يجرى في الأقارب من جهة النسب كما تقدم ، وفي الأقارب من جهة الرضاع وهؤلاء يسمون المحارم.
وقوله تعالى : أو نسائهن أى الحرائر من المسلمات ، أما الإماء فسيأتى حكمهن ، وأما المرأة الكافرة فهي من المسلمة كالأجنبى ، وقيل كالمسلمة.
أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ظاهر الآية يشمل العبيد والإماء المسلمات والكتابيات ، وهو رأى لبعضهم ، وقال ابن عباس لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته ، وقال سعيد بن المسيب : لا تغرنكم هذه الآية أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ إنما عنى بها الإماء ولم يعن بها العبيد ، وكان الشعبي يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ وقد اختلف العلماء في المراد بهذه الآية فقيل : هم المسنون الضعفة الذين يتبعون الناس ليصيبوا من فضل طعامهم ، أو هم البله الذين لا يفهمون من أمور(2/675)
ج 2 ، ص : 676
النساء شيئا ، أو هو العنين أو الممسوخ ، وهذا الاختلاف كله متقارب المعنى لا فهم له ولا اتجاه عنده إلى أمر النساء.
أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ والمراد الأطفال الذين لم يفهموا عورات النساء ، ولم تظهر فيهم الغريزة الجنسية لصغر سنهم ، وإنما يكون هذا دون البلوغ.
وفي النهاية ختم الآية بقوله : وإياكم أيها النساء أن تضربن بأرجلكن ليعلم ما تخفين من الزينة ، والمعنى عليكم ألا تظهروا ما خفى من مواضع الزينة فيكن ، وهذه نصيحة قرآنية للنساء خالصة لهن خاصة بهن ، فإن بروز المرأة من خدرها ، وإظهار ما خفى من زينتها ، وعرضها جمالها وجلالها في السوق والشارع كان له عميق الأثر من انصراف الشباب عن الزواج ، فلقد صدق من يقول : أحب شيء إلى الإنسان ما منع.
ولسنا نقول : إن المرأة يجب أن تكون في السجن ، لا ، بل نقول لها اخرجى وتعلمي ، واقضى حاجتك ، ولكن نطالبها بالعفة ونطالبها بالمحافظة على نفسها ، ونلح عليها في ألا تبرز زينتها ، وألا تعرض نفسها على الناس فيقل طلبها واحترامها والنظر إليها.
وتوبوا أيها الناس جميعا مما تلمون به من نظر أو كلام أو اجتماع ، توبوا إلى اللّه وارجعوا إليه لعلكم تفلحون ، وهذا ختام جميل ، وتذييل دقيق المعنى.
ويحسن أن نذكر العورة عند الرجل والمرأة باختصار فنقول : عورة الرجل ما بين سرته وركبتيه بالنسبة للرجال والنساء المحرمات عليه ، وهي كذلك في الصلاة وعورة المرأة في الصلاة كل بدنها إلا وجهها وكفيها ، وهي كلها عورة بالنسبة للرجال الأجانب وبعضهم يقول : كلها إلا الوجه والكفين ما لم تخف للفتنة. أما المحارم فما بين السرة والركبة ، وأما مع الزوج فلا عورة معه أبدا ، ويحرم النظر إلى الفرج خاصة من كل منهما ، والأمة عورتها كالرجل ما بين السرة والركبة.
من علاج أزمة الزواج [سورة النور (24) : الآيات 32 الى 34]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)(2/676)
ج 2 ، ص : 677
المفردات :
الْأَيامى جمع أيم وهو من لا زوج له ذكرا كان أو أنثى ، سبق زواج أم لا ، وقيل من فقد زوجه بموت أو طلاق فلا يقال للبكر أيم ، وقيل : هذا اللفظ خاص بالأنثى الْكِتابَ والمكاتبة هي عقد بين المالك وعبده على أن يؤدى مالا لسيده فيعتق على هذا المال الْبِغاءِ هو زنى النساء خاصة.
المعنى :
ما مضى في حكم الزنى وفظاعته ، وأنه سبة تقتضي عقابا خاصا لمن يسب بها مسلما بدون شهود على فعله ، ثم جاءت قصة الإفك ، وما فيها من آيات ومواعظ وحكم ومنافع ، ثم كان الكلام على الإذن قبل الدخول ، وعلى غض البصر كل ذلك لأجل البعد عن الزنى الذي هو من أكبر الفواحش والآثام ، وبعد ذلك كان العلاج لهذا الداء الوبيل والخطر الجسيم ، وهذا العلاج هو النكاح أى : الزواج الذي هو حرز لنصف(2/677)
ج 2 ، ص : 678
الدين وتنفيس شرعي اجتماعي للغريزة الجنسية ، وفي هذه الآيات علاج لأزمة الزواج وقطع لعلل بعض الناس.
وأنكحوا أيها الأولياء ، والسادة للعبيد ، أو هو أمر موجه للأمة جميعا بمعنى التعاون وإزالة العقبات حتى يتم على أكمل صورة ، وهل هو أمر للوجوب ؟ الظاهر أنه أمر لمطلق الطلب لا للوجوب ، إذا لم يقل أحد أن السيد واجب عليه أن يزوج عبده.
أيها الأولياء والسادة زوجوا من لا زوج له من الأحرار أو الحرائر ، وكذا زوجوا الصالحين من عبيدكم وإمائكم ، والمراد بالصالحين هم القائمون بحقوق الشرع الواجبة عليهم من امتثال الأوامر واجتناب النواهي ولا تنظروا إلى المال.
وإنما خص الصالحين من العبيد دون الأحرار ، لأن الصالح من العبيد هو الذي يستحق أن يطلب من سيده وأن يجاب إلى طلبه.
وأما الأيامى من الأحرار فنفقاتهم على أنفسهم فالترغيب في زواجهم محمول على الإطلاق بدون شرط.
ولكن نرى كثيرا من الشباب يتعلل بالفقر ، ويقول : كيف أتزوج وأنا فقير فيرد اللّه على هؤلاء بقوله : إن يكونوا فقراء يغنهم اللّه من فضله ، فالغنى والفقر بيد اللّه لا بيد مخلوق ، وكما أعطاكم ورزقكم متفرقين يعطيكم مجتمعين بالزواج. على أن الزواج قد يكون مدعاة للغنى فالشعور بالمسئولية ، وحث الزوجة زوجها على العمل ، وأنه صار صاحب بيت وأسرة ، وقد تعلق به من هو في حاجة إليه ، وقد يصير ذا أولاد بعد زمن ، كل ذلك يدفع الرجل إلى العمل والجد والاجتهاد ، وهذا يحصل الغنى ، وبهذا يتحقق وعد اللّه ، والواقع يؤيد ذلك غالبا.
واللّه واسع الفضل ، عليم بالخلق يعطى كما يشاء ويعلم ، فقد يتزوج الشخص ثم يظل فقيرا فلا يغتر إنسان بأن الزواج باب موصل مضمون للغنى ، وإنما هو مظنة فقط ، أو على الأقل هو إزاحة للتعليل الذي يتعلل به البعض.
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً أى : ليعمل من لا يجد وسائل الزواج الموصلة إليه على العفة وضبط النفس وعدم الاسترسال في طريق الشهوات والبعد عما يثير الغرائز الجنسية كالاختلاط بالنساء والجلوس إليهن ، والتعفف يدخل فيه تقوية الناحية الروحية بقراءة القرآن والصلاة والذكر ومجالسة أهل العلم والجلوس مع الصالحين(2/678)
ج 2 ، ص : 679
والاشتغال بما يفيد الدين ويغرس الخلق الفاضل ، والتعفف يكون كذلك بإضعاف الناحية البدنية من شغل الجسم بالأعمال الشاقة والرياضة البدنية العنيفة والاشتغال بالهوايات التي يهواها الشخص أيا كانت بشرط أن تكون حلالا.
ولقد جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم العلاج
بقوله : « يا معشر الشّباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج ومن لم يستطع فعليه بالصّوم فإنّه له وجاء »
والصوم علاج روحي وجسمي وحذار أيها المسلمون من الاندفاع مع دعاة الشر وأتباع الشياطين الذين ينادون بأن الكبت ضار وأن التحلل علاج - وقانا اللّه شرهم - :
وهذا أمر يتعلق بالنكاح أيضا وخاصة الأرقاء فقد يكون الرقيق كبير النفس واسع العقل كبير الهمة فيريد أن يشترى نفسه من سيده بمال ليكون حرّا وهذا غالبا يكون عند شعوره بالحاجة إلى الزواج ذكرا أو أنثى حتى يكون له بيت أو أولاد ويظهر واللّه أعلم أن هذا هو السر في وضع تلك الآية هنا.
والشرع لا يدع فرصة تمر إلا وهو يدعو بإلحاح إلى العتق ، وإلى الحرية والذين يبتغون الكتاب والمكاتبة ، ويتعاقدون مع سيدهم على إعطائه جزءا من مال منجما على أوقات ، فإذا ما وفي صار حرّا ، إن حصل هذا فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ، واستعدادا طيبا للوفاء ، وآتوهم من مال اللّه الذي آتاكم ، وأنفقوا عليهم مما جعلكم مستخلفين فيه ، ولا تبخلوا عليهم أبدا ، ولحرص الشارع على الحرية ، وتحرير الرقاب أمر أن يعطى المكاتب ما لا يستعين به على أداء ما عليه من أقساط ، وجعل له حقّا في الصدقات إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ، وَفِي الرِّقابِ [سورة التوبة آية 60] أى فك الرقاب.
وهذا علاج آخر لمرض كان شائعا مبعثه حب المال والتحكم في الرقيق ، فقد كانوا يؤجرون عبيدهم للزنى.
وجاء النهى عن تلك العادة بأسلوب شديد ، وعبارة قاسية تتناسب مع شناعة الفعلة ، فقال : وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً.
ولقد نهاهم عن الإكراه ، والإكراه أشنع من الإباحة وأفظع ، وقال فتياتكم أى في سن المراهقة التي فيها الغرائز على أشد ما تكون ، من الميل إلى الفجور وعدم تقدير الأمور ، ثم أضافهن إليهم ، ومن ذا الذي يقبل أن يكره فتاته المختلطة به وبأهل بيته(2/679)
ج 2 ، ص : 680
المنسوبة إليه على الزنى ؟ !! إنه لمجرد من الشهامة والرجولة ، وقد روى أن عبد اللّه بن أبى كان يفعل هذا! وكان الإكراه في حال أنهن أردن تحصنا وتعففا ، يا للّه من جرم قبيح تكره فتاتك على الزنى وهي تريد الإحصان والعفة!!! تكرههنّ لأنك تبغى عرض الحياة الدنيا ، يا للّه من الناس في هذه الأيام!!! ألسنا نسمع الآن أن مصلحة السياحة تريد أن تؤجر سيدات وفتيات يصاحبن السائحين الأثرياء الأغنياء الوافدين علينا ، تؤجرهن ليقمن معهم ويصاحبنهم في أسفارهم وحلهم ، وخلواتهم .. يا للّه من أولئك الرؤساء المتحللين الذين يكرهون الفتيات ويمهدون السبيل إلى البغاء العلنى بحجة الحضارة والمدنية ، وللعجب العجاب قام بعض الكتاب والعلماء يطلبون وقف هذا ومنعه رسميا فلم يسمع لهم ، بل نفذ الأمر وتم ، وقام كاتب فاجر داعر يملك صحيفة وينادى بأن العلماء متأخرون جهلاء ينادون بالرجعية ، وهم العقبة في سبيل التقدم!! إننا واللّه نسأله أن يأخذنا وألا تطول حياتنا في هذه الأيام السود ، وماذا نعمل وقد عم الفساد والتحلل الخلقي ، بل والدعوة السافرة إلى الاختلاط القبيح في الإذاعة والصحف والكتب والنشرات ، ونرى تأييدا لهم من كل جهة تأييدا خفيا ، حتى إذا تم الأمر وتمكن الحال جاهروا بإماتة الدين والعادات الإسلامية بحجة أننا في عهد الحرية والتقدم ، يا رب أنقذنا من هذا!!! ونحن كالمستجير من الرمضاء بالنار.
والخلاصة : إن إكراه الفتيات على الزنا المباشر أو غير المباشر ، سواء أردن تحصنا وعفة أم لا جرم كبير وذنب فظيع.
ومن يكرههنّ ، وهن غير راغبات ، فإن اللّه من بعد إكراههنّ غفور رحيم بهن أما من أكرههن فله جهنم ، وبئس المصير ، واللّه أقوى من الجميع ووعد بهذا ووعده الحق وقوله الصدق ، والعاقبة للمتقين ..
أيها الناس! أيها المسلمون! أيها الشرقيون! لقد أنزل اللّه لكم آيات تدل على كمال العلم والحكمة ، وأنها من اللّه العزيز الحكيم ، وهي شاهدة بصدق الرسول ، وتبين لنا الطريق الحق ، والقول الصدق الذي ينجينا من المهالك إذ هي علاج صاحب الوجود الخالق للنفوس العالم بالطوايا ، ولا يغرنكم ما نصاب به من نظريات وتقاليد للأجانب ، فلسنا مثلهم ، وليست أجواؤنا ، وبيئاتنا كبيئاتهم.(2/680)
ج 2 ، ص : 681
ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم ، وقصصا عجبا ، لتعتبروا فهذا يوسف رمى بالزنى وبرأه اللّه ، وهذه مريم البتول رماها اليهود وهي العفيفة الحصان ، وها هي ذي عائشة رماها عبد اللّه بن أبى وهي البريئة بنص القرآن ، فهذا كله موعظة وهدى ، ولكن للمتقين.
اللّه نور السموات والأرض [سورة النور (24) : آية 35]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (35)
المفردات :
نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أصل لفظ النور يطلق على النور الحسى الذي تبصر به العين ، وقد تعورف في لسان الشرع على أنه ما به الاهتداء والإدراك كَمِشْكاةٍ المشكاة الكوة غير النافذة في الجبل أو الحائط. وقيل : هي ما يوضع فيه المصباح.
مِصْباحٌ هو السراج الضخم الثاقب مأخوذ من الصبح الزُّجاجَةُ جسم كالقنديل شفاف صاف كَوْكَبٌ الكوكب الجرم السماوي المضيء دُرِّيٌّ نسبة إلى الدر لصفائه وتلألئه.
المعنى :
إن من يقرأ تلك الآيات البينات ، والأحكام المحكمات ، وذلك النظام الدقيق للأسرة(2/681)
ج 2 ، ص : 682
التي هي نواة المجتمع النظيف ، ويكرر النظر في ذلك يجد أن ذلك نور لو استضأنا به ما أظلمت حياتنا أبدا ، ولما وقعنا في خطر أبدا ، وكيف نضل ، ومعنا النور الإلهى الذي يهدينا إلى الحق ؟ !! واللّه هو صاحب النور في السموات والأرض ، هو يهدى إلى الحق ، ويهدى إلى طريق مستقيم.
واعلم يا أخى أن الهدى والنور - بمعنى الاهتداء - أساس الفوز في الأعمال وأصل النجاح فيها ، وعلى الهدى والنور تؤتى الأعمال ثمرتها والمرجو منها ، من أجل هذا توسعوا في لفظ النور حتى أطلقوه على كثير من المعاني التي تعتبر أساسا لغيرها في الثمرات فقيل : فلان نور البلد ، إذا كان عليه نظامها وإليه يرجع الفضل في تدبير أمرها وترتيب شئونها ويقال لنفس النظام والتدبير : نور فيقال مثلا : قد بنى هذا النظام على نور أى نظام وإتقان.
وعلى هذا يمكن أن نفهم قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية على ما يأتى :
اللّه - سبحانه وتعالى - هو صاحب النور في السموات والأرض وهو خالق ذلك النور الحسى فيهما وهو صاحب النور فيها بمعنى أنه هو الذي بث فيهما من كمال النظام وحسن التدبير ، ما لو تفكر فيهما إنسان بعقل حر برىء لآمن به إيمانا كاملا وهو - تبارك وتعالى - نور السماء بالملائكة ، والأرض بالشرائع وما فطر عليه النفوس من الفطر السليمة التي تهدى إلى الحق ، واللّه - سبحانه وتعالى - نور السماء بالكواكب ، والأرض بالأنبياء.
ولك أن تقول بالإجمال ، اللّه - سبحانه - هو المدبر لما يجرى في السموات والأرض وهو المبدع لخلقهما ، وهو منزل الشرائع وباعث الملائكة بالوحي ، والهادي لعباده بالأنبياء والرسل جل شأنه وتبارك اسمه وتقدس في علاه ، فهو نور السموات والأرض حقا.
وإن أردت أن تتمثل نور الحق - تبارك وتعالى - ، وتتصوره بمثال حسى يجلوه لك فهو كمشكاة فيها مصباح قد وضع في زجاجة صافية كأنها كوكب درى.
مثل نوره وهدايته التي بسطها للعالمين من أدلة عقلية وسمعية وأحكام صحيحة وفي(2/682)
ج 2 ، ص : 683
قوته وشدة تأثيره ووضوحه : كمشكاة فيها مصباح قوى الإضاءة ، شديد التأثير وهذا المصباح في زجاجة صافية ، كأنها كوكب مضيء متلألئ كالدر صفاء وتلألؤا ، يدفع نوره بعضه بعضا لشدته ولمعانه ووضعه بهذا الشكل ، وهذا المصباح يوقد من شجرة مباركة طيبة هي شجرة الزيتون ، وليست تقع شرقى شيء كالجبل ، ولا غربي شيء كذلك فإنها إن وقعت في هذا الموقع حجب الحاجز عنها ضوء الشمس في أول النهار وآخره فكانت الشجرة ضعيفة ، فالشجرة في مكان جيد متمتع بضوء الشمس والهواء الطلق ، وذلك أكمل لنضجها وطيب ثمرها.
وانظر يا أخى إلى هذا التمثيل ، وذلك التصوير الذي أبرز النور في صورة مؤثرة أخاذة للنفس ، فقد جعل النور في مصباح ، والمصباح في زجاجة ، وهو في كورة داخلة ، كل ذلك يجعل نوره مسلطا في جهة معينة ، مبددا للظلام الحالك الذي يحيط به ، وهو أشد روعة من نور الشمس الوهاج الذي لا يحيط به ظلام ، ألا ترى إلى البرق الخاطف وأثره في النفس ؟ أليس أشد من ضوء الشمس تأثيرا في النفس وإن المصباح وسط الظلمات المتكاثفة لهو أشبه شيء بنور الحق وسط ظلمات الكفر والفسق والعصيان.
ولذا وصف الشجرة بأنها مباركة نامية ، لا يحجبها عن نور الشمس والهواء الطليق جبل أو حاجز ولعل قوله تعالى : لا شرقية ولا غربية إشارة دقيقة إلى أن نور الإسلام وشرائعه وسط بين طرفين متقابلين وما في شرائع الإسلام شاهد على ذلك وهذا الزيت المستخرج من تلك الشجرة ، زيت صاف يكاد يضيء بدون مس النور.
تأمل هذا التصوير تجد نفسك أمام نور قد استجمع مظاهر النور ، وتجلى في وسط ظلمة زادت بهاء ظهورا ، فهو بحق نور ، وهذا شأن هداية اللّه لعباده نور من كل ناحية ، وضوء من كل جانب فهو نور متضاعف يزداد كلما نظرت فيه ، وحاولت الوقوف على سره.
وانظر إلى التصوير الفنى العالي للمصباح وما يحيط به ثم انظر إليه وقد تعرض لمادة النور ، وهم لا يعرفون من مادة الاستصباح إلا الزيت ، وأجوده زيت الزيتون.
وإذا كان هذا هو وصف هداية اللّه وتمثيلها بالنور الحسى فما بالنا نرى كثيرا لم يهتد بذلك النور ، فرد اللّه على ذلك بقوله : يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ(2/683)
ج 2 ، ص : 684
يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ كل على حسب ما جبلت عليه نفسه ، وما اختاره اللّه له ، ولا عيب في النور ، ولا عجز فيه.
ويضرب اللّه الأمثال للناس : ويبصرهم بما خفى عليهم في صور مختلفة ، واللّه بكل شيء من المحسوس والمعقول والظاهر والخفى عليم ، وبه خبير.
المنتفعون بنور الحق تبارك وتعالى [سورة النور (24) : الآيات 36 الى 38]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)
المفردات :
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ المراد المساجد المرفوعة لذكر اللّه بِالْغُدُوِّ الغداة والغدو أول النهار الْآصالِ جمع أصيل وهو آخر النهار.
وهذا نهاية المطاف بعد الحديث عن الهداية الإلهية فأثرها إيمان المؤمنين وكفر الكافرين ، وهكذا كان الناس منهم سعيد ، ومنهم شقي.
المعنى :
يسبح اللّه ، ويقدس له المسبحون في بيوت أذن اللّه أن ترفع ، ويذكر في تلك البيوت(2/684)
ج 2 ، ص : 685
اسمه ، والمعنى ينزهه ويقدسه في الصلاة والوعظ والذكر والتفكير في الملكوت وغيره ، يسبحون في بيوت أراد اللّه أن ترفع وأن تكون خاصة لذكره جل شأنه ، يسبحونه في أول النهار وآخره ، والمراد كل وقت ... رجال.
هؤلاء المسبحون رجال لا تلهيهم تجارة ، ولا بيع عن ذكر اللّه ، أى ليسوا ماديين نفعيين ، بل هم قوم لا تشغلهم الدنيا عن الآخرة بل يذكرون اللّه ، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، ويخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ، يوم تتردد فيه النفوس بين الخوف والرجاء فتتقلب القلوب متجهة إلى اليمين والشمال لا تدرى من أين تؤخذ ؟
أو من أين تؤتى كتبها ؟ أمن اليمين أم من الشمال ؟ .
فهم يسبحون اللّه ويذكرونه ويقيمون الصلاة ويؤدون الزكاة ، ويخافون يوم الحساب ليجزيهم اللّه على أحسن ما عملوا الجزاء الأوفى ، ويزيدهم من فضله واللّه يرزق من يشاء بغير حساب وهو واسع الفضل ، وهو على كل شيء قدير.
المحرومون من نور الحق [سورة النور (24) : الآيات 39 الى 40]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
المفردات :
كَسَرابٍ السراب ما يرى في الصحراء نصف النهار في اشتداد الحر كالماء ،(2/685)
ج 2 ، ص : 686
وهو يلتصق بالأرض بِقِيعَةٍ القيعة مفردها قاع وهو ما انبسط من الأرض واتسع ولم يكن فيه نبت ، وفيه السراب ، وأصل القاع الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء الظَّمْآنُ العطشان لُجِّيٍّ هو الذي لا يدرك قعره ، واللجة معظم الماء واللجة أصوات الناس.
وهذا مثل للكفار بعد مثل المؤمنين.
المعنى :
والذين كفروا باللّه ورسوله أعمالهم التي يعملونها وفي ظاهرها خير إذا كانوا يوم القيامة وجدها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، فهذه أعمالهم التي يعملونها من بر أو صدقة أو غيرها لا خير فيها ولا جزاء عليها يوم القيامة فهو أشبه ما تكون بالسراب مع العطشان لا يفيده شيئا ، نرى هؤلاء يوم القيامة ، قد خاب أملهم وطاش ظنهم وضاع مرتقبهم كالعطاش في الصحراء إذا اشتد بهم العطش ظنوا الماء في السراب حتى إذا ذهبوا إليه لم يجدوا شيئا وهم في أشد الحاجة إلى الماء.
وأما ما عمله من سيئ الأعمال ، فإنه يراه وقد عظم جرمه ، وتراكم ذنبه من جهة كفره وسوء عمله ، وبطلان قصده ، وضلال نفسه وكأنه قد قذف به في بحر لجي تلاطمت أمواجه ، وتراكمت غيومه ، واشتد ظلام ليله ، فإذا حاول أن يرى يده لم يرها ، لأنه فقد نور ربه ، ومن لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور.
وإن هذه الآيات البينات لتوحى لنا أن شرع اللّه ونظامه هو نور السموات والأرض نور الدنيا ونور في الآخرة والمتبعون ذلك النور هم المنتفعون به الناجون يوم القيامة.
وأما غير ذلك النور ، وأما التشريع المخالف لذلك التشريع فهو كالسراب مع الظمآن في الصحراء يحسب فيه الخير فإذا ذهب إليه وعمل به لم يجد شيئا ووجد اللّه عنده فوفاه حسابه ، واللّه سريع الحساب.
فهل من مدكر ؟ !! ولا عجب ، فإنما يتذكر أولو الألباب ...(2/686)
ج 2 ، ص : 687
انقياد الكون للّه [سورة النور (24) : الآيات 41 الى 44]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44)
المفردات :
صَافَّاتٍ مصطفات الأجنحة في الهواء ، والطير أثناء طيرانه يقبض أجنحته وقد يسطها بلا تحرك يُزْجِي يسوق يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ يجمعه رُكاماً مجتمعا يركب بعضه بعضا الْوَدْقَ قيل : إنه البرق ، أو المطر وبكل نطق العرب سَنا بَرْقِهِ ضوء ذلك البرق الذي في السحاب.
إذا كان اللّه أحكم كتاب الكون الناطق بلسان الحال على قدرته وحكمته أفلا يكون هذا دليلا على إحكام كتابه الناطق المنزل على رسوله وخاتم أنبيائه.
المعنى :
اللّه نور السموات والأرض ، وواهب الهداية للكل ، فمن الخلق من انتفع بذلك(2/687)
ج 2 ، ص : 688
النور ، واهتدى بهديه ، ومنهم من ضل سواء السبيل ، وتراكمت عليه الظلمات حتى إذا أخرج يده (و هي أقرب الأشياء إليه) لم يكد يراها .. واللّه قد ساق من الأدلة الحسية ما يشهد بذلك ويؤيده ، ويبين مدى انقياد الكون كله للّه ، وفي هذا ما يدل على فرط جهل الكفار ، وبيان ضلالهم.
ألم تر وتعلم أيها النبي وكذلك كل مخاطب أن اللّه - سبحانه - يسبح له من في السموات ومن في الأرض ، وما بينهما من الطير ، ولقد ساق اللّه هذا بأسلوب فيه استفهام تقريرى وفي ذلك إشارة إلى أن تسبيح الكائنات وانقيادها له - سبحانه - واضح إلى حد أن يرى ويعلم علما لا شك فيه.
هذا الكون كله بما فيه من سماء وأرض وفضاء وكل شيء يدل دلالة قوية على تنزيه الحق - سبحانه وتعالى - ، ويشهد على ذلك بلسان الحال لا بلسان المقال ، وبما أودع فيها من آيات الإبداع والإتقان الدالات على كمال منشئها وعظيم قدرته وحسن تنظيمه وإتقانه.
انظر إلى العوالم التي في السماء ، والعوالم التي في الأرض ، وإلى عالم الطير الذي يعيش في الجو ، وما يحويه كل عالم من عجائب تجدها ناطقة على قدرة القادر ، ووحدة الصانع ، ووصفه بصفات الكمال والجلال :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
وهذا تقرير الربوبية ، ولفت النظر إلى الكائنات العلوية والسفلية ، وإنما خص الطير حالة كونها صافات أجنحتها بلا تحرك وهي في أجواء الفضاء طائرة لأن ذلك أدل على قدرة اللّه الصانع.
كل كائن في السماء أو في الأرض أو بينهما قد علم اللّه صلاته وتسبيحه ، واللّه عليم بما يفعلون ، فما بالك أيها الإنسان تكفر بربك ، وتجحد نعمته ولا تؤمن بكتابه.
واللّه وحده ملك السموات والأرض ، وما فيهن ، وإلى اللّه وحده المصير ، وإليه المرجع والمآب ، والكل منه وإليه.
وهذا دليل آخر من أدلة العظمة الإلهية ، التي نراها ونلمسها في كل وقت وحين ألم تر أن اللّه يزجى سحابا أى : يسوق بعضه إلى بعض ، ولا غرابة فهو يتكون من(2/688)
ج 2 ، ص : 689
البخار الذي يخرج من البحار ، ويرتفع إلى أعلى منساقا بعضه إلى بعض ، ثم يؤلف اللّه بين أجزائه ويجمعها حتى يتكون منها سحاب عال مرتفع في طبقات الجو الباردة ، وهذا معنى قوله : ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً.
فترى الودق أى المطر أو البرق يخرج من خلال السحاب. وهذه السحب المتجمعة في السماء تشبه الجبل ، وتراها وقد أنزل منها المطر والبرد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء بحكمته وقدرته.
يكاد سنا برق السحاب يذهب الأبصار لقوته وإن منظر السحاب في تراكمه ثم نزوله مطرا أو ثلجا أو بردا مما يوقظ النفوس الغافلة وينبهها إلى الأدلة الحسية التي تثبت وجود القادر المهيمن على العالم ، وإن ظهور البرق الخاطف والرعد القاصف وسط السحاب المملوء ماء لدليل على قدرة اللّه - جل شأنه - وتصريفه الكامل للسموات والأرض.
يقلب اللّه الليل والنهار ، فيتعاقب كل منهما على الآخر ، ويأكل كل منهما من أخيه بزيادة أو نقص ، وتنقلب الأحوال فيهما من حر وبرد وغيرهما كل هذا يحصل أمام الناس ويشاهدونه ، فهل من مدكر ؟ !! إن في ذلك كله لعبرة وعظة لأولى الأبصار ، فهي أدلة مجموعة يكفى لإدراكها البصر فقط ، وليست من الأمور العويصة التي تحتاج إلى فكر ونظر وبصيرة.
وجود الضلال رغم الآيات الناطقة [سورة النور (24) : الآيات 45 الى 50]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)(2/689)
ج 2 ، ص : 690
المفردات :
دَابَّةٍ الدابة ، اسم على لكل ما دب ودرج على وجه الأرض ، وقد يستعمل في العرف العام : خاصة بذوات الأربع يَتَوَلَّى يعرض مُذْعِنِينَ طائعين منقادين ارْتابُوا شكوا يَحِيفَ يجور ويظلم.
وهذا من تتمة الأدلة على كمال القدرة ، وتمام العلم والحكمة ، مع التعرض لبعض من عميت بصائرهم فلم يهتدوا بنور الحق كالمنافقين.
المعنى :
واللّه - سبحانه وتعالى - خلق كل دابة تدب على الأرض من إنسان وحيوان ، وطير ، ووحش ، وغيرها. خلق كل ذلك من ماء ، وهل هو المنى الحيواني الذي يخرج من كل كائن حي للقاح ؟ أم المراد بالماء العنصر المعروف ، بناء على أنه داخل في قوام كل حيوان ، ولا غنى عنه في تخلق الحيوان وحياته ، كل هذا يصح.
وأيّا ما كان فإن هذه الآية تشبه في الدلالة على باهر القدرة ، قوله تعالى : يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [سورة الرعد آية 4] فقد خلق الكل من الماء ثم باين بين الأنواع مباينة تامة ، وفي هذا دلالة على كمال القدرة.
فمنهم من يمشى على بطنه ، وهذا النوع أظهر في الدلالة حيث يمشى بلا رجلين ومنهم من يمشى على رجلين ، ومنهم من يمشى على أربعة أرجل ، وقد عبر بمن وهي للعقلاء تغليبا ثم عبر في كل نوع بها للمشاكلة فإن من يمشى على رجلين يدخل فيه الإنسان والطير فعبر بمن تغليبا ، وعبر بها في غيره المشاكلة.(2/690)
ج 2 ، ص : 691
يخلق اللّه خلقه على ما يشاء ولا غرابة في ذلك. إنه على كل شيء قدير.
بعض العلماء يرى أن هذا المثل ضرب للكفار إذ هم يمشون على بطونهم وقد ضرب للمنافق ما يمشى على أربع وضرب للمسلم المنتفع بنور اللّه من يمشى على رجلين واللّه أعلم.
لقد أنزل آيات دالات على كمال القدرة منها ما ذكر هنا ، وهذه الآيات مبينات للحق والهدى ، ظاهرات في نفسها ، ولكن لا يهتدى بها إلا من يشاء اللّه له الهداية ، لأنه بطبعه يميل إليها وهو يستحقها ، واللّه - سبحانه - يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وذلك الفضل من اللّه وكان اللّه عليما حكيما ، وهو على كل شيء شاءه قدير.
بعد أن ساق - جل شأنه - من الأدلة والبراهين ، ما يثبت الإيمان الحق ، في قلوب الناس ، وينفى الشك والريب. شرع - جل جلاله - يبين أن هذه الآيات وإن تكن بينة واضحة في نفسها مبينة وموضحة حقيقة الشرع ، إلا أنها لا تكفى وحدها بل لا بد من هداية من اللّه وتوفيقه لمن يشاء ، حتى يظل الإنسان طامعا في عفوه ، غير خارج عن حظيرة الرجوع إلى اللّه في كل شيء ، وهذه قصة بعض المنافقين ، الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم يؤمنون باللسان ثم لا يرضون بحكم اللّه ، وهؤلاء قد ضلوا سواء السبيل. ولعل ذكر أوصافهم صريحة مما يقوى تمثيلهم بالحيوان.
روى أن رجلا من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة ، فدعاه اليهودي إلى التحاكم إلى رسول اللّه ، ودعاه المنافق إلى التحاكم إلى كعب بن الأشرف فرارا من الحكم الحق الذي سيحكمه رسول اللّه ثم انتهى الأمر ، وتحاكما إلى رسول اللّه فحكم لليهودي ،
لأنه صاحب الحق ، ورسول اللّه لا يحكم إلا به ولو على أقرب الناس إليه ، فرضي اليهودي بذلك ، ولم يرض المنافق ، وتحاكما إلى عمر طمعا فيه فقال له اليهودي : قد تحاكمنا إلى رسول اللّه ورضيت ولم يرض زميلي فقال عمر : أهذا حصل ، قال المنافق :
نعم ، فضرب عمر رقبته بالسيف حيث لم يرض بحكم رسول اللّه!!.
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ.(2/691)
ج 2 ، ص : 692
والمعنى : من الناس من يقول بلسانه بدون اعتقاد : آمنا وأطعنا ثم يتسلل فريق منهم ويعرض عن حكم اللّه الذي هو مقتضى قوله آمنا وأطعنا ، وانظر إلى قوله : ثم التي تفيد العطف ولكن مع التراخي في الترتيب إذ بعيد على العاقل أن يقر بالإيمان والطاعة ثم يعرض عن حكم اللّه ورسوله وما أولئك بالمؤمنين أبدا.
أليس هذا كافيا ؟ ! لمن يدعى الإيمان ثم يجاهر بالرضا عن الحكم بغير كتاب اللّه وسنة رسوله!! إنه بلا شك في الدرك الأسفل من النفاق العملي : وإذا دعوا هؤلاء إلى الحكم بكتاب اللّه وسنة رسوله ليحكم بينهم إذا فريق - وقد يكون كبيرا - منهم معرضون ، وكيف يقبلون التحاكم إلى اللّه ؟ اللّه يحكم بشدة على الزاني والسارق وشارب الخمر ، والذي يسب المحصنات الغافلات ، ويحرم الاختلاط ، والسفور ، ويقول للمؤمنين وللمؤمنات : غضوا من أبصاركم واحفظوا فروجكم وأنفسكم عن الفاحشة.
فلا يقبل هذا ولا يرضى به إلا كل مسلم عفيف ، وكل محصنة عفيفة ، أما من يريد الإباحية ، والفوضى الخلقية ، فيتعلل بأنظمة واهية ، وتقاليد غريبة بالية لا تصلح لنا ولا تعيش في جونا ، وما أشبه الليلة بالبارحة.
فأولئك هم الذين ينفقون النفس والنفيس في سبيل عرقلة الدعوة إلى الحكم بكتاب اللّه ، وأصارحكم يا إخوانى أن هناك عدة جهات همها وعملها في الشرق إماتة كل حركة إسلامية فإنها العدو اللدود للاستعمار.
ومن الغريب أن يخدع بعض الشباب المسلم بهذا ، وينادى بما ينادى به أولئك القوم ، ولكن لا غرابة فاللّه يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم.
هؤلاء الذين لا يرضون الحكم بكتاب اللّه يقول اللّه في شأنهم :
أفي قلوبهم مرض ؟ أم ارتابوا ؟ أم يخافون أن يحيف اللّه عليهم ورسوله ؟ ... بل أولئك هم الظالمون ...
نعم فهم لا يخرجون عن واحد من هذه الفروض ليخلص أن الباعث الحقيقي هو ظلمهم وتوغلهم فيه وحدهم.
ومعنى الآية : أعميت بصائرهم فلم يدركوا هذا النور الذي ملأ السموات والأرض ؟ !! .. بل أهم في شك من أمره صلّى اللّه عليه وسلم ، فلا يدرون أحق ما جاء به أم(2/692)
ج 2 ، ص : 693
باطل ؟ !! بل ألحقهم الخوف من أن يحيف عليهم حكم الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم لما شعروا به من ضلالهم وظلمهم ؟ !! كلا! وألف كلا! لم يكن شيء من ذلك عند من أعرض عن حكم الرسول قديما وبدليل أنهم يأتون إليه مذعنين عند ما يعلمون أن الحكم في جانبهم ، وأنهم لا يتكلفون شيئا.
فهل هذا إلا لشيء واحد هو ظلمهم ، وتمسكهم به ، والاستفهام في الآية لإنكار أن يكون السبب غير الظلم فقط وتمسكهم به.
وانظر إلى مكانة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم حيث جعل مع اللّه في سلك واحد في قوله وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ فقد بينت الآية أن حكم الرسول هو حكم اللّه فهل يعقل أن من هذا وضعه مع اللّه - سبحانه - يحيف في الحكم ، أو ينطق عن الهوى أو بالإثم ؟ !!.
رب إن الهدى هداك وآيا تك نور تهدى بها من تشاء
هؤلاء هم المؤمنون الممتثلون [سورة النور (24) : الآيات 51 الى 54]
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54)(2/693)
ج 2 ، ص : 694
المفردات :
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
قدر طاقتهم من اليمين وَيَتَّقْهِ أى : ويتق فالهاء للسكت.
المعنى :
لقد مضى الكلام في المنافقين المترددين في قبول حكم اللّه وحكم رسوله ، الذين يسيرون مع الإسلام إذا كانت لهم مصلحة ، فإن ابتعدت المصلحة ابتعدوا عن الإسلام وركبه ، واعلم يا أخى أن هذه أمراض لا زلنا نراها في كثير من الناس ؟ أما المؤمنون الصادقون فها هو ذا قولهم الحق الناشئ عن إيمانهم الصدق ، إنما كان قول المؤمنون إذا دعوا إلى اللّه ورسوله في أى شيء يتعلق بهم وبخاصة في الحكم بكتاب اللّه وسنة رسول اللّه ، إنما كان قولهم أن يقولوا بألسنتهم وقلوبهم : سمعنا وأطعنا ، أى : سمعنا دعوتكم للتحاكم لرسول اللّه وشرعه ، وأطعناكم فيما تطلبون ، وتلك مقالة المؤمنين الواثقين المتمكنين.
ومن يطع اللّه ورسوله في أمور الدين كلها ، ومن يخش اللّه أى : يخف عذابه وعقابه فيما مضى من الذنوب ، ويتقه فيما يستقبل منها فأولئك هم الفائزون وحدهم ، لأجل اتصافهم بطاعة اللّه وطاعة رسوله وبخشيته وتقواه.
ثم عاد الكلام إلى الفريق الأول من المنافقين ، وما أكثرهم في كل زمان ومكان وأقسموا باللّه جهد طاقتهم من الأيمان لئن أمرتهم ليخرجن إلى العدو أو ليخرجن من أموالهم بالصدقة ، فيرد اللّه عليهم قائلا : قل لهم : لا تقسموا ... طاعتكم معروفة.
فأنتم تطيعون في السهل من الأمور كالصلاة مثلا ، أما صعبها كتحكيم كتاب اللّه أو الجهاد أو الشيء يحتاج إلى بذل وعطاء فلستم معنا إن اللّه خبير بما تعملون.
قل لهم يا محمد : أطيعوا اللّه وأطيعوا رسوله في كل ما فرض اللّه وسن رسوله ،(2/694)
ج 2 ، ص : 695
فإن تولوا واعرضوا فلا شيء أبدا ، إذ لا تذر وازرة وزر أخرى فإنما على الرسول ما حمل ، وعليه تنفيذ ما طلب منه ، وعليكم إثم ما طلب منكم ، ولم تقوموا بأدائه.
وإن تطيعوا الرسول تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ فقط وما يتصل به : وليس عليه الهداية والحساب فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ [سورة الغاشية 21 - 26].
دولة المؤمنين [سورة النور (24) : الآيات 55 الى 57]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
المفردات :
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ليجعلنهم خلفاء فيها وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ليجعلنه ممكنا بتثبيت قواعده وإعزاز جانبه مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أى : لا تلحقهم قدرة اللّه.
لما كشف اللّه سر المنافقين ، وفضح حالهم ، وعرفهم المؤمنون ، وكان في ذلك تقليل لعددهم ، وأراد اللّه أن يطمئن المؤمنين ، ويشد أزرهم ببيان مكانة الدولة الإسلامية بين الدول.(2/695)
ج 2 ، ص : 696
المعنى :
- وعد اللّه الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليجعلنهم خلفاء اللّه في أرضه ووعده ناجز ، وقوله صادق فاللّه لا يخلف الميعاد وقد شرط اللّه ذلك بالإيمان والعمل الصالح فإن تحقق الشرط تحقق المشروط ، والعكس صحيح ، وقد حقق اللّه وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، فاستخلف المؤمنين في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، ومكّن لهم دينهم ، وبدلهم من بعد خوفهم أمنا.
ولا يزال هذا شأن كل أمة مسلمة تؤمن باللّه حقا وتعمل الصالح الذي أمر اللّه - تعالى - به. ونهى عن غيره ، فأقاموا العدل والنظام وحكموا بما أمر اللّه ، وأخذوا الحيطة لأنفسهم كجماعة ودولة.
والتمكين لهم في دينهم بإعزاز جانبه. وإرساء قواعده. وتقوية حجته. حتى يقبلوا عليه بنفوس اشتراها اللّه ليكون لهم الجنة فيجاهدون في سبيله بأموالهم وأنفسهم ابتغاء رضوانه.
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً اعلم يا أخى أن المؤمنين باللّه في كل عصر وزمن قلة بالنسبة لغيرهم فيريد اللّه أن يقلع جذور الخوف من قلوبهم. ويملؤها. إيمانا ويقينا وثباتا بنصر اللّه ومعونته وتأييده ودفاعه عنهم. ليعلموا أن النصر والنهاية الحسنة لهم ما داموا مؤمنين عاملين. عابدين حقا لا يشركون به شيئا. والإشراك باللّه باب واسع يشمل الشرك في العقيدة كالمشركين والوثنيين ، ويشمل الشرك في العمل كالمرائين والمتكبرين والمعجبين.
ولقد وعد اللّه المؤمنين أن يخلفهم في الأرض وأن يمكن لهم في دينهم وأن يبدل خوفهم أمنا إذا آمنوا إيمانا عميقا. وعملوا عملا وثيقا. وعبدوا اللّه عبادة خالصة يتحقق فيها قوله تعالى. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
ومن كفر بعد ذلك البيان الكامل الذي ينير الطريق. فأولئك هم الفاسقون الخارجون عن حدود الدين الصحيح وفي هذا تهديد ووعيد.
أيها المؤمنون إن العمل الصالح له دعائم. هي إقامة الصلاة التي هي عماد الدين التي تجر إلى فضائل كثيرة. وتنهى عن رذائل كثيرة ، ولا تعترض بما يفعله بعض المصلين(2/696)
ج 2 ، ص : 697
من الخروج عن حدود الدين. فأولئك يأتون بصلاة لا روح فيها. صلاة من غير عقل إذ قد خلت من الخشوع والخضوع. وكمال الاستحضار الدعامة الثانية الزكاة فالصلاة لتقويم الفرد أولا ثم المجموع ثانيا. والزكاة لتقويم الجماعة. وتصفية الضمائر ، وتقوية الأواصر. وتجعل الأمة كالبنيان المرصوص لهذا قرنت دائما بالصلاة في القرآن.
وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون. وفي هذا إجمال لكل ما جاء به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لعلكم بعد هذا ترحمون وتلك هي الدعامة الثالثة.
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وفي هذا تبديد لمخاوفهم وتطمين لنفوسهم حتى لا يرهبون أعداء اللّه مع كثرتهم وقوتهم فإن اللّه معهم وناصرهم وهو القوى القادر فلا تظنوا أن الكفار مهما كانوا يعجزون اللّه هربا بل هم في قبضة اللّه ، في الدنيا ، وأما في الآخرة فمأواهم النار وبئس المصير مصيرهم.
والخلاصة أن دولة المؤمنين وعزهم وسلطانهم مشروط بالإيمان والعمل الصالح والعبادة الخالصة بلا إشراك مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وطاعة الرسول في كل ما جاء به فإن تخلوا عن ذلك أو عن جزء منه أصابهم الوهن والعجز والانحلال وتحكم فيهم عدوهم وعدو دينهم.
آداب لمن يعيشون في بيت واحد [سورة النور (24) : الآيات 58 الى 60]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)(2/697)
ج 2 ، ص : 698
المفردات :
الظَّهِيرَةِ وقت الظهر لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ أى : لم يحتملوا ، والبلوغ الذي هو مناط التكليف يكون بالاحتلام أو ببلوغ السن خمس عشرة سنة طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أى يطوفون عليكم وَالْقَواعِدُ النساء قعدن لكبرهن وضعفهن مُتَبَرِّجاتٍ التبرج الظهور والتكشف.
المعنى :
تلك آداب خاصة لمن يعيش في أسرة كبيرة في بيت واحد ، ويكون فيه الإخوة والأولاد والخدم والعبيد مثلا ، فالواحد منهم لم يدخل بيتا غير بيته حتى تشمله الآيات السابقة الخاصة بالاستئذان ، وما من شخص إلا وله أحوال داخلية ، لا يجب أن يطلع عليها إنسان ، ولو كان ابنه ، لهذا لم يتركنا القرآن الكريم الذي هو الدستور الإسلامى الإلهى بل أنقذنا من ذلك الحرج فقال :
يا أيها الذين آمنوا : ليستأذنكم المملوكون لكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات وكون الصبى غير مكلف لا يمنع أن وليه يعوده على ما يطلب منه من الآداب والحقوق ألا ترى إلى
قول الرسول : « مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم لعشر » .(2/698)
ج 2 ، ص : 699
أما الأوقات الثلاث فهي : من قبل صلاة الفجر حين يستيقظ من نومه ويهب من فراشه ، فيخلع ثوبا ويلبس ثوبا ، ولعله بحاجة إلى خلوة في هذه الحال ، ومن بعد صلاة العشاء حيث يكون قد فرغ من عمله ، وتخلى عن تكاليف الحياة وأوى إلى أهل بيته ليأنس بهم ، ويأنسوا به ، وهو يستعد إلى النوم ، وربما لبس ثيابا خاصة ، ولا منغص له أكثر من طارئ يفاجئه على هذه الحال مهما كان ، ولو كان صغيرا ما دام يعقل ، ولم يتعرض لما بين الوقتين لندرة الدخول حينئذ ويمكنك أن تفهم بالإشارة استحباب تعجيل النوم عقب صلاة العشاء والتبكير باليقظة قبل صلاة الفجر فذلك أعون على انتظام الصحة العامة الوقت الثالث : حين تضعون ثيابكم من الظهيرة.
وليس محددا كأخويه إذ القيلولة قد يتعجلها إنسان. ويتأخر بها آخر. فلذلك قال وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ.
هي ثلاث عورات لكم. وهذا تعديل للحكم. وبيان لحكمة التشريع. والعورات كل ما يكره الإنسان أن يطلع عليه غيره.
أما في غير هذه الأوقات ، فلا حرج ولا جناح عليكم فإن الإنسان في بيته حيث لم يكن في حجرته الخاصة لا يسوؤه أن يراه أحد من خدمه وأولاده مثلا بلا استئذان على أن من في البيت يطوفون عليكم بعضكم على بعض فلو استأذنوا لشق عليهم ذلك كذلك يبين لكم آياته الكاملة واللّه عليم بخلقه حكيم في حكمه يضع الأمور في نصابها.
وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم أى : بلغوا سن التكليف فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم في الآيات السابقة لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها وهذا علاج لبعض البيوت غير المحافظة التي ترى أن الطفل وإن شب وترعرع فلا مانع من الاختلاط لأنه كان صغيرا وكانوا يطلعون عليه فهذه الآيات تمنع تلك العادة. والقواعد من النساء وهن من قعدن في البيوت أو كان أغلب أحوالهن القعود ولا يطمع فيهن لكبرهن ولا جناح عليهن ولا حرج في أن يضعن ثيابهن التي لا يفضى خلعها إلى كشف العورة مثل القناع والجلباب الذي يلبس فوق الملابس الداخلية ، حالة كونهن غير متبرجات بزينة ، وهذا المعنى هو الحد الفارق بين من يخشى منها الفتنة ومن لا يخشى منها ذلك ، فالثانية لا جناح عليها أن تضع ثيابها التي لا تكشف(2/699)
ج 2 ، ص : 700
العورة بشرط عدم التبرج بالزينة ومع هذا فالاستعفاف ، والاحتياط بالستر خير لهن وأكمل نسأل اللّه أن يوفقنا إلى العمل بكتابه وإرشاداته وأن يعصمنا من الزلل.
آداب إسلامية [سورة النور (24) : آية 61]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
المفردات :
حَرَجٌ الحرج الضيق ، وفي لسان الشرع هو الإثم والذنب أَشْتاتاً متفرقين مُبارَكَةً كثيرة الخير.(2/700)
ج 2 ، ص : 701
المعنى :
أراد اللّه - سبحانه وتعالى - وهو أرحم الراحمين بنا ألا يتركنا نتخبط في شيء حتى في الأمور العامة التي هي من المباحات وليست من العقائد والعبادات ، أراد الحق - جل شأنه - أن يرسم لنا الطريق ، ويؤدبنا بأدب الإسلام العالي في الأكل والشرب مع غيرنا.
وقد كان بعض الناس يأنف من الأكل مع الأعمى والأعرج والمريض مثلا حرصا على نفسه ، أو حبّا في أن يتمتع صاحب العلة كل حسب ما يريد ، فجاء القرآن ونفى الحرج والإثم عن ذلك وقال ما معناه : ليس على الأعمى والأعرج والمريض حرج وليس عليهم إثم في أن يأكلوا مع الأصحاء ، وأن يجتمعوا معهن على مائدة واحدة ، إذ الأمر أوسع مما تظنون أيها المتزمتون فاللّه يربينا على أن مسائل الأكل والشرب من توافه الأمور وبسائطها التي يجب ألا يعنى بها المسلم إلى هذه الدرجات لأننا نأكل لنعيش ولنقيم أودنا ، ولسنا في الدنيا نعيش لنأكل كالبهائم والكفار.
والخلاصة : ليس على هؤلاء حرج في أن يأكلوا مع غيرهم من الأصحاء ، وكذلك لا حرج على من يؤاكلهم على مائدة واحدة ، وليس عليهم حرج أن يأكلوا من بيوت غيرهم حيث أباحوا لهم ذلك في غيبتهم.
وقوله تعالى : وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ إلى آخر الآية إنما هو توسعة على الناس ، وبيان لما تقتضيه أواصر الصلات والمحبة بين الأفراد ، والآية أباحت لنا أن نأكل من أحد عشر موضعا بلا إذن حيث نعلم أنه لا يتألم ، ولا تشح نفسه لذلك بل يسر فإن عرفت أن قريبك يتألم من أكلك طعامه في غيبته فإياك أن تأكل منه وكن عفيفا ، والأحد عشر هم :
(1) الأكل من بيوتنا ، ولعله أراد بيوت أبنائنا ، فإن مقتضى الصلة الأكيدة التي بين الأب وابنه أن يجعل من بيوت الأبناء بيوتا للآباء.
(2) أو بيوت آبائكم.
(3) أو بيوت أمهاتكم.
(4) أو بيوت إخوانكم.
(5) أو بيوت أخواتكم.
(6) أو بيوت أعمامكم. (7) أو بيوت عماتكم.(2/701)
ج 2 ، ص : 702
(8) أو بيوت أخوالكم.
(9) أو بيوت خالاتكم.
(10) أو ما ملكتم مفاتحه ، كأن تكونوا وكلاء عن أصحاب المال مثلا.
(11) أو بيوت صديقكم ، ومحل ذلك كله إذا كنت تعلم أنه يسر ويرضى كما هو مقتضى الصلة والصداقة والأخوة الإسلامية ، فإذا ظننت أنه لا يرضى فحرام عليك الأكل
لقوله صلّى اللّه عليه وسلم. « لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه » .
والواقع يؤيد ذلك فإن من يأكل الطعام في غيبة صاحب البيت يعتبر هذا عملا يسر له صاحب البيت بل ربما كان مثل هذا العمل من دواعي إزالة بعض ما في النفوس.
ليس عليكم أن تأكلوا جميعا أى مجتمعين أو أشتاتا أى : متفرقين فلا حرج عليكم في هذا أو ذاك.
فإذا دخلتم بيوت الأقارب والأهل والأصدقاء فسلموا على من فيه بتحية الإسلام ، وهذا أدب قرآنى أى إذا دخلتم بيتا أبيح لكم دخوله كبيت أبيك أو أخيك أو صديقك مثلا فلا تتهجم وتدخل بلا إذن بل عليك أن تستأذن وتسلم على من فيه بتحية الإسلام تحية من عند اللّه مباركة نامية كثيرة الخيرات والبركات.
على هذا النحو من البيان الرائع والأدب العالي ، والتوجيه السليم جرت عادة القرآن الكريم أن يبين اللّه آياته فيه فتملأ قلوبنا حكمة ، ونفوسنا رحمة ، وحياتنا تنظيما وكل هذا لعلكم تعقلون فيزداد تمكنكم بها ، وتعلقكم بأهدابها ، ويكثر شكركم من أجلها واللّه أعلم.
من آداب الجماعة نحو الرسول صلّى اللّه عليه وسلم [سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (64)(2/702)
ج 2 ، ص : 703
المفردات :
جامِعٍ أمر مهم يحتاج إلى الاجتماع والتشاور دُعاءَ الرَّسُولِ طلب الرسول لهم أن يجتمعوا يَتَسَلَّلُونَ التسلل الخروج خفية لِواذاً أى : متسترين بعضهم ببعض.
المعنى :
كان هذا خير ما يختم به تلك السورة العظيمة التي عالجت علاقة الناس مع بعضهم وبخاصة في الأسرة والبيوت وها هي الآن تعالج أدب الجلوس مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في أمر هام.
إنما المؤمنون الذين آمنوا باللّه ورسوله ، وإذا كانوا مع النبي مجتمعين على أمر هام جامع ، اجتمعوا فيه للتشاور وأخذ الرأى ، لم يذهبوا حتى يستأذنوه ، فالانصراف في هذه الحالة ضار بالشخص نفسه لحرمانه من شهود مجتمع هام ، وضار بالمجتمعين أنفسهم ، لما يلقيه من الوهن والضعف ، وشديد على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لحرصه على هداية قومه ، وانتفاعهم بكل مجالسه ، لما فيها من الخير النافع لهم في دينهم ودنياهم ، والآية(2/703)
ج 2 ، ص : 704
قد حصرت المؤمنين في من اجتمع فيه ثلاث خصال : الإيمان باللّه ، والإيمان برسوله ، والتزام مجتمعه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا كان أمر مهم فلا يذهب شخص حتى يستأذنه.
وفي هذا بيان لما يجب أن يكون عليه المؤمنون مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وهذا الحكم يجرى مع الجماعة ورئيسها العام أم الخاص.
فالذينيذهبون ولا يستأذنون أولئك هم المنافقون ، وليسوا من الإيمان في شيء وهذا ما يوافق سبب النزول ، فقد
روى أن الآية نزلت في قوم منافقين كانوا ينصرفون عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أثناء الخطبة عند ما كانوا يحسون بالحرج والألم وقت أن يشرح النبي حال المنافقين.
إن الذين يستأذنونك ، أولئك الذين يؤمنون باللّه ورسوله ، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم ، واستغفر لهم اللّه ، وهذا يجعلنا نقول إن الاستئذان يكون للأمر المهم لا لكل أمر عارض ، إن الإذن موكول للرئيس إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن والمفروض فيه أنه يعالج ما يعرض له حسب الحكمة ، ويحسن بنا ألا ننصرف - ولو بإذن لبعض الشئون الهامة - حيث كان الاجتماع لأمر مهم يتعلق بالجماعة ، وقوله تعالى : وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ يفيد أن الإذن مهما كانت دواعية مما يقتضى الاستغفار.
يا أيها الناس لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم لبعض فإن النبي حينما يدعوكم لأمر يتعلق بدينكم أو بدنياكم يجب أن تأخذوه على أنه أمر مهم واجتماع من المصلحة العامة ألا تحرموا منه ، ويجب أن تتقبلوه بصدر رحب ولا تظنوه كدعوة بعضكم لبعض في توافه الأمور ، ودعاء بعضكم لبعض المراد منه دعاء من ليس له ولاية عليكم ، فمتى ثبتت الولاية لشخص ثبت له الحكم ، واعلموا أن اللّه يعلم الذين يتسللون ويخرجون خفية متسترين ببعض بلا إذن ، وسيجازيهم على ذلك.
فليحذر الذين يخالفون خارجين عن أمره - سبحانه وتعالى - مهما كان ليحذروا أن تصيبهم فتنة في دينهم أو دنياهم أو يصيبهم عذاب أليم ، وهذا تهديد شديد نشفق منه على الأمة الإسلامية ولعل ما يصيبنا من فتنة راجع لمخالفتنا أوامر القرآن في كل شيء.
وهذه الأوامر والتكاليف التي في السورة كلها يجب عليكم أن تتنبهوا لها ، وتعملوا بها فإنها صادرة ممن يملك السماء وما فيها ، والأرض وما عليها ، ويعلم ما أنتم عليه من سر وجهر ، ويوم يرجع الناس إليه فينبئهم بما عملوا ويجازيهم عليه ، واللّه بكل شيء عليم.(2/704)
ج 2 ، ص : 705
سورة الفرقان
مكية : وآياتها سبع وسبعون وقيل هي مكية إلا آيات 68 ، 69 ، 70 فقط.
لقد تكلم اللّه في هذه السورة على التوحيد الخالص له وعلى القرآن. وعلى النبوة ، وأحوال القيامة ، وختمها بوصف العباد المؤمنين ، كما افتتحها بالكلام على إثبات الصانع ووصفه بالجلال والكمال ، وتنزهه عن النقص وما هو محال ، وفي خلال ذلك تكلم عن أعمال المؤمنين والكافرين وعاقبتها ... وهدد الكفار بذكر قصص الأمم السابقة.
لا معبود بحق في الوجود إلا اللّه [سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3)
المفردات :
تَبارَكَ البركة : الزيادة في الخير وكثرته الْفُرْقانَ هو القرآن نُشُوراً النشور : الإحياء بعد الموت للحساب.(2/705)
ج 2 ، ص : 706
المعنى :
البركة للّه وحده ، والحمد له ، فقد تزايد خيره وتكاثرت نعمه وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها وقد تعالى وتزايد عن الكل ذاتا وصفة وفعلا ، فالحمد للّه - تبارك وتعالى - ، وكيف لا .. ؟ وهو الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، والقرآن هو الفرقان ، لأنه فرق بين الحق والباطل ، والحلال والحرام ، بل وفرق بين الحضارة التي تنعم الدنيا في ظلها ، وبين الهمجية والجاهلية التي كانت ترزح تحت أثقالها ، وانظر إلى وصف النبي الكريم بالعبودية حين يضفى القرآن عليه شيئا يرفعه ويجله لتوضع الأمور في نصبها ، وليظل المسلم على نور الحق والصراط المستقيم فلا يرفع المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم عن موضع العبودية للّه كما فعلت النصارى مع المسيح ، ألم تر إلى قوله تعالى : سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا إلى قوله : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً على أن في وصف النبي بالعبودية تكريم له وتشريف ونزل اللّه على عبده القرآن فارقا بين الحق والباطل ، ومفرقا في النزول ، فكان ينزل منجما تبعا للحوادث ، ليكون ذلك أدعى إلى حفظه والتثبت منه وفهمه وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا.
ليكون النبي أو القرآن للعالمين جميعا إنسه وجنه في كل زمان ومكان ، نذيرا وسراجا منيرا يهدى به اللّه من يشاء من عباده.
تبارك الحق الذي نزل الفرقان ، والذي له ملك السموات والأرض ، وقد وصف اللّه - سبحانه وتعالى - نفسه بأنه نزل القرآن ، وله ملك السموات والأرض ، ولم يتخذ ولدا ، ولم يكن له شريك في الملك ، وخلق كل شيء فقدره تقديرا ، فهذه أوصاف تدل على العظمة واستحقاق العبادة والتقديس.
(أ) له ملك السموات والأرض ، وإذا كان كذلك فهل يعبد سواه ؟
(ب) ولم يتخذ ولدا إذ هو المالك للكل ، والملكية تتنافى مع الولدية ، فهو غير محتاج للولد في شيء ، ولا يشبه أحدا من خلقه في شيء ، فهو المستحق وحده للعبادة ولا يصح أن يكون غيره معبودا ووارثا للملك عنه. وفي هذا رد على من ادعى أن له ولدا من النصارى.(2/706)
ج 2 ، ص : 707
(ج) ولم يكن له شريك في الملك ، إذ له وحده الملك. وهو المنفرد وحده بالألوهية ، وهو صاحب الأمر ، وإذا عرف العبد ذلك انقطع رجاؤه وخوفه عن الكل ، ولا يبقى مشغولا إلا بالحق - تبارك وتعالى - ، وفي هذا رد على من زعم أن للّه شريكا.
(د) وخلق كل شيء فقدره تقديرا ، نعم خلق كل شيء مراعيا فيه التقدير والإحكام والتسوية ، فقدره وهيأه لما خلق من أجله رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [سورة طه آية 50].
وإنك يا أخى إذا نظرت إلى هذا الكون وما فيه من عجائب لارتد إليك بصرك ، وهو كليل دون إدراك هذه الأسرار العجيبة ، ولعرفت أن هذا الكون محكم التقدير كامل التنظيم كالآلة كل جزء فيها يؤدى وظيفته على أتم ما يكون.
خذ مثلا الإنسان وما يقوم به من عمل تجده على وضع وشكل مقدر لهذه المهمة العالية والرسالة السامية المطلوبة منه. انظر إلى الجمل تجد له عنقا طويلا ، وإلى الحصان ورقبته القصيرة ، وإلى الحيوان الذي يعوم في الماء وقد خلق على تصميم وتقدير عجيب ليتمكن من السباحة ، ألم تر إلى رجل الفرخة ، وما فيها من أظافر تساعدها على نبش التراب باحثة عن رزقها ؟ وإلى الإوزة والبطة ورجليهما ، وقد صنعت على شكل يساعدها على السباحة في الماء ... والشواهد على ذلك كثيرة ...
وقد ثبت بهذا أن ربك العليم الخبير خلق كل شيء فقدره تقديرا ، أفتعبدون سواه ؟
وتتجهون لغيره ؟ !! ومع هذا كله فقد اتخذ المشركون آلهة من دونه ، وآثروا على عبادة اللّه - سبحانه وتعالى - عبادة آلهة عاجزة عن كل عمل في الوجود ، لا يقدرون على شيء من أفعال اللّه ، بل ولا يقدرون على مثل ما يعمل الناس ، حيث لا يفعلون شيئا ، ولا يخلقونه ، والحال أنهم يخلقون ، وإنه لعجيب حقا أن تنحت بيدك وتصنع بنفسك شيئا ، لا يحس ولا يسمع ولا يتكلم ثم تعبده من دون اللّه!!! وهذه المعبودات لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا فما بال نفعها وضرها لغيرها ؟ ، ولا يملكون موتا ولا حياة ، ولا نشورا لأحد من الناس! ومن كان كذلك أيليق أن يعبد من دون اللّه ؟ الذي أنزل الفرقان ، وله ملك السموات والأرض ، وما كان له ولد ولا شريك ، وخلق كل شيء فقدره تقديرا!!(2/707)
ج 2 ، ص : 708
شبهاتهم في القرآن والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم والرد عليهم [سورة الفرقان (25) : الآيات 4 الى 9]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9)
المفردات :
إِفْكٌ الإفك : الكذب البعيد عن الصدق افْتَراهُ اختلقه ظُلْماً هو وضع الشيء في غير موضعه وَزُوراً هو القول الباطل البعيد عن الحق مَسْحُوراً سحر فغلب على عقله.
وهذه هي شبهاتهم الواهية ، على القرآن ، وعلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وهذا هو رد القرآن عليهم في ذلك بما يقطع الشك ، ويهدى إلى الحق.(2/708)
ج 2 ، ص : 709
المعنى :
اللّه - سبحانه وتعالى - نزل القرآن ، وهو كتاب لا ريب فيه ، متشابه في البلاغة والبيان ، محكم في الحجج والبراهين ، تقشعر عند تلاوته قلوب الذين يخشون ربهم ثم تلين لذكر اللّه ، وهذا هو القرآن كتاب اللّه ، وهذا هو موقف المؤمنين منه. أما الذين ختم اللّه على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وجعل على أبصارهم غشاوة التعامي عن الحق فيقولون : ما هذا إلا إفك وكذب قد توغل في البعد عن الحق ، وقد افتراه محمد من عنده ، وأعانه عليه قوم آخرون ، هم بعض اليهود. ومن أسلم من أهل الكتاب كأبى فكيهة مولى بن الحضرمي ، وعداس مولى حويطب بن عبد العزى ، ويسار مولى عامر ابن الحضرمي ، ولقد رد اللّه عليهم هذه الشبهة والواهية بقوله فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً.
نعم لقد قالوا شيئا إدّا - منكرا عظيما - فقد تحداهم اللّه على لسان النبي بالقرآن تحديا ظاهرا على أن يأتوا بمثله ، مستعينين في ذلك بشهدائهم وأعوانهم من الإنس والجن ، فلو كان محمد افترى هذا القرآن ، وكذب في نسبته إلى اللّه ، واستعان على ذلك بقوم آخرين ، فلم لم تستعينوا أنتم أيها المشركون بهم أو بغيرهم وتأتوا بمثل هذا القرآن ؟ وأنتم أهل الفصاحة والبيان ، فإن لم تفعلوا ، ولن تفعلوا ، هذا أبدا رغم شدة تلك النتيجة عليكم فاعلموا أنكم بقولكم إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ .. قد جئتم بظلم وزور من القول لا سند له أصلا ، أما أن قولكم ظلم فلأنكم نسبتم القرآن إلى النبي ، وهو مبرأ منه لأنه من عند اللّه ، ولا شك أن ذلك ظلم ، وأما أنه وزر فلأنكم قلتم كذبا وادعيتم باطلا ، وانظر إليهم في شبهتهم الثانية حيث قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا يا لها من شبهة واهية!! أهذا القرآن المحكم الآيات أساطير الأولين وأحاديثهم ؟ ! كتبها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بمعنى أنه أمر بكتابتها له إذ هو أمى لا يقرأ ولا يكتب ، فهي تملى عليه وتقرأ أول النهار وآخره ليحفظها ، ويلقى عليكم ما يتلى عليه صباحا في المساء ، وما يتلى عليه في الأصيل يقرأه عليكم في الصباح.
وقد رد اللّه عليهم بقوله قُلْ أَنْزَلَهُ على رسوله ربكم الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وأخفى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أنزله عالم الغيب والشهادة فكيف يكذب عليه النبي في نسبة القرآن إليه ، ويتركه وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ واللّه - سبحانه وتعالى - هو القادر وحده على تركيب مثل هذا(2/709)
ج 2 ، ص : 710
القرآن. وعلى إيجاده كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ومع هذا فاللّه غفور رحيم لمن يتوب ويرجع عن عناده وكفره.
وانظر إليهم ، وقد ساقوا صفات النبي صلّى اللّه عليه وسلّم زعموا أنها تتنافى مع الرسالة ، وهذه الشبهة إن دلت على شيء فإنما تدل على قصر في العقل ، وسوء في الرأى ، ومادية غالبة أضلتهم السبيل ، وأعمتهم عن الصراط المستقيم.
(1) يأكل الطعام (2) يمشى في الأسواق.
(3) ليس معه ملك من السماء يؤيده.
(4) لم يلق إليه كنز ينفق منه.
(5) لم تكن له جنات وبساتين يأكل منها. كأنهم فهموا أن الرسالة تتنافى مع البشرية ، وكيف يكون رسولا وهو يأكل ويتبرز ، ويأتى النساء ، ويمشى في الأسواق ؟ !! ، وما علموا أن الرسول بشر أوحى إليه قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [سورة فصلت آية 6].
إن تعجب فعجب هذا كيف ينكرون الرسالة لبشر من الناس ثم يعبدون حجرا لا يسمع ولا يبصر!!! فكأن الألوهية لا تتنافى مع الجماد والحجر.
أما طلبهم أن يكون معه ملك يؤيده في قوله فها هو ذا القرآن هو المعجزة الباقية الشاهدة على صدق الرسول فيما يدعيه عن ربه ، وهو المؤيد له والمدافع عنه أما كونه ليس له كنز ، وليس له جنة كأغنيائهم ورؤسائهم ، فاللّه أعلم حيث يجعل رسالته! وليس الرسول نائبا عن الأغنياء والأثرياء ، لكنه رسول اللّه إلى الناس ، يهديهم ويقودهم إلى الخير في الدنيا والآخرة فمن تتوفر فيه صفات الرسالة هو الرسول.
وقال المشركون الظالمون : ما تتبعون إلا رجلا قد سحر عقله ، وطاش فكره انظر يا محمد : كيف ضربوا لك الأمثال ؟ ووصفوك بهذه الصفات فقالوا : كاذب ، أو ساحر ، أو مجنون ، أو هو رجل يمشى في الأسواق ، أو يأكل الطعام .. إلخ ما ذكروه هنا ، كل ذلك لينالوا منك ، وينفروا الناس عنك ، يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم ، ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ، ولو كره الكافرون ، وانظر إليهم فقد ضلوا عن سواء السبيل إذ الطعن عليك إنما يتوجه إلى معجزتك أو عملك أو خلقك لا إلى هذه الأشياء التي ذكروها ، وهم لا يستطيعون سبيلا إلى إطفاء نور اللّه ، وعدم تأييد رسول اللّه أبدا.(2/710)
ج 2 ، ص : 711
رد عليهم وبيان لحالهم يوم القيامة [سورة الفرقان (25) : الآيات 10 الى 16]
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14)
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16)
المفردات :
قُصُوراً القصر في اللغة : الحبس ، وسمى القصر قصرا لأن من فيه مقصور عن أن تمتد إليه يد ، وممنوع من الأعداء ، والعرب ترى البيت من الحجارة قصرا أيا كان ، وما يتخذ من الصوف أو الشعر تسميه بيتا سَعِيراً نارا شديدة الاستعار تَغَيُّظاً التغيظ : شدة الغضب وَزَفِيراً الزفير : هو النفس الخارج من جوف الإنسان ضد الشهيق مُقَرَّنِينَ مصفدين بالسلاسل قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم ثُبُوراً هلاكا.(2/711)
ج 2 ، ص : 712
المعنى :
اللّه الذي رفع السماء وبسط الأرض ، وخلق الإنسان وصوره ، هو صاحب الخير والبركات ، تبارك خيره ، وزادت نعمه ، وهو إن شاء جعل لحبيبه المصطفى خيرا مما يطلبون من الكنز والجنة ، وجعل له بدل الجنة جنات تجرى من تحت أشجارها الأنهار ، ويجعل له القصور الشماء ، إذ هو صاحب الأمر إذا قال للشيء كن فيكون وفي هذا رد عليه حث قالوا : أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها ولكنه اللّه - سبحانه وتعالى - أراد لنبيه عيشة الكفاف مع غنى النفس وقوة الإيمان ، وكثرة الصبر. حتى لا يشتغل بدنياه عن دينه ، وكيف لا يكون كذلك ، واللّه يعده لتحمل أكبر رسالة في الوجود. وهذه الزعامة والرسالة تتنافى مع الدنيا وزخارفها الفانية.
وفي رواية سفيان عن حبيب بن أبى ثابت عن خيثمة قال : قيل للنبي صلّى اللّه عليه وسلم : إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا ومفاتيحها ، ولم يعط ذلك من قبلك ولا يعطاه أحد بعدك ، وليس ذلك بناقصك في الآخرة شيئا ، وإن شئت جمعنا لك ذلك في الآخرة فقال النبي : « يجمع ذلك لي في الآخرة » فأنزل اللّه - عز وجل - هذه الآية.
وفي رواية. يا رضوان - حينما عرض عليه ذلك - « لا حاجة لي فيها ، الفقر أحبّ إلىّ وأن أكون عبدا صابرا شكورا »
وعلى ذلك فيكون المعنى أن هذه الجنان والقصور تكون في الآخرة.
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ هذا إضراب عن شبههم ، وبيان أن هذه التعللات ليست حقيقية فلو أجيبوا إلى ما طلبوا ما آمنوا أبدا ، وإنما السبب هو أنهم كذبوا بالساعة ، ولم يؤمنوا بالغيب والحياة الآخرة ومن كان كذلك لم يكن عنده استعداد للبحث والنظر والإيمان بالرسل ، وهؤلاء قد أعد اللّه لهم جهنم سعيرا ذات نار مسعرة موقدة.
واللّه قد وصف السعير المعد لهم بصفات :
(أ) إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وهذا كقوله - تعالى - :
إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ وهذا وصف يفيد بوجه عام شدة النار ولهبها [سورة الملك الآيتان 7 و8].
(ب) وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا ، وهذا وصف لهم في(2/712)
ج 2 ، ص : 713
النار بعد ما وصفهم خارج النار روى عن عبد اللّه بن عمر قال : إن جهنم لتضيق على الكافر كضيق الزج - الحديدة التي في أسفل الرمح - على الرمح ، أما الجنة فعرضها السموات والأرض ولا شك أن الضيق شيء مؤلم للنفس وهم مع ذلك مصفدون في الأغلال والسلاسل. يسحبون على وجوههم في النار فإذا ألقوا فيها بهذا الوضع دعوا هناك قائلين : ووا ثبوراه! فقيل لهم : لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا ، ولكن ادعوا ثبورا كثيرا فما وقعتم فيه ليس يكفيه ثبور واحد بل ثبور كثير ، إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منه ثبور ، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلهم اللّه جلودا غيرها فلا غاية لثبورهم وهلاكهم. بعد أن وصف النار بما وصف مما يفتت الأكباد ، ويقطع القلوب حسرة وندامة على أصحابها أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقول : قل لهم : أذلك خير أم جنة الخلد ؟ وأى خير في النار ؟ ولكنه استهزاء بهم ، وسير على طريقتهم الضالة التي يرون فيها أن للنار خيرا حيث لم يعملوا للجنة وثوابها تلك الجنة التي وعد المتقون أن يدخلوها ويتمتعوا بها وكانت لهم جزاء ومصيرا ونعم الثواب وحسنت مرتفقا ، لهم فيها ما يشاءون ، وما تشتهيه نفوسهم ، وتلذه أعينهم ، وترنو إليه أبصارهم ، وهم فيها خالدون ، ورضوان من اللّه أكبر من كل ذلك ، وكان ذلك وعدا كتبه على نفسه ، وتفضل به على خلقه المؤمنين ، وقد سأله الناس فقالوا : رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آل عمران 194] رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ [البقرة 201].
من مشاهد يوم القيامة [سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 20]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)(2/713)
ج 2 ، ص : 714
المفردات :
بُوراً هلكى مأخوذ من البوار أى : الهلاك.
المعنى :
هذا مشهد من مشاهد يوم القيامة ، مشهد يتبرأ فيه المتبوعون من التابعين ويتخلص المعبودون من العابدين بل يكذبونهم فيما يقولونه عنهم وفي هذا تأييد لأهل الحق والإيمان ، وكشف لستر المخدوعين المغرورين بالأصنام والأوثان ومن عبدوهم من دون الرحمن.
ويوم يحشرهم ربك وما يعبدون من دون اللّه ، فيقول لهم على سبيل التقرير والتثبيت ليقروا بما يعلمون عن هذا السؤال فيظهر الحق وينكشف الصبح : أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء الذين عبدوكم أم هم ضلوا السبيل ؟ وهذا السؤال كما يقول علماء البلاغة للتقرير أى : حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه هو ، ونظيره قول اللّه لعيسى ابن مريم :
أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ؟ [سورة المائدة آية 116].
وكان جواب المعبودين من الملائكة والجن والإنس كعيسى والعزير وغيرهم وكذا الأصنام - وجوابهم بلسان الحال أو المقال - سبحانك ربنا وتنزيها لك!! ما كان ينبغي لنا نحن العبيد الفقراء إليك ، المستعينين بك العابدين لك وحدك. ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء وآلهة فما بال هؤلاء ؟ !! ، وقيل المعنى : ما كان يصح لنا ولا يستقيم منا أن نتخذ أولياء من دون اللّه ، فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولانا دونك ، سبحانك هذا بهتان منهم عظيم!.(2/714)
ج 2 ، ص : 715
ولكن السبب في هذا يا رب ، وأنت العالم بكل شيء ، أنك متعتهم وآباءهم حتى أبطرتهم النعمة ، وأضلهم الغرور حتى نسوا الذكر الذي أنزلته على رسلك ، وكانوا قوما هلكى لا خير فيهم « وتلك مقالة الملائكة فيما يظهر » فها أنتم أولاء أيها الكفار.
ترون أنهم كذبوكم في دعواكم أنهم يقربونكم إلى اللّه زلفى ، وأنهم آلهة ، فحقا كذبوكم فيما تقولون عنهم ، فما تستطيعون الآن أيها الكفار صرف العذاب عنكم بأى شكل ، ولا تستطيعون نصرا بحال من الأحوال ، وقرئ فما يستطيعون ، أى : الآلهة المزعومون صرف العذاب ، ولا يستطيعون نصركم أبدا.
ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا يتناسب مع ظلمه ، والظلم هو الإشراك أو هو نوع منه إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فالظلم أمر عام يدخل فيه الشرك والكفر والفسوق.
وهذا رد عليهم في اعتراضهم على الرسول بأنه يأكل الطعام ويمشى في الأسواق ، وما أرسل اللّه رسلا فيما مضى إلا رسلا يأكلون الطعام كالناس تماما ، ويمشون في الأسواق جريا وراء العيش وتحصيله من طرق شريفة حيث لم يكن في هذا الوقت جهاد ، فليس الفقر عيبا ، وليس العمل ينقص من قيمة الشخص ، وقد جعل اللّه بعض الناس فتنة لبعض فجعل المؤمن مع الكافر ، والصحيح مع المريض ، والغنى مع الفقير كل منهم فتنة لصاحبه فالغنى ممتحن بالفقير إذ تجب عليه المواساة ، وعدم السخرية منه ، والفقير ممتحن كذلك بالغنى فلا يحسده ، ولا يسرق منه ، وأن يصبر كل منهما على ما أراد اللّه له.
والرسول وأصحابه فتنة لأشراف القوم من الكفار في عصره ، ولذلك نرى أن من يقود الكفار والخارجين على الرسل قديما وحديثهم أشراف القوم ، ألم تر إلى قوله تعالى وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ وإرسال رسول من القوم ليس ذا جاه ومال ومادة كان سببا في كفر كثير من الناس ، وكان فتنة لبعض القوم لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. ألم يجد اللّه غير يتيم بنى هاشم يرسله رسولا ؟ نعم وجعلنا بعضكم لبعض فتنة! أتصبرون ؟ .
روى أنها نزلت في أبى جهل بن هشام ، والوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل وغيرهم من أشراف قريش حين رأوا أبا ذر ، وعبد اللّه بن مسعود ، وعمارا ، وبلالا ،(2/715)
ج 2 ، ص : 716
وصهيبا ، وسالما مولى أبى حذيفة ... فقالوا : أنسلم فنكون مثل هؤلاء! ؟ فأنزل اللّه - تعالى - يخاطب هؤلاء المؤمنين أَتَصْبِرُونَ
على ما ترون من هذه الحال الشديدة والفقر والجهد والإيلام - كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم والتضييق على المؤمنين فتنة لهم واختبارا ، ولما صبر المسلمون أنزل اللّه فيهم إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا.
بعض سوءاتهم وعاقبتها [سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 24]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24)
المفردات :
لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أى : لا يخافون لقاءنا والرجاء في بعض لغات العرب الخوف ، وقيل لا يأملون لقاءنا بالخير لأنهم لا يؤمنون به وَعَتَوْا العتو : تجاوز الحد في الظلم حِجْراً الحجر : المنع ومنه حجر القاضي عليه ، أى منعه من التصرف ، وسمى العقل حجرا لأنه يمنع صاحبه من بعض الأعمال هَباءً الهباء ما يرى من الذرات في شعاع الشمس الذي يدخل من النافذة الضيقة مَنْثُوراً متفرقا والمراد أنه لا ينتفع به.(2/716)
ج 2 ، ص : 717
المعنى :
هذا ضرب من تعنت الكفار ، وعنادهم الشديد الذي يدل حقّا على استكبارهم وعتوهم وفجورهم ، وكأنى بهم وقد امتلأت قلوبهم كبرا وطغيانا فطالبوا أن تنزل عليهم الملائكة كما تنزل على النبي صلّى اللّه عليه وسلم قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ويحتمل أن يكون مرادهم : لو لا أنزلت علينا الملائكة فنراهم عيانا فيخبرونا أن محمدا رسول اللّه إلى الناس وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً آية 90 من سورة الإسراء حتى قالوا في آية 92 من السورة نفسها أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا ولهذا قالوا هنا : لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا وكأنهم لم يقنعوا بالقرآن على أنه معجزة ناطقة بصدق النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في دعوى الرسالة فطالبوا برؤية الملائكة أو اللّه - سبحانه وتعالى - وما علموا أن اللّه لا يرى!! ولو أنزل إليهم ملك فليست فيهم قدرة على الاتصال به ، ومكالمته ، ولا غرابة في هذا ، فها هو النبي صاحب الروح القوية حينما التقى بجبريل - عليه السلام - لأول مرة ناله ما ناله مما لم يقو على تحمله ، وقد خفف جبريل عنه الشيء الكثير بضمه إليه مرارا وكأن اللّه يعده لذلك حتى حبب إليه الخلاء والبعد عن المادة والدنيا ومع ذلك حصل له ما حصل فكيف بعامة الناس ؟ ولو جعل الملك رجلا لحصل اللبس ، وطالبوا بالدليل وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ من سورة الأنعام الآيتان 8 ، 9 ولهذا قال اللّه تعالى : لقد استكبروا كبرا صادرا من أنفسهم مستكنا فيها ، وقد عتوا عتوا كبيرا ، يدعو إلى العجب العجاب ولقد صدق اللّه وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَ
كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ، وما لهم يطلبون رؤية الملائكة ؟ ! وهم سيرونهم في يوم عبوس قمطرير ، يوم تقبض فيه أرواحهم ويطلعون فيه على ما أعد لهم ، يوم يرون الملائكة قائلين لهم : لا بشرى لهم أبدا حين يبشرونهم بالنار وغضب القوى الجبار ، وتقول الملائكة لهم : أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ حقا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ، وهل هناك إجرام أشد من إجرام الكفار والمشركين ؟ ويقولون : حجرا محجورا ، ومن القائلون ؟
قيل هم الكفار على عادة الجاهلين حينما يلتقى الرجل بعدوه يقول : حجرا. على معنى(2/717)
ج 2 ، ص : 718
الاستعاذة باللّه ليمنع منه الخطر. وقيل هم الملائكة تقول للكفار : حراما محرما أن تبشروا بخير كما يبشّر المؤمنون يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ « 1 » فللمؤمن من الملائكة التحية والبشارة والتثبيت ، وللكفار الإنذار والإيلام والإضلال وسوء المصير.
هؤلاء الكفار كانوا يعملون بعض البر من صدقة وإكرام ، وفك أسير وخدمة البيت والحجيج ، وكانوا يعتزون بذلك ، ويعلقون عليه آمالا كبارا فقال اللّه لهم : وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فيه خير فَجَعَلْناهُ لا خير فيه ، ولا جزاء له ، بل صار كالهباء المبثوث مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ « 2 » ولا تعجب من هذا فهم قوم لم يؤمنوا باللّه ، ولم يقدروه حق قدره ، وقاسوه بالأصنام والأوثان ، وعبدوا معه غيره ، وجعلوا له ولدا أو شريكا أو شبهوه ببعض خلقه فأولى بهؤلاء أن يثيبهم على عملهم آلهتهم!! أما المؤمنون باللّه ورسله ولم يفرقوا بين أحد من رسله فأولئك هم أصحاب الجنة الفائزون ، وهم - يومئذ يتلظى الكفار بنار جهنم - خير مستقرا ، وأحسن مقيلا إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ [سورة يس الآيات 55 - 57].
وفي الحديث « إن اللّه - تبارك وتعالى - يفرغ من حساب الخلق في مقدار نصف يوم فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار »
وهذا معنى أحسن مقيلا ...
من مشاهد يوم القيامة [سورة الفرقان (25) : الآيات 25 الى 29]
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)
___________
(1) سورة ابراهيم الآية 37.
(2) سورة ابراهيم الآية 17.(2/718)
ج 2 ، ص : 719
المفردات :
تَشَقَّقُ تتفتح السماء عن الغمام : الْحَقُّ الثابت الذي لا يزول عَسِيراً شديدا يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ كناية عن الندم خَلِيلًا صاحبا وصديقا الذِّكْرِ المراد القرآن خَذُولًا الخذل الترك من الإعانة.
المعنى :
واذكر يوم تتشقق السماء عن الغمام. وتتفتح عنه ، وتنزل عنه ، وتنزل الملائكة من السماء ومعها صحائف الأعمال لتحاسب الخلق! وهذه الآية قريبة من قوله تعالى :
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة 210].
الملك يوم إذ تنتهي الخلائق إلى يوم الفصل ، وتزول الدنيا ومعالمها ، الملك الحق يومئذ للرحمن « لمن الملك اليوم ؟ للّه الواحد القهار » وكان هذا اليوم على الكافرين عسيرا وشديدا ، إذ هو يوم الفصل والقول الحق فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [سورة المدثر الآيتان 9 و10] أما المؤمنون فلا يحزنهم الفزع الأكبر ، واذكر يوم يعض الظالم على يديه ندما وأسفا على ما فرط منه ، ويقول : يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا نافعا ، وطريقا موصلا الى الخير ، وتركت طرق الغي والشيطان التي أتبعتها وكانت عاقبة أمرها خسرا.
يا ويلتى احضرى ، فهذا أوانك! ليتني لم أتخذ فلانا هذا الذي أضلنى لم أتخذه خليلا وصديقا حميما أتبعه فيما يشير علىّ به.
روى أنها نزلت في عقبة بن أبى معيط ، وكان صديقا لأمية بن خلف وأطاعه في إيذاء الرسول صلّى اللّه عليه وسلم
.(2/719)
ج 2 ، ص : 720
لقد أضلنى هذا الصديق عن القرآن والإيمان بعد إذ جاءني ، ومعه الدليل على صدقه وأنه حق من اللّه.
وهل هذا اليوم الذي يندم فيه الظالم وهو يوم القيامة أو يوم بدر ؟ الآية تحتمل ، ولم يسم القرآن الظالم وصديقه تحقيرا لشأنهما ، وليعم ذلك كل من شاكلهما.
وكان الشيطان للإنسان خذولا ، يخذله ولا ينصره وقت شدة الحاجة إلى النصرة ، وهكذا دائما شأن الشيطان ، فليحذر الذين يتبعونه ، ويسمعون لمشورته!! ...
من سوءاتهم أيضا [سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 34]
وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34)
المفردات :
مَهْجُوراً متروكا لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ لنقوى به قلبك وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا بيناه تبيينا بِمَثَلٍ بحال وصفه غريبة تشبه المثل.(2/720)
ج 2 ، ص : 721
المعنى :
وهذه شكاية الرسول لرب العزة والجبروت من سوءاتهم وأفعالهم التي تناهت في الفحش والسوء ، وقال الرسول : يا رب : إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا! ولا شك أن ترك الإيمان بالقرآن والتصديق به هجران له ، وترك تدبره وتفهمه هجران له ، وإن ترك العمل به وعدم امتثال أمره واجتناب نهيه في كل شيء هجران له ، وإن ترك الحكم به والعمل بقانونه في كل صغيرة وكبيرة - مع أن حكمه مرن وصالح لكل زمان ومكان - هجران له ، وإن اللغط واللغو عند تلاوته هجران له وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ وناهيك عن وصفه بأنه كذب وسحر وشعر فهو هجران له وأى هجران ؟ وفي كل هذا ألم للنبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وأى ألم أكثر من هذا ؟ !! ، ولذا يقول اللّه لا تحزن يا محمد فتلك سنة اللّه في خلقه ، ولن تجد لسنة اللّه تبديلا ، وكذلك جعلنا لكل نبىّ عدوا من المجرمين ، إى : وربي قد جعل اللّه - سبحانه - لكل نبي ورسول عدوا من شياطين الجن والإنس ، الذي يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.
ولما ذا يكون للنبي أعداء! ألم يأت بالحق ؟ ألم يدع إلى الخير ؟ ألم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر ؟ ألم يدع إلى عبادة اللّه الذي خلق الخلق ، وفطر السموات والأرض ، نعم الأنبياء رسل اللّه إلى الناس ، والدعاة إلى كل خير ، ولهذا فقط كان لهم أعداء ، وأعداء كثيرون!!! سبحانك يا رب ما أعدل حكمك وأجل شأنك!! ألست قادرا على إهلاك الأعداء ونصرة عبادك الأنبياء ؟ نعم اللّه - سبحانه - قادر على كل شيء ، ولكن هذا يحصل ليبتلى اللّه المؤمنين ، وليمحص اللّه الذين اتقوا ، ويمحق الكافرين والمنافقين ، وليبوء أعداء اللّه والحق ، وأعداء الأنبياء بالإثم الكبير ، والذنب العظيم.
نعم جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكذلك الدعاة إلى اللّه في كل وقت وحين لهم أعداء يقفون لهم بالمرصاد ، ويذيقونهم سوء العذاب أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [سورة العنكبوت الآيتان 2 و3].
ولكن مع هذا كله فاللّه معهم ، وناصرهم ومؤيدهم ما داموا على الحق الصريح يحاربون نفوسهم ، ويهزمون شياطينهم ، وكفى بربك هاديا ، وكفى به نصيرا ، وهو على كل شيء قدير!(2/721)
ج 2 ، ص : 722
اسمع لمشركي قريش يعترضون على النبي والقرآن اعتراضا آخر لما عجزوا وأفحموا وتحداهم القرآن فلم ينجحوا ، اسمع لهم يقولون : لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة كما نزلت الكتب على موسى وعيسى وداود! كذلك نزل القرآن منجما تبعا للحوادث والظروف لحكم إلهية هي تثبيت فؤاد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومن معه ، فيكون ذلك أدعى إلى حفظه وفهمه فهما عميقا لأن الحوادث تفسره تفسيرا عمليّا ، وكذلك رتلنا القرآن ترتيلا ، وبيناه تبيينا وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا ولا يأتونك بصفة وحال غريبة تشبه المثل كقولهم : لو لا أنزل عليه ملك ، لو لا كانت له جنة إلى آخر ما قالوا. إلا جئناك بالقول الحق والرد القوى الذي يلجمهم ، ولا يسألونك سؤالا للتعنت والتحدي إلا جعلناك تجيب بأن ننزل عليك القرآن ، وهو الحق من عند ربك ، فلو نزل جملة واحدة لوقفت إذا سألوك عن شيء خارج ، ... حقا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا.
الذين من دأبهم هذا ومن طبعهم ، يحشرون على وجوههم إلى جهنم ، وبئس القرار ، أولئك هم شر مكانا وأضل سبيلا.
والخلاصة : ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق ، وأنت منصور عليهم بالحجج الواضحة ، وهم محشورون على وجوههم ، أولئك مأواهم جهنم ، وبئس المصير مصيرهم.
قصص بعض الأمم التي كذبت رسلها [سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 40]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40)(2/722)
ج 2 ، ص : 723
المفردات :
وَزِيراً يقال : فلان وزير الملك أو الرئيس لأنه يؤازره أعباء الملك ، أى : يعينه من المؤازرة ، وقد مضى الكلام عليه في آية (29) من سورة طه تَدْمِيراً أهلكناهم إهلاكا الرَّسِّ البئر التي لم تطو ، وقيل : الرس الحفر ، ومنه رس الميت أى :
قبر تَتْبِيراً التتبير : التفتيت والتكسير ومنه التبر وهو كسارة الذهب والفضة ، والمراد أهلكناهم إهلاكا.
وهذا قصص ما مضى من الأمم التي وقفت من أنبيائها مواقف تشبه مواقف قريش مع النبي ، وكيف كان جزاؤهم في الدنيا!.
المعنى :
وتاللّه لقد آتينا موسى الكتاب الذي هو التوراة ، وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا له ليشد أزره ، ويحمل معه عبء الرسالة ، فقلنا : اذهب أنت وأخوك بآياتنا إلى فرعون إنه طغى ، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ، اذهبا إلى القوم - فرعون وملئه - الذين كذبوا بآياتنا وعصوا رسلنا فكانت عاقبتهم أنا دمرناهم تدميرا ، فانظروا يا كفار مكة عاقبة الكفر وتكذيب الرسل.
واذكر لهم قوم نوح. لما كذبوا الرسل جميعا ، إذ من يكذب رسولا فقد كذب الرسل ، ومن يؤمن برسول حقا فقد آمن بجميع الرسل ، لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية ، فهل من مدكر ؟ وأعتدنا للظالمين أى : لكل من سلك سبيلهم في تكذيب الرسل عذابا أليما ، وقوم نوح يدخلون في ذلك دخولا أوليا.(2/723)
ج 2 ، ص : 724
واذكر لهم عادا لما كذبوا هودا وثمود لما كذبوا أخاهم صالحا ، وأصحاب الرس قيل : هم قوم من عبدة الأصنام أصحاب آبار وماشية فبعث اللّه لهم شعيبا فدعاهم إلى الإسلام فكذبوه ، وآذوه فخسف اللّه بهم وبدارهم الأرض ، وقيل هم أصحاب الأخدود وقيل غير ذلك ، وأيا ما كانوا. فهم قوم أخبر اللّه عنهم بالهلاك ، فاعتبروا يا أولى الأبصار.
واذكر لهم قرونا بين ذلك ، أى : أمما لا يعلمهم إلا اللّه بين قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس ...
وكلا من الذين ذكروا بالنص كقوم نوح وعاد ، ومن الذين ذكروا بالإجمال ضربنا له الأمثال ، وبينا له الحجج والآيات ، وأجبناهم على كل الشبه والاعتراضات فلما لم يجد هذا ولا ذاك تبرناهم تتبيرا ، وأهلكناهم هلاكا تاما.
فما لكم لا تعتبرون ؟ !! ولقد أتى أهل مكة على القرية ، ومروا بها في رحلاتهم ، والمراد بالقرية (سدوم) من قرى قوم لوط ، التي أمطرت بالحجارة فكان أسوأ مطر وأشده عليهم! أفلم يكونوا يرونها ؟ أفلم يكونوا في مرورهم ينظرون إلى آثار عذاب اللّه - تعالى - ونكاله بهم!! بل السبب في جحودهم وعدم اعتبارهم والتفاتهم إلى موضع العبرة والعظة ، أنهم قوم كفرة لا يرجون نشورا. نعم إن الإنسان لا يتحمل متاعب التكاليف ، إلا رجاء ثواب الآخرة وخوف عقابها فإذا لم يؤمن بها ولم يرج ثوابها فلا يتحمل مشاق التكاليف ، ولا يفتح عينه ولا قلبه على موضع العبرة والعظة ، وهذا هو معنى قوله تعالى لا يَرْجُونَ نُشُوراً ولعلك تدرك من هذا السر في قوله :
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ « 1 » ولا شك أنهم هم المنتفعون بالقران إذ من لا يؤمن بالحياة الآخرة بعيد عليه ان يتقبل الهدى والنور.
___________
(1) سورة البقرة الآيتان 2 و3.(2/724)
ج 2 ، ص : 725
من قبيح أعمالهم [سورة الفرقان (25) : الآيات 41 الى 44]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)
يا عجبا لهؤلاء! لم يكتفوا بتكذيبهم لرسول اللّه الصادق الأمين ، وإنما جعلوه موضع استهزائهم ، يستهزئون به ويتندرون عليه ، وأيم اللّه إن هذا منهم لعجيب فلم يكن المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم في شكله العام أو تصرفاته الخاصة يصح أن يكون موضع استهزاء ، على أن الآيات والحجج التي ظهرت على يد الرسول تمنع من ذلك ، بل هم الذين يستحقون الاستهزاء بهم حيث تركوا عبادة الواحد القهار إلى عبادة الأصنام والأحجار!! وإذ رأوك - ما يتخذونك إلا هزوا - يقولون : أهذا الذي بعث اللّه رسولا ؟
والاستفهام هنا للتحقير والاستهزاء ، ولعل منشأ ذلك أنه ليس غنيا من أغنياء القوم.
والعجب منهم كيف يستهزئون به ثم ينسبون له في الوقت نفسه العمل الجليل والأثر الخطير حيث يقولون : إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها فهو قوى الحجة شديد التأثير يكاد يصرفنا عن عبادة الآلهة ، لو لا أن حبسنا أنفسنا على عبادتها وتعظيمها ، وهذا يدل على جد الرسول واجتهاده في تبليغ دعوته ، وعلى مقدار تمسكهم بالباطل ، وقد رد اللّه عليهم بأمور ثلاثة :(2/725)
ج 2 ، ص : 726
(أ) وسوف يعلمون حين يرون العذاب يوم القيامة من هو أضل سبيلا ؟ من هو أقوم طريقا ؟ أمحمد وصحبه أم كفار مكة ومن على شاكلتهم ؟ .
(ب) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ والمعنى. تعجب يا محمد من جهل هؤلاء الذين اتخذوا آلهتهم هواهم ، فهم لم يتخذوا لأنفسهم آلهة إلا هواهم ، وانظر إلى قول سعيد بن جبير : كان الرجل من المشركين يعبد الصنم فإذا رأى أحسن منه رماه ، واتخذ الآخر وعبده. وهذا يدل على أنه لم يكن لهم حجة في عبادة الأصنام إلا اتباع الهوى وتقليد الآباء! أما الحجة والنظر السليم فهم بعيدون عنها كل البعد.
وقيل المعنى : إن هؤلاء كانوا عبيدا لهواهم. وكان هو الحكم في كل شيء بلا عقل ولا عقيدة ولا نظر ...
أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ولست عليه بمسيطر ولن تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ، ما عليك إلا البلاغ فقط.
(ج) وهذا هو الرد الثالث عليهم أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا وأم بمعنى بل ، وهي تفيد الإضراب عما مضى كأن هذا هو الرد فقط ، نعم لا تظن أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون وقد نفى عن أكثرهم السماع والعقل - وهذا حكم عدل إذ كل مجموعة فيها الحسن والقبيح - ونفى السماع والعقل هنا يدلنا على أن المراد بهما السماع والعقل الروحيان الذي يكون القلب موضعهما أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها فليس المراد السماع والعقل الحسى فالكفار يسمعون بلا شك ويعقلون بلا شك ، وإنما الروح التي هي من اللّه ، والتي هي القوة الدافعة إلى الخير والمحاربة للنفس المادية والشيطان ، تلك الروح لها حواس موضعها القلب ، ومن أضله اللّه وأعمى بصره القلبي وسمعه وعقله وختم عليهما ، لا يكون له سمع يسمع الحق ويهتدى به. ولا يكون له بصر يبصر الطريق المستقيم ويسير عليه ، وهذا بلا شك لا يعقل ولا ينظر ولا يتذكر إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ.
ما هؤلاء الكفار إلا كالأنعام في أن لهم سمعا وبصرا حسيين ، وليس لهم إدراك وإحساس روحي ، بل هم أضل ، لأن البهائم لم تكلف ولم تعص خالقها ، وأما هؤلاء فقوم عندهم الاستعداد لإدراك الخير ، والقوة لمعرفة الحق ، ولكنهم قوم ضلوا وأضلوا ، ولهم النار وبئس القرار ...(2/726)
ج 2 ، ص : 727
بعض الظواهر الكونية التي تدل على وجود اللّه ونعمه علينا [سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 52]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49)
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52)
المفردات :
الظِّلَّ حالة وسط بين الظلام الخالص والنور الخالص ، ومده بسطه ، وينشأ من وجود جسم تقع عليه أشعة الشمس فيظهر ظله صباحا جهة المغرب وبعد الزوال يكون جهة المشرق ، وقال ابن السكيت : الظل ما نسخته الشمس ، والفيء ما نسخ الشمس ساكِناً ثابتا لا يزول لِباساً ساترا كاللباس سُباتاً من السبت وهو القطع لانقطاع التعب فيه ، أو لانقطاع الحياة الكاملة نُشُوراً ذا نشور أى انتشار ينتشر فيه الناس لمعاشهم بُشْراً مبشرات طَهُوراً مطهرا لغيره(2/727)
ج 2 ، ص : 728
أَناسِيَّ هم الناس صَرَّفْناهُ صرفنا المطر أى : فرقناه وحولناه من جهة إلى جهة ، ومنه قيل تصريف الأمور كُفُوراً أى كفرا.
ما مضى كان نقاشا لأهل مكة في أمور معنوية عامة ، وتهديدا لهم حيث كذبوا ولم يؤمنوا ثم ساق لهم قصصا يؤيد ذلك. وبين لهم أن هلاكهم أمر واقع ، ليس له من دافع ، ثم ساق أدلة على وجود الصانع المختار ، وهذه الأدلة بعض الظواهر الكونية ، التي يدركها كل مخلوق مع بيان قدرة اللّه ونعمه التي لا تنفد ، وكان الكلام على الظل.
والليل والنهار. والريح. والمطر وغير ذلك مما يناسب عقول هؤلاء الناس ، ويلتقى مع خيالهم ، وهو عماد بيتهم.
المعنى :
ألم تنظر إلى صنيع ربك الذي يدل على كمال قدرته ، ومنتهى رحمته حيث مد الظل وبسطه ، أو قبضه وقلله ، والظل نعمة من اللّه على الناس جميعا ، إذ الحياة والدفء من نور الشمس ، ولكن قد يبهر العين ، ويجلب الحر ، ويقتل النفس. وفي الظلام السكون والهدوء ، ولكن النفس لا تألفه ، والطبع السليم يأباه ، فكان من نعم اللّه علينا الظل وسطا بين النور والظلام ، وجاء وصفا للجنة حيث كانت ذات ظل ممدود ، ومن هنا ندرك السر في تفسير بعض العلماء للظل بأنه الوقت من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس إذ هو وقت الهدوء والسكون والراحة النفسية ، والجو الصافي ، وقت النشاط الروحي والصفاء النفسي : ولا تنس أن للظل مكانة عند العرب.
ولو شاء ربك لجعل الظل ساكنا ثابتا لا يحول ولا يزول ، ومن هنا يذهب رواؤه ، ويقل تأثيره ، إذ تأثيره الطبعي والمعنوي في ذهابه وحضوره ووجوده وانعدامه وقلته وكثرته.
والظل أمر لا يعرف ولا يدرك إلا بالشمس ، وتبارك اللّه أحسن الخالقين ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا فكأن اللّه - سبحانه - خلق الظل أولا ، ثم جعل الشمس دليلا على وجود هذه النعمة الجليلة ذات الأثر الفعال في الإنسان والحيوان والنبات.
أليس في وجود الظل ثم تحركه وتغيره ، وانتقاله من حال إلى حال ثم جعل الشمس(2/728)
ج 2 ، ص : 729
دليلا عليه ؟ أليس في ذلك كله ما يدل على الخبير البصير القوى الحكيم ؟ على أنه بنا رءوف رحيم.
وانظر إلى قوله تعالى : ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً وكأنه يسير الهوينا ، ولا شك أن قبضه وبسطه يسير على فاطر السموات والأرض.
إنها الشمس تشرق على الكون فتملؤه حياة وبهجة وحركة ودفئا ، ويظهر بسببها الظل في أول النهار ، والفيء من آخره ، ثم يأتى الليل بجحافله ، فتغيب الشمس ، ويحمر الأفق ، وتبيت الطير ، وتسكن الحركة ، وينام الناس .. أليس في ذلك كله مظاهر دالة على قدرة اللّه ؟
وهو الذي جعل الليل لباسا ، فهو ساتر بظلامه الناس. وفي ظلام الليل وسكونه آية وأى آية ؟ على وجود اللّه ، وفيه منافع للناس في الدنيا والدين ، لا تخفى على ذي بصيرة.
سبحانك يا رب خلقت فأبدعت ، وصنعت فأحكمت ، ولا غرابة فأنت الحكيم العليم!! يا أخى تصور أن اللّه حرمنا من الليل والنوم ، أيكون للدنيا ذلك البهاء ، وتلك الروعة ؟ إننا نبيت متعبين مكدودين فنأوى إلى فراشنا طلبا للراحة والهدوء فيمن اللّه علينا بالنوم والسبات العميق فيقطع علينا تفكيرنا وألمنا ، ويجدد من نشاطنا بل ويبعثنا من جديد ، فنصحو وكلنا نشاط وقوة وعمل واجتهاد ، حقا من نعم اللّه علينا أن جعل لنا النوم سباتا ، والنهار معاشا ، وإن من يحاول العمل في الليل والنوم في النهار لا يفلح ولا ينتج وما أحسن جعل الليل للسبات والنهار للنشور والمعاش.
وهو الذي أرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته تبشر بالغيث والمطر والإنبات وسير السفن ، وأنزل ربك من السماء ماء طهورا ، أى في نفسه مطهر لغيره ، يزيل النجس والخبث ، ويرفع الحدث.
أنزله ليحيى به الأرض بعد موتها ، إذ حياة الأرض بالزرع والنبات ، فالأرض المجدبة ، والصحراء القاحلة ميتة لا حياة فيها ، وإذا كان هذا حالها فما بال البلاد الواقعة فيها والناس الذين يسكنونها ؟ !! ومن المطر يشرب من خلق اللّه الأنعام من إبل وبقر وغنم وغيرها : ويشرب منه ويحيا به خلق كثير ، ربطت حياتهم بالمطر ، وهم سكان الصحارى والقفار.(2/729)
ج 2 ، ص : 730
ولقد صرف اللّه المطر ، وغير أحواله فتارة يكثر ، وطورا يقل ، بل وينعدم واللّه - سبحانه - يسوقه إلى حيث يشاء حسب إرادته وعلمه ، وصرفه اللّه وقلب أحواله ليذكر الناس ويتدبروا ، ويعلموا أن ذلك صادر من فاعل مختار ، ولا يمكن أن يكون بالطبع والعلة كما يقول الطبعيون ، ومع ذلك فقد أبى وكفر أناس كثيرون.
وقيل المراد تصريف القرآن ، وتقليب حججه وآياته من حال إلى حال ليذكر الناس ويتعظوا. ومع هذا فقد كفر به خلق كثير ...
ولو شاء ربك لبعث في كل قرية أو جماعة نذيرا ينذرهم ويبشرهم كما كان يحصل قديما ، ولكن اللّه - سبحانه وتعالى - أرسل محمدا خاتم النبيين أرسله للناس جميعا ، لأنه جمع خير الرسالات ، وفضائل الأنبياء وصفاتهم ، وكان بعثه فاتحة عصر جديد للعالم ، يمكن فيه لسهولة الاتصالات وانتشار نواحي العلم والمدنية أن يعلم الكل ولو بالإجمال إرسال رسول للناس وقد كان ذلك. فما من أمة أو جماعة إلا وقد عرفت برسالة محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
فلا تطع يا محمد الكافرين ، وجاهدهم بكل سلاح جهادا كبيرا ، جهادا يتناسب مع كل عصر وزمن ، وهكذا يكون أمراء دينك وحكام أمتك ، بل وأمتك كلها واجب عليها ألا تطيع الكافرين وأن تجاهدهم بكل سلاح والويل لها حين أطاعت ولم تجاهد!!
من دلائل التوحيد وجميل الإنعام وكريم التوجيه للنبي صلّى اللّه عليه وسلم [سورة الفرقان (25) : الآيات 53 الى 62]
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)(2/730)
ج 2 ، ص : 731
المفردات :
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ خلاهما وأرسلهما متجاورين فُراتٌ المراد شديد العذوبة وأصل الكلمة من فرته وهو مقلوب رفته إذا كسره لأنه يكسر سورة العطش ويزيلها أُجاجٌ شديد الملوحة مع مرارة بَرْزَخاً حاجزا يحجز كلا منهما عن الآخر نَسَباً أى : ذوى نسب أى : ذكورا ينسب إليهم وَصِهْراً أى : وذوى صهر أى : قرابة ، واشتقاق الصهر من صهرت الشيء إذا خلطته ، وسميت المناكح صهرا لاختلاط الناس بها ظَهِيراً أى : مظاهرا وقيل : هو من الظهر والمراد هينا ذليلا لا يعبأ به نُفُوراً أى : بعدا عن الدين بُرُوجاً أى : منازل كالقصور للكواكب السيارة خِلْفَةً أى : كل منها يأتى بعد الآخر.(2/731)
ج 2 ، ص : 732
المعنى :
وهو الذي مرج البحرين العذب والملح وخلى بينهما وخلط ، وأفاض أحدهما إلى الآخر ، فهما يلتقيان أحدهما عذب فرات ، يزيل العطش ، ويكسر سورته وذلك كمياه الأنهار والعيون والآبار ، وهي المياه الجارية التي فرقها اللّه بين عباده لاحتياجهم إليها كأنهار النيل والفرات والمسيسبى في أمريكا وغير ذلك كثير في جميع بقاع العالم ، وكذا العيون والآبار التي في الواحات والصحارى الكبرى وغالب هذه الأنهار وروافدها تتكون من الأمطار ، وبعضها يتسرب في الأرض ثم يظهر على شكل عيون وآبار.
والثاني ملح أجاج ، مر المذاق لا يستساغ شربه ، كالبحار الكبيرة والمحيطات المعروفة ، وهذه مياه ساكنة إلا من المد والجزر ، وتصب فيها الأنهار الجارية.
وإنا نرى أن البحرين العذب والملح ، يسيران جنبا إلى جنب بل وقد يصب العذب في الملح ، مع ذلك يبقى كل منهما محافظا على خصائصه مسافة طويلة ، هذا هو المشاهد عند مصاب الأنهار ، ونشاهد كذلك أن الأرض تحمل النوعين ، والقارة فيها الصنفان المتميزان كل عن الآخر ، لا يبغى أحدهما على الآخر أبدا.
وعلى ذلك يصدق فيهم قوله تعالى : وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً وقوله تعالى في سورة الرحمن مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ فالحاجز هو اليابس من الأرض ولقد صرح بذلك بعض أئمة التفسير كابن كثير وغيره ، وإلى هذا أميل ، وبعضهم يرى أن الحاجز ما يشاهد من نهر النيل مثلا يصب في البحر الأبيض وهو ملح ، ومع هذا يظل ماء النيل سائرا في الملح مسافة وهو محتفظ بخاصيته وهذا من نعم اللّه التي أنعم بها على خلقه فللماء العذب فوائد كلنا يعرفها ، وللماء الملح فوائد لا تخفى في تربية بعض الأسماك والأصداف والأحجار الكريمة كاللؤلؤ والمرجان. ولقد أثبت العلم الآن أن للمحيطات وملحها أثرا كبيرا في حياة الناس ولو كانت عذبة لفسد الجو.
وهو الذي خلق الإنسان من ماء مهين هو ماء النطفة ، فسواه وعدله ، وجعله كامل الخلقة ذكرا أو أنثى تكون لها مصاهرة وقرابات وأختان ، وتبارك ربك الخلاق وكان ربك قديرا بالغ القدرة ، خلق الإنسان ، وكان أن جعل منه الذكر والأنثى يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أرأيت اللّه واهب الوجود مبدع ذلك(2/732)
ج 2 ، ص : 733
الكون الغريب ؟ كيف ضل عن عبادته وكفر به المشركون ، فهم يعبدون من دون اللّه أشياء لا تنفعهم ولا تضرهم لو أرادت ضررهم ، لأنها لا تدفع عن نفسها الضرر ، ولا تجلب لها الخير ، فكيف بها معكم أيها الجهلة ؟ !.
وكان الكافر على عصيان ربه ، ومخالفة أمره ، وتكذيب رسله مظاهرا ومتعاونا مع الشيطان وهو وحزبه هم الخاسرون ، وقيل المعنى : وكان الكافر هينا لا قيمة له عند ربه.
وأما أنت يا محمد فلا يهمنك هذا العناد والكفر ، فما أنت إلا نذير ، وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ، وعلى اللّه وحده الحساب والعقاب قل لهم : لم لا تطيعوني وقد قامت الأدلة على صدقى ؟ هل سألتكم أجرا على رسالتي حتى تخالفوني ، لا : لم أسألكم أجرا أبدا ، لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا حسنا ، ومن شاء أن يكون عند اللّه من المقربين بالإنفاق والعمل الصالح فليفعل ، فكل ذلك عنده بمقدار ولا يضيع عنده مثقال ذرة من عمل.
وتوكل يا محمد على الحي الذي لا يموت ، صاحب هذا الملكوت ، القوى الباقي بعد فناء الخلق جميعا ، فمن يتوكل عليه فهو حسبه وكافيه من كل شر إن اللّه بالغ أمره ، قد جعل اللّه لكل شيء قدرا ، والتوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب الظاهرة مع اعتقاد أن اللّه - سبحانه - بيده كل شيء ، فهو كما ترى حي لا يموت ، فسبحه وقدسه وأطعه واعبده فهو العالم الخبير ، وكفى به بذنوب عباده خبيرا ، وسيجازى كلا على عمله إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وهو الرحمن الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام اللّه أعلم بمقدارها ، ولا تسل عن عددها بل تذكر قول اللّه في عدد خزنة النار حيث يقول : وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا [سورة المدثر آية 31].
خلق اللّه السموات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش استواء يليق بعظمته ، وهو أعلم به - وهذا رأى السلف - أما الخلف فيؤولون ويقولون ثم استولى على العرش يدبر الأمر. ويقضى بالحق وهو خير الفاصلين ، وثم للترتيب الإخبارى لا للترتيب الزمنى.(2/733)
ج 2 ، ص : 734
فاسأل خبيرا عنه واتبعه واقتد به ، ولا أحد أعلم باللّه ولا أخبر به من عبده ورسوله والكتاب الذي نزل عليه إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى .
[النجم 4 و5] وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن - سبحانه وتعالى - قالوا : وما الرحمن ؟ كما قال فرعون لموسى : وما رب العالمين ؟ وهل هم يسألون عن حقيقته ؟ أو هم يعرفونها وينكرون الاسم ويسألون عن الوصف.
أنسجد لما تأمرنا بالسجود له وهو الرحمن ؟ وزادهم هذا القول نفورا ، وبعدا عن الصواب والحق ، وبخاصة حينما يسجد المسلمون.
تبارك وتعاظم الذي جعل في السماء بروجا ومنازل للكواكب السيارة ، سبحانه من إله قوى قادر حكيم خبير ، ولكن المشركين لا يعقلون.
تبارك اللّه الذي جعل في السماء سراجا قويا ذا ضوء وحرارة ، وجعل فيها قمرا منيرا للكون في الليل ، وخص هذان لأنهما المعروفان المشاهدان.
وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة ، يخلف كل منهما الآخر فمن فاته خبر في الليل يعلمه في النهار ، هذا لمن أراد أن يتذكر ويعمل ، وكأن الليل والنهار المختلفان على الكون من آيات ربك الكبرى لمن أراد أن يتذكر ويتعظ ، ثم يشكر ربه على نعمه التي لا تحصى .. تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ...
من صفات المؤمنين [سورة الفرقان (25) : الآيات 63 الى 67]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67)(2/734)
ج 2 ، ص : 735
المفردات :
هَوْناً المراد متواضعين بسكينة ووقار سَلاماً أى : خيرا من القول يَبِيتُونَ كل من أدركه الليل فقد بات وإن لم ينم غَراماً لازما لا يفترق يَقْتُرُوا القتر والإقتار والتقتير البخل ، وهو ضد الإسراف قَواماً بفتح القاف : العدل والاستقامة ، وبالكسر : ما يدوم عليه الأمر ويستقر.
وهذا بيان لصفات المؤمنين بعد ما تكلم على الكفار والمشركين ، وبين أعمالهم واعتقادهم وما هم فيه ، وما ينتظرهم من جزاء فكان ختاما للسورة على أتم ما يكون وأحسنه ، وقد وصف اللّه المؤمنين هنا بتسع صفات ، كلها ترجع إلى صفة الشخص وخلقه ، وقد تعرض القرآن الكريم إلى صفات المؤمنين في عدة مواضع لاعتبارات مختلفة ، فمرة يذكرهم كجماعة وأمة ، ومرة كأفراد عاملين ، وأخرى يذكر صفاتهم وأخلاقهم كما هنا - إن شئت فارجع إلى الآيات من سورة التوبة ، والآيات 40 ، 41 من سورة الحج ، وكذا أول سورة المؤمنون إلى آخر ما مضى وما مر عليك.
المعنى :
وعباد الرحمن - وهم المؤمنون حقا - الذين يفعلون كيت وكيت ... أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ، يلقّون فيها تحية وسلاما.
والعبودية للرحمن ، أعلى صفة للإنسان : بل أعطيت لأكرم الرسل وخاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه وسلّم انظر إلى قوله تعالى : سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ ، تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ فدل ذلك على أن هذه الصفة من أشرف صفات المخلوقات ، ولا تعطى إلا للمشتغلين بالعبودية حقا ، وإلا فالكل عبد اللّه.
1 - الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً .. هم الذين يمشون في نهارهم مع الناس ويعاملونهم برفق ولين ، ويمشون في سكينة ووقار ، وخضوع وتواضع من غير أشر ولا بطر ، ولا عجب ولا كبر ، ولا يفسدون ، ولا يتكبرون ، ولا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ، وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعا ورياء ، وقد كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا مشى كأنما ينحط من صبب. أى : مرتفع.(2/735)
ج 2 ، ص : 736
2 - وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً أى : إذا تعرض لهم غيرهم من الناس بسوء ردوا عليه بالخير ، وألقوا قولا فيه سلام وتسليم ، وفيه العفو والصفح ، فهم يقابلون السيئة بالحسنة حيث صدرت السيئة من جاهل حقيقة أو حكما وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ فإذا وصلت حالة إلى أنه لا يعتبر جاهلا بل قاصدا عامدا للإهانة فهم يعتزون باللّه وبرسوله ، ويدفعون عنهم الذل والعار ، ويضربون على أيدى السفيه الأحمق المعاند حتى يكون عبرة له ولغيره.
3 - وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً وهذه صفة تختلف باختلاف الناس فمنهم من إذا صلّى العشاء في جماعة وأتبعها بسنتها ثم صلّى الفجر في جماعة كان متصفا بأنه بات لربه ساجدا وقائما ، ومن الناس من يصدق فيهم قوله تعالى كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وفي الحق أن كل نفس عليها ما تستطيعه بل وأقل منه حتى لا تنفر من العبادة ، ولا يصيبها الملل والكسل.
وقد وصف اللّه عباده في النهار بالمشي هونا ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ، وفي الليل بأنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما « عبّاد الليل وفرسان النهار » .
4 - وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً نعم هؤلاء هم عباد الرحمن حقا يفعلون من الخير ما يفعلون ، ولكنهم دائما في حذر وخوف ، ولا يأمنون مكر اللّه ، إنه لا يأمن مكره إلا القوم الفاسقون ، هؤلاء دائما يذكرون اللّه ، ويخشون عذابه ، ويقولون سائلين متضرعين : ربنا اصرف عنا عذاب جهنم الذي أعد للعصاة إن عذابها كان لازما لزوم الغريم ، إنها ساءت مستقرّا ومقاما وهذه الآية كقوله تعالى : وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ [سورة المؤمنون آية 60].
5 - وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً وتلك أساس الاقتصاد بل أولى دعائمه ساقها القرآن من أربعة عشر قرنا ، وإن جهلها المسلمون ولم يعملوا بها حتى غزانا الأجنبى اقتصاديا كما غزانا سياسيا.
والدين كثيرا ما أمرنا به انظر إلى قوله تعالى : وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ من سورة(2/736)
ج 2 ، ص : 737
الإسراء. والإنفاق المطلوب شرعا في الأمور المباحة هو ما كان بين الإسراف والتقتير إذ خير الأمور أوسطها ، واعلم أنه لا سرف في الخير ولا خير في السرف ، وقد قيل :
الاقتصاد نصف المعيشة وما عال من اقتصد. والاقتصاد فضيلة بلا شك بشرط أن لا يصل إلى حد التقتير والمبالغة في الإمساك ، واحذروا أيها المسلمون من أعدائكم في الاقتصاديات فهم يريدون فرض نفوذهم علينا إما بالسيف أو بالمال أو بالعلم ، وحذار ثم حذار من ألا عيبهم التي تجوز على كثير منا.
من صفاتهم أيضا [سورة الفرقان (25) : الآيات 68 الى 77]
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72)
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)(2/737)
ج 2 ، ص : 738
المفردات :
أَثاماً عقابا وجزاء مُهاناً ذليلا مطرودا لا يَشْهَدُونَ إما من الشهادة أو من الشهود أى الحضور بِاللَّغْوِ اللغو : كل ما لا خير فيه من قول أو فعل لَمْ يَخِرُّوا الخرور. السقوط على غير ترتيب ونظام قُرَّةَ أَعْيُنٍ المراد ما به تقر عيوننا أى : تسكن وتهدأ الْغُرْفَةَ كل بناء عال فهو غرفة المراد الدرجة الرفيعة ، وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي يقال : أنا لا أعبأ بفلان أى لا أبالى به ، وأصل العبء هو الحمل الثقيل : والمراد ما كان له عندي وزن ولا قدر.
وهذه صفات سلبية بعيدة كل البعد عن العباد المؤمنين ، وهي صفات المشركين الجاهلين ، فقد كان منتشرا عندهم الشرك وعبادة الصنم ، وقتل النفس بغير حق ، والإغارة على الآمن ، ووأد البنات خوف الفقر ، والزنا السرى في الأشراف ، العلنى في الإماء. وغير ذلك من الموبقات.
وقد روى مسلم من حديث عبد اللّه بن سعود قال : قلت : يا رسول اللّه. أى الذنب أكبر عند اللّه ؟ قال : « أن تدعو للّه ندّا وهو خلقك » قال : ثم أى ؟ قال :
« أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك » قال : ثم أى ؟ قال : « أن تزانى حليلة جارك »
فأنزل اللّه - تعالى - تصديقها في هذه الآيات.
المعنى :
وعباد الرحمن الموصفون بما تقدم من صفات هم أيضا المنزهون عن تلك ..
6 - وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فهم البعيدون عن الشرك باللّه ، ولا يدعون مع اللّه إلها آخر بل وجهتهم ربهم ، به آمنوا ، وعليه توكلوا ، وإليه التجئوا مخلصين غير مشركين.(2/738)
ج 2 ، ص : 739
7 - وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ اعلم يا أخى أن دم الإنسان محترم ولا يباح الاعتداء عليه إلا في ثلاث ، إذا ارتد بعد إسلام ، أو زنى بعد إحصان أو اعتدى بقتل إنسان لم يحل قتله ، فالمؤمنون هم الذين لا يقتلون نفسا حرم اللّه قتلها إلا بحق ، وصاحب الحق في قتل من ارتد أو قتل أو زنى هو الإمام ، أى الحاكم.
8 - وَلا يَزْنُونَ ... والزنى جريمة شنعاء ، وفعلة نكراء ، لا يأتيها إنسان ومعه ضمير حي ، ولقد صدق رسول اللّه « لا يزنى الزّاني حين يزنى وهو مؤمن »
ولذا كان النهى عن القرب من الزنا في قوله تعالى وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الإسراء 32] وهذه الصفات الثلاث أمهات الكبائر ، وعنوان الرذائل فمن يفعلها يلق أثاما وعذابا ونكالا.
ويضاعف له العذاب يوم القيامة أضعافا ، اللّه أعلم بها ، ويخلد فيه حالة كونه مهانا ، إلا من تاب وأناب ، وآمن باللّه وعاد إلى رشده ، وعمل عملا صالحا كدليل على صدق التوبة ، وحسن النية ، وحقيقة الندم.
والتوبة كما قلنا مرارا عملية تطهير للنفس ، لها أصول تقتضي الإيمان الكامل ، والعلم بالذنب والإقرار به ، والندم عليه. والعزم على عدم العودة إليه والعمل الصالح فليست التوبة باللسان فقط.
فأولئك التائبون العاملون يبدل اللّه سيئاتهم حسنات ، وكان اللّه غفورا للذنوب رحيما بالعباد يقبل التوبة عنهم ، ويعفو عن سيئاتهم.
وفي تبديل السيئة بالحسنة نظريتان ، قيل يبدل اللّه إيمانا بدل الشرك ، وإخلاصا بدل النفاق والشك ، وإحصانا بدل الفجور ، وحسنات بدل سيئات الأعمال ، و
قد روى أبو ذر الغفاري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم « إنّ السّيئات تبدّل بحسنات »
. وفي الخبر : « ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات » فقيل : ومن هم ؟ قال : « الذين يبدل اللّه سيئاتهم حسنات » رواه أبو هريرة
.. ولا حرج على فضل اللّه يجعل مكان السيئة حسنة إذا تاب العبد وأحسن التوبة ،
ففي الحديث « اتّق اللّه حيثما كنت ، وأتبع السّيّئة الحسنة تمحها ، وخالق النّاس بخلق حسن »
. النظرية الثانية أن المراد تغيرت أحوالهم السيئة إلى أحوال حسنة فأبدلهم اللّه بالعمل السيئ العمل الصالح ، والأمر كله بيد اللّه ، ومن(2/739)
ج 2 ، ص : 740
تاب عن أى ذنب عمله فإنه يتوب إلى اللّه توبة حقا ، واللّه تكفل بجزائه الجزاء الحسن على ذلك.
9 - وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً والزور هو :
الكذب أو الشرك وعبادة الأصنام ، أو الفسق والباطل ، وقيل هو أعياد المشركين أى :
مشاركة الكفار في مواسمهم وأعيادهم ، وعلى هذا فالمراد حضور تلك المآثم والاشتراك فيها ، أو المعنى لا يشهدون الزور وهو الكذب متعمدا على الغير.
وقد روى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في الصحيحين عن أبى بكرة قال : قال رسول اللّه « ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر ؟ - ثلاثا » - قلنا : بلى يا رسول اللّه قال : « الشّرك باللّه ، وعقوق الوالدين » وكان متكئا فجلس فقال : « ألا وقول الزّور ألا وشهادة الزّور »
فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.
والأظهر أن المراد لا يحضرون الزور وكل بهتان وإثم ، وإذا اتفق ومروا عليه مرور الكرام لا يلتفتون ، ولا يشتركون مع الآثمين.
10 - وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً فهم الذين إذا ذكروا بآيات اللّه أو تليت عليهم آياته وجلت قلوبهم ، وازداد إيمانهم وتوكلهم على اللّه بخلاف الكفار فهم إذا سمعوا آيات اللّه لم يتأثروا ، ولم يتغيروا عما كانوا عليه بل يظل حالهم على ما كان بل وقد يسوء وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً ؟ « 1 » فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ « 2 » ، إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا « 3 » وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية ما معناه :
إذا ذكروا بآيات اللّه أكبوا عليها وأقبلوا على من ذكروهم بها بأذن سامعة وأعين باصرة ، وقلوب واعية لا كالكفار وعصاة المؤمنين إذا ذكروا بالقرآن تراهم مقبلين بوجوههم فقط وهم صم الآذان عمى البصائر والأبصار حيث لم يفهموا من هذا القرآن شيئا ، ولم يتعظوا بمرور تلك الآيات أبدا.
11 - وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً المؤمن الكامل هو الذي يجعل نفسه متجهة إلى الباقية لا العاجلة فيكون همه الآخرة وما فيها ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ، وهو الذي يطلب من اللّه أن
___________
(1) التوبة الآية 124. -
(2) التوبة الآيتان 124 و125. - [.....]
(3) مريم الآية 58.(2/740)
ج 2 ، ص : 741
يهب له زوجا وذرية مؤمنة صالحة عاملة الخير مبتعدة عن الشر لتقر عينه وتسكن نفسه ، ولا تتطلع إلى غيره ، وليس معقولا أن يطلب ذلك لمال أو جمال بدليل قوله تعالى بعد ذلك : وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً يقتدى بنا في الإيمان العميق والعمل الوثيق « إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم » وكان ابن عمر يقول في دعائه : اللهم اجعلنا من أئمة المتقين أولئك الموصفون بما ذكر من جليل الصفات وعظيم الأعمال والخلال الإيجابية والسلبية وهي إحدى عشرة صفة : التواضع وعدم الكبر ، والحلم. والتهجد ليلا.
والخوف من عذاب اللّه ، وترك الإسراف والتقتير ، والبعد عن الشرك ، والزنا ، والقتل ، والبعد عن شهادة الزور ، ودعاء اللّه بصالح الأزواج والذرية أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ، ويعطون الجنة بما عملوا من صالح الأعمال ، ويلقون فيها تحية من اللّه وسلاما من الملائكة.
خالدين فيها حسنت الغرفة مستقرا ، وحسنت مقاما وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها .. [سورة هود آية 108].
وفي الختام بين اللّه أنه غنى عن الكل ، وإنما كلفهم لينتفعوا ، وعذبهم لعصيانه وتكذيب رسله فقال ما يفعل اللّه بعذابكم ... الآية والمعنى.
لا يبالى بكم ، ولا يكترث ، وليس لكم وزن عنده إذا لم تعبدوه ، فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ، ويوحدوه ، ويسبحوه بكرة وأصيلا ، والمعنى لو لا إيمانكم ما أبالى بكم أى : إنى لا أعتد بعبادي إلا لعبادتهم ، وأما أنتم يا كفار مكة فقد خالفتم بتكذيبكم حكمى فسوف يلزمكم نتيجة تكذيبكم وهو عقاب الآخرة لزوما دائما مستمرا فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [سورة هود الآيتان 106 ، 107].(2/741)
ج 2 ، ص : 742
سورة الشعراء
مكية كلها إلا آيات أربع من قوله تعالى : « يتبعهم الغاوون » إلى آخر السورة ، وعدد آياتها مائتان وسبع وعشرون آية.
موقف المشركين من الدعوة الإسلامية [سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
المفردات :
طسم تقرأ طا. سين. ميم. مع إدغام نون سين في الميم التي تليها باخِعٌ البخع أن يبلغ بالذابح النخاع ، وذلك أقصى حد الذابح والمراد قاتلها ومهلكها أَعْناقُهُمْ قادتهم ورؤساؤهم زَوْجٍ صنف كَرِيمٍ حسن جميل.(2/742)
ج 2 ، ص : 743
وهذا بدء لسورة الشعراء ، وهي سورة مكية ، افتتحت بأحرف هجائية فيها ما قلناه في أول سورة البقرة ، وما خلاصته أن اللّه أعلم به ونحن نقف عند هذا الحد ، وهو كالشفرة بين اللّه - جل جلاله - ورسوله الأعظم إذ هو مخاطب به فلا بد أن يعرف معناه ، وقال البعض : لا بد أن نفهم له معنى وسرا ، والظاهر أنه أتى به للتحدى بالقرآن الذي هو مكون من حروف المعجم العربية التي ينطق بها كل عربي ، ومع هذا عجزوا عجزا ظاهرا.
وهكذا جاءت السورة بذلك الطابع حيث تكلمت عن القرآن الكريم وموقف المشركين منه ، ثم تعرضت لقصص بعض الأنبياء - عليهم السلام - ، ثم ختمت بالكلام على القرآن والنبي صلّى اللّه عليه وسلم.
المعنى :
هذه الآيات - الإشارة إلى آيات هذه السورة - آيات من الكتاب أى : القرآن الكريم المبين عن أغراضه ومقاصده وأحكامه وإعجازه ، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ وهذه الإبانة في الواقع ونفس الأمر بقطع النظر عن عقيدة الكفار.
نعم أنزل عليك يا محمد كتاب أحكمت آياته ، وفصلت من لدن حكيم خبير ، فيه الهدى والنور لك ولأمتك ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، وإذا كان هذا القرآن كذلك ، ولم يؤمنوا به ، فليس لنقص فيه. ولكن اللّه أراد ذلك ، وعلى هذا فلا تبالغ في الحزن والأسف على عدم إيمانهم لأنك إن بالغت فيه كنت كمن يقتل نفسه ، ويبالغ في ذبحها ، ثم لا ينتفع بذلك أبدا ، فنحن مشفقون عليك أيها الرسول إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ.
واعلم أن اللّه على كل شيء قدير ، وهو قادر على أن ينزل آية تلجئهم إلى الإيمان وتقسرهم عليه ، وهم يذلون لها ويخضعون وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ « 1 » . وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً « 2 » وكانت حكمته أن جعل الناس أحرارا ، وجعل لهم اختيارا فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وقد قامت الحجة على الناس بإرسال الرسل إليهم ، وإنزال الكتب عليهم مبشرين ومنذرين ، ولهذا أثابهم وعاقبهم.
___________
(1) سورة يونس الآية 99.
(2) سورة هود الآية 118.(2/743)
ج 2 ، ص : 744
ولكن كلما جاء أمة رسولها كذبوه ، وأعرض أكثرهم فهم لا يؤمنون ، وها هم أولاء كفار مكة ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا كانوا عنه معرضين ، والقرآن الكريم نزل على النبي صلّى اللّه عليه وسلم منجما تبعا للحوادث ، وتلاه جبريل على النبي سورة بعد سورة وآية بعد آية فالقرآن أى الحروف والأصوات حادث بهذا المعنى.
واللّه - سبحانه - يقول لهم ما معناه : إن اللّه قادر على أن ينزل آية تخضع لها أعناقهم وتذل ، ومع هذا فهو ينزل القرآن آية بعد آية رحمة بهم لعلهم يهتدون ويتذكرون ولكنهم أبدا لا يتعظون ولا يؤمنون ، بل هم معرضون ومكذبون ومستهزئون ، وإذا كانوا هم بهذا الوضع فلا ينفع معهم إلا الزجر الشديد ، والوعيد الذي يهز القلوب وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ « 1 » ولقد صدق اللّه حيث يقول فيهم :
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ « 2 » نعم سيرون هذا بنزول العذاب عليهم في الدنيا ، ونصرة محمد وصحبه الضعاف عليهم ، أو سيرون ذلك يوم القيامة.
وقد بين اللّه - سبحانه - أنه مع إنزال القرآن آية بعد آية ، وحالا بعد حال قد أظهر أدلة كونية في كتاب الوجود لا تخفى على أحد ممن يعقل فقال.
أعموا ولم يروا إلى الأرض وعجائبها ؟ التي تنطق بأن لهذا الكون إلها قويا قادرا عليما خبيرا ، لا يمكن أن يقاس بتلك الأصنام والأحجار ، أو لم يروا إلى الأرض كثيرا ما أنبتنا فيها من كل زوج وصنف كريم ، ولا شك أن كل نبات في الأرض كريم أى له فوائد ، وإن خفيت على بعض الناس.
إن في ذلك الإنبات لآية بليغة معجزة قوية وأى آية ؟ !! وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز يعز أولياءه وينصر أحبابه ، القوى الذي يهزم أعداءه ، ويهلكهم حيث يستحقون ذلك ، الرحيم بالعباد جميعا ففي نعمه ونقمه رحمة بالخلق وقد نفى القرآن عنهم الرؤية مع أنهم يرون ، ولكنهم كالبهائم التي ترى ولا تعقل ، والرؤية المنفية عنهم هي رؤية الروح والقلب التي بها العظة والعبرة والذكرى لا رؤية العين فإنها موجودة.
___________
(1) سورة ص الآية 88.
(2) سورة الشعراء الآيتان 5 و6.(2/744)
ج 2 ، ص : 745
قصة موسى مع فرعون وملئه [سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 68]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44)
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)
وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)(2/745)
ج 2 ، ص : 746(2/746)
ج 2 ، ص : 747
المفردات :
كَلَّا كلمة زجر وردع والمراد : اتق اللّه وانزجر عن خوفك منهم بِآياتِنا المراد هنا معجزاتنا فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ خرجت من بينكم إلى مدين لا ضَيْرَ لا ضرر فيما يلحقنا من عذاب الدنيا أَسْرِ بِعِبادِي أى سربهم ليلا لَشِرْذِمَةٌ لجميع قليل محتقر لَغائِظُونَ أى : غاظونا بخروجهم من غير إذن حاشِرِينَ جامعين لأفراد الجيش مُشْرِقِينَ داخلين في وقت الشروق تَراءَا الْجَمْعانِ المراد التقى الجيشان فِرْقٍ الفرق القطعة من البحر كَالطَّوْدِ الجبل الشامخ وَأَزْلَفْنا وقربنا هناك قوم فرعون حاذِرُونَ آخذون حذرهم وأهبتهم.(2/747)
ج 2 ، ص : 748
هذه هي قصة موسى مع فرعون وملئه ، وقد ذكرت في سور هي البقرة.
والأعراف. ويونس. وهود. وطه. والشعراء. والنمل. والقصص. وغافر.
والسجدة. والنازعات ، ولكن بأساليب مختلفة.
وقصة موسى مع فرعون تشتمل على عناصر وقد ذكرت في مواضع سنلخصها بما يأتى :
ولادته وإرضاعه : في سورة القصص من آية 7 إلى 13 في سورة طه من آية 27 إلى 40 تربيته في بيت فرعون :
في سورة الشعراء من آية 18 خروج موسى من مصر إلى أرض مدين : في سورة طه من آية 40 في سورة القصص من آية 15 إلى 21 أرض مدين ونزوله بها : في سورة القصص من آية 22 إلى 25 قضاء موسى مدة استئجاره : في سورة القصص من آية 26 إلى 28 موسى بالوادي : في سورة طه من آية 9 إلى 23 في سورة القصص من آية 44 إلى 46 في سورة القصص من آية 29 إلى 32 في سورة النمل من آية 7 إلى 12 بعثته عليه السلام : في سورة طه من آية 24 إلى 36 في سورة طه من آية 42 إلى 47 في سورة الشعراء من آية 10 إلى 16 في سورة النازعات من آية 15 إلى 19 عودة موسى إلى مصر ودعوته لفرعون : في سورة الأعراف من آية 104 إلى 105 في سورة الشعراء من آية 17 إلى 22 موسى يحاج فرعون في ربوبية اللّه في سورة طه من آية 48 إلى 55 في سورة الشعراء من آية 23 إلى 55 فرعون يتجاهل اللّه ويدعى الألوهية في سورة القصص من آية 28 في سورة غافر من آية 36 إلى 37(2/748)
ج 2 ، ص : 749
معجزة العصا واليد : في سورة الأعراف من آية 106 إلى 126 في سورة يونس من آية 79 إلى 89 في سورة طه من آية 57 إلى 76 في سورة الشعراء من آية 29 إلى 52 تمادى فرعون في الكفر وإيذاء بنى إسرائيل : في سورة الأعراف من آية 127 إلى 129 في سورة غافر من آية 25 إلى 52 الائتمار بموسى لقتله : في سورة غافر من آية 28 إلى 46 آيات اللّه على فرعون : في سورة الأعراف من آية 130 إلى 135 في سورة الإسراء من آية 101 إلى 102 في سورة النمل من آية 13 إلى 14 في سورة القصص من آية 36 إلى 37 في سورة الزخرف من آية 46 إلى 50 في سورة النازعات من آية 20 إلى 21 انطلاق بنى إسرائيل وغرق فرق فرعون : في سورة الأعراف من آية 136 إلى 137 في سورة يونس من آية 90 إلى 92 في سورة الإسراء من آية 103 إلى 104 في سورة طه من آية 77 إلى 79 في سورة الشعراء من آية 52 إلى 68 في سورة الدخان من آية 17 إلى 31 نرى أن تلك القصة التي عنى بها القرآن الكريم ، وجاء بالقول الفصل فيها. ذكرت في عدة مواضع ، وبأساليب مختلفة في الإجمال والتفصيل ، وكل سورة ذكر فيها شيء عن القصة ، وبعض السور اشتركت في بعض العناصر المهمة - وقد عرفنا أن كل موضع في القرآن ذكر فيه شيء عن موسى أو غيره فالمذكور مناسب تماما لسياق الآيات السابق واللاحق ، والقصة هنا ذكرت آية على قدرة اللّه ، وأنه ينصر أولياءه ويهلك أعداءه الذين كذبوا رسله مهما كان لهم من حول وطول وملك وسنسوق المعنى الإجمالى للآيات المذكورة هنا بعون اللّه(2/749)
ج 2 ، ص : 750
المعنى :
واذكر يا محمد وقت أن نادى ربك موسى ، وهو بالوادي المقدس طوى والمراد ذكر ما حصل في الوقت من عجائب وأحوال ، ولقد ناداه ربك بكلام هو أعلم بكيفيته ، والمهم أن موسى عرف ما ناداه به ربه ، وقام بما كلفه خير قيام ، ناداه ، وقال له : أئت القوم الظالمين ، قوم فرعون فإنهم ظلموا أنفسهم بالشرك ، وظلموا بنى إسرائيل حيث أذاقوهم العذاب الأليم ، ألا يتقون هؤلاء الناس ؟ ألا يخافون بطش العزيز الجبار ؟ !! يوم لا ينفع مال ولا بنون.
قال موسى : يا رب إنى أخاف أن يكذبوني ويضيق صدري بما يعملون ، ولقد عشت بعيدا عن مصر مدة من الزمن فضعفت لهجتى المصرية ، فلا ينطلق لساني بها ، وأخى هارون هو أفصح منى لسانا ، وأقوى بيانا ، ولهم على ذنب ، فإنى قد قتلت قبطيا قبل خروجي من مصر ، لهذا وذاك فإنى أخاف أن يقتلوني ، قال اللّه - سبحانه وتعالى - كَلَّا لن يصيبك شيء أبدا ، فاللّه معك ، وناصرك أنت وأخيك ، فاذهبا إلى فرعون وملئه بآياتنا ومعجزاتنا ، إنا معكم ، ولن نترككم لحظة ، فاللّه سميع بصير ، لا تخفى عليه خافية.
فأتيا فرعون. فقولا له : إنا رسولا رب العالمين لك ولقومك ، فأرسل معنا بنى إسرائيل ليعبدوا ربهم في البرية ، ولا تعذبهم يا فرعون ... قد جئناك بآية من ربك ، والسلام على من اتبع الهدى.
طلب موسى من فرعون ، أن يرسل معه بنى إسرائيل ليذهب بهم إلى فلسطين قال له فرعون : يا موسى : كيف تجيء بدين يخالف ديننا ، وتأتى بأمور على غير رغبتنا ؟ ! ألم نربك فينا وليدا ؟ وقد لبثت بين يدينا في بيت الملك مدة من الزمن نحتضنك ونربيك ؟ فكيف يصدر هذا منك ؟ ، ومتى كان هذا الذي تدعيه ؟ والمراد قر واعترف بأنا ربيناك ، ومكثت عندنا وفي بيتنا عددا من السنين ، ثم ذكره بفعلة فعلها قبل خروجه من مصر فقال له : قر واعترف بأنك فعلت فعلتك التي فعلتها ، وهي قتل القبطي ، فعلتها وأنت من الكافرين بقتل نفس بغير حق.
ومن كان هذا وصفه بأن ربي في بيت فرعون ، وكان الأليق به ألا يأتى بشيء على غير رغبته ردّا للجميل ، ومن قتل قبطيّا ، وارتكب مثل هذا الذنب لا يضيف(2/750)
ج 2 ، ص : 751
إلى ذنبه ذنبا آخر هو ترك عبادة الآلهة إلى ديانة غير معروفة وعبادة غير مألوفة ، ولذا يرد موسى - عليه السلام - بقوله : أما قتل القبطي فقد فعلت فعلتى هذه ، وأنا من الضالين الجاهلين الذين لم يعرفوا الحق فيتبعوه ، فليس على فيما فعلته توبيخ ، وقد خرجت من دياركم ، وفررت منكم لما خفتكم ، فوهب لي ربي من عنده حكما وعلما ، وجعلني من الأنبياء ، والمرسلين ، فليس هذا موضع غرابة وتعجب وإنكار منكم على ، وتلك نعمة تمنها على ، وهي تربيتي في بيتك ؟ وقد استعبدت بنى إسرائيل قومي ، والمعنى ما كان لك أن تمن على بأن ربيتني في بيتك ، في حال إنك عذبت بنى إسرائيل وأذقتهم سوء العذاب.
محاجة موسى لفرعون في شأن ربه : لما ألحّ موسى في طلب إخراج بنى إسرائيل من مصر إلى فلسطين ، وطلب من فرعون وملئه أن يعبدوا ربهم الذي خلقهم ، ولم يجد معه التلطف والتذكير بالنعم وخلق هذا العالم قال له فرعون : وما رب العالمين ؟
قال موسى : هو رب السموات والأرض وما بينهما ، خلق ذلك وابتدعه على أحسن صورة وأكمل نظام ، إن كنتم موفقين فاعلموا ذلك ، فالتفت فرعون إلى من حوله من ملئه مظهرا العجب قائلا. ألا تسمعون لهذا التخريف ، واستمر موسى في كلامه قائلا : هو ربكم ورب آبائكم الأولين ، لفت نظرهم إلى شيء هام ، وهو أن الرب الحقيقي الذي خلقكم وخلق آباءكم الأولين ، فأنتم محدثون. كنتم بعد العدم ، وآباؤكم ذهبوا وماتوا بعد أن كانوا موجودين ، وفرعون أمره كذلك كان بعد العدم ، وسيفنى بعد الوجود ، وأما الإله فهو الباقي بعد فناء خلقه ، القديم الذي لا أول لوجوده ...
فما كان من فرعون إلا أن قال لقومه : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون لأنه جاءنا بشيء لا نعرفه.
وأما موسى فقال : هو اللّه رب المشرق والمغرب ، ورب الكون كله وصاحب الأمر فيه جل جلاله ، وتقدست أسماؤه ، وتنزه عن الشبيه والولد والوالد ، فهو الإله الحق ، لا ما أنتم فيه ، إن كنتم تعقلون.
وفي سورة (طه) تتميم لهذا الموقف إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) إلى آخر الآيات.(2/751)
ج 2 ، ص : 752
يا فرعون : إنى رسول رب العالمين ، ولما أنكر فرعون ذلك قال له موسى : أتنكر ولو جئتك بشيء مبين من المعجزات والآيات الدالة على صدقى ؟ !! فقال له فرعون. إن كنت من الصادقين فائت بآية تشهد لك ، فألقى موسى عصاه من يده ، فإذا هي ثعبان ظاهر ، لا شك فيه ، يتحرك ويسعى ، ووضع يده في جيب قميصه ثم نزعها فإذا هي بيضاء للناظرين.
ولما رأى فرعون وقومه تلك الآيتين الحسيتين اللتين تشهدان لموسى بالصدق قالوا هذا سحر مبين ، وهذا ساحر ماهر يموه علينا ، ويقلب الحقائق ، فهو كبقية السحرة ، وليس رسولا لرب العالمين كما يدعى ، هذا الذي يريد أن يخرجكم من أرضكم ويتغلب عليكم بسحره ، ويأخذ بنى إسرائيل من تحت أيديكم ... وتشاوروا فيما بينهم : ماذا يفعلون ؟ قال بعضهم لفرعون : الرأى أننا نرجئ أمر موسى وأخيه إلى موعد نضربه معهما ، ونجمع السحرة المهرة من كل مكان في الدولة ، وهؤلاء السحرة ستأتى في مشهد من الناس بأفعال كفعله وأقوى ، فتكون النتيجة أنه كباقي السحرة في المدينة ، وليس له فضل ، ولا حق فيما يدعيه ، وكان هذا هو الرأى ...
أرسل فرعون في المدائن حاشرين يجمعون له السحرة من كل حدب وصوب ، وكان السحرة في القديم هم الطبقة المثقفة ، ولهم مكانتهم عند الملوك والجبابرة وجاءوا مدلين واثقين من أنفسهم وتغلبهم على موسى ، وطالبوا بأجرهم فقال فرعون. نعم لكم ما تطلبون ، وإنكم إذ تغلبون لمن المقربين.
فلما اجتمع القوم ، التقى السحرة بموسى قال لهم : ألقوا ما أنتم ملقون به ، من العصى والحبال ، وذلك بعد ما عرضوا على موسى أن يلقى هو أولا ... فألقوا حبالهم وعصيهم ، فامتلأ المكان حيات وثعابين ، وخيل إلى الكل حتى موسى أنها تسعى وقالوا إنا بعزة فرعون لغالبون.
في تلك اللحظة ابتهج فرعون وقومه ، وأيقنوا أن السحرة غلبوا ، وأن موسى لن يستطيع أن يغلبهم في شيء إذ معه عصاه ، وستكون حية واحدة بين آلاف الحيات.
وعند ذلك أوجس موسى في نفسه خيفة ، فأمره اللّه أن يلقى عصاه فإذا هي حية تسعى ، وإذا هي تبلع حيات السحرة وتتلقفها بسرعة فائقة!! الآن ظهر الحق ، وبطل ما كانوا يعملون ، ودهش آل فرعون والملأ من قومه ، وعلم السحرة أن السحر لا(2/752)
ج 2 ، ص : 753
يفعل مثل ذلك ، إذ غايته أنه يخيل إلى الناس أشياء في الظاهر. أما الحقائق فتبقى كما هي من غير تغيير ، وعصى موسى قد غيرت الحقائق ، بل ابتلعت كل ما كانوا يفعلون من العصى والحبال.
علم السحرة أن السحر لا يفعل ذلك ، إنما هي القوة الإلهية التي صنعت ذلك ، القوة القادرة التي هي فوق قوى البشر جميعا ، فخروا ساجدين للّه بلا شعور ولا نظام ولا ترتيب وآمنوا برب موسى وهارون ، مفضلين الحق على الباطل ، رامين بقول فرعون وأجره وباطله وجبروته عرض الحائط ، غير عابثين بما يترتب على ذلك من نتائج.
لما رأى فرعون ذلك تحير ماذا يفعل في هذا الحدث الخطير الذي شاع وانتشر بين الشعب جميعه ، وكان في طلبه الناس ليشهدوا الحفل ، وجمعه السحرة ليعجزوا موسى ، كان في هذا كله كالساعي لحتفه بظلفه.
ثم التفت إلى السحرة الذين خذلوه في وقت هو في أشد الحاجة إلى أن ينصروه ، وقال لهم متوعدا : آمنتم له ، وصدقتم برسالته عن ربه قبل أن آذن لكم ؟ !! إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة ، وهو تدبير اتفقتم عليه سابقا ، إنه لكبيركم الذي علمكم السحر قديما ، قال هذا وهو يعلم أنه ربي في بيته ثم هاجر إلى مدين ، وعاد منها رسولا ، فلم يجتمع بالسحرة أبدا ، ولم يدبر معهم أمرا ، ولا علمهم علما ، ولكنه المغلوب يتخبط تخبط الأعمى.
ثم هددهم بالعذاب المادي فقال لهم : لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ، ولأصلبنكم جميعا في جذوع النخل ، ولتعلمن بعد هذا : أينا أشد عذابا وأقوى ؟ ! قال السحرة مقالة المؤمن الواثق ، المؤمن الفاهم ، المؤمن العالم بحقائق الأشياء قالوا :
لا ضير علينا ، ولا ضرر ، فيما يلحقنا من عذاب الدنيا ، فعذابك ساعة نصبر عليها ، ونلقى اللّه مؤمنين ، إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ وماذا يفعل عذابك ؟ إنه لن ينال إلا الجسد الفاني ، والمادة الزائلة ، أما نحن فيستحيل علينا أن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والهدى ، والنور الذي قذفه في قلوبنا ربنا ، فاقض ما أنت قاض ، إنما تقضى هذه الحياة الدنيا ، إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا لأن كنا أول المؤمنين ، إنا نطمع فيه أن يغفر لنا خطايانا ، وما أكرهتنا عليه من السحر ، واعلم أن اللّه خير وأبقى.
هكذا أيها الأخ المسلم قديما وحديثا كان العذاب والإيلام لأخيك المؤمن الذي قال(2/753)
ج 2 ، ص : 754
الحق ، واتبع الحق ، وآمن بالحق ، وصدق برسول الحق ، ولقد صدق اللّه حيث يقول وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ [سورة الأعراف آية 126].
فصبرا ثم صبرا لكل من عذب في سبيل اللّه والدعوة لدين اللّه ، فعسى أن يكون هذا تطهيرا لنفوسنا وإصلاحا لقلوبنا أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [سورة العنكبوت آية 2].
انطلاق بنى إسرائيل وخروجهم من مصر وغرق فرعون : أوحى اللّه إلى موسى بعد هذا كله : أن أسر بعبادي ، واخرج بهم ليلا ، ففعل موسى ، وقد أخبره اللّه أن فرعون سيتبعه ، وكان كذلك فلما علم فرعون بخروجهم أرسل في المدائن من يجمع له الجند الكثيف والجيش الكثير ليردهم إلى العبودية ، وقال : إن هؤلاء ، أى : بنى إسرائيل جماعة قليلة إذا قيست بالمصريين ، وإنهم لنا لغائظون ، حيث سفهوا أحلامنا ، وجاءوا لنا بدين لم نألفه ، وشرع لم نعرفه ، إنا لجمع حاشد ، ومعنا جيش منظم مستعد كامل العدد والعدد ، قد اتخذ أهبته وحمل سلاحه.
فلحقوهم عند شروق الشمس صباحا على خليج السويس ، فلما رأى بنو إسرائيل فرعون وجنده أيقنوا بالهلاك ، ولكن موسى النبي الملهم سكن روعهم ، وهدأ نفوسهم وبشرهم بالنصر العاجل ، والهلاك الماحق لفرعون ومن حوله فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ فأوحى اللّه إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ، ولما انفلق البحر صار فيه اثنا عشر طريقا على عدد أسباط بنى إسرائيل ، ووقف الماء بينهم كالطود العظيم ، فصار لموسى وأصحابه طريقا في البحر يبسا.
وأما فرعون وقومه فتبعوا بنى إسرائيل ، وصاروا خلفهم حتى إذا ما توسطوا الماء وقد نجا بنو إسرائيل ، وجاوزوا البحر ، انطبق البحر على فرعون وجنوده وعاد كما كان أولا ، ولم يفلت منهم أحد ، وهذا معنى قوله تعالى. وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ [سورة الشعراء الآيتان 64 و65].
وهكذا نجى اللّه المؤمنين ، وأهلك الظالمين الكافرين ، وأخرجهم من جنات وعيون ، وكنوز ومقام كريم ، هكذا أورثناها بنى إسرائيل حقبة من الزمن.(2/754)
ج 2 ، ص : 755
إن في ذلك لآية ، ومعجزة لمن ينظر ويتعظ ولقد نصر اللّه عباده المؤمنين وهزم أعداءه وأحزاب الشياطين على كثرتهم ، وهكذا سنة اللّه في خلقه ، ولن تتخلف أبدا وحقا إن ربك لهو العزيز يعز أولياءه ويهزم أعداءه الرحيم بالخلق جميعا.
قصة إبراهيم [سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 104]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88)
إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)
فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98)
وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)(2/755)
ج 2 ، ص : 756
المفردات :
نَبَأَ النبأ الخبر المهم عاكِفِينَ مقيمين على عبادتها خَطِيئَتِي ذنبي حُكْماً فهما وعلما ، وحكمة ، ومنه قولهم : الصمت حكم وقليل فاعله لِسانَ صِدْقٍ أى ثناء حسنا. وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ قربت وأدنيت ليدخلوها وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ المراد ظهرت جهنم فَكُبْكِبُوا فِيها ألقوا فيها ، والكبكبة الإلقاء على الوجه مرة بعد مرة كَرَّةً رجعة إلى الدنيا.
وتتلخص القصة التي ذكرت في هذه السورة :
(أ) في محاجة إبراهيم لأبيه وقومه في عبادة الأصنام وترك عبادة الواحد القهار.
(ب) ما ينتظره المؤمنون والكافرون يوم القيامة من أحوال.
(ج) العبرة من القصة.(2/756)
ج 2 ، ص : 757
المعنى :
واتل يا محمد على كفار مكة وعلى غيرهم نبأ إبراهيم ، وخبره المهم ليعرف المشركون خصوصا أهل مكة ما كان عليه أبوهم إبراهيم ، وكيف كانت مواقفه مع قومه وبخاصة أبيه ، وفي ذلك عبرة لأولى الألباب.
واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون ؟ سألهم عن عبادتهم وهو بها أعرف ليلفت نظرهم إلى ما يعبدون .. قالوا : يا إبراهيم : نعبد أصناما فنظل لها عاكفين ، وعلى عبادتها مقيمين .. قال إبراهيم مناقشا لهم : عجبا لكم! هل يسمعون دعاءكم إذ تدعون ؟ وهل ينفعونكم في شيء أو يضرون ؟ .. قالوا مجيبين له على سؤاله واعتراضه : بل وجدنا آباءنا لها عابدين يا عجبا ؟ يلفت إبراهيم نظرهم إلى هذه الأصنام التي لا تسمع دعاء ، ولا يكون منها نفع ولا ضرر مقصود ، يعنى ليس لهم حجة أبدا في عبادتها وتقديسها ، وهم لا يرون لهم حجة أبدا إلا التقليد الأعمى فيقولون حجتنا : أنا وجدنا آباءنا لها عابدين ، وإنا على آثارهم مقتدون. قال إبراهيم : أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون ؟ والمعنى أخبرونى عن حال ما كنتم تعبدون.
هل هم يستحقون العبادة أم لا ؟ وهذا استهزاء منه بعبدة الأصنام ، أخبرونى عن حالهم إن كانت لهم قوة حتى أحتاط لنفسي لأنهم أعداء لي.
لكن رب العالمين ليس كذلك بل هو وليي في الدنيا والآخرة ، وهو الذي خلقني ، فهو يهديني إلى خيرى الدنيا والآخرة ، ولقد صدق اللّه إذ يقول سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [سورة الأعلى الآيات 1 - 3].
وهو الذي يطعمنى ويسقيني أليس هو ربي وربكم الذي خلق ما في الكون وسخره - للإنسان ، يأكل منه ويشرب ، ويلبس ويتمتع رزقا للعبادا. ومتاعا لكم ولأنعامكم ؟
وإذا مرضت فهو ربي الذي يشفيني إن كان في العمر بقية ، وانظر إلى أدب النبوة العالي حيث نسب المرض إلى نفسه والشفاء للّه مع أن الكل منه وإليه ، وهذا لا يمنع من اتخاذ الأسباب والعمل بها. كالمتوكل على اللّه بعد الأخذ بها.
والذي يميتني إذا انقضى أجلى ، ثم يحييني للحساب والثواب ، والموت وما بعده من حياة نعم من نعم اللّه على عبده.(2/757)
ج 2 ، ص : 758
والذي أطمع وأرجو أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين والحساب ، وهل لإبراهيم خطيئة وذنب ؟ إنه من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فمخالفة الأولى من هؤلاء ذنب ، وإن كان منا ليس ذنبا.
هذا هو الثناء على الحق جل جلاله بما يليق ثم أتبعه بالدعاء لنعلم أن من وسائل الاستجابة الثناء والتضرع والعبادة الخالصة ثم الدعاء ، فإن دعونا بدون ذلك فقد جانبنا أدب الدعاء.
رب هب لي حكما وحكمة ، وعلما وفضلا يا واسع الفضل ، وألحقنى بالصالحين في الدنيا والآخرة كما
قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عند الاحتضار « اللهم في الرفيق الأعلى »
وإذا كان دعاء إبراهيم - عليه السلام - وهو أبو الأنبياء - عليهم جميعا الصلاة والسلام - أن يلحقه ربه مع الصالحين فما بالنا نحن ؟ وبما ذا ندعو اللّه ؟ !!!.
يقول إبراهيم داعيا ربه : واجعل لي لسان صدق في الآخرين أى ذكرا جميلا ، وثناء حسنا أذكر به ، ولهذا كانت كل أمة تحبه وتتولاه ، وتؤمن به وتدعى أنها على طريقته ، وقيل معنى الآية : واجعل لي صاحب لسان صدق في الآخرين يجدد أصل ديني ، ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه ، من التوحيد الخالص والإيمان بالبعث وبيوم القيامة. وصاحب هذا اللسان الصادق هو محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
واجعلنى من ورثة جنة النعيم الذين يعطونها ويستحقونها بعملهم كاستحقاق الوارث من مال مورثه ، واغفر لأبى إنه كان من الضالين الذين لم يعرفوا طريق الحق وهذا الدعاء قبل أن يتبين له أنه عدو للّه فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [سورة التوبة آية 114].
ولا تخزني يوم يبعثون ، يوم لا ينفع مال ولا بنون ، فإنه لا يقي المرء من عذاب اللّه ماله ، ولو افتدى نفسه بملء الأرض ذهبا ، ولا يقيه بنوه ، ولو افتدى بمن في الأرض جميعا ، ولا ينفع يومئذ إلا الإيمان باللّه ، والإخلاص له والبعد عما يغضبه من المعاصي والشرك ، ولهذا قال اللّه : إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ سالم من دنس الشرك والمعاصي سليم من الشك والنفاق إذ هي أمراض القلوب فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [التوبة 125].
هذا حال إبراهيم الخليل مع أبيه وقومه يحاجهم ويناقشهم ، وهذا حاله مع ربه يثنى(2/758)
ج 2 ، ص : 759
عليه الثناء الجميل ، ويدعو بلسان رطب لسان مشغول بذكره تعالى لا ينساه ، أما حال الناس فلا يخلو إما أن يكونوا مؤمنين أو كافرين ، ولذا تعرض القرآن لهاتين الحالتين فقال :
وأزلفت الجنة للمتقين ، نعم ، وقدمت لهم مجلوة كالعروس تملأ العين بهجة والقلب رواء ، فلم يبحثوا عنها ، ولم يتعبوا يوم القيامة في طلبها ، وبرزت الجحيم للغاوين ، وظهرت لهم تملأ قلوبهم حسرة ، ونفوسهم حزنا وكدرة على ما فرط منهم من جهل وضلال في الدنيا ، وقيل لهم تأنيبا : أين ما كنتم تعبدون ؟ أين أولياؤكم من دون اللّه ؟
هل ينفعونكم اليوم ؟ هل ينصرونكم ويمنعونكم من العذاب ؟ وهل ينصرون هم من عذاب اللّه ؟ .. لا هذا ولا ذاك ولكنهم جميعا العابد والمعبود يلقون في النار على وجوههم ، وسيلقى اللّه بعض الكفار على بعض إلقاء مكررا حتى يهوون في قعر جهنم جزاء بما كانوا يعملون.
فكبكبوا فيها هم والغاوون لهم من شياطين الإنس والجن وجنود إبليس وأعوانه أجمعون.
قالوا أى بعضهم لبعض - وهم في جنهم يختصمون - تاللّه إن كنا لفي ضلال مبين ، إذ نسويكم أيها الأصنام والأحجار والملائكة وبعض البشر إذ نسويكم برب العالمين ، ونجعل أمركم كأمره ، وطاعتكم كطاعته ، وفي الحق ما أضلنا إلا المجرمون فما لنا من شافعين يشفعون لنا ، وما لنا من صديق حميم يدافع عنا أى ليس لنا هذا ولا ذاك إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [سورة ص آية 64].
فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين ، تمنوا أن يرجعوا إلى الدنيا مرة ثانية ليعملوا ولكن كما قال لهم اللّه وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة المؤمنون آية 75] إنها قلوب عميت وضلت ولن تهتدى أبدا.
إن في ذلك لآية وعبرة ، نعم إن في محاجة إبراهيم لقومه ، وتغلبه عليهم ، وإقامة الحجة عليهم في التوحيد لآية وعبرة لأولى الألباب ، وإن في موقف إبراهيم من أبيه وقومه لما يثبت قلب النبي ويهدئ روعه فلا يحزن على كفر قومه وما كان أكثرهم مؤمنين ، وإن ربك لهو العزيز المنتقم الجبار لمن عصاه ، الرحيم بعباده المؤمنين الطائعين ...(2/759)
ج 2 ، ص : 760
قصة نوح مع قومه [سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 122]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
المفردات :
الْأَرْذَلُونَ جمع أرذل. والمراد السفلة وأصحاب الحرف الوضيعة ، وقيل هم الفقراء فَتْحاً احكم حكما الْمَشْحُونِ المملوء بالناس والحيوان.(2/760)
ج 2 ، ص : 761
المعنى :
هذه هي قصة نوح الذي عاش في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى عبادة اللّه ، وترك الشرك وعبادة الأوثان ، ومع ذلك كذبه قومه فقال اللّه فيهم : كذبت قوم نوح المرسلين ، فإن من كذب رسولا واحدا فقد كذب الكل لأن الرسول يدعو إلى الإيمان بجميع الرسل وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [سورة البقرة آية 285].
كذبوا إذ قال لهم أخوهم نوح : ألا تتقون! أتدعون صنما وتذرون أحسن الخالقين ، واللّه ربكم ورب آبائكم الأولين ، إنى يا قوم لكم رسول أمين في رسالتي صادق في دعواي أنى رسول رب العالمين ، فاتقوا اللّه ، وأطيعونى ، وإنى لا أرى سببا لعصياني وتكذيبي وأنا أخوكم تعرفون عنى ما تعرفون من شرف النسب وكرم الخلق وصدق الحديث ، وأنا لا أطلب بدعوتي مالا ولا جاها ولا ملكا ، وما أجرى إلا على ربي ، وليس جزائي إلا عنده فما لكم تكفرون ؟ فيا قوم اتقوا اللّه وأطيعونى.
قالوا يا نوح : أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ؟ لم يجدوا حجة تؤيدهم في ترك الإيمان إلا أنه قد اتبعه ضعاف الناس وفقراء القوم.
يا للعجب! الحياة يوم مكرر ، فقديما وحديثا منع الناس من الإيمان ذلك الفهم السيئ ، وذلك الغرور الكاذب الذي أوقع إبليس في العصيان لأنه اغتر وقال : أأسجد لآدم ، وأنا خير منه خلقتني يا رب من نار وخلقته من طين ، ومنع أشراف قريش من الإيمان بمحمد لأنه آمن به بلال وصهيب وغيرهم من عامة الناس.
وهؤلاء أتباع نوح يقولون : أنؤمن لك ونصدق بك وقد اتبعك الأرذلون أصحاب الحرف الوضيعة. لا يمكن ، نحن أشراف القوم! فيقول لهم نوح : وما علمي بما كانوا يعملون ، لم أكلف العلم بأعمالهم وأحسابهم وأنسابهم. إنما كلفت بدعواهم للإيمان برب العالمين فاستجابوا لي ، وآمنوا بي بعد إيمانهم باللّه وملائكته واليوم الآخر ، وأما أعمالهم فحسابهم على ربي لا علىّ ، يا ليتكم تشعرون بذلك ، لو تشعرون وتعلمون أن حسابهم على ربهم لما عاتبتمونى بصنائعهم ، وما أنا بطارد المؤمنين مهما كانوا من فقر أو ضعف أو رقة حال فالكل سواء ، ولا فضل لأحد إلا بالعمل الصالح ، وما أنا إلا نذير مبين.(2/761)
ج 2 ، ص : 762
لم ينفعهم هذا الكلام ، ولم يرضهم هذا الأسلوب بل عدوه إهانة لهم وسبأ لآلهتهم ، وقالوا : لئن لم تنته يا نوح عن سب آلهتنا وتسفيه أحلامنا لتكونن من المرجومين بالحجارة المقتولين شر قتله.
فلما ضاق بهم ذرعا ، واستعصى عليه أمرهم دعا ربه وقال : رب إن قومي كذبوني فاحكم بيني وبينهم حكما عدلا ، ونجنى ومن معى من المؤمنين.
فكان الحكم العدل والقضاء ، الذي لا يرد : أن اللّه أنجاه ومن معه من المؤمنين أنجاه في الفلك المشحون بالخلق ، وقد مضى ذكرها والكلام عليها في سورة [هود والمؤمنون ].
ثم أغرق اللّه الكافرين مطلقا.
إن في ذلك لآية وأى آية أبلغ من تلك لو كنتم تعلمون يا كفار قريش فهذا نوح دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، وما آمنوا به ، بل وقالوا : أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ، وها أنتم أولاء يدعوكم نبيكم الصادق الأمين فلم تؤمنوا ، وقلتم أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [سورة الأنعام آية 53]. وقلتم إن أردت أن نؤمن لك فلا تجلس مع هؤلاء العبيد والخدم.
اتعظوا أيها القوم بما حل بالمشركين قبلكم حينما غضب عليهم نبيهم فقد غرقوا ، ولم ينج إلا نوح والمؤمنون معه ، وابنه لأنه لم يؤمن قد غرق كذلك ، وأما أنت يا محمد فلا تحزن ولا تيئس فالنصر للمؤمنين والهلاك للكافرين ، ونوح دعا قومه مدة من الزمن ومع ذلك ما كان أكثرهم مؤمنين ، وإن ربك لهو العزيز الرحيم.
قصة هود مع قومه [سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 140]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)(2/762)
ج 2 ، ص : 763
المفردات :
رِيعٍ جمع ريعة. المرتفع من الأرض ، وقيل الطريق آيَةً علامة تَعْبَثُونَ تفعلون ما لا فائدة فيه أصلا كاللعب مَصانِعَ جمع مصنعة وهي الحوض أو البركة ، وقيل هي القصور والمدائن بَطَشْتُمْ البطش السطوة والأخذ بعنف خُلُقُ عادة وطبع وقرئ خلق بمعنى اختلاق وكذب.
المعنى :
أرسل اللّه هودا إلى قومه عاد ، وكانوا قوما أولى بأس وشدة ورخاء ونعيم فقال لهم : اعبدوا اللّه وحده فما لكم من إله غيره ألا تتقون اللّه ، وتخافون عذابه ، إنى لكم رسول أمين على رسالتي التي هي من عند اللّه ، فاتقوا اللّه وأطيعونى ، يصلح لكم أعمالكم ، ويحفظ عليكم نعمكم ، وأنا لا أسألكم على ذلك أجرا ولا مالا ، ولا أبغى(2/763)
ج 2 ، ص : 764
بذلك سلطانا ولا جاها إن أجرى إلا على ربي لو كنتم تعلمون ، ولكنهم كذبوه إذ قال لهم هذا ، ورموه بالسفاهة ، والجنون.
وقال لهم هود : يا قوم أتبنون بكل مرتفع من الأرض أو بكل طريق بناء كالعلامة التي يهتدى بها حالة كونكم تعبثون ؟ وتلعبون بهذا البناء ، ولم تنتفعوا به فيما ينفعكم ، وقيل أنتم في هذا البناء تسخرون ، وتهزءون بغيركم حينما يمرون عليكم ؟ وتتخذون مصانع تجمعون فيها الماء كالأحواض والبرك والسدود ، أو تتخذون مصانع من المدائن والقصور الشامخات ، والتاريخ يحدثنا بأنهم كانوا أصحاب سدود وأحواض لجمع المياه ، وأصحاب قصور شامخات لعلكم بذلك كله تخلدون ، والمراد فعلتم هذا راجين الخلود في الدنيا منكرين البعث وإذا بطشتم بأحد بطشتم جبارين ، وقد كانت تلك القبيلة ذات بأس وقوة وشدة ، وقد زادهم اللّه بسطة في الجسم والخلق ، وبوأهم أرضا تدر عليهم من الخير الكثير ، لهذا كانوا إذا سطوا أو حاربوا بطشوا بعنف وشدة.
وقد وصفهم اللّه بصفات ثلاثة كلها تدل على أنهم يريدون علوا في الأرض واستكبارا ، فهم يبنون بكل ريع بناء ضخما حالة كونهم به يستهزئون ويعبثون ، وهم قد اتخذوا المصانع والمنازل كأنهم مخلدون ، وإذا بطشوا بالغير بطشوا جبارين ، وهذه صفات تتنافى مع الإيمان والتصديق بالرسل الكرام ، لذا تجدهم كذبوا هودا وتحدوه يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ.
مع أن هودا كان يدعوهم بالحسنى ويذكرهم بالنعمى ، لعلهم يثوبون ويرجعون فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ واتقوا يا قوم الذي خلقكم وأمدكم بما تعلمون من النعم ، أمدكم بأنعام منها تأكلون ، وعليها تحملون ، ومن أوبارها وأشعارها تلبسون ، وأمدكم ببنين أولى بأس وقوة ، وأمدكم بجنات وعيون ، وهل بعد هذا نعمة ؟ أعطاهم أنعاما ورجالا ، وجنات وأنهارا أفليس هذا مما يدعو إلى الشكر وامتثال الأمر ، ولذا قال هود لهم : يا قوم. إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم في الدنيا والآخرة.
ولكنهم قوم مغرورون ، لم يستجيبوا لنبيهم بل قالوا له : يستوي عندنا وعظك لنا وتحذيرك إيانا وعدم وعظك أصلا ، فإنا لا نرعوى لوعظك ، ولا نسمع لكلامك والسبب في هذا. أن الذي خوفتنا به ما هو إلا خلق الأولين وافتراؤهم وكذبهم ، وعلى قراءة (خلق) يكون المعنى إن هذا الذي نحن عليه من بناء الصروح والقوة في(2/764)
ج 2 ، ص : 765
الحروب إلا عادة آبائنا الأولين ورثناها عنهم ، وما نحن بمعذبين أبدا لأنه ليس الأمر كما تقول.
وكانت النتيجة أنهم كذبوه في كل ما أتى به ، فأهلكناهم بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال ، وثمانية أيام حسوما. فترى القوم فيها صرعى ، كأنهم أعجاز نخل خاوية.
إن في ذلك لآية : وأى آية أقوى وأشد أثرا وأبعد مغزى من هذه ؟
فمنها نعرف الموقف النبيل الذي وقفه هود من قومه حينما رموه بالسفاهة والجنون فقال لهم : يا قوم ليس بي سفاهة ، ولست أنا مجنونا.
ومنها نعرف كيف يتلطف الداعي فيذكر النعم التي منّ اللّه بها والتي تقتضي الشكر للّه ، والإيمان به.
وفي هذه القصة نرى كيف أهلك اللّه من عصى رسوله ولم يؤمن به فاحذروا يا آل مكة من عصيانكم وتكذيبكم ، وها أنت يا محمد - وأنت الرسول الصادق الأمين - ترى ما فعله أخوك ، وما حل بالقوم الكافرين ، ومع هذا كله فما كان أكثرهم مؤمنين ، وإن ربك لهو العزيز الذي لا يغلبه أحد ، الرحيم بمن آمن به ...
قصة صالح مع قومه ثمود [سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 159]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145)
أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)(2/765)
ج 2 ، ص : 766
المفردات :
طَلْعُها أول ما يطلع من ثمرة النخل ، وهو كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو هَضِيمٌ لين متكسر من هضم الغلام يهضم خمص بطنه ولطف كشحه فهو أهضم وهضماء وهضيم. أما هضم يهضم فمعناه كسر أو ظلم فارِهِينَ بطرين أو أشرين أو حاذقين مأخوذ من الفراهة وهي النشاط الْمُسَحَّرِينَ الذين سحروا كثيرا حتى غلب السحر على عقولهم شِرْبٌ نصيب من الماء تشربه فَعَقَرُوها ذبحوها.
المعنى :
أرسل اللّه إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا من أوسطهم نسبا وأكرمهم خلقا ، فقال لهم : ألا تتقون. دعاهم إلى عبادة اللّه وترك الأصنام ، وقال لهم : إنى لكم رسول أمين ، فاتقوا اللّه حق تقواه ، وأطيعونى حيث إنى رسول رب العالمين إليكم وما أسألكم على ذلك أجرا ، ولا أطلب منكم مالا ، ولا أريد جاها ولا رئاسة.
وما أجرى إلا على رب العالمين ... ومن الواضح أن صالحا كغيره أيدت دعواه(2/766)
ج 2 ، ص : 767
بآية دالة على صدقه قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ من سورة الأعراف ، وقال لهم صالح : أتتركون في ما ها هنا آمنين ؟ أى أتتركون في دنياكم هذه آمنين تتقلبون في النعيم آمنين من العذاب ؟ والمعنى لا تظنوا ذلك ، ولا ينبغي لكم أن تعتقدوا أنكم تتركون على هذه الحال. أتتركون في ما ها هنا آمنين ، في جنات وعيون ، ونخل طلعها هضيم ؟ لا يعقل أن تتركوا على ما أنتم عليه من الشرك والكفر والظلم المبين ، وأنتم تمرحون في بحبوحة من النعيم ، وتتمتعون بالجنان والأنهار والزرع والثمار ، والنخيل ذات الطلع اللين الجميل.
أتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ؟ الاستفهام هنا للإنكار ، والإنكار منصب على قوله فارهين ، على معنى لا تنحتوا من الجبال بيوتا وأنتم فرحون فرح بطر وأشر ، مع السرعة والنشاط فإن هذه المعاني تفيد الإخلاد إلى الدنيا والركون إليها مع عدم الإيمان بيوم القيامة. فاتقوا اللّه أيها القوم ، ولا تطيعوا المسرفين على أنفسهم بالمعاصي وارتكاب الخطايا ، لا تطيعوهم في أمر من الأمور ، فإنهم هم الذين يفسدون في الأرض ، ولا يصلحون أبدا في وقت من الأوقات ، وهؤلاء هم أشراف القوم والملأ أما ضعاف الناس فآمنوا بصالح ورسالته قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) من سورة الأعراف وقال الذين استكبروا أيضا يا صالح : إنا لفي شك مما تدعونا إليه بالرسالة منك فإنا ذو جاه ومال ، وإن كنت رسولا فائت بآية تدل على صدقك ، وأغلب الظن أنك رجل سحرت حتى ضاع عقلك فادعيت ما تدعيه ، قال صالح : هذه ناقة اللّه ، وهي آية ومعجزة دالة على صدقى ، ولها شرب ولكم شرب يوم معلوم ، والذي
روى أنها ناقة خرجت من صخرة ، وكانت تشرب الماء كله في يوم ثم تعطيهم بدله لبنا منها ، ولهم ولأنعامهم وزروعهم شرب في يوم آخر
، ويظهر - واللّه أعلم - أن ذلك عنوان كون الناقة آية ، وإلا لو كانت ناقة عادية فكيف تكون دالة على صدق صالح ، وطالبهم بأنهم لا يمسوها بسوء بل يتركونها تشرب في يومها ، وترعى حيث تشاء ، ولا يمسوها بسوء أبدا ، وحذرهم أنهم إن تعرضوا لها فسيصيبهم عذاب شديد.(2/767)
ج 2 ، ص : 768
فعقرها واحد منهم قيل : إن اسمه (قدار) ، ولكنهم راضون عن فعله ، ولذا نسب العقر إليهم جميعا ، فعقروها فأصبحوا نادمين ندما بلا توبة ، ولكنه ندم من تيقن نزول العذاب ، ولا مناص ، وكان أن أخذتهم الصيحة مصبحين ، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون.
إن في ذلك لآية ، وأى آية أعظم من هذا ، فهم قوم طغوا وبغوا واغتروا بمالهم وجاههم فلم ينفعهم ذلك ، وهم قوم لم يؤمنوا برسولهم مع أن معه آية شاهدة بصدقه فلما ظلوا على هذا نزل بهم العذاب.
وما كان أكثرهم مؤمنين ، وإن ربك لهو العزيز الرحيم.
قصة لوط مع قومه [سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 175]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)(2/768)
ج 2 ، ص : 769
المفردات :
الذُّكْرانَ الذكور وَتَذَرُونَ وتتركون عادُونَ متجاوزون الحد الْقالِينَ المبغضين الْغابِرِينَ الباقين الماكثين.
المعنى :
لوط بن هارون - أخ إبراهيم - عليه السلام - آمن بعمه ورحل معه واهتدى بهديه ، ثم أرسله اللّه إلى أهل سدوم في قطاع الأردن ، وكانوا قوما ذوى خلق سيئ ، وشرك باللّه فقال لهم : ألا تتقون ، إنى لكم رسول آمين فاتقوا اللّه وأطيعون ، وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين ، يا قوم : أتأتون الذكران في أدبارهم ، وتتركون ما أحله اللّه وأعده لذلك وهو فروج أزواجكم فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [سورة البقرة آية 222] بل أنتم قوم عادون ومتجاوزون الحدود المعقولة.
قالوا يا لوط. كيف تنهانا عن عملنا هذا ؟ لئن لم تنته يا لوط عن هذا لتكونن من المخرجين من قريتنا ، قال لهم : إنى لعملكم هذا من القالين المبغضين ، فإنه عمل يتنافى مع الإنسانية ، بل ترتفع عنه الحيوانات البهيمية.
فلما استمروا على عملهم ، ونفد صبره معهم ، ولم تنفعهم مواعظه دعا عليهم ، وقال : رب نجنى وأهلى مما يعملون ، فإن عمل هؤلاء مدعاة لسخطك ، ومباءة لعقابك.
فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ، وهي امرأته لم تكن مؤمنة معه ، وكانت تحب القوم الكافرين ، وتنقل إليهم الأخبار ، ولذا كانت من الهالكين ، ثم دمرنا وأهلكنا القوم الآخرين الذين فعلوا المنكرات ، وكفروا بالذي خلقهم ، ولم يؤمنوا برسله ، وأمطرنا عليهم مطرا ، فبئس مطر المنذرين المهلكين.
إن في ذلك لآية وعبرة حيث أهلك العصاة المذنبين ، ونجى المؤمنين الصالحين ، ولم ينفع امرأة لوط قربها وصلتها به بل كل امرئ بما كسب رهين ، وما كان أكثرهم مؤمنين ، وإن ربك لهو العزيز الرحيم.(2/769)
ج 2 ، ص : 770
قصة شعيب مع أصحاب الأيكة [سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 191]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)
وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
المفردات :
الْأَيْكَةِ الشجر الكثيف الملتف وقرئ أصحاب ليكة وأصله الأيكة فنقلت حركة الهمزة إلى اللام تخفيفا ثم حذفت فاستغنى عن همزة الوصل وصارت الكلمة(2/770)
ج 2 ، ص : 771
ليكة بِالْقِسْطاسِ بالميزان المستقيم أى العادي وَلا تَبْخَسُوا ولا تنقصوا من الناس شيئا وَلا تَعْثَوْا يقال عثا في الأرض أفسد فيها وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ الجبلة الخلق الكثير من الناس كِسَفاً جمع كسفة وهي القطعة والجانب الْمُسَحَّرِينَ المسحورين مرارا حتى فسدت عقولهم الظُّلَّةِ أصل الظلة ما يظل الإنسان ، والمراد العذاب الذي أهلكهم ، وكان على شكل ظلة لهم.
المعنى :
أرسل اللّه شعيبا إلى قبيلته مدين وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً وإلى أصحاب الأيكة ، وهم قوم كانوا أصحاب غيضة وشجر وزرع وثمر ، ولذا يقول اللّه هنا إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ولم يقل أخوهم لأن شعيبا لم يكن من أصحاب الأيكة وإن أرسل لهم.
قال شعيب لهم : ألا تتقون إنى لكم رسول أمين. فاتقوا اللّه وأطيعون. وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين .. كما قال أخوه نوح. وهود. وصالح لاتفاقهم جميعا على الأمر بالتقوى ، والطاعة والإخلاص في العبادة ، والامتناع من أخذ الأجر على تبليغ الرسالة ، وعلى تحملهم المشاق والصعاب رجاء مثوبة رب العالمين لهم يوم القيامة ، وهكذا أصحاب الدعوات لا يرجون بعملهم جزاء ولا شكورا من العبد ، ولا يبغون بها مالا ولا جاها ولا رئاسة كاذبة ، وإلا كانوا كعلماء اليهود اشتروا الضلالة بالهدى ، وباعوا الباقية بالفانية.
اتفق جميع الأنبياء في الأمور العامة للرسالات ، ثم أخذ كل نبي يعالج المرض الشائع عند قومه ، ولذا رأينا هودا يقول منكرا على قومه إنهم يعبثون ببنائهم ، وأنهم طامعون في الدنيا حتى كأنهم مخلدون ، وإنهم يبطشون بطش الجبارين وقال صالح : منكرا على قومه : أتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ؟ ! وقال لوط : أتأتون الذكور من الناس وتتركون النساء من الأزواج ؟ وقال شعيب هنا منكرا عليهم التطفيف في الكيل آمرا لهم أن يوفوا الكيل ويعطوه حقا كاملا بلا زيادة ولا نقصان ، أن يزنوا بميزان العدل ، ولا يخسروا الميزان وألا يبخسوا الناس أشياءهم ، وألا يفسدوا في الأرض بالبهتان.
وأن يتقوا اللّه ، ويخافوا عقابه فقد خلقهم ، وخلق آباءهم والجبلة الأولين ، ومن(2/771)
ج 2 ، ص : 772
كان صاحب تلك النعم ، كانت عبادته من أوجب الواجبات ... ولكنهم قوم معاندون لم يسمعوا لشعيب بل قالوا : إنما أنت رجل سحرت مرارا حتى فسد عقلك ، وضاع لبك ، على أنك بشر مثلنا ، فكيف تأتيك الرسالة دوننا ، ونحن لا نظنك إلا من الكاذبين وإن كنت صادقا حقا ، وأننا سنعذب لو لم نطعك فأسقط علينا قطعة من السماء تكون دليلا على أنك رسول من قبل اللّه ولكن اللّه يعلم ما عندهم ، وقد حكاه بقوله وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطور 44].
وقد طمأن شعيب نفسه وقال : لست مكلفا بإدخال الإيمان في قلوبكم ، ولست مكلفا بحسابكم على أعمالكم ، إن على إلا البلاغ ، وربي وربكم يعلم ما تفعلون ، وسيجازيكم على أعمالكم.
وكانت النتيجة أنهم كذبوه وعصوه فأخذهم عذاب يوم الظلة ، إنه كان عذاب يوم عظيم ، روى عن ابن عباس : أنه أصابهم حر شديد فأرسل اللّه - سبحانه - سحابة فهربوا إليها ليستظلوا بها ، فلما صاروا تحتها صيح بهم فهلكوا جميعا وكان هذا من أعظم أيام في الدنيا عذابا.
إن في ذلك لآية يا كفار مكة لو كنتم تعلمون ، وما كان أكثر قوم شعيب بمؤمنين ، وإن ربك لهو العزيز الذي يعز أولياءه ، وينصرهم ، ويذل أعداءه ، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، وهو الرحيم بالخلق جميعا إن عاقب أو أثاب ، ولا يتغير قوله تعالى :
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ الآية تكريرا لأنها سيقت عقب كل قصة ، وفي كل قصة آية وعبرة لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ.
الحديث عن القرآن وموقف المشركين منه [سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 213]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206)
ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211)
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)(2/772)
ج 2 ، ص : 773
المفردات :
الرُّوحُ الْأَمِينُ هو جبريل الأمين على الرسالة زُبُرِ الْأَوَّلِينَ كتب الأولين جمع زبور وهو الكتاب. يقال : زبر الكتاب يزبره أى : كتبه يكتبه الْأَعْجَمِينَ العجمي هو من كان من أصل فارسي وإن كان فصيحا في كلامه والأعجمي هو من كان غير فصيح وإن كان عربيا سَلَكْناهُ أدخلناه بَغْتَةً فجأة مُنْظَرُونَ من الإنظار وهو التأجيل لَمَعْزُولُونَ لممنوعون.
وهذا رجوع إلى المقصود الأول في السورة ، وهو الكلام على القرآن الكريم ، والدعوة المحمدية ، وموقف المشركين منها ، وكانت القصص التي ذكرت آية ، وعبرة لمن يعتبر وحجة دامغة ، ودليلا صادقا على نبوة المصطفى صلّى اللّه عليه وسلم ، حيث قص قصص(2/773)
ج 2 ، ص : 774
الأولين الذين لم بعاصرهم ، ولم يدرس أخبارهم ، على معلم أو أستاذ ، وهو النبي الأمى الذي لم يقرأ كتابا ، ولم يخط حرفا.
وقد ساق اللّه هنا الأدلة على أن القرآن من عند اللّه ، وليس من عند محمد بعد هذا.
المعنى :
وإن القرآن الذي أنزل عليك يا محمد لتنزيل رب العالمين ، وقد نزل به جبريل - عليه السلام - ، الأمين على الرسالات ، وخادم الآيات المنزلات ، نزل به على قلبك فوعاه ، وكان هذا الفضل من عند اللّه لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
« 1 » وكان ذكر القلب لأنه أمير الجسم ، ومركز الحواس الخاصة. الحواس الروحية. ولذا وصف القرآن دائما الكفار بأن قلوبهم مغلقة فقال أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها « 2 » فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ « 3 » وفي ذكر القلب إشارة إلى أن القرآن نزل على النبي ، فوعاه ، وحفظه ، ليكون من المنذرين وانظر إلى قوله تعالى : بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ مع تحدى القرآن للعرب على أن يأتوا بمثله ، أو بعشر سور ، أو بسورة فعجزوا هم وشركاؤهم وأعوانهم ، أليس في هذا دليل على أن القرآن من عند اللّه لا من عند محمد ، إذ هو واحد منهم ، فكيف يأتى بما عجز عنه قومه مجتمعين مع التحدي والاستهزاء بهم.
ثم انظر إلى الدليل الثالث على أن القرآن من عند اللّه : وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ حقا إن القرآن ذكر في الكتب السابقة التي نزلت على الأنبياء بمعنى أنها بشرت بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وبأنه سينزل عليه قرآن يشهد بصدقها ، ويهيمن عليها وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [سورة البقرة آية 89].
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ « 4 » أعموا وضلوا ولم يكن لكفار مكة في أن يعلمه علماء بنى إسرائيل ويقولون لهم إن
___________
(1) سورة القيامة الآيات 16 - 18.
(2) سورة محمد الآية 24.
(3) سورة الحج الآية 46.
(4) سورة المائدة الآية 48.(2/774)
ج 2 ، ص : 775
هذا حق ، وهذا هو النبي المبشر به عندنا ، أو لم يكن لهم في هذا آية ودليل ؟ هذه أدلة أوضح من الشمس على أن القرآن من عند اللّه ، وأن محمدا صادق في دعواه ، ولكن العناد والكفر يأبى عليهم الخضوع للحق ، ولو أنزل هذا القرآن على بعض الأعاجم ، فقرأ عليهم ما كانوا به مؤمنين أبدا خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ « 1 » مثل إدخالنا التكذيب في قلوبهم لو قرأه عليهم أعجمى ، أدخلناه في قلوب المجرمين كفار مكة المشركين.
فهم لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ، فما هو أشد منه ، وهو لحوق العذاب بهم فجأة ، فما هو أشد منه ، وهو سؤالهم الإنظار من القطع بامتناعه ومعنى الكلام :
لا يؤمنون بالقرآن حتى يأتيهم العذاب فجأة ، وهم لا يشعرون به فيرونه فيقولوا :
هل نحن منظرون ومؤخرون عن الهلاك ولو طرفة عين لنؤمن ؟ فيقال لهم اخسئوا في جهنم ، ولا تكلمون ، وعلى هذا فالفاء التي في الآية ليست للترتيب الزمانى بل للترتيب الرتبى.
ومع هذا فهم يقولون : متى هذا العذاب ؟ استبطاء له واستهزاء بالنبي أفبعذابنا يستعجلون ؟ !! إن هذا لعجيب ، ولكنهم قالوا : اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ « 2 » فبدل أن يقولوا : إن كان هذا الحق فاهدنا إليه قالوا تلك المقالة ، فلا عجب أن يستعجلوا العذاب ، إن عذاب اللّه له أجل محدود ، ونظام معلوم ، ولكل أجل كتاب أيظنون أن اللّه يهمل! لا. ولكنه يمهل فقط.
أفرأيت أيها المخاطب إن متعناهم سنين بتأخير العذاب عنهم ثم جاء العذاب فجأة ، وهو ما وعدوا به أى إغناء عنهم ما كانوا يمتعون به ؟ أعنى لو أخر العذاب ، وكان الإنسان متمتعا استدراجا له ثم حل به العذاب فكان انجعافه وهلاكه مرة واحدة أى فائدة استفادوها من النعم ؟ لم يستفيدوا شيئا ، ولم يغن عنهم متاعهم شيئا ، وإنما كان استدراجا لهم وتنكيلا بهم حتى يكون هلاكهم شديدا وعبرة وعظة ونكالا لمن يأتى بعدهم. وما قصص فرعون وعاد وثمود وقوم لوط عنكم ببعيد ...
وهكذا سنة اللّه مع الأمم قديما وحديثا وما أهلكنا من قرية إلا كان لها رسل منذرون تبشرهم وتنذرهم وتدعوهم إلى الصراط المستقيم بشتى الأساليب وبمنتهى الحكمة
___________
(1) سورة البقرة الآية 7.
(2) سورة الأنفال الآية 32.(2/775)
ج 2 ، ص : 776
والموعظة الحسنة فإن أبوا وكفروا حاق بهم سوء العذاب ، ونجى اللّه المؤمنين فاعتبروا يا أولى الأبصار فسنة اللّه لا تتغير وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [سورة الفتح آية 23].
وهاكم الدليل الأخير على أن القرآن من عند اللّه : ذكر بعد مناقشة المشركين السابقة التي سيقت وسط الأدلة.
وكانوا يقولون : إن محمدا كاهن ، وإن القرآن كهانة تلقيها الشياطين على محمد كما تلقى على غيره فقال اللّه : وما نزلت به الشياطين ، وما ينبغي لهم ، وما يستطيعون إنهم عن سمع مثل هذا القرآن لممنوعون ، نعم لقد قص التاريخ أن الكهانة والكهان كانوا موجودين قبل البعثة المحمدية ، وكان الشياطين يسترقون السمع وأخبار السماء المتعلقة ببعض الأحداث الجارية في الجزيرة ، ثم يلقون بهذا إلى الكهان أمثال (شق وسطيح).
ولكن اللّه - سبحانه - قبيل البعثة منع هذا بالمرة حتى ضجت الجن ، وأخذوا يبحثون عن السبب وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [سورة الجن الآيات 8 - 10].
وإذا ثبت هذا كله ، وأظنه ثابتا في ميزان العقلاء الموفقين إذا كان هذا فلا تدع مع اللّه إلها آخر ، فتكون من المعذبين المهلكين ..
نصائح ربانية [سورة الشعراء (26) : الآيات 214 الى 220]
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)(2/776)
ج 2 ، ص : 777
اعلم يا أخى - وفقك اللّه للخير - أنه - سبحانه وتعالى - أرشد رسوله إلى ترك الأسف والحزن على عدم إيمان أكثر الناس ، ثم ساق القصص مؤيدا ذلك ومسليا ، ثم أقام الحجة والبرهان على صدق الرسول في دعواه ، وناقش المشركين في شبههم الواهية ، وبعد ذلك كله نهى الرسول عن اتخاذ الشريك للباري في كل صورة متوعدا من يفعل ذلك بالعذاب الشديد ، والمراد من ذلك نهى غير النبي عن الشرك.
نفهم من نهى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن الشرك فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ. ثم أمره صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يدعو الأقرب فالأقرب من أهله وعشيرته. يمكن أن نفهم من هذا كله ، أن المراد نفى الشك والطعن عن الدعوة المحمدية لأن الإنسان جبل على حب الخير له ولأهله.
روى مسلم في صحيحه من حديث أبى هريرة قال : لما نزلت آية وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال : « يا بنى كعب ابن لؤي أنقذوا أنفسكم من النّار. يا بنى عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النّار ، يا بنى هاشم أنقذوا أنفسكم من النّار. يا بنى عبد المطّلب أنقذوا أنفسكم من النّار ، يا فاطمة أنقذى نفسك من النّار ، فإنّى لا أملك لكم من اللّه شيئا غير أنّ لكم رحما سأبلّها ببلالها
أى أصلكم في الدنيا ، ولا أغنى عنكم من اللّه شيئا يوم القيامة.
وهذه نصائح غالية تنفع الدعاة والمرشدين إلى الحق والخير حيث تبدأ بدعوتك أقرب الناس إليك. فهم الذين يعرفونك ، ويثقون فيك ، فإذا أضفت مع هذا لين الجانب وحسن الخلق ، وطيب العشرة لمن اتبعك وسار على طريقك ، كان لكلامك وقع ولشخصك مكانة في القلوب ، ولسلوكك في الناس تأثير وأى تأثير ؟ ولذا يقول اللّه لرسوله وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فإن لم تتبعك عشيرتك وقرابتك وعصوك فقل لهم : إنى برىء مما تعملون ، وتوكل على اللّه ، وسلّم أمرك إليه ، وفوض أمرك لربك إنه هو العزيز يعز أولياءه ، ويقهر أعداءه ، وينصرك عليهم برحمته ، فإنه يراك ، ويلحظك حين تقوم في أى عمل من الأعمال ، وحين تتقلب مع الراكعين الساجدين العابدين القانتين ، إنه هو السميع لكل قول ، العليم بكل فعل.(2/777)
ج 2 ، ص : 778
الرد على من يصف النبي بأنه كاهن أو شاعر [سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 227]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
المفردات :
أَفَّاكٍ كذاب أَثِيمٍ فاجر وادٍ المراد فنون القول وطرقه يَهِيمُونَ الهيام : أن يذهب المرء على وجهه لا يلوى على شيء من عشق أو غيره مُنْقَلَبٍ مصير ومرجع.
المعنى :
كان للقرآن وقع في نفوس العرب كبير ، وكان لجرسه هزة في أسماعهم وكان له أثر السحر فيهم أو أشد ، أرأيت إلى الوليد بن المغيرة حين سمع جزءا منه فقال : واللّه إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما هو بقول البشر ، وإلى العربي الذي سمع قارئا يقرأ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فسجد فقيل له :
لم ؟ قال سجدت لبلاغته ، وأظنك لا تنسى قصة إسلام عمر حين سمع أول سورة (طه) وهو في أشد عنفوانه ، وأقوى عدائه للمسلمين.
هذا القرآن حار فيه المشركون بما ذا يؤولون هذا السحر الذي فيه ، الذي يفرق بين المرء وأبيه ، وأمه وأخيه!! فقالوا : إنه سحر ، وأخرى إنه كهانة. وثالثة إنه شعر أى له تأثير الشعر ، ويرد اللّه عليهم هنا بأنه ليس كهانة ولا شعرا.(2/778)
ج 2 ، ص : 779 وللكهانة عند العرب في أيام الجاهلية تأثير كبير ، ولكهانتهم مركز ملحوظ يقطع بهم النزاع ، ويحكمون في المعضلات والمشكلات من الأمور ، وكتب الأدب العربي مليئة بأخبارهم وقصصهم. فهند بنت عتبة - أم معاوية بن أبى سفيان - مع زوجها الفاكه بن المغيرة المخرومى لها قصة : حيث رماها زوجها بالزنا فذهب أبوها إلى الكاهن فقال لها انهضى يا هند غير رسحاء ولا زانية وستلدين ملكا اسمه معاوية : فالتفتت هند إلى زوجها الفاكه وقالت من غيرك وتزوجت أبا سفيان وولدت معاوية.
ومن أشهرهم فاطمة الخثعمية وكانت بمكة ، ولها قصة مع عبد اللّه بن عبد المطلب قبل زواجه بآمنة أم الرسول ... ومن أشهرهم شق أنمار ، وسطيح الذئبى.
ويرجع فيما أعلم صدق بعض كلامهم إلى قوة الفراسة ، وبعد النظر ، وإلى استراق السمع من السماء بواسطة الشياطين ، وكان لهم قدرة على ذلك قبل البعثة كما قدمنا ، وكثيرا ما كذبوا في أخبارهم.
ومن هنا يدفع اللّه عن النبي وعن القرآن وصمة الكهانة بقوله : هل أخبركم أيها الناس على من تنزل الشياطين. إنها تنزل على كل كذاب ، أفاك. أثيم فاجر. تلقى الشياطين عليه ما سمعته ، وأكثرهم كاذبون يضمون إلى ما سمعوه أكاذيب أخرى كثيرة.
فهل أنتم ترون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من هؤلاء الكهان ؟
أما الشعر ، وما أدراك ما الشعر ، فله تأثير السحر ، ولكن النبي صلّى اللّه عليه وسلم ليس بالشاعر ، ولا ينبغي له أن يقول لسمو مكانته وشخصيته عن قرضه.
والشعراء يتبعهم الغاوون البعيدون عن الحق ، ومحمد صلّى اللّه عليه وسلّم يتبعه الهداة المهتدون ، ألم تر إلى الشعراء في كل واد من القول وفن فيه وغرض من أغراضه كالغزل والهجاء المقذع. والمدح بالباطل بل مدح الشخص وذمه والإجادة في الناحيتين يهيمون ويسيرون على وجوههم. لا يلوون على شيء ، وذلك أن عماد الشعر الخيال والخيال لا يجده حد ، ولا يقف دونه شيء ، فكلما كان الشاعر واسع الخيال قوى العاطفة كان شعره جيدا قويا ، والشعر لا يعتمد على الصدق بل على المبالغة والتجوز ولذا قيل : أعذب الشعر أكذبه ، والشعراء قوم خياليون عاطفيون يقولون ما لا يفعلون ، لهذا كله ما كان ينبغي للنبي أن يقول الشعر والشعر نوع من الكلام فيه الحسن والرديء ، والمقبول والمردود ، ومن هنا يمكن أن نوفق بين
قول النبي صلّى اللّه عليه وسلم « لأن يمتلئ جوف أحدكم(2/779)
ج 2 ، ص : 780
قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ جوفه شعرا »
يريد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لأن يمتلئ الجوف قيحا يأكله خير من أن يمتلئ جوفه شعرا ، وبين
قوله صلّى اللّه عليه وسلم « إن من البيان لسحرا ، وإن من الشعر لحكمة »
فالشاعر الذي وقف نفسه على نصرة الحق والدفاع عن الوطن ، والذود عنه ، وعلى مدح من يستحق المدح كمن مدح النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قديما وحديثا ، ومن تكلم فأجاد من المواقف الوطنية التي تربى النفوس ، وتهذب العقول ، وتوحد الصفوف ، وليس كالشاعر الذي يتكلم في الغزل ، ويتشبب بالنساء والغلمان ، والذي يدعو إلى الفجور والفسق ، وإن كان كلامه تحفة فنية في باب الأدب ، الأول ممدوح شرعا ، والثاني مذموم.
ولهذا استثنى القرآن بقوله : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ودفعوا عن النبي ودينه كحسان بن ثابت وابن رواحه الذي
يقول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في شعره « خلّ عنه يا عمر فلهو أسرع فيهم - أى قريش - من نضح النّبل »
وما شعر حسان بن ثابت وشعر البوصيرى ، وشعر شوقي عنك ببعيد.
ثم ختمت السورة بهذا التهديد الشديد : وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم أى منقلب ينقلبون.(2/780)
ج 2 ، ص : 781
سورة النمل
[سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
المفردات :
طس تقرأ هكذا طاسين بمد في السين يَعْمَهُونَ يترددون متحيرين ، وهذا افتتاح لسورة النمل ، يشبه افتتاح سورة القصص ، واللّه وحده هو العالم بالفرق والسر الخفى بين طسم ، وطس. وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.
المعنى :
هذه الآيات - آيات تلك السورة - آيات من القرآن ، وآيات من كتاب مبين ظاهر في كل أغراضه ومعانيه ، ومقاصده وأحكامه ، وإننا نقرأ في أول سورة الحجر الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ. وهنا تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ فنجد مرة ذكر الكتاب مقدما معرفا ، ومرة ذكر القرآن مقدما فنرى أن اللّه جمع لكلامه بين الصفتين بأنه قرآن وأنه كتاب ، يظهر بالقراءة والكتابة ، فكل واحد يصلح مكان الآخر والتنكير في هذا المقام يفيد ما تفيده المعرفة.(2/781)
ج 2 ، ص : 782
هو هدى وهداية ، وبشرى وبشارة ، ولكن المنتفع بذلك حقّا هم المؤمنون ، وإن كان القرآن نزل هداية للناس جميعا شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ « 1 » هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ، ويؤدونها كاملة تامة الأركان والشروط مقومة أحسن تقويم ، وهذه هي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والتي تصل العبد بربه ، والتي هي علاج روحي للعبد إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ « 2 » وهم الذين يؤتون الزكاة التي هي علاج للمؤمنين كجماعة من الجماعات فوق أنها علاج للفرد كذلك ، وهم بالآخرة وما فيها هم يوقنون ، ويؤمنون بها إيمانا يقينيا صادرا عن علم وبحث واقتناع هؤلاء الموصوفون بتلك الصفات التي تعتبر رموزا لجميع أحكام الدين هم الذين ينتفعون انتفاعا حقيقيا بالقرآن ونوره ، وهذا لا يمنع أن العالم كله قد انتفع بنوره.
أما الذين لم يهتدوا بنور الحق ، وهدى القرآن فهم الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وهؤلاء زين اللّه لهم أعمالهم ، وحسن لهم أعمال الخير ولكنهم لم يعملوها بل ساروا على الطريق المعوج الذي يسير عليه المغضوب عليهم والضالون ، نعم زين اللّه أعمال الخير بإرسال الرسل وإنزاله الكتب تبين الحلال والحرام ، وتبشر العاملين ، وتنذر العصاة والمقصرين ، وقيل : إن المعنى. اللّه زين لهم عملهم القبيح حيث أودع فيهم الشهوة والميل إلى الشر ، ومكن الشيطان من إغوائهم حتى رأوا الحسن قبيحا ، والقبيح حسنا في نظرهم ، فوقعوا في الهلاك والآثام ، وهم يعمهون ، ويتحيرون ، وفي الضلال يتيهون ، أولئك الذين لهم العذاب السيئ الشديد في الدنيا والآخرة ، وهم في الآخرة هم الأخسرون أعمالا ، والتفضيل بالنسبة للزمان والمكان ، فالمفضل عليه هو أنفسهم لكن باعتبار حالهم في الدنيا أى إن خسرانهم في الآخرة أشد من خسرانهم في الدنيا.
وإنك يا رسول اللّه لتلقى القرآن ، وينزل عليك من لدن حكيم عليم خبير بصير.
يفعل ما تقتضيه الحكمة والعلم الصحيح.
وهذه الآية بساط وتمهيد لما سيذكر بعدها من الأخبار والقصص ، وهي دعوى تفيد أن القرآن من عند اللّه ، والدليل على صحة ذلك ما سيذكر من أخبار الماضين وأحوالهم.
___________
(1) سورة البقرة الآية 185.
(2) سورة المعارج الآيات 19 - 22.(2/782)
ج 2 ، ص : 783
موسى بالوادي المقدس [سورة النمل (27) : الآيات 7 الى 14]
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
المفردات :
بِشِهابٍ بشعلة نار ، وقال بعضهم : كل أبيض ذي نور فهو شهاب قَبَسٍ القبس النار المقبوسة تَصْطَلُونَ المراد رجاء أن تستدفئوا بها يقال صلى بالنار واصطلى بها إذا استدفأ بها لَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع يقال : عقب فلان إذا رجع جَيْبِكَ طوق قميصك مِنْ غَيْرِ سُوءٍ من غير برص مُبْصِرَةً واضحة بينة وَجَحَدُوا بِها كذبوا مستيقنين بها.(2/783)
ج 2 ، ص : 784
وهذا العنصر من قصة موسى - عليه السلام - ، وهو وجوده بالوادي المقدس طوى ، قد ذكر في عدة مواضع من القرآن كما ذكرنا ذلك في سورة الشعراء ، مع اختلاف يتناسب وأسلوب القصة التي ذكر فيها.
المعنى :
اذكر وقت قول موسى لأهله ، والمراد زوجه بنت شعيب في مسيرة من مدين إلى مصر بعد قضاء الأجل المضروب بينه وبين شعيب ، وكان إذ ذاك في الوادي المقدس طوى ، وكانت ليلته باردة عاصفة مظلمة يحتاج المسافر فيها إلى نار ، ولما ضل الطريق أراد نارا يستدفئ بها هو وأهله حتى الصباح فأورى زنده فلم يخرج نارا ، فالتفت يبحث فوجد نارا على بعد ، فقال لأهله : امكثوا في مكانكم لا تبرحوه ، إنى آنست نارا سآتيكم منها بشعلة مقبوسة رجاء أن تصطلوا بها وتستدفئوا ، فلما جاءها نودي من قبل الرب - سبحانه وتعالى - أن بورك من في قرب النار ، ومن هو حولها ، والنار نور ، ولكن موسى ظنها نارا ، وقد نزه اللّه نفسه فقال : وسبحان اللّه رب العالمين ، وتنزيها له عن مشابهة أحد من خلقه ، يا موسى إنه الحال والشأن أنا اللّه العزيز الحكيم ، يا موسى : ألق عصاك فألقاها من يده فصارت حية فلما رآها تهتز وتتحرك كما يتحرك الجان ، وهي الحية البيضاء شبهها بالجان لخفة حركتها. وشبهها في موضع آخر بالثعبان لعظمها ، فلما رآها كالجان ، ولى مدبرا وخائفا ، ولم يعقب على شيء ، ولم يلتفت فلما وقع منه ذلك قال اللّه له : يا موسى لا تخف من الحية وضررها ، إنى لا يخاف لدىّ المرسلون ، فلا تخف أنت لكن من ظلم نفسه ثم تاب وآمن ، وبدل حسنا بعد سوء فإنى غفور رحيم. يا موسى : أدخل يدك في جيب قميصك تخرج يدك بيضاء من غير برص فذانك برهانان من ربك إليك لتعلم أنك بأعيننا ، واللّه معك يرعاك ويحيطك بعنايته.
يا موسى اذهب إلى فرعون وقومه في تسع آيات إنهم كانوا قوما فاسقين. أما الآيات فهي العصا. واليد. والطوفان. والجراد. والقمل. والضفادع. والدم. والسنون ونقص الثمرات .. وبعضهم عدها بشكل آخر.
فلما جاءتهم آياتنا التسع مبصرة واضحة جلية شاهدة على صدق موسى كأنها لفرط وضوحها تبصر نفسها. قالوا : هذا سحر مبين ظاهر لا يحتاج لبرهان ، وجحدوا بها ،(2/784)
ج 2 ، ص : 785
وكذبوها. والحال أنهم متيقنون أنها آيات مؤيدة لموسى حالة كونهم ظالمين باغين متعالين.
فانظر يا محمد وكذا كل مخاطب كيف كانت عاقبة المفسدين ؟ فقد كان جزاؤهم الغرق والإهلاك ، ونجاة موسى ومن معه من بنى إسرائيل ، حقا لقد صدق اللّه وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [سورة النمل آية 6].
من نعم اللّه على داوود وسليمان وقصة النملة [سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 19]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
المفردات :
مَنْطِقَ الطَّيْرِ المنطق والنطق : كل صوت يعبر به عما في الضمير حُشِرَ جمع يُوزَعُونَ يرد أولهم إلى آخرهم ويكفون ، والوازع في الحروب الموكل(2/785)
ج 2 ، ص : 786
بالصفوف يزع من تقدم منهم ، الوزع الكف والمنع لا يَحْطِمَنَّكُمْ لا يكسرنكم.
وهذا جزء من قصة داوود وسليمان ابنه - عليهما الصلاة والسلام - .
المعنى :
ولقد آتينا داوود نبي اللّه وسليمان ابنه - عليهما الصلاة والسلام - آتاهما ربهما علما من لدنه ، علما شريفا يتعلق بذاته تعالى ، وبوصفه بصفات الجلال والكمال ، وتنزهه عن كل نقص وما هو في حقه من المحال ، علما هو أشرف العلوم والمعارف ، علما جامعا لخيرى الدنيا والآخرة ، ولقد آتيناهما علما فعملا به حتى امتلأ قلبهما يقينا وعزما أكيدا على فعل الطاعات ، وهجر المحرمات ، والشكر للّه - سبحانه - حتى قالا : الحمد للّه وحده ، الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ، بهذه العلوم والمعارف المصحوبة بالعمل القلبي والبدني واللساني ، وفي هذا رفع لمرتبة العلم والعلماء. إذ قد أوتيا من الملك ما لم يؤت غيرهما فلم يكن شكرهما على الملك كشكرهما على العلم.
وكان لداود أولاد كثيرة ، ولكن سليمان ورث أباه في العلم والنبوة والملك والحكم لا في المال لأن الأنبياء لا تورث فيه
« نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة »
حديث شريف ، ومما يؤيد هذا ما سيأتى من معرفة منطق الطير ، والإتيان من كل شيء ، وذكر جنود سليمان من الجن والإنس والطير.
وقال سليمان تحدثا بنعمة اللّه ، وإشهارا لها ، وتنويها بها ، ودعاء للناس ليصدقوا بها على أنها معجزة. قال سليمان : أيها الناس : قد علمنا منطق الطير والحيوان. وإنما خص الطير لأنه من جنوده التي كان لها مواقف بارزة في حياته كما سيأتى في قصة الهدهد.
وللطير منطق إذ هو يصوت بأصوات مختلفة تدل دلالة قوية على أحاسيسه وحاجاته فصهيل الفرس عند طلبها الأكل غير صهيلها عند طلبها الحصان للفساد ، وصوتها عند الألم والضرب غير صوتها وهي تدعو رضيعها ليرضعها ، وهكذا كل حيوان ، فمواء القطة عند حبسها في مكان ضيق غير موائها عند طلبها الأكل أو السفاد مثلا - هذه حقائق معترف بها وكما قال الشيخ البيضاوي في تفسيره ما معناه ، ولعل سليمان كان إذا صوت حيوان علم بقوته الحدسية التخيلية صوته والغرض الذي توخاه به ، ومن(2/786)
ج 2 ، ص : 787
ذلك ما حكى عنه أنه مر ببلبل يصوت ويرقص فقال سليمان : إنه يقول « ليت الخلق لم يخلقوا » فلعل صوت البلبل كان على شبع وفراغ بال. وصياح الفاختة عن مقاساة شدة وتألم قلبها.
وعلى كل فإدراك أصوات الحيوانات خصوصا الطير ، وما يقصد منه لم يكن إلا هبة من اللّه - تعالى - ، وقد وهبها سليمان وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
ويقول سليمان تحدثا بنعمة اللّه وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وهذا يفيد كثرة نعم اللّه عليهما إن هذا لهو الفضل المبين ، وأى فضل أظهر من هذا ؟ وفيه تقرير للحمد والثناء على اللّه - سبحانه وتعالى - ، ولا تنس أنه يقر بأنهما أوتيا من كل شيء يتصل بالنبوة والملك والحكم.
وأما قوله - تعالى - : وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ فهو دليل على قوة سليمان ، وكثرة سلطانه ، وتعدد جنده من الجن والإنس والطير أما جند سليمان من الجن فظاهر من قوله - تعالى - : وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ [سبأ الآيتان 12 ، 13] وأما الطير فقصة الهدهد ستأتى إن شاء اللّه ، وأما الإنس فمعلوم أنه كان لسليمان ملك وجند بنص القرآن الكريم.
وهؤلاء الجند لهم قواد وحكام ونظام فهم يوزعون ، ويكفون عن الفوضى وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [سورة الأنعام آية 38].
قصة النملة مع سليمان :
حتى إذا أتى سليمان وجنده الكثيف (الكثير) من فوق على وادي النمل واللّه أعلم.
بمكانه ... قالت نملة. لها حق الإمارة على النمل ، قالت : ادخلوا مساكنكم لا يكسرنكم ولا يحطمنكم سليمان وجنده بأرجلهم وهم لا يشعرون بكم لصغر حجمكم ، وسيركم وسط الرمال.
فتبسم سليمان ضاحكا من قولها حيث وصفت جنده بأنهم لا يعمدون إلى الشر ، ولا يشعرون بعملهم له ولا شك أن هذه النعم ، وخصوصا فهم سليمان عن النملة يقتضى منه الشكر والحمد للّه فقال : رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التي أنعمت على(2/787)
ج 2 ، ص : 788
وعلى والدي ... قال في الكشاف : (و حقيقة أوزعنى اجعلنى أزع شكر نعمتك عندي وأكفه حتى لا ينفلت عنى ، ولا أنفك شاكرا لك) وقال بعضهم : المعنى ألهمنى أن أشكر نعمتك التي أنعمت على ، قال القرطبي : المراد كفني يا رب عما يسخطك ، وامنعني من كفر نعمتك.
وعد سليمان النعمة التي لوالده نعمة له بمعنى أنها تستوجب الشكر منه للّه.
وألهمنى يا رب أن أعمل صالحا ترضاه ، وأدخلنى برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الناس هذا هو سليمان يطلب من ربه أن يحبسه على الشكر له والثناء عليه ويطلب من ربه أن يوفقه إلى العمل الصالح الذي يرضاه ، وهو يطلب أن يدخله برحمته وفضله مع عباده الصالحين الداخلين الجنة بإذن اللّه - هذا سليمان لم يغتر بعلمه بل طلب الزيادة والمعونة والفضل حتى يدخل في عداد الصالحين ، ولقد صدق رسول اللّه حيث يقول « سدّدوا وقاربوا واعلموا أنّه لن يدخل أحد الجنّة بعمله قالوا : ولا أنت يا رسول اللّه ؟ قال : ولا أنا إلّا أن يتغمّدنى اللّه برحمته » .
قصة الهدهد أو بلقيس [سورة النمل (27) : الآيات 20 الى 44]
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24)
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (28) قالَت ْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29)
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)(2/788)
ج 2 ، ص : 789(2/789)
ج 2 ، ص : 790
المفردات :
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ التفقد تطلب ما غاب عنك وتعرف أحواله. والطير اسم جنس لكل طائر بِسُلْطانٍ بحجة قوية بينة أَحَطْتُ الإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته مِنْ سَبَإٍ اسم مدينة في اليمن والمراد أهلها بِنَبَإٍ النبأ الخبر المهم الْخَبْ ءَ ما خبأته فاختبأ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ألا تتكبروا أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أشيروا على أيها الأشراف ماذا أفعل في هذا الأمر قاطِعَةً أَمْراً مبرمة أمرا لا قِبَلَ لَهُمْ بِها لا طاقة لهم بها بِعَرْشِها الظاهر أن المراد بالعرش هو سرير الملك يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ الطرف تحريك الأجفان وفتحها للنظر ، وارتداده انضمامها نَكِّرُوا لَها عَرْشَها غيروه صَّرْحَ
القصر المشيدجَّةً
اللجة : الماء المجتمع الكثيرمَرَّدٌ
الممرد الأملس ومنه الأمرد.
خلاصة القصة :
كان لسليمان علم بمنطق الطير كما مر ، فكان يعرف ما تريده الطير ، وكانت الطيور مسخرة له ، يكلفها بما يشاء ، وتفقد سليمان في يوم من الأيام(2/790)
ج 2 ، ص : 791
الطير فلم يجد الهدهد ، فقال : مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ، تعجب سليمان من حال نفسه حيث لم ير الهدهد ، ولم يأذن له ثم أضرب ثانية وقال : بل أهو من الغائبين! عد سليمان غيابه بلا إذن جريمة اقترفها ، وهدده بالذبح أو التعذيب بنتف ريشه إلا إذا أتاه بعذر بين ، وحجة قوية تبرر هذا التخلف.
ولم يمض غير زمن قليل حتى جاء الهدهد فسأله عن غيبته فأخبره بأنه أحاط بأمر لم يحط سليمان به ، وجاء بنبإ مهم من بلاد سبإ التي هي من بلاد اليمن ، وأخبره بملك عظيم وجاه عريض تملكه امرأة اسمها بلقيس ، وهي الملكة على تلك الديار ، وهذه المرأة أوتيت من كل شيء يتعلق بأسباب الملك واستتباب النظام ، ولها عرش عظيم ، محلى بالجواهر وأفخر الزينات. وهذه الملكة وقومها يعبدون الشمس من دون اللّه ، ويرتكبون المعاصي ، وقد زين لهم الشيطان أعمالهم السيئة حتى حسبوها خيرة ، فصدهم عن سبيل اللّه فهم لا يهتدون ، فعل الشيطان بهم هذا لئلا يسجدوا للّه الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ، وينزل المطر من السماء ، وهو مخبوء فيها ، وينبت من الأرض ، وقد كان مستورا فيها ، وهو العالم بما تخفون أيها الناس ، وما تظهرون ، إنه عليم بذات الصدور ، هو اللّه لا إله إلا هو رب العرش العظيم حقا ، وصاحب التصريف المطلق ، لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، ولكنه الشيطان يزين للناس ، ويغويهم حتى ينحرفوا عن الطريق الصواب إلى طريق المغضوب عليهم أو الضالين.
وفي قراءة : ألا يا اسجدوا ، والمعنى : ألا يا قوم اسجدوا للّه الذي يخرج الخبء الآية.
قال سليمان حينما سمع مقالة الهدهد : سننظر في أمرك بعين الرؤية لنعلم أصدقت في مقالتك أم كنت من الكاذبين ؟ ! يا هدهد : اذهب بكتابي هذا إلى تلك الملكة فألقه إليهم ، ثم أعرض عنهم قليلا ، فانظر بعد هذا ماذا يرجعون من القول ، ويرددون ، وانظر أى رأى يختارون ؟
فامتثل الهدهد أمر قائدة ورئيسه ، وحمل الخطاب ، وأوصله إلى بلقيس فقرأته ، وعلمت ما فيه ، وجمعت الملأ من قومها ، وأشراف مملكتها للتشاور في هذا الحدث ، فقالت : يا أيها الملأ : إنى ألقى إلى كتاب كريم لأن مرسله كذلك ، ولأنه مختوم ، وكريم في عباراته ، إنه من سليمان ، وقد كتب فيه :(2/791)
ج 2 ، ص : 792
بسم اللّه الرحمن الرحيم ... ألا تعلو على ، وأتونى مسلمين : أى منقادين ، غير فاعلين ما تفعله الجبابرة الطغاة ..
لم ترد الملكة أن تستبد بالأمر ، بل جمعت وجوه القوم للمشاورة ، فقالوا ، وقد أخذتهم العزة بالإثم ، واندفعوا وراء العاطفة بدون عقل قالوا : نحن أولوا قوة وأولو بأس شديد ، فعندنا العدد ، والعزم الأكيد ، ونحن طائعون لأمر الرئيس ، فالأمر إليك فانظرى بما ذا تأمرين ؟
أما بلقيس فكانت امرأة عاقلة حكيمة استعملت العقل والسياسة ، ولم تغتر بما أبداه جيشها ورجالها من القوة والبأس ، وحسن النظام ، وكمال الطاعة ، وقالت لهم : أيها القوم ، هذا كتاب من ملك ، فإذا عاندناه وحاربناه ربما يغلبنا ، ويدخل ديارنا فيهتك سترنا ، وإن الملوك إذا دخلوا قرية فاتحين غازين أفسدوها ، وجعلوا أعزة أهلها أذلة ، نعم ، ومثل ذلك وأكثر منه يفعلون!! وإنى سأعرض عليكم رأيا آخر ، ربما كان أحكم وأسلم ، ذلك أن نرسل لسليمان هدية نصانعه بها ، وتأتى رسلنا بأخباره الحقيقية ، وسيكون لنا بعد ذلك شأن ، وهذا رأى سديد ... وقد ارتضاه الكل ، وأرسلوا الرسل.
فلما جاءت رسلها سليمان بالهدايا قال سليمان : أتمدونني بمال ؟ ! أنكر عليهم هديتهم قائلا : لست طالبا للدنيا وعرضها الزائل ، إنى أطالبكم بالدخول في دين اللّه وترك عبادة الشمس ، على أنى لست في حاجة لمالكم ، فما آتاني اللّه خير وأكثر مما آتاكم ، بل أنتم أيها القوم بهديتكم تفرحون.
ارجع إلى قومك أيها الرسول - والخطاب لزعيم الوفد - فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ، ولا طاقة لهم على لقائها ، ولنخرجنهم من ديارهم أذلة ، وهم صاغرون.
وصل الخبر إلى بلقيس ، وعلمت حقيقة سليمان وجنده ، وقوة ملكه ، وأشفقت على قومها ، فأجمعت أمرها ، وعزمت على الذهاب إلى سليمان في (أورشليم) بالشام بهدية عظيمة.
ولما علم سليمان بزيارة بلقيس له في عاصمة ملكه شيد لها صرحا عظيما ، وجعل أرضه من زجاج ، وهذا شيء غير معروف باليمن.(2/792)
ج 2 ، ص : 793
ولما قربت من ديار سليمان أراد أن يظهر لها من دلائل عظمته ، ونعم اللّه تعالى عليه ما يبهرها ، ويجعلها تؤمن به ، وتصدقه في رسالته ونبوته ، أراد أن يحضر لها عرشها الذي تركته ببلادها لتجلس عليه في ذلك القصر المشيد ، الممرد بالقوارير.
فسأل جنوده عن قوى يأتيه بعرشها ، فقال عفريت من الجان : أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ، وإنى على حمله وحفظه لقوى أمين ، قال الذي عنده علم من الكتاب - واللّه أعلم به - أنا آتيك به في لمح البصر قبل أن أن تغمض عينك ، ويرتد إليك طرفك ، وكان كما قال وأحضر العرش الذي هو كرسي الملك على ما يظهر من وصفه الآتي فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ [سورة النمل آية 40] قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها [سورة النمل آية 41] فهذا يدل أن العرش يراد به كرسي الملك.
فلما رآه سليمان ماثلا أمامه قد حضر في أقل من لمح البصر قال : هذا من فضل ربي على ليبلوني أأشكر تلك النعم أم أكفر بها ؟ !! علما بأن من شكر فإنما يشكر لنفسه ، ومن كفر فإنما وزره على نفسه فقط ، وإن ربي - جل شأنه - لغنى عن شكر الشاكرين ، كريم يجازى على الحسنة بأضعافها قال سليمان لجنده : نكروا لها عرشها ، وغيروا فيه بعض التغير لنرى أتهتدي إليه أم تكون من الذين لا يهتدون ؟ !! وقد يراد بالاهتداء وعدمه الاهتداء إلى الحق فلما جاءت قيل لها : أهكذا عرشك ؟
قالت : كأنه هو ....
قيل لها ادخلى القصر الذي أعد لمقامك فيه ، ولما أرادت دخول الصرح والوصول إلى العرش ظنت الزجاج المصنوع منه أرض القصر ظنته ماء فكشفت عن ساقيها لئلا تبتل ثيابها بالماء ، فأخبرت بأنه ليس ماء إنه قصر مشيد قد مرد بالقوارير ، وصنعت أرضه من زجاج.
قال سليمان : وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة منقادة من قبل حضورها ، وكنا منقادين في كل ذلك للّه - سبحانه وتعالى - .
وهذه المملكة ، وعلى رأسها بلقيس صدها ما كانت تعبد من دون اللّه أى : منعها من إظهار الحق والإيمان باللّه ما كانت تعبده وهي الشمس إنها كانت من قوم كافرين.
فلما رأت كل ذلك ، وأراد اللّه لها الخير والهداية قالت : ربي إنى ظلمت نفسي بما كنت عليه من عبادة غيرك ، وأسلمت مع سليمان للّه رب العالمين.(2/793)
ج 2 ، ص : 794
وهكذا أيها الناس من يرد اللّه أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا مما يطلب منه كأنما يصعد إلى السماء ، وكذلك يجعل اللّه الرجس على الذين لا يؤمنون ، إن في ذلك لآية ، وإنما يعتبر بها أولو الأبصار والعقول ...
صالح مع قومه ثمود [سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 53]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49)
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53)(2/794)
ج 2 ، ص : 795
المفردات :
يَخْتَصِمُونَ يتنازعون اطَّيَّرْنا تطيرنا أى : تشاءمنا والطيرة تعليق الخير أو الشر على طيران الطائر يمينا أو شمالا تُفْتَنُونَ تمتحنون رَهْطٍ الرهط اسم للجماعة لِوَلِيِّهِ من له ولاية عليه مَهْلِكَ هلاك.
وهذه قصة أخرى لصالح مع قومه ثمود ، دليل على أن محمدا رسول اللّه ، وأنه.
يتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ، وفيها إنذار وتهديد للكفار والمشركين.
المعنى :
تاللّه لقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا فدعاهم إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له ، فإذا هم فريقان يختصمون أحدهما مؤمن ، والآخر كافر قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [سورة الأعراف الآيات 75 ، 76].
قال صالح : يا قومي ويا أهلى ويا عشيرتي لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة ؟ أى لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب ، وتقدمون الكفر وتتعجلون به وهو يوجب العقاب والسوء والعذاب ، هلا تستغفرون اللّه ، وتتوبون إليه لكي ترحموا قالوا من فرط جهلهم وسوء تفكيرهم : إنا متشائمون بك وبمن اتبعك من الناس فإنا نرى القحط وقلة المطر أصابتنا من يوم أن ظهرت تدعو إلى ما تدعو إليه.
قال لهم صالح : لا يا قوم. إنما طائركم ومصائبكم من عند ربكم بل أنتم قوم تفتنون وتبتلون بما ينزل عليكم من نعمه ، وما يصيبكم من نقمه ، وتشاؤم الناس بأنبيائهم فكرة جالت في رؤوس كل الأمم « فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه ، وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه » . « وإن تصبهم حسنة يقولوا هذا من عند اللّه ، وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك - أى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم قل كل من عند اللّه » .
وكان في تلك المدينة التي يسكنها ثمود تسعة رجال من أشرافهم ، لهم أثرهم(2/795)
ج 2 ، ص : 796
وخطرهم في القبيلة حتى كأن الواحد منهم رهط بنفسه ، كانوا يفسدون في الأرض ، ولا يتأتى منهم صلاح بحال من الأحوال.
قال هؤلاء متقاسمين فيما بينهم متعاونين على الإثم والعدوان : لنبيتنه وأهله ، والمعنى تحالفوا وتبايعوا على قتل نبي اللّه صالح - عليه السلام - ليلا ثم يقولون لوليه : ما شهدنا مهلك أهله ، وما قتلناه ، وإنا لصادقون في دعوانا ، ومكروا ومكر اللّه ، ولكن لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ، وكان أن أهلكهم اللّه وهم لا يشعرون.
فانظر كيف كان عاقبة مكرهم ؟ فقد أهلكهم ربك بالصاعقة ، ودمرهم بالصحيحة جميعا ، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا ، إن في ذلك لآية وعبرة لقوم يعلمون ، وانظر كيف نجينا القوم الذين آمنوا باللّه ورسوله ، وكانوا يتقون ، وهكذا سنة اللّه مع الجبابرة والطغاة ، فالويل لهم إن لم يتوبوا إلى رشدهم ويؤمنون بربهم ، ويقلعوا عن طغيانهم ...(2/796)
ج 2 ، ص : 797
قصة لوط مع قومه [سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 58]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
المفردات :
الْفاحِشَةَ الفعلة القبيحة المنكرة ، والمراد بها إتيان الذكور في أدبارهم قَدَّرْناها قضينا أنها من الغابرين أى : الباقين في العذاب.
وهذه هي آخر القصص التي تلقاها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في هذه السورة من لدن حكيم عليم.
المعنى :
ولقد أرسلنا لوطا إلى قومه - أهل سدوم - فقال لهم مؤنبا ، وداعيا : أتأتون الفاحشة ، وأنتم تبصرون ؟ أنكر عليهم إتيان الفعلة المتناهية في الفحش حتى كأنها المعروفة به وحدها ، ومن العجيب أنهم يأتونها ، وهم يبصرون ويعلمون أنها فاحشة ، وما كانوا يستترون حين فعلها بل يبصرون وينظر بعضهم لبعض عتوا وتمردا ، واستكبارا في الأرض وفسادا.(2/797)
ج 2 ، ص : 798
أإنكم لتأتون الرجال في أدبارهم ؟ متجاوزين النساء ، وهن محل ذلك العمل وخلقن لأجله ، تأتون ذلك الفعل المنكر للشهوة فقط لا لشيء آخر ، وهذا تفسير للفاحشة التي ذكرت أولا ، بل أنتم قوم تجهلون حقيقة ما خلقت المرأة له ، وتجهلون أنفسكم ومكانكم في المجتمع الإنسانى ، وتجهلون خطر ما أقدمتم عليه ، ومقدار دعوة نبيكم الذي أرسل رحمة لكم.
فما كان جواب قومه على هذا إلا أن قالوا : أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون! يا للعجب يأمرون بإخراج لوط ومن آمن به من القرية لأنهم أناس يتطهرون!! يا للعجب العاجب. من الناس من ينقمون على إخوانهم ، لأنهم آمنوا بربهم ، ودعوا غيرهم إلى الدين الحق!! ولكن هل يغفل الحق - تبارك وتعالى - أمر هؤلاء وهؤلاء ؟ لا. أبدا .. لن يكون ذلك ، فهذا لوط مع قومه العتاة العصاة المتجبرين. قد نجاه اللّه وأهله الذين آمنوا معه إلا امرأته فقد قضى عليها أن تكون من الهالكين ، ولم ينفعها قربها من لوط ، ما دامت تستحق الهلاك لكفرها وأمطر اللّه على العصاة المتكبرين مطر السوء فأبادهم وخسف بهم الأرض ، فساء وقبح مطر المنذرين ، وتلك عاقبة العصاة الفاسقين.
الشواهد الدالة على الوحدانية والقدرة [سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 66]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66)(2/798)
ج 2 ، ص : 799
المفردات :
اصْطَفى اختار حَدائِقَ جمع حديقة وهي البستان عليه سور وحائط لأن الحائط أحدق بها بَهْجَةٍ البهجة : حسن المنظر يَعْدِلُونَ يميلون. يقال : عدل عنه أى مال عنه قَراراً مكانا يقر عليه الإنسان وغيره بمعنى يستقر خِلالَها أى : بين جهاتها المختلفة حاجِزاً مانعا الْمُضْطَرَّ الذي أصابه الضر بُشْراً مخفف بشرا جمع بشير ، والمراد مبشرات ادَّارَكَ أصله تدارك بمعنى تلاحق عَمُونَ جمع أعمى.
ولما فرغ من قصص تلك السورة عاد إلى خطاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، إذ هو المقصود الأول ، وكأن أمر المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم بالحمد والتسليم صدر خطبة لما يلقى بعد ذلك من البراهين والشواهد الدالة على الوحدانية والعلم والقدرة الكاملة.(2/799)
ج 2 ، ص : 800
المعنى :
قل يا محمد : الحمد للّه ، الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون ، نحمده - سبحانه - الذي منّ على الأمة المحمدية ، بنور القرآن ، وشرفها بأن منع عنها عذاب الاستئصال وهلاك الأمم السابقة ، وأبقى لها المعجزة الكبرى على مر الأيام والعصور ، وهي معجزة القرآن ، وسلام من اللّه وتحية من عنده مباركة طيبة ، على عباده المؤمنين ورسله المصطفين الأخيار ، الذين صبروا وصابروا على مشاق الرسالة ، وتكاليف النبوة ، فكان لهم من اللّه الأجر والثواب الجزيل.
أيها الناس : آللّه خير أم ما يشركون ؟ آللّه خير لمن عبده أم الأصنام لمن عبدها ؟ وفي هذا تبكيت للمشركين وتأنيب لهم لأنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الواحد القهار ففي هذا الكلام تنبيه لهم على نهاية الضلال والجهل ،
روى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه كان إذا قرأها قال : « بل اللّه خير وأبقى وأجلّ وأكرم » .
ثم إنه - تعالى - ذكر ما يفيد أنه المستحق للعبادة دون سواه ، إذ هو الخالق للسماء والأرض ، والذي يجيب المضطر إذا دعاه وهو الهادي في ظلمات البر والبحر ، وهو عالم الغيب والشهادة ، ولا يطلع على علمه أحدا ، وسيعلم الذين ظلموا كل هذا ، يوم لا تنفعهم معذرتهم في شيء ، وفي هذا من دلائل القدرة ، وكمال الوحدانية ، وتمام العلم ما لا يخفى.
أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ؟ !! ، والمعنى بل من خلق السماء وما فيها والأرض وما عليها ، وأنزل لكم من السماء ماء فأنبت بسببه حدائق وبساتين وزروعا وأشجارا ذات لون بهيج ، ورواء جميل ، ما كان لكم أيها الناس أن تنبتوا شجرها ؟ أمن خلق هذا كله كمن لم يخلق شيئا ؟ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ؟ أغير اللّه يقرن به في العبادة ، ويجعل شريكا له في القداسة ؟ !! بل هم قوم يعدلون عن هذا الحق الظاهر ، ويجعلون للّه عدلا وشريكا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [سورة الأنعام آية 1].(2/800)
ج 2 ، ص : 801
بل من جعل الأرض قرارا يستقر عليها الإنسان وغيره ، ويعيش عليها ، فقد جعل اللّه الأرض رغم كرويتها ودورانها السريع صالحة للاستقرار والمعيشة عليها بهذا النظام الدقيق ، وما كانت الزلازل التي تصيب الأرض في بعض الظروف إلا ليشعر العالم أجمع بما هو فيه من نعمة الاستقرار على الأرض ، وقد جعل الأنهار تجوس خلالها غادية ورائحة ليتمتع الإنسان الحي بتلك النعم ، وقد جعل لها رواسى من الجبال والهضاب لئلا تميد بنا وتضطرب مع ما في تلك الجبال من منافع ، فحقا صدق اللّه خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، وقد خلق اللّه على الأرض البحرين العذب الفرات ، والملح الأجاج ، وجعل بينهما حاجزا من اليابس لئلا يطغى أحدهما على الآخر إذ في كل منهما خير ومنفعة لك يا ابن آدم ؟ أمن جعل لك كل هذا كمن لم يجعل لك ولا لنفسه شيئا ؟ ! أيليق أن يكون مع صاحب هذه النعم والقدر إله يعبد ؟ بل أكثر الناس لا يعلمون الحق فيتبعونه ..
اللّه - سبحانه - خلق لنا السماء والأرض والبحار والأنهار ، والزروع والأشجار ، وهل تركنا بعد ذلك ؟ لا. إننا محتاجون إليه ، وهو - سبحانه - يكشف عنا الضر إذا نزل.
بل أمن يجيب المضطر إذا دعاه [و المضطر من أصابه ضر من فقر أو مرض أو حاجة دعته إلى الالتجاء والاضطرار] ويكشف عنه السوء إذا التجأ إلى ربه حقا ودعاه ، وهو الذي جعلكم أيها الناس خلفاء في الأرض لغيركم ، فكل منا وارث لأبيه وسيرثه ابنه ، والدنيا كالمنزل يأوى إليه جماعة من الناس ليلا ثم يفارقونه نهارا ، ويخلفهم آخرون ؟ أمن يفعل هذا كمن لا يفعل شيئا ؟ أيكون مع اللّه إله آخر تدعونه ، وهو لا ينجيكم من البحر ، ولا ينقذكم من الضر ، ولا يدفع عنكم سوءا ؟ !! ما تذكرون ذلك إلا ذكرا قليلا.
اللّه يحرسنا بعين لا تنام ، ويحفظنا بقدرة لا ترام ، ويكلؤنا ويهدينا في ظلمات البر والبحر حتى ننجو بسلام. وسبحانه وتعالى عما يشركون.
بل من يهديكم أيها الناس في ظلمات البر والبحر ؟ حيث أودع فيكم عقلا وفكرا ، وهداكم إلى العلم والمعرفة التي بها تعرفون اتجاهكم وسيركم بمقاييس مضبوطة ، نعم هو(2/801)
ج 2 ، ص : 802
الذي هداكم قديما بالنجوم والجبال والطرق والعلامات وحديثا بآيات الضبط ، ومن يرسل الرياح مبشرات تبشر بقدوم المطر والخير ، وتدفع السفن وتحمل اللقاح إلى الزرع فالرياح تبشر على العموم بالخير ... بل أمن يفعل هذا يكون كمن لا يفعل شيئا ؟ ! أإله مع اللّه ؟ تعالى وتبارك عما يشركون ..
بل من يبدأ الخلق ثم يعيده ، ولا يقدر على البدء والإعادة إلا هو ، ومن يرزقكم من السماء بالمطر ، ومن الأرض بالنبات وغيره ؟ أمن يفعل هذا كله كمن لا يفعل شيئا أبدا ؟ بل أيعقل أن يكون مع اللّه إله آخر يفعل هذا ؟ ! قل لهم يا محمد : هاتوا برهانكم وحجتكم إن كانت لكم حجة ، وكنتم صادقين في دعوى أن له شريكا.
قل لهم يا محمد : لا يعلم من استقر في السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن حتى الأنبياء والرسل لا يعلمون الغيب أى ما غاب عنهم ، ومن جملته قيام الساعة لكن اللّه يعلم الغيب والشهادة ، ويعلم السر وأخفى إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ... الآية : 34 من سورة لقمان ، قالت عائشة. من زعم أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم يعلم ما في غد فقد أعظم على اللّه الفرية وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وهذا يفيد وصف اللّه بالعلم التام الشامل بعد وصفه بالقدرة والوحدانية ، وذلك كله يفيد انفراده بالالوهية وما يشعر الكفار في أى وقت يبعثون للحساب والجزاء ، وسآتيهم الساعة بغتة ، وهم يجحدون بل ادارك علمهم ، تلاحق أى : تكامل علمهم في الآخرة عنها لأنهم رأوا كل ما وعدوا به معاينة فتكامل علمهم به بعد إنكارهم لأحواله كلها ، بل هم في شك منها في الدنيا ، بل هم من الآخرة وأحوالها عمون بقلوبهم ، لا يؤمنون بها ولا يفكرون فيها ...
اعتقادهم في البعث [سورة النمل (27) : الآيات 67 الى 75]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71)
قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75)(2/802)
ج 2 ، ص : 803
المفردات :
أَساطِيرُ جمع أسطورة وهي ما سطره الأقدمون من خرافاتهم وأحاديثهم ضَيْقٍ في ضيق صدر رَدِفَ لَكُمْ تبعكم ولحقكم ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ ما تخفيه غائِبَةٍ التاء فيها للمبالغة كالتاء في علامة ونسابة والأصل غائب.
بعد ما ثبت بالدليل القاطع أن اللّه هو المستحق وحده للعبودية إذ هو صاحب القدرة الكاملة ، والعلم التام ، والوحدانية في الذات والصفات والأفعال ، ومن كان كذلك كان قادرا على البعث ، ومع هذا كله فلم يؤمنوا به.
المعنى :
وقال الذين كفروا باللّه وبرسله أإذا كنا ترابا بعد موتنا نحن وآباؤنا ؟ أإنا لمخرجون - من قبورنا بعد أن صرنا ترابا - للبعث والجزاء! ؟ إن هذا شيء لا يمكن أن نصدقه ، ولا أن نؤمن به ، لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل كثيرا ، ولم نسمع أن قام أحد بعد موته وصيرورته ترابا ، ما هذا الذي تدعونا إليه ، وتخبرنا به أيها الرسول إلا أساطير الأولين وأكاذيبهم التي دونوها.
رأى اللّه - سبحانه وتعالى - فيهم هذا الإنكار للبعث ، وهو يعلم أن سبب ذلك حبهم الدنيا ، وافتتانهم بها وحبهم للرياسة الكاذبة ، والزخرف الزائل ، فعالج لهذا الداء(2/803)
ج 2 ، ص : 804
من أساسه وأمر رسوله أن ينبههم إلى السير في أرض الحجاز والشام واليمن لينظروا بأعينهم كيف كانت عاقبة الكفار المجرمين ؟ هؤلاء هم الذين اغتروا بدنياهم ، وافتتنوا بزخرفها وما هي إلا ساعة حتى فارقوها وتركوا ديارهم تنعاهم لمن بعدهم فيا أيها الناس آمنوا وصدقوا ولا تغتروا بالدنيا فهي متاع زائل ، وعرض حائل ، والآخرة خير وأبقى.
وأنت يا محمد لا تحزن عليهم ، ولا تك في ضيق وكرب مما يمكرون ، فإن اللّه معك وناصرك ، وعاصمك من الناس ومؤيدك.
وانظر إليهم وهم يقولون : متى هذا الوعد ؟ إن كنتم أيها القائلون به صادقون وهذا سؤال المراد منه الإنكار واستبعاد تحقق الوعد ، فيرد اللّه عليهم : قل لهم يا محمد عسى أن يكون ردفكم ولحقكم ، واقترب منكم بعض الذي تستعجلون من العذاب ، وعسى في كلام اللّه للتحقق ، وقد تحقق هذا في غزوة بدر ويتحقق في عذاب القبر قريبا.
وإن ربك لذو فضل على الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم حيث يمن على الجميع بنعمة في الدنيا ، وعلى المؤمن خاصة بنعمة الهداية ، وعلى الكافر بتأخير العذاب لعله يثوب إلى رشده ، وإن ربك ليعلم السر وأخفى ، ويعلم الغيب والشهادة ، وهو العليم بذات الصدور ، وما من شيء يغيب عنه ويخفى خفاء شديدا أينما كان في السماء أو الأرض إلا كان في كتاب مسطور ، كتاب مبين يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [سورة لقمان آية 16].
القرآن الكريم والنبي صلّى اللّه عليه وسلم [سورة النمل (27) : الآيات 76 الى 81]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)(2/804)
ج 2 ، ص : 805
المعنى :
لقد كان الكتاب الذي سطر فيه ما مضى من أدلة تثبت للّه صفات الكمال وتؤيد البعث للثواب والعقاب - وهذان أصلان مهمان للدين الإسلامى - هو القرآن الكريم ، فمن الخير التعرض له ببيان أنه من عند اللّه ، وأنه معجزة دالة على صدق محمد صلّى اللّه عليه وسلم فيما يدعيه.
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فإنه الكتاب الذي أنزل مصدقا لما بين يديه من الكتاب ، ومهيمنا عليه ، وقد بقي عند اليهود والنصارى من كتبهم الشيء القليل على أصله أى : بدون تحريف والأكثر حرف وبدل فهم مختلفون ، دليل ذلك قوله - تعالى - فيهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ [النساء : 44] يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ .. مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أقرأ الآيتين 13 ، 14 من سورة المائدة.
فضياع جزء من التوراة نسيانا. وتحريف جزء آخر منها عمدا - ومثل هذا حصل في الإنجيل - وليس هذا تجنّيا بل ثبت بنص القرآن كما مر .. هذا جعلهم يختلفون في كثير من المسائل بينهم وبين بعض ، بل بين أتباع الدين الواحد وقع اختلاف كثير وقد جاء القرآن بالقصص المحكم ، والقضاء العادل ، مخاطبا لهم جميعا بقوله : يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [سورة النساء آية 171].
اختلف بنو إسرائيل في عيسى ابن مريم اختلافا كثيرا فاليهود كذبوا ورموا أمه بالزنا ، وحاولوا قتله وصلبه ، والنصارى صدقوه ثم عظموه وألهوه حتى قالوا : إنه إله أو ابن الإله أو ثالث ثلاثة : تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا ، وقد جاء القرآن يقص عليهم(2/805)
ج 2 ، ص : 806
أن عيسى رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا به وصدقوه ، ولا تعظموه بل هو كبقية الأنبياء والمرسلين ومواضع الخلاف كثيرة ، ولكن هذه أهمها. وإن القرآن شفاء ، ورحمة ، وهدى وضياء ، ومصدر الخير والبركات والعلوم والمعارف في الواقع للناس جميعا ، ولكن المنتفعين بذلك أكثرهم المؤمنون ، وإن ربك يقضى بين الناس بحكمه العدل ، وهو العزيز الذي لا يغالب ، العليم بخبايا النفوس وطوايا القلوب.
وأما أنت يا محمد فتوكل على اللّه حقا ، وفوض أمرك إليه صدقا ، إنك على الحق المبين ، ورسالتك هي المحجة البيضاء ، ليلها كنهارها ، ولا تعجب من كفر هؤلاء فليس ذلك راجعا لنقص فيك أو في رسالتك ، بل إنك لا تسمع الموتى وأشباههم ولا تسمع الصم الدعاء ، وكيف يسمع الأصم دعاء ؟ وبخاصة إذا ولى مدبرا.
وما أنت يا محمد ، وكذا كل من دعا بدعوتك ، وسار على طريقتك بهادي العمى عن ضلالتهم.
ما تسمع إلا من فيه استعداد لقبول الحق ، ومن في روحه صفاء وهو المؤمن بآياتنا ، الناظر بعين البصيرة في ملكوتنا ، أولئك هم المسلمون ، أما غيرهم فكالأنعام لها عيون وآذان ، ولا قلب لها ترى به العبرة ، بل هم أضل من الأنعام.
بعض مناظر القيامة مع ذكر مقدماته [سورة النمل (27) : الآيات 82 الى 86]
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)(2/806)
ج 2 ، ص : 807
المفردات :
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ دنا وقرب وقوع مدلول القول دَابَّةً كائنا حيا يدب على الأرض فَوْجاً جماعة يُوزَعُونَ في المادة معنى المنع كما تقدم في قصة سليمان والمراد هنا يمنع أولهم ويوقف حتى يتلاحقوا.
لا زال الكلام متلاحقا في البعث وإمكانه ، وبخاصة بعد ذكر بعض صفات اللّه كالقدرة والعلم والوحدانية والتعرض للنبوة والقرآن وكونه معجزة للنبي صلّى اللّه عليه وسلم.
المعنى :
وإذا وقع القول عليهم ودنا الوقت ، وقربت الساعة الفاصلة ، وحق عليهم العذاب لفساد الدنيا ، وضياع الدين وهذا يكون قبيل قيام الساعة.
وإذا دنا وقت ما وعدوا به من قيام الساعة أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ، وما هي تلك الدابة ؟ وهنا انفلت خيال الكاتبين والمفسرين ، واستندوا إلى بعض أحاديث آحادية ، وأخذوا يغربون في وصفها وجسمها وكيفية خلقها. ونوعها.
وفي ظني - واللّه أعلم بكتابه - أن تلك الدابة هي إنسان عادى ، عالم بكتاب اللّه وسنة رسوله وأحكام شرعه ، يظهر في هذا الوقت الذي يقل فيه العلماء ، ويقبض فيه العلم بموتهم ، وينعدم حفظة القرآن الكريم ، ورجال الدين العاملون في هذا الوقت الذي يكثر فيه الفساد ، ويعم الجهل بأحكام الدين ، ويتخذ الناس رؤساء جهلاء يستفتونهم في دينهم فيفتونهم فيضلون ويضلون ، يا أخى لا تظن أنى متشائم بل دلائل هذا الأيام السود قد تكون ولدت ، فنحن في بلد تعتبر هي الموئل الوحيد للدين والعلم ولكن يجب أن نصارح الناس. أليس الأزهر في محنة ؟ ! في هذه الأيام نعتنى بمحو(2/807)
ج 2 ، ص : 808
الأمية ، ولكننا نضن بمال قليل ينفق على فصل لتحفيظ القرآن ، لقد بح صوتنا لتكون مدارس التحفيظ تعامل كمدارس المرحلة الأولى أو الإعدادية ولكن أهذا معقول ؟ إن الدعوة إلى القرآن وحفظه والعناية بتلاميذه من الرجعية التي تتنافى مع مبادئ مسايرة الغرب وتقليده.
لقد قام بعض الكتاب يهاجم الأزهر في نظمه وقد يكون فيه عيب راجع لنظمه ولرجاله!! وفي الواقع هي حملة لإثبات أن الدين الإسلامى لم يصلح لتحريرنا ، وأنا أمة يجب أن تتحرر من كل شيء حتى من تقاليدها ودينها.
أيبعد بعد قرن أو قرنين أو ثلاثة - واللّه أعلم - أن يوجد هذا الوقت الذي يقبض فيه العلم والعلماء ؟ حتى تنتهك الحرمات جهارا ونهارا ، فلا يوجد من ينكر وإذا حصل هذا يخرج اللّه للناس دابة من الأرض - وهي الإنسان المخلوق من التراب - تكلمهم ، وتعظهم ، وتأمرهم وتنهاهم ، ولكن هذا يكون في وقت قد بلغ فيه السيل الزبى وجاوز الحزام الطبيين ، وقربت الساعة.
والذي دعاني إلى تفسير الدابة بالإنسان وصفها بالكلام ، ولأن الإنسان دابة من الدواب ، ولقول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقد سئل عن الدابة وخروجها ، فقال : تخرج من أعظم المساجد حرمة على اللّه - تعالى - المسجد الحرام ، ولقد قال بهذا بعض المفسرين ، وقوله تعالى : أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ [النمل 82] مما تعظ به تلك الدابة.
وهاك منظرا من مناظر يوم القيامة بعد الكلام على بشائرها. ويوم يحشر جماعة كثيرة من كل ممن يكذب بآياتنا نجمعهم ، ونسوقهم سوقا فهم يوزعون حتى يكبكبوا في جهنم ، وهذا إشارة إلى كثرة العدد! وتباعد أطرافه.
حتى إذا جاءوا ، وأخذوا جزاءهم قيل لهم تبكيتا : أكذبتم بآيات اللّه ، والحال أنكم لم تحيطوا بها علما ؟ على معنى أنكم كذبتم قبل بحث الآيات والإحاطة بها لأنكم شغفتم بالتكذيب.
بل ماذا كنتم تعملون ؟ ! أى : إذ كنتم لم تبحثوا الآيات وكذبتموها بادى الرأى من غير فكر ولا نظر فبما ذا كنتم تشغلون أنفسكم ؟ .
وعند ذلك وقع عليهم بالفعل العذاب الموعود بغشاهم بسبب التكذيب والكفر(2/808)
ج 2 ، ص : 809
فشغلهم عن النطق والكلام والاعتذار هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [سورة المرسلات الآيتان 35 ، 36].
يا عجبا لأولئك الكفار! ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه ، وجعلنا النهار مبصرا يبصرون فيه أمور معاشهم ، ومعادهم ، إن في ذلك لآيات لقوم يعلمون ، فالقادر على إيجاد الليل بعد النهار ، والنهار بعد الليل ، ومن يقدر على وفاة الناس ليلا ثم إحيائهم نهارا ، قادر بلا شك على إيجاد الحياة للبعث والجزاء. بعد الموت والفناء ، وفي ذلك آيات معلومة تلفت الأنظار ، ولكن لقوم يؤمنون.
من علامات يوم القيامة [سورة النمل (27) : الآيات 87 الى 90]
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
المفردات :
- الصُّورِ هو البوق الذي ينفخ فيه فَفَزِعَ الفزع هنا : الخوف الشديد المفضى إلى الموت داخِرِينَ صاغرين من الذل أو الهيبة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ ألقيت من جهنم.(2/809)
ج 2 ، ص : 810
المعنى :
ذلك من علامات يوم القيامة ، العلامات القريبة التي تتقدمه بزمن يسير فإذا أراد اللّه .. أمر الملك الموكل بالبوق فنفخ فيه نفخة يرتج لها كل من في الدنيا من الأحياء ، ويصيبهم هول وخوف شديد ، يؤدى بهم إلى الموت إلا من شاء ربك من الملائكة وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مات مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ آية 69 من سورة الزمر. وعلى ذلك فالنفخ مرة ليموت الكل ، ومرة ليحيا الكل للحساب ، ومن شاء اللّه يموت بعد النفخة الأولى وقبل الثانية.
وكل أتوه صاغرين صغار ذل إن كانوا كفارا ، وصغار هيبة وخشية إن كانوا مؤمنين إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً « 1 » .
وترى الجبال يومئذ تظنها جامدة ساكنة ، وهي تمر مر السحاب يدفعها الريح صنع اللّه الذي أتقن كل شيء وأحكمه ، إنه خبير بما تفعلون.
من جاء بالحسنة يوم القيامة فله ثواب جزيل بسببها ، وأصحابها يومئذ من الفزع آمنون مطمئنون ، وكان الفزع الأول عاما لأنه عقب نفخ الصور ، وأما الفزع المنفي عن المؤمنين فالمراد به دوامه واستمراره ، فالمؤمن يموت أو يحيا للحساب يستبشر بالثواب الجزيل والعطاء الذي لا يقطع فهو بحق من الخوف آمن.
وأما من جاء بالسيئة فسيلقى في جهنم على وجهه الذي طالما صعر خده كبرا ، وشمخ بأنفه عجبا وتيها على عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ثم يقال لهؤلاء الكفار : هل تجزون إلا ما كنتم تعملون.
وبعض العلماء يقول في قوله تعالى : وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً « 2 » ...
إن ذلك في الدنيا وهذا دليل على دوران الأرض حول الشمس بسرعة فائقة ، وتلك نظرية علمية ثابتة ، ولكن الظاهر واللّه أعلم أن ذلك في الآخرة ، لأن الآيات التي هنا كلها عن يوم القيامة.
___________
(1) سورة مريم الآية 93. [.....]
(2) سورة النمل الآية 88.(2/810)
ج 2 ، ص : 811
خاتمة السورة [سورة النمل (27) : الآيات 91 الى 93]
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
وهذا ختام للسورة ، وإنه لختام رائع لا يصدر إلا من الحكيم العليم الذي أنزل هذا الكتاب المحكم الآيات ، المتشابه المقاطع والحلقات ، تقشعر منه قلوب الذين يتلونه بخشوع ، وخضوع ، وتخضع لقوته وأحكامه جباه البلغاء والحكماء ، ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا.
فبعد أن بين أن القرآن ينزل على النبي من لدن حكيم عليم ، وساق قصصا لإخواته الأنبياء في عصور مختلفة ليكون عبرة وعظة ، وحجة وبرهانا ، وتعرض بعد ذلك لأمر التوحيد مناقشا الكفار والمشركين ، مبينا آثار فضل اللّه ونعمه التي تنطق بوحدانيته وقدرته وعلمه ، ثم تعرض للبعث ، وما في يوم القيامة من أهوال وأحوال ختم هذا كله بما يفيد أن الواجب عليه عبادة اللّه حقا وتلاوة القرآن ، وبعد ذلك فالأمر للّه.
فقال في النهاية : إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة - مكة - الذي حرمها ربها ، وعظّم اللّه حرمتها ، وجعلها حرما آمنا ، لا يسفك فيها دم ، ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد فيها صيد ، ولا يعضد فيها شجر ، ولا يخوف فيها خائف ، بل هي الحرم الآمن تجنى إليه ثمرات الدنيا في كل ناحية ، وللّه كل شيء ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا وليس علىّ إلا البلاغ والإيمان الخالص ، وعلى اللّه وحده الحساب ، وله الأمر من قبل ومن بعد.(2/811)
ج 2 ، ص : 812
وأمرت أن أتلو القرآن مصدر البركات - وأساس الخيرات ، وأصل كل شيء وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ « 1 » وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ « 2 » .
وإذا تلونا القرآن وعملنا بما فيه فلا يضيرنا شيء بعد هذا ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، ومن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ، ومن ضل فإنما عليه وزرها ، وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون ، وإنما أنت يا محمد نذير وبشير.
وقل الحمد للّه حمدا يوازى نعماءه ، سيريكم اللّه آياته الدالة على عظمته وحكمته وقدرته فتعرفونها سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ « 3 » . وما ربك بغافل عما تعملون.
___________
(1) سورة الإسراء آية 82.
(2) سورة النحل آية 89.
(3) سورة فصلت آية 53.(2/812)
ج 2 ، ص : 813
سورة القصص
هذه السورة مكية على الأصح ، ولذا تراها تعلم المسلمين وقت أن كانوا يسامون الخسف والعذاب من المشركين : أن النصر من عند اللّه ، وأن الأمن في جوار اللّه ، وأن الكفار مهما كانوا على جانب من القوة والجاه والعلم والمال فمآلهم الخسف من اللّه والإبادة ولذلك ضرب مثلا لهذا بفرعون ذي البطش وبقارون ذي العلم وكيف كان مآلهما .. ووسط ذلك ساق البراهين المادية على قدرته وصدق رسله. مع ذكر بعض المواقف يوم القيامة.
افتتاح السورة والكلام على قصة فرعون [سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6)(2/813)
ج 2 ، ص : 814
المفردات :
طسم تقرأ هكذا طا. سين. ميم بمد في السين والميم مع إدغامه النون في الميم نَبَإِ النبأ : الخبر المهم عَلا استكبر وتجبر شِيَعاً فرقا وأصنافا وَيَسْتَحْيِي يترك نساءهم أحياء أَنْ نَمُنَّ نتفضل عليهم وننعم أَئِمَّةً ولاة وملوكا يَحْذَرُونَ يخافون.
هذا افتتاح لسورة القصص ، وقد ذكر فيها شيئا عن قصة فرعون وقصة موسى ثم قصة قارون ، وفي كل قصة عظة ، وشاهد صدق على نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وهي سورة مكية افتتحت كأخواتها بحروف المعجم ، والكلام على القرآن.
المعنى :
طسم (و فيها ما مضى في أخواتها). تلك الآيات - والإشارة إلى آيات السورة - من آيات الكتاب المبين الذي بين الحلال والحرام ، وبين بما فيه أنه من عند اللّه ، وأن محمدا صادق في دعواه ، وبين كل شيء لأن اللّه لم يفرط في ذكر الأصول العامة فيها ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ [سورة الأنعام الآية 38].
نتلو عليك ، بواسطة الروح الأمين جبريل الذي كان مكلفا بتلاوته على النبي ، نتلو عليك شيئا من خبر موسى وفرعون وهو الجزء المهم من قصتهما سيق للعبرة والعظة ، إذ ليس القرآن كتاب تاريخ وقصص ، ونتلوه حالة كوننا محقين في أخبارنا ليس فيها مبالغة ولا مجافاة للحقيقة ، أخبار وقصص ذكرت بالحق ، وسيقت لأجل الحق وخدمة له ، ولا ينتفع بها ، ولا يؤمن إلا القوم المتقون ، وإن كانت ذكرت للناس جميعا.
إن فرعون - ملك مصر - علا في الأرض ، واستكبر وطغى فيها ، وتجبر على الخلق وأفسد فيها ، وجعل أعزة أهلها أذلة ، وجعل أبناء مصر شيعا وأحزابا ، كل حزب بما لديهم فرحون ، أفسد ما بينهما ، وقرب هذا وأبعد ذاك ليكون بأسهم بينهم شديدا فيظل الكل خاضعا له مستضعفا عنده ، وقيل في المعنى : وجعل أهل مصر شيعا متفرقين يتشيعون لرأيه ، ويدافعون عنه حقا كان أو باطلا ، وهذا صنف من الناس مرذول ،(2/814)
ج 2 ، ص : 815
يصفق لكل خطيب ، ويسير مع كل داع ، ويخضع لكل رئيس فما باله مع الملك ، إن كفر كفروا ، وإن قال خيرا أو شرا ، أو حقا أو باطلا أمنوا عليه فهم حزب (موافقون) وإن لم يعرفوا الكلام في أى موضوع.
ويظهر أن في طبيعة بعض الأمم الشرقية هذا الداء الوبيل الذي يصيب الحاكم والمحكومين ، فترى الحاكم أول أمره يتظاهر بالتقى والإيمان والإخلاص للمبادئ الفاضلة والمثل العليا ثم لا يلبث أن يجرفه تيار المادة ، وأن يصيبه داء الملك فيصبح فرعون مصر ، يتعالى ويتغطرس ويتجبر ويتكبر ، ويؤذى ويفسد ، ويسجن ويعتقل ، ويتنكر لكل صديق وحبيب ، وتكون الطامة الكبرى إذا أصبح حيوانا في الناحية الجنسية ، أو عبدا للمال إذا جمع المال من كل طريق.
أما المحكومون فلا يلبث أن يصيب بعضهم داء الخضوع والذل ، والحقارة والضعة حتى يصبح معه متشيعا للرئيس يوافقه ولو قال : إنى أنا ربكم الأعلى.
والعلاج الوحيد لذلك كله أن نضع الدين والقرآن نصب أعيننا ، وأن نغرس في نفوسنا تقوى اللّه والتوكل عليه حقّا حتى لا نغتر بدنيا ولا جاه ولا نخشى إلا اللّه فلا نقول إلا ما يرضى ربنا ، ويوافق ديننا.
وبعد فلنرجع إلى فرعون الذي علا في أرض مصر ، وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم الذكور خوفا على ملكه ودنياه ، ويترك نساءهم لأن الأنبياء التي سبقت موسى كانت تبشر به وبمولده ، وبأنه سيرفع أمر اللّه ، ويمنع الظلم عن الناس وبخاصة بنى إسرائيل ، ويزيل الملك القائم على أساس الظلم والجبروت ، إن فرعون كان من المفسدين.
يقول اللّه : وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً « 1 » وقادة وولاة وحكاما ، ونجعلهم الوارثين الذين يرثون ملك فرعون وأرض مصر بعد أن كانوا يسامون سوء العذاب.
ونريد أن نمكن لهم في الأرض ، ونرى فرعون الطاغية وهامان وأمثاله من وزراء الملك وحاشيته ، وجنودهما ما كانوا يحذرون ويخافون.
وقد حقق اللّه هذا كله بأن أرسل موسى وأنزل معه التوراة.
___________
(1) سورة القصص الآية 5.(2/815)
ج 2 ، ص : 816
فهل لنا أن نلتفت إلى هذا ؟ ونفهم أن الذي أنقذ بنى إسرائيل من الذل ، وجعلهم ملوكا وحكاما ومكن لهم في الأرض إنما هو الكتاب المنزل والشريعة المقدسة فإذا ما خرجوا منها ، وابتعدوا عنها ضربت عليهم الذلة والمسكنة!! وإنما يتذكر بذلك أولو الألباب.
قصة موسى
قصة موسى كما ذكرنا سابقا تشتمل على عدة عناصر ، وقد ذكرت في مواضع كثيرة في القرآن ، ويلاحظ أنه ذكر في هذه السورة بإسهاب الجزء الأول من حياة موسى ، ويتلخص ذلك في العناصر الآتية.
ولادته وإرضاعه .... ، تربيته في بيت فرعون ، سبب خروجه من أرض مصر.
أرض مدين ونزوله بها ، ومصاهرته للشيخ ، قضاء موسى مدة استئجاره. موسى بالوادي المقدس. محاجة موسى لهم. وعناد فرعون. وعاقبتهم.
ولادته وإرضاعه [سورة القصص (28) : الآيات 7 الى 14]
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11)
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)(2/816)
ج 2 ، ص : 817
المفردات :
- وَأَوْحَيْنا ألهمنا وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي الخوف ألم نفسي لما يتوقع حصوله في المستقبل ، والحزن ألم يصيب الشخص لأمر واقع في الماضي خاطِئِينَ متعمدين للخطيئة من خطىء إذا تعمد ، أما أخطأ فمعناه لم يصب ولكن بغير تعمد قُرَّتُ عَيْنٍ المراد أنه مصدر سرور وارتياح ، واشتقاق الكلمة من القرار فإن العين تقر على ما تسر به أى تسكن ، أو من القر أى البرد ، وبرد العين كناية عن سرور صاحبها فارِغاً خاليا من كل ما عدا موسى لَتُبْدِي بِهِ لتظهر أمره رَبَطْنا المراد ثبتناها قُصِّيهِ القص اقتفاء الأثر وتتبع الخبر عَنْ جُنُبٍ عن مكان بعيد يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ يقومون بأمره أَشُدَّهُ غاية نموه ، وهو مفرد جاء على وزن الجمع.(2/817)
ج 2 ، ص : 818
المعنى :
وأخيرا ولدت أم موسى (قيل اسمها يوكابد وقيل غيره وهذا لا يهمنا في شي ء) ولدت موسى في وقت شديد على بنى إسرائيل ، كان يقتل فيه فرعون ذكورهم ويبقى نساءهم فماذا تفعل تلك الأم المسكينة ؟ ! إن ابنها سيكون له شأن ، وهو النبي الذي ينقذ بنى إسرائيل ، ويرسل إليهم ، وتنزل عليه التوراة ، وفيها هدى ونور ، فمن المعقول أن يرعاه ربه ويحفظه حتى يؤدى رسالته ، وقد كان ما أراد اللّه ، وصنعه على عينه ، فلما ولدته أمه خبأته من عيون فرعون ، فمكث عندها زمنا فلما خافت عليه وخافت من انكشاف سرها المكتوم فيقضى على فلذة كبدها ، وموضع أملها لما حصل هذا أوحى اللّه إليها وألهمها - وهو القادر على كل شيء - أن تصنع له تابوتا ثم تضعه فيه ، وتلقيه في البحر.
وهنا نقف لحظة أمام قوله تعالى فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي « 1 » إذ كيف يكون الإلقاء في البحر نتيجة الخوف ؟ وهل من المعقول أنى إذا خفت على ابني مكروها ألقيه من النافذة ؟ ! ولكنها عناية اللّه ورعايته تحوط بأنبيائه ورسله ، وهم في المهد بل وفي ظهور آبائهم
«
خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح »
عناية اللّه ورعايته بهم هكذا تكون لهم إرهاصا بنبوتهم ، ودليلا على أنهم ليسوا بشرا عاديين ، فحينما تلقى أم موسى به في البحر الذي يغرق الرجال والشبان ، ثم يحفظه اللّه لها ، بل ويرده إليها كما وعدها. تعلم علما أكيدا أن وعد اللّه حق ، وأنه القادر المقتدر لا تخفى عليه خافية ، ويكون في هذا دليل على صدق موسى فيما يدعيه مستقبلا إذا خفت عليه من فرعون فألقيه في البحر ، ولا تخافي عليه من الغرق فعين اللّه ترعاه.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهنّ أمان
أليس في هذا عبرة وعظة للمسلمين في مكة قبل الهجرة.
ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك ، وجاعلوه من المرسلين.
وكان من أمرها أنها ألقته بتابوته في البحر فالتقطه آل فرعون ، وهم أعداء له ولربه ، ولكن اللّه ألقى عليه المحبة ؟ فأحبته امرأة فرعون وحافظت عليه. وأبقته قرة عينها وعين
___________
(1) سورة القصص الآية 7.(2/818)
ج 2 ، ص : 819
زوجها فرعون ، راجية أن ينفعهما أو يتخذاه ولدا لهما إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [سورة طه آية 39].
التقطه آل فرعون لتكون العاقبة والنهاية أن موسى يصير لهم عدوّا مبينا ومصدر حزن وتعب لهم جميعا ، إن فرعون وهامان وزيره وجنودهما كانوا مجرمين ومذنبين ، إذ لا يستوي الخبيث والطيب ...
فلما وصل إلى بيت فرعون قالت امرأته عند ما وقع نظرها عليه - وقد ألقى اللّه عليه محبتها - قالت هذا الطفل ألمح فيه أنه سيكون لنا سلوى ، به تقر عيوننا ، وتسكن نفوسنا ، فلا تقتلوه ، يا فرعون عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا نتبناه ، قالوا هذا وهم لا يشعرون ما يضمره الغيب لهم بسبب ذلك الطفل.
ولما حصل هذا ألقت أم موسى به في البحر. وهو ابنها فلذة كبدها أصبح فؤادها فارغا من كل شيء إلا من موسى وخبره ، وانتابتها الهواجس والظنون ، واعتراها ما يعترى البشر من الهلع والجزع عند فقد الحبيب ، إنها أوشكت أن تخبر أن الذي وجدتموه هو ابني ، وفي رواية كادت تقول : وا ابناه!! من شدة وجدها عليه ، كادت تفعل ذلك لو لا أن ربطنا على قلبها وألهمناها الصبر ، كما يربط على الشيء ليسكن ويستقر لأمر اللّه ، ولتكون من المؤمنين حقّا بقضاء اللّه وقدره ، المصدقين بوعده.
وكان من أمرها أنها أمرت أخته أن تقتفى أثره ، وتقف على خبره ، فأبصرته من مكان بعيد ، وهو في بيت فرعون تعرض عليه المرضعات فيأبى أن يرضع من إحداهن لأن اللّه حرم عليه المراضع ، فقالت أخته : هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم ، ويقومون بخدمته وإرضاعه والعناية به ونظافته ؟ ولا شك أن هذا عمل يقوم به أهل بيت لا امرأة واحدة ، وأهل هذا البيت لفرعون وعرشه ناصحون فلا تخشون منهم سوءا ، وكان ما أشارت به أخته.
وانظر إلى تدبير اللّه - جل جلاله - ، الرحمن الرحيم بخلقه ، وخاصة أولياءه وأحبابه ، حيث أعاد لأم موسى ابنها ترضعه وتربيه ، وتكون ظئرا له ، وتتقاضى على ذلك كله أجرا ، وهي آمنة من كيد الكائدين ، وسعى الساعين.(2/819)
ج 2 ، ص : 820
واللّه الذي أخرج اللبن من بين الفرث والدم لبنا خالصا سائغا للشاربين ، أخرج موسى من بين فرعون وهامان وجنوده ، ولا حرج على فضل اللّه.
فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ، وتسكن نفسها ، ولا تحزن عليه ، ولتعلم أن وعد اللّه حق ولكن أكثر الناس لا يعلمون ...
وبعد فطامه عاد إلى بيت فرعون ، وتربى فيه أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [سورة الشعراء آية 18].
ولما بلغ مبلغ الرجال ، واستكمل قواه العقلية والجسمية وهذا معنى قوله : وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتيناه حكمة وحكما ، ونبوة وعلما ، ومثل ذلك نجزى المحسنين ..
سبب خروجه من أرض مصر [سورة القصص (28) : الآيات 15 الى 21]
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)(2/820)
ج 2 ، ص : 821
المفردات :
شِيعَتِهِ أى : حزبه وجماعته ، وهم الإسرائيليون لأنهم تشيعوا لموسى ولمذهبه فَاسْتَغاثَهُ طلب منه الغوث والنصرة فَوَكَزَهُ مُوسى الوكز واللكز : الضرب بجمع الكف ظَهِيراً معينا وناصرا يَتَرَقَّبُ ينتظر ما ينال من جهة القتيل يَسْتَصْرِخُهُ يستغيث به صارخا لَغَوِيٌّ لضال من غوى يغوى أى : ضل يَبْطِشَ البطش الأخذ بعنف مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ من أبعد جهاتها الْمَلَأَ الأشراف الذين يملؤون العين مهابة يَأْتَمِرُونَ بِكَ يتشاورون فيك ، وسميت المشاورة ائتمارا لأن كل من المستشارين يأمر الآخر.
المعنى :
نشأ موسى في بيت فرعون وتربى فيه. ولكنه إسرائيلى يجمعه معهم صلة القربى واللغة والعادة والدين ، وكان الإسرائيليون مضطهدين من فرعون وآله يسومونهم سوء العذاب. لهذا وذاك كان موسى ساخطا على معاملة القبط لبنى جنسه ، وكان يدافع عنهم بشدة حتى عرف عنه ذلك ، وأصبحوا يتشيعون له.
دخل موسى يوما المدينة التي يسكنها فرعون - العاصمة - على حين غفلة من أهلها لأنهم كانوا في القيلولة ، فوجد رجلا مصريا يأخذ بتلابيب رجل إسرائيلى ، يقال لهما :
هذا من شيعته ، وهذا من عدوه ، فاستغاث العبراني بموسى ليخلصه من ظلم المصرى(2/821)
ج 2 ، ص : 822
فجاءه موسى ، وهو مغضب ، ووكز القبطي وكزة كانت القاضية ، وواراه التراب ولم يعلم بذلك أحد إلا الرجل العبراني الذي نصره موسى.
ولما سكنت نفس موسى وهدأ غضبه ، ندم على ما فعل ، وقال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ، إذ كان الأولى أن تكون النصرة بغير الضرب المفضى إلى الموت ، وقال موسى : رب إنى ظلمت نفسي بهذا العمل فإن فيه قسوة وشدة ، وإن كان عمل المصريين يخرج المرء عن صوابه ، يا رب إنى ظلمت نفسي ، فأنا أتوب إليك ، وأندم على فعلى هذا فاغفر لي مغفرة من عندك ، فتقبل اللّه منه توبته النصوح ، وغفر له ، إنه هو الغفور الرحيم قال : رب بما أنعمت على من فيض نعمك التي لا تحصى ، وبسبب هذا فلن أكون ظهيرا للمجرمين ، يا رب فلا تجعلني معينا وناصرا لأهل الشر أبدا.
ولما كان اليوم الثاني وموسى يخاف افتضاح فعلته التي فعلها ، وينتظر ماذا يكون من أمره ؟ ، إذ بالإسرائيلى يتقاتل مع قبطى آخر ، فاستغاثه الإسرائيلى - وهو من شيعته - على الفرعوني - الذي هو عدوه - ولكن موسى ندم على فعلته السابقة وكره مثل هذا الفعل فمد يده ، وهو يريد أن يبطش بالفرعوني ، وفي الوقت ذاته قال للإسرائيلى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ وهو مغضب ثائر ، فظن العبراني أن موسى أراده بسوء فقال :
أتريد يا موسى أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ؟ !.
وقيل إن الذي قال هذا هو القبطي يلوم موسى ويقول أيضا ما تريد يا موسى إلا أن تكون جبارا شديد البطش كثير الإيذاء في الأرض ، وما تريد أن تكون من المصلحين الذين يفضون النزاع بين الناس ، ولما كان أحد الخصوم ذوى قربى شاع خبر قتل موسى للمصرى أى القبطي - أو الفرعوني - تلك ألقاب ثلاثة لسكان مصر في ذلك الوقت - حتى بلغ فرعون وجنده فطلبوا موسى لقتله كما قتل ... في ذلك الوقت جاء رجل مؤمن من أقصى المدينة يسعى ليخبر موسى بما أراده القوم من سوء له. وقال : يا موسى : إن الملأ قد بيتوا العزم وصمموا على قتلك ، فاخرج من تلك الديار ، إنى لك من الناصحين.
فخرج موسى من مصر خائفا يترقب ، وفي وسط هذه المحنة الشديدة ، قال : رب نجنى من القوم الظالمين ، وقد نجاه اللّه ووصل إلى مدين وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً [سورة طه آية 40].(2/822)
ج 2 ، ص : 823
أرض مدين ونزوله بها ومصاهرته للشيخ [سورة القصص (28) : الآيات 22 الى 28]
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)
قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28)(2/823)
ج 2 ، ص : 824
المفردات :
تِلْقاءَ تجاه وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ بلغ ماء مدين ، ولفظ ورد تكون بمعنى الاطلاع عليه والبلوغ إليه فقط وإن لم يدخل كما هنا أُمَّةً لهذه الكلمة عدة معان منها الجمع الكثير كما هنا تَذُودانِ تحبسان وتطردان وتمنعان ما خَطْبُكُما ما شأنكما ؟ يُصْدِرَ الرِّعاءُ حتى ينصرف الرعاة : يقال صدر عن الماء مقابل ورد.
انصرف عنه ، ويقال : أصدره يصدره صرفه عنه ، والرعاء جمع راع كصحاب جمع صاحب قَصَّ روى له القصة تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ جمع حجة وهي السنة فَلا عُدْوانَ فلا مجاوزة للحد.
المعنى :
انتهى أمر موسى - عليه السلام - إلى الخروج من أرض مصر فارّا بنفسه خائفا من المصريين الذين قتل منهم واحدا ، ومن المعقول أن موسى خرج بلا زاد ولا راحلة! فإلى أى الجهات يقصد ؟ لقد قصد أرض مدين للنسب الذي بين الإسرائيليين وبينهم لأن مدين من ولد إبراهيم ، والإسرائيليون من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام - جميعا.
ولما توجه جهة مدين ، وهو على هذا الوضع الشديد قال متضرعا إلى ربه : عسى أن يهديني سواء السبيل ، ويوفقني إلى الطريق المستقيم حتى أصل إلى ما أقصد.
ولما وصل أرض مدين - وهي بلاد واقعة حول خليج العقبة من جهة الشمال قريبا من شمال الحجاز وجنوب فلسطين - رأى على الماء جماعات كثيرة من الناس يسقون ماشيتهم ، ووجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما عن ورود الماء. وتمنعانها عن الحوض انتظارا حتى يسقى أولو القوة من الرعاة ، ويصدرون ماشيتهم ، فإذا فرغوا من سقيهم جاءتا واستقتا لماشيتهما ، وهذا شأن الضعيف مع القوى ، يشرب القوى أولا من الماء الصافي ، ويشرب الضعيف البقية الباقية من الماء الكدر.
ونشرب إن وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدرا وطينا
موسى رجل جد عمل ، وإباء وبطولة ، لم يعجبه أن يبتعد النسوة عن الماء(2/824)
ج 2 ، ص : 825
لضعفهن ، ويتقدم للورود الرجال لقوتهم ، وكيف يقبل هذا ؟ وهو رجل ثار على الظلم ، ولم يعجبه جبروت فرعون وطغيانه!!.
فسأل المرأتين عن شأنهما ، ولما ذا يحبسان ماشيتهما عن الورود ؟ فقالتا لا نسقى حتى يسقى هؤلاء الرعاة ماشيتهم ، فهم أولو قوة ونحن ضعيفات كما ترى ، وأبونا شيخ كبير مسن ، لا يقدر على مزاولة أمر الرعي والسقي فثار موسى ، وتحركت فيه عوامل الشهامة والرجولة ، وسقى لهما ، وأدلى بدلوه بين دلاء الرجال حتى شربت ماشيتهما.
ثم تولى إلى ظل الشجرة ليستريح من وعثاء الطريق ، ومشقته ، وهو رجل دائم الصلة بربه يذكره ويتضرع إليه ، فلا ينساه أبدا ، وبخاصة في هذا الوقت الشديد ، فقال :
يا رب أعطنى من فضلك ، وأسبغ على من نعمك ، فإنى لما أنزلته إلى من خير فقير - والخير هو المال هنا - وهل ينساه ربه ؟ كلا! فمن يتوكل على اللّه فهو حسبه ، ونعم الوكيل.
عادت المرأتان إلى أبيهما الشيخ فسألهما عن السر في حضورهما بسرعة على خلاف شأنهما كل يوم ، فأخبرتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما ، وسهل لهما العودة مبكرتين ، فأرسل إحداهما إليه فوافته بمكان قريب من الماء يستظل تحت شجرة ، وقالت له في حياء وخفر إن أبى يدعوك ليعطيك أجر ما سقيت لنا.
رأى موسى الفرج في ذلك ، وأن اللّه قد استجاب دعاءه بسرعة ، وهل ينساه ربه! كلا! فإن ذلك لا يكون.
تبع موسى المرأة إلى منزل أبيها ، وطلب منها أن تكون خلفه حتى لا يراها ، وأن توجهه إلى الطريق وهي خلفه ، لا غرابة في هذا ، فهذا أدب النبوة العالي.
جاء موسى إلى ذلك الشيخ - وهو شعيب على القول الصحيح - فرحب به وأكرم وفادته ، وأحله أهلا بمكان سهل ، وقص موسى على شعيب قصته كلها من ولادته إلى ذلك الوقت. وأخبره بأخبار بنى إسرائيل في مصر فطمأنه شعيب ، وقال له :
لا تخف ولا تحزن لقد نجاك اللّه من القوم الظالمين الطغاة المتجبرين.
مصاهرة موسى لشعيب : لما جاء موسى إليه وكلمه ، وطمأنه ، وأزال عنه الخوف ، قالت إحدى بناته : يا أبت استأجره يرعى غنمنا فهو الرجل القوى الأمين ، وهما(2/825)
ج 2 ، ص : 826
الصفتان الممدوحتان في العامل ، ولقد رأت قوته في سقيه لهما ، وأمانته في طلبه لها أن تسير خلفه ، وتنعت له الطريق ، قبل شعيب رأى ابنته ، واقتنع بأن موسى نعم الرجل القوى الأمين ، وطلب إلى موسى أن يخدمه برعي غنمه ثماني سنين فإن أتمها عشرا فمن عنده ولا حرج عليه ، وهذا في نظير أن يزوجه إحدى بناته وأشار شعيب لها. قبل موسى ذلك على أنه بالخيار في أى الأجلين ، وتمت الصفقة بينهما على ذلك.
قضى موسى الأجل ، وسار بالوادي المقدس [سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 35]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33)
وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35)(2/826)
ج 2 ، ص : 827
المفردات :
الْأَجَلَ الميعاد المحدد آنَسْتُ أبصرت الطُّورِ اسم للجبل الذي في سيناء جَذْوَةٍ الجذوة الجمرة الملتهبة ، وقيل هي القطعة الغليظة من الخشب سواء كان في طرفها نار أو لم يكن تَصْطَلُونَ تستدفئون شاطِئِ الْوادِ جانبه جَانٌّ أى حية صغيرة سريعة الحركة مُدْبِراً هاربا يُعَقِّبْ يرجع من عقب الفارس أى كر اسْلُكْ أدخل جَيْبِكَ جيب القميص طوقه جَناحَكَ قيل المراد بالجناح اليد لأنها تشبهه الرَّهْبِ الخوف رِدْءاً معينا سَنَشُدُّ عَضُدَكَ نقويك سُلْطاناً حجة قوية متسلّطة.
المعنى :
وأخيرا كان ما كان ، وقضى موسى أتم الأجلين وأوفاهما وأكملهما ، وسار إلى ما يريد مع أهله أى : زوجته ومن معهما ، فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله ، آنس من جانب الطور نارا موقدة ، فلما أبصرها ، وكان في ليلة شاتية باردة ، قد حاول أن يوقد نارا بزنده فلم يفلح ، فلما أبصر تلك النار قال لأهله امكثوا هنا ولا تبرحوا ذلك المكان ، فإنى سآتيكم من عندها بخبر يهدينا إلى الطريق ، أو جذوة من النار لعلكم تستدفئون.
فلما أتاها نودي من الشاطئ الأيمن للوادي من الشجرة ، نودي : يا موسى : إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى ، يا موسى إنى أنا اللّه رب العالمين ، وأن ألق عصاك ، فألقاها فصارت ثعبانا فاهتزت فلما رآها كأنها جان في سرعة حركتها ، وكثرة تقلبها ولى مدبرا وصار خائفا مضطربا ، ولم يعقب ، قيل له إزاء هذا :(2/827)
ج 2 ، ص : 828
يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إنه لا يخاف لدى المرسلون إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ يا موسى اسلك يدك في جيب قميصك ، أى أدخلها فيه تخرج منه بيضاء ناصعة من غير سوء ولا برص ، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ أى يدك المبسوطة كالجناح لتتقى بها الحية ، كأنك خائف فزع منها ، أى اضمم إليك يدك وأدخلها تحت عضدك بدل أن تتقى بها الحية ، ثم أخرجها بيضاء لئلا يرى أحد أنك خائف ، ولتظهر معجزة أخرى هي إخراج اليد بيضاء ، وقد كان موسى رجلا طوالا آدم - أسم - وعلى هذا فيكون المعنى قد عبر عنه بعبارات اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ :
وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ. وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ. وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ [سورة القصص آية 32 ، النمل 12 ، طه 22].
ويجوز أن يراد بقوله تعالى « واضمم إليك جناحك » . التجلد وضبط النفس والثبات عند انقلاب العصاحية ، مستعار من فعل الطائر لأنه إن خاف نشر جناحيه وأرخاهما ، وعند الأمان يضم جناحيه.
فذانك أى العصا التي قلبت حية ، واليد التي خرجت بيضاء من غير سوء ، برهانان من ربك ، وحجتان قويتان إليك وإلى فرعون وملئه. إنهم كانوا قوما فاسقين وخارجين عن حدود الشرع والعقل.
فهم موسى أنه مكلف بالرسالة إلى فرعون وملئه ليخرج بنى إسرائيل من عذابهم وأحس بثقل التبعة الملقاة على عاتقه فقال. رب إنى قتلت منهم نفسا ، فأخاف أن يقتلون ، وأخى هارون هو أفصح منى لسانا وأقوى بيانا ، وأدرى منى بلهجة المصريين لأنه لم يترك بلادهم ، فأرسله معى معينا ، واجعله وزيرا ألتجئ إليه ، ويحمل معى عبء هذه الرسالة إنى أخاف أن يكذبوني.
قال اللّه له : سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ، ونقويك به ، ونجعل لكما سلطانا وحجة قوية تدل على صدقكما ، وأنكما رسولا رب العالمين اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي واللّه معكما ناصركما ، وعاصمكما من الناس فلا يصلون إليكما بسوء أبدا ، بل أنتما ومن اتبعكما الغالبون ، لأنكم حزب اللّه ، ألا إن حزب اللّه هم المفلحون.(2/828)
ج 2 ، ص : 829
هذا الموضوع كرر في سورة طه. والنمل. والقصص كما ذكرنا في الجزء (التاسع عشر) ويلاحظ أن موسى نودي ، وهو في الشاطئ الأيمن من الشجرة : أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ كما نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان اللّه رب العالمين. فترى أن العبارة مختلفة ، والمعنى يكاد يكون واحدا فهو بدء الإيحاء والرسالة بعبارة تدل عليه ، واللّه - سبحانه - ذكر الكل ، وقد حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء.
وشبيه بهذا ما مضى في قوله. اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ، وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ. وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ في أنه معنى واحد صيغ في عبارات متعددة ، ثم هنا سؤال قد جعل الجناح وهو اليد تارة مضموما ، وتارة مضموما إليه اليد ، والجواب أن المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى وبالمضموم إليه هو اليد اليسرى ، وكل واحد من اليدين جناح. وسؤال آخر ما الفائدة في قلب العصا حية وإدخال اليد وإخراجها بيضاء عند نداء اللّه لموسى ؟ والجواب أن ذلك لتمرين موسى على إبراز المعجزات ، وليقوى على ملاقاتها حتى لا يخاف عند مشاهدتها كما حصل في أول مرة.
محاجته لهم. وعناد فرعون وآله وعاقبتهم [سورة القصص (28) : الآيات 36 الى 43]
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)(2/829)
ج 2 ، ص : 830
المفردات :
مُفْتَرىً مختلق هامانُ وزيره فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فاصنع لي آجرا أى : طوبا صَرْحاً قصرا أَطَّلِعُ أصعد فَنَبَذْناهُمْ طرحناهم الْمَقْبُوحِينَ المطرودين المبعدين.
المعنى :
أمر موسى بأن يذهب هو أخوه إلى فرعون وملئه ، وبأن يقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ، وأخذا يجادلانه في اللّه الذي يجب أن يعبد ، وهو رب السموات والأرض وما بينهما ، الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، والذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء ، وأنزل منها ماء فأخرج به أزواجا من نبات شتى ، كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولى النهى.(2/830)
ج 2 ، ص : 831
ولقد جاءهم موسى بالآيات الشاهدة على صدقه ، الدالة على أنه رسول رب العالمين ولكنهم قالوا له : ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر قد افتريته من عندك ونسبته لربك وما سمعنا بهذا الذي تدعونا إليه ، في آبائنا الأولين ، حاجهم موسى بالعقل والمنطق ، وساق لهم الآيات الشاهدة مصدقة ، فكان الجواب والرد الذي يدل على الحماقة ما هذا إلا سحر ، وما سمعنا به قديما ، وما سمعنا عن دعوتك في آبائنا الأولين.
وقال موسى ردا عليهم : ربي الذي خلق كل شيء ، ويعلم الغيب في السموات والأرض أعلم منكم بمن جاء بالهدى والنور من عنده ، وهو أعلم بمن تكون له العاقبة الحسنى ، والجزاء الأوفى يوم القيامة ، ولا يفلح عنده الظالمون أبدا في الدنيا والآخرة.
ولو كنت كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا على اللّه لما أعطانى الآيات ، ولما هداني إلى الحق والخير الذي أدعو إليه لأنه غنى حكيم ، لا يرسل الكاذبين ، ولا الساحرين ولا يفلح عنده الظالمون ، وهو القاهر فوق عباده ، الخبير بخلقه ، لا تخفى عليه خافية وهذا تهديد لهم ، وتثبيت لغيرهم.
ولما ألح موسى على فرعون بالدعوة إلى الإيمان باللّه ، وهو في ملأ من قومه ، وهذا يحط من شأنه ، ويضيع من هيبته ، وهو حريص على ذلك جدا ، أخذ يقول تارة :
إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ « 1 » ، ويقول مرة أخرى : إنه سيتخذ الوسيلة للصعود إلى إله موسى ليصفى الحساب معه ، ولعله فهم من قول موسى. رب السماء والأرض أنه يجلس في السماء لا في الأرض.
انظر إليه يخاطب القوم ، ويقول : يا أيها الملأ - الأشراف ووجوه القوم ما علمت لكم من إله غيرى ، يقصد بذلك نفى وجود إليه غيره.
وإذا كان يعتقد أنه هو الإله ، ولا إله غيره أبدا فكيف يقول : يا هامان ابن لي صرحا لعلى أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى ، وإنى لأظنه من الكاذبين ؟ ! ولعله يقول ذلك من باب التسليم للخصم.
ومن الناس من يدعى رأيا ويقول به ، وهو عالم أنه مخطئ فيه ، ولكن لأن رأيه على غير أساس ، لا يلبث أن يشك فيه ويرجع عنه طمعا ، في أنه ربما يصادف شيئا.
___________
(1) سورة الشعراء الآية 27.(2/831)
ج 2 ، ص : 832
هذا فرعون يدعى أنه إله ، وأن موسى كاذب في أن للكون إلها ، ثم بعد لحظة يأمر وزيره أن يوقد النار ، ويخرج الآجر ليبنى له صرحا ، وبناء فخما يصعد به إلى السماء لعله يصعد إلى إله موسى ليصفى حسابه معه ، ثم يختم آثامه وأقواله التي تدل على الارتباك والتخبط بأنه يشك في صدق موسى ، ولكن احتياطا فعل هذا وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ.
[غافر 37] كل هذا يحصل ، ولم يجد فرعون من قومه وملئه من يقول الحق ، أو يهدى إلى الخير أو يمنع الظلم بل كانوا يؤمنون على قوله ، وينفذون رغبته ، وكان عاقبة أمره وأمرهم خسرا.
استكبر فرعون في الأرض ، وطغى وتجبر ، وعلا علوّا كبيرا هو وجنوده ، كان من أثره ركوب ذلك الشطط ، وفعل تلك الخبائث ، وكان مبعث ذلك كله أنهم ظنوا بل تيقنوا أنهم إلى اللّه لا يرجعون.
وانظر إلى الحق - جل جلاله - ، وهو يسجل عليهم نهايتهم بعبارة فخمة ضخمة فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ « 1 » نعم كانوا في قبضة اللّه الذي يقول للشيء كن فيكون كحصيات يجمعها الشخص في الطريق ثم يلقيها في البحر ، فانظر أيها الناظر إلى الدنيا بعقلك ، المتفكر فيها بقلبك كيف كان عاقبة الظالمين ؟ !! وصيرناهم أئمة ورؤساء يدعون إلى النار ، فيطاعون ، وكأنهم بإصرارهم على الكفر وتماديهم في الباطل يدعون أتباعهم إلى النار لأنهم يأتمرون بهم ويقتدون ، ويوم القيامة لا ينصرون أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ « 2 » وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة وطردا ، وبعدا عن رحمة اللّه ، ويوم القيامة هم من المقبوحين المطرودين الممقوتين وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [سورة هود آية 99].
ولقد آتينا موسى التوراة التي هي نور البصائر ، وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون ،
روى أبو سعيد الخدري قال : قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم « ما أهلك اللّه قوما ولا قرنا ولا أمّة ولا أهل قرية بعذاب من السّماء ولا من الأرض منذ أنزل اللّه التّوراة على موسى غير القرية الّتى مسخت قردة »
ألم تر إلى قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى « 3 » ولعل إيتاء التوراة بعد إهلاك الأمم الماضية للإشعار بمسيس الحاجة الداعية إليها ، فإن إهلاك القرون الأولى دليل على اندراس معالم شرائعها ،
___________
(1) سورة القصص الآية 40.
(2) سورة محمد الآية 13.
(3) سورة القصص الآية 43.(2/832)
ج 2 ، ص : 833
وحاجة الناس إلى ما ينقذهم من تشريع جديد ، ورسالة سماوية تلتقي مع حاجتهم وأحوالهم.
الحاجة إلى إرسال الرسل مع سوق بعض الأدلة على صدقهم [سورة القصص (28) : الآيات 44 الى 51]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48)
قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)(2/833)
ج 2 ، ص : 834
المفردات :
الشَّاهِدِينَ الحاضرين قُرُوناً أمما فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أى طال عمرهم ثاوِياً مقيما يقال ثوى بالمكان يثوى به أقام فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ المراد فإن لم يفعلوا تَظاهَرا تعاونا وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ أتبعنا بعضه بعضا في الإنزال ليتصل التذكير.
وهذا لون من العبرة بقصة موسى ، ونتيجة عامة لسوقها ، إذ هي من الأدلة على صدق الرسول حيث قص أخبارا صادقة عن قوم لم يشهدهم ولم يكن معهم ، ولم ترو له أخبارهم ، فلم يبق إلا الوحى مصدرا لهذا كله ، وفي ذلك عبرة وعظة ، ودليل على صدق النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
وهذا أيضا شروع في بيان أن إنزال القرآن الكريم جاء في زمن ، الحاجة فيه ماسة وداعية إليه.
المعنى :
وما كنت يا محمد بجانب المكان أو الجبل الغربي وقت أن قضينا إلى موسى الأمر ، وألزمناه العهد ، وأنزلنا عليه الحكم ، وما كنت من الحاضرين لذلك فتعلمه وتخبر به ، ولكنا أوحيناه إليك وأعلمناك بخبره ليكون معجزة لك ، وشاهد صدق على نبوتك ، وكانت الحاجة القصوى داعية إلى ذلك حيث طال العهد فقست قلوب الناس ، وانتشر الفساد والظلم حتى عم العالم أجمع ، وأصبح في ضلالة وجاهلية يتردى فيها ، نعم تطاول على الناس العمر حتى نسوا ذكر اللّه ، وقست قلوبهم فأرسل محمد صلّى اللّه عليه وسلّم مجددا العهد الإلهى ، وداعيا إلى اللّه بإذنه ، وسراجا منيرا قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى(2/834)
ج 2 ، ص : 835
فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ
[سورة المائدة آية 22].
وما كنت مقيما في أهل مدين مع شعيب تتلو عليهم آياتنا حتى تقص خبرهم أحسن القصص على أهل مكة ، ولكنا (أى : اللّه جل جلاله) كنا مرسلين لك ، وموحين إليك بأخبارهم حجة قوية على صدقك.
وما كنت بجانب الطور إذ نادينا موسى وقلنا له : خذ الكتاب أى : التوراة بقوة وما كنت معه حتى تشاهد ما حصل له ثم تخبر الناس به ، ولكن أرسلناك رحمة من ربك للعالمين ، ولتنذر قوما هم العرب ، ما أتاهم من نذير قبلك ، رجاء أن يتذكروا ويؤمنوا باللّه العزيز الحميد ، والعرب على الصحيح لم يأت لهم نذير بعد إسماعيل - عليه السلام - بناء على أن موسى وعيسى كانت رسالتهما لبنى إسرائيل فقط ، ومن هنا ندرك الحاجة القصوى لإرساله صلّى اللّه عليه وسلّم للعرب ولو لا أن الناس وبخاصة العرب يقولون : هلا أرسلت إلينا يا رب رسولا من عندك يبشرنا وينذرنا ، ويهدينا بالكتاب الذي معه إلى الصراط المستقيم ، فنتبع آياتك ونؤمن برسلك ، ونكون من عبادك المؤمنين الصادقين غير المغضوب عليهم ولا الضالين .. لو لا قولهم هذا عند إصابة العقوبة لهم بسبب ما جنته أيديهم ما أرسلناك للناس رسولا ، ولكن لما كان قولهم هذا محققا لا محيد عنه أرسلناك قطعا لأعذارهم بالكلية رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [سورة النساء آية 165]. أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ .. [سورة الأنعام الآيتان 156 ، 157].
وهذا من أسباب إرسال الرسل ، وبيان للحاجة الداعية إليهم.
فلما جاء أهل مكة الحق من عندنا ، والنور الذي أنزل على رسولنا ، قالوا : لو لا أوتى مثل ما أوتى موسى من قبل كالعصا واليد وغير ذلك من الآيات التي أنزلت معجزة لموسى ... عجبا لهؤلاء المشركين! أو لم يكفروا بما أوتى موسى من قبل ولم يؤمنوا به ، وقيل المعنى : فلما جاء أهل الكتاب الحق والقول الصدق على يد محمد ، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا ، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، وقالوا لو لا أوتى(2/835)
ج 2 ، ص : 836
مثل ما أوتى موسى ، عجبا لهم! أو لم يكفروا بموسى ومن معه ، ويقولون ساحران أى : موسى وهارون تظاهرا وتعاونا ، وإنا بكل كافرون. وإن أرجعنا القول إلى الكفار من العرب والآية تحتمل هذا وذاك - كان المراد بقوله : ساحران أى : موسى ومحمد ونحن بكل منهما كافرون.
قل لهم يا محمد : إذا كان الأمر كذلك فأتوا بكتاب من عند اللّه هو أكثر هداية ، وأقوى تأثيرا ، وأحكم آيات إن كنتم صادقين ، وهذا الأمر أى « فأتوا » يشبه قولك « اصعد إلى السماء » حيث يكون الصعود محالا فهو من باب التعجيز والسخرية فإن لم يفعلوا ذلك ، ولن يفعلوه أبدا ، فاعلم أنهم يتبعون في عقائدهم الباطلة أهواءهم ، وليس هناك أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من اللّه إن اللّه لا يهدى القوم الظالمين.
ولقد وصلنا لهم القول وفصلناه وبيناه ، وأتبعنا بعضه بعضا ، وبعثنا رسولا بعد رسول كل يلائم وقته وعصره ، وكان هذا القول هو مسك الختام لأن صاحبه خير الرسل وخاتمهم وإمامهم ، وشرعه صالح لكل زمان ومكان ، وها هي الآيات تترا مؤيدة ذلك ، لعل الناس يتذكرون ويتعظون.
المؤمنون من أهل الكتاب [سورة القصص (28) : الآيات 52 الى 55]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55)(2/836)
ج 2 ، ص : 837
المفردات :
وَيَدْرَؤُنَ يدفعون ، يقال درأ عنه كذا أى : دفع اللَّغْوَ هو ما لا يعتد به من القول أو ما كان فيه أذى من شتم أو سب لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ لا نطلب صحبتهم.
المعنى :
وهذا هو الصنف الذي في قلبه ميل إلى الخير ، وفي نفسه استعداد لقبول الطيب من الدعوات ، وهم جماعة من أهل الكتاب الذين آمنوا بنبيهم ، ولم يحرفوا الكلم وبشارة كتبهم بالنبي العربي فهم قد آمنوا به أولا بظهر الغيب ثم آمنوا به ثانيا إيمان مشاهدة وإقرار بما سبق ، وإذا يتلى على هؤلاء القرآن قالوا : آمنا به وصدقناه وصدقنا من جاء على لسانه ، وكأن سائلا سأل وقال لهم هذا ؟ فأجابوا إنه الحق من ربنا ، نعم إنه كلامه الحق الذي لا شك فيه ، ونحن أدرى به من غيرنا ، إنا كنا من قبل نزوله مسلمين ومنقادين.
أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا مرة لإيمانهم بكتابهم ونبيهم ، ومرة لإيمانهم بالقرآن والنبي ، وصبرهم على ذلك كله ، وهم يدرءون بالحسنة السيئة ، ويدفعون الشر بالخير ، وينفقون مما رزقناهم في سبيل اللّه.
وإذا سمعوا لغوا من قول المشركين أو أصابهم أذى منهم ، أعرضوا عنهم ، وقالوا لنا أعمالنا ، ولكم أعمالكم ، سلام عليكم ، سلام ترك موادعة ، ونحن لا نبتغى الجاهلين ، ولا نطلب مصاحبتهم.
رد على بعض مزاعم المشركين [سورة القصص (28) : الآيات 56 الى 61]
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60)
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)(2/837)
ج 2 ، ص : 838
المفردات :
نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ننتزع منها بسرعة أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً نجعل مكانهم حرما ذا أمن بَطِرَتْ مَعِيشَتَها البطر الأشر وقلة احتمال النعمة والطغيان بها ، وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهة والمراد طغت وتمردت في زمن معيشتها أُمِّها عاصمتها.
المعنى :
ما مضى كان في بيان فريقين من الناس ، فريق طغى وبغى وكفر باللّه ورسله ، وفريق آمن واهتدى واستجاب لداعي الحق ، واتبع رسول اللّه ، ومن هؤلاء وأولئك خلق كثير فقيل للنبي صلّى اللّه عليه وسلم :(2/838)
ج 2 ، ص : 839
إنك لا تهدى من أحببت من الناس ، ولا تدخلهم في حظيرة الإيمان ، إنما عليك فقط البلاغ والدعوة إلى اللّه وبيان الشريعة الغراء ، ولكن اللّه - سبحانه - يهدى من يشاء ويوفقه ويشرح صدره للإسلام أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ. لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ نعم اللّه يهدى من يشاء ، وله الحكمة البالغة ، والعلم الكامل بخفيات القلوب وبذات الصدور ، وهو أعلم بمن عنده الاستعداد للهداية والخير ، فيهديه ويوفقه ، وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبى طالب عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والكل يعلم أنه كان يحوط النبي ويرعاه ، ويحبه حبا شديدا ويتولاه ، فلما حضرته الوفاة وحان أجله دعاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الإيمان والدخول في الإسلام فسبق القدر فيه ، ولم يرد اللّه به خيرا ، فاستمر على ما كان عليه من الكفر ، وللّه الحكمة البالغة.
وقال بعض المشركين معتذرا بأعذار واهية : إننا إن اتبعنا الهدى الذي جئتنا به ، والنور الذي أنزل معك نخشى إن فعلنا ذلك أن يقصدنا المشركون وأحياء العرب من كل جانب بالأذى والحرب ويأخذونا بسرعة وشدة لا قبل لنا بها ، ألم تر إليهم وقد خافوا المخلوق الضعيف وأمنوا مكر الخالق الكبير ذي البطش الشديد الفعال لما يريد ؟ ! عجبا لهؤلاء أنسوا ولم يعلموا أن اللّه مكن لهم في الأرض ، وأنزلهم بلادا جعلها حرما آمنا ، يقدسه العرب جميعا ، وتحج إليه ، وتحترم سكانه وأهله وتدين لهم بالإمارة والسيادة عليهم ، فيه أسواقهم واجتماعاتهم ، وفي بلادهم يأمن الخائف ، ويطمئن القاتل وتسكن نفس المعتدى ، فالعرب كانت تحرم الاعتداء في الحرم ، وفي الأشهر الحرم ، وكل هذا بتوفيق اللّه ، وهو الذي جعل في قلوب الناس شوقا إليه وحنينا لزيارته وحجه فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ فكانت فيه الثمرات من كل جهة رخيصة كثيرة ، جعلها اللّه من لدنه رزقا لأهله ، أظن هذا العذر الواهي لا يكون مقبولا بعد هذا كله ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون وهذا رد آخر لقولهم :
إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا إذ هم قد اعتقدوا خطأ أنهم ماداموا على شركهم فإنهم في أمن ودعة ، وإن اتبعوا الرسول نزل بهم البلاء ، فبين اللّه لهم أن الأمر بالعكس ، وأنهم إن تركوا الشرك وأسلموا للّه رب العالمين أمنوا من عذاب الدنيا والآخرة ، وكانوا عند اللّه من المقربين ، وإن ظلوا على دينهم وتمسكوا بباطلهم(2/839)
ج 2 ، ص : 840
حق بهم العذاب من كل جانب ، واستحقوا عذاب الدراين بدليل أن اللّه - سبحانه - أهلك كثيرا من أهل القرى بأنواع العذاب الشديد المبيد المهلك لكفرهم ، وقد كانوا يمرحون في النعيم ، ويعيشون في بلهنية من رغد العيش فمن الخير لكم يا كفار مكة أن تخشوا بأس اللّه ، ولا تغتروا بالأمن الذي أنتم فيه ، فكثير من أهل القرى كانت مثلكم فكفرت بأنعم اللّه فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف جزاء لما كانوا يعملون ، وها هي ذي مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا ، وكان ربك خير الوارثين ، تلك سنة اللّه ولن تجد لسنة اللّه تبديلا ، وليعلم الكل أنه هو الحكم العدل ، صاحب الموازين القسط ، فلا تظلم نفس شيئا ، وما كان ربك مهلك القرى والجماعات حتى يبعث رسولا يدعوهم إلى الهدى ، ويرشدهم إلى الصراط المستقيم ، فإن اتبعوه وآمنوا به نجوا جميعا ، وإن خالفوه وكفروا به ضلوا وحاق بهم سوء العذاب فما ثبت في حكمه الماضي وقضائه السابق أن يهلك القرى حتى يبعث في عاصمتها رسولا يتلو عليهم الآيات لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وكان هلاكه للظالمين فقط ، الكافرين باللّه ورسوله ، وها أنتم أولاء جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص على إيمانكم ، بالمؤمنين رءوف رحيم ، فاحذروا العذاب إن بطش ربك لشديد ...
وهذا رد آخر على من يشترى الضلالة بالهدى. ويبيع الباقية بالفانية والآخرة بالدنيا ، وما أوتيتم من شيء من الدنيا ونعيمها فهو متاع الحياة فقط وزينتها ، والآخرة خير وأبقى ، وما عند اللّه من ثواب وجزاء خير من الدنيا وما فيها ، إذ متاع الحياة الدنيا متاع زائل ينقصه ذكر الموت ، وفناء الخلق ، أفلا تعقلون ؟ وتتعظون وتؤثرون الدين على الهوى والغرض!!.
أفمن وعدناه وعدا حسنا على العمل الصالح فهو لاقيه حتما ومصيبه في الجنة بلا شك ، أفمن وعدناه هذا كمن متعناه المتاع الفاني ، والغرض الزائل ، ثم هو يوم القيامة من المحضرين ؟ !! الأول هو المؤمن والثاني هو الكافر ، ولا يعقل التساوي بينهما! فمن العقل والحكمة أن نكون من الصنف الأول الذي يجمع بين الوعد الحسن في الآخرة ، والعمل الصالح في الدنيا ، وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء ، واللّه ذو الفضل العظيم ..
وفي هذه الآيات رد على مزاعم المشركين ، وشحذ لعزائم المسلمين في وقت هم في أشد الحاجة إلى ذلك ، ثم بعد ذلك تعرض القرآن لحال الكفار يوم القيامة.(2/840)
ج 2 ، ص : 841
بعض مواقف المشركين يوم القيامة [سورة القصص (28) : الآيات 62 الى 67]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66)
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
المفردات :
حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ثبت ووجب يقال : حق يحق ويحق ثبت أَغْوَيْنا أى أضللنا يقال. غوى يغوى ضل فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ أى : صارت كالعمى لا تهتدى إليهم وأصل التركيب فعموا عن الأنباء ثم حصل قلب ، وهذا مألوف في اللغة العربية.
المعنى :
واذكر لهؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم ، وضلوا سبيلهم ، وأضلوا غيرهم ، اذكر لهم يوم يناديهم الحق - تبارك وتعالى - فيقول لهم سائلا سؤال تبكيت وتأنيب وتوبيخ حيث لم تنفعهم معبوداتهم في هذا الوقت العصيب ، يقول لهم أين شركائى الذين كنتم(2/841)
ج 2 ، ص : 842
تزعمون ؟ أين الذين عبدتموهم من دوني ، وأثبتم لهم شركة في استحقاق العبادة ؟ ! ولن يجيبوا عن هذا السؤال لأنه سؤال تقريع فلا جواب له.
وكأن سائلا سأل وقال : ماذا حصل منهم عند هذا السؤال ؟ والجواب أنه حصل منهم التنازع والتخاصم بين الرؤساء والمتبوعين ، وبين العوام والتابعين ، وقد حصل منهم كلما اشتد بهم الأمر مثل هذا الخصام ألا ترى إلى قوله - تعالى - في سورة إبراهيم وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ .. الآية 21.
وهنا قال الذين حق عليهم القول ، والمراد قال الذين ثبت عليهم مقتضاه ، وتحقق فيهم مؤداه ، وهذا القول قاله تعالى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة السجدة آية 13 ، ص 85].
هؤلاء الذين حق عليهم القول وثبت هم رؤساء الضلالة ، وقادة الشرك الذين اتبعهم وقلدهم الناس ، قالوا اعتذارا أو ردا لقول العوام إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ قالوا : هؤلاء - الإشارة إلى الأتباع والعوام - أتباعنا آثروا الكفر على الإيمان كما اثرنا نحن فلا فرق بيننا وبينهم ، ونحن وإن كنا دعوناهم إلى الكفر فقد كان ذلك في مقابلة دعاء اللّه - تعالى - لهم إلى الإيمان. بما غرس فيهم من تفكير وأوجد فيهم من قوى عاقلة ، وبما أرسل إليهم من رسل ، وأنزل عليهم من كتب مشحونة بالوعد والوعيد والوعظ والزجر ، وناهيك بذلك صارفا عن دعائنا لو كانوا ممن شرح اللّه صدرهم للإسلام. فهؤلاء الذين أغوينا أغويناهم فغووا كما غوينا.
فالخلاصة : أننا جميعا سواء في استحقاق ما نحن فيه من عذاب ، ونحن نتبرأ إليك منهم ، ما كانوا إيانا يعبدون إنما كانوا يعبدون أهواءهم ، ويطيعون شياطينهم.
وقيل لهم أيضا : ادعوا شركاءكم ينصرونكم من دون اللّه ، ويمنعون عنكم من عذابه شيئا فدعوهم وألحوا في دعائهم فلم يستجيبوا لهم ، وكيف يستجيبون يوم القيامة ؟
وقد كانوا في الدنيا صمّا بكما وعميا ، بل هم جماد وأحجار :
ورأى المشركون النار ، وذاقوا العذاب وأبصروه ، فيا ليتهم كانوا مهتدين في الدنيا.
واذكر يوم يناديهم تقريعا وتوبيخا لهم فيقول : ماذا أجبتم المرسلين ؟(2/842)
ج 2 ، ص : 843
روى أنه إذا مات الميت سئل عن ربه ، وعن نبيه وعن دينه ، أما المسلم فيقول :
ربي اللّه ، ونبيي محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وديني الإسلام دين الفطرة ، والتوحيد الخالص البريء ، وأما الكافر والمشرك فلا يجيب بشيء ، بل يسكت ، إذ من كان في هذا أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيل ، ولهذا قال اللّه : فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ بل يسكتون.
وانظر إلى قوله : فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ وما فيها من بلاغة!!.
فأما من تاب إلى اللّه وآمن باللّه ، وصدق رسول اللّه ، وعمل عملا صالحا لوجه اللّه فعسى أن يكون من المفلحين الفائزين ، وعسى في كلام صاحب الملك والملكوت للتحقيق ..
وهكذا يضرب اللّه الأمثال ، ويبين للمؤمنين والكافرين الأحوال ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم. فاعتبروا بذلك يا أولى الأبصار.
اللّه سبحانه وتعالى متصف بصفات الجلال والكمال [سورة القصص (28) : الآيات 68 الى 75]
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72)
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)(2/843)
ج 2 ، ص : 844
المفردات :
الْخِيَرَةُ أى الاختيار تُكِنُّ تخفى سَرْمَداً دائما مأخوذ من السرد وهو المتابعة تَسْكُنُونَ فِيهِ تهدءون فيه وتستريحون وَنَزَعْنا أخرجنا وَضَلَّ عَنْهُمْ تاه.
المعنى :
وربك يا محمد صاحب الجلالة ، إليه الأمر كله ، وهو المنزه عن كل نقص ، الموصوف بكل حمد ، الرحمن الرحيم ، صاحب الفضل العميم ، يخلق ما يشاء لا معقب عليه ، ولا راد له ، ويختار ما يشاء من الأفعال والأحكام ، ومن يشاء من الخلق لما يشاء من الأمر ، وهذا متصل بذكر الشركاء للّه والشفعاء له ، وقيل هو رد لكلام الوليد بن المغيرة حين قال : لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ يعنى بذلك نفسه وعروة بن مسعود الثقفي شيخ الطائف.
وهذا عجب وأى عجب ؟ ! أهم يقسمون رحمة ربك ؟ أهم أوصياء على فاطر السموات والأرض ، أليس اللّه أعلم حيث يجعل رسالته ، وهو أعلم بخلقه وأحوالهم واستعدادهم أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ سبحان اللّه وتعالى عما يشركون ، وربك يعلم ما تكن صدورهم وتخفيها ، وما تبديها وتعلنها إذ هو العليم بذات(2/844)
ج 2 ، ص : 845
الصدور ، وهو اللّه جل جلاله ؟ لا إله إلا هو ، ولا معبود في الوجود بحق إلا هو ، له الحمد في الدنيا والآخرة ، وفي الأولى والثانية ، وله الحكم ، وإليه يرجع الأمر كله ، وإليه وحده ترجع الخلائق يوم القيامة. هذه حقائق تشهد بها آيات اللّه الكونية ، وآياته القرآنية.
قل لهم يا محمد أخبرونى : إن جعل اللّه عليكم الليل دائما بلا نهار إلى يوم القيامة! هل هناك إله غير اللّه يأتيكم بضياء تتمتعون به ؟ أفلا تسمعون ذلك سماع تفهم وتدبر ؟ !! قل أرأيتم إن جعل اللّه عليكم النهار دائما إلى يوم القيامة ، هل هناك إله غير اللّه يأتيكم بليل تسكنون فيه وتهدءون ؟ أفلا تبصرون هذه الحقائق فتعرفون لصاحبها - جل جلاله - حقه الكامل ، وتصفونه بصفات الجلال والكمال ، وتنزهونه عن صفات الحوادث والمخلوقات.
ومن رحمته بخلقه جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ، والنهار لتبصروا فيه منافعكم وتحصلوا أمور معاشكم ، ولتشكروا فيه ربكم على ما أسدى لكم من نعمة. وما حباكم به من فضل.
وإن من يذهب إلى البلاد الشمالية الواقعة جهة القطب الشمالي مثلا ويرى انعدام الحياة فيها لأن النهار قد يمكث ستة أشهر ، والليل كذلك أو قريبا منه يدرك السر في اختلاف الليل والنهار ، وتعاقبهما ، وما في ذلك من النعم التي لا تحصى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً [سورة الفرقان آية 62].
يا عجبا! هذه آيات ناطقة بأنه القادر وحده على كل شيء ، الواحد ذاتا وصفة وفعلا وله الأمر ، ومع هذا فبعض الخلائق تدعى له شركاء لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب!!.
واذكر يوم يناديهم فيقول لهم : أين شركائى الذين كنتم تزعمون ؟ ! ولعل النداء كرر لاختلاف الحالتين ينادون مرة - كما سبق - فيدعون الأصنام فلا يستجيبون فتظهر حيرتهم ، ثم ينادون مرة أخرى - كما هنا - فيسكتون ولا يجدون جوابا ، وهذا توبيخ لهم وتأنيب ، ويقول القرطبي رحمه اللّه. والمناداة هنا ليست من اللّه لأنه تعالى لا يكلم الكفار لقوله : وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ لكنه تعالى يأمر من يوبخهم ويبكتهم ،(2/845)
ج 2 ، ص : 846
ويقيم الحجة عليهم في مقام الحساب ، وقيل : يحتمل أن يكون من اللّه ويكون قوله :
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ محمولا على بعض الأحوال حين يقال لهم : اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون آية 108].
ونزعنا من كل أمة شهيدا يشهد عليهم بأعمالهم في الدنيا ، وهو رسولهم الذي أرسل لهم ، ثم يأتى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ويشهد على الأنبياء جميعا فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [سورة النساء آية 41] فقلنا : هاتوا برهانكم وحجتكم ، فعلموا حينئذ أن الحق للّه ، وأن ما جاءت به الأنبياء حق وصدق ، وضل عنهم ما كانوا يفترون.
وفي كتب التفسير عند تفسير قوله تعالى : وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ يحسن بمن يريد أن يقدم على أمر من أمور الدنيا أن يستخير اللّه بأن يصلى ركعتين بنبيه صلاة الاستخارة ، يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ الآية ، وفي الركعة الثانية وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ثم يدعو بعد السلام بهذا الدعاء ، وهو ما
رواه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد اللّه ، قال : كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول : « إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل. اللهم إنى أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب.
اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمرى أو قال في عاجل أمرى وآجله. فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياى ومعاشي وعاقبة أمرى ، أو قال في عاجل أمرى وآجله ، فاصرفه عنى واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به » . قال :
ويسمى حاجته.
قصة المال والعلم وتأثيرهما في النفس الإنسانية [سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 84]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80)
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84)(2/846)
ج 2 ، ص : 847(2/847)
ج 2 ، ص : 848
المفردات :
فَبَغى عَلَيْهِمْ تكبر عليهم أو ظلمهم الْكُنُوزِ كنز المال : جمعه وادخره ، والكنز : المال المدفون وجمعه كنوز لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ لتثقل يقال ناء به الحمل ثقل عليه ، والعصبة الجماعة من الناس وَابْتَغِ اطلب عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أوتيته على معرفة عندي وَيْلَكُمْ الويل : الهلاك أو العذاب ، فخسفنا المراد جعلنا عاليها سافلها وَيْكَأَنَّهُ كلمة وى بمعنى أتعجب ، وكأن للتشبيه وَيَقْدِرُ أى : يضيق ويقتر عُلُوًّا تكبرا وغلبة.
وهذه هي قصة المال والغرور بالعلم وكيف كان مآلهما بعد قصة الملك والسلطان وكيف كانت نهايتهما.
المعنى :
- إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم مع أنه منهم ، وعاش معهم ولكنه لم يرع لذلك كله حرمة أو جوارا ، وبغى عليهم حتى جمع ذلك المال الوفير ، وبغى عليهم بتكبره وطغيانه وظلمه لهم.
وآتاه اللّه من الأموال المنقولة والثابتة ما إن علمه والإحاطة به والمحافظة عليه لتنوء به العصبة من أولى العلم والقوة وبعضهم يرى أن المعنى. وآتيناه من الكنوز والأموال ما إن مفاتيح خزائنه لتنوء بحملها العصبة من الرجال أولى القوة ، ومنشأ هذا الخلاف في الرأى أن المفاتيح قد يراد بها العلوم والمعارف نظرا إلى قوله تعالى : وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [سورة الأنعام آية 59] وقد يراد بها مفاتيح الخزائن المعروفة.
كان قارون من قوم موسى ، وكان ذا مال وفير ، والمقصود المهم من القصة هو ما يأتى :
اذكر وقت أن قال له قومه على جهة الوعظ والإرشاد.(2/848)
ج 2 ، ص : 849
لا تفرح وابتغ فيما آتاك اللّه الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ، وأحسن كما أحسن اللّه إليك ، ولا تبغ الفساد في الأرض.
وهذه خمسة أصول مهمة ، ومن تمسك بها وعمل بمقتضاها نجا من الدنيا وما فيها.
1 - قالوا له : لا تفرح بدنياك فرحا مصحوبا بالبطر والأشر ، والفتنة والغرور فالدنيا عرض زائل ، وعارية مستردة يربح فيها من عرفها ، ويخسر من اغتربها لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ.
ب - وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ نعم فالدنيا طريق الآخرة ، هي المزرعة للباقية من زرع فيها الخير حصد ، ومن أضاع عمره فيما لا يرضى ربه ندم والعاقل من طلب بدنياه آخرته ، ومن ابتغى فيما آتاه اللّه الدار الآخرة واللّه - سبحانه - لا يطالبك بأن تعطى مالك كله ، بل إن تنفق القليل طلبا لرضا الرب الجليل ، ترجع بالخير الكثير والجزاء الجزيل.
ج - وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا نعم فهذا هو الطريق الوسط والرأى الرشد ، أن تعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، وتعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ، فليس من الدين الزهد في الدنيا حتى تتركها وتعيش عالة على غيرك ، بل الدين يطالبك بالعمل والجد والغنى من طريق الحلال ، فإذا جمعت المال فأعط حق اللّه فيه ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ، أى : تمتع ببعضه بلا إسراف ولا تقتير ، انظر إلى هذا النظام المحكم الدقيق الذي وضعه الحكيم البصير! د - وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ والإحسان هو الإتقان في العمل ، وهو يقتضى إعطاء كل ذي حق حقه.
ه - وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ بالظلم أو العسف أو الكبر أو الإضرار بالناس فكل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها ، إن اللّه لا يحب المفسدين بأى شكل كان.
انظر إلى قارون وقد أبى أن يقبل هذا النصح - لأنه غير موفق - بل زاد عليه بقوله : قال : إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي!! بمعنى أنه أوتى هذا المال لفضل علمه وكمال استحقاقه له ، أو المعنى أنه أوتيه على علم عنده بوجوه الكسب وطرق(2/849)
ج 2 ، ص : 850
الزيادة ، وإنماء المال ، كأنه قال إنما أوتيت هذا المال لفضل علمي وتمام مجهودي وتجاربي ، فليس لأحد حق له في هذا المال ، وكأنه ينكر إنعام اللّه عليه بتلك الأموال لاستحقاقه لها عن جدارة فهو حر التصرف.
ولقد رد اللّه عليه أبلغ رد حيث بين له حقيقة الأمر.
أعنده مثل هذا العلم الذي افتخر به وتعاظم ، ورأى نفسه مستوجبة لكل نعمة ، ولم يعمل به حتى يقي به نفسه مصارع السوء التي أهلك اللّه بها الطغاة المتجبرين الذين هم أشد منه قوة ، وأكثر مالا وعددا ، ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ، وهكذا يجب على الإنسان ألا يغتر بماله ، وأولاده وجموعه مهما كانت ، فإن اللّه إذا أراد شيئا قال له : كن فيكون ، وليعلم المسلم أن الأيام دول ، وأن الدهر قلب ، وليعتبر بما حصل في الماضي ، وليحصن ماله بالإنفاق.
هذا حال قارون مع ماله ، وموقفه ممن وعظه ، وغروره بنفسه واستمع إلى الناس ، وقد انقسموا إلى فريقين : فريق ينظر نظرة سطحية ، فتعميه الدنيا وزخارفها عن الوضع السليم والطريق المستقيم وآخر قد نور اللّه بصيرته فهو ينظر إلى الدنيا بعين العبرة والعظة ، عين الرجل الفاهم للحقائق الذي لا تخدعه المظاهر الخلابة.
أما الفريق الأول فيقول ، وقد خرج قارون في أكمل زينته وتمام أبهته : يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون ، وإنه لذو حظ عظيم ، نظر هؤلاء إلى من فوقهم فتمنوا أن يكونوا مثل قارون في غناه وأبهته ، ونسوا أن للّه في خلقه شئونا ، وأن السعادة والخير ليس في المال الكثير ، والجاه العريض ، وإنما الخير والسعادة شيء وراء ذلك كله ، ما دام العبد موصولا بربه ، راضيا مرضيّا ، ولقد عالج القرآن هذا الداء علاجا حاسما لأن الحق - تبارك وتعالى - يعلم خطره ، إذ من يمد عينيه إلى مال غيره ويتمناه ، يعود وقد امتلأ قلبه حسدا وحقدا ، وناهيك بهذه الأخطار التي ينشأ عنها معظم الجرائم : اقرأ معى قوله - تعالى - لنبيه الكريم وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى [طه 132].
أما الفريق الثاني فيقول ناصحا لأصحابه : ويلكم [هذه كلمة زجر] ثواب اللّه خير لمن آمن وعمل صالحا فالسعادة فيه ، والخير لصاحبه إذ هو دائم ، لا تعب معه(2/850)
ج 2 ، ص : 851
ولا ضرر فيه ، وهذا المال مصدر تعب وشقاء لصاحبه في الواقع ونفس الأمر كما نشاهد ذلك عند أغلب الأغنياء.
ولا يلقّاها إلّا الصابرون ، أى : ولا يلقى هذه الحقائق ويعمل بها إلا الصابرون ، ولا شك أن هذه الحقائق هي الإيمان والعمل الصالح ، وإدراك ما يوصل إلى خيرى الدنيا والآخرة.
وقد جاءت نهاية قارون مؤيدة لما ذهب إليه أهل العلم والبصر بالدنيا والآخرة فخسف اللّه بقارون وبداره وبماله وبجموعه الأرض ، فما كان له من فئة ينصرونه من دون اللّه ، ويمنعون عنه بأس اللّه وبطشه ، حيث لم يعمل عملا صالحا يقربه إلى ربه ، ولم يحصن ماله بالصدقة والزكاة ، ولم يتقرب إلى اللّه وإلى الناس بترك الكبر والغرور والغطرسة ، ولهذا كله كانت النتيجة أن ضاعت دنياه ، وخسف اللّه به الأرض ، واللّه على كل شيء قدير ، وبعباده خبير بصير ، وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون :
وى [كلمة تفيد معنى التعجب ] كأن اللّه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، نعم ، اللّه وحده هو الذي يعطى ويمنع ويبسط الرزق لمن يشاء ويقتر ، فلم يعط إنسانا لعقله وعلمه ، ولم يحرم آخر لجهله وسوء رأيه ، بل الأمر كله للّه ، وإذا كان كذلك فالواجب هو امتثال أمر اللّه ، ومخالفة النفس الأمارة بالسوء ، وترك الغرور والكبر فإن الأمر كله بيد اللّه ، وهو صاحب الأمر ، لو لا أن من اللّه علينا لأصابنا ما أصاب قارون ، وى كأنه لم يفلح الكافرون حقيقة ، وما هم فيه في الدنيا فهو استدراج لهم ، وفتنة لغيرهم ، تلك الدار الآخرة وما فيها من نعيم مقيم دائم لا تعب ولا مشقة معه يجعلها ربك للذين لا يريدون علوّا في الأرض على غيرهم ، ولا يريدون فسادا والعاقبة للمتقين ، وانظر إلى قوله تعالى : لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً حيث علق الوعد بترك إرادة العلو والفساد وميل القلب إليهما ، لا بفعلهما مبالغة في تحذير المؤمنين وإبعادهم عن هذه الأمراض الخطيرة التي تبيد الأمم ، وتهلك الأفراد والجماعات.
ولا غرابة في ذلك كله فإن هناك قانونا وسنة لا تتخلف هي : من جاء بالحسنة فله خير منها ، أى : ثواب خير منها وهو عشر أمثالها. واللّه يضاعف لمن يشاء ، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها فقط جزاء لعمله ، وربك ذو فضل عظيم ، إذ لا يجزى بالسيئة إلا مثلها ، ويجزى بالحسنة عشر أمثالها ، إن ربك واسع المغفرة.(2/851)
ج 2 ، ص : 852
البشرى بالعودة إلى مكة [سورة القصص (28) : الآيات 85 الى 88]
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
المفردات :
فَرَضَ أنزله عليك مَعادٍ قيل : هو المقام المحمود الذي وعد أن يبعث فيه وقيل : هو مكة إذ معاد الرجل بلده لأنه ينصرف منها ثم يعود إليها ظَهِيراً معينا وناصرا يقول الفخر الرازي في تفسيره : ثم إنه - سبحانه وتعالى - لما شرح لرسوله أمر يوم القيامة واستقصى في ذلك. شرح له ما يتصل بأحواله فقال : إن الذي فرض عليك القرآن ...
المعنى :
يقول اللّه - سبحانه وتعالى - إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ وأنزله عليك إنزالا له أثره ومغزاه لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ وهو المقام المحمود الذي وعد أن يبعث فيه بعد الموت ، وقيل المعنى : إن الذي أنزل عليك القرآن لرادك إلى مكة بلدك الحبيب الذي انصرفت منه وستعود إليه فاتحا منتصرا بعد خروجك منه مهاجرا ، وتكون الآية نزلت على النبي وهو بمكة متحملا لأذى قومه صابرا على آلامهم ، وعلى هذا فهي(2/852)
ج 2 ، ص : 853
من باب المغيبات ، وهذا الرأى هو الأصح ، لأنه دليل على النبوة من حيث صدق خبره.
قل لهؤلاء المشركين : ربي هو العالم البصير الذي يعلم الغيب والشهادة ، وهو أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ، ومن هو في ضلال بين ظاهر ، فينصر الأول ويعصمه من الناس ويؤيده ، وأما من هو في الضلال والكفر فهو المخذول ، وستكون الدائرة عليه ، وسيعاقبه على ضلاله عقابا صارما شديدا.
وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب ، ولا تأمل إنزال هذا القرآن المحكم البين الكامل في كل شيء ، لكن رحمة من ربك وفضلا وإحسانا ألقى إليك هذا الكتاب الذي لا ريب فيه ، وهو هدى للناس وآيات للمتقين.
وإذا كان الأمر كذلك فها هي ذي تكاليف خمسة يجب عليك أن تحرص عليها إذ هي دعائم الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة.
1 - فلا تكونن ظهيرا ومعينا للكفار بحال من الأحوال بل كن ظهيرا للمسلمين ومعينا لهم ، واللّه معك وعاصمك من النّاس جميعا وحافظك.
2 - ولا يمنعك عن تبليغ آيات اللّه كلها بعد إذ أنزلت عليك مانع أبدا مهما كان يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [سورة المائدة آية 67].
3 - وادع إلى ربك وإلى دينه بكافة الطرق ، متشددا في ذلك أو متساهلا تبعا للظروف ولا يهمك أمرهم.
4 - ولا تكونن من المشركين لأن من رضى عن طريقتهم أو مال إليها كان منهم.
5 - ولا تدع مع اللّه إلها آخر في أى عمل من الأعمال ، ومعلوم أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم لا يمكن أن يفعل شيئا من ذلك حتى ينهى عنه ، والجواب أن هذا من باب [إياك أعنى واسمعي يا جارة] فالكلام مع النبي والمراد غيره ، وإنما كان ذلك كذلك تعظيما لأمر هذه الأشياء.
وكيف تدعو مع اللّه إلها آخر ؟ وهو اللّه لا إله إلا هو ، كل شيء غيره في العالم هالك لأن وجوده ليس لذاته بل مستند إلى واجب الوجود ، فكل شيء سوى اللّه(2/853)
ج 2 ، ص : 854
بهذا المعنى هالك ومعدوم بالقوة أو بالفعل إذ وجوده من غيره ، وهو موقوت بوقت مهما طال ، كل شيء هالك إلا ذاته - جل شأنه - فهو الواجب الوجود القديم الباقي الذي لا يجوز عليه العدم والفناء بحال من الأحوال.
له الحكم وإليه وحده الأمر كله ، وإليه وحده ترجعون فتحاسبون ، وتجازون على أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر ...
سورة العنكبوت
مكية كلها في قول بعضهم ، وعن ابن عباس إنها مكية إلا عشر آيات من أولها ، والظاهر أنها نزلت بين مكة والمدينة كما قال على بن أبى طالب ... وهي تسع وستون آية. وعلى العموم فإنها تدور حول بيان حقيقة الإيمان ، وما يصادف المؤمنين من فتن تصهرهم وتقوى روحهم ومع ذلك فالنصر للإيمان ، وقد جاء القصص مؤيدا لذلك مع ضرب المثل لقوة الكفار وآلهتهم ، ونتيجة الجهاد في سبيل اللّه.
شحذ عزائم المسلمين وتقوية إرادتهم وتهديد أعدائهم [سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4)
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)(2/854)
ج 2 ، ص : 855
المفردات :
أَحَسِبَ النَّاسُ أظنوا وتخيلوا لا يُفْتَنُونَ الفتنة : الابتلاء والاختبار بالشدائد التي تصادف الناس أَنْ يَسْبِقُونا أى : يفوتونا فلا ننتقم منهم ساءَ ما يَحْكُمُونَ بئس حكمهم يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ أى : يأمل في لقائه وثوابه ، قيل :
يخاف لقائه.
لقد ذكر الفخر الرازي - رحمه اللّه - في تفسيره مسائل في تفسير هذه الآية ، منها مسألة في حكمة افتتاح هذه السورة بقوله الم وأنا ألخصها فيما يأتى :
البليغ الحكيم إذا خاطب مشغول البال ، أو من هو في غفلة ، يقدم ما يجعل المخاطب يلتفت إليه ، ويتجه بقلبه ثم يشرع فيما يريده ، وهذا المقدم قد يكون كلاما له معنى مفهوم مثل : اسمع. التفت تنبه إلخ ، وقد يكون أداة استعملت للتنبيه كأدوات النداء والاستفتاح مثل أمحمد. يا على : ألا يا خالد ، وقد يكون المقدم صوتا غير مفهوم كالتصفير مثلا أو التصفيق باليد إلخ.
ومن المألوف في أساليب اللغة أن ألفاظ التنبيه تستعمل عند الغفلة على حسبها ، وتستعمل على شكل واسع إذا كان المقصود من الكلام مهما ، وموضعه خطيرا.
وإذا قدم المتكلم البليغ على كلامه لفظا غير مفهوم المعنى ، كان ذلك أدعى للالتفات ، وأقوى في التنبيه لما بعده مثل الحروف الهجائية التي تفتتح بها السور فإن قال قائل : ما الحكمة في اختصاص بعض السور بهذه الحروف ؟ فالجواب : أن عقل البشر قاصر عن إدراك الأشياء الجزئية والحكم المقصودة من ذلك ، واللّه ورسوله أعلم بذلك كله.
ولكن هذا لا يمنع من ذكر ما يوفقنا اللّه له فنقول (أى الفخر) : كل سورة في أوائلها حروف التهجي فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو القرآن ، واقرأ أول سورة البقرة وآل عمران. والأعراف. ويس. وق والقرآن المجيد. والحواميم إلا ثلاث سور : سورة مريم ، والعنكبوت هذه ، والروم ...
ولعل الحكمة كما قلنا سابقا أن القرآن عبء ثقيل ، وفيه أحكام وحكم ، وهو دستور(2/855)
ج 2 ، ص : 856
الأمة ، فإذا تكلم القرآن على نفسه في أول السورة وجب أن يقدم التنبيه الذي يوقظ النفوس ، ويحرك المشاعر.
ولعل بدء السورة التي ليس في أولها ذكر للكتاب كما هنا وفي سورة الروم ، ومريم بحروف ليست لها معاني معروفة لخطر ما بدئت به وأهميته حتى احتاجت إلى هذا التنبيه ، ولا عجب ففتنة المسلم كما هنا ، وذكر زكريا ويحيى وعيسى كما في سورة مريم والإخبار بالمغيبات في سورة الروم غاية الأهمية ولقد سبق أن تكلمت في هذا الموضوع ، وهو موضوع شائك ولعل سلوى الجميع فيه وفي أمثاله قوله تعالى : مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ [سورة آل عمران آية 7].
المعنى :
ألم. أظن الناس أن يتركوا لأنهم قالوا آمنا في حال أنهم لا يفتنون ، ولا يبتلون بأنواع المحن والفتن ؟ التي تمحص المتقين المخلصين من المنافقين الكاذبين وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [آل عمران 154].
نزلت هذه الآيات في قوم من المؤمنين كانوا بمكة ، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام كسلمة بن هشام. وعياش بن أبى ربيعة. والوليد بن الوليد.
وعمار بن ياسر. وياسر أبوه وسمية أمه ، فكانت صدورهم تضيق بذلك وربما استنكر بعض الناس أن يمكن اللّه الكفار من المؤمنين!.
فنزلت هذه الآية مسلية ومعلنة أن هذه هي سيرة اللّه في عباده اختبار للمؤمنين وفتنة لهم وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ [سورة آل عمران آية 141].
قال بعض العلماء : وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب أو ما في معناه فهي باقية في أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم موجود حكمها ما دام هناك إسلام وحق يدافع عنه بعض الناس ، فلا بد من وجود إيذاء وشدائد لهم.
ولقد فتنا الذين من قبلهم ، وابتليناهم قديما كما ابتلينا إبراهيم بإلقائه في النار ، وكما(2/856)
ج 2 ، ص : 857
حصل لقوم نشروا بالمناشير في دين اللّه فلم يرجعوا عنه أبدا وروى البخاري عن خباب ابن الأرت : قال شكونا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا له : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ .
فقال : « قد كان من قبلكم يؤخذ الرّجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه فما يصرفه ذلك عن دين اللّه. واللّه ليتمّنّ هذا الأمر حتّى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضر موت ، لا يخاف إلّا اللّه والذّئب على غنمه ولكنّكم تستعجلون » .
فليعلن اللّه الذين صدقوا أى : فليظهرن اللّه الذين صدقوا ، وليظهرن الكاذبين ، إذ علمه بهم حاصل قبل الاختبار وبعده.
بل أحسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا فلا ندركهم ؟ أظنوا أنهم يفوتوننا فلا ننتقم منهم. لا. بل إن ربك لبالمرصاد ، وسيجازيهم على أعمالهم جزاء وفاقا.
ألا ساء حكمهم وتقديرهم إن فهموا أنهم يسبقوننا.
من كان يرجو لقاء اللّه ويؤمل ثوابه ، ويخاف عقابه فليستعد لذلك اليوم استعدادا كاملا ، وليعمل عملا صالحا ، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ، فإن أجل اللّه لآت له ، وإن وقته المضروب للقائه آت بلا شك ، فمن الخير له الاستعداد لذلك اللقاء بالعمل الصالح ، واللّه هو السميع لكل قول ، العليم بكل فعل.
وقد مضت حقائق ثلاثة : هي اختبار المؤمن بالفتن ، وعقاب العاصي على العمل ، وجزاء المحسن الذي يرجو لقاء ربه آت بلا شك ولا جدل ، وربك الغنى عن عباده الطائعين ، ولا يضره عصيان العاصين ، ومن جاهد نفسه وهواه ، واتبع طريق الحق والعدل والكرامة فإنما يجاهد لنفسه لا لغيره مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها « 1 » إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها « 2 » .
والذين آمنوا وعملوا الصالحات من الأعمال لنكفرن عنهم سيئاتهم التي قد يلمون بها. فالإنسان لا بد أن يرتكب بعض السوء وإن لم يشعر به خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ « 3 » .
___________
(1) سورة فصلت الآية 46.
(2) سورة الإسراء الآية 7.
(3) سورة التوبة الآية 102.(2/857)
ج 2 ، ص : 858
ولنجزينهم بأحسن أعمالهم فنقدرها على أحسن وجه وأكمله فنجازيهم عليها ، وليس المعنى أن اللّه يختار أحسن الأعمال ويترك الباقي.
أرأيت إلى هذه الآيات الكريمة التي تشحذ العزائم وتربط على القلوب ببيان أن المؤمن صاحب العقيدة لا بد من ابتلائه ، وأن هذه سنة اللّه قديما وحديثا ، مع بيان أن المسيء الذي يسيء المؤمن سيجازى على عمله حتما ، وقد بين اللّه أنه لا بد من يوم يجازى فيه المحسن والمسيء وهو قريب الحصول ، وهذا العمل الصالح من العبد يكون خيرا له لا لغيره ، واللّه يكفر عنه سيئاته ويجازيه على أعماله أحسن الجزاء - اللهم وفقنا واهدنا إلى سوء السبيل.
مدى فتنة الكفار للمؤمنين ، وتهديد اللّه للكفار وللمنافقين [سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 13]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12)
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)(2/858)
ج 2 ، ص : 859
المفردات :
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ أى : أمرناه ، فكلمة وصى في اللغة كأمر في معناها وتصرفها حُسْناً أى : بأن يفعل معهم حسنا ، أى : فعلا ذا حسن ، أو هو نفس الحسن مبالغة فِتْنَةَ النَّاسِ أى أذاهم واستعمال القوة والعنف في الرد عن الإسلام أَثْقالَهُمْ أوزارهم.
لا يزال الكلام في فتنة المسلمين وردهم بالقوة عن الإسلام ، والذين فتنوهم المستضعفون ، ومن فتنهم هم الكفار الأقوياء أصحاب الجاه والسلطان ، ومن كان يملك رقابهم ، وهناك صنف آخر من المعذبين الذين فتنوا هم الأبناء والأقارب والذين فتنهم آباؤهم وأقاربهم مستخدمين سلاح العطف وصلة الرحم ، ولذا نبه اللّه هنا على ذلك ، ونزلت تلك الآية وآية لقمان وآية الأحقاف في سعد بن أبى وقاص.
وروى عن سعد قال : كنت بارا بأمى فأسلمت فقالت : لتدعن دينك أولا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي ويقال لك : يا قاتل أمك ، وبقيت يوما ويوما فقلت يا أماه! لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا ، فإن شئت فكلي ، وإن شئت فلا تأكلى ، فلما رأت ذلك أكلت ، ونزلت الآية.
المعنى :
ووصينا الإنسان بوالديه أن يفعل معهما فعلا حسنا ، وقلنا له : إن جاهداك لتشرك باللّه ما ليس لك به علم ، أى : ما لا علم لك بألوهيته كالأصنام ، والمراد بنفي العلم المعلوم كأنه قال : وإن جاهداك وحملاك بالفتنة والإغراء على أن تشرك باللّه شيئا لا(2/859)
ج 2 ، ص : 860
يصح أن يكون إلها ، ولا يستقيم بحال ، فلا تطعهما في ذلك أبدا مع الإحسان إليهما ومداراتهما وترضيهما كما أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سعدا أن يفعل مع أمه « وقد ثبت ذلك في بعض الروايات » .
وصى اللّه الإنسان بوالديه وأمره بالإحسان إليهما ، ثم نبهه إلى عدم طاعتهما ، إذا أراداه على الشرك ، إذ كل حق وإن عظم ساقط إذا جاء حق اللّه ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ثم قال : إلىّ مرجعكم ، نعم إلى اللّه وحده ترجع الأمور وسيجازى كلا على ما عمل فلا يحدثن أحد من الناس نفسه بجفوة والديه إذا أشركا ، ولا يحرمهما من بره وعطفه في الدنيا إذا عصيا ، وإياه ومتابعتهما على الشرك بل اثبت في دينك ، واستقم كما أمرت فاللّه معك ، وسيجازيك على هذا كله ، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وصبروا على المكروه والأذى في سبيل اللّه فأولئك يدخلون الجنة مع الصالحين والأنبياء والمرسلين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.
يا أخى لا تظن أن مرتبة الصلاح هينة فلله در الإمام الشافعى حيث يقول : « أحبّ الصّالحين ولست منهم » . وهذا النبي سليمان بن داود يدعو ربه أن يدخله مع الصالحين وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ « 1 » . وفي إبراهيم يقول اللّه وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ « 2 » .
هذا هو حال المؤمنين الذين فتنوا واختبروا في دينهم كبلال وصهيب وآل ياسر كلهم : وهذا سعد بن أبى وقاص يبتلى بأمه وكانت أحب الناس إليه ، وهذا حال من فتن من صناديد قريش وزعماء الكفار.
ولكن أليس في المجتمع المسلم منافقون ضعاف الإيمان إذا فتنوا رجعوا عن دين اللّه ؟ .
نعم فيه ذلك ، إذ لا يخلو منهم زمان ولا مكان ، والمحن هي محك الاختبار ، وفيها الامتحان ليميز اللّه الخبيث من الطيب.
وها هم أولاء يقولون آمنا باللّه فإذا أوذوا في سبيل اللّه ، وافتتنوا في دينهم ، ومحصوا بالابتلاء الواقع ، وانكشفت الستائر ، وجعلوا فتنة الناس تمنع من الثبات في دينه كما يمنع عذاب اللّه من الكفار ، وإذا نصر اللّه المسلمين ليقولن : إنا كنا معكم ، وكنا ثابتين على دينكم فأعطونا من الغنائم! أو ليس اللّه بأعلم بما في الصدور ؟ ! وهو يعلم السر
___________
(1) سورة النمل الآية 19. [.....]
(2) سورة البقرة الآية 130.(2/860)
ج 2 ، ص : 861
وأخفى ، وليعلمن اللّه الذين آمنوا بقلوبهم وألسنتهم ، وليعلمن المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم ، الثابتين على النفاق الدائمين على المكر والخداع ، وسيجازيهم على ذلك كله إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ « 1 » .
وانظر إلى مدى فتنة الكفار ، وإغراء المسلمين على ترك دينهم!!! وصحائف التاريخ مملوءة بأخبار المعذبين من الصحابة ، وأخبار العتاة المجرمين من زعماء الكفر ، وليتهم وقفوا عند حد الإغراء بالعذاب والتنكيل بالإيذاء البدني بل لما رأوا أنهم لم يفلحوا في ذلك ، وثبت المسلمون ، أو فروا بدينهم إلى الحبشة ، ثم إلى المدينة.
ولما رأوا أن فتنتهم المادية لم تؤت ثمرها أخذوا يفتنونهم بالحيلة والإغراء بكافة الطرق.
انظر إليهم وهم يقولون.
وقال الذين كفروا للذين آمنوا : اتبعوا سبيلنا ، وارجعوا إلى ديننا ، ونحن نتحمل عنكم خطاياكم إن كان هناك حساب أو جزاء.
ولقد ثبت أن صناديد قريش كانوا يقولون لمن آمن منهم لا نبعث ولا أنتم ، فإن كان ذلك فإننا نتحمل عنكم الإثم ، وما هم بحاملين من ذنوبهم وآثامهم شيئا ، إذ كل امرئ بما كسب رهين إن هؤلاء الزعماء لكاذبون في هذا القول ، وليحملن أثقال أنفسهم وأوزارها ، وأثقالا أخر غير الخطايا التي ضمنوا حملها للمؤمنين ، وهي أثقال وأوزار الذين كانوا سببا في ضلالهم
« من سنّ في الإسلام سنّة سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا » حديث شريف.
وقال تعالى : لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ « 2 » .
وليسألن يوم القيامة سؤال تقريع وتوبيخ عما كانوا يفترون ويختلقون من أكاذيب وأباطيل.
___________
(1) سورة النساء الآية 145.
(2) سورة النحل الآية 25.(2/861)
ج 2 ، ص : 862
نوح وقومه [سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 15]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)
المفردات :
الطُّوفانُ ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة من سيل أو موت أو ظلام ليل.
وهذه قصة نوح - عليه السلام - أطول الأنبياء عمرا ، دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، ومع هذا فلم يؤمن معه إلا قليل ، وقد سيقت تسلية وعبرة لمن يعتبر ، وقد ذكر بعدها قصص بعض الأنبياء لهذا الغرض.
المعنى :
ولقد أرسلنا نوحا - وقد ورد أنه أول نبي أرسل - إلى قومه وكانوا أهل كفر وفسق وعصيان فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى اللّه ويذكرهم بيوم القيامة ، ولكنهم كانوا يردون عليه أسوأ رد وأفحشه ، وقد بذل نوح منتهى ما في وسعه كبشر ، وطال الزمن وهو يدعوهم أن يقلعوا عن عبادة الأصنام فلم يزدهم دعاؤه إلا إعراضا واستكبارا ، وقال نوح : رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ، ومكروا مكرا كبارا ، وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ، فقال لما ضاق به الأمر : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا.
وكان أن صنع السفينة وركبها هو والمؤمنون وترك الكفار فغرقوا جميعا ، وأخذهم الطوفان وهم ظالمون ، ونجاه اللّه هو ومن معه في الفلك المشحون ، وجعل ربك سفينة نوح آية وعبرة للعالمين ، فهل من مدكر ؟ !!.(2/862)
ج 2 ، ص : 863
قصة إبراهيم وقومه [سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 الى 27]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)(2/863)
ج 2 ، ص : 864
المفردات :
أَوْثاناً الوثن : هو ما اتخذ من جص أو حجر ، والصنم ما كان من معدن ، والتمثال : ما لوحظ فيه أن يكون مثالا لكائن حي إِفْكاً الإفك : الكذب مأخوذ من الأفك وهو صرف الشيء عن وجهه ، والكذب كلام مصروف عن وجهه النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ هي إعادة الخلق في الآخرة تُقْلَبُونَ تردون وَلِيٍّ صديق وناصر أو متولى أمر الإنسان حَرِّقُوهُ أحرقوه مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ لتتوادوا بينكم وتتواصلوا.
وتلك قصة إبراهيم أبى الأنبياء فانظر يا أيها الرسول كيف كان موقفه مع قومه وما انتهى إليه أمره وأمرهم ، والأمر كله للّه.
المعنى :
واذكر إبراهيم وقت أن قال لقومه اعبدوا اللّه ، والمراد ذكر ما حصل في الوقت ، أرسل اللّه إبراهيم حين بلغ من السن والعلم مبلغا صح معه أن يكون رسولا يهدى إلى الحق فقال لقومه : اعبدوا اللّه واتقوه ، ما لكم من إله غيره ، وهو المستحق للعبادة(2/864)
ج 2 ، ص : 865
والتقديس دون سواه ، ذلكم خير لكم ، إن كنتم تعلمون طريق الخير من طريق الشر فاتبعوه ، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ، وتضلوا سواء السبيل.
إنما تعبدون من دون اللّه أوثانا لا خير فيها ، ولا نفع يرجى منها بل هي حجارة لا تسمع ولا تبصر ، ولا تضر ولا تنفع ، إنما تعبدون من دون اللّه أوثانا. والحال أنكم تخلقون إفكا ، واختلاقهم الإفك تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء للّه أو شفعاء له على أنهم هم الذين صنعوها وخلقوها للإفك والكذب.
إن الذين تعبدون من دون اللّه لا يملكون لكم رزقا أبدا قليلا أو كثيرا ، فابتغوا عند اللّه الرزق كله ، فإنه هو الرزاق ذو القوة المتين ، الذي له ملك السموات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر ، وهو الحكيم الخبير ، إذا كان كذلك فاعبدوه وحده ، واشكروا له حق شكره ، إليه وحده ترجعون فاستعدوا للقائه بعبادته وشكره على نعمه.
وإن تكذبوني فلا تضروني أبدا ؟ فإن الرسل قبلي قد كذبتهم أمم ، وما أصابهم من ذلك ضرر ، ولكن الأمم قد أضروا أنفسهم بذلك ، إذ الواجب على الرسول البلاغ ، وعلى اللّه الحساب ، فإذا بلغ كل ما أنزل إليه وأدى الرسالة كاملة فلا عليه شيء بعدها أبدا سواء آمن به الناس أم كفروا.
وهذه الآيات والتي بعدها إلى قوله - تعالى - : فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ :
محتملة أن تكون من جملة قول إبراهيم أو هي معترضة نزلت في شأن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وشأن قريش في أثناء قصة إبراهيم ، والمناسبة بين القصة وبين الكلام المعترض ظاهرة ، إذ كل في موضوع واحد وهو تكذيب الأمم لرسلها ، وقصة إبراهيم ذكرت تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فوحدة الموضوع والغرض موجودة ، والآيات التي ذكرت بعد هذه الآية من توابعها ، ألا ترى أن اللّه بين التوحيد أولا ثم أشار إلى الرسالة ثانيا بقوله وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ.
وقد شرع في بيان الأصل الثالث وهو الحشر ، وهذه الأصول الثلاثة لا ينفك ذكر بعضها عن بعض.
أعموا ولم يروا كيفية بدء الخلق ؟ ولما كان العقل يعلم أن البدء من اللّه بلا شك لأن الخلق الأول لا يتصور أن يكون من مخلوق ، وإلا لما كان أول الخلق ، وإذا كان(2/865)
ج 2 ، ص : 866
الخلق الأول من اللّه - وهذا معلوم بالضرورة - كان ذلك في مقام الرؤية ، والمقصود الاستدلال - بما علموه علما أصبح كالرؤية أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ من أحوال بدء الخلق - على إثبات المعاد ، فإن من قدر على البدء يقدر بلا شك على الإعادة بل هي أهون عليه في نظرنا ، إن ذلك المذكور من بدء الخلق وإعادته على اللّه يسير ، فكيف ينكرون الإعادة ويؤمنون بالبدء ؟ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ على معنى قال اللّه لي : قل - يا إبراهيم أو يا محمد - لهم سيروا أيها المنكرون للبعث في الأرض لتشاهدوا مظاهر قدرة اللّه وآياته الدالة على أنه هو الخالق وحده لهذا الكون.
وهو المنفرد ببدء الخلق ، ومن قدر على ذلك فهو القادر وحده على أن ينشئ النشأة الأخرى يوم القيامة إن اللّه على كل شيء قدير ، وفي النشأة الأخرى يعذب من يشاء ممن يستحق العذاب من الكفار والعصاة ، ويرحم من يشاء من عباده فضلا منه ورحمة.
وما أنتم يا بنى آدم بمعجزين اللّه في الأرض ولا في السماء ، وليس في وسعكم الهرب من قضاء اللّه في جهة السفل أو جهة العلو ، وما لكم من غير اللّه ولى ولا نصير ينصركم من عذابه.
والذين كفروا بآيات اللّه ، ولقائه أولئك يئسوا من رحمة اللّه ، إنه لا ييأس من روح اللّه إلا القوم الكافرون ، أولئك لهم عذاب مؤلم موجع ، أما المؤمنون باللّه ولقائه فأولئك يرجون رحمته ، إن رحمة اللّه قريب من المحسنين ولنرجع إلى إبراهيم ماذا حصل له ؟ .
لما أمرهم بعبادة اللّه - تعالى - ، وبين خطأهم في عبادة الأوثان ، وظهرت حجته عليهم فما كان جواب قومه على قوله لهم : اعبدوا اللّه واتقوه ، واتركوا عبادة الأوثان ، وما أنا إلا نذير وبشير ، وعلى البلاغ فقط ، واعلموا أن هناك يوما للحساب والعقاب ومن خلق الخلق أولا قادر على الإعادة ثانيا.
فما كان جواب قومه على ذلك إلا أن قال كبارهم ورؤساؤهم : اقتلوه ، أو حرقوه بالنار ، يا عجبا لهم!! يدعوهم إلى الخير ، ويبصرهم بالطريق الحق فيكون المآل القتل أو الإحراق.
ولكن أيتركه ربه الذي أرسله للخلق ووعده بالعصمة والحفظ ؟ كلا كلا : فقد أنجاه اللّه من النار حين قذفوه فيها ، وقال اللّه لها : يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم(2/866)
ج 2 ، ص : 867
وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ، إن في ذلك كله لآيات لقوم يؤمنون ، وأى آية أظهر من تلك ؟ يلقى إنسان في النار المحرقة فلا تؤثر فيه شيئا سبحانك يا رب أنت القادر على كل شي ء!! وقال إبراهيم بعد خروجه من النار : يا قوم : إنما اتخذتم من دون اللّه أوثانا تعبدونهم لا ينفعون ولا يضرون.
إن الذي اتخذتموه أوثانا لأجل المودة بينكم ، أى : لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها لا ينفعكم بل يكون عليكم ، بدليل قوله بعد ذلك ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً على معنى أن هذه المودة التي في الدنيا ستنقلب بينكم إلى تلاعن وتباغض ، وتعاد ، يتلاعن المتبوعون والتابعون ، ويتلاعن العبدة كلهم مع الأصنام وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ، ومأواكم النار جزاء ما عبدتم غير اللّه ، وما لكم من ناصرين ينصرونكم وقت الشدة ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم خالص من الذنوب ..
ولما خرج من النار إبراهيم سليما معافى آمن لوط بنبوة إبراهيم.
وقال إبراهيم : إنى مهاجر إلى أمر ربي أى : حيث أمرنى ، وقد هاجر من سواد العراق ومعه زوجته سارة ، ولوط ابن أخيه أو ابن أخته ، واللّه أعلم ، هاجر من سواد العراق إلى حران ثم منها إلى فلسطين ، ونزل لوط قرية سدوم.
ووهبنا إلى إبراهيم - بعد إسماعيل - إسحاق ومن نسله يعقوب ، وجعلنا في ذريته النبوة فكانت الأنبياء كلها بعد إبراهيم من ذريته ، وآتيناه الكتب فنزلت التوراة على موسى والزبور على داود والإنجيل على عيسى والقرآن على محمد ، وكلهم من نسله ، وآتيناه أجره في الدنيا حيث يحمده الكل ، ويؤمن به ويمجده ، وهو في الآخرة من الصالحين الذين لهم الدرجات العلا.
قصة لوط مع قومه [سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 35]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32)
وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)(2/867)
ج 2 ، ص : 868
المفردات :
الْفاحِشَةَ أى : الفعلة الفاحشة المتناهية في القبح ، قيل : هي إتيان الرجال في أدبارها وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ أى : الطريق الْمُنْكَرَ الأمر المخالف للشرع المجافى للطبع السلم كاللواط وأنواع الفحش بِالْبُشْرى بالبشارة بإسحاق ويعقوب الْغابِرِينَ الباقين في العذاب سِي ءَ بِهِمْ جاءته المساءة والغم بسبهم(2/868)
ج 2 ، ص : 869
ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أى : ضاق ذرعه بهم ، وذرع الإنسان كقولهم : ضاقت يده عن كذا مثلا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ عذابا شديدا منها ، وسمى بذلك لأنه يقلق المعذب مأخوذ من قولهم : ارتجز إذا ارتجس أى : اضطرب.
المعنى :
- واذكر لوطا وقت أن قال لقومه : إنكم لتأتون الفعلة المتناهية في الفحش ، التي ما سبقكم بفعلها أحد من الجن والإنس لأنها مما تشمئز منها الطباع ، وتعافها النفوس.
أإنكم لتأتون الرجال في أدبارهم ، وتتركون النساء ، وتقطعون السبيل حيث تفعلون الفاحشة بمن يمر بكم فترك الناس الطريق لذلك : وتأتون في ناديكم المنكر شرعا وعقلا وعرفا ، وذلك أنهم ابتدعوا منكرات ما سبقهم إليها أحدا من خلق اللّه وقد وعظهم لوط ونصحهم كثيرا وخوفهم عاقبة هذا العمل فلم يأبهوا ولم يرتدعوا ، فلما ألح عليهم بالعظات والإنذار ما كان جواب قومه إلا أن قالوا استهزاء به : ائتنا بعذاب اللّه الذي تعدنا ، إن كنت من الصادقين في دعواك ، قال لوط لما يئس منهم ، ونفد صبره :
يا رب انصرني بإنزال العذاب على هؤلاء القوم الذين عاثوا في الأرض الفساد فاستجاب اللّه الدعاء ، فأرسل ملائكة لإهلاكهم ، وأمرهم أن يبشروا إبراهيم بذرية طيبة مباركة فجاءوا أولا لإبراهيم بالبشرى بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ، وقالوا له : إنا مهلكوا أهل قرية لوط إن أهلها كانوا ظالمين وكافرين.
قال إبراهيم : إن فيها لوطا ، وأنتم تعرفون من هو .. قالوا : نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته إنها كانت من القوم الفاسقين ، فاستحقت أن تكون من الباقين في العذاب المهين.
ولما أن جاءت رسل الهلاك إلى لوط سىء بهم وحزن ، وضاق بهم صدره ، لأنهم جاءوا في صورة غلمان مرد حسان ، فجاء أهل القرية إلى لوط طالبين ضيوفه ليفعلوا معهم الفاحشة ، وقد جهد لوط في ردهم ، وبالغ في ذلك حتى طلب إليهم أن يأخذوا بناته فلم يصغوا إليه ، فلما رأت الملائكة حيرته وتغير حاله ، قالوا له : لا تخف ولا تحزن إنا جئنا للتنكيل بأولئك القوم ، وإنا منجوك وأهلك إلا امرأتك إنها كانت من الباقين في العذاب ، وإنا يا لوط منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء وعذابا تضطرب له النفس وتتزلزل ، كل ذلك بما كانوا يفسقون ، وقد أخرجت الملائكة لوطا(2/869)
ج 2 ، ص : 870
وابنتيه وزوجه من القرية ، وأمروهم ألا يلتفتوا ، فصدعوا بالأمر إلى امرأته فإنها التفتت إلى أهل القرية لترى ما يحل بهم ولقد تركنا منها آية بينة وعبرة وموعظة لقوم يعقلون ويعلمون نتيجة الكفر والإيمان ، ويتدبرون كيف ينجى اللّه الذين آمنوا ، ويهلك الفاسقين والآية التي تركوها عبرة وعظة هي منازلهم الخربة ، وقيل هي أخبارهم وقصصهم ..
قصص مدين وعاد وثمود وغيرهم [سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 40]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)(2/870)
ج 2 ، ص : 871
المفردات :
الرَّجْفَةُ الزلزلة يقال رجف يرجف أى اضطرب جاثِمِينَ باركين على اركبهم ميتين سابِقِينَ فائتين غير مدركين حاصِباً ريحا حاصبا أى : فيها حصباء يقال حصبه يحصبه إذا رماه بالحصباء الصَّيْحَةُ الصرخة الشديدة.
المعنى :
وإلى مدين أرسلنا لهم أخاهم شعيبا فدعاهم إلى الإيمان باللّه وقال لهم : يا قوم اعبدوا اللّه ربكم مالكم من إله غيره ، وارجوا اليوم الآخر أى : افعلوا ما ترجون به العافية في يوم الحساب والجزاء ، وإياكم والفساد في الأرض ، فإن عاقبته وخيمة.
فكذبوه ولم يؤمنوا به فأخذتهم الصيحة بالعذاب فارتجفت قلوبهم واضطربت حيث لا ينفع الاضطراب والخوف ، وأصبحوا في ديارهم جائمين على ركبهم ميتين كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية ؟ فهل من مدكر ؟ وأهلكنا عادا لما أرسلنا لهم أخاهم هودا يدعوهم إلى الإيمان باللّه ورسله ، فكذبوا وكفروا ، وأهلكنا ثمود لما أرسلنا لهم أخاهم صالحا يدعوهم إلى عبادة اللّه فكفروا به وكذبوه.
وها أنتم أولاء يا أهل مكة ، ويا مشركي العرب قد تبين لكم ذلك ، أى : إهلاكهم وهم قد زين لهم الشيطان أعمالهم فكانت عاقبة أمرهم خسرا ، وكانوا مستبصرين أى :
عقلاء أصحاب فكر ونظر ولكنهم لم ينتفعوا بذلك!! أفليس من العقل والحكمة أن تعتبروا وتتعظوا بهؤلاء.
وأهلكنا قارون لما طغى ولم يمتثل أمر اللّه ، وأهلكنا فرعون وهامان ، ولقد جاءهم موسى بالبينات من عند ربهم فاستكبروا في الأرض ، ولكنهم ما كانوا سابقين وفائتين بل أدركهم أمر اللّه وبطشه إن بطش ربك لشديد.
فكلا من هؤلاء وهؤلاء أخذنا بذنبه إذ كل نفس بما كسبت رهينة فمنهم من أرسلنا عليه ريحا حاصبة أهلكته وهم قوم لوط إنهم كانوا قوما يعملون الخبائث ، ومنهم من أخذته الصيحة بالعذاب كمدين وثمود ، صيحة ترجف الأرض منها والجبال فكانت(2/871)
ج 2 ، ص : 872
بحق هي الرجفة ، ومنهم من خسفنا به وبداره الأرض. وهو قارون ليكون عبرة لكل طاغية جبار.
ومنهم من أغرقنا كقوم نوح وفرعون ، لما طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد ، وما كان اللّه ليظلمهم أبدا ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ..
مثل اتخاذ الأصنام آلهة [سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 44]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
المفردات :
أَوْلِياءَ أصناما يرجون نفعها الْعَنْكَبُوتِ حشرة معروفة أَوْهَنَ أضعف مَثَلُ المثل الصفة التي تشبه المثل في الغرابة.
لما بين اللّه تعالى أنه أهلك المشركين وأفناهم حينما كذبوا الرسل ، وكان هذا بمثابة تعجيل العذاب لهم في الدنيا زيادة على ما أعد لهم في الآخرة من عذاب مقيم ولم ينفعهم في الدارين من دون اللّه معبود.(2/872)
ج 2 ، ص : 873
لما بين هذا ضرب لهم مثلا في اتخاذهم معبوداتهم آلهة باتخاذ العنكبوت بيتا لم يقها من شر عاد عليها.
المعنى :
مثل هؤلاء الذين اتخذوا من دون اللّه أولياء والحال أنهم لم ينتفعوا منها بشيء أبدا مع أنهم اتخذوها راجين النفع والشفاعة منها كمثل العنكبوت اتخذت بيتا من نسيجها ، وإن أوهن البيوت لبيوت العنكبوت.
ولعل السر في جعل المثل دائرا حول اتخاذ العنكبوت بيتا ولم يقل نسيجا ، أن البيت يكون للظل والوقاية من حر الشمس وزمهرير البرد ، ومنع العدوان إلى غير ذلك من المنافع ، ولكن بيت العنكبوت لا يفيد شيئا ولا يقي خطرا. فكذلك معبوداتهم لا تنفع شيئا ، ولا تدفع ضررا ، على أن نسيج العنكبوت من حيث كونه بيتا لا يفيد فكذلك الأصنام من حيث كونها آلهة لا تنفع ولا تضر ، حقا. وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون!.
ولعل السر في اختيار لفظ الأولياء بدل الآلهة إبطال الشرك الخفى ، وهو العبادة للرياء والسمعة فإن من يفعل ذلك يصدق عليه أنه اتخذ من دون اللّه وليا ...
وانظر إلى قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ بعد التمثيل ...! على معنى إن اللّه يعلم أنهم لا يدعون من دونه شيئا له وجود ، وهو العزيز الحكيم فكيف يجوز للعاقل أن يترك القادر الحكيم العليم الخبير ، ويشتغل بعبادة ما ليس بشيء أصلا.
وتلك الأمثال الرائعة التي هي من عيون الكلام لعمق أثرها في النفس ، وقوة فعلها في العقل نضربها للناس لا للبهائم والجمادات ، وما يعقلها ويدرك سرها ويقف على إشاراتها إلا العالمون ، ويقول الفخر : العلم الحدسى التجريبى يعلمه العاقل والعلم الفكرى الدقيق يعقله العالم ، وذلك كالأمثال ، ومن هنا ندرك السر في تعبير القرآن :
وما يعقلها إلا العالمون.(2/873)
ج 2 ، ص : 874
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فإن خلق اللّه السموات والأرض بالحق هو للمؤمنين بيان ظاهر وبرهان واضح وإن لم يؤمن به على وجه الأرض كافر. أما خلقهما فقط هو آية لكل عاقل كما قال تعالى : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ... لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
آداب إسلامية [سورة العنكبوت (29) : آية 45]
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)
لقد كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا حزبه أمر - أى ألم به أمر شديد - هم إلى الصلاة وحالة الكفار والمشركين الذين لم ينتفعوا بالقصص والأمثال قد تؤلم فجاءت هذه الآية سلوى وعلاجا وإرشادا وتأديبا. فالمناسبة ظاهرة.
ولا شك أن العلاج الوحيد لكل الأزمات ، والدواء الوحيد لكل الأدواء ، هو القرآن وتلاوته العمل بما فيه.
ولعلك يا أخى تستشف معى من وضع هذه الآية هنا أن آلامنا ومتاعبنا كافة مسلمة تدين بالإسلام قد يكون معظمه من تلك الناحية والحوادث تؤيد هذا ، ولعل العلاج من هذا كله ، ومن أمراضنا الداخلية هو القرآن وتلاوته وحفظه للعمل به لا للتغنى به ولا للرقى!!.
المعنى :
اتل يا محمد ، وكذا كل مسلم ، اتل ما أوحى إليك من الكتاب الكامل الذي لا ريب فيه ، واعمل بما فيه ، ففيه نجاتك وخيرك وعلاجك.(2/874)
ج 2 ، ص : 875
وعليك بالصلاة فهي عماد الدين ، وهي الصلة بين العبد والرب ، فإن ألم بك حادث تكرهه أو جفاك الناس فعليك بالقرآن ، والجأ إلى الصلاة تتصل باللّه وإذا اتصلت به كنت ربانيا روحانيّا عند ذلك تدين لك الصعاب ، وتخضع الرقاب ، وتصل إلى ما تريد وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً « 1 » .
والصلاة عملية تطهير لصاحبها ، وتتكرر لتغسل أدرانه ، وما قد يكون علق بنفسه وروحه من غبار الدنيا ، وهي كما يقول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ما معناه : هي نهر أمام بيتك تغتسل منه خمس مرات فهل يبق عليك درن ووسخ ؟ !!.
الصلاة الحقيقية التامة الأركان ، المستوفية الشروط ، المقومة بأركانها وسننها وآدابها ، الصادرة من قلب برىء خالص ، سليم من الرياء والنفاق ، مملوء بالخوف من اللّه والرجاء في عفوه.
هذه الصلاة هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، عن ابن عباس وابن مسعود قالا :
«
في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصى اللّه - تعالى - فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزد بصلاته من اللّه - تعالى - إلا بعدا » وقال الحسن وقتادة « من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه » ومن هنا ندرك كيف يقع من بعض المصلين فحش ومنكر ؟ والجواب أنها صلاة بلا روح صلاة بلا خشوع ولا خضوع ، صلاة فيها رياء وسمعة ، صلاة لا يمكن أن تنهى عن فحشاء ومنكر.
فليست الصلاة تنهى بقيامها وركوعها وسجودها لا. إنما تنهى بذكر اللّه وتذكره أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ « 2 » ومن هنا قال اللّه وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ واللّه يعلم الغيب والشهادة ، وهو العليم بذات الصدور ، فراقبوا اللّه مراقبة من يعلم أن اللّه يسمعه ويراه.
والذكر النافع هو الذي يكون مع العلم وإقبال القلب وتفرغ النفس مما سوى اللّه ، وأما ما لا يتجاوز اللسان فشيء آخر ، واللّه يعلم ما تصنعون وفقنا اللّه للخير.
___________
(1) سورة الطلاق الآية 2.
(2) سورة الرعد الآية 28.(2/875)
ج 2 ، ص : 876
فهرس
المتخلفون بغير عذر وموقف المسلمين منهم 3 كيف كان الأعراب 5 الناس أنواع 7 الصدقة ، والتوبة ، والعمل 11 صنف آخر من المتخلفين 13 مسجد الضرار. ولم بنى ، وموقف الرسول منه 14 من هم المؤمنون الكاملون ؟ 19 الاستغفار للمشركين ومتى يؤاخذ اللّه على الذنب ؟ 21 التوبة وشروطها ، والصدق وفضله 23 وجوب الجهاد مع رسول اللّه وجزاؤه 27 طلب العلم فريضة 29 توجيهات في قتال الكفار 31 المنافقون واستقبالهم للقرآن 32 الرسول عليه الصلاة والسلام ونفسه الكريمة 34 سورة يونس عليه السلام 36 المظاهر الكونية ودلالتها على أصول الإيمان 38 المؤمن والكافر وعاقبة كل 42 من طبائع الإنسان وغرائزه 44 من أوهام المشركين والرد عليهم 46 هكذا فطر اللّه الناس 49 اقتراح المشركين آيات كونية 50 هكذا طبع الإنسان وخلقه 51 المثل البليغ لحياة الدنيا 53 ترغيب في الجنة وتنفير من النار 55 من مشاهد يوم القيامة 57 نقاش مع المشركين لإثبات التوحيد وبطلان الشرك 58 القرآن كلام اللّه ومعجزة النبي وموقفهم منه 62 هكذا الدنيا وهذه نهايتها 66 القول الفصل في الرد على المشركين وعلى استعجالهم العذاب 66 القرآن الكريم وأغراضه الشريفة 70 لون آخر في ثبات الوحى والنبوة 72 مراقبته تعالى لعباده ، واحاطته بكل شيء علما 73 من هم أولياء اللّه ؟ 74 العزة للّه 76 كيف يكون للّه ولد ؟ ! 77 قصة نوح عليه السلام 79(2/876)
ج 2 ، ص : 877
قصة موسى مع فرعون 81 الذين أمنوا بموسى 83 من مواقف موسى مع فرعون 85 تقرير صدق القرآن 88 إيمان قوم يونس 89 إنذار وبشارة ، وحث على العلم 91 المبادئ العامة للدعوة الإسلامية 92 خلاصة ما مضى 94 سورة هود 97 من أعمال الكفار مع كمال علم اللّه وقدرته 100 طباع الإنسان وتهذيب الدين لها 104 تقوية الروح المعنوية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وتحديهم بالقرآن 106 من يؤثر الدنيا على الآخرة 109 المؤمنون بالآخرة 110 الكافرون وأعمالهم في الدنيا وجزاؤهم عليها ، وكذلك المؤمنون 111 القصة في القرآن 113 قصة نوح عليه السلام 115 اشتداد الحال حتى استعجلوا العذاب 119 صنع نوح للسفينة 121 نهاية القوم واستشفاع نوح لابنه 123 خاتمة القصة وما تشير إليه قصة هود عليه السلام 127 قصة صالح عليه السلام 131 قصة إبراهيم عليه السلام وبشارته 134 قصة لوط مع قومه وكيف نجا المؤمنون وهلك الكافرون 136 قصة شعيب 139 من قصة موسى وفرعون 144 العبرة والعظة من القصص بعذاب الدنيا 145 تحذير وتثبيت 149 نتيجة ما مضى من السورة 150 السبب العام في هلاك الأمم السابقة 153 خاتمة السورة 156 سورة يوسف 158 يوسف في دور الطفولة مع أبيه 159 يوسف وأخوته وما كان بينهم 161 يوسف مع السيارة 166 يوسف في مصر 167 يوسف مع امرأة العزيز وكيف كانت محنته 169 شيوع الخبر في المدينة ما يترتب على ذلك 173(2/877)
ج 2 ، ص : 878
يوسف في السجن 176 تأويل يوسف لرؤيا صاحبيه 178 تأويل يوسف لرؤيا ملك مصر 180 طلب الملك له وحكمة يوسف 182 النفس أمارة بالسوء 185 يوسف وقد تولى زمام الأمر في مصر 186 موقف أخوة يوسف معه ثم مع أبيه 188 يعقوب يوصى أبناءه الذاهبين إلى مصر 192 يوسف يتعرف على أخيه بنيامين ويحتال على على إبقائه عنده 193 حوار بين يوسف وإخوته وبينهم وبين أبيهم 196 تعرف إخوة يوسف عليه واعترافهم بالذنب 201 يعقوب وقد جاء البشير 203 تأويل رؤيا يوسف من قبل 205 القصة وما تشير إليه من أهداف 207 سورة الرعد : القرآن حق واللّه قادر على كل شيء 212 بعض أقوالهم والجزاء عليها 215 من مظاهر علمه وحكمته 217 من مظاهر قدرة اللّه وألوهيته 220 هذا مثل للحق وأهله وللباطل وحزبه 223 من هم أولو الألباب وما جزاؤهم ؟ 226 من هم الأشقياء وما جزاؤهم ؟ 229 من أوصافهم أيضا 230 رد على المشركين وبيان قدرة اللّه على كل شيء 232 وصف الجنة ، ومناقشة المعترضين من أهل الكتاب المشركين 236 الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم مبلغ واللّه محاسب ومنتقم 240 سورة إبراهيم : نعمة إنزال القرآن وإرسال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأثرهما 243 مهمة الرسل 246 بعض أنباء الأمم السابقة 248 العاقبة للمتقين 251 حوار بين أهل النار 254 مثل كلمة الحق وكلمة الباطل 258 هكذا يفعل الكفار 260 وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها 262 دعاء إبراهيم عليه السلام 264 تذكير وعظة بأيام القيامة ومشاهدها 267(2/878)
ج 2 ، ص : 879
سورة الحجر 271 من مظاهر قدرته وآثار نعمته 275 قصة آدم وتكوينه ، وعلاقته بالملائكة والجن 278 المتقون يوم القيامة 284 أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر 289 توجيهات إلهية إلى الحبيب المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم 291 سورة النحل : من دلائل وحدانية اللّه 296 من نعمة اللّه علينا أيضا 300 هذا هو الخلاق المنعم فأين الشركاء 302 المستكبرون وجزاؤهم 304 المتقون وجزاؤهم 306 عاقبة الكفار 308 بعض حججهم الواهية 309 جزاء المؤمنين ، وتهديد الكافرين 311 مناقشة المشركين في عقائدهم وأعمالهم 314 من مظاهر قدرته ونعمه علينا 318 من عجائب
قدرة اللّه وآيات وحدانيته 322 مثل الأوثان والأصنام 325 من نعم اللّه علينا 327 مشهد من مشاهد يوم القيامة 329 أجمع آية للخير والشر 332 من أدب القرآن وتوجيهه 336 المرتدون عن الإسلام والعياذ باللّه 338 عاقبة من يكفر بالنعمة 341 نقاش المشركين في معتقداتهم 343 منهاج الوعاظ والدعاة 345 سورة الإسراء 349 خلاصة لتاريخ بنى إسرائيل 353 من نعم اللّه علينا 357 من أراد العاجلة ومن أراد الباقية 361 دعائم المجتمع الإسلامى 363 الرد على من يدعى للّه شريكا 374 السر في كفرهم وعنادهم 376 شبهتهم في البعث والرد عليهم 377 مناقشة المشركين في عقائدهم 380 أصل الداء 383 من نعم اللّه علينا 385 بعض مشاهد يوم القيامة 387(2/879)
ج 2 ، ص : 880
إرشادات ومواعظ 390 القرآن هو المعجزة الباقية 393 شبهتهم في الرسالة والرد عليها 395 تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم 398 بما ذا ندعوا اللّه 401 سورة الكهف 403 قصة أهل الكهف 405 توجيهات إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم 412 مثل للمعتز بالدنيا المغرور بها 415 مثل الحياة الدنيا 418 من مشاهد يوم القيامة 420 توجيهات إلهية 421 إنذار وتخويف 423 قصة موسى مع الخضر 426 جواز ارتكاب أخف الضررين 432 قصة ذي القرنين 433 عاقبة الكفار يوم القيامة 438 عاقبة الإيمان والعمل الصالح 440 كمال علمه واحاطته بكل شيء 441 سورة مريم - قصة زكريا 443 يحيى عليه السلام 446 قصة ولادة عيسى بن مريم 447 القول الحق في عيسى عليه السلام 452 قصة إبراهيم مع أبيه 454 ذكر بعض الأنبياء عليهم السلام 458 من آثار بعثة الرسل عليهم السلام 461 الأمر كله بيد اللّه 462 المنكرون للبعث وجزاؤهم 464 حجة واهية 467 هؤلاء هم المشركون 470 فرية اتخاذ الولد 472 ختام السورة 473 سورة طه - القرآن ومن أنزله 476 قصة موسى مع فرعون وبنى إسرائيل 479 موسى بالوادي المقدس 480 بعثة موسى عليه السلام وما طلبه من ربه 483 بعض الألطاف التي صادفت موسى 485 دعوة موسى لفرعون ، ومحاجته له 488(2/880)
ج 2 ، ص : 881
موسى والسحرة الذين جمعهم فرعون 492 خروج بنى إسرائيل من مصر ، ورحيل فرعون لطلبهم 497 اتخاذ بنى إسرائيل إلها يعبدونه 499 المعرضون عن القرآن يوم القيامة 504 قصة السجود لآدم 507 عبر ونصائح 511 سورة الأنبياء - المشركون ودعواهم والرد عليهم 515 إنذار وتهديد 519 مناقشة المشركين في عقائدهم 523 الأدلة الكونية على وجود الواحد الأحد 526 من مواقف المشركين مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم 529 لا راد لقضاء اللّه 532 عدل السماء 535 موسى وهارون 536 شيء من قصة إبراهيم عليه السلام 537 طرف من قصة لوط ونوح عليهما السلام 543 داود وسليمان عليهما السلام 545 أيوب عليه السلام 547 إسماعيل وإدريس وذا الكفل 549 يونس عليه السلام 550 زكريا ويحيى ومريم 552 وحدة المقصد من إرسال الأنبياء 554 نهاية الكافرين ونهاية المؤمنين 557 موقف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من الناس 560 سورة الحج - الدعوة إلى تقوى اللّه 563 من أدلةالبعث 565 هكذا يكون الناس 569 اللّه ناصر رسوله 572 من مظاهر عدله وقدرته 573 الكافرون والمؤمنون وجزاء كل 575 صد الكفار عن المسجد الحرام وبيان مكانه 578 حج بيت اللّه الحرام 579 توجيهات إلهية لتعظيم حرمات اللّه وشعائره 582 من آدب الذبح في الحج 586 المؤمنون الذين يدافع اللّه عنهم 588 حثهم على العبرة بمن تقدمهم من الأمم 591 مهمة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم 594 كتاب اللّه محكم لا ريب فيه 595(2/881)
ج 2 ، ص : 882
فضل اللّه على المؤمنين 599 لكل أمة شريعة صالحة لها 603 بعض أعمال الكفار والمشركين 605 مجمل التشريع الإسلامى 608 سورة المؤمنون - ومن هم المؤمنون 611 الإيمان باللّه القادر الحكيم 615 العبرة من قصة نوح عليه السلام 620 قصة هود عليه السلام 623 ذكر بعض الأنبياء 626 المبادئ العامة في الرسلات 629 المؤمنون المسارعون في عمل الخير 631 الكفار وأعمالهم وأسبابها 633 إصرارهم على الشرك رغم ظهور الأدلة 637 ليس للّه ولد وليس له شريك 641 توجيهات إلهية للحبيب المصطفى 642 من مشاهد يوم القيامة 643 سورة النور - افتتاح السورة 646 الزنا وحده 650 القذف بالزنا 654 قذف الرجل زوجته 656 قصة الإفك 659 نهاية القصة 667 الاستئذان وآدابه 670 آية الحجاب 673 من علاج أزمة الزواج 676 اللّه نور السموات والأرض 681 المنتفعون بنور الحق تبارك وتعالى 684 المحرمون من نور الحق 685 انقياد الكون للّه 687 وجود الضلال رغم الآيات الناطقة 689 هؤلاء هم المؤمنون المتمثلون 693 دولة المؤمنين 695 آداب لمن يعيشون في بيت واحد 697 آداب إسلامية 700 من آداب الجماعة نحو الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم 702 سورة الفرقان - لا معبود بحق في الوجود إلا اللّه 705 شبهاتهم في القرآن والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم والرد عليهم 708(2/882)
ج 2 ، ص : 883
رد عليهم وبيان لحالهم يوم القيامة 711 من مشاهد يوم القيامة 713 بعض سوءاتهم وعاقبتها 716 من مشاهد يوم القيامة أيضا 718 من سوءاتهم أيضا 720 قصص بعض الأمم التي كذبت رسلها 722 من قبيح أعمالهم 725 بعض الظواهر الكونية التي تدل على وجود اللّه ونعمه علينا 726 من دلائل التوحيد وجميل الأنعام وكريم التوجيه للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم 730 من صفات المؤمنين 734 من صفاتهم أيضا 737 سورة الشعراء
- موقف المشركين من الدعوة الإسلامية 742 قصة موسى مع فرعون وملئه 745 قصة إبراهيم 755 قصة نوح مع قومه 760 قصة هود مع قومه 762 قصة صالح مع قومه ثمود 765 قصة لوط مع قومه 768 قصة شعيب مع أصحاب الأيكة 770 الحديث عن القرآن وموقف المشركين منه 772 نصائح ربانية 776 الرد على من يصف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بأنه كاهن أو شاعر 778 سورة النمل - افتتاح السورة بالكلام عن القرآن وأثره 781 موسى بالوادي المقدس 783 من نعم اللّه على داود وسليمان وقصة النملة 785 قصة الهدهد أو بلقيس 788 صالح مع قومه ثمود 794 قصة لوط مع قومه 797 الشواهد الدالة على الوحدانية والقدرة 798 اعتقادهم في البعث 802 القرآن الكريم والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم 804 من مناظر يوم القيامة مع ذكر مقدماته 806 من علامات يوم القيامة 809 ختام سورة النمل 811 سورة القصص - افتتاح السورة والكلام على قصة فرعون 813 قصة موسى 816 ولادته وإرضاعه 816(2/883)
ج 2 ، ص : 884
سبب خروجه من أرض مصر 820 أرض مدين ونزوله بها ومصاهرته للشيخ 823 قضى موسى الأجل وسار بالوادي المقدس 826 محاجته لهم وعناد فرعون وآله وعاقبتهم 829 الحاجة إلى إرسال الرسل 833 المؤمنون من أهل الكتاب 836 رد بعض مزاعم المشركين 837 بعض مواقف المشركين يوم القيامة 841 اللّه سبحانه وتعالى يتصف بصفات الجلال والكمال 843 قصة المال وتأثيره في النفس الإنسانية 846 البشرى بالعودة إلى مكة 852 سورة العنكبوت 854 مدى فتنة الكفار للمؤمنين وتهديد اللّه للكفار وللمنافقين 858 نوح وقومه 862 قصة إبراهيم وقومه 863 قصة لوط مع قومه 867 قصص مدين وعاد وثمود وغيرهم 870 مثل اتخاذ الأصنام آلهة 872 آداب إسلامية 874(2/884)
ج 3 ، ص : 1
[الجزء الثالث ]
[بقية سورة العنكبوت ]
كيف ندعو أهل الكتاب إلى الإسلام [سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 49]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49)
المفردات :
وَلا تُجادِلُوا المجادلة : المناقشة يَجْحَدُ الجحد : إنكار الشيء بعد معرفته لَارْتابَ : لشك الْمُبْطِلُونَ : غير المحقين فيما ذهبوا إليه.
وهذا شروع في إرشاد أهل الكتاب ومعالجتهم ودعوتهم إلى الدين الحق دين الفطرة السليمة ، وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى أتباع موسى وعيسى عليهم السلام ، وهم قوم يقولون بوجود اللّه واليوم الآخر والتصديق ببعض الكتب والأنبياء ، هذه عقائدهم الأساسية ، وإن حاولوا طمسها في بعض الأحيان والأحوال.(3/1)
ج 3 ، ص : 2
وهذه الآية تدعونا إلى البحث في واجب المسلمين نحو دعوتهم ونشر دينهم ، وماذا يكون موقفهم أمام معارضيهم وأعدائهم ، في هذا الموضوع كتبت أنا وزميل لي بحثا تاما كاملا في مشروعية القتال سيطبع قريبا إن شاء اللّه.
والخلاصة أن علينا نشر الدعوة لأنها دعوة عامة شاملة صالحة لكل زمان ومكان وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ .. [سورة الأنعام آية 19] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [سورة الأعراف آية 158].
والذي ندعوه إن قبل الإسلام فقد كفى اللّه المؤمنين القتال ، وإن حاربنا ووقف في طريقنا وكمّم أفواه دعاتنا لا سيما إن كان من مشركي العرب الذين بالغوا في عداوة الإسلام حاربناه ، ودعوتنا إلى الإسلام أولا تكون بالحكمة والموعظة الحسنة.
لهذا لا نعجب إن رأينا آيات في القرآن تحثنا على الدعوة إلى الإسلام بالحسنى وآيات تأمرنا بالقتال وتحث عليه فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .. [التوبة 5].
المعنى :
ادع إلى سبيل ربك ، وانشر دينه بالحكمة والموعظة الحسنة ، فإن رأيت ممن تخاطبه إعراضا وشكا فيما دعوته إليه أو جحدا وإنكارا فجادلهم بالتي هي أحسن واعلم بأن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله فيجازيه على عمله ، ولا شيء عليك أيها الداعي ، فإن تحرجت المسألة وانتهت إلى جدال بالعنف والشدة والقتال على أنهم هم البادئون لا أنتم أيها المسلمون ، فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم على الأذى في أول الأمر لهو خير للصابرين.
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالطريقة التي هي أحسن من أختها عملا بقوله تعالى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت 34].
وأهل الكتاب منهم المعتدلون في آرائهم ومعتقداتهم البعيدون عن الشرك وإثبات الولد والتثليث ، وهؤلاء يؤمنون باللّه وبكتابهم ونبيهم وباليوم الآخر فليس بيننا وبينهم إلا الإيمان بمحمد مع عيسى أو موسى ، وأظن أن هؤلاء بعد توفيق اللّه لهم وشرح صدورهم للإسلام لا يحتاجون إلا إلى نقاش بسيط وجدال بالتي هي أحسن.(3/2)
ج 3 ، ص : 3
ومن أهل الكتاب قوم خلطوا بين التوحيد والتثليث ، وحرفوا في الكتب وغيروا ، ونسبوا للّه ولدا أو شريكا وهؤلاء قد ضلوا السبيل ، وعموا عن الطريق ، ومع هذا فيأمرنا الدين بدعوتهم بالتي هي أحسن ، لأن الإسلام يحترم حرية الرأى والعقيدة ويطلب من الناس أن يعاملوه بها ، وهو بدوره يعامل الناس بها.
نعم إذا سلك أهل الكتاب طريقا معوجا بأن نقضوا العهود. وألّبوا الناس ضد الإسلام ، ووقفوا في سبيل نشر دعوته بالقوة ، ومنعوا دعاته بالعنف والشدة فلم يسلكوا في رد الإسلام الحجة والبرهان بل سلكوا سبيل القوة والبطش ، أليس هؤلاء قد ظلموا وتجاوزوا الحد المعقول ؟ أمن العدل والكرامة أن يقف الإسلام منهم موقف الخزي والذل ، ويطأطئ رأسه احتراما لظلمهم وعنفهم ؟ كلا وألف كلا! فلن يقف الإسلام موقف المتفرج ممن يهدم بيته ويقض مضجعه - وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين ورجاله يبغون إحدى الحسنين - بل يقابل الشدة بمثلها ويمنع الظلم بالقتال.
وانظر إلى تأديب القرآن وإرشاده لنا بأن نقول عند الجدال بالحسنى : نحن يا أهل الكتاب آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ، وآمنا بأنبيائكم ورسلكم فنحن قوم لم نفرق بين نبي ونبي ، ولم نؤمن ببعض الكتب دون بعض ، على أن الكل يؤمن باللّه الأحد الفرد الصمد ، ونحن له مسلمون ومنقادون فما المانع أن تكونوا كذلك ؟ وتؤمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم على أنه خاتم الأنبياء ، ورسالته ناسخة لكل الرسالات ، فالدستور الجديد ينسخ العمل بالقديم. وقد بشر بالقرآن وبمحمد في كتبكم ، ومثل ذلك الإنزال الذي أنزلناه على موسى وعيسى أنزلنا إليك يا محمد الكتاب. أى : القرآن ، فليس من العدل أن نؤمن ببعض الكتب ونكفر ببعض ، فالذين آتيناهم الكتاب كموسى وعيسى وداود يؤمنون بالنبي محمد وبكتابه بل وبشروا به وأمروكم بتصديقه إذا ظهر بعلاماته المعروفة عندهم.
ومن هؤلاء ، أى : أهل الكتاب المعاصرين من يؤمن به ويصدق لأنه آثر الباقية على الفانية ، ولم تغره الدنيا بزخارفها كأمثال عبد اللّه بن سلام ، وتميم الأنصارى وغيرهم كثير.
وما يجحد بآياتنا الظاهرة التي تدل على صدق رسولنا محمد إلا الكافرون ، وأنتم(3/3)
ج 3 ، ص : 4
يجب أن تكونوا بعيدين عن الكفر إذ أنتم من الموحدين الذين كنتم تستفتحون بهذا النبي العربي على الذين كفروا.
وها كم دليلا آخر على صدق محمد في رسالته ، ولعله أوضح مما مضى : يا أهل الكتاب ويا أتباع الأنبياء وأصحاب الكتاب. هذا النبي العربي وصفه عندكم أنه أمى ، ما كان يتلو كتابا ، ولا يخط بيمينه حرفا ، ولم يجلس إلى معلم ، ولم يستمع إلى مدرس ومع هذا فقد أتى بالقرآن المعجز في أسلوبه وعلومه ، وقصصه وأحكامه وتشريعه ، أليس في هذا دليل على صدقه ؟ ! على أنه إذا كان قارئا عالما ثم أتى بهذا القرآن المحكم ، ذلك الكتاب الكامل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ما كان يصح أن يرتاب في صدقه إلا المبطلون ، فإن جميع علماء الأرض لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ومعينا ، فكيف يرتاب إنسان في أن هذا القرآن نزل من عند اللّه على محمد ، وهو المعجزة الشاهدة على صدقه إلى الأبد ، ولا يشك في هذا إلا رجل غير محق في رأيه ، بل هو آيات بينات واضحات في صدور الذين أوتوا العلم والمعرفة ، ولذا ورد .. « هذه الامّة أناجيلهم في صدورهم » وبعد هذا ما يجحد بآيات ربك إلا الظالمون الذين يعرفون الحق ثم ينأون عنه حسدا من عند أنفسهم وبغيا.
وأنتم يا أهل الكتاب إذا جحدتم هذه الآية ، وكفرتم بتلك الرسالة المحمدية لزمكم إنكار الرسل والكفر بالكتب كلها. وكنتم ملحقين بالمشركين الظالمين ، وما يجحد بآياتنا بعد ذلك إلا الظالمون.
ذكر بعض الشبه والرد عليها [سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 الى 55]
وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54)
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)(3/4)
ج 3 ، ص : 5
المفردات :
شَهِيداً : يشهد بصدق. أَجَلٌ مُسَمًّى : معلوم محدد بَغْتَةً : فجأة يَغْشاهُمُ : يصيبهم.
المعنى :
وقالوا : لو لا أنزل على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم آيات من ربه ، تكون دليلا على صدقه ، ومعجزة بينة له تثبت أنه رسول من عند اللّه ، وكأنهم لم يكتفوا بالقرآن على أنه معجزة مع أنه أكبر شاهد على صدق الرسول كما مضى من قبل.
ومن الذي قال ذلك ؟ أهم مشركو مكة أم أهل الكتاب ؟ قال بعض العلماء : إنهم المشركون! وقال بعضهم : هم أهل الكتاب لأن الكلام معهم والرد عليهم.
وقد رد اللّه على من يطلب آية فأمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقول لهم : إنما الآيات التي تطلبونها عند اللّه وليس عندي شيء منها ، إنما وظيفتي الإنذار فقط ، ومن شاء فليؤمن(3/5)
ج 3 ، ص : 6
ومن شاء فليكفر ، طلبوا من النبي آيات كفلق البحر ، وانقلاب العصا حية إلى آخر ما مضى من الآيات التسع التي أنزلت على موسى ، وكالآيات التي أنزلت على عيسى من إحياء الموتى وإبراء المرضى إلى آخر ما عرفت ، فرد اللّه عليهم أيضا لافتا نظرهم إلى القرآن الذي هو المعجزة الباقية فقال :
أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ، وقد تحداهم ربك أن يأتوا بمثله أو بسورة منه وأن يتعاونوا في ذلك مجتمعين مع شهدائهم وأوليائهم فعجزوا عن هذا مع التحدي الشديد اللهجة ، وهم قوم عرب يؤلمهم جدا أن يهزموا ، أفلا يكفيهم هذا معجزة ؟ ولو أتاهم ربك بآيات كآيات موسى وعيسى لقالوا : سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون!! على أنهم قوم عرب نبغوا في صناعة البلاغة والبيان فيكونون أقدر الناس على فهم حقيقة الإعجاز فيه ، كسحرة فرعون بالنسبة إلى عصا موسى. لا يا قوم! إن في ذلك الكتاب لرحمة ، وأى رحمة أكثر من هذا ؟ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً وإنه لذكرى وأى ذكرى ؟
فهو الباقي ، وكل آية مادية تفنى ، وهل يكون غيره دليلا على صدق رسالة باقية إلى الأبد ؟ فهو الآية المستمرة الباقية على مر الدهور والسنين بخلاف ناقة صالح ، وعصا موسى ، وإبراء الأكمه من عيسى - عليهم جميعا الصلاة والسلام - نعم هو الكتاب الذي يتلى ، وهو الآية التي لا تنقضي عجائبها ، ولا تخلق جدتها ، بل كلما تقدم الزمن وتقدم العلم ظهرت أسرار الشريعة ، وحقائق القرآن واضحة جلية سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ .. [سورة فصلت آية 53].
هو رحمة وذكرى وعظة وعبرة ولكن لقوم يؤمنون.
قل لهم يا محمد : كفى اللّه شهيدا ، وكفاه بيني وبينكم حكما مقسطا يشهد بصدقى وهو العليم الخبير بخلقه ، ويعلم ما في السموات والأرض ، وأنا أدّعى أنى رسوله فلو كنت كاذبا لقطع منّى الوتين ، ولخسف بي وبداري الأرض ، وكنت من المهلكين ، وكيف يكون ذلك. وهو يرعاني ويكلؤنى بعين لا تنام ، ويحرسنى بيد لا ترام!! والذين آمنوا بالباطل ، وصدقوا بالتّرهات والأراجيف ، والذين كفروا باللّه ، أولئك جميعا هم الخاسرون ، أما الأولون فهم أهل الكتاب الذين لم يتبعوا الحق ، وأما الآخرون فهم المشركون الضالون.(3/6)
ج 3 ، ص : 7
ويستعجلونك بالعذاب الذي وعظتهم به ، وخوفتهم من عاقبته ، وسقت لهم القصص ليعتبروا بمن سبقهم ، ولو لا أجل معلوم ، ووقت محدود ، وأن لكل أجل كتابا ، وكل شيء عند ربك بمقدار. لو لا هذا كله لجاءهم العذاب عاجلا ، وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون ، وقد أتاهم ببدر وفي مشارف المدينة من قوم أخرجوا من ديارهم ، وأخذت أموالهم وحصروا في الشعب ثلاث سنين ذاقوا فيها الأمرّين.
يا عجبا لهم يستعجلونك بالعذاب ، وإن جهنم لمحيطة بهم ، يوم يغشاهم العذاب من كل جانب ، ويصب عليهم من فوقهم ، ومن تحت أرجلهم ، وما عهدوا نارا تأتى من فوق ومن أسفل ، ولكنها نار وقودها الناس والحجارة. ثم يقال لهم - تأنيبا وتوبيخا - ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون.
توجيهات إلهية للمسلمين [سورة العنكبوت (29) : الآيات 55 الى 64]
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64)(3/7)
ج 3 ، ص : 8
المفردات :
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لننزلنهم غُرَفاً الغرف : جمع غرفة ، وهي الحجرة وَكَأَيِّنْ أى : كم بمعنى كثير من الدواب سَخَّرَ : ذلل دَابَّةٍ : كل ما دب على وجه الأرض من الحيوان يقال له دابة يُؤْفَكُونَ يصرفون يَقْدِرُ لَهُ يضيق عليه ، أى : يقتر عليه رزقه لَهْوٌ اللهو : الاشتغال بما لا يعنى وما لا ينفع عن النافع المفيد ، وفي المصباح : اللهو الترويح عن النفس بما لا تقتضيه الحكمة ، واللعب : هو العبث الْحَيَوانُ : الحياة الدائمة الخالدة الجديرة باسم الحياة.
المعنى :
بعد ما وفي الحق - تبارك وتعالى - الكلام على المشركين وأهل الكتاب أخذ يوجه نصائح للمسلمين ، وهم في أشد الحاجة إليها ، وخاصة حينما جاهروا بالدعوة واشتد إيذاء الكفار لهم في مكة ، وهذه التوجيهات تهدف إلى خلق المؤمن الكامل الذي يبيع نفسه وماله ووطنه في سبيل إعلاء كلمة اللّه.
يا عبادي الذين آمنوا باللّه ورسوله إن أرضى واسعة فهاجروا فيها وفروا بدينكم من عنت المشركين أعداء اللّه وأعدائكم ، يا عبادي إن ضاق بكم موضع فإياى فتوجهوا لأن أرضى واسعة. وهذا تحبيب للمسلمين في الهجرة مع رسول اللّه ، وكانت واجبة قبل فتح مكة ثم بعدها لا هجرة ، وإنما المهاجر من هجر ما نهى اللّه عنه.(3/8)
ج 3 ، ص : 9
وفي هذه الأيام لا هجرة من بلد إلى بلد كما يهاجر سكان شمال أفريقيا إلى بلاد الحجاز خوفا من عنت الفرنسيين ، لا يا قوم ، اثبتوا في مكانكم وتجمعوا مع إخوانكم وشقوا لأنفسكم الطريق ، وتمسكوا بدينكم تفوزوا على أعدائكم. وإلا فسيكون مآل بلاد الإسلام إلى تسليمها للأعداء ، فالآية نزلت في الهجرة قبل الفتح لا في الهجرة مطلقا في كل وقت ومن أى بلد.
وها هي ذي المرغبات في الجهاد والهجرة في سبيل اللّه يسوقها اللّه فيقول :
كل نفس مهما كانت لا بد أن تذوق الموت ، وإذا لم يكن من الموت بد فمن العار أن تجعل الخوف من الموت سببا في الخضوع والذلة ، والمكث في دار الكفر حبا في الدنيا مع أنك مفارقها حتما وميت حتما ، وإلى اللّه وحده ترجع الأمور كلها ، فمن العقل أن تعمل لذلك اللقاء ، وتدخر ليوم الحساب ما تقدم من صالح الأعمال.
وها هم أولاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة أماكن عالية ولننزلنهم فيها غرفا تجرى من تحتها الأنهار ، وخالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ، ونعم أجر العاملين أجرهم. وهم الذين صبروا على الأذى ما دام المصير خيرا للدين والدعوة ، وعلى ربهم يتوكلون إن سافروا وهاجروا في سبيل اللّه أو قاموا بعمل نافع.
وإذا كان الأمر كله بيد اللّه ، وهو الرزاق ذو القوة المتين ، فاعلم أنه يرزق من ليس له حيلة حتى يعجب صاحب الحيلة ، ويرزق الطير يغدو خماصا ويروح بطانا نعم كم من دابة لا تحمل رزقها اللّه يرزقها من حيث لا تعلم ، ويرزقكم يا أيها المهاجرون وإن لم يكن معكم زاد ولا نفقة ، وهو السميع لكل قول ، العليم بكل فعل ، وهذا غرس لمبدأ التوكل على اللّه ، وقد كان ذلك كذلك فقد هاجر المسلمون إلى المدينة ثم فتح اللّه لهم الدنيا.
ومن الغريب لئن سألتهم من خلق السموات والأرض ، وما فيهما من عوالم لا يعلمها إلا خالقها ؟ ومن سخر الشمس والقمر تسخيرا يحير العقول في إدراك سره ونظامه ؟ ، فتسخير الشمس والقمر بهذا الوضع الذي ينشأ منه الليل والنهار ، والفصول السنوية من صيف وشتاء وربيع وخريف أدل على كمال القدرة وتمام العلم وحسن النظام من نفس خلق الشمس والقمر ، ولعل هذا هو السر في تعبير القرآن بسخر ، ولئن سألتهم عن هذا ليقولن اللّه فكيف تصرفون عن التوحيد إلى الإشراك ؟ ! كيف تقرون بأن اللّه خالق(3/9)
ج 3 ، ص : 10
هذا الكون ، ومدبر هذا الوجود ومنظمه ، ثم تشركون معه في الربوبية آلهة لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع ؟ !! واللّه سبحانه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويوسعه ، ويضيق الرزق على من يشاء ويقتر عليه سواء كان في بلده ووسط أهله وعشيرته أو هاجر إلى بلد ناء بعيد ، إن اللّه بكل شيء عليم.
ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به موات الأرض ، وعطاش الحيوان ؟
ليقولن اللّه! عجبا لهم فكيف يشركون معه غيره ؟ ! قل لهم : الحمد للّه قد لزمتكم الحجة ، وقد أقررتم بذلك. والحمد للّه على ما أنزل من مطر أحيا به الأرض بعد موتها ، الحمد للّه على كل حال.
بل أكثرهم لا يعقلون إدراك هذه الأسرار.
وما هذه الحياة الدنيا التي يتكالب عليها الناس إلا لهو ولعب ، فهي في حقارتها وسرعة زوالها وانقضائها ، وأنه لا خير فيها ولا دوام لها كاللهو واللعب ، وإن الدار الآخرة لهى الحياة الدائمة ، الحياة الكاملة التي لا زوال فيها ولا انقضاء ، لو كانوا يعلمون ما يبقى على ما يفنى ، وفي هذا أيضا تنفير من الدنيا وتحبيب في العمل الصالح.
وتربية سليمة لخلق المؤمن الكامل صاحب المثل العليا الذي يستحق من اللّه وصفه بالعبودية له.
بيان حال الكفار في الشدة والرخاء [سورة العنكبوت (29) : الآيات 65 الى 69]
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)(3/10)
ج 3 ، ص : 11
المفردات :
الْفُلْكِ : السفينة في البحر مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ : صادقين في نياتهم حَرَماً آمِناً : حرما ذا أمن وطمأنينة مَثْوىً : مأوى ومستقر يُتَخَطَّفُ الخطف : الأخذ بسرعة ، والمراد : يقتل بعضهم بعضا بسرعة ويسبى بعضهم بعضا أَظْلَمُ الظلم : وضع الشيء في غير موضعه.
المعنى :
هذه الحياة الدنيا التي هي لهو ولعب هي السبب في كفر هؤلاء وشركهم وذلك أنه إذا انقطع رجاؤهم من الدنيا بسبب من الأسباب كأن ركبوا في الفلك واضطرب البحر وعصفت الريح ، وتيقنوا الغرق ، إذا حصل هذا رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد ، ودعوا اللّه مخلصين له النية ، صادقين بحسب الظاهر في الدعاء ، وفي الحقيقة قلوبهم مشحونة بالشرك بدليل أنه إذا نجاهم إلى البر عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا وأشركوا فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ.
وكانت العاقبة أنهم كفروا باللّه ، وبما آتاهم من نعمه ، وبما حباهم من فضل ، لتكون عاقبتهم أيضا أنهم يتمتعون في الدنيا متاعا هم مهددون فيه بالفقر والمرض والموت ، وفي الآخرة سوف يعلمون عاقبة ذلك كله لأنهم سيجازون الجزاء الأوفى على أعمالهم.
عجبا لهؤلاء! يدعون اللّه مخلصين له الدين إذا كانوا في حال شديدة من الخوف والاضطراب ، وعندئذ يضلون عن الأصنام والأوثان ، فإذا أمنوا على أنفسهم وزال(3/11)
ج 3 ، ص : 12
الخطر عنهم يكفرون باللّه ويدعون الأوثان .. إن هذا لعجيب فإن حالهم متناقضة إذ دعاؤهم اللّه في الضراء دليل على أنهم يثقون أن النعمة ودفع الأذى منه وحده ، فما بالهم وقد عادوا إلى السراء ، وحلوا بالأوطان يكفرون بالرحمن .. ويعبدون الأوثان ؟ ! أعموا ولم يعلموا أن اللّه - سبحانه وتعالى - هو الذي جعل حرمهم مكان أمن وطمأنينة يأمن فيه الخائف ، ويسكن فيه المضطرب ، ويتخطف الناس من حوله بالسرقة والقتل ، والسلب والنهب.
أعموا ولم يعلموا أن صاحب الفضل في الشدائد الذي أنجاهم من المخاوف هو اللّه الذي حباهم بالنعمة ، وأسكنهم الحرم الأمين ؟ عجبا لهم! أبالباطل وما لا خير فيه بل ما فيه الضرر يؤمنون ، وبنعمة اللّه وفضله يكفرون ؟ ! ولما بين اللّه - سبحانه - الصراط المستقيم الموصل إلى الجنة ، والطريق المعوج الموصل إلى النار ، وحذر الناس من اتباعه ، وحثهم على سلوك طريق الحق والنور ، لما بين اللّه هذا وذاك أمر نبيه أن يقول للناس : لا أحد أظلم ممن افترى على اللّه الكذب.
وها أنذا أدعى أنى رسول اللّه وأن ما أنزل على هو كتاب اللّه ، وبعضكم كذبني ، ولا يخلو الحال من أمرين لا ثالث لهما : إما أننى كاذب في دعواي وقد افتريت على اللّه الكذب ، وإما أنكم قد كذبتم بالحق لما جاءكم من عنده ، لكنني معترف بالحساب والجزاء لمن كذب على اللّه فلا يعقل أن أقدم على ذلك إذا في القرآن الذي نزل على أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ والمتنبي الكاذب كافر بلا شك.
وأما أنتم فقد كذبتموني وكفرتم باللّه وباليوم الآخر ، وفي جهنم مثوى القوم الكافرين أمثالكم.
وأما أنتم أيها المؤمنون فلا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ، فإن الذين جاهدوا في سبيل اللّه بأموالهم وبأنفسهم أو بما قدروا عليه فاللّه هاديهم وموفقهم ، وحافظهم وراعيهم ، وهو معهم ، وناهيك بالمعية القدسية ، والقرب من الحضرة العلية ، وذلك فضل من اللّه يؤتيه من يشاء من عباده ، وربك ذو فضل عظيم.(3/12)
ج 3 ، ص : 13
سورة الروم
مكية ، وعدد آياتها ستون آية : وهي تدور حول إثبات أن الأمر للّه من قبل ومن بعد ، مع ذكر بعض صفات اللّه الواجبة له ، وتهديد المشركين ، وبيان أن الإسلام دين الفطرة ، وبيان طبيعة الإنسان ، ويلاحظ فيها ذكر الآيات الكونية الدالة على العلم والقدرة والوحدانية كثيرا.
من أخبار الغيب [سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)
المفردات :
الم فيها ما مر في أخواتها من حيث القراءة والمراد الرُّومُ : هي مملكة الرومان وعاصمتها القسطنطينية فِي أَدْنَى الْأَرْضِ المراد أقرب الأرض إلى العرب من جهة الشام مما يلي فارس فِي بِضْعِ سِنِينَ البضع : ما بين الثلاثة إلى التسع من السنين.(3/13)
ج 3 ، ص : 14
نزلت هذه الآيات عند ما غزا الفرس الرومان ، وغلبوهم في مشارف الشام مما يلي بلاد العرب ، ففرح بذلك مشركو العرب إذ قالوا : إن الفرس لا كتاب لهم مثلنا ، والرومان لهم كتاب مثلكم لأنهم من النصارى ، ولننتصرن عليكم كما انتصر الفرس فحلف أبو بكر بعد نزول الآية أن الرومان سيغلبون الفرس بعد هزيمتهم هذه ، فقالوا له : اجعل لنا موعدا ونراهنك على ذلك ، فضرب موعدا بسيطا ، ثم استشار النبي صلّى اللّه عليه وسلّم
فقال له : زد في الرهان ومد الأجل فإن البضع من ثلاث إلى تسع.
ففعل وانتصر الرومان في السنة التاسعة ، وأخذ أبو بكر الجعل ، وتصدق به.
المعنى :
الم. غلبت الفرس الروم ، ولكن الروم من بعد غلبهم وهزيمتهم سيغلبون الفرس ، وذلك في بضع سنين ، وتلك الأيام نداولها بين الناس ، وكانت هاتان الدولتان هما المسيطرتان على العالم في ذلك الوقت ، إحداهما في الشرق وهي فارس والأخرى في الغرب وهي الروم ، وقد كانتا تتنازعان على السيادة على بلاد لستام وغيرها.
وللّه الأمر كله من قبل هذا ومن بعده ، إذ الكل منه وإليه ، فلو كان الانتصار عن قوة ذاتية لما تخلف ، ولو كانت الهزيمة عن ضعف ذاتى لما تخلفت ، ولكنها إرادة اللّه وقدرته ، فاعتبروا يا أولى الأبصار! فلا تغرنكم قوتكم يا قريش ولا تستهينوا بقوة المسلمين على ضعفهم ، فلله الأمر من قبل ومن بعد ، وأما أنتم أيها المسلمون فثقوا باللّه واعتمدوا عليه ، وتوكلوا فهو نعم المولى ونعم النصير.
ويومئذ ينتصر الروم وهم أهل الكتاب على فارس الوثنية يفرح المؤمنون لتحقق وعد اللّه ، إنه ينصر من يشاء ، وهو العزيز يعز أولياءه بقوته وقدرته. الرحيم بخلقه لا يدع القوى يتحكم في الضعيف.
وعدهم اللّه وعدا ، ووعده لا يتخلف ، وكيف يتخلف ؟ وهو وعد من هو عالم بالأمور بواطنها وظواهرها ، قادر على كل شيء ، وله الأمر من قبل ومن بعد ، فثقوا أيها الناس بوعد اللّه فإنه متحقق لا محالة ، وما يحصل لكم أيها المسلمون فهو ابتلاء واختبار ، وتربية وتهذيب وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ [آل عمران 141](3/14)
ج 3 ، ص : 15
ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك ، وهم يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، أى :
يعلمون جانبا ظاهريا فقط في الدنيا ، وهو التمتع فيها مع الغرور بها وهم لا يعلمون بواطنها وأسرارها وحقيقتها ، على أنها طريق الآخرة ومزرعتها ، وأنها فانية غير باقية وبعضهم يفسر الآية على أن أكثر الناس لا يعلمون العلم النافع المفيد ، العلم المنجى من يوم القيامة وعذابه ، ولكنهم يعلمون علوم الدنيا الظاهرة ، العلوم المادية التي بها يستخدمون الدنيا وما فيها من عناصر.
وهم عن الآخرة وما فيها من أهوال الحساب والجزاء ، وما أعد فيها للصالحين والفاسقين من نعيم مقيم ، وعذاب مهين. هم عن هذا كله غافلون لم يعملوا لذلك أبدا.
لفت أنظار المشركين وتهديد لهم [سورة الروم (30) : الآيات 8 الى 16]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16)(3/15)
ج 3 ، ص : 16
المفردات :
وَأَثارُوا الْأَرْضَ : حرثوها وزرعوها السُّواى : مؤنث الأسوأ ، والمراد بها النار يُبْلِسُ أبلس الرجل : إذا سكت وانقطعت حجته ، ولا يؤمل أن تكون له حجة ، والمبلس : الساكت المنقطع في حجته ، اليائس من أن يهتدى إليها رَوْضَةٍ الروضة : الجنة ، وأصلها النبات حول الغدير من البقول يُحْبَرُونَ : ينعمون ويسرون ، من الحبور وهو السرور.
ما سبق يفيد أنهم ينكرون ما يجب للّه بإنكار تحقيق وعد اللّه. وأنهم ينكرون اليوم الآخر لأنهم عن الآخرة غافلون ، وفي هذا بيان أن ذلك الجهل والتقصير وعدم وضع الأمور في نصابها راجع لهم ، وإلا فأسباب العلم الصحيح والفكر السليم الموصل إلى الحقائق الواجبة للّه موجودة معهم ، بل هي في نفوسهم وما حولهم.
المعنى :
أعموا ولم يتفكروا في أنفسهم من الذي خلقها فسواها ؟ ومن الذي قدرها فهداها ؟
أو لم يتفكروا في أنفسهم ، وما انطوت عليه من دقائق ودلائل شاهدة على أن هذا الخلق خلق اللّه ، وأن هذا التركيب العجيب تركيب الخبير البصير القوى الحكيم ، إنك إن نظرت في نفسك إلى جهاز الإحساس لرأيت عجبا ، أو إلى جهاز الدورة الدموية ، وكيف تخرج من القلب ثم تتفرع إلى فروع فشعيرات تصل إلى جميع أجزاء الجسم ثم تتجمع ثانية في شعيرات ثم في فروع إلى القلب والرئة لتصهر وتخرج نقية نظيفة صالحة(3/16)
ج 3 ، ص : 17
للحياة ، وهكذا وهكذا من ذلك كثير كما يعرفه علماء الطب والتشريح ، ولقد صدق اللّه حيث يقول : وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [سورة الذاريات آية 21].
أو لم يتفكروا في أنفسهم ، وهي أقرب الأشياء إليهم فيعلموا أن خلق السموات والأرض وما فيها لا يمكن أن يكون إلا وفق حكمة الحكيم وتدبير الخبير البصير وأنه لا بد لهذا الكون من آخر ، وله نهاية ينتهى إليها للحساب والعقاب ، وأنه لا يعقل أبدا أن يخلق عبثا إلا لحكمة أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون 115].
وقيل : أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ معناه : أو لم يحدثوا التفكير في أنفسهم وفي قلوبهم الفارغة الخالية من الفكر والتفكير فيعلموا أنه ما خلق السموات والأرض إلا بالحق ، أى : ما خلقهما باطلا وعبثا بغير غرض صحيح ، وحكمة بالغة ، وإنما خلقهما خلقا مقرونا بالحق مصحوبا بالحكمة ، والتقدير إلى أجل مسمى عنده ، ينتهى إلى قيام الساعة.
وإن كثيرا من الناس بعد هذا كله بلقاء ربهم لكافرون وجاحدون.
ثم انتقل بعد هذا إلى الدلائل المحسوسة والشواهد الناطقة بهلاك أمثالهم ومن هم أشد منهم قوة وأكثر مالا ، وإثارة للأرض حتى عمروها لعلهم يعتبرون.
أو لم يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار من قبلهم من عاد وثمود وغيرهم من الأمم العاتية وقد كانوا أشد من كفار مكة قوة في المال والرجال! وكانوا أصحاب زرع وضرع ، وعمارة وبناء ، وقد عمروا الأرض أكثر مما عمرها العرب ، وقد جاءتهم رسلهم بالبينات ، وأمروهم بالمعروف ، ونهوهم عن المنكر ، فلما كذبوا رسلهم أخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر وما كان اللّه ليظلمهم ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
ثم كان عاقبة الذين أساءوا هي السوأى ، أى : أن ما تقدم من الهلاك كان عقابا لهم في الدنيا ، وأما في الآخرة فلهم السوأى ، أى : جهنم ، لأنهم كفروا برسلنا وكذبوا بآياتنا ، وكانوا بها يستهزئون ، فانظروا يا آل مكة إلى أنفسكم ، فأنتم أولى بالهلاك في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة فهل من مدكر ؟ ؟
ولا غرابة في ذلك فاللّه يبدئ الخلق ثم يعيده ، ثم إليه ترجعون ، واذكروا يوما ترجعون فيه إلى اللّه ، ويبلس فيه المجرمون ، من شدة الأهوال فيسكتون وتنقطع عنهم(3/17)
ج 3 ، ص : 18
الأخبار ، ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء يشفعون لهم أو يردون عنهم عذابا أو ألما ، وكانوا بشركائهم وآلهتهم كافرين في ذلك اليوم.
ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فمنهم شقي ، ومنهم سعيد.
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة من رياض الجنة فيها يحبرون ويسرون سرورا أبديّا بما يؤتون فيها من نعم مقيم ، ولهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، ولهم فيها ما يدعون فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [سورة السجدة آية 17] ورضوان اللّه أكبر.
وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب مقيمون ، كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ، وقيل لهم : ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون.
أوقات التسبيح والعبادة [سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 19]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
المفردات :
فَسُبْحانَ : علم على التسبيح ، وهو التنزيه ، وقيل : هو الصلاة تُمْسُونَ : تدخلون في المساء وهو انتشار الظلام وَعَشِيًّا العشى والعشية : من صلاة المغرب إلى العتمة ، وقيل : العشاء : آخر النهار عند ميل الشمس إلى المغيب ، وهو مأخوذ من عشا العين وهو نقص النور من الناظر ، وذلك هو وقت العصر.(3/18)
ج 3 ، ص : 19
لما بين اللّه - سبحانه - أن المقام الأعلى لمن آمن وعمل صالحا حيث قال : فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ قال : إذا علمتم ذلك فاعلموا أن الإيمان تنزيه بالجنان ، وتوحيد باللسان وعمل صالح يشمل جميع الأركان ، وكل هذا تنزيه وتقديس ، وتحميد وتسبيح ، فسبحان اللّه ، أى : فسبحوا اللّه تسبيحا ، علمه سبحان اللّه وهو بهذه المعاني إيمان وتوحيد وعمل - فإنه الموصل إلى الحبور ، والجالب للسرور في جنان الخلد والنعيم.
سبحوه حين تمسون ، وحين تصبحون ، وفي العشى وحين تظهرون ، عن ابن عباس - رضى اللّه عنه - : « الصلوات الخمس في القرآن » قيل له : أين ؟ فقال : « قال اللّه : فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ صلاة المغرب والعشاء وَحِينَ تُصْبِحُونَ صلاة الفجر وَعَشِيًّا صلاة العصر وَحِينَ تُظْهِرُونَ صلاة الظهر » ولعل تخصيص هذه الأوقات للعبادة إشارة إلى ما يجب عمله في تحصيل المعاش وجلب الرزق فالإسلام دين الجد والعمل لا دين الرهبانية والكسل.
وللّه الحمد - سبحانه وتعالى - في السموات والأرض ، نعم له الحمد من كل مخلوق ، وهذه الجملة معترضة بين الأوقات للإشارة إلى أن هذا التسبيح للّه في الصلاة إنما هو لأصحابه وألا يعود منه شيء على اللّه ، فعليهم أن يحمدوه حمدا يوازى نعماءه وهدايته.
واللّه - سبحانه وتعالى - يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، ويحيى الأرض بالنبات بعد موتها وجدبها ، ومثل ذلك الإخراج والانتقال من حال إلى حال مخالفة تخرجون وتبعثون من موت وفناء إلى حياة خاصة للثواب والعقاب.
وعلى هذا فالمراد بالتسبيح في الآية ما يعم الصلاة والتنزيه للّه عن صفات النقص ووصفه بصفات الكمال والجلال ، ولا شك أن الصلاة عماد ذلك الدين وعموده.
ولعل المناسبة بين هذه الآية والآية التي قبلها أن الإنسان في الصباح يخرج من الموت الأصغر وهو النوم إلى الحياة ، فكذلك تبعثون من الموت إلى الحياة الآخرة.
وعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « من سرّه أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل : فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (الآية).(3/19)
ج 3 ، ص : 20
بعض آيات اللّه الناطقة بقدرته ووحدانيته [سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 27]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)(3/20)
ج 3 ، ص : 21
المفردات :
تَنْتَشِرُونَ أى : منتشرون في الأرض تبتغون من فضل اللّه لِتَسْكُنُوا إِلَيْها يقال : سكن إليه إذا مال إليه مَوَدَّةً وَرَحْمَةً قال السدى : المودة والمحبة والرحمة :
الشفقة الْبَرْقَ : هو الشرارة الكهربائية التي تظهر في الجو وخاصة عند السحب ، وينشأ عنها الرعد قانِتُونَ : مخلصون في طاعته الْمَثَلُ الْأَعْلى : الصفة العليا.
وهذه بعض آيات اللّه الناطقة بوحدانية اللّه تعالى ، الشاهدة بربوبيته ، وأنه لا إله إلا هو ، وأنه لا يستحق العبادة والتقديس سواه ، وهذا كدليل على ما سبق من قوله فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ .. (الآية).
وقد ذكر اللّه - سبحانه وتعالى - في هذه الآيات بدء خلق الإنسان ، وعمارته للأرض وبقاءه فيها بخلق الذكر والأنثى ، ثم ذكر من مظاهر الكون السماء والأرض ، ثم ذكر من لوازم الإنسان اختلاف ألسنته وألوانه ، ومن عوارضه النوم والسعى في الرزق ، ثم ذكر من عوارض السماء والأرض البرق والمطر ، ومن لوازمهما قيامهما ، وإنا نرى أن اللّه - سبحانه وتعالى - ذكر لفظ (و من آياته) ست مرات جمع فيها بين بدء خلق الإنسان ونهايته خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ .. إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ.
المعنى :
ومن آياته الدالة على ربوبيته ووحدانيته أن خلقكم من تراب ، على معنى أنه خلق أبانا من تراب ، ثم خلق أبناءه من ماء مهين ، ولنا أن نتوسع ونقول : نحن جميعا مخلوقون من تراب : أما أبونا آدم فظاهر فيه ذلك بنص القرآن الكريم ، وأما ذريته فهم من ماء مهين ، وهذا الماء من الدم ، والدم من الغذاء. والغذاء يرجع في جملته إلى النبات ، والنبات من الأرض ، فتكون النتيجة أنا خلقنا من تراب ، فإذا عبر القرآن بخلق البشر من التراب فهذا هو الأصل والأساس ، وإن عبر بأنه خلقنا من ماء مهين فهذا هو الظاهر في ذرية آدم.
خلقكم من تراب يابس جاف لا حياة فيه ولا نمو ولا حركة ثم مع هذا كله إذا أنتم بشر أحياء عقلاء مفكرون تتصرفون في قوام معايشكم ، وعمارة أرضكم ، واستخدام(3/21)
ج 3 ، ص : 22
قوى الطبيعة لخدمتكم ، أليس اللّه القادر على هذا كله بقادر على أن يحيى الموتى ؟ بل إنه هو الواحد الأحد ، القادر المنفرد بالألوهية! وانظر إلى تصوير القرآن ذلك التصوير العجيب المستفاد من قوله : (ثم إذا ..) فإن كوننا بشرا يأتى بعد أطوار ذكرت في سورة المؤمنون وغيرها ولذا أتى بثم المفيدة للترتيب والمهلة فإنه بعد أطوار النطفة والعلقة إلى آخر ما مر فاجأ بالبشرية والانتشار.
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [سورة الروم آية 21].
نعم من آياته أنه خلق لكم من أنفسكم نساء أنتم وهن سواء في البشرية والآدمية وفي الطباع العامة والغرائز ، خلقهن اللّه بهذا الوصف لتسكنوا إليهن ، فإن النفس ميالة إلى ما يوافقها ويلائمها ويلتقى معها في الغرض العام ، وهذا معنى قوله : من أنفسكم.
والإنسان الذي يجتمع مع المرأة في الحلال يدرك بوضوح معنى السكنى إليها والميل لها ، والهدوء النفسي عند ما يزورها ، ومن هنا سمى المكان الذي يلتقى فيه الرجل بالمرأة سكنا ومسكنا لأن فيه تسكن النفس وتهدأ ، ويطمئن الرجل ، ويستريح من وعثاء الطريق ومشاق الحياة الكادحة ، وفي
الحديث « إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتّى تصبح » .
وجعل بينكم مودة ومحبة ، وصلة روحية قوية قد تفوق في غالب الأحيان صلتك بأقرب الناس إليك ، والشرع الشريف يلاحظ هذا جيدا في تقدير الميراث والنفقات والمخالطة الداخلية ، والإسرار إلى الزوجات بذات الصدور.
وجعل بينكم رحمة وشفقة ، وعطفا عميقا ، ليس مصدره الغريزة الجنسية والاتصال المادي ، بل مبعثه اختلاط الأرواح ، واتصال النفوس ، والاجتماع لغرض واحد وبناء عش الزوجية على أسس كريمة ، ودعائم قويمة هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [البقرة 187].
إن ذلك لآيات ناطقة بوحدانية اللّه ، وقدرته وحكمته. وأنه بصير ، ولكنها آيات لقوم يتفكرون ، لأن الفكر السليم يؤدى إلى الوقوف على تلك المعاني الحية في الحياة الزوجية ، هذه يا أخى الحياة الزوجية الصالحة التي يمتن اللّه بها على عباده ، أما ما يحدث من بعض الناس فهذا شيء لا يتحمله الدين ، وليس عنوانا على الإسلام.(3/22)
ج 3 ، ص : 23
ومن آياته خلق السموات والأرض : وما فيها من عوالم لا يعلمها إلا خالقها ، ومن آياته كذلك اختلاف ألسنتكم في اللغات واللهجات ، إذ كل سكان العالم من أصل واحد ، ومن أبناء رجل واحد وامرأة واحدة ، فمن الذي أوجد اختلاف اللغات واللهجات ؟ ! إنهم يقولون : إن اللغة في الإنسان نشأت لمحاكاته للأصوات التي يسمعها في بيئته ، وهذا معقول وجميل ، ولكن الذي أودع في الإنسان قوة المحاكاة ، وفي الطبيعة تلك الأصوات المختلفة أليس هو اللّه ؟ ! ومن هنا تدرك السر في اقتران اختلاف الألسنة والألوان بخلق السموات والأرض.
ومن آياته اختلاف الألوان والاتجاهات والمعاني النفسية والخلقية في كل نفس ، وهذا الاختلاف يكون بين أبناء الرجل الواحد الذين عاشوا في بيئة واحدة.
إن في ذلك كله لآيات للعالمين بأسرار الكون سمائه وأرضه علويه وسفليه ، ونظام الجماعات والأفراد والعلماء بعلوم الاجتماع واللغات والأخلاق ، وليس القرآن يخاطب بذلك الفلاسفة وحدهم. لا بل هو خطاب عام ، ولكن فهم تلك الآيات فهما واسعا دقيقا إنما هو للعلماء ، ولا يمنع أن غيرهم يدرك إدراكا متناسبا مع قواه ، ولعل هذا هو السر في قوله تعالى عند خلق الإنسان وخلق الزوجات .. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وهنا .. قال : للعالمين.
ومن آياته نومكم بالليل والنهار ، وابتغاؤكم من فضله ، وتصرفكم في طلب المعيشة بإرادته ، نعم من آياته النوم بالليل والنهار. ولا شك أن النوم موت أصغر ، وأن هذه الحساسية والتفكير والإدراك تختفى عند النوم الذي يلقى فيه الإنسان بنفسه بين أحضانه فيترك الدنيا ويستريح جزءا من الوقت يكون فيه أشبه بالميت ثم يعود ثانية إلى الحياة نشيطا مجدّا بلا كسل ولا ملل يبتغى من فضل اللّه ويسعى لجلب الرزق ، فهذه القوى العقلية ، وأجهزة الإدراك أين ذهبت حساسيتها ؟ وكيف تعود ؟ إن في ذلك لآيات شاهدة على الألوهية ولكن لقوم يسمعون القول فيتبعون أحسنه.
ومن آياته يريكم البرق الخاطف الذي يظهر بين السحب المتراكمة المحملة بالماء والذي يبهر الأنظار ، أى : يجعلكم ترون البرق خائفين من صواعقه وأمطاره الضارة طامعين في خيره وبره ، واللّه - سبحانه - هو الذي يعلم الضار والنافع ، وهو الذي(3/23)
ج 3 ، ص : 24
خلق الخلق على أوضاع : فمنهم من يخاف المطر ، ومنهم من يرجوه ، وسبحانه من أودع في كل قلب ما أشغله! وهو ينزل من السماء ماء فيحيى به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يستخدمون عقولهم في إدراك تلك الحقائق الكونية ، وكيف توجد النار وسط السحب ، والنباتات في الأرض القاحلة ، فلا غرابة أن توجد حياة بعد الموت والفناء.
ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ، فهو وحده الذي حكم بهذا ، وهو الذي رفع السماء وبسط الأرض وحملهما بقدرته ، وصيرهما بإرادته وأمره الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [سورة الرعد آية 2].
ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض ، أى : وأنتم فيها ، كما نقول : دعوته من أعلى البيت فنزل إلى .. تجيبون بلا مكث ولا انتظار كما يجيب الداعي الطائع من دعاه ، وليس هنا أطوار ولا انتقالات في الخروج من القبور ، بل بعث بسرعة وبلا مهلة ولذا لم يأت هنا بثم فقال : إذا أنتم تخرجون من قبوركم للبعث والحساب والثواب والعقاب.
وله من في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا ، كل له قانتون ومخلصون في طاعته إن طواعية وإن كرها ، فكيف بكم يا من تنكرون البعث وتستبعدونه ظنّا منكم أن الحياة بعد العدم ونفق الأجزاء ضرب من المحال إنه الذي يبدأ الخلق ثم بعد ذلك يعيده فهو أهون عليه بالنسبة لحكمنا العادي في الأمور العادية ، وأما بالنسبة للّه - سبحانه وتعالى - فكل شيء هين إذ قدرته شاملة ، وله - سبحانه وتعالى - كل شيء.
وله المثل الأعلى والصفة الكاملة التي تتلخص في وصفه بكل كمال ، وتنزهه عن كل نقص ، وفي أنه لا إله إلا هو في السموات ، والأرض ، وهو العزيز في ملكه لا يعجزه شيء من خلقه ، الحكيم في صنعه ، خلق فسوى وقدر فهدى ، سبحانه هو اللّه لا شريك له.
واللّه - سبحانه وتعالى - قد وصف السموات والأرض على ألسنة الخلق ، وبأقلام الحق ، وبنطق الآيات الكونية فيهما على أنه هو القادر الذي لا يعجزه شيء من بدء وإعادة ، القاهرة فوق عباده لا راد لقضائه ، الحكيم الذي يجرى كل شيء في الكون على مقتضى حكمته ، ووفق علمه وإرادته ، فحقّا : له المثل الأعلى في السموات والأرض.(3/24)
ج 3 ، ص : 25
المثل من أنفسكم [سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 29]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)
المفردات :
مَثَلًا : صفة غريبة تشبه المثل في الغرابة نُفَصِّلُ : نوضح ونبين.
بعد ما ظهرت الآيات الناطقة بالوحدانية والقدرة في الإنسان وأطواره ، وهذا الكون العجيب وأحواله ، وثبت بهذا أنه له المثل الأعلى والصفات الجلى التي منها الوحدانية وغيرها. ضرب مثلا لهؤلاء المشركين حيث أشركوا باللّه خلقا من خلقه كشف به سترهم ، وقوض به حجتهم ، وكان المثل في أقرب شيء لهم وهي نفوسهم.
المعنى :
ضرب اللّه لكم مثلا وانتزعه من أنفسكم التي هي أقرب شيء لكم : هل ترضون أن يكون لكم أيها المشركون شركاء فيما رزقناكم ؟ وهؤلاء الشركاء من المملوكين لكم كالعبيد والأرقاء مثلا ؟ هل لكم شركاء في أموالكم التي رزقكم اللّه من عبيدكم وإمائكم فتكونوا أنتم وهم في هذه الأموال سواء ، تهابون أن تستبدوا بتصرف دونهم لأنهم شركاء كما يهاب بعضكم بعضا وأنتم أحرار!(3/25)
ج 3 ، ص : 26
وإذا كان الإنسان يأبى أن يكون عبده - وقد يبيعه في وقت أو يعتقه - شريكا له في ماله - الذي هو في الواقع رزق سيق إليه من اللّه - وهو يخافه ولا يتصرف فيه إلا بأمره ، لكونه شريكا ، إذا كان الإنسان يأبى أن يشاركه عبده في هذا المال مع أن هذا العبد يستوي معه في البشرية والعبودية للّه فكيف يقول : إن للّه شريكا في تصريف هذا الكون الذي هو ملكه ، والشريك عبد دائم العبودية.
أظن أنه لا يقول بشركة الأصنام والأوثان للّه إنسان عاقل كامل القوى.
مثل ذلك التفصيل والبيان في إلزام الخصم الحجة قوية نفصل الآيات ونوضحها لقوم يحكمون عقولهم فيما يعرض لهم.
بل اتبع هؤلاء المشركون الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم ، اتبعوا أهواءهم ولم يحكموا عقولهم فليس لهم في هذا الشرك سند من عقل أو نقل أو حجة أو منطق فهم قوم ساروا على غير هدى ولا علم ولا بصيرة فلا أمل في رجوعهم إلى الحق وإلى الطريق المستقيم.
وإذا كان أمر هؤلاء الناس كذلك فمن يهدى من أضله اللّه ؟
لا أحد يقدر على هداية من خذله اللّه ولم يوفقه إلى الحق لأنه يستحق ذلك بطبعه ، وما له من ناصر ينصره حتى لا يخذل ، ويمنعه من عذاب اللّه حتى لا يعذب.
الإسلام دين الفطرة [سورة الروم (30) : الآيات 30 الى 32]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)(3/26)
ج 3 ، ص : 27
المفردات :
حَنِيفاً : مائلا عن جميع الأديان المحرفة فِطْرَتَ اللَّهِ : خلقة اللّه الْقَيِّمُ المستقيم على الطريق الحق مُنِيبِينَ إِلَيْهِ : مقبلين عليه شِيَعاً : جمع شيعة وهي الحزب والجماعة المتشيعة لإمامها حِزْبٍ الحزب : الجماعة المتحزبة المتجمعة حول رأى خاص.
المعنى :
إذا ظهر الحق ودلائله وبطل الشرك وأوهامه ، وقامت البراهين القوية على ذلك ، فأقم وجهك للدين حنيفا ، على معنى : قوم وجهك ، وعدل نفسك واتجه بذاتك كلها إلى الدين الحق الذي ظهرت آياته ، حالة كونك مائلا عن كل ما عداه ، وهذه العبارة - فأقم وجهك للدين حنيفا - تمثيل للإقبال على الدين ، والثبات عليه والاهتمام بأسبابه ، والأخذ بمبادئه ، فإن من اهتم بشيء عقد عزمه عليه ، وسدد وجهه إليه ، وقوم ذاته نحوه ، لا يميل عنه يمنة ويسرة ، وهذا أمر للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وهو كذلك أمر لأمته ، والزموا فطرة اللّه التي فطر الناس عليها ، والفطرة هي الخلقة والطبيعة التي خلق اللّه الناس عليها ، وقيل في تفسيرها : إنها الإسلام أو الدين الحق ، ولكن الرأى الأول أرجح لقوله تعالى .. لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ. فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بمعنى خالق. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ أى : خلقني ، والفطرة بمعنى الخلقة يراد بها أن اللّه خلق الخلق مستعدين بفطرتهم وطبيعتهم إلى التوحيد قابلين له غير جاحدين ولا منكرين ، فلو ترك الشخص وشأنه لما اختار غير الإسلام دينا له لأنه دين الفطرة والطبيعة ، دين جاء يخاطب العقل ، ويسير مع حاجات النفوس السليمة في كل أحكامه وضوابطه ، هذا هو دين الفطرة الأولى صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ، ومن غوى من الناس فإنما يكون بوسوسة الشيطان. وتأثير الإنسان الذي يعاشره في بيئته - وخاصة أبويه - ومن هنا نفهم
الحديث القائل : « كلّ مولود يولد على الفطرة ، وأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه »
وعليه
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم فيما يرويه عن ربه : « كلّ عبادي خلقت حنفاء فاجتالتهم الشّياطين عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بي غيرى »(3/27)
ج 3 ، ص : 28
أيها الناس : الزموا فطرة اللّه التي فطر الناس جميعا ، ولا تبدلوا ما خلقه اللّه فيكم من التوحيد ، ولا تغيروا فطرتكم الطبيعية باتباع وسوسة الشيطان وإغوائه ، وعودوا إلى دين الفطرة دين الإسلام ، وذلك هو الدين القيم ، المستقيم على الصراط المستقيم ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
والزموا فطرة اللّه حالة كونكم منيبين إليه مقبلين عليه ، تائبين وراجعين إلى أحكامه ، واتقوه ، وأقيموا الصلاة ، ولا تكونوا من المشركين ، الذين فارقوا دينهم الطبيعي ، وتركوا الإسلام وفرقوا دين الفطرة ، وجعلوه أديانا وآراء ، وكانوا شيعا ، وكل حزب بما لديهم فرحون ، يظنون أن باطلهم هو الحق لا شك فيه ، ولا مرية ، والحق ما أراده اللّه والخير فيما اختاره اللّه.
بيان طبيعة الناس مع توجيهات لهم [سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 39]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)(3/28)
ج 3 ، ص : 29
المفردات :
ضُرٌّ المراد : شدة وبلاء سُلْطاناً : حجة قوية تتسلط عليهم يَقْنَطُونَ القنوط : اليأس من رحمة اللّه يَبْسُطُ : يوسع يَقْدِرُ : يضيق وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً المراد : ما فعلتم من ربا وجئتم به الْمُضْعِفُونَ
مأخوذ من أضعف : إذا صار ذا قوة ويسار.
المعنى :
لما بين اللّه - سبحانه وتعالى - التوحيد بالآيات والأدلة وضرب الأمثال ، وأبان أن الإسلام والتوحيد دين الفطرة السليمة والطبيعة الكريمة بين هنا أن حالة الناس مع هذا عجب فهم في الشدة والضيق يلجئون للواحد القهار ، وفي الغنى والرخاء يتجهون لآلهتهم من أنصاب وأوثان.
إذا مس الناس - وبخاصة المشركين - ضر أو شدة من مرض أو قحط أو أزمة من الأزمات دعوا ربهم مقبلين عليه ، وضل عنهم ما كانوا يعبدون ، ثم إذا أذاقهم - ولو قليلا - بدل العذاب والضر رحمة ، إذا فريق منهم بربهم يشركون ، يا عجبا لكم أفي الشدة والضراء لا تتجهون إلا إلى اللّه ، وفي السراء والرخاء تنسون أنفسكم ، وتشركون بربكم ؟ ! واللّه إن أمركم لعجب!! يشركون ليكون إشراكهم كفرا بنعمة الإنقاذ من الضر والشدة ، وإذا كان الأمر كذلك فتمتعوا أيها المشركون فسوف تعلمون عاقبة ذلك ، وهذا الأمر في قوله : فَتَمَتَّعُوا للتهديد ، نظير قوله : اعملوا ما شئتم! بل أنزلنا عليهم سلطانا وحجة قوية على ما يفعلون ؟ ! فهو يتكلم بما كانوا يشركون ، وإسناد الكلام إلى السلطان كقولك : إن كتابك ينطق بكذا ، وهذه الآية تفيد تأكيد(3/29)
ج 3 ، ص : 30
التعجب من حالهم فإن الخطأ في شركهم ظاهر للعيان ، والضرر اللاحق بهم لا يختلف فيه اثنان ، فماذا بقي بعد ذلك ؟ أعندهم حجة ؟ بل أهم مأمورون بذلك حتى نلتمس لهم العذر ؟ لا هذا ولا ذاك : ولكنهم في ضلالتهم يعمهون.
هذه حال المشركين في الشدة والرخاء ، وهي حال ظاهر فيها الشرك وسوء الرأى كالشمس ، وهناك حال أخرى قد تكون أخف ، حال من يعبد اللّه على حرف فإن أصابه خير اطمأن به ورضى ، وإن أصابه شر أو سوء قنط به وسخط ، وإذا ذاق نعمة من اللّه ورحمة فرح بها وسر ، وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ « 1 » فهم لا يصبرون عليها صبرا قليلا لعل اللّه يحدث بعد ذلك أمرا ، ويهبهم من لدنه فرجا ، ولكنهم قوم يستعجلون ، لم تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم ، فهم يعبدون اللّه للدنيا والنعمة ، وأما المؤمن حقّا فصابر على البلاء راض بالقضاء ، شاكر ربه في السراء والضراء. وهو إن أعطى من الدنيا شكر ، وإن حرم صبر ..
أنسوا ولم يعلموا أن اللّه يبسط الرزق ويوسعه لمن يشاء بقطع النظر عن الكفر والمعصية والذنب ؟ ويقتر الرزق على من يشاء بصرف النظر عن الإيمان وصالح الأعمال ؟ فالدنيا عند اللّه لا تزن جناح بعوضة ، وليست محل ثواب أو عقاب ، فالمؤمن هو الراضي بقضاء اللّه الذي لا ييأس من رحمة اللّه ، فإنه لا ييأس من روح اللّه إلا القوم الكافرون ، ولا يبطر إن أصابته نعمة بل يقوم بالشكر والثناء لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [سورة الحديد آية 23] إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون.
وإذا كان الرزق من اللّه ، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويضيق على من يشاء ، فآت كل ذي حق حقه ، ولا تبخل بما آتاك اللّه ، وجعلك خليفة عليه ، أعط ذوى القربى حقهم والمسكين وابن السبيل ، ذلك خير في نفسه ، وأى خير ؟ للذين يريدون وجه اللّه ، ويقصدون بذلك رضاء اللّه لا يفعلون ذلك رياء وسمعة ، وأولئك هم المفلحون الذين سعدوا في الدنيا والآخرة.
يقول العلماء : إن الربا نوعان : ربا لا إثم فيه ، وربا فيه إثم كبير. أما الأول فهو من يهب أو يهدى قاصدا أن ترد هديته بزيادة له. والثاني الربا المحرم شرعا الذي يمحقه اللّه
___________
(1) - سورة النساء آية 79.(3/30)
ج 3 ، ص : 31
ويؤذن صاحبه بحرب لا هوادة فيها يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ « 1 » يقول اللّه :
وما آتيتم وفعلتم من هدية أو هبة بقصد الزيادة عند ردها - فسمى الهدية والهبة ربا لأن الزيادة هي المطلوبة له ، والربا هو الزيادة - ليربو ويزيد في اجتلاب أموال الناس ، فلا يربو ولا يزيد عند اللّه ، ففي الحقيقة الذي حصلت له الزيادة هو الذي أعطيت له الهبة وأخذها لا من أعطى ليأخذ الزيادة ، إذ هو شخص ارتكب مكروها ، وهذا أدب قرآنى عادل وتوجيه لنا سام.
وما آتيتم من زكاة ودفعتموها لوجه اللّه فأولئك هم المضعفون الذين يضاعف اللّه لهم الثواب ، وانظر يا أخى لمن يعطى قاصدا رد العطية وزيادة فكأنه مراب ، ومن يعطى صدقة لا يبغى بها سوى وجه اللّه ، فأولئك هم الذين يضاعف اللّه لهم الحسنات ، ويجازيهم عليها عشرا أو سبعمائة وقد تزيد.
من دلائل التوحيد ونتائج الأعمال [سورة الروم (30) : الآيات 40 الى 45]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْ ءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)
___________
(1) - سورة البقرة آية 276.(3/31)
ج 3 ، ص : 32
المفردات :
الْفَسادُ : الجدب ، وأخذ المال ظلما ، والمفسدة : ضد المصلحة يَرْجِعُونَ : يثوبون إلى رشدهم ويؤمنون بربهم لا مَرَدَّ لَهُ : لا راد له ولا نافع منه. يَصَّدَّعُونَ : يتفرقون يَمْهَدُونَ : يوطئون لأنهم جعلوا لها فراشا ومسكنا وقرارا.
المعنى :
اللّه الذي لا إله إلا هو ، ولا معبود بحق في الوجود سواه ، هو الذي خلقكم على ما ترون من كمال الخلقة ، وحسن الهيئة ، وشرف الوضع والنظام الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ خلقكم ثم رزقكم بكل أنواع الرزق حيث خلق لكم ما في الأرض جميعا ، ثم بعد ذلك يميتكم إذا انتهى أجلكم ، ثم يحييكم ليأخذ كلّ جزاءه وافيا ، ومن قدر على بدء الخلق فهو القادر على الإعادة ، هل من شركائكم من يستطيع أن يفعل شيئا من ذلك ؟ ! لا وأيم الحق إنها عاجزة عن دفع الذباب عن نفسها.
سبحانه وتنزيها له وتقديسا ، أى : نزهوه ولا تصفوه بالإشراك ، وتعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا ، فهو لا يجوز عليه شيء من ذلك.
لقد كانت الدنيا تموج بالخير ، وتسعد بالرخاء ، ويعمها الأمن والسعة لقلة الطمع في المال ، وعدم التكالب على الدنيا - ولعل قلة العدد لها مدخل في ذلك - وظل الإنسان يرفل في ثوب السعادة يعيش هنيئا حتى ظهر الحقد والحسد ، واستشرى الفساد والطمع ، وظهر في ألوان مختلفة ، وانتهى الأمر إلى الشرك باللّه ، واتخاذ الآلهة من دونه ، فبعث اللّه النبيين مبشرين ومنذرين ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه ، فوقع الصراع(3/32)
ج 3 ، ص : 33
بين الحق والباطل ، وكان لا بد من عقاب العصاة وإثابة المؤمنين ، فكان الهلاك والتدمير لبعض الأمم ، ونزعت البركة من الناس ، وعوقبوا بنقص في الأموال والأنفس والثمرات كي يتوبوا ويثوبوا إلى رشدهم ، وهذا معنى قوله تعالى : ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فكان القحط ونزع البركة وحلول بعض الآفات جزاء في الدنيا لأعمال الكفار والعصاة لعلهم يرجعون عماهم فيه ، فإن من الناس من لا يستقيم أمره إلا بإيقاع العذاب عليهم سريعا.
ثم أكد تسبب المعاصي لغضب اللّه ونكاله حيث كلفهم بأن يسيروا في الأرض لينظروا كيف أهلك اللّه الأمم السابقة ، وأذاقهم سوء العذاب لطغيانهم وسوء أعمالهم وكأن قوله - سبحانه وتعالى - : كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ كالبرهان على أن الشرك وحده لم يكن سبب التدمير وإيقاع العذاب ، بل قد يكون ما دونه مما تحقر من الأعمال هو سبب البلاء والعذاب ، نعم فالمسلمون الآن يؤمنون باللّه ، ولكنهم يأتون أعمالا هي سبب خذلانهم وضعفهم وإيقاع العذاب بهم ، فهل من مدكر ؟ ! لما نهى الكافر عما هو عليه ، أمر المؤمن بالواجب عليه فقال مخاطبا الرسول إيذانا بخطر المأمور به ، وعناية به :
إذا كان الأمر كذلك فأقم وجهك ، واجعل قصدك خالصا للدين القيم الذي هو الإسلام فهو دين الفطرة الإنسانية ، ولا تلتفت لغيره أبدا من قبل أن يأتى يوم الحساب والجزاء ، وهو يوم لا يرده راد ، ولا يتهيأ لأحد دفعه من دون اللّه. يومئذ يصدعون ويتفرقون ، فريق في الجنة وفريق في السعير ، وهذا شحذ للهمة ، وتحريض على انتهاز الفرصة من قبل هذا اليوم.
من كفر فعليه وزر كفره وعاقبته ، ومن عمل صالحا بعد الإيمان فلنفسه طلب الخير ، ولها مهد مقعدا كريما وهيأ لها مسكنا مناسبا يتناسب مع ما قدم من العمل.
كل ذلك ليجزي ربك الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إذ لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله ، ولكن بمحض فضل اللّه.
أما الكفار فإن ربك لا يحبهم ، وناهيك بعدم المحبة فهي عنوان العذاب الدائم والألم الشديد بما كانوا يكسبون ، وما ظلمهم اللّه ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ..(3/33)
ج 3 ، ص : 34
من آياته في الرياح والمطر [سورة الروم (30) : الآيات 46 الى 53]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (50)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)(3/34)
ج 3 ، ص : 35
المفردات :
مُبَشِّراتٍ : تبشر بالخيرجْرَمُوا
: فعلوا جرما وارتكبوا إثما فَتُثِيرُ :
تهيجه وتحركه فَيَبْسُطُهُ المراد : تنشره متصلا بعضه ببعض كِسَفاً : جمع كسفة وهي القطعة من الشيء لَمُبْلِسِينَ يقال : أبلس الرجل فهو مبلس : سكت فلم ينطق وقيل : أيس مُصْفَرًّا أى : رأوا الزرع مصفرّا لجفافه الرِّياحَ جمع ريح ، قال أبو عمر : كل ما كان بمعنى الرحمة فهو جمع ، وما كان بمعنى العذاب فهو مفرد ، وعليه
قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « اللّهمّ اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا »
فَتَرَى الْوَدْقَ الودق : هو المطر.
المعنى :
ومن آياته الكونية التي تنطق بأن صاحبها قادر عالم مريد ، له الأمر كله ، ويحيى ويميت : الرياح التي يرسلها اللّه تبشر بالخير والبركة ، كالمطر ، وتلقيح الشجر ، وتحريك السفن ، وصلاح الأجواء.
أرسل الرياح لتبشر ، وليذيقكم من رحمته بالمطر وغيره. ولتجرى الفلك على سطح الماء بأمره وإرادته ، فليست كل الرياح تجرى الفلك فقد تكون عكسية في اتجاهها ، ولتبتغوا من فضله بالتجارة وتلقيح النبات ، ودنو ثمره ، ولتشكروا اللّه على ما أنعم عليكم من نعمة الرياح ، وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها.
وتاللّه لقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم ، فجاءوهم بالبينات وحملوا لهم من الكتاب المنزل عليهم الآيات ، وأرشدهم إلى آيات من الكون واضحات ، فآمن بهم من آمن ، وكفر من كفر ، فانتقم ربك من الذين كفروا وارتكبوا جرما وإثما ، وكان ذلك حقا ، وأما من آمن واهتدى ، وصدق بالحسنى فكان على ربك نصر المؤمنين حقا ، فاعتبروا يا أولى الألباب ، واتعظوا بغيركم يا كفار مكة ، قبل أن يأتى يوم لا مرد له ، وما لكم من دون اللّه من ولى ولا نصير ، أليس إرسال الرسل بالآيات نعمة من أجل النعم وآية من أقوى الآيات ؟ وما ينزل على الرسل كالماء الذي يحيى الأرض بعد موتها ؟ أليس هذا كافيا لسوق آية إرسال الرسل وسط آيات المطر ؟ .(3/35)
ج 3 ، ص : 36
اللّه الذي يرسل الرياح فتثير سحابا ، وتهيجه وتحركه بعد أن كان ساكنا ، فتبثّه في السماء - والمراد تنشره متصلا بعضه ببعض - على أى نحو يشاؤه من قلة وكثرة ، وسرعة في المشي وإبطاء ، وتارة يجعله قطعا متفرقة ، فيصيب به على كل حال من يشاء من عباده ، وهو على كل شيء قدير ، أليس في هذا ما يدل على أن الأمور تجرى بميزان ، وأن خالقها قادر واحد مختار ؟
فإذا أصاب به من يشاء من عباده فاجأ استبشارهم نزوله ، وفرحوا به بخصبه ، وقد كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لآيسين من نزول المطر عليهم ساكنين من شدة الحزن الذي أصابهم من طول جدبهم وانتظارهم ، وفي قوله تعالى : مِنْ قَبْلِهِ بعد قوله : وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ توكيد لحكمة غالية ، ومعنى التوكيد هنا : (للدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك) انتهى من الكشاف. ومن هنا كان تكريرا لحكمة سامية ، وإشارة إلى معان عالية.
فانظروا نظر استبصار واستدلال لتستدلوا على أن من يقدر على ذلك قادر على إحياء الموتى.
انظروا إلى آثار رحمة اللّه إلى إحياء الأرض بعد موتها : بالخضرة والنبات ، إن ذلك لمحيى الموتى ، وهو على كل شيء قدير.
وتاللّه لئن أرسلنا ريحا مضرة ، فأضرت زرعهم ، فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون ويجحدون سالف نعمة اللّه عليهم ، فهم قوم قلوبهم خالية من الإيمان الكامل والاعتماد على اللّه حقا ، فهم إذا أصابهم الخير فرحوا واستبشروا ، وإن غاب عنهم القطر أبلسوا ويئسوا. وانقطعت أنفسهم حزنا وألما ، وإن أصابهم جدب أو هلاك لزرع كفروا بنعمة اللّه ، ونسوا ما أنعم عليهم به ، فبئس هؤلاء القوم المترددون بين الإفراط في الفرح والتفريط في الحزن والكمد.
ولو أنهم مؤمنون حقا لكانوا متوكلين على اللّه في كل حال ، إذا أعطاهم شكروا وعملوا الطيبات ، وإن حبس عنهم خيره لجئوا إلى الاستغفار والدعاء والصلاة حتى ينزل عليهم الفرج ، وما يئسوا من رحمة اللّه ، وإذا أصابهم بلاء في المال أو النفس والزرع صبروا ، وحمدوا ربهم على السراء والضراء ، أولئك هم المؤمنون حقا.(3/36)
ج 3 ، ص : 37
وأما أنت يا محمد فقد سقت الأدلة ، وضربت الأمثلة ، وهددت بالوعد والوعيد فلم يزدهم هذا إلا عنادا واستكبارا ، وجحدوا وفرارا ، فلا تحزن عليهم ولا تيأس فإنك لا تسمع الموتى الذين ألفوا تقليد الأسلاف حتى ماتت قلوبهم ، وعميت بصائرهم ، ولا تسمع أولئك الصم عن الحق الذين صموا آذانهم ، واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ، فهؤلاء الذين يصمون آذانهم عن الدعاء ، ويولون الأدبار كيف تسمعهم الحق ، وتهديهم إلى النور ؟ !! وما أنت بهادي العمى عن ضلالتهم بحال من الأحوال.
إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون. فأنت لا تسمع إلا من عنده استعداد للإيمان والإسلام ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة آية 2].
هكذا الإنسان .. وختام السورة [سورة الروم (30) : الآيات 54 الى 60]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58)
كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)(3/37)
ج 3 ، ص : 38
المفردات :
ضَعْفٍ الضعف : ما قبل القوة شَيْبَةً أى : شيبا وهو بياض الشعر الأسود ساعَةٍ : مدة من الزمن قليلة يُؤْفَكُونَ يقال : أفك الرجل : إذا صرف عن الصدق والخير وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أى : لا يطلب منهم الإعتاب.
وحقيقة أعتبته : أزلت عتبة فالإعتاب إزالة العتب بفعل ما يرضى ، يقال : استعتبته فأعتبنى ، أى : استرضيته فأرضانى مُبْطِلُونَ أى : متبعون الباطل والسحر وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ يقال : استخف فلان فلانا ، أي : استجهله حتى حمله على اتباعه في الغي.
المعنى :
وهذه الآية تتعلق بالإنسان ناطقة بإثبات القدرة والعلم والإرادة وغيرها من الصفات للّه - سبحانه وتعالى - فهذا الانتقال والتحول من حال إلى حال دليل على القدرة ، وآية على البعث الذي ينكره المشركون.
اللّه هو الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ، فالإنسان خلق من منى يمنى ، من ماء مهين ، من نطفة هي غاية في الضعف والصغر والقلة ، حتى أنها تحوى ملايين صالحة لتلقيح بويضة المرأة. والشخص منا يكون واحدا منها ، ثم يظل ينتقل الإنسان من ضعف : وهو في بطن أمه ثم وهو رضيع ، ثم وهو يدرج حتى يصير في دور المراهقة والشباب والرجولة فتظهر عليه علامات القوة والفتوة والشباب ، ثم جعل من بعد القوة ضعفا وشيبة. تلك مراحل لا بد من مرورها على الإنسان ويستحيل عليه أن يولد قويا ، كما أنه يستحيل عليه أن يكون في دور الشيخوخة قويا بل لا بد فيها من ضعف وشيبة.(3/38)
ج 3 ، ص : 39
وانظر إلى أساس الاستدلال ، وهو أن تلك الأدوار والأحوال التي في الإنسان والسحاب ليست طبيعية وإنما مردها إلى مشيئة اللّه يَخْلُقُ ما يَشاءُ [سورة المائدة آية 17] فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ [سورة الروم آية 48].
وهو العليم بأحوال الخلق المجازى عليها بالخير والشر ، القدير الذي يقدر على كل ذلك وها هو ذا يذكر بعض أحوال يوم القيامة فقال : ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون قائلين : إنهم ما لبثوا غير ساعة من الزمن ، وذلك أن الذي يوعد بالشر يستقل المدة المضروبة له ، على العكس : الموعود بالخير يستكثر المدة مهما قلت ، وهؤلاء الناس حينما عرفوا أنهم إلى النار صائرون ، وأنهم ضلوا السبيل بكفرهم حينما علموا هذا كله ساعة الموت استقلوا مدة لبثهم في القبر ، وقالوا : ما لبثنا غير ساعة كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [سورة النازعات آية 46] مثل ذلك الصرف عن الحق والبعث كانوا يصرفون في الدنيا عن الحق والصدق.
أما الذين أوتوا العلم من كتاب اللّه وأوتوا الإيمان به قالوا : لقد لبثنا إلى يوم البعث مستكثرين هذا المكث لأنهم متطلعون إلى نعيم الجنة.
وقالوا : إن كنتم منكرين البعث أيها المشركون فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون.
فيومئذ لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم ، واعتذارهم عن أعمالهم ، فلا يقبل منهم مثل قولهم : رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [المؤمنون 99 ، 100].
ولا هم يطلب منهم الإعتاب ، أى : إزالة العتب بالتوبة التي تزيل آثار الجريمة وكيف يقبل منهم عذر ، أو توبة ؟ ! ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولم يحصل تقصير من جانب الرسل في تبليغ الدعوة إلى اللّه ، فإن طلب الناس شيئا بعد تلك المعجزات والشواهد ، وتوضيح الرسالة من الأنبياء فذلك عناد ، ومن هان عليه تكذيب دليل لا يصعب عليه تكذيب الدلائل كلها كفرا وعنادا ، لئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا : إن أنتم أيها المدعون للرسالة إلا مبطلون تتبعون السحر والباطل.
وليس هذا لسبب معقول ، ولكن اللّه طبع على قلوب الكفار وختم عليها بالخاتم فلا يدخلها نور لأنهم مردوا على التكذيب والعناد ، وملئت عقولهم بالخرافات والضلالات(3/39)
ج 3 ، ص : 40
كما طبع اللّه على قلوبهم حتى لا يفهموا الآيات ، فكذلك يطبع على قلوب الذين لا يعلمون ، فهي عادة في الإنسان ليست غريبة منه ، فاصبر يا محمد إن وعد اللّه حق ، ولا يستفزنك الذين لا يوقنون بالآخرة حتى تترك ما أنت عليه بل اثبت واللّه ناصرك وحافظك من الناس.(3/40)
ج 3 ، ص : 41
سورة لقمان
وهي مكية كلها غير آيتين هما : وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ..
الآية 27 ، 28. وهي أربع وثلاثون آية ، هدفها إثبات البعث والوحدانية ، وصدق الرسل في رسالتهم.
القرآن وأثره [سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
وهذا بدء سورة كريمة جاء على وفق ما هو معروف غالبا في السور المكية التي تبدأ بأحرف هجائية ، حيث تكلمت عن القرآن وآياته ، وهو افتتاح شبيه بافتتاح سورة البقرة.
المعنى :
هذه الآيات - والإشارة إلى آيات السورة - آيات من الكتاب الحكيم الصنع البعيد الغاية ، المحكم الذي لا خلل فيه ولا عوج ، ولا تناقض فيه ولا اختلاف ، بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ « 1 » .
___________
(1) - سورة الزمر آية 23.(3/41)
ج 3 ، ص : 42
هو هدى ورحمة ومصدر خير وبركة للناس جميعا شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ [البقرة 185] أما كونه هدى ورحمة فيشهد بذلك الواقع الذي ينطق بأن الرسالة المحمدية كانت فاتحة خير للعالم ، ومبدأ عصر العلم والنور في مشارق الأرض ومغاربها.
ولكن المنتفعين بهدى القرآن والمغمورين برحمته هم قوم أحسنوا العمل والقصد وأخلصوا النية للّه ، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمعه ويراه.
ومن دلائل الإحسان وعلاماته إقامة الصلاة علاجا للنفس ، وإيتاء الزكاة علاجا للأمة ، وهم بالآخرة هم يوقنون يقينا لا شك فيه ولا مرية ، فهم يعملون لذلك اليوم ، ويستعدون له استعدادا كاملا ، وهذا من علامات الإنسان الحق ، لما له من الأثر الفعال في الفرد والمجتمع واليقين الكامل ، وخص الصلاة والزكاة واليقين بالآخرة بالذكر لفضل الاعتداد بها ، أولئك - والإشارة للتعظيم - الذين بلغوا شأوا في الكمال والسمو حتى أصبح يشار لهم بالإشارة الحسية التي للبعيد ، على هدى من ربهم ومتمكنون منه تمكن الراكب من المركوب ، وأولئك هم المفلحون وحدهم إذ لا فلاح إلا بالإحسان ، ولا خير إلا في اليقين والإيمان.
الكافرون بالقرآن والمؤمنون به [سورة لقمان (31) : الآيات 6 الى 9]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)(3/42)
ج 3 ، ص : 43
المفردات :
لَهْوَ الْحَدِيثِ اللهو : كل باطل ألهى عن الخير هُزُواً أى : مهزوءا بها وَقْراً : ثقلا وصمما.
نزلت الآية في النضر بن الحارث ، وكان يتجر إلى فارس فيشترى كتب الأعاجم فيحدث بها قريشا قائلا : إن كان محمد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وبهرام والأسرة من ملوك فارس. وأحدثكم عن ملوك الحيرة ، وكان بعض الناس يستملح حديثه ، ويترك استماع القرآن ، وقيل : كان يشترى المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول : أطعميه واسقيه وغنّيه ، ويقول :
هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه.
المعنى :
هذا هو القرآن الذي نزل هداية ورحمة ، وفيه آيات بينات وأسرار بالغات وحكم محكمات ، ومع هذا كله فمن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل اللّه ، ويتخذ آياته هزوا وسخرية.
لهو الحديث : هو السمر بالأساطير والأحاديث التي لا أصل لها ، والتحدث بالخرافات والخيال الكاذب ، وبفضول الكلام ، وبما لا ينفع في شيء أبدا ، وهو بالحديث كالغناء الخليع وبالوضع المغرى المثير للشباب المحرك للشيطان ، فليس هو من باب اللهو فقط بل الواقع أنه سم زعاف يسقى للناس من حيث لا يشعرون.
والموسيقى المهذبة ، المروحة للنفس ، المجددة للنشاط ، والغناء الرفيع في لفظه ومعناه ، والكامل في شكله وموضوعه لا يأباه الدين ما دام لا يشغل عن حق ، ولا يضيع منك فرضا ، والغناء الذي نسمعه من تلك النسوة بهذا الشكل المزرى حرام بلا شك ، ولا يفهمن أحد أن الدين جاف لا يتمشى مع العصر ، إذ غرضه أن نرتفع بغرائزنا ونفوسنا عن مستوى الحيوانية البهيمية ، وأن نغرس فينا معاني السمو الروحي بحيث نرضى أنفسنا مع العفة والقصد في المغريات المثيرات ، والعناية بما يحبب مكارم الأخلاق ، ويقوى الرجولة فينا ، ذكر القرطبي في تفسير هذه الآية (أن الغناء المعتاد(3/43)
ج 3 ، ص : 44
عند المشتهرين به الذي يحرك النفوس ، ويبعثها على الهوى والغزل ، والمجون الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن ، فهذا النوع إذا كان في شعر يشبّب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن ، وذكر الخمور والمحرمات لا يختلف في تحريمه .. فأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة.
وأما ما ابتدعه الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغانى بالآلات المطربة من الشبابات - قصبة الزمر - والطار والمعازف والأوتار فحرام).
وليت شعري ماذا كان رأيه لو امتد به الزمن حتى رأى وسمع ما يحدث عندنا في المسارح والملاهي وعلى الشاشة ؟ ! لقد حدثني أستاذ فاضل حضر رواية في انجلترا ثم حضر عرضها في القاهرة فوجد العجب إذ أنها في لندن تعرض باحتشام وبأدب مع إبراز معاني القوة والشجاعة والإقدام وحب الدفاع عن الوطن وخلق المثل العليا في الشعب.
أما إذ عرضت عندنا نزع منها ذلك كله ، وظهر فيها معاني الحب العنيف ، والدعوة إلى التحليل مع الخلاعة والفجور والرقص الداعر والدعوة السافرة إلى المجون ، واعتذارهم عن هذا كله : إرضاء رغبات الشعب! يا للّه من الشعب المسلم الذي تحلل من دينه واتبع نفسه وهواه.
وبعد فلنرجع إلى الآية التي نحن بصددها.
أولئك الذين يشترون لهو الحديث ، ويستبدلون بدل الخير والهدى الشر والإثم ليضلوا عن سبيل اللّه ، ويتخذوا آياته هزءا وسخرية ، لهم عذاب غاية في الإهانة.
وإذا تتلى عليه آيات اللّه تدعو إلى الفضيلة ، وتهدف إلى الخير ، وتعمل على خلق أمة عزيرة كاملة ولى مستكبرا ذاما لها لا يعبأ بها معرضا عنها.
وهو في هذا الوضع حيث لم يعمل بها تشبه حاله حال من لم يسمعها وهو سامع كأن في أذنيه ثقلا ولا وقر فيهما ولا ثقل.
ومن كان هذا وصفه فبشره بعذاب أليم موجع غاية الألم.
أما الذين انتفعوا بالقرآن فهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم جنات النعيم حالة كونهم خالدين فيها ، وعدهم اللّه هذا وعدا حقا ثابتا ، ومن أوفى بعهده من اللّه ؟ ! وهو العزيز الذي لا يعجزه شيء ، الحكيم في صنعه.(3/44)
ج 3 ، ص : 45
هذا خلق اللّه [سورة لقمان (31) : الآيات 10 الى 11]
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)
المفردات :
عَمَدٍ : جمع عماد ، وهو ما يعمد به ، أى : يسند ، يقال : عمدت الحائط إذا دعمته ، والدعامة ما يسند به الحائط إذا مال لتمنعه السقوط رَواسِيَ : ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ : تضطرب وَبَثَّ : نشر وفرق زَوْجٍ : صنف.
وهذا استئناف مسوق للاستشهاد على عزته تعالى وكمال قدرته ، وسيق تمهيدا لإثبات قواعد التوحيد وإبطال الشرك وتبكيت أهله.
المعنى :
اللّه - سبحانه وتعالى - خلق السموات بغير عمد مرئية لكم ، وأنتم ترونها كذلك ، وألقى في الأرض رواسى ثابتات ، من الجبال الشامخات التي هي كالأوتاد لئلا تميد بكم الأرض وتضطرب ، وبث فيها ونشر كل دابة تدب على الأرض من إنسان وحيوان وطير ، وأنزل من السماء ماء يسقى الزرع ، وينبت النبات فأنبت فيها من كل صنف من النبات كريم ذي لون بهيج ، ونفع كثير.(3/45)
ج 3 ، ص : 46
هذا خلق اللّه ظاهر متميز ، فأرونى ماذا خلق الذين من دونه من الأصنام والأوثان ؟ ! بل الظالمون في ضلال مبين ، (بل) هذا إضراب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالتورط في ضلال ليس بعده ضلال!!
قصة لقمان ووصيته لابنه [سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 19]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)(3/46)
ج 3 ، ص : 47
المفردات :
الْحِكْمَةَ : العلم النافع والعمل به ، والعقل والبصر بالأمور أَنِ اشْكُرْ الشكر للّه : طاعته فيما أمر به لَظُلْمٌ عَظِيمٌ الظلم : وضع الأمور في غير مواضعها وَهْناً الوهن : الضعف فِصالُهُ : ترك إرضاعه وهو الفطاعم أَنابَ :
رجع حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ المراد وزن حبة خردل ، وهي مثل في الصغر وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ الصعر : الميل ، وأصله داء يصيب البعير يلوى عنقه ، والمراد هنا لا تعرض عنهم تكبرا عليهم وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ القصد : التوسط ، والمراد توسط في المشي بين الإسراع والبطء وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أى : انقص منه ولا تتكلف رفع الصوت عن الحاجة.
وهذا كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان الشرك ، وأن الحكمة في اتباع الحق الذي جاءت به الرسل ، وجاء في صورة وصية حكيم لابنه أحب الناس إليه ليكون أدعى للامتثال.
المعنى :
وتاللّه لقد آتينا لقمان الحكمة والعقل ، ووهبناه الفهم للأمور ، والعمل بما يعلم وهديناه إلى المعرفة الصحيحة فكان لقمان حكيما ، ولعل هذا السر وهو أن ما دعا إليه لقمان هو من دواعي الحكمة ، ومقتضيات الفطرة السليمة ، ولم يكن عن طريق النبوة ، وهذا بناء على الصحيح من أن لقمان حكيم وليس نبيا.
ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر للّه على ما أعطاك من النعم وقم بطاعته وأدّ فرضه ، ومن يشكر اللّه فإنما يشكره لنفسه مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ومن كفر فعليه وزر كفره ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وليس شكرك بنافع(3/47)
ج 3 ، ص : 48
ربك ، ولا كفرك بضاره في شيء فإنه غنى عن الخلق ، محمود في السماء والأرض بلسان الحال أو بلسان المقال ، وإن لم يحمده أحد من الناس.
هذا هو لقمان الحكيم ، أما وصيته لابنه ، فاسمعها وتدبرها ، فإنها وصية حكيم لابنه ، والأب يحب الخير لابنه جدا ، فإذا كان عاقلا حكيما كانت وصيته أولى بالاتباع وكان في ذكرها تحريض وإلهاب لكل من يسمعها ليعمل بها ، ويتفانى في تحقيقها ، فماذا قال ؟ وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه : يا بنى لا تشرك باللّه أحدا غيره من خلقه إن الشرك لظلم عظيم ، وأى ظلم أكثر من هذا! إن الظلم وضع الأمور في غير نصابها ، ولا شك أن من يسوى بين الخلق والخالق وبين الصنم وبين اللّه - جل جلاله - لا شك أنه وضع الأمور في غير وضعها الصحيح فهو حرى بأن يوصف بالظلم ، هذا هو الوضع السليم بين الأب وبنيه يعظهم ويرشدهم ، ويجنبهم المهالك فإذا تغير الوضع وصار الأب والأم مدعاة للشرك ، ومصدرا للعصيان فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ولهذا جاءت الآية وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ .. معترضة بين وصية لقمان لتحديد موقف الابن من أبيه إذا دعاه إلى ما يضله ويرديه فإن الصحيح أن هذه الآية نزلت في سعد بن أبى وقاص وأمه حمنة بنت أبى سفيان كما مر في سورة العنكبوت وذكر القرطبي في تفسيره : أن طاعة الأبوين لا تراعى في ارتكاب كبيرة ولا ترك فريضة وتلزم طاعتهما في المباحات.
ووصينا الإنسان بوالديه أمه وأبيه ، وأمه أحق بالعطف من أبيه كما
ورد في الحديث « من أحقّ النّاس بالبرّ ؟ قال أمّك »
كررها ثلاثا ثم قال : ثم أبوك ، لأنها حملته حالة كونها تضعف ضعفا على ضعف ، وفصاله في عامين.
وصيناه أن اشكر لي ولوالديك ، فهما قد ربياك وأوجداك في الظاهر ، واللّه قد خلقك في الواقع ونفس الأمر ، وإن جاهداك على أن تشرك بي شيئا ليس لك به علم إذ لا وجود له ، فلا تطعهما فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وصاحبهما في الدنيا معروفا أى : عاملهما في أمور الدنيا بالحسنى ، وأما الدين فلله ، واتبع سبيل من أناب إلى وقلد الصالحين المقربين ، وخالط هذا الصنف من الناس فإن فيهم الخير كل الخير ، ثم إلى مرجعكم يوم القيامة ، فأخبركم بما كنتم تعملون ، وسأجازيكم عن هذا كله.(3/48)
ج 3 ، ص : 49
يا بنى إنها الفعلة السيئة أو الحسنة إن تك مثقال حبة من الخردل فتكن في جوف صخرة ، أو في أى ركن في السماء أو في الأرض يأت بها اللّه ، ويعطى عليها جزاءها كاملا ، فإنه يعلمها إذ هو يعلم الغيب والشهادة ، وهو اللطيف الخبير.
يا بنى أقم الصلاة فإنها عماد الدين ، وأمر بالمعروف. وانه عن المنكر ، أمره بما يقوم نفسه ، وهو الصلاة ، وما يقوم مجتمعه وبيئته وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فإن أصابك شيء في سبيل ذلك - ولا بد أن يأتيك ، على أن الإنسان في الدنيا غرض لسهام الأحداث والمنايا ، والسهام إذا انطلقت لا ترد - فاصبر على ما أصابك إن ذلك من مكارم الأخلاق ، وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة ، ولا تصعر خدك :
لا تمله عن الناس تهاونا بهم ، وتكبرا عليهم ، بل أقبل عليهم بوجهك مستبشرا منبسطا من غير كبر ولا علو ، ولا تمش في الأرض مرحا ، وتمشى بخيلاء فإن ذلك كله يغضب اللّه إنه لا يحب كل مختال فخور ، وتوسط في مشيك فلا تمش مشى المتماوتين ، ولا تثب وثب الشطار
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن »
. وأما قول عائشة - رضى عنها - : كان إذا مشى أسرع في مشيته ، فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوتين.
واغضض من صوتك ، أى : انقص بعضه واخفضه حتى لا يصل إلى الصوت الأجش الذي يؤذى الجليس ، ويقرع الصماخ بقوته ، وربما يخرق طبلة الأذن ، على أن ارتفاع الصوت دليل على شيء من الغرور والاعتداد وعدم الاكتراث بالغير ، والمراد التوسط حتى لا يجهر جهرا ممقوتا ، ولا يخافت مخافتة مرذولة ، وخير الأمور أوساطها.
فإن من يرتفع صوته في الحديث حيث لا مبرر أشبه بالحمار ، وصوته كالنهاق إن أنكر الأصوات وأوحشها لصوت الحمير ، وكانت العرب تجعل الحمار مثلا في الذم والغباوة ، وكذلك نهاقه.
انظر إلى لقمان الحكيم وهو يوصى ابنه بعدم الشرك باللّه ، الظاهر والخفى ، ويوصيه بأن اللّه عالم الغيب والشهادة وهو يعلم السر وأخفى وسيجازى على ذلك كله فراقبه وأحسن في العمل ، ثم يوصيه بإقامة الصلاة ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مهما تحمل في سبيل ذلك ، ثم يوصيه بالصبر على المكروه فإنه من عزم الأمور ، وعالج فيه أدواء النفس الإنسانية فقال له : لا تصعر خدك ولا تتكبر ، ولا تمش مرحا مختالا(3/49)
ج 3 ، ص : 50
فخورا ، وتوسط في مشيك وغض صوتك .. حقا إنه لحكيم ، وإنه المخلص لابنه جدا ، وهكذا وصايا الدين كلها في مصلحة الفرد والأمة والجماعة.
كيف تكفرون باللّه وهو صاحب النعم ؟ ! [سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 21]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21)
المفردات :
سَخَّرَ : ذلل وَأَسْبَغَ : أكمل وأتم يُجادِلُ : يخاصم بِغَيْرِ عِلْمٍ : بغير حجة.
وهذا رجوع إلى ما مضى قبل قصة لقمان من خطاب المشركين ، وتوبيخ لهم على إصرارهم على ما هم عليه مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد.
المعنى :
ألم تروا أيها الناس دلائل التوحيد الناطقة بوحدانية اللّه - سبحانه - في كل شيء فهو الذي سخر لكم ما في السموات وما في الأرض ، وذلل لكم كل شيء ، وخلق لكم ما في هذا الكون ، وآية ذلك ما نرى من استخدام قوى الطبيعة وتسخير الماء والهواء والبخار والمعادن والذرات لمصلحتك أيها الإنسان ، وهو الذي أسبع عليكم نعمه وأتمها(3/50)
ج 3 ، ص : 51
ظاهرة وباطنة ، ونعم اللّه لا تعد ولا تحصى ، ومنها الظاهرة والمعروفة وكثير منها لا يعلم ، وقد يكشف عنها العلم في يوم من الأيام.
ومع هذا كله فمن الناس من يجادل في اللّه ويخاصم في شأنه بغير علم ولا حجة ولا هدى من رسول أو نبي ، ولا كتاب أنزله اللّه عليه ينير له الطريق الحق ، وإنما مصدر هذا الخصام ، ومبعث هذا الجدل المؤدى إلى الشرك باللّه هو التقليد الأعمى واتباع الهوى والشيطان.
وإذا قيل لهم : اتبعوا ما أنزل اللّه على رسوله بالهدى ودين الحق قالوا : بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا! أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ؟ أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ؟
المؤمن والكافر [سورة لقمان (31) : الآيات 22 الى 24]
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24)
المفردات :
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ : يخلص عبادته إليه مُحْسِنٌ الإحسان :
الإتقان نَضْطَرُّهُمْ : نلجئهم ونسوقهم.(3/51)
ج 3 ، ص : 52
المعنى :
وهذان فريقان : فريق في السعير ، وفريق أسلم وجهه إلى اللّه ، وأخلص عبادته وقصده ووجهه إليه ، وعبد اللّه لم يشرك به شيئا ، وهو محسن في عمله ، يراقب ربه مراقبة من يراه ويشاهده ، فإن لم يكن يراه فإن اللّه يراه ويعلم ما يخفيه صدره ، وهذا هو الإحسان كما نطق بذلك
الحديث « الإحسان : أن تعبد اللّه كأنّك تراه فإن لّم تكن تراه فإنّه يراك » .
ومن يسلم وجهه إلى اللّه بهذا الشكل فقد استمسك بالعروة الوثقى ، وتعلق بأوثق ما يتعلق به ، وهو تمثيل للمتوكل على اللّه المشتغل بالطاعة بمن أراد أن يرتقى إلى شاهق جبل فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلى منه ، وإلى اللّه عاقبة الأمور فيجازى كلا على عمله خير جزاء.
وفريق آخر كفر فلا يحزنك كفره فإنما عليك البلاغ ، وعلينا الحساب ، وإلى اللّه المرجع والمآب ، فسينبئهم بما عملوا ويجازيهم على ما اجترحوا ، إن اللّه عليم بذات الصدور ، هؤلاء نمتعهم في الدنيا زمنا قليلا لأنها لا تزن عند اللّه جناح بعوضة ثم نضطرهم إلى عذاب جهنم ، وبئس القرار.
اللّه هو الخالق وما دونه هو الباطل [سورة لقمان (31) : الآيات 25 الى 32]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)(3/52)
ج 3 ، ص : 53
المفردات :
يُولِجُ : يدخل الليل في زمن النهار أَجَلٍ مُسَمًّى أى : معلوم مقدر الْفُلْكَ : السفن صَبَّارٍ : كثير الصبر كَالظُّلَلِ : جمع ظلة ، وهي الجبال التي تظل من تحتها مُقْتَصِدٌ : متوسط خَتَّارٍ الختر : أسوأ الغدر كَفُورٍ جاحد لنعم اللّه كافر به.
المعنى :
اللّه - سبحانه وتعالى - خلق السموات بغير عمد ترونها وأسبغ نعمه الظاهرة والباطنة على الناس جميعا ، وهنا بين أنهم معترفون بذلك غير منكرين له لوضوح الأمر بحيث اضطروا إلى الاعتراف به ، قل الحمد للّه على أن جعل دلائل التوحيد من الظهور(3/53)
ج 3 ، ص : 54
بحيث لا يكاد ينكرها المكابرون. بل أكثرهم لا يعلمون أن ذلك يلومهم وأنه حجة عليهم وأنهم لم ينتبهوا مع زيادة التنبيه.
للّه ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا ، وإذا كان الأمر كذلك تحقق أن الحمد كله للّه ، إن اللّه هو الغنى عن الكل ، والكل محتاج إليه ، محمود مشكور في السماء والأرض ، وإن لم يحمده أحد ، فهو غنى عن حمد الحامدين ، ولا يلحقه نقص بسبب كفر الكافرين.
إن في قدرته - تعالى - وعلمه عجائب لا تنفد وأسرار لا نهاية لها ، فلو أن ما في الأرض من شجرة أقلام يكتب بها ، والبحار مداد لها ، ما فنيت عجائب صنع اللّه ، وما نفدت كلمات اللّه ، والظاهر - واللّه أعلم - أن المراد بكلمات اللّه كلماته التكوينية - كن فيكون - وقال بعضهم : إن المراد بكلمات اللّه هو الكلام الأزلى القديم إذ هو الذي لا نهاية له ، والغرض من الآية الإعلام بكثرة معاني كلمات اللّه وأنها ليست متناهية وأنها لا تنفد بأكثر من هذه الأقلام والبحور ، أى : لا تنفد مطلقا ، إن اللّه عزيز لا يعجزه شيء حكيم لا يخرج شيء عن علمه وحكمته.
وهذه آيات قدرته وكمال علمه تبطل إنكارهم للبعث ، إذ ما خلقكم أيها المشركون ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، وقد علمتم أن كلمات اللّه التكوينية لا تنفد أبدا ، إنه سميع لما يقولون ، بصير بما يعملون.
وهاتان آيتان تدلان على أن اللّه سخر لكم السماء والأرض وما فيهما.
ألم تر أن اللّه يولج الليل في زمن النهار ؟ أى : يجعل الليل في الزمان الذي كان فيه النهار ، فمثلا إذا كان الليل اثنتي عشرة ساعة والنهار كذلك ثم زيد الليل ساعتين كانتا على حساب النهار فيصبح الليل أربع عشرة ساعة والنهار عشر ساعات ، وهذا معنى قوله : يولج الليل في النهار ، وكذلك يولج النهار في الليل ، وسخر الشمس والقمر كل يجرى إلى أجل مسمى وزمن معلوم ، إن اللّه بما تعملون خبير ، فليس بعد هذا وجه لمن يعبد الشمس أو القمر أو غير هما من الكواكب ويترك عبادة من سخر هما وذللهما لمنافع الناس ، وكذلك من يعبد الظلام والنور ويترك من أوجد الظلام والنور!! ذلك الذي وصف من عجائب قدرته وحكمته والذي تلى من الآيات السابقة بسبب أنه تعالى هو الحق الثابت الألوهية وأنه لا معبود بحق إلا هو ، وأن ما يدعون من دونه من أصنام(3/54)
ج 3 ، ص : 55
وأوثان هو الباطل الواضح البطلان ، وأن اللّه هو العلى الشأن الكبير السلطان المتعالي عن أن يشرك به.
ولقد ذكر اللّه - سبحانه وتعالى - آية سماوية تدل على أنه سخر لكم ما في السموات بقوله : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ..
[فاطر 13] وهنا ذكر آية أرضية تدل على أنه سخر لنا ما في الأرض جميعا بقوله : أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ.
والمعنى : ألم تر أيها المخاطب أن السفن تجرى في البحر وتمخر عبابه بإحسان اللّه ونعمته وفضله ورحمته ليريكم بعض آياته إن في ذلك كله لآيات لكل صبار في الشدة شكور في النعمة ، وإذا غشيهم موج مرتفع كالجبال الشاهقة التي تظل من تحتها - وهذا يكون عند اضطراب البحر - إذا غشيهم هذا الموج وعلاهم رجعوا إلى الفطرة ودعوا اللّه مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد في الكفر متأثر بما رأى ومنهم كفور جاحد ، وما يجحد بآياتنا الكونية والقرآنية إلا كل ختار كثير الغدر سيئه ، كفور بنعم اللّه. يا عجبا لك أيها الإنسان! هذه الآيات الناطقة الشاهدة بوحدانية اللّه ، وأنه القادر المريد ، وأنه لا معبود بحق إلا هو ، ثم مع هذا يكفر باللّه ، وإذا أصابه ضر أو وقع في شدة لجأ إلى اللّه وحده ، ثم إذا كشف عنه الضر إذا هم به يشركون.
وعظ وإرشاد [سورة لقمان (31) : الآيات 33 الى 34]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)(3/55)
ج 3 ، ص : 56
المفردات :
لا يَجْزِي : لا يغنى فيه أحد عن أحد فَلا تَغُرَّنَّكُمُ : فلا تخدعنكم الْغَرُورُ : هو الشيطان ، وقيل : هو تمكينهم مع المعصية من المغفرة.
لما ذكر - سبحانه - من أول السورة إلى هنا ما يثبت للّه الوحدانية ، وينفى عنه الشريك مع إثبات البعث في القيامة للحساب ، وهذا ما يغرس في النفوس التقوى والخوف والإيمان ، نادى الناس إلى التقوى والخوف من اللّه ومن حسابه في يوم القيامة ، وكان ختاما رائعا دقيقا لتلك السورة.
المعنى :
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم فسواكم وعدلكم ، وخلق لكم كل ما في السموات والأرض ، وسخر لكم هذا الكون ، اتقوه حق تقواه ، وخذوا لأنفسكم الوقاية من عذابه الشديد ، واخشوا يوما شديدا هوله ، لا يقضى فيه إنسان عن إنسان ولا يغنى فيه والد عن ولده ، ولا مولود هو نافع والده شيئا ، بل كل نفس بما كسبت رهينة ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، واعلموا أن وعد اللّه - البعث - حق لا شك فيه ولا مرية ، فلا تخدعنكم الدنيا بزخارفها وزينتها فتركنوا إليها وتتركوا العمل للآخرة ، والآخرة خير وأبقى ، ولا يغرنكم باللّه الغرور من الشيطان الذي أقسم ليغوينكم أجمعين ، فهو يعد الناس ويمنيهم ، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ، وقيل : الغرور هو الأمور الباطلة التي تخدع كثيرا من الناس كمن يغتر بشفاعة شافع أو انتسابه إلى أمة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مثلا ، وهذا داء قديم كان عند أهل الكتاب وعالجه القرآن بقوله : لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً « 1 » ، وعن سعيد بن جبير رضى اللّه عنه : الغرور باللّه : أن يتمادى الرجل في المعصية ويتمنى على اللّه المغفرة.
وفي قوله تعالى : لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ
عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسّه النار إلّا تحلّة القسم »
وقال : « من ابتلى بشيء من
___________
(1) - سورة النساء آية 123.(3/56)
ج 3 ، ص : 57
هذه البنات فأحسن إليهنّ كنّ له حجابا من النّار » :
قال القرطبي : المعنى في هذه الآية أنه لا يحمل والد ذنب ولده ، ولا مولود ذنب والده ولا يؤخذ أحدهما عن الآخر ، والمعنى بالأخبار التي مرت بك أن ثواب الصبر على الموت ، والإحسان إلى البنات يحجب العبد عن النار ، ويكون الولد سابقا له إلى الجنة.
هذا اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون لا يعلم وقته إلا اللّه ، فلا يطمعن أحد في معرفته أبدا إذ اللّه هو العالم به ، وهو يعلم كذلك متى ينزل الغيث ، الذي يحيى الأرض بعد موتها ، وكذلك يحيى اللّه الناس لهذا اليوم ، وهو الذي يعلم ما في الأرحام أذكر هو أم أنثى ؟ ومالك تطلب معرفة هذا اليوم ؟ وأنت لا تدرى أمس الأشياء بك وأقربها إليك وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.
إن اللّه عليم حقا خبير بعباده ، فهو يجازيهم ويحاسبهم على هذا الأساس.(3/57)
ج 3 ، ص : 58
سورة السجدة
وهي مكية غير ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة : وهي قول اللّه تعالى : أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ إلى قوله تعالى : وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ الآية 18 : 20 ، وعدد آياتها ثلاثون آية ،
روى البخاري عن ابن عباس وأبى هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة الم تَنْزِيلُ السجدة ، وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ
وروى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان لا ينام حتى يقرأ سورتي (السجدة وتبارك).
وهي تهدف إلى تقرير توحيد اللّه بما تعرض من صفحة الكون وما فيه من عجائب ونشأة الإنسان ، وما سيكون من مشاهد القيامة ، وما لقيه السابقون ، وكذلك تقرر صدق الرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلّم الموحى إليه بهذا القرآن لهداية البشر. وكذلك تقرر البعث والحساب بما يقطع حجتهم ويزيل شكهم.
القرآن من عند اللّه الذي خلق ودبر وأحسن كل شيء صنعا [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9)(3/58)
ج 3 ، ص : 59
المفردات :
لا رَيْبَ : لا شك افْتَراهُ : اختلقه أَيَّامٍ : جمع يوم. والعرب تطلقه على جزء من اليوم ، وقال النحاس : اليوم في اللغة بمعنى الوقت الْعَرْشِ : الملك وَاسْتَوى : بمعنى استولى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أى : أمر الدنيا ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ :
يرجع ويصعد نَسْلَهُ : ذريته ، وسميت الذرية نسلا لأنها تنسل منه ، أى : تنفصل مَهِينٍ أى : ضعيف ، وهو النطفة ثُمَّ سَوَّاهُ أى : سوى خلقة وأتمه.
المعنى :
وهذا افتتاح لسورة السجدة وهي سورة مكية كما قدمنا ، جاء افتتاحها على نسق السور المكية من الكلام على القرآن الكريم والرد على المشركين ، وذكر الآيات الكونية دليلا على وحدانية اللّه ، وعلى إمكان البعث ، وفي القرآن الكريم إثبات لرسالة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ودليل على صدقه ، وهذه السور المكية جاءت لفتح القلوب وتنوير البصائر وتكوين النفوس.(3/59)
ج 3 ، ص : 60
الم. تنزيل الكتاب الذي أنزل على محمد - حالة كونه لا ريب فيه ولا شك - من رب العالمين ، وانظر إلى قوله : الكتاب وما فيه من معنى الكمال في كل شيء حيث جعل أساسا لنفى الشك عنه ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ بل أيقولون افتراه ؟ ! واختلقه محمد من عنده ؟ ! وهذا استفهام إنكارى ، على معنى : لا يصح ولا يليق منهم هذا القول بعد قوله تعالى : تنزيل من رب العالمين وبعد ما ثبت عجزهم عن الإتيان بمثله مع التحدي السافر لهم (و بل هنا للإضراب والانتقال من عنصر في الكلام ، وبل الثانية للإضراب وإبطال الكلام السابق قبلها).
لا بل هو - أى : القرآن الحق الثابت فيه - من ربك جل شأنه وهو الحق لما فيه من حق وصدق ولما فيه من تفسير للكون ، وما فيه من ربط محكم بين الإنسان وهذا الكون وهو الحق لخلوه من ظلم في الدنيا أو في الآخرة ، أنزله عليك لتنذر قوما - ما أتاهم من نذير من قبلك - رجاء الهداية لهم والتوفيق ، وهل العرب لم يأتها نذير قبل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أو أتاهم نذير كبقية الأمم ؟ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [سورة فاطر آية 24] والتاريخ يؤيد أنه لم يكن بين إسماعيل ومحمد نبي.
أنذرتهم رجاء الهداية والتوفيق لهم ، وهذا أسلوب محكم دقيق حيث أثبت أن القرآن منزل من عند رب العالمين وأنه لا شك فيه ، وهذا يستلزم صدق النبي فيما يدعيه ثم أضرب عن ذلك لينكر قولهم : إنه مفترى على اللّه حيث ثبت عجزهم بعد التحدي ثم أضرب عن إنكارهم هذا إلى إثبات أنه الحق الثابت من عند اللّه.
وما رب العالمين الذي أنزل القرآن على رسوله ؟ هو اللّه الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ، عرفهم اللّه كمال قدرته ليسمعوا القرآن ويتأملوه ، وليعلموا أنه صادر من حكيم قادر عليهم ، بعباده خبير بصير ، اللّه الذي خلق السموات والأرض ، وأبدعهما ، وفطرهما لا على مثال سابق في ستة أيام اللّه أعلم بمقدارها ، أيام عند اللّه لا كأيام الدنيا المقدرة بدورة الأرض أمام الشمس ، هذه إشارة إلى التدبير والإحكام في الخلق.
ثم استوى على العرش استواء يليق بعظمته وجلاله ، وأنه لا يحده زمان ولا مكان ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، وهذا رأى من يفوض أمثال(3/60)
ج 3 ، ص : 61
هذا للّه وهم السلف ، أما الخلف فيقولون : استوى على ملكه يدبر أمره ، ويحكم سياسته ، فالاستواء كناية عن الاستيلاء والتدبير.
ما لكم من دونه من ولى يلي أموركم ، ويدفع عنكم عذابكم ، وليس لكم شفيع من دونه ينصركم إن جاءكم بأسنا ، فإن خذلكم اللّه الذي خلقكم لم يبق لكم ولى ولا نصير.
اللّه - سبحانه وتعالى - يدبر أمر الدنيا وينظم شئونها وأحوالها التي تقع فيها ، كل ذلك موافق لقضائه السابق ، وجار على وفق إرادته الأزلية التي قضت بهذا النظام الموجود على هذا الترتيب ، وكان تدبير الأمر ونظامه مبتدئا من السماء ومنتهيا إلى الأرض ، لأن التدبير يرجع إلى أمور سماوية ، ومنوط بأسباب علوية ، وهو ينتهى بآثاره إلى الأرض ويظهر عمليا على وجهها ، كل ذلك إلى أن تقوم الساعة ، ثم يعرج إليه ذلك الأمر ويصعد إليه ليحكم فيه بحكمه العدل يوم القيامة ، يوم مقداره ألف سنة مما تعدون ، وقد جاء في سورة « سأل » كان مقداره خمسين ألف سنة ، والمخلص من هذا أن يوم القيام فيه أيام فمنها ما مقداره خمسون ألف سنة ، ومنها ما مقداره ألف سنة ، وقيل : إن الزمن الواحد تارة يكون طويلا جدا وطورا يكون قصيرا عند صاحبه.
ويوم كظل الرمح قصر طوله دم الزق عنا واصطكاك المزاهر
وقيل : إن الملك يعرج إلى مكانه المحدد له في يوم مقدر بالنسبة لنا ألف سنة ، وهو عنده لحظة اللّه أعلم بها.
ذلكم اللّه خالق السماء والأرض ومدبر هذا الكون ، هو عالم الغيب والشهادة فاحذروا عقابه ، وانظروا في كتابه نظر تأمل وبحث لعلكم ترجعون وتثوبون إلى رشدكم ، وهو العزيز لا يعجزه شيء ، القاهر لا يقف دونه شيء ، ومع هذا فهو الرحيم بخلقه الرحمن بهم ، يدعوهم إلى الخير ، ويرسل لهم رسلا تهديهم إلى الحق ، وينزل عليهم كتبا فيها الشفاء والرحمة والنور والهداية للناس جميعا.
وهو اللّه لا إله إلا هو الذي أحسن كل شيء خلقه ، إذ هو مرتب وجار على ما اقتضته الحكمة ، وأوحته المصلحة ، فكل شيء في الكون له مكانه ونظامه وترتيبه حتى الكلب العقور والثعبان والحية ، فاللّه خلق هذا العالم كله ، على نظام دقيق ،(3/61)
ج 3 ، ص : 62
وترتيب محكم ، وما يعقل هذا إلا العالمون ، وإنك قد ترى نباتا أو حيوانا أو شيئا في هذا الكون وتخفى عليك حكمته ، ويعمى عنك سر وجوده ، تكشف لك الأيام عن أسرار وحكم لا يجليها لوقتها إلا خالقها العليم بها البصير بكنهها.
وهو الذي بدأ خلق الإنسان الأول من طين ثم سواه وأتمه ، ونفخ فيه من روحه فكان الإنسان مكونا من مادة هي طين لازب ثم من روح هي من الحق تبارك وتعالى.
وجعل لكم أيها الناس سمعا وبصرا وقلوبا وأفئدة لعلكم تنظرون فتدركوا الأسرار ، وتقفوا على الحكم والأخبار ، ولا شك أن هذه طرق العلم الصحيح والمعرفة الصادقة ، ولكن قليلا ما تعرفون فتشكرون ، بل ران على قلوبهم ، وختم على سمعهم وأبصارهم ، فهم لا يهتدون ، وقليلا ما يشكرون.
إنكارهم للبعث [سورة السجده (32) : الآيات 10 الى 14]
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)(3/62)
ج 3 ، ص : 63
المفردات :
ضَلَلْنا العرب تقول : ضل الماء في اللبن : إذا ذهب ، وتقول للشيء غلب عليه غيره حتى خفى فيه أثره : ضل ، وتقول لما غاب في الأرض : ضل ، والمراد هلكنا وصرنا ترابا يَتَوَفَّاكُمْ توفى العدد والشيء : إذا استوفاه وقبضه جميعا ، وقالوا :
توفاه اللّه ، أى : قبض روحه ، والتوفي والاستيفاء بمعنى واحد ، والمراد : يقبض أرواحهم حتى لا يبقى أحد منهم ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ مطأطئوها وخافضوها الْجِنَّةِ : الجن.
المعنى :
وقال المشركون : أإذا هلكنا وصرنا مختلطين بتراب الأرض لا نتميز منه كما يضل الماء في اللبن ، أو غبنا في الأرض بالدفن فيها أنبعث ؟ والمعنى : أنبعث إذا متنا وصرنا إلى هذا الحال ؟ هم بلقاء ربهم للحساب والجزاء كافرون ، فلم يكفروا بقدرة اللّه على الإعادة فقط بل هم كافرون بأصل الثواب والعقاب يوم القيامة ، قل لهم : يتوفاكم ملك الموت وهو عزرائيل على الصحيح الذي وكل إليه قبض أرواحكم فلن يفلت منه منكم أحد ، ولن يشغله شيء عن قبض أرواحكم إذ هو عمله المطلوب منه ثم إلى ربكم ترجعون ، تراه خاطبهم بتوفى ملك الموت لهم ثم بالرجوع إلى ربهم بعد ذلك مبعوثين ، وهذا معنى لقاء اللّه الذي كفروا به.
ذكر هذا المعنى في الأنعام بقوله : تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وفي سورة الزمر : بقوله :
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ، ولا منافاة لأن اللّه - تعالى - هو المتوفى حقيقة بخلق الموت وأمر الملائكة بنزع الروح ، ولملك الموت أعوان له ينزعون الروح من الأظافر إلى الحلقوم ثم يقبضها عزرائيل الذي هو ملك الموت فلا منافاة بين الآيات.
ولو ترى يا محمد إذ المجرمون ناكسو رءوسهم من الخزي والعار ساعة الحساب لرأيت أمرا فظيعا ولرأيتهم على أسوأ حال وأفظع وضع ، وهذا من باب التمني ، على معنى ليتك ترى يا محمد المجرمين وقت الحساب وهم في الغم والخزي والهم إلى الأذقان ، ليتك تراهم لتشمت بهم حيث تجرعت منهم الغصص ونالك من عداوتهم ما نالك ، يقول المجرمون ساعة الحساب : ربنا أبصرنا وسمعنا ، أبصرنا بصدق وعدك وسمعنا بصدق(3/63)
ج 3 ، ص : 64
رسلك ، فهم قد أبصروا حيث لا ينفعهم البصر أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا « 1 » يقولون ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا إلى الدنيا نعمل صالحا إنا موقنون ، فوعدك حق ولقاؤك صدق ، وقد علم اللّه أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ، وكيف يكون من هؤلاء إيمان وتوفيقهم إلى الطاعة ، ولو شئنا لآتينا كل نفس من النفوس هداها فتهتدى بالإيمان والطاعة باختيار منها وكسب لها ولكن لم نشأ توفيق الناس جميعا إلى ذلك ، بل حق القول منى وثبت وحم القضاء ونزل وهو لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ « 2 » وعند بعض العلماء في مثل هذه الآيات أن المعنى : ولو شئنا إلجاء الناس إلى الهدى لآتينا كل نفس هداها ، ولكن قضت حكمتنا أن يكون للجنة والنار قوم فتركناهم واختيارهم وحق القول منى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ، وتقول لهم الخزنة حين دخولهم النار : ذوقوا العذاب الأليم بسبب نسيانكم هذا اليوم وترككم الاستعداد له فذوقوا عذاب الخلد الدائم بما كنتم تعملون من الكفر والتكذيب.
وفي قوله تعالى : وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها « 3 » . وفي قوله : وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً « 4 » . مع قوله : فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا ، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ « 5 » . وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ « 6 » وقع خلاف بين العلماء هل العبد مجبور لا اختيار له نظرا إلى قوله : وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ « 7 » وأمثالها في القرآن ؟ أم هو مختار والاختيار مناط الثواب والعقاب نظرا إلى قوله : فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا ؟ والواقع أنه قد فرط أصحاب كل رأى.
والحق - واللّه أعلم - أن هناك فرقا بين فعل فعلته باختيارك الظاهري ، وبين فعل فعلته مضطرا كارتعاش اليد مثلا ، فالكل من اللّه ، واللّه صاحب التصريف ، ولكن في الأول يظهر الاختيار بصورة واضحة ، وصح تعليق الثواب والعقاب حينئذ بصاحبه ضرورة أنه لا يعرف عند الفعل مشيئة اللّه له ، وإن كان في الواقع هو مجبور على هذا الفعل الموافق للمشيئة فهو مجبور في صورة مختار.
___________
(1) - سورة الكهف آية 26.
(2) - سورة هود آية 119.
(3) - سورة السجدة آية 13.
(4) - سورة يونس آية 99.
(5) - سورة المزمل آية 19. [.....]
(6) - سورة الإنسان آية 30 سورة التكوير آية 29.
(7) - سورة الإنسان آية 29.(3/64)
ج 3 ، ص : 65
وهؤلاء هم المؤمنون وهذا هو جزاؤهم [سورة السجده (32) : الآيات 15 الى 22]
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19)
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
المفردات :
تَتَجافى التجافي : الابتعاد والارتفاع الْمَضاجِعِ : جمع مضجع ، وهو الموضع الذي يضجع فيه بفرش النوم قُرَّةِ أَعْيُنٍ القرة : اسم لما يحصل به القرير ، أى : الفرح والسرور فاسِقاً أى : كافرا.(3/65)
ج 3 ، ص : 66
المعنى :
لقد مضى ذكر الكفار الذين أجرموا وعملوا السيئات ، وما كان من حالهم يوم القيامة ، وهنا الكلام على المؤمنين الذين عملوا الصالحات :
إنما يؤمن بآياتنا القرآنية والكونية ، ويصدق برسلنا الذين إذا ذكروا بها ، وتليت عليهم بعض آياتها خروا ساجدين للّه بأعضائهم ، وسبحوا بحمد ربهم ، أى : جمعوا بين التسبيح والحمد حيث قالوا : سبحان اللّه وبحمده ، وسبحان ربي الأعلى ، وهم لا يستكبرون عن عبادته بقلوبهم ، فهي عامرة بالإيمان ، ترى في العبادة قرة عينها وراحة ضميرها إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر 6].
ترى أن اللّه - سبحانه - بين الدرجة العالية للمؤمن الذي إذا ذكر بالقرآن حصل منه سجود بالأعضاء ، وحمد وتنزيه باللسان ، وخضوع بالقلب والجنان ، كل ذلك بمجرد التذكير لا خوفا من عقاب ولا طمعا في ثواب.
ثم ذكر صنفا أقل وهم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ، ويبتعدون عن الفراش الوثير ، ويهرعون إلى الصلاة يدعون ربهم خوفا من عقابه ، وطمعا في ثوابه ، وهم ينفقون بعض ما رزقناهم في سبيل اللّه.
القيام بالليل والتهجد فيه لون من العبادة عال ، وتوفيق من اللّه كبير ، وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء ، وقد ورد فيه مع هذه الآيات آيات وأحاديث كثيرة كلها تهدف إلى بيان فضله ، وجزيل مثوبته.
ففي حديث معاذ بن جبل أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال له : « ألا أدلّك على أبواب الخير ؟
الصّوم جنّة ، والصّدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النّار ، وصلاة الرّجل في جوف اللّيل - قال : ثم تلا تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ حتى بلغ يَعْمَلُونَ أخرجه أبو داود.
وغير هذا الحديث كثير ، وروى أبو داود عن أنس بن مالك أن هذه الآية المراد بها التنفل بين المغرب والعشاء ، وقيل : هو صلاة الرجل العشاء والصبح في جماعة ، فإن هذا يستدعى انتظار الجماعة وهو مشغول بالذكر والتسبيح وصلاة النفل ، فقد وصل التجافي أول الليل وآخره ، هؤلاء الناس الذين قاموا بالليل أو انتظروا الجماعة في صلاة العشاء والصبح والناس نيام ، قد أخفوا أعمالهم ، وطهروا نفوسهم من الرياء(3/66)
ج 3 ، ص : 67
والنفاق ، لهم جزاء من جنس أعمالهم ، فلا تعلم نفس عظمة ما أخفى لهم وأعد في الجنات من النعيم المقيم ، والثواب الجزيل على سبيل التفصيل ، لما أخفوا أعمالهم أخفى اللّه ثوابها جزاء وفاقا ، قال الحسن البصري : أخفى قوم عملهم فأخفى اللّه لهم ما لم تر عين ولم يخطر على قلب بشر ، وعن أبى هريرة - رضى اللّه عنه - عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : قال اللّه تعالى : « أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر »
قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ.
أولئك الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ، وهم الذين يتقبل اللّه عنهم أحسن ما عملوا ، ويتجاوز عن سيئاتهم وعد اللّه الصدق الذين كانوا يوعدون ، ولا غرابة فالعبد يعمل سرا أسره إلى اللّه لم يعلم به الناس ، فأسر اللّه له يوم القيامة قرة أعين ، ولعل التقييد بقوله : « عن المضاجع » لمزيد مدحهم وبيان قوة إيمانهم ، لأن المضجع إذا كان مفروشا كان النوم فيه ألذ ، والنفس إليه أميل ، فإذا هجره المؤمن ، والحالة هذه لأجل الصلاة ، ومناجاة ربه ، كان ذلك أمدح له وأدل على كمال يقينه.
أفبعد ما بيناه من التفاوت بين المؤمن الذي ذكرت أوصافه ، والفاسق الكافر الذي ذكرت أحواله يكون المؤمن كالفاسق ؟ لا. إنهم لا يستوون أبدا في الدنيا والآخرة. أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فأولئك لهم جنات المأوى التي فيها المساكن والدور والغرف العالية التي أعدت وهيئت لتكون نزلا ، أى : للضيافة والكرم جزاء لهم بما كانوا يعملون ، وأما الذين فسقوا وخرجوا عن الطاعة فالنار هي المأوى لهم ، التي يأوون لها من شدة الموقف حتى إذا ما دخلوها وجدوها نارا تلظى ، فيحاولون الخروج ، وأنى لهم ذلك ؟ إذ كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وقيل لهم تأنيبا وتقريعا : ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون.
ولا غرابة في هذا فاللّه يقول : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ
[الجاثية 21] أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [سورة ص آية 28] أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ وليس من العدل في شيء أن يسوى بين المؤمن العامل والكافر الفاسق!!(3/67)
ج 3 ، ص : 68
ولنذيقنهم ، أى : الكفار والعصاة بعض العذاب الأدنى من مصائب الدنيا وآفاتها لعلهم يرجعون ويتنبهون ، لنذيقنهم بعض العذاب البسيط دون العذاب الكبير لعلهم يثوبون إلى رشدهم ، ويؤمنون بربهم ، وتلك سنة اللّه مع الأمم فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ [سورة الأعراف آية 133].
ولا غرابة في ذلك فلا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها عتوا واستكبارا وحسدا من عند نفسه! وهذا الصنف من الناس جزاؤه واجب ، وعقابه أمر محتم أوجبه العدل والحكم القسط ، إن ربك من المجرمين منتقم جبار ، سينتقم منهم أشد الانتقام.
مواعظ وعبر [سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 30]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)(3/68)
ج 3 ، ص : 69
المفردات :
مِرْيَةٍ : شك أَئِمَّةً : جمع إمام ، أى : زعماء وقادة في الدين أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ : أو لم يتبين لهم الْقُرُونِ : الأمم السابقة الْجُرُزِ : هي الأرض اليابسة التي جرز نباتها ، أى : قطع لرعى أو لعدم الماء فيها مع صلاحيتها للإنبات ، وقيل : رجل جروز إذا كان لا يبقى شيئا إلا أكله ، وناقة جروز ، أى : تأكل كل شيء تجده ، وسيف جروز ، أى : قاطع ماض مَتى هذَا الْفَتْحُ متى هذا الحكم ؟ إذ الفتح القضاء ، وقيل للحاكم : فاتح وفتاح لأن الأشياء تنفتح على يديه وتنفصل ، وعليه قوله تعالى : رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ.
وهذا رجوع إلى أحد الأصول الثلاثة ، وهي الرسالة والتوحيد وإثبات البعث التي تعنى بها السور المكية ، وإنما اختار موسى لكثرة الشبه بينه وبين النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ولكثرة أتباعه وقوة تأثيرهم في المجتمع العربي. وكل من المسيحيين واليهود يؤمنون به ، ومع هذا كثير من المواعظ والعبر.
المعنى :
ولقد آتينا موسى أخاك الكتاب فأوذى وكذّب وناله ما ناله من ألوان العذاب والسخرية ، فلا تكن في شك من أنه سيلقاك ما لقيه من التكذيب والأذى ، إذ تلك سنة الكون ونظام الناس. لا بد من اصطراع أهل الحق مع أهل الباطل ، وجعلنا الكتاب الذي أنزل على موسى هدى ونورا لبنى إسرائيل ، وجعلنا منهم أئمة وقادة ، وهم أنبياء بنى إسرائيل يهدون الناس بأمرنا ، ويدعونهم ويعظونهم ، وكانوا بآياتنا يوقنون ، كل ذلك لما صبروا على أحكام الدين وتكاليفه ، وصبروا على البلاء وعلى متاع الدنيا الزائل.(3/69)
ج 3 ، ص : 70
إن ربك هو يفصل بين المؤمنين والكافرين المنكرين للرسالة ، ويقضى بحكمه العدل فيجازى كلا على عمله ، ويعطيه ما يستحق من ثواب أو عقاب ، وقيل : المعنى : إن ربك يقضى بين الأنبياء وأممهم بالحق.
أغفلوا ولم يتبين لكفار مكة إهلاكنا كثيرا من الأمم السابقة - حالة كونهم يمشون في مساكنهم - فيعبتروا ويتعظوا بما حل بغيرهم ؟ ! إن في ذلك لآيات دالات على قدرة اللّه وحكمه العدل بين الكفار والمؤمنين ، أفلا يسمعون سماع قبول وتدبر بقلوبهم ؟
وأعموا ولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز التي لا نبات فيها بواسطة المطر أو الأنهار والسيول فنخرج بالماء زروعا وثمارا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ؟ ! ألم يروا إلى مثل مصر فإنها هبة النيل ، ولو لا أن اللّه ساقه إليها لبقيت مصر قطعة من الصحراء لا خير فيها ولا حياة ، وإن ربك على كل شيء قدير أفلا يبصرون ذلك فيعتبرون ويتعظون ؟ .
وكان المسلمون يقولون : غدا سيفتح اللّه علينا ، ويحكم بيننا بالحق وهو خير الفاصلين. فكان المشركون يقولون : متى هذا الفتح ؟ استبعادا وإنكارا واستهزاء بالنبي وصحبه ، قل لهم : يوم الفتح ، والقضاء الفصل هو يوم القيامة ، يومئذ لا ينفع الذين كفروا إيمانهم بأنهم على باطل ، وأنهم تركوا الصراط المستقيم واتبعوا سبل الشيطان فضلوا عن سواء السبل ، لا ينفعهم إيمانهم بأن النبي والقرآن حق ، ولا هم ينظرون بل يأخذون جزاءهم فورا.
فأعرض عنهم ، وانتظر ما يحل بهم من العذاب في الدنيا والآخرة ، إنهم منتظرون بك حادث موت أو قتل فيستريحون منك ، وما علموا أن اللّه عاصمك من الناس ومؤيدك ، حتى تؤدى رسالتك كاملة غير منقوصة.(3/70)
ج 3 ، ص : 71
سورة الأحزاب
مدنية في قول جميع العلماء ، وعدد آياتها سبعون آية.
نزلت هذه السورة تفضح المنافقين ، وتبين إيذاءهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وطعنهم فيه ، وفي نكاحه لأزواجه. وكيف كان موقف المنافقين والكفار في غزوة الأحزاب وغيرها ، مع بيان الآداب النبوية لبيت النبي ، وقصة زيد بن حارثة ، وغير ذلك من الآداب الإسلامية ، التي يحتاجها المجتمع الإسلامى الجديد في المدينة وخاصة بعد غزوة بدر الكبرى.
توجيهات وآداب [سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)(3/71)
ج 3 ، ص : 72
المفردات :
تُظاهِرُونَ الظهار : أن يقول الرجل لامرأته أنت على كظهر أمى قصدا إلى تحريمها أَدْعِياءَكُمْ : جمع دعى ، وهو من يدعى لغير أبيه على أنه ابنه وفي الواقع هو ابن غيره أَقْسَطُ : أعدل وأقوم وَمَوالِيكُمْ المراد : هم بنو عمومتكم جُناحٌ : ذنب.
المعنى :
يا أيها النبي دم على تقوى اللّه ، واجتهد في الازدياد منها فإنها باب لا يبلغ مداه ، وأنت أولى الناس بها ، ولا تطع الكافرين والمنافقين ، فلا تساعدهم على شيء ، ولا تقبل لهم رأيا ، ولا تجعل منهم صاحبا أو صديقا ، ولا تطمع فيهم بل احترس منهم فإنهم أعداء اللّه ورسوله ، إن اللّه كان عليما بحالك وحالهم ، حكيما في كل ما أمر به ..
روى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما هاجر إلى المدينة كان حريصا على إيمان اليهود فإنهم أهل كتاب ، ولهم رأى وكلام مسموع في هذا الباب وخاصة عند العرب ، وكان يعرف فيهم بعض المنافقين ، ويلين لهم الجانب ، ويعاملهم معاملة كريمة ، ويسمع لهم ويطيع أمرهم ، فنزلت.
روى أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبى جهل وأبا الأعور السلمى قدموا على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في الموادعة التي كانت بينه وبينهم. وقام معهم عبد اللّه بن أبىّ رأس المنافقين ، ومعتب بن قشير ، والجد بن قيس ، فقالوا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ارفض ذكر آلهتنا ، وقل : إنها تشفع وتنفع ، وندعك وربك ، فشق ذلك على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وعلى المؤمنين ، وهمّ عمر - وكان حاضرا - بقتلهم ، فنزلت
، وهذا نهى للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن إطاعة الكفار والمنافقين ، وأمر له بإعلان الحرب عليهم غير آبه بهم ولا ملتفت إليهم ، وفي هذا من الخطر ما فيه عند العقلاء.(3/72)
ج 3 ، ص : 73
لذلك جاء الإسلام يعلل ويعالج ، ولا يترك المحتاج يتخبط بل يرسم الطرق الحكيمة ، ويضع العلامات واللافتات حتى تصبح الصراط المستقيم ، فاستمع إلى القرآن وهو يغرس في نفوس المسلمين العزة والكرامة ، ويربيهم على أنهم لا يلتفتون إلى الكفار والمنافقين مهما كان شأنهم ، يقول : إن اللّه كان عليما بالمصلحة والصواب حكيما لا يأمر ولا ينهى إلا بداعي الحكمة الحكيمة. فنفذوا النهى ، وامتثلوا الأمر فإن هذا خير لكم ، والعلاج الثاني هو أن يتبع ومن معه ما يوحى إليه من لدن رب العالمين ، إنه بما تعملون خبير فيوحى إليكم بكل نافع إذ هو خبير بالعباد بصير ، والعلاج الثالث هو التوكل على اللّه حقا ، والاعتماد على جنابه اعتمادا حقيقيا ، لا شبهة فيه ولا ادعاء ، ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه ، وكفى به وكيلا.
يا للّه ، كأن القرآن ينادينا ويحذرنا من طاعة الكفار المنافقين والركون إليهم والاستماع لهم ما داموا يقفون منا موقف العناد ، ويثيرون علينا غبار الذل والهوان ، ولا علينا شيء بعد هذا ، ولن يصيبنا إلا ما كتب اللّه لنا ، ثم يقول : ثقوا باللّه ، إنه عليم حكيم فنفذوا أمره واجتنبوا نهيه ، وعليكم باتباع القرآن وتنفيذه في كل صغير وكبير مع أنفسكم ومع إخوانكم وفي بيوتكم وأسركم ، ثم بعد هذا توكلوا على اللّه فإنه من يتوكل عليه يكفيه كل مكروه ، واعلموا أن اللّه يدافع عن الذين آمنوا.
وعلى هذا فالواجب علينا ما دمنا مؤمنين بالقرآن والنبي أن نطبق هذا الحكم ، وأن نعالج أنفسنا وأمراضنا باتباع القرآن حقا في كل شيء ، والتوكل على اللّه.
وانظر إلى قوله تعالى بعد هذا : ما جعل اللّه لرجل - أيا كان - قلبين في جوفه ، والقلب محل التوجيه ، ومبعث الاتجاهات والعواطف ، فإذا كنت مع اللّه ورسوله وليس في قلبك مثقال ذرة من كفر أو نفاق ، فلن تكون غير مؤمن صالح كامل متبع للقرآن داع له ولحكمه ، متوكل على اللّه ، والعرب تفهم في هذا أنه لا يجتمع اعتقادان متغايران في قلب كما لا يجتمع قلبان في جوف ، ولا يصح أن تكون أخلاقنا وآدابنا من واد وديننا من واد ، ونظامنا واقتصادنا من واد آخر.
ومن هنا كان استدراجا محكما حيث نفى اجتماع الزوجية مع الظهار ، والتبني مع النسب الصريح بعد ما نفى وجود اجتماع اتجاهين مضادين في قلب واحد.(3/73)
ج 3 ، ص : 74
ما جعل اللّه لرجل من قلبين في جوفه ، وما جعل أزواجكم اللاتي تظاهرون منهن أمهاتكم كما كانوا يقولون - على سبيل التحريم - : أنت على كظهر أمى ، أى : أنت محرمة على كتحريم ظهر أمى على ، فجعل زوجته كأمه ، ولكن اللّه - سبحانه وتعالى - ما جعل الزوجة كالأم ، وإن من يظاهر من امرأته ليقول منكرا من القول وزورا ، فإذا عاد في ظهاره بمعنى أنه مضى عليه وقت يتمكن فيه من الطلاق ولم يطلق وجبت عليه كفارة الظهار (عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا) وسيأتى في سورة المجادلة تفصيل وبيان لذلك.
وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذكر القرطبي في تفسيره : أنه أجمع أهل التفسير على أن هذه نزلت في زيد بن حارثة ، وروى الأئمة أن ابن عمر قال : ما كنا ندعو زيد ابن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ.
وزيد هذا كان مسبيا من الشام ، سبته خيل من تهامة فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد فوهبه لعمته خديجة ثم وهبته للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأعتقه وتبناه ، وقد اختار زيد الرق مع رسول اللّه على الحرية مع أهله وقومه ، فتبناه النبي و
قال : « يا معشر قريش اشهدوا أنّه ابني يرثني وأرثه »
ومن هنا نفهم أن التبني كان معمولا به في الجاهلية ، وأقره الإسلام مدة ، ثم جاء فحرمه حيث قال :
ذلكم ، أى : دعاؤكم الذين تبنيتموهم قول باللسان فقط لا أساس له من شرع أو عقل ، وذلك تأكيد لبطلان القول بهذا ، بل الواجب أن تدعوهم لآبائهم في النسب لا في التبني ، فالله يقول الحق ، وهو يهدى إلى سواء السبيل ، والواجب أن تترك تلك العادة وأن تدعوا الإنسان إلى أبيه في النسب فقد قال الحق تبارك وتعالى ما معناه ..
ادعوا الذين تبنيتموهم لآبائهم هو أقسط عند اللّه وأعدل ، فمثلا يقال : زيد بن حارثة لا زيد بن محمد كما كان الناس يقولون.
فإن لم تعلموا آباءهم فهم إخوانكم في الدين ومن بنى عمومتكم فمثلا تقولون لغير معروف النسب : يا فلان. يا أخى. يا بن عمى .. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات 10].
ولو نسب الإنسان إلى أبيه من التبني لا من النسب فإن كان ذلك على جهة الخطأ من غير تعمد فلا إثم ولا مؤاخذة لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ(3/74)
ج 3 ، ص : 75
قُلُوبُكُمْ
ولا يدخل في نطاق التحريم ما غلب عليه اسم التبني ، كما حصل مع المقداد ابن عمرو ، فإنه كان قد غلب عليه نسب التبني فلا يكاد يعرف إلا بالمقدار بنى الأسود فإن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبناه في الجاهلية وعرف به ، فلما نزلت الآية قال :
المقداد بن عمرو ، ومع ذلك فبقى الإطلاق عليه ، ولم يسمع فيمن مضى حكم على من أطلق ذلك عليه أنه عصى بذلك ، وكان اللّه غفورا رحيما برفع إثم الخطأ.
النبي عليه الصلاة والسلام ومكانته [سورة الأحزاب (33) : الآيات 6 الى 8]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)
المفردات :
مَسْطُوراً : مكتوبا مِيثاقَهُمْ الميثاق : هو العهد المؤكد مِيثاقاً غَلِيظاً : ميثاقا شديدا.
المعنى :
النبي - عليه الصلاة والسلام - أولى بالمؤمنين من أنفسهم في كل شيء من أمور(3/75)
ج 3 ، ص : 76
الدنيا والدين ، فواجب عليهم أن يكون اللّه ورسوله أحب إليهم من كل ما سواه حتى أنفسهم ، وأن يكون حكمه أنفذ عليهم من حكم أنفسهم ، وحقه أثبت لديهم من حقوق أنفسهم وتكون نفوسهم فداء له وأجسامهم وقاية له من كل شر ، وكل ما يملكون تحت قدميه ، وكل ما أمر به أو نهى عنه أقبلوا عليه مؤمنين به ، إذ هو إرشاد لهم وتوجيه ، ليظفروا بسعادة الدارين ، فهو أولى بالمؤمنين ، على معنى أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم من أنفسهم.
وأزواجه أمهاتهم في التعظيم والمحبة والإجلال وحرمة النكاح وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً « 1 » وهذه كرامة لهن فقط ، وحفظ لحقوقهن فقط فليس بناتهن إخوة ، ولا أخواتهن خالات للمؤمنين.
وكان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرة لا بالقرابة ، فبين اللّه تعالى أن القرابة أولى من الحلف ، والوراثة باسم الدين والهجرة ، وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه - القرآن - أى : أولى من سائر المؤمنين والمهاجرين.
لكن أن تفعلوا إلى أوليائكم ، أى : من توالونهم وتوادونهم من المؤمنين والمهاجرين والأجانب ، أن تفعلوا معروفا كوصية فجائز لا شيء فيه ، وإنما المحرم الإرث ، كان ذلك ، أى : تحريم الإرث بالإيمان والهجرة ووجوب الإرث بالقرابة والرحم ، كان ذلك في الكتاب ، أى : القرآن مكتوبا ومسطورا.
واذكر وقت أن أخذنا من النبيين ميثاقهم وعهدهم المؤكد عليهم بأن يبشر بعضهم ببعض ، ويصدق بعضهم بعضا ، وإذ أخذنا منك يا محمد ، ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى - عليهم الصلاة والسلام - وخص هؤلاء بالذكر مع اندراجهم في النبيين لأنهم أصحاب شرائع وكتب ، وهم أولو العزم من الرسل ، وهذا مما يؤكد تحريم التوارث بين المؤمن والكافر المفهوم من السياق ، فهو مما لم تختلف فيه شريعة نوح ومن معه مع شريعة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
والخلاصة : أنه كان في ابتداء الإسلام توارث بالهجرة ثم توارث بالقرابة مع الإيمان ، وأما التوارث بين مؤمن وكافر فلم يكن دين أحد من الأنبياء الذين أخذ عليهم الميثاق ، فلا تداهنوا في الدين ، ولا تمالئوا الكفار.
___________
(1) - سورة الأحزاب آية 53.(3/76)
ج 3 ، ص : 77
وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ، أى : عهدا وثيقا على الوفاء بما التزموا من تبليغ للرسالات وتصديق بعضهم بعضا ، فاللّه أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه وأخذ عليهم المواثيق لأجل إثابة المؤمنين على صدقهم وإيمانهم ، ولتعذيب الكفار والعصاة بالعذاب الأليم.
غزوة الخندق أو الأحزاب [سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 25]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25)(3/77)
ج 3 ، ص : 78(3/78)
ج 3 ، ص : 79
المفردات :
مِنْ فَوْقِكُمْ من أعلى الوادي ، أى : من جهة المشرق وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أى : أسفل الوادي من جهة المغرب زاغَتِ الْأَبْصارُ : مالت فلم تلتفت إلا إلى عدوها دهشا من فرط الهول الْحَناجِرَ : جمع حنجرة ، وهي منتهى الحلقوم ابْتُلِيَ : اختبروا بهذه الغزوة وَزُلْزِلُوا : حركوا حركة شديدة من الفزع مَرَضٌ : ضعف اعتقاد ، وشك ونفاق غُرُوراً : باطلا لا ينفع يا أَهْلَ يَثْرِبَ : يا أهل المدينة عَوْرَةٌ : غير حصينة ، يقال : دار معورة : ودار عورة إذا كان يسهل دخولها إِلَّا فِراراً أى : هربا مِنْ أَقْطارِها أى : من جوانبها ونواحيها ، جمع قطر ، وهو الجانب لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ أصل الأدبار جمع دبر ، وهو ما قابل القبل ، ويطلق على الظهر ، والمراد الهزيمة والفرار من الصف الْمُعَوِّقِينَ :
المثبطين الذين يصدون المسلمين عن القتال مع رسول اللّه الْبَأْسَ : القتال أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ : جمع شحيح ، أى : بخلاء بالمعونة لكم من حفر أو نفقة في سبيل اللّه سَلَقُوكُمْ السلق : الأذى. والمراد آذوكم بألسنة سليطة الْأَحْزابَ : هم القبائل المتجمعة لحرب النبي والقضاء عليه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ : قدوة حسنة نَحْبَهُ : مات ، وأصل النحب : النذر ، فجعلوه كناية عن الموت.
هذه هي غزوة الخندق الذي حفر حول المدينة ، وسميت غزوة الأحزاب (لتجمع الأحزاب من قريش وغطفان وقبائل نجد مع يهود المدينة).
وهذه الآيات الكريمة تكلمت فيما تكلمت فيه عن :
1 - الوصف العام للغزوة ... من آية 9 إلى آية 11.
2 - موقف المنافقين واليهود من المسلمين من آية 12 إلى آية 21.(3/79)
ج 3 ، ص : 80
3 - موقف المؤمنين .. من آية 22 إلى آية 25.
4 - نهاية المعركة .. آية 25.
5 - نهاية اليهود الذين ظاهروا المشركين .. من آية 26 إلى آية 27.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا باللّه ورسوله اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ جاءتكم جنود لا قبل لكم بها ، تجمعت لإبادتكم والقضاء عليكم ، فأرسل اللّه عليهم ريحا قلعت خيامهم وأثارت خيولهم ، وكفأت قدورهم ، وأرسل عليهم جنودا من الملائكة لم تروها ، وكان اللّه بما تعملون بصيرا وعلى كل شيء قديرا.
رأى اليهود أن القبائل العربية لا طاقة لها بحرب النبي وصحبه متفرقين ، فأخذوا يجمعون الجموع ويعقدون الأحلاف ، ويحزبون الأحزاب حتى ترمى العرب المشركون الإسلام عن قوس واحدة يضربونه ضربة رجل واحد ، فيمحونه من الوجود ويستريحون ، وكان حيي بن أخطب وغيره من قادة اليهود يقومون بهذا فألبوا قريشا وغطفان ، وبنى مرة ، وأشجع وغيرها ، وخرجت تلك القبائل بقيادة أبى سفيان لقريش ، وعيينة بن حصن لغطفان ، والحارث بن عوف على بنى مرة ، ومسعر على قبيلة أشجع.
ولما سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم باجتماعهم تشاور هو وصحبه فيما يعملون ، فأشار سلمان الفارسي بحفر الخندق حول المدينة مما يلي السهل ، وقد اشترك المسلمون على رأسهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في حفر الخندق بهمة ونشاط ، وإذا استعصت عليهم صخرة جاء النبي ففتتها بفأسه صلّى اللّه عليه وسلّم.
ولما فرغ الرسول وصحبه من حفر الخندق وأقبلت قريش ومن معها من قبائل كنانة وأهل تهامة من أسفل الوادي جهة الشرق ، وأقبلت أسد وغطفان بمن معها من أهل نجد من أعلى الوادي جهة الغرب حتى نزلوا إلى أحد ، خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمسلمون حتى نزلوا بظهر سلع - جبل المدينة - في ثلاثة آلاف ، وضربوا خيامهم ، والخندق بينهم وبين المشركين.(3/80)
ج 3 ، ص : 81
وفي هذا الوقت العصيب أغرى حيي بن أخطب كعب بن أسد القرظي على نقض العهد الذي بينه وبين النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وامتنع في أول الأمر ثم مال إلى النقض ، ويا ليته لم ينقض ، ولكنهم اليهود لا أمان لهم ولا عهد ولا ذمة ، وأقام الأحزاب في مكانهم والمسلمون أمامهم مدة ، ذاق فيها المسلمون الأمرين ، مما رأوا من تجمع العرب ، ونفاق اليهود ونقضهم العهد وإظهارهم ما كانوا يخفون حتى قال بعضهم : إن بيوتنا عورة فلننصرف فإنا نخاف عليها ، ومنهم من قال : يعدنا محمد بفتح كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه يذهب إلى الغائط.
أقاموا على هذا الحال قريبا من شهر ، وليس بينهم حرب إلا الرمي بالنبال والحصى ، ولقد اشتد على النبي ذلك المقام فبعث إلى عيينة بن حصن الفزاري وإلى الحارث بن عوف المري ليفاوضهما على ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما ويخذلان قريشا ويرجعان بقومهما عنهم ، ولكن الأنصار أبوا ذلك قائلين : واللّه لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم اللّه بيننا وبينهم ، فسر الرسول لذلك ووافقهم.
وفي هذا نزل قوله تعالى : وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً وهذا تصوير لحالة المسلمين تصويرا دقيقا.
وكره بعض فوارس مكة أن يقفوا معطلين فأخذوا يدورون حول الخندق يتحسسون نقطة ضعف ، وقد وجدوا فضربوا خيلهم فاقتحمت الخندق ، ورأى المسلمون في ذلك خطرا عليهم فأسرع على بن أبى طالب ومعه جماعة من الفرسان ليسدوا هذه الثغرة ..
وكانت مبارزة بينه وبين عمرو بن عبد ود انتهت بقتله ، فلما عرف صاحباه عكرمة بن أبى جهل وضرار بن الخطاب فرا وخرجت خيل المشركين من الخندق منهزمين هاربين.
وفي هذه الآونة الشديدة وقع ثقل المقاومة على المؤمنين الخلص الذين كانت قلوبهم عامرة بالإيمان ونفوسهم في سبيل الدفاع عن الحق أشد من الصخرة صلابة وقوة.
ولما وقف المؤمنون الموقف المشهود ، ودافعوا دفاع الأبطال ، وابتلاهم اللّه فوقفوا وصبروا وصابروا أراد ربك أن يصرف عنهم السوء ، وأن يتم نعمته عليهم ويكفيهم شر القتال على أحسن صورة وأكمل وضع ، فألقى في قلوب المشركين الخوف وأوقع فتنة بينهم ، وقام نعيم بن مسعود - وكان مشركا فأسلم ، وكان محبوبا من الطرفين - بدور(3/81)
ج 3 ، ص : 82
هام بين قريظة من اليهود ، وبين المشركين حتى انصدع الشمل وتفرق الجمع. وأرسل اللّه ريحا سموما كفأت قدورهم ، وقلعت خيامهم ، وأصابهم منها قر ومطر شديدان عقد القوم عزمهم على الرحيل فرجعوا غير آسفين.
وهذا أبو سفيان يقول : يا معشر قريش إنكم واللّه ما أصبحتم بدار مقام قد هلك الكراع والخف ، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من شدة الريح ما ترون ، ما تطمئن لنا قدر ، ولا تقوم لنا نار ، ولا يستمسك لنا بناء ، فارتحلوا فإنى مرتحل. وارتحل ..
وطلع النهار وإذا المدينة خالية من معسكر الأحزاب وقد فك الحصار ، ورجعت الطمأنينة إلى النفوس ، ونجح المسلمون في الاختبار بعد أن زلزلوا زلزالا شديدا.
أما موقف اليهود من المسلمين فهذا ملخصه :
لما سمعوا من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الوعد بكنوز كسرى وقيصر عند اشتداد المعركة قال طعمة بن أبيرق ، ومعتب بن قشير وجماعة من اليهود والمنافقين : كيف يعدنا هذا ، ولا يستطيع أحد منا أن يتبرز ؟ ! وانظر إلى فظاعتهم حيث يقولون : ما وعدنا اللّه ورسوله إلا غرورا!! وفارقوا محمدا فإنه هالك ، وإن أبا سفيان إن ظفر بكم لم يبق منكم أحدا فارجعوا إلى منازلكم ، واهربوا من جند محمد ، وما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبى سفيان ومن معه ؟ ! وفي رواية أن الذي قال هذا هم اليهود ، قالوه لزعيم المنافقين عبد اللّه بن أبىّ بن سلول.
ومنهم من استأذن من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قائلا : إن بيوتنا عرضة للهجوم عليها وسرقة ما فيها ، وفي الواقع ليست بيوتهم عورة وإنما هم كاذبون ، وما يريدون إلا فرارا من القتال ، وهربا من الميدان.
ولو انتهكت حرمة المدينة من جوانبها ثم طلب إليهم الفتنة والقيام بطعن المسلمين من الخلف لفعلوا كل هذا ، وما انتظروا إلا قليلا لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا [سورة التوبة آية 47].
ولقد كانوا عاهدوا اللّه من قبل أنهم لا يولون الأدبار ، ولا يفرون من القتال وأنهم سيقاتلون مع النبي بإخلاص وعاهدوا اللّه على ذلك ، ولكنهم لا عهد لهم ولا ذمة ، وكان عهد اللّه مسئولا ..(3/82)
ج 3 ، ص : 83
قل لهم يا محمد : لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت وكيف تفرون ؟ ولو كنتم في بروج مشيدة لأدرككم الموت ولحقكم ، فإن لكل أجل كتابا فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [سورة الأعراف آية 34].
وإذا فررتم وكان في العمر بقية لا تمتعون إلا متاعا قليلا زمنه ، إذ الدنيا لم تخلق زهرتها للجبناء.
قل لهم : كيف تفرون من حكم اللّه إلى حكم اللّه ؟ ومن ذا الذي يعصمكم منه إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة من خير ونصر وعافية ؟ وهم لا يجدون لهم من دون اللّه نصيرا ينصرهم ولا وليا يلي أمورهم ويشفع لهم.
روى أن عبد اللّه بن أبىّ وأصحابه من المنافقين قالوا لإخوانهم من المسلمين : ما محمد وأصحابه إلا قلة وهو هالك ومن معه ، فهلموا وفارقوا محمدا ، وقيل : إن القائل هم اليهود قالوا لإخوانهم من المنافقين : تعالوا إلينا وفارقوا محمدا فإنه هالك وإن أبا سفيان إن ظفر بكم لم يبق منكم أحدا فنزل قوله تعالى : قد يعلم اللّه المعوقين - المثبطين -
منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ، وهم قوم جبناء لا يأتون البأس - القتال - إلا قليلا خوفا من الموت ، ولا يحضرون القتال إلا رياء وسمعة ، وهم قوم بخلاء عليكم أشحاء بالمعونة عند الشدائد لا ينفعون ، وعند الغنائم يحضرون ويطالبون ، فإذا جاء الخوف واشتد لهيب المعركة وحمى وطيسها ، رأيتهم - ويا لهول ما ترى - ينظرون يمينا وشمالا تدور أعينهم يمنة ويسرة لذهاب عقولهم حذرا من القتل ، وهكذا الجبال الرعديد ، فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد وبسطوا إليكم ألسنتهم بالسوء ، وآذوكم بالكلام الشديد. فهم عن الخير ممسكون وفي الشر مجدون أولئك لم يؤمنوا بقلوبهم فأحبط اللّه أعمالهم حيث لم يقصدوا بها وجهه ، وكان نفاقهم وعملهم على اللّه هينا ، ألا قاتلهم اللّه أنى يؤفكون! وهؤلاء المنافقون لشدة جبنهم وسوء رأيهم يظنون أن الأحزاب لم ينصرفوا ، وهذا شأن الجبان لفرط خوفه إذا رأى شيئا ظنه رجلا ، ولفساد اعتقادهم وسوء طويتهم يودون أن تأتى الأحزاب ، وهم مع الأعراب المتحزبين حذرا من القتل وتربصا بالنبي الدوائر سائلين عن أنبائكم أيها المسلمون ، وهم ليسوا في قليل ولا كثير ، ولو كانوا فيكم وفي جيشكم ما قاتلوا إلا قليلا.
ولقد كان لكم - أيها المتخلفون عن القتال - أسوة حسنة بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فكان(3/83)
ج 3 ، ص : 84
الواجب عليكم أن تتأسوا برسول اللّه وتقتدوا به في كل أعماله ، والرسول الكريم مثل في الشجاعة والإقدام والصبر والمثابرة على النوازل فهو المؤمن الواثق باللّه المتوكل عليه.
لقد كان لكم أسوة حسنة في النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لمن كان يرجو ثواب اللّه ويخاف عقابه يوم القيامة ، وذكر اللّه كثيرا حبا في ذكره وأملا في ثوابه.
وهذا عتاب للمتخلفين وإرشاد للناس أجمعين حيث يجب عليهم أن يأتموا بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم في كل شيء فهو المثل الأعلى : المثل الكامل صلّى اللّه عليه وسلّم.
موقف المؤمنين في هذه الغزوة :
لقد عرفنا موقف من في قلوبهم مرض من المنافقين واليهود الذين غلبت عليهم نزعات الجبن والتردد وبرهنوا بأعمالهم على لؤم في الطبع وسوء في الرأى وفساد في العقيدة.
أما المؤمنون الواثقون الذين خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان وامتلأت نفوسهم بنور اليقين فقد أفادتهم هذه التجربة القاسية وهذا الابتلاء من اللّه. أفادتهم يقينا على يقينهم ، فهم رأوا الأحزاب قد تجمعوا وتكتلوا ضد الإسلام والمسلمين يريدون ليطفئوا نور اللّه بأفواههم قالوا : هذا ما وعدنا اللّه ورسوله وصدق اللّه ورسوله وما زادهم ذلك إلا إيمانا باللّه وتصديقا لرسول اللّه وتسليما بأن النصر من عند اللّه العزيز الحكيم للمسلمين الصابرين المحتسبين.
نعم لقد وعدهم اللّه ورسوله بالنصر والظفر والظهور على قصور الحيرة ومدائن كسرى وقيصر ، وهم واثقون بهذا الوعد مؤمنون بأن أية قوة في الأرض مهما تجمعت وتحزبت فلن تعجز اللّه في شيء ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا ، وما زادهم هذا الجمع الحاشد وتألب القبائل في الداخل والخارج من اليهود والمشركين ، وما زادهم ذلك كله إلا إيمانا وتسليما.
روى البخاري ومسلم عن أنس قال : « قال عمى أنس بن النضر ولم يشهد بدرا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فكبر عليه فقال : أول مشهد شهده رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غبت عنه ، أما واللّه لئن أرانى اللّه مشهدا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيما بعد ليرينّ اللّه ما أصنعه. قال :
فشهد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم أحد من العام القابل فاستقبله سعد بن مالك. فقال :
يا أبا عمرو ، أين ؟ قال : واه - كلمة تفيد الإعجاب بالشيء - لريح الجنة ، أجدها(3/84)
ج 3 ، ص : 85
دون أحد ، فقاتل حتى قتل ، فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية وما عرفته أخته إلا ببنانه » .
وهذا معنى قوله تعالى : بعض المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه فوفوا عهودهم وأدوا حق الإسلام عليهم فمنهم من مات ومنهم من ينتظر الموت وما بدلوا من حكم اللّه تبديلا ، والآية عامة إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقد يقول قائل : إذا كان المسلمون على حق فلم هذا التعذيب والإيلام في الحرب والقتال ؟ ولقد أجاب اللّه عن هذا بقوله : وإنما يحصل لهم ذلك ليمحص اللّه الذين آمنوا ويمحق الكافرين ، وليجزي اللّه الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء اللّه أو يتوب عليهم فيوفقهم إلى التوبة الصادقة ، إن اللّه كان غفورا رحيما.
نهاية الغزوة :
ورد اللّه الذين كفروا بغيظهم كأبى سفيان وعيينة بن حصن ومن معهما لم ينالوا خيرا بل هتكوا سترهم وافتضح أمرهم ورجعوا بخفي حنين ، وأثبتوا للعرب جميعا أن قوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وصحبه الذين أخرجوا من ديارهم مطرودين بلا مال ولا زاد أصبحت تلك القوة تضارع قوى العرب مجتمعة متحزبة مع قوة اليهود المالية.
وكفى اللّه المؤمنين القتال ، فهو الذي أوقع الرعب في نفوس الأحزاب وثبت قلوب المؤمنين على الحق حتى جاءهم النصر من عند اللّه العزيز الحكيم.
نهاية من ظاهر المشركين من اليهود :
رجعت الأحزاب من قريش وغطفان إلى ديارهم وقد ملئت قلوبهم غيظا وحزنا لم ينالوا خيرا ، وبقي اليهود في المدينة كالمجرم الآثم الذي ظهرت أدلة جرمه وهو ينتظر حكم القضاء فيه.
أما المسلمون فقد امتلأت قلوبهم غيظا وحقدا من أولئك اليهود المنافقين الذين عاهدوهم ونقضوا عهدهم وظاهروا عليهم أعداء من المشركين وخاصة بنى قريظة الذين لم يروا في جوار محمد وصحبه إلا كل بر ووفاء ، لهذا كله اندفع المسلمون ضحوة اليوم الذي ذهب فيه الأحزاب إلى قتال بنى قريظة ونادى النبي في المسلمين محدثا عن الروح(3/85)
ج 3 ، ص : 86
الأمين (ما وضعت الملائكة السّلاح بعد) وطلب من المسلمين أن يصلوا العصر في بنى قريظة.
تسابق المسلمون حول الراية التي يحملها على قاصدا بنى قريظة حتى إذا اقترب الجيش من منازل اليهود إذ بهم يسبون رسول اللّه ونساءه سبا قبيحا وقد بلغ ذلك النبي ، فلما دنا النبي من حصونهم قال : يا إخوان القردة هل أخزاكم اللّه وأنزل بكم نقمته ؟ ! فقالوا : ما كنت جاهلا يا محمد فهل تجهل علينا ؟ ! ونزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة وانتهى الأمر بتحكيم سعد بن معاذ سيد الأوس وحليف قريظة في الجاهلية ، فحكم سعد بقتل الرجال وسبى الذراري من النساء والولدان وتقسيم الأموال ، فأورث ربك المسلمين أرض بنى قريظة الخصبة ، وديارهم وحصونهم وأموالهم الثمينة ، وكان اللّه على كل شيء قديرا ، وأقر النبي هذا القضاء الحازم ، وفي هذا نزل قوله تعالى :
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 26 الى 27]
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً (27)
المفردات :
صَياصِيهِمْ : حصونهم قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ : ألقى في قلوبهم الرعب ، وفي هذا التعبير من البلاغة العربية ما فيه.
أما معنى الآية - فيظهر مما قلناه سابقا.(3/86)
ج 3 ، ص : 87
من آداب البيت النبوي [سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 30]
{ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) }
المفردات :
أُمَتِّعْكُنَّ : أعطيكن المتعة ، وهي مال يعطى نفلا للمطلقة وَأُسَرِّحْكُنَّ التسريح : الطلاق لقوله تعالى : الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ : ظاهرة كالزنا ضِعْفَيْنِ أى : مثلين ومرتين لقوله تعالى : نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ.
المعنى :
وهذه الآية متصلة بما تقدم إذا فيها الحث على منع إيذاء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولو من أقرب الناس إليه ، وفيها أدب عال لبيت النبوة الأطهار وتربية لنسائه على العفة والكرامة وحب اللّه ورسوله ، ووصف دقيق لما كان عليه بيت النبي من التقشف.
{ يا أيها النبي قل لأزواجك }
مخيرا لهن ليخترن ما يرون : إن كنتن أيها النساء تردن الحياة الدنيا وزينتها الزائلة ، وتفضلنها على قربكن من رسول اللّه ، والتمتع بجواره الكريم ، ومجلسه الطاهر فتعالين أطلقكن وأعطيكن متعة بعد هذا.(3/87)
ج 3 ، ص : 88
روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد اللّه قال : دخل أبو بكر يستأذن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم - فأذن لأبى بكر فدخل ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له ، فوجد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم جالسا حوله نساؤه واجما ساكنا - قال :
فقال : واللّه لأقولن شيئا أضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : يا رسول اللّه لو رأيت بنت خارجة تسألنى النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها ، فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقال :
« وهن حولي كما ترى يسألننى النفقة » فقام أبو بكر إلى عائشة وعمر إلى حفصة كل يريد أن يجأ عنق ابنته - يضغط على عنقها - قائلا : تسألن الرسول ما ليس عنده ؟ ! فقلن :
واللّه لا نسأله شيئا أبدا ليس عنده ، ثم اعتزلهن النبي شهرا أو تسعا وعشرين يوما ثم نزلت عليه هذه الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ - إلى قوله : لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً.
وبدأ النبي يخير نساءه فبدأ بعائشة فقال لها النبي : يا عائشة « إنّى أريد أن أعرض عليك أمرا أحبّ ألّا تعجلي فيه حتّى تستشيرى أبويك » قالت : وما هو يا رسول اللّه فتلا عليها هذه الآيات ، قالت : أفيك يا رسول أستشير أبوى! بل أختار اللّه ورسوله والدار الآخرة.
وهكذا فعل مع نسائه ، وقال العلماء : إنما أمر النبي عائشة أن تستأمر أبويها وتستشيرهما لمحبته لها ، ولعلمه أن والديها لا يشيران بالفراق أبدا ، وأما أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فهن كما ترى ، حتى يعرف الناس جميعا أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لم يكن يتزوج للشهوة أبدا.
1 - خديجة بنت خويلد أول من تزوج من النساء تزوجها بمكة ومكثت معه بعد النبوة سبع سنين ، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت ، وهي أول من آمن من النساء ، وكان لها فضل وعقل وبصر بالحياة ، وكانت لها مكانتها في قريش.
2 - سودة بنت زمعة بنت عبد شمس العامرية دخل بها بمكة وتوفيت بالمدينة.
3 - عائشة بنت أبى بكر ، الصديقة بنت الصديق ، حبيبة رسول اللّه وبنت حبيبه ، ولها مكانتها في العلم والسبق في الدين « خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء » حديث شريف ، ولم يتزوج النبي بكرا غيرها.
4 - حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية تزوجها رسول اللّه ثم طلقها فأتاه جبريل فقال : إن اللّه يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة.(3/88)
ج 3 ، ص : 89
5 - ومنهن أم سلمة تزوجها رسول اللّه من ابنها سلمة على الصحيح.
6 - أم حبيبة رملة بنت أبى سفيان تزوجها رسول اللّه وبنى بها بعد الهجرة بسبع سنين ، والذي أصدقها هو النجاشيّ ، لما مات زوجها تزوجها الرسول.
7 - زينب بنت جحش تزوجها النبي بعد طلاقها من زوجها زيد بن حارثة ولها قصة ستأتى.
8 - زينب بنت خزيمة بن الحارث تزوجها النبي ومكثت عنده ثمانية أشهر ثم ماتت.
9 - صفية بنت حيي بن أخطب الهارونية سباها النبي يوم خيبر وتزوجها بعد أن أعتقها.
10 - ريحانة بنت زيد تزوجها في سنة ست وماتت بعد مرجعها من حجة الوداع.
11 - ميمونة بنت الحارث الهلالية تزوجها (بسرف) وهي آخر امرأة تزوجها.
فكل نسائه أيم أو مسنة أو بنت زعيم الحي أو لها أولاد وقد قتل زوجها في الحرب فتزوجها إكراما له ولأولاده ، ولم يتزوج إلا بكرا واحدة ، فلم يكن صلّى اللّه عليه وسلّم يتزوج لشهوة ، وإنما كان زواجه تأليفا للقلوب ، وسياسة رشيدة لبناء الدولة وتوحيد الكلمة.
وهناك نساء تزوجهن النبي ولم يدخل بهن فمنهن الكلابية. وأسماء بنت النعمان بن الجون ، وقتيلة بنت قيس ، وغيرهن مما هو مذكور في كتب السيرة.
وكان له من السراري سريتان : مارية القبطية وريحانة.
لما اختار نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رسول اللّه شكرهن على ذلك وكرمهن فقال : لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ « 1 » . وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً « 2 » ، وجعل ثواب طاعتهن وعقاب معصيتهن مضاعفا. يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ فاللّه يضاعف لهن العذاب ضعفين لشرف منزلتهن وفضل درجتهن وتقدمهن
___________
(1) - سورة الأحزاب آية 52.
(2) - سورة الأحزاب آية 53.(3/89)
ج 3 ، ص : 90
على سائر النساء أجمع ، وكيف لا يكون ذلك وهن نشأن في بيت النبوة ، ورضعن من لبنها وتمتعن بتلك البيئة الطاهرة فحق عليهن أن يدفعن هذا الثمن غاليا.
وكان ذلك ، أى : مضاعفة العذاب لهن على اللّه يسيرا ..(3/90)
ج 3 ، ص : 91
من آداب أهل البيت وأوصافهم [سورة الأحزاب (33) : الآيات 31 الى 35]
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)(3/91)
ج 3 ، ص : 92
المفردات :
يَقْنُتْ القنوت : الطاعة في سكون والعبادة في خشوع مَرَضٌ : تطلع إلى الفسق والفجور وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ يقال : قررت في المكان أقر به : إذا أقمت فيه وَلا تَبَرَّجْنَ التبرج : الظهور مع إظهار ما يجب ستره الرِّجْسَ : الدنس الحسى وَالْحِكْمَةِ هي حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
المعنى :
لما كان أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في بيت النبوة ، ومصدر العلم والمعرفة ، ومنبع الحكمة وأساس الهداية كان الذنب منهن كبيرا ، والمعصية الصغيرة في قوة الكبيرة ، لذلك ضاعف اللّه لهن الجزاء ضعفين إذا أتين بفاحشة مبينة ، ومن يقنت منهن للّه ورسوله ، وتعمل صالحا في سكون وخشوع وقنوت ، مع إخلاص في النية وصدق في الطوية لقربهن من رسول اللّه وشرفهن بصحبته ، وتمتعهن بنور الوحى. من يقنت منهن يؤتها اللّه أجرها مرتين ، ويضاعف لها الثواب ضعفين ، وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً نعم وقد أعد اللّه وهيأ رزقا كريما - لم يجر على يد أحد - في الجنة ، ولا غرابة فهن في منازل رسول اللّه في أعلى عليين فوق منازل البشر جميعا تكريما للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
وهذه آداب إلهية أمر اللّه - تعالى - بها نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ونساء الأمة تبع لهن في ذلك ، وكلها تهدف إلى بعد المرأة عن منطقة الخطر ، واجتنابها الطرق التي قد تؤدى بها إلى الوقوع في المعصية ، ونساء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أولى الناس بالبعد التام عن هذا كله ، وإنما جاء الخطاب لهن أولا لأنهن في مركز القيادة وفي بيت النبوة وهن أمهات المؤمنين ، وعندهن الكثير من الأخبار ، والناس في أشد الحاجة لمعرفة سيرة الرسول إذ هو القدوة الحسنة للمسلمين ، فنساؤه معرضات للتحدث معهن وسؤالهن عن الوحى والحديث ، فكان النهى أولا ، وليعلم الجميع أن هذا دواء أعطى أولا لأطهر النساء وأعفهن على اللّه ، وفي قبوله فليتنافس المتنافسون.
يا نساء النبي لستن كأحد من النساء في الفضل والشرف والقرب من الرسول مصدر الخير والنور ، وهذا كقولهم : إن فلانا ليس كآحاد الناس ، على معنى أن فيه مزية وأفضلية ليست في غيره ، ونساء كذلك.(3/92)
ج 3 ، ص : 93
يا نساء النبي لستن كبقية النساء فأنتن أمهات المؤمنين وزوجات خير المرسلين وليس النبي كالناس بل هو غيرهم كما يقول في
الحديث : « لست كأحدكم »
وقد تحقق فيكم شروط التقوى ، والأكرم عند اللّه هو التقى فلستن كغيركن.
وإذا كان الأمر كذلك فلا تخضعن بالقول ، ولا تلن فيه بل ليكن كلامكن مع الناس بجد وحزم وخشونة وقوة فلا يطمع الذي في قلبه مرض الفسق والفجور ، أمرهن اللّه أن يكون قولهن جزلا ، وكلامهن فصلا ، ولا يكن على وجه الليونة والطراوة حتى يطمع فيهن ضعاف الإيمان ممن في قلوبهم مرض ، وفي عقولهم قصر.
وليس معنى هذا أن يكون أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على حال فيها إيذاء وأن يقلن منكرا من القول! لا. بل أمرهن أن يقلن قولا معروفا عند الحاجة مع الكف والبعد عن مواطن الريبة وأفهام السوقة ومن في قلبه مرض.
وقرن في بيوتكن. ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، والجاهلية الأولى هي الجاهلية الجهلاء والضلالة العمياء التي تردى فيها العرب قبل الإسلام ، وليس هناك أولى وأخرى ، والتبرج المنهي عنه ظهور المرأة على وجه لا يرضاه الشرع تكريما لها وصونا لعفافها ومحافظة على مكانتها في مجتمعها.
نهى اللّه نساء نبيه عن التبرج ليعلم العالم أجمع ما في التبرج من الخطر الداهم ، وإذا خص اللّه الخطاب بهن - وإن كان المراد العموم - وهن أزواج حبيبه المصطفى فقد دل ذلك على أنه علاج وصف لبيت أكرم الخلق على اللّه وأحبهم وأقربهم لديه ، أفيليق بنا نحن المسلمين ألا نتأسى بأزواج النبي ؟ وألا نعالج نساءنا بما عالج به الخبير البصير نساء حبيبه ورسوله المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم ولعل ذلك بعض السر في تخصيص الخطاب بزوجات النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
وأمر اللّه نساء رسوله أن يقرن في بيوتهن وأن يقمن بها فلا يبرحنها إلا لضرورة ، فالبيت مملكة المرأة ، وهو معهد الطفولة ، ومصنع الرجولة ، وسكن الرجل ومستراحه ، وفيه يقضى نصف وقته ليستريح ، وفي البيت متسع لنشاط المرأة ، وفيه ما يستنفد حيويتها ، وهو في أشد الحاجة لها ولإشرافها حتى تخرج لنا جيلا جديدا ، وتبعث لنا بأزواج وإخوة يعرفون وطنهم وحقه ، ودينهم وواجبه.(3/93)
ج 3 ، ص : 94
والشرع حينما أمر نساء النبي بأن يقرن في بيوتهن لم يحرم عليهن الخروج للحاجة مطلقا ولكن المهم إذا خرجن فلا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى فذلك خير لهن وايم اللّه!! يا للّه من النساء البارزات ، العاريات الكاسيات ، المائلات المميلات ، المتبرجات الكاشفات عن سوقهن ونحورهن ، أستغفر اللّه ، بل الكاشفات عن كل شي ء!! الصابغات وجوههن بالأصباغ التي يندى لها وجه المروءة والرجولة ، الويل ثم الويل لتلك الشعور المكشوفة والسيقان والنحور الظاهرة!! يا أيها النساء حافظن على أنفسكن ، واحفظن هذا الجمال لأربابه ، ولا تعرضنه عرضا في السوق فيقل بها بل يضيع ، فأحب شيء إلى الإنسان ما منع.
وليس معنى هذا أن الدين يكره الزينة أو النظافة ، لا : بل هو يدعو النساء إلى التزين ما استطعن ولكن لأزواجهن! أما أن تظل المرأة في بيتها وعند زوجها على حالتها الطبيعية فإذا برزت إلى الشارع وخرجت جمعت المساحيق ووضعت الأصباغ وحاولت إظهار كل جزء فيها ، لمن هذا ؟ ! إن زوجك أولى به ، فإذا خرجت في الشارع لضرورة فليكن ذلك بأدب واحتشام وبعد عن التبرج الممقوت الذي كان يفعل في الجاهلية الأولى من الإماء وبعض الساقطات ، وإذا كان تبرج الجاهلية السابقة مذموما ، ونحن نعلم أن الناس كانوا فيها على جانب من شظف العيش وقلة المدنية وبداوة التفكير فما يكون الوضع الذي نحن فيه الآن والذي نراه في عواصم الأمم الإسلامية ؟ ! نهاهن اللّه عن الخضوع في القول والليونة فيه ، وعن التبرج وإبداء ما يحسن إخفاؤه ثم أمرهن بالصلاة المطهرة للنفس والمقومة للشخص والموصلة باللّه ، وبالزكاة المنظمة للمجتمع ، المطهرة له من أدران الحسد والحقد ، والباعثة على التعاون ، وبطاعة اللّه ورسوله في كل شيء ، وليست هذه الأوامر والنواهي لشيء يعود نفعه على اللّه - معاذ اللّه - ولكن الباعث على ذلك كله إنما هو إرادة اللّه لأن يذهب عنكم (يا آل بيت النبي) الرجس والدنس ، ويطهركم من كل ما يشينكم تطهيرا كاملا يليق بكم.
ومن هم آل البيت ؟ هم أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأولاده كفاطمة وعلى والحسن. أما دخول أزواجه فيهم فلأن السياق السابق واللاحق فيهن ، وأما دخول على وفاطمة والحسن والحسين فلأن اللّه قال : ويطهركم بالميم ، ولو كان المراد الزوجات فقط لقال عنهن :(3/94)
ج 3 ، ص : 95
ويطهركن ، ولورود أحاديث صحيحة تثبت ذلك ، على أن المسألة بسيطة جدّا للغاية ، والإسلام يكره المغالاة في المحبة والبغض مطلقا ولو كان لآل البيت.
واذكرن يا نساء النبي ما يتلى عليكن من آيات اللّه القرآنية ، والحكمة التي ينطق بها رسول اللّه ، واعملن بذلك كله إن اللّه كان لطيفا بعباده خبيرا بهم ، فكل ما أمر به وحث عليه فهو في منتهى الحكمة فتقبلوه واعملوا به.
يا نساء الأمة الإسلامية لستن كغيركن من نساء العالم أجمع. إن اتقيتن اللّه : فلا تخضعن في القول حتى يطمع فيكن الطامعون ضعاف الإيمان والعقول.
وقلن قولا معروفا ، فيه خير وبعد عن الشر ما استطعتم ..
وقرن في بيوتكن ولا تخرجن إلا لضرورة ، فإذا خرجتن فلا تتبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، وتظهرن في الشارع بهذا الوصف المنافى للآداب الإسلامية وأقمن الصلاة التي هي عماد الدين ، وآتين الزكاة ، وأطعن اللّه ورسوله في كل أمر ونهى فإن في ذلك كله خيرا لكن وأى خير ؟ إنما يريد اللّه أن يذهب عنكم الرجس ويطهركم تطهيرا ، فطهرن النفوس وأصلحن القلوب وأعمرنها بنور الإيمان إن اللّه لطيف بكن حيث أمركن بهذا خبير بحالكن وبنفوسكن وما ركب فيكن من غرائز تثار عند مخالطة الرجال ، وتندفع لأتفه الأسباب ..
وأما خروج عائشة - رضى اللّه عنها - في موقعة الجمل ، فما كان لحرب ، ولكن تعلق الناس بها ، وشكوا إليها ما صار إليه الحال ، ورجوا بركتها وإصلاح ذات البين بها ، وظنت هي فخرجت لتصلح بين الناس وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما « 1 » وانتهى الأمر بطعن الجمل الذي تركبه فأركبها علىّ - رضى اللّه عنه - إلى المدينة في ثلاثين امرأة ، وكانت عائشة أم المؤمنين برة تقية مجتهدة مثابة في تأويلها مأجورة على فعلها. واللّه أعلم.
روى أن بعض النساء شكون إلى رسول اللّه أن كل شيء للرجال ، وأن النساء لا يذكرن بشيء فنزلت هذه الآية.
وإن وضعها هنا وهي تحمل علامات الإيمان الكامل إشارة إلى ما يجب أن يعرف به
___________
1 - سورة الحجرات آية 9.(3/95)
ج 3 ، ص : 96
أهل بيت النبوة ، وما يجب أن يكونوا عليه رجالا ونساء ، وأن يعملوا جاهدين على تحقيق تلك الأصناف ، وألا يتكلوا على قربهم من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم واللّه أعلم بكتابه.
إن المسلمين والمسلمات ، والمؤمنين والمؤمنات ، والقانتين والقانتات ، والصادقين والصادقات ، وهذا ترتيب حسن ، فالإسلام قول باللسان وعمل بالجوارح ، ثم إذا ثبت ورسخ كان الإيمان والاعتقاد والتصديق الكامل ، ثم بعد هذا عمل متواصل ، وقنوت للّه وخضوع وإخلاص ، ثم بعد أن كمل نفسه بالشهادة والإيمان والعمل يدعو غيره صادقا في دعواه ، وأنها للّه لا للدنيا ولا لشيء.
والصابرين والصابرات ، والخاشعين والخاشعات ، والمتصدقين والمتصدقات ، والصائمين والصائمات ، والحافظين فروجهم والحافظات.
نعم فبعد الصدق في الدعوة للّه إيذاء وإيلام ، ولا ينفع صاحبها إلا الصبر ، وهل هو يكون متواضعا أم لا ؟ فقال : والخاشعين والخاشعات ، ثم بعد هذا يتصدق بما تجود به نفسه ، جذبا للقلوب ، وإرضاء للنفوس.
وهو دائما يؤدب نفسه ويهذبها بالصيام حتى يكبح جماحها ، ويردها عن غيها ، ويحفظ فرجه من ثورات الشهوة الجامحة ، وهل هم في هذا كله يذكرون اللّه أم لا ؟
فقال : هم يذكرون اللّه ، ولا ينسونه أبدا ، يذكرونه بقلوبهم ، ألا بذكر اللّه تطمئن القلوب!! هؤلاء الذين تحقق فيهم هذا الوصف الجامع أعد اللّه لهم مغفرة وأجرا عظيما جزاء بما كانوا يعملون ..
قصة زينب بنت جحش مع زيد بن حارثة [سورة الأحزاب (33) : الآيات 36 الى 40]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (40)(3/96)
ج 3 ، ص : 97
المفردات :
الْخِيَرَةُ : الاختيار مُبْدِيهِ : مظهره وَطَراً الوطر : كل حاجة المرء له فيها همة ، والمراد ، بلغ ما أراد من حاجته منها حَرَجٌ : ضيق وإثم.
المعنى :
زيد بن حارثة بن شرحبيل كان عبدا لخديجة فوهبته للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأعتقه وتبناه فكان يدعى زيد بن محمد حتى نزل قوله تعالى : ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ فقيل : زيد بن حارثة.
وزينب هذه بنت جحش ، وأخوها عبد اللّه بن جحش ، وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فهي من ذؤابة قريش.(3/97)
ج 3 ، ص : 98
روى أن رسول اللّه خطب زينب بنت عمته فظنت أن الخطبة لنفسه ، فلما تبين أنه يريدها لزيد كرهت ذلك وامتنعت وامتنع أخوها عبد اللّه لنسبها ومكانتها من قريش وأن زيدا كان بالأمس عبدا ، فلما نزل قوله تعالى : { وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }
رضيا وقال أخوها : مرني بما شئت ، فزوجها رسول اللّه لزيد.
نعم ليس لمؤمن ولا مؤمنة - بهذا الوصف - إذا أمر اللّه - عز وجل - ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بأمر أن يعصياه بحال ولا ينبغي منهم ذلك ، فالنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وهو حريص عليهم وبهم رءوف رحيم ، ومن يختر خلاف أمر اللّه ورسوله فقد عصى وضل ضلالا مبينا يستحق عليه إثما كبيرا.
هذه المرأة التي أكرهت على الزواج من زيد لأنها شريفة وهو عبد أعتق ، ولم تقبل إلا امتثالا لأمر اللّه ورسوله ، ماذا تنتظر منها ؟ مهما كان إيمانها! إنها إنسانة ومعها نفس لوامة ، فلم تعاشر زيدا معاشرة الأزواج ، وكانت له كارهة وعليه متعالية ، وزيد رجل عزيز بالإيمان يعتقد أن أكرم الناس عند اللّه الأتقياء ، وأنه لا فضل لإنسان على آخر إلا بالتقوى ، لهذا كانت حياتهما الزوجية غير سعيدة ، وكان زيد يشكو منها لرسول اللّه كثيرا.
روى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان قد أوحى إليه : أن زيدا يطلق زينب وأنه يتزوجها بتزويج اللّه إياها ، فلما تشكى زيد للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم من خلق زينب وأنها لا تطيعه ، وأعلمه أنه يريد طلاقها قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على جهة الأدب والوصية : « اتّق اللّه في قولك هذا وأمسك عليك زوجك »
وهو يعلم أنه سيفارقها زيد ويتزوجها هو - وهذا ما أخفاه النبي في نفسه - ولم يرد أن يأمره بالطلاق لما علم أنه سيتزوجها وخشي الرسول من كلام المنافقين وقولهم : إن محمدا تزوج زينب بعد زيد وهو مولاه.
وقد عاتبه اللّه على هذا القدر حيث خشي الناس في شيء قد أباحه اللّه له لحكمة عالية وعلة سيذكرها القرآن لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ وعاتبه ربه حيث قال لزيد : أمسك عليك زوجك واتق اللّه مع علمه بأنه سيطلق ، وحيث خشي الناس واللّه أحق بالخشية في كل حال.(3/98)
ج 3 ، ص : 99
وليس في أمر النبي لزيد بالإمساك وعدم الطلاق - مع علمه بأنه مطلق حتما - شيء ، فاللّه يأمر الناس جميعا بالإيمان ، وقد علم أن منهم المؤمن المستجيب والكافر الذي يستحيل عليه أن يجيب ، وإنما أمره ليقطع عذره ، ويقيم عليه حجته.
ولما انقضت عدة زينب خطبها رسول اللّه ودخل بها بغير إذن ولا عقد ولا صداق لأن اللّه زوجها له من فوق سبع سموات.
فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ - مواليهم ومن تبنوهم - إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وكان أمر اللّه في كل شيء مفعولا لا محالة إذ هو صاحب الأمر ، وإليه يرجع الأمر كله.
ما كان على النبي من حرج وليس عليه إثم ولا ضيق في كل شيء فرضه اللّه وسنه له وهكذا الأنبياء جميعا ، وتلك سنة اللّه في الذين خلوا من قبله من الأنبياء ، وكان أمر اللّه قدرا مقدرا من لدن الحكيم الخبير ، والعليم البصير ، هؤلاء الأنبياء هم الذين يبلغون رسالات ربهم متوكلين عليه لا يخشون أحدا غيره ، وهذا شأن المؤمن الصادق ، فما بال الأنبياء والمرسلين ؟ ! وكفى باللّه حسيبا ورقيبا ، وهو على كل شيء شهيد.
أيها الناس : ليس محمد أبا أحد من رجالكم حتى تقولوا : كيف يتزوج محمد زوجة ابنه ومولاه ؟ ولكن كان رسول اللّه وخاتم النبيين وإمام المرسلين لا نبي بعده به ختمت الرسالات ، وإليه انتهى الوحى من السماء ، وانقطعت الأوامر الإلهية اكتفاء بالأمر الدائم والدستور المحكم الذي أنزل من لدن حكيم خبير على النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
وكان اللّه بكل شيء عليما فجعل محمدا خاتم الأنبياء ورسالته عامة شاملة كاملة فيها الخير إلى يوم القيامة.
ومن المؤسف أن تندس في كتب التفسير أقوال تنسب إلى أكابر العلماء ، واللّه يعلم أنهم برآء ، أو هي في الواقع سموم إسرائيلية ، وضعها من أسلم من اليهود عن حسن قصد أو عن سوئه ، ومنها ما قيل في تفسير هذه الآيات من نسبة أمور لا تليق بأى رجل عادى فضلا عن أشرف الخلق المشهود له من كافة الناس أنه رجل صادق ذو خلق.
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [سورة القلم آية 4].
قالوا : إن محمدا رأى زينب فأحبها ثم كتم هذا الحب ، ثم لم يجد بدا من إظهاره(3/99)
ج 3 ، ص : 100
فأظهره ، ورغب في زينب فطلقها زوجها وتزوجها ، وزعموا أن العتاب في الآية لكتمان حبه لزينب.
ونظرة بسيطة إلى تاريخ زينب وظروفها في زواج زيد تجعلنا نؤمن بأن سوء العشرة التي كانت بين زينب وزيد إنما هو من اختلافهما اختلافا بينا في الحالة الاجتماعية فزينب شريفة ، وزيد كان بالأمس عبدا. وقد أراد اللّه امتحانها بزواج زيد لتحطيم مبدأ العصبية القبلية والشرف الجاهلى ، وجعل الشرف في الإسلام والتقوى فخضعت زينب مكرهة ، وأسلمت لزيد جسدها دون روحها فكان الألم والضيق.
ومحمد هذا كان يعرف زينب من الصغر لأنها ابنة عمته فمن كان يمنعها منه ؟ وكيف يقدم إنسان امرأة لشخص وهي بكر ، حتى إذا تزوجها وصارت ثيبا رغب فيها ؟
لا يا قوم : تعقلوا ما تقولون. وتفهموا الحق لوجه الحق تدركوه بلا تلبيس ولا تشويش.
وانظر إليهم وهم يقولون : إن الذي أخفاه محمد هو حبه لزينب ولهذا عوتب ، وهل يعاتب الشخص لأنه لم يجاهر بحبه لامرأة جاره ؟ ! ولكن الحق هو أن هذا الزواج كان امتحانا في أوله لزينب وأخيها حيث أكرها على قبول زيد ، وفي النهاية كان امتحانا قاسيا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم حيث يؤمر به ، ويعلم نهايته ، وزينب تحت مولاه زيد ، والحكمة - كما نطق القرآن - هو تحطيم مبدأ كان معمولا به ومشهورا عند العرب هو تحريم زواج امرأة الابن من التبني كتحريمها إذا كان الابن من النسب ، ولتغلغل العادة في النفوس جاء هدمها على يد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وعلى يد زيد بن حارثة مولاه.
فالذي كان يكتمه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في نفسه تأذيه من هذا الزواج المفروض وتراخيه في إنفاذ أمر اللّه به وخوفه من لغط الناس - وبخاصة المنافقين - عند ما يجدون نظام التبني قد انهار بعد ما ألفوه ، ولهذا فقد عوتب.
هذه الحادثة تلقفها المستشرقون ومن على شاكلتهم من المسلمين ، وخبوا فيها ووضعوا وأباحوا لأنفسهم الخوض في الأعراض ، والتكلم في حق النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وتصويره بصورة يترفع عنها كثير من الناس ، وكان سندهم في ذلك كله ما نقلته كتب التفسير(3/100)
ج 3 ، ص : 101
من أقوال بعيدة عن الصواب جدا ، وقد علمت الحق فيها الذي تؤيده الشواهد الكثيرة. واللّه أعلم بكتابه.
من تأديب اللّه للمؤمنين وعنايته بهم [سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 44]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)
المعنى :
يا أيها المؤمنون : اذكروا اللّه ولا تكونوا كالذين نسوه فأنساهم أنفسهم حتى ضلوا السبيل ، يا أيها الذين آمنوا اذكروا اللّه كثيرا في القيام والقعود وعلى جنوبكم ، أى : في كل حال يجب على المسلم أن يذكر ربه ولا ينساه ، يذكره بقلبه ، ويستشعر عظمته ، ويخشى حسابه وعذابه ، ويراقبه مراقبة من يعلم أنه يسمعه ويراه ، اذكروه على سبيل التعظيم والإجلال ، وسبحوه بكرة وأصيلا ، والذكر والتسبيح أعم من الصلاة وأشمل ، والمراد بالبكرة والأصيل : أول النهار وآخره ، وإن كان المقصود جميع الأوقات فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [سورة الروم الآيتان 17 ، 18].
هو الذي يصلّى عليكم أيها المؤمنون ، وتصلى عليكم ملائكته ، والصلاة من اللّه رحمة بنا ، ومن الملائكة استغفار لنا ، كل ذلك ليخرجكم من ظلمات النفس الأمارة بالسوء. ومن ظلمات الدنيا الغرور. ومن ظلمات وسوسة الشيطان. بما يهديكم ويرشدكم ويثنى عليكم ويوفقكم إلى طرق النور والعلم والإسلام والخير ، وكان بالمؤمنين رحيما اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [البقرة 257].(3/101)
ج 3 ، ص : 102
وإذا كان اللّه يصلى علينا ويرحمنا ويخرجنا من الظلمات إلى النور ، وهو ربنا الرءوف الرحيم أفلا نذكره ذكرا كثيرا ؟ وهو القائل : فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [سورة البقرة آية 152].
واذكروا أيها المؤمنون أن اللّه - سبحانه - لا ينساكم يوم القيامة بل هو صاحب الفضل عليكم يحيى عباده بالتحية المباركة الطيبة : تحيتهم يوم يلقونه سلام ، سلام من اللّه وفضل عظيم ، وأعد لهم وهيأ أجرا لا يقادر قدره ولا يدرك كنهه ، وإنما هو أجر كريم يأتى العباد بلا طلب ولا تعب ولا مشقة. نسأله - سبحانه - أن يوفقنا للعمل حتى نكون مع هؤلاء في ذلك الأجر الكريم!!
بعض الآداب الإسلامية [سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 49]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)(3/102)
ج 3 ، ص : 103
المعنى :
يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا على الناس ترقب أحوالهم ، وتشاهد أعمالهم ، وتتحمل الشهادة على ما صدر عنهم من التصديق والتكذيب ، وسائر الأعمال : تشهد عليهم وتؤدى الشهادة يوم القيامة بعد أن دعوتهم سرا وإعلانا ليؤمنوا باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [سورة البقرة آية 143].
يا أيها النبي إن ربك أرسلك شاهدا على الناس يوم القيامة ، ومبشرا من آمن بك بالجنة ، ومنذرا من كفر بك أو عصاك بالنار ، وداعيا إلى اللّه وإلى طاعته بإذنه وأمره ، فلست مدعيا ولا متقولا بل كل هذا أمر اللّه وإذنه ، وأنت أيها الرسول السراج المنير الذي يهدى الناس إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.
أرسلك ربك لتفتح أعينا عميا وآذانا صما ، وقلوبا غلفا ، والسكينة والوقار لباسك ، والبر شعارك ، والتقوى زادك ، والحكمة قولك ، والصدق طبعك ، والخلق الكريم خلقك ، والحق والعدل شريعتك ، وقد ألفت بهذا أمما متفرقة ، وقلوبا متنافرة ، وأنقذت بهذا فئات من الناس قد ضلوا من قبل سواء السبيل ، حتى أصبحوا خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، موحدين مؤمنين مخلصين صادقين مصدقين ، يهدون بالحق وبه يعدلون ، وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء وهو ذو الفضل العظيم.
فحقا لقد صدق اللّه إذ يقول : وبشر يا محمد المؤمنين باللّه ورسله وكتبه واليوم الآخر ، العاملين بكتاب اللّه وسنة رسوله ، بشرهم بأن لهم من اللّه فضلا لا يعرف له قدره ، فضلا من اللّه كبيرا ، وأجرا من عند اللّه عظيما ، ورزقا من اللّه كريما. وبعد هذا لا تطع الكافرين والمنافقين ، ولا تأبه بهم ولا تعن بشأنهم ، ودع أذاهم حتى تؤمر بما فيه علاجهم ، وتوكل على اللّه وحده ناصرك وحافظك ومن توكل على اللّه فهو حسبه ، وكفى باللّه وكيلا.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ الآية قد يقول قائل : وما مناسبة هذه الآية لما قبلها ؟ وقد أجاب على ذلك الفخر(3/103)
ج 3 ، ص : 104
الرازي - رحمه اللّه - : وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن اللّه - تعالى - ذكر في هذه السورة مكارم الأخلاق وأدب نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم لكن اللّه - تعالى - أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيه المرسل ، فكلما ذكر للنبي مكرمة ، وعلمه أدبا ذكر للمؤمنين ما يناسبه ، فكما بدأ اللّه في تأديب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بذكر ما تعلق بجانب اللّه بقوله : يا أيها النبي اتق اللّه! وثنى بما يتعلق بأزواجه حيث قال : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ ، وثلث بما يتعلق بجانب عامة الأمة بقوله : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً. كذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب اللّه حيث يقول : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ، ثم ثنى بما يتعلق بأزواجهن : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ وثلث بما يتعلق بأدب المؤمنين مع النبي حيث قال : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ.
والمعنى المراد : إذا نكحتم المؤمنات وكذلك الكتابيات - وإنما تركهن ليعلم المؤمنون أن الأولى نكاح المؤمنات - ثم طلقتموهن من قبل الدخول بهن فليس لكم عليهن من عدة ، إذ المطلقة قبل الدخول بها لا تحتاج إلى براءة رحم ، وإنما المتوفى زوجها عدتها أربعة أشهر وعشر تفجعا على زوجها لا لبراءة الرحم إذ الرحم تبرأ بشهر أو بحيضة.
والواجب هو أن يمتّعن ، أى : يعطين المتعة وهي نصف المهر إذا فرض لها مهر ، أو أى شيء يستمتعن به جبرا لخاطرهن ، وسرحوهن سراحا جميلا لا ألم فيه ولا تعذيب.
من خصوصيات النبي صلّى اللّه عليه وسلّم [سورة الأحزاب (33) : الآيات 50 الى 52]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً (52)(3/104)
ج 3 ، ص : 105
المفردات :
أُجُورَهُنَّ : مهورهن أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ : رده يَسْتَنْكِحَها : ينكحها حَرَجٌ : إثم وضيق تُرْجِي : من الإرجاء وهو التأخير وَتُؤْوِي : تضم ابْتَغَيْتَ أى : طلبت عَزَلْتَ والعزلة : الإزالة والمراد عزلتها من القسمة.
المعنى :
يا أيها النبي إن اللّه أحل لك أن تتزوج من النساء اللاتي أعطيتهن مهورهن واللاتي تملكهن بيمينك من الفيء والغنيمة. وأحل اللّه لك من بنات أقاربك ما شئت من بنات عمك ، وبنات عماتك ، وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك. وأحل اللّه لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها إليك. وأردت نكاحها خالصة من دون المؤمنين ، كل ذلك لئلا يكون عليك حرج ولا إثم.(3/105)
ج 3 ، ص : 106
ومعنى هذا - واللّه أعلم - أن اللّه يبين للنبي الجهة والوصف العام الذي يصح أن يكون أساسا لاختياره نساءه ، فالمرأة التي أوتيت أجرها وقبلت مهرها مهما كان فهي أولى وأفضل ممن لم تأخذ صداقها ، والمملوكة التي سباها الرجل بنفسه أفضل من التي اشتراها من غيره. وبنات عمه وعماته وخاله وخالاته أولى إذا هاجرن مع النبي ، فإن من هاجر أشرف وأولى ممن لم يهاجر.
روى السدى عن أم هانئ بنت أبى طالب قالت : خطبنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فاعتذرت إليه - لأننى كنت امرأة كثيرة العيال - فقبل عذري فأنزل اللّه هذه الآية. قالت : فلم أكن أحل له ، لأننى لم أهاجر وكنت من الطلقاء.
ويؤكد هذا المعنى - أفضلية وأولوية تلك الأصناف - قوله تعالى : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأراد نكاحها خالصة له حتى تصير له زوجة ، وللمؤمنين أما.
وقد ذكر القرطبي - رحمه اللّه - في تفسيره لهذه الآية وجهين آخرين : أولهما أن الآية تفيد حل جميع النساء للنبي إذا آتاهن أجورهن ، وعلى هذا فالآية مبيحة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم التزوج بمن شاء ما عدا المحارم لأنه لا جائز أن تفهم أن المراد أحل له أزواجه اللاتي هن معه لأن الحل يقتضى تقدم الحظر ، ولا حظر موجود ، وأيضا فلم يكن تحته من بنات عمه ولا عماته. ولا خاله ولا خالاته ، فثبت أنه أحل له التزويج بهؤلاء ابتداء ، وعلى ذلك فالآية ناسخة - على رأى من يقول بالنسخ - لقوله : لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وإن كانت متقدمة عليها.
وقيل المراد : أحللنا لك أزواجك اللاتي هن عندك فقط ، وآتيتهن أجورهن لأنهن اخترنك وآثرن البقاء معك على الدنيا وزخرفها ، والذي رجح هذا قوله - تعالى - آتيت أجورهن : لأن (آتى) فعل ماض ليس للمستقبل ، ويؤيد هذا التأويل قول ابن عباس : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يتزوج من أى النساء شاء ، وكان يشق ذلك على نسائه.
فلما نزلت هذه الآية ، وحرم عليه بها النساء ، إلا من سمى سر نساؤه ، وهذا رأى الجمهور ، وفيه تضييق على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقد رجح القول الأول القرطبي لما ذكرناه عنه ، ولقول عائشة - رضى اللّه عنها - :
ما مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى أحل اللّه تعالى له النساء. بقي ذكر بنات عمه(3/106)
ج 3 ، ص : 107
وعماته ... إلخ فالجمهور يقولون : أحل اللّه لك ذلك زائدا على الأزواج اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك ، لأنه لو لا أراد أحللنا لك كل امرأة تزوجتها وآتيتها المهر لما كان لذكرهن فائدة - وأصحاب الرأى الأول يقولون إن المراد التوسيع على النبي لا التضييق عليه وتلك خصوصية له ، وإنما ذكرهن تشريفا لهن ولهذا نظير قوله :
فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [سورة الرحمن آية 68] - اللّه أعلم بكتابه.
وإنما خص المهاجرات من الأقارب بجواز تزوج النبي منهن متى شاء لأن من لم يهاجر لم يكمل ، ومن لم يكمل لا يصلح للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم الذي كمل وشرف وعظم.
وهل يجوز نكاح الهبة ؟ لقد أجمع العلماء أن هبة المرأة نفسها غير جائزة وأن هذا اللفظ من الهبة لا يتم عليه نكاح ، وعند أبى حنيفة وصاحبه : إذا وهبت فأشهد هو على نفسه بمهر فذلك جائز.
لقد وهب كثير من النساء أنفسهن للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وروى عن عائشة أنها قالت : كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأقول : أما تستحي امرأة تهب نفسها لرجل ؟ حتى أنزل اللّه - سبحانه وتعالى - : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ فقالت : واللّه ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
وروى البخاري أن خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول اللّه ، وقيل الموهوبات أربع : ميمونة بنت الحارث ، وزينب بنت خزيمة ، وأم شريك بنت جابر ، وخولة بنت حكيم.
قال الشعبي في قوله تعالى : ترجى من تشاء منهن .. الآية .. هن الواهبات أنفسهن وتزوج رسول اللّه منهن ، وترك منهن ، وقال الزهري : ما علمنا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أرجأ أحدا من أزواجه بل آواهن كلهن. وهذا هو المعقول ، والآية سيقت توسعة على رسول اللّه.
وقيل : المعنى المراد هو أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مخير مع أزواجه بين أن يقسم بالسوية أو يترك القسم إن شاء أرجأ وأخر بعضهن ، وإن شاء آوى إليه وجمع بعضهن ، ولكنه كان يقسم بالسوية ، ويؤوى إليه الكل ، دون أن يفرض اللّه عليه ذلك من قبل ، وإنما فعل ذلك تطييبا لنفوسهن وصونا لها عن أحوال الغيرة التي قد تؤدى إلى ما لا تحمد عقباه.(3/107)
ج 3 ، ص : 108
ومن ابتغيتها وطلبتها بعد أن عزلتها وأزلتها فلا جناح عليك في ذلك ، أى : إن أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن من القسمة وتضمها إليك فلا بأس عليك في ذلك ، وكذلك حكم الإرجاء ، ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهن أدنى إلى إرضائهن وسرورهن بكل ما تفعل ، وتلك خصوصية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
ومن الأحكام الشرعية أن الرجل الذي يتزوج امرأتين واجب عليه أن يعدل بينهن بالسوية في كل شيء.
اللّه يعلم ما في قلوبكم ، وكان اللّه عليما بكل شيء حليما في كل حكم.
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ الآية .. في هذه الآية خلاف بين العلماء تبعا لما قالوا في تفسير قوله تعالى : إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية.
فقال بعضهم : لا يحل لك النساء من بعد ما وصفنا وبينا لك من الأوصاف السابقة أما غيرهن من الكتابيات أو غير المهاجرات من أقاربك فلا يحل لك منهن أحد ، وقال بعضهم : هذه منسوخة بالآية المتقدمة ، وتقدمها في التلاوة لا يضر.
وقال بعضهم : لما اختار نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ذاته الشريفة جوزين على ذلك بتحريم غيرهن على النبي ، وعدم طلاقهن منه ، وجعلهن أمهات للمؤمنين ، ذلك مكافأة لهن على ذلك.
ولا أن تبدل بهن من أزواج ، أى : لا يحل طلاقهن وتزوج غيرهن ، ولو كنت معجبا بحسنهن إلا ما ملكت يمينك مما أفاء اللّه عليك.
وكان اللّه على كل شيء رقيبا.
كلمة عن تعدد أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم
لقد تكلم بعض الناس في أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وكثرتهن يرمون إلى أنه رجل شهوانى لا يعقل أن يكون نبيا!! حقيقة مات النبي عن تسع نسوة لكل واحدة ظرف خاص في زواجها لو عرفناه لحكمنا حكما صحيحا في هذا الموضوع. أما السيدة خديجة فقد تزوجها وسنه خمس وعشرون سنة وسنها أربعون سنة ، ومع هذا الفارق الكبير فقد عاشا عيشة سعيدة حتى توفيت ، وقد أمضى معها زهرة شبابه ، إذ ماتت وهي في سن(3/108)
ج 3 ، ص : 109
الخامسة والستين ، ومع هذا لم يتزوج مع غيرها مع عدم المانع ، ثم تزوج بعائشة مع صغر سنها ، وبحفصة مع عدم جمالها ، وأم سلمة مع كثرة عيالها وكبر سنها كل هذا لإرضاء أصحابه ورجال دعوته ، وجبرا لخاطر امرأة كأم سلمة هاجرت مع زوجها إلى الحبشة وإلى المدينة لما مات زوجها ، أليس من المروءة أن يجبر خاطرها حتى يطمئن كل قواده وجنوده على أهليهم بعد وفاتهم ، وهذه سودة العجوز ليس الزواج بها لشهوة ، وهذه زينب بنت جحش قد عرفت قصتها سابقا ، وأما النساء الباقيات فأم حبيبة بنت أبى سفيان زعيم قريش أسلمت قبل أبيها وهاجرت إلى الحبشة ثم لما مات زوجها تزوجها النبي إكراما لها وتقديرا لعملها ، وصفية بنت حيي بن أخطب زعيم اليهود ، وجويرية بنت الحارث زعيم بنى المصطلق وقد هزمت قبيلتهما فأراد النبي أن يجبر خاطر صفية وجويرية فتزوجهما لأسباب سياسية لا تخفى على قائد جماعة وصاحب دعوة.
ولا يظن أحد أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يعيش عيشة المترفين في بيته ، فهذه عائشة يروى أنها قالت : إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول اللّه نار! فقال لها عروة بن الزبير : ما كان يعيشكم ؟ قالت : الأسودان : التمر والماء.
فعلى رسلكم أيها النقاد بغير علم ، أو بعلم ، وقد أعماكم هذا التعصب الذي يجعل القلوب في أكنة بعيدة عن نور الحق ، هذه حياة النبي ، وتلك ظروف زوجاته كلهن فما تزوج لجمال أو لشباب ، أو لطلب رفاهية ؟ وما كان صلّى اللّه عليه وسلّم مترفا في مأكل أو مشرب أو مسكن « تقول عائشة : لقد توفى رسول اللّه وما في رفّي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي » ، وكان الحصير يؤثر في جنبه صلّى اللّه عليه وسلّم
ما وجب على المؤمنين نحو بيت النبي مع آية الحجاب [سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 الى 55]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً (55)(3/109)
ج 3 ، ص : 110
المفردات :
إِناهُ : منتظرين نضجه ، وأصل الكلمة من : أنى الشيء يأنى إناه : إذا حان إدراكه ، وفي شرح القاموس : (أنى) بمعنى أدرك وبلغ. فَانْتَشِرُوا : اذهبوا حيث شئتم وتفرقوا. مَتاعاً المراد : ما يحتاج إليه وينتفع به من سائر المرافق.
هذه الآيات تضمنت أمرين مهمين :
أولهما : الآداب العامة عند الطعام والجلوس له.
ثانيهما : الحجاب وعدم الاختلاط ، وقد نزلت الآيات في بيت النبي ، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
أما الأمر الأول : فالجمهور من المفسرين على أن سبب النزول هو : لما تزوج النبي من زينب بنت جحش أولم عليها ودعا الناس ، فلما طعموا جلس بعض الناس يتحدثون في بيت رسول اللّه ، وزوجته مولية وجهها إلى الحائط - إذ البيت عبارة عن حجرة واحدة - فثقلوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال أنس بن مالك : فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فخرج(3/110)
ج 3 ، ص : 111
وخرجت معه لكي يخرجوا وقد تباطأ القوم في الخروج ، قال أنس : وأخبرت النبي أن القوم خرجوا ، فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ، ونزل الحجاب ، فأنزل اللّه - عز وجل - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلى قوله : إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً روى هذا الحديث بالمعنى ، وأصله موجود في البخاري ومسلم.
وعن ابن عباس : أنها نزلت في أناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فيدخلون قبل أن يدرك الطعام فيقعدون إلى أن يدرك ثمّ يأكلون ولا يخرجون. وقال بعضهم : هذا أدب أدب اللّه به الثقلاء.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي في حال من الأحوال إلا في حال قد أذن لكم فيه إلى طعام غير منتظرين نضجه ، أى : لا تدخلوا بيوت النبي إلا في وقت الإذن لكم إلى طعام ، ولا تدخلوه إلا غير منتظرين إناه ، ولكن إذا دعيتم إلى الطعام وأذن لكم في الدخول فادخلوا فإذا طعمتم فاذهبوا متفرقين ، ولا تمكثوا مستأنسين بالحديث كما فعل بعضهم في وليمة زينب جحش.
إن ذلكم كان يؤذى النبي ، وأى إيذاء أكبر من بقاء عامة الناس في بيت الزوجية ؟
الذي هو حق لها ، وسكن الزوج مع زوجته ، وكان النبي يستحى ويمتنع من إظهار ألمه لكم ، ولكن اللّه لا يستحيى من إظهار الحق. بل يبين للناس ما به يتأدبون بأدب القرآن فاعلموا أن هذا الانتظار خطأ وحرام عليكم فلا تعودوا لمثله أبدا.
روى أن عمر بن الخطاب - رضى اللّه عنه - قال : يا رسول اللّه يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ؟ فنزلت الآية.
وانظر إلى القرآن وهو يعالج أمر الحجاب مبتدئا بأمهات المؤمنين اللائي هن أطهر النساء وأعفهن ، حتى نتبصر في أمرنا حينما يقال لنا : إنا نختلط ولا يحصل شيء أبدا ، ولست أدرى : ما سبب الحوادث التي نقرؤها كل يوم في الجرائد عن الخيانات والقتل والطلاق ؟ ! أليس مرجعها كلها إلى ضعف الوازع الديني وإلى الاختلاط في البيوت والشارع بل وفي المقاهى والمسارح والمصايف ؟ !(3/111)
ج 3 ، ص : 112
وإذا سألتموهن - نساء النبي - متاعا أى متاع في الدين والدنيا فاسألوهن من وراء حجاب.
ذلكم ، أى : ما ذكر من الاستئذان قبل الدخول ، وعدم الاستئناس للحديث ، وسؤال المتاع من وراء الحجاب ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ من الخواطر التي تعرض لكل رجل وامرأة إذا اختلى بها ، وذلك أنفى للريبة ، وأبعد للتهمة وأمنع في الحصانة.
أليس هذا دليلا على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له فإن مجانبة ذلك أحسن وأحسن لحاله وأحصن لنفسه وأتم لعصمته.
وإذا كان هذا حال الرعيل الأول من المسلمين فما بالنا اليوم ؟ اللهم نسألك اللطف والهداية والرحمة.
وما كان لكم أن تؤذوا رسول اللّه ، ولا ينبغي منكم ذلك.
وما كان لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا ، فإنهن أمهات المؤمنين ، ولا يليق بكم أن تفعلوا ذلك أبدا. وهذه الآية رد على من قال : إذا مات رسول اللّه أتزوج عائشة من بعده ، إن ذلكم المذكور من ألم رسول اللّه بدخول الناس بدون إذن أو مكثهم لغير حاجة أو طلبهم نكاح أزواجه من بعده ، إن ذلكم كان عند اللّه عظيما ، فلا ذنب أعظم منه ، وهذا يفيد أن هذه من الكبائر ، واعلموا أن اللّه يعلم الغيب والشهادة وهو العليم بذات الصدور ، فإن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن اللّه بكل شيء عليم ، وسيجازى عليه.
ولما نزلت آية الحجاب تساءل بعض أقارب أمهات المؤمنين : أنحن نكلمهم من وراء حجاب ؟ فرد اللّه عليهم بقوله : لا جناح عليهن ولا إثم في أن يكلمن آباءهن أو أبناءهن ، أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن ، أو ما ملكت أيمانهن من العبيد ، وكذا بقية المحارم التي ذكرت في سورة النور كالعم والخال مثلا.
واتقين اللّه - أيها النساء - فأنتن سبب الاختلاط ، وعليكن الوزر الأكبر فيه ، إذ المرأة هي التي تستطيع رد الرجل ، ويستحيل عليه أن يتمكن منها إلا برضاها ، ولذا خصهن بالأمر بالتقوى ، إن اللّه كان على كل شيء شهيدا ورقيبا ، فاحذروه ، واتقوه ، واعلموا أنّه يراكم ويحصى عليكم أعمالكم.(3/112)
ج 3 ، ص : 113
مكانة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وجزاء من يؤذيه هو والمؤمنين [سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 الى 58]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58)
المفردات :
لَعَنَهُمُ اللَّهُ : أبعدهم وطردهم من رحمته مُهِيناً : غاية في الإهانة مُبِيناً : بينا واضحا.
المعنى :
وهذه الآية قد أظهرت الرسول ، وأبانت مكانته عند اللّه وعند ملائكته ، وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء ، واللّه ذو الفضل العظيم ، والصلاة من اللّه على نبيه رحمة ورضوان ، ومن الملائكة دعاء واستغفار ، ومن الأمة دعاء وتعظيم للنبي ، وصلاتنا عليه صلّى اللّه عليه وسلّم بل وصلاة الملائكة بعد هذا الشرف العالي بالصلاة عليه من المتعالي - جل جلاله - لإظهار مكانته عند ربه. ولننال شرف الصلاة عليه وثوابها الجزيل ،
فقد ورد عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : « من صلّى علىّ صلاة صلّى اللّه عليه عشرا »
، وكفاه شرفا أن اللّه وملائكته يصلون عليه ، ولا عجب إذ يوجبها الشافعى في الصلاة ويعد الصلاة على النبي في التشهد الأخير ركنا من أركانها ، وإن خالفه في ذلك أكثر الأئمة.(3/113)
ج 3 ، ص : 114
لهذا نادى الحق - تبارك وتعالى - المؤمنين آمرا لهم بالصلاة على حبيبه وخاتم رسله فقال : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً.
أما كيفية الصلاة على النبي فصل بأى صيغة شئت ، والوارد
أن مالكا روى عن أبى مسعود الأنصارى قال : أتانا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد : أمرنا اللّه أن نصلى عليك يا رسول اللّه فكيف نصلى عليك ؟ قال :
فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى تمنينا أنه لم يسأله ، ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « قولوا :
اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مّجيد. والسّلام كما قد علمتم »
أى : في التشهد وهو السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته.
هذه مكانة أشرف الخلق على اللّه وفضل الصلاة عليه ، وهم كما يقولون : الضد أقرب خطورا بالبال ، فما جزاء من يؤذيه ، ولا يصلى عليه ؟
أما من يؤذى اللّه ورسوله فالويل ثم الويل له ألف مرة ومرة ، إنما جزاؤه لعنة اللّه وطرده من رحمته ، ويا له من جزاء قاس يناسب هذا الجرم وفي الآخرة أعد له عذاب شديد ذو إهانة وقسوة.
من يؤذى اللّه بالإشراك به ونسبة ما لا يليق له والكذب عليه ، وعدم الامتثال لأمره ، ومخالفة رسله ، وإيذاء الرسول بوصفه بما لا يليق ، والهجوم عليه ، وعدم الامتثال له وتكذيبه والطعن في آل بيته ، والكلام في حقه وعدم الرضا بفعله ، كل هذا إيذاء للّه ورسوله عليه الجزاء الشديد في الدنيا والآخرة.
والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير جرم ارتكبوه أو ذنب اقترفوه إيذاء بالظلم لا بالحق ، وهم بهذا الوصف وهو الإيمان ، أى : لأجله ، هؤلاء قد احتملوا إثما كبيرا هو كإثم البهتان والكذب على اللّه.
ولا يدخل في ذلك من يقوم .. بالرعاية والتأديب فيقسو لغرض شريف.(3/114)
ج 3 ، ص : 115
ستر عورات النساء [سورة الأحزاب (33) : آية 59]
{ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) }
المفردات :
يُدْنِينَ الإدناء : التقريب ، والمراد الإرخاء والسدل جَلَابِيبِهِنَّ : جمع جلباب وهو الثوب الذي يستر جميع البدن.
المعنى :
توفى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن تسع من النساء هن عائشة ، وحفصة ، وأم حبيبة.
وسودة ، وأم سلمة ، وميمونة ، وزينب بنت جحش ، وجويرية ، وصفية بنت حيي ابن أخطب الهارونية.
وأما أولاده فسبعة : ثلاثة ذكور ، وهم القاسم ، وعبد اللّه وأمهما خديجة ، وإبراهيم وأمه مارية القبطية التي أهداها له المقوقس عظيم القبط بمصر ، وأربع إناث وهن فاطمة الزهراء - رضى اللّه عنها - وزوجها على بن أبى طالب وأمها خديجة ، وزينب وتزوجها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع ، ورقية زوجها عثمان بن عفان ، وماتت والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم في غزوة بدر ، وأم كلثوم تزوجها عثمان بعد وفاة أختها ولذا سمى بذي النورين وتوفيت في حياة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
فكل أولاده صلّى اللّه عليه وسلّم الذكور والإناث من خديجة إلا إبراهيم فمن مارية القبطية ، وقد فارقن الحياة قبل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلا فاطمة الزهراء فماتت بعد النبي وهي أول من لحق به من آل بيته الكرام - رضى اللّه عنهم جميعا - فتلك ذرية بعضها من بعض.(3/115)
ج 3 ، ص : 116
وقد كانت العرب في الجاهلية منغمسين في التبذل ، وإبداء الزينة ومواضعها والكشف عما يجب ستره كما يفعل الإماء.
وقد جاء الإسلام دين السلام ودعوة الحق والتحرر من قيد التقليد الأعمى ، والانطلاق نحو المثل العليا وتكوين المجتمع الصالح ، المؤسس على تقوى من اللّه ورضوان.
جاء الإسلام فخاطب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أولا في شأن أزواجه وبناته ونساء المؤمنين عامة ليعلم الكل أن هذا علاج مر. وأنه لا يقوم به إلا أولو العزم من الرجال ، وحقا لا يستطيع تأديب زوجته وأخته وبنته ، وكبح جماح الغريزة التي تدعو إلى التبرج والظهور إلا كل رجل! وكفى!! ..
يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن فيسترن أجسامهن كلها حتى وجوههن إلا ما به ترى الطريق ، ويرى بعضهم أن ستر الوجه إنما يكون عند الفتنة ، ولا يبدين زينتهن ، أى : موضعها إلا لمحارمهن التي ذكرت في سورة النور ، آية 31.
أمر اللّه تعالى جميع النساء بالستر وإن ذلك لا يكون إلا بما يستر بدنها ، إلا إذا كانت المرأة مع زوجها وفي بيتها ، فلها أن تلبس ما تشاء لأن لزوجها أن يستمتع بها كيف شاء! يا نساء المؤمنين اسمعن ما نصح به النبي بعض أصحابه :
روى أن دحية الكلبي لما رجع من عند هرقل فأعطاه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قبطية فقال :
« اجعل صديعا - نصفا - لك قميصا ولصاحبتك صديعا تختمر » ثم قال له : « مرها تجعل تحتها شيئا لئلّا يصف .. » .
وروى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : « نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات ، رءوسهنّ مثل أسنمة البخت - نوع من الإبل - لا يدخلن الجنّة ولا يجدن ريحها » .
وقال عمر - رضى اللّه عنه - : ما يمنع المرأة المسلمة إذا كانت لها حاجة أن تخرج في أطمارها وأطمار جارتها مستخفية لا يعلم بها أحد حتى ترجع إلى بيتها.(3/116)
ج 3 ، ص : 117
ذلك الذي يأمركم به ربكم من الستر أدنى وأقرب أن تعرفن وتتميزن بأنكن المؤمنات القانتات العابدات الحافظات فروجهن ، فلا تؤذين بقول من ساب أو جاهل ، ويعرفكن الأبرار الصالحون فيتكون البيت المسلم الكامل.
أيتها المؤمنات : إن الدين حينما يفرض الحجاب ، ويوصى بالستر التام للجسم كله إنما يهدف إلى عدم الإيذاء لكن ، فكم من امرأة عفيفة ظهرت في الشارع سافرة فلاقت من الأذى ما لاقت! وإنى لأعجب حينما نرى بعض نساء المؤمنين في الشارع قد برزن بروزا يلفت النظر ، خرجن كاشفات عن مواضع في أجسامهن لا يليق بهن أبدا كشفها.
أفيليق من المرأة المؤمنة أن تخرج كاشفة عن وجهها ورأسها وثديها وساقها وإبطها ، وتستر الباقي بثوب شفاف يظهر ثديها ؟ .. وايم الحق قد ترى حلمة الثدي وموضع السرة!! ..
يا للّه للمسلمين والمسلمات!! يا نساء المسلمين إن جاز هذا من غيرنا فليس يجوز أبدا منا!! يا نساء المؤمنين ليس في الكشف عن العورة فائدة أبدا بل هناك الضرر كل الضرر ..
يا نساء المؤمنين كل بدن الحرة عورة إلا وجهها وكفيها.
يا نساء! إن في ستر العورة منعا للفتنة ، ومدعاة للعفة وبعدا عن مظان التهمة ، وحفظا لكن من تعرض الفساق وإيذائهم بالرفث وفحش القول.
يا أيها المؤمنون اعلموا أنكم المطالبون بستر عورات نسائكم ، فأنتم مع الرسول مخاطبون يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الآية .. فلا يعتذرن أحد ، ولا يلقين أحد تبعة هذا على النساء وحدهن!! أيتها الأخت المسلمة : كوني مثلا أعلى للمسلمات ، واحذرى الشيطان وفتنة المجتمع المنحل الذي تعيشين فيه ، وتذرعى بالصبر ، واعلمي أنه لا يزال في الأمة من يقدر العفاف والأدب وحسن السيرة! وإنى أختتم هذا بأن أدعو اللّه أن يرزقنا التوفيق والسداد فهو ربنا الرحمن الرحيم بنا ،(3/117)
ج 3 ، ص : 118
فموضوع الاختلاط والتبرج والانحلال الخلقي العام في طبقات الشعب داء استشرى ، وفساد عم ، لم يعد يكفيه وعظ وإرشاد ، وإنما هو في حاجة إلى قوة السلطان وصولة الحاكم الذي يدين بعلاج القرآن ، ويؤمن أن فيه خير الشعب والدولة ، وما ذلك على اللّه بعزيز ، وهو نعم المولى ونعم النصير.
هؤلاء المنافقون وهذا جزاؤهم [سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 62]
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)
المفردات :
مَرَضٌ المراد : مرض الفسوق والعصيان وَالْمُرْجِفُونَ : الإرجاف والرجفان الاضطراب الشديد ، والمراد المتلمسون الفتنة المشيعون للأكاذيب والأباطيل لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ : لنسلطنك عليهم.
المعنى :
وهذه آية نزلت في المنافقين كاشفة حالهم ، هاتكة سترهم ، مهددة لهم ، وأى تهديد أكثر من قوله : لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ؟ ! وقد أجمع المفسرون تقريبا على أن هذه الأوصاف الثلاثة - النفاق ، ومرض القلب والإرجاف - لشيء واحد ، ولا شك أن من لوازم النفاق مرض القلب فهما(3/118)
ج 3 ، ص : 119
متلازمان ، والإرجاف بالفتنة ، وإشاعة السوء نهاية النفاق ، والمنافقون جمعوا بين هذه الأوصاف الثلاثة.
على أن المنافقين قوم برزوا في إظهار مرض القلب الذي ينشأ عنه كل إثم وفسوق وعصيان ، وخاصة تتبع النساء والتعرض لهن بالسوء ، وإغرائهن على الفاحشة ، وفيهم قوم برزوا في الإرجاف وإذاعة السوء ، وإذاعة الأكاذيب التي تفت في عضد الجماعة ، وتقتل فيهم روح الإقدام ، وكانوا ينتهزون فرص الحرب والقتال فيذيعون كل ضار ومفسد.
ولقد أقسم اللّه بنفسه مهددا لهم : لئن لم يكف هؤلاء المنافقون عن نفاقهم ، وينتهوا عن أعمالهم القبيحة التي تنشأ عن مرض القلب وسوء القصد ، وفساد النفس ، ولئن لم يبتعدوا عن الإرجاف في المدينة بالسوء ، لئن لم ينتهوا عن ذلك لنغرينك بهم!! إنه لتصوير بديع جدا حيث أبرز الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم كأنه أسد مفترس أمامه فريسته ضعيفة مهينة ، وهو ممنوع منها.
ثم هم بعد ذلك لن يجاوروك في تلك المدينة التي جئتها مهاجرا إلا زمنا قليلا ، وقد كان ذلك كذلك.
وهم ملعونون ومطرودون من رحمة اللّه ومنبوذون من الناس حيث عرفوا وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً [سورة التوبة آية 84].
أينما ثقفوا ووجدوا أخذوا بالضرب والتنكيل والاحتقار ، وهذا جزاء النفاق وهم يقتلون تقتيلا حيثما وجدوا ، ولا غرابة في ذلك ، فالأمم الحديثة الآن لا تعرف الرحمة مع الجواسيس والخارجين على الدولة الذين يطعنون من الخلف ، ويتعاونون مع العدو مع تظاهرهم بالإخلاص.
وتلك سنة اللّه مع المنافقين في كل زمن ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ولا تغييرا.
يقول القرطبي في تفسيره لهذه الآية : « وفي الآية جواز ترك إنفاذ الوعيد ، والدليل على ذلك بقاء المنافقين معه حتى مات ، أى : النبي » .
ولعل السر في وضع هذه الآية هنا للإشارة إلى أن إيذاء الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بالقول أو الفعل ، والتعرض بالسوء لنسائه وبيته ، وعدم امتثال أمر اللّه مطلقا وخاصة في ستر(3/119)
ج 3 ، ص : 120
عورات النساء كل هذا من لوازم النفاق العملي الذي يأباه اللّه ويتنافى مع حقيقة الإسلام ، ونرجو أن يمتثل المسلمون اليوم للأمر بستر عورات نسائهم حتى لا ينطبق علينا وصف النفاق.
وهذا جزاء الكافرين [سورة الأحزاب (33) : الآيات 63 الى 68]
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67)
رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)
المفردات :
سادَتَنا : جمع سيد ، وهو كبير قومه ضِعْفَيْنِ : مثلين.
المعنى :
كان النبي يتوعد الكفار والفساق بعذاب شديد يوم الساعة ، فكانوا يسألون عن الساعة استبعادا لها وتكذيبا ، لأنهم كانوا ينكرون البعث ويقولون : ما يهلكنا إلا الدهر.
فيرد اللّه عليهم آمرا نبيه أن يقول لهم : قل لهم : إنما علمها عند اللّه فهو الذي يعلم(3/120)
ج 3 ، ص : 121
وحده متى تأتى ؟ وما أنا إلا بشير ونذير ، وليس لي علم بالغيب إلا ما أطلعنى اللّه عليه فقط ، على أن إخفاء الساعة من دعائم الحياة في الدنيا ، ولو أننا نعلم متى نفارقها لكان لنا نظام آخر في معيشتنا وحياتنا ، ولكن اللّه الحكيم العليم أخفاها لأسرار وحكم هو يعلمها ، ولعل إخفاءها لنستعد في كل وقت ، وما يدريك ؟ لعل الساعة يكون قريبا حدوثها ،
لقد ورد عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم « بعثت أنا والسّاعة كهاتين » وأشار إلى السبابة والوسطى.
إن اللّه لعن الكافرين وطردهم من رحمته وأعد لهم عذاب جهنم ، نارا مسعرة خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا يلي أمورهم ، ولا نصيرا ينصرهم يوم تقلب وجوههم في النار التي وقودها الناس والحجارة ، وخصت الوجوه بالذكر لأنها طالما عصت ربها ، وآذت رسوله ، وتكبرت على عباده المؤمنين.
واذكر يوم يقولون : يا ليتنا أطعنا اللّه وأطعنا الرسول!! ندموا على ما فرط منهم حين رأوا العذاب المعد لهم ، ندموا ولات ساعة مندم ؟
وقالوا معتذرين : يا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فهم الذين قادونا إلى هذا العذاب وأضلونا عن سواء السبيل.
ربنا آتهم ضعفين من العذاب ، ضعف لكفرهم ، وسوء أعمالهم ، وضعف لأنهم أضلونا وقادونا إلى هذا. ربنا اطردهم من رحمتك وأبعدهم عن جنابك بعدا كبيرا فهم يستحقون ذلك ، وكثيرا ما ينازعون ، ويلقى كل منهم التبعة على الآخر والكل سواء في العذاب المهين لأن اللّه خلق عقلا وفكرا مستقلا فآثر طريق الشيطان والهوى على طريق الحق والهدى فكان هذا جزاءه ومأواه ، وبئس مأوى الظالمين مأواهم.
توجيهات وعظات [سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 الى 71]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)(3/121)
ج 3 ، ص : 122
المفردات :
وَجِيهاً الوجيه : العظيم القدر ، الرفيع المنزلة ، المعروف بكرم الفعال سَدِيداً : صوابا.
المعنى :
سبق أن بين الحق - تبارك وتعالى - أن إيذاء اللّه يوجب اللعن والطرد من رحمة اللّه ، وهذا الإيذاء يجر إلى الكفر ، وهناك نوع منه يجر إلى الإثم ، نهى اللّه المؤمنين عنه قائلا :
يا أيها المؤمنون لا تتقدموا إلى رسولكم بإيذاء أيا كان نوعه حتى لا تكونوا كالذين آذوا موسى ، فبرأه اللّه مما قالوا ، وأعد لمن آذاه عذابا شديدا. وكان موسى عند اللّه وجيها.
وقد ورد أن بعض الناس لم يرض بقسمة الرسول ، وبحكمه في الفيء ، وهذا بلا شك إيذاء.
أما إيذاء موسى فحسبك ما رواه القرآن من أن بعض بنى إسرائيل قالوا لموسى :
اذهب أنت وربك فقاتلا. وقولهم : لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة. وقولهم : لن نصبر على طعام واحد ، وقيل : إنهم كانوا يصفونه بأنه آدر.
فأراد اللّه - سبحانه وتعالى - أن يرشد المؤمنين إلى طريق الخير ، وينبههم إلى مواضع الخطر ، حتى لا يكونوا كبني إسرائيل مع موسى ، فإذا أمرهم الرسول بقتال لا يقولون : اذهب أنت وربك فقاتلا ، ولا يليق بالمؤمنين أن يسألوا ما لم يؤذن لهم فيه ،(3/122)
ج 3 ، ص : 123
وإذا أمروا بأمر أن يأتوا منه ما استطاعوا ، وقد برأه اللّه من قولهم : إنه آدر ، حيث كشف عورته قهرا عنه فرأوه سليما صحيحا ، وقد برأه مما قالوا حيث قطع حججهم ، وأبطل كيدهم ، ثم ضرب عليهم الذلة والمسكنة ، وكان موسى عند اللّه وجيها وكريما محبوبا.
فاحذروا أيها المؤمنون ، ولا تكونوا كمن سبقكم ، فهذا الرسول الكريم على اللّه مبرأ من كل دنس وعيب وآل بيته الكرام ، فكفوا عن الأذى ، واتبعوا ما أنزل عليكم ، وأطيعوا اللّه ورسوله لعلكم تفلحون.
ويا أيها المؤمنون اتقوا اللّه ، وقولوا قولا سديدا ، قولا صوابا فيه خيركم ، ولا تقولوا ما فيه ضلالكم وما به عذابكم من كل قول فيه إثم وفحش وزور وبهتان ، فإن تتقوا وتصلحوا أنفسكم ، وتقولوا الخير كالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر : يصلح لكم أعمالكم في الدنيا والآخرة ويغفر لكم ذنوبكم.
فيا عباد اللّه : إن تتقوا اللّه يصلح لكم أعمالكم ، ويمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ، ويؤت كل ذي فضل فضله في الآخرة ، واللّه على كل شيء قدير ، ومن يطع اللّه ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.
أمانة التكاليف وحملها [سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 الى 73]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)(3/123)
ج 3 ، ص : 124
الْأَمانَةَ : المراد بها التكاليف فَأَبَيْنَ : امتنعن خوفا وإشفاقا.
وهذا ختام رائع لتلك السورة التي جمعت أوامر عالية ، وآدابا سامية وحكما ومواعظ رائعة كلها من تكاليف الإسلام بل هي لبابه ، وفي هذه الآيات بيان أن التكاليف ليست هينة ، وإنما هي عظائم الأمور التي نأت عنها السموات والأرضون.
المعنى :
إنا عرضنا الأمانة - التكاليف كلها من طاعات وفرائض - عرضناها على السموات والأرض والجبال فلم تطقها وأبين أن يحملنها وحملها الإنسان على ما بها إنه كان ظلوما جهولا.
اللّه - سبحانه وتعالى - عرض التكاليف على السموات وما فيها ، والأرض وما عليها من جبال وسهول ونبات وغيره ، فأدت ما طلب منها فورا ، وأبت كل هذه الأشياء أن تحمل الأمانة وتؤخر الوفاء بها ، ألا ترى إلى الملائكة ؟ ! هل هم يحملون الأمانة ؟ أم هم يقومون بما عليهم فورا ، ولا يحملون شيئا ، الملائكة على هذا الاعتبار لم يحملوا الأمانة ، ولأضربن لك مثلا بسيطا : إذا وجب الظهر وجبت عليك صلاته في وقته ، فإن أديته فورا صدق عليك أنك لم تحمل أمانته بل أديتها في وقتها كالرجل الذي عنده وديعة إلى أجل إذا حل الأجل لم يحملها ، بل يعطيها لصاحبها ، وإذا تأخرت عن الصلاة حتى فات الوقت كنت حاملا للأمانة ، واللّه أعلم. فالسماوات والأرض والجبال ومن فيهن وما عليهن لا يحملون الأمانة أبدا بل يقومون بما طلب منهم فورا ساعة طلبه.
أما الإنسان ، أى : بعضه فقد حمل الأمانة على ما بها من جزاء العاملين وعذاب المقصرين بهذا المعنى السابق ، ولم يأب حملها ، ولم يشفق منها ومن عذابها إنه كان ظلوما لنفسه جهولا لم يعمل ما يقيه من العذاب المعد لمن خان الأمانة ، ولم يوف بالعهد.
وكان من نتائج أن اللّه حمله تلك التكاليف فحملها : أن اللّه يعذب المشركين والمنافقين على أعمالهم السيئة ، وعلى خيانتهم للأمانة وعدم وفائهم بالعهود.
وكان من نتائج ذلك أيضا أن اللّه يتوب على المؤمنين ، ويثيبهم على ما عملوا من صالح الأعمال ، وعلى ما أدوا من أمانات ووفوا بالتزامات ، وكان اللّه غفورا رحيما.(3/124)
ج 3 ، ص : 125
سورة سبأ
مكية كلها إلا آية (6) : وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الآية .. فقيل فيها : إنها مكية وقيل : هي مدنية. وآياتها أربع وخمسون آية. ويدور محور الكلام فيها على البعث ، ونقاش المشركين في أعمالهم وعقائدهم ، وخاصة إثبات البعث ، وفي خلال ذلك سيقت بعض القصص للعبرة والتسلية ..
إثبات البعث وبيان دواعيه على منكريه [سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)(3/125)
ج 3 ، ص : 126
المفردات :
يَلِجُ : يدخل فيها يَعْرُجُ فِيها : يصعد فيها لا يَعْزُبُ : لا يغيب مُعاجِزِينَ : عاجزه وأعجزه : سبقه وغالبه مُزِّقْتُمْ : قطعتم قطعا صغيرة نَخْسِفْ خسف المكان : ذهب في الأرض ، وخسف به الأرض غاب به فيها كِسَفاً جمع كسفة : وهي القطعة مُنِيبٍ : راجع إلى ربه.
وهذا افتتاح لسورة سبأ وهي سورة مكية عنيت بإثبات البعث والرد على منكريه ، كما ذكرنا.
المقصود من هذه الآيات إثبات البعث ، وقدم له الحق - تبارك وتعالى - بمقدمة غاية في الدقة ، ونهاية في الحسن والجمال ، إذ نعم اللّه تنحصر في الجملة في نعمتين : نعمة الإيجاد والإبقاء في الدنيا ، ونعمة الإعادة والدوام في الآخرة ، ونرى أن السورة التي بدأت بالحمد في القرآن خمس : اثنتان في النصف الأول هما الأنعام والكهف ، واثنتان في النصف الثاني هما سبأ وفاطر ، والخامسة الفاتحة وهي توضع في الأول والآخر.(3/126)
ج 3 ، ص : 127
وفي أول سورة الأنعام الإشارة إلى نعمة الإيجاد هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وفي أول الكهف الإشارة إلى الإبقاء الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ولا تبقى الدنيا بلا قانون وأحكام دستور ونظام ولذا تكلم فيها عن القرآن ، وهنا الإشارة إلى الإعادة والبعث بدليل قوله : وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وفي أول سورة فاطر الإشارة إلى دوام وبقاء الحياة الآخرة جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ والملائكة كلها لا تكون رسلا إلا يوم القيامة وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ.
وسورة الفاتحة جمعت البدء والإعادة معا فقرئت في البدء والختام للقرآن.
المعنى :
الحمد للّه حمدا يوازى نعماءه ، ويكافئ فضله ، فهو اللّه الذي لا إله إلا هو له الحمد المطلق في الأولى ، وله الحمد في الآخرة ، وله وحده الحكم ، وإليه وحده ترجعون ، الحمد للّه الذي له ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا فهو وحده صاحب النعم لأنه المالك للكل فهو إذن المستحق للحمد في الأولى والآخرة ، وهو الحكيم الخبير بكل كائن.
يعلم كل ما يلج في الأرض ويدخل فيها من بذور وماء وثمار وكنوز ودفائن وأجسام ، ويعلم كل ما يخرج منها من نبات وأشجار ، وحيوان ومياه ومعادن وأحجار ، ويعلم ما ينزل من السماء من مطر وثلوج وصواعق وأرزاق وما يعرج فيها ويصعد إليها من الملائكة وأعمال العباد.
وهو مع ذلك كله الغفور الرحيم ، لمن يفرط في واجب الشكر والثناء لصاحب هذه النعم.
ثم بين القرآن أن هذه النعمة التي يستحق بها الحمد وهي نعمة الحياة الآخرة أنكرها قوم وكفروا بها فقال :
وقال الذين كفروا من المشركين وغيرهم الذين ينكرون البعث والحياة الآخرة قالوا لا : لا تأتينا الساعة أبدا. فرد اللّه عليهم بقوله لنبيه : قل لهم : بلى ستأتيكم أيها(3/127)
ج 3 ، ص : 128
المنكرون ثم أقسم على ذلك مؤكدا فقال : وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.
يا أخى : قف معى عند قوله تعالى : لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ أليست معجزة القرآن حيث ذكر تفتيت الذرة من أربعة عشر قرنا ؟ ! سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [سورة فصلت آية 53].
لم يكتف اللّه بالقسم على إتيان يوم الساعة بل ذكر الدليل على ذلك فقال :
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بعد قوله : عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ولعل هذا هو السر في اختيار وصف اللّه بالعلم هنا ، ووجه الدلالة أنهم كانوا يفهمون أن البعث محال لتفتت الأجسام وضياع الأجزاء فكيف يتأتى جمعها بعد تفريقها ؟ واللّه يرد عليهم بأنه عالم يعلم السر وأخفى ، وهو العليم بكل الجزئيات التي في السموات والأرضين ، على أنه حكيم ومن الحكمة أن يجازى المحسن على إحسانه ، ويعاقب المسيء على إساءته ، وأن الدنيا ليست محل جزاء بل هي موضع ابتلاء لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى « 1 » فربك يوم القيامة يجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالجنة ، أولئك البعيدون في درجات الكمال الذين يشار إليهم بالبنان لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة من اللّه ورضوان ، ولهم رزق كريم لا يتبعه من ولا ألم ، وليس صاحبه مهددا بفقر أو موت.
والذين سعوا جاهدين في إبطال آياتنا حالة كونهم معتقدين عجزنا وأننا لن نحيط بأعمالهم ، وفي قراءة (معاجزين) أى : مسابقين اللّه ، وإن كان هذا مما لا يتصور إلا أن المكذبين بآيات اللّه لما قدروا في أنفسهم وطمعوا أن كيدهم في الإسلام يتم لهم شبهوا بمن يسابق اللّه بحسب زعمهم.
والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز - وهو أسوأ العذاب - أليم غاية الألم ، إذا لا بد من البعث ليأخذ كل جزاءه على ما قدم.
___________
(1) - سورة النجم آية 31.(3/128)
ج 3 ، ص : 129
تلك مقالة الكفار والرد عليها ، أما الذين أوتوا العلم ، وهدوا إلى الطيب من القول فيرون أن الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ، وهو يهدى إلى صراط العزيز الحميد ، وفيه الإخبار بالبعث وأحوال يوم القيامة فهو حق لا شك فيه.
وانظر إلى الكفار يقولون على سبيل السخرية والاستهزاء : هل ندلكم على رجل يخبركم بالبعث إذا مزقتم كل ممزق ؟ ! أبعد هذا التمزيق وأننا نضل في الأرض نبعث على خلق جديد إن هذا لعجيب ؟ !! تلك مقالة الكفار ثم يتبعونها بقولهم : أهذا الرجل يفترى على اللّه الكذب عمدا ، أم هو رجل مجنون قد اختلط عقله فما يدرى ما يقول ؟ ! بل أنتم أيها الكفار قوم ليس عندكم استعداد للإيمان بالآخرة ، وأنتم في العذاب بسبب أعمالكم والضلال البعيد لاعتقادكم الباطل ؟
أعموا فلم يروا ما بين أيديهم ، وما خلفهم ، وما على جوانبهم في السماء والأرض من آيات شاهدة وأدلة ناطقة على قدرة اللّه القادرة ، وعلى علمه الكامل المحيط بكل صغيرة وكبيرة ، وأن اللّه - سبحانه وتعالى - قادر على أن يخسف بهم الأرض كما خسف بقارون لما بغى ، أو يسقط عليهم كسفا من السماء كما فعل بأصحاب الأيكة لما ظلموا ، إن في ذلك كله لآيات لكل عبد منيب تواب يرجع إلى اللّه.
داوود وسليمان [سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 14]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)(3/129)
ج 3 ، ص : 130
المفردات :
أَوِّبِي التأويب : التسبيح سابِغاتٍ المراد : دروعا سابغات ، وهي الدروع الكوامل. يقال : سبغ الدرع والثوب وغيرهما : إذا غطى كل ما هو عليه وفضل منه وَقَدِّرْ من التقدير ، أى : قدر تقديرا حسنا يجمع بين الخفة والمتانة فِي السَّرْدِ أى : نسج الدروع المحكمة ، بمعنى أن تكون حلقها متوالية غير مختلفة أَسَلْنا : جعلناها سائلة عَيْنَ الْقِطْرِ : هو النحاس المذاب يَزِغْ مِنْهُمْ زاغ عن الأمر : ابتعد وعدل عنه مَحارِيبَ جمع : محراب ، وهو البناء المرتفع ، ومنه محراب الصلاة ، لأنه يرفع ويعظم وَتَماثِيلَ : جمع تمثال وهو كل شيء مثلته بشيء ، أى : صورته بصورته سواء كان حيوانا أو غيره وَجِفانٍ : جمع جفنة ، وهي القصعة الكبيرة ، والمراد إناء للأكل كبير كَالْجَوابِ : جمع جابية : وهي الحفرة الكبيرة يجيء إليها الماء ، أى : يجتمع فيها الماء راسِياتٍ المراد أنها ثابتات لا تتحرك لعظمها دَابَّةُ الْأَرْضِ : وهي دويبة تأكل الخشب يقال لها الأرضة مِنْسَأَتَهُ أى : عصاه خَرَّ : سقط.
المعنى :
كان داود في عصر حروب ونزاع بينه وبين الملك المعاصر حتى أتيحت له الفرصة(3/130)
ج 3 ، ص : 131
فقتل داود جالوت ، وآتاه اللّه الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ، وخاصة ما يتعلق بالحروب كعمل الدروع السابغات وغير ذلك.
ولقد آتينا داود منا فضلا كبيرا يظهر في نواح كثيرة أظهرها أنا قلنا : يا جبال أوبى معه وسبحي إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [سورة ص 18 ، 19]. وهذا أمر يدل على عظم شأن داود وكبرياء سلطانه حيث جعل اللّه الجبال عقلاء منقادين لأمره في نفاذ مشيئته ، تسبيح إذا سبح ، وتكبر إذا كبر ، ولقد سخرنا لداود الطير ، وألنا له الحديد ، ولا شك أن إلانة الحديد بدون نار معجزة لداود ، وهي مناسبة لحاله ، وهو في أشد الحاجة لها هو وقومه ، وأمرناه : أن اعمل دروعا سابغات كاملات تحفظك من بطش العدو ، وتقيك إذا اشتد الحرب وحمى الوطيس.
وقدر في نسجها تقديرا حسنا يجمع بين خفتها ومتانتها ، وأن تكون متتابعة متلاحقة ، ولعل هذا هو السر في قوله : وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ إذ السرد يعطى معنى التتابع.
واعملوا يا آل داود بعد هذا صالحا من الأعمال فإنه لا نجاح ولا فوز على العدو بالقوة المادية فقط ، بل لا بد من العمل الصالح الذي يقوم النفوس ويطهر الأرواح ، ويحصنها حتى لا تكبو ، ومن المطلع على خفايا النفوس ؟ إنه اللّه عالم الغيب والشهادة إنه بما تعملون بصير فاحذروه.
وسخرنا لسليمان الريح تجرى رخاء حيث أصاب ، ريح مسرعة مع الهدوء والسكون تقطع في الغداة ما يقطعه المسافر النشيط في شهر وتقطع في الرواح ما يقطعه المسافر في شهر ، فغدوها شهر ورواحها شهر ، واللّه على كل شيء قدير.
وأسلنا لسليمان عين القطر ، وأجرينا له عينا تخرج نحاسا مذابا بلا نار ولا فحم يستخدمه في أغراضه ، وتكون معجزة له أمام بنى إسرائيل.
ويظهر - واللّه أعلم - أن داود كافح وقاتل حتى خلص الملك من الأعداء فمدته كانت مدة حرب وجلاد ، ولذلك كان مشغولا بعمل الدروع السوابغ ، وفي أيام سليمان كان الهدوء مخيما على المملكة فكان سليمان ينتقل على بساطه الذي يحمله الريح(3/131)
ج 3 ، ص : 132
ليشرف على أطراف المملكة الواسعة الأرجاء ، والشعب كان مشغولا بالبناء والصناعة وتأسيس الدور والمعابد ، ولذلك من اللّه عليه بإذابة النحاس له ، وتسخير الجن يعملون له ما يشاء من محاريب ، وتماثيل ، وقصاع كالجوابى ، وقدور واسعة ثقيلة لا تنقل بل هي راسيات كالجبال.
وكانت الجن تعمل بين يديه ما يريده بإذن ربه ، وهي مهددة فمن يزغ منهم عن أمر اللّه : يملّ عنه يذقه عذابا شديدا من عذاب السعير.
فيا آل داود : هذه بعض نعم اللّه عليكم ، وهي نعم سابغة كثيرة ، ومن أعطى هذا فليعمل للّه شكرا ، وقليل من عباده الشكور ، نعم قليل ما هم ، فقليل من تصفو نفسه ويطهر قلبه ، ويقابل الإحسان بالشكر والنعمة بالحمد « إن الإنسان لربه لكنود » .
وخذوا أيها الناس العبرة من داود وسليمان ، عبدا ربهما وشكرا وأخلصا فمن اللّه عليهما بالنعم التي لا تحصى ، وأجرى على أيديهما المعجزات.
فلما قضينا على سليمان بالموت ، وحكمنا عليه به ، ما دل الجن التي كانت تعمل مسخرة تحت أمره على موته إلا دويبة صغيرة كانت تأكل من عصاه فسقط على الأرض بعد موته بسنة - كما ورد - .
فلما سقط تبينت الجن أمر موته ، وتبين لهم وللناس أنهم لا يعلمون الغيب ولو أنهم يعلمونه لعلموا بموته ولما لبثوا في العذاب المهين الذي هم فيه ، وهو عذاب التسخير ، ومن هنا يمكننا أن نتبصر فيما يقال عن الجن وعلمهم الغيب حتى لا نكون فريسة لأوهام المضللين الفسقة.
فاعتبروا يا أولى الأبصار بتلك القصص فإنها عبرة وعظة.
قصة سبأ وسيل العرم [سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 21]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ (21)(3/132)
ج 3 ، ص : 133
المفردات :
لِسَبَإٍ : قبيلة من قبائل العرب العاربة كانت تسكن بلاد اليمن ، وتعتبر أصلا تفرع منها عدة فروع في الجزيرة سَيْلَ الْعَرِمِ : جمع عرمة وهو ما يمسك الماء من بناء وغيره كالسد ذَواتَيْ مثنى ذات أُكُلٍ بمعنى : مأكول خَمْطٍ : مر بشع ، وقيل : كل شجر له شوك وليس له ثمر وَأَثْلٍ : نبات ينتفع بخشبه وليس له ثمر وسِدْرٍ : نوع من الشجر ، قيل : له ثمر يؤكل وهو النبق ، وقيل : لا ثمر له.
ومنه الضار ، وهو المراد هنا وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ : فرقناهم في البلاد الغريبة (سلطان) : من حجة في اتباعه.(3/133)
ج 3 ، ص : 134
لما بين اللّه حال المؤمنين الأوابين بذكر قصة داود وسليمان بين هنا حال الكفار الضالين الذين قابلوا النعم بالعصيان ، فكان جزاؤهم الحرمان.
المعنى :
لقد كان لسبأ في مساكنهم باليمن آية وعلامة على قدرة اللّه التي تحيى الأرض بعد موتها ، والتي تخرج من الحبة شجرة يانعة الثمار ذات قطوف دانية ، وهذه الآية جنتان عن يمين بلدهم وشماله ، وليس المراد بستانين فقط ، بل المراد نوعان من البساتين : نوع عن اليمين وآخر على الشمال ، وبعض العلماء يفسر الآية في قوله : (آية جنتان) بأنها قصة السبئيين وأنهم قوم أنعم اللّه عليهم بالنعم ثم أعرضوا فأرسل اللّه عليهم ما أهلكهم وبدد شملهم ، وفي هذا عبرة وعظة فهل من مدكر ؟ ! والسبئيون قوم سكنوا بلاد اليمن وأسسوا مدنا عظيمة ذات حصون وقلاع وقصور شامخة ، وقد أنعم اللّه عليهم بالخصب والمطر ، وقد هداهم تفكيرهم إلى إقامة سد عال بين جبلين حجزوا به الماء في الوادي ، وصرفوه بحكمة وهندسة ، فأخصبت أراضيهم ، وزرعوا الزروع ، وأنشأوا الحدائق الفيحاء ذات الثمار الكثيرة ،
روى أنه كانت المرأة منهم تسير وسط الحدائق حاملة مكتلها - المقطف المصنوع من الخوص - فوق رأسها فلا تمضى في السير مدة حتى يمتلئ المكتل من الثمار المتساقطة من الشجر.
اتسعت لديهم النعمة ، وفاض عندهم الخير ، فأكلوا من رزق ربهم ، وتمتعوا بنعمه ، وقيل لهم على ألسنة الرسل : اشكروا ربكم الذي أنعم عليكم!!
وهذه الرقعة من الأرض - بلا شك - بلدة طيبة الثمار والهواء ، كثيرة الخيرات والبركات ، والمنعم بها عليكم رب غفور ستار يستر الذنوب ، ويعفو عن السيئات.
فكان أهل سبأ خلقاء أن يشكروا اللّه على نعمه ، وأن يحمدوه على ما أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ، ورزقهم من الطيبات ، ولكنهم لم يسيروا في الطريق المستقيم بل كذبوا وأعرضوا ، وغرتهم الدنيا بزخارفها وغرهم باللّه الغرور ، كذبوا رسلهم وأعرضوا عن نصائحهم ، فأراد ربك أن يذيقهم وبال أمرهم ، وأن يريهم عاقبة كفرهم ليكونوا عبرة لغيرهم ، وآية ناطقة لمن تحدثه نفسه أن يفعل فعلتهم ويسلك مسلكهم ، فأرسل عليهم سيل العرم فتهدم السد ، وتقوض البناء الذي كان يحجز المياه لهم لوقت(3/134)
ج 3 ، ص : 135
الحاجة ، ولم يستطيعوا أن يحجزوا السيول المتدفقة بل ضاعت سدى في وقت الفيضان في جوف الصحراء بعد أن هدمت مساكنهم وعاد الوادي قطعة من الصحراء الجرداء لا نبات به سوى أشجار لا تثمر إلا كل مر بشع ، وأثل لا غناء فيه ولا نفع ، ولم يبق إلا شيء من سدر قليل ، فقد بدل اللّه أفراحهم أتراحا ونعيمهم بؤسا وسرورهم حزنا ، وهربت العصافير والبلابل ، وخلفتها البوم والغربان تصحيح فوق الخرائب والقصور المتهدمة.
أما الأهلون الذين كانوا يرفلون في ثوب النعيم والاستقرار فقد نزحوا عن الديار ، وتفرقوا في البلاد حتى ضرب بهم المثل فقالوا : (تفرقوا أيدى سبأ).
ذلك - أى : التبديل والانتقال من حال النعيم إلى البؤس - جزاء بما كانوا يعملون ، فقد أعرضوا وكذبوا وكفروا باللّه ورسله ، فكان هذا ، وهل نجازي إلا الكفور ؟ .
فاعتبروا يا أهل مكة بهؤلاء!! وبعد أن كانوا آمنين مطمئنين ينتقلون بين قراهم ومدنهم المتجاورة الآمنة بلا مشقة ولا خوف للرحلة والنزهة والتجارة القريبة ، فكانوا يسيرون فيها ليالي ذوات العدد ، وأياما قليلة في أمان وهدوء ، تعير الحال وتبدل ، وقالوا كفرا وبطرا : ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم ، فحق عليهم العذاب ، وتمت كلمة ربك فيهم ، وجعلناهم أحاديث للناس يضرب بهم المثل ، ومزقناهم كل ممزق ، وفرقناهم في صحراء العرب ، فكان منهم الغساسنة في الشام ، وقبائل أنمار في يثرب ، وجذام في تهامة والأزد في عمان.
إن في ذلك لآيات لكل صبار كثير الصبر على النعمة وغرورها ، شكور للّه على ما تفضل ، فكثير من الناس أبطرتهم النعمة ، وأضلهم المال وغرهم باللّه الغرور ، فاعتبروا يا أهل مكة ، ولا يغرنكم باللّه الغرور!! ولقد صدق عليهم إبليس ظنّا ظنه فيهم ، فإنه قال : لأغوينهم جميعا ، وقال لما طرد :
لأحتنكن ذريته ، أى : آدم إلا قليلا ، فصدق ظنه فيهم ، واتبعوه في إغوائه إلا فريقا منهم هم المؤمنون إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ « 1 » .
وما كان لإبليس عليهم من سلطان وحجة تتسلط عليهم ، لكن كان ذلك لنعلم علم
___________
(1) - سورة الحجر آية 42.(3/135)
ج 3 ، ص : 136
مشاهدة من يؤمن بالآخرة حقّا ممن هو في شك منها ، وربك على كل شيء حفيظ ، وقد قطع اللّه عليهم وعلى أمثالهم حجتهم في أن يقولوا : وماذا نعمل ، وقد أغوانا الشيطان وأضلنا ؟ لا. ما جعل اللّه لإبليس عليكم سلطانا فالعيب عيبكم ، وقد حذر كم ربكم مرارا فلم ترجعوا عن غوايتكم ..
مناقشة المشركين في اتخاذهم من دون اللّه آلهة شفعاء لهم [سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 30]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30)(3/136)
ج 3 ، ص : 137
المفردات :
مِثْقالَ ذَرَّةٍ : وزن ذرة ظَهِيرٍ : معين فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ : من التفزيع ، وهو إزالة الفزع والخوف عن قلوبهم أَجْرَمْنا : أذنبنا ، من الجرم وهو الذنب يَفْتَحُ : يحكم ، والفتاح : الحاكم لأنه يفتح طريق الحق ويظهره كَلَّا :
كلمة ردع لهم كَافَّةً أى : مانعا لهم ، من الكف وهو المنع ، أو جامعا لهم ، مأخوذة من الكف بمعنى الجمع ، والتاء للمبالغة ، والمراد : جامعا للناس في الإبلاغ.
وهذا رجوع إلى خطاب الكفار والمشركين الذي مضى أول السورة بعد ذكر طرف من قصة داود وسليمان ، وما أنعم اللّه به عليهما ، وذكر قصة قوم سبأ ، وفي هذا من آيات القدرة ما فيه ، ومن دلائل تفرد اللّه بالوحدانية ما هو غنى عن البيان .. وهو خطاب توبيخ وتأنيب لهم ، وخاصة بعد ما تقدم!
المعنى :
قل يا محمد لهؤلاء المشركين الضالين سواء السبيل : ادعوا الذين عبدتموهم من دون اللّه من الأصنام والملائكة ، وسميتموهم آلهة ، وزعمتم أنهم يستحقون أن يكونوا شركاء للّه الواحد القهار ، ادعوهم في السراء والضراء كما تدعون اللّه ، والجأوا إليهم في الشدائد كما تلجأون إلى اللّه ، وانظروا استجابتهم لدعائكم كما تنتظرون من اللّه الإجابة والرحمة.
ولقد أجاب الحق - تبارك وتعالى - عنهم بإجابة هي المتعينة وحدها - ولا يجيب منصف إلا بها - فقال ما معناه : إنهم لا يملكون شيئا أبدا ، ولا يملكون وزن ذرة من خير أو شر في جميع جهات السموات والأرض ، وما لهم في السموات كلها وفي الأرض جميعا من شركة في الخلق أو في الملك ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [سورة الكهف آية 51].
قل لهم : لا تسألون يوم القيامة عن أعمالنا وذنوبنا ، ونحن لا نسأل عما تعملون ، قل(3/137)
ج 3 ، ص : 138
وليس للّه منهم من ظهير ومعين ، وكيف يكون غير ذلك ؟ ! فبطل بهذا اتخاذهم الأصنام آلهة من دون اللّه حيث لا تملك نفعا ولا ضررا بل إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب.
وكانوا يقولون : نحن نتخذهم شفعاء للّه يوم القيامة.
فيرد اللّه عليهم أبلغ رد وأكده بقوله : ولا تنفع الشفاعة عنده يوم القيامة إلا لمن أذن له فيها ، وهذا تكذيب بلا شك لقولهم : « هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه » .
وهل الإذن في الشفاعة يكون من السهولة واليسر كما يظن ؟ لا بل هناك موقف شديد ، وأمره عسير ، يحول بين الإنسان ولسانه بل يجعله في غمرة من الخوف والفزع رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ ، لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً « 1 » .
كان الناس يتربصون ويتوقعون مدة من الزمن فزعين وخائفين حتى إذا فزع عن قلوبهم ، وكشف عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يكلمها الرب جل شأنه - إذا حصل هذا - تباشروا بذلك وسرى عنهم وقالوا : قال القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن يشاء ويرضى ، وهو الحق - تبارك وتعالى - صاحب العلو والكبرياء ليس لملك ولا لنبي أن يتكلم في ذلك اليوم إلا بإذنه وأن يشفع إلا لمن ارتضى.
فانظروا يا آل مكة أين أنتم من هذا ؟ وأين أصنامكم في هذا الوقت العصيب ؟ ! عجبا لكم أيها المشركون! وأى عجب ؟ ! تدعون من دون اللّه آلهة لا تنفع ولا تضر أى : قصدا ، وإلا فإنها تضر قطعا ، قل لهم يا رسول اللّه : من الذي يرزقكم من السموات والأرض ؟ ! أمره بالإجابة عن هذا السؤال لأن هذه الإجابة هي المتعينة ، ولأنهم لو أزيل عنهم كابوس الشرك ، وغطاء العناد والكفر وخلّيت قلوبهم وحدها لقالوا : هو اللّه الرزاق ذو القوة المتين قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ ؟ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ؟ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ؟ !. [سورة يونس آية 31].
وانظر إلى أدب الخطاب ، واستدراج الخصم لعله ينظر في حاله وحال من يجادله
___________
(1) - سورة النبأ الآيتان 37 ، 38.(3/138)
ج 3 ، ص : 139
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ بعد ما ساق من الآيات التي تدل على صدق قوله وفساد قول خصمه.
قل لهم : لا تسألون يوم القيامة عن أعمالنا وذنوبنا ، ونحن لا نسأل عما تعملون ، قل لهم : سوف يجمع اللّه بيننا بالحق ثم يحكم بيننا بالعدل ، وهو الحكيم العليم بأمور خلقه ، فسيعطيهم جزاءهم وافيا إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. عجبا لكم! قل لهم يا محمد :
أرونى الذين ألحقتموهم باللّه شركاء ، وجعلتموهم للّه أندادا ، أرونى أين هم ؟ وفي هذا توجيه لهم ولفت لأنظارهم لعلهم ينظرون إلى الحق فيتبعوه! كلا وألف كلا! وبعدا لرأيهم المجافى للحق والعدل! فليس الأمر كما زعمتم بل هو اللّه وحده ، لا إله إلا هو العزيز لا يغلبه غالب ، ولا يعجزه أحد في أرضه وسمائه ، فهو الحكيم في كل أعماله ، العليم بكل خلقه ، سبحانه وتعالى عما يشركون ، وأما أنت يا محمد فما أرسلناك إلا كافة للناس تمنعهم من الكفر والفسوق والعصيان ، وتدعوهم جميعا إلى الإسلام ، ولا عليك شيء بعد هذا أبدا فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [سورة الكهف آية 29]. ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذا.
ويقولون : متى هذا الوعد ؟ إن كنتم أيها المسلمون صادقين في قولكم : إن الساعة آتية لا ريب فيها.
قل لهم يا محمد : لكم ميعاد يوم معلوم عند اللّه ، وأجل محدود بوقت معين ، لا تستأخرون عنه ساعة ، ولا تستقدمون لحظة ، والأمر كله بيد اللّه.
من مواقف المشركين [سورة سبإ (34) : الآيات 31 الى 33]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)(3/139)
ج 3 ، ص : 140
المفردات :
مَوْقُوفُونَ : محبوسون وممنوعون اسْتُضْعِفُوا : هم المستضعفون اسْتَكْبَرُوا : هم المستكبرون من الرؤساء والمقدمين مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ المكر : الاحتيال والخديعة ، والمراد مكركم في الليل والنهار أَنْداداً : جمع ند وهو النظير والشبيه والمثل وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ أى : أظهروها الْأَغْلالَ : جمع غل ، وهو طوق من حديد يوضع في العنق فلا يفلت صاحبه.
المعنى :
روى أن المشركين سألوا أهل الكتاب عن صفة النبي عندهم ، فقال أهل الكتاب :
نعم إن صفته عندنا في كتبنا ، فقال المشركون : لن نؤمن بهذا القرآن ، ولن نؤمن بالذي بين يديه من الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل ، وكانوا قبل ذلك يرجعون إلى أهل الكتاب ويسمعون لقولهم في هذا. فانظر إلى اضطرابهم وتضارب آرائهم ، وهذا موقف لهم في الدنيا.
وفي الآخرة : لو ترى يا محمد هؤلاء الظالمين وقد وقفوا للحساب ، ومنعوا من التحرك والانفلات ، لو تراهم موقوفين عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول ،(3/140)
ج 3 ، ص : 141
ويناقش بعضهم بعضا في حالهم التي وصلوا إليها ، لو تراهم والحالة هذه لرأيت أمرا عجبا.
ولو تراهم إذ يقول الأتباع والمستضعفون للذين استكبروا وتعالوا عليهم من القادة والرؤساء : لو لا أنتم أيها الرؤساء موجودون لكنا مؤمنين ، فأنتم السبب في كفرنا وعليكم التبعة ، وأنتم تستحقون مضاعفة العذاب. وبما ذا رد الذين استكبروا ؟ قالوا لهم : أنحن صددناكم عن الهدى ومنعناكم منه بعد إذ جاءكم ؟ لا لم يحصل هذا أبدا. بل كنتم أنتم مجرمين ومرتكبين الإثم والكفر باختياركم وميلكم ، ليس لنا دخل في صدكم وكفركم باللّه ، وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا يردون عليهم مقالتهم : بل مكركم الدائم ليلا ونهارا هو الذي حملنا على الكفر وأمرنا به ، نعم دعايتكم المسمومة وحيلتكم الفتاكة ووضعكم في موضع القيادة والتبع ، كل هذا أثر فينا حتى كفرنا وأشركنا من حيث لا نعلم ، فكان ما صنعتموه معنا أشبه شيء بالمكر والحيلة حتى وصلنا إليه.
وأظهروا جميعا - التابعون والمتبوعون - الندامة لما رأوا العذاب محضرا ، وجعلنا الأغلال في أعناقهم فلا يفلتون من عذاب ربك أبدا ، وهل هذا إلا جزاء أعمالهم في الدنيا ؟ نعم وهل يجزون إلا ما كانوا يعملون ؟
تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم [سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 39]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)(3/141)
ج 3 ، ص : 142
المفردات :
مُتْرَفُوها : أغنياؤها وقادتها يَبْسُطُ الرِّزْقَ : يوسعه زُلْفى وزلفى كقربى في الوزن والمعنى جَزاءُ الضِّعْفِ أى : الجزاء المضاعف مُعاجِزِينَ :
مغالبين وَيَقْدِرُ لَهُ يقدر : يضيق يُخْلِفُهُ : يجعل له خلفا ..
وهذه تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ببيان أن أخلاق الكفار وأعمالهم واحدة في كل زمان ومكان حتى لا يتألم الرسول ، وبهذا نعرف لكفار مكة موقفا آخر.
المعنى :
وما أرسلنا قبلك في قرية من نذير ورسول إلا قال مترفوها وأغنياؤها حسدا من عند أنفسهم وبغيا وغرورا كاذبا قالوا : إنا بما أرسلتم به أيها الرسل كافرون ، إذ لو كان هذا الذي يدعيه الرسول حقّا لكنا أولى به منه لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ وقالوا كغيرهم : نحن أكثر أموالا وأولادا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وإذا كنا كذلك في الدنيا ، وهذا الرزق من عند اللّه كما هو معلوم ، فنحن أكرم على اللّه منكم إذ أنتم فقراء ضعفاء ، وإذا كان الأمر كذلك فما نحن يوم القيامة بمعذبين أصلا إما لأنه لا بعث ولا جزاء ، أو إن كان هناك جزاء فنحن أصحاب الجزاء الحسن لأن اللّه أعطانا لكرامتنا ومكانتنا عنده.
عجبا لهؤلاء! ليس الرزق في الدنيا لكرامة صاحبه على اللّه ، ولكن اللّه يبسط الرزق لمن يشاء ، ويقتر الرزق على من يشاء تبعا لحكمة هو يعلمها بقطع النظر عن عمل الصالحين والفاسقين ، أما جزاء العمل الصالح والعمل الفاسد فهو يوم القيامة فقط ،(3/142)
ج 3 ، ص : 143
يعطى العاصي والكافر استدراجا ، ويمنع الطائع ابتلاء واختبارا لتكثر حسناته ويعظم عند اللّه أجره.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، فهم يزعمون أن مدار البسط هو الشرف والكرامة ومدار التضييق هو الهوان والذل ، وما علموا أن البسط قد يكون استدراجا ، والتقتير قد يكون للابتلاء ورفع الدرجات.
وما أموالكم بالتي تقربكم عند اللّه زلفى وقربى ، ولا أولادكم كذلك ، فما الأموال ولا الأولاد تقرب أحدا إلى اللّه ، لكن المؤمن الصالح الذي ينفق ماله في سبيل اللّه ، ويعلم أولاده الخير ، ويربيهم على الإسلام وينشئهم تنشئة إسلامية مدارها على حب اللّه والوطن وأن العزة للّه ولرسوله وللمؤمنين ، فأولئك لهم الجزاء المضاعف إلى عشر أو إلى سبعمائة بما عملوا ، وهم في غرفات الجنة هم آمنون ، ولا خوف عليهم ، ولا هم يحزنون.
والذين يسعون جاهدين ومنفقين النفس والنفيس في إبطال آياتنا معاجزين للّه على حسب ظنهم القاصر وإدراكهم العاجز أولئك هم في العذاب محضرون ، وفي نار جهنم مخلدون! جزاء بما كانوا يعملون.
قل لكفار مكة الذين كانوا يفاخرون ويباهون بكثرة الأموال والأولاد : إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقتر عليه ، وقد كرر هذه العبارة للتأكيد ، وقيل :
بينهما مخالفة فالأولى لشخصين أحدهما وسع عليه والثاني قتر عليه ، وأما هنا فلشخص واحد في وقتين بدليل ذكر الضمير الذي يعود على (من) في قوله : « له » وهذا مما يؤكد أن التوسيع والتقتير ليس لكرامة ولا لهوان ، فإنه لو كان كذلك لم يتصف بهما شخص واحد ، وليس المقصود من الأموال التباهي بها ، والاعتماد عليها ، وإنما الواجب أن يستغلها صاحبها في الإنفاق ،
عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « ليس لك من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدّقت فأبقيت » .
فاعلموا أيها الناس أن ما أنفقتم من شيء في سبيل اللّه ، وسبيل اللّه هنا موسعة فالنفقة الواجبة من صدقة أو زكاة ، والنفقة المندوبة على الأهل والأولاد كلها هنا في سبيل اللّه ، ما أنفقتم من شيء في هذا فاللّه يخلفه ، وهو خير الرازقين. والمراد بقوله : « يخلفه » يعطيه بدله وخلفه ، وذلك البدل إما في الدنيا وإما في الآخرة ، وعن أبى هريرة قال : قال(3/143)
ج 3 ، ص : 144
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « ما من يوم يصبح العباد فيه إلّا وملكان ينزلان فيقول أحدهما :
اللّهمّ أعط منفقا خلفا ويقول الآخر : اللّهمّ أعط ممسكا تلفا »
. وعن أبى هريرة أيضا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « إنّ اللّه قال لي : أنفق أنفق عليك »
وهذا إشارة إلى إعطاء البدل في الدنيا إما بالمال أو بالقناعة والرضا ، وهما كنزان ، أو في الآخرة وهو الثواب الجزيل ، وذلك كله إذا كانت النفقة في طاعة اللّه ، وعلم من هذا أن الخلف قد لا يكون في الدنيا.
بعض مواقف الكفار في الدنيا والآخرة [سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 54]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)(3/144)
ج 3 ، ص : 145
المفردات :
يَصُدَّكُمْ : يمنعكم إِفْكٌ : كذب مُفْتَرىً : مختلق لا أساس له يَدْرُسُونَها : يقرءونها مِعْشارَ المعشار والعشر سواء ، وقيل : المعشار :
عشر العشر ، أى : واحد في المائة ، وقيل : هو عشر العشير ، والعشير العشر ، أى : واحد في الألف نَكِيرِ المراد : فكيف كان عقابي وعذابي مَثْنى وَفُرادى المراد :
وحدانا وجماعات مِنْ جِنَّةٍ : من جنون يَقْذِفُ بِالْحَقِّ المراد : يبين الحجة ويرمى بها الباطل فَزِعُوا الفزع : الخوف والاضطراب فَلا فَوْتَ أى : فلا هروب ولا نجاة التَّناوُشُ أصل التناوش : التناول بسهولة ويسر وَيَقْذِفُونَ :
يرمون بِأَشْياعِهِمْ جمع (شيع) الذي هو جمع شيعة ، وهي الجماعة المتشيعة لمذهب أو لرجل.(3/145)
ج 3 ، ص : 146
المعنى :
وتلك مواقف من مواقف المشركين في الدنيا والآخرة ، ولا غرابة إذا طال نقاش القرآن لهم فيها ، وعرض أمورهم عرضا واضحا مكشوفا مع الرد عليهم في كل جزئية ، إذ السورة مكية والمقام يقتضى ذلك لعلهم يثوبون إلى رشدهم ، ويرجعون عن غيّهم.
واذكر يوم يحشرون جميعا ، ويجمعون للحساب جميعا ، ويا هول ذلك الموقف الشديد موقف الزحام والحساب العسير. ثم يقول ربك للملائكة في هذا الاجتماع وعلى رءوس الأشهاد : أهؤلاء - الإشارة للكفار - إياكم كانوا يعبدون ؟ ! أهؤلاء الكفار كانوا يخضعون لكم بالعبادة والتقديس وأنتم خلق من خلق اللّه ؟ ! فتقول الملائكة :
سبحانك يا رب وتنزيها لك بعد تنزيه ، أنت ولينا ومتولى أمورنا وأمور غيرنا من خلقك ، يا رب أنت الذي نواليك ونتقرب منك بالعبادة ونواصلك ونرجوك ، وليس بيننا وبينهم موالاة من جهتنا ، وهذا معنى قوله : « من دونهم » ثم بينوا السبب الحامل لهم على عبادتهم فقالوا : بل كانوا يعبدون الجن ، أى : فليس لنا دخل ، وإنما السبب هو الجن حيث أطاعوهم في عبادة غير اللّه ، وقيل : إن حيّا من خزاعة كانوا يعبدون الجن ويزعمون أنهم من الملائكة ، وأنهم من بنات اللّه وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً.
فالاستفهام في قوله للملائكة : أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ ؟ للتفريغ وتوبيخ الكفار على عبادتهم غير اللّه ، وهو جار على نظام المثل القائل : « إياك أعنى واسمعي يا جارة » وهدا يشبه قول اللّه للمسيح : أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ ؟ [سورة المائدة آية 116] ، فاليوم لا يملك بعضهم لبعض نفعا كشفاعة ونجاة ، ولا ضرا كعذاب أو هلاك بل الأمر يومئذ للّه ، وإليه وحده ترجع الأمور ، ويقال حينئذ توبيخا وتأنيبا للكفار : ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون.
ذلك موقف لهم شديد من مواقف يوم القيامة ، وما أطوله عليهم! وهذا موقف آخر في الدنيا سيق بيانا لسبب هذا العذاب الشديد :
هؤلاء الكفار والمشركون إذا تتلى عليهم آياتنا بينات واضحات كالشمس أو أشد قالوا : ما هذا الذي يتلو عليكم الآيات إلا رجل - كأنه غير معروف - يريد لأمر في نفسه أن يصدكم عن عبادة آبائكم وأسلافكم الآلهة التي كانوا يعبدونها ، فهذا رجل(3/146)
ج 3 ، ص : 147
) يسفه أحلام أسلافكم ، ويعيب آلهتكم .. وقالوا في شأن القرآن الذي يتلى : ما هذا إلا كذب واختلاق وزور وبهتان : ولما رأوا أثره في النفوس وفعله في القلوب قالوا : ما هذا إلا سحر مبين فهم يتخبطون ولا يدرون ما ذا يقولون ؟ فتارة قالوا : إنه سحر ، وتارة قالوا إفك وكذب. وهذا شأن المتخبط المتحير الذي أغشى عينه قوة النور ، وبهر نفسه بريق الحق فهو لا يدرى ماذا يقول ؟ ! يا عجبا لهؤلاء! كيف توصلوا إلى ذلك الحكم على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ؟ ! هل في سيرته أو في دعوته أو في شخصه ما يدعو إلى ذلك ؟ معاذ اللّه إنه الصادق المصدوق ، الأمين العفيف عن الدنيا وأعراضها الزائلة! الذي أتى بالهدى والرحمة للناس جميعا وما سندهم في هذا الحكم ؟ أعندهم كتاب يقرءون فيه ذلك ؟ ! أو أرسل إليهم قبلك يا محمد رسول بلغهم ذلك ؟ لا .. لا لم يكن عندهم كتاب ينطق بتكذيب الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يرسل قبلهم رسول يكذبه ، ولم يكن عندهم في الخارج أى دليل على صدق قولهم بأنه ساحر أو كذاب أو به جنون ؟ ! ولكنهم كذبوا لا عن دليل ، وأعرضوا مع وجود ألف دليل ودليل على صدق الرسول ، ولا غرابة فقد كذب الذين من قبلهم من الأمم السابقة ، وما بلغ أهل مكة معشار ما آتينا تلك الأمم من قوة وسلطان ، أو علم وحجة وبرهان.
فكذبت الأمم رسلي فكانت العقوبة الصارمة. والجزاء العاجل والهلاك المهلك فكيف كان عقابي ؟ وفي هذا تهديد لهم شديد.
ثم رجع القرآن بعد هذا يستدرجهم. ويعرض عليهم الدين ويطالبهم أن يحكموا عقولهم ، وينظروا ببصائرهم لعلهم يرشدون فقال : قل لهم يا محمد : إنما أعظكم وأذكركم ، وأحذركم سوء عاقبتكم ، أعظكم بواحدة ، أى : بخصلة واحدة فقط هي أن تقوموا للّه وحدانا ومجتمعين منفردين بالرأى أو متشاورين. ومعنى القيام هنا هو طلب الحق لوجه الحق ، وما أقوى هذا التصوير وما أبلغه ؟ ! إنه لتصوير رب العالمين بلا شك. تقومون تاركين القعود والكسل. والخمول والتقليد ، تاركين موت النفس ونوم العقل متسلحين بيقظة الضمير ونشاط العقول ، ناظرين متفكرين في هذه الرسالة وصاحبها ، مجردين أنفسكم من كل ما يعوق البحث الحر ، والفكر السليم الخالي من الهوى والغرض.(3/147)
ج 3 ، ص : 148
ثم تتفكروا ما بصاحبكم ؟ ! هل جربتم عليه كذبا ؟ لا : إنه الصادق ، هل جربتم عليه خيانة ؟ .. لا. إنه الأمين ، هل رأيتم فيه ميلا إلى الدنيا حتى يقال إنه يطلب المال أو الملك ؟ لا : إنه العفيف عن الدنيا وأهلها ، هل رأيتم عليه فسادا أو تحللا أو نشوزا أو سوء خلق ؟ لا : بل هو الرجل الحكيم المتزن في كل أفعاله ، تفكروا في رسالته هل يدعوكم إلى فسق أو فجور أو يدعوكم إلى حق ونور وعلم وعرفان ؟ هل يدعوكم إلى أسر التقليد ، وحمى الجاهلية وسوء العمل أو يدعوكم إلى الحرية المنظمة وإلى الحضارة المقدسة وإلى العلم النافع ، وإلى تكوين المجتمع الصالح ، وخلق الفرد الكامل الذي يسعى لخير الدنيا والآخرة ؟ ! نعم إنه يدعو إلى بناء الفرد والمجتمع والدولة ، ويحارب الرذيلة ، والاستبداد ويمنع جور الحكام وظلم الأقوياء والأغنياء ، إنه يدعو إلى نصرة الفقير ، وإعانة المظلوم ، وإغاثة الملهوف ، إنه نذير بين يدي عذاب شديد.
إنه يدعو إلى كل خير ، ويحرم كل شر فتفكروا بصائركم عسى أن يهديكم ربكم إلى الحق ونوره.
قل يا محمد لهم : لست رجلا طالبا للدنيا وعرضها ، ولست أبغى من دعوتي أجرا ولا مالا ولا جاها ولا سلطانا ، إن أجرى إلا على اللّه ، وهو على كل شيء شهيد.
قل لهم تطمينا لقلوب المؤمنين أتباعك ، وتثبيتا لهم على دعوتك ، وتهديدا للمخالفين : إن ربي يقذف بالحق ليدمغ الباطل ، وهو علام الغيوب ، وللّه ما أقوى هذا التعبير جعل الحق كالقنبلة التي تقذف من حكيم عليم بارع يعلم خفايا مهنته أتراها لا تصيب الهدف ؟ فصبرا أيها المسلمون ثم صبرا ، قل : جاء الحق ، وزهق الباطل ، وما يبدئ الباطل وما يعيد ؟ إنه لا ثبات له ولا قرار ، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
قل لهم يا محمد : إنه ضللت فإنما أضل على نفسي لأنها هي التي أمرتنى بالسوء ، وإن اهتديت فبسبب ما يوحى إلى من ربي إنه سميع قريب.
ومن هنا نعلم أن طريق الضلال هو النفس الأمارة بالسوء ، وما يحيط بها من مجتمع فاسد موبوء ، وأن الهداية والخير ، والنور والفلاح من طريق الوحى والقرآن .. ألم يأن(3/148)
ج 3 ، ص : 149
للذين آمنوا وادعوا أنهم من أتباع الرسول ومن أمة القرآن ؟ ألم يأن لهم أن تخشع قلوبهم لنور الحق ، وأن تخضع نفوسهم لحكم القرآن ؟ ألم يأن لهم أن يرفعوا رءوسهم عالية مجاهدين طالبين مستميتين في طلب الحكم بالقرآن ، والسير في ركاب الرحمن ، وترك الهوى والشيطان ؟ !! ألم يأن للشعوب الإسلامية أن ترجع إلى دينها ، وتثوب إلى رشدها ؟ ! فلا هداية ولا سعادة إلا في ظل الدستور القرآنى ، ومن يتبع غير حكم اللّه فأولئك هم الضالون أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ! وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة 50].
نحن لا نطالب بحكم القرآن إلا لخير المسلمين وقطع دابر الفتن وعبث العابثين مؤتسين بقول الحق على لسان الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم : قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ.
وهناك موقف آخر :
ولو ترى يا أيها النبي - أو من يتأتى منه الرؤية - إذ فزعوا وخافوا واضطربوا يوم لقاء اللّه لرأيت أمرا عظيما ، وشاهدت أحوالا هائلة يستريح لها قلب من عضه الألم ، وحز في نفسه الحزن من أفعالهم.
لو تراهم إذ فزعوا فلا فوت ولا نجاة ، وكيف النجاة وهم بين يدي القوى القادر ؟
وقد أخذوا من مكان قريب فهم لم يرموا عن بعد بل أخذوا عن قرب فكيف يفلتون ؟
وعند ذلك يقولون : آمنا بالقرآن والنبي ، فهل ينفع الذين ظلموا إيمانهم في هذا الوقت ؟ كلا! وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ؟ تمنوا أن ينفعهم إيمانهم في هذه الظروف كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا ، وأنى لهم ذلك ؟ . وهل يسوى بين من يتناول الشيء من مكان بعيد جدّا بيده كمن يتناوله تناولا سهلا من مكان قريب وبلا حاجز ، وكيف يستويان ؟
وهم قد كفروا بالقرآن والنبي من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد كقولهم في النبي : إنه ساحر ، وشاعر ، وكذاب ، وهذا تكلم بالغيب ورجم به من جهة بعيدة جدا عن الحقيقة لأن ما جاء به أبعد شيء عن السحر والشعر والكذب ، فهم أشبه ما يكون بمن يقذف الغرض من جهة بعيدة جدا ، وهو غائب عنه غير مشاهد له ، فهل يصيبه ؟(3/149)
ج 3 ، ص : 150
وحيل بينهم وبين ما يشتهون من الرجوع إلى الدنيا والفرار من العذاب والخلوص من الموقف كما يفعل بأشباههم ونظرائهم من الأمم السابقة ، ولا تعجب من هذا لأنهم كانوا في شك من البعث ، ومبدأ الثواب والعقاب كانوا في شك منه مريب!!(3/150)
ج 3 ، ص : 151
سورة فاطر أو سورة الملائكة
مكية عند الجميع ، وآياتها خمس وأربعون آية ، نزلت بعد الفرقان.
ويدور الكلام فيها حول العقيدة السليمة من وصف للّه بما يستحق ، ومن خطاب الرسول بما يثبت قلبه. ومن لفت أنظار الناس إلى الكون وما فيه من آيات تدل على قدرة اللّه على البعث ، وفي خلال ذلك هدد المشركين وتوعدوهم.
[سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
المفردات :
فاطِرِ أصل الفطر : الشق ، وقد شق العدم بإخراج السماء والأرض منه ، والمراد خلقهما ابتداء أُولِي أَجْنِحَةٍ : أصحاب أجنحة مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ والمراد اثنين اثنين ، فعدل عن هذا التركيب إلى قوله : مثنى ، وكذا ثلاث ورباع ، وهذا أسلوب معروف في اللغة العربية ما يَفْتَحِ المراد : ما يرسل من رحمة تُؤْفَكُونَ هذا اللفظ إن أخذ من الأفك بمعنى الصرف كان معناه : كيف تصرفون(3/151)
ج 3 ، ص : 152
عن الإيمان إلى الكفر ، وإن قلنا : إنه مأخوذ من الإفك بمعنى الكذب كان المعنى : من أين يقع لكم التكذيب بتوحيد اللّه.
المعنى :
الحمد للّه رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، الحمد للّه حمدا كما حمد به نفسه ، تعظيما لها وتشريفا ، وتعليما لعباده وتأديبا ، فهو المستحق وحده الثناء الجميل ، لأنه صاحب الفعل الجليل ، تبارك اسمه وتعالى ، سبحانه وتعالى ، خالق السموات والأرض ، ومبدعهما لا على مثال سابق ، فهو صاحب الخلق الأول ، ومن قدر على البدء فهو قادر بلا شك على الإعادة.
وهو الذي جعل الملائكة أصحاب أجنحة مثنى وثلاث ورباع ، والمراد كثرة الأجنحة التي لا يعلمها إلا اللّه ، ليتصور الخلق بإدراكهم قوة الملائكة على الحركة ، وقدرة اللّه التي لا تحد ، يزيد في الخلق ما يشاء ، ويزيد زيادة غير محدودة ولا معروفة ، وكيف نعرفها ، ونحن أجهل الخلق بأنفسنا بل بأمس الأشياء بنا ، فكيف نعرف زيادة اللّه في خلقه ؟ وفي كل يوم يكشف لنا العلم والواقع زيادات وزيادات لم تكن معروفة ، وما نعرفه جزء من أجزاء كثيرة لا نعرفها ، وسبحان علام الغيوب.
ولا تعجبوا لأن اللّه على كل شيء قدير ، وبخلقه بصير وخبير.
ما يفتح اللّه للناس من رحمة فلا ممسك لها ، اللّه أكبر ، وللّه الحمد!! نعم ما يرسل اللّه من نعمة في السماء أو في الأرض فلا ممسك لها موجود ، ولا مانع لها معروف ، إذ لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه. وعلى هذا المبدأ يعيش المسلم في حياته سعيدا مطمئنا.
ولعلك تسأل : ما الحكمة في التعبير بالفتح « ما يفتح » بدل ما يرسل ؟ إذا كان المراد هو الإرسال بدليل قوله تعالى : وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ وقد أجاب عن ذلك الزمخشري وتبعه أبو السعود فقال : « عبر عن إرسالها بالفتح إيذانا بأنها أنفس الخزائن التي يتنافس فيها المتنافسون ، وأعزها منالا ، وتنكيرها للإشاعة والإبهام ، أى : أى شيء(3/152)